كتاب الطهارة
مدخل
...
كتاب الطهارة.
1- عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنما الأعمال بالنيات - وفي رواية: بالنية - وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه" 1.
أبو حفص عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح - بكسر الراء المهملة بعدها ياء آخر الحروف وبعدها حاء مهملة - ابن عبد الله بن قرط بن رزاح - بفتح الراء المهملة بعدها زاي معجمة وحاء مهملة - بن عدي بن كعب القرشي العدوي يجتمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في كعب بن لؤي: "أسلم بمكة قديما وشهد المشاهد كلها وولي الخلافة بعد أبي بكر الصديق وقتل سنة ثلاث وعشرين من الهجرة في ذي الحجة لأربع مضين وقيل لثلاث2.
ثم الكلام على هذا الحديث من وجوه:
أحدها: أن المصنف رحمه الله بدأ به لتعلقه بالطهارة وامتثل قول من قال من المتقدمين: إنه ينبغي أن يبتدأ به في كل تصنيف ووقع موافقا لما قاله.
الثاني: كلمة "إنما" للحصر على ما تقرر في الأصول فإن ابن عباس رضي الله عنهما فهم الحصر من قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الربا في النسيئة" 3 وعورض بدليل آخر يقتضي تحريم ربا الفضل ولم يعارض في فهمه للحصر وفي ذلك اتفاق على أنها للحصر ومعنى الحصر فيها: إثبات الحكم في المذكور ونفيه عما عداه وهل نفيه عما عداه: بمقتضى موضوع اللفظ أو هو من طريق المفهوم؟ فيه بحث.
الثالث: إذا ثبت أنها للحصر: فتارة تقتضي الحصر المطلق وتارة تقتضي حصرا مخصوصا ويفهم ذلك بالقرائن والسياق كقوله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} [الرعد: 7] وظاهر ذلك: الحصر للرسول صلى الله عليه وسلم في النذارة والرسول لا ينحصر في النذارة بل له أوصاف جميلة.
ـــــــ
1 البخاري "1" ومسلم "1907" ولفظه: "إنما الأعمال بالنية...." .
2 راجع الإصابة "4/588" رقم "5740.
3 مسلم من حديث أسامة بن زيد في المساقاة "1596" "102".(1/11)
كثيرة كالبشارة وغيرها ولكن مفهوم الكلام يقتضي حصره في النذارة لمن يؤمن ونفى كونه قادرا على إنزال ما شاء الكفار من الآيات.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي" معناه: حصره في البشرية بالنسبة إلى الاطلاع على بواطن الخصوم لا بالنسبة إلى كل شيء فإن للرسول صلى الله عليه وسلم أوصافا أخر كثيرة وكذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ} [محمد: 36] يقتضي - والله أعلم - الحصر باعتبار من آثرها وأما بالنسبة إلى ما هو في نفس الأمر: فقد تكون سبيلا إلى الخيرات أو يكون ذلك من باب التغليب للأكثر في الحكم على الأقل فإذا وردت لفظة إنما فاعتبرها1 فإن دل السياق والمقصود من الكلام على الحصر في شيء مخصوص: فقل به وإن لم يكن في شيء مخصوص: فاحمل الحصر على الإطلاق ومن هذا: قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات" والله أعلم.
الرابع: ما يتعلق بالجوارح وبالقلوب قد يطلق عليه عمل ولكن الأسبق إلى الفهم: تخصيص العمل بأفعال الجوارح وإن كان ما يتعلق بالقلوب فعلا للقلوب أيضا ورأيت بعض المتأخرين من أهل الخلاف خصص الأعمال بما لا يكون قولا وأخرج الأقوال من ذلك وفي هذا عندي بعد وينبغي أن يكون لفظ العمل يعم جميع أفعال الجوارح نعم لوكان خصص بذلك لفظ الفعل لكان أقرب فإنهم استعملوها متقابلين فقالوا: الأفعال والأقوال ولا تردد عندي في أن الحديث يتناول الأقوال أيضا والله أعلم.
الخامس: قوله صلى الله عليه وسلم: "الأعمال بالنيات" لا بد فيه من حذف مضاف فاختلف الفقهاء في تقديره فالذين اشترطوا النية قدروا: صحة الأعمال بالنيات أو ما يقاربه والذين لم يشترطوها: قدروه كمال الأعمال بالنيات أو ما يقاربه.
وقد رجح الأول بأن الصحة أكثر لزوما للحقيقة من الكمال فالحمل عليها أولى لأن ما كان ألزم للشيء: كان أقرب إلى خطوره بالبال عند إطلاق اللفظ فكان الحمل عليه أولى.
وكذلك قد يقدرونه إنما اعتبار الأعمال بالنيات وقد قرب ذلك بعضهم بنظائر من المثل كقولهم: إنما الملك بالرجال أي قوامه ووجوده وإنما الرجال بالمال وإنما المال بالرعية وإنما الرعية بالعدل كل ذلك يراد به: أن قوام هذه الأشياء بهذه الأمور.
السادس: قوله صلى الله عليه وسلم: "وإنما لكل امرئ ما نوى" يقتضي أن من نوى شيئا يحصل له وكل ما لم ينوه لم يحصل له فيدخل تحت ذلك ما لا ينحصر من المسائل ومن هذا عظموا هذا الحديث فقال بعضهم: يدخل في حديث: "الأعمال بالنيات" ثلثا العلم2 فكل مسألة خلافية.
ـــــــ
1 اعتبر: اختبر وامتحن المعجم الوسيط عبر.
2 قال النووي في شرح مسلم "1907" قال الشافعي وآخرون هو ثلث الإسلام وقال الشافعي يدخل في سبعين بابا من الفقه وقال آخرون هو ربع الإسلام.(1/12)
حصلت فيها نية فلك أن تستدل بهذا على حصول المنوي وكل مسألة خلافية لم تحصل فيها نية فلك أن تستدل بهذا على عدم حصول ما وقع في النزاع: "وسيأتي ما يقيد هذا الإطلاق" فإن جاء دليل من خارج يقتضي أن المنوي لم يحصل أو أن غير المنوي يحصل وكان راجحا: عمل به وخصص هذا العموم.
السابع: قوله: "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله" اسم الهجرة1 يقع على أمور الهجرة الأولى: إلى الحبشة عندما آذى الكفار الصحابة, الهجرة الثانية: من مكة إلى المدينة, الهجرة الثالثة: هجرة القبائل إلى النبي صلى الله عليه وسلم لتعلم الشرائع ثم يرجعون إلى المواطن ويعلمون قومهم, الهجرة الرابعة: هجرة من أسلم من أهل مكة ليأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم يرجع إلى مكة الهجرة الخامسة: هجرة ما نهى الله عنه.
ومعنى الحديث وحكمه يتناول الجميع غير أن السبب يقتضي: أن المراد بالحديث الهجرة من مكة إلى المدينة لأنهم نقلوا أن رجلا هاجر من مكة إلى المدينة لا يريد بذلك فضيلة الهجرة وإنما هاجر ليتزوج امرأة تسمى أم قيس فسمي مهاجر أم قيس ولهذا خص في الحديث ذكر المرأة دون سائر ما تنوى به الهجرة من أفراد الأغراض الدنيوية ثم أتبع بالدنيا.
الثامن: المتقرر عند أهل العربية: أن الشرط والجزاء والمبتدأ أو الخبر لا بد وأن يتغايرا وههنا وقع الاتحاد في قوله: "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله" وجوابه: أن التقدير: فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله نية وقصدا فهجرته إلى الله ورسوله حكما وشرعا.
التاسع: شرع بعض المتأخرين من أهل الحديث في تصنيف في أسباب الحديث كما صنف في أسباب النزول للكتاب العزيز فوقفت من ذلك على شيء يسير له وهذا الحديث - على ما قدمنا من الحكاية عن مهاجر أم قيس - واقع على سبب يدخله في هذا القبيل وتنضم إليه نظائر كثيرة لمن قصد تتبعه.
العاشر: فرق بين قولنا من نوى شيئا لم يحصل له غيره وبين قولنا من لم ينو الشيء لم يحصل له والحديث محتمل للأمرين أعني قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات" وآخره يشير إلى المعنى الأول أعني قوله: "ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه".
ـــــــ
1 قال النووي: الهجرة: الترك والمراد هنا: ترك الوطن شرح مسلم "1907" وراجع النهاية هجر.(1/13)
2 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ" 1.
أبو هريرة في اسمه اختلاف شديد وأشهره: عبد الرحمن بن صخر أسلم عام خيبر سنة سبع من الهجرة ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان من أحفظ الصحابة سكن المدينة وتوفي - قال خليفة: سنة سبع وخمسين وقال الهيثم: سنة ثمان وقال الواقدي سنة تسع وهو الأصح2 وهو ابن ثمان وسبعين سنة والله أعلم.
ثم الكلام عليه من وجوه:
أحدها: القبول وتفسير معناه قد استدل جماعة من المتقدمين بانتفاء القبول على انتفاء الصحة كما قالوا في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار" 3 أي من بلغت سن المحيض.
والمقصود بهذا الحديث: الاستدلال على اشتراط الطهارة من الحدث في صحة الصلاة ولا يتم ذلك إلا بأن يكون انتفاء القبول دليلا على انتفاء الصحة.
وقد حرك المتأخرون في هذا بحثا لأن انتفاء القبول قد ورد في مواضع مع ثبوت الصحة كالعبد إذا أبق لا تقبل له صلاة4 وكما ورد فيمن أتى عرافا5 وفي شارب الخمر6.
فإذا أريد تقرير الدليل على انتفاء الصحة مع انتفاء القبول فلا بد من تفسير معنى القبول وقد فسر بأنه ترتب الغرض المطلوب من الشيء على الشيء يقال: قبل فلان عذر فلان: إذا رتب على عذره الغرض المطلوب منه وهو محو الجناية والذنب.
فإذا ثبت ذلك فيقال مثلا في هذا المكان: الغرض من الصلاة: وقوعها مجزئة بمطابقتها للأمر فإذا حصل هذا الغرض: ثبت القبول على ما ذكر من التفسير وإذا ثبت القبول على هذا التفسير: ثبتت الصحة وإذا انتفى القبول على هذا التفسير: انتفت الصحة.
ـــــــ
1 البخاري "6954" ومسلم "225" واللفظ للبخاري.
2 على الأصح من ثلاثين قولا والمعتمد في وفاته قول خليفة فيما ذهب إليه ابن حجر الإصابة في الكنى "10674.
3 الترمذي "377" وأبو داود "641" وابن ماجه "655" من حديث عائشة وقال أبو عيسى حديث عائشة حديث حسن والعمل عليه عند أهل العلم.
4 مسلم "70" من حديث جرير بن عبد الله.
5 مسلم "2230" من حديث صفية عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.
6 الترمذي من حديث عبد الله بن عمر في الأشربة "1862" ولفظه: "من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين صباحا." وقال أبو عيسى هذا حديث حسن.(1/14)
وربما قيل من جهة بعض المتأخرين: إن القبول كون العبادة بحيث يترتب الثواب والدرجات عليها والإجزاء كونها مطابقة للأمر والمعنيان إذا تغايرا وكان أحدهما أخص من الآخر: لم يلزم من نفي الأخص نفي الأعم.
والقبول على هذا التفسير: أخص من الصحة فإن كل مقبول صحيح وليس كل صحيح مقبولا وهذا - إن نفع في تلك الأحاديث التي نفي عنها القبول مع بقاء الصحة - فإنه يضر في الاستدلال بنفي القبول على نفي الصحة كما حكينا عن الأقدمين.
اللهم إلا أن يقال: دل الدليل على كون القبول من لوازم الصحة فإذا انتفى انتفت فيصح الاستدلال بنفي القبول على نفي الصحة حينئذ ويحتاج في تلك الأحاديث - التي نفي عنها القبول مع بقاء الصحة - إلى تأويل أو تخريج جواب على أنه يرد على من فسر القبول بكون العبادة مثابا عليها أو مرضية أو ما أشبه ذلك - إذا كان مقصوده بذلك: أن لا يلزم من نفي القبول نفي الصحة: أن يقال: القواعد الشرعية تقتضي: أن العبادة إذا أتى بها مطابقة للأمر كانت سببا للثواب والدرجات والإجزاء والظواهر في ذلك لا تنحصر.
الوجه الثاني: في تفسير معنى الحدث فقد يطلق بإزاء معان ثلاثة.
أحدها: الخارج المخصوص الذي يذكره الفقهاء في باب نواقض الوضوء يقولون: الأحداث كذا وكذا.
الثاني: نفس خروج ذلك الخارج.
الثالث: المنع المرتب على ذلك الخروج.
وبهذا المعنى يصح قولنا رفعت الحدث ونويت رفع الحدث فإن كل واحد من الخارج والخروج قد وقع وما وقع يستحيل رفعه بمعنى أن لا يكون واقعا.
وأما المنع المرتب على الخروج: فإن الشارع حكم به ومد غايته إلى استعمال المكلف الطهور فباستعماله يرتفع المنع فيصح قولنا رفعت الحدث وارتفع الحدث أي ارتفع المنع الذي كان ممدودا إلى استعمال المطهر.
وبهذا التحقيق يقوى قول من يرى أن التيمم يرفع الحدث لأنا لما بينا أن المرتفع: هو المنع من الأمور المخصوصة وذلك المنع مرتفع بالتيمم فالتيمم يرفع الحدث غاية ما في الباب: أن رفعه للحدث مخصوص بوقت ما أو بحالة ما وهي عدم الماء وليس ذلك ببدع فإن الأحكام قد تختلف باختلاف محالها.
وقد كان الوضوء في صدر الإسلام واجبا لكل صلاة على ما حكوه ولا شك أنه كان.(1/15)
رافعا للحدث في وقت مخصوص وهو وقت الصلاة ولم يلزم من انتهائه بانتهاء وقت الصلاة في ذلك الزمن: أن لا يكون رافعا للحدث ثم نسخ ذلك الحكم عند الأكثرين ونقل عن بعضهم أنه مستمر ولا نشك أنه لا يقول: إن الوضوء لا يرفع الحدث.
نعم ههنا معنى رابع يدعيه كثير من الفقهاء وهو أن الحدث وصف حكمي مقدر قيامه بالأعضاء على مقتضى الأوصاف الحسية وينزلون ذلك الحكمي منزلة الحسي في قيامه بالأعضاء فما نقول: إنه يرفع الحدث - كالوضوء والغسل - يزيل ذلك الأمر الحكمي فيزول المنع المرتب على ذلك الأمر المقدر الحكمي وما نقول بأنه لا يرفع الحدث فذلك المعنى المقدر القائم بالأعضاء حكما باق لم يزل والمنع المرتب عليه زائل.
فبهذا الاعتبار نقول: إن التيمم لا يرفع الحدث يمعنى أنه لم يزل ذلك الوصف الحكمي المقدر وإن كان المنع زائلا.
وحاصل هذا: أنهم أبدوا للحدث معنى رابعا غير ما ذكرناه من الثلاثة المعاني وجعلوه مقدرا قائما بالأعضاء حكما كالأوصاف الحسية وهم مطالبون بدليل شرعي يدل على إثبات هذا المعنى الرابع الذي ادعوه مقدرا قائما بالأعضاء فإنه منفي بالحقيقة والأصل موافقة الشرع لها ويبعد أن يأتوا بدليل على ذلك.
وأقرب ما يذكر فيه: أن الماء مستعمل قد انتقل إليه المانع كما يقال والمسألة متنازع فيها فقد قال جماعة بطهورية الماء المستعمل ولو قيل بعدم طهوريته أو بنجاسته: لم يلزم منه انتقال مانع إليه فلا يتم الدليل والله أعلم.
الوجه الثالث: استعمل الفقهاء الحديث عاما فيما يوجب الطهارة فإذا حمل الحديث عليه - أعني قوله: "إذا أحدث" - جمع أنواع النواقض على مقتضى هذا الاستعمال لكن أبو هريرة قد فسر الحدث في بعض الأحاديث - لما سئل عنه - بأخص من هذا الاصطلاح وهو الريح إما بصوت أو بغير صوت فقيل له: يا أبا هريرة ما الحدث؟ فقال: فساء أو ضراط1 ولعله قامت له قرائن حالية اقتضت هذا التخصيص.
الوجه الرابع: استدل بهذا الحديث على أن الوضوء لا يجب لكل صلاة2 ووجه الاستدلال به: أنه صلى الله عليه وسلم نفى القبول ممتدا إلى غاية الوضوء وما بعد الغاية مخالفة لما قبلها فيقتضي ذلك قبول الصلاة بعد الوضوء مطلقا وتدخل تحته الصلاة الثانية قبل الوضوء لها ثانيا.
ـــــــ
1 البخاري "135".
2 قال الحافظ في الفتح: استدل بالحديث على أن الوضوء لا يجب لكل صلاة لأن القبول انتفى إلى غاية الوضوء وما بعدها مخالف لما قبلها فاقتضى ذلك قبول الصلاة بعد الوضوء مطلقا الحديث "135".(1/16)
3 - عن عبد الله بن عمرو بن العاص وأبي هريرة وعائشة رضي الله عنهم قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويل 1 للأعقاب من النار" 2.
الحديث فيه دليل على وجوب تعميم الأعضاء بالمطهر وأن ترك البعض منها غير مجزئ ونصه إنما هو في الأعقاب وسبب التخصيص: أنه ورد على سبب وهو أنه صلى الله عليه وسلم رأى قوما وأعقابهم تلوح والألف واللام يحتمل أن تكون للعهد والمراد: الأعقاب التي رآها كذلك لم يمسها الماء ويحتمل أن لا تخص بتلك الأعقاب التي رآها كذلك وتكون الأعقاب التي صفتها هذه الصفة أي التي لا تعمم بالمطهر ولا يجوز أن تكون الألف واللام للعموم المطلق.
وقد ورد في بعض الروايات رآنا ونحن نمسح على أرجلنا فقال: "ويل للأعقاب من النار" 3 فاستدل به على أن مسح الأرجل غير مجزئ وهو عندي ليس بجيد لأنه قد فسر في الرواية الأخرى أن الأعقاب كانت تلوح لم يمسها الماء ولا شك أن هذا موجب للوعيد بالاتفاق.
والذين استدلوا على أن المسح غير مجزئ إنما اعتبروا لفظ هذه الرواية فقط وقد رتب فيها الوعيد على مسمى المسح وليس فيها ترك بعض العضو والصواب - إذا جمعت طرق الحديث -: أن يستدل بعضها على بعض ويجمع ما يمكن جمعه فيه يظهر المراد والله أعلم.
ويستدل بالحديث على أن العقب محل للتطهير فيبطل قول من يكتفي بالتطهير فيما دون ذلك.
4 - عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم لينتثر ومن استجمر فليوتر وإذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه قبل أن يدخلهما في الإناء ثلاثا فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده" 4.
وفي لفظ لمسلم: "فليستنشق بمنخريه من الماء" 5.
وفي لفظ: "من توضأ فليستنشق" 6.
ـــــــ
1 قال ابن الأثير: الويل الحزن والهلاك والمشقة من العذاب وكل من وقع في هلكة دعا بالويل النهاية: ويل.
2 البخاري "60" ومسلم "240".
3 أبو داود "97" والترمذي "41" وابن ماجه "97" من حديث عبد الله بن عمرو وقال أبو عيسى وفقه هذا الحديث أنه لا يجوز المسح على القدمين إذا لم يكن عليهما خفان أو جوربان.
4 البخاري "162" ومسلم "278" وهذا لفظ البخاري عدا: "في الإناء ثلاثا".
5 مسلم "237" "21".
6 الدارقطني "272".(1/17)
فيه مسائل:
الأولى: في هذه الرواية: "فليجعل في أنفه" ولم يقل ماء وهو مبين في غيرها وتركه لدلالة الكلام عليه.
الثانية: تمسك به من يرى وجوب الاستنشاق وهو مذهب أحمد ومذهب الشافعي ومالك: عدم الوجوب وحملا الأمر على الندب بدلالة ما جاء في الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي: "توضأ كما أمرك الله" 1 فأحاله على الآية وليس فيها ذكر الاستنشاق.
الثالثة: المعروف أن الاستنشاق جذب الماء إلى الأنف2 والاستنثار دفعه للخروج ومن الناس من جعل الاستنثار لفظا يدل على الاستنشاق الذي هو الجذب وأخذه من النثرة وهي طرف الأنف3 والاستفعال منها يدخل تحته الجذب والدفع معا والصحيح: هو الأول لأنه قد جمع بينهما في حديث واحد يقتضي التغاير.
الرابعة: قوله صلى الله عليه وسلم: "ومن استجمر فليوتر" الظاهر: أن المراد به: استعمال الأحجار في الاستطابة وإيتار فيها بالثلاث واجب عند الشافعي فإن الواجب عنده - رحمه الله - في الاستجمار أمران: أحدهما: إزالة العين والثاني: استيفاء ثلاث مسحات وظاهر الأمر الوجوب لكن هذا الحديث لا يدل على الإيثار بالثلاث فيؤخذ من حديث آخر4.
وقد حمل بعض الناس الاستجمار على استعمال البخور للتطيب فإنه يقال فيه: تجمر واستجمر فبكون الأمر للندب على هذا والظاهر: هو الأول أعني أن المراد: هو استعمال الأحجار.
الخامسة: ذهب بعضهم إلى وجوب غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء في ابتداء الوضوء عند الاستيقاظ من النوم لظاهر الأمر ولا يفرق هؤلاء بين نوم الليل والنهار لإطلاق قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا استيقظ من نومه".
وذهب أحمد إلى وجوب ذلك من نوم الليل دون نوم النهار لقوله صلى الله عليه وسلم: "أين باتت يده؟" والمبيت يكون بالليل.
ـــــــ
1 جزء من حديث أخرجه الترمذي من حديث رفاعة بن رافع "302" وأبو داود "861" وقال أبو عيسى حديث رفاعة بن رافع حديث حسن.
2 مختار الصحاح نشق.
3 القاموس نثر.
4 هو ما أخرجه مسلم من حديث سليمان "262" قيل له: قد علمكم نبيكم صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة؟ قال: فقال: أجل لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول أو أن نستنجي باليمين أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار أو أن نستنجي برجيع أو بعظم.(1/18)
وذهب غيرهم إلى عدم الوجوب مطلقا وهو مذهب مالك والشافعي والأمر محمول على الندب.
واستدل على ذلك بوجهين أحدهما: ما ذكرناه من حديث الأعرابي والثاني: أن الأمر - وإن كان ظاهره الوجوب - إلا أنه يصرف عن الظواهر لقرينة ودليلة وقد دل الدليل وقامت القرينة ههنا فإنه صلى الله عليه وسلم علل بأمر يقتضي الشك وهو قوله: "فإنه لا يدري أين باتت يده؟" والقواعد تقتضي أن الشك لا يقتضي وجوبا في الحكم إذا كان الأصل المستصحب على خلافه موجودا والأصل: الطهارة في اليد فلتستصحب. وفيه احتراز عن مسألة الصيد.
السادسة: قيل: إن سبب هذا الأمر: أنهم كانوا يستنجون بالأحجار فربما وقعت اليد على المحل وهو عرق فتنجست فإذ وضعت في الماء نجسته لأن الماء المذكور في الحديث: هو ما يكون في الأواني التي يتوضأ منها والغالب عليها القلة وقيل: إن الإنسان لا يخلو من حك بثرة1 في جسمه أو مصادفة حيوان ذي دم فيقتله فيتعلق دمه بيده2.
السابعة: الذين ذهبوا إلى أن الأمر للاستحباب: استحبوا غسل اليد قبل إدخالها في الإناء في ابتداء الوضوء مطلقان سواء قام من النوم أم لا ولهم فيه مأخذان أحدهما: أن ذلك: وارد في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم من غير تعرض لسبق نوم والثاني: أن المعنى الذي علل به في الحديث - وهو جولان اليد موجود في حال اليقظة فيعم الحكم لعموم علته.
الثامنة: فرق أصحاب الشافعي أو من فرق منهم بين حال المستيقظ من النوم وغير المستيقظ فقالوا في المستيقظ من النوم: يكره أن يغمس يده في الإناء قبل غسلها ثلاثا وفي غير المستيقظ من النوم: يستحب له غسلها قبل إدخالها في الإناء.
وليعلم الفرق بين قولنا يستحب فعل كذا وبين قولنا يكره تركه فلا تلازم بينهما: فقد يكون الشيء مستحب الفعل ولا يكون مكروه الترك كصلاة الضحى مثلا وكثير من النوافل.
فغسلها لغير المستيقظ من النوم قبل إدخالها الإناء: من المستحبات وترك غسلها للمستيقظ من النوم: من المكروهات وقد وردت صيغة النهي عن إدخالها في الإناء قبل الغسل في حق المستيقظ من النوم وذلك يقتضي الكراهة على أقل الدرجات وهذه التفرقة هي الأظهر.
التاسعة: استنبط من هذا الحديث: الفرق بين ورود الماء على النجاسة وورود النجاسة على الماء ووجه ذلك: أنه قد نهى عن إدخالها في الإناء قبل غسلها لاحتمال النجاسة وذلك.
ـــــــ
1 البثر حراج صغار مختار الصحاح بثر.
2 ولعل الأمر بغسل اليد أيضا إنما هو لأمر معنوي فقد بين في حديث: "فإن أحدكم يبيت الشيطان على يده" أفاد الشيخ شاكر.(1/19)
يقتضي: أن ورود النجاسة على الماء مؤثر فيه وأمر بغسلها بإفراغ الماء عليها للتطهير وذلك يقتضي: أن ملاقاتها للماء على هذا الوجه غير مفسد له بمجرد الملاقاة وإلا لما حصل المقصود من التطهير.
العاشرة: أستنبط منه: أن الماء القليل ينجس بوقوع النجاسة فيه فإنه منع من إدخال اليد فيه لاحتمال النجاسة وذلك دليل على أن تيقنها مؤثر فيه وإلا لما اقتضى احتمال النجاسة المنع.
وفيه نظر عندي لأن مقتضى الحديث: أن ورود النجاسة على الماء مؤثر فيه ومطلق التأثير أعم من التأثير بالتنجيس.
ولا يلزم من ثبوت الأعم ثبوت الأخص المعين فإذا سلم الخصم أن الماء القليل بوقوع النجاسة فيه يكون مكروها فقد ثبت مطلق التأثير فلا يلزم منه ثبوت خصوص التأثير بالتنجيس.
وقد يورد عليه: أن الكراهة ثابتة عند التوهم فلا يكون أثر اليقين هو الكراهة.
ويجاب عنه: بأنه ثبت عند اليقين زيادة في رتبة الكراهة والله أعلم.
5 - عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل منه" 1.
و لمسلم: "لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب" 2.
الكلام عليه من وجوه:
الأول: الماء الدائم هو الراكد3 وقوله: "الذي لا يجري" تأكيدا لمعنى الدائم.
وهذا الحديث مما يستدل به أصحاب أبي حنيفة على تنجيس الماء الراكد وإن كان أكثر من قلتين فإن الصيغة صيغة عموم.
وأصحاب الشافعي: يخصون هذا العموم ويحملون النهي على ما دون القلتين ويقولون بعدم تنجيس القلتين - فما زاد - إلا بالتغير: مأخوذ من حديث القلتين4 فيحمل هذا الحديث.
ـــــــ
1 البخاري "239" ومسلم "282" واللفظ للبخاري.
2 مسلم "283".
3 والساكن مختار الصحاح دوم.
4 وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث" وفي رواية "لم ينجس" أخرجه أبو داود "63" "64" "65" والترمذي "67" وابن ماجه "517" والنسائي "52".(1/20)
العام في النهي على ما دون القلتين جمعا بين الحديثين فإن حديث القلتين يقتضي عدم تنجيس القلتين فما فوقهما وذلك أخص من مقتضى الحديث العام الذي ذكرناه والخاص مقدم على العام.
ولأحمد طريقة أخرى: وهي الفرق بين بول الآدمي وما في معناه من عذرته المائعة وغير ذلك من النجاسات.
فأما بول الآدمي وما في معناه: فينجس الماء وإن كان أكثر من قلتين وأما غيره من النجاسات: فتعتبر فيه القلتان وكأنه رأى الخبث المذكور في حديث القلتين عام بالنسبة إلى الأنجاس وهذا الحديث خاص بالنسبة إلى بول الآدمي فيقدم الخاص على العام بالنسبة إلى النجاسات الواقعة في الماء الكثير ويخرج بول الآدمي وما في معناه من جملة النجاسات الواقعة في القلتين بخصوصه فينجس الماء دون غيره من النجاسات ويلحق بالبول المنصوص عليه: ما يعلم أنه في معناه.
واعلم: أن هذا الحديث لا بد من إخراجه عن ظاهره بالتخصيص أو التقييد لأن الاتفاق واقع على أن الماء المستبحر الكثير جدا: لا تؤثر فيه النجاسة والاتفاق واقع على أن الماء إذا غيرته النجاسة: امتنع استعماله.
فمالك - رحمه الله - إذا حمل النهي على الكراهة - لاعتقاده أن الماء لا ينجس بالتغير - لا بد أن يخرج عنه صورة التغير بالنجاسة أعني عن الحكم بالكراهية فإن الحكم ثم: التحريم فإذا لا بد من الخروج عن الظاهر عند الكل.
فلأصحاب أبي حنيفة أن يقولوا: خرج عنه المستبحر الكثير جدا بالاجماع فيبقى ما عداه على حكم النص فيدخل تحته ما زاد على القلتين.
ويقول أصحاب الشافعي: خرج الكثير المستبحر بالإجماع الذي ذكرتموه وخرج القلتان فما زاد بمقتضى حديث القلتين فيبقى ما نقص عن القلتين داخلا تحت مقتضى الحديث.
ويقول من نصر قول أحمد المذكور: خرج ما ذكرتموه وبقي ما دون القلتين داخلا تحت النص إلا أن ما زاد على القلتين مقتضى حديث القلتين فيه عام في الأنجاس فيخص ببول الآدمي.
ولمخالفهم أن يقول: قد علمنا جزما أن هذا النهي إنما هو لمعنى في النجاسة وعدم التقرب إلى الله بما خالطها وهذا المعنى يستوي فيه سائر الأنجاس ولا يتجه تخصيص بول الآدمي منها بالنسبة إلى هذا المعنى فإن المناسب لهذا المعنى - أعني التنزه عن الأقذار - أن يكون ما هو أشد استقذارا أوقع في هذا المعنى وأنسب له وليس بول الآدمي بأقذر من سائر النجاسات بل قد يساويه غيره أو يرجح عليه فلا يبقى لتخصيصه دون غيره بالنسبة إلى المنع معنى فيحمل.(1/21)
الحديث على أن ذكر البول ورد تنبيها على غيره مما يشاركه في معناه من الاستقذار والوقوف على مجرد الظاهر ههنا - مع وضوح المعنى وشموله لسائر النجاسات - ظاهرية محضة.
وأما مالك رحمه الله تعالى: فإذا حمل النهي على الكراهية يستمر حكم الحديث في القليل والكثير غير المستثني بالاتفاق: "وهو المستبحر" مع حصول الإجماع على تحريم الاغتسال بعد تغير الماء بالبول فهذا يلتفت إلى حمل اللفظ الواحد إلى معنيين مختلفين وهي مسألة أصولية فإن جعلنا النهي للتحريم: كان استعماله في الكراهة والتحريم استعمال اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه والأكثرون على منعه والله أعلم.
"وقد يقال على هذا: إن حالة التغير مأخوذة من غير هذا اللفظ فلا يلزم استعمال اللفظ الواحد في معنيين مختلفين وهذا متجه إلا أنه يلزم منه التخصيص في هذا الحديث والمخصص: الإجماع على نجاسة المتغير".
الوجه الثاني: اعلم أن النهي عن الاغتسال لا يخص الغسل بل التوضؤ في معناه وقد ورد مصرحا به في بعض الروايات1: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يتوضأ منه" ولو لم يرد لكان معلوما قطعا لاستواء الوضوء والغسل في هذا الحكم لفهم المعنى الذي ذكرناه وأن المقصود: التنزه عن التقرب إلى الله سبحانه بالمستقذرات.
الثالث: ورد في بعض الروايات: "ثم يغتسل منه" وفي بعضها: "ثم يغتسل فيه" ومعناهما مختلف يفيد كل واحد منهما حكما بطريق النص وآخر بطريق الاستنباط ولو لم يرد فيه لفظة فيه لاستويا لما ذكرنا.
الرابع: مما يعلم بطلانه قطعا: ما ذهبت إليه الظاهرية الجامدة: من أن الحكم مخصوص بالبول في الماء حتى لو بال في كوز وصبه في الماء: لم يضر عندهم أو لو بال خارج الماء فجرى البول إلى الماء: لم يضر عندهم أيضا والعلم القطعي حاصل ببطلان قولهم لاستواء الأمرين في الحصول في الماء وأن المقصود: اجتناب ما وقعت فيه النجاسة من الماء وليس هذا من مجال الظنون بل هو مقطوع به.
وأما الرواية الثانية: وهي قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب" فقد استدل به على مسألة المستعمل وأن الاغتسال في الماء يفسده لأن النهى وارد ههنا على مجرد الغسل فدل على وقوع المفسدة بمجرده وهي خروجه عن كونه أهلا للتطهير به: إما لنجاسته أو لعدم طهوريته ومع هذا فلا بد فيه من التخصيص فإن الماء الكثير - إما القلتان فما زاد على مذهب الشافعي أو المستبحر على مذهب أبي حنيفة - لا يؤثر فيه الاستعمال.
ـــــــ
1 ابن خزيمة في صحيحه "73" بزيادة "أو يشرب".(1/22)
ومالك لما رأى أن الماء المستعمل طهور غير أنه مكروه: يحمل هذا النهي على الكراهة.
وقد يرجحه: أن وجوه الانتفاع بالماء لا تختص بالتطهير والحديث عام في النهى فإذا حمل على التحريم لمفسدة خروج الماء عن الطهورية: لم يناسب ذلك لأن بعض مصالح الماء تبقى بعد كونه خارجا عن الطهورية وإذا حمل على الكراهة: كانت المفسدة عامة لأنه يستقذر بعد الاغتسال فيه وذلك ضرر بالنسبة إلى من يريد استعماله في طهارة أو شرب فيستمر النهي بالنسبة إلى المفاسد المتوقعة إلا أن فيه حمل اللفظ على المجاز أعني حمل النهى على الكراهة فإنه حقيقة في التحريم.
6 - عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا" 1 ولمسلم: "أولاهن بالتراب" 2.
7 - وله في حديث عبد الله بن مغفل: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبعا وعفروه الثامنة بالتراب" 3.
فيه مسائل:
الأولى: الأمر بالغسل ظاهر في تنجيس الإناء وأقوى من هذا الحديث في الدلالة على ذلك: الرواية الصحيحة وهي قوله صلى الله عليه وسلم: "طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه لكلب: أن يغسل سبعا" فإن لفظة: "طهور" تستعمل إما عن الحدث أو عن الخبث ولاحدث على الإناء بالضرورة فتعين الخبث.
وحمل مالك هذا الأمر على التعبد لاعتقاده طهارة الماء والإناء وربما رجحه أصحابه بذكر هذا العدد المخصوص وهو السبع لأنه لو كان للنجاسة: لاكتفى بما دون السبع فإنه لا يكون أغلظ من نجاسة العذرة4 وقد اكتفى فيها بما دون السبع والحمل على التنجيس أولى لأنه متى دار الحكم بين كونه تعبدا أو معقول المعنى كان حمله على كونه معقول المعنى أولى لندرة التعبد بالنسبة إلى الأحكام المعقولة المعنى.
وأما كونه لا يكون أغلظ من نجاسة العذرة فممنوع عند القائل بنجاسته نعم ليس بأقذر من نجاسة العذرة ولكن لا يتوقف التغليظ على زيادة الاستقذار.
ـــــــ
1 البخاري "172" ومسلم "279" ولفظهما "سبع مرات".
2 مسلم "279" "91".
3 مسلم "280" "93" ولفظه "في التراب" ولغ يلغ ولغا وولوغا وأكثر ما يكون الولوغ في السباع النهاية ولغ.
4 العذرة: الغائط.(1/23)
وأيضا فإذا كان أصل المعنى معقولا قلنا به وإذا وقع في التفاصيل ما لم يعقل معناه في التفصيل لم ينقص لأجله التأصيل ولذلك نظائر في الشريعة فلو لم تظهر زيادة التغليظ في النجاسة لكنا نقتصر في التعبد على العدد ونمشي في أصل المعنى على معقولية المعنى1.
المسألة الثانية: إذا ظهر أن الأمر بالغسل للنجاسة: فقد استدل بذلك على نجاسة عين الكلب ولهم في ذلك طريقان:
أحدهما: أنه إذا ثبتت نجاسة فمه من نجاسة لعابه فإنه جزء من فمه وفمه أشرف ما فيه فبقية بدنه أولى.
الثاني: إذا كان لعابه نجسا - وهو عرق فمه - ففمه نجس والعرق جزء متحلب من البدن فجميع عرقه نجس فجميع بدنه نجس لما ذكرناه من أن العرق جزء من البدن.
فتبين بهذا: أن الحديث إنما دل على النجاسة فيما يتعلق بالفم وأن نجاسة بقية البدن بطريق الاستنباط.
وفيه بحث وهو أن يقال: إن الحديث إنما دل على نجاسة الإناء الولوغ وذلك قدر مشترك بين نجاسة عين اللعاب وعين الفم أو تنجسهما باستعمال النجاسة غالبا والدال على المشترك لا يدل على أحد الخاصين فلا يدل الحديث على نجاسة عين الفم أو عين اللعاب فلا تستقيم الدلالة على نجاسة عين الكلب كله.
وقد يعترض على هذا بأن يقال: لو كانت العلة تنجيس الفم أو اللعاب - كما أشرتم إليه - لزم أحد أمرين وهو إما وقوع التخصيص في العموم أو ثبوت الحكم بدون علته: لأنا إذا فرضنا تطهير فم الكلب بماء كثير أو بأي وجه كان فولغ في الإناء: فإما أن يثبت وجوب غسله أو لا فإن لم يثبت وجب تخصيص العموم وإن ثبت لزم ثبوت الحكم بدون علته وكلاهما على خلاف الأصل.
ـــــــ
1 قال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله في الإحكام "1/75" قد ظهر من البحوث الطبية الحديثة: أن وجه غسل الإناء سبعا من ولوغ الكلب هو: أن في أمعاء الكلاب دودة شريطية صغيرة جدا طولها 4 مليمترات فإذا راث الكلب خرجت بويضاتها بكثرة في الرؤث فيلصق كثير منها بالشعر الذي بالقرب من دبره وعادة الكلب أن ينظف مخرجه بلسانه – فيتلوث لسانه وفمه بها وتنتشر في بقية شعره بواسطة لسانه أو غيره فإذا ولغ الكلب في إناء أو قبله إنسان – كما يفعله الإفرنج ومقلدوهم – علقت بعض هذه البويضات بتلك الأشياء وسهل وصولها إلى فمه في أثناء أكله أو شربه فتصل إلى معدته وتخرج منها الأجنة فتثقب جدار المعدة والأمعاء وتصل إلى أوعية الدم فتحدث أمراضا كثيرة في المخ والقلب والرئة إلى غير ذلك ولما كان تمييز الكلب المصاب بهذه الدودة عسيرا جدا لأنه يحتاج إلى زمن طويل وبحث دقيق بالآلة التي لا يعرف استعمالها إلا القليل من الناس كان اعتبار الشارع إياه موبوءا والغسل من ولوغه سبع مرات إنقاء للإناء بحيث لا يعلق فيه شيء مما ذكرناه هو عين الحكمة والصواب والله أعلم.(1/24)
والذي يمكن أن يجاب به عن هذا السؤال أن يقال: الحكم منوط بالغالب وما ذكرتموه من الصور نادر لا يلتفت إليه وهذا البحث إذا انتهى إلى هنا يقوي قول من يرى أن الغسل لأجل قذارة الكلب.
المسألة الثالثة: الحديث نص في اعتبار السبع في عدد الغسلات وهو حجة على أبي حنيفة في قوله: يغسل ثلاثا.
المسألة الرابعة: في رواية ابن سيرين زيادة: "التراب" وقال بها الشافعي وأصحاب الحديث وليست في رواية مالك هذه الزيادة: فلم يقل بها والزيادة من الثقة مقبولة وقال بها غيره.
المسألة الخامسة: اختلفت الروايات في غسلة الترتيب ففي بعضها: "أولاهن" وفي بعضها: "أخراهن" وفي بعضها: "إحداهن" والمقصود عند الشافعي وأصحابه: حصول الترتيب في مرة من المرات1 وقد يرجح كونه في الأولى: بأنه إذا ترب أولا فعلى تقدير أن يلحق بعض المواضع الطاهرة رشاش بعض الغسلات لا يحتاج إلى تتريبه وإذا أخرت غسلة التتريب فلحق رشاش ما قبلها بعض المواضع الطاهرة: احتيج إلى تتريبه فكانت الأولى أرفق بالمكلف فكانت أولى.
المسألة السادسة: الرواية التي فيها: "و عفروه الثامنة بالتراب" تقتضي زيادة مرة ثامنة ظاهرا وبه قال الحسن البصري وقيل: لم يقل به غيره ولعله المراد بذلك من المتقدمين2.
والحديث قوي فيه ومن لم يقل به: احتاج إلى تأويله بوجه فيه استكراه.
المسألة السابعة: قوله صلى الله عليه وسلم: "فاغسلوه سبعا أولاهن أو أخراهن بالتراب" قد يدل لما قاله بعض أصحاب الشافعي: إنه لا يكتفي بذر التراب على المحل بل لا بد أن يجعله في الماء ويوصله إلى المحل.
ووجه الاستدلال: أنه جعل مرة التتريب داخله في قسم مسمى الغسلات وذر التراب على المحل لا يسمى غسلا وهذا ممكن وفيه احتمال لأنه إذا ذر التراب على المحل وأتبعه بالماء يصح أن يقال: غسل بالتراب ولا بد من مثل هذا في أمره صلى الله عليه وسلم في غسل الميت بماء.
ـــــــ
1 قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم "1/463" وفيها دليل على أن التقيد بالأولى وبغيرها ليس على الاشتراط بل المراد إحداهن وأما رواية: "وعفروه الثامنة بالتراب" فمذهبنا ومذهب الجماهير أن المراد: اغسلوه سبعا واحدة منهن بالتراب مع الماء فكأن التراب قائم مقام غسله فسميت ثامنة لهذا والله أعلم.
2 قال به الإمام أحمد بن حنبل ففي المغني: وعن أحمد أنه يجب غسلها ثمانيا إحداهن بالتراب روي ذلك عن الحسن لحديث عبد الله بن المغفل.المغني "1/64" قال الحافظ ابن حجر وبه قال أحمد بن حنبل في رواية الكرماني عنه .والأخذ بحديث ابن مغفل يستلزم الأخذ بحديث أبي هريرة دون العكس والزيادة من الثقة مقبولة فتح الباري "172".(1/25)
وسدر عند من يرى أن الماء المتغير بالطاهر غير طهور إن جرى على ظاهر الحديث في الاكتفاء بغسلة واحدة لأنها تحصل مسمى الغسل. وهذا جيد".
إلا أن قوله: "وعفروه" قد يشعر بالاكتفاء بالتتريب بطريق ذر التراب على المحل فإن كان خلطه بالماء لا ينافي كونه تعفيرا لغة فقد ثبت ما قالوه ولكن لفظة: "التعفير" حينئذ تنطلق على ذر التراب على المحل وعلى إيصاله بالماء إليه والحديث الذي دل على اعتبار مسمى الغسلة إذ دل على خلطه بالماء وإيصاله إلى المحل به فذلك أمر زائد على مطلق التعفير على التقدير الذي ذكرناه من شمول اسم: "التعفير" للصورتين معا أعني ذر التراب وإيصاله بالماء.
المسألة الثامنة: الحديث عام في جميع الكلاب وفي مذهب مالك: قول بتخصيصه بالمنهي عن اتخاذه والأقرب: العموم لأن الألف واللام إذا لم يقم دليل على صرفها إلى المعهود المعين فالظاهر كونها للعموم ومن يرى الخصوص قد يأخذه من قرينة تصرف العموم عن ظاهرة فإنهم نهوا عن اتخاذ الكلاب إلا لوجوه مخصوصة والأمر بالغسل مع المخالطة عقوبة يناسبها الاختصاص بمن ارتكب النهي في اتخاذ ما منع من اتخاذه وأما من اتخذ ما أبيح له اتخاذه فإيجاب الغسل عليه مع المخالطة عسر وحرج ولا يناسبه الإذن والإباحة في الاتخاذ وهذا يتوقف على أن تكون هذه القرينة موجودة عند النهي.
المسألة التاسعة: "الإناء" عام بالنسبة إلى كل إناء والأمر بغسله للنجاسة إذا ثبت ذلك يقتضي تنجيس ما فيه فيقتضي المنع من استعماله.
وفي مذهب مالك قول أن ذلك يختص بالماء وأن الطعام الذي ولغ فيه الكلب لا يراق ولا يجتنب وقد ورد الأمر بالإراقة مطلقا في بعض الروايات الصحيحة1.
المسألة العاشرة: ظاهر الأمر الوجوب وفي مذهب مالك قول: إنه للندب وكأنه لما اعتقد طهارة الكلب - بالدليل الذي دله على ذلك - جعل ذلك قرينة صارفة للأمر عن ظاهره من الوجوب إلى الندب والأمر قد يصرف عن ظاهره بالدليل.
المسألة الحادية عشرة: قوله: "بالتراب" يقتضي تعينه وفي مذهب الشافعي قول - أو وجه2 - إن الصابون والأشنان والغسلة الثامنة تقوم مقام التراب بناء على أن المقصود بالتراب: زيادة التنظيف وأن الصابون والأشنان يقومان مقامه في ذلك وهذا عندنا ضعيف لأن النص إذا ورد بشيء معين واحتمل معنى يختص بذلك الشيء لم يجز إلغاء النص.
ـــــــ
1 هي رواية مسلم من حديث أبي هريرة "279" ولفظه: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه ثم ليغسله سبع مرار".
2 القول للإمام والوجه للأصحاب.(1/26)
واطراح خصوص المعين فيه والأمر بالتراب - وإن كان محتملا لما ذكروه وهو زيادة التنظيف - فلا نجزم بتعيين ذلك المعنى فإنه يزاحمه معنى آخر وهو الجمع بين مطهرين أعني الماء والتراب وهذا المعنى مفقود في الصابون والأشنان.
وأيضا فإن هذه المعاني المستنبطة إذا لم يكن فيها سوى مجرد المناسبة فليست بذلك الأمر القوي فإذا وقعت فيها الاحتمالات فالصواب اتباع النص.
وأيضا فإن المعنى المستنبط إذا عاد على النص بإبطال أو تخصيص: مردود عند جمع من الأصوليين.
8 - عن حمران مولى عثمان بن عفان رضي الله عنهما: أنه رأى عثمان دعا بوضوء فأفرغ على يديه من إنائه فغسلهما ثلاث مرات ثم أدخل يمينه في الوضوء ثم تمضمض واستنشق واستنثر ثم غسل وجهه ثلاثا ويديه إلى المرفقين ثلاثا ثم مسح برأسه ثم غسل كلتا رجليه ثلاثا ثم قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ نحو وضوئي هذا وقال: "من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه" 1.
عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف يجتمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عبد مناف أسلم قديما وهاجر الهجرتين وتزوج بنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وولي الخلافة بعد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقتل يوم الجمعة لثماني عشرة خلون من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين من الهجرة ومولاه حمران بن أبان بن خالد كان من سبي عين النمر ثم تحول إلى البصرة احتج به الجماعة وكان كبيرا.
الكلام على هذا الحديث من وجوه:
أحدها: الوَضوء بفتح الواو: اسم للماء وبضمها: اسم للفعل على الأكثر2 وإذا كان بفتح الواو اسما للماء - كما ذكرناه - فهل هو اسم لمطلق الماء أو للماء بقيد كونه متوضئا به أو معدا للوضوء به؟ فيه نظر يحتاج إلى كشف.
وينبني عليه فائدة فقهية وهو أنه في بعض الأحاديث التي استدل بها على أن الماء المستعمل طاهر: قول جابر: "فصب علي من وضوئه"3 فإنا إن جعلنا الوضوء إسما لمطلق الماء لم يكن في.
ـــــــ
1 البخاري "164" ومسلم "226".
2 راجع القاموس وضأ.
3 البخاري "194" ومسلم "1616".(1/27)
قوله: "فصب علي من وضوئه" دليل على طهارةالماء المستعمل لأنه يصير التقدير: فصب علي من مائه ولا يلزم أن يكون ماؤه هو الذي استعمل في أعضائه لأنا نتكلم على أن الوضوء اسم لمطلق الماء وإذا لم يلزم ذلك: جاز أن يكون المراد بوضوئه: فضلة مائه الذي توضأ ببعضه لا ما استعمله في أعضائه فلا يبقى فيه دليل من جهة اللفظ على ما ذكر من طهارة الماء المستعمل.
وإن جعلنا الوضوء بالفتح: الماء مقيدا بالإضافة إلى الوضوء - بالضم - أعني استعماله في الأعضاء أو إعداده لذلك: فها هنا يمكن أن يقال: فيه دليل لأن وضوءه بالفتح متردد بين مائه المعد للوضوء بالضم وبين مائه المستعمل في الوضوء وحمله على الثاني أولى.
لأنه الحقيقة أو الأقرب إلى الحقيقة واستعماله بمعنى المعد مجاز والحمل على الحقيقة أو الأقرب إلى الحقيقة أولى.
الثاني: قوله: "فأفرغ على يديه" فيه استحباب غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء في ابتداء الوضوء مطلقا والحديث الذي مضى يفيد استحبابه عند القيام من النوم وقد ذكرنا الفرق بين الحكمين وأن الحكم عند عدم القيام: الاستحباب وعند القيام: الكراهية لإدخالهما في الإناء قبل غسلهما.
الثالث: قوله: "على يديه" يؤخذ منه: الإفراغ عليهما معا وقد تبين في رواية أخرى: "أنه أفرغ بيده اليمنى على اليسرى ثم غسلهما".
قوله: "غسلهما" قدر مشترك بين كونه غسلهما مجموعتين أو مفترقتين والفقهاء اختلفوا أيهم أفضل؟؟.
الرابع: قوله: "ثلاث مرات" مبين لما أهمل من ذكر العدد في حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة المتقدم الذكر في قوله: "إذا استيقظ أحدكم" من رواية مالك وغيره وقد ورد في حديث أبي هريرة أيضا: ذكر العدد في الصحيح وقد ذكر صاحب هذا الكتاب.
الخامس: قوله: "ثم تمضمض" مقتض للترتيب بين غسل اليدين والمضمضة وأصل هذه اللفظة: مشعر بالتحريك ومنه: مضمض النعاس في عينيه واستعملت في هذه السنة - أعني: المضمضة في الوضوء - لتحريك الماء في الفم.
وقال بعض الفقهاء: المضمضة: أن يجعل الماء في فيه ثم يمجه - هذا أو معناه - فأدخل المج في حقيقة المضمضة فعلى هذا: لو ابتلعه لم يكن مؤديا للسنة وهذا الذي يكثر في أفعال المتوضئين. أعني: الجعل والمج" ويمكن أن يكون ذكر ذلك بناء على أن الأغلب والعادة لا أنه يتوقف تأدي السنة على مجه والله أعلم.
السادس: قوله: "ثم غسل وجهه" دليل على الترتيب بين غسل الوجه والمضمضة والاستنشاق وتأخره عنهما فيؤخذ منه الترتيب بين المفروض والمسنون.(1/28)
وقد قيل في حكمة تقديم المضمضة والاستنشاق على غسل الوجه المفروض: إن صفات الماء ثلاث - أعني المعتبرة في التطهير - لون يدرك بالبصر وطعم يدرك بالذوق وريح يدرك بالشم فقدمت هاتان السنتان ليختبر حال الماء قبل أداء الفرض به وبعض الفقهاء رأى الترتيب بين المفروضات ولم يره بين المفروض والمسنون كما بين المفروضات.
و الوجه مشتق من المواجهة1 وقد اعتبر الفقهاء هذا الاشتقاق وبنوا عليه أحكاما.
وقوله: "ثلاثا" يفيد استحباب هذا العدد في كل ما ذكر فيه.
السابع: قوله: "ويديه إلى المرفقين" المرفق فيه وجهان أحدهما: بفتح الميم وكسر الفاء والثاني: عكسه لغتان.
وقوله: "إلى المرفقين" ليس فيه إفصاح بكونه أدخلهما في الغسل أو انتهى إليهما والفقهاء اختلفوا في وجوب إدخالهما في الغسل فمذهب مالك والشافعي: الوجوب وخالف زفر وغيره.
ومنشأ الاختلاف فيه: أن كلمة "إلى" المشهور فيها: أنها لانتهاء الغاية وقد ترد بمعنى مع فمن الناس من حملها على مشهورها فلم يوجب إدخال المرفقين في الغسل ومنهم من حملها على معنى "مع" فأوجب إدخالها.
وقال بعض الناس: يفرق بين أن تكون الغاية من جنس ما قبلها أولا فإن كانت من الجنس دخلت كما في آية الوضوء2 وإن كانت من غير الجنس لم تدخل كما في قوله عز وجل: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187].
وقال غيره: إنما دخل المرفقان ههنا لأن "إلى" ههنا غاية للإخراج لا للإدخال فإن اسم اليد ينطلق على العضو إلى المنكب فلو لم ترد هذه الغاية لوجب غسل اليد إلى المنكب فلما دخلت: أخرجت عن الغسل ما زاد على المرفق فانتهى الإخراج إلى المرفق فدخل في الغسل.
وقال آخرون: لما تردد لفظ "إلى" بين أن تكون للغاية وبين أن تكون بمعنى "مع" وجاء فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أدار الماء على مرفقيه كان ذلك بيانا للمجمل وأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم في بيان الواجب المجمل محمولة على الوجوب وهذا عندنا ضعيف لأن "إلى" حقيقة في انتهاء الغاية مجاز بمعنى "مع" ولا إجمال في اللفظ بعد تبين حقيقته.
ـــــــ
1 انظر القاموس وجه.
2: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة: 6](1/29)
ويدل على أنها حقيقة في انتهاء الغاية: كثرة نصوص أهل العربية على ذلك ومن قال: أنها بمعنى مع فلم ينص على أنها حقيقة في ذلك فيجوز يريد المجاز.
الثامن: قوله: "ثم مسح رأسه" ظاهره: استيعاب الرأس بالمسح لأن اسم الرأس حقيقة في العضو كله.
والفقهاء اختلفوا في القدر الواجب من المسح وليس في الحديث ما يدل على الوجوب لأنه في آخره: إنما ذكر ترتيب ثواب مخصوص على هذه الأفعال وليس يلزم من ذلك عدم الصحة عند عدم كل جزء من تلك الأفعال فجاز أن يكون ذلك الثواب مرتبا على إكمال مسح الرأس وإن لم يكن واجبا إكماله كما يترتب على المضمضة والاستنشاق وإن لم يكونا واجبين عند كثير من الفقهاء أو الأكثرين منهم.
فإن سلك سالك ما قدمناه في المرفقين - من ادعاء الإجمال في الآية وأن الفعل بيان له - فليس بصحيح لأن الظاهر من الآية: مبين إما على أن يكون المراد: مطلق المسح على ما يراه الشافعي بناء على أن مقتضى الباء في الآية التبعيض: "أو غير ذلك" أو على أن المراد: الكل على ماقاله مالك بناء على أن اسم الرأس حقيقة في الجملة وأن الباء لا تعارض ذلك وكيفما كان: فلا إجمال.
التاسع: قوله: "ثم غسل كلتا رجليه" صريح في الرد على الروافض في أن واجب الرجلين: المسح وقد تبين هذا من حديث عثمان وجماعة وصفوا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن أحسن ما جاء في: حديث عمرو بن عبسة - بفتح العين والباء - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما منكم من أحد يقرب وضوءه" إلى أن قال: "ثم يغسل رجليه كما أمره الله عز وجل"1 فمن هذا الحديث: انضم القول إلى الفعل وتبين أن المأمور به: الغسل في الرجلين.
العاشر: قوله: "ثلاثا" يدل على استحباب التكرار في غسل الرجلين ثلاثا وبعض الفقهاء لا يرى هذا العدد في الرجل كما في غيرها من الأعضاء وقد ورد في بعض الروايات:2 "فغسل رجليه حتى أنقاهما" ولم يذكر عددا فاستدل به لهذا المذهب وأكد من جهة المعنى: بأن الرجل لقربها من الأرض في المشي عليها يكثر فيها الأوساخ والأدران فيحال الأمر فيها على مجرد الإنقاء من غير اعتبار العدد والرواية التي ذكر فيها العدد: زائدة على الرواية التي لم يذكر فيها فالأخذ بها متعين والمعنى المذكور لا ينافي اعتبار العدد فليعمل بما دل عليه لفظ مثل.
ـــــــ
1 فطعة من حديث طويل رواه مسلم إسلام عمرو بن عبسنة "832" وفيه "ما منكم رجل...".
2 مسلم "236" "وغسل.".(1/30)
الحادي عشر: قوله: "نحو وضوئي هذا" لفظة: "نحو" لا تطابق لفظة مثل فإن لفظة مثل يقتضي ظاهرها المساواة من كل وجه إلا في الوجه الذي يقتضي التغاير بين الحقيقتين بحيث يخرجهما عن الوحدة ولفظ "نحو" لا تعطي ذلك ولعلها استعملت بمعنى المثل مجازا أو لعله لم يترك مما يقتضي المثلية إلا مالا يقدح في المقصود يظهر في الفعل المخصوص: أن فيه أشياء ملغاة عن الاعتبار في المقصود من الفعل: فإذا تركت هذه الأشياء لم يكن الفعل مماثلا حقيقة لذلك الفعل ولم يقدح تركها في المقصود منه وهو رفع الحدث وترتب الثواب.
وإنما احتجنا إلى هذا وقلنا به لأن هذا الحديث ذكر لبيان فعل يقتدى به ويحصل الثواب الموعود عليه فلا بد أن يكون الوضوء المحكي المفعول محصلا لهذا الغرض فلهذا قلنا: إما أن يكون استعمل نحو في حقيقتها مع عدم فوات المقصود لا بمعنى مثل أو يكون ترك ما علم قطعا أنه لا يخل بالمقصود فاستعمل نحو في مثل مع عدم فوات المقصود والله أعلم.
ويمكن أن يقال: إن الثواب يترتب على مقارنة ذلك الفعل تسهيلا وتوسيعا على المخاطبين من غير تضييق وتقيد بما ذكرناه أولا إلا أن الأول أقرب إلى مقصود البيان.
الثاني عشر: هذا الثواب الموعود به يترتب على مجموع أمرين أحدهما: الوضوء على النحو المذكور والثاني صلاة ركعتين بعده بالوصف المذكور بعده في الحديث والمرتب على مجموع أمرين: لا يلزم ترتبه على أحدهما إلا بدليل خارج.
وقد أدخل قوم هذا الحديث في فضل الوضوء وعليهم في ذلك هذا السؤال الذي ذكرناه.
ويجاب عنه: بأن كون الشيء جزءا مما يترتب عليه الثواب العظيم: كاف في كونه ذا فضل فيحصل المقصود من كون الحديث دالا على فضيلة الوضوء ويظهر بذلك الفرق بين حصول الثواب المخصوص وحصول مطلق الثواب فالثواب المخصوص: يترتب على مجموع الوضوء على النحو المذكور والصلاة الموصوفة بالوصف المذكور ومطلق الثواب: قد يحصل بما دون ذلك.
الثالث عشر: قوله: "لا يحدث فيهما نفسه" إشارة إلى الخواطر والوساوس الواردة على النفس وهي على قسمين أحدهما: ما يهجم هجما يتعذر دفعه عن النفس والثاني: ما تسترسل معه النفس ويمكن قطعه ودفعه فيمكن أن يحمل هذا الحديث على هذا النوع الثاني فيخرج عنه النوع الأول لعسر اعتباره ويشهد لذلك: لفظة: "يحدث نفسه" فإنه يقتضي تكسبا منه وتفعلا لهذا الحديث ويمكن أن يحمل على النوعين معا إلا أن العسر إنما يجب دفعه عما يتعلق بالتكاليف.(1/31)
والحديث إنما يقتضي ترتب ثواب مخصوص على عمل مخصوص فمن حصل له ذلك العلم: حصل له ذلك الثواب ومن لا فلا.
وليس ذلك من باب التكاليف حتى يلزم رفع العسر عنه نعم لا بد وأن تكون تلك الحالة ممكنة الحصول - أعني الوصف المرتب عليه الثواب المخصوص - والأمر كذلك فإن المتجردين عن شواغل الدنيا الذين غلب ذكر الله عز وجل على قلوبهم وغمرها تحصل لهم تلك الحالة وقد حكى عن بعضهم ذلك.
الرابع عشر: حديث النفس يعم الخواطر المتعلقة بالدنيا والخواطر المتعلقة بالآخرة والحديث محمول - والله أعلم - على ما يتعلق بالدنيا إذ لا بد من حديث النفس فيما يتعلق بالآخرة كالفكر في معاني المتلو من القرآن العزيز والمذكور من الدعوات والأذكار ولا نريد بما يتعلق بأمر الآخرة: كل أمر محمود أو مندوب إليه فإن كثيرا من ذلك لا يتعلق بأمر الصلاة وإدخاله فيها أجنبي عنها وقد روى عن عمر رضي الله عنه أنه قال إني لأجهز الجيش وأنا في الصلاة1 أو كما قال وهذه قربة إلا أنها أجنبية عن مقصود الصلاة.
الخامس عشر: قوله: "غفر له ما تقدم من ذنبه" ظاهرة العموم في جميع الذنوب وقد خصوا مثله بالصغائر وقالوا: إن الكبائر إنما تكفر بالتوبة وكأن المستند في ذلك: أنه ورد مقيدا في مواضع كقوله صلى الله عليه وسلم: "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان: كفارات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر" 2 فجعلوا هذا القيد في هذه الأمور مقيدا للمطلق في غيرها.
9 - عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه قال: شهدت عمرو بن أبي حسن سأل عن وضوء النبي صلى الله عليه وسلم؟ فدعا بتور من ماء فتوضأ لهم وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكفأ على يديه من التور فغسل يديه ثلاثا ثم أدخل يده في التور فمضمض واستنشق واستنثر ثلاثا بثلاث غرفات ثم أدخل يده فغسل وجهه ثلاثا ثم أدخل يده في التور فغسلهما مرتين إلى المرفقين ثم أدخل يده في التور فمسح رأسه فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة ثم غسل رجليه3.
وفي رواية: "بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه"4.
ـــــــ
1 البخاري معلقا في العمل في الصلاة باب تفكر الرجل الشيء في الصلاة.
2 مسلم "233" "16".
3 البخاري "186" ومسلم "235" واللفظ للبخاري.
4 مسلم "235" "2".(1/32)
وفي رواية: "أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرجنا له ماء في تور من صفر"1.
التور: شبه الطست.
عمرو بن يحيى بن عمارة بن أبي حسن الأنصاري المازني المدني: ثقة روى له الجماعة: وكذلك أبوه ثقة اتفقوا عليه.
فيه وجوه:
أحدها: عبد الله بن زيد هو زيد بن عاصم: وهو غير زيد بن عبد ربه وهذا الحديث لعبد الله بن زيد بن عاصم لا لعبد الله بن زيد بن عبد ربه وحديث الأذان ورؤيته في المنام لعبد الله بن زيد بن عبد ربه لا لعبد الله بن زيد بن عاصم فليتنبه لذلك فإنه مما يقع فيه الاشبتاه والغلط.
الثاني: قوله: "فدعا بتور" التور: بالتاء المثناة: الطست والطست - بكسر الطاء وبفتحها وبإسقاط التاء - لغات.
الثالث: فيه دليل على جواز الوضوء من آنية الصفر2 والطهارة جائزة من الأواني الطاهرة كلها إلا الذهب والفضة للحديث الصحيح الوارد في النهي عن الأكل والشرب فيهما وقياس الوضوء على ذلك.
الرابع: ما يتعلق بغسل اليدين قبل إدخالهما الإناء: قد مر.
وقوله: "فمضمض واستنشق ثلاثا بثلاث غرفات" تعرض لكيفية المضمضة والاستنشاق بالنسبة إلى الفصل والجمع وعدد الغرفات والفقهاء اختلفوا في ذلك فمنهم من اختار الجمع ومنهم من اختار الفصل.
والحديث يدل - والله أعلم - على أنه تمضمض واستنشق من غرفة ثم فعل كذلك مرة أخرى ثم فعل كذلك مرة أخرى وهو محتمل من حيث اللفظ غير ذلك وهو أن يفاوت بين العدد في المضمضة والاستنشاق مع اعتبار ثلاث غرفات إلا أنا لا نعلم قائلا به مثال ذلك: أن يغرف غرفة فيتمضمض بها مرة مثلا ثم يأخذ غرفة أخرى فيتمضمض بها مرتين ثم يأخذ غرفة أخرى فيستنشق بها ثلاثا وغير ذلك.
من الصور التي تعطي هذا المعنى فيصدق على هذا أنه: تمضمض ثلاثا واستنشق ثلاثا من ثلاث غرفات.
الخامس: قوله: "ثم أدخل يده فغسل وجهه ثلاثا" قد تقدم القول فيه.
وقوله: "ويديه إلى المرفقين مرتين" فيه دليل على جواز التكرار ثلاثا في بعض الأعضاء.
ـــــــ
1 البخاري "197" ولفظ أبي داود "جاءنا" "98".
2 الصفر النحاس.(1/33)
واثنتين في بعضها وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم الوضوء مرة مرة ومرتين مرتين وثلاثا ثلاثا وبعضه ثلاثا وبعضه مرتين وهو هذا الحديث.
السادس: قوله: "ثم أدخل يده في التور فمسح رأسه فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة" فيه دليل على التكرار في مسح الرأس مع التكرار في غيره وهو مذهب مالك وأبو حنيفة وورد المسح في بعض الروايات مطلقا وفي بعضها مقيدا بمرة واحدة.
وقوله: "فأقبل بهما وأدبر" اختلف الفقهاء في كيفية الإقبال والإدبار على ثلاثة مذاهب أحدها: أن يبدأ بمقدم الرأس الذي يلي الوجه ويذهب إلى القفا ثم يردهما إلى المكان الذي بدأ منه وهو مبدأ الشعر في حد الوجه وعلى هذا يدل ظاهر قوله: "بدأ مقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه" وهو مذهب مالك والشافعي.
إلا أنه ورد على هذا الإطلاق - أعني إطلاق قوله فأقبل بهما وأدبر - إشكال من حيث إن هذه الصيغة تقتضي أنه أدبر بهما وأقبل لأن ذهابه إلى جهة القفا إدبار ورجوعه إلى جهة الوجه إقبال.
فمن الناس من اعتقد أن هذه الصيغة المتقدمة التي دل عليها ظاهر الحديث المفسر وهو قوله بدأ بمقدم رأسه الخ.
وأجاب عن هذا السؤال بأن الواو لا تقتضي الترتيب فالتقدير: أدبر وأقبل.
وعندي فيه جواب آخر وهو أن الإقبال والإدبار من الأمور الإضافية أعني: أنه ينسب إلى ما يقبل إليه ويدبر عنه فيمكنه حمله على هذا ويحتمل أن يريد بالإقبال: الإقبال على الفعل لا غير ويضعفه قوله: "وأدبر مرة واحدة".
ومن الناس من قال: يبدأ بمؤخر رأسه ويمر إلى جهة الوجه ثم يرجع إلى المؤخر محافظة على ظاهر قوله: "أقبل وأدبر" وينسب الإقبال: إلى مقدم الوجه والإدبار: إلى ناحية المؤخر.
وهذا يعارضه الحديث المفسر لكيفية الإقبال والإدبار وإن كان يؤيده ما ورد في حديث الربيع أنه صلى الله عليه وسلم بدأ بمؤخر رأسه1 فقد يحمل ذلك على حالة أو وقت ولا يعارض ذلك الرواية الأخرى لما ذكرناه من التفسير.
ومن الناس من قال: يبدأ بالناصية ويذهب إلى ناحية الوجه ثم يذهب إلى جهة مؤخر الرأس ثم يعود إلى ما بدأ منه وهو الناصية.
وكأن هذا قد قصد المحافظة على قوله: "بدأ بمقدم الرأس" مع المحافظة على ظاهر قوله
ـــــــ
1 أبو داود "126" والترمذي "33" وهذا لفظ الترمذي.(1/34)
"أقبل وأدبر" فإنه إذا بدأ بالناصية صدق أنه بدأ بمقدم رأسه وصدق أنه أقبل أيضا فإنه ذهب إلى ناحية الوجه وهو القبل.
إلا أن قوله في الرواية المفسرة: "بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه" قد يعارض هذا فإنه جعله بادئا بالمقدم إلى غاية الذهاب إلى قفاه وهذه الصفة التي قالها هذا القائل تقتضي أنه بدأ بمقدم رأسه غير ذاهب إلى قفاه بل إلى ناحية وجهه: وهو مقدم الرأس.
ويمكن أن يقول هذا القائل - الذي اختار الصفة الأخيرة -: إن البداءة بمقدم الرأس ممتد إلى غاية الذهاب إلى المؤخر وابتداء الذهاب من حيث الرجوع من منابت الشعر من ناحية الوجه إلى القفا والحديث إنما جعل البداءة بمقدم الرأس ممتدا إلى غاية الذهاب إلى القفا لا إلى غاية الوصول إلى القفا وفرق بين الذهاب إلى القفا وبين الوصول إليه فإذا جعل هذا القائل الذهاب إلى القفا من حيث الرجوع من مبتدأ الشعر من ناحية الوجه إلى جهة القفا: صح أنه ابتدأ بمقدم الرأس ممتدا إلى غاية الذهاب إلى جهة القفا.
وقد تقدم ما يتعلق بغسل الرجلين والعدد فيهما أو عدم العدد.
والرواية الأخيرة: مصرحة بالوضوء من الصفر وهي رواية عبد العزيز بن أبي سلمة وهي مصرحة بالحقيقة في قوله: "تور من صفر" وفي الرواية الأولى مجاز أعني قوله: "من تور من ماء" ويمكن أن يحمل الحديث على: من إناء ماء وما أشبه ذلك.
10 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله"1.
عائشة رضي الله عنها تكنى أم عبد الله بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنه اسمه عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعيد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر القرشي التيمي يجتمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرة بن كعب بن لؤي.
توفيت سنة سبع وخمسين وقيل ثمان وخمسين تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة بسنتين وقيل بثلاث.
و التنعل: لبس النعل والترجل تسريح الشعر قال الهروي: شعر مرجل أي مسرح وقال كراع شعر رجل ورجل وقد رجله صاحبه: إذا سرحه ودهنه2.
ومعنى التيمن في التنعل: البداءة بالرجل اليمنى ومعناه في الترجل: البداءة بالشق الأيمن.
ـــــــ
1 البخاري "168" ومسلم "268" وهذا لفظ البخاري.
2 مختار الصحاح رجل.(1/35)
من الرأس في تسريحه ودهنه وفي الطهور البداءة باليد اليمنى والرجل اليمنى في الوضوء وبالشق الأيمن في الغسل والبداءة باليمنى عند الشافعي من المستحبات وإن كان يقول بوجوب الترتيب لأنهما كالعضو الواحد حيث جمعا في لفظ القرآن الكريم حيث قال عز وجل: {وَأَيْدِيَكُمْ}, {وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6].
وقولها وفي: "وفي شأنه كله" عام يخص فإن دخول الخلاء والخروج من المسجد يبدأ فيهما باليسار وكذلك ما يشابههما.
11 - عن نعيم المجمر عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل".
وفي لفظ لمسلم رأيت أبا هريرة يتوضأ فغسل وجهه ويديه حتى كاد يبلغ المنكبين ثم غسل رجليه حتى رفع إلى الساقين ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء فمن استطاع منكم أن يطيل غرته وتحجيله فليفعل" 1.
وفي لفظ لمسلم: سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم يقول: "تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء".
الكلام على هذا الحديث من وجوه.
أحدها: قوله المجمر بضم الميم وسكون الجيم وكسر الميم الثانية وصف به أبو نعيم بن عبد الله لأنه كان يجمر المسجد2 أي يبخره.
الثاني: قوله: "إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين" يحتمل غرا وجهين أحدهما: أن يكون مفعولا ليدعون كأنه بمعنى يسمون غرا والثاني - وهو الأقرب - أن يكون حالا كأنهم يدعون إلى موقف الحساب أو الميزان أو غير ذلك مما يدعى الناس إليه يوم القيامة وهم بهذه الصفة أي غرا محجلين فيعدي "يدعون" في المعنى بالحرف كما قال الله عز وجل: {يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ} [آل عمران: 23] ويجوز أن لا يتعدى "يدعون" بحرف الجر ويكون "غرا" حالا أيضا والغرة: في الوجه والتحجيل في اليدين والرجلين.
الثالث: المروي المعروف في قوله صلى الله عليه وسلم: "من آثار الوضوء" الضم في الوضوء ويجوز أن يقال بالفتح أي من آثار الماء المستعمل في الوضوء فإن الغرة والتحجيل: نشآ عن الفعل بالماء فيجوز أن ينسب إلى كل منهما.
ـــــــ
1 البخاري "136" ومسلم "246" "35" وهذا لفظ البخاري.
2 راجع القاموس جمر.(1/36)
الرابع: قوله: "فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل" اقتصر فيه على لفظ الغرة هنا دون التحجيل - وإن كان الحديث يدل على طلب التحجيل أيضا - وكأن ذلك من باب التغليب لأحد الشيئين على الآخر إذا كانا بسبيل واحد وقد استعمل الفقهاء ذلك أيضا وقالوا: يستحب تطويل الغرة وأرادوا: الغرة والتحجيل.
وتطويل الغرة في الوجه: بغسل جزء من الرأس وفي اليدين: بغسل بعض العضدين وفي الرجلين: بغسل بعض الساقين وليس في الحديث تقييد ولا تحديد لمقدار ما يغسل من العضدين والساقين وقد استعمل أبو هريرة الحديث على إطلاقه وظاهره في طلب إطالة الغرة فغسل إلى قريب من المنكبين ولم ينقل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا كثر استعماله في الصحابة والتابعين رضي الله عنهم فلذلك لم يقل به كثير من الفقهاء ورأيت بعض الناس قد ذكر: أن حد ذلك: نصف العضد ونصف الساق اهـ.(1/37)
باب الاستطابة
1 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان إذا دخل الخلاء قال: "اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث" 1.
الخبث - بضم الخاء والباء - جمع خبيث والخبائث: جميع خبيثة استعاذ من ذكران الشياطين وإناثهم.
أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم بن زيد بن حرام - فتح الحاء والراء المهملتين - أنصاري نجاري خدم النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين وعمر وولد له أولاد كثيرون يقال: ثمانون ثمانية وسبعون ذكرا وابنتان وكانت وفاته بالبصرة سنة ثلاث وتسعين وقيل: سنة خمس وتسعين وقيل: كانت سنه يوم مات: مائة وسبع سنين.
وقال أنس: أخبرتني ابنتي أمنة: أنه دفن لصلبي - إلى مقدم الحجاج البصرة - بضع وعشرون ومائة.
الكلام على هذا الحديث من وجوه:
أحدهما: الاستطابة: إزالة الأذى عن المخرجين بحجر وما يقوم مقامه مأخوذ من الطيب يقال: استطاب الرجل فهو مستطيب وأطاب فهو مطيب.
الثاني: الخلاء بالمد في الأصل: هو المكان الخالي كانوا يقصدونه لقضاء الحاجة ثم كثر تجوز به عن غير ذلك.
ـــــــ
1 البخاري "142" ومسلم "375" واللفظ للبخاري.(1/37)
الثالث: قوله: "إذا دخل" يحتمل أن يراد به: إذا أراد الدخول كما في قوله سبحانه: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} [النحل: 98] ويحتمل أن يراد به ابتداء الدخول وذكر الله مستحب في ابتداء قضاء الحاجة فإن كان المحل الذي تقضى فيه الحاجة غير معد لذلك - كالصحراء مثلا - جاز ذكر الله في ذلك المكان وإن كان معدا لذلك - كالكنف1 - ففي جواز الذكر فيه خلاف بين الفقهاء فمن كرهه فهو محتاج إلى أن يؤول قوله: "إذا دخل" بمعنى إذا أراد لأن لفظة دخل أقوى في الدلالة على الكنف المبنية منها على المكان البراح2 أو لأنه قد تبين في حديث آخر المراد حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إن هذه الحشوش محتضرة فإذا دخل أحدكم الخلاء فليقل" - الحديث3 وأما من أجاز ذكر الله تعالى في هذا المكان: فلا يحتاج إلى هذا التأويل ويحمل دخل على حقيقتها.
الرابع: الخبث بضم الخاء والباء جمع خبيث كما ذكر المصنف وذكر الخطابي في أغاليط المحدثين روايتهم له بإسكان الباء ولا ينبغي أن يعد هذا غلطا لأن فعلا - بضم الفاء والعين - يخفف عينه قياسا فلا يتعين أن يكون المراد بالخبث بسكون الباء ما لا يناسب المعنى بل يجوز أن يكون - وهو ساكن الباء - بمعناه وهو مضموم الباء نعم من حمله وهو ساكن الباء على ما لا يناسب المعنى فهو غلط في الحمل على هذا المعنى لا في اللفظ.
الخامس: الحديث الذي ذكرناه من قوله صلى الله عليه وسلم: "إن هذه الحشوش محتضرة" أي للجان والشياطين بيان لمناسبة هذا الدعاء المخصوص لهذا المكان المخصوص.
2 - عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولا تستدبروها ولكن شرقوا أو غربوا".
قال أبو أيوب: فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة فننحرف عنها ونستغفر الله عز وجل4.
الغائط: المطمئن من الأرض ينتابونه للحاجة فكنوا به عن نفس الحدث كراهية لذكره بخاص اسمه.
والمراحيض جمع المرحاض وهو المغتسل وهو أيضا كناية عن موضع التخلي.
ـــــــ
1 جمع كنيف وهو المرحاض القاموس كنف.
2 البراح: المتسع من الأرض لا زرع بها ولا شجر القاموس برح.
3 أحمد "19286" وأبو داود "6" وابن ماجة "296" قال محققو مسند أحمد رجاله ثقات رجال الشيخين.
4 البخاري "943" مسلم "264" "59" واللفظ له.(1/38)
الكلام عليه من وجوه:
أحدهما: أبو أيوب الأنصاري اسمه خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبة نجاري شهد بدرا ومات في زمن يزيد بن معاوية وقال خليفة: مات في أرض الروم سنة خمسين وذلك في زمن معاوية وقيل في سنة اثنتين وخمسين بالقسطنطينية.
الثاني: قوله: "إذا أتيتم الخلاء" استعمل الخلاء في قضاء الحاجة كيف كان لأن هذا الحكم عام في جميع صور قضاء الحاجة وهو إشارة إلى ما قدمناه من استعمال هذه الفظة مجازا.
الثالث: الحديث دليل على المنع من استقبال القبلة واستدبارها والفقهاء اختلفوا في هذا الحكم على مذاهب فمنهم من منع ذلك مطلقا على مقتضى ظاهر الحديث ومنهم من أجازه مطلقا ورأى أن هذا الحديث منسوخ وزعم أن ناسخه حديث مجاهد عن جابر قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة ببول فرأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها"1 وممن نقل عنه الترخيص في ذلك مطلقا: عروة بن الزبير وربيعة بن عبد الرحمن ومنهم من فرق بين الصحاري والبنيان فمنع في الصحاري وأجاز في البنيان بناء على أن ابن عمر روى الحديث الذي يأتي ذكره بعد هذا الحديث في البنيان فجمع بين الأحاديث فحمل حديث أبي أيوب - وما في معناه - على الصحاري وحمل حديث ابن عمر على البنيان.
وقد روى الحسن بن ذكوان عن مروان الأصفر قال: رأيت ابن عمر أناخ راحلته مستقبل القبلة ثم جلس يبول إليها فقلت أبا عبد الرحمن أليس قد نهى عن هذا؟ فقال: بلى إنما نهى عن ذلك في الفضاء فإذا كان بينك وبين القبلة شئ يسترك فلا بأس أخرجه أبو داود2.
و اعلم أن حمل حديث أبي أيوب على الصحاري مخالف لما حمله عليه أبو أيوب من العموم فإنه قال: فأتينا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت قبل القبلة فننحرف عنها فرأى النهي عاما.
الرابع: اختلفوا في علة هذا النهي من حيث المعنى والظاهر أنه لإظهار الاحترام والتعظيم للقبلة لأنه معنى مناسب ورد الحكم على وفقه فيكون علة له وأقوى من هذا في الدلالة على هذا التعليل: ما روي من حديث سلمة بن وهرام عن سراقة بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتى أحدكم البراز فليكرم قبلة الله عز وجل ولايستقبل القبلة" 3 وهذا ظاهر.
ـــــــ
1 الترمذي "9" وأبو داود "13" وابن ماجه "325" وقال أبو عيسى حديث جابر في هذا الباب حديث حسن غريب.
2 أبو داود "11".
3 الدارقطني مرسلا عن طاوس "12".(1/39)
قوي في التعليل بما ذكرناه إلا أن هذا الحديث مرسل روى الربيع عن الشافعي قال: حديث طاوس هذا مرسل وأهل الحديث لا يثبتونه.
ومنهم من علل بأمر آخر فذكر عيسى بن أبي عيسى قال: قلت للشعبي - هو بفتح الشين المعجمة وسكون العين المهملة - عجبت لقول أبي هريرة ونافع عن ابن عمر قال: وما قالا؟ قلت: قال أبو هريرة لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها وقال نافع عن ابن عمر رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ذهب مذهبا مواجه القبلة قال: أما قول أبي هريرة: ففي الصحراء إن لله خلقا من عباده يصلون في الصحراء فلا تستقبلوهم ولا تستدبروهم وأما بيوتكم هذه التي تتخذونها للنتن فإنه لا قبلة لها وذكر الدارقطني: أن عيسى هذا ضعيف.
وينبني على هذا الخلاف في التعليل اختلافهم فيما إذا كان في الصحراء فاستتر بشيء هل يجوز الاستقبال والاستدبار أم لا؟ فالتعليل باحترام القبلة يقتضي المنع والتعليل برؤية المصلين يقتضي الجواز.
الخامس: قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتيتم الخلاء فلا تستقبلوا القبلة" الحديث يقتضي أمرين: أحدهما: ممنوع منه والثاني: علة لذلك المنع.
وقد تكلمنا عن العلة والكلام الآن على محل العلة فالحديث دل على المنع من استقبالها لغائط أو بول وهذه الحالة تتضمن أمرين: أحدهما: خروج الخارج المستقذر والثاني: كشف العورة فمن الناس من قال: المنع للخارج لمناسبته لتعظيم القبلة عنه ومنهم من قال: المنع لكشف العورة.
وينبني على هذا الخلاف: خلافهم في جواز الوطء مستقبل القبلة مع كشف العورة فمن علل بالخارج أباحه إذ لا خارج ومن علل بالعورة منعه.
السادس: الغائط في الأصل: هو المكان المطمئن من الأرض كانوا يقصدونه لقضاء الحاجة ثم استعمل في الخارج وغلب هذا الاستعمال على الحقيقة الوضعية فصار حقيقة عرفية.
والحديث يقتضي أن اسم الغائط لا ينطلق على البول لتفرقته بينهما وقد تكلموا في أن قوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [المائدة: 6] هل يتناول الريح مثلا أو البول أو لا؟ بناء على أنه يخصص لفظ الغائط لما كانت العادة أ ن يقصد لأجله وهو الخارج من الدبر ولم يكونوا يقصدون الغائط للريح مثلا أو يقال: إنه مستعمل فيما كان يقع عند قصدهم الغائط من الخارج من القبل أو الدبر كيف كان.
والسابع: قوله: "ولكن شرقوا أو غربوا" محمول على محل يكون التشريق والتغريب فيه.(1/40)
مخالفا لاستقبال القبلة واستدبارها كالمدينة التي هي مسكن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في معناها من البلاد ولا يدخل تحته ما كانت القبلة فيه إلى المشرق أو المغرب.
الثامن: قول أبي أيوب فقدمنا الشام الخ فيه ما قدمناه ثمة من حملة له على العموم بالنسبة إلى البنيان والصحاري وفيه دليل على أن للعموم صيغة عند العرب وأهل الشرع على خلاف ما ذهب إليه بعض الأصوليين.
وهذا - أعني استعمال صيغة العموم - فرد من الأفراد له نظائر لاتحصى وإنما نبهنا عليه على سبيل ضرب المثل فمن أراد أن يقف على ذلك فليتتبع نظائرها يجدها.
التاسع: أولع بعض أهل العصر - وما يقرب منه - بأن قالوا: إن صيغة العموم إذا وردت على الذوات - مثلا أو على الأفعال كانت عامة في ذلك مطلقة في الزمان والمكان والأحوال والمتعلقات ثم يقولون: المطلق يكفي في العمل به صورة واحدة فلا يكون حجة فيما عداه وأكثروا من هذا السؤال فيما لا يحصى من ألفاظ الكتاب والسنة وصار ذلك ديدنا لهم في الجدال.
وهذا عندنا باطل بل الواجب: أن ما دل على العموم في الذوات - مثلا - يكون دالا على ثبوت الحكم في كل ذات تناولها اللفظ ولا تخرج عنها ذات إلا بدليل يخصه فمن أخرج شيئا من تلك الذوات فقد خالف مقتضى العموم.
نعم المطلق يكفي العمل به مرة كما قالوه ونحن لا نقول بالعموم في هذه المواضع من حيث الإطلاق وإنما قلنا به من حيث المحافظة على ما تقتضيه صيغة العموم في كل ذات فإن كان المطلق مما لا يقتضي العمل به مرة واحدة مخالفة لمقتضى صيغة العموم اكتفينا في العمل به مرة واحدة وإن كان العمل به مما يخالف مقتضى صيغة العموم قلنا بالعموم محافظة على مقتضى صيغته لا من حيث إن المطلق يعم مثال ذلك: إذا قال: من دخل داري فأعطه درهما فمقتضى الصيغة: العموم في كل ذات صدق عليها أنها داخلة.
فإن قال قائل: هو مطلق في الأزمان فأعمل به في الذوات الداخلة الدار في أول النهار مثلا ولا أعمل به في غير ذلك الوقت لأنه مطلق في الزمان وقد عملت به مرة فلا يلزم أن أعمل به مرة أخرى لعدم عموم المطلق.
قلنا له: لما دلت الصيغة على العموم في كل ذات دخلت الدار ومن جملتها: الذوات الداخلة في آخر النهار فإذا أخرجت تلك الذوات فقد أخرجت ما دلت الصيغة على دخوله وهي كل ذات.
و هذا الحديث أحد ما يستدل به على ما قلنا فإن أبا أيوب من أهل اللسان والشرع وقد استعمل قوله: "لا تستقبلوا ولا تستدبروا" عاما في الأماكن وهو مطلق فيها.(1/41)
وعلى ما قال هؤلاء المتأخرون: لا يلزم منه العموم وعلى ما قلناه: يعم لأنه إذا أخرج عنه بعض الأماكن خالف صيغة العموم في النهي عن الاستقبال والاستدبار.
العاشر: قوله: "ونستغفر الله" قيل: يراد به ونستغفر الله لباني الكنف على هذه الصورة الممنوعة عنده وإنما حملهم على هذا التأويل: أنه إذا انحرف عنها لم يفعل ممنوعا فلا يحتاج إلى الاستغفار والأقرب: أنه استغفار لنفسه ولعل ذلك لأنه استقبل واستدبر بسبب موافقته لمقتضى البناء غلطا أو سهوا فيتذكر فينحرف ويستغفر الله.
فإن قلت: فالغالط والساهي لم يفعل إثما فلا حاجة به إلى الاستغفار.
قلت: أهل الورع والمناصب العلية في التقوى قد يفعلون مثل هذا بناء على نسبتهم التقصير إلى أنفسهم في: "عدم" التحفظ ابتداء والله أعلم.
3 - عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: "رقيت يوما على بيت حفصة فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته مستقبل الشام مستدبر الكعبة"1.
وفي رواية: "مستقبلا بيت المقدس"2.
عبد الله بن عمر بن الخطاب تقدم نسبه في ذكر أبيه رضي الله عنهما كنيته أبو عبد الرحمن أحد أكابر الصحابة علما ودينا توفي سنة ثلاث وسبعين وقيل سنة أربع وسبعين وقال مالك: بلغ ابن عمر سبعا وثمانين سنة.
هذا الحديث يعارض حديث أبي أيوب المتقدم من وجه وكذلك ما في معنى حديث أبي أيوب.
واختلف الناس في كيفية العمل به أو بالأول؟ على أقوال فمنهم من رأى أنه مانع لحديث المنع واعتقد الإباحة مطلقا وكأنه رأى أن تخصيص حكمه بالبنيان مطرح وأ خذ دلالته على الجواز مجردة عن اعتبار خصوص كونه في البنيان لاعتقاده أنه وصف ملغى لا اعتبار به ومنهم من رأى العمل بالحديث الأول وما في معناه واعتقد هذا خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم ومنهم من جمع بين الحديثين فرأى حديث ابن عمر مخصوصا بالبنيان فيخص به حديث أبي أيوب العام في البنيان وغيره جمعا بين الدليلين ومنهم من توقف في المسألة.
ونحن ننبه ههنا على أمرين:
أحدهما: أن من قال بتخصيص هذا الفعل بالنبي صلى الله عليه وسلم له أن يقول: إن رؤية هذا الفعل كان.
ـــــــ
1 البخاري "148" ومسلم "266" "62" واللفظ له.
2 رواية مسلم "266" "61".(1/42)
أمرا اتفاقيا لم يقصده ابن عمر ولا الرسول صلى الله عليه وسلم على هذه الحالة يتعرض لرؤية أحد فلو كان يترتب على هذا الفعل حكم عام لبينه لهم بإظهاره بالقول أو الدلالة على وجود الفعل فإن الأحكام العامة للأمة لا بد من بيانها فلما لم يقع ذلك - وكانت هذه الرؤية من ابن عمر على طريق الاتفاق وعدم قصد الرسول صلى الله عليه وسلم - دل ذلك على الخصوص به صلى الله عليه وسلم وعدم العموم في حق الأمة وفيه بعد ذلك بحث.
التنبيه الثاني: أن الحديث: إذا كان عام الدلالة وعارضه غيره في بعض الصور وأردنا التخصيص - فالواجب أن نقتصر في مخالفة مقتضى العموم على مقدار الضرورة ويبقى الحديث العام على مقتضى عمومه فيما يبقى من الصور إذ لا معارض له فيما عدا تلك الصور المخصوصة التي ورد فيها الدليل الخاص وحديث ابن عمر لم يدل على جواز الاستقبال والاستدبار معا في البنيان وإنما ورد في الاستدبار فقط فالمعارضة بينه وبين حديث أبي أيوب إنما هي في الاستدبار فيبقى الاستقبال لا معارض له فيه فينبغي أن يعمل بمقتضى حديث أبي أيوب في المنع من الاستقبال مطلقا لكنهم أجازوا الاستقبال والاستدبار معا في البنيان وعليه هذا السؤال.
هذا لو كان في حديث أبي أيوب لفظ واحد يعم الاستقبال والاستدبار فيخرج منه الاستدبار ويبقى الاستقبال على ما قررناه آنفا.
ولكن ليس الأمر كذلك بل هما جملتان دلت إحداهما على الاستقبال والأخرى على الاستدبار تناول حديث ابن عمر إحداهما وهى عامة في محلها وحديثه خاص ببعض صور عمومها والجملة الأخرى: لم يتناولها حديث ابن عمر فهي باقية على حالها.
و لعل قائلا يقول: أقيس الاستقبال في البنيان - وإن كان مسكوتا عنه - علي الاستدبار الذي ورد فيه الحديث.
فيقال له: أولا في هذا تقديم القياس علي مقتضى اللفظ العام وفيه ما فيه على ما عرف في أصول الفقه.
و ثانيا: إن شرط القياس مساواة الفرع للأصل أو زيادته عليه في المعنى المعتبر في الحكم ولا تساوي ههنا فإن الاستقبال يزيد في القبح على الاستدبار على ما يشهد به العرف ولهذا اعتبر بعض العلماء هذا المعنى فمنع الاستقبال وأجاز الاستدبار وإذا كان الاستقبال أزيد في القبح من الاستدبار: فلا يلزم من إلغاء المفسدة الناقصة في القبح في حكم الجوار إلغاء المفسدة الزائدة في القبح في حكم الجواز.(1/43)
4 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: "كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يدخل الخلاء فأحمل أنا وغلام نحوي إداوة من ماء وعنزة فيستنجي بالماء"1.
العنزة: الحربة الصغيرة وكأن حملها في ذلك الوقت لاحتمال أن يتوضأ صلي الله عليه وسلم ليصلي فتوضع بين يديه سترة كما ورد في حديث آخر: "أنها كانت توضع بين يديه فيصلي إليها"2 والكلام على الخلاء قد تقدم.
ويحتمل أن يراد بها ههنا مجرد قضاء الحاجة على ما ذكرناه أنه يستعمل في ذلك وهذا الذي يناسبه المعنى الذي ذكرناه في حمل العنزة للصلاة فإن السترة إنما تكون في البراح من الأرض حيث يخشى المرور.
ويحتمل أن يراد به: المكان المعد لقضاء الحاجة في البنيان وهذا لا يناسبه المعنى الذي ذكرناه في حمل العنزة ويترجح الأول بأن خدمة الرجال له صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى مناسبة للسفر فإن الحضر يناسبه خدمة أهل بيته من نسائه ونحوهن.
ويؤخذ من هذا الحديث: استخدام الأحرار من الناس إذا كانوا أتباعا وأرصدوا أنفسهم لذلك.
وفيه أيضا: جواز الاستعانة في مثل هذا ومقصوده الأكبر: الاستنجاء بالماء ولا يختلف فيه غير أنه قد روي عن سعيد بن المسيب لفظ يقتضي تضعيفه للرجال فإنه سئل عن الاستنجاء بالماء؟ فقال: إنما ذلك وضوء النساء وعن غيره من السلف ما يشعر بذلك أيضا.
والسنة دلت على الاستنجاء بالماء كما في هذا الحديث وغيره فهي أولى بالاتباع ولعل سعيدا - رحمه الله - فهم من أحد غلوا في هذا الباب بحيث يمنع الاستنجاء بالحجارة فقصد في مقابلته أن يذكر هذا اللفظ لإزالة ذلك الغلو وبالغ بإيراده إياه على هذه الصيغة.
وقد ذهب بعض الفقهاء من أصحاب مالك - وهو ابن حبيب - إلى أن الاستنجاء بالحجارة إنما هو عند عدم الماء وإذا ذهب إليه ذاهب فلا يبعد أن يقع لغيرهم ممن في زمن سعيد وإنما استحب الاستنجاء بالماء لإزالة العين والأثر معا فهو أبلغ في النظافة.
ـــــــ
1 البخاري "152" ومسلم "271" "70" واللفظ له وفي البخاري العنزة عصا عليه زج.
2 البخاري "494" ومسلم "501" "245".(1/44)
5 - عن أبي قتادة - الحارث بن ربعي - الأنصاري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول ولا يتمسح من الخلاء بيمينه ولا يتنفس في الإناء" 1.
أبو قتادة: الحارث بن ربعي بن بلدمة بفتح الباء وسكون اللام وفتح الدال ويقال بلدمة بالضم فيهما ويقال: بلذمة بالذال المعجمة المضمومة فارس النبي صلى الله غليه وسلم شهد أحدا والخندق وما بعد ذلك مات بالمدينة سنة أربع وخمسين وقيل: بالكوفة سنة ثمان وثلاثين والأصح الأول اتفقوا على الإخراج له.
ثم الكلام عليه من وجوه:
أحدهما: الحديث يقتضي النهي عن مس الذكر باليمين في حالة البول ووردت رواية أخرى في النهي عن مسه باليمين مطلقا من غير تقييد بحالة البول فمن الناس من أخذ بهذا العام المطلق وقد يسبق إلى الفهم: أن المطلق يحمل على المقيد فيختص النهي بهذه الحالة وفيه بحث لأن هذا الذي يقال يتجه في باب الأمر والإثبات فإنا لو جعلنا الحكم للمطلق أو العام في صورة الإطلاق أو العموم مثلا: كان فيه إخلال باللفظ الدال على المقيد وقد تناوله لفظ الأمر وذلك غير جائز وأما في باب النهي: فإنا إذا جعلنا الحكم للمقيد أخللنا بمقتضى اللفظ المطلق مع تناول النهي له وذلك غير سائغ.
هذا كله بعد مراعاة أمر من صناعة الحديث وهو أن ينظر في الروايتين: هل هما حديث واحد أو حديثان؟ ولك أيضا بعد النظر في دلائل المفهوم وما يعمل به منه وما لا يعمل به وبعد أن تنظر في تقديم المفهوم على ظاهر العموم - أعني رواية الإطلاق والتقييد - فإن كانا حديثا واحدا مخرجه واحد اختلف عليه الرواة فينبغي حمل المطلق على المقيد لأنها تكون زيادة من عدل في حديث واحد فتقبل وهذا الحديث المذكور راجع إلى رواية يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن قتادة عن أبيه.
الثاني: ظاهر النهي التحريم وعليه حمله الظاهري وجمهور الفقهاء على الكراهة.
الثالث: قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا يتمسح من الخلاء بيمينه" يتناول القبل والدبر وقد اختلف أصحاب الشافعي في كيفية التمسح في القبل إذا كان الحجر صغيرا ولا بد من إمساكه بإحدى اليدين فمنهم من قال: يمسك الحجر باليمنى والذكر باليسرى فتكون الحركة لليسرى واليمنى قارة ومنهم من قال: يؤخذ الذكر باليمنى والحجر باليسرى وتحرك اليسرى والأول أقرب إلى المحافظة على الحديث.
ـــــــ
1 البخاري "153" ومسلم "267" واللفظ له.(1/45)
الرابع: قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا يتنفس في الإناء" يراد به إبانة الإناء عند إرادة التنفس لما في التنفس من احتمال خروج شئ مستقذر للغير وفيه إفساد لما في الإناء بالنسبة إلى الغير لعيافته له وقد ورد في حديث آخر: "إبانة الإناء للتنفس ثلاثا" وهو ههنا مطلق.
6 - عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال: "إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما: فكان لا يستتر من البول وأما الآخر: فكان يمشي بالنميمة", فأخذ جريدة رطبة فشقها نصفين فغرز في كل قبر واحدة فقالوا: يا رسول الله لم فعلت هذا؟ قال: "لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا" 1.
عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف أبو العباس القرشي الهاشمي المكي أحد أكابر الصحابة في العلم سمي بالحبر والبحر لسعة علمه مات سنة ثمان وستين ويقال كان سنه حينئذ اثنتين وسبعين سنة وبعضهم يروي سنه إحدى - أو اثنتين - وسبعين سنة أعني في مبلغ سنه وكان موته بالطائف.
ثم الكلام عليه من وجوه:
أحدهما: تصريحه بإثبات عذاب القبر على ما هو مذهب أهل السنة واشتهرت به الأخبار وفي إضافة عذاب القبر إلى البول خصوصية تخصه دون سائر المعاصي مع أن العذاب بسبب غيره أيضا إن أراد الله عز وجل ذلك في حق بعض عباده وعلى هذا جاء الحديث: "تنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه" 2 وكذا جاء أيضا: أن بعض من ذكر عنه أنه ضمه القبر أو ضغطه فسئل أهله فذكروا أنه كان منه تقصير في الطهور.
الثاني: قوله: "و ما يعذبان في كبير" يحتمل من حيث اللفظ وجهين: والذي يحب أن يحمل عليه منهما: أنهما لا يعذبان في كبير إزالته أو دفعه أو الاحتراز عنه أي أنه سهل يسير على من يريد التوقي منه ولا يريد بذلك أنه صغير من الذنوب غير كبير منها لأنه قد ورد في الصحيح من الحديث: "و إنه لكبير" 3 فيحمل قوله: "وإنه لكبير" على كبر الذنب4 وقوله: "و ما يعذبان في كبير" على سهولة الدفع والاحتراز.
الثالث: قوله: "أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله" هذه اللفظة - أعني: "يستتر" - قد اختلفت فيها الرواية على وجوه وهذه اللفظة تحتمل وجهين:
ـــــــ
1 البخاري "216" و"6055" ومسلم "2028".
2 الدارقطني "1/127" من حديث أنس.
3 من رواية البخاري من حديث ابن عباس "6055".
4 رواية البخاري "216.(1/46)
أحدهما: الحمل على حقيقتها من الاستتار عن الأعين ويكون العذاب على كشف العورة.
الثاني - وهو الأقرب -: أن يحمل على المجاز ويكون المراد بالاستتار التنزه عن البول والتوقي منه إما بعدم ملابسته أو بالاحتراز عن مفسدة تتعلق به كانتقاض الطهارة وعبر عن التوقي بالاستتار مجازا.
ووجه العلاقة بينهما أن المستتر عن الشيء في بعد عنه واحتجاب وذلك شبيه بالبعد عن ملابسة البول وإنما رجحنا المجاز - وإن كان الأصل الحقيقة - لوجهين:
أحدهما: أنه لو كان المراد أن العذاب على مجرد كشف العورة كان ذلك سببا مستقلا أجنبيا عن البول فإنه حيث حصل الكشف للعورة حصل العذاب المرتب عليه وإن لم يكن ثمة بول فيبقى تأثير البول بخصوصه مطرح الاعتبار والحديث يدل على أن للبول بالنسبة إلى عذاب القبر خصوصية فالحمل على ما يقتضيه الحديث المصرح بهذه الخصوصية أولى.
و أيضا فإن لفظة "من" لما أ ضيفت إلى البول - وهي غالبا لابتداء الغاية حقيقة أو ما يرجع إلى معنى ابتداء الغاية مجازا - تقتضي نسبة الاستتار الذي عدمه سبب العذاب إلى البول بمعنى أن ابتداء سبب عذابه من البول وإذا حملناه على كشف العورة زال هذا المعنى.
الوجه الثاني: أن بعض الروايات في هذه اللفظة يشعر بأن المراد التنزه من البول وهي رواية وكيع: "لايتوقى" وفي رواية بعضهم: "لا يستنزه" فتحمل هذه الفظة على تلك ليتفق معنى الروايتين.
الرابع: في الحديث دليل على عظم أمر النميمة1 وأنها سبب العذاب وهو محمول على النميمة المحرمة فإن النميمة إذا اقتضى تركها مفسدة تتعلق بالغير أو فعلها مصلحة يستضر الغير بتركها لم تكن ممنوعة كما نقول في الغيبة إذا كانت للنصيحة أو لدفع المفسدة لم تمنع.
ولو أن شخصا اطلع من آخر على قول يقتضي إيقاع ضرر بإنسان فإذا نقل إليه ذلك القول احترز عن ذلك الضرر لوجب ذكره له.
الخامس: قيل في أمر الجريدة التي شقها اثنتين فوضعها على القبرين وقوله صلى الله عليه وسلم: "لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا" إلى أن النبات يسبح دائما رطبا فإذا حصل التسبيح بحضرة الميت حصلت له بركته فلهذا اختص بحالة الرطوبة.
السادس: أخذ بعض العلماء من هذا: أن الميت ينتفع بقراءة القرآن على قبره من حيث إن.
ـــــــ
1 أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن مسعود في البر والصلة "2606" "ألا أنبئكم ما العضه؟ هي النميمة القالة بين الناس" وأخرجه البخاري "6056" ومسلم "105" من حديث حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يدخل الجنة نمام".(1/47)
المعنى الذي ذكرناه في التخفيف عن صاحبي القبرين هو تسبيح النبات ما دام رطبا فقراءة القرآن من الإنسان أولى بذلك والله أعلم بالصواب.(1/48)
2 - باب السواك.
1 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" 1.
الكلام على هذا الحديث من وجوه:
أحدها: استدل بعض الأصوليين به على أن الأمر للوجوب ووجه الاستدلال: أن كلمة "لولا" تدل على انتفاء الشيء لوجود غيره فيدل على انتفاء الأمر لوجود المشقة والمنتفي لأجل المشقة إنما هو الوجوب لا الاستحباب فإن استحباب السواك ثابت عند كل صلاة فيقتضي ذلك أن الأمر للوجوب.
الثاني: السواك مستحب في حالات متعددة منها: ما دل عليه هذا الحديث وهو القيام إلى الصلاة والسر فيه: أنا مأمورون في كل حالة من أحوال التقرب إلى الله عز وجل أن نكون في حالة كمال ونظافة إظهارا لشرف العبادة وقد قيل إن ذلك لأمر يتعلق بالملك وهو أنه يضع فاه على في القارئ ويتأذى بالرائحة الكريهة فسن السواك لأجل ذلك.
الثالث: قد يتعلق بالحديث مذهب من يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم له أن يحكم بالاجتهاد ولا يتوقف حكمه على النص فإنه جعل المشقة سببا لعدم أمره صلى الله عليه وسلم ولو كان الحكم موقوفا على النص لكان سبب انتفاء أمره صلى الله عليه وسلم عدم ورود النص به ولا وجود المشقة وفيه احتمال للبحث والتأويل.
الرابع: الحديث بعمومه يدل على استحباب السواك لكل صلاة فيدخل فيه استحباب ذلك في الصلاتين الواقعتين بعد الزوال للصائم ويستدل به من يرى ذلك ومن يخالف في ذلك يحتاج إلى دليل خاص بهذا الوقت يخص به ذلك العموم وهو حديث الخلوف وفيه بحث2.
2 - عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك"3.
قال المؤلف رحمه الله يشوص معناه: يغسل يقال: شاصه يشوصه وماصه يموصه إذا غسله.
ـــــــ
1 البخاري "887" ومسلم "252" واللفظ له.
2 أخرج البخاري "1894" ومسلم "1151" "163" عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "....لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك....."
3 البخاري "245" ومسلم "255".(1/48)
حذيفة بن اليمان اسمه حسيل بن جابر وقيل: حذيفة بن الحسيل بن اليمان أبو عبد الله العبسي معدود في أهل الكوفة أحد أكابر الصحابة ومشاهيرهم قال البخاري: مات بعد عثمان بن عفان بأربعين يوما قال أبونصر: وذلك أول سنة ست وثلاثين وقال الواقدي: حذيفة بن اليمان بن حسيل بن جابر العبسي حليف بني عبد الأشهل وابن أختهم.
فيه دليل على استحباب السواك في هذه الحالة الأخرى وهي القيام من النوم وعلته: أن النوم مقتض لتغير الفم والسواك هو آلة التنظيف للفم فيسن عند مقتضي التغير.
وقوله: "يشوص" اختلفوا في تفسيره فقيل: يدلك وقيل: يغسل وقيل: ينقي والأول: أقرب.
وقوله: "إذا قام من الليل" ظاهره: يقتضي تعليق الحكم بمجرد القيام ويحتمل أن يراد: إذا قام من الليل للصلاة فيعود إلى معنى الحديث الأول.
3 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما على النبي صلي الله عليه وسلم وأنا مسندته إلي صدري ومع عبد الرحمن سواك رطب يستن به فأبده رسول الله صلي الله عليه وسلم بصره فأخذت السواك فقضمته فطيبته ثم دفعته إلى النبي صلي الله عليه وسلم فاستن به فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استن استنانا أحسن منه فما عدا أن فرغ رسول الله صلي الله عليه وسلم: رفع يده ـ أو إصبعه ـ ثم قال: "في الرفيق الأعلى" ـ ثلاثا ـ ثم قضى وكانت تقول: مات بين حاقنتي وذاقنتي1.
وفي لفظ: "فرأيته ينظر إليه وعرفت: أنه يحب السواك فقلت: آخذه لك؟ فأشار برأسه: أن نعم" هذا لفظ البخاري ولمسلم نحوه2.
4 - عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يستاك بسواك رطب, قال: وطرف السواك على لسانه وهو يقول: "أع أع" والسواك في فيه كأنه يتهوع"3.
أبو موسى: عبد الله بن قيس بن سليم بن حضار - ويقال: حضار - الأشعري معدود في أهل البصرة أحد أكابر الصحابة ومشاهيرهم وذكر ابن أبي شيبة: أنه مات سنة أربع وأربعين وهو ابن ثلاث وستين سنة وقيل: مات سنة اثنتين وأربعين وقال الواقدي: سنة اثنتين وخمسين.
ـــــــ
1 البخاري "4438".
2 البخاري "4449" ومسلم "2444" واللفظ للبخاري.
3 البخاري "244" ومسلم "254" واللفظ للبخاري.(1/49)
قوله في حديث عائشة رضي الله عنها: "فأبده رسول الله صلى الله عليه وسلم" يقال: أبددت فلانا البصر: إذا طولته إليه وكأن أصله من معنى التبديد الذي هو التفريق ويروي: أن عمر بن عبد العزيز لما حضرته الوفاة قال: أجلسوني, فأجلسوه فقال: أنا الذي أمرتني فقصرت ونهيتني فعصيت ولكن لا إله إلا أنت ثم رفع رأسه فأبد النظر فقال: لأرى حضرة ما هم بإنس ولا جن ثم قبض.
وقولها: "بين حاقنتي وذاقنتي" قيل الذاقنة نقرة النحر وقيل: طرف الحلقوم وقيل: أعلى البطن والحواقن أسافله وكأن المراد: ما يحقن الطعام أي يجمعه ومنه المحقنة - بكسر الميم - التي يحتقن بها ومن كلام العرب: لأجمعن بين ذواقنك وحواقنك.
وفي الحديث الاستياك بالرطب وقد قال بعض الفقهاء: إن الاخضر لغير الصائم أحسن وقال بعضهم: يستحب أن يكون بيابس قد ندي بالماء.
وفيه إصلاح السواك وتهيئته لقول عائشة فقضمته والقضم بالاسنان ومن طلب الاصلاح قول من قال: يستحب أن يكون بيابس قد ندي بالماء لأن اليابس أبلغ في الازالة وتنديته بالماء: لئلا يجرح اللثة لشدة يبسه.
وفي الحديث: الاستياك بسواك الغير, وفيه: العمل بما يفهم من الإشارة والحركات.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "في الرفيق الأعلى" إشارة منه صلى الله عليه وسلم إلى قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء: 69] وقد ذكر بعضهم: أن قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] إشارة إلى ما في هذه الآية وهي قوله: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء: 69] فكأن هذه تفسير لتلك وبلغني أنه صنف في ذلك كتاب يفسر فيه القرآن بالقرآن.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "في الرفيق الأعلى" يجوز أن يكون الأعلى من الصفات اللازمة التي ليس لها مفهوم يخالف المنطوق كما في نحو قوله تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} [المؤمنون: 117] وليس ثمة داع إلها آخر له به برهان وكذلك قوله: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ} [آل عمران: 21] ولا يكون قتل النبيين إلا بغير حق فكون الرفيق لم يطلق إلا على الأعلى الذي اختص به الرفيق ويقوي هذا: ما ورد في بعض الروايات: "وألحقني بالرفيق" ولم يصفه بالأعلى وذلك دليل على أنه المراد بلفظة: "الرفيق الأعلى".
ويحتمل أن يراد بالرفيق: ما يعم الأعلى وغيره ثم ذلك على وجهين:
أحدهما: أن يختص الرفيقان معا بالمقربين المرضيين ولا شك أن مراتبهم متفاوتة فيكون صلى الله عليه وسلم طلب أن يكون في أعلى مراتب الرفيق وأن كان الكل من السعداء المرضيين.
والثاني: أنه يطلق الرفيق بالمعنى الوضعي الذي يعم كل رفيق ثم يخص منه الأعلى.(1/50)
بالطلب وهو مطلب المرضيين ويكون "الأعلى" بمعنى العالي ويخرج عنه غيرهم وإن كان اسم "الرفيق" منطلقا عليهم.
وأما حديث أبي موسى: ففيه أمران أحدهما: الاستياك على اللسان واللفظ الذي أورده صاحب الكتاب - وإن كان ليس بصريح في الاستياك على اللسان - فقد ورد مصرحا به في بعض الروايات.
والعلة التي تقتضي الاستياك على الأسنان موجودة في اللسان بل هي أبلغ وأقوى لما يرتقي إليه من أبخرة المعدة.
وقد ذكر الفقهاء: أنه يستحب الاستياك عرضا وذلك في الأسنان وأما في اللسان: فقد ورد منصوصا عليه في بعض الروايات: "الاستياك فيه طولا"1.
الثاني: ترجم البخاري على هذا الحديث باستياك الإمام بحضرة رعيته فقال باب الاستياك الإمام بحضرة رعيته.
قال الشيخ الإمام الشارح تقي الدين رحمه الله: والتراجم التي يترجم بها أصحاب التصانيف على الأحاديث إشارة إلى المعاني المستنبطة منها: على ثلاث مراتب منها: ما هو ظاهر في الدلالة على المراد بعيد مستكره لا يتمشى إلا بتعسف ومنها: ما هو ظاهر الدلالة على المراد إلا أن فائدته قليلة لا تكاد تستحسن مثل ما ترجم باب السواك عند رمي الجمار.
وهذا القسم - أعني ما لا تظهر منه الفائدة - يحسن إذا وجد معنى في ذلك المراد يقتضي تخصيصه بالذكر فتارة يكون سببه الرد على مخالف في المسألة لم تشهر مقالته مثل ما ترجم على أنه يقال ما صلينا فإنه نقل عن بعضهم أنه كره ذلك ورد عليه بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن صليتها أو ما صليتها" وتارة يكون سببه الرد على فعل شائع بين الناس لا أصل له فيذكر الحديث للرد على من فعل ذلك الفعل كما اشتهر بين الناس في هذا المكان: التحرز عن قولهم ما صلينا إن لم يصح أن أحدا كرهه وتارة يكون لمعنى يخص الواقعة لا يظهر لكثير من الناس في بادئ الرأي مثل ما ترجم على هذا الحديث استياك الإمام بحضرة رعيته فإن الاستياك من أفعال البذلة.
ـــــــ
1 أخرجه أحمد من حديث أبي موسى قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يستاك وهو واضع طرف السواك على لسانه يستن إلى فوق فوصف حماد كأنه يرفع سواكه قال حماد ووصفه لنا غيلان قال: كن يستن طولا "4/417" وأخرجه البخاري "244" ومسلم "254" "45" ولفظ البخاري أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فوجدته يستن بسواك بيده يقول: أع أع والسواك في فيه كأنه يتهوع.(1/51)
والمهنة ويلازمه أيضا من إخراج البصاق وغيره لبعض الناس يتوهم أن ذلك يقتضي إخفاؤه وتركه بحضرة الرعية.
وقد اعتبر الفقهاء في مواضع كثيرة هذا المعنى وهو الذي يسمونه بحفظ المروءة فأورد هذا الحديث لبيان أن الاستياك ليس من قبيل ما يطلب إخفاؤه ويتركه الإمام بحضرة الرعايا إدخالا له في باب العبادات والقربات والله أعلم.(1/52)
3 - باب المسح على الخفين
1 - عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأهويت لأنزع خفيه فقال: "دعهما فأني أدخلتهما طاهرتين" فمسح عليهما.1.
2 - عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: "كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فبال وتوضأ ومسح على خفيه"2 مختصر.
كلا الحديثين يدل على جواز المسح على الخفين وقد تكثرت فيه الروايات ومن أشهرها: رواية المغيرة ومن أصحها: رواية جرير بن عبد الله البجلي - بفتح الباء والجيم معا - وكان أصحاب عبد الله بن مسعود يعجبهم حديث جرير3 لأن إسلامه كان بعد نزول المائدة.
ومعنى هذا الكلام: أن آية المائدة إن كانت متقدمة على المسح على الخفين كاو جواز المسح ثابتا من غير نسخ وإن كان مسح الخفين متقدما كانت آية المائدة تقتضي خلاف ذلك فينسخ بها المسح فلما تردد الحال توقفت الدلالة عند قوم وشكوا في جواز المسح.
وقد نقل عن بعض الصحابة رضي الله عنهم أنه قد علمنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين ولكن أقبل المائدة أم بعدها؟ إشارة منه بهذا الاستفهام إلى ما ذكرناه فلما جاء حديث جرير مبينا للمسح بعد نزول المائدة: زال الإشكال.
وفي بعض الروايات: التصريح بأنه: "رأى النبي صلى الله عليه وسلم يمسح على الخفين بعد نزول المائدة" وهو أصرح من رواية من روى عن جرير وهل أسلمت إلا بعد نزول المائدة؟4.
ـــــــ
1 البخاري "206" ومسلم "274" "79" واللفظ للبخاري.
2 البخاري "224" "225" "226" ومسلم "273" بلفظ قريب منه.
3 البخاري "387" ومسلم "272" ولفظه مسلم عن همام قال: بال جرير ثم توضأ ومسح على خفيه فقيل تفعل هذا؟ فقال: نعم, رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بال ثم توضأ ومسح على خفيه قال الأعمش: قال إبراهيم: كان يعجبهم هذا الحديث لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة.
4 الترمذي "94" وأبو داود "154".(1/52)
وقد اشتهر جواز المسح على الخفين عند علماء الشريعة حتى عد شعارا لأهل السنة وعد إنكاره شعارا لأهل البدع.
وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث المغيرة: "دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين" دليل على اشتراط الطهارة في اللبس لجواز المسح حيث علل عدم نزعهما بإدخالهما طاهرتين فيقتضي أن إدخالهما غير طاهرتين مقتض للنزع.
وقد استدل به بعضهم على أن إكمال الطهارة فيهما شرط حتى لو غسل إحداهما وأدخلها الخف ثم غسل الأخرى وأدخلها الخف: لم يجز المسح.
وفي هذا الاستدلال عندنا ضعف - أعني في دلالته على حكم هذه المسألة - فلا يمتنع أن يعبر بهذه العبارة عن كون كل واحدة منهما أدخلت طاهرة بل ربما يدعي أنه ظاهر في ذلك فإن الضمير في قوله: "أدخلتهما" يقتضي تعليق الحكم بكل واحدة منهما.
نعم من روى: "فإني أدخلتهما وهما طاهرتان" فقد يتمسك برواية هذا القائل من حيث إن قوله: "أدخلتهما" إذا اقتضى كل واحدة منهما فقوله: "وهما طاهرتان" حال من كل واحدة منهما فيصير التقدير: أدخلت كل واحدة في حال طهارتها وذلك إنما يكون بكمال الطهارة.
وهذا الاستدلال بهذه الرواية من هذا الوجه: قد لا يتأتى في رواية من روى: "أدخلتهما طاهرتين" وعلى كل حال فليس الاستدلال بذلك القوي جدا لاحتمال الوجه الآخر في الروايتين معا اللهم إلا أن يضم إلى هذا دليل يدل على أنه لا يحصل الطهارة لإحداهما إلا بكمال الطهارة في جميع الأعضاء فحينئذ يكون ذلك الدليل - مع هذا الحديث - مستندا لقول القائلين بعدم الجواز أعني أن يكون المجموع هو المستند فيكون هذا الحديث دليلا على اشتراك طهارة كل واحدة منهما ويكون ذلك الدليل دالا على أنها لا تطهر إلا بكمال الطهارة.
ويحصل من هذا المجموع: حكم المسألة المذكورة في عدم الجواز وفي حديث حذيفة: تصريح بجواز المسح عن حدث البول وفي حديث صفوان بن عسال - بالعين المهملة وتشديد السين - ما يقتضي جوازه عن حدث الغائط وعن النوم أيضا ومنعه عن الجنابة1.
ـــــــ
1 أخرج الترمذي من حديث صفوان بن عسال "96" قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا سفرا أن لا ننزع خفنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة ولكن من غائط وبول ونوم وقال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح.(1/53)
باب المذي و غيره
...
4 - باب المذي وغيره.
1 - عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنت رجلا مذاء فاستحييت أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته مني فأمرت المقداد بن الأسود فسأله فقال: "يغسل ذكره ويتوضأ" 1.
و للبخاري: "اغسل ذكرك وتوضأ" ولمسلم: "توضأ وانضح فرجك" 2.
المذي: مفتوح الميم ساكن الذال المعجمة مخفف الياء هذا هو المشهور فيه وقيل: فيه لغة أخرى: وهي كسر الذال وتشديد الياء - هو الماء الذي يخرج من الذكر عند الإنعاظ3.
وقول علي رضي الله عنه: "كنت رجلا مذاء" هي صيغة مبالغة على زنة فعال من المذي يقال: مذى يمذي وأمذى يمذي.
وفي الحديث فوائد:
أحدها: استعمال الأدب ومحاسن العادات في ترك المواجهة بما يستحيى منه عرفا والحياء تغير وانكسار يعرض للإنسان من تخوف ما يعاتب به أو يذم عليه كذا قيل في تعريفه.
وقوله: "فاستحييت" هي اللغة الفصيحة وقد يقال: استحيت.
وثانيها: وجوب الوضوء من المذي وأنه ناقض للطهارة الصغرى.
وثالثها: عدم وجوب الغسل منه.
ورابعها: نجاسته من حيث إنه أمر بغسل الذكر منه.
وخامسها: اختلفوا هل يغسل منه الذكر كله أو محل النجاسة فقط؟.
فالجمهور على أنه يقتصر على محل النجاسة وعند طائفة من المالكية: أنه يغسل منه الذكر كله تمسكا بظاهر قوله: "يغسل ذكره" فإن اسم الذكر حقيقة في العضو كله وبنوا على هذا فرعا وهو: أنه هل يحتاج إلى نية في غسله؟ فذكروا قولين من حيث إنا إذا أوجبنا غسل جميع الذكر: كان ذلك تعبدا والطهارة التعبدية: تحتاج إلى نية كالوضوء.
وإنما عدل الجمهور عن استعمال الحقيقة في الذكر كله نظرا منهم إلى المعنى فإن الموجب للغسل: إنما هو خروج الخارج وذلك يقتضي الاقتصار على محله.
ـــــــ
1 البخاري "269" ومسلم "303" "17" ولفظ "مني" ليس في الصحيحين.
2 مسلم "303" "19".
3 هو الانتشار يقال نعظ ذكره إذا قام القاموس نعظ.(1/54)
وسادسها: قد يستدل به على أن صاحب سلس المذي يحب عليه الوضوء منه من حيث إن عليا رضي الله عنه وصف نفسه بأنه كان مذاء وهو الذي يكثر منه المذي ومع ذلك أمر بالوضوء وهو استدلال ضعيف لأن كثرته قد تكون على وجه الصحة لغلبة الشهوة بحيث يمكن دفعه وقد تكون على وجه المرض والاسترسال بحيث لا يمكن دفعه وليس في الحديث بيان صفة هذا الخارج على أي الوجهين هو؟.
وسابعها: المشهور في الرواية: "يغسل ذكره" بضم اللام على صيغة الإخبار وهو استعمال لصيغة الإخبار بمعنى الأمر واستعمال صيغة الإخبار بمعنى الأمر جائز مجازا لما يشتركان فيه من معنى الإثبات للشيء.
ولو روى: يغسل ذكره - بجزم اللام على حذف اللام الجازمة وإبقاء عملها - لجاز عند بعضهم على ضعف ومنهم من منعه إلا لضرورة كقول الشاعر:
محمد تفد نفسك كل نفس
وثامنها: "وانضح فرجك" يراد به: الغسل هنا لأنه المأمور به مبينا في الرواية الأخرى ولأن غسل النجاسة المغلظة لا بد منه ولا يكتفي فيه بالرش الذي هو دون الغسل والرواية: "وانضح" بالحاء المهملة لا نعرف غيره ولو روي "انضخ" بالخاء المعجمة لكان أقرب إلى معنى الغسل فإن النضح بالمعجمة - أكبر من النضح بالمهملة.
وتاسعها: قد يتمسك به - أو تمسك به - في قبول خبر الواحد من حيث إن عليا رضي الله عنه أمر المقداد بالسؤال ليقبل خبره والمراد بهذا: ذكر صورة من الصور التي تدل على قبول خبر الواحد وهي فرد من أفراد لا تحصى والحجة تقوم بجملتها لا بفرد معين منها لأن إثبات ذلك بفرد معين: إثبات للشيء بنفسه وهو محال وإنما تذكر صورة مخصوصة للتنبيه على أمثالها لا للاكتفاء بها فيلعلم ذلك فإنه مما انتقد على بعض العلماء حيث استدل بآحاد وقيل: أثبت خبر الواحد وجوابه: ما ذكرناه.
ومع هذا فالاستدلال عندي لا يتم بهذه الرواية وأمثالها لجواز أن يكون المقداد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المذي بحضرة علي فسمع علي الجواب فلا يكون من باب قبول خبر الواحد وليس من ضرورة كونه يسأل عن المذي بحضرة علي: أن يذكر أنه هو السائل نعم إن وجدت رواية مصرحة بأن عليا أخذ هذا الحكم عن المقداد ففيه الحجة.
وعاشرها: قد يؤخذ من قوله عليه السلام في بعض الروايات: "توضأ وانضح فرجك" جواز تأخير الاستنجاء عن الوضوء وقد صرح به بعضهم وقال في قوله: "توضأ واغسل ذكرك" إن فيه دليلا عن أن الاستنجاء يجوز وقوعه بعد الوضوء وأن الوضوء لا يفسد.(1/55)
بتأخير الاستنجاء عنه وهذا يتوقف على القول بكون الواو للترتيب وهو مذهب ضعيف وفي هذا التوقف نظر وليعلم بأنه لا يفسد الوضوء بتأخير الاستنجاء إذا كان الاستنجاء بحائل يمنع انتقاض الطهارة.
وحادي عشرها: اختلفوا في أنه هل يجوز في المذي الاقتصار على الأحجار؟ والصحيح: أنه لا يجوز ودليله: أمره صلى الله عليه وسلم بغسل الذكر منه فإن ظاهره يعين الغسل والمعين لا يقع الامتثال إلا به.
ثاني عشرها: الفرج: هنا هو الذكر والصيغة لها وضعان: لغوي وعرفي فأما اللغوي: فهو مأخوذ من الانفراج فعلى هذا: يدخل فيه الدبر ويلزم منه انتقاض الطهارة بمسه لدخوله تحت قوله: "من مس فرجه فليتوضأ" 1 وأما العرفي: فالغالب استعماله في القبل من الرجل والمرأة والشافعية استدلوا في انتقاض الوضوء بمس الدبر بالحديث وهو قوله: "من مس فرجه" فيحتمل أن يكون ذلك لأنه لم يثبت في ذلك عند المستدل به عرف يخالف الوضع ويحتمل أن يكون ذلك لأنه ممن يقدم الوضع اللغوي على الاستعمال العرفي.
2 - عن عباد بن تميم عن عبد الله بن زيد عاصم المازني رضي الله عنه قال: شكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل [الذي] يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة فقال: "لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا" 2.
الشيء المشار إليه: هي الحركة التي يظن أنها حدث والحديث أصل في إعمال الأصل وطرح الشك وكأن العلماء متفقون على هذه القاعدة لكنهم يختلفون في كيفية استعمالها مثاله: هذه المسألة التي دل عليها الحديث و هي: من شك في الحدث بعد سبق الطهارة فالشافعي أعمل الأصل السابق وهو الطهارة وطرح الشك الطارئ وأجاز الصلاة في هذه الحالة.
ومالك منع من الصلاة مع الشك في بقاء الطهارة وكأنه أعمل الأصل الأول وهو ترتب الصلاة في الذمة ورأى أن لا يزال إلا بطهارة متيقنة وهذا الحديث ظاهر في إعمال الطهارة الأولى واطراح الشك.
والقائلون بهذا اختلفوا فالشافعي اطرح الشك مطلقا وبعض المالكية اطرح بشرط أن يكون في الصلاة وهذا له وجه حسن فإن القاعدة: أن مورد النص إذا وجد فيه معنى يمكن أن يكون معتبرا في الحكم فالأصل يقتضي اعتباره وعدم اطراحه وهذا الحديث يدل على اطراح الشك إذا وجد في الصلاة وكونه موجودا في الصلاة: معنى يمكن أن يكون
ـــــــ
1 هذا لفظ أبي داود من حديث بسرة بنت صفوان "181" وأخرجه الترمذي "82" وقال: هذا حديث حسن صحيح.
2 البخاري "137" ومسلم "261".(1/56)
معتبرا فإن الدخول في الصلاة مانع من إبطالها على ما اقتضاه استدلالهم في مثل هذا بقوله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] فصارت صحة الصلاة أصلا سابقا على حالة الشك مانعا من الإبطال ولا يلزم من إلغاء الشك مع وجود المانع من اعتباره إلغاؤه مع عدم المانع وصحة العمل ظاهرا: معنى يناسب عدم الالتفات إلى لاشك يمكن اعتباره فلا ينبغي إلغاؤه.
ومن أصحاب مالك من قيد هذا الحكم - أعني اطراح الشك - بقيد آخر وهو أن يكون الشك في سبب حاضر كما جاء في الحديث حتى لو شك في تقدم الحدث على وقته الحاضر لم تبح له الصلاة.
ومأخذ هذا: ما ذكرناه من أن مورد النص ينبغي اعتبار أوصافه التي ينبغي اعتبارها ومورد النص: اشتمل على هذا الوصف وهو كونه شك في سبب حاضر فلا يلحق به ما ليس في معناه من الشك في سبب متقدم إلا أن هذا القول أضعف قليلا من الأول لأن صحة العمل ظاهرا وانعقاد الصلاة: سبب مانع مناسب لاطراح الشك وأما كون السبب ناجزا: فإما غير مناسب أو مناسب مناسبة ضعيفة.
والذي يمكن أن يقرر به قول هذا القائل: أن يرى أن الأصل الأول - وهو ترتب الصلاة في ذمته - معمول به فلا يخرج عنه إلا بما ورد فيه النص وما بقي يعمل فيه بالأصل ولا يحتاج في المحل الذي خرج عن الأصل بالنص إلى مناسبة كما في صور كثيرة عمل فيها العلماء هذا العمل أعني أنهم اقتصروا على مورد النص إذا خرج عن الأصل أو القياس من غير اعتبار مناسبة وسببه: أن إعمال النص في مورده لا بد منه والعمل بالأصل أو القياس المطرد: مسترسل لا يخرج عنه إلا بقدر الضرورة ولا ضرورة فيما زاد على مورد النص ولا سبيل إلى إبطال النص في مورده سواء كان مناسبا أو لا وهذا يحتاج معه إلى إلغاء وصف كونه في صلاة ويمكن هذا القائل منع ذلك بوجهين.
أحدهما: أن يكون هذا القائل نظر إلى ما في بعض الروايات1 وهو أن يكون الشك لمن هو في المسجد وكونه في المسجد: أعم من كونه في الصلاة فيؤخذ من هذا: إلغاء ذلك القيد الذي اعتبره القائل الآخر وهو كونه في الصلاة ويبقى كونه شاكا في سبب ناجز إلا أن القائل الأول له أن يحمل كونه في المسجد على كونه في الصلاة فإن الحضور في المسجد يراد للصلاة فقد يلازمها فيعبر به عنها وهذا - وإن كان مجازا - إلا أنه يقوى إذا اعتبر الحديث.
ـــــــ
1 هي رواية أخرجها الترمذي من حديث أبي هريرة "75" "إذا كان أحدكم في المسجد فوجد ريحا بين أليتيه فلا يخرج حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا" قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح وهو قول العلماء: أن لا يجب عليه الوضوء إلا من حدث: يسمع صوتا أو يجد ريحا.(1/57)
الأول وكان حديثا واحدا مخرجه من جهة واحدة فحينئذ يكون ذلك الاختلاف اختلافا في عبارة الراوي بتفسير أحد اللفظين بالآخر ويرجع إلى أن المراد: كونه في الصلاة.
الثاني: - وهو أقوى من الأول - ما ورد في الحديث: "إن الشيطان ينفخ بين أليتي الرجل" 1 وهذا المعنى يقتضي مناسبة السبب الحاضر لإلغاء الشك.
وإنما أوردنا هذه المباحث ليتلمح الناظر مأخذ العلماء في أقوالهم فيرى ما ينبغي ترجيحه فيرجحه وما ينبغي إلغاؤه فيلغيه والشافعي رحمه الله ألغى القيدين معا - أعني كونه في الصلاة وكونه في سبب ناجز - واعتبر أصل الطهارة.
3 - عن أم قيس بنت محصن الأسدية: "أنها أتت بان لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجلسه في حجره فبال في ثوبه فدعا بماء فنضحه على ثوبه ولم يغسله"2.
4 - وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بصبي فبال على ثوبه فدعا بماء فأتبعه إياه"3.
ولمسلم: "فأتبعه بوله ولم يغسله"4.
الكلام عليه: اختلف العلماء في بول الصبي الذي لم يطعم الطعام في موضعين: أحدهما: في طهارته أو نجاسته ولا تردد في قول الشافعي وأصحابه في أنه نجس والقائلون بالنجاسة اختلفوا في تطهيره: هل يتوقف على الغسل أم لا؟ فمذهب الشافعي وأحمد: أنه لا يتوقف على الغسل بل يكفي فيه الرش والنضح وذهب مالك وأبو حنيفة إلى غسله كغيره والحديث ظاهر في الاكتفاء بالنضح وعدم الغسل لا سيما مع قولها: "ولم يغسله" والذين أوجبوا غسله: اتبعوا القياس على سائر النجاسات وأولوا الحديث.
وقولها: "ولم يغسله" أي غسلا مبالغا فيه كغيره وهو لمخالفته الظاهر محتاج إلى دليل يقاوم هذا الظاهر.
ويبعده أيضا: ما ورد في بعض الأحاديث5 من التفرقة بين بول الصبي والصبية فإن.
ـــــــ
1 انظر تلخيص الحبير "1/128" فإن فيه تحقيقا مهما عن هذا الحديث.
2 البخاري "223" ومسلم "287".
3 البخاري "222" ومسلم "286".
4 مسلم "286" "101"
5 وذلك في رواية اخرجها الترمذي "610" عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في بول الغلام الرضيع "ينضح بول الغلام ويغسل بول الجارية" قال قتادة وهذا ما لم يطعما غسلا جميعا قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح ورواية أبي داود "377" "يغسل بول الجارية وينضح بول الغلام ما لم يطعم".(1/58)
الموجبين للغسل لا يفرقون بينهما ولما فرق في الحديث بين النضح في الصبي والغسل في الصبية: كان ذلك قويا في أن النضح غير الغسل إلا أن يحملوا ذلك على قريب من تأويلهم الأول وهو إنما يفعل في بول الصبية أبلغ مما يفعل في بول الصبي فسمي الأبلغ غسلا والأخف نضحا.
واعتل بعضهم في هذا بأن بول الصبي يقع في محل واحد وبول الصبي يقع منتشرا فيحتاج إلى صب الماء في مواضع متعددة ما لا يحتاج إليه في الصبي وربما حمل بعضهم لفظ النضح في بول الصبي على الغسل وتأيد بما في الحديث من ذكر "مدينة ينضح البحر بجوانبها" 1 وهذا ضعيف لوجهين.
أحدها: قولها: "ولم يغسل".
والثاني: التفرقة بين بول الصبي والصبية والتأويل فيه عندهم ما ذكرناه.
وفسر بعض أصحاب الشافعي النضح أو الرش المذكور في بول الصبي فقال: ومعنى الرش: أن يصب عليه من الماء ما يغلبه بحيث لو كان بدل البول نجاسة أخرى وعصر الثوب: كان يحكم بطهارته.
والصبي المذكور في الحديث محمول على الذكر وفي مذهب الشافعي في الصبية خلاف والمذهب: وجوب الغسل للحديث الفارق بين بول الصبي والصبية وقد ذكر في معنى التفرقة بينهما وجوه:
منها: ما هو ركيك جدا لا يستحق أن يذكر ومنها: ما هو قوي وأقوى ذلك ما قيل: إن النفوس أعلق بالذكور منها بالإناث فيكثر حمل الذكور فيناسب التخفيف بالاكتفاء بالنضح دفعا للعسر والحرج بخلاف الإناث فإن هذا المعنى قليل فيهن فيجري على القياس في غسل النجاسة.
وقد استدل بعض المالكية بهذا الحديث على أن الغسل لا بد فيه من أمر زائد على مجرد إيصال الماء من جهة قولها: "ولم يغسله" مع كونه أتبعه بماء.
5 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "جاء أعرابي فبال في طائفة المسجد فزجره الناس فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم فلما قضى بوله أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذنوب من ماء فأهريق عليه"2.
ـــــــ
1 روى الإمام أحمد "إني لأعلم أرضا يقال لها عمان ينضح بناحيتها البحر بها حي من العرب لو أتاهم رسولي ما رموه بسهم ولا حجر" "1/44" وهذا إسناده ضعيف لانقطاعه أبو لبيد لم يدرك عمر ولا أبا بكر ويشهد للمرفوع منه حديث أبي برزة الأسلمي عند مسلم "لو أن أهل عمان أتيت ما سبوك ولا ضربوك".
2 البخاري "220" ومسلم "284" واللفظ للبخاري عدا "فأهريق" ففيه فهريق.(1/59)
الأعرابي منسوب إلى الأعراب وهم سكان البوادي ووقعت النسبة إلى الجمع دون الواحد فقيل: لأنه جرى مجرى القبيلة كأنمار أو لأنه لو نسب إلى الواحد وهو "عرب" لقيل: عربي فيشتبه المعنى فإن العربي كل من هو من ولد إسماعيل عليه السلام سواء كان ساكنا بالبادية أو بالقرى وهذا غير المعنى الأول.
وزجر الناس له من باب المبادرة إلى إنكار المنكر عند من يعتقده منكرا.
وفيه تنزيه المسجد عن الأنجاس كلها ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن زجره: لأنه إذا قطع عليه البول أدى إلى ضرر بنيته والمفسدة التي حصلت ببوله قد وقعت فلا تضم إليها مفسدة أخرى وهي ضرر بنيته.
وأيضا فإنه إذا زجر - مع جهله الذي ظهر منه - قد يؤدي إلى تنجيس مكان آخر من المسجد بترشيش البول بخلاف ما إذا ترك حتى يفرغ من البول فإن الرشاش لا ينتشر وفي هذا الإبانة عن جميل أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم ولطفه ورفقه بالجاهل.
والذنوب بفتح المعجمة ههنا: هي الدلو الكبيرة إذا كانت ملأى أو قريبا من ذلك ولا تسمى ذنوبا إلى إذا كان فيها ماء والذنوب أيضا: النصيب1 قال الله تعالى: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ} [الذريات: 59] ولعلقمة.
فحق لشاس من نداك نصيب
وفي الحديث: دليل على تطهير الأرض النجسة بالمكاثرة بالماء وقد قال الفقهاء: يصب على البول من الماء ما يغمره ولا يتجدد بشيء وقيل: يستحب أن يكون سبعة أمثال البول.
واستدل بالحديث: أيضا على أنه يكتفى بإفاضة الماء ولا يشترك نقل التراب من المكان بعد ذلك خلافا لمن قال به.
ووجه الاستدلال بذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد عنه في هذا الحديث الأمر بنقل التراب وظاهر ذلك: الاكتفاء بصب الماء فإنه لو وجب لأمر به ولو أمر به لذكر وقد وردت في حديث آخر2 ذكر الأمر بنقل التراب من حديث سفيان بن عيينة ولكنه تكلم فيه.
وأيضا فلو كان نقل التراب واجبا في التطهير لاكتفى به فإن الأمر بصب الماء حينئذ يكون زيادة تكليف وتعب من غير منفعة تعود إلى المقصود وهو تطهير الأرض.
ـــــــ
1 وجمعه إذا كان بمعنى النصيب: أذنبة وذنائب وذناب القاموس ذنب.
2 هو رواية أبي داود "381" من حديث عبد الله بن معقل بن مقرن قال: صلى أعرابي مع النبي صلى الله عليه وسلم بهذه القصة قال فيه وقال يعني النبي صلى الله عليه وسلم: "خذوا ما بال عليه من التراب فألقوه وأهريقوا على مكانه ماءا", قال أبو داود: هو مرسل ابن معقل لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم.(1/60)
6 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الفطرة خمس: الختان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط" 1.
قال أبو عبد الله محمد بن جعفر التميمي - المعروف بالقزاز - في كتاب تفسير غريب صحيح البخاري الفطرة تنصرف في كلام العرب على وجوب أذكرها لترد هذا إلى أولاها به.
فأحدها: فطرة الخلق فطره: أنشأه والله فاطر السموات والأرض أي خالقهما والفطرة الجبلة التي خلق الله الناس عليها وجبلهم على فعلها وفي الحديث: "كل مولود يولد على الفطرة" 2 قال قوم من أهل اللغة: فطرة الله التي فطر الناس عليها: أي خلقه لهم وقيل: معنى قوله: "على الفطرة" أي على الإقرار بالله الذي كان أقر له لما أخرجه من ظهر آدم والفطرة زكاة الفطر.
وأولى الوجوه بما ذكرنا: أن تكون الفطرة ما جبل الله الخلق عليه وجبل طباعهم على فعله وهي كارهة ما في جسده مما هو ليس من زينته.
وقد قال غير القزاز: الفطرة هي السنة.
واعلم أن قوله في هذه الرواية: "الفطرة خمس" وقد ورد في رواية أخرى: "خمس من الفطرة" 3 وبين اللفظتين تفاوت ظاهر فإن الأول ظاهره الحصر كما يقال: العالم في البلد زيد إلا أن الحصر في مثل هذا: تارة يكون حقيقيا وتارة يكون مجازيا والحقيقي مثاله ما ذكرناه من قولنا: العالم في البلد زيد إذا لم يكن فيها غيره ومن المجاز: "الدين النصيحة" 4 كأنه بولغ في النصيحة إلى أن جعل الدين إياها وإن كان في الدين خصال أخرى غيرها وإذا ثبت في الرواية الأخرى عدم الحصر - أعني قوله عليه السلام: "خمس من الفطرة" - وجب إزالة هذه الرواية عن ظاهرها المقتضي للحصر وقد ورد في بعض الروايات الصحيحة أيضا:
"عشر من الفطرة" 5 وذلك أصرح في عدم الحصر وأنص على ذلك.
و "الختان" ما ينتهي إليه القطع من الصبي والجارية يقال: ختن الصبي يختنه ويختنه - بكسر التاء وضمها - ختنا بإسكان التاء6.
ـــــــ
1 البخاري "5891" ومسلم "257" واللفظ للبخاري.
2 البخاري "1385" ومسلم "2258" من حديث أبي هريرة.
3 البخاري "5889" ومسلم "257".
4 مسلم "55" من حديث تميم الداري.
5 مسلم "261" من حديث عائشة والترمذي "2757" وأبو داود "53".
6 راجع القاموس ختن.(1/61)
و "الاستحداد" استفعال من الحديد وهو إزالة شعر العانة بالحديد فأما إزالته بغير ذلك كالنتف وبالنورة: فهو محصل للمقصود لكن السنة وهو الأول: الذي دل عليه لفظ الحديث: فإن الاستحداد استفعال بالحديد.
و "قص الشارب" مطلق ينطلق على إحفائه وعلى ما دون ذلك واستحب بعض العلماء إزالة ما زاد على الشفة وفسروا به قوله صلى الله عليه وسلم: "وأحفوا الشوارب" 1 وقوم يرون إنهاكها وزوال شعرها ويفسرون به الإحفاء فإن اللفظ يدل على الاستقصاء ومنه: إحفاء المسألة وقد ورد في بعض الروايات: "أنهكوا الشوارب" 2 والأصل في قص الشوارب وإحفائها وجهان أحدهما: مخالفة زي الأعاجم وقد وردت هذه العلة منصوصة في الصحيح حيث قال: "خالفوا المجوس" 3 والثاني: أن زوالها عن مدخل الطعام والشراب أبلغ في النظافة وأنزه من وضر الطعام.
و "تقليم الأظافر" قطع ما طال عن اللحم منها يقال: قلم أظفاره تقليما والمعروف فيه: التشديد كما قلنا والقلامة ما يقطع من الظفر وفي ذلك معنيان أحدهما: تحسين الهيئة والزينة وإزالة القباحة من طول الأظفار والثاني: أنه أقرب إلى تحصيل الطهارة الشرعية على أكمل الوجوه لما عساه يحصل تحتها من الوسخ المانع من وصول الماء إلى البشرة وهذا على قسمين:
أحدهما: أن لا يخرج طولها عن العادة خروجا بينا وهذا الذي أشرنا إلى أنه أقرب إلى تحصيل الطهارة الشرعية على أكمل الوجوب فإنه إذا لم يخرج طولها عن العادة يعفى عما يتعلق بها من يسير الوسخ وأما إذا زاد على المعتاد: فما يتعلق بها من الأوساخ مانع من حصول الطهارة وقد ورد في بعض الأحاديث: الإشارة إلى هذا المعنى.
و "نتف الآباط" إزالة ما نبت عليها من الشعر بهذا الوجه أعني النتف وقد يقوم مقامه ما يؤدي إلى المقصود إلا أن استعمال ما دلت عليه السنة أولى.
وقد فرق لفظ الحديث بين إزالة شعر العانة وإزالة شعر الإبط فذكر في الأول الاستحداد وفي الثاني النتف وذلك مما يدل على رعاية هاتين الهيئتين في محلهما ولعل السبب فيه: أن الشعر بحلقه يقوى أصله ويغلظ جرمه ولهذا يصف الأطباء تكرار حلق الشعر.
ـــــــ
1 البخاري "5892" من حديث ابن عمر ومسلم "259" ولفظ مسلم: "أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى".
2 لفظ البخاري "5893" "أنهكوا الشوارب وأعفوا اللحى" ومسلم "260" "جزوا الشوارب....".
3 لفظ الشيخين: "خالفوا المشركين" البخاري "5892" ومسلم "260" "54" ولفظ أحمد في مسنده "8785" "...وخالفوا المجوس".(1/62)
في المواضع التي يراد قوته فيها والإبط إذا قوي فيه الشعر وغلظ جرمه كان أفوح للرائحة الكريهة المؤذية لمن يقاربها فناسب أن يسن فيه النتف المضعف لأصله المقلل للرائحة الكريهة وأما العانة: فلا يظهر فيها من الرائحة الكريهة ما يظهر في الإبط فزال المعنى المقتضي للنتف رجح إلى الاستحداد لأنه أيسر وأخف على الإنسان من غير معارض.
وقد اختلف العلماء في حكم الختان فمنهم من أوجبه وهو الشافعي ومنهم جعله سنة وهو مالك وأكثر أصحابه: "هذا في الرجال وأما في النساء: فهو مكرمة على ما قالوا".
ومن فسر الفطرة بالسنة فقد تعلق بهذا اللفظ في كونه غير واجب لوجهين أحدهما: أن السنة تذكر في مقابلة الواجب والثاني: أن قرائنه مستحبات.
والاعتراض على الأول: أن كون السنة في مقابلة الواجب وضع اصطلاحي لأهل الفقه والوضع اللغوي غيره وهو الطريقة ولم يثبت استمرار استعماله في هذا المعنى في كلام صاحب الشرع صلوات الله عليه وإذا لم يثبت استمراره في كلامه صلى الله عليه وسلم لم يتعين حمل لفظه عليه.
والطريقة التي يستعملها الخلافيون من أهل عصرنا وما قاربه أن يقال: إذا ثبت استعماله في هذا المعنى فيدعى أنه كان مستعملا قبل ذلك لأنه لوكان الوضع غيره فيما سبق لزم أن يكون قد تغير إلى هذا الوضع والأصل عدم تغيره.
وهذا كلام طريف وتصرف غريب قد يتبادر إلى إنكاره ويقال: الأصل استمرار الواقع في الزمن الماضي إلى هذا الزمان أما أن يقال: الأصل انعطاف الواقع في هذا الزمان على الزمن الماضي: فلا لكن جوابه ما تقدم.
وهو أن يقال: هذا الوضع ثابت فإن كان هو الذي وقع في الزمان الماضي فهو المطلوب وإن لم يكن ن فالواقع في الزمان الماضي غيره حينئذ وقد تغير والأصل عدم التغير لما وقع في الزمن الماضي فعاد الأمر إلى أن الأصل استصحاب الحال في الزمن الماضي وهذا - وإن كان طريفا كما ذكرناه - إلا أنه طريق جدل لا جلد والجدلي في طرائق التحقيق: سالك على محجة مضيق وإنما تضعف هذه الطريقة إذا ظهر لنا تغير الوضع ظنا وأما إذا استوى الأمران فلا بأس به.
وأما الاستدلال بالاقتران: فهو ضعيف إلا أنه في هذا المكان قوي لأن لفظة الفطرة لفظة واحدة استعملت في هذه الأشياء الخمسة فلو افترقت في الحكم - أعني أن تستعمل في بعض هذه الأشياء لإفادة الوجوب وفي بعضها لإفادة الندب - لزم استعمال اللفظ الواحد في معنيين مختلفين وفي ذلك ما عرف في علم الأصول وإنما تضعف دلالة الاقتران ضعفا إذا استقلت الجمل في الكلام ولم يلزم منه استعمال اللفظ الواحد في معنيين كما جاء في الحديث:(1/63)
"لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسل فيه من الجنابة" 1 حيث استدل به بعض الفقهاء على أن اغتسال الجنب في الماء يفسده لكونه مقرونا بالنهي عن البول فيه والله أعلم.
ـــــــ
1 تقدم الحديث وهذا لفظ أبي داود من حديث أبي هريرة "70".(1/64)
5 - باب الجنابة.
1 - عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيه في بعض طرق المدينة وهو جنب قال: فانخنست منه فذهبت فاغتسلت ثم جئت, فقال: "أين كنت يا أبا هريرة؟, قال: كنب جنبا فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة, فقال: "سبحان الله! إن المؤمن لا ينجس" 1.
الجنابة دالة على معنى البعد ومنه قوله تعالى: {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء: 36] وعن الشافعي أنه قال: إنما سمي جنبا من المخالطة ومن كلام العرب: أجنب الرجل إذا خالط امرأته.
قال بعضهم: وكأن هذا ضد للمعنى الأول كأنه من القرب منها وهذا لا يلزم فإن مخالطتها مؤدية إلى الجنابة التي معناها البعد على ما قدمناه.
وقول أبي هريرة: "فانخنست منه" الانخناس: الانقباض والرجوع وما قارب ذلك من المعنى يقال: خنس لازما ومتعديا فمن اللازم: ما جاء في الحديث في ذكر الشيطان: "فإذا ذكر الله خنس" 2 ومن المتعدي: ما جاء في الحديث: "وخنس إبهامه" 3 أي قبضها وقيل: إنه يقال أخنسه في المتعدي ذكره صاحب مجمع البحرين.
وقد روي في هذه اللفظة: "فانبجست منه" بالجيم من الانبجاس وهو الاندفاع أي اندفعت عنه ويؤيده قوله في حديث آخر: "فانسللت منه"4 وروي في هذه اللفظة أيضا: "فانبخست منه" من البخس وهو النقص وقد استبعدت هذه الرواية ووجهت - على بعدها - بأنه اعتقد نقصان نفسه بجنابته عن مجالسة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو مصاحبته مع اعتقاده نجاسة نفسه هذا أو معناه.
ـــــــ
1 البخاري "283" ومسلم "371".
2 البيهقي في شعب الإيمان "1/403" ولفظه: "إن شيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم فإن ذكر الله خنس وإن نسي التقم قلبه فذلك الوسواس الخناس".
3 ولفظه عن ابن عمر "إن الشهر هكذا وهكذا", وخنس الإبهام في الثالث البخاري 1908" ومسلم "1080" "16".
4 البخاري "285" دون لفظة "منه".(1/64)
وقوله: "كنت جنبا" أي كنت ذا جنابة وهذه اللفظة تقع على الواحد المذكر والمؤنث والاثنين والجمع بلفظ واحد قال الله تعالى في الجمع: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] وقال بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إني كنت جنبا1 وقد يقال: جنبان وجنبون وأجناب.
وقوله: "فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة" يقتضي استحباب الطهارة في ملابسة الأمور العظيمة والنبي صلى الله عليه وسلم إنما رد ذلك لأن الطهارة لم تزل بقول: "إن المؤمن لا ينجس" لا ردا لما دل عليه لفظ أبي هريرة من استحباب الطهارة لملا بسته صلى الله عليه وسلم وفي هذا نظر.
وقوله: "سبحان الله" تعجب من اعتقاد أبي هريرة التنجس بالجنابة.
وقوله: "إن المؤمن لا ينجس" يقال: نجس ونجس ينجس - بالفتح والضم -2.
وقد استدل بالحديث على طهارة الميت من بني آدم وهي مسألة مختلف فيها والحديث دل على أن المؤمن لا ينجس فمنهم من خص هذه الفضيلة بالمؤمن والمشهور التعميم وبعض الظاهرية: يرى أن المشرك نجس في حال حياته أخذا بظاهر قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28] ويقال للشيء: إنه نجس بمعنى أن عينه نجسة ويقال فيه: إنه نجس بمعنى أنه متنجس بإصابة النجاسة له ويجب أن يحمل على المعنى الأول وهو أن عينه لا تصير نجسة لأنه يمكن أن يتنجس بإصابة النجاسة فلا ينفي ذلك.
وقد اختلف الفقهاء في أن الثوب إذا أصابته نجاسة: هل يكون نجسا أم لا؟ فمنهم من ذهب إلى أنه نجس وأن اتصال النجس بالطاهر موجب لنجاسة الطاهر ومنهم من ذهب إلى أن الثوب طاهر في نفسه وإنما يمتنع استصحابه في الصلاة بمجاورة النجاسة.
فلهذا القائل أن يقول: دل الحديث على أن المؤمن لا ينجس ومقتضاه: أن بدنه لا يتصف بالنجاسة وهذا يدخل تحته حالة ملابسة النجاسة له فيكون طاهرا وإذا ثبت ذلك في البدن ثبت في الثوب لأنه لا قائل بالفرق.
أو يقول: البدن إذا أصابته النجاسة: من مواضع النزاع وقد دل الحديث على أنه غير نجس وعلى ما قدمناه - من أن الواجب حمله على نجاسة العين - يحصل الجواب عن هذا الكلام.
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي من حديث ابن عباس "65" وأبو داود "68" ولفظ الترمذي اغتسل بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في جفنة فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ منه فقالت: يا رسول الله إني كنت جنبا فقال: "إن الماء لا يجنب" وقال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح.
2 من الباب الثاني والخامس القاموس نجس.(1/65)
وقد يدعي أن يقولنا الشيء نجس حقيقة في نجاسة العين فيبقى ظاهر الحديث دالا عن أن عين المؤمن لا تنجس فتخرج عنه حالة النجس التي هي محل الخلاف.
2 - عن عائشة رضي الله عنها قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه ثم توضأ وضوءه للصلاة ثم اغتسل ثم يخلل بيديه شعره حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض عليه الماء ثلاث مرات ثم غسل سائر جسده1.
3 - وكانت تقول: كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد نغترف منه جميعا"2.
الكلام على حديث عائشة رضي الله عنها من وجوه:
أحدها: قولها: "كان إذا اغتسل من الجنابة" يحتمل أن يكون من باب التعبير بالفعل عن إرادة الفعل كما في قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98] ويحتمل أن يكون قولها: "اغتسل" بمعنى شرع في الفعل فإنه يقال: فعل إذا شرع وفعل إذا فرغ فإذا حملنا اغتسل على شرع صح ذلك لأنه يمكن أن يكون الشروع وقتا للبداءة بغسل اليدين وهذا بخلاف قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل:98] فإنه لا يمكن أن يكون وقت الشروع في القراءة وقتا للاستعاذة.
الوجه الثاني: يقال كان يفعل كذا بمعنى أنه تكرر منه فعله وكان عادته كما يقال: كان فلان يقري الضيف و"كان رسول الله صلى الله عليه أجود الناس بالخير"3 وقد يستعمل كان لإفادة مجرد الفعل ووقوع الفعل دون الدلالة على التكرار والأول: أكثر في الاستعمال وعليه ينبغي حمل الحديث وقول عائشة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل".
الوجه الثالث: قد تطلق الجنابة على المعنى الحكمي الذي ينشأ عن التقاء الختانين أو الإنزال وقولها: "من الجنابة" في من معنى السببية مجازا عن ابتداء الغاية من حيث إن السبب مصدر للمسبب ومنشأ له.
الوجه الرابع: قولها: "غسل يديه" هذا الغسل قبل إدخال اليدين الإناء وقد تبين ذلك مصرحا في رواية سفيان بن عيينة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة4.
ـــــــ
1 البخاري "272" ومسلم "316".
2 البخاري "273" ومسلم "321" "43" و"45" واللفظ للبخاري دون قوله "نغترف" ففي البخاري "نغرف".
3 جزء من حديث رواه البخاري "6" ومسلم "2308" من حديث ابن عباس.
4 وهي رواية مسلم "316".(1/66)
الوجه الخامس: قولها: "وتوضأ وضوءه للصلاة" يقتضي استحباب تقديم الغسل لأعضاء الوضوء في ابتداء الغسل ولا شك في ذلك نعم يقع البحث في أن هذا الغسل لأعضاء الوضوء: هل هو وضوء حقيقة؟ فيكتفي به عن غسل هذه الأعضاء للجنابة فإن موجب الطهارتين بالنسبة إلى هذه الأعضاء واحد أو يقال: إن غسل هذه الأعضاء إنما هو عن الجنابة وإنما قدمت على بقية الجسد تكريما لها وتشريفا ويسقط غسلها عن الوضوء باندراج الطهارة الصغرى تحت الكبرى.
فقد يقول قائل قولها: "وضوءه للصلاة" مصدر مشبه به تقديره: وضوءا مثل وضوءه للصلاة فيلزم من ذلك: أن تكون هذه الأعضاء المغسولة مغسولة عن الجنابة لأنها لو كانت مغسولة عن الوضوء حقيقة لكان قد توضأ عن الوضوء للصلاة فلا يصح التشبيه لأنه يقتضي تغاير المشبه والمشبه به فإذا جعلناها مغسولة للجنابة صح التغاير وكان التشبيه في الصورة الظاهرة.
وجوابه - بعد تسليم كونه مصدرا مشبها به - من وجهين أحدهما: أن يكون شبه الوضوء الواقع في ابتداء غسل الجنابة بالوضوء للصلاة في غير غسل الجنابة والوضوء - بقيد كونه في غسل الجنابة - مغاير للوضوء بقيد كونه خارجا عن غسل الجنابة فيحصل التغاير الذي يقتضي صحة التشبيه ولا يلزم منه عدم كونه وضوءا للصلاة حقيقة.
الثاني: لما كان وضوء الصلاة له صورة معنوية ذهنية شبه هذا الفرد الذي وقع في الخارج بذلك المعلوم في الذهن كأنه يقال: أوقع في الخارج ما يطابق الصورة الذهنية لوضوء الصلاة.
الوجه السادس: قولها: "ثم يخلل بيديه شعره" التخليل ههنا: إدخال الأصابع فيما بين أجزاء الشعر ورأيت في كلام بعضهم: إشارة إلى أن التخليل هل يكون بنقل الماء أو بإدخال الأصابع مبلولة بغير نقل الماء؟ و أشار به إلى ترجيح نقل الماء لما وقع في بعض الروايات الصحيحة في كتاب مسلم: "ثم يأخذ الماء فيدخل أصابعه في أصول الشعر"1 فقال هذا القائل: نقل الماء لتخليل الشعر: هو رد على من يقول: يخلل بأصابعه مبلولة بغير نقل الماء قال: وذكر النسائي في السنن ما يبين هذا فقال باب تخليل الجنب رأسه2 وأدخل حديث عائشة رضي الله عنها فيه فقالت فيه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب رأسه ثم يحثي عليه ثلاثا" قال: فهاذا بين في التخليل بالماء انتهى كلامه.
وفي الحديث: دليل على أن التخليل يكون بمجموع الأصابع العشر لا بالخمس.
الوجه السابع: قولها: "حتى إذا ظن" يمكن أن يكون الظن ههنا بمعنى العلم ويمكن أن
ـــــــ
1 مسلم "316" "35".
2 النسائي في الصغري "249".(1/67)
يكون ههنا على ظاهره من رجحان أحد الطرفين مع احتمال الآخر ولولا قولها بعد ذلك: "أفاض عليه الماء ثلاث مرات" لترجح أن يكون بمعنى العلم فإنه حينئذ يكون مكتفى به أي بري البشرة وإذا كان مكتفى به في الغسل ترجح اليقين لتيسر الوصول إليه في الخروج عن الواجب على أنه قد يكتفي بالظن في هذا الباب فيجوز حمله على ظاهره مطلقا.
وقولها: "أروى" مأخوذ من الري الذي هو خلاف الطش وهو مجاز في ابتلال الشعر بالماء يقال: رويت من الماء - بالكسر - أروى ريا وريا وروى وأرويته أنا فروي1.
وقولها: "بشرته" البشرة: ظاهر جلد الإنسان والمراد بإرواء البشرة: إيصال الماء إلى جميع الجلد ولا يصل إلى جميع جلده إلا وقد ابتلت أصول الشعر أو كله.
وقولها: "أفاض الماء" إفاضة الماء على الشيء: إفراغه عليه يقال: فاض الماء: إذا جرى وفاض الدمع: إذا سال.
وقولها: "على سائر جسده" أي بقيته فإنها ذكرت الرأس أولا والأصل في سائر أن يستعمل بمعنى البقية وقالوا: هو مأخوذ من السؤر قال الشنفرى:
إذا احتملوا رأسي وفي رأس أكثري ... وغودر عند الملتقى ثم سائري
أي بقيتي وقد أنكر في أوهام الخواص: جعلها بمعنى الجميع وفي كتاب الصحاح: ما يقتضي تجويزه.
الوجه الثامن: في الحديث دليل على جواز اغتسال المرأة والرجل من إناء واحد وقد أخذ منه جواز اغتسال الرجل بفضل طهور المرأة فإنهما إذا اعتقبا اغتراف الماء: كان اغتراف الرجل في بعض الاغترافات متأخرا عن اغتراف المرأة فيكون تطهيرا بفضلها.
ولا يقال: إن قولها: "نغترف منه جميعا" يقتضي المساواة في وقت الاغتراف لأنا نقول: هذا اللفظ يصح إطلاقه - أعني: "نغترف منه جميعا" - على ما إذا تعاقبا الاغتراف ولا يدل على اغترافهما في وقت واحد.
وللمخالف أن يقول: أحمله على شروعهما جميعا فإن اللفظ محتمل له وليس فيه عموم فإذا قلت به من وجه اكتفى بذلك والله أعلم.
4 - عن ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها - زوج النبي صلى الله عليه وسلم - أنها قالت: "وضعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وضوء الجنابة فأكفأ بيمينه على يساره مرتين - أو ثلاثا - ثم غسل فرجه ثم ضرب يده بالإرض أو الحائط مرتين - أو ثلاثا - ثم تمضمض.
ـــــــ
1 انظر أساس البلاغة روي.(1/68)
واستنشق وغسل وجهه وذراعيه ثم أفاض على رأسه الماء ثم غسل جسده ثم تنحى فغسل رجليه فأتيته بخرقة فلم يردها فجعل ينفض الماء بيده"1.
الكلام على حديث ميمونة من وجوه:
أحدها: قد تقدم لنا أن الوضوء بفتح الواو وهل هو اسم لمطلق الماء أو للماء مضافا إلى الوضوء؟ وقد يؤخذ من هذا اللفظ: أنه اسم لمطلق الماء فإنها لم تضفه إلى الوضوء بل إلى الجنابة.
الثاني: قولها فأكفأ أي قلب يقال: كفأت الإناء: إذا قلبته - ثلاثيا - وأكفأته أيضا رباعيا وقال القاضي عياض في المشارق: وأنكر بعضهم أن يكون بمعنى قلب و إنما يقال في قلبت: كفأت ثلاثيا وأما أكفأت فبمعنى: أملت وهو مذهب الكسائي.
الثالث: البداءة بغسل الفرج لإزالة ما علق به من أذى وينبغي أن يغسل في الابتداء عن الجنابة لئلا يحتاج إلى غسله مرة أخرى وقد يقع ذلك بعد غسل الأعضاء للوضوء.
فيحتاج إلى إعادة غسلها فلو اقتصر على غسلة واحدة لإزالة النجاسة وللغسل عن الجنابة فهل يكتفي بذلك أم لا بد من غسلتين: مرة للنجاسة ومرة للطهارة عن الحدث؟.
فيه خلاف لأصحاب الشافعي ولم يرد في الحديث إلا مطلق الغسل من غير ذكر تكرار فقد يؤخذ منه الاكتفاء بغسلة واحدة من حيث إن الأصل عدم غسله ثانيا.
وضربه صلى الله عليه وسلم بالأرض أو الحائط: لإزالة ما لعله علق باليد من الرائحة زيادة في التنظيف.
الرابع: إذا بقيت رائحة النجاسة بعد الاستقصاء في الإزالة: لم يضر على مذهب بعض الفقهاء وفي مذهب الشافعي خلاف وقد يؤخذ العفو عنه من هذا الحديث ووجهه أن ضربه صلى الله عليه وسلم بالأرض أو الحائط لا بد وأن يكون لفائدة ولا جائز أن يكون لإزالة العين لأنه لا تحصل الطهارة مع بقاء العين اتفاقا وإذا كانت اليد نجسة ببقاء العين فيها فعند انفصالها ينجس المحل بها وكذلك لا يكون للطعم لأن بقاء الطعم دليل على بقاء العين و لا يكون لإزالة اللون لأن الجنابة بالإنزال أو المجامعة لا تقتضي لونا يلصق باليد وإن اتفق فنادر جدا فبقي أن يكون لإزالة الرائحة ولا يجوز أن يكون لإزالة رائحة تجب إزالتها لأن اليد قد انفصلت عن المحل على أنه قد طهر ولو بقي ما تتعين إزالته من الرائحة لم يكن المحل طاهرا لأنه عند الانفصال تكون اليد نجسة وقد لابست المحل مبتلا فيلزم من ذلك: أن يكون بعض الرائحة معفوا عنه ويكون الضرب على الأرض لطلب الأكمل فيما لا تجب إزالته.
ـــــــ
1 البخاري "274" ومسلم "317" واللفظ للبخاري.(1/69)
ويحتمل أن يقال: فصل اليد عن المحل بناء على ظن طهارته بزوال رائحته والضرب على الأرض لإزالة احتمال في بقاء الرائحة مع الاكتفاء بالظن في زوالها.
والذي يقوي الاحتمال الأول: ما ورد في الحديث الصحيح كونه صلى الله عليه وسلم: "دلكها دلكا شديدا"1 والدلك الشديد لا يناسبه هذا الاحتمال الضعيف.
الخامس: قولها: "ثم تمضمض واستنشق وغسل وجهه وذراعيه" دليل على مشروعية هذه الأفعال في الغسل واختلف الفقهاء في حكم المضمضة والاستنشاق في الغسل: واختلف الفقهاء في حكم المضمضة والاستنشاق في الغسل: فأوجبها أبو حنيفة ونفى الوجوب مالك والشافعي ولا دلالة في الحديث على الوجوب إلا أن يقال: إن مطلق أفعاله صلى الله عليه وسلم للوجوب غير أن المختار أن الفعل لا يدل على الوجوب إلا إذا كان بيانا لمجمل تعلق به الوجوب والأمر بالتطهير من الجنابة ليس من قبيل المجملات.
السادس: قولها: "ثم أفاض على رأسه الماء" ظاهره: يقتضي أنه لم يمسح رأسه صلى الله عليه وسلم كما يفعل في الوضوء وقد اختلف أصحاب مالك على القول بتأخير غسل الرجلين كما في حديث ميمونة هذا: هل يمسح الرأس أم لا؟.
السابع: قولها: "ثم تنحى فغسل رجليه" يقتضي تأخير غسل الرجلين عن إكمال الوضوء وقد اختاره بعض العلماء وهو أبو حنيفة وبعضهم اختار إكمال الوضوء على ظاهر حديث عائشة المتقدم وهو الشافعي وفرق بعضهم بين أن يكون الموضع وسخا أو لا فإن كان وسخا أخر غسل الرجلين ليكون غسلهما مرة واحدة فلا يقع إسراف في الماء وإن كان نظيفا قدم وهو في كتب مذهب مالك له أو لبعض أصحابه.
الثامن: إذا قلنا: إن غسل الأعضاء في ابتداء الغسل وضوء حقيقة فقد يؤخذ من هذا: جواز التفريق اليسير في الطهارة.
التاسع: أخذ من رده صلى الله عليه وسلم الخرقة: أنه لا يستحب تنشيف الأعضاء من ماء الطهارة واختلفوا: هل يكره؟ والذين أجازوا التنشيف استدلوا بكونه صلى الله عليه وسلم جعل ينفض الماء فلو كره التنشيف لكره النفض فإنه إزالة وأما رد المنديل: فواقعه حال يتطرق إليها الاحتمال فيجوز أن يكون لا لكراهة التنشيف بل لأمر يتعلق بالخرقة أو غير ذلك والله أعلم.
العاشر: ذكر بعض الفقهاء في صفة الوضوء: أن لا ينفض أعضاءه وهذا الحديث دليل على جواز نفض الماء عن الأعضاء في الغسل والوضوء مثله وما استدل به على كراهة النفض - وهو ما ورد: "لاتنفضوا أيديكم فإنها مراوح الشيطان"2 - حديث ضعيف لا يقاوم هذا الصحيح والله أعلم.
ـــــــ
1 مسلم "317".
2 ابن أبي حاتم في العلل "1/36".(1/70)
5 - عن عبد الله بن عمر: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: يا رسول الله أيرقد أحدنا وهو جنب؟ قال: "نعم إذا توضأ أحدكم فليرقد" 1.
وضوء الجنب قبل النوم: مأمور به والشافعي حمله على الاستحباب وفي مذهب مالك قولان أحدهما: الوجوب وقد ورد بصيغة الأمر في بعض الأحاديث الصحيحة وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "توضأ واغسل ذكرك ثم نم" 2 لما سأله عمر إنه تصيبه الجنابة من الليل وليس في هذا الحديث الذي ذكره المصنف متمسك للوجوب فإنه وقف إباحة الرقاد على الوضوء فإن هذا الأمر في قوله عليه الصلاة والسلام: "فليرقد", ليس للوجوب ولا للاستحباب فإن النوم من حيث هو نوم لا يتعلق به وجوب ولا استحباب فإذا هو للإباحة فتتوقف الإباحة ههنا على الوضوء وذلك هو المطلوب.
والذين قالوا: إن الأمر ههنا على الوجوب اختلفوا في علة هذا الحكم فقيل: علته أن يبيت على إحدى الطهارتين خشية الموت في المنام وقيل: علته أن ينشط إلى الغسل إذا نال الماء أعضاءه وبنوا على هاتين العلتين: أن الحائض إذا أرادت النوم هل تأمر بالوضوء؟ فمقتضى التعليل المبيت على إحدى الطهارتين: أن تتوضأ الحائض لأن المعنى موجود فيها ومقتضى التعليل بحصول النشاط: أن لا تؤمر به الحائض لأنها لو نشطت لم يمكنها رفع حدثها بالغسل وقد نص الشافعي على أنه ليس ذلك على الحائض فيحتمل أن يكون راعى هذه العلة فنفى الحكم لانتفائها ويحتمل أ ن يكون لم يراعها ونفى الحكم لأنه رأى أن أمر الجنب به تعبد ولا يقاس عليه غيره أو رأى علة أخرى غير ما ذكرناه والله أعلم.
6 - عن أم سلمة رضي الله عنها - زوج النبي صلى الله عليه وسلم - قالت: "جاءت أم سليم - امرأة أبي طلحة - إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن الله لا يستحيي من الحق فهل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم إذا رأت الماء" 3.
الكلام عليه من وجوه 4:
أحدها: قولها: إن الله لا يستحيي من الحق هذا تمهيد لبسط عذرها في ذكرها ما يستحيي النساء من ذكره وهو أصل فيما يصنعه الكتاب والأدباء في ابتداء مكاتباتهم ومخاطباتهم من التمهيدات لما يأتون به بعد ذلك والذي يحسنه في مثل هذا: أن الذي يعتذر به إذا كان متقدما.
ـــــــ
1 البخاري "287" ومسلم "306" واللفظ للبخاري.
2 البخاري "290".
3 البخاري "130" ومسلم "313" واللفظ له.
4 ترجم المصنف رحمه الله تعالى لأم سلمة في آخر الحديث على خلال عادته.(1/71)
على المعتذر منه أدركته النفس صافية من العتب وإذا تأخر العذر استثقلت النفس المعتذر منه فتأثرت بقبحه ثم يأتي العذر رافعا وعلى الأول يأتي دافعا.
الثاني: تكلموا في تأويل قولها: "إن الله لا يستحي من الحق" ولعل قائلا يقول: إنما يحتاج إلى تأويل الحياء إذا كان الكلام مثبتا كما جاء: "إن الله حيي كريم" 1 وأما في النفي: فالمستحيلات على الله تنفى ولا يشترط في النفي أن يكون المنفي ممكنا.
وجوابه ألم يرد النفي على الاستحياء مطلقا بل ورد على الاستحياء من الحق فبطريق المفهوم: يقتضي أن يستحيي من غير الحق فيعود بطريق المفهوم إلى جانب الإثبات.
الثالث: قيل في معناه لا يأمر بالحياء فيه ولا يبيحه أولا يمتنع ن ذكره وأصل الحياء الامتناع أو ما يقاربه من معنى الانقباض وقيل: معناه أن سنة الله وشرعه أن لا يستحي من الحق.
وأقول: أما تأويله على أن لا يمتنع من ذكره فقريب لأن المستحيي ممتنع من فعل ما يستحيي منه فالامتناع من لوازم الحياء فيطلق الحياء على الامتناع إطلاقا لاسم الملزوم على اللازم وأما قولهم إن الله لا يأمر ولا يبيحه فيمكن في توجيهه أن يقال: يصح التعبير بالحياء عن الأمر بالحياء لأن الأمر بالحياء متعلق بالحياء فيصح إطلاق الحياء على الأمر به على سبيل إطلاق المتعلق على المتعلق به وإذا صح إطلاق الحياء على الأمر بالحياء فيصح إطلاق عدم الحياء من الشيء على عدم الأمر به.
وهذه الوجوه من التأويلات تذكر لبيان ما يحتمله اللفظ من المعاني ليخرج ظاهره عن النصوصية لا على أنه يجزم بإرادة متعين منها إلا أن يقوم على ذلك دليل.
وأما قولهم معناه إن سنة الله وشرعه أن الله لا يستحيي من الحق فليس فيه تحرير بالغ فإنه إما أن يسند فعل الاستحياء إلى الله تعالى أو لا ويجعله فعلا لما لم يسم فاعله فإن أسند إلى الله تعالى فالسؤال باق بحاله وغاية ما في الباب: أنه زاد قوله سنة الله وشرعه وهذا لا يخلص من السؤال وإن بنوا الفعل لما لم يسم فاعله فكيف يفسر فعلا بني للفاعل والمعنيان متباينان والإشكال إنما ورد على بنائه للفاعل؟.
الوجه الرابع: الأقرب أن يجعل في الكلام حذف تقديره: إن الله لا يمتنع من ذكر الحق والحق ههنا خلاف الباطل ويكون المقصود من الكلام: أن يقتدي بفعل الله تعالى في ذلك وبذكر هذا الحق الذي دعت إليه الحاجة إليه من السؤال عن احتلام المرأة.
ـــــــ
1 الترمذي "3556" وأبو داود "1488" وابن ماجه "3865" وقال أبو عيسى هذا حديث حسن غريب وتمامه "..... يستحيي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفرا خائبتين".(1/72)
الوجه الخامس: الاحتلام في الوضع: افتعال من الحلم - بضم الحاء وسكون اللام - وهو ما يراه النائم في نومه يقال منه حلم - بفتح اللام - واحتلم واحتلمت به واحتلمته وأما في الاستعمال والعرف العام: فإنه قد يخص هذا الوضع اللغوي ببعض ما يراه النائم وهو ما يصحبه إنزال الماء فلو رأى غير ذلك لصح أن يقال له احتلم وضعا ولم يصح عرفا.
الوجه السادس: قولها: "هي" تأكيد وتحقيق ولو أسقطت من الكلام لتم أصل المعنى.
السابع: الحديث دليل على وجوب الغسل بإنزال المرأة الماء ويكون الدليل على وجوبه على الرجل قوله: "إنما الماء من الماء" 1 ويحتمل أن تكون أم سليم لم تسمع قوله صلى الله عليه وسلم "إنما الماء من الماء" وسألت عن حال المرأة لمسيس حاجتها إلى ذلك ويحتمل أن تكون سمعته ولكنها سألت عن حال المرأة لقيام مانع فيها يوهم خروجها عن ذلك العموم وهي ندرة نزول الماء منها.
الثامن: فيه دليل على أن إنزال الماء في حالة النوم موجب للغسل كإنزاله في حالة اليقظة.
التاسع: قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأت الماء" قد يرد به على من يزعم أن ماء المرأة لا يبرز وإنما يعرف إنزالها بشهوتها بقوله: "إذا رأت الماء".
العاشر: قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأت الماء" يحتمل أن يكون مراعاة للوضع اللغوي في قولها احتلمت فإنا قد بينا أن الاحتلام رؤية المنام كيف كان وضعا فلما سألت: "هل على المرأة غسل إذا هي احتلمت؟" وكانت لفظة احتلمت عامة: خصص الحكم بما إذا رأت الماء أما لو حملنا لفظة احتلمت على المعنى العرفي: كان قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأت الماء" كالتأكيد والتحقيق لما سبق من دلالة اللفظ الأول عليه ويحتمل أن يكون الإنزال الذي يحصل به الاحتلام عرفا على قسمين: تارة يوجد معه البروز إلى الظاهر وتارة لا فيكون قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأت الماء" مخصصا للحكم بحالة البروز إلى الظاهر ويكون فائدة زائدة ليست لمجرد التأكيد إلا أن ظاهر كلام من أشرنا إليه من الفقهاء: يقتضي وجوب الغسل بالإنزال إذا عرفته بالشهوة ولا يوقفه على البروز إلى الظاهر فإن صح ذلك فتكون الرؤية بمعنى العلم هنا أي إذا علمت نزول الماء والله أعلم.
وأم سلمة المذكورة في الحديث زوج النبي صلى الله عليه وسلم اسمها هند بنت أمية المعروف بزاد الركب وأم سليم بنت ملحان - بكسر الميم وسكون اللام وحاء مهملة - يقال لها: الغميصاء والرميصاء أيضا اسمها سهلة وقيل رميلة أو رملة وقيل: رميثة وقيل: مليكة.
ـــــــ
1 مسلم "343" من حديث أبي سعيد الخدري.(1/73)
7 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كنت أغسل الجنابة من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخرج إلى الصلاة وإن بقع الماء في ثوبه"1.
وفي لفظ لمسلم: "لقد كنت أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فركا فيصلي فيه"2.
اختلف العلماء في طهارة المني ونجاسته فقال الشافعي وأحمد بطهارته وقال مالك وأبو حنيفة بنجاسته.
والذين قالوا بنجاسته: اختلفوا في كيفية إزالته فقال مالك: يغسل رطبه ويابسه وقال أبو حنيفة يغسل رطبه ويفرك يابسه أما مالك: فعمل بالقياس في الحكمين أعني نجاسته وإزالته بالماء.
أما نجاسته: فوجه القياس فيه من وجوه أحدها: أن الفضلات المستحيلة إلى الاستقذار في مقر تجتمع فيه: نجسة والمني منها فليكن نجسا وثانيها: أن الأحداث الموجبة للطهارة نجسة والمني منها أي من الأحداث الموجبة للطهارة وثالثها: أنه يجري في مجرى البول فينجس.
وأما في كيفية إزالته: فلأن النجاسة لا تزال إلا بالماء إلا ما عفي عنه من آثار بعضها والفرد ملحق بالأعم الأغلب.
وأما أبو حنيفة: فإنه اتبع الحديث في فرك اليابس والقياس في غسل الرطب ولم ير الاكتفاء بالفرك دليلا على الطهارة وشبهه بعض أصحابه بما جاء في الحديث من دلك النعل من الأذى وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا وطئ أحدكم الأذى بخفه أو بنعله فطهورهما التراب" رواه الطحاوي من حديث أبي هريرة3 فإن الاكتفاء بالدلك فيه لا يدل على طهارة الأذى.
وأما الشافعي: فاتبع الحديث في فرك اليابس ورآه دليلا على الطهارة فإنه لو كان نجسا لما اكتفى فيه إلا بالغسل قياسا على سائر النجاسات فلو اكتفى بالفرك - مع كونه نجسا - لزم خلاف القياس والأصل: عدم ذلك.
وهذا الحديث يخالف ظاهره ما ذهب إليه مالك وقد اعتذر عنه بأن حمل على الفرك بالماء وفيه بعد لأنه ثبت في بعض الروايات4 في هذا الحديث عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "لقد رأيتني وإني لأحكه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم يابسا بظفري" وهذا تصريح بيبسه وأيضا في.
ـــــــ
1 البخاري "229" ومسلم "289" "108" واللفظ للبخاري.
2 مسلم "288" "105".
3 الطحاوي في شرح معاني الآثار "1/51".
4 مسلم "290".(1/74)
رواية يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة قالت: "كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كان يابسا وأغسله أو أمسحه إذا كان رطبا" شك الراوي وهذا التقابل بين الفرك والغسل: يقتضي اختلافهما.
والذي قرب التأويل المذكور - عند من قال به - ما في بعض الروايات عن عائشة: أنها قالت لضيفها الذي غسل الثوب إنما يجزيك - إن رأيته - أن تغسل مكانه وإن لم تره نضحت حوله فلقد رأيتني أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم1 فحصرت الإجزاء في الغسل لما رآه وحكمت بالنضح لما لم يره وهذا حكم النجاسات.
فلو كان هذا الفرك المذكور من غير ماء: ناقض آخر الحديث أوله الذي يقتضي حصر الإجزاء في الغسل ويقتضي إجراء حكم سائر النجاسات عليه في النضح إلا أن دلالة قولها لأحكه يابسا بظفري أصرح وأنص على عدم الماء مما ذكر من القرائن من كونه مفروكا بالماء.
والحديث واحد اختلفت طرقه وأعني بالقرائن: النضح لما لم يره وقولها: إنما كان يجزيك.
ومن الناس من سلك طريقة أخرى في الأحاديث التي اقتصر فيها على ذكر الفرك قال: هذا لا يدل إلا على الفرك من الثوب وليس فيه دلالة على أنه الثوب الذي يصلي فيه فيحمل على ثوب النوم ويحمل الحديث الآخر الذي ذكره المصنف - وهو قولها: "فيخرج إلى الصلاة وإن بقع الماء في ثوبه" - على ثوب الصلاة.
ولا يقال: إذا حملتم الفرك إلى غير ثوب الصلاة فأي فائدة في ذكر ذلك؟ لأنا نقول: فائدته بيان جواز لبس الثوب النجس في غير حالة الصلاة.
وهذه الطريقة قد تتمشى لو لم تأت روايات صحيحة بقولها: "ثم يصلي فيه" وفي بعضها: "فيصلي فيه" وأخذ بعضهم من كون الفاء للتعقيب: أنه يعقب الصلاة بالفرك ويقتضي ذلك عدم الغسل قبل الدخول في الصلاة إلا أنه قد ورد بالواو وبثم أيضا في هذا الحديث واحدا فالألفاظ مختلفة والمقول منها واحد فتقف الدلالة بالفاء إلا لمرجح لها وإن كانت الرواية بالفاء حديثا مفردا فيتجه ما قاله.
واعلم أن احتمال غسله بعد الفرك واقع لكن الأصل عدمه فيتعارض النظر بين اتباع هذا الأصل وبين اتباع القياس ومخالفة هذا الأصل فما ترجح منهما عمل به لا سيما إن انضمت قرائن في لفظ الحديث تنفي هذا الاحتمال فإذا ذاك يتقوى العمل به وينظر إلى الراجح بعد تلك القرائن أو من القياس.
ـــــــ
1 مسلم "288" "105".(1/75)
وقد استعمل في هذا الحديث لفظ الجنابة بإزاء المني وقد ذكرنا أنه يستعمل بإزاء المنع والحكم الشرعي المرتب على خروج الخارج والله أعلم.
8 - عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل" 1 وفي لفظ: "وإن لم ينزل" 2.
الشعب جمع شعبة وهي الطائفة من الشيء والقطعة منه واختلفوا في المراد بالشعب الأربع فقيل: يداها ورجلاها أو رجلاها وفخذاها أو فخذاها وإسكتاها أو نواحي الفرج الأربع وفسر الشعب بالنواحي وكأنه تحويم على طلب الحقيقة الموجبة للغسل والأقرب عندي: أن يكون المراد: اليدين والرجلين أو الرجلين والفخذين ويكون الجماع مكنيا عنه بذلك ويكتفي بما ذكر عن التصريح وإنما رجحنا هذا: لأنه أقرب إلى الحقيقة إذ هو حقيقة في الجلوس بينهما وأما إذا حمل على نواحي الفرج: فلا جلوس بينها حقيقة وقد يكتفي بالكناية عن التصريح لا يسما في أمثال هذه الأماكن التي يستحيي من التصريح بذكرها.
وأيضا فقد نقل عن بعضهم أنه قال الجهد من أسماء النكاح ذكر ذلك عن الخطابي وعلى هذا فلا يحتاج إلى أن يجعل قوله: "جلس بين شعبها الأربع" كناية عن الجماع فإنه صرح به بعد ذلك.
وقوله في الحديث: "ثم جهدها" بفتح الجيم والهاء: أي بلغ مشقتها يقال منه: جهده وأجهده أي بلغ مشقته وهذا أيضا لا يراد حقيقته وإنما المقصود منه: وجوب الغسل بالجماع وإن لم ينزل وهذه كلها كنايات يكتفى بفهم المعنى عن التصريح.
وقوله: "بين شعبها الأربع" كناية عن المرأة وإن لم يجر لها ذكر اكتفاء بفهم المعنى من السياق كما في قوله عز وجل: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [صّ: 32] والحكم عند جمهور الأمة على مقتضى هذا الحديث في وجوب الغسل بالتقاء الختانين من غير إنزال وخالف في ذلك داود وبعض أصحابه الظاهرية وخالفه بعض الظاهرية ووافق الجماعة ومستند الظاهرية: قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الماء من الماء" وقد جاء في الحديث: "إنما كان الماء من الماء رخصة في أول الإسلام ثم نسخ" ذكره الترمذي3.
9 - عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم: "أنه.
ـــــــ
1 البخاري "291" ومسلم "248" "87".
2 في مسلم وفي حديث مطر: وإن لم ينزل.
3 الترمذي "110" و"111" موقوفا على أبي بن كعب وآخره ثم نهى عنها وقال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح وإنما كان الماء من الماء في أول الإسلام ثم نسخ بعد ذلك.(1/76)
كان هو وأبوه عند جابر بن عبد الله وعنده قوم فسألوه عن الغسل؟ فقال: صاع يكفيك, فقال رجل: ما يكفيني, فقال جابر: كان يكفي من هو أوفى منك شعرا وخيرا منك - يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم - ثم أمنا في ثوب"1.
وفي لفظ: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفرغ الماء على رأسه ثلاثا"2.
قال رضي الله عنه: الرجل الذي قال ما يكفيني هو الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أبوه: محمد بن الحنفية.
الواجب في الغسل: ما يسمى غسلا وذلك بإفاضة الماء على العضو وسيلانه عليه فمتى حصل ذلك تأدى الواجب وذلك يختلف باختلاف الناس فلا يقدر الماء الذي يغتسل به أويتوضأ به وبقدر معلوم قال الشافعي: وقد يرفق بالقليل فيكفي ويخرق بالكثير فلا يكفي واستحب أن لا ينقص في الغسل من صاع ولا في الوضوء من مد.
وهذا الحديث: أحد ما يستدل به على الاغتسال بالصاع وليس ذلك على سبيل التحديد وقد دلت الأحاديث على مقادير مختلفة وذلك - والله أعلم - لاختلاف الأوقات أو الحالات وهو دليل على ما قلناه ومن عدم التحديد.
والصاع: أربعة أمداد بمد النبي صلى الله عليه وسلم والمد رطل وثلث بالبغدادي وأبو حنيفة يخالف في هذا المقدار ولما جاء صاحبه أبو يوسف إلى المدينة وتناظر مع مالك في هذه المسألة استدل عليه مالك بصيعان أولاد المهاجرين والأنصار الذين أخذوها عن آبائهم فرجع أبو يوسف إلى قول مالك.
ـــــــ
1 البخاري "252" ومسلم "329" واللفظ للبخاري.
2 البخاري "255".(1/77)
6 - باب التيمم.
1 - عن عمران بن حصين رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا معتزلا لم يصل في القوم؟ فقال: "يا فلان ما منعك أن تصلي في القوم؟" فقال: يا رسول الله أصابتني جنابة ولا ماء, فقال: "عليك بالصعيد فإنه يكفيك" 1.
عمران بن حصين بن عبيد خزاعي أبو نجيد بضم النون وفتح الجيم بعدها ياء من فقهاء الصحابة وفضلائهم صح أن الملائكة كانت تسلم عليه وقيل كان يراهم مات سنة اثنتين وخمسين في خلافة معاوية.
ـــــــ
1 البخاري مطولا "344" ومسلم "682" مطولا أيضا واللفظ للبخاري.(1/77)
والكلام على هذا الحديث من وجوه:
أحدها: المعتزل المنفرد عن القوم المتنحي عنهم يقال: اعتزل وانعزل وتعزل بمعنى واحد واعتزاله عن القوم استعمال للأدب والسنة في ترك جلوس الإنسان عند المصلين إذا لم يصل معهم وقد قال صلى الله عليه وسلم لمن رآه جالسا في المسجد والناس يصلون: "ما منعك أن تصلي في القوم؟ وقد روي مع الناس "ألست برجل مسلم؟" وهذا إنكار لهذه الصورة.
الثاني: قوله: "ما منعك أن تصلي في القوم؟" 1 وقد روي: "مع القوم؟", والمعنى متقارب وإن اختلف أصل اللفظين فإن في للظرفية فكأنه جعل اجتماع القوم ظرفا خرج منه هذا الرجل ومع للمصاحبة كأنه قال: ما منعك أن تصحبهم في فعلهم؟
الثالث: قوله: "أصابتني جنابة ولا ماء" يحتمل من حيث اللفظ وجهين أحدهما: أن لا يكون عالما بمشروعية التيمم والثاني: أن يكون اعتقد أن الجنب لا يتيمم وهذا أرجح من الأول فإن مشروعية التيمم كانت سابقة على زمن إسلام عمران راوي الحديث فإنه أسلم عام خيبر ومشروعية التيمم كانت قبل ذلك في غزوة المريسيع وهي واقعة مشهورة والظاهرة علم الرجل بها لشهرتها فإذا حملناه على كون الرجل اعتقد أن الجنب لا يتيمم كما ذكر عن عمر وابن مسعود كان دليلا على أن هذا الرجل ومن شك في تيمم الجنب حملوا الملامسة المذكورة في الآية أعني قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [المائدة: 6] على غير الجماع لأنهم لو حملوها عليه لكان تيمم الجنب مأخوذا من الآية فلم يقع لهم شك في تيمم الجنب وهذا الظهور الذي ادعي إن لم يكن إسلام هذا الرجل واقعا عند نزول الآية وهذا إنما يكون في مدة تقتضي العادة بلوغها إلى عمله.
الرابع: قوله: "و لا ماء" أي موجود أو عندي أو أجده أو ما أشبه ذلك وفي حذفه بسط لعذره لما فيه من عموم النفي كأنه نفي وجود الماء بالكلية بحيث لو وجد بسبب أو سعي أو غير ذلك: لحصله فإذا نفى وجوده مطلقا كان أبلغ في النفي وأعذر له.
و قد أنكر بعض المتكلمين على النحاة تقديرهم في قولنا لا إله إلا الله لا إله لنا أو في الوجود وقال إن نفي الحقيقة مطلقة أعم من نفيها مقيدة فإنها إذا نفيت مقيدة دلت على سلب الماهية مع القيد وإذا نفيت غير مقيدة كان نفيا للحقيقة وإذا انتفت الحقيقة انتفت مع كل قيد أما إذا نفيت مقيدة بقيد مخصوص لم يلزم نفيها مع قيد آخر هذا أو معناه.
الخامس: الحديث دل بصريحه على أن للجنب أن يتيمم ولم يختلف فيه الفقهاء إلا أنه.
ـــــــ
1 هي رواية البخاري "344".(1/78)
روي عن عمر وابن مسعود أنهما منعا تيمم الجنب وقيل إن بعض التابعين وافقهما وقيل رجعا عن ذلك
وكأن سبب التردد ما أشرنا إليه من حمل الملامسة على غير الجماع مع عدم وجود دليل عندهم على جوازه والله أعلم.
2 - عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة فأجنبت فلم أجد الماء فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: "إنما يكفيك أن تقول بيديك هكذا" ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه1.
عمار بن ياسر بن عامر بن مالك بن كنانة أبو اليقظان العنسي بنون بعد المهملة أحد السابقين من المهاجرين وممن عذب في ذات الله تعالى قتل - بلا خلاف - بصفين مع علي رضي الله عنهما سنة سبع وثلاثين.
والكلام على هذا الحديث من وجوه:
أحدها: يقال أجنب الرجل وجنب بالضم وجنب بالفتح وقد مر.
الثاني: قوله: "فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة" كأنه استعمال لقياس لا بد فيه من تقدم العلم بمشروعية التيمم وكأنه لما رأى أن الوضوء خاص ببعض الأعضاء وكان بدله - وهو التيمم - خاصا وجب أن يكون بدل الغسل الذي يعم جميع البدن عاما لجميع البدن.
قال أبو محمد بن حزم الظاهري: في هذا الحديث إبطال القياس لأن عمارا قدر أن المسكوت عنه من التيمم للجنابة: حكمه حكم الغسل للجنابة إذ هو بدل منه فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك وأعلمه أن لكل شيء حكمه المنصوص عليه فقط.
والجواب عما قال: أن الحديث دل على بطلان هذا القياس الخاص ولا يلزم من بطلان الخاص بطلان العام والقائسون لا يعتقدون صحة كل قياس ثم في هذا القياس شيء آخر وهو أن الأصل - الذي هو الوضوء - قد ألغى فيه مساواة البدل له فإن التيمم لا يعم جميع أعضاء الوضوء فصار مساواة البدل للأصل ملغى في محل النص وذلك لا يقتضي المساواة في الفرع.
بل لقائل أن يقول: قد يكون الحديث دليلا على صحة أصل القياس فإن قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما كان يكفي كذا وكذا" يدل على أنه لو كان فعله لكفاه وذلك دليل على صحة قولنا: لو كان.
ـــــــ
1 البخاري "347" ومسلم "368" واللفظ له.(1/79)
فعله لكان مصيبا ولو كان فعله لكان قائسا للتيمم للجنابة على التيمم للوضوء على تقدير أن يكون اللمس المذكور في الآية ليس هو الجماع لأنه لو كان عند عمار هو الجماع: لكان حكم التيمم مبينا في الآية فلم يكن يحتاج إلى أن يتمرغ فإذن فعله ذلك يتضمن اعتقاد كونه ليس عاملا بالنص بل بالقياس وحكم النبي صلى الله عليه وسلم بأنه كان يكفيه التيمم على المذكورة مع ما بينا من كونه: لو فعل ذلك لفعله بالقياس عنده لا بالنص.
الثالث: في قوله: "أن تقول بيديك هكذا" استعمال القول في معنى الفعل وقد قالوا: إن العرب استعملت القول في كل فعل.
الرابع: قوله: "ثم ضرب الأرض بيديه ضربة واحدة" دليل لمن قال بالاكتفاء بضربة واحدة للوجه واليدين وإليه يرجع حقيقة مذهب مالك فإنه قال: يعيد في الوقت إذا فعل ذلك والإعادة في الوقت دليل على إجزاء الفعل إذا وقع ظاهرا.
ومذهب الشافعي: أنه لا بد من ضربتين: ضربة للوجه وضربة لليدين لحديث ورد فيه: "التيمم ضربتان: ضربة للوجه وضربة لليدين" 1 إلا أنه لا يقاوم هذا الحديث في الصحة ولا يعارض مثله بمثله.
الخامس: قوله: "ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه" قدم في اللفظ مسح اليدين على مسح الوجه لكن بحرف الواو وهي لا تقتضي الترتيب هذا في هذه الرواية وفي غيرها: "ثم مسح بوجهه" بلفظة ثم وهي تقتضي الترتيب فاستدل بذلك على أن ترتيب اليدين على الوجه في الوضوء ليس بواجب لأنه ثبت ذلك في التيمم ثبت في الوضوء إذا لا قائل بالفرق.
السادس: قوله: "وظاهر كفيه" يقتضي الاكتفاء بمسح الكفين في التيمم وهو مذهب أحمد ومذهب الشافعي وأبي حنيفة: أن التيمم إلى المرفقين وفي حديث أبي الجهيم: "أن النبي صلى الله عليه وسلم تيمم على الجدار فمسح بوجهه ويديه"2 فتنازعوا في أن مطلق لفظ اليد هل يدل على الكفين أو على الذراعين أو على جملة العضو إلى الإبط؟ فادعى قوم: أنه يحمل على الكفين عند الإطلاق كما في قوله عز وجل: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] وقد ورد في بعض روايات حديث أبي الجهيم: "أنه صلى الله عليه وسلم مسح وجهه وذراعيه"3 والذي في الصحيح: "ويديه".
3 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا
ـــــــ
1 الدارقطني "1/180" والحاكم في المستدرك "1/179".
2 البخاري "337" ومسلم 369".
3 الدارقطني "1/177".(1/80)
وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة" 1.
جابر هو ابن عبد الله بن عمرو بن حرام - بفتح الحاء المهملة وبعدها راء مهملة - الأنصاري السلمي - بفتح السين واللام - منسوب إلى بني سلمة - بكسر اللام - يكنى أبا عبد الله توفي سنة إحدى وستين من الهجرة وهو ابن إحدى وتسعين.
والكلام على حديثه من وجوه:
الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: "أعطيت خمسا" تعديد للفضائل التي خص بها دون سائر الأنبياء عليهم السلام وظاهره: يقتضي أن كل واحدة من هذه الخمس لم تكن لأحد قبله.
ولا يعترض على هذا بأن نوحا عليه السلام - بعد خروجه من الفلك - كان مبعوثا إلى أهل الأرض لأنه لم يبق إلا من كان مؤمنا معه وقد كان مرسلا إليهم لأن هذا العموم في الرسالة لم يكن في أصل البعثة وإنما وقع لأجل الحادث الذي حدث وهو انحصار الناس في الموجودين لهلاك سائر الناس وأما نبينا صلى الله عليه وسلم: فعموم رسالته في أصل بعثته.
وأيضا فعموم الرسالة: يوجب قبولها عموما في الأصل والفروع وأما التوحيد وتمحيص العبادة لله عز وجل: فيجوز أن يكون عاما في حق بعض الأنبياء وإن كان التزام فروع شرعه ليس عاما, فإن من الأنبياء المتقدمين عليهم السلام من قاتل غير قومه على الشرك وعبادة غير الله تعالى فلو لم يكن التوحيد لازما لهم بشرعه أو شرع غيره: لم يقاتلوا ولم يقتلوا إلا على طريقة المعتزلة القائلين بالحسن والقبح العقليين. ويجوز أن تكون الدعوة على التوحيد عامة لكن على ألسنة أنبياء متعددة فثبت التكليف به لسائر الخلق وإن لم تعم الدعوة به بالنسبة إلى نبي واحد.
الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: "نصرت بالرعب" الرعب2: هو الوجل والخوف لتوقع نزول محظور والخصوصية التي يقتضيها لفظ الحديث: مقيدة بهذا القدر من الزمان ويفهم منه أمران: أحدهما: أنه لا ينفي وجود الرعب من غيره في أقل من هذه المسافة والثاني: أنه لم يوجد لغيره في أكثر منها فإنه مذكور في سياق الفضائل والخصائص ويناسبه: أن تذكر الغاية فيه.
وأيضا فإنه لو وجد لغيره في أكثر من هذه المسافة لحصل الاشتراك في الرعب في هذه المسافة وذلك ينفي الخصوصية بها.
ـــــــ
1 البخاري "335" ومسلم "521" كلاهما بلفظ: الغنائم أما المغاين فمن لفظ مسلم "523" وأوله "فضلت بست...."
2 الرعب بالضم وبضمتين القاموس رعب.(1/81)
الثالث: قوله صلى الله عليه وسلم: "وجعلت لي الأرض مسجدا" المسجد: موضع السجود في الأصل ثم يطلق في العرف على المكان المبني للصلاة التي السجود منها وعلى هذا: فيمكن أن يجمل المسجد ههنا على الوضع اللغوي أي جعلت لي الأرض كلها مسجدا أعني موضع السجود أي لا يختص السجود منها بموضع دون غيره ويمكن أن تجعل مجازا عن المكان المبني للصلاة لأنه لما جازت الصلاة جميعها كانت كالمسجد في ذلك فإطلاق اسمه عليها من مجاز التشبيه والذي يقرب هذا التأويل: أن الظاهر أنه إنما أريد: أنها مواضع للصلاة بجملتها ولا للسجود فقط منها لأنه لم ينقل: أن الأمم الماضية كانت تخص السجود وحده بموضع دون موضع.
الرابع: قوله صلى الله عليه وسلم: "طهورا" استدل به على أمور.
أحدها: أن الطهور هو المطهر لغيره ووجه الدليل: أنه ذكر خصوصيته بكونها طهورا أي مطهرا ولو كان الطهور هو الطاهر: لم تثبت الخصوصية فإن في طهارة الأرض عامة في حق كل الأمم.
الأمر الثاني: استدل به من جوز التيمم بجميع أجزاء الأرض لعموم قوله: "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا" والذين خصوا التيمم بالتراب: استدلوا بما جاء في الحديث الآخر1: "وجعلت تربتها لنا طهورا" وهذا خاص ينبغي أن يحمل عليه العام وتختص الطهورية بالتراب.
واعترض على هذا بوجوه منها: منع كون التربة مرادفة للتراب وادعى أن تربة كل مكان: ما فيه من تراب أو غيره مما يقاربه.
ومنها: أنه مفهوم لقب أعني تعليق الحكم بالتربة ومفهوم اللقب: ضعيف عند أرباب الأصول وقالوا: لم يقل به إلا الدقاق.
ويمكن أن يجاب عن هذا: بأن في الحديث قرينة زائدة عن مجرد تعليق الحكم بالتربة وهو الافتراق في اللفظ بين جعلها مسجدا وجعل ترتبها طهورا على ما في ذلك الحديث.
وهذا الافتراق في هذا السياق قد يدل على الافتراق في الحكم وإلا لعطف أحدهما على الآخر نسقا كما في الحديث الذي ذكره المصنف.
ومنها: أن الحديث المذكور الذي خصت فيه التربة بالطهورية لو سلم أن مفهومه معمول به لكان الحديث الآخر بمنطوقه يدل على طهورية بقية أجزاء الأرض أعني قوله صلى الله عليه وسلم: "مسجدا
ـــــــ
1 من رواية مسلم "522" من حديث حذيفة.(1/82)
وطهورا" فإذا تعارض في غير التراب دلالة المفهوم الذي يقتضي عدم طهوريته ودلالة المنطوق الذي يقتضي طهوريته فالمنطوق مقدم على المفهوم.
وقد قالوا: إن المفهوم يخصص العموم فتمتنع هذه الأولوية إذا سلم المفهوم هنا وقد أشار بعضهم إلى خلاف هذه القاعدة أعني تخصيص العموم بالمفهوم ثم عليك - بعد هذا كله - بالنظر في معنى ما أسلفناه من حاجة التخصيص إلى التعارض بينه وبين العموم في محله.
الأمر الثالث: أخذ منه بعض المالكية: أن لفظة طهور تستعمل لا بالنسبة إلى الحدث ولا الخبث وقال: إن الصعيد قد يسمى طهور وليس عن حدث ولا عن خبث لان التيمم لا يرفع الحدث هذا أو معناه وجعل ذلك جوابا عن استدلال الشافعية على نجاسة فم الكلب لقوله صلى الله عليه وسلم: "طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب: أن يغسله سبعا" 1 فقالوا طهور يستعمل إما عن حدث أو خبث ولا حدث على الإناء فيتعين أن يكون عن خبث.
فمنع هذا المجيب المالكي الحصر وقال: إن لفظة طهور تستعمل في إباحة الاستعمال كما في التراب إذا لا يرفع الحدث كما قلنا فيكون قوله: "طهور إناء أحدكم" مستعملا في إباحة استعماله أعني الإناء كما في التيمم.
وفي هذا عندي نظر فإن التيمم - وإن قلنا: إنه لا يرفع الحدث - لكنه عن حدث أي الموجب لفعله حدث وفرق بين قولنا إنه عن حدث وبين قولنا إنه لا يرفع الحدث وربما تقدم هذا أو بعضه.
الخامس: قوله صلى الله عليه وسلم: "فأيما رجل من أمتي أدركته لا صلاة فليصل" مما يستدل به على عموم التيمم بأجزاء الأرض لأن قوله صلى الله عليه وسلم: "أيما رجل" صيغة عموم فيدخل تحته من لم يجد تراب ووجد غيره من أجزاء الأرض ومن خص التيمم بالتراب يحتاج أن يقيم دليلا يخص به هذا العموم أو يقول: دل الحديث على أنه يصلي وأنا أقول بذلك فمن لم يجد ماء ولا ترابا: صلى على حسب حاله فأقول بموجب الحديث إلا أنه قد جاء في رواية أخرى: "فعنده طهوره ومسجده" والحديث إذا اجتمعت طرقه فسر بعضها بعضا.
السادس: قوله صلى الله عليه وسلم: "وأحلت لي الغنائم" يحتمل أن يراد به: جواز أن يتصرف فيها كيف شاء ويقسمها كما أراد كما في قوله عز وجل: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1] ويحتمل أ يراد به: لم يحل منها شيء لغيره وأمته وفي بعض الأحاديث ما يشعر ظاهره بذلك ويحتمل أن يراد بالغنائم بعضها وفي بعض الأحاديث: "وأحل لنا الخمس" أو كما قال أخرجه ابن حبان - بكسر الحاء وبعدها باء موحدة - في صحيحه.
ـــــــ
1 مسلم "279" من حديث أبي هريرة.(1/83)
السابع: قوله صلى الله عليه وسلم: "وأعطيت الشفاعة" قد ترد الألف واللام للعهد كما في قوله تعالى: {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 16] وترد للعموم نحو قوله صلى الله عليه وسلم: "المسلمون تتكافأ دماؤهم" 1 وترد لتعريف الحقيقة كقولهم: الرجل خير من المرأة والفرس خير من الحمار.
إذا ثبت هذا فنقول: الأقرب أنها في قوله صلى الله عليه وسلم: "وأعطيت الشفاعة" للعهد وهو ما بينه صلى الله عليه وسلم من شفاعته العظمة وهي شفاعته في إراحة الناس من طول القيام بتعجيل حسابهم وهي شفاعة مختصة به صلى الله عليه وسلم ولا خلاف فيها ولا ينكرها المعتزلة والشفاعات الأخروية خمس إحداها: هذه وقد ذكرنا اختصاص الرسول بها وعدم الخلاف فيها وثانيتها: الشفاعة في إدخال قوم الجنة من دون حساب2 وهذه قد وردت أيضا لنبينا صلى الله عليه وسلم ولا أعلم الاختصاص فيها ولا عدم الاختصاص وثالثتها: قوم قد استوجبوا النار فيشفع في عدم دخولهم لها وهذه أيضا قد تكون غير مختصة ورابعتها: قوم دخلوا النار فيشفع في خروجهم منها وهذه قد ثبت فيها عدم الاختصاص لما صح في الحديث من شفاعة الأنبياء والملائكة وقد ورد أيضا: "الإخوان من المؤمنين يشفعون" 3 وخامستها: الشفاعة بعد دخول الجنة في زيادة الدرجات لأهلها وهذه أيضا لا تنكرها المعتزلة.
فتلخص من هذا: أن من الشفاعة منها ما علم الاختصاص به ومنها: ما علم عدم الاختصاص به ومنها: ما يحتمل الأمرين فلا تكون الألف واللام للعموم فإن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد تقدم منه إعلام الصحابة بالشفاعة الكبرى المختص بها هو التي صدرنا بها الأقسام الخمسة فلتكن الألف واللام للعهد وإن كان لم يتقدم ذلك على هذا الحديث فلتجعل الألف واللام لتعريف الحقيقة وتنزل على تلك الشفاعة لأنه كالمطلق حينئذ فيكفي تنزيله على فرد.
وليس لك أن تقول: لا حاجة إلى هذا التكلف إذ ليس في الحديث إلا قوله: "وأعطيت الشفاعة" وكل هذه الأقسام التي ذكرتها: قد أعطيها صلى الله عليه وسلم فليحمل اللفظ على العموم.
لأنا نقول: هذه الخصلة مذكورة في الخمس التي اختص بها صلى الله عليه وسلم فلفظها - وإن كان مطلقا - إلا أن ما سبق في صدر الكلام: يدل على الخصوصية وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "لم يعطهن أحد قبلي".
وأما قوله: "وكان النبي يبعث إلى قومه" فقد تقدم الكلام عليه في صدر الحديث والله أعلم.
ـــــــ
1 أخرجه بهذا اللفظ أحمد بسند حسن "6692" "6797" "6970" وأبو داود "2751".
2 مسلم في حديث طويل "194".
3 البخاري من حديث طويل "7439" وفيه "فيشفع النبيون والملائكة والمؤمنون فيقول الجبار....." مسلم "183" ولفظه من حديث طويل "فيقول الله تعالى: شفعت الملائكة وشفع المؤمنون".(1/84)
7 - باب الحيض
1 - عن عائشة رضي الله عنها: أن فاطمة بنت أبي حبيش سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة؟ قال: "لا إن ذلك عرق ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ثم اغتسلي وصلي" 1.
وفي رواية: "وليست بالحيضة فإذا أقبلت الحيضة: فاتركي الصلاة فيها فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي" 2.
الكلام على هذا الحديث عليه من وجوه:
أحدها: يقال: حاضت المرأة وتحيضت تحيض حيضا ومحاضا ومحيضا - إذا سال الدم منها في نوبة معلومة وإذا استمر من غير نوبة قيل: استحيضت فيه مستحاضة ونقل الهروي عن ابن عرفة أنه قال: المحيض والحيض: اجتماع الدم إلى ذلك المكان ومنه سمى الحوض حوضا لاجتماع الماء فيه.
قال الفارسي في مجمعه - بعدما نقل ما ذكرناه - وهذا زلل ظاهر لأن الحوض من ذوات الواو يقال: حضت أحوض أي اتخذت حوضا واستحوض الماء: إذا اجتمع وسميت الحائض حائضا عند سيلان الدم منها لا عند اجتماع الدم في رحمها وكذلك المستحاضة تسمى بذلك عند استمرار السيلان بها فإذا أخذ الحيض من الحوض خطأ لفظا ومعنى فلست أدري كيف وقع؟
وما ذكره من جهة المعنى: فليس بالقاطع لأن تلك الحالة ليس يمتنع أن يطلق عليها لفظ الاجتماع لا سيما في بعض الأحوال.
الثاني: أبو حبيش بضم الحاء المهملة بعدها باء ثانية الحروف مفتوحة ثم ياء آخر الحروف ساكنة ثم شين معجمة وهو أبو حبيش المطلب بن أسد بن عبد العزى ووقع في أكثر نسخ مسلم عبد المطلب وذلك غلط عندهم والصواب المطلب كما ذكرنا.
الثالث: قولها: "استحاض" قد تقدم معنى الاستحاضة فيقال منه: استحيضت المرأة مبينا للمفعول ولم يبن هذا الفعل للفاعل كما في قولهم نفست المرأة ونتجت الناقة وأصل الكلمة: من الحيض والزوائد التي لحقتها للمبالغة كما يقال: قر في المكان ثم يزاد للمبالغة فيقال: استقر ويقال: أعشب المكان ثم يبالغ فيه فيقال: اعشوشب وكثيرا ما تجيء الزوائد لهذا المعنى.
ـــــــ
1 البخاري "325" "662" واللفظ للبخاري.
2 البخاري "306" و"320".(1/85)
الرابع: الطهارة تطلق بإزاء النظافة وهو الوضع اللغوي وتطلق بإزاء استعمال المطهر فيقال: الوضوء طهارة صغرى والغسل طهارة كبرى وتطلق ويراد بها: الحكم الشرعي المرتب على استعمال المطهر فيقال لمن ارتفع عنه مانع الحدث: هو على طهارة ولمن لم يرتفع عنه المانع: هو على غير طهارة.
فإذا ثبت هذان فنقول: قولها: "فلا أطهر" يحمل على الوضع اللغوي وكنت باللفظة عن عدم النظافة الدم لأن النساء لم يكن يستعملن المطهر في ذلك الوقت ولا هي أيضا عالمة بالحكم الشرعي فإنها جاءت تسأل عنه فتعين حمله على الوضع اللغوي ثم حقيقته: استمرار الدم وعليه حمله بعضهم ويمكن حمله على المبالغة ومجاز كلام العرب لكثرة تواليه وقرب بعضه من بعض.
الخامس: قولها: "أفأدع الصلاة؟" سؤال عن استمرار حكم الحيض في حالة دوام الدم وإزالته وهو كلام من قرر عنده: أن الحائض ممنوعة من الصلاة.
السادس: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا إنما ذلك عرق" فيه دليل على أن الصلاة لا يتركها من غلبه الدم من جرح أو انبثاق1 عرق كما فعل عمر رضي الله عنه حيث صلى وجرحه يثعب2 دما3.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما ذلك عرق" ظاهره: انبثاق الدم من عرق وقد جاء في الحديث: "عرق وانفجر" ويحتمل أن يكون من مجاز التشبيه إن كان سبب الاستحاضة كثرة مادة الدم وخروجه من مجاري الحيض المعتادة.
السابع: في الحديث دليل على أن الحائض تترك الصلاة من غير قضاء وهو كالإجماع من الخلف والسلف في تركها وعدم وجوب القضاء ولم يخالف في عدم وجوب القضاء إلا الخوارج نعم استحب بعض السلف للحائض إذا دخل وقت الصلاة: أن تتوضأ وتستقبل القبلة وتذكر الله عز وجل وأنكره بعضهم.
الثامن: قوله صلى الله عليه وسلم: "قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها" رد إلى أيام العادة.
و المستحاضة إما مبتدأة وإما معتادة وكل منهما إما مميزة أو غير مميزة فهذه أربعة والحديث قد دل بلفظه على أن هذه المرأة كانت معتادة لقوله صلى الله عليه وسلم: "دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها" وهذا يقتضي أنها كانت لها أيام تحيض فيها وليس في هذا اللفظ الذي في هذه الرواية ما يدل على أنها كانت مميزة أو غير مميزة فإن ثبت في هذا الحديث رواية أخرى تدل على.
ـــــــ
1 انبثق انفجر القاموس بثق.
2 ثعب الماء والدم إذا سال القاموس ثعب.
3 موطأ مالك "1/60".(1/86)
التمييز ليس لها معارض فذاك وإن لم يثبت فقد يستدل بهذه الرواية من يرى الرد إلى أيام العادة سواء كانت مميزة أو غير مميزة وهو اختيار أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي.
والتمسك به ينبني على قاعدة أصولية وهي ما يقال إن ترك الاستفصال في قضايا الأحوال مع قيام الاحتمال ينزل منزلة عموم المقال ومثلوه بقوله صلى الله عليه وسلم فيما روي لفيروز وقد أسلم على أختين "اختر أيتهما شئت" 1 ولم يستفصله هل وقع العقد عليها مرتبا أو متقارنا؟ وكذا نقول ههنا لما سألت هذه المرأة عن حكمها في الاستحاضة ولم يستفصلها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كونها مميزة أو غير مميزة كان دليلا على أن هذا الحكم عام في المميزة وغيرها كما قالوا في حديث فيروز الذي اعترض به ثم يرد ههنا أيضا وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يجوز أن يكون عالما حال الواقعة كيف وقعت فأجاب على ما علم وكذا يقال هنا: يجوز أن يكون علم حال الواقعة في التمييز أو عدمه.
وقوله في رواية: "و ليس بالحيضة فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي" اختار بعضهم في قوله: "وليس بالحيضة" كسر الحاء أي الحالة المألوفة المعتادة والحيضة بالفتح المرة من الحيض2.
وقوله: "فإذا أقبلت" تعليق الحكم بالإقبال والإدبار فلا بد أن يكون معلوما لها بعلامة تعرفها فإن كانت مميزة وردت إلى التمييز فإقبالها بدء الدم الأسود وإدبارها إدبار ما هو بصفة الحيض وإن كانت معتادة وردت إلى العادة فإقبالها وجود الدم في أول أيام العادة وإدبارها انقضاء أيام العادة.
وقد ورد في حديث فاطمة بنت أبي حبيش هذه ما يقتضي الرد إلى التمييز وقالوا: إن حديثها في المميزة وحمل قوله: "فإذا أقبلت الحيضة" على الحيضة المألوفة التي هي بصفة الدم المعتاد وأقوى الروايات في الرد إلى التمييز: الرواية التي فيها: "دم الحيض أسود يعرف فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة" 3.
وأما الرد إلى العادة: فقد ذكرناها في الرواية الأولى التي ذكرها المصنف وقد يشير إليه في هذه الرواية قوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا ذهب قدرها" فالأشبه أنه يريد قدر أيامها.
وصحف بعض الطلبة هذه اللفظة فقال فإذا ذهب قذرها بالذال المعجمة المفتوحة وإنما هو بالمهملة الساكنة أي قدر وقتها والله أعلم.
ـــــــ
1 هذا لفظ الترمذي "1129" ولفظ أبي داود "2243" "طلق..." وقال أبو عيسى هذا حديث حسن غريب.
2 وبالكسر الاسم القاموس حيض.
3 أبو داود "286" والنسائي "362" "363".(1/87)
وقوله: "فاغسلي عنك الدم وصلي" مشكل في ظاهره لأنه لم يذكر الغسل ولا بد بعد انقضاء الحيض من الغسل.
وحمل بعضهم هذا الإشكال على أن جعل الإدبار: انقضاء أيام الحيض والاغتسال وجعل قوله: "فاغسلي عنك الدم" محمولا على دم يأتي بعد الغسل.
والجواب الصحيح: أن هذه الرواية - وإن لم يذكر فيها الغسل - فقد ذكر في رواية أخرى صحيحة فقال فيها: "واغسلي" 1.
وفي الحديث دليل على نجاسة دم الحيض.
2 - عن عائشة رضي الله عنها: "أن أم حبيبة استحيضت سبع سنين فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فأمرها أن تغتسل قالت: فكانت تغتسل لكل صلاة"2.
أم حبيبة هذه: ابنة جحش بن رآب الأسدي أخت زينت بنت جحش وكانت تحت عبد الرحمن بن عوف ويقال فيها: أم حبيب وأهل السير يقولون: إن المستحاضة حمنة قال أبو عمر ابن عبد البر: والصحيح عند المحدثين: أنهما كانتا مستحاضتين جميعا ووقع في نسخ من هذا الكتاب: "فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك أن تغتسل لكل صلاة" وليس في الصحيحين ولا أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تغتسل لكل صلاة وإنما في الصحيح3: "فأمرها أن تغتسل فكانت تغتسل لكل صلاة" وفي كتاب مسلم4 عن الليث لم يذكر ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أم حبيبة أن تغتسل لكل صلاة وإنما هو شيء فعلته هي.
وذهب قوم إلى أن المستحاضة تغتسل لكل صلاة وقد ورد الأمر بالغسل لكل صلاة في رواية ابن اسحاق خارج الصحيح5.
والذين لم يوجبوا الغسل لكل صلاة حملوا ذلك على مستحاضة ناسية للوقت والعدد يجوز في مثلها أن ينقطع الدم عنها في وقت كل صلاة.
واستدل بعضهم على أنه لم لا يلزمها الغسل لك لصلاة بقوله في الحديث المتقدم: "اغتسلي وصلي" نم حيث إنه يأمر بتكراره لكل صلاة ولو وجب لأمر به.
ـــــــ
1 لفظ البخاري "ثم اغتسلي" "325".
2 البخاري "327" ومسلم "334" "64" واللفظ للبخاري.
3 هي رواية الباب.
4 مسلم "334" "63".
5 هي رواية أبي داود "292 و293".(1/88)
واستدل أيضا بتلك الرواية على من يقول1: إن المستحاضة تجمع بين صلاتين بغسل واحد وتغتسل للصبح وحده ووجه الدليل: ما ذكره.
3 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد كلانا جنب2.
4 - وكان يأمرني فأتزر فيباشرني وأنا حائض3.
5 - وكان يخرج رأسه إلي وهو معتكف فأغسله وأنا حائض"4.
الكلام على هذا الحديث من وجوه:
أحدها: هو أن اغتسال الرجل والمرأة في إناء واحد جائز وقد مر الكلام فيه.
الثاني: جواز مباشرة الحائض فوق الإزار لقولها: "فأتزر فيباشرني" واختلف الفقهاء فيما تحت الإزار وليس في هذا الحديث تصريح بمنع ولا جواز وإنما فيه فعل النبي صلى الله عليه وسلم والفعل بمجرده لا يدل على الوجوب على المختار.
الثالث: فيه جواز استخدام الرجل امرأته فيما خف من الشغل واقتضته العادة.
الرابع: فيه جواز مباشرة الحائض بمثل هذا الفعل من الطاهر فإن بدنها غير نجس إذا لم يلاق نجاسة.
الخامس: فيه أن المعتكف إذا أخرج رأسه من المسجد لم يفسد اعتكافه وقد يقاس عليه غيره من الأعضاء إذا لم يخرج جميع بدنه من المسجد وقد يستدل به على أن من حلف أن لا يخرج من بيت أو من غيره فخرج ببعض بدنه لم يحدث ووجه الاستدلال أن الحديث دل على أن خروج بعض البدن لا يكون كخروج كله فيما يعتبر فيه الكون في المكان المعين وإذا لم يكن خروج بعضه كخروج كله لم يحنث بذلك فإن اليمين إنما تعلقت بخروجه وحقيقته في الكل أعني كل البدن.
6 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكئ في حجري فيقرأ القرآن وأنا حائض"5.
في مثل ما تقدم من طهارة بدن الحائض وما يلابسها مما لم تلحقه نجاسة وجواز ملابستها أيضا كما قلناه.
ـــــــ
1 وهوقول إبراهيم النخعي وعبد الله بن شداد وفرقه وروي عن علي وابن عباس أيضا مثل ذلك راجع الاستذكار "3: 229 – 231" والتمهيد "16: 91".
2 البخاري "229" ومسلم "321" "45".
3 البخاري "300" ومسلم "293" "1".
4 البخاري "301" ومسلم "297" "6".
5 البخاري "297" و"7549" ومسلم "301".(1/89)
وفيه إشارة إلى أن الحائض لا تقرأ القرآن لأن قولها: "فيقرأ القرآن" إنما يحسن التنصيص عليه إذا كان ثمة ما يوهم منعه ولو كانت قراءة القرآن للحائض جائزة لكان هذا الوهم منتفيا أعني توهم امتناع قراءة القرآن في حجر الحائض ومذهب الشافعي الصحيح امتناع قراءة الحائض للقرآن ومشهور مذهب أصحاب مالك: جوازه.
7 - عن معاذة قالت: "سألت عائشة رضي الله عنها فقالت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت: أحرورية أنت؟ فقلت: لست بحرورية ولكني أسأل فقالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة"1.
معاذة بنت عبد الله العدوية امرأة صلة بن أشيم بصرية أخرج لها الشيخان في صحيحيهما.
و الحروري من ينسب إلى حرواء وهو موضع بظاهر الكوفة اجتمع فيه أوائل الخوارج ثم كثر استعماله حتى استعمل في كل خارجي ومنه قول عائشة لمعاذة: "أحرورية أنت؟" أي أخارجية وإنما قالت ذلك لأن مذهب الخوارج أن الحائض تقضي الصلاة وإنما ذكرت ذلك أيضا لأن معاذة أوردت السؤال على غير جهة السؤال المجرد بل صيغتها قد تشعر بتعجب أو إنكار فقالت لها عائشة: "أحرورية أنت" فأجابتها بأن قالت لا ولكني أسأل أي أسأل سؤالا مجردا عن الإنكار والتعجب بل لطلب مجرد العلم بالحكم فأجابتها عائشة بالنص ولم تتعرض للمعنى لأنه أبلغ وأقوى في الردع عن مذهب الخوارج وأقطع لمن يعارض بخلاف المعاني المناسبة فإنها عرضة للمعارضة.
والذي ذكره العلماء من المعنى في ذلك أن الصلاة تتكرر فإيجاب قضائها مفض إلى حرج ومشقة فعفى عنه بخلاف الصوم فإنه غير متكرر فلا يفضي قضاؤه إلى حرج وقد اكتفت عائشة رضي الله عنها في الاستدلال على إسقاط القضاء بكونه لم يؤمر به فيحمل ذلك على وجهين.
أحدهما: أن تكون أخذت إسقاط القضاء من سقوط الأداء ويكون مجرد سقوط الأداء دليلا على سقوط القضاء إلا أن يوجد معارض وهو الأمر بالقضاء كما في الصوم.
و الثاني: - وهو الأقرب - أن يكون السبب في ذلك أن الحاجة داعية إلى بيان هذا الحكم فإن الحيض يتكرر فلو وجب قضاء الصلاة فيه لوجب بيانه وحيث لم يبين دل على عدم الوجوب لا سيما وقد اقترن بذلك قرينة أخرى وهي الأمر بقضاء الصوم وتخصيص الحكم به وفي الحديث دليل لما يقوله الأصوليون من أن قول الصحابي كنا نؤمر وننهى في حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلا لم تقم الحجة به.
ـــــــ
1 البخاري "321" ومسلم "335" "69" واللفظ له وفي البخاري عن معاذ أن امرأة سألت عائشة.(1/90)
كتاب الصلاة
باب المواقيت
...
كتاب الصلاة
1 - باب المواقيت
1 - عن أبي عمرو الشيباني - واسمه سعد بن إياس - قال: حدثني صاحب هذه الدار وأشار بيده إلى دار عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي العمل أحب إلى الله؟ قال: "الصلاة على وقتها", قلت: ثم أي؟ قال: "بر الوالدين", قلت: ثم أي؟ قال: "الجهاد في سبيل الله", قال: حدثني بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو استزدته لزادني"1.
عبد الله بن مسعود بن الحرث بن شمخ هذلي يكنى أبا عبد الرحمن شهد بدرا يعرف بابن أم عبد توفي بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين وصلى عليه الزبير بن العوام ودفن بالبقيع وكان له يوم مات نيف وسبعون سنة من أكابر الصحابة وفقهائهم.
قوله حدثني صاحب هذه الدار دليل على أن الإشارة يكتفي بها عن التصريح بالاسم وتنزل منزلته إذا كانت معينة للمشار إليه مميزة عن غيره.
وسؤاله عن أفضل الأعمال طلب.
والأعمال ههنا لعلها محمولة على الأعمال البدنية كما قال الفقهاء أفضل عبادات البدن الصلاة واحترزوا بذلك عن عبادة المال.
وقد تقدم لنا كلام في العمل هل يتناول عمل القلب أم لا؟ فإذا جعلناه مخصوصا بأعمال البدن تبين من هذا الحديث أنه لم يرد أعمال القلوب فإن من عملها ما هو أفضل كالإيمان وقد ورد في بعض الحديث ذكره مصرحا به2 أعني الإيمان فتبين بذلك الحديث أنه أريد بالأعمال ما يدخل فيه أعمال القلوب وأريد بها في هذا الحديث ما يختص بعمل الجوارح3.
ـــــــ
1 البخاري "527" ومسلم "85" "139" واللفظ للبخاري.
2 وذلك في البخاري "26" ومسلم "83" سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل؟ قال: "إيمان بالله عز وجل" قيل ثم ماذا؟ قال: "الجهاد في سبيل الله" قيل: ثم ماذا؟ قال: "حج مبرور" ولفظ البخاري "إيمان بالله ورسوله".
3 قال ابن الملقن في الإعلام "2/216" والمراد هنا: عمل القلب والجوارح حيث وقع الجواب بالصلاة على وقتها وتكون النية مطلوبة فيه باللازم لا بمراد الحديث.(1/91)
وقوله: "الصلاة على وقتها" ليس فيه ما يقتضي أول الوقت وآخره وكأن المقصود به الاحتراز عما إذا وقعت خارج الوقت قضاء وأنها لا تتنزل هذه المنزلة وقد ورد في حديث آخر: "الصلاة لوقتها" 1 وهو أقرب لأن يستدل به على تقديم الصلاة في أول الوقت من هذا اللفظ.
وقد اختلفت الأحاديث في فضائل الأعمال وتقديم بعضها على بعض والذي قيل في هذا إنها أجوبة مخصوصة لسائل مخصوص أو من هو في مثل حاله أو هي مخصوصة ببعض الأحوال التي ترشد القرائن إلى أنها المراد.
ومثال ذلك أن يحمل ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: "ألا أخبركم بأفضل أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم..." 2 وفسره بذكر الله تعالى على أن يكون ذلك أفضل الأعمال بالنسبة إلى المخاطبين بذلك أو من هو في مثل حالهم أو من هو في صفاتهم ولو خوطب بذلك الشجاع الباسل المتأهل للنفع الأكبر في القتال لقيل له الجهاد ولو خوطب به من لا يقوم مقامه في القتال ولا يتمحض حاله لصلاحية التبتل لذكر الله تعالى وكان غنيا ينتفع بصدقة ماله لقيل له الصدقة وهكذا في بقية أحوال الناس قد يكون الأفضل في حق هذا مخالفا للأفضل في حق ذاك بحسب ترجيح المصلحة التي تليق به.
وأما "بر الوالدين" فقد قدم في الحديث على الجهاد وهو دليل على تعظيمه ولا شك في أن أذاهما بغير ما يجب من البر في غير هذا ففي ضبطه إشكال كبير.
وأما "الجهاد في سبيل الله تعالى" فمرتبته في الدين عظيمة والقياس يقتضي أنه أفضل من سائر الأعمال التي هي وسائل فإن العبادات على قسمين منها ما هو مقصود لنفسه ومنها ما هو وسيلة إلى غيره وفضيلة الوسيلة بحسب فضيلة المتوسل إليه فحيث تعظم فضيلة المتوسل إليه تعظم فضيلة الوسيلة ولما كان الجهاد في سبيل الله وسيلة إلى إعلان الإيمان ونشره وإخمال الكفر ودحضه كانت فضيلة الجهاد بحسب فضيلة ذلك والله أعلم.
ـــــــ
1 هي رواية مسلم "85".
2 تمامه من لفظ الترمذي "3377" "..وخير لكم من إنفاق الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟". قالوا: بلى قال: "ذكر الله تعالى" فقال معاذ بن جبل رضي الله عنه ما شيء أنجى من عذاب الله من ذكر الله.
قال أبو عيسى وقد روى بعضهم هذا الحديث عن عبد الله بن سعيد مثل هذا بهذا الإسناد وروى بعضهم عنه فأرسله.(1/92)
2 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: "لقد كان رسول الله يصلي الفجر فيشهد معه نساء من المؤمنات متلفعات بمروطهن ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد من الغلس"1.
المروط: أكسية معلمة تكون من خز وتكون من صوف ومتلفعات: ملتحفات والغلس: اختلاط ضياء الصبح بظلمة الليل وهذا الحديث حجة لمن يرى التغليس في صلاة الفجر وتقديمها في أول الوقت لا سيما مع ما روي من طول قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في صلة الصبح وهذا مذهب مالك والشافعي.
وخالف أبو حنيفة ورأى أن الإسفار في بها أفضل لحديث ورد فيه: "أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر" 2 وفيه دليل على شهود النساء الجماعة بالمسجد مع الرجال وليس في هذا الحديث ما يدل على كونهن عجزا أو شواب وكره بعضهم الخروج للشواب.
وقولها متلفعات بالعين ويروى متلففات بالفاء والمعنى متقارب إلا أن التلفع3 يستعمل مع تغطية الرأس قال ابن حبيب: لا يكون الالتفاع إلا بتغطية الرأس4 واستأنسوا لذلك بقول عبيد بن الأبرص:
كيف ترجون سقوطي بعدما ... لفع الرأس بياض وصلع؟
واللفاع: ما التفع به واللحاف: ما التحف به.
وقد فسر المصنف المروط بكونها أكسية من صوف وخز وزاد بعضهم في صفتها أن تكون مربعة وقال بعضهم: إن سداها من شعر وقيل: إنه جاء مفسرا في الحديث على هذا وقالوا: إن قول امرئ القيس:5.
على أثرينا ذيل مرط مرجل
قالوا: المرط ههنا من خز.
وفسر الغلس بأنه اختلاط ضياء الصبح في ظلمة الليل والغلس والغبش متقاربان والفرق.
ـــــــ
1 البخاري "372" و"578" ومسلم "645" واللفظ للبخاري.
2 هذا لفظ الترمذي "154" عن رافع بن خديج ولفظ أبي داود: "أصبحوا..." "425" وابن ماجه "672".
3 قال ابن الأثير في النهاية "4/261" اللفاع ثوب يجلل به الجسد كله ثوبا كان أو غيره وتلفع بالثوب اشتمل به.
4 وتمام قوله كما في شرح الزرقاني على الموطأ "1/19" وأخطأ من قال إنه مثل الاشتمال وأما التلفف فيكون مع تغطية الرأس وكشفه.
5 عجز وصدره: خرجت بها تمشي تجر وراءنا معلقة امرئ القيس البيت "28".(1/93)
بينهما أن الغلس في آخر الليل وقد يكون الغبش في آخره وأوله1 وأما من قال الغبس بالغين والباء والسين المهملة فغلظ عندهم.
3 - عن جابر بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة والعصر والشمس نقية والمغرب إذا وجبت والعشاء أحيانا وأحيانا إذا رآهم اجتمعوا عجل وإذا رآهم أبطؤوا أخر والصبح كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها بغلس"2.
الهاجرة: هي شدة الحر بعد الزوال.
الحديث يدل على الفضيلة في أوقات هذه الصلوات فأما الظهر: فقوله: يصلي الظهر بالهاجرة يدل على تقديمها في أول الوقت فإنه قد قيل في الهاجرة والهجير إنهما شدة الحر وقوته ويعارضه ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: "إذا اشتد الحر فأبردوا" 3 ويمكن الجمع بينهما بأن يكون أطلق اسم الهاجرة على الوقت الذي بعد الزوال مطلقا فإنه قد تكون فيه الهاجرة في وقت فيطلق على الوقت مطلقا بطريق الملازمة وإن لم يكن وقت الصلاة في حر شديد وفيه بعد وقد يقرب بما نقل عن صاحب "العين"4 أن الهجير والهاجرة نصف النهار فإذا أخذ بظاهر هذا الكلام كان مطلقا على الوقت.
وفيه وجه آخر وهو أن الفقهاء اختلفوا في أن الإبراد رخصة أو سنة ولأصحاب الشافعي وجهان في ذلك5 فإن قلنا إنه رخصة فيكون قوله صلى الله عليه وسلم. "أبردوا" أمر إباحة ويكون تعجيله لها في الهاجرة أخذا بالأشق والأولى أو يقول من يرى أن الإبراد سنة: إن التهجير لبيان الجواز وفي هذا بعد لأن قوله كان يشعر بالكثرة والملازمة عرفا.
وقوله: "و العصر والشمس نقية" يدل على تعجيلها أيضا خلافا لمن قال: إن أول وقتها ما بعد القامتين.
وقوله: "والمغرب إذا وجبت" أي الشمس الوجوب: السقوط ويستدل به على أن سقوط قرصها يدخل به الوقت والأماكن تختلف فما كان منها بين الرائي وبين قرص.
ـــــــ
1 غبش في القاموس الغبش بقية الليل أو ظلمة آخره.
2 البخاري "560" ومسلم "46" "233" واللفظ للبخاري وفيه: "والصبح كانوا أو كان."
3 البخاري "533" ومسلم "615" "180" عن ابن عمر وتمامه "....بالصلاة فإن شدة الحر من فيح الجهنم".
4 هو أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي راجع كتاب العين "1003".
5 قال النووي في شرح مسلم "5/117" والصحيح استحباب الإبراد وبه قال جمهور العلماء وهو المنصوص للشافعي رضي الله عنه تعالى وبه قال جمهور الصحابة لكثرة الأحاديث الصحيحة فيه المشتملة على فعله والأمر به في مواطن كثيرة ومن جهة من الصحابة رضي الله عنهم.(1/94)
الشمس لم يكتف بغيبوبة القرص عن الأعين ويستدل على غروبها بطلوع الليل من المشرق قال: صلى الله عليه وسلم: "إذا غربت الشمس من ههنا وطلع الليل من ههنا فقد أفطر الصائم" 1 أو كما قال فإن لم يكن ثم حائل فقد قال بعض أصحاب مالك: إن الوقت يدخل بغيبوبة الشمس وإشعاعها المستولي عليها وقد استمر العمل بصلاة المغرب عقيب الغروب.
وأخذ منه: أن وقتها واحد والصحيح عندي أن الوقت مستمر إلى غيبوبة الشفق.
وأما العشاء فاختلف الفقهاء فيها فقال قوم: تقديمها أفضل وهو ظاهر مذهب الشافعي وقال قوم: تأخيرها أفضل لأحاديث سترد في الكتاب وقال قوم: إن اجتمعت الجماعة فالتقديم أفضل وإن تأخرت فالتأخير أفضل وهو قول عند المالكية ومستندهم هذا الحديث وقال قوم: إنه يختلف باختلاف الأوقات ففي الشتاء وفي رمضان: تؤخر وفي غيرهما تقدم وإنما أخرت في الشتاء لطول الليل وكراهة الحديث بعدها.
وهذا الحديث يتعلق بمسألة تكلفوا فيها وهو أن صلاة الجماعة أفضل من الصلاة في أول الوقت أو بالعكس؟ حتى إنه إذا تعارض في حق شخص أمران أحدهما: أن يقدم الصلاة في أول الوقت منفردا أو يؤخر الصلاة في الجماعة أيها أفضل؟ والأقرب عندي: أن التأخير لصلاة الجماعة أفضل وهذا الحديث يدل عليه لقوله: "وإذا أبطؤوا أخر" فأخر لأجل الجماعة مع إمكان التقديم ولأن التشديد في ترك الجماعة والترغيب في فعلها موجود في الأحاديث الصحيحة وفضيلة الصلاة في أول الوقت وردت على جهة الترغيب في الفضيلة وأما جانب التشديد في التأخير عن أول الوقت فلم يرد كما في صلاة الجماعة وهذا دليل على الرجحان لصلاة الجماعة.
نعم إذا صح لفظ يدل دلالة ظاهرة على أن الصلاة في أول وقتها أفضل الأعمال كان متمسكا لمن يرى خلاف هذا المذهب وقد قدمنا في الحديث الماضي: أنه ليس فيه دليل على الصلاة في أول الوقت فإن قوله: "على وقتها" لا يشعر بذلك والحديث الذي فيه "الصلاة لوقتها" ليس فيه دلالة قوية الظهور في أول الوقت.
وقد تقدم تفسير الغلس وأن الحديث دليل على أن التغليس بالصبح أفضل والحديث المعارض له وهو قوله: "أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر" قيل فيه إن المراد بالإسفار: تبين طلوع الفجر ووضوحه للرائي يقينا.
وفي هذا التأويل نظر فإنه قبل التبيين والتيقن في حالة الشك: لا تجوز الصلاة فلا أجر فيها والحديث يقتضي بلفظة أفعل فيه أن ثم أجرين أحدهما: أكمل من الآخر فإن صيغة.
ـــــــ
1 البخاري "1954" ومسلم "1100" عن عمر.(1/95)
"أفعل" تقتضي المشاركة في الأصل مع الرجحان لأحد الطرفين حقيقة وقد ترد من غير اشتراك في الأصل قليلا على وجه المجاز فيمكن أن يحمل عليه ويرجح وإن كان تأويلا بالعمل من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعده من الخلفاء.
4 - عن أبي المنهال سيار بن سلامة قال: "دخلت أنا وأبي على أبي برزة الأسلمي فقال له أبي: كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي المكتوبة؟ فقال: كان يصلي الهجير التي تدعونها الأولى حين تدحض الشمس ويصلي العصر ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية ونسيت ما قال في المغرب وكان يستحب أن يؤخر من العشاء التي تدعونها العتمة وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها وكان ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه وكان يقرأ بالستين إلى المائة"1.
أبو برزة الأسلمي اختلف في اسمه واسم أبيه والأشهر الأصح نضلة بن عبيد أو نضلة بن عبد الله ويقال نضلة بن عائذ بالذال المعجمة مات سنة أربع وستين وقيل مات بعد ولاية ابن زياد قبل موت معاوية سنة ستين وكانت وفاته بالبصرة.
وقد تقدم أن لفظة كان تشعر عرفا بالدوام والتكرار كما يقال: كان فلان يكرم الضيوف وكان فلان يقاتل العدو إذا كان ذلك دأبه وعادته.
والألف واللام في المكتوبة للاستغراق ولهذا أجاب بذكر الصلوات كلها لأنه فهم من السائل العموم.
وقوله: "كان يصلي الهجير" فيه حذف مضاف تقديره كان يصلي صلاة الهجير وقد قدمنا قبل أن الهجير والهاجرة شدة الحر وقوته.
وإنما قيل لصلاة الظهر الأولى لأنها أول صلاة أقامها جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم على ما جاء في حديث إمامة جبريل عليه السلام2.
وقوله: "حين تدحض الشمس" بفتح التاء والحاء والمراد به ههنا زوالها واللفظة من حيث الوضع أعم من هذا وظاهر اللفظ يقتضي وقوع صلاته صلى الله عليه وسلم الظهر عند الزوال ولا بد من تأويله.
ـــــــ
1 البخاري "547" ومسلم "647" "235" واللفظ للبخاري.
2 أخرجه البخاري "3221" ومسلم "610" 166" عن الزهري أن عمر بن عبد العزيز أخر العصر شيئا فقال له عروة: أما إن جبريل عليه السلام قد نزل فصلى إمام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له عمر: اعلم ما تقول يا عروة فقال: سمعت بشير بن أبي مسعود يقول: سمعت أبا مسعود يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "نزل جبريل فأمني فصليت معه ثم صليت معه ثم صليت معه ثم صليت معه ثم صليت معه ثم صليت معه" يحست بأصبعه خمس صلوات, وهذا لفظ مسلم.(1/96)
وقد اختلف أصحاب الشافعي فيما تحصل به فضيلة أول الوقت فقال بعضهم: إنما تحصل بأن يقع أول الصلاة مع أول الوقت بحيث تكون شروط الصلاة متقدمة على دخول الوقت وتكون الصلاة واقعة في أوله وقد يتمسك هذا القائل بظاهر هذا الحديث فإنه قال: يصلي حين تزول فظاهره وقوع أول الصلاة في أول جزء من الوقت عند الزوال لأن قوله: يصلي يجب حمله على يبتدئ بالصلاة فإنه لا يمكن إيقاع جميع الصلاة حين تدحض الشمس ومنهم من قال: تمتد فضيلة أول الوقت إلى نصف وقت الاختيار فإن النصف السابق من الشيء ينطلق عليه أول الوقت بالنسبة إلى المتأخر.
ومنهم من قال وهو الأعدل إنه إذا اشتغل بأسباب الصلاة عقيب دخول أول الوقت وسعى إلى المسجد وانتظر الجماعة وبالجملة: لم يشتغل بعد دخول الوقت إلا بما يتعلق بالصلاة فهو مدرك لفضيلة أول الوقت ويشهد لهذا فعل السلف والخلف ولم ينقل عن أحد منهم أنه كان يشدد في هذا حتى يوقع أول تكبيرة في أول جزء من الوقت.
وقوله: والشمس حية مجاز عن بقائها بيضاء وعدم مخالطة الصفرة لها وفيه دليل على ما قدمناه من الحديث السابق من تقديمها.
وقوله: وكان يستحب أن يؤخر من العشاء يدل على استحباب التأخير قليلا لما تدل عليه لفظة من من التبعيض الذي حقيقته راجعة إلى الوقت أو الفعل المتعلق بالوقت.
وقوله: "التي تدعونها: العتمة" اختيار لتسميتها بالعشاء كما في لفظ الكتاب العزيز وقد ورد في تسميتها بالعتمة ما يقتضي الكراهة وورد أيضا في الصحيح تسميتها بالعتمة1 ولعله لبيان الجواز أو لعل المكروه: أن يغلب عليها اسم العتمة بحيث يكون اسم العشاء لها مهجورا أو كالمهجور.
وكراهية النوم قبلها لأنه قد يكون سببا لنسيانها أو لتأخيرها إلى خروج وقتها المختار.
وكراهة الحديث بعدها إما لأنه يؤدي إلى سهر يفضي إلى النوم عن الصبح أو إلى إيقاعها في غير وقتها المستحب أو لأن الحديث قد يقع فيه من اللغظ ما لا ينبغي ختم اليقظة به أو لغير ذلك والله أعلم.
والحديث ههنا: قد يخص بما لا يتعلق بمصلحة الدين أو إصلاح المسلمين من الأمور.
ـــــــ
1 البخاري "615" ومسلم "437" ولفظ مسلم "....ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوها ولو حبوا".(1/97)
الدنيوية قد صح: "أن النبي صلى الله عليه وسلم حدث أصحابه بعد العشاء" وترجم عليه البخاري باب السمر بالعلم1 ويستثنى منه أيضا ما تدعو الحاجة إلى الحديث فيه من الأشغال التي تتعلق بها مصلحة الإنسان.
وقوله وكان ينفتل الخ دليل على التغليس بصلاة الفجر: فإن ابتداء معرفة الإنسان لجليسه يكون مع بقاء الغبش.
وقوله وكان يقرأ بالستين إلى المائة أي بالستين من الآيات إلى المائة منها وفي ذلك مبالغة في التقدم في أول الوقت لا سيما مع ترتيل قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
5 - عن علي رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الخندق: "ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس" 2.
وفي لفظ لمسلم: "شغلونا عن الصلاة الوسطى" - صلاة العصر - ثم صلاها بين المغرب والعشاء3.
6 - وله عن عبد الله بن مسعود قال: حبس المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة العصر حتى احمرت الشمس أو اصفرت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شغلونا عن الصلاة الوسطى - صلاة العصر - ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارا أو حشا الله أجوافهم وقبورهم نارا" 4.
فيه بحثان: أحدهما: أن العلماء اختلفوا في تعيين الصلاة الوسطى فذهب أبو حنيفة وأحمد إلى أنها العصر ودليلهما هذا الحديث مع غيره وهو قوي في المقصود وهذا المذهب هو الصحيح في المسألة.
وميل مالك والشافعي إلى اختيار صلاة الصبح والذين اختاروا ذلك اختلفوا في طريق الجواب عن هذا الحديث فمنهم من سلك فيه مسلك المعارضة وعورض بالحديث الذي رواه مالك من حديث أبي يونس مولى عائشة أم المؤمنين أنه قال أمرتني عائشة: أن أكتب لها مصحفا ثم قالت: إذا بلغت هذه الآية فآذني: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى}.
ـــــــ
1 من كتاب العلم "116" و"117" قال عبد الله بن عمر صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم العشاء في آخر حياته."
2 البخاري "4111" ومسلم "627" "202" واللفظ للبخاري.
3 مسلم "627" "206" ولفظة ثم صلاها بين العشاءين "بين المغرب والعشاء".
4 مسلم "628" "206".(1/98)
[البقرة: 238] فلما بلغتها آذنتها فأملت علي: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر وقوموا لله قانتين ثم قالت: سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى مالك أيضا عن زيد بن أسلم عن عمرو بن رافع قال كنت أكتب مصحفا لحفصة أم المؤمنين فقالت: إذا بلغت هذه الآية فآذني: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} فلما بلغتها آذنتها فأملت علي: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين.
ووجه الاحتجاج منه: أنه عطف صلاة العصر على ال الصلاة الوسطى والمعطوف والمعطوف عليه متغايران ويقع الكلام في هذا من وجهين:
أحدهما: أنه يتعلق بمسألة أصولية وهو أن ماروى من القرآن بطريق الآحاد - إذا لم يثبت كونه قرآنا - فهل يتنزل منزلة الأخبار في العمل به؟ فيه خلاف بين الأصوليين والمنقول عن أبي حنيفة: أنه يتنزل منزلة الأخبار في العمل به ولهذا أوجب التتابع في صوم الكفارة للقراءة الشاذة فصيام ثلاثة أيام متتابعات والذي اختاره خلاف ذلك وقالوا: لا سبيل إلى إثبات كونه قرأنا بطريق الآحاد ولا إلى اثبات كونه خبرا لأنه لم يرو على أنه خبر.
الثاني: احتمال اللفظ للتأويل وأن يكون ذلك كالعطف في قول الشاعر:
إلى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم
فقد وجد العطف ههنا مع اتحاد الشخص وعطف الصفات بعضها على بعض موجود في كلام العرب.
وربما سلك بعض من رجح أن الصلاة الوسطى صلاة الصبح: طريقة أخرى وهو ما يقتضيه قرينة قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} من كونها الصبح الذي فيه القنوت وهذا ضعيف من وجهين:
أحدهما: أن القنوت لفظ مشترك يطلق على القيام وعلى السكوت وعلى الدعاء وعلى كثرة العبادة فلا يتعين حمله القنوت الذي في صلاة الصبح.
الثاني: أنه قد يعطف حكم على حكم وإن لم يجتمعا معا في محل واحد مختصين به فالقرينة ضعيفة.
وربما سلكوا طريقا أخرى وهو إيراد الأحاديث التي تدل على تأكيد أمر صلاة الفجر كقوله صلى الله عليه وسلم: "لو يعلمون ما العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا" ولكونهم كانوا يعلمون نفاق المنافقين بتأخرهم عن صلاة العشاء والصبح.
وهذا معارض بالتأكيدات الواردة في صلاة العصر كقوله صلى الله عليه وسلم: "من صلى البردين دخل(1/99)
الجنة" 1 وكقوله: "فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها" 2 وقد حمل قوله عز وجل: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [قّ: 39] على صلاة الصبح والعصر بل نزيد فنقول: قد ثبت من التشديد في ترك صلاة العصر ما لا نعلمه ورد في صلاة العصر وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله" 3.
وربما سلك من رجح الصبح طريق المعنى وهو أن تخصيص الصلاة الوسطى بالأمر بالمحافظة لأجل المشقة في ذلك وأشق الصلوات: صلاة الصبح لأنها تأتي في حال النوم والغفلة وقد قيل: إن ألذ النوم إغفاءة الفجر فناسب أن تكون هي المحثوث على المحافظة عليها وهذا قد يعارض في صلاة العصر بمشقة أخرى وهي أنها وقت اشتغال الناس بالمعاش والتكسب ولو لم يعارض بذلك لكان المعنى الذي ذكره في صلاة الصبح ساقط الاعتبار مع النص على أنها العصر وللفضائل والمصالح مراتب لا يحيط بها البشر فالواجب اتباع النص فيها.
وربما سلك المخالف لهذا المذهب مسلك النظر في كونها وسطى من حيث العدد وهذا عليه أمران أحدهما: أن الوسطى لا يتعين أن تكون من حيث العدد فيجوز أن تكون من حيث الفضل كما يشير إليه قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143] أي عدولا الثاني: أنه إذا كان منحيث العدد فلا بد من أن يعين ابتداء في العدد يقع بسببه معرفة الوسط وهذا يقع فيه التعارض فمن يذهب إلى أنها الصبح يقول: سبقتها المغرب والعشاء ليلا وبعدها الظهر والعصر نهارا فكانت هي الوسطى ومن يقول هي المغرب يقول: سبق الظهر والعصر وتأخر العشاء والصبح فكانت المغرب هي وسطى ويترجح هذا بأن صلاة الظهر قد سميت الأولى.
وعلى كل حال: فأقوى ما ذكرناه: حديث العطف الذي صدرنا به ومع ذلك: فدلالته قاصرة عن هذا النص الذي استدل به على أنها العصر والاعتقاد المستفاد من هذا الحديث: أقوى من الاعتقاد المستفاد من حديث العطف والواجب على الناظر المحقق: أن يزن الظنون ويعمل بالأرجح منها.
البحث الثاني: قوله: "ثم صلاها بين المغرب والعشاء" يحتمل أمرين.
أحدهما: أن يكون التقدير: فصلاها بين وقت المغرب ووقت العشاء.
ـــــــ
1 الخاري "574" ومسلم "635".
2 البخاري "573" من حديث جرير بن عبد الله.
3 البخاري "553" من حديث بريدة.(1/100)
والثاني: أن يكون التقدير: فصلاها بين صلاة المغرب وصلاة العشاء وعلى هذا التقدير: يكون الحديث دالا على أن ترتيب الفوائت غير واجب لأنه يكون صلاها - أعني العصر الفائتة - بعد صلاة المغرب الحاضرة وذلك لا يراه من يوجب الترتيب إلا أن هذا الاستدلال يتوقف على دليل يرجح هذا التقدير - أعني قولنا: بين صلاة المغرب وصلاة العشاء - على التقدير الأول - أعني قولنا: بين وقت المغرب ووقت العشاء - فإن وجد دليل على هذا الترجيح تم الاستدلال وإلاوقع الإحمال.
وفي هذا الترجيح - الذي أشرنا إليه - مجال للنظر على حسب قواعد علم العربية والبيان وقد ورد التصريح بما يقتضي الترجيح للتقدير الأول وهو: "أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بالعصر وصلى بعدها المغرب" وهو حديث صحيح فلا يلتفت إلى غيره من الاحتمالات والترجيحات والله أعلم.
وحديث ابن مسعود الآتي عقيب هذا الحديث: يدل على أن الصلاة الوسطى: صلاة العصر أيضا كما في الحديث.
وقوله فيه: "حبس المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة العصر حتى احمرت الشمس أو اصفرت" وقت الاصفرار: وقت الكراهة ويكون وقت الاختيار خارجا ولا تؤخر الصلاة عن وقت الاختيار فقد ورد أن ذلك كان قبل نزول قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} [البقرة: 239] والمراد بذلك: أنه لو كانت الآية نزلت لأقيمت الصلاة في حالة الخوف على ما اقتضته الآية.
وقوله: "حتى اصفرت الشمس" قد يتوهم منه مخالفة لما في الحديث الأول من صلاتها بين المغرب والعشاء وليس كذلك بل الحبس انتهى إلى هذا الوقت ولم تقع الصلاة إلا بعد المغرب كما في الحديث الأول وقد يكون ذلك الاشتغال بأسباب الصلاة أو غيرها فما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم مقتض لجواز التأخير إلى ما بعد الغروب.
وفي الحديث: دليل على جواز الدعاء على الكفار بمثل هذا ولعل قائلا يقول: فيه متمسك لعدم رواية الحديث بالمعنى فإن ابن مسعود تردد بين قوله: "ملأ الله" أو "حشا الله" ولم يقتصر على أحد اللفظين مع تقاربهما في المعنى.
وجوابه: أن بينهما تفاوتا فإن قوله: "حشا الله" يقتضي من التراكم وكثرة أجزاء المحشو ما لا يقتضيه "ملأ".
وقد قيل: إن شرط الرواية بالمعنى: أن يكون اللفظان مترادفين لا ينقص أحدهما عن.(1/101)
الآخر على أنه وإن جوزنا بالمعنى فلا شك أن رواية اللفظ أولى فقد يكون ابن مسعود تحرى لطلب الأفضل.
7 - عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: "أعتم النبي صلى الله عليه وسلم بالعشاء فخرج عمر فقال: الصلاة يا رسول الله رقد النساء والصبيان فخرج ورأسه يقطر يقول: "لولا أن أشق على أمتي - أو على الناس - لأمرتهم بهذه الصلاة هذه الساعة".
عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف أبو العباس ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد أكابر الصحابة وعلمائهم كان يقال له البحر لسعة علمه مات بالطائف سنة ثمان وستين في أيام ابن الزبير وولد قبل الهجرة بثلاث سنين في قول الواقدي.
وفي الحديث مباحث:
الأول: يقال عتم الليل يعتم - بكسر التاء - إذا أظلم والعتمة: الظلمة وقيل: إنها اسم لثلث الليل الأول بعد غروب الشفق نقل ذلك عن الخليل وقوله: أعتم أي دخل في العتمة كما يقال: أصبح وأمسى وأظهر قال الله تعالى: {حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] - إلى قوله -: {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 18].
الثاني: اختلف الناس في كراهية تسمية العشاء بالعتمة فمنهم من أجازه واستدل بهذا الحديث وفي الاستدلال به نظر فإن قوله أعتم أي دخل في وقت العتمة والمراد: صلى فيه ولا يلزم من ذلك أن يكون سمى العشاء عتمة وأصح منه: الاستدلال بقوله صلى الله عليه وسلم: "لو يعلمون ما في العتمة والصبح" ومنهم من كره ذلك قال الشافعي وأحب أن لا تسمى صلاة العشاء بالعتمة ومستنده هذا الحديث الصحيح عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم ألا وإنها العشاء ولكنهم يعتمون بالإبل" 1 أي يؤخرون حلبها إلى أن يظلم الظلام وعتمة الليل: ظلمته كما قدمناه.
وهذا الحديث يدل على هذا المقصود من وجوه أحدها: صيغة النهي والثاني: ما في قوله تغلبنكم فإن فيه تنفيرا عن هذه التسمية فإن النفوس تأنف من الغلبة والثالث: إضافة الصلاة إليهم في قوله: "على اسم صلاتكم" فإن فيه زيادة ألا ترى أن لو قلنا: لا تغلبن على مالك: كان أشد تنفيرا من قولنا: لا تغلبن على مال أو على المال؟ لدلالة الإضافة على الاختصاص به.
ولعل الأقرب: أن تجوز هذه التسمية ويكون الأولى تركها وقد قدمنا الفرق بين كون الأولى.
ـــــــ
1 مسلم "644" "228" وفيه إسقاط الواو في "وإنها".(1/102)
ترك الشيء وبين كونه مكروها أما الجواز: فلفظ الرسول صلى الله عليه وسلم واما عدم الأولوية: فللحديث المذكور ولفظ الشافعي - وهو قوله لا أحب - أقرب إلى ما ذكرناه من قول من قال من أصحابه ويكره أن يقال لها العتمة.
أو يقول: المنهي عنه إنما هو الغلبة على الاسم وذلك بأن يستعمل دائما أو أكثريا ولا يناقضه أن يستعمل قليلا فيكون الحديث من باب استعماله قليلا أعني قوله صلى الله عليه وسلم: "ولو يعلمون ما العتمة والصبح" ويكون حديث ابن عمر محمولا على أن تسمى بذلك الاسم غالبا أو دائما.
الثالث: في الحديث دليل على أن الأولى: تأخير العشاء وقد قدمنا اختلاف العلماء فيه ووجه الاستدلال: قوله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشق على أمتي أو على الناس" الخ وفيه دليل على أن المطلوب تأخيرها لولا المشقة.
الرابع: قد حكينا أن العتمة اسم لثلث الليل بعد غيبوبة الشفق فلا ينبغي أن يحمل قوله أعتم على أول أجزاء هذا الوقت فإن أجزائه: بعد غيبوبة الشفق ولا يجوز تقديم الصلاة على ذلك الوقت وإنما ينبغي أن يحمل على آخره أو ما يقارب ذلك فيكون ذلك مخالفا للعادة وسببا لقول عمر رضي الله عنه رقد النساء والصبيان.
الخامس: قد كنا قدمنا في قوله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن اشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" أنه استدل بذلك على أن الأمر للوجوب فلك أن تنظر: هل يتساوى هذا اللفظ مع ذلك في الدلالة أم لا؟.
فأقول: لقائل أن يقول: لا يتساوى مطلقا فإن وجه الدليل ثم: أن كلمة لولا تدل على انتفاء الشيء لوجود غيره فيقتضي ذلك انتفاء الأمر لوجود المشقة والأمر المنفي ليس أمر الاستحباب لثبوت الاستحباب فيكون المنتفي هو أمر الوجوب فثبت أن الأمر المطلق للوجوب فإذا استعملنا هذا الدليل في هذا المكان وقلنا: إن الأمر المنفي ليس أمر الاستحباب - لثبوت الاستحباب - توجه المنع ههنا عند من يرى أن تقديم العشاء أفضل بالدلائل الدالة على ذلك اللهم إلا أن يضم إلى الاستدلال: الدلائل الخارجة الدالة على استحباب التأخير فيترجح على الدلائل المقتضية للتقديم ويجعل ذلك مقدمة ويكون المجموع دليلا على أن الأمر للوجوب فحينئذ يتم ذلك بهذه الضميمة.
السادس: في الحديث دليل على تنبيه الأكابر: إما لاحتمال غفلة أو لاستثارة فائدة منهم في التنبيه لقول عمر رقد النساء والصبيان.
السابع: يحتمل أن يكون قوله رقد النساء والصبيان راجعا إلى من حضر المسجد منهم.(1/103)
لقلة احتمالهم المشقة في السهر فيرجع ذلك إلى أنهم كانوا يحضرون المسجد لصلاة الجماعة ويحتمل أن يكون راجعا إلى من خلفه المصلون في البيوت من النساء والصبيان ويكون قوله رقد النساء إشفاقا عليهم من طول الانتظار.
8 - عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أقيمت الصلاة وحضر العشاء فابدأوا بالعشاء" وعن ابن عمر نحوه1.
لا ينبغي حمل الألف واللام في الصلاة على الاستغراق ولا على تعريف الماهية بل ينبغي أن تحمل على المغرب لقوله: "فابدأوا بالعشاء" وذلك يخرج صلاة النهار ويبين أنها غير مقصودة ويبقى التردد بين المغرب والعشاء فيترجح حمله على المغرب لما ورد في بعض الروايات: "إذا وضع العشاء وأحدكم صائم فابدأوا به قبل أن تصلوا" 2 وهو صحيح وكذلك أيضا صح3: "فابدأوا به قبل أن تصلوا صلاة المغرب" والحديث يفسر بعضه بعضا.
والظاهرية أخذوا بظاهر الحديث في تقديم الطعام على الصلاة وزادوا - فيما نقل عنهم - فقالوا: إن صلى فصلاته باطلة.
وأما أهل القياس والنظر فإنهم نظروا إلى المعنى وفهموا: أن العلة التشويش لأجل التشوف إلى الطعام وقد أوضحته تلك الرواية التي ذكرناها وهي قوله: "وأحدكم صائم" فتتبعوا هذا المعنى فحيث حصل التشوف المؤدي إلى عدم الحضور في الصلاة قدموا الطعام واقتصروا أيضا على مقدار ما يكسر سورة الجوع ونقل عن مالك: يبدأ بالصلاة إلا أن يكون طعاما خفيفا.
واستدل بالحديث على أن وقت المغرب موسع فإن أريد به مطلق التوسعة فصحيح لكن ليس بمحل الخلاف المشهور وإن أريدا التوسعة إلى مغيب الشفق ففي الاستدلال نظر لأن بعض من ضيق وقت المغرب جعله مقدرا بزمان يدخل في مقدار ما يتناول لقيمات يكسر بها سورة الجوع فعلى هذا: لا يلزم أن لا يكون وقت المغرب موسعا إلى غروب الشفق.
على أن الصحيح الذي نذهب إليه: أن وقتها موسع إلى غروب الشفق وإنما الكلام في وجه هذا الاستدلال من هذا الحديث.
وقد استدل به أيضا على أن صلاة الجماعة ليست فرضا على الأعيان في كل حال وهذا
ـــــــ
1 البخاري "5465" ومسلم "559" واللفظ للبخاري.
2 الطحاوي "1992" وابن حبان "2068" وكلاهما روياه بلفظ: "إذا أقيمت الصلاة وأحدكم صائم فليبدأ بالعشاء قبل صلاة المغرب ولا تعجلوا عن عشائكم".
3 فيما رواه البخاري "672" وتمامه "ولا تعجلوا عن عشائكم".(1/104)
صحيح إن أريد به: أن حضور الطعام - مع التشوف إليه - عذر ترك الجماعة وإن أريد به الاستدلال عل أنها ليست بفرض من غير عذر لم يصح ذلك.
وفي الحديث: دليل على فضيلة تقديم حضور القلب في الصلاة على فضيلة أو الوقت فإنهما لما تزاحما قدم صاحب الشرع الوسيلة إلى حضور القلب على أداء الصلاة في أول الوقت والمتشوفون إلى المعنى أيضا قد لايقصرون الحكم على حضور الطعام بل يقولون به عند وجود المعنى وهو التشوف إلى الطعام.
والتحقيق في هذا: أن الطعام إذا لم يحضر فإما أن يكون متيسر الحضور عن قريب حتى يكون كالحاضر أولا ؟ فإن كان الأول: فلا يبعد أن يكون حكمه حكم الحاضر وإن كان الثاني وهو ما يتراخى حضوره: فلا ينبغي أن يلحق بالحاضر فإن حضور الطعام يوجب زيادة تشوف وتطلع إليه وهذه الزيادة يمكن أن يكون الشارع اعتبرها في تقديم الطعام على الصلاة فلا ينبغي أن يلحق به ما لا يساويها للقاعدة الأصولية إن محل النص إذا اشتمل على وصف يمكن أن يكون معتبرا لم يلغ.
9 - ولمسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان" 1.
هذا الحديث أدخل في العموم من الحديث الأول أعني بالنسبة إلى لفظ الصلاة والنظر إلى المعنى يقتضي التعميم وهو الأليق بمذهب الظاهرية وقد قدمنا ما يتعلق بحضور الطعام.
و "الأخبثان" الغائظ والبول وقد ورد مصرحا به في بعض الأحاديث2 ومدافعة الأخبثين إما أن تؤدي إلى الإخلال بركن أو شرط أو لا فإن أدى إلى ذلك امتنع دخول الصلاة معه وإن دخل واختل الركن أو الشرط: فسدت بذلك الاختلال وإن لم يؤد إلى ذلك فالمشهور فيه الكراهة.
ونقل عن مالك: أن ذلك مؤثر في الصلاة بشرط شغله عنه وقال: يعيد في الوقت وبعده وتأوله بعض أصحابه على أنه إن شغله حتى إنه لا يدري كيف صلى فهو الذي يعيد قبل وبعد وأما إن شغله شغلا خفيفا لم يمنعه من إقامة حدودها وصلى ضاما بين وركيه فهو الذي يعيد في الوقت.
وقال القاضي عياض: وكلهم مجمعون على أن من بلغ به ما لا يعقل به صلاته ولا يضبط حدودها: أنه لا يجوز ولا يحل له الدخول كذلك في الصلاة وأنه يقطع صلاته إن أصابه ذلك فيها.
ـــــــ
1 مسلم "560" بدون الواو في "وهو".
2 عند ابن حبان "5/429" بترتيب ابن بلبان.(1/105)
وهذا الذي قدمناه من التأويل وكلام القاضي عياض: فيه بعض إجمال والتحقيق: ما أشرنا إليه أولا أنه إن منع ركن أو شرط: امتنع الدخول في الصلاة معه وفسدت الصلاة باختلال الركن والشرط وإن لم يمنع من ذلك فهو مكروه إن نظر إلى المعنى أو ممتنع إن نظر إلى ظاهر النهي ولا يقتضي ذلك الإعادة على مذهب الشافعي.
و أما ما ذكر من التأويل أنه لا يدري كيف صلى أو ما قال القاضي عياض أن من بلغ به ما لا يعقل صلاته فإن أريد بذلك الشك في شيء من الأركان فحكمه حكم من شك في ذلك بغير هذا السبب وهو البناء على اليقين وإن أريد به أنه يذهب الخشوع بالكلية فحطمه حكم من صلى بغير خشوع ومذهب جمهور الأمة أن ذلك لا يبطل الصلاة.
وقول القاضي ولايضبط حدودها أن أريد به أنه لا يفعلها كما وجب عليه فهو ما ذكرناه مبينا وإن أريد به أنه لا يستحضرها فإن أوقع ذلك شكا في فعلها فحكمه حكم الشاك في الإتيان بالركن أو الإخلال بالشرط من غير هذه الجهة وإن أريد به غير ذلك من ذهاب الخشوع فقد بيناه أيضا.
وهذا الذي ذكرناه إنما هو بالنسبة إلى إعادة الصلاة وأما بالنسبة إلى جواز الدخول فيها فقد يقال أنه لا يجوز له أن يدخل في صلاة لا يتمكن فيها من تذكر إقامة أركانها وشرائطها.
وأما ما أشار إليه بعضهم من امتناع الصلاة مع مدافعة الأخبثين من جهة إن خروج النجاسة عن مقرها يجعلها كالبارزة ويوجب انتقاض الطهارة وتحريم الدخول في الصلاة من غير التأويل الذي قدمنا فهو عندي بعيد لأنه إحداث سبب آخر في انتقاض الطهارة من غير دليل صريح فيه فإن إسناده إلى هذا الحديث فليس بصريح في أن السبب ما ذكره وإنما غايته أنه مناسب أو محتمل والله أعلم.
10 - عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: "شهد عندي رجال مرضيون وأرضاهم عندي عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى تغرب"1.
11 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا صلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس" 2.
في الحديث الأول: رد على الروافض فيما يدعونه من المباينة بين أهل البيت وأكابر الصحابة رضي الله عنهم.
ـــــــ
1 البخاري "581" ومسلم "826".
2 البخاري "586" ومسلم "827".(1/106)
وقوله: "نهى عن الصلاة بعد الصبح" أي بعد صلاة الصبح وبعد العصر أي بعد صلاة العصر فإن الأوقات المكروهة على قسمين:
منها: ما تتعلق الكراهة فيه بالفعل بمعنى أنه إن تأخر الفعل لم تكره الصلاة قبله وإن تقدم في أول الوقت كرهت وذلك في صلاة الصبح وصلاة العصر وعلى هذا يختلف وقت الكراهة في الطول والقصر.
ومنها: ما تتعلق فيه الكراهة في الوقت كطلوع الشمس إلى الارتفاع ووقت الاستواء ولا يحسن أن يكون الحكم في هذا الحديث معلقا بالوقت لأنه لابد من أداء صلاة الصبح وصلاة العصر فتعين أن يكون المراد بعد صلاة الصبح وبعد صلاة العصر.
وهذا الحديث معمول به عند فقهاء الأمصار وعن بعض المتقدمين والظاهرية فيه خلاف من بعض الوجوه وصيغة النفي إذا دخلت على فعل اللفظ صاحب الشرع فالأول حملها على نفي الفعل الشرعي لا على نفي الفعل الوجودي فيكون قوله: "لا صلاة بعد الصبح", نفيا للصلاة الشرعية لا الحسية وإنما قلنا ذلك لأن الظاهر إن الشارع يطلق ألفاظه على عرفه وهو الشريعي.
وأيضا فإنا إذا حملناه على الفعل الحسي وهو غير منتف احتجنا إلى إضمار لتصحيح اللفظ وهو المسمى بدلالة الاقتضاء ويبقى النظر في أن اللفظ يكون عاما أو مجملا أو ظاهرا في بعض المحامل أما إ ذا حملناه على الحقيقة الشرعية لم نحتج إلى إضمار فكان أولى.
و من هذا البحث يطلع على كلام الفقهاء في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي "1 فإنك إذا حملته على الحقيقة الشرعية لم تحتج إلى إضمار فإنه يكون نفيا للنكاح الشرعي وإن حملته على الحقيقة الحسية وهي غير منتفية عند عدم الولي حسا احتجت إلى إضمار فحينئذ يضمر بعضهم الصحة وبعضهم الكمال وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "لا صيام لمن لم يبت الصيام من الليل" 2.
و أما حديث أبي سعيد الخدري وهو أبو سعيد سعد بن مالك بن سنان وخدرة من الأنصار فالكلام عليه تقدم.
ـــــــ
1 أبو داود "2085" والترمذي "1101" عن أبي موسى وقال الترمذي حديث حسن.
2 أبو داود "2454" والترمذي "730" والنسائي "2336" عن حفصة.(1/107)
وفي هذا الحديث زيادة على الأول فإنه مد الكراهة إلى ارتفاع الشمس وليس المراد مطلق الارتفاع عن الأفق بل الارتفاع الذي تزول عنده صفرة الشمس أو حمرتها وهو مقدر بقدر رمح أو رمحين.
وقوله لا صلاة في الحديثين عام في كل صلاة وخصه الشافعي ومالك بالنوافل ولم يقولا به في الفرائض الفوائت وأباحاها في سائر الأوقات وأبو حنيفة يقول: بالامتناع وهو أدخل في العموم إلا أنه قد يعارض بقوله صلى الله عليه وسلم: "من نام عن الصلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها" 1 وكونه جعل ذلك وقتا لها وفي رواية: "لا وقت لها إلا ذلك" إلا أن بين الحديثين عموما وخصوصا من وجه فحديث النهي عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر خاص في الوقت عام في الصلاة وحديث النوم والنسيان خاص في الصلاة الفائتة عام في الوقت فكل واحد منهما بالنسبة إلى الآخر عام من وجه وخاص من وجه فليعلم ذلك.
[كلام المستملي].
قال المصنف رحمه الله: وفي الباب عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر وابن العاص وأبي هريرة وسمرة بن جندب وسلمة بن الأكوع وزيد بن ثابت ومعاذ بن عفراء وكعب بن مرة وأبي أمامة الباهلي وعمرو بن عبسة السلمي وعائشة رضي الله عنهم والصنابحي ولم من النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما علي فهو علي بن أبي طالب أمير المؤمنين أبو الحسن واسم أبيه أبي طالب عبد مناف وقيل اسمه كنيته وعلي رضي الله عنه ذو الفضائل الجمة التي لا تخفى قيل: أسلم وهو ابن ثلاثة عشرة أو اثنتي عشرة أو خمسة عشرة أو ستة عشرة أو عشرة أو ثمان أقوال وقتل رضي الله عنه بالكوفة سنة أربعين من الهجرة في رمضان.
وأما عبد الله بن مسعود بن شمخ فهو أبو عبد الرحمن أحد علماء الصحابة وأكابرهم مات بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين.
وأما عبد الله بن عمر فهو أبو عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن مرة العدوي ورياح في نسبه بكسر الراء وبعدها ياء آخر الحروف ورزاح بفتح الراء المهملة بعدها زاي مفتوحة وتوفي رحمه الله في سنة ثلاث وسبعين.
وأما عبد الله بن عمرو فهو أبو محمد وقيل: أبو عبد الرحمن وقيل: أبو نصير بضم.
ـــــــ
1 البخاري "597" ومسلم "684" ولفظها "من نسي" و "لا كفارة لها إلا ذلك".(1/108)
النون وفتح الصاد عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم ابن سعيد بضم السين وفتح العين ابن سهم السهمي أحد حفاظ الصحابة للحديث والمكثرين فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل: أنه مات ليالي الحرة وكانت الحرة يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة ثلاث وستين وقيل مات سنة ثلاث وسبعين وقيل: غيره.
وأما أبو هريرة: فقد تقدم الكلام عليه.
وأما سمرة: فأبو عبد الرحمن وقيل: أبو عبد الله أو أبو سليمان أو أبو سعيد سمرة بن جندب بضم الدال وقد يقال: بفتحها ابن هلال فزاري حليف الأنصار قاله الواقدي توفي بالبصرة في خلافة معاوية سنة ثمان وخمسين.
وأما سلمة بن الأكوع: فهو سلمة بن عمرو بن الأكوع منسوب إلى جده الأكوع سنان بن عبد الله وسلمة أسلم يكنى أبا مسلم وقيل: أبا إياس وقيل: أبا عامر أحد شجعان الصحابة وفضلائهم مات سنة أربع وسبعين وهو ابن ثمانين سنة.
وأما زيد بن ثابت: فهو أبو خارجة زيد بن ثابت بن الضحاك بن زيد أنصاري نجاري وقيل: يكنى أبا سعيد وقيل: أبا عبد الرحمن يقال: أنه كان حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة: ابن إحدى عشرة سنة وكان رضي الله عنه من أكابر الصحابة متقدما في علم الفرائض وقيل: مات سنة خمس وأربعين وقيل: اثنتين وقيل: ثلاث وقيل: غير ذلك.
وأما معاذ بن عفراء: فهو معاذ بن الحرث بن رفاعة بن سواد في قول ابن إسحاق وقال ابن هشام: هو معاذ بن الحرث بن عفراء بن الحرث بن سواد بن غنم بن مالك بن النجار وقال موسى بن عقبة معاذ بن الحرث بن رفاعة بن الحارث.
وأما كعب بن مرة: فبهزي سلمى ـ فيما قيل مات بالشام سنة تسع وخمسين وقيل غيره.
وأما أبو أمامة الباهلي: فاسمه صدي بن عجلان وصدي ـ بضم الصاد المهملة وفتح الدال وتشديد الياء ـ من المكثرين في الرواية مات بالشام سنة إحدى وثمانين وقيل: سنة ست وثمانين وهو آخر من مات بالشام من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في قول بعضهم.
و أما عمرو بن عبسة فهو أبو نجيح ويقال: أبو شعيب عمرو بن عبسة بفتح العين والباء معا والباء تلي العين ابن عامر بن خالد سلمي لقي النبي صلى الله عليه وسلم قديما في أول الإسلام وروي عنه أنه قال: لقد رأيتني وأنا ربع الإسلام ثم لقيه بعد الهجرة.
وأما عائشة رضي الله عنها: فقد تقدم الكلام في أمرها.
وأما الصنابحي: فهو عبد الرحمن بن عسيلة منسوب إلى قبيلة من اليمن كنيته.(1/109)
أبو عبد الله كان مسلما على عهد رسل الله صلى الله عليه وسلم وقصده فلما انتهى إلى الجحفة لقيه الخبر بموته صلى الله عليه وسلم وكان فاضلا.
12 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
"جاء يوم الخندق بعدما غربت الشمس فجعل يسب كفار قريش وقال: يا رسول الله ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "والله ما صليتها" قال: فقمنا إلى بطحان فتوضأ للصلاة وتوضأنا لها فصلى العصر بعد ما غربت الشمس ثم صلى بعدها المغرب1.
حديث عمر فيه دليل على جواز سبب المشركين لتقرير رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر على ذلك لم يعين في الحديث لفظ السبب فينبغي مع إطلاقه أن يحمل على ما ليس بفحش.
وقوله يا رسول الله ما كدت أصلي العصر يقتضي أنه صلاها قبل الغروب لأن النفي إذا دخل على كاد تقتضي وقوع الفعل في الأكثر كما في قوله عز وجل: {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71] وكذا في الحديث.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "و الله ما صليتها" قيل: في هذا القسم إشفاق منه صلى الله عليه وسلم على من تركها وتحقيق هذا: أن القسم تأكيد للمقسم عليه وفي هذا القسم إشعار ببعد وقوع المقسم عليه حتى كأنه لا يعتقد وقوعه فأقسم على وقوعه وذلك يقتضي تعظيم هذا الترك وهو مقتض للإشفاق منه أو ما يقارب هذا المعنى.
وفي الحديث دليل على عدم كراهية قول القائل: ما صلينا خلاف ما يتوهمه قوم من الناس2 وإنما ترك النبي صلى الله عليه وسلم هذه الصلاة لشغله بالقتال كما ورد مصرحا به في حديث آخر وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "شغلونا عن الصلاة الوسطى" فتمسك به بعض المتقدمين في تأخير الصلاة في حالة الخوف إلى حالة الأمن والفقهاء على إقامة الصلاة في حالة الخوف وهذا الحديث ورد في غزوة الخندق وصلاة الخوف فيما قيل: شرعت في غزوة ذات الرقاع وهي بعد ذلك ومن الناس من سلك طريقا آخر وهو أن الشغل إن أوجب النسيان فالترك للنسيان وربما ادعي الظهور في الدلالة على النسيان وليس كذلك بل الظاهر: تعليق الحكم المذكور لفظا وهو الشغل.
ـــــــ
1 البخاري "596" ومسلم "631".
2 وقد بوب البخاري "641" فقال: باب قول الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم ما صلينا.(1/110)
وقوله: "فقمنا إلى بطحان" اسم موضع يقوله المحدثون بضم الباء وسكون الطاء وذكر غيرهم في الفتح في الباء والكسر في الطاء دون الضم1.
وقوله فتوضأ للصلاة وتوضأنا لها قد يشعر بصلاتهم معه صلى الله عليه وسلم جماعة فيستدل به على صلاة الفوائت جماعة.
وقوله: "فصلى العصر" فيه دليل على تقديم الفائتة على الحاضرة في القضاء وهو واجب في القليل من الفوائت عند مالك وهي ما دون الخمس وفي الخمس خلاف ويستحب عند الشافعي مطلقا فإذا ضم إلى هذا الحديث الدليل على اتساع وقت المغرب إلى مغيب الشفق: لم يكن في هذا الحديث دليل على وجوب الترتيب في قضاء الفوائت لأن الفعل بمجرده لا يدل على الوجوب على المختار عند الأصوليين.
وإن ضم إلى هذا الحديث الدليل على تضييق وقت المغرب: كان فيه دليل على وجوب تقديم الفائتة على الحاضرة عند ضيق الوقت لأنه لو لم يجب لم تخرج الحاضرة عن وقتها لفعل ما ليس بواجب فالدلالة من هذا الحديث على حكم الترتيب: تنبني على ترجيح أحد الدليلين على الآخر في امتداد وقت المغرب أو على القول بأن الفعل للوجوب.
ـــــــ
1 وفي القاموس بطحان بالضم أو الصواب الفتح وكسر الطاء: موضع بالمدينة وبالتحريك موضع في ديار تميم مادة بطح.(1/111)
باب فضل الجماعة و و جوبها
...
2 - باب فضل الجماعة ووجوبها.
1 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة" 1.
الكلام عليه من وجوه:
أحدها: استدل به على صحة الفذ وأن الجماعة ليست بشرط ووجه الدليل منه: أن لفظة "أفعل" تقتضي وجود الاشتراك في الأصل مع التفاضل في أحد الجانبين وذلك يقتضي وجود فضيلة في صلاة الفذ وما لا يصح فلا فضيلة فيه ولا يقال: أنه قد وردت صيغة "أفعل" من غير اشتراك في الأصل لأن هذا إنما يكون عند الإطلاق وأما التفاضل بزيادة عدد فيقتضي بيانا ولا بد أن يكون ثمة جزء معدود يزيد عليه أجزاء أخر كما إذا قلنا: هذا العدد يزيد على ذاك بكذا وكذا من الآحاد فلا بد من وجود أصل العدد وجزء معلوم في الآخر ومثل هذا ولعله أظهر منه: ما جاء في الرواية الأخرى "تزيد على صلاته وحده" 2 أو
ـــــــ
1 البخاري "645" ومسلم "650".
2 البخاري "648" ومسلم "650" "250".(1/111)
"تضاعف" 1 فإن ذلك يقتضي ثبوت شيء يزداد عليه وعدد يضاعف نعم يمكن من قال بأن صلاة الفذ من غير عذر لاتصح وهو داود على ما نقل عنه أن يقول: التفاضل يقع بين صلاة المعذور فذا والصلاة في جماعة وليس يلزم إذا وجدنا محملا صحيحا للحديث أكثر من ذلك ويجاب عن هذا بأن الفذ معرف بالألف واللام فإذا قلنا بالعموم دل ذلك على فضيلة صلاة الجماعة على صلاة كل فذ فيدخل تحته الفذ المصلي من غير عذر.
الثاني: قد ورد في هذا الحديث التفضيل "بسبع وعشرين درجة" وفي غيره التفضيل: "بخمس وعشرين جزءا" 2 فقيل في طريق الجمع: أن الدرجة أقل من الجزء فتكون الخمس والعشرون جزءا سبعا وعشرين درجة وقيل: بل هي تختلف باختلاف الجماعات باختلاف الصلوات فما عظم فضله منها عظم أجره وما نقص عن غيره نقص أجره ثم قيل بعد ذلك: الزيادة للصبح والعصر وقيل: للصبح والعشاء وقيل: يحتمل أن يختلف باختلاف الأماكن كالمسجد مع غيره.
الثالث: قد وقع بحث في أن هذه الدرجات هل هي بمعنى الصلوات؟ فتكون صلاة الجماعة بمثابة خمس وعشرين صلاة أو سبع وعشرين أو يقال: إن لفظ "الدرجة" و"الجزء" لا يلزم منهما أن يكون بمقدار الصلاة؟ والأول هو الظاهر لأنه ورد مبينا في بعض الروايات وكذلك لفظة "تضاعف" مشعرة بذلك.
الرابع: استدل به بعضهم على تساوي الجماعات في الفضل وهو ظاهر مذهب مالك قيل: وجه الاستدلال به: أنه لا مدخل للقياس في الفضل وتقريره أن الحديث إذا دل على الفضل بمقدار معين مع امتناع القياس اقتضى ذلك الاستواء في العدد المخصوص ولو قرر هذا بأن يقال دل الحديث على فضيلة صلاة الجماعة بالعدد المعين فتدخل تحته كل جماعة ومن جملتها: الجماعة الكبرى والجماعة الصغرى والتقدير فيهما واحد بمقتضى العموم كان له وجه.
ومذهب الشافعي زيادة الفضيلة بزيادة الجماعة وفيه حديث مصرح بذلك ذكره أبو داود3 "صلاة الرجل مع الرجل أفضل من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أفضل من صلاته مع الرجل" الحديث فإن صح من غير علة فهو معتمد.
ـــــــ
1 في البخاري "647" "تُضَعَّف".
2 مسلم "649" 245" "بخمسة وعشرين جزءا".
3 أبو داود "554" ولفظه: "أزكى" بدل "أفضل".(1/112)
2 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة الرجل في جماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمسا وعشرين ضعفا وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة وحط عنه خطيئة فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه اللهم صل عليه اللهم اغفر له اللهم ارحمه ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة" 1.
الكلام عليه من وجوه:
أحدها: أن لقائل أن يقول: هذا الثوب المقدر لا يحصل بمجرد صلاة الجماعة في البيت وذلك بناء على ثلث قواعد:
الأولى: أن اللفظ - أعني قوله صلى الله عليه و سلم: "وذلك" - أنه يقتضي تعليل الحكم السابق وهذا ظاهر لأن التقدير: وذلك لأنه وهو مقتض للتعليل وسياق هذا اللفظ في نظائر هذا اللفظ يقتضي ذلك.
الثانية: أن محل الحكم لا بد أن تكون علته موجودة فيه وهذا أيضا متفق عليه وهو ظاهر أيضا لأن العلة لو لم تكن موجودة في محل الحكم لكانت أجنبية عنه فلا يحصل التعليل بها.
الثالثة: إن ما رتب على مجموع لم يلزم حصوله في بعض ذلك المجموع إلا إذا دل الدليل على إلغاء بعض ذلك المجموع وعدم اعتباره فيكون وجوده كعدمه ويبقى ما عداه معتبرا لا يلزم أن يترتب الحكم على بعضه.
فإذا تقررت هذه القواعد فاللفظ يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بمضاعفة صلاة الرجل في الجماعة على صلاته في بيته وسوقه بهذا القدر المعين وعلل ذلك باجتماع أمور منها: الوضوء في البيت والإحسان فيه والمشي إلى الصلاة لرفع الدرجات وصلاة الملائكة عليه ما دام في مصلاه.
وإذا علل هذا الحكم باجتماع هذه الأمور فلا بد أن يكون المعتبر من هذه الأمور موجودا في محل الحكم وإذا كان موجودا فكل ما أمكن أنن يكون معتبرا منها فالأصل: أن لا يترتب الحكم بدونه فمن صلى في بيته في جماعة لم يحصل في صلاته بعض هذا المجموع وهو المشي الذي به ترفع له الدرجات وتحط عنه الخطيئات فمقتضى القياس أن لا يحصل هذا القدر من المضاعفة له لأن هذا الوصف أعني المشي إلى المسجد مع كونه رافعا للدرجات حاطا للخطيئات لا يمكن إلغاؤه وهذا مقتضى القياس في هذا اللفظ إلا أن الحديث الآخر وهو الذي يقتضي ترتيب هذا الحكم على مطلق صلاة الجماعة يقتضي خلاف ما قلناه وهو
ـــــــ
1 البخاري "647" ومسلم "649" واللفظ للبخاري.(1/113)
حصول هذا المقدار من الثواب لمن صلى جماعة في بيته فيتصدى النظر في مدلول كل واحد من الجديثين بالنسبة إلى العموم ووصوري عن أحمد رحمه الله رواية أنه ليس يتآذى الفرض في الجماعة بإقامتها في البيوت أو معنى ذلك ولعل هذا نظرا إلى ما ذكرناه.
البحث الثاني: هذا الذي ذكرناه أمر يرجع إلى المفاضلة بين صلاة الجماعة في المساجد والانفراد وهل يحصل للمصلي في البيوت جماعة هذا المقدار من المضاعفة أم لا؟ والذي يظهر من إطلاقهم حصوله وولست أعني أنه لا تفضل صلاة الجماعة في البيت على الانفراد فيه فإن ذلك لا شك فيه إنما النظر في أن هل يتفاضل بهذا القدر المخصوص أم لا؟ ولا يلزم من عدم هذا القدر المخصوص من الفضيلة عدم حصول مطلق الفضيلة.
وإنما تردد أصحاب الشافعي في أن إقامة الجماعة في غير المساجد هل يتأدى بها المطلوب؟ فعن بعضهم أنه لا يكفي إقامة الجماعة في البيوت في إقامة الفرض أعني إذا قلنا إن صلاة الجماعة فرض على الكفاية وقال بعضهم يكفي إذا اشتهر كما إذا صلى صلاة الجماعة في السوق مثلا والأول عندي أصح لأن أصل المشروعية إنما كان في جماعة المساجد هذا وصف معتبر لا يتأتى إلغاؤه وليست هذه المسألة هي التي صدرنا بها هذا البحث: أولا: لأن هذه نظر في أن إقامة الشعار هل تتآذى بصلاة الجماعة في البيوت أم لا؟ والذي بحثناه أولا هو أن صلاة الجماعة في البيت هل تتضاعف بالقدر المخصوص أم لا؟.
البحث الثالث: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "صلاة الرجل في جماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه" يتصدى النظر هنا هل صلاته في جماعة في المسجد تفضل على صلاته في بيته وسوقه جماعة أو تفضل عليها منفردا؟ أما الحديث فمقتضاه أن صلاته في المسجد جماعة تفضل على صلاته في بيته وسوقه جماعة وفرادى بهذا القدر لأن قوله صلى الله عليه وسلم: "صلاة الرجل في جماعة" محمول على الصلاة في المسجد لأنه قوبل بالصلاة في بيته وسوقه.
ولو جربنا على إطلاق اللفظ لم تحصل المقابلة لأنه يكون قسم الشيء قسما منه وهو باطل وإذا حمل على صلاته في المسجد فقوله صلى الله عليه وسلم: "صلاته في بيته وسوقه" عام يتناول الأفراد والجماعة وقد أشار بعضهم إلى هذا بالنسبة إلى الانفراد في المسجد والسوق من جهة ما ورد أن الأسواق موضع الشياطين1 فتكون الصلاة فيها ناقصة الرتبة كالصلاة في المواضع المكروهة لأجل الشياطين كالحمام.
وهذا الذي قاله - وإن أمكن في السوق - ليس يطرد في البيت فلا ينبغي أن تتساوى فضيلة الصلاة في البيت جماعة مع فضيلة الصلاة في السوق جماعة في مقدار الفضيلة التي لا توجد
ـــــــ
1 وذلك في مسلم "671" "أحب البلاد إلى الله تعالى مساجدها وابغض البلاد إلى الله أسواقها".(1/114)
إلا بالتوقيف فإن الأصل: أن لا يتساوى ما وجد فيه مفسدة معينة مع ما لم توجد فيه تلك المفسدة.
هذا ما يتعلق بمقتضى اللفظ ولكن الظاهر مما يقتضيه السياق: أن المراد تفضيل صلاة الجماعة في المسجد على صلاته في بيته وسوقه منفردا: فكأنه خرج مرج الغالب في أن من لم يحضر الجماعة في المسجد صلى منفردا.
وبهذا يرتفع الإشكال الذي قدمناه من استبعاد تساوي صلاته في البيت مع صلاته في السوق جماعة فيهما وذلك لأن من اعبر معنى السوق مع إقامة الجماعة فيه وجعله سببا لنقصان الجماعة فيه عن الجماعة في المسجد يلزمه تساوي ما وجدت فيه مفسدة معتبرة مع ما لم توجد فيه تلك المفسدة في مقدار التفاضل أما إذا جعلنا التفاضل بين صلاة الجماعة في المسجد وصلاتها في البيت والسوق منفردا فوصف السوق ههنا ملغى غير معتبر فلا يلزم تساوي ما فيه مفسدة مع مالا مفسدة فيه في مقدار التفاضل والذي يؤيد هذا: أنهم لم يذكروا السوق في الأماكن المكروهة للصلاة وبهذا فارق الحمام المستشهد بها.
البحث الرابع: قد قدمنا أن الأوصاف التي يمكن اعتبارها لا تلغى فلينظر الأوصاف المذكورة في الحديث وما يمكن أن يجعل معتبرا ومالا أما وصف الرجولية: فحيث يندب للمرأة الخروج إلى المسجد ينبغي أن تتساوى مع الرجل لأن وصف الرجولية بالنسبة إلى ثواب الأعمال غير معتبر شرعا.
وأما الوضوء في البيت: فوصف كونه في البيت غير داخل في التعليل وأما الوضوء: فمعتبر للمناسبة لكن: هل المقصود منه مجرد كونه طاهرا أو فعل الطهارة؟ فيه نظر ويترجح الثاني بأن تجديد الوضوء مستحب لكن الأظهر: أن قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا توضأ" لا يتقيد بالفعل وإنما خرج مخرج الغلبة أو ضرب المثال وأما إحسان الوضوء: فلا بد من اعتباره وبد يستدل على أن المراد فعل الطهارة لكن يبقى ما قلناه: من خروجه مخرج الغالب أو ضرب المثال.
وأما خروجه إلى الصلاة: فيشعر بأن الخروج لأجلها وقد ورد مصرحا به في حديث آخر: "لا ينهزه إلا الصلاة" 1 وهذا وصف معتبر وأما صلاته مع الجماعة: فبالضرورة لا بد من اعتبارها فإنها محل الحكم.
البحث الخامس: الخطوة - بضم الخاء - ما بين قدمي الماشي وبفتحها: الفعلة2 وفي هذا الوضع هي مفتوحة لأن المراد فعل الماشي
ـــــــ
1 أبو داود "559" والترمذي "603".
2 وفي القاموس الخطوة ويفتح: ما بين القدمين ج: خطا وخطوات وبالفتح المرة ج: خطوات. مادة خطو.(1/115)
3 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أثقل الصلاة على المنافقين: صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلا فيصلي بالناس ثم انطلق معي برجال معهم حزم حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار" 1.
الكلام عليه من وجوه:
أحدها: قوله صلى الله عليه وسلم: "أثقل الصلاة" محمول على الصلاة في جماعة وإن كان غير مذكور في اللفظ لدلالة السياق عليه وقوله عليه السلام: "لأتوهما ولو حبوا" وقوله: "ولقد هممت – إلى قوله- لا يشهدون الصلاة" كل ذلك مشعر بأن المقصود: حضورهم إلى جماعة المسجد.
الثاني: إنما كانت هاتان الصلاتان أثقل على المنافقين لقوة الداعي إلى ترك حضور الجماعة فيهما وقوة الصارف عن الحضور أما العشاء: لأنها وقت الإيواء إلى البيوت والاجتماع مع الأهل واجتماع ظلمة الليل وطلب الراحة من متاعب السعي بالنهار.
وأما الصبح: لأنها في وقت لذة النوم فإن كانت في زمن البرد ففي وقت شدته لبعد العهد بالشمس لطول الليل وإن كانت في زمن الحر: فهو وقت البرد والراحة من أثر حر الشمس لبعد العهد بها فلما قوي الصارف عن الفعل ثقلت على المنافقين وأما المؤمن الكامل الإيمان: فهو عالم بزيادة الأجر لزيادة المشقة فتكون هذه الأمور داعية له إلى هذا الفعل كما كانت صارفة للمنافقين ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "ولو يعلمون ما فيهما" أي من الأجر والثواب: "لأتوهما ولو حبوا" وهذا كما قلنا: إن هذه المشقات تكون داعية للمؤمن إلى الفعل.
الثالث: اختلف العلماء في الجماعة في غير الجمعة فقيل: سنة وهو قول الأكثرين وقيل: فرض كفاية وهو قول في مذهب الشافعي ومالك وقيل: فرض على الأعيان.
وقد اختلفوا بعد ذلك فقيل: شرط في صحة الصلاة وهو مروي عن داود وقيل: إنه رواية عن أحمد والمعروف عنه: أنها فرض على الأعيان ولكنها ليست بشرط فمن قال بأنها واجبة على الأعيان: قد يحتج بهذا الحديث فإنه إن قيل بأنها فرض كفاية فقد كان هذا الفرض قائما بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه وإن قيل: إنها سنة فلا يقتل تارك السنن فيتعين أن تكون فرضا على الأعيان.
وقد اختلف في الجواب على هذا على وجوه فقيل: إن هذا في المنافقين ويشهد له ما جاء.
ـــــــ
1 البخاري "657" ومسلم "651" واللفظ له بلفظ: "إن أثقل..".
والحبو: يقال حبا الرجل مشى على يديه وبطنه والصبي مشى على استه "القاموس" حبو.(1/116)
في الحديث الصحيح1: "لو يعلم أحدهم أن يجد عظما سمينا أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء" وهذه ليست صفة المؤمنين لا سيما أكابرهم وهم الصحابة فلا يتم الدليل.
قال القاضي عياش رحمه الله: وقد قيل: إن هذا في المؤمنين وأما المنافقون: فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم معرضا عنهم عالما بطوياتهم كما أنه لم يعترضهم في التخلف ولا عاتبهم معاتبة كعب وأصحابه من المؤمنين.
وأقول: هذا إنما يلزم إذا كان ترك معاقبة المنافقين واجبا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فحينئذ يمتنع أن يعاقبهم بهذا التحريق فيجب أن يكون الكلام في المؤمنين ولنا أن نقول: إن ترك عقاب المنافقين وعقابهم كان مباحا للنبي صلى الله عليه وسلم مخبرا فيه فعلى هذا: لا يتعين أن يحمل هذا الكلام على المؤمنين إذ يجوز أن يكون في المنافقين لجواز معاقبة النبي صلى الله عليه وسلم لهم وليس في إعراضه عنهم بمجرده ما يدل على وجوب ذلك عليه ولعل قوله صلى الله عليه وسلم - عندما طلب منه قتل بعضهم -: "لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه" 2 يشعر بما ذكرناه في التخيير لأنه لو كان يجب عليه ترك قتلهم لكان الجواب بذكر المانع الشرعي وهو أنه لا يحل قتلهم ومما يشهد لمن قال: "إن ذلك في المنافقين" عندي: سياق الحديث من أوله وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "أثقل الصلاة على المنافقين".
ووجه آخر في تقدير كونه في المنافقين: أن يقول القائل: هم النبي صلى الله عليه وسلم بالتحريق يدل على جوازه وتركه التحريق يدل على جواز هذا الترك فإذا اجتمع جواز التحريق وجواز الترك في حق هؤلاء القوم وهذا المجموع لا يكون في المؤمنين فيما هو حق الله تعالى.
ومما أجيب به عن حجة أصحاب الوجوب على الأعيان: ما قاله القاضي عياض رحمه الله والحديث حجة على داود لا له لأن النبي صلى الله عليه وسلم هم ولم يفعل ولأنه يخبرهم أن من تخلف عن الجماعة فصلاته غير مجزئة وهو موضع البيان.
وأقول: أما الأول: فضعيف جدا إن سلم القاضي أن الحديث في المؤمنين لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يهم إلا بم يجوز له فعله لو فعله.
وأما الثاني - وهو قوله ولأنه لم يخبرهم أن من تخلف عن الجماعة فصلاته غير مجزئة وهو موضع البيان - فلقائل أن يقول: البيان قد يكون بالتنصيص وقد يكون بالدلالة ولما قال صلى الله عليه وسلم: "لقد هممت" إلى آخره, دل على وجوب الحضور عليهم في الجماعة فإذا دل الدليل على
ـــــــ
1 الذي رواه البخاري "644" ومسلم "651".
2 البخاري "3518" ومسلم "2584" "63".(1/117)
أن ما وجب في العبادة كان شرطا فيها غالبا كان ذكره صلى الله عليه وسلم لهذا الهم دليلا على لازمه وهو وجوب الحضور وهو دليل على الشرطية فيكون ذكر هذا الهم دليلا على لازمه وهو وجوب الحضور.
ووجوب الحضور دليلا على لازمه وهو اشتراط الحضور فذكر هذا الهم بيان للاشتراط لهذه الوسيلة ولا يشترط في البيان أن يكون نصا كما قلنا إلا أن لا يتم هذا إلا ببيان أن ما وجب في العبادة كان شرطا فيها وقد قيل: إنه الغالب ولما كان الوجوب قد ينفك عن الشرطية قال أحمد - في أظهر قوليه - إن الجماعة واجبة على الأعيان غير شرط.
ومما أجيب به عن استدلال الموجبين لصلاة الجماعة على الأعيان: أنه اختلف في هذه الصلاة التي هم النبي صلى الله عليه وسلم بالمعاقبة عليها فقيل: العشاء وقيل: الجمعة1 وقد وردت المعاقبة على كل واحدة منهما مفسرة في الحديث وفي بعض الروايات: "العشاء" أو "الفجر" 2 فإذا كانت هي الجمعة - والجماعة شرط فيها - لم يتم الدليل على وجوب الجماعة مطلقا في غير الجمعة وهذا يحتاج أن ينظر في تلك الأحاديث التي بينت فيها تلك الصلاة: أهي الجمعة أو العشاء أو الفجر؟ فإن كانت أحاديث مختلفة قيل بكل واحد منها وإن كان حديثا واحدا اختلف فيه الطرق فقد يتم هذا الجواب إن عدم الترجيح بين بعض تلك الروايات وبعض وعدم إمكان أن يكون الجميع مذكورا فترك بعض الرواة بعضه ظاهرا بأن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أراد إحدى الصلاتين أعني الجمعة أو العشاء - مثلا - فعلى تقدير أن تكون هي الجمعة: لا يتم الدليل وعلى تقدير أن تكون هي العشاء: يتم وإذا تردد الحال وقف الاستدلال.
ومما ينبه عليه هنا: أن هذا الوعيد بالتحريق إذا ورد في صلاة معينة - وهي العشاء أو الجمعة أو الفجر - فإنما يدل على وجوب الجماعة في هذه الصلوات فمقتضى مذهب الظاهرية: أن لا يدل على وجوبها في غير هذه الصلوات عملا بالظاهر وترك اتباع المعنى اللهم إلا أن يؤخذ قوله صلى الله عليه وسلم: "أن آمر بالصلاة فتقام" على عموم الصلاة فحينئذ يحتاج في ذلك إلى اعتبار لفظ ذلك الحديث وسياقه وما يدل عليه فيحمل لفظ "الصلاة" عليه إن أريد التحقيق وطلب الحق والله أعلم.
الرابع: قوله عليه السلام: "ولقد هممت..." الخ أخذ منه تقديم الوعيد والتهديد على العقوبة وسره: أن المفسدة إذا ارتفعت بالأهون من الزواجر اكتفي به من الأعلى.
ـــــــ
1 وهي عند مسلم "652".
2 البخاري "657" ومسلم "651".(1/118)
4 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها" 1 قال: فقال بلال بن عبد الله: والله لنمنعهن قال: فأقبل عليه عبد الله فسبه سبا سيئا ما سمعته سبه مثله قط وقال: أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: "والله لنمنعهن؟"2 وفي لفظ: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله".
الحديث صريح في النهي عن المنع للنساء عن المساجد عند الاستئذان.
وقوله في الرواية الأخرى: "لا تمنعوا إماء الله" يشعر أيضا بطلبهن للخروج فإن المانع إنما يكون بعد وجود المقتضى ويلزم من النهى عن منعهن من الخروج إباحته لهن لأنه لو كان ممتنعا لم ينه الرجال عن منعهن منه والحديث عام في النساء ولكن الفقهاء قد خصوه بشروط وحالات منها: أن لا يتطيبن وهذا الشرط مذكور في الحديث ففي بعض الروايات: "وليخرجن تفلات" 3 وفي بعضها: "إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيبا" 4 وفي بعضها: "إذا شهدت إحداكن العشاء فلا تطيب تلك الليلة" 5 فيلحق بالطيب ما في معناه فإن الطيب إنما منع منه لما فيه من تحريك داعية الرجال وشهوتهم وربما يكون سببا لتحريك شهوة المرأة أيضا فما أوجب هذا المعنى التحق به وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيما امرأة أصابت بخورا فلا تشهد معنا العشاء الآخرة" 6 ويلحق به أيضا: حسن الملابس ولبس الحلى الذي يظهر أثره في الزينة وحمل بعضهم قول عائشة رضي الله عنها في الصحيح7: "لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ما أحدث النساء بعدن: لمنعهن المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل" على هذا تعني إحداث حسن الملابس والطيب والزينة.
ومما خص به بعضهم هذا الحديث: أن منع الخروج إلى المسجد للمرأة الجميلة المشهورة ومما ذكره بعضهم مما يقتضي التخصيص: أن يكون بالليل وقد ورد في كتاب مسلم ما يشعر بهذا المعنى ففي بعض طرقه: "لا تمنعوا النساء من الخروج إلى المساجد بالليل" 8 فالتقييد بالليل قد يشعر بما قال.
ومما قيل أيضا في تخصيص هذا الحديث: أن لا يمزاحن الرجال.
وبالجملة: فمدار هذا كله النظر إلى المعنى فما اقتضاه المعنى من المنع جعل خارجا عن
ـــــــ
1 البخاري "873" ومسلم "442" "135" واللفظ له.
2 البخاري "900" ومسلم "442" "136".
3 أبو داود "565" وتفلات: تاركات للطيب النهاية تفل.
4 مسلم "443" "142"
5 مسلم "443" "141"
6 مسلم "444" "143"
7 البخاري "869" ومسلم "445" واللفظ له.
8 مسلم "442" "138"(1/119)
الحديث وخص العموم به وفي هذا زيادة وهو أن النص وقع عل بعض ما اقتضاه التخصيص وهو عدم الطيب.
وقيل: إن في الحديث دليلا على أن للرجل أن يمنع امرأته من الخروج إلا بإذنه وهذا إن أخذ من تخصيص النهي بالخروج إلى المساجد وأن ذلك يقتضي بطريق المفهوم جواز المنع في غير المساجد فقد يعترض عليه: بأن هذا تخصيص الحكم باللقب ومفهوم اللقب ضعيف عند أهل الأصول.
ويمكن أن يقال في هذا: إن منع الرجال للنساء من الخروج مشهور معتاد وقد قرروا عليه وإنما علق الحكم بالمساجد لبيان محل الجواز وإخراجه عن المنع المستمر المعلوم فيبقى ما عداه على المنع وعلى هذا: فلا يكون منع الرجل لخروج امرأته لغير المسجد مأخوذا من تقييد الحكم بالمسجد فقط.
ويمكن أن يقال فيه وجه آخر: وهو أن في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله" 1 مناسبة تقتضي الإباحة أعني كونهن إماء الله بالنسبة إلى خروجهن إلى مساجد الله ولهذا كان التعبير بإماء الله أوقع في النفس من التعبير بالنساء لو قيل وإذا كان مناسبا أمكن أن يكون علة للجواز وإذا انتفى انتفى الحكم لأن الحكم يزول بزوال علته والمراد بالانتفاء ههنا: انتفاء الخروج إلى المساجد أي للصلاة.
وأخذ من إنكار عبد الله بن عمر علي ولده وسبه إياه: تأديب المعترض على السنن برأيه العامل بهواه وتأديب الرجل ولده وإن كان كبيرا في تغيير المنكر وتأديب العالم من يتعلم عنده إذا تكلم بما لا ينبغي.
وقوله: "فقال بلال بن عبد الله" هذه رواية ابن شهاب عن سالم بن عبد الله وفي رواية ورقاء بن عمر عن مجاهد عن ابن عمر: "فقال ابن له يقال له: واقد" ولعبد الله بن عمر أبناء منهم بلال ومنهم واقد.
5 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها وركعتين بعد الجمعة وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء"2.
وفي لفظ3: "فأما المغرب والعشاء والجمعة: ففي بيته".
ـــــــ
1 مسلم "442" "136".
2 البخاري "1165" ومسلم "729".
3 البخاري "1172" دون لفظة "الجمعة".(1/120)
وفي لفظ1: أن ابن عمر قال: حدثني حفصة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي سجدتين خفيفتين بعدما يطلع الفجر وكانت ساعة لا أدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فيها.
هذا الحديث يتعلق بالسنن الرواتب التي قبل الفرائض وبعدها ويدل على هذا العدد منها وفي تقديم السنن على الفرائض وتأخيرها عنها: معنى لطيف مناسب أما في التقديم: فلأن الإنسان يشتغل بأمور الدنيا وأسبابها فتتكيف النفس من ذلك بحالة بعيدة عن حضور القلب في العبادة والخشوع فيها الذي هو روحها.
فإذا قدمت السنن على الفريضة تأنست النفس بالعبادة وتكيفت بحالة تقرب من الخشوع فيدخل في الفرائض على حالة حسنة لم تكن تحصل له لو لم تقدم السنة فإن النفس مجبولة على التكيف بما هي فيه لا سيما إذا كثر أو طال وورود الحالة المنافية لما قبلها قد يمحو أثر الحالة السابقة أو يضعفه.
وأما السنن المتأخرة: فلما ورد أن النوافل جابرة لنقصان الفرائض2 فإذا وقع الفرض ناسب أن يكون بعده ما يجبر خللا فيه إن وقع.
وقد اختلفت الأحاديث في أعداد ركعات الرواتب فعلا وقولا واختلفت مذاهب الفقهاء في الاختيار لتلك الأعداد والرواتب والمروي عن مالك: أنه لا توقيت في ذلك قال ابن القاسم صاحبه: وإنما يوقت في هذا أهل العراق.
والحق - والله أعلم - في هذا الباب - أعني ما ورد في أحاديث بالنسبة إلى التطوعات والنوافل المرسلة - أن كل حديث صحيح دل على استحباب عدد من هذه الأعداد أو هيئة من الهيئات أو نافلة من النوافل: يعمل به في استحبابه ثم تختلف مراتب ذلك المستحب فما كان الدليل دالا على تأكده - إما بملازمته فعلا أو بكثرة فعله وإما بقوة دلالة اللفظ على تأكد حكمه وإما بمعاضدة حديث آخر له أو أحاديث فيه - تعلو مرتبته في الاستحباب وما يقصر عن ذلك كان بعده في المرتبة وما ورد فيه حديث لا ينتهي إلى الصحة فإن كان حسنا عمل به عن لم يعارضه صحيح أقوى منه وكانت مرتبته ناقصة عن هذه المرتبة الثانية أعني الصحيح الذي لم يدم عليه أو لم يؤكد اللفظ في طلبه وما كان ضعيفا لا يدخل في حيز الموضوع فإن أحدث شعارا في الدين: منع منه وإن لم يحدث فهو محل نظر يحتمل أن يقال: إنه
ـــــــ
1 هو رواية أحمد "4506" والبخاري "1181".
2 أخرج أبو داود "864" وابن ماجه "1425" عن تميم الداري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته فإن أكملها كتبت له نافلة فإن لم يكن أكملها قال الله سبحانه وتعالى للملائكة: انظروا هل تحدون لعبدي من تطوع؟ فأكملوا بها ما ضيع من فريضته ثم توخذ الأعمال على حسب ذلك".(1/121)
مستحب لدخلوه تحت العمومات المقتضية لفعل الخير واستحباب الصلاة ويحتمل أن يقال: إن هذه الخصوصيات بالوقت أو بالحال والهيئة والفعل المخصوص: يحتاج إلى دليل خاص يقتضي استحبابه بخصوصه وهذا أقرب والله أعلم وههنا تنبيهات.
الأولى: أنا حيث قلنا في الحديث الضعيف: إنه يحتمل أن يعمل به لدخوله تحت العمومات فشرطه: أن لا يقوم دليل على المنع منه أخص من تلك العمومات مثاله: الصلاة المذكورة في أول ليلة جمعة من رجب: لم يصح في الحديث ولا حسن فمن أراد فعلها - إدراجا لها تحت العمومات الدالة على فضل الصلاة والتسبيحات - لم يستقم لأنه قد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى أن تخص ليلة الجمعة بقيام"1 وهذا أخص من العموميات الدالة على فضيلة مطلق الصلاة.
الثاني: أن هذا الاحتمال الذي قلناه - من جواز إدراجه تحت العمومات - نريد به في الفعل لا في الحكم باستحباب ذلك الشيء المخصوص بهيئته الخاصة لأن الحكم باستحبابه على تلك الهيئة الخاصة: يحتاج دليلا شرعيا عليه ولا بد بخلاف ما إذا فعل بناء على أنه من جملة الخيرات التي لا تختص بذلك الوقت ولا بتلك الهيئة فهذا هو الذي قلنا باحتماله.
الثالث: قد منعنا إحداث ما هو شعار في الدين ومثاله: ما أحدثته الروافض من عيد ثالث سموه عيد الغدير وكذلك الاجتماع وإقامة شعاره في وقت مخصوص على شيء مخصوص لم يثبت شرعا وقريب من ذلك: أن تكون العبادة من جهة الشرع مرتبة على وجه مخصوص فيريد بعض الناس: أن يحدث فيها أمرا آخر لم يرد به الشرع زاعما أنه يدرجه تحت عموم فهذا لا يستقيم لأن الغالب على العبادات العبد ومأخذها التوقيف وهذه الصورة: حيث لا يدل دليل على كراهة ذلك المحدث أو منعه فأما إذا دل فهو أقوى في المنع وأظهر من الأول ولعل مثال ذلك ما ورد في رفع اليدين في القنوت فإنه قد صح رفع اليد في الدعاء مطلقا فقال بعض الفقهاء: يرفع اليد في القنوت لأنه دعاء فيندرج تحت الدليل المقتضي لاستحباب رفع اليد في الدعاء وقال غيره: يكره لأن الغالب على هيئة العبادة التعبد والتوقيف والصلاة تصان عن زيادة عمل غير مشروع فيها فإذا لم يثبت الحديث في رفع اليد في القنوت: كان الدليل الدال على صيانة الصلاة عن العمل الذي لم يشرع: أخص من الدليل الدال على رفع اليد في الدعاء.
الرابع: ما ذكرناه من المنع: فتارة يكون منع تحريم وتارة منع كراهة ولعل ذلك يختلف بحسب ما يفهم من نفس الشرع من التشديد في الابتداع بالنسبة إلى ذلك الجنس أو التخفيف ألا.
ـــــــ
1 مسلم "1144" عن أبي هريرة بلفظ: "لا تختصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي.".(1/122)
ترى أنا إذا نظرنا إلى البدع المتعلقة بأمور الدنيا: لم تساو البدع المتعلقة بأمور الأحكام الفرعية ولعلها - أعني البدع المتعلقة بأمور الدنيا - لا تكره أصلا بل كثير منها يجزم فيه بعدم الكراهة وإذا نظرنا إلى البدع المتعلقة بالأحكام الفرعية: لم تكن مساوية للبدع المتعلقة بأصول العقائد.
فهذا ما أمكن ذكره في هذا الموضع مع كونه من المشكلات القوية لعدم الضبط فيه بقوانين تقدم ذكرها للسابقين وقد تباين الناس في هذا الباب تباينا شديدا حتى بلغني: أن بعض المالكية مر في ليلة من إحدى ليلتي الرغائب - أعني التي في رجب أو التي في شعبان - بقوم يصلونها وقوم عاكفين على محرم أو ما يشبهه أو ما يقاربه فحسن حال العاكفين على المحرم على حال المصلين لتلك الصلاة وعلل ذلك بأن العاكفين على المحرم عالمون بارتكاب المعصية فيرجى لهم الاستغفار والتوبة والمصلون لتلك الصلاة - مع امتناعها عنده - معتقدون أنهم في طاعة فلا يتوبون ولا يستغفرون.
والتباين في هذا يرجع إلى الحرف الذي ذكرناه وهو إدراج الشيء المخصوص تحت العمومات أو طلب دليل خاص على ذلك الشيء الخاص وميل المالكية إلى هذا الثاني وقد ورد عن السلف الصالح ما يؤيده في مواضع ألا ترى أن ابن عمر رضي الله عنهما قال في صلاة الضحى إنها بدعة لأنه لم يثبت عنده فيها دليل ولم يرد إدراجها تحت عمومات الصلاة لتخصيصها بالوقت المخصوص وكذلك قال في القنوت الذي كان يفعله الناس في عصره إنه بدعة ولم ير إدراجه تحت عمومات الدعاء.
وكذلك ما روى الترمذي من قول عبد الله بن مغفل لابنه في الجهر بالبسملة إياك والحدث1 ولم يرد إدراجه تحت دليل عام وكذلك ما جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه فيما أخرجه الطبراني في معجمه2 بسنده عن قيس بن أبي حازم قال ذكر لابن مسعود قاص يجلس بالليل ويقول للناس: قولوا كذا وقولوا كذا فقال: إذا رأيتموه فأخبروني قال: فأخبروه فأتاه ابن مسعود متقنعا فقال: من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا عبد الله بن مسعود تعلمون أنكم لأهدى من محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعني أو إنكم لمتعلقون بذنب ضلالة وفي رواية لقد جئتم ببدعة ظلماء أو لقد فضلتم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم علما فهذا ابن مسعود أنكر هذا الفعل مع إمكان إدراجه تحت عموم فضل الذكر على أن ما حكيناه في القنوت والجهر بالبسملة من باب الزيادة في العبادات.
الخامس: ذكر المصنف حديث ابن عمر في باب صلاة الجماعة ولاتظهر له مناسبة فإن
ـــــــ
1 الترمذي "244" وابن ماجه "815" وقال أبو عيسى حديث عبد الله بن مغفل حديث حسن.
2 الطبراني في المعجم الكبير "9/125".(1/123)
كان أراد: أن قول ابن عمر صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم معناه: أنه اجتمع معه في الصلاة فليست الدلالة على ذلك قوية فإن المعية مطلقا أعم من المعية في الصلاة وإن كان محتملا.
ومما يقتضي أنه لم يرد ذلك: أنه أورد عقيبه حديث عائشة رضي الله عنها: أنها قالت: "لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشد تعاهدا منه على ركعتي الفجر" وفي لفظ لمسلم: "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها" وهذا لا تعلق له بصلاة الجماعة.
6 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشد تعاهدا منه على ركعتي الفجر1.
وفي لفظ لمسلم: "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها" 2.
فيه دليل على تأكد ركعتي الفجر وعلو مرتبتها في الفضيلة وقد اختلف أصحاب مالك أعني في قوله أنهما سنة أو فضيلة بعد اصطلاحهم على الفرق بين السنة والفضيلة وذكر بعض متأخريهم قانونا في ذلك وهو أن ما واظب صلى الله عليه وسلم عليه مظهرا له في جماعة فهو سنة وما لم يواظب عليه وعده في نوافل الخير فهو فضيلة وما واظب عليه ولم يظهره - وهذا مثل ركعتي الفجر - ففيه قولان أحدهما: أنه سنة والثاني: أنه فضيلة.
واعلم أن هذا إن كان راجعا إلى الاصطلاح: فالأمر فيه قريب فإن لكل أحد أن يصطلح في التسميات على وضع يراه وإن كان راجعا إلى اختلاف في معنى فقد ثبت في هذا الحديث تأكد أمر ركعتي الفجر بالمواظبة عليهما ومقتضاه: تأكد استحبابهما فليقل به ولا حرج على من يسميهما سنة وإن أريد: أنهما مع تأكدهما أخفض رتبة مما واظب عليه الرسول صلى الله عليه وسلم مظهرا له في الجماعة فلا شك أن رتب الفضائل تختلف.
فإن قال قائل: إنما سمي أعلاها رتبة: رجع ذلك إلى الاصطلاح والله أعلم.
ـــــــ
1 البخاري "1169" ومسلم "724" "94".
2 مسلم "725" "96".(1/124)
3 - باب الأذان.
1 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة"1.
المختار عند أهل الأصول: أنه قوله: "أمر" راجع إلى أمر النبي صلى الله عليه وسلم وكذا أمرنا ونهينا لأن الظاهر: انصرافه إلى من له الأمر والنهي شرعا ومن يلزم اتباعه ويحتج بقوله وهو النبي صلى الله عليه وسلم وفي هذا الموضع زيادة على هذا وهو أن العبادات والتقديرات فيها: لا تؤخذ إلا بتوقيف
ـــــــ
1 البخاري "606" و"607" ومسلم "378" "2" واللفظ له.(1/124)
والحديث دليل على الإيتار في لفظ الإقامة ويخرج عنه التكبير الأول فإنه مثنى والتكبير الأخير أيضا وخالف أبو حنيفة وقال: بأن ألفاظ الإقامة كالأذان مثناة واختلف مالك والشافعي في موضع واحد وهو لفظ قد قامت الصلاة فقال مالك: يفرد وظاهر هذا الحديث يدل له وقال الشافعي يثنى للحديث الآخر في صحيح مسلم وهو قوله: "أمر بلالا بأن يشفع الأذان ويوتر الإقامة إلا الإقامة"1 أي إلا لفظ قد قامت الصلاة ومذهب مالك - مع ما مر من الحديث - قد أيد بعمل أهل المدينة ونقلهم وفعلهم في هذا قوي لأن طريقة النقل والعادة في مثله: تقتضي شيوع العمل فإنه لو كان تغير لعلم وعمل به وقد اختلف أصحاب مالك في أن إجماع أهل المدينة حجة مطلقا في مسائل الاجتهاد أو يختص ذلك بما طريقه النقل والانتشار كالأذان والإقامة والصاع والمد والأوقات وعدم أخذ الزكاة من الخضروات؟ فقال بعض المتأخرين منهم: والصحيح التعميم وما قاله: غير صحيح عندنا جزما ولا فرق في مسائل الاجتهاد بينهم وبين غيرهم من العلماء إذ لم يقم دليل على عصمة بعض الأمة.
نعم ما طريقة النقل إذا علم اتصاله وعدم تغيره واقتضت العادة مشروعيته من صاحب الشرع ولو بالتقرير عليه - فالاستدلال به قوي يرجع إلى أمر عادي والله أعلم.
وقد يستدل بهذا الحديث على وجوب الأذان من حيث إنه إذا أمر بالوصف لزم أن يكون الأصل مأمورا به وظاهر الأمر: الوجوب.
وهذه مسألة اختلف فيها والمشهور: أن الأذان والإقامة سنتان وقيل: هما فرضان على الكفاية وهو قول الأصطخري من أصحاب الشافعي وقد يكون له متمسك بهذا الحديث كما قلنا.
2 - عن أبي جحيفة وهب بن عبد الله السوائي قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في قبة له حمراء من أدم قال: فخرج بلال بوضوء فمن ناضح ونائل قال: فخرج النبي صلى الله عليه وسلم عليه حلة حمراء كأني أنظر إلى بياض ساقيه قال: فتوضأ وأذن بلال قال: أتتبع فاه ههنا وههنا يقول يمينا وشمالا حي على الصلاة حي على الفلاح ثم ركزت له عنزة فتقدم وصلى الظهر ركعتين ثم لم يزل يصلي ركعتين حتى رجع إلى المدينة"2.
قوله: عن أبي جحيفة وهب بن عبد الله هو المشهور وقيل وهب بن جابر وقيل:
ـــــــ
1 مسلم "378" "2".
2 البخاري في مواضع منها: "187" "376" "495" ومسلم "503" واللفظ له.(1/125)
وهب بن وهب والسوائي في نسبه مضموم السين ممدود نسبة إلى سواءة بن عامر بن صعصعة مات في إمارة بشر بن مروان بالكوفة وقيل سنة أربع وسبعين.
والكلام عليه من وجوه:
أحدها: قوله: "فخرج بلال بوضوء" بفتح الواو بمعنى الماء وهل هو اسم لمطلق الماء أو بقيد الإضافة إلى الوضوء؟ فيه نظر قد مر.
وقوله: "فمن ناضح ونائل" النضح: الرش قيل معناه أن بعضهم كان ينال منه ما لا يفضل منه شيء وبعضهم كان ينال منه ما ينضحه على غيره وتشهد له الرواية الأخرى في الحديث الصحيح1: "فرأيت بلالا أخرج وضوءا فرأيت الناس يبتدرون ذلك الوضوء فمن أصاب منه شيئا تمسح به ومن لم يصب منه أخذ من بلل يد صاحبه".
الثاني: يؤخذ من الحديث التماس البركة بما لابسه الصالحون بملابسته فإنه ورد في الوضوء الذي توضأ منه النبي صلى الله عليه وسلم ويعدى بالمعنى إلى سائر ما يلابسه الصالحون.
الثالث: قوله: "فجعلت أتتبع فاه ههنا وههنا يريد يمينا وشمالا" فيه دليل على استدارة المؤذن للاستماع عند الدعاء إلى الصلاة وهو وقت التلفظ بالحيعلتين.
وقوله: "يقول: حي على الصلاة حي على الفلاح" يبين وقت الاستدارة وأنه وقت الحيعلتين واختلفوا في موضعين: أحدهما: أنه هل تكون قدماه قارتين مستقبلتي القبلة ولا يلتفت إلا بوجهه دون بدنه أو يستدير كله؟ الثاني: هل يستدير مرتين إحداهما: قوله حي على الصلاة حي على الصلاة والأخرى عند قوله حي الصلاة مرة ثم يلتفت شمالا فيقول حي على الصلاة أخرى ثم يتلفت يمينا ويقول حي على الفلاح مرة ثم يلتفت شمالا فيقول حي على الفلاح أخرى؟ وهذا الوجهان منقولان عن أصحاب الشافعي وقد رجح هذا الثاني بأنه يكون لكل جهة نصيب من كلمة وقيل: إنه اختيار القفال والأقرب عندي إلى لفظ الحديث: هو الأول.
الرابع: قوله: "ثم ركزت له عنزة" أي أثبتت في الأرض يقال: ركزت الشيء أركزه - بضم الكاف في المستقبل - ركزا: إذا أثبته والعنزة قيل: هي عصا في طرفها زج وقيل: الحربة الصغيرة.
الخامس: فيه دليل على استحباب وضع السترة للمصلي حيث يخشى المرور كالصحراء.
ـــــــ
1 البخاري "5859" ومسلم "503" "250".(1/126)
ودليل على الاكتفاء في السترة بمثل غلظ العنزة ودليل على أن المرور من وراء السترة غير ضار.
السادس: قوله: "ثم لم يزل يصلي ركعتين حتى رجع إلى المدينة" هو إخباره عن قصره صلى الله عليه وسلم ومواظبته على ذلك وهو دليل على رجحان القصر على الإتمام وليس دليلا على وجوبه إلا على مذهب من يرى أن أفعاله صلى الله عليه وسلم تدل على الوجوب وليس بمختار في علم الأصول.
السابع: لم يبين في هذه الرواية موضع اجتماع بالنبي صلى الله عليه وسلم وقد بين ذلك في رواية أخرى قالها فيها: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بمكة وهو بالأبطح في قبة له حمراء من أدم" وهذه الرواية المبينة مفيدة لفائدة زائدة فإنه في الرواية الأولى المبهمة يجوز أن يكون اجتماعه بالنبي صلى الله عليه وسلم في طريقه إلى مكة قبل وصوله إليها وعلى هذا يشكل قوله: "فلم يزل يصلي ركعتين حتى رجع إلى المدينة"1 على مذهب الفقهاء من حيث إن السفر تكون له نهاية يوصل إليها قبل الرجوع وذلك مانع من القصر عند بعضهم أما إذا تبين أنه كان الاجتماع بالأبطح فيجوز أن تكون صلاة الظهر التي أدركها ابتداء الرجوع ويكون قوله: "حتى رجع إلى المدينة" انتهاء الرجوع.
3 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم" 2.
في الحديث دليل على جواز اتخاذ مؤذنين في المسجد الواحد وقد استحبه أصحاب الشافعي وأما الاقتصار على مؤذن واحد فغير مكروه وفرق بين أن يكون الفعل مستحبا وبين أن يكون تركه مكروها كما تقدم أما الزيادة على مؤذنين: فليس في الحديث تعرض له ونقل عن بعض أصحاب الشافعي أنه تكره الزيادة على أربعة وهو ضعيف.
وفيه دليل على أنه إذا تعدد المؤذن فالمستحب أن يترتبوا واحدا بعد واحد إذا اتسع الوقت لذلك كما في أذان بلال وابن أم مكتوم رضي الله عنهما فإنهما وقعا مترتبين لكن في صلاة يتسع وقت أدائها كصلاة الفجر وأما في صلاة المغرب: فلم ينقل فيها مؤذنان والفقهاء من أصحاب الشافعي قالوا: يتخيرون بين أن يؤذن كل واحد منهم في زاوية من زوايا المسجد وبين أن يجتمعوا ويؤذنوا دفعة واحدة
ـــــــ
1 مسلم "503" "249".
2 البخاري في مواضع منها "617" 1918" ومسلم "1092" "37".(1/127)
وفي الحديث دليل على جواز الأذان للصبح قبل دخول وقتها ذهب إليه مالك والشافعي والمنقول عن أبي حنيفة خلافه قياسا على سائر الصلوات.
والذين قالوا بجواز الأذان للصبح قبل دخول وقتها اختلفوا في وقته وذكر بعض أصحاب الشافعي: أنه يكون في وقت السحر بين الفجر الصادق والكاذب قال: ويكره التقديم على ذلك الوقت وقد يؤخذ من الحديث ما يقرب هذا وهو أن قوله صلى الله عليه وسلم: "إن بلالا يؤذن بليل" إخبار يتعلق به فائدة للسامعين قطعا وذلك بأن يكون وقت الأذان مشتبها محتملا لأن يكون وقت طلوع الفجر فبين أن ذلك لا يمنع الأكل والشرب إلا عند طلوع الفجر الصادق وذلك يدل على تقارب وقت أذان بلال من الفجر.
وفي الحديث دليل على جواز أن يكون المؤذن أعمى فإن ابن أم مكتوم كان أعمى وفيه دليل على جواز تقليد الأعمى للبصير في الوقت أو جواز اجتهاده فيه فإن ابن أم مكتوم لا بد له من طريق يرجع إليه في طلوع الفجر وذلك إما سماع من بصير أو اجتهاد وقد جاء في الحديث1: "وكان لا يؤذن حتى يقال له: أصبحت أصبحت" وهذا يدل على رجوعه إلى البصير ولو لم يرد ذلك لم يكن في اللفظ دليل على جواز رجوعه إلى الاجتهاد بعينه لأن الدال على أحد الأمرين مبهما لا يدل على واحد منهما معينا.
واسم ابن أم مكتوم فيما قيل: عمرو بن قيس والله أعلم.
4 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول" 2.
الكلام عليه من وجوه:
أحدها: إجابة المؤذن مطلوبة بالاتفاق وهذا الحديث دليل على ذلك ثم اختلف العلماء في كيفية الإجابة3 وظاهر هذا الحديث: أن الإجابة تكون بحكاية لفظ المؤذن في جميع ألفاظ الأذان وذهب الشافعي إلى أن سامع المؤذن يبدل الحيعلة4 بالحولقة - ويقال الحوقلة - لحديث ورد فيها5 وقدمه على الأول لخصوصه وعموم هذا وذكر فيه من المعنى: أن.
ـــــــ
1 البخاري "617".
2 البخاري "611" ومسلم "33" و"384" واللفظ له.
3 انظر مسلم "385".
4 في البخاري قال يحيى وحدثني بعض إخواننا أنه قال لما قال: حي على الصلاة قال لا خول ولا قوة إلا بالله "613".
5 الجيعلة: حكاية قولك: حي على الصلاة حي على الفلاح القاموس حول والحوقلة أو الحولقة: لا حول ولا قوة إلا بالله القاموس حول.(1/128)
الأذكار الخارجة عن الحيعلة يحصل ثوابها بذكرها فيشترك السامع والمؤذن في ثوابها إذا حكاها السامع وأما الحيعلة: فمقصودها الدعاء وذلك يحصل من المؤذن وحده ولا يحصل مقصوده من السامع فعوض عن الثواب الذي يفوته بالحيعلة الثواب الذي يحصل له بالحوقلة ومن العلماء من قال: يحكيه إلى آخر التشهدين فقط.
الثاني: المختار: أن يكون حكاية قول المؤذن في كل لفظة من ألفاظ الأذان عقيب قوله وعلى هذا فقوله: "إذا سمعتم المؤذن" محمول على سماع كل كلمة منه والفاء تقتضي التعقيب فإذا حمل على ما ذكرناه: اقتضى تعقيب قول المؤذن بقول الحاكي وفي اللفظ احتمال لغير ذلك.
الثالث: اختلفوا في أنه إذا سمعه في حال الصلاة: هل يجيبه أم لا؟ على ثلاثة أقوال للعلماء أحدها: أنه يجيب لعموم هذا الحديث والثاني: لا يجيب لأن في الصلاة شغلا كما ورد من حديث ابن مسعود رضي الله عنه متفق عليه1.
والثالث: الفرق بين الفريضة والنافلة دون الفريضة لأن أمر النافلة أخف وذكر بعض مصنفي أصحاب الشافعي: أنه هل إجابته في الأذكار التي في الأذان إذا كان في الصلاة؟ وجهان مع الجزم بأنها لا تبطل وهذا ينبغي أن يخص بما إذا كان في غير قراءة الفاتحة أم الحيعلة: فإما أن يجيب بلفظها أو لا فإن أجاب بالحوقلة لم تبطل لأنه ذكر كما في غيرها من الذكر الذي في الأذان وإن أجاب بلفظها بطلب إلا أن يكون ناسبا أو جاهلا بأنه يبطل الصلاة.
وذكر أصحاب مالك في هذه الصورة قولين - أعني إذا قال: حي على الصلاة في الصلاة - هل تبطل؟ والذين قالوا: بالبطلان عللوه بأنه مخاطبة للآدميين فأبطل بخلاف بقية ألفاظ الأذان التي هي ذكر والصلاة محل الذكر.
ووجه من قال بعدم البطلان: ظاهر هذا الحديث وعمومه ومن جهة المعنى: إنه لا يقصد بقوله حي على الصلاة دعاء الناس إلى الصلاة بل حكاية ألفاظ الأذان.
الرابع: في الحديث دليل على أن لفظة المثل لا تقتضي المساواة من كل وجه فإنه قال: "فقولوا مثل ما يقول المؤذن" ولا يراد بذلك المماثلة في كل الأوصاف حتى رفع الصوت
ـــــــ
1 البخاري "3875" ومسلم "538" "34" واللفظ للبخاري.
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنا نسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فيرد علينا فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد علينا فقلنا: يا رسول الله إنا كنا نسلم عليك فترد علينا قال: "إن في الصلاة شغلا" فقلت لإبراهيم: كيف تصنع أنت؟ قال: أرد في نفسي.(1/129)
الخامس: قيل في مناسبة جواب الحيطة بالحوقلة: إنه لما دعاهم إلى الحضور أجابوا بقولهم لا حول ولا قوة إلا بالله أي بمعونته وتأييده والحول والقوة غير مترادفتين فالقوة القدرة على الشيء والحول: الاحتيال في تحصيله والمحاولة له والله أعلم بالصواب.(1/130)
4 - باب استقبال القبلة.
1 - عن ابن عمر رضي الله عنهما: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجهه يومئ برأسه وكان ابن عمر يفعله"1.
وفي رواية: "كان يوتر على بعيره"2 ولمسلم3: "غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة" وللبخاري4: "إلا الفرائض".
الكلام عليه من وجوه:
أحدها: التسبيح يطلق على صلاة النافلة وهذا الحديث منه فقوله يسبح أي يصلي النافلة وربما أطلق على مطلق الصلاة وقد فسر قوله سبحانه: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [قّ: 39] بصلاة الصبح وصلاة العصر والتسبيح: حقيقة في قول القائل سبحان الله فإذا أطلق على الصلاة فإما من باب إطلاق اسم البعض على الكل كما قالوا في الصلاة: إن أصلها الدعاء ثم سميت العبادة كلها بذلك لاشتمالها على الدعاء وإما لأن المصلي منزه لله عز وجل بإخلاص العبادة له وحده والتسبيح التنزيه فيكون ذلك من مجاز الملازمة لأن التنزيه يلزم من الصلاة المخلصة وحده.
الثاني: الحديث دليل على جواز النافلة على الراحلة وجواز صلاتها حيث توجهت بالراكب راحلته وكأن السبب فيه: تيسير تحصيل النوافل على المسافر وتكثيرها فإن ما ضيق طريقه قل وما اتسع طريقه سهل فاقتضت رحمة الله تعالى بالعباد أن قلل الفرائض عليهم تسهيلا للكلفة وفتح لهم طريقة تكثير النوافل تعظيما للأجور.
الثالث: قوله: "حيث كان وجهه" يستنبط منه ما قال بعض الفقهاء: إن جهة الطريق تكون بدلا عن القبلة حتى لا ينحرف عنها لغير حاجة المسير.
الرابع: الحديث يدل على الإيماء ومطلقه: يقتضي الإيماء بالركوع والسجود والفقهاء
ـــــــ
1 البخاري "1105" ومسلم "700" "37" واللفظ للبخاري.
2 البخاري "999".
3 مسلم "700" "39".
4 البخاري "1000".(1/130)
قالوا: يكون الإيماء للسجود أخفض من الإيماء للركوع ليكون البدل على وفق الأصل وليس في الحديث ما يدل عليه ولا على ما ينفيه1 وفي اللفظ ما يدل على أنه لم يأت بحقيقة السجود إن حمل قوله يومئ على الإيماء في الركوع والسجود معا.
الخامس: استدل بإيتاره صلى الله عليه وسلم على البعير على أن الوتر ليس بواجب بناء على مقدمة أخرى وهي: أن الفرض لا يقام على الراحلة وأن الفرض مرادف للواجب.
السادس: قوله: غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة قد يتمسك به في أن صلاة الفرض لا تؤدي على الراحلة" وليس ذلك بقوي في الاستدلال لأنه ليس فيه إلا ترك الفعل المخصوص وليس الترك بديل على الامتناع وكذا الكلام في قوله: "إلا الفرائض" فإنه إنما يدل على ترك هذا الفعل وترك الفعل لا يدل على امتناعه كما ذكرنا.
وقد يقال: إن دخول وقت الفريضة مما يكثر على المسافرين فترك الصلاة لها على الراحلة دائما مع فعل النوافل على الراحلة يشعر بالفرقان بينهما في الجواز وعدمه مع ما يتأيد به من المعنى وهو أن الصلوات المفروضة: قليلة محصورة لا يؤدي النزول لها إلا نقصان المطلوب بخلاف النوافل المرسلة فإنها لا حصر لها فتكلف النزول لها يؤدي نقصان المطلوب من تكثيرها مع اشتغال المسافر والله أعلم.
2 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن وقد أمر أن يستقبل القبلة فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشأم فاستداروا إلى الكعبة"2.
يتعلق بهذا الحديث مسائل أصولية وفروعية نذكر منها ما يحضرنا الآن.
أما الأصولية: فالمسألة الأولى منها: قبول خبر الواحد وعادة الصحابة في ذلك: اعتداد بعضهم بنقل بعض وليس المقصود في هذا: أ ن تثبت قبول خبر الواحد بهذا الخبر الذي هو خبر واحد فإن ذلك من إثبات الشيء بنفسه وإنما المقصود بذلك: التنبيه على مثال من أمثلة قبولهم لخبر الواحد ليضم إليه أمثال لا تحصى فيثبت بالمجموع القطع بقبولهم لخبر الواحد.
المسألة الثانية: ردوا هذه المسألة إلى أن نسخ الكتاب والسنة المتواترة هل يجوز بخبر الواحد أم لا؟ منعه الأكثرون لأن المقطوع لا يزال بالمظنون ونقل عن الظاهرية جوازه.
ـــــــ
1 أخرج الترمذي "351" من حديث جابر رضي الله عنه عنه قال: "بعثني النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة فجئته وهو يصلي على راحلته نحو المشرق والسجود أخفض من الركوع", وقال أبو عيسى حديث جابر حديث حسن صحيح.
2 البخاري "403" ومسلم "526" "13".(1/131)
واستدلوا للجواز بهذا الحديث ووجه الدليل: أنهم عملوا بخبر الواحد ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم.
وفي هذا الاستدلال عندي مناقشة ونظر فإن المسألة مفروضة في نسخ الكتاب والسنة المتواترة بخبر الواحد ويمتنع عادة أن يكون أهل قباء - مع قربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وانثيالهم له وتيسر مراجعتهم له - أن يكون مستندهم في الصلاة إلى بيت المقدس خبرا عنه صلى الله عليه وسلم مع طول المدة وهي ستة عشر شهرا من غير مشاهدة لفعله أو مشافهة من قوله ولو سلمت أن ذلك غير ممتنع في العادة فلا شك أنه يمكن أن يكون المستند مشاهدة فعل أو مشافهة قول والمحتمل الأمرين لا يتعين حمله على أحدهما فلا يتعين حمل استقبالهم قول والمحتمل على خبر عنه صلى الله عليه وسلم بل يجوز أن يكون على مشاهدة وإذا جاز انتفاء أصل الخبر جاز انتفاء خبر المتواتر لأن انتفاء المطلق يلزم منه انتفاء قيوده فإذا جاز انتفاء خبر التواتر لم يلزم أن يكون الدليل منصوبا في المسألة المفروضة.
فإن قلت: الاعتراض على ما ذكرناه من وجهين أحدهما: أن ما ادعيت من امتناع أن يكون مستندا أهل قباء مجرد الخبر من غير مشاهدة - إن صح - إنما يصح في جميعهم أما في بعضهم: فلا يمتنع عادة أن يكون مستنده الخبر المتواتر.
الثاني: أن ما أبديته من جواز استنادهم إلى المشاهدة: يقتضي أنهم أزالوا المقطوع بالمظنون لأن المشاهدة طريق قطع وإذا جاز إزالة المقطوع به بالمشاهدة جاز زوال المقطوع به بخبر التواتر بخبر الواحد فإنهما مشتركان في زوال المقطوع بالمظنون لأن المشاهدة طريق قطع وإذا جاز إزالة المقطوع به بالمشاهدة جاز زوال المقطوع به التواتر بخبر الواحد فإنهما مشتركان في زوال المقطوع بالمظنون.
قلت: أما الجواب عن الأول: فإنه إذا سلم امتناع ذلك على جميعهم فقد انقسموا إذن إلى من يجوز أن يكون مستنده التواتر ومن يكون مستنده المشاهدة فهؤلاء المستديرون لا يتعين أن يكونوا ممن استند إلى التواتر فلا يتعين حمل الخبر عليهم.
فإن قال قائل: قوله: "أهل قباء" يقتضي أن يكون بعض من استدار مستنده التواتر فيصح الاحتجاج.
قلت: لا شك في إمكان أن يكون الكل مستندهم المشاهدة ومع هذا التجويز: لا يتعين حمل الحديث على ما ادعوه إلا أن يتبين أن مستند الكل أو البعض خبر التواتر ولا سبيل إلى ذلك.
وأما [جواب] الثاني: فالجواب عنه من وجهين: أحدهما: أن المقصود التنبيه والمناقشة في الاستدلال بالحديث المذكور على المسألة المعينة وقد تم الغرض من ذلك وأما إثباتها بطريق القياس على المنصوص: فليس بمقصود الثاني: أن يكون إثبات جواز نسخ خبر الواحد للخبر.(1/132)
المتواتر مقيسا على جواز نسخ خبر الواحد المقطوع به مشاهدة بخبر الواحد المظنون بجامع اشتراكهما في زوال المقطوع بالمظنون لكنهم نصبوا الخلاف مع الظاهرية وفي كلام بعضهم ما يدل على أن من عداهم لم يقل به والظاهرية لا يقولون بالقياس فلا يصح استدلالهم بهذا الخبر على المدعي وهذا الوجه مختص بالظاهرية والله أعلم.
المسألة الثالثة: رجعوا إلى الحديث أيضا في أن نسخ السنة بالكتاب جائز ووجه التعلق بالحديث في ذلك: أن المخبر لهم ذكر أنه: "أنزل الليلة قرآن" فأحال في النسخ على الكتاب ولو لم يذكر ذلك لعلمنا أن ذلك من الكتاب وليس التوجه إلى بيت المقدس بالكتاب إذ لا نص في القرآن على ذلك فهو بالسنة ويلزم من مجموع ذلك نسخ السنة بالكتاب والمنقول عن الشافعي: خلافه.
ويعترض على هذا بوجوه بعيدة أحدها: أن يقال: المنسوخ كان ثابتا بكتاب نسخ لفظه والثاني: أن يقال: النسخ كان بالسنة ونزل الكتاب على وفقها الثالث: أن يجعل بيان المجمل كالملفوظ به وقوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة: 109] مجمل فسر بأمور منها: التوجه إلى بيت المقدس فيكون كالمأمور به لفظا في الكتاب.
وأجيب عن الأول والثاني: بأن مساق هذا التجويز: يفضي إلى أن لا يعلم ناسخ من منسوخ بعينه أصلا فإن هذين الاحتمالين مطردان في كل ناسخ ومنسوخ والحق أن هذا التجويز: ينفي القطع اليقين بالنظر إليه إلا أن تحتف القرائن بنفي هذا التجويز كما في كون الحكم بالتحويل إلى القبلة مستندا إلى الكتاب العزيز.
وأجيب عن الثالث: بأنا لا نسلم بأن البيان كالملفوظ به في كل أحكامه.
المسألة الرابعة: اختلفوا في أن حكم الناسخ هل يثبت في حق المكلف قبل بلوغ الخطاب له؟ وتعلقوا بهذا الحديث في ذلك.
ووجه التعلق: أنه لو ثبت الحكم في أهل قباء قبل بلوغ الخبر إليهم لبطل ما فعلوه من التوجه إلى بيت المقدس فيفقد شرط العبادة في بعضها فتبطل.
المسألة الخامسة: قيل فيه دليل على جواز مطلق النسخ لأن ما دل على جواز الأخص دل على جواز الأعم.
المسألة السادسة: قد يؤخذ منه جواز الاجتهاد في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم أو بالقرب منه لأنه كان يمكن أن يقطعوا الصلاة وأن يبنوا فرجحوا البناء وهو محل الاجتهاد تمت المسائل الأصولية.(1/133)
وأما المسائل الفروعية فالأولى منها: أن الوكيل إذا عزل فتصرف قبل بلوغ الخبر إليه هل يصح تصرفه بناء على مسألة النسخ؟ وهل يثبت حكمه قبل بلوغ الخبر؟ وقد نوزع في هذا البناء على ذلك الأصل.
ووجه قول هذا المنازع في هذا البناء على مسألة النسخ أن النسخ خطاب تكليفي إما بالفعل أو بالاعتقاد ولا تكليف إلا مع الإمكان ولا إمكان مع الجهل بورود الناسخ وأما تصرف الوكيل فمعنى ثبوت حكم العزل فيه أنه باطل ولا استحالة في أن يعلم بعد البلوغ بطلانه قبل بلوغ الخبر وعلى تقدير صحة هذا البناء فالحكم هناك في مسألة الوكيل يكون مأخوذا بالقياس لا بالنص.
الثانية: إذا صلت الأمة مكشوفة الرأس ثم علمت بالعتق في أثناء الصلاة هل تقطع الصلاة أم لا؟ فمن أثبت الحكم قبل بلوغ العلم إليها قال بفساد ما فعلت فألزمها القطع ومن لم يثبت ذلك لم يلزمها القطع إلا أن يتراخى سترها لرأسها وهذا أيضا مثل الأول وأنه بالقياس.
الثالثة: قيل فيه دليل على جواز تنبيه من ليس في الصلاة لمن هو فيها وأن يفتح عليه كذا ذكره القاضي عياض رحمه الله وفي استدلاله على جواز أن يفتح عليه مطلقا نظر لأن هذا المخبر عن تحويل القبلة مخبر عن واجب أو آمر بترك ممنوع ومن يفتح الله على غيره ليس كذلك مطلقا فلا يساويه ولا يلحق به هذا إذا كان الفتح في غير الفاتحة.
الرابعة: قيل: فيه دليل على جواز الاجتهاد في القبلة ومراعاة السمت لأنهم استداروا إلى جهة الكعبة لأول وهلة في الصلاة قبل قطعهم على موضع عينها.
الخامسة: قد يؤخذ منه أن من صلى إلى غير القبلة بالاجتهاد ثم تبين له الخطأ أنه لا يلزمه الإعادة لأنه فعل ما وجب عليه في ظنه مع مخالفة الحكم في نفس الأمر كما أن أهل قباء فعلوا ما وجب عليهم عند ظنهم بقاء الأمر ولم يفسد فعلهم ولا أمروا بالإعادة.
السادسة: قال الطحاوي: في هذا دليل على أن من لم يعلم بفرض الله تعالى ولم تبلغه الدعوة ولا أمكنه استعلام ذلك من غيره فالفرض غير لازم له والحجة غير قائمة عليه وركب بعض الناس على هذا: مسألة من أسلم في دار الحرب أو أطراف بلاد الإسلام حيث لم يجد من يستعمله عن شرائع الإسلام هل يجب عليه أن يقضي ما مر من صلاة وصيام لم يعلم وجوبهما؟ وحكى عن مالك والشافعي إلزامه ذلك أو ما هذا معناه لقدرته على الاستعلام والبحث والخروج لذلك وهذا أيضا يرجع إلى القياس والله أعلم.
وقوله في الحديث وقد أمر أن يستقبل القبلة فاستقبلوها يروى بكسر الباء على الأمر ويروى فاستقبلوها بفتحها على الخبر.(1/134)
3 - عن أنس بن سيرين قال: "استقبلنا أنسا حين قدم من الشام فلقبناه بعين التمر فرأيته يصلي على حمار ووجهه من ذا الجانب يعين عن يسار القبلة فقلت: رأيتك تصلي لغير القبلة؟ فقال: لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله ما فعلته"1.
الحديث يدل على جواز النافلة على الدابة إلى غير القبلة وهو كما تقدم في حديث ابن عمر وليس في هذا الحديث إلا زيادة أنه على حمار فقد يؤخذ منه طهارته لأن ملامسته مع التحرز عنه متعذرة لا سيما إذا طال زمن ركوبه فاحتمل العرق وإن كان يحتمل أم يكون على حائل بينه وبينه.
وقوله من الشأم هو الصواب في هذا الموضع ووقع في كتاب مسلم حين قدم من الشام وقالوا: هو وهم وإنما خرجوا من البصرة ليتلقوه من الشام وقوله: "رأيتك تصلي إلى غير القبلة فقال: لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله ما فعلته" إنما يعود إلى الصلاة إلى غير القبلة فقط وهو الذي سئل عنه لا إلى غير ذلك من هيئته والله أعلم.
و راوي هذا الحديث عن أنس بن مالك: أبو حمزة أنس بن سيرين أخو محمد بن سيرين مولى أنس بن مالك ويقال: إنه لما ولد ذهب به إلى أنس بن مالك فسماه أنسا وكناه بأبي حمزة باسمه وكنيته متفق على الاحتجاج بحديثه مات بعد أخيه محمد وكانت وفاة أخيه محمد سنة عشر ومائة.
ـــــــ
1 البخاري "1100" ومسلم "702".(1/135)
5 - باب الصفوف.
1 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سووا صفوفكم فإن تسوية الصفوف من تمام الصلاة" 1.
تسوية الصفوف: اعتدال القائمين بها على سمت واحد وقد تدل تسويتها أيضا على سد الفرج فيها بناء على التسوية المعنوية والاتفاق على أن تسويتها بالمعنى الأول والثاني أمر مطلوب وإن كان الأظهر أن المراد بالحديث الأول.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "من تمام الصلاة" يدل على أن ذلك مطلوب وقد يؤخذ منه أيضا أنه مستحب غير واجب لقوله: "من تمام الصلاة" ولم يقل: إنه من أركانها ولا واجباتها وتمام الشيء: أمر زائد على وجود حقيقته التي لا يتحقق إلا بها مشهور الاصطلاح وقد ينطلق بحسب الوضع على بعض ما لا تتم الحقيقة إلا به.
ـــــــ
1 البخاري "723" ومسلم "433".(1/135)
2 - عن النعمان بن بشار رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم" 1.
ولمسلم2: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسوي صفوفنا حتى كأنما يسوي بها القداح حتى إذا رأى أن قد عقلنا عنه ثم خرج يوما فقام حتى إذا كاد أن يكبر فرأى رجلا باديا صدره فقال: "عباد الله لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم".
النعمان بن بشير بفتح الباء وكسر الشين المعجمة ابن سعد بن ثعلبة الأنصاري ولد قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بثمان أو ست سنوات قال أبو عمر: والأول أصح إن شاء الله قتل سنة أربع وستين بمرج راهط.
تسوية الصفوف قد تقدم الكلام عليها وقوله: "أو ليخالفن الله بين وجوهكم" معناه: إن لم تسووا لأنه قابل بين التسوية وبينه أي الواقع أحد الأمرين: إما التسوية أو المخالفة.
وكان يظهر لي في قوله: "أو ليخالفن الله بين وجوهكم" أنه راجع إلى اختلاف القلوب وتغير بعضهم على بعض فإن تقدم إنسان على الشخص أو على الجماعة وتخليفه إياهم من غير أن يكون مقاما للإمامة بهم قد يوغر صدورهم وهو موجب لاختلاف قلوبهم فعبر عنه بمخالفة وجوههم لأن المختلفين في التباعد والتقارب يأخذ كل واحد منهما غير وجه الآخر فإن شئت بعد ذلك أن تجعل الوجه بمعنى الجهة وإن شئت أن تجعل الوجه معبرا به عن اختلاف المقاصد وتباين النفوس فإن من تباعد عن غيره وتنافر زوى وجهه عنه فيكون المقصود: التحذير من وقوع التباغض والتنافر.
وقال القاضي عياض رحمه الله في قوله: "أو ليخالفن الله بين وجوهكم" يحتمل أنه كقوله: "أن يحول الله صورته صورة حمار" 3 فيخالف بصفتهم إلى غيرها من المسوخ أو يخالف بوجه من لم يقم صفه ويغير صورته عن وجه من أقامه أو يخالف باختلاف صورها بالمسخ والتغيير.
وأقول: أما الأول وهو قوله: فيخالف بصفتهم إلى غيرها من المسوخ فليس فيه محافظة ظاهرة على مقتضى لفظة بين والأليق بهذا المعنى أن يقال: يخالف وجوهكم عن كذا إلا أن يراد المخالفة بين وجوه من مسخ ومن لم يمسخ فهذا الوجه الثاني وأما الوجه الأخير ففيه محافظة على معنى بين إلا أنه ليس فيه محافظة ظاهرة على قوله: "وجوهكم" فإن
ـــــــ
1 البخاري "717" ومسلم "436".
2 مسلم "436" مع اختلاف يسير.
3 البخاري "691" ومسلم "427" واللفظ لمسلم: "أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار".(1/136)
تلك المخالفة بعد المسخ وليست تلك صفة وجوههم عند المخالفة في الفعل والأمر في هذا قريب محتمل.
وقوله القداح هي خشب السهام حين تبرى وتنحت وتهيأ للرمي وهي مما يطلب فيه التحرير وإلا كان السهم طائشا وهي مخالفة لغرض إصابة الغرض فيضرب به المثل لتحرير التسوية لغيره.
و في الحديث دليل على أن تسوية الصفوف من وظيفة الإمام وقد كان بعض أئمة السلف يوكل بالناس من يسوي صفوفهم1.
وقوله حتى إذا رأى أن قد عقلنا يحتمل أن المراد أنه كان يراعيهم في التسوية ويراقبهم إلى أن علم أنهم عقلوا المقصود منه وامتثلوه فكان ذلك غاية لمراقبتهم وتكلف مراعاة إقامتهم.
وقوله: حتى إذا كاد أن يكبر فرأى رجلا باديا صدره فقال: "عباد الله..." الخ يستدل به على جواز كلام الإمام فيما بين الإقامة والصلاة لما يعرض من حاجة وقيل: أن العلماء اختلفوا في كراهة ذلك.
3 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن جدته مليكة دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام صنعته فأكل منه ثم قال: "قوموا فلأصلي لكم؟", قال أنس: فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس فنضحته بماء فقام عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصففت أنا واليتيم وراءه والعجوز من ورائنا فصلى لنا ركعتين ثم انصرف"2.
ولمسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلى به وبأمه فأقامني عن يمينه وأقام المرأة خلفنا"3.
قال صاحب الكتاب: اليتيم هو ضميرة جد حسين بن عبد الله بن ضميرة.
مليكة بضم الميم وفتح اللام وبعض الرواة: رواه بفتح الميم وكسر اللام والأصح الأول قيل هي أم سليم وقيل أم حرام قال بعضهم: ولا يصح.
وهذا الحديث رواه إسحاق بن عبد الله بن أبي طليحة عن أنس بن مالك فقيل: الضمير في جدته عائد على إسحق بن عبد الله وإنها أم أبيه قاله الحافظ أبو عمر فعلى هذا كان ينبغي.
ـــــــ
1 روى الإمام مالك في الموطأ "1/128" أن عمر بن الخطاب كان يأمر بتسوية الصفوف فإذا جاؤوه فأخبروه أن قد استوت كبر.
وفيه عن عثمان: .حتى جاءه رجال قد كان وكلهم بتسموية الصفوف.
2 البخاري "380" ومسلم "658".
3 مسلم "660" "269" وفيه ".صلى به وبأمه أو خالته."(1/137)
للمصنف أن يذكر إسحاق فإنه لما أسقط ذكره تعين أن تكون جدة أنس وقال غير أبي عمر أنها جدة أنس أم أمه فعلى هذا لا يحتاج إلى ذكر إسحاق وعل كل حال فالأحسن إثباته.
وفي الحديث دليل على ما كان النبي صلى الله عليه وسلم من التواضع وإجابة دعوة الداعي ويستدل به على إجابة أولي الفضل لمن دعاهم لغير الوليمة.
وفيه أيضا: جواز الصلاة للتعليم أو لحصول البركة بالاجتماع فيها أو بإقامتها في المكان المخصوص وهو الذي قد يشعر به قوله لكم.
وقوله: إلى حصير قد اسود من طول ما لبس أخذ منه: إن الافتراش يطلق عليه لباس ورتب عليه مسألتان: إحداهما: لو حلف لا يلبس ثوبا ولم يكن له نية فافترشه: أنه يحنث والثانية: إن افتراش الحرير لباس له فيحرم على أن ذلك - أعني افتراش الحرير - قد ورد فيه نص يخصه1.
وقوله فنضحته النضح: يطلق على الغسل ويطلق على ما دونه وهو الأشهر فيحتمل أن يريد الغسل فيكون ذلك لأحد أمرين: إما لمصلحة دنيوية وهي تليينه وتهيئته للجلوس عليه وأما لمصلحة دينية وهي طلب طهارته وزوال ما يعرض من الشك في نجاسته لطول لبسه ويحتمل أن يراد ما دون الغسيل وهو النضح الذي تستحبه المالكية لما يشك في نجاسته وقد قرب ذلك بأن أبا عمير كان معهم في البيت واحتراز الصبيان من النجاسة بعيد.
وقوله: فصففت أنا واليتيم وراءه حجة لجمهور الأمة في أن موقف الاثنين وراء الإمام وكان بعض المتقدمين أن يكون موقف أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره.
وفيه دليل على أن للصبي موقفا في الصف.
وفيه دليل أن موقف المرأة وراء موقف الصبي.
ولم يحسن من استدل به على أن صلاة المنفرد خلف الصف صحيحة فأن هذه الصورة ليست من صور الخلاف وأبعد من استدل به أنها لا تصح إمامتها للرجل لأنه وجب تأخرها في الصف فلا تقدم إماما.
قوله: ثم انصرف الأقرب: أنه أراد عن البيت ويحتمل أنه أراد الانصراف من الصلاة أما على رأي أبي حنيفة فبناء على أن السلام لا يدخل تحت مسمى الركعتين وأما على رأي غيره فيكون الانصراف عبارة عن التحلل الذي يستعقب السلام
ـــــــ
1 في البخاري "5837" نهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نشرب في آنية الذهب والفضة وأن نأكل فيها وعن لبس الحرير والديباج وأن نجلس عليه.(1/138)
وفي الحديث دليل على جواز الاجتماع في النوافل خلف إمام وفيه دليل على صحة صلاة الصبي والاعتداد بها والله أعلم.
4 - عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: "بت عند خالتي ميمونة فقام النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل فقمت عن يساره فأخذ برأسي فأقامني عن يمينه"1.
خالته ميمونة بنت الحارث أخت أمه أم الفضل بنت الحرث ومبيته عندها فيه دليل على جواز مثل ذلك من المبيت عند المحارم مع الزوج وقيل: إنه تحرى لذلك وقتا لا يكون فيه ضرر بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو وقت الحيض وقيل أنه بات عندها لينظر صلاة النبي صلى الله عليه وسلم.
وفيه دليل على أن للصبي موقفا مع الإمام في الصف وإذا أخذ غير ما ورد في غير هذه الرواية من أنه: "دخل في صلاة النفل بعد دخول النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة" ففيه دليل على جواز الشروع في الائتمام بمن لم ينو الإمامة.
وفيه دليل على أن موقف المأموم الواحد عن يمين الإمام.
وفيه دليل على أن العمل اليسير في الصلاة لا يفسدها.
ـــــــ
1 البخاري في مواضع منها: "699" ومسلم "763" واللفظ للبخاري.(1/139)
6 - باب الإمامة.
1 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام: أن يحول الله رأسه رأس حمار أو يجعل صورته صورة حمار؟" 1.
الحديث دليل على منع تقدم المأموم على الإمام في الرفع هذا منصوصه في الرفع من الركوع والسجود.
ووجه الدليل: التوعد على الفعل ولا يكون التوعد إلا عن ممنوع ويقاس عليه: السبق في الخفض كالهوي إلى الركوع والسجود.
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام" ما يدل على أن فاعل ذلك متعرض لهذا الوعيد وليس فيه دليل على وقوعه ولا بد.
وقوله: "أن يحول الله رأسه رأس حمار أو يجعل صورته صورة حمار" يقتضي تغيير الصورة الظاهرة ويحتمل أن يرجع إلى أمر معنوي مجازي فإن الحمار موصوف بالبلادة ويستعار هذا المعنى للجاهل بما يجب عليه من فروض الصلاة ومتابعة الإمام وربما رجح هذا المجاز بأن التحويل في الظاهرة لم يقع مع كثرة رفع المأمومين قبل الإمام ونحن قد
ـــــــ
1 البخاري "691" ومسلم "427" "114" "115" واللفظ له.(1/139)
بينا أن الحديث لا يدل على وقوع ذلك وإنما يدل على كون فاعله متعرض لذلك وكون فعله صالحا لأن يقع عند ذلك الوعيد ولا يلزم من التعرض للشيء وقوع ذلك الشيء.
وأيضا فالمتوعد به لا يكون موجودا في الوقت الحاضر أعني عند الفعل والجهل موجود عند الفعل.
ولست أعني بالجهل ههنا: عدم العلم بالحكم بل إما هذا وإما أن يكون عبارة عن فعل مالا يسوغ وإن كان العلم بالحكم موجودا لأنه قد يقال في هذا: إنه جهل ويقال لفاعله جاهل والسبب فيه: أن الشيء ينفي لانتفاء ثمرته والمقصود منه فيقال: فلان ليس بإنسان إذا لم يفعل الأفعال المناسبة للإنسانية.
ولما كان المقصود من العلم الجهل به جاز أن يقال لمن لا يعمل بعلمه: إنه جاهل غير عالم.
2 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه فإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد وإذا سجد فاسجدوا وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون" 1.
3 - وما في معناه من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته وهو شاك صلى جالسا وصلى وراءه قوم قياما فأشار إليهم أن اجلسوا لما انصرف قال: "إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا ركع فاركعوا وإذا رفع فارفعوا وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا لك الحمد وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون" 2 وهذا الحديث الثالث.
الكلام على حديث أبي هريرة من وجوه:
الأول: اختلفوا في جواز صلاة المفترض خلف المتنفل فمنعها مالك وأبو حنيفة وغيرهما واستدل لهم بهذا الحديث وجعل اختلاف النيات داخلا تحت قوله: "فلا تختلفوا عليه" وأجاز ذلك الشافعي وغيره والحديث محمول في هذا المذهب على الاختلاف في الأفعال الظاهرة.
الثاني: الفاء في قوله: "فإذا ركع فاركعوا" الخ تدل على أن أفعال المأموم تكون بعد أفعال الإمام الثاني: الفاء في: "فإذا ركع فاركعوا" الخ تدل على أن أفعال المأموم تكون بعد أفعال الإمام لأن الفاء تقتضي التعقيب وقد مضى الكلام في المنع من السبق.
وقال الفقهاء: المساواة في هذه الأشياء مكروهة
ـــــــ
1 البخاري "722" ومسلم "414".
2 البخاري "1113" "1114" ومسلم "411" "77".(1/140)
الثالث: قوله: "وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد".
يستدل به من يقول إن التسميع مختص بالإمام فإن قوله: "ربنا ولك الحمد" مختص بالمأموم وهو اختيار مالك رحمه الله.
الرابع: اختلفوا في إثبات الواو وإسقاطها من قوله: "ولك الحمد" بحسب اختلاف الروايات وهذا اختلاف في الاختيار لا في الجواز ويرجع إثباتها بأنه يدل على زيادة معنى لأنه يكون التقدير ربنا استجب لنا أو ما قارب ذلك ولك الحمد فيكون الكلام مشتملا على معنى الدعاء ومعنى الخبر ة إذا قيل بإسقاط الواو دل على أحد هذين.
الخامس: قوله: "و إذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون" أخذ به قوم فأجازوا الجلوس خلف الإمام القاعد للضرورة مع قدرة المأمومين على القيام وكأنهم جعلوا متابعة الإمام عذرا في إسقاط القيام ومنعه أكثر الفقهاء المشهورين.
والمانعون اختلفوا في الجواب عن هذا الحديث على طرق.
الطريق الأول: ادعاء كونه منسوخا وناسخه صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالناس في مرض موته قاعدا وهم قيام وأبو بكر قائم يعلمهم بأفعال صلاته وهذا بناء على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان الإمام وأن أبا بكر كان مأموما في تلك الصلاة وقد وقع في ذلك خلاف وموضع الترجيح هو الكلام على ذلك الحديث.
قال القاضي عياض: قالوا: ثم نسخت إمامة القاعد جملة قوله: "لا يؤمن أحد بعدي جالسا", وبفعل الخلفاء بعده وإنه لم يؤم أحد منه جالسا وإن كان النسخ لا يمكن بعد النبي صلى الله عليه وسلم فمثابرتهم على ذلك تشهد بصحة نهيه عن إمامة القاعد بعده وتقوي لين هذا الحديث.
وأقول: هذا ضعيف أما الحديث في: "لا يؤمن أحد بعدي جالسا" فحديث رواه الدارقطني عن جابر بن زيد الجعفي بضم الجيم وسكون العين عن الشعبي بفتح الشين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن أحد بعدي جالسا" وهذا مرسل1 وجابر بن زيد قالوا فيه: متروك ورواه مجالد عن الشعبي وقد استضعف مجالد.
وأما الاستدلال بترك الخلفاء الإمامة عن قعود فأضعف فإن ترك الشيء لا يدل على تحريمه فلعلهم اكتفوا بالاستنابة للقادرين وإن كان الاتفاق قد حصل على أن صلاة القاعد القائم مرجوحة وإن الأولى تركها فذلك كف في بيان سبب تركهم الإمامة من قعود.
وقولهم: إنه يشهد بصحة نهيه عن إمامة القاعد بعده ليس كذلك لما بينها من أن الترك للفعل لا يدل على تحريمه
ـــــــ
1 الدارقطني "1/398".(1/141)
الطريق الثاني: في الجواب عن هذا الحديث للمانعين ادعاء أن ذلك مخصوص بالنبي صلى الله عليه وسلم وقد عرف أن الأصل عدمه حتى يدل عليه دليل.
الطريق الثالث: التأويل بأن يحمل قوله: "و إذا صلى جالسا فصلوا جلوسا" على أنه إذا كان في حالة الجلوس فاجلسوا ولا تخالفوه بالقيام وكذلك إذا صلى قائما فصلوا قياما أي إذا كان في حالة القيام فقوموا ولا تخالفوه بالقعود وكذلك في قوله إذا ركع فاركعوا وإذا سجد فاسجدوا وهذا بعيد وقد ورد في الأحاديث وطرقها ما ينفيه مثل ما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها الآتي: "أنه أشار إليهم أن اجلسوا" ومنه تعليل ذلك بموافقة الأعاجم في القيام على ملوكهم وسياق الحديث في الجملة يمنع من سبق الفهم إلى هذا التأويل.
والكلام على حديث عائشة مثل الكلام إلى حديث أبي هريرة وما فيه من الزيادة قد حصل التنبيه عليه.
4 - عن عبد الله بن يزيد الخطمي الأنصاري رضي الله عنه قال: حدثني البراء وهو غير كذوب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال: "سمع الله لمن حمده" لم يحن أحد منا ظهره حتى يقع رسول الله صلى الله عليه وسلم ساجدا ثم نقع سجودا بعده1.
عبد الله بن يزيد الخطمي مفتوح الخاء ساكن الطاء من بني خطمة من الأوس كان أميرا على الكوفة والذي روى عنه هذا الحديث أبو إسحاق.
وقوله وهو غير كذوب حمله بعضهم على أنه كلام أبي إسحاق في وصف عبد الله بن يزيد لا كلام عبد الله بن يزيد في وصف البراء بن عازب.
والذي ذكره المصنف يقتضي أنه كلام عبد الله بن يزيد في وصف البراء بن عازب ولو كان ذكر أبا إسحاق لكان أحسن أو متعينا لاحتمال الكلام الوجهين معا وأما على ما ذكره فلا يحتمل إلا أحدهما وهو البراء والذين حملوا الكلام على الوجه الأول قصدوا تنزيه البراء عن مثل هذه التزكية لأنه في مقام الصحبة وكذا نقل عن يحيى بن معين أنه قال: يعني أبا إسحاق أن عبد الله بن يزيد غير كذوب ولا يقال للبراء أنه غير كذوب فإذا قصدوا ذلك فعبد الله بن يزيد أيضا قد شهد الحديبية وهو ابن سبع عشرة سنة ورد هذا بعضهم برواية شعبة عن أبي إسحاق قال: سمعت عبد الله بن يزيد يخطب يقول: حدثنا البراء وكان غير كذوب وإن كان هذا محتملا أيضا.
والحديث يدل على تأخر الصحابة في الاقتداء عن فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يتلبس بالركن الذي ينتقل إليه لا حين يشرع في الهوى إليه وفي ذلك دليل على طول الطمأنينة من النبي صلى الله عليه وسلم
ـــــــ
1 البخاري "690" ومسلم "474" "197" واللفظ للبخاري.(1/142)
ولفظ الحديث الآخر يدل على ذلك أعني قوله: "فإذا ركع فاركعوا وإذا سجد فاسجدوا". فانه يقتضي تقدم ما يسمى ركوعا وسجودا.
5 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أمن الإمام فأمنوا فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه" 1.
الحديث يدل على أن الإمام يؤمن وهو اختيار الشافعي وغيره.
واختيار مالك أن التأمين للمأمومين ولعله يأخذ من جهر الإمام بالتأميم فإنه علق تأمينهم بتأمينه فلا بد أن يكونوا عالمين به وذلك بالسماع.
و الذين قالوا لا يؤمن الإمام أولوا قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمن الإمام" على بلوغه موضع التأمين وهو خاتمة الفاتحة كما يقال أنجد إذا بلغ نجدا وأتهم إذا بلغ تهامة وأحرم إذا بلغ الحرم وهذا مجاز فإن وجد دليل يرجحه على ظاهر هذا الحديث وهو قوله: "إذا أمن" فإنها حقيقة في التأمين عمل به وإلا فالأصل عدم المجاز.
ولعل مالكا اعتمد على عمل أهل المدينة إن كان لهم في ذلك عمل ورجح به مذهبه وأما دلالة الحديث على الجهر بالتأمين فأضعف من دلالته على نفس التأمين قائلا لأنه قد يدل دليل على تأمين الإمام من غير جهر.
وموافقة تأمين الإمام لتأمين الملائكة ظاهرة: الموافقة في الزمان ويقويه الحديث الآخر: "إذا قال أحدكم: آمين وقالت الملائكة في السماء: آمين فوافقت إحداهما الأخرى" 2 وقد يحتمل أن تكون الموافقة راجعة إلى صفة التأمين أي يكون تأمين المصلي كصفة تأمين الملائكة في الإخلاص أو غير من الصفات الممدوحة والأول أظهر.
وقد تقدم لنا كلام في مثله في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "غفر له ما تقدم من ذنوبه" وهل ذلك مخصوص بالصغائر؟.
6 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف فإن فيهم الضعيف والسقيم وذي الحاجة وإذا صلى أحدكم بنفسه فليطول ما شاء" 3.
7 - وما في معناه من حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه وهو الحديث السابع قال: "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني لأتأخر عن صلاة الصبح من أجل فلان مما يطيل بنا قال: فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم غضب في موعظة قط أشد مما
ـــــــ
1 البخاري "780" ومسلم "410" واللفظ له.
2 البخاري "781" ومسلم "410" "74" وتمامه: "....غفر له ما تقدم من ذنبه".
3 البخاري "703" ومسلم "467" "184".(1/143)
غضب يومئذ فقال: "يأيها الناس إن منكم منفرين فأيكم أم الناس فليوجز فإن من ورائه الكبير والضعيف وذا الحاجة" 1.
حديث أبي هريرة وأبي مسعود واسمه عقبة بن عمرو ويعرف بالبدري والأكثر على أنه لم يشهد بدرا ولكنه نزلها فنسب إليها يدلان على التخفيف في صلاة الإمام والحكم فيه مذكور مع علته وهو المشقة اللاحقة للمأمومين إذا طول وفيه بعد ذلك بحثان.
أحدهما: أنه لما ذكرت العلة وجب أن يتبعها الحكم فحيث يشق على المأمومين التطويل ويريدون التخفيف يؤمر بالتخفيف وحيث لا يشق أو لا يريدون التخفيف لا يكره التطويل وعن هذا قال الفقهاء أنه إذا علم من المأمومين أنهم يؤثرون التطويل طول كما إذا اجتمع قوم لقيام الليل فإن ذلك وإن شق عليهم فقد أثروا ودخلوا عليه.
الثاني: التطويل والتخفيف من الأمور الإضافية فقد يكون الشيء طويلا بالنسبة إلى عادة قوم وقد يكون خفيفا بالنسبة إلى عادة آخرين وقد قال بعض الفقهاء أنه لا يزيد الإمام على ثلاث تسبيحات في الركوع والسجود والمروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من ذلك مع أمره بالتخفيف فكأن ذلك: لأن عادة الصحابة لأجل شدة رغبتهم في الخير يقتضي أن لا يكون ذلك تطويلا هذا إذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك عاما في صلواته أو أكثرها وإن كان خاصا ببعضها فيحتمل أن يكون لأن أولئك المأمومين يؤثرون التطويل وهو متردد بين أن لا يكون تطويلا بسبب ما يقتضيه حال الصحابة وبين أن يكون تطويلا لكنه بسبب إيثار المأمومين وظاهر الحديث المروي: لا يقتضي الخصوص ببعض صلواته صلى الله عليه وسلم.
وحديث أبي مسعود: يدل على الغضب في الموعظة وذلك يكون: إما لمخالفة الموعوظ لما علمه أو التقصير في تعلمه والله أعلم.
ـــــــ
1 البخاري "704" ومسلم "466" "182" واللفظ له.(1/144)
باب صفة صلاة النبي صلى الله عليه و سلم
...
باب صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم.
1 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبر في الصلاة سكت هنيهة قبل أن يقرأ فقل: يا رسول الله بأبي أنت وأمي أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة: ما تقول؟ قال: "أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد" 1.
ـــــــ
1 البخاري "744" ومسلم "598" واللفظ له مع تقديم الثلج على الماء.(1/144)
تقدم القول في أن كان تشعر بكثرة الفعل أو المداومة عليه وقد تستعمل في مجرد وقوعه.
وهذا الحديث: يدل لمن قال باستحباب الذكر بين التكبير والقراءة فإنه دل على استحباب هذا الذكر والدال على المقيد دال على المطلق فينافي ذلك كراهية المالكية فيما بين التكبير والقراءة ولا يقتضي استحباب ذكر آخر معين.
وفيه دليل لمن قال باستحباب هذه السكتة بين التكبير والقراءة والمراد بالسكتة ههنا: السكوت عن الجهر لا عن مطلق القول أو عن قراءة القرآن لا عن الذكر.
وقوله: "ما تقول؟" يعشر بأنه فهم أن هناك قولا فإن السؤال وقع بقوله: "ما تقول؟" ولم يقع بقوله: هل تقول؟ والسؤال بهل مقدم على السؤال بما ههنا ولعله استدل على أصل القول بحركة الفم كما ورد في استدلالهم على القراءة في السر باضطراب لحيته.
وقوله: "اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب" عبارة: إما عن محورها وترك المؤاخذة بها وإما عن المنع من وقوعها والعصمة منها وفيه مجازان:
أحدهما: استعمال المباعدة في ترك المؤاخذة أو في العصمة منها والمباعدة في الزمان أو في المكان في الأصل.
والثاني: استعمال المباعدة في الإزالة الكلية فإن أصلها لا يقتضي الزوال وليس المراد ههنا البقاء مع البعد ولا ما يطابقه من المجاز وإنما المراد الإزالة بالكلية.
وكذلك التشبيه بالمباعدة بين المشرق والمغرب المقصود منها ترك المؤاخذة أو العصمة.
وقوله: "اللهم نقني من خطاياي إلى قوله من الدنس" مجاز كما تقدم عن زوال الذنوب وأثرها ولما كان ذلك أظهر في الثوب الأبيض من غيره من الألوان وقع التشبيه به.
و قوله: "اللهم اغسلني" إلى آخره يحتمل أمرين بعد كونه مجازا عما ذكرناه.
أحدهما: أن يراد بذلك التعبير عن غاية المحو أعني بالمجموع فإن الثوب الذي تتكرر عليه التنقية بثلاثة أشياء منقية يكون في غاية النقاء.
الوجه الثاني: أن يكون كل واحد من هذه الأشياء مجازا عن صفة يقع بها التكفير والمحو ولعل ذلك كقوله تعالى: {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا} [البقرة: 286] فكل واحدة من هذه الصفات - أعني: العفو والمغفرة والرحمة - لها اثر في محو الذنب فعلى هذا الوجه: ينظر إلى الأفراد ويجعل كل فرد من أفراد الحقيقة دالا على معنى فرد مجازي وفي الوجه الأول: لا ينظر إلى أفراد الألفاظ بل تجعل جملة اللفظ دالة على غاية المحو للذنب.
2 - عن عائشة رضي الله عنها قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين رب العالمين وكان إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه ولكن بين ذلك.(1/145)
وكان إذا رفع رأسه من الركوع: لم يسجد حتى يستوي قائما وكان إذا رفع رأسه من السجدة: لم يسجد حتى يستوي قاعدا وكان يقول في كل ركعتين التحية وكان يفرش رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى وكان ينهى عن عقبة الشيطان وينهى أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع وكان يختم الصلاة بالتسليم"1.
[كلام المستملي].
هذا الحديث سها المصنف في إيراده في هذا الكتاب فإنه مما انفرد به مسلم عن البخاري فرواه من حديث الحسين المعلم عن بديل بن ميسرة عن أبي الجوزاء عن عائشة رضي الله عنها وشرط الكتاب: تخريج الشيخين للحديث اهـ.
قولها: "كان يستفتح الصلاة بالتكبير" قد تقدم الكلام على لفظة كان فإنها قد تستعمل في مجرد وقوع الفعل وهذا الحديث - مع حديث أبي هريرة - قد يدل على ذلك فإنها قد استعملت في أحدهما على غير ما استعملت في الآخر فإن حديث أبي هريرة: إن اقتضى المداومة أو الأكثرية على السكوت وذلك الذكر وهذا الحديث يقتضي المداومة - أو الأكثرية - لافتتاح الصلاة بعد التكبير بالحمد لله رب العالمين تعارضا.
وهذا البحث مبنى على أن يكون لفظ القراءة مجرورا فإن كانت لفظة كان لا تدل على الكثيرة فلا تعارض إذا قد يكثران جميعا وهذه الأفعال التي تذكرها عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة قد استدل الفقهاء بكثير منها على الوجوب لا لأن الفعل يدل على الوجوب بل لأنهم يرون أن قوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلاةَ} خطاب مجمل مبين للفعل والفعل المبين للمجمل المأمور به: يدخل تحت الأمر فيدل مجموع ذلك على الوجوب وإذا سلكت هذه الطريقة وجدت أفعالا غير واجبة فلا بد أن يحال ذلك على دليل آخر دل على عدم الوجوب.
وفي هذا الاستدلال بحث وهو أن يقال: الخطاب المجمل يتبين بأول الأفعال وقوعا فإذا تبين بذلك الفعل لم يكن ما وقع بعده بيانا لوقوع البيان بالأول فيبقى فعلا مجردا لا يدل على الوجوب اللهم إلا أن يدل دليل على وقوع ذلك الفعل المستدل به بيانا فيتوقف الاستدلال بهذه الطريقة على وجود ذلك الدليل بل قد يقوم الدليل على خلافه كرواية من رأى فعلا للنبي صلى الله عليه وسلم وسبقت له صلى الله عليه وسلم مدة يقيم الصلاة فيها وكان هذا الراوي الرائي من أصاغر الصحابة الذين حصل تمييزهم ورؤيتهم بعد إقامة الصلاة مدة فهذا مقطوع بتأخره وكذلك من أسلم بعد مدة إذا أخبر برؤيته للفعل وهذا ظاهر في التأخير وهذا تحقيق بالغ.
ـــــــ
1 مسلم "498" "240".(1/146)
وقد يجاب عنه بأمر جدلي لا يقوم مقامه وهو أن يقال: دل الحديث المعين على وقوع هذا الفعل والأصل عدم غيره وقوعا بدلالة الأصل فينبغي أن يكون وقوعه بيانا وهذا قد يقوي إذا وجدنا فعلا ليس فيه شيء مما قام الدليل على عدم وجوبه فأما إذا وجد فيه شيء من ذلك فإذا جعلناه مبينا بدلالة الأصل على عدم غيره ودل الدليل على عدم وجوبه: لزم النسخ لذلك الوجوب الذي ثبت أولا فيه: ولا شك أن مخالفة الأصل أقرب من التزام النسخ.
وقولها: "وكان يفتتح الصلاة بالتكبير" يدل على أموين:
أحدها: أن الصلاة تفتتح بالتحريم أعني ما هو أعم من التكبير بمعنى أنه لا يكتفي بالنية في الدخول فيها فإن التكبير تحريم مخصوص والدال على وجود الأخص دال على وجود الأعم وأعني بالأعم ههنا: هو المطلق ونقل بعض المتقدمين خلافه وربما تأوله بعضهم على مالك والمعروف خلافه عنه وعن غيره.
الثاني: أن التحريم يكون بالتكبير خصوصا وأبو حنيفة يخالف فيه ويكتفي بمجرد التعظيم كقوله الله أجل أو أعظم والاستدلال على الوجوب بهذا الفعل إما على الطريقة السابقة من كونه بيانا للمجمل وفيه ما تقدم وإما بأن يضم إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي" 1 وقد فعلوا ذلك في مواضع كثيرة واستدلوا على الوجوب بالفعل مع هذا القول أعني قوله صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي" وهذا إذا أخذ مفردا عن ذكر سببه وسياقه: أشعر بأنه خطاب للأمة بأن يصلوا كما صلى صلى الله عليه وسلم فيقوي الاستدلال بهذه الطريقة على كل فعل ثبت أنه فعله في الصلاة وإنما هذا الكلام قطعة من حديث مالك بن الحويرث قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم - ونحن شببة متقاربون - فأقمنا عنده عشرين ليلة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيما رفيقا فظن أنا قد اشتقنا أهلنا فسألنا عمن تركنا من أهلنا؟ فأخبرناه فقال: "ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم ومروهم فإذا حضرت الصلاة فيؤذن لكم أحدكم ثم ليؤمكم أكبركم" 2 زاد البخاري3: "وصلوا كما رأيتموني أصلي" فهذا خطاب لمالك وأصحابه بأن يوقعوا الصلاة على ذلك الوجه الذي رأوا النبي صلى الله عليه وسلم يصلي عليه ويشاركهم في هذا الخطاب كل الأمة في أن يوقعوا الصلاة على ذلك الوجه فما ثبت استمرار فعل النبي صلى الله عليه وسلم عليه دائما: دخل تحت الأمر وكان واجبا وبعض مقطوع به أي مقطوع باستمرار فعله له وما لم يدل دليل على وجوده في تلك الصلوات التي تعلق الأمر بإيقاع الصلاة على صفتها - لا يجزم بتناول الأمر له
ـــــــ
1 البخاري "631" ومسلم "674".
2 البخاري "631" ومسلم "674" "292".
3 البخاري "631" "6008" "7246".(1/147)
وهذا أيضا يقال فيه من الجدل ما أشرنا إليه.
وقولها: "والقراءة بالحمد لله رب العالمين" تمسك به مالك وأصحابه في ترك الذكر بين التكبير والقراءة فإنه لو تخلل ذكر بينهما لم يكن الاستفتاح بالقراءة بالحمد لله رب العالمين وهذا على أن تكون القراءة مجرورة لا منصوبة واستدل به أصحاب مالك أيضا على ترك التسمية في ابتداء الفاتحة وتأوله غيرهم على أن المراد: يفتتح بسورة الفاتحة قبل غيرها من السور وليس بقوي لأنه عن أجرى مجرى الحكاية فذلك يقتضي البداءة بهذا اللفظ بعينه فلا يكون قبله غيره لأن ذلك الغير يكون هو المفتتح به وإن جعل اسما فسورة الفاتحة لا تسمى بهذا المجموع أعني: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} بل تسمى بسورة الحمد فلو كان لفظ الرواية كان يفتتح بالحمد لقوي هذا المعنى فإنه يدل حينئذ على الافتتاح بالسورة التي البسملة بعضها عند هذا المتأول لهذا الحديث.
وقولها: "وكان إذا ركع لم يشخص رأسه" أي لم يرفعه ومادة اللفظ تدل على الارتفاع ومنه: أشخص بصره إذا رفعه نحو جهة العلو ومنه الشخص لارتفاعه للأبصار ومنه: شخص المسافر: إذا خرج من منزله إلى غيره ومنه ما جاء في بعض الآثار فشخص بي أي أتاني ما يقلقني كأنه رفع من الأرض لقلقه.
وقولها: "ولم يصوبه" أي لم ينكسه ومن الصيب: المطر صاب يصوب إذا نزل قال الشاعر:
فلست لإنسي ولكن لملأك ... تنزل من جو السماء يصوب
ومن أطلب الصيب على الغيم فهو من باب المجاز لأنه سبب الصيب الذي هو المطر.
وقولها: "ولكن بين ذلك" إشارة إلى المسنون في الركوع وهو الاعتدال واستواء الظهر والعنق.
وقولها: "وكان إذا رفع رأسه من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائما" دليل على الرفع من الركوع والاعتدال فيه والفقهاء اختلفوا في وجوب ذلك على ثلاثة أقوال الثالث: يجب ما هو إلى الاعتدال أقرب وهذا عندنا من الأفعال التي ثبت استمرار النبي صلى الله عليه وسلم عليها أعني الرفع من الركوع.
وأما قولها: "وكان إذا رفع رأسه من السجود لم يسجد حتى يستوي قاعدا" يدل على الرفع من السجود وعلى الاستواء في الجلوس بين السجدتين فأما الرفع: فلا بد منه لأنه لا يتصور تعدد السجود إلا به بخلاف الرفع من الركوع فإن الركوع غير متعدد وسها بعض الفضلاء المتأخرين فذكر ما ظاهره الخلاف في الرفع من الركوع والاعتدال فيه فلما ذكر السجود قال: الرفع من السجود والاعتدال فيه والطمأنينة كالركوع فاقتضى ظاهر كلامه: أن.(1/148)
الخلاف في الرفع من الركوع جار في الرفع من السجود وهذا سهو عظيم لأنه لا يتصور خلاف في الرفع من السجود إذ السجود متعدد شرعا ولا يتصور تعدده إلا بالرفع الفاصل بين السجدتين.
وقولها: "وكان يقول في كل ركعتين التحية" أطلقت لفظ التحية على التشهد كله من باب إطلاق اسم الجزء على الكل وهذا الموضع مما فارق فيه الاسم المسمى فإن التحية الملك أو البقاء أو غيرهما على ما سيأتي وذلك لا يتصور قوله وإنما يقال اسمه الدال عليه وهذا بخلاف قولنا: أكلت الخبز وشربت الماء فإن هناك أريد به المسمى وأما لفظة الاسم: فقد قيل فيها: إن الاسم هو المسمى وفيه نظر دقيق.
وقولها: "وكان يفرش رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى" يستدل به أصحاب أبي حنيفة على اختيار هذه الهيئة للجلوس للرجل.
ومالك اختار التورك وهو أن يفضي بوركه إلى الأرض وينصب رجله اليمنى.
والشافعي فرق بين التشهد الأول والتشهد الأخير ففي الأول اختار الافتراش على التورك وفي الثاني اختار التورك وقد ورد أيضا هيئة التورك فجمع الشافعي بين الحديثين فحمل الافتراش على الأول وحمل التورك على الثاني وقد ورد ذلك مفصلا في بعض الأحاديث ورجح من جهة المعنى بأمرين ليسا بالقويين.
أحدهما: أن المخالفة في الهيئة قد تكون سببا للتذكر عند الشك في كونه في التشهد الأول أو في التشهد الأخير.
والثاني: والثاني أن الافتراش هيئة استيفاز فناسب أن تكون في التشهد الأول لأن المصلي مستوفز للقيام والتورك هيئة اطمئنان فناسب الأخير والاعتماد على النقل أولى.
و قولها وكان ينهى عن عقبة الشيطان ويروى1 عن عقب الشيطان ز وفسر بأن يفرش قدميه ويجلس بإليته على عقبيه وقد سمي ذلك أيضا الإقعاء.
وقولها وينهى أن يفترش إلى قولها السبع وهو أن يضع ذراعيه على الأرض في السجود والسنة: أن يرفعهما ويكون الموضوع على الأرض كفيه فقط.
وقولها وكان يتم الصلاة بالتسليم أكثر الفقهاء على تعيين التسليم للخروج من الصلاة للفعل المواظب عليه ولا يدل الحديث على أكثر من مسمى السلام وقد يؤخذ من هذا أن التسليم من الصلاة لقولها: وكان يختم الصلاة بالتسليم وليس بالتشديد الظهور في ذلك
ـــــــ
1 هي رواية ابن نمير عن أبي خالد وكان ينهى عن عقب الشيطان مسلم "498" "240".(1/149)
وأبو حنيفة يخالف فيه.
3 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة وإذا كبر للركوع وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك وقال: "سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد" وكان لا يفعل ذلك في السجود1.
اختلف الفقهاء في رفع اليدين في الصلاة على مذاهب متعددة.
فالشافعي قال بالرفع في هذه الأماكن الثلاثة أعني في افتتاح الصلاة والركوع والرفع من الركوع وحجته هذا الحديث وهو من أقوى الأحاديث سندا.
وأبو حنيفة لا يرى الرفع في غير الافتتاح.
وهو المشهور عند أصحاب مالك والمعمول به عند المتأخرين منهم واقتصر الشافعي على الرفع في هذه الأماكن الثلاثة لهذا الحديث وقد ثبت الرفع عند القيام من الركعتين وقياس نظره: أن يسن الرفع في ذلك المكان أيضا لأنه لما قال بإثبات الرفع في الركوع والرفع منه لكونه زائدا على من روى الرفع عند التكبير فقط وجب أيضا أن يثبت الرفع عند القيام من الركعتين فإنه زائد على من أثبت الرفع في هذه الأماكن الثلاث فقط والحجة واحدة في الموضعين.
وأول راض سيرة من يسيرها
والصواب والله أعلم استحباب الرفع عند القيام من الركعتين لثبوت الحديث فيه2.
وأما كونه مذهبا للشافعي لأنه قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي أو ما هذا معناه ففي ذلك نظر ولما ظهر بعض لبعض الفضلاء المتأخرين من المالكية قوة الرفع في الأماكن الثلاثة على حديث ابن عمر: اعتذر عن تركه في بلاده فقال: وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رفع يديه فيهما أي في الركوع والرفع منه ثبوتا لا مرد له صحة فلا وجه للعدول عنه إلا أن في بلادنا هذه يستحب للعالم تركه لأنه إن فعله نسب إلى البدعة وتأذى في عرضه وربما تعددت الأذية إلى بدنه فوقاية العرض والبدن بترك سنة واجب في الدين.
وقوله حذو منكبيه هو اختيار الشافعي في منتهى الرفع وأبو حنيفة اختار الرفع إلى حذو الأذنين وفيه حديث آخر يدل عليه ورجح مذهب الشافعي بقوة السند لحديث ابن عمر وبكثرة الرواة لهذا المعنى فروي عن الشافعي أنه قال: وروى هذا الخبر بضعة عشر نفسا من
ـــــــ
1 البخاري "735" ومسلم "390" و"391".
2 في البخاري "739" "وإذا قام من الركعتين رفع يديه".(1/150)
الصحابة وربما سلك طريق الجمع فحمل خبر ابن عمر على أن يرفع يديه حتى حاذى كفاه منكبيه والخبر الآخر على أنه رفع يديه حتى حاذت أطراف أصابعه أذنيه وقيل: إنه رويت رواية من حديث عبد الجبار بن وائل عن أبيه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه ويحاذي بإبهاميه أذنيه"1.
واختلف أصحاب الشافعي متى يبتدأ التكبير؟ فمنهم من قال: يبتدأ التكبير مع ابتداء رفع اليدين ويتم التكبير مع انتهاء إرسال اليدين ونسب هذا إلى رواية وائل بن حجر وقد نقل في رواية وائل بن حجر: "استقبل النبي صلى الله عليه وسلم وكبر فرفع يديه حتى حاذى بهما أذنيه"2 وهذه الرواية لا تدل على ما نسب إلى رواية وائل بن حجر وفي رواية لأبي داود فيها بعض مجهولين لفظها: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه مع التكبير"3 وهذا أقرب في الدلالة وفي رواية أخرى لأبي داود فيها انقطاع أنه: "أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قام إلى الصلاة رفع يديه حتى كانتا بحيال منكبيه وحاذى بإبهامه أذنيه ثم كبر"4 وفي رواية أخرى أجود من هاتين "وكان إذا كبر رفع يديه"5 وهذه محتملة لأنا إذا قلنا فلان فعل احتمل أن يراد شرع بالفعل ويحتمل أن يراد فرغ منه ويحتمل أن يراد جملة الفعل ومن أصحاب الشافعي من قال: يرفع اليدين غير مكبر ثم يكبر ثم يرسل اليدين بعد ذلك وهذا إلى رواية ابن عمر.
وهذه الرواية التي ذكرها المصنف ظاهرها عندي مخالف لما نسب إلى رواية ابن عمر فإنه جعل افتتاح الصلاة ظرفا لرفع اليدين فإما أن يحتمل الافتتاح على أول جزء من التكبير فينبغي أن يكون رفع اليدين معه وصاحب هذا القول يقول: يرفع اليدين غير مكبر وإما أن يحمل الافتتاح على التكبير كله فأيضا لا يقتضي أن يرفع اليدين غير مكبر.
وقوله: "وقال: "سمع الله لمن حمده" ربنا لك الحمد يقتضي جمع الإمام بين الأمرين فإن الظاهر أن ابن عمر إنما حكى وروى عن حالة الإمامة فإنها الحالة الغالبة على النبي صلى الله عليه وسلم وغيرها نادر جدا وإن حمل اللفظ على العموم دخل فيه المنفرد والإمام وقد فسر قوله سمع الله لمن حمده أي استجاب الله دعاء من حمده وقد تقدم الكلام في إثبات الواو وحذفها
ـــــــ
1 أبو داود "724" وفي مسلم "391" "26" "حتى يحاذي بهما فروع أذنيه".
2 أبو داود "726".
3 أبو داود "725".
4 أبو داود "724".
5 أبو داود "723".(1/151)
وقوله وكان لا يفعل ذلك في السجود يعني الرفع وكأنه يريد بذلك عند ابتداء السجود أو عند الرفع منه وحمله على الابتداء أقرب وأكثر الفقهاء على القول بهذا الحديث وأنه لا يسن رفع اليدين عند السجود وخالف بعضهم في ذلك وقال: يرفع لحديث ورد فيه1 وهذا مقتضى ما ذكرناه في القاعدة وهو القول بإثبات الزيادة وتقديمها على من نفاها أو سكت عنها والذين تركوا الرفع في السجود سلكوا مسلك الترجيح لرواية ابن عمر في ترك الرفع في السجود والترجيح إنما يكون عند التعارض ولا تعارض بين رواية من أثبت الزيادة وبين من نفاها أو سكت عنها إلا أن يكون النفي والإثبات منحصرين في جهة واحدة فإن ادعي ذلك في حديث ابن عمر والحديث الآخر وثبت اتحاد الوقتين: فذاك.
4 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة وأشار بيده إلى أنفه واليدين والركبتين وأطراف القدمين" 2.
الكلام عليه من وجوه:
الأول: أنه سمى كل واحد من هذه الأعضاء عظما باعتبار الجملة وإن اشتمل كل واحد منها على عظام ويحتمل أن يكون ذلك من باب تسمية الجملة باسم بعضها.
الثاني: ظاهر الحديث يدل على وجوب السجود على هذه الأعضاء لأن الأمر للوجوب والواجب عند الشافعي منها الجبهة لم يتردد قوله فيه واختلف قوله في اليدين والركبتين والقدمين وهذا الحديث يدل للوجوب وقد رجح بعض أصحابه عدم الوجوب ولم أرهم عارضوا هذا بدليل قوي أقوى من دلالته فإنه استدل لعدم الوجوب بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث رفاعة ثم يسجد فيمكن جبهته3 وهذا غايته أن تكون دلالته دلالة مفهوم وهو مفهوم لقب أو غاية والمنطوق الدال على وجوب السجود على هذه الأعضاء مقدم عليه وليس هذا من باب تخصيص العموم بالمفهوم كما مر لنا في قوله صلى الله عليه وسلم: "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا" مع قوله "جعلت لنا الأرض مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا" فإنه ثمة يعمل
ـــــــ
1 هو قول مالك بن الخويرث رضي الله عنه أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه في صلاته إذا ركع وإذا رفع رأسه من الركوع وإذا سجد وإذا رفع رأسه من السجود حتى يحاذي بهما فروع أذنيه النسائي "1086".
2 البخاري "812" ومسلم "490" "230" وفيهما زيادة هي: "ولا نكفت الثياب والشعر" ولفظ الصحيحين "على أنفه".
3 أبو داود "858" وفيه "ثم يكبر فيسجد فيمكن وجهه" قال همام وربما قال: "جبهته من الأرض".(1/152)
بذلك العموم من وجه إذا قدمنا دلالة المفهوم وههنا إذا قدمنا دلالة المفهوم: أسقطنا الدليل الدال على وجوب السجود على هذه الأعضاء أعني اليدين والركبتين والقدمين مع تناول اللفظ لها بخصوصها.
وأضعف من هذا: ما استدل به على عدم الوجوب من قوله صلى الله عليه وسلم: "سجد وجهي للذي خلقه" 1 قالوا: فأضاف السجود إلى الوجه فإنه لا يلزم من إضافة السجود إلى الوجه انحصار السجود فيه.
وأضعف من هذا: الاستدلال على عدم الوجوب بأن مسمى السجود يحصل بوضع الجبهة فإن هذا الحديث يدل على إثبات زيادة على المسمى فلا تترك.
وأضعف من هذا: المعارضة بقياس شبهي ليس بقوي مثل أن يقال: أعضاء لا يجب كشفها فلا يجب وضعها كغيرها من الأعضاء سوى الجبهة.
وقد رجح المحاملي من أصحاب الشافعي القول بالوجوب وهو أحسن عندنا من وقل من رجح عدم الوجوب.
وذهب أبو حنيفة إلى أنه سجد على الأنف وحده كفاه وهو قول مذهب مالك وأصحابه.
وذهب بعض العلماء إلى أن الواجب السجود على الجبهة والأنف معا وهو قول في مذهب مالك أيضا ويحتج لهذا المذهب بحديث ابن عباس هذا فإن في بعض طرقه "الجبهة والأنف معا" وفي هذه الطريق التي ذكرها المصنف "الجبهة" وأشار بيده إلى أنفه فقيل: معنى ذلك: انهما جعلا كالعضو الواحد ويكون الأنف كالتبع للجبهة واستدل على هذا بوجهين:
أحدهما: أنه لو كان كعضو منفرد عن الجبهة حكما لكانت الأعضاء المأمور بالسجود عليها ثمانية لا سبعة فلا يطابق العدد المذكور في أول الحديث.
الثاني: أنه قد اختلفت العبارة مع الإشارة إلى الأنف فإذا جعلا كعضو واحد أمكن أن تكون الإشارة إلى أحدهما إشارة إلى الآخر فتطابق الإشارة العبارة وربما استنتج من هذا: أنه إذا سجد على الأنف وحده أجزاه لأنهما إذا جعلا كعضو واحد كان السجود على الأنف كالسجود على بعض الجبهة فيجزئ.
والحق أن مثل هذا لا يعارض التصريح بذكر الجبهة والأنف لكونهما داخلين تحت الأمر
ـــــــ
1 مسلم "771".(1/153)
وإن أمكن أن يعتقد أنهما كعضو واحد من حيث العدد المذكور لذلك في التسمية والعبارة لا في الحكم الذي دل عليه الأمر.
وأيضا فإن الإشارة قد لا تعين المشار إليه فإنها إنما تتعلق بالجبهة فإذا تقارب ما في الجهة أمكن أن لا يتعين المشار إليه يقينا وأما اللفظ: فإنه معين لما وضع له فتقديمه أولى.
الثالث: المراد باليدين - ههنا - الكفان وقد اعتقد قوم أن مطلق لفظ اليدين يحمل عليهما كما في قوله تعالى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] واستنتجوا من ذلك: أن التيمم إلى الكوعين وعلى كل تقدير: فسواء صح هذا أم لا فالمراد ههنا: الكفان لأنا لو حملناه على بقية الذراع: لدخل المنهي عنه من افتراش الكلب أو السبع ثم تصرف الفقهاء بعد ذلك فقال بعض مصنفي الشافعية: إن المراد الراحة أو الأصابع ولا يشترط الجمع بينهما بل يكفي أحدهما ولو سجد على ظهر الكف لم يجزه هذا معنى ما قال.
الرابع: قد يستدل بهذا على أنه لا يجب كشف شيء من هذه الأعضاء فإن مسمى السجود يحصل بالوضع فمن وضعها فقد أتى بما أمر به فوجب أن يخرج عن العدة وهذا يلتفت إلى بحث أصولي وهو أن الإجزاء في مثل هذا هل هو راجح إلى اللفظ أم أن الأصل عدم وجوب الزائد على الملفوظ به مضموما إلى فعل المأمور به؟.
وحاصله: أن فعل المأمور به: هل هو علة الإجزاء أو جزء علة الإجزاء؟ ولم يختلف في أن كشف الركبتين غير واجب وكذلك القدمان.
أما الأول: فلما يحذر فيه من كشف العورة.
وأما الثاني - وهو عدم كشف القدمين - فعليه دليل لطيف جدا لأن الشارع وقت المسح على الخف بمدة تقع فيها الصلاة مع الخف فلو وجب كشف القدمين لوجب نزع الخفين وانتقضت الطهارة وبطلت الصلاة وهذا باطل ومن نازع في انتقاض الطهارة بنزع الخف فيدل عليه بحديث صفوان الذي فيه1 "أمرنا أن لا ننزع خفافنا" - إلى آخره.
فتقول: لو وجب كشف القدمين لناقضه إباحة عدم النزع في هذه المدة التي دل عليها لفظ أمرنا المحمولة على الإباحة وأما اليدان: فللشافعي تردد في وجوب كشفهما.
5 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم ثم يكبر حين يركع ثم يقول: "سمع الله لمن حمده" حين يرفع صلبه من الركعة ثم يقول وهو قائم: "ربنا ولك الحمد" ثم يكبر حين يهوي ثم يكبر حين
ـــــــ
1 الترمذي "96" وابن ماجه "478" وقال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح.(1/154)
يرفع رأسه ثم يكبر حين يسجد ثم يكبر حين يرفع رأسه ثم يفعل ذلك في صلاته كلها حتى يقضيها ويكبر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس"1.
الكلام عليه من وجوه:
أحدها: أنه يدل على إتمام التكبير بأن يوقع في كل خفض ورفع مع التسميع في الرفع من الركوع وقد اتفق الفقهاء على هذا بعد أن كان وقع فيه خلاف لبعض المتقدمين وفيه رواه النسائي: "أنه كان يتم التكبير"2.
الثاني: قوله: "يكبر حين يقوم" يقتضي إيقاع التكبير في حال القيام ولا شك أن القيام واجب في الفرائض للتكبير وقراءة الفاتحة - عند من يوجبها - مع القدرة فكل انحناء يمنع اسم القيام عند التكبير: يبطل التحريم ويقتضي عدم انعقاد الصلاة فرضا.
وقوله: "ثم يقول: "سمع الله لمن حمده" حين يرفع صلبه من الركعة" يدل على جمع الإمام بين التسميع والتحميد لما ذكرنا: أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم الموصوفة محمولة على حال الإمامة للغلبة ويدل على أن التسميع يكون حين الرفع والتحميد بعد الاعتدال.
وقد ذكرنا أن الفعل قد يطلق على ابتدائه وعلى انتهائه وعلى جملته حال مباشرته ولا بأس بأن يحمل قوله: "يقول حين يرفع صلبه" على حركته حالة المباشرة ليكون الفعل مستصحبا في جميعه للذكر.
الثالث: قوله يكبر حين يقوم - إلى آخره اختلفوا في وقت هذا التكبير فاختار بعضهم أن يكون عند الشروع في النهوض وهو مذهب الشافعي واختار بعضهم أن يكون عند الاستواء قائما وهو مذهب مالك فإن حمل قوله حين يرفع على ابتداء الرفع وجعل ظاهرا فيه: دل ذلك لمذهب الشافعي ويرجح من جهة المعنى بشغل زمن الفعل بالذكر والله أعلم.
6 - عن مطرف بن عبد الله قال: "صليت أنا وعمران بن حصين خلف علي بن أبي طالب فكان إذا سجد كبر وإذا رفع رأسه كبر وإذا نهض من الركعتين كبر فلما قضي الصلاة أخذ بيدي عمران بن حصين وقال: قد ذكرني هذا صلاة محمد صلى الله عليه وسلم - أو قال: صلى بنا صلاة محمد صلى الله عليه وسلم"3.
مطرف بن عبد الله بن الشخير - مكسور الشين المعجمة مشدد الخاء المكسورة وآخره راء - أبو عبد الله العامري يقال: إنه من بني الحريش - بفتح الحاء المهملة وكسر الراء المهملة
ـــــــ
1 البخاري "789" ومسلم "392" "28".
2 أبو داود "837".
3 البخاري "786" "826" ومسلم "393".(1/155)
وآخره شين معجمة - والحريش من بني عامر بن صعصعة مات سنة خمس وتسعين متفق على إخراج حديثه في الصحيحين.
والحديث يدل على التكبير في الحالات المذكورة فيه وإتمام التكبير في حالات الانتقالات وهو الذي استمر عليه عمل الناس وأئمة فقهاء الأمصار وقد كان فيه من بعض السلف خلاف على ما قدمنا فمنهم من اقتصر على تكبيرة الإحرام ومنهم من زاد عليها من غير إتمام والذي اتفق الناس عليه بعد ذلك: ما ذكرناه.
وأما حكم تكبيرات الانتقال وهل هي واجبة أم لا؟ فذلك مبني على أن الفعل للوجوب أم لا؟ وإذا قلنا: إنه ليس للوجوب رجع إلى ما تقدم البحث فيه من أنه بيان للمجمل أم لا؟ فمن ههنا مأخذ من يرى الوجوب - والأكثرون على الاستحباب - وإذا قلنا بالاستحباب: فهل يسجد للسهو إذا ترك منها شيئا ولو واحدة أو لا يسجد ولو ترك الجميع أو لا يسجد حتى يترك متعددا منها؟ اختلفوا فيه وليس له بهذا الحديث تعلق إلا أن يجعل مقدمة فيستدل به على أنه سنة ويضم إليه مقدمة أخرى: أن ترك السنة يقتضي السجود إن ثبت على ذلك دليل فيكون المجموع دليلا على السجود.
وأما التفرقة بين أن يكون المتروك مرة أو أكثر: فراجع إلى الاستحسان وتخفيف أمر المرة الواحدة ومذهب الشافعي: إن تركها لا يوجب السجود.
7 - عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: "رمقت الصلاة مع محمد صلى الله عليه وسلم فوجدت قيامه فركعته فاعتداله بعد ركوعه فسجدته فجلسته بين السجدتين فسجدته فجلسته ما بين التسليم والانصراف: قريبا من السواء"1.
وفي رواية البخاري2: "ما خلا القيام والقعود قريبا من السواء".
قوله: "قريبا من السواء" قد يقتضي: إما تطويل ما العادة فيه التخفيف أو تخفيف ما العادة فيه التطويل إذا كان ثم عادة متقدمة وقد ورد3 ما يقتضي التطويل في القيام كقراءة ما بين الستين إلى المائة وكما ورد4 في التطويل في قراءة الظهر بحيث يذهب الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته ثم يتوضأ ثم يأتي ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى مما يطولها وقد تكلم
ـــــــ
1 البخاري "792" "820" ومسلم "471" واللفظ له.
2 البخاري "792".
3 البخاري "541" "547" ومسلم "461".
4 مسلم "454"(1/156)
الفقهاء في الأركان الطويلة والقصيرة واختلفوا في الرفع من الركوع: هل هو ركن طويل أو قصير؟ ورجح أصحاب الشافعي: أنه ركن قصير وفائدة الخلاف فيه: أن تطويله يقطع الموالاة الواجبة في الصلاة ومن هذا قال بعض أصحاب الشافعي: إنه إذا طوله بطلب الصلاة وقال بعضهم: لا تبطل حتى ينقل إليه ركنا كقراءة الفاتحة أو التشهد.
وهذا الحديث يدل على أن الرفع من الركوع ركن طويل لأنه لا يتأتى أن تكون القراءة في الصلاة - فرضها ونفلها - بمقدار ما إذا فعل في الرفع من الركوع كان قصيرا وهذا الذي ذكر في الحديث - من استواء الصلاة - ذهب بعضهم إلى أنه الفعل المتأخر بعد ذلك التطويل وقد ورد في بعض الأحاديث1: "وكانت صلاته بعد تخفيفا".
والذي ذكره المصنف عن رواية البخاري وهو قوله: "ما خلا القيام والقعود.." إلى آخره وذهب بعضهم إلى تصحيح هذه الرواية دون الرواية التي ذكر فيها القيام ونسب رواية ذكر القيام إلى الوهم وهذا بعيد عندنا لأن توهيم الراوي الثقة على خلاف الأصل - لا سيما إذا لم يدل دليل قوي - لا يمكن الجمع بينه وبين الزيادة على كونها وهما وليس هذا من باب العموم والخصوص حتى يحمل العام على الخاص فيما عدا القيام فإنه قد صرح في حديث البراء في تلك الرواية بذكر القيام.
ويمكن الجمع بينهما بأن يكون فعل النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك كان مختلفا فتارة يستوي الجميع وتارة يستوي ما عدا القيام والقعود وليس في هذا إلا أحد أمرين: إما الخروج عما تقتضيه لفظة كان إن كانت وردت من المداومة أو الأكثرية وإما أن يقال: الحديث واحد اختلفت رواته عن واحد فيقتضي ذلك التعارض ولعل هذا هو السبب الذي دعا من ذكرنا عنه أنه نسب تلك الرواية إلى الوهم ممن قاله.
وهذا الوجه الثاني أعني اتحاد الرواية أقوى من الأولى في وقوع التعارض وإن احتمل غير ذلك على الطريقة الفقهية.
و لا يقال: إذا وقع التعارض فالذي أثبت التطويل في القيام لا يعارضه من نفاه فإن المثبت مقدم على النافي.
لأنا نقول الرواية الأخرى تقتضي بنصها عدم التطويل في القيام وخروج تلك الحالة - أعني حالة القيام والقعود - عن بقية حالات أركان الصلاة فيكون النفي والإثبات إذا انحصرا في محل واحد تعارضا إلا أن يقال باختلاف هذه الأحوال بالنسبة إلى صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فلا يبقى فيها انحصار في محل واحد بالنسبة إلى
ـــــــ
1 مسلم "458" "168".(1/157)
الصلاة ولا يعترض على هذا إلا بما قدمناه من مقتضى لفظة كان أن وجدت في حديث أو كون الحديث واحدا عن مخرج واحد اختلف فيه فلينظر ذلك في الروايات ويحقق الاتحاد أو الاختلاف في مخرج الحديث والله أعلم.
8 - عن ثابت البناني عن أنس بن مالك رضي الله قال: "إني لا آلو أن أصلي بكم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا" قال ثابت: "فكان أنس يصنع شيئا لا أراكم تصنعونه كان إذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائما حتى يقول القائل: قد نسي وإذا رفع رأسه من السجدة مكث حتى يقول القائل قد نسي"1.
قوله لا آلو أي لا أقصر وقد قيل: إن الألو يكون بمعنى التقصير وبمعنى الاستطاعة معا والسياق يرشد إلى المراد والألو على مثال: العتو ويقال: الألي على مثال العتي والماضي ألا وقد يقال في هذا المعنى ألا بالتشديد.
وقوله أن أصلي أي في أن أصلي وتقديم أنس رضي الله عنه لهذا الكلام أمام روايته: ليدل السامعين على التحفظ لما يأتي به ويحقق عندهم المراقبة لاتباع أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم2.
وهذا الحديث: أصرح في الدلالة على أن الرفع من الركوع ركن طويل بل هو - والله أعلم - نص فيه فلا ينبغي العدول عنه لدليل ضعيف ذكر في أنه ركن قصير وهو ما قيل: إنه لم يسن فيه تكرار التسبيحات على الاسترسال كما سنت القراءة في القيام والتسبيحات في الركوع والسجود مطلقا.
9 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "ما صليت خلف إمام قط أخف صلاة ولا أتم من رسول الله صلى الله عليه وسلم".
10 - عن أبي قلابة - عبد الله بن زيد الجرمي البصري - قال: "جاءنا مالك بن الحويرث في مسجدنا هذا فقال: إني لأصلي بكم وما أريد الصلاة أصلي كيف رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فقلت لأبي قلابة: كيف كان يصلي؟ فقال: مثل صلاة شيخنا هذا وكان يجلس إذا رفع رأسه من السجود قبل أن ينهض"3.
أراد بشيخهم: أبا بريد - عمرو بن سلمة الجرمي - ويقال أبو يزيد.
حديث أنس بن مالك: يدل على طلب أمرين في الصلاة: التخفيف في حق الإمام مع الإتمام وعدم التقصير وذلك هو الوسط العدل والميل إلى أحد الطرفين خروج عنه أما التطويل في حق الإمام: فإضرار بالمأمومين وقد تقدم ذلك التصريح بعلته
ـــــــ
1 البخاري "800" "821" ومسلم "472" واللفظ له.
2 البخاري "708" ومسلم "469" "190" واللفظ له.
3 البخاري "677" ولفظه "وكان شيخنا يجلس إذا.".(1/158)
وأما التقصير عن الإتمام: فبخس لحق العبادة ولا يراد بالتقصير ههنا: ترك الواجبات فإن ذلك مفسدة موجب للنقص الذي يرفع حقيقة الصلاة وإنما المراد - والله أعلم - التقصير عن المسنونات والتمام بفعلها.
والكلام على حديث أبي قلابة من وجوه:
أحدها: أن هذا الحديث مما انفرد به البخاري عن مسلم وليس من شرط هذا الكتاب وأيضا فإن البخاري خرجه من طرق منها رواية وهيب وأكثر ألفاظ هذا الرواية التي ذكرها المصنف: هي رواية وهيب وفي آخرها في كتاب البخاري1: "وإذا رفع رأسه من السجدة الثانية جلس واعتمد على الأرض ثم قام" وفي رواية خالد عن أبي قلابة عن مالك بن الحويرث الليثي2: "أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا كان في وتر من صلاته: لم ينهض حتى يستوي قاعدا".
الثاني: مالك بن الحويرث ويقال: ابن الحارث ويقال: حويرثة والأول أصح - أحد من سكن البصرة من الصحابة مات سنة أربع وتسعين ويكنى أبا سليمان.
وشيخهم المذكور في الحديث هو أبو بريد - بضم الباء الموحدة وفتح الراء - عمرو بن سلمة - الجرمي - بفتح الجيم وسكون الراء المهملة.
الثالث: قول: "إني لأصلي بكم وما أريد الصلاة" أي أصلي صلاة التعليم لا أريد الصلاة لغير ذلك ففيه دليل على جواز مثل ذلك وأنه ليس من باب التشريك في العمل.
الرابع: قوله: "أصلي كيف رأيت رسول الله يصلي" يدل على البيان بالفعل وأنه يجري مجرى البيان بالقول وإن كان البيان بالقول أقوى في الدلالة على آحاد الأفعال إذا كان القول ناصا على كل فرد منها.
الخمس: اختلف الفقهاء في جلسة الاستراحة عقيب الفراغ من الركعة الأولى والثالثة فقال بها الشافعي في قول وكذا غيره من أصحاب الحديث وأباها مالك وأبو حنيفة وغيرهما.
وهذا الحديث يستدل به القائلون بها وهو ظاهر في ذلك وعذر الآخرين عنه: أنه يحمل على أنها بسبب الضعف للكبر كما قال المغيرة بن حكيم3 إنه رأى عبد الله بن عمر يرجع من سجدتين من الصلاة على صدور قدميه فلما انصرف ذكرت ذلك له فقال: إنها ليست من سنة الصلاة وإنما أفعل ذلك من أجل أن أشتكي وفي حديث آخر غير هذا في فعل آخر لابن عمر أنه قال إن رجلي لا تحملاني4.
ـــــــ
1 البخاري "824".
2 البخاري "823".
3 فيما أخرجه الإمام مالك "1/88".
4 مالك "1/89" والبخاري "827".(1/159)
والأفعال إذا كانت للجبلة أو ضرورة الخلقة لا تدخل في أنواع القرب المطلوبة فإن تأيد هذا التأويل بقرينة تدل عليه مثل أن يتبين أن أفعاله السابقة على حالة الكبر والضعف: لم يكن فيها هذه الجلسة أو يقترن فعلها بحالة الكبر من غير أن يدل دليل على قصد القربة فلا بأس بهذا التأويل.
وقد ترجح في علم الأصول: أن مالم يكن من الأفعال مخصوصا بالرسول صلى الله عليه وسلم ولا جاريا مجرى أفعال الجبلة ولا ظهر أنه بيان لمجمل ولا علم صفته من وجوب أو ندب أو غيره فإما أن يظهر فيه قصد القربة أو لا فإن ظهر: فمندوب وإلا فمباح لكن لقائل أن يقول: ما وقع في الصلاة فالظاهر أنه من هيئتها لا سيما الفعل الزائد الذي تقتضي الصلاة منعه وهذا قوي إلى أن تقوم القرينة على أن ذلك الفعل كان بسبب الكبر أو الضعف فحينئذ يظهر بتلك القرينة أن ذلك أمر جبلي فإن قوي ذلك باستمرار عمل السلف على ترك ذلك الجلوس فهو زيادة في الرجحان.
11 - عن عبد الله بن مالك - بن بحينة - رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى فرج بين يديه حتى يبدو بياض إبطيه"1.
الكلام عليه من وجهين:
أحدهما: عبد الله بن مالك بن بحينة وبحينة أمه - بضم الباء الموحدة وفتح الحاء المهملة وبعدها ياء ساكنة ونون مفتوحة - وأبوه مالك بن القشب - بكسر القاف وسكون الشين المعجمة وآخره باء - أزدري النسب من أزدشنوءة توفي في آخر خلافة معاوية وهو أحد من نسب إلى أمه فعلى هذا إذا وقع عبد الله في موضوع رفعن وجب أن ينون مالك أبوه ويرفع ابن لأنه ليس صفة لمالك فيترك تنوينه ويجر وإنما هو صفة لعبد الله بن مالك وإذا وقع عبد الله في موضع جر: نون مالك وجر ابن لأنه ليس ابن صفة لمالك وهذا من المواضع التي فيها صفة الإعراب على معرفة التاريخ وذلك مثل محمد بن حبيب اللغوي صاحب كتاب المحبر في المؤتلف والمختلف في قبائل العرب فإن حبيب أمه لا أبوه فعلى هذا يمتنع صرفه ويقال: محمد بن حبيب وقيل: إنه أبوه.
ومن غريب ما وقفت عليه في هذا محمد بن شرف القيرواني الأديب الشاعر المجيد: أنه منسوب إلى أمه شرف ولذلك نظائر لو تتبعت لجمع منها قدر كثير وقد قيل إن بحينة أم أبيه مالك والأول أصح وقد اعتنى بجمعها بعض الحفاظ
ـــــــ
1 البخاري "390" ومسلم "495" واللفظ للبخاري.(1/160)
الثاني: في الحديث دليل على استحباب التجافي في اليدين عن الجنبين في السجود وهو الذي يسمى تخوية1.
وفيه أيضا عدم بسط الذراعين على الأرض فإنه لا يرى بياض الإبطين مع بسطهما والتخوية مستحبة للرجال لأن فيها أعمال اليدين في العبادة وإخراج هيئتها عن صفة التكاسل والاستهانة إلى صفة الاجتهاد وقد يكون في ذلك أيضا على ما أشار إليه بعضهم بعض الحمل على الوجه الذي يتأثر بما يلاقيه من الأرض وهذا مشروط بأن لا يكون هذا الحمل عن الوجه مزيلا للتحامل على الأرض فإنه قد اشترط في السجود والفقهاء خصوا ذلك بالرجال وقالوا: المرأة تضم بعضها إلى بعض لأن المقصود منها التصون والتجمع والتستر وتلك الحالة أقرب إلى هذا المقصود.
12 - عن أبي مسلمة سعيد بن يزيد قال: "سألت أنس بن مالك: أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في نعليه؟ قال: نعم"2.
سعيد بن يزيد بن مسلمة أبو سلمة أزدي طاحي - بالطاء المهملة والحاء المهملة أيضا - منسوب إلى طاحية بطن من الأزد من أهل البصرة متفق على الاحتجاج بحديثه.
والحديث دليل على جواز الصلاة في النعال ولا ينبغي أن يؤخذ منه الاستحباب لأن ذلك لا يدخل في المعنى المطلوب من الصلاة.
فإن قلت: لعله من باب الزينة وكمال الهيئة فيجري مجرى الأردية والثياب التي يستحب التجمل بها في الصلاة؟.
قلت: هو - وإن كان كذلك - إلا أن ملابسته للأرض التي تكثر فيها النجاسات مما يقصر به عن هذا المقصود ولكن البناء على الأصل إن انتهض دليلا على الجواز فيعمل به في ذلك والقصور الذي ذكرناه عن الثياب المتجمل بها يمنع من إلحاقه بالمستحبات إلا أن يرد دليل شرعي بإلحاقه بما يتجمل به فيرجع إليه ويترك هذا النظر.
و مما يقوي هذا النظر - إن لم يرد دليل على خلافه - أن التزين في الصلاة من الرتبة الثالثة من المصالح وهي رتبة التزيينات والتحسينات ومراعاة أمر النجاسة من الرتبة الأولى وهي الضروريات أو من الثانية وهي الحاجيات على حسب اختلاف العلماء في حكم إزالة النجاسة فيكون رعاية الأولى بدفع ما قد يكون مزيلا لها أرجح بالنظر إليها ويعمل بذلك في عدم الاستحباب وبالحديث في الجواز وترتب كل حكم على ما يناسبه ما لم يمنع من ذلك مانع والله أعلم.
ـــــــ
1 انطر أساس البلاغة "خوي" والمختار "خوي".
2 البخاري "386" ومسلم "555" واللفظ للبخاري.(1/161)
وقد يكون في الحديث دليل على جواز البناء على الأصل في حكم النجاسات والطهارات.
واختلف الفقهاء فيما إذا عارضه الغالب: أيهما يقدم؟ وقد جاء في الحديث الأمر بالنظر إلى النعلين ودلكهما إن رأى فيهما أذى أو كما قال1: فإذا كان الغالب إصابة النجاسة: فالظاهر رؤيتها لأمره بالنظر فإذا رآها فالظاهر دلكهما لأمره بذلك عند الرؤية فإذا فعله النبي صلى الله عليه وسلم وكان طهورا لهما على ما جاء في الحديث لم يكن ذلك من باب تعارض الأصل والغالب بل يكون من ذلك الباب: ما لو صلى فيهما من غير ذلك فإن قلت: الأصل عدم دلكه قلت: لكن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أمر بشيء من هذا لم يتركه كما بيناه والظن المستفاد بهذا راجح على الأصل الذي ذكرته وهو أنه لم يدلكه.
13 - عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
14 - ولأبي العاص بن الربيع بن عبد شمس فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها"2.
أبو قتادة اسمه الحارث بن ربعي بكسر الراء المهملة وسكون الباء الموحدة وكسر العين المهملة وتشديد الياء - ابن بلدمة - بضم الباء والدال وفتحهما - مات بالمدينة سنة أربع وخمسين وقيل: مات بخلافة علي بالكوفة وهو ابن سبعين سنة ويقال: سنة أربعين وقيل إنه كان بدريا ولا خلاف أنه شهد أحدا وما بعدها والكلام على هذا الحديث من وجهين:
أحدهما: النظر في هذا الحمل ووجه إباحته.
الثاني: النظر فيما يتعلق بطهارة ثوب الصبية.
فأما الأول: فقد تكلموا في تخريجه على وجوه.
أحدها: أن ذلك في النافلة قد تقع في بعض الأركان و الشرائط كان ذلك تأنيسا بالمسامحة في مثل هذا ورد هذا القول بما وقع في بعض الروايات الصحيحة "بينما نحن ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر أو العصر خرج علينا حاملا أمامة و ذكر الحديث"3 و ظاهره يقتضي: أن ذلك كان في الفريضة وإن كان
ـــــــ
1 وهو ما أخرجه أحمد "11153" عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى فخلع نعليه فخلع الناس نعالهم فلما انصرف قال: "لم خلعتم نعالكم؟" فقالوا: يا رسول الله رأيناك خلعت فخلعنا, قال: "إن جبريل أتاني فأخبرني أن بهما خبثا فإذا جاء أحدكم المسجد فليقلب نعله فلينظر فيها فإن رأى بها خبثا فليمسه بالأرض ثم ليصل فيهما" وإسناده صحيح.
2 البخاري "516" ومسلم "543".
3 أبو داود "920".(1/162)
يحتمل أنه في نافلة سابقة على الفريضة ومما يبعد هذا التأويل أن الغالب في إمامة النبي صلى الله عليه وسلم أنها كانت في الفرائض دون النوافل وهذا يتوقف على أن يكون الدليل قائما على كون النبي صلى الله عليه وسلم كان إماما وقد ورد ذلك مصرحا به في رواية سفيان بن عيينة بسنده إلى أبي قتادة الأنصاري قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤم الناس وأمامة بنت أبي العاص وهي بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم على عاتقه الحديث"1.
الوجه الثاني: أن هذا الفعل كان للضرورة وهو مروي أيضا عن مالك وفرق بعض أتباعه بين أن تكون الحاجة شديدة بحيث لا يجد من يكفيه أمر الصبي ويخشى عليه فهذا يجوز في النافلة والفريضة وإن كان حمل الصبي في الصلاة على معنى الكفاية لأمه لشغلها بغير ذلك: لم يصلح إلا في النافلة.
وهذا أيضا عليه من الإشكال: أن الأصل استواء الفرض والنفل في الشرائط والأركان إلا ما خصه الدليل.
الوجه الثالث: أن هذا منسوخ وهو مروي أيضا عن مالك قال أبو عمر: ولعل هذا نسخ بتحريم العمل والاشتغال في الصلاة بغيرها وقد رد هذا بأن قوله صلى الله عليه وسلم: "إن في الصلاة لشغلا" 2 كان قبل بدر عند قدوم عبد الله بن مسعود من الحبشة فإن قدوم زينب وابنتها إلى المدينة كان بعد ذلك ولو لم يكن الأمر كذلك لكان فيه إثبات النسخ بمجرد الاحتمال.
الوجه الرابع: أن ذلك مخصوص بالنبي صلى الله عليه وسلم ذكره القاضي عياض وقد قيل: هذا مخصوص بالنبي صلى الله عليه وسلم إذ لا يؤمن من الطفل البول وغير ذلك على حامله وقد يعصم منه النبي صلى الله عليه وسلم وتعلم سلامته من ذلك مدة حمله.
وهذا الذي ذكره إن كان دليلا على الخصوصية فبالنسبة إلى ملابسة الصبية مع احتمال خروج النجاسة منها وليس في ذلك تعرض لأمر الحمل بخصوصه الذي الكلام فيه ولعل قائل هذا لما أثبت الخصوصية في الحمل بما ذكره - من اختصاص الرسول صلى الله عليه وسلم بجواز علمه بعصمة الصبية من البول حالة الحمل - تأنس بذلك فجعله مخصوصا بالعمل الكثير أيضا فقد يفعلون ذلك في الأبواب التي طهرت خصوصيات النبي صلى الله عليه وسلم فيها ويقولون: خص بكذا في هذا الباب فيكون هذا مخصوصا إلا أن هذا ضعيف من وجهين.
أحدهما: أنه لا يلزم من الاختصاص في أمر: الاختصاص في غيره بلا دليل فلا يدخل القياس في مثل هذا والأصل عدم التخصيص.
الثاني: أن الذي قرب دعوه الاختصاص لجواز الحمل: هو ما ذكره من جواز اختصاص
ـــــــ
1 أخرجه مسلم: "543": "42".
2 البخاري: "1216" مسلم: "538" واللفظ للبخاري.(1/163)
الرسول صلى الله عليه وسلم بالعلم بالعصمة من البول وهذا معنى مناسب لاختصاصه بجواز ملابسة للصبية في الصلاة وهو معدوم فيما نتكلم فيه من أمر الحمل بخصوصه فالقول بالاختصاص فيه قول بلا علة تناسب الاختصاص.
الوجه الخامس: حمل هذا الفعل على أن تكون أمامة في تعلقها بالرسول صلى الله عليه وسلم وتأنسها به كانت تتعلق به بنفسها فيتركها فإذا أراد السجود وضعها: فإذن الفعل الصادر منه: إنما هو الوضع لا الرفع فيقل العمل الذي توهم من الحديث ولقد وقع لي أن هذا حسن فإن لفظة وضع لا تساوي حمل في قضاء فعل الفاعل فإنا نقول لبعض الحوامل حمل كذا وإن لم يكن هو فعل الحمل ولا يقال وضع إلا بفعل حتى نظرت في بعض طرق الحديث الصحيحة فوجدت فيه فإذا قام أعادها1 وهذا يقتضي الفعل ظاهرا.
الوجه السادس: وهو معتمد بعض مصنفي أصحاب الشافعي وهو أن العمل الكثير إنما يفسد إذا وقع متواليا وهذه الأفعال قد لا تكون متوالية فلا تكون مفسدة والطمأنينة في الأركان - لا سيما في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم - تكون فاصلة ولا شك أن مدة القيام طويلة فاصلة.
وهذا الوجه إنما يخرج به إشكال كونه عملا كثيرا ولا يتعرض لمطلق الحمل.
وأما الوجه الثاني - وهو النظر إلى الإشكال من حيث الطهارة - فهو يتعلق بمسألة تعارض الأصل والغالب في النجاسات ورجح هذا الحديث العمل بالأصل وصح في كلام الشافعي إشارة إلى هذا قال رحمه الله: وثوب أمامة ثوب صبي ويرد على هذا أن هذه حالة فردة والناس يعتادون تنظيف الصبيان في بعض الأوقات وتنظيف ثيابهم عن الأقذار وحكايات الأحوال لا عموم لها فيحتمل أن يكون هذا وقع في تلك الحالة التي وقع فيها التنظيف والله أعلم.
وقوله ولأبي العاص بن الربيع هذا هو الصحيح في نسبه عند أهل النسب ووقع في رواية مالك لأبي العاص بن ربيعة فقال بعضهم: هو جد له وهو أبو العاص بن الربيع بن ربيعة فنسب في رواية مالك إلى جده وهذا ليس بمعروف.
ومنهم من استدل بالحديث على أن لمس المحارم أو من لا يشتهي: غير ناقض للطهارة وأجيب عنه بأنه يحتمل أن يكون من وراء حائل وهذا يستمد مما ذكرناه نم أن حكايات الحال لا عموم لها.
15 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اعتدلوا في السجود ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب" 2.
ـــــــ
1 مسلم: "543" من حديث أبي قتادة وفيه: "فإذا ركع وضعها وإذا رفع من السجود أعادها".
2 البخاري: "822" مسلم: "493".(1/164)
لعل "الاعتدال" ههنا محمول على أمر معنوي وهو وضع هيئة السجود موضع الشرع وعلى وفق الأمر فإن الاعتدال الخلقي الذي طلبناه في الركوع لا يتأدى في السجود فإنه ثم: استواء الظهر والعنق والمطلوب هنا: ارتفاع الأسافل على الأعالي حتى لو تساويا ففي بطلان الصلاة وجهان لأصحاب الشافعي ومما يقوي هذا الاحتمال: أنه قد يفهم من قوله عقيب ذلك: "ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب" أنه كالتتمة للأول وأن الأول كالعلة له فيكون الاعتدال الذي هو فعل الشيء على وفق الشرع علة لترك الانبساط انبساط الكلب فإنه مناف لوضع الشرع وقد تقدم الكلام في كراهة هذه الصفة.
وقد ذكر في هذا الحديث الحكم مقرونا بعلته فإن التشبيه بالأشياء الخسيسة مما يناسب تركه في الصلاة ومثل هذا التشبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قصد التنفير عن الرجوع في الهبة قال: "مثل الراجع في هبته: كالكلب يعود في قيئه" 1 أو كما قال.
ـــــــ
1 البخاري: "2622" مسلم: "1622" بألفاظ متقاربة من حديث ابن عباس.(1/165)
باب وجوب الطمأنينة في الركوع و السجود
...
8 - باب وجوب الطمأنينة في الركوع والسجود.
عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فدخل رجل فصلى ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ارجع فصل فإنك لم تصل" فرجع فصلى كما صلى ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ارجع فصل فإن لم تصل" - ثلاثا - فقال: والذي بعثك بالحق لا أحسن غيره فعلمني, فقال: "إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تعتدل قائما ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم ارفع حتى تطمئن جالسا وافعل ذلك في صلاتك كلها".
الكلام عليه من وجوه:
الأول: فيه الرفق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن النبي صلى الله عليه وسلم عامله بالرفق فيما أمره به كما قال معاوية بن الحكم السلمي فما كهرني1 ووصف رفق رسول الله صلى الله عليه وسلم به وكذلك قال في الأعرابي: "لا تزرموه" 2 ولم يعنفه وفيه حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم وفيه تكرار رد السلام مرارا إذا كرره المسلم كما ورد في بعض طرقه مع الفصل القريب
ـــــــ
1 جزء من حديث أخرجه مسلم: "537" وفيه فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني قال: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن" الحديث.
2 جزء من حديث أخرجه البخاري: "6025" ومسلم: "284" من حديث أنس وفيه قصة الأعرابي الذي بال في المسجد.(1/165)
الثاني: تكرر من الفقهاء الاستدلال على وجوب ما ذكر في الحديث وعدم وجوب ما لم يذكر فيه فأما وجوب ما ذكر فيه: فلتعلق الأمر به وأما عدم وجوب غيره: فليس ذلك لمجرد كون الأصل عدم الوجوب بل لأمر زائد على ذلك وهو أن الموضع موضع تعليم وبيان للجاهل وتعريف لواجبات الصلاة وذلك يقتضي انحصار الواجبات فيما ذكر.
ويقوي مرتبة الحصر: أنه صلى الله عليه وسلم ذكر ما تعلقت به الإساءة من هذا المصلي وما لم تتعلق به إساءته من واجبات الصلاة وهذا يدل على أنه لم يقصر المقصود على ما وقعت فيه الإساءة فقط.
فإذا تقرر هذا: فكل موضع اختلف الفقهاء في وجوبه - وكان مذكورا في هذا الحديث - فلنا أن نتمسك به في وجوبه وكل موضع اختلفوا في وجوبه ولم يكن مذكورا في هذا الحديث فلنا أن نتمسك به في عدم وجوبه لكونه غير مذكور في هذا الحديث على ما تقدم من كونه موضع تعليم وقد ظهرت قرينة مع ذلك على قصد ذكر الواجبات وكل موضع اختلف في تحريمه فلنا أن نستدل بهذا الحديث على عدم تحريمه لأنه لو حرم لوجب التلبس بضده فإن النهي عن الشيء أمر بأحد أضداده ولو كان التلبس بالضد واجبا لذكر ذلك على ما قررناه.
فصار من لوازم النهي: الأمر بالضد ومن الأمر بالضد: ذكره في الحديث على ما قررناه فإذا انتفى ذكره - أعني الأمر بالتلبس بالضد - انتفى ملزومه وهو الأمر بالضد وإذا انتفى الأمر بالضد: انتفى ملزومه وهو النهي عن ذلك الشيء.
فهذه الطرق الثلاث يمكن الاستدلال بها على شيء كثير من المسائل المتعلقة بالصلاة إلا أن على طالب التحقيق في هذا ثلاث وظائف.
أحدها: أن يجمع طرق هذا الحديث ويحصي الأمور المذكورة فيه ويأخذ بالزائد فالزائد فإن الأخذ بالزائد واجب.
وثانيها: إذا قام دليل على أحد أمرين: إما عدم الوجوب أو الوجوب فالواجب العمل به ما لم يعارضه ما هو أقوى منه وهذا في باب النفي يجب التحرز فيه أكثر فلينظر عند التعارض أقوى الدليلين فيعمل به.
وعندنا: أنه إذا استدل على عدم وجوب شيء بعدم ذكره في الحديث وجاءت صيغة الأمر به في حديث آخر: فالمقدم صيغة الأمر وإن كان يمكن أن يقال: الحديث دليل على عدم الوجوب: وتحمل صفة الأمر على الندب لكن عندنا أن ذلك أقوى لأن عدم الوجوب متوقف على مقدمة أخرى وهو أن عدم الذكر في الرواية: يدل على عدم الذكر في نفس الأمر وهذه غير المقدمة التي قررناها وهو أن عدم الذكر يدل على عدم الوجوب لأن المراد ثمة أن(1/166)
عدم الذكر في نفس الأمر من الرسول صلى الله عليه وسلم يدل على عدم الوجوب فإنه موضع بيان وعدم الذكر في نفس الأمر غير عدم الذكر في الرواية وعدم الذكر في الرواية إنما يدل على الذكر في نفس الأمر بطريق أن يقال: لو كان لذكر أو بأن الأصل عدمه وهذه المقدمة أضعف من دلالة الأمر على الوجوب.
وأيضا فالحديث الذي فيه الأمر إثبات لزيادة فيعمل بها.
هذا البحث كله بناء على إعمال صيغة الأمر في الوجوب الذي هو ظاهر فيها والمخالف يخرجها عن حقيقتها بدليل عدم الذكر فيحتاج الناظر المحقق إلى الموازنة بين الظن المستفاد من عدم الذكر في الرواية وبين الظن المستفاد من كون الصيغة للوجوب والثاني عندنا أرجح.
وثالثها: أن يستمر على طريقة واحدة ولا يستعمل في مكان ما يتركه في آخر فيتثعلب نظره وأن يستعمل القرائن المعتبرة في ذلك استعمالا واحدا فإنه قد يقع هذا الاختلاف في النظر في كلام كثير من المتناظرين.
الوجه الثالث من الكلام على الحديث: قد تقدم أنه قد يستدل - حيث يراد نفي الوجوب - بعدم الذكر في الحديث وقد فعلوا هذا في مسائل.
منها: أن الإقامة غير واجبة خلافا لمن قال بوجوبها من حيث إنها لم تذكر في الحديث وهذا - على ما قررناه - يحتاج إلى عدم رجحان الدليل الدال على وجوبها عند الخصم وعلى أنها غير مذكورة في جميع طرق هذا الحديث وقد ورد في بعض طرقه: الأمر بالإقامة1 فإن صح فقد عدم أحد الشرطين اللذين قررناهما.
ومنها: الاستدلال على عدم وجوب دعاء الاستفتاح حيث لم يذكر وقد نقل عن بعض المتأخرين - ممن لم يرسخ قدمه في الفقه ممن ينسب إلى غير الشافعي - أن الشافعي يقول بوجوبه وهذا غلط قطعا فإن لم ينقله غيره فالوهم منه وإن نقله غيره - كالقاضي عياض رحمه الله ومن هو في مرتبته من الفضلاء - فالوهم منهم لا منه.
ومنها: استدلال بعض المالكية به على عدم وجوب التشهد بما ذكرناه من عدم الذكر ولم يتعرض هذا المستدل بالسلام لأن للحنفية أن يستدلوا به على عدم وجوب السلام بعينه مع أن المادة واحة إلا أن الدليل المعارض لوجوب السلام أقوى من الدليل على عدم وجوبه فلذلك تركه بخلاف التشهد فهذا يقال فيه أمران:
أحدهما: أن دليل إيجاب التشهد هو الأمر وهو أرجح مما ذكرناه.
ـــــــ
1 أبو داود: "861" والترمذي: "302" من حديث رفاعة بن رافع وفيه: "إذا قمت إلى الصلاة فتوضأ كما أمرك الله ثم تشهد وأقم..." الحديث قال الترمذي: حديث حسن.(1/167)
وبالجملة: فله أن يناظر على الفرق بين الرجحانين ويمهد عذره ويبقي النظر ثمة فيما يقال.
الثاني: أن دلالة اللفظ على الشيء لا تنفي معارضة المانع الراجح فإن الدلالة أمر يرجع إلى اللفظ أو إلى أمر لو جرد النظر إليه لثبت الحكم وذلك لا ينفي وجود المعارض.
نعم لو استدل بلفظ يحتمل أمرين على السواء لكانت الدلالة منتفية وقد يطلق الدليل على الدليل التام الذي يجب العمل به وذلك يقتضي عدم وجود المعارض الراجح والأولى: أن يستعمل في دلالة ألفاظ الكتاب والسنة الطريق الأول ومن ادعى المعارض الراجح فعليه البيان.
الوجه الرابع: من الكلام على الحديث: استدل بقوله: "فكبر" على وجوب التكبير بعينه وأبو حنيفة يخالف فيه ويقول: إذا أتى بما يقتضي التعظيم كقوله الله أجل أو أعظم كفى وهذا نظر منه إلى المعنى وأن المقصود التعظيم فيحصل بكل ما دل عليه وغيره اتبع اللفظ وظاهره تعيين التكبير ويتأيد ذلك بأن العبادات محل التعبدات ويكثر ذلك فيها فالاحتياط فيها الاتباع.
وأيضا: فالخصوص قد يكون مطلوبا أعني خصوص التعظيم بلفظ الله أكبر وهذا لأن رتب هذه الأذكار مختلفة كما تدل عليه الأحاديث فقد لا يتأدى برتبة ما يقصد من أخرى ولا يعارض هذا: أن يكون أصل المعنى مفهوما فقد يكون التعبد واقعا في التفصيل كما أنا نفهم أن المقصود من الركوع التعظيم بالخضوع ولو أقام مقامه خضوعا آخر لم يكتف به ويتأيد هذا باستمرار العمل من الأمة على الدخول في الصلاة بهذه اللفظة أعني الله أكبر.
وأيضا: فقد اشتهر بين أهل الأصول أن كل علة مستنبطة تعود على النص بالإبطال أو التخصيص فهي باطلة ويخرج على هذا حكم هذه المسألة فإنه إذا استنبط من النص أن المقصود مطلق التعظيم بطل خصوص التكبير وهذه القاعدة الأصولية قد ذكر بعضهم فيها نظرا وتفصيلا وعلى تقدير تقريرها مطلقا يخرج ما ذكرناه.
الوجه الخامس: قوله: "ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن" يدل على وجوب القراءة في الصلاة ويستدل به من يرى أن الفاتحة غير معينة ووجه ظاهر فإنه إذا تيسر غير الفاتحة فقارئه يكون ممتثلا فيخرج عن العهدة والذي عينوا الفاتحة للوجوب: وهم الفقهاء الأربعة إلا أن أبا حنيفة منهم - على ما نقل عنه - جعلها واجبة وليست بفرض على أصله في الفرق بين الواجب والفرض اختلف من نصر مذهبهم في الجواب عن الحديث وذكر فيه طرق.
الطريق الأول: أن يكون الدليل الدال على تعيين الفاتحة كقوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لمن لم(1/168)
يقرأ بفاتحة الكتاب" مثلا مفسرا للمجمل الذي في قوله: "اقرأ ما تيسر معك من القرآن" وهذا إن أريد بالمجمل ما يريده الأصوليون به فليس كذلك لأن المجمل ما لا يتضح المراد منه وقوله: "اقرأ ما تيسر معك من القرآن" متضح أن المراد يقع امتثاله بفعل كل ما تيسر حتى لو لم يرد قوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" 1 لاكتفينا في الامتثال بكل ما تيسر وإن أريد بكونه مجملا أنه لا يتعين فرد من الأفراد فهذا لا يمنع من الاكتفاء بكل فرد ينطلق عليه ذلك الاسم كما في سائر المطلقات.
الطريق الثاني: أن يجعل قوله: "اقرأ ما تيسر معك" مطلقا يقيد أو عاما يخصص بقوله: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" وهذا يرد عليه أن يقال: لا نسلم أنه مطلق من كل وجه بل هو مقيد بقيد التيسير الذي يقتضي التخيير في قراءة كل فرد من أفراد المتيسرات وهذا القيد المخصوص يقابل التعيين وإنما نظير المطلق الذي لا ينافي التعيين أن يقول: اقرأ قرآنا ثم يقول: اقرأ فاتحة الكتاب فإنه يحمل المطلق على المقيد حينئذ والمثال الذي يوضح ذلك أنه لو قال لغلامه: اشتر لي لحما ولا تشتر إلا لحم الضأن لم يتعارض ولو قال: اشتر لي أي لحم شئت ولا تشتر إلا لحم الضأن في وقت واحد لتعارض إلا أن يكون أراد بهذه العبارة ما يراد بصيغة الاستثناء.
وأما دعوى التخصيص: فأبعد لأن سياق الكلام يقتضي تيسير الأمر عليه وإنما يقرب هذا إذا جعلت ما بمعنى لذى وأريد بها شيء معين وهو الفاتحة لكثرة حفظ المسلمين لها فهي المتيسرة.
الطريق الثالث: أن يحمل قوله: "ما تيسر" على ما زاد على فاتحة الكتاب ويدل على ذلك بوجهين أحدهما: الجمع بينه وبين دلائل إيجاب الفاتحة.
والثاني: ما ورد في بعض رواية أبي داود: "ثم اقرأ بأم القرآن وما شاء الله أن تقرأ" 2.
وهذه الرواية - إذا أصحت - تزيل الإشكال بالكلية لما قررناه من أنه يؤخذ بالزائد إذا جمعت طرق الحديث ويلزم من هذه الطريقة: إخراج صيغة الأمر عن ظاهرها عند من لا يرى وجوب زائد عن الفاتحة وهم الأكثرون.
الوجه السادس: قوله صلى الله عليه وسلم: "ثم اركع حتى تطمئن راكعا" يدل على وجوب الركوع واستدلوا به على وجوب الطمأنينة وهو كذلك دال عليها ولا يتخيل ههنا ما تكلم الناس فيه من أن الغاية: هل تدخل في المغيي أم لا؟ أو ما قيل من الفرق بين أن تكون من جنس المغييا أو
ـــــــ
1 سيأتي تخريجه.
2 أبو داود: "859".(1/169)
لا فإن الغاية ههنا - وهي الطمأنينة - وصف للركوع لتقييده بقوله راكعا ووصف الشيء معه حتى لو فرضنا أنه ركع ولم يطمئن بل رفع عقيب مسمى الركوع لم يصدق عليه أنه جعل مطلق الركوع مغيا بالطمأنينة.
وجاء بعض المتأخرين فأغرب جدا وقال: ما تقريره: إن الحديث يدل على عدم وجوب الطمأنينة من حيث إن الأعرابي صلى غير مطمئن ثلاث مرات والعبادة بدون شرطها فاسدة حرام فلو كانت الطمأنينة واجبة لكان فعل الأعرابي فاسدا ولو كان ذلك لم يقره النبي صلى الله عليه وسلم عليه في حال فعله وإذا تقرر بهذا التقدير عدم الوجوب: حمل الأمر في الطمأنينة على الندب ويحمل قوله صلى الله عليه وسلم: "فإنك لم تصل" على تقدير لم تصل صلاة كاملة.
و يمكن أن يقال: إن فعل الأعرابي بمجرده لا يوصف بالحرمة عليه لأن شرطه علمه بالحكم فلا يكون التقرير تقريرا على محرم إلا أنه لا يكفي ذلك في الجواب فإنه فعل فاسد والتقرير يدل على عدم فساده وإلا لما كان التقرير في موضع ما يدل على الصحة.
وقد يقال: إن التقرير ليس بدليل على الجواز مطلقا بل لا بد من انتفاء الموانع وزيادة قبول المتعلم لما يلقى إليه بعد تكرار فعله واستجماع نفسه وتوجه سؤاله مصلحة مانعة من وجوب المبادرة إلى التعليم لا سيما مع عدم خوف الفوات إما بناء على ظاهر الحال أو بوحي خاص.
الوجه السابع: قوله صلى الله عليه وسلم: "ثم ارفع حتى تعتدل قائما" يدل على وجوب الرفع خلافا لمن نفاه ويدل على وجوب الاعتدال في الرفع وهو مذهب الشافعي في موضعين وللمالكية خلاف فيهما وقد قيل في توجيه عدم وجوب الاعتدال أن المقصود من الرفع الفصل وهو يحصل بدون الاعتدال وهذا ضعيف لأنا نسلم أن الفصل مقصود ولا نسلم أنه كل المقصود وصيغة الأمر دلت على أن الاعتدال مقصود مع الفصل فلا يجوز تركها.
وقريب من هذا في الضعف: استدلال بعض من قال بعدم وجوب الطمأنينة بقوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] فلم يأمرنا بما زاد على ما يسمى ركوعا وسجودا وهذا واه جدا فإن الأمر بالركوع والسجود يخرج عنه المكلف بمسمى الركوع والسجود كما ذكر وليس الكلام فيه وإنما الكلام في خروجه عن عهدة الأمر الآخر وهو الأمر بالطمأنينة فإنه يجب امتثاله كما يجب امتثال الأول.
الوجه الثامن: قوله: "ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا" والكلام فيه كالكلام في الركوع.
وكذلك قوله: "ثم ارفع حتى تطمئن جالسا" فيما يستنبط منه.
الوجه التاسع: قوله صلى الله عليه وسلم: "ثم افعل ذلك في صلاتك كلها" يقتضي وجوب القراءة في جميع.(1/170)
الركعات وإذا ثبت أن الذي أمر به الأعرابي: هو قراءة الفاتحة: دل على وجوب قراءتها في جميع الركعات وهو مذهب الشافعي وفي مذهب مالك ثلاثة أقوال:
أحدها: الوجوب في كل ركعة
والثاني: الوجوب في الأكثر
والثالث: الوجوب في ركعة واحدة.(1/171)
9 - باب القراءة في الصلاة.
1 - عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" 1.
عبادة بن الصامت بن قيس بن أصرم الأنصاري سالمي عقبي بدري يكنى أبا الوليد توفي بالشام وقبره معروف به على ما ذكر يقال: توفي سنة أربع وثلاثين بالرملة وقيل: ببيت المقدس.
والحديث دليل على وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة ووجه الاستدلال منه ظاهر إلا أن بعض علماء الأصول اعتقد في مثل هذا اللفظ الإجمال من حيث إنه يدل على نفي الحقيقة وهي غير منتفية فيحتاج إلى إضمار ولا سبيل إلى إضمار كل محتمل لوجهين:
أحدهما: أن الإضمار إنما احتيج إليه للضرورة والضرورة تندفع بإضمار فرد ولا حاجة لإضمار أكثر منه.
وثانيهما: أن إضمار الكل قد يتناقض فإن إضمار الكمال يقتضي إثبات أصل الصحة ونفي الصحة يعارضه وإذا تعين إضمار فرد فليس البعض أولى من البعض فتعين الإجمال.
وجواب هذا: أنا لا نسلم أن الحقيقة غير منتفية وإنما تكون غير منتفية لو حمل لفظ الصلاة على غير عرف الشرع وكذلك لفظ الصيام وغيره أما إذا حمل على عرف الشرع فيكون منتفيا حقيقة ولا يحتاج إلى الإضمار المؤدي إلى الإجمال ولكن ألفاظ الشارع محمولة على عرفه لأنه الغالب ولأنه المحتاج إليه فيه فإنه بعث لبيان الشرعيات لا لبيان موضوعات اللغة.
وقوله: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" قد يستدل به من يرى وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة بناء على أن كل ركعة تسمى صلاة وقد يستدل به من يرى وجوبها في كل ركعة واحدة بناء على أنه يقتضي حصول اسم الصلاة عند قراءة الفاتحة فإذا حصل مسمى قراءة الفاتحة في كل ركعة وجب أن تحصل الصلاة والمسمى يحصل بقراءة الفاتحة مرة واحدة فوجب القول بحصول مسمى الصلاة ويدل على أن الأمر كما يدعيه أن إطلاق اسم الكل على الجزء
ـــــــ
1 البخاري "756" ومسلم "394".(1/171)
مجاز يؤيد قوله صلى الله عليه وسلم: "خمس صلوات كتبهن الله على العباد" 1 فإنه يقتضي أن اسم الصلاة حقيقة في مجموعة الأفعال لا في كل ركعة لأنه لو كان حقيقة في كل ركعة لكان المكتوب على العباد: سبع عشرة صلاة.
وجواب هذا: أن غاية ما فيه دلالة مفهوم على صحة الصلاة بقراءة الفاتحة في ركعة فإذا دل دليل خارج منطوق على وجوبها في كل ركعة كان مقدما عليه وقد استدل بالحديث على وجوب قراءة الفاتحة على المأموم لأن صلاة المأموم صلاة فتنتفي عند انتفاء قراءة الفاتحة فإن وجد دليل يقتضي تخصيص صلاة المأموم من هذا العموم قدم على هذا وإلا فالأصل العمل به.
2 - عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر بفاتحة الكتاب وسورتين يطول في الأولى ويقصر في الثانية يسمع الآية أحيانا وكان يقرأ في العصر بفاتحة الكتاب وسورتين يطول في الأولى ويقصر في الثانية وفي الركعتين الأخريين بأم الكتاب وكان يطول في الركعة الأولى من صلاة الصبح ويقصر في الثانية".
الأوليان تثنية الأولى وكذلك الأخريان وأما ما يسمع على الألسنة من الأولة وتثنيتها بالأولتين فمرجوح في اللغة.
ويتعلق بالحديث أمور:
أحدها: يدل على قراءة السورة في الجملة مع الفاتحة وهو متفق عليه والعمل متصل به من الأمة وإنما اختلفوا في وجوب ذلك أو عدم وجوبه وليس في مجرد الفعل - كما قلنا - ما يدل على الوجوب إلا أن يتبين أنه وقع بيانا لمجمل واجب ولم يرد دليل راجح على إسقاط الوجوب وقد ادعى في كثير من الأفعال التي قصد إثبات وجوبها: أنها بيان لمجمل وقد تقدم لنا في هذا بحث وهذا الموضع مما يحتاج من سلك تلك الطريقة إلى إخراجه عن كونه بيانا أو إلى أن يفرق بينه وبين ما ادعي فيه: كونه بيانا من الأفعال فإنه ليس معه في تلك المواضع إلا مجرد الفعل وهو موجود ههنا.
الثاني: اختلف العلماء في استحباب قراءة السورة في الركعتين الأخريين وللشافعي قولان وقد يستدل بهذا الحديث على اختصاص القراءة بالأوليين فإنه ظاهر الحديث حيث فرق بين الأوليين والأخريين فيما ذكره من قراءة السورة وعدم قراءتها وقد يحتمل غير ذلك
ـــــــ
1 أبو داود "1420" والنسائي "463" وابن ماجه "1401".(1/172)
لاحتمال اللفظ لأن يكون أراد تخصيص الأوليين بالقراءة الموصوفة بهذه الصفة أعني التطويل في الأولى والتقصير في الثانية.
الثالث: يدل على أن الجهر بالشيء اليسير من الآيات في الصلاة السرية جائز مغتفر لا يوجب سهوا يقتضي السجود.
الرابع: يدل على استحباب تطويل الركعة الأولى بالنسبة إلى الثانية فيما ذكر فيه وأما تطويل القراءة في الأولى بالنسبة إلى القراءة في الثانية: ففيه نظر وسؤال على من رأى ذلك لكن اللفظ إنما دل على تطويل الركعة وهو متردد بين تطويلها بمحض القراءة وبمجموع منه القراءة فمن لم ير أن يكون مع القراءة غيرها وحكم باستحباب تطويل الأولى مستدلا بهذا الحديث: لم يتم له إلا بدليل من خارج على أنه لم يكن مع القراءة غيرها.
ويمكن أن يجاب عنه بأن المذكور هو القراءة.
والظاهر: أن التطويل والتقصير راجعان إلى ما ذكر قبلهما وهو القراءة.
الخامس: فيه دليل على جواز الاكتفاء بظاهر الحال في الأخبار دون التوقف على اليقين لأن الطريق إلى العلم بقراءة السورة في السرية لا يكون إلا بسماع كلها وإنما يفيد اليقين ذلك لو كان في الجهرية وكأنه أخذ من سماع بعضها مع قيام القرينة على قراءة باقيها.
فإن قلت: قد يكون أخذ ذلك بإخبار الرسول صلى الله عليه وسلم.
قلت: لفظة كان ظاهرة في الدوام والأكثرية ومن ادعى أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يخبرهم عقيب الصلاة دائما أو أكثريا بقراءة السورتين فقد أبعد جدا.
3 - عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور"1.
4 - عن البراء بن عازب رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر فصلى العشاء الآخرة فقرأ في إحدى الركعتين بالتين والزيتون فما سمعت أحدا أحسن صوتا أو قراءة منه"2.
جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف قرشي نوفلي يكنى أبا محمد ويقال: أبو عدي كان من حكماء قريش وسادتهم وكان يؤخذ عنه النسب أسلم فيما قيل: يوم الفتح وقيل: عام خيبر ومات بالمدينة سنة سبع وخمسين وقيل: سنة تسع وخمسين وحديثه وحديث البراء الذي بعده يتعلقان بكيفية القراءة في الصلاة وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك أفعال مختلفة في الطول والقصر وصنف فيها بعض الحفاظ كتابا مفردا
ـــــــ
1 البخاري "765" ومسلم "463".
2 البخاري "769" ومسلم "464" "177".(1/173)
والذي اختاره الشافعية التطويل: في قراءة الصبح والظهر والتقصير في المغرب والتوسط في العصر والعشاء وغيره يوافق في الصبح والمغرب ويخالف الظهر والعصر والعشاء واستمر العمل من الناس على التطويل في الصبح والقصر في المغرب وما ورد على خلاف ذلك من الأحاديث فإن ظهرت له علة في المخالفة فقد يحمل على تلك العلة كما في حديث البراء بن عازب المذكور فإنه ذكر: "أنه في السفر" فمن يختار أوساط المفصل لصلاة العشاء الآخرة: يحمل ذلك على أن السفر مناسب للتخفيف لاشتغال المسافر وتعبه.
والصحيح عندنا: أن ما صح في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم مما لم يكثر مواظبته عليه فهو جائز من غيره كراهة كحديث جبير بن مطعم في قراءة الطور في المغرب وكحديث قراءة الأعراف فيها1 وما صحت المواظبة عليه فهو في درجة الرجحان في الاستحباب إلا أن غيره مما قرأنه النبي صلى الله عليه وسلم غيره مكروه وقد تقدم الفرق بين كون الشيء مستحبا وبين كون تركه مكروها.
وحديث جبير بن مطعم المتقدم مما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم قبل إسلامه لما قدم في فداء الأساري وهذا النوع من الأحاديث قليل أعني التحمل قبل الإسلام والأداء بعده.
5 - عن عائشة رضي الله عنها: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلا على سرية فكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "سلوه لأي شيء صنع ذلك؟", فسألوه فقال: لأنها صفة الرحمن عز وجل فأنا أحب أن أقرأ بها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أخبروه: أن الله تعالى يحبه" 2.
قوله: "فيختم بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} " يدل على أنه كان يقرأ بغيرها والظاهر أنه كان يقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} مع غيرها في ركعة واحدة ويختم بها في تلك الركعة وإن كان اللفظ يحتمل أن يكون يختم بها في آخر ركعة يقرأ فيها السورة وعلى الأول: يكون ذلك دليلا على جواز الجمع بين السورتين في ركعة واحدة إلا أن يزيد الفاتحة معها.
وقوله: "إنها صفة الرحمن" يحتمل أن يراد به: أن فيها ذكر صفة الرحمن كما إذا ذكر وصف فعبر عن ذلك الذكر بأنه الوصف وإن لم يكن ذلك الذكر نفس الوصف ويحتمل أن يراد به غير ذلك إلا أنه لا يختص ذلك بـ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ولعلها خصت بذلك لاختصاصها بصفات الرب تعالى دون غيرها.
ـــــــ
1 وهو الحديث الذي اخرجه البخاري "764" عن مروان بن الحكم قال: قال لي زيد بن ثابت مالك تقرأ في المغرب بقصار وقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بطولي الطوليين؟
وطولى الطوليين يقصد بها سورة الأعراف انظر فتح الباري.
2 البخاري "7375" ومسلم "813".(1/174)
وقوله صلى الله عليه وسلم: "أخبروه أن الله تعالى يحبه" يحتمل أن يريد بمحبته: قراءة هذه السورة ويحتمل أن يكون لما شهد به كلامه من محبته لذكر صفات الرب عز وجل وصحة اعتقاده.
6 - عن جابر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ: "فلولا صليت بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} ؟ فإنه يصلى وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة" 1.
وأما الحديث جابر – وهو الحديث السادس - فلم يتعين في هذه الرواية في أي صلاة قيل له ذلك وقد عرف أن صلاة العشاء الآخرة: طول فيها معاذ بقومه فيدل ذلك على استحباب قراءة هذا القدر في العشاء الآخرة ومن الحسن أيضا: قراءة هذه السور بعينها فيها وكذلك كل ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من هذه القراءة المختلفة فينبغي أن تفعل.
ولقد أحسن من قال من العلماء اعمل بالحديث ولو مرة تكن من أهله.
ـــــــ
1 البخاري "705" ومسلم "465" واللفظ للبخاري.(1/175)
10 - باب ترك الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم.
1 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما: كانوا يستفتحون الصلاة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} "1.
وفي رواية: "صليت مع أبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم"2.
2 - ولمسلم: "صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يستفتحون بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} لا يذكرون: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} في أول قراءة ولا في آخرها"3.
أما قوله: "كانوا يستفتحون الصلاة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} " فقد تقدم الكلام في مثله وتأويل من تأول ذلك بأنه كان يبتدئ بالفاتحة قبل السورة.
وأما بقية الحديث فيستدل به من يرى عدم الجهر بالبسملة في الصلاة والعلماء في ذلك على ثلاثة مذاهب أحدها: تركها سرا وجهرا وهو مذهب مالك.
الثاني: قراءتها سرا لا جهرا وهو مذهب أبى حنيفة وأحمد.
ـــــــ
1 البخاري "743".
2 مسلم "399".
3 مسلم "399" "52".(1/175)
الثالث: الجهر بها في الجهرية وهو مذهب الشافعي.
والمتيقن من هذا الحديث: عدم الجهر وأما الترك أصلا: فمحتمل مع ظهور ذلك في بعض الألفاظ وهو قوله: "لا يذكرون" وقد جمع جماعة من الحفاظ باب الجهر وهو أحد الأبواب التي يجمعها أهل الحديث وكثير منها - أو الأكثر - معتل وبعضها جيد الإسناد إلا أنه غير مصرح فيه بالقراءة في الفرض أو في الصلاة وبعضها فيه ما يدل على القراءة في الصلاة إلا أنه ليس بصريح الدلالة على خصوص التسمية ومن صحيحها: حديث نعيم بن عبد الله المجمر قال: "كنت وراء أبي هريرة فقرأ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ثم قرأ بأم القرآن حتى بلغ: {وَلا الضَّالِّينَ} قال: آمين وقال الناس: آمين ويقول كلما سجد: الله أكبر وإذا قام من الجلوس قال: الله أكبر ويقول إذا سلم: والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم"1.
وقريب من هذا في الدلالة والصحة: حديث المعتمر بن سليمان: "وكان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم قبل فاتحة الكتاب وبعدها ويقول: ما آلوا أن أقتدي بصلاة أبي وقال أبي: ما آلوا أن أقتدي بصلاة أنس وقال أنس: ما آلوا أن أقتدي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم"2 وذكر الحاكم أبو عبد الله: أن رواة هذا الحديث عن آخرهم ثقات.
وإذا ثبت شيء من ذلك فطريق أصحاب الجهر: أنهم يقدمون الإثبات على النفي ويحملون حديث أنس على عدم السماع وفي ذلك بعد مع طول مدة صحته.
وأيد المالكية ترك التسمية بالعمل المتصل من أهل المدينة والمتيقن من ذلك - كما ذكرناه في الحديث الأول - ترك الجهر إلا أن يدل دليل صريح على الترك مطلقا.
ـــــــ
1 النسائي "906".
2 الحاكم في المستدرك "1/234".(1/176)
11 - باب سجود السهو.
1 - عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي - قال ابن سيرين: وسماها أبو هريرة ولكن نسيت أنا - قال: فصلى بنا ركعتين ثم سلم فقام إلى خشبة معروضة في المسجد فاتكأ عليها كأنه غضبان ووضع يده اليمنى على اليسرى وشبك بين أصابعه وخرجت السرعان من أبواب المسجد فقالوا: قصرت الصلاة - وفي القوم أبو بكر وعمر - فهابا أن يكلماه وفي القوم رجل في يديه طول يقال له: ذو اليدين فقال: يا رسول الله(1/176)
أنسيت أم قصرت الصلاة؟ قال: "لم أنس ولم تقصر", فقال: "أكما يقول ذو اليدين؟" فقالوا: نعم, فتقدم فصلى ما ترك ثم سلم ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع رأسه فكبر ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع رأسه وكبر فربما سألوه: ثم سلم؟ قال: فنبئت أن عمران بن حصين قال: ثم سلم"1.
الكلام على هذا الحديث يتعلق بمباحث:
بحث يتعلق بأصول الدين وبحث يتعلق بأصول الفقه وبحث يتعلق بالفقه.
فأما البحث الأول: ففي موضعين:
أحدهما: أنه يدل على جواز السهو في الأفعال على الأنبياء عليهم السلام وهو مذهب عامة العلماء والنظار وهذا الحديث مما يدل عليه وقد صرح صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود بأنه: "ينسى كما تنسون"2 وشذت طائفة من المتوغلين فقالت: لا يجوز السهو عليه وإنما ينسى عمدا ويتعمد صورة النسيان ليسن وهذا قطعا باطل لإخباره صلى الله عليه وسلم بأنه ينسى ولأن الأفعال العمدية تبطل الصلاة ولأن صورة الفعل النسياني كصورة الفعل العمدي وإنما يتميزان للغير بالإخبار.
والذين أجازا السهو قالوا: لا يقر عليه فيما طريقه البلاغ الفعلي واختلفوا: هل من شرط التنبيه الاتصال بالحادثة أو ليس من شرطه ذلك؟ بل يجوز التراخي إلى أن تنقطع مدة التبليغ وهو العمر وهذه الواقعة قد وقع البيان فيها على الاتصال.
وقد قسم القاضي عياض الأفعال إلى ما هو على طريقة البلاغ وإلى ما ليس على طريقة البلاغ ولا بيان للأحكام من أفعاله البشرية وما يختص به من عاداته وأذكار قلبه وأبي ذلك بعض من تأخر عن زمن وقال: إن أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم أفعاله وإقراره: كله بلاغ واستنتج بذلك العصمة في الكل بناء على أن المعجزة تدل على العصمة فيما طريقه البلاغ وهذه كلها بلاغ فهذه كلها تتعلق بها العصمة - أعني القول والفعل والتقرير - ولم يصرح في ذلك بالفرق بين عمد وسهو وأخذ البلاغ في الأفعال: من حيث التأسي به صلى الله عليه وسلم فإن كان يقول بأن السهو والعمد سواء في الأفعال فهذا الحديث يرد عليه.
الموضوع الثاني: الأقوال وهي تنقسم إلى ما طريقه البلاغ والسهو فيه ممتنع ونقل فيه الإجماع كما يمتنع التعمد قطعا وإجماعا.
وأما طريق السهو في الأقوال الدنيوية وفيما ليس سبيله البلاغ من الأخبار التي تستند
ـــــــ
1 البخاري "482" ومسلم "573".
2 البخاري "401" ومسلم "572" وفيه "لو حدث في الصلاة شيء لنبأتكم به ولكن إنما أنا بشر مثلكم انسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني".(1/177)
الأحكام إليها ولا أخبار المعاد ولا ما يضاف إلى وحي فقد حكى القاضي عياض عن قوم: أنهم جوزوا السهو والغفلة في هذا الباب عليه إذ ليس من باب التبليغ الذي يتطرق به إلى القدح في الشريعة قال: والحق الذي لا مرية فيه: ترجيح قول من لم يجز ذلك على الأنبياء في خبر من الأخبار كما لم يجيزوا عليهم فيها العمد فإنه لا يجوز عليهم خلف من خبر لا عن قصد ولا سهو ولا في صحة ولا مرض ولا رضى ولا غضب.
والذي يتعلق بهذا من هذا الحديث: قوله صلى الله عليه وسلم: "لم أنس ولم تقصر" وفي رواية أخرى: "كل ذلك لم يكن" 1 واعتذر عن ذلك بوجوه:
أحدها: أن المراد لم يكن القصر والنسيان معا وكان الأمر كذلك.
وثانيهما: أن المراد الإخبار عن اعتقاد قلبه وظنه وكأنه مقدر النطق به ن وإن كان محذوفا لأنه لو صرح به - وقيل: لم يكن في ظنين ثم تبين أنه كان خلافه في نفس الأمر - لم يقتض ذلك أن يكون خلافه في ظن فإذا كان لو صرح به - كما ذكرناه - فكذلك إذا كان مقدرا مرادا.
وهذان الوجهان يختص أولهما برواية من روى: "كل ذلك لم يكن" وأما من روى: "لم أنس ولم تقصر" فلا يصح فيه هذا التأويل.
وأما الوجه الثاني: فهو مستمر على مذهب من يرى أن مدلول اللفظ الخبري هو الأمور الذهنية فإنه - وإن لم يذكر ذلك - فهو الثابت في نفس الأمر عند هؤلاء فيصير كالملفوظ به.
وثالثها: أن قوله صلى الله عليه وسلم: "لم أنس" يجمل على السلام أي إنه كان مقصودا لأنه بناء على ظن التمام ولم يقطع سهوا في نفسه وإنما وقع السهو في عدد الركعات وهذا بعيد.
ورابعها: الفرق بين السهو والنسيان فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسهو ولا ينسى ولذلك نفى عن نفسه النسيان لأنه غفلة ولم يغفل عنها وكان شغله عن حركات الصلاة وما في الصلاة: شغلا بها لا غفلة عنها ذكره القاضي عياض.
وليس في هذا تخليص للعبارة عن حقيقة السهو والنسيان مع بعد الفرق بينهما في استعمال اللغة وكأنه متلوح في اللفظ: أن النسيان عدم الذكر لأمر لا يتعلق بالصلاة والسهو عدم الذكر لأمر يتعلق بها ويكون النسيان الإعراض عن تفقد أمورها حتى يحصل عدم الذكر لا لأجل الإعراض وليس في هذا - بعد ما ذكرناه - تفريق كلي بين السهو والنسيان.
وخامسها: ما ذكره القاضي عياض: أنه ظهر له ما هو أقرب وجها وأحسن تأويلا وهو أنه إنما أنكر صلى الله عليه وسلم نسبة النسيان المضاف إليه وهو الذي نهى عنه بقوله: "بئسما لأحدكم أن يقول:
ـــــــ
1 وهي رواية مسلم "573" "99".(1/178)
نسيت كذا ولكنه نُسِّيَ" 1 وقد روي: "إني لا أنسى" على النفي: "ولكني أُنَسَّي" على النفي وقد شك الراوي - على رأي بعضهم - في الرواية الأخرى: هل قال أنسي أو أنسى وأن أو هناك للشك وقيل: بل للتقسيم وأن هذا يكون منه مرة من قبل شغله وسهوه ومرة يغلب على ذلك ويجبر عليه ليسن فلما سأله السائل بذلك اللفظ أنكره وقال له: "كل ذلك لم يكن" وفي الرواية الأخرى: "لم أنس ولا تقصر" أما القصر: فبين وكذلك "لم أنس" حقيقة من قبل نفسي وغفلتي عن الصلاة ولكن الله نساني لأسن.
واعلم أنه قد ورد في الصحيح من حديث ابن مسعود: أن النبي صلى لله عليه وسلم قال: "إنه لو حدث في الصلاة شيء أنبأتكم به ولكن إنما أنا بشر أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني" 2.
وهذا يعترض ما ذكره القاضي من أنه صلى الله عليه وسلم أنكر نسبة النسيان إليه فإنه صلى الله عليه وسلم قد نسب النسيان إليه في حديث ابن مسعود مرتين وما ذكره القاضي عياض من أنه صلى الله عليه وسلم: "نهى أن يقال: نسيت كذا" الذي أعرفه فيه "بئسما لأحدكم أن يقول: نسيت آية" كذا وهذا نهي عن إضافة نسيت إلى الآية وليس يلزم من النهي عن إضافة النسيان إلى الآية: النهي عن إضافته إلى كل شيء فإن الآية من كلام الله تعالى المعظم يقبح بالمرء المسلم أن يضيف إلى نفسه نسيان كلام الله تعالى وليس هذا المعنى موجودا في كل ما يناسب إليه النسيان فلا يلزم مساواة غير الآية لها.
وعلى كل تقدير: لو لم يظهر مناسبة لم يلزم من النهي عن الخاص النهي عن العام وإذا لم يلزم ذلك لم يلزم أن يكون قول القائل نسيت - الذي أضافه إلى عدد الركعات - داخلا تحت النهي فينكر والله أعلم.
ولما تكلم بعض المتأخرين على هذا الوضع ذكر: أن التحقيق في الجواب عن ذلك: أن العصمة إنما تثبت في الإخبار عن الله في الأحكام وغيرها لأنه الذي قامت عليه المعجزة وأما إخباره عن الأمور الوجودية: فيجوز عليه النسيان هذا أو معناه.
وأما البحث المتعلق بأصول الفقه: فإن بعض من صنف في ذلك احتج به على جواز الترجيح بكثرة الرواة من حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم طلب إخبار القوم بعد إخبار ذي اليدين وفي هذا بحث.
وأما البحث المتعلق بالفقه: فمن وجوه.
أحدها: أن نية الخرج من الصلاة وقطعها إذا كانت بناء على ظن التمام لا يوجب بطلانها.
ـــــــ
1 البخاري "5032" ومسلم "790" من حديث ابن مسعود بألفاظ متقاربة.
2 البخاري "401" ومسلم "572".(1/179)
الثاني: أن السلام سهوا لا يبطل الصلاة.
الثالث: استدل به بعضهم على أن كلام الناسي لا يبطل الصلاة وأبو حنيفة يخالف فيه.
الرابع: الكلام العمد لإصلاح الصلاة لا يبطل وجمهور الفقهاء على أنه يبطل.
وروى ابن القاسم عن مالك: أن الإمام لو تكلم بما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم من الاستفسار والسؤال عند الشك وإجابة المأموم: أن صلاتهم تامة على مقتضى الحديث.
والذين منعوا من هذا اختلفوا في الاعتذار عن هذا الحديث والذي يذكر فيه وجوه.
منها: أنه منسوخ لجواز أن يكون في الزمن الذي كان يجوز فيه الكلام في الصلاة وهذا لا يصح لأن هذا الحديث رواه أبو هريرة وذكر أنه شاهد القصة وإسلامه عام خيبر وتحريم الكلام في الصلاة كان قبل ذلك بسنين - ولا ينسخ المتأخر بالمتقدم.
ومنها: التأويل لكلام الصحابة بأن المراد بجوابهم: جوابهم بالإشارة والإيماء لا بالنطق وفيه بعد لأنه خلاف الظاهر من حكاية الراوي لقولهم وإن كان قد ورد من حديث حماد بن زيد: "فأومؤا إليه"1 فيمكن الجمع بأن يكون بعضهم فعل ذلك إيماء وبعضهم كلاما أو اجتمع الأمران في حق بعضهم.
ومنها: أن كلامهم إجابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإجابته واجبة واعترض عليه بعض المالكية بأن قال: إن الإجابة لا تتعين بالقول فيكفي فيها الإيماء وعلى تقدير أ يجب القوم لا يلزم منه الحكم بصحة الصلاة لجواز أن تجب الإجابة ويلزمهم الاستئناف.
ومنها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم تكلم معتقدا لتمام الصلاة والصحابة تكلموا مجاوزين للنسخ فلم يكن كلام واحد منهم مبطلا وهذا يضعفه ما في كتاب مسلم: أن ذا اليدين قال: أقصرت الصلاة يا رسول الله أم نسيت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل ذلك لم يكن", فقال: قد كان بعض ذلك يا رسول الله فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس فقال: "أصدق ذو اليدين؟", فقالوا: نعم, يا رسول الله" بعد قوله صلى الله عليه وسلم: "كل ذلك لم يكن" وقوله صلى الله عليه وسلم: "كل ذلك لم يكن" يدل على عدم النسخ فقد تكلموا بعد العلم بعدم النسخ.
ولينتنبه ههنا لنكتة لطيفة في قول ذي اليدين: "قد كان بعض ذلك" بعد قوله صلى الله عليه وسلم: "كل ذلك لم يكن" فإنه قوله: "كل ذلك لم يكن" تضمن أمرين:
أحدهما: الإخبار عن حكم شرعي وهو عدم القصر.
والثاني: الإخبار عن أمر وجودي وهو النسيان وأحد هذين الأمرين لا يجوز فيه
ـــــــ
1 أبو داود "1008" من حديث أبي هريرة.(1/180)
النسخ وهو الإخبار عن الأمر الشرعي والآخر متحقق عند ذي اليدين فلزم أن يكون الواقع بعض ذلك كما ذكرنا.
الخامس: الأفعال التي ليست من جنس أفعال الصلاة إذا وقعت سهوا فإما أن تكون قليلة أو كثيرة فإن كانت قليلة: لم تبطل الصلاة وإن كانت كثيرة ففيها خلاف في مذهب الشافعي واستدل لعدم البطلان بهذا الحديث فإن الواقع فيه أفعال كثيرة ألا ترى إلى قوله: "خرج سرعان الناس" وفي بعض الروايات أنه صلى الله عليه وسلم: "خرج إلى منزله ومشى"1 قال في كتاب مسلم: "ثم أتى جذعا في قبلة المسجد فاستند إليه" ثم قد حصل البناء بعد ذلك فدل على عدم بطلان الصلاة بالأفعال الكثيرة سهوا.
السادس: فيه دليل جواز البناء على الصلاة بعد السلام سهوا والجمهور عليه.
وذهب سحنون - من المالكية - إلى أن ذلك إنما يكون إذا سلم من ركعتين على ما ورد في الحديث ولعله رأى أن البناء بعد قطع الصلاة ونية الخروج منه على خلاف القياس وإنما ورد النص على خلاف القياس في هذه الصورة المعينة وهو السلام من اثنتين فيقصر على ما ورد النص: "ويبقى فيما عداه على القياس".
والجواب عنه: أنه إذا كان الفرع مساويا للأصل ألحق به وإن خالف القياس عند بعض أهل الأصول: وقد علمنا أن المانع لصحة الصلاة إنما كان هو الخروج منها بالنية والسلام وهذا المعنى قد ألغي عند ظن التمام بالنص ولا فرق بالنسبة إلى هذا المعنى بين كونه بعد ركعتين أو كونه بعد ثلاثة أو بعد واحدة.
السابع: إذا قلنا بجواز البناء فقد خصصوه بالقرب في الزمن وأبى ذلك بعض المتقدمين فقال بجواز البناء وإن طال ما لم ينتقض وضوءه روي ذلك عن ربيعة: وقيل: إن نحوه عن مالك وليس ذلك بمشهور عنه واستدل لهذا المذهب بهذا الحديث ورأوا أن هذا الزمن طويل لا سيما على رواية من روى: "أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى منزله".
الثامن: إذا قلنا: إنه لا يبني إلا في القرب فقد اختلفوا في حده على أقوال منهم: من اعتبره بمقدار فعل النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث فما زاد عليه من الزمن فهو طويل وما كان بمقداره أو دونه فقريب ولم يذكروا على هذا القول الخروج إلى المنزل ومنهم من اعتبر في القرب العرف ومنهم من اعتبر مقدار ركعة ومنهم من اعتبر مقدار الصلاة وهذه الوجوه كلها في مذهب الشافعي وأصحابه.
التاسع: فيه دليل على مشروعية سجود السهو
ـــــــ
1 وهي رواية أبي داود "1018" من حديث عمران بن حصين.(1/181)
العاشر: فيه دليل على أنه سجدتان.
الحادي عشر: فيه دليل على أنه في آخر الصلاة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله إلا كذل وقيل: في حمته: إنه أخر لاحتمال وجود سهو آخر فيكون جابرا للكل وفرع الفقهاء على هذا: أنه لو سجد ثم تبين أنه لم يكن آخر الصلاة لزمه إعادته في آخرها وصوروا ذلك في صورتين:
إحداهما: أن يسجد للسهو في الجمعة ثم يخرج الوقت وهو في السجود الأخير فيلزمه إتمام الظهر ويعيد السجود.
والثانية: أن يكون مسافرا فيسجد للسهو وتصل به السفينة إلى الوطن أو ينوي الإقامة فيتم ويعيد السجود.
الثاني عشر: فيه دليل على أن سجود السهو يتداخل ولا يتعد بتعدد أسبابه فإن النبي صلى الله عليه وسلم: سلم وتكلم ومشى وهذه موجبات متعددة واكتفى فيها بسجدتين وهذا مذهب الجمهور من الفقهاء.
ومنهم من قال: يتعدد السجود بتعدد السهو على ما نقله بعضهم ومنهم من فرق بين أن يتحد الجنس أو يتعدد وهذا الحديث دليل على خلاف هذا المذهب فإنه قد تعدد الجنس في القول والفعل ولم يتعدد السجود.
الثالث عشر: الحديث يدل على السجود بعد السلام في هذا السهو واختلف الفقهاء في محل السجود فقيل: كله قبل السلام وهو مذهب الشافعي وقيل: كله بعد السلام وهو مذهب أبي حنيفة وقيل: ما كان من نقص فمحله قبل السلام وما كان من زيادة فمحله بعد السلام وهو مذهب مالك وأومأ إليه الشافعي في القديم.
وقد ثبت في الأحاديث السجود بعد السلام في الزيادة وقبله في النقص واختلف الفقهاء فذهب مالك إلى الجمع بأن استعمل كل حديث قبل السلام في النقص وبعده في الزيادة والذين قالوا: بأن الكل قبل السلام اعتذروا عن الأحاديث التي جاءت بعد السلام بوجوه.
أحدها: دعوى النسخ لوجهين:
أحدهما: أن الزهري قال إن آخر الأمرين من فعل النبي صلى الله عليه وسلم: السجود قبل السلام.
الثاني أن الذين رأوا السجود قبل السلام: متأخروا الإسلام وأصاغر الصحابة.
والاعتراض على الأول: أن رواية الزهري مرسلة ولو كانت مسندة فشرط النسخ: التعارض باتحاد المحل ولم يقع ذلك مصرحا به في رواية الزهري فيحتمل أن يكون الأخير: هو السجود قبل السلام لكن في محل النقص وإنما يقع التعارض المحوج إلى النسخ لو تبين أن المحل واحد ولم يتبين ذلك.
والاعتراض على الثاني: أن تقدم الإسلام والكبر لا يلزم منه تقدم الرواية حالة التحمل.(1/182)
الوجه الثاني في الاعتذار عن الأحاديث التي جاءت بالسجود بعد السلام: التأويل: إما على أن يكون المراد بالسلام: هو السلام الذي على النبي صلى الله عليه وسلم الذي في التشهد وإما أن يكون على تأخره بعد السلام على سبيل السهو وهما بعيدان.
أما الأول: فلأن السابق إلى الفهم عند إطلاق السلام في سياق ذكر الصلاة هو الذي به التحلل.
وأما الثاني: فلأن الأصل عدم السهو وتطرقه إلى الأفعال الشرعية من غير دليل غير سائغ وأيضا فإنه مقابل بعكسه وهو أن يقول الحنفي: محله بعد السلام وتقدمه قبل السلام على سبيل السهو.
الوجه الثالث في الاعتذار: الترجيح بكثرة الرواة وهذا - إن صح - فالاعتراض عليه: أن طريقة الجمع أولى من طريقة الترجيح فإنه يصار إليه عند عدم إمكان الجمع وأيضا فلا بد من النظر إلى محل التعارض واتحاد موضع الخلاف من الزيادة والنقصان.
والقائلون بأن محل السجود بعد السلام اعتذروا عن الأحاديث المخالفة لذلك بالتأويل: إما على أن يكون المراد بقوله قبل السلام السلام الثاني أو يكون المراد بقوله: "وسجد سجدتين" سجود الصلاة.
وما ذكره الأولون من احتمال السهو: عائد ههنا والكل ضعيف.
والأول: يبطله: أن سجود السهو لا يكون إلا بعد التسليمتين اتفاقا.
وذهب أحمد بن حنبل إلى الجمع بين الأحاديث بطريق أخرى غير ما ذهب إلي مالك وهو أن يستعمل كل حديث فيما ورد فيه وما لم يرد فيه حديث فمحل السجود فيه قبل السلام وكأن هذا نظر إلى أن الأصل في الجابر: أن يقع في المجبور فلا يخرج عن هذا الأصل إلا في مورد النص ويبقى فيما عداه على الأصل وهذا المذهب مع مذهب مالك متفقان في طلب الجمع وعدم سلوك طريق الترجيح لكنهما اختلفا في وجه الجمع ويترجح قول مالك بأن تذكر المناسبة في كون سجود السهو قبل السلام عند النقص وبعده عند الزيادة وإذا ظهرت المناسبة - وكان الحكم على وفقها - كانت علة وإذا كانت علة: عم الحكم فلا يتخصص ذلك بمورد النص.
الوجه الرابع عشر: إذا سها الإمام: تعلق حكم سهوه بالمأمومين وسجدوا معه وإن لم يسهوا واستدل عليه بهذا الحديث فإن النبي صلى الله عليه وسلم سها وسجد القوم معه لما سجد وهذا إنما يتم في حق من لم يتكلم من الصحابة ولم يمش ولم يسم إن كان ذلك.
الوجه الخامس عشر: فيه دليل على التكبير لسجود السهو كما في سجود الصلاة.(1/183)
الوجه السادس عشر: القائل فنبئت أن عمران بن الحصين قال: ثم سلم هو محمد بن سيرين الراوي عن أبي هريرة وكان الصواب للمصنف: أن يذكره فإنه لما لم يذكر إلا أبا هريرة اقتضى ذلك أن يكون هو القائل فنبئت وليس كذلك وهذا يدل على السلام من سجود السهو.
الوجه السابع عشر: لم يذكر التشهد بعد سجود السهو وفيه خلاف عند أصحاب مالك في السجود الذي بعد السلام وقد يستدل بتركه في الحديث على عدمه في الحكم كما فعلوا في مثله كثيرا من حيث إنه لو كان لذكر ظاهرا.
2 - عن عبد الله بن بحينة - وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم الظهر فقام في الركعتين الأوليين ولم يجلس فقام الناس معه حتى إذا قضى الصلاة وانتظر الناس تسليمه: كبر وهو جالس فسجد سجدتين قبل أن يسلم ثم سلم"1.
الكلام عليه من وجوه:
الأول: فيه دليل على السجود قبل السلام عند النقص فإنه نقص من هذه الصلاة: الجلوس الأوسط وتشهده.
الثاني: فيه دليل على أن هذا الجلوس غير واجب - أعني الأول - من حيث إنه جبر بالسجود ولا يجبر الواجب إلا بتداركه وفعله وكذلك فيه دليل على عدم وجوب التشهد الأول.
الثالث: فيه دليل على عدم تكرار السجود عند تكرار السهو لأنه قد ترك الجلوس الأول والتشهد معا واكتفى لهما بسجدتين هذا إذا ثبت أن ترك التشهد الأول بمفرده موجب.
الرابع: فيه دليل على متابعة الإمام عند القيام عن هذا الجلوس وهذا لا إشكال فيه على قول من يقول: إن الجلوس الأول سنة فإن ترك السنة للإتيان بالواجب ومتابعة الإمام واجبة.
الخامس: إن استدل به على أن ترك التشهد الأول بمفرده موجب لسجود السهو فيه ففيه نظر من حيث إن المتيقن السجود عند هذا القيام عن الجلوس وجاء من ضرورة ذلك: ترك التشهد فيه فلا يتيقن أن الحكم يترتب على ترك التشهد الأول فقط لاحتمال أن يكون مرتبا على ترك الجلوس وجاء هذا من الضرورة الوجودية.
ـــــــ
1 البخاري "1224" ومسلم "570" واللفظ للبخاري.(1/184)
12 - باب المرور بين يدي المصلي
1 - عن أبي جهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(1/184)
"لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه من الإثم لكان أن يقف أربعين خيرا له من أن يمر بين يديه" قال أبو النضر: لا أدري: قال أربعين يوما أو شهرا أو سنة؟
أبو جهيم عبد الله بن الحرث بن جهيم الأنصاي سماه ابن عيينة في روايته والثوري.
فيه دليل على منع المرور بين يدي المصلي إذا كان دون سترة أو كانت له سترة فمر بينه وبينها وقد صرح في الحديث بالإثم.
وبعض الفقهاء قسم ذلك على أربع صور.
الأول: أن يكون للمار مندوحة عن المرور بين يدي المصلي ولم يتعرض المصلي لذلك فيخص المار بالإثم إن مر.
الصورة الثانية: مقابلتها: وهو أن يكون المصلي تعرض للمرور والمار ليس له مندوحة عن المرور فيختص المصلي بالإثم دون المار.
الصورة الثالثة: أن يتعرض المصلي للمرور ويكون للمار مندوحة فيأثمان أما المصلي: فتعرضه وأما المار: فلمروره مع إمكان أن لا يفعل.
الصورة الرابعة: أن لا يتعرض المصلي ولا يكون للمار مندوحة فلا يأثم واحد منهما.
2 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان" 1.
أبو سعيد الخدري سعد بن مالك بن سنان خدري وقد تقدم الكلام فيه.
والحديث يتعرض لمنع المار بين يد المصلي وبين سترته وهو ظاهر.
وفيه دليل على جواز العمل القليل في الصلاة لمصلحتها.
ولفظة المقاتلة محمولة على قوة المنع من غير أن تنتهي إلى الأعمال المنافية للصلاة وأطلق بعض المصنفين من أصحاب الشافعي القول بالقتال وقال فليقاتله على لفظ الحديث ونقل القاضي عياض: الاتفاق على أنه لا يجوز المشي من مقامه إلى رده والعمل الكثير في مدافعته لأن ذلك في صلاته أشد من مروره عليه.
وقد يستدل بالحديث على أنه إذا لم يكن سترة لم يثبت هذا الحكم من حيث المفهوم وبعض المصنفين من أصحاب الشافعي نص على أنه إذا لم يستقبل شيئا أو تباعد عن السترة.
ـــــــ
1 البخاري "509" ومسلم "505" "259".(1/185)
فإن أراد أن يمر وراء موضع السجود: لم يكره وإن أراد أن يمر في موضوع السجود: كره ولكن ليس للمصلي أن يقاتله وعلل ذلك بتقصيره حيث لم يقرب من السترة أو ما هذا معناه.
ولو أخذ من قوله: "إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره" جواز التستر بالأشياء عموما: لكان فيه ضعف لأن مقتضى العموم جواز المقاتلة عند وجود كل شيء ساتر لا جواز الستر بكل شيء إلا أن يحمل الستر على الأمر الحسي لا الأمر الشرعي وبعض الفقهاء كره التستر بآدمي أو حيوان غيره لأنه يصير في صورة المصلي إليه وكرهه مالك في المرأة.
وفي الحديث دليل على جواز إطلاق لفظ الشيطان في مثل هذا والله أعلم.
3 - عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: "أقبلت راكبا على حمار أتان وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار مررت بين يدي بعض الصف فنزلت فأرسلت الأتان ترتع ودخلت في الصف فلم ينكر ذلك علي أحد"1.
قوله حمار أتان فيه استعمال لفظ الحمار في الذكر والأنثى كلفظ الشاة وكلفظ الإنسان وفي رواية مسلم على أتان ولم يذكر لفظ حمار.
وقوله ناهزت الاحتلام أي قاربته وهو يؤنس لقول من قال: إن ابن عباس ولد قبل الهجرة بثلاث سنين وقول من قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم مات وابن عباس ابن ثلاث عشرة سنة خلافا لمن قال غير ذلك مما لا يقارب البلوغ ولغل قوله قد ناهزت الاحتلام ههنا تأكيدا لهذا الحكم وهو عدم بطلان الصلاة بمرور الحمار لأنه استدل على ذلك بعدم الإنكار وعدم الإنكار على من هو في مثل هذا السن أدل على هذا الحكم لأنه لو كان في سن الصغر وعدم التمييز - مثلا - لاحتمل أن يكون عدم الإنكار عليه لعدم مؤاخذته بسبب صغر سنه وعدم تمييزه وقد استدل ابن عباس بعدم الإنكار عليه ولم يستدل بعدم استئنافهم للصلاة لأنه أكثر فائدة فإنه إذا دل عدم إنكارهم على أن هذا الفعل غير ممنوع من فاعله دل ذلك على عدم إفساد الصلاة إذ لو أفسدها لامتنع إفساد صلاة الناس على المار ولا ينعكس هذا وهو أن يقال: ولو لم يفسد لم يمتنع على المار لجواز أن لا تفسد الصلاة ويمتنع المرور كما تقول في مرور الرجل بين يدي المصلي حيث يكون له مندوحة: إنه ممتنع عليه المرور وإن لم يفسد الصلاة على المصلي فثبت بهذا أن عدم الإنكار دليل على الجواز والجواز دليل على عدم الإفساد وأنه لا ينعكس فكان الاستدلال بعدم الإنكار أكثر فائدة من الاستدلال بعدم استئنافهم الصلاة.
ويستدل بالحديث على أن مرور الحمار بين يدي المصلي لا يفسد الصلاة وقد قال في
ـــــــ
1 البخاري "493" ومسلم "504".(1/186)
الحديث: "بغير جدار" ولا يلزم من عدم الجدار عدم السترة فإن لم يكن ثمة سترة غير الجدار فالاستدلال ظاهر وإن كان: وقف الاستدلال على أحد أمرين: إما أن يكون هذا المرور وقع دون السترة - أعني بين السترة والإمام - وإما أن يكون الاستدلال وقع بالمرور بين يدي المأمومين أو بعضهم لكن قد قالوا: إن سترة الإمام سترة لمن خلفه فلا يتم الاستدلال إلا بتحقيق إحدى المقدمات التي منها: أن سترة الإمام ليست سترة لمن خلفه إن لم يكن مجمعا عليها.
وعلى الجملة: فالأكثر ون من الفقهاء على أنه لا تفسد الصلاة بمرور شيء بين يدي المصلي ووردت أحاديث معارضة لذلك.
فمنها: ما دل على انقطاع الصلاة بمرور الكلب والمرأة والحمار1.
منها: ما دل على انقطاعها بمرور الكلب الأسود والمرأة والحمار وهذان2 صحيحان.
ومنها ما دل على انقطاعها بمرور الكلب الأسود والمرأة والحمار واليهودي والنصراني والمجوسي والخنزير3 وهذا ضعيف فذهب أحمد بن حنبل إلى إن مرور الكلب الأسود يقطعها ولم نجد لذلك معارضا قال: وفي قلبي من المرأة والحمار شيء.
وإنما ذهب إلى هذا - والله أعلم - لأنه ترك الحديث الضعيف بمرة ونظر إلى الصحيح فحمل مطلق الكلب في بعض الروايات على تقييده بالأسود في بعضها ولم يجد لذلك معارضا فقال به ونظر إلى المرأة والحمار فوجد حديث عائشة - الآتي - يعارض أمر المرأة وحديث ابن عباس - هذا - يعارض أمر الحمار فتوقف في ذلك وهذه العبارة - التي حكيناها عنه - أجود مما دل عليه كلام الأثرم من جزم القول عن أحمد بأنه لا يقطع المرأة والحمار وإنما كان كذلك: لأن جزم القول به يتوقف على أمرين:
أحدهما: أن يتبين تأخر المقتضي لعدم الفساد على المقتضي للفساد وفي ذلك عسر عند المبالغة في التحقيق.
والثاني: أن يتبين أن مرور المرأة مساو لما حكته عائشة رضي الله عنها من الصلاة إليها وهي راقد وليست هذه المقدمة بالبينة عندنا لوجهين:
ـــــــ
1 وهو ما أخرجه مسلم "510" من حديث عبد الله بن الصامت.
2 وهو ما أخرجه مسلم "511" من حديث أبي هريرة.
قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم: وتأول جمهور العلماء من السلف والخلف هذا الحديث عل أن المراد بالقطع نقص الصلاة لشغل القلب بهذه الأشياء وليس المراد إبطالها.
3 وهو ما أخرجه أو داود "704" عن عكرمة عن ابن عباس قال: أحسبه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا صلى أحدكم إلى غير سترة فإنه يقطع صلاته الكلب والحمار والخنزير واليهودي والمجوسي والمرأة ويجزئ عنه إذا مروا بين يديه على قذفة بحجر".(1/187)
أحدهما: أنها رضي الله عنها ذكرت أن البيوت يومئذ ليس فيها مصابيح فلعل سبب هذا الحكم: عدم المشاهدة لها.
والثاني: أن قائلا لو قال: إن مرور المرأة ومشيها لا يساويه فيه التشويش على المصلي اعتراضها بين يديه فلا يساويه في الحكم: لم يكن ذلك بالممتنع وليس يبعد من تصرف الظاهرية مثل هذا.
وقوله: "فأرسلت الأتان ترتع" أي ترعى.
وفي الحديث دليل على أن عدم الإنكار حجة على الجواز وذلك مشروط بأن تنتفي الموانع من الإنكار ويعلم الاطلاع على الفعل وهذا ظاهر ولعل السبب في قول ابن عباس ولم ينكر علي أحد ولم يقل: ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم علي ذلك: أنه ذكر أن هذا الفعل كان بين يدي بعض الصف وليس يلزم من ذلك اطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك لجواز أن يكون الصف ممتدا فلا يطلع عليه لفقد شرط الاستدلال بعدم الإنكار على الجواز وهو الاطلاع مع عدم المانع أما عدم الإنكار ممن رأى هذا الفعل: فهو متيقن فترك المشكوك فيه وهو الاستدلال بعدم الإنكار من النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ المتيقن وهو الاستدلال بعدم إنكار الرائين للواقعة وإن كان يحتمل أن يقال: إن قوله ولم ينكر ذلك علي أحد يشمل النبي صلى الله عليه وسل وغيره لعموم لفظة أحد إلا أن فيه ضعفا لأنه لا معنى للاستدلال بعدم إنكار غير الرسول صلى الله عليه وسلم بحضرته وعدم إنكاره إلا على بعد.
4 - عن عائشة رضي الله عنها قال: "كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم - ورجلاي في قبلته - فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي فإذا قام بسطتهما والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح"1.
وحديث عائشة - هذا - استدل به على ما قدمناه من عدم إفساد مرور المرأة صلاة المصلي وقد مر ما فيه وما يعارضه.
وفيه دليل على جواز الصلاة إلى النائم وإن كان قد كرهه بعضهم وورد فيه حديث2.
وفيه دليل على أن اللمس - إما بغير لذة أو من وراء حائل - لا ينقض الطهارة أعني إنه يدل على أحد الحكمين ولا بأس بالاستدلال به على أن اللمس من غير لذة لا ينقض من حيث إنها ذكرت أن البيوت ليس فيها مصابيح وربما لا زال الساتر فيكون وضع اليد - مع عدم العلم بوجود الحائل - تعريضا للصلاة بالبطلان ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ليعرضها لذلك.
وفيه دليل على أن العمل اليسير لا يفسد الصلاة.
وقولها: "والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح" إما لتأكيد الاستدلال على حكم من الأحكام الشرعية كما أشرنا إليه وإما لإقامة العذر لنفسها حيث أحوجته إلى أن يغمز رجلها إذ لو
ـــــــ
1 البخاري "382" ومسلم "512" "272".
2 أبو داود "694" من حديث ابن عباس.(1/188)
كان ثمة مصابيح لعلمت بوقت سجوده بالرؤية فلم تكن لتحوجه إلى الغمز وقد قدمنا كراهية أن تكون المرأة سترة للمصلي عند مالك وكراهة أن تكون السترة آدميا أو حيوانا عند بعض مصنفي الشافعية مع تجويزه للصلاة إلى المضطجع والله أعلم.(1/189)
13 - باب جامع
1 - عن أبي قتادة بن ربعي الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين" 1.
الكلام عليه من وجوه:
أحدها: في حكم الركعتين عند دخول المسجد وجمهور العلماء على عدم الوجوب لهما.
ثم اختلفوا فظاهر مذهب مالك: أنهما من النوافل وقيل: إنهما من السنن وهذا على اصطلاح المالكية في الفرق بين النوافل والسنن والفضائل ونقل عن بعض الناس: أنهما واجبتان تمسكا بالنهي عن الجلوس قبل الركوع وعلى الرواية الأخرى - التي وردت بصيغة الأمر - يكون التمسك بصيغة الأمر ولا شك أن ظاهر الأمر: الوجوب وظاهر النهي التحريم ومن أزالهما عن الظاهر فهو محتاج إلى الدليل ولعلهم يفعلون في هذا ما فعلوا في مسألة الوتر حيث استدلوا على عدم الوجوب فيه بقوله صلى الله عليه وسلم: "خمس صلوات كتبهن الله على العباد" وقول السائل: هل علي غيرهن؟ قال: "لا, إلا أن تطوع" 2 فحملوا لذلك صيغة الأمر على الندب لدلالة هذا الحديث على عدم وجوب غير الخمس إلا أن هذا يشكل عليهم بإيجابهم الصلاة على الميت تمسكا بصيغة الأمر.
الوجه الثاني: إذا دخل المسجد في الأوقات المكروهة فهل يركع أم لا؟ اختلفوا فيه فمذهب مالك: أنه لا يركع والمعروف في مذهب الشافعي وأصحابه أنه يركع لأنها صلاة لها سبب ولا يكره في هذه الأوقات من النوافل إلا ما لا سبب له وحكى وجه آخر: أنه يكره.
وطريقة أخرى: أن محل الخلاف إذا قصد الدخول في هذه الأوقات لأجل أن يصلي فيها أما غير هذا الوجه: فلا وأما ما حكاه القاضي عياض عن الشافعي في جواز صلاتها بعد العصر ما لم تصفر الشمس وبعد الصبح ما لم يسفر3 إذا هي عنده من النوافل التي لها سبب وإنما يمنع في هذه الأوقات ما لا سبب له ويقصد ابتداء لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تحروا
ـــــــ
1 البخاري "1163" ومسلم "714".
2 البخاري "46" ومسلم "11" من حديث طلحة بن عبيد الله.
3 سفر الصبح يسفر: أضاء وأشرق القاموس المحيط "سفر".(1/189)
بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها" 1 انتهى كلامه هذا لا نعرفه من نقل أصحاب الشافعي على هذه الصورة واقرب الأشياء إليه: ما حكيناه من هذه الطريقة إلا أنه ليس هو إياه بعينه.
وهذا الخلف في هذه المسألة ينبني على مسألة أصولية مشكلة وهو ما إذا تعارض نصان كل واحد منهما بالنسبة إلى الآخر عام من وجه خاص من وجه ولست أعني بالنصين ههنا ما لا يحتمل التأويل وتحقيق ذلك أولا يتوقف على تصوير المسألة فنقول: مدلول أحد النصين: إن لم يتناول مدلول الآخر ولا شيئا منه فهما متباينان كلفظة المشركين والمؤمنين مثلا وإن كان مدلول أحدهما يتناول كل مدلول الآخر فهما متساويان كلفظة الإنسان والبشر مثلا وإن كان مدلول أحدهما يتناول كل مدلول الآخر ويتناول غيره فالمتناول له ولغيره عام من كل وجه بالنسبة إلى الآخر والآخر خاص من كل وجه وإن كان مدلولهما يجتمع في صورة وينفرد كل واحد منهما بصورة أو صور فكل واحد منهما عام من وجه خاص من وجه.
فإذا تقرر هذا فقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أحدكم المسجد" الخ مع قوله: "لا صلاح بعد الصبح" من هذا القبيل فإنهما يجتمعان في صورة وهو ما إذا دخل المسجد بعد الصبح أو العصر وينفردان أيضا بأن توجد الصلاة في هذا الوقت من غير دخول المسجد ودخول المسجد في غير ذلك الوقت فإذا وقع مثل هذا فالإشكال قائم لأن أحد الخصمين لو قال: لا تكره الصلاة عند دخول المسجد في هذه الأوقات لأن هذا الحديث دل على جوازها عند دخول المسجد - وهو خاص بالنسبة إلى الحديث الأول المانع من الصلاة بعد الصبح - فأخص قوله: "لا صلاة بعد الصبح" بقوله: "إذا دخل أحدكم المسجد" فلخصمه أن يقول قوله: "إذا دخل أحدكم المسجد" عام بالنسبة إلى الأوقات فأخصه بقوله "لا صلاة بعد الصبح" فإن هذا الوقت أخص من العموم.
فالحاصل أن قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أحدكم المسجد" خاص بالنسبة إلى هذه الصلاة أعني الصلاة عند دخول المسجد عام بالنسبة إلى هذه الأوقات وقوله: "لا صلاة بعد الصبح" خاص بالنسبة إلى هذا الوقت عام بالنسبة إلى الصلوات فوقع الإشكال من ههنا.
وذهب بعض المحققين في هذا إلى الوقف حتى يأتي ترجيح خارج بقرينة أو غيرها فمن ادعى أحد هذين الحكمين - أعني الجواز أو المنع - فعليه إبداء أمر زائد على مجرد الحديث.
الوجه الثالث: إذا دخل المسجد بعد أن صلى ركعتي الفجر في بيته فهل يركعهما في المسجد؟ اختلف قول مالك فيه وظاهر الحديث: يقتضي الركوع وقيل: إن الخلاف في هذا
ـــــــ
1 البخاري "582" ومسلم "828" من حديث ابن عمر.(1/190)
من جهة معارضة هذا الحديث للحديث الذي رووه من قوله عليه السلام: "لا صلاة بعد الفجر إلا ركعتي الفجر"1 وهذا أضعف من المسألة السابقة لأنه يحتاج في هذا إلى إثبات صحة هذا الحديث حتى يقع التعارض فإن الحديثين الأولين في المسألة الأولى صحيحان وبعد التجاوز عن هذه المطالبة وتقدير تسليم صحته يعود الأمر إلى ما ذكرناه من تعارض أمرين يصير كل واحد منهما عاما من وجه خاصا من وجه وقد ذكرناه.
الوجه الرابع: إذا دخل مجتازا فهل يؤمر بالركوع؟ خفف من ذلك مالك.
وعندي: أن دلالة هذا الحديث لا تتناول هذه المسألة فإنا إن نظرنا إلى صيغة النهي فالنهي يتناول جلوسا قبل الركوع فإذا لم يحصل الجلوس أصلا لم يفعل المنهي وإن نظرنا إلى صيغة الأمر فالأمر توجه بركوع قبل جلوس فإذا انتفيا معا لم يخالف الأمر.
الوجه الخامس: لفظة المسجد تتناول كل مسجد وقد أخرجوا عنه المسجد الحرام وجعلوا تحيته الطواف فإن كان في ذلك خلاف فلمخالفهم أن يستدل بهذا الحديث وإن لم يكن فالسبب في ذلك النظر إلى المعنى وهو أن المقصود: افتتاح الدخول في محل العبادة بعبادة وعبادة الطواف تحصل هذا المقصود مع أن غير هذا المسجد لا يشاركه فيها فاجتمع في ذلك تحصيل المقصود مع الاختصاص وأيضا فقد يؤخذ ذلك من فعل النبي صلى الله عليه وسلم في حجته حين دخل المسجد فابتدأ بالطواف على ما يقتضيه ظاهر الحديث واستمر عليه العمل وذلك أخص من هذا العموم وأيضا فإذا اتفق أن طاف ومشى على السنة في تعقيب الطواف بركعتيه وجرينا على ظاهر اللفظ في الحديث فقد وفينا بمقتضاه.
الوجه السادس: إذا صلى العيد في المسجد فهل يصلي التحية عند الدخول فيه؟ اختلف فيه والظاهر في لفظ هذا الحديث: أنه يصلي لكن جاء في الحديث: "أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل قبلها ولا بعدها"2 أعني صلاة العيد والنبي صلى الله عليه وسلم لم يصل العيد في المسجد ولا نقل ذلك فلا معارضة بين الحديثين إلا أن يقول قائل ويفهم فاهم: أن ترك الصلاة قبل العيد وبعدها من سنة صلاة العيد من حيث هي هي وليس لكونها واقعة في الصحراء أثر في ذلك الحكم فحينئذ يقع التعارض غير أن ذلك يتوقف على أمر زائد وقرائن تشعر بذلك فإن لم يوجد فالاتباع أولى استحبابا أعني في ترك الركوع في الصحراء وفعله في المسجد للمسجد لا للعيد.
ـــــــ
1 أبو داود "1278" والترمذي "419" من حديث ابن عمر النسائي "568" وابن ماجه "1249" من حديث أبي سعيد الخدري بألفاظ متقاربة.
2 مسلم "884" من حديث ابن عباس.(1/191)
الوجه السابع: من كثر تردده إلى المسجد وتكرر: فهل يتكرر له الركوع مأمورا به؟ قال بعضهم: لا وقاسه على الحطابين والفكاهين المترددين إلى مكة في سقوط الإحرام عنهم إذا تكرر ترددهم والحديث يقتضي تكرر الركوع بتكرر الدخول وقول القائل يتعلق بمسألة أصولية وهو تخصيص العموم بالقياس وللأصوليين في ذلك أقوال متعددة.
2 - عن زيد بن أرقم قال: "كنا نتكلم في الصلاة يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام"1.
الكلام عليه من وجوه:
الأول: هذا اللفظ أحد ما يستدل به الناسخ والمنسوخ وهو ذكر الراوي لتقدم أحد الحكمين على الآخر وهذا لا شك فيه وليس كقوله: هذا منسوخ من غير بيان التاريخ فإن ذلك قد ذكروا فيه: أنه لا يكون دليلا لاحتمال أن يكون الحكم بالنسخ عن طريق اجتهادي منه.
الثاني: القنوت يستعمل في معنى الطاعة وفي معنى الإقرار بالعبودية والخضوع والدعاء وطول القيام والسكوت وفي كلام بعضهم ما يفهم منه: أنه موضوع للمشترك.
قال القاضي عياض: وقيل: أصله الدوام على الشيء فإذا كان هذا أصله فمديم الطاعة قانت وكذلك الداعي والقائم في الصلاة والمخلص فيها والساكت فيها كلهم فاعلون للقنوت وهذا إشارة إلى ما ذكرناه من استعماله في معنى مشترك وهذه طريقة طائفة من المتأخرين من أهل العصر وما قاربه يقصدون بها دفع الاشتراك اللفظي والمجاز عن موضوع اللفظ ولا بأس بها إن لم يقم دليل على أن اللفظ حقيقة في معنى معين أو معاني ويستعمل حيث لا دليل يقوم دليل على ذلك.
الثالث: لفظ الراوي يشعر بأن المراد بالقنوت في الآية: السكوت لما دل عليه لفظ حتى التي للغاية والفاء التي تشعر بتعليل ما سبق عليها لما يأتي بعدها.
وقد قيل: إن القنوت في الآية الطاعة وفي كلام بعضهم: ما يشعر بحمله على الدعاء المعروف حتى جعل ذلك دليلا على أن الصلاة الوسطى هي الصبح من حيث قرانها بالقنوت والأرجح في هذا كله: حمله على ما أشعر به كلام الراوي: فإن المشاهدين للوحي والتنزيل يعلمون بسبب النزول والقرائن المحتلفة به: ما يرشدهم إلى تعيين المحتملات وبيان المجملات فهم في ذلك كله كالناقلين للفظ يدل على التعليل والتسبيب وقد قالوا: إن قول الصحابي في الآية نزلت في كذا يتنزل منزلة المسند.
ـــــــ
1 البخاري "4534" ومسلم "539".(1/192)
الرابع: قوله: "فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام" يقتضي أن كل ما يسمى كلاما فهو منهي عنه وما لا يسمى كلاما فدلالة الحديث قاصرة في النهي عنه.
وقد اختلف الفقهاء في أشياء: هل تبطل الصلاة أم لا؟ كالنفخ والتنحنح بغير علة وحاجة وكالبكاء والذي يقتضيه القياس: أن ما سمي كلاما فهو داخل تحت اللفظ وما لا يسمى كلاما والذي يقتضيه القياس: أن ما سمي كلاما فهو داخل تحت اللفظ وما لا يسمى كلاما فمن أراد إلحاقه به كان ذلك بطريق القياس فليراع شرطه في مساواة الفرع للأصل أو زيادته عليه واعتبر أصحاب الشافعي ظهور حرفين وإن لم يكونا مفهومين فإن أقل الكلام حرفان.
ولقائل أن يقول: ليس يلزم من كون الحرفين يتألف منهما الكلام: أن يكون كل حرفين كلاما وإذا لم يكن كلاما فالإبطال به لا يكون بالنص بل بالقياس على ما ذكرنا فليراع شرطه اللهم إلا أن يريد بالكلام كل مركب مفهما كان أو غير مفهم فحينئذ يندرج فيه تحت اللفظ إلا أن فيه بحثا.
والأقرب: أن ينظر إلى مواقع الإجماع والخلاف حيث لا يسمى الملفوظ به كلاما فما أجمل على إلحاقه بالكلام ألحقناه به وما لم يجمع عليه - مع كونه لا يسمى كلاما - فيقوي فيه عدم الإبطال ومن هذا استبعد القول بإلحاق النفخ بالكلام ومن ضعيف التعليل فيه: قول من علل البطلان به بأنه يشبه الكلام وهذا ركيك مع ثبوت السنة الصحيحة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم نفخ في صلاة الكسوف في سجوده"1 وهذا البحث كله: في الاستدلال بتحريم الكلام.
3 - عن عبد الله بن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم" 2.
الكلام عليه من وجوه:
أحدها: الإبراد أن تؤخر الصلاة عن أول الوقت مقدار ما يظهر للحيطان ظل ولا يحتاج إلى المشي في الشمس هذا ما ذكره بعض مصنفي الشافعية وعند المالكية: يؤخر الظهر إلى أن يصير الفيء أكثر من ذراع.
الثاني: اختلف الفقهاء في الإبراد بالظهر في شدة الحر: هل هو سنة أو رخصة وعبر بعضهم بأن قال: هل الأفضل التقديم أو الإبراد؟ وبنوا على ذلك: إن من صلى في بيته أو مشى في كن إلى المسجد: هل يسن له الإبراد؟ فإن قلنا: إنه رخصة لم يسن إذ لا مشقة عليه في
ـــــــ
1 أخرجه البخاري معلقا من حديث عبد الله بن عمرو في ترجمة باب ما يجوز من البصاق والنفخ في الصلاة من كتاب الجمعة إثر حديث "1212" وأخرجه أبو داود "1194".
2 البخاري "533" ومسلم "615".(1/193)
التعجيل وإن قلنا: إنه سنة أبرد والأقرب: انه سنة لورود الأمر به ما مع اقترن به من العلة وهو أن "شدة الحر من فيح جهنم", وذلك مناسب للتأخير والأحاديث الدالة على فضيلة التعجيل عامة أو مطلقة وهذا خاص ولا مبالاة - مع ذكرنا من صيغة الأمر ومناسبة العلة - بقول من قال: إن التعجيل أفضل لأنه أكثر مشقة فإن مراتب الثواب إنما يرجع فيها إلى النصوص وقد يترجح بعض العبادة الخفيفة على ما هو أشق منها بحسب المصالح المتعلقة بها.
الثالث: اختلف أصحاب الشافعي في الإبراد بالجمعة على وجهين وقد يؤخذ من الحديث الإبراد بها من وجهين:
أحدهما: لفظة الصلاة فإنها تطلق على الظهر والجمعة.
والثاني: التعليل فإنه مستمر فيها وقد وجه القول بأنه لا يبرد بها لأن التبكير سنة فيها وجواب هذا ما تقدم وبأنه قد يحصل التأذي بحر المسجد عند انتظار الإمام.
4 - عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من نسى صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14]"1.
ولمسلم: "من نسي صلاة أو نام عنها فكفارتها: أن يصليها إذا ذكرها" 2.
الكلام عليه من وجوه:
أحدها: أنه يجب قضاء الصلاة إذا فاتت بالنوم أو النسيان وهو منطوقه ولا خلاف فيه.
الثاني: اللفظ يقتضي توجه الأمر بقضائها عند ذكرها لأنه جعل الذكر ظرفا للمأمور به فيتعلق الأمر بالفعل فيه.
وقد قسم الأمر فيه عند بعض الفقهاء بين ما ترك عمدا فيجب القضاء فيه على الفور وقطع به بعض مصنفي الشافعية وبين ما ترك بنوم أو نسيان فيستحب قضاؤه على الفور ولا يجب واستدل على عدم وجوبه على الفور في هذه الحالة بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما استيقظ - بعد فوات الصلاة بالنوم - أخر قضاءها واقتادوا رواحلهم حتى خرجوا من الوادي وذلك دليل على جواز التأخير وهذا يتوقف على أن لا يكون ثم مانع من المبادرة.
وقد قيل: إن المانع أن الشمس كانت طالعة فأخر القضاء حتى ترتفع بناء على مذهب من يمنع القضاء في هذا الوقت ورد بذلك بأنها كانت صبح اليوم وأبو حنيفة يجيزها في هذا الوقت و بأنه جاء في الحديث: "فما أيقظهم إلا حر الشمس"3 وذلك يكون بالارتفاع.
ـــــــ
1 البخاري "597" ومسلم "684".
2 مسلم "684" "315" من حديث أنس بن مالك.
3 البخاري "344" ومسلم "682" من حديث عمران بن حصين.(1/194)
وقد يعتقد مانع آخر وهو ما دل عليه الحديث من أن الوادي به شيطان وأخر ذلك للخروج عنه ولا شك أن هذا علة للتأخير والخروج كما دل عليه الحديث ولكن هل يكون ذلك مانعا على تقدير أن يكون الواجب المبادرة؟ في هذا نظر ولا يمتنع أن يكون مانعا على تقدير جواز التأخير.
الثالث: قد يستدل به من يقول بأن من ذكر صلاة منسية - وهو في الصلاة - أن يقطعها إذا كانت واجبة الترتيب مع التي شرع فيها ولم يقل بذلك المالكية مطلقا بل لهم في ذلك تفصيل مذهبي بين الفذ1 والإمام والمأموم وبين أن يكون الذكر بعد ركعة أولا فلا يستمر الاستدلال به مطلقا وحيث يقال بالقطع فوجه الدليل منه: أنه يقتضي الأمر بالقضاء عند الذكر ومن ضرورة ذلك: قطع ما هو فيه ومن أراد إخراج شيء من ذلك فعليه أن يبين مانعا من إعمال اللفظ في الصورة التي يخرجها ولا يخلو هذا التصرف من نوع جدل والله أعلم.
الرابع: قوله عليه السلام: "لا كفارة لها إلا ذلك" يحتلم أن يراد به: نفي الكفارة المالية كما وقع في أمور أخر فإنه لا يكتفي فيها إلا بالإتيان بها ويحتمل أن يراد به: أنه لا بدل لقضائها كما تقع الأبدال في بعض الكفارات ويحتمل أن يراد به: أنه لا يكفي فيها مجرد التوبة والاستغفار ولا بد من الإتيان بها.
الخامس: وجوب القضاء على العامد بالترك من طريق الأولى فإنه إذا لم تقع المسامحة - مع قيام العذر بالنوم والنسيان - فلأن لا تقع مع عدم العذر أولى.
وحكى القاضي عياض عن بعض المشايخ: أن قضاء العامد مستفاد من قوله عليه السلام: "فليصلها إذا ذكرها" لأنه بغفلته عنها وعمده كالناسي ومتى ذكر تركه لها لزمه قضاؤها وهذا ضعيف لأن قوله عليه السلام: "فليصلها إذا ذكرها" كلام مبني على ما قبله وهو: "من نام عن صلاة أو نسيها" والضمير في قوله: "فليصلها إذا ذكرها" عائد إلى الصلاة المنسية أو التي يقع النوم عنها فكيف يحمل ذلك على ضد النوم والنسيان وهو الذكر واليقظة؟ نعم لو كان كلاما مبتدأ: مثل أن يقال: من ذكر صلاة فليصلها إذا ذكرها لكان ما قيل محتملا على تمحل مجاز.
أما قوله كالناسي إن أراد به: أنه مثله في الحكم فهو دعوى ولو صحت لكان ذلك مستفادا من اللفظ بل من القياس أو من مفهوم الخطاب الذي أشرنا إليه وكذلك ما ذكر في ذلك من الاستناد إلى قوله: "لا كفارة لها إذا ذلك" والكفارة إنما تكون من الذنب والنائم والناسي لا ذنب لهما وإنما الذنب للعامد - لا يصح أيضا لأن الكلام كله مسوق على قوله: "من نام عن
ـــــــ
1 الفذ:الفرد مختار الصحاح "ف ذ ذ".(1/195)
صلاة أو نسيها" والضمائر عائدة إليها فلا يجوز أن يخرج عن الإرادة ولا أن يحمل اللفظ ما لا يحتمله.
وتأويل لفظ الكفار هنا أقرب وأيسر من أن يقال: إن الكلام الدال على الشيء مدلول به على ضده فإن ذلك ممتنع وليس ظهور لفظ الكفارة في الإشعار بالذنب بالظهور القوي الذي يصادم به النص الجلي في أن المراد: الصلاة المنسية أو التي وقع النوم عنها وقد وردت كفارة القتل خطأ مع عدم الذنب وكفارة اليمين بالله مع استحباب الحنث في بعض المواضع وجواز اليمين ابتداء ولا ذنب.
5 - عن جابر بن عبد الله: "أن معاذ بن جبل: كان يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عشاء الآخرة ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة"1.
اختلف الفقهاء في جواز اختلاف نية الإمام والمأموم على مذاهب أوسعها: الجواز مطلقا فيجوز أن يقتدى المفترض بالمتنفل وعكسه والقاضي بالمؤدي وعكسه سواء اتفقت الصلاتان أم لا إلا أن تختلف الأفعال الظاهرة وهذا مذهب الشافعي.
الثاني: مقابله وهو أضيقها وهو أنه لا يجوز اختلاف النيات حتى لا يصلي المتنفل خلف المفترض.
والثالث: أوسطها: أنه يجوز اقتداء المتنفل بالمفترض لا عكسه وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك ومن نقل عن مذهب مالك مثل المذهب الثاني فليس بحيد فليعلم ذلك.
وحاصل ما يتعذر به عن هذا الحديث لمن منع ذلك من وجوه:
أحدها: أن الاحتجاج به من باب ترك الإنكار من النبي صلى الله عليه وسلم وشرطه: علمه بالواقعة وجاز أن لا يكون علم بها وأنه لو علم لأنكر.
وأجيبوا على ذلك بأنه يبعد - أو يمتنع - في العادة: أن لا يعلم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك من عادة معاذ واستدل بعضهم - أعني المانعين - برواية عمر بن يحيى المازني عن معاذ بن رفاعة الزرقي: "أن رجلا من بني سلمة يقال له: سليم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنا نظل في أعمالنا فنأتي حين نمسي فنصلي فيأتي معاذ بن جبل فينادي بالصلاة فنأتيه فيطول عليها, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا معاذ لا تكن أو لا تكونن - فتانا إما أن تصلي معي وإما أن تخفف على قومك" 2 قال: فقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ يدل على أنه عند رسول الله كان يفعل أحد
ـــــــ
1 البخاري "700" ومسلم "465".
2 أحمد في مسنده "20699".(1/196)
الأمرين إما الصلاة معه أو بقومه وأنه لم يكن يجمعهما لأنه قال: "إما أن تصلي معي" أي ولا تصل بقومك: "وإما أن تخفف بقومك" أي ولا تصل معي.
الوجه الثاني: في الاعتذار: أن النية أمر باطن لا يطلع عليه إلا بالإخبار من الناوي فجاز أن تكون نيته مع النبي صلى الله عليه وسلم الفرض وجاز أن تكون النفل ولم يرد عن معاذ ما يدل على أحدهما وإنما يعرف ذلك بإخباره.
وأجيب عن هذا بوجوه:
أحدها: أنه قد جاء في الحديث رواية ذكرها الدارقطني فيها: "فهي لهم فريضة وله تطوع"1.
الثاني: أنه لا يظن بمعاذ أنه يترك فضيلة فرضه خلف النبي صلى الله عليه وسلم ويأتي بها مع قومه.
الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة" 2 فكيف يظن بمعاذ - بعد سماع هذا - أن يصلي النافلة مع قيام المكتوبة؟.
واعترض بعض المالكية على الوجه الأول بوجهين:
أحدهما: لا يساوي أن يذكر لشدة ضعفه.
والثاني: أن هذا الكلام - أعني قوله: "فهي لهم فريضة وله تطوع" - ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم فيحتمل أن يكون من كلام الراوي بناء على ظن أو اجتهاد ولا يجزم به وذكر معنى هذا أيضا بعض الحنفية ممن له شرب في الحديث وقال ما حاصله: إن ابن عيينة روى هذا الحديث أيضا ولم يذكر هذه اللفظة والذي ذكرها هو ابن جريج فيحتمل أن تكون من قوله أو قول من روى عنه أو قول جابر.
وأما الجواب الثاني: ففيه نوع ترجيح ولعل خصومهم يقولون فيه: إن هذا إنما يكون عند اعتقاده الجواز لذلك فلم قلتم بأنه كان يعتقده؟.
وأما الجواب الثاني: فيمكن أن يقال فيه: إن المفهوم أن لا يصلي نافلة غير الصلاة التي تقام لأن المحذور: وقوع الخلاف على الأئمة وهذا المحذور منتف مع الاتفاق في الصلاة المقامة ويؤيد هذا: الاتفاق من الجمهور على جواز صلاة المتنفل خلف المفترض ولوتناوله النهي المستفاد من النفي: لما جاز جوازا مطلقا.
الوجه الثالث: من الاعتذار: ادعاء النسخ وذلك لوجهين:
ـــــــ
1 الدارقطني "1/274" من حديث جابر بن عبد الله.
2 مسلم "710" من حديث أبي هريرة.(1/197)
أحدهما: أنه يحتمل أن يكون ذلك حين كانت الفرائض تقام في اليوم مرتين حتى نهي عنه وهذا الوجه منقول المعنى عن الطحاوي وعليه اعتراض من وجهين أحدهما: طلب الدليل على كون ذلك كان واقعا - أعني صلاة الفريضة في اليوم مرتين - فلا بد من نقل فيه والثاني: أنه إثبات للنسخ بالاحتمال.
الوجه الثاني: مما يدل على النسخ ما أشار إليه بعضهم دون تقرير حسن له ووجه تقريره: أن إسلام معاذ متقدم وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم بعده سنتين من الهجرة صلاة الخوف غير مرة على وجه وقع فيه مخالفة ظاهرة بالأفعال المنافية للصلاة في غير حالة الخوف.
فيقال: لو جاز صلاة المفترض خلف المتنفل لأمكن إيقاع الصلاة مرتين على وجه لا يقع فيه المنافاة والمفسدات في غير هذه الحالة وحيث صليت على هذا الوجه مع إمكان دفع المفسدات - على تقدير جواز صلاة المفترض خلف المتنفل - دل على أنه لا يجوز ذلك وبعد ثبوت هذه الملازمة: يبقى النظر في التاريخ وقد أشير بتقدم إسلام معاذ إلى ذلك وفيه ما تقدمت الإشارة إليه.
الوجه الرابع: من الاعتذار عن الحديث: ما أشار إليه بعضهم من أن الضرورة دعت إلى ذلك لقلة القراء في ذلك الوقت ولم يكن لهم غنى عن معاذ ولم يكن لمعاذ غنى عن صلاته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا يحتمل أن يريد به قائله معنى النسخ فيكون كما تقدم ويحتمل أن يريد: أنه مما أبيح بحالة مخصوصة فيرتفع الحكم بزوالها ولا يكون نسخا وعلى كل حال: فهو ضعيف لعدم قيام الدليل على تعيين ما ذكره هذا القائل علة لهذا الفعل ولأن القدر المجزئ من القراءة في الصلاة ليس حفظته بقليل وما زاد على الحاجة من زيادة القراءة: فلا يصلح أن يكون سببا لارتكاب ممنوع شرعا كما يقوله هذا المانع.
فهذا مجامع ما حضر من كلام الفريقين مع تقرير لبعضه فيما يتعلق بهذا الحديث وما زاد على ذلك من الكلام على أحاديث آخر والنظر في الأقيسة: فليس من شرط هذا الكتاب.
6 - عن أنس بن مالك قال: "كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شدة الحر فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه"1.
الكلام عليه من وجوه:
أحدها: أنه يقتضي تقديم الظهر في أول الوقت مع الحر ويعارضه ما قدمناه في أمر الإبراد على ما قيل فمن قال: إن الإبراد رخصة فلا إشكال عليه لأن التقديم حينئذ يكون سنة والإبراد جائز ومن قال: إن الإبراد سنة فقد ردد بعضهم القول في أن يكون منسوخا أعني:
ـــــــ
1 البخاري "1208" ومسلم "620".(1/198)
التقديم في شدة الحر أو يكون على الرخصة ويحتمل عندي أن لا يكون ثمة تعارض لأنا إن جعلنا الإبراد إلى حيث يبقى ظل يمشى فيه إلى المسجد أو إلى ما زاد على الذراع فلا يبعد أن يبقى مع ذلك يحتاج معه إلى بسط الثوب فلا تعارض.
الثاني: فيه دليل على جواز استعمال الثياب وغيرها في الحيلولة بين المصلي وبين الأرض لاتقائه بذلك حر الأرض وبردها.
الثالث: فيه دليل على أن مباشرة ما باشر الأرض بالجبهة واليدين هو الأصل فإنه قد علق بسط الثوب بعدم الاستطاعة وذلك يفهم منه أن الأصل والمعتاد عدم بسطه.
الرابع: استدل به بعض من أجاز السجود على الثوب المتصل بالمصلي وهو يحتاج إلى أمرين: أحدهما: أن تكون لفظة ثوبه دالة على المتصل به إما من حيث اللفظ أو من أمر خارج عنه: "و نعني بالأمر الخارج: قلة الثياب عندهم ومما يدل عليه من جهة اللفظ قوله: "بسط ثوبه فصلى عليه" يدل على أن البسط معقب بالسجود لدلالة الفاء على ذلك ظاهرا".
والثاني: أن يدل دليل على تناوله لمحل النزاع إذ من منع السجود على الثوب المتصل به: يشترط في المنع أن يكون متحركا بحركة المصلي وهذا الأمر الثاني سهل الإثبات لأن طول ثيابهم إلى حيث لا تتحرك بالحركة البعيد.
7 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء" 1.
هذا النهي معلل بأمرين:
أحدهما: أن في ذلك تعري أعالي البدن ومخالفة الزينة المسنونة في الصلاة.
والثاني: أن الذي يفعل ذلك إما أن يشغل يده بإمساك الثوب أولا فإن لم يشغل خيف سقوط الثوب وانكشاف العورة وإن شغل كان فيه مفسدتان إحداهما: أنه يمنعه من الإقبال على صلاته والاشتغال بها الثانية: أنه إذا اشتغل يده في الركوع والسجود لا يؤمن من سقوط الثوب وانكشاف العورة.
ونقل عن بعض العلماء القول بظاهر هذا الحديث ومنع الصلاة في السراويل والإزار وحده لأنها صلاة في ثوب واحد ليس على عاتقه منه شيء وهذا مخصوص بغير حالة الضرورة والأشهر عند الفقهاء: خلاف هذا المذهب وجواز الصلاة بما يستر العورة وعارضوا
ـــــــ
1 البخاري "359" ومسلم "516".(1/199)
هذا بقوله صلى الله عليه وسلم لجابر في الثوب: "وإن كان ضيقا فاتزر به" 1 ويحمل هذا النهي على الكراهة والله أعلم.
8 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أكل ثوما أو بصلا فليعتزلنا أو ليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته", وأتي بقدر فيه خضروات من بقول فوجد لها ريحا فسأل؟ فأخبر بما فيها من البقول فقال: "قربوها إلى بعض أصحابي" فلما رآه كره أكلها قال: "كل فإني أناجي من لا تناجي" 2.
الكلام عليه من وجوه:
أحدها: هذا الحديث صريح في التخلف عن الجماعة في المساجد بسببب هذه الأمور.
واللازم عن ذلك أحد أمرين: إما أن يكون أكل هذه الأمور مباحا وصلاة الجماعة غير واجبة على الأعيان أو تكون الجماعة واجبة على الأعيان ويمتنع أكل هذه الأشياء إذا آذت إن حملنا النهي على القربان على التحريم وجمهور الأمة: على إباحة أكلها لقوله عليه السلام: "ليس لي تحريم ما أحل الله ولكني أكرهه" 3 ولأنه علل بشيء يختص به وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "فإني أناجي من لا تناجي" ويلزم من هذا: أن لا تكون الجماعة في المسجد واجبة على الأعيان.
وتقريره: أن يقال: أكل هذه الأمور جائز بما ذكرناه ومن لوازمه: ترك صلاة الجماعة في حق آكلها للحديث ولازم الجائز جائز فترك الجماعة في حق آكلها جائز وذلك ينافي الوجوب عليه.
ونقل عن أهل الظاهر - أبو بعضهم - تحريم أكل الثوم بناء على وجوب صلاة الجماعة على الأعيان وتقرير هذا أن يقال: صلاة الجماعة واجبة على الأعيان ولا تتم إلا بترك آكل الثوم لهذا الحديث وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب فترك أكل الثوم واجب.
الثاني: قوله: "مسجدنا" تعلق به بعضهم في أن هذا النهي مخصوص بمسجد الرسول وربما يتأكد ذلك بأنه كان مهبط الملك بالوحي والصحيح المشهور خلاف ذلك وأنه عام لما جاء في بعض الروايات مساجدنا4 ويكون مسجدنا للجنس أو لضرب المثال فإن هذا النهي معلل: إما بتأذي الآدميين أو بتأذي الملائكة الحاضرين وذلك يوجد في المساجد كلها.
ـــــــ
1 البخاري "361" ومسلم "3010".
2 البخاري "855" ومسلم "564" "73".
3 مسلم "565" من حديث أبي سعيد.
4 مسلم "561" "69" من حديث ابن عمر.(1/200)
الثالث: قوله: "وأتي بقدر فيه خضروات" قيل: إن لفظة القدر تصحيف وأن الصواب ببدر بالباء والبدر الطبق وقد ورد ذلك مفسرا في موضع آخر ومما استبعد به لفظة القدر أنها تشعر بالطبخ وقد ورد الإذن بأكلها مطبوخة وأما البدر الذي هو الطبق: فلا يشعر كونها فيه بالطبخ فجاز أن تكون نيئة فلا يعارض ذلك الإذن في أكلها مطبوخة بل ربما يدعى أن ظاهر كونها في الطبق: أن تكون نيئة فلا يعارض ذلك الإذن في أكلها مطبوخة بل ربما يدعى أن ظاهر كونها في الطبق: أن تكون نيئة.
الرابع: قوله: "قربوها إلى بعض أصحابي" يقتضي ما ذكرناه من إباحة أكلها وترجيح مذهب الجمهور.
الخامس: قد يستدل به على أن كل هذه الأمور من الأعذار المرخصة في ترك حضور الجماعة وقد يقال: إن هذا الكلام خرج مخرج الزجر عنها فلا يقتضي ذلك: أن يكون عذرا في ترك الجماعة إلا أن تدعو إلى أكلها ضرورة ويبعد هذا من وجه تقريبه إلى بعض أصحابه فإن ذلك ينافي الزجر وأما حديث جابر الأخير وهو:
9 - عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أكل الثوم والبصل والكراث فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإنسان" 1 وفي رواية: "بنو آدم".
ففيه زيادة "الكراث" وهو في معنى الأول إذ العلة تشمله.
وقد توسع القائسون في هذا حتى ذهب بعضهم إلى أن من به بخر2 أو جرح منه ريح يجري هذا المجرى كما أنهم توسعوا وأجروا حكم المجامع التي ليست بمساجد - كمصلي العيد ومجمع الولائم - مجرى المساجد لمشاركتها في تأذي الناس بها وقوله عليه السلام: "فإن الملائكة تتأذى" إشارة إلى التعليل بهذا وقوله في حديث آخر: "يؤذينا بريح الثوم" 3 يقتضي ظاهره: التعليل بتأذي بني آدم ولا تنافي بينهما والظاهر: أن كل واحد منهما على مستقلة.
ـــــــ
1 مسلم "564" "72".
2 البخر: نتن الفم مختارالصحاح "ب خ ر"
3 مسلم "563" "71" من حديث أبي هريرة.(1/201)
14 - باب التشهد.
1 - عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد - كفي بين كفيه - كما يعلمني السورة من القرآن: "التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله" 1.
ـــــــ
1 البخاري "6265" ومسلم "402" "59".(1/201)
2 - وفي لفظ: "إذا قعد أحدكم في الصلاة فليقل: التحيات لله - وذكره - وفيه: فإنكم إذا فعلتم ذلك فقد سلمتم على كل عبد صالح في السماء والأرض - وفيه - فليتخير من المسألة ما شاء" 1.
اختلف العلماء في حكم التشهد فقيل: إن الأخير واجب وهو مذهب الشافعي؟ وظاهر مذهب مالك: أنه سنة واستدل للوجوب بقوله فليقل والأمور للوجوب إلا أن مذهب الشافعي: أن مجموع ما توجه إليه ظاهر الأمر ليس بواجب بل الواجب بعضه وهو: "التحيات لله سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته" من غير إيجاب ما بين ذلك من المباركات والصلوات الطيبات وكذلك أيضا لا يوجب كل ما بعد السلام على النبي صلى الله عليه وسلم على اللفظ الذي توجه إليه الأمر بل الواجب بعضه واختلفوا فيه وعلل هذا الاقتصار على بعض ما في الحديث بأنه المتكرر في جميع الروايات وعليه إشكال لأن الزائد في بعض الروايات زيادة من عدل فيجب قبولها إذا توجه الأمر إليها.
واختلف الفقهاء في المختار من ألفاظ التشهد فإن الروايات اختلفت فيه فقال أبو حنيفة وأحمد: باختيار تشهد ابن مسعود هذا وقيل: إنه أصح ما روي في التشهد وقال الشافعي باختيار تشهد ابن عباس وهو في كتاب مسلم2 لم يذكره المصنف.
ورجح من اختار تشهد ابن مسعود - بعد كونه متفقا عليه في الصحيحين - بأن واو العطف تقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه فتكون كل جملة ثناء مستقلا وإذا أسقطت واو العطف كان ما عدا اللفظ الأول صفة له فيكون جملة واحدة في الثناء والأول أبلغ فكان أولى.
وزاد بعض الحنفية في تقرير هذا بأن قال: لو قال والله والرحمن والرحيم لكانت أيمانا متعددة تتعدد بها الكفارة ولو قال: والله الرحمن الرحيم لكانت يمينا واحدة فيها كفارة واحدة هذا أو معناه.
ورأيت بعض من رجح مذهب الشافعي في اختيار تشهد ابن عباس أجاب عن هذا بأن قال: واو العطف قد تسقط وأنشد في ذلك:
كيف أصبحت كيف أمسيت مما
والمراد بذلك كيف أصبحت وكيف أمسيت وهذا أولا إسقاط للواو العاطفة في عطف
ـــــــ
1 البخاري "6328" ومسلم "402" "55" من حديث ابن مسعود بألفاظ متقاربة.
2 مسلم "403" عن ابن عباس أنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن فكان يقول: "التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله".(1/202)
الجمل ومسألتنا في إسقاطها في عطف المفردات وهو أضعف من إسقاطها في عطف الجمل ولو كان غير ضعيف لم يمتنع الترجيح بوقوع التصريح بما يقتضي تعدد الثناء بخلاف ما لم يصرح به فيه.
وترجيح آخر لتشهد ابن مسعود: وهو أن السلام معرف في تشهد ابن مسعود منكر في تشهد ابن عباس والتعريف أعم.
واختار مالك تشهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه1 الذي علمه الناس على المنبر ورجحه وأصابه بشهرة هذا التعليم ووقوعه على رؤوس الصحابة من غير نكير فيكون كالإجماع.
ويترجح عليه تشهد ابن مسعود وابن عباس بأن رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم مصرح به ورفع تشهد عمر بطريق استدلالي.
وقد رجح اختيار الشافعي لتشهد ابن عباس: بأن اللفظ الذي وقع فيه مما يدل على العناية بتعلمه وتعليمه وهو قوله كان يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن وهذا ترجيح مشترك لأن هذا أيضا ورد في تشهد ابن مسعود كما ذكر المصنف.
ورجح اختيار الشافعي بأن فيه زيادة "المباركات" وبأنه أقرب إلى لفظ القرآن قال الله تعالى: {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور: 61].
و "التحيات" جمع التحية وهي الملك وقيل: السلام وقيل: العظمة وقيل: البقاء فإذا حمل على السلام فيكون التقدير: التحيات التي تعظم بها الملوك مثلا مستحقة لله تعالى وإذا حمل على البقاء فلا شك في اختصاص الله تعالى به وإذا حمل على الملك والعظمة فيكون معناه الملك الحقيقي التام لله والعظمة الكاملة لله لأن ما سوى ملكه وعظمته تعالى فهو ناقص.
و "الصلوات" يحتمل أن يراد بها الصلوات المعهودة ويكون التقدير إنها واجبة لله تعالى لا يجوز أن يقصد بها غيره أو يكون ذلك إخبارا عن إخلاصنا الصلوات له أي إن صلواتنا مخلصة له لا لغيره ويحتمل أن يراد بالصلوات الرحمة ويكون معنى قوله لله أي المتفضل بها والمعطي هو الله لأن الرحمة التامة لله تعالى لا لغيره وقرر بعض المتكلمين في هذا فصلا بأن قال ما معناه إن كل من رحم أحدا فرحمته له بسبب ما حصل له عليه من الرقة فهو برحمته دافع لألم الرقة عن نفسه بخلاف رحمة الله تعالى فإنها لمجرد إيصال النفع إلى العبد.
و أما "الطيبات" فقد فسرت بالأقوال الطيبات ولعل تفسيرها بما هو أعم أولى أعني:
ـــــــ
1 أخرجه مالك "1/89" عن عبد الرحمن بن عبد القارئ أنه سمع عمر بن الخطاب وهو على المنبر يعلم الناس التشهد يقول: قولوا: التحيات لله الزكيات لله الطيبات الصلوات لله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. وقال الزيلعي في نصب الراية "1/422" إسناده صحيح.(1/203)
الطيبات من الأفعال والأقوال والأوصاف وطيب الأوصاف: بكونها بصفة الكمال وخلوصها عن شوائب النقص.
وقوله: "السلام عليك أيها النبي" قيل: معناه التعوذ باسم الله الذي هو السلام كما تقول: الله معك أي متوليك وكفيل بك وقيل: معناه السلام والنجاة لكم كما في قوله تعالى: {فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة:91] وقيل الانقياد لك كما في قوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] وليس يخلو بعض هذا من ضعف لأنه لا يتعدى السلام ببعض هذه المعاني بكلمة على.
و قوله: "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين" لفظ عموم وقد دل عليه قوله عليه السلام: "فإنه إذا قال ذلك: أصابت كل عبد صالح في السماء والأرض" وقد كانوا يقولون: السلام على الله السلام على فلان حتى علموا هذه اللفظة من قبله عليه السلام.
وفي قوله عليه السلام: "فإنه إذا قال ذلك أصابت كل عبد صالح" دليل على أن للعموم صيغة وأن هذه الصيغة للعموم كما هو مذهب الفقهاء خلافا لمن توقف في ذلك من الأصوليين وهو مقطوع به من لسان العرب وتصرفات ألفاظ الكتاب والسنة عندنا ومن تتبع ذلك وجده واستدلالنا بهذا الحديث ذكر لفرد من أفراد لا يحصى الجمع لأمثالها لا للاقتصار عليه وإنما خص العباد الصالحون لأنه كلام ثناء وتعظيم.
وقوله عليه السلام: "ثم ليتخير من المسألة ما شاء" دليل على جواز كل سؤال يتعلق بالدنيا والآخرة إلا أن بعض الفقهاء من أصحاب الشافعي استثنى بعض صور من الدعاء تقبح كما لو قال: اللهم أعطني امرأة صفتها كذا وكذا وأخذ يذكر أوصاف أعضائها ويستدل بهذا الحديث على عدم كون الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ركنا في التشهد من حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم قد علم التشهد وأمر عقيبه أن يتخير من المسألة ما شاء ولم يعلم ذلك وموضع التعليم لا يؤخر وقت بيان الواجب عنه والله أعلم.
3 - عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: لقيني كعب بن عجرة فقال: ألا أهدي لك هدية؟ أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج علينا فقلنا: يا رسول الله قد علمنا الله كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟ فقال: "قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد" 1.
ـــــــ
1 البخاري "3370" ومسلم "406".(1/204)
الكلام عليه من وجوه:
الأول: كعب بن عجرة من بني سالم بن عوف وقيل: من بني الحارث من قضاعة شهد بيعة الرضوان ومات سنة اثنتين وخمسين بالمدينة فيما قيل روى له الجماعة كلهم.
الثاني: صيغة الأمر في قوله: "قولوا" ظاهرة في الوجوب وقد اتفقوا على وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فقيل: تجب في العمر مرة وهو الأكثر وقيل تجب في كل صلاة في التشهد الأخير وهو مذهب الشافعي وقيل إنه لم يقله أحد قبله وتابعه إسحاق وقيل: تجب كلما ذكر واختاره الطحاوي من الحنفية والحليمي من الشافعية وليس في هذا الحديث تنصيص على أن هذا الأمر مخصوص بالصلاة وقد كثر الاستدلال على وجوبها في الصلاة بين المتفقهة بأن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم واجبة بالإجماع ولا تجب في غير الصلاة بالإجماع فتعين أن تجب في الصلاة وهو ضعيف جدا لأن قوله لاتجب في غير الصلاة بالإجماع إن أراد به: لا تجب في غير الصلاة علينا فهو صحيح لكنه لا يلزم منه: أنه تجب في غير الصلاة عينا لجواز أن يكون الواجب مطلق الصلاة فلا يجب واحد من المعينين - أعني خارج الصلاة وداخل الصلاة - وإن أراد ما هو أعم من ذلك - وهو الوجوب المطلق - فممنوع.
الثالث: في وجوب الصلاة على الآل وجهان عند أصحاب الشافعي وقد يتمسك من قال بالوجوب بلفظ الأمر.
الرابع: اختلفوا في "الآل" فاختار الشافعي: أنهم بنو هاشم وبنو المطلب وقال غيره: أهل دينه عليه السلام قال الله تعالى: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46].
الخامس: اشتهر بين المتأخرين سؤال وهو: أن المشبه دون المشبه به فكيف يطلب صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم تشبه بالصلاة على إبراهيم؟.
والذي يقال فيه وجوه أحدها: أنه تشبيه لأصل الصلاة بأصل الصلاة لا القدر بالقدر وهذا كما اختاروا في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183] أن المراد: أصل الصيام لا عينه ووقته وليس هذا بالقوي.
الثاني: أن التشبيه وقع في الصلاة على الآل لا على النبي صلى الله عليه وسلم فكأن قوله: "اللهم صل على محمد" مقطوعا عن التشبيه وقوله: "وعلى آل محمد", متصل بقوله: "كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم" وفي هذا من السؤال: أن غير الأنبياء لا يمكن أن يساويهم فكيف يطلب وقوع ما لا يمكن وقوعه؟ وههنا يمكن أن يرد إلى أصل الصلاة ولا يرد عليه ما يرد على تقدير أن يكون المشبه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وآله.(1/205)
الثالث: أن المشبه: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وآله بالصلاة على إبراهيم وآله أي المجموع بالمجموع ومعظم الأنبياء عليهم السلام هم آل إبراهيم فإذا تقابلت الجملة بالجملة وتعذر أن يكون لآل الرسول عليه السلام مثل ما لآل إبراهيم - الذين هم الأنبياء - كان ما توفر من ذلك حاصلا للرسول صلى الله عليه وسلم فيكون زائدا على الحاصل لإبراهيم صلى الله عليه وسلم والذي يحصل من ذلك هو آثار الرحمة والرضوان فمن كانت في حقه أكثر كان أفضل.
الرابع: أن هذه الصلاة الأمر بها للتكرار بالنسبة إلى كل صلاة في حق كل مصل فإذا اقتضت في كل مصل حصول صلاة مساوية للصلاة على إبراهيم عليه السلام كان الحاصل للنبي صلى الله عليه وسلم بالنسبة إلى مجموع الصلاة أضعافا مضاعفة لا ينتهي إليها العد والإحصاء.
فإن قلت: التشبيه حاصل بالنسبة إلى أصل هذه الصلاة والفرد منها فالإشكال وارد.
قلت: متى يرد الإشكال: إذا كان الأمر للتكرار أو إذا لم يكن؟ الأول: ممنوع والثاني: مسلم ولكن هذا الأمر للتكرار بالاتفاق وإذا كان التكرار فالمطلوب من المجموع: حصول مقدار لا يحصى من الصلاة بالنسبة إلى المقدار الحاصل لإبراهيم عليه السلام.
الخامس: لا يلزم من مجرد السؤال لصلاة مساوية للصلاة على إبراهيم عليه السلام المساواة أو عدم الرجحان عند السؤال وإنما يلزم ذلك لو لم يكن الثابت للرسول صلى الله عليه وسلم صلاة مساوية لصلاة إبراهيم أو زائدة عليها أما إذا كان كذلك فالمسؤول من الصلاة إذا انضم إلى الثابت المتكرر للرسول صلى الله عليه وسلم كان المجموع زائدا في المقدار على القدر المسؤول وصار هذا في المثال كما إذا ملك إنسان أربعة آلاف درهم وملك آخر ألفين فسألنا أن نعطي صاحب الأربعة آلاف مثل ما لذلك الآخر وهو الألفان فإذا حصل ذلك انضمت الألفان إلى أربعة آلاف فالمجموع ستة آلاف وهي زائدة على المسؤول الذي هو ألفان.
السادس من الكلام على الحديث: قوله إنك حميد مجيد بمعنى محمود ورد بصيغة المبالغة أي مستحق لأنواع المحامد ومجيد مبالغة من ماجد والمجد الشرف فيكون ذلك كالتعليل لاستحقاق الحمد بجميع المحامد ويحتمل أن يكون حميد مبالغة من حامد ويكون ذلك كالتعليل للصلاة المطلوبة فإن الحمد والشكر متقاربان فحميد قريب من معنى شكور وذلك مناسب لزيادة الأفضال والإعطاء لما يراد من الأمور العظام وكذلك والمجد والشرف مناسبته لهذا المعنى ظاهرة.
والبركة الزيادة والنماء من الخير والله أعلم.
4 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو: "اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر وعذاب النار ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال" 1.
ـــــــ
1 البخاري "1377" ومسلم "588" "131".(1/206)
وفي لفظ لمسلم: "إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم" - ثم ذكر نحوه1.
في الحديث إثبات عذاب القبر وهو متكرر مستفيض في الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والإيمان به واجب.
و "فتنة المحيا" ما يتعرض له الإنسان مدة حياته من الافتتان بالدنيا والشهوات والجهالات وأشدها وأعظمها والعياذ بالله تعالى أمر الخاتمة عند الموت.
و "فتنة الممات" يجوز أن يراد بها الفتنة عند الموت أضيفت إلى الموت لقربها منه وتكون فتنة المحيا - على هذا - ما يقع قبل ذلك في مدة حياة الإنسان وتصرفه في الدنيا فإن ما قارب شيئا يعطى حكمه فحالة الموت تشبه بالموت ولا تعد من الدنيا ويجوز أن يكون المراد بفتنة الممات: فتنة القبر كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في فتنة القبر: "كمثل - أو أعظم - من فتنة الدجال" 2 ولا يكون على هذا متكررا مع قوله من عذاب القبر لأن العذاب مرتب على الفتنة: والسبب غير المسبب ولا يقال: إن المقصود زوال عذاب القبر لأن الفتنة نفسها أمر عظيم وهو شديد يستعاذ بالله من شره.
والحديث الذي ذكره عن مسلم فيه زيادة كون الدعوات مأمورا بها بعد التشهد وقد ظهرت العناية بالدعاء بهذه الأمور حيث أمرنا بها في كل صلاة وهي حقيقة بذلك لعظم الأمر فيها وشدة البلاء في وقوعها ولأن أكثرها - أو كلها - أمور إيمانية غيبية فتكررها على الأنفس يجعلها ملكة لها.
وفي لفظ مسلم أيضا فائدة أخرى وهي: تعليم الاستعاذة وصيغتها فإنه قد كان يمكن التعبير عنها بغير هذا اللفظ ولو عبر بغيره لحصل المقصود وامتثل الأمر ولكن الأولى قول ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم وقد ذهب الظاهرية إلى وجوب هذا الدعاء في هذا المحل.
وليعلم أن قوله عليه السلام: "إذا تشهد أحدكم فليستعذ" عام في التشهد الأول والأخير معا وقد اشتهر بين الفقهاء استحباب التخفيف في التشهد الأول وعدم استحباب الدعاء بعده حتى تسامح بعضهم في الصلاة على الآل فيه: "ومن يكون إذا ورد تخصيصه بالأخير متمسكا لهم من باب حمل المطلق على المقيد أو من باب حمل العام على الخاص وفيه بحث أشرنا إليه فيما تقدم" والعموم الذي ذكرنا يقتضي الطلب بهذا الدعاء فمن خصه فلا بد له من دليل راجح وإن كان نصا فلا بد من صحته والله أعلم.
ـــــــ
1 في صحيحه "588" "128".
2 البخاري "86" من حديث عائشة.(1/207)
5 - عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم: أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: علمني دعاء أدعو به في صلاتي قال: "قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم"1 .
هذا الحديث يقضي الأمر بهذا الدعاء في الصلاة من غير تعيين لمحله ولو فعل فيها - حيث لا يكره الدعاء في أي الأماكن كان - لجاز ولعل الأولى: أن يكون في أحد موطنين: إما السجود وإما بعد التشهد فإنهما الموضعان اللذان أمرنا فيهما بالدعاء قال عليه الصلاة والسلام: "وأما السجود: فاجتهدوا فيه في الدعاء" 2 وقال في التشهد: "وليتخير بعد ذلك من المسألة ما شاء" 3 ولعله يترجح كونه فيما بعد التشهد: لظهور العناية بتعليم دعاء مخصوص في هذا المحل.
وقوله: "إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا" دليل على أن الإنسان لا يعرى من ذنب وتقصير كما قال عليه الصلاة والسلام: "استقيموا ولن تحصوا" 4 وفي الحديث: "كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون" وربما أخذوا ذلك من حيث الأمر بهذا القول مطلقا من غير تقييد وتخصيص بحالة فلو كان ثمة حالة لا يكون فيها ظلم ولا تقصير لما كان هذا الإخبار مطابقا للواقع فلا يؤمر به.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "ولا يغفر الذنوب إلا أنت" إقرار بوحدانية الباري تعالى واستجلاب لمغفرته بهذا الإقرار كما قال تعالى: "علم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب"5 وقد وقع في هذا الحديث امتثال لما أثنى الله تعالى عليه في قوله: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 135].
وقوله صلى الله عليه وسلم: "ولا يغفر الذنوب إلا أنت" كقوله تعالى: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 135].
وقوله: "فاغفر لي مغفرة من عندك" فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون إشارة إلى التوحيد المذكورة كأنه قال: لا يفعل هذا إلا أنت فافعله أنت.
ـــــــ
1 البخاري "734" ومسلم "2705".
2 مسلم "479" من حديث ابن عباس.
3 تقدم تخريجه.
4 أحمد في مسنده "22378" من حديث ثوبان وقال محققوه حديث صحيح.
5 جزء من حديث قدسي أخرجه البخاري "7507" ومسلم "2758" من حديث أبي هريرة.(1/208)
والثاني: - وهو الأحسن -: أن يكون إشارة إلى طلب المغفرة متفضل بها من عند الله تعالى ولا يقتضيها سبب من العبد من عمل حسن ولا غيره فهي رحمة من عنده بهذا التفسير ليس للعبد فيها سبب وهذا تبرؤ من الأسباب والإدلال بالأعمال والاعتقاد في كونها موجبة للثواب وجوبا عقليا والمغفرة الستر في لسان العرب والرحمة من الله تعالى - عند المنزهين من الأصوليين عن التشبيه - أما نفس الأفعال التي يوصلها الله تعالى من الإنعام والإفضال إلى العبد وأما إرادة إيصال تلك الأفعال إلى العبد فعلى الأول: هي من صفات الفعل وعلى الثاني هي من صفات الذات.
وقوله: "إنك أنت الغفور الرحيم" صفتان ذكرتا ختما للكلام على جهة المقابلة لما قبله فالغفور مقابل لقوله: "فاغفر لي" والرحيم مقابل لقوله: "ارحمني" وقد وقعت المقابلة ههنا للأول بالأول والثاني بالثاني وقد يقع على خلاف ذلك بأن يراعي القرب فيجعل الأول للأخير وذلك على حسب اختلاف المقاصد وطلب التفنن في الكلام ومما يحتاج إليه في علم التفسير: مناسبة مقاطع الآي لما قبلها والله أعلم.
6 - عن عائشة رضي الله عنها قال: "ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - بعد أن نزلت عليه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] - إلا ويقول فيها: "سبحانك ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي" 1.
وفي لفظ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي" 2.
حديث عائشة فيه مبادرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى امتثال ما أمره الله تعالى به وملازمته لذلك.
وقوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [النصر: 3] فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون المراد أن يسبح بنفس الحمد لما يتضمنه الحمد من معنى التسبيح الذي هو التنزيه لاقتضاء الحمد نسبة الأفعال المحمود عليها إلى الله تعالى وحده وفي ذلك نفي الشركة.
الوجه الثاني: أن يكون المراد: فسبح متلبسا بالحمد فتكون الباء دالة على الحال وهذا يترجح لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد سبح وحمد بقوله "سبحانك وبحمدك" وعلى مقتضى الوجه الأول: يكتفي بالحمد فقط وكأن تسبيح الرسول على هذا الوجه دليلا على ترجيح المعنى الثاني.
وقوله: "وبحمدك" قيل معناه: وبحمدك سبحت وهذا يحتمل أن يكون فيه حذف أي بسبب حمد الله سبحت ويكون المراد بالسبب ههنا: التوفيق والإعانة على التسبيح واعتقاد
ـــــــ
1 البخاري "4967" ومسلم "484" "219".
2 البخاري "817" ومسلم "484" من حديث عائشة.(1/209)
معناه وهذا كما روى عن عائشة في الصحيح: "بحمد الله لا بحمدك"1 أي وقع هذا بسبب حمد الله أي بفضله وإحسانه وعطائه فإن الفضل والإحسان سبب للحمد فيعبر عنهما بالحمد.
وقوله: "اللهم اغفر لي" امتثال لقوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر: 3] بعد امتثال قوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [النصر: 3] وأما اللفظ الآخر: فإنه يقتضي الدعاء في الركوع وإباحته ولا يعارضه قوله عليه السلام: "أما الركوع: فعظموا فيه الرب وأما السجود: فاجتهدوا فيه بالدعاء" 2 فإنه من هذا الحديث الجواز ومن ذلك الأولوية بتخصيص الركوع بالتعظيم ويحتمل أن يكون السجود قد أمر فيه بتكثير الدعاء لإشارة قوله: "فاجتهدوا" واحتمالها للكثرة والذي وقع في الركوع من قوله: "اغفر لي" ليس كثيرا فليس فيه معارضة ما أمر به في السجود.
وفي حديث عائشة الأول سؤال وهو أن لفظة إذا تقتضي الاستقبال وعدم حصول الشرط حينئذ وقول عائشة: "ما صلى بعد أن نزلت عليه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} [النصر:1]" يقتضي تعجيل هذا القول لقرب الصلاة الأولى التي هي عقيب نزول الآية من النزول والفتح أي فتح مكة ودخول الناس في دين الله أفواجا يحتاج إلى مدة أوسع من الوقت الذي بعد نزول الآية والصلاة الأولى بعده.
وقول عائشة في بعض الروايات يتأول القرآن3 قد يشعر بأنه يفعل ما أمر به فيه فإن كان الفتح ودخول الناس في دين الله أفواجا حاصلا عند نزول الآية فكيف يقال فيها إذا جاء وإن لم يكن حاصلا فكيف يكون القول امتثالا للأمر الوارد بذلك ولم يوجد شرط الأمر به؟.
وجوابه: أن نختار أنه لم يكن حاصلا على مقتضى اللفظ ويكون صلى الله عليه وسلم قد بادر إلى فعل المأمور به قبل وقوع الزمن الذي تعلق به الأمر فيه إذ ذلك عبادة بادر إلى فعل المأمور به قبل وقوع الزمن الذي تعلق به الأمر فيه إذ ذلك عبادة وطاعة لا تختص بوقت معين فإذا وقع الشرط كان الواقع من هذا القول - بعد وقوعه - واقعا على حسب الامتثال وقبل وقوع الشرط واقعا على حسب التبرع وليس في قول عائشة يتأول القرآن ما يقتضي - ولا بد - أن يكون جميع قوله صلى الله عليه وسلم على جهة الامتثال للمأمور حتى يكون دالا على وقوع الشرط بل مقتضاه: أن يفعل تأويل القرآن وما دل عليه لفظ فقط وجاز أن يكون بعض هذا القول فعلا لطاعة مبتدأة وبعضه امتثالا للأمر والله أعلم.
ـــــــ
1 البخاري "3388" وهو جزء من حديث الإفك.
2 مسلم "738" عن ابن عباس.
3 البخاري "817" ومسلم "484" "217".(1/210)
14 - باب الوتر.
الحديث 125: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر ما ترى في صلاة الليل؟ قال: "مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح صلى واحدة فأوترت له ما صلى وإنه كان يقول: اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا" 1.
الكلام على هذا الحديث من وجوه:
أحدها: قوله صلى الله عليه وسلم: "صلاة الليل مثنى مثنى" وأخذ به مالك رحمه الله في أنه لا يزاد في صلاة التنفل على ركعتين وهو ظاهر في اللفظ في صلاة الليل وقد ورد حديث آخر: "صلاة الليل والنهار مثنى مثنى" 2 وإنما قلنا: إنه ظاهر اللفظ لأن المبتدأ محصور في الخبر فيقتضي ذلك حصر صلاة الليل فيما هو مثنى وذلك هو المقصود إذ هو ينافي الزيادة فلو جازت الزيادة لما انحصرت صلاة الليل في المثنى.
وهذا يعارضه ظاهر حديث عائشة الآتي وقد أخذ به الشافعي وأجاز الزيادة على ركعتين من غير حصر في العدد وذكر بعض مصنفي أصحابه شرطين في ذلك وحاصل قوله: أنه متى تنفل بأزيد من ركعتين شفعا أو وترا فلا يزيد على تشهدين ثم إن كان المتنفل به شفعا فلا يزيد بين التشهدين على ركعتين وإن كان وترا فلا يزيد بين التشهدين على ركعة.
فعلى هذا إذا تنفل بعشر جلس بعد الثامنة ولا يجلس بعد السابعة ولا بعد ما قبلها من الركعات لأنه حينئذ يكون قد زاد على ركعتين بين التشهدين فإذا تنفل بخمس مثلا جلس بعد الرابعة وبعد الخامسة إن شاء أو بسبع فبعد السادسة والسابعة وإن اقتصر على جلوس واحد في كل ذلك جاز.
وإنما ألجأه إلى ذلك: تشبيه النوافل بالفرائض والفريضة الوتر هي صلاة المغرب وليس بين التشهدين فيها أكثر من ركعة ولم يتفق أصحاب الشافعي على هذا الذي ذكره.
الوجه الثاني من الكلام على الحديث: أنه كان يقتضي ظاهره عدم الزيادة على ركعتين فكذلك يقتضي عدم النقصان منهما وقد اختلفوا في التنفل بركعة فردة والمذكور في مذهب الشافعي: جوازه وعن أبي حنيفة: منعه والاستدلال به لهذا القول كما تقدم وهو أولى من استدلال من استدل على ذلك بأنه لو كانت الركعة الفردة صلاة لما امتنع قصر صلاة الصبح والمغرب فإن ذلك ضعيف جدا.
ـــــــ
1 البخاري "472" ومسلم "749".
2 أبو داود "1295" والترمذي "597" والنسائي "3/227" وابن ماجه "1322" من حديث ابن عمر قال الحافظ ابن حجر في الفتح "2/479" أكثر أئمة الحديث أعلوا هذه الزيادة وهي قوله: "والنهار".(1/211)
الوجه الثالث: يقتضي الحديث تقديم الشفع على الوتر من قوله: "صلاة الليل مثنى مثنى" وقوله: "توتر له ما صلى" فلو أوتر بعد صلاة العشاء من غير شفع لم يكن آتيا بالسنة وظاهر مذهب مالك أنه لا يوتر بركعة فردة هكذا من غير حاجة.
الوجه الرابع: يفهم منه انتهاء وقت الوتر بطلوع الفجر من قوله: "فإذا خشي أحدكم الصبح" وفي مذهب الشافعي وجهان أحدهما: أنه ينتهي بطلوع الفجر والثاني: ينتهي بصلاة الصبح.
الوجه الخامس: قد يستدل بصيغة الأمر من يرى وجوب الوتر فإن كان يرى بوجوب كونه آخر صلاة الليل فاستدلال قريب ولا أعلم أحدا قال ذلك وإن كان لا يرى بذلك فيحتاج أن يحمل الصيغة على الندب ولا يستقيم الاستدلال بها على وجوب أصل الوتر عند من يمنع من استعمال اللفظ الواحد في الحقيقة والمجاز وإلا كان جمعا بين الحقيقة والمجاز في لفظة واحدة وهي صيغة الأمر.
الوجه السادس: يقتضي الحديث أن يكون الوتر آخر صلاة الليل فلو أوتر ثم أراد التنفل فهل يشفع وتره بركعة أخرى ثم يصلي؟ فيه وجهان للشافعية وإن لم يشفعه بركعة ثم تنفل فهل يعيد الوتر أخيرا؟ فيه قولان للمالكية فيمكن كل واحد من الفريقين أن يستدل بالحديث بعد تقديم مقدمة لكل منهما يحتاج إلى إثباتها.
أما من قال إنه يشفع وتره فيقول: الحديث يقتضي أن يكون آخر صلاة الليل وترا وذلك يتوقف على أن لا يكون قبله وتر لما جاء في الحديث: "لا وتران في الليلة" 1 فلزم عن ذلك: أن يشفع الوتر الأول فإنه أن لم يشفعه وأعاد الوتر لزم وتران في ليلة وإن لم يعد الوتر لم يكن آخر صلاة الليل وترا.
وأما من قال: لا يشفع ولا يعيد الوتر فلأنه منع أن ينعطف حكم صلاة على أخرى بعد السلام والحديث وطول الفصل إن وقع ذلك فإذا لم يجتمعا فالحقيقة أنهما وتران ولا وتران في ليلة فامتنع الشفع وامتنع إعادة الوتر أخيرا ولم يبق إلا مخالفة ظاهر قوله عليه السلام: "اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا" ولا يحتاج إلى الاعتذار وهو محمول على الاستحباب كما أن الأمر بأصل الوتر كذلك وترك المستحب أولى من ارتكاب المكروه.
وأما من قال بالإعادة: فهو أيضا مانع من شفع الوتر للأول محافظة على قوله عليه السلام: "اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا" ويحتاج إلى الاعتذار عن قوله: "ولا وتران في ليلة".
ـــــــ
1 أبو داود "1439" والترمذي "470" والنسائي "3/229 – 330" من حديث طلق بن علي قال الترمذي هذا حديث حسن غريب.(1/212)
واعلم أنه ربما يحتاج في هذه المسألة إلى مقدمة أخرى وهو أن التنفل بركعة فردة: هل يشرع؟ فعليك بتأمله.
2 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: "من كل الليل أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أول الليل وأوسطه وآخره وانتهى وتره إلى السحر"1.
اختلفوا في أن الأفضل تقديم الوتر في أول الليل أو تأخيره إلى آخره؟ على وجهين لأصحاب الشافعي مع الاتفاق على جواز ذلك.
وحديث عائشة يدل على الجواز في الأول والوسط والآخر ولعل ذلك كان بحسب اختلاف الحالات وطرو الحاجات وقيل: بالفرق بين من يرجو أن يقوم في آخر الليل وبين من يخاف أن لا يقوم والأول تأخيره أفضل والثاني: تقديمه أفضل.
ولا شك أنا إذا نظرنا إلى آخر الليل من حيث هو كذلك كانت الصلاة فيه أفضل من أوله لكن إذا عارض ذلك احتمال تفويت الأصل قدمناه على فوات الفضيلة وهذه قاعدة قد وقع فيها خلاف ومن جملة صورها: ما إذا كان عادم الماء يرجو وجوده في آخر الوقت فهل يقدم التيمم في أول الوقت إحرازا للفضيلة المحققة أم يؤخره إحرازا للوضوء؟ فيه خلاف: والمختار في مذهب الشافعي أن التقديم أفضل فعليك بالنظر في التنظير بين المسألتين والموازنة بين الصورتين.
3 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة يوتر من ذلك بخمس لا يجلس في شيء إلا في آخرها"2.
هذا كما قدمناه يتمسك به في جواز الزيادة على ركعتين في النوافل وتأوله بعض المالكية بتأويل لا يتبادر إلى الذهن وهو أن حمل ذلك على أن الجلوس في محل القيام لم يكن إلا في آخر ركعة كأن الأربع كانت الصلاة فيها قياما والأخيرة كانت جلوسا في محل القيام وربما دل لفظه على تأويل أحاديث قدمها هذا منها بأن السلام وقع بين ركعتين وهذا مخالفة للفظ فإنه لا يقع السلام بين كل ركعتين إلا بعد الجلوس وذلك ينافيه قولها: "لا يجلس إلا في آخرها" وفي هذا نظر.
و اعلم أن محط النظر هو الموازنة بين الظاهر من قوله عليه السلام: "صلاة الليل مثنى مثنى" 3 في دلالته على الحصر وبين دلالة هذا الفعل على الجواز والفعل يتطرق إليه الخصوص إلا
ـــــــ
1 البخاري "996" ومسلم "745".
2 البخاري "1170" دون قولها: يوتر من ذلك .. ومسلم "737".
3 سبق تخريجه.(1/213)
أنه بعيد لا يصار إليه إلا بدليل فتبقى دلالة الفعل على الجواز معارضة بدلالة اللفظ على الحصر ودلالة الفعل على الجواز عندنا أقوى نعم يبقى نظر آخر وهو أن الأحاديث دلت على جواز أعداد مخصوصة فإذا جمعناها ونظرنا أكثرها فما زاد عليه إذا قلنا بجوازه كان قولا بالجواز مع اقتضاء الدليل منعه من غير معارضة الفعل له.
فلقائل أن يقول: يعمل بدليل المنع حيث لا معارض له من الفعل إلا أن يصد عن ذلك إجماع أو يقوم دليل على أن الأعداد المخصوصة ملغاة عن الاعتبار ويكون الحكم الذي دل عليه الحديث مطلق الزيادة فهنا يمكن أمران:
أحدهما: أن نقول مقادير العبادات يغلب عليها التعبد فلا يجزم بأن المقصود مطلق الزيادة.
و الثاني: أن يقول المانع المخل هو الزيادة على مقدار الركعتين وقد ألغي بهذه الأحاديث ولا يقوى كثيرا والله عز وجل أعلم.(1/214)
16- باب الذكر عقيب الصلاة.
1 - عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن عباس: كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته"1.
وفي لفظ: "ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالتكبير"2.
فيه دليل على جواز الجهر بالذكر عقيب الصلاة والتكبير بخصوصه من جملة الذكر قال الطبري: فيه الإبانة عن صحة فعل من كان يفعل ذلك من الأمراء يكبر بعد صلاته ويكبر من خلفه قال غيره: ولم أجد من الفقهاء من قال هذا إلا ما ذكره ابن حبيب في الواضحة: كانوا يستحبون التكبير في العساكر والبعوث إثر صلاة الصبح والعشاء تكبيرا عاليا ثلاث مرات وهو قديم من شأن الناس وعن مالك أنه محدث.
وقد يؤخذ منه تأخير الصبيان في الموقف لقول ابن عباس ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله إلا بالتكبير فلو كان متقدما في الصف الأول لعلم انقضاء الصلاة بسماع التسليم وقد يؤخذ منه أنه لم يكن ثمة مسمع جهير الصوت يبلغ التسليم بجهارة صوته.
2 - عن وراد مولى المغير بن شعبة قال: أملى علي المغيرة بن شعبة من كتاب
ـــــــ
1 البخاري "841" ومسلم "583" "122".
2 البخاري "842" ومسلم "583" "121".(1/214)
إلى معاوية: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد" ثم وفدت بعد ذلك على معاوية فسمعته يأمر الناس بذلك1.
و في لفظ: "كان ينهى عن قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال وكان ينهى عن عقوق الأمهات ووأد البنات ومنع وهات"2.
فيه دليل على استحباب هذا الذكر المخصوص عقيب الصلاة وذلك لما اشتمل عليه من معاني التوحيد ونسبة الأفعال إلى الله تعالى والمنع والإعطاء وتمام القدرة والثواب المرتب على الأذكار يرد كثيرا مع خفة الأذكار على اللسان وقلتها وإنما كان ذلك باعتبار مدلولاتها وأن كلها راجعة إلى الإيمان الذي هو أشرف الأشياء.
والجد: الحظ ومعنى "لا ينفع ذا الجد منك الجد" لا ينفع ذا الحظ حظه وإنما ينفعه العمل الصالح و"الجد" ههنا - وإن كان مطلقا - فهو محمول على حظ الدنيا.
وقوله: "منك" متعلق بينفع وينبغي أن يكون "ينفع" متضمنا معنى يمنع أو ما يقاربه ولا يعود "منك" إلى الجد على الوجه الذي يقال فيه حظي منك قليل أو كثير بمعنى عنايتك بي أو رعايتك لي فغن ذلك نافع.
وفي أمر معاوية بذلك المبادرة إلى امتثال السنن وإشاعتها وفيه جواز العمل بالمكاتبة بالأحاديث وإجرائها مجرى المسموع والعمل بالخط في مثل ذلك إذا أمن تغييره وفيه قبول خبر الواحد وهو فرد من أفراد لا تحصى كما قررناه فيما تقدم.
وقوله عن قيل وقال الأشهر فيه: بفتح اللام على سبيل الحكاية وهذا النهي لا بد من تقييده بالكثرة التي لا يؤمن معها وقوع الخطل والخطأ والتسبب إلى وقوع المفاسد من غير تعيين والإخبار بالأمور الباطلة وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع" 3 وقال بعض السلف: لا يكون إماما من حدث بكل ما سمع.
وأما "إضاعة المال" فحقيقته المتفق عليها بذله في غير مصلحة دينية أو دنيوية وذلك ممنوع لأن الله تعالى جعل الأموال قياما لمصالح العباد وفي تبذيرها تفويت لتلك المصالح إما في حق مضيعها أو في حق غيره وأما بذله وكثرة إنفاقه في تحصيل مصالح الأخرى فلا يمتنع من حيث هو وقد قالوا: لا سرف في الخير وأما إنفاقه في مصالح.
ـــــــ
1 البخاري "844" "6615".
2 البخاري "2408" ومسلم "593" "12" "13" "14".
3 أخرجه مسلم "5" في مقدمة صحيحه ولفظه: "كفى بالمرء كذبا..." الحديث.(1/215)
الدنيا وملاذ النفس على وجه لا يليق بحال المنفق وقدر ماله ففي كونه سفها خلاف والمشهور أنه سفه وقال بعض الشافعية ليس بسفه لأنه يقوم به مصالح البدن وملاذه وهو غرض صحيح وظاهر القرآن يمنع من ذلك والأشهر في مثل هذا أنه مباح أعني إذا كان الإنفاق في غير معصية وقد نوزع فيه.
وأما كثرة السؤال ففيه وجهان: أحدهما: أن يكون ذلك راجعا إلى الأمور العلمية وقد كانوا يكرهون تكلف المسائل التي لا تدعو الحاجة إليها وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أعظم الناس جرما عند الله من سأل عن شيء لم يحرم على المسلمين فحرم عليهم من أجل مسألته" 1 وفي حديث اللعان لما سئل عن الرجل يجد مع امرأته رجلا فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها2 وفي حديث معاوية: "نهى عن الأغلوطات"3 وهي شداد المسائل وصعابها وإنما كان ذلك مكروها لما يتضمن كثير منه من التكلف في الدين والتنطع والرجم بالظن من غير ضرورة تدعو إليه مع عدم الأمن من العثار وخطأ الظن والأصل المنع من الحكم بالظن إلا حيث تدعو الضرورة إليه.
الوجه الثاني: أن يكون ذلك راجعا إلى سؤال المال وقد وردت أحاديث في تعظيم مسألة الناس ولا شك أن سؤال الناس بعض أموالهم ممنوع وذلك حيث يكون الإعطاء بناء على ظاهر الحال ويكون الباطن خلافه أو يكون السائل مخبرا عن أمر هو كاذب فيه قد جاء في السنة ما يدل على اعتبار ظاهر الحال في هذا وهو ما روي: "أنه مات رجل من أهل الصفة وترك دينارين فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كيتان" 4 وإنما كان ذلك والله أعلم لأنهم كانوا فقراء مجردين يأخذون ويتصدق عليهم بناء على الفقر والعدم وظهر أن معه هذين الدينارين على خلاف ظاهر حاله والمنقول عن مذهب الشافعي جواز السؤال فإذا قيل بذلك فينبغي النظر في تخصيص المنع بالكثرة فإنه إن كانت الصورة تقتضي المنع فالسؤال مممنوع كثيره وقليله وعن لم نقتض المنع فينبغي حمل هذا النهي على الكراهة للكثير من السؤال مع أنه لا يخلو السؤال من غير حاجة عن كراهة فتكون الكراهة في الكثرة أشد وتكون هي المخصوصة بالنهي.
و تبين من هذا أن من يكره السؤال مطلقا - حيث لا يحرم - ينبغي أن لا يحمل قوله: "كثرة
ـــــــ
1 البخاري "7289" ومسلم "2358" من حديث سعد بن أبي وقاص بلفظ مقارب.
2 البخاري "5259" ومسلم "1492" من حديث سهل بن سعد الساعدي.
3 أخرجه أحمد في مسنده "23688" وأبو داود "3656" بلفظ "الغلوطات" قال محققو المسند: إسناده ضعيف قال ابن الأثير في النهاية الغلوطات الأصل فيها الأغلوطات ثم تركت الهمزة.
4 أحمد في مسنده "788" من حديث علي بن أبي طالب قال محققوا المسند: حديث حسن لغيره والصفة: موضع مظلل في المسجد النبوي كانت تأوي إليه المساكين.(1/216)
السؤال على الوجه الأول المتعلق بالمسائل الدينية أو يجعل النهي دالا على المرتبة الأشدية من الكراهة.
و تخصيص العقوق بالأمهات مع امتناعه في الآباء أيضا لأجل شدة حقوقهن ورجحان الأمر ببرهن بالنسبة إلى الآباء وهذا من باب تخصيص الشيء بالذكر لإظهار عظمه في المنع إن كان ممنوعا وشرفه إن كان مأمورا به وقد يراعى في موضع آخر التنبيه بذكر الأدنى على الأعلى فيخص الأدنى بالذكر وذلك بحسب اختلاف المقصود.
و"وأد البنات" عبارة عن دفنهن مع الحياة وهذا التخصيص بالذكر لأنه كان هو الواقع في الجاهلية فتوجه النهي إليه لأن الحكم مخصوص بالبنات.
و "منع وهات" راجع إلى السؤال مع ضميمة النهي عن المنع وهذا يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون المنع حيث يؤمر بالإعطاء وعن السؤال حيث يمنع منه فيكون كل واحد مخصوصا بصورة غير صورة الآخر.
و الثاني: أن يجتمعا في صورة واحدة ولا تعارض بينهما فيكون وظيفة الطالب أن لا يسأل ووظيفة المعطي أن لا يمنع إذا وقع السؤال وهذا لا بد أن يستثنى منه ما إذا كان المطلوب محرما على الطالب فإنه يمتنع على المعطي إعطاؤه لكونه معينا على الإثم ويحتمل أن يكون الحديث محمولا على الكثرة من السؤال والله أعلم.
3 - عن سمي - مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام - عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن فقراء المسلمين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله قد ذهب أهل الدثور بالدرجات العليا والنعيم المقيم قال: "وما ذاك؟" قالوا: يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون ولا نتصدق ويعتقون ولا نعتق, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفلا أعلمكم شيئا تدركون به من سبقكم وتسبقون من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم"؟ قالوا: بلى يا رسول الله, قال: "تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين مرة" قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء".
قال سمي: فحدثت بعض أهلي بهذا الحديث فقال: وهمت إنما قال لك: تسبح الله ثلاثا وثلاثين وتحمد الله ثلاثا وثلاثين وتكبر الله ثلاثا وثلاثين فرجعت إلى أبي صالح فقلت له ذلك فقال: قل: الله أكبر وسبحان الله والحمد لله حتى تبلغ من جميعهن ثلاثا وثلاثين"1.
ـــــــ
1 البخاري "843" ومسلم "595" بألفاظ متقاربة.(1/217)
الحديث يتعلق بالمسألة المشهورة بالتفضيل بين الغني الشاكر والفقير الصابر وقد اشتهر الخلاف والفقراء ذكروا للرسول صلى الله عليه وسلم ما يقتضي تفضيل الأغنياء بسبب القربات المتعلقة بالمال وأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ولكن علمهم ما يقوم مقام تلك الزيادة فلما قالها الأغنياء ساووهم فيها وبقي معهم رجحان قربات الأموال فقال عليه السلام: "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء" فظاهره القريب من النص أنه فضل الأغنياء بزيادة القربات المالية. و بعض الناس تأول قوله: "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء" بتأويل مستكره يخرجه عما ذكرناه من الظاهر.
والذي يقتضيه الأصل أنهما إن تساويا وحصل الرجحان بالعبادات المالية أن يكون الغني أفضل ولا شك في ذلك وإنما النظر إذا تساويا في أداء الواجب فقط وانفرد كل واحد بمصلحة ما هو فيه وإذا كانت المصالح متقابلة ففي ذلك نظر يرجع إلى تفسير الأفضل فإن فسر بزيادة الثواب فالقياس يقتضي أن المصالح المتعدية أفضل من القاصرة وإن كان الأفضل بمعنى الأشرف بالنسبة إلى صفات النفس فالذي يحصل للنفس من التطهير للأخلاق والرياضة لسوء الطباع بسبب الفقر أشرف فيترجح الفقراء ولهذا المعنى ذهب الجمهور من الصوفية إلى ترجيح الفقير الصابر لأن مدار الطريق على تهذيب النفس ورياضتها وذلك مع الفقر أكثر منه في الغنى فكان الأفضل بمعنى الأشرف.
وقوله: "ذهب أهل الدثور الدثر": هو المال الكثير.
و قوله: "تدركون من سبقكم" يحتمل أن يراد به السبق المعنوي وهو السبق في الفضيلة وقوله من بعدكم أي من بعدكم في الفضيلة ممن لا يعمل هذا العمل ويحتمل أن يراد القبلية الزمانية والبعدية الزمانية ولعل الأول أقرب إلى السياق فإن سؤالهم كان عن أمر الفضيلة وتقدم الأغنياء فيها.
و قوله: "لا يكون أحد أفضل منكم" يدل على ترجيح هذه الأذكار على فضيلة المال وعلى أ تلك الفضيلة للأغنياء مشروطة بأن لا يفعلوا هذا الفعل الذي أمر به الفقراء وفي تلك الرواية تعليم كيفية هذا الذكر وقد كان يمكن أن يكون فرادى - أي كل كلمة على حدة - ولو فعل ذلك جاز وحصل به المقصود ولكن بين في هذه الرواية أنه يكون مجموعا ويكون العدد للجملة وإذا كان كذلك يحصل في كل فرد هذا العدد والله أعلم.
4 - عن عائشة رضي الله عنها: "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في خميصة لها أعلام فنظر إلى أعلامها نظرة فلما انصرف قال: "اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم وائتوني بأنبجانية أبي جهم فإنها ألهتني آنفا عن صلاتي" 1.
ـــــــ
1 البخاري "373" ومسلم "556" "62".(1/218)
الخميصة: كساء مربع له أعلام والإنبجانة: كساء غليظ.
فيه دليل على جواز لباس الثوب ذي العلم ودليل على أن اشتغال الفكر يسيرا غير قادح في الصلاة.
وفيه دليل على طلب الخشوع في الصلاة والإقبال عليها ونفي ما يقتضي شغل الخاطر بغيرها.
وفيه دليل على مبادرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مصالح الصلاة ونفي ما يخدش فيها حيث أخرج الخميصة واستبدل بها غيرها مما لا يشغل فهذا مأخوذ عن قوله: "فنظر إليها نظرة".
وبعثه إلى أبي جهم بالخميصة لا يلزم منه أن يستعملها في الصلاة كما جاء في حلة عطارد وقوله عليه السلام لعمر: "إني لم أكسكها لتلبسها" 1 و قد استنبط الفقهاء من هذا كراهة كل ما يشغل عن الصلاة من الأصباغ والنقوش والصنائع المستطرفة فإن الحكم يعم بعموم علته والعلة الاشتغال عن الصلاة وزاد بعض المالكية في هذا: كراهة غرس الأشجار في المساجد.
والإنبجانة يقال بفتح الهمزة وكسرها وكذلك في الباء وكذلك الياء تخفف وتشدد وقيل إنها الكساء من غير علم فإن كان فيه علم فهو خميصة.
وفيه دليل على قبول الهدية من الأصحاب والإرسال إليهم والطلب لها ممن يظن به السرور بذلك أو المسامحة.
ـــــــ
1 جزء من حديث أخرجه البخاري "886" ومسلم "2068".(1/219)
17 - باب الجمع بين الصلاتين في السفر.
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع في السفر بين صلاة الظهر والعصر إذا كان على ظهر سير ويجمع بين المغرب والعشاء"1.
هذا اللفظ في هذا الحديث ليس في كتاب مسلم وإنما هو في كتاب البخاري2 وإما رواية ابن عباس في الجمع بين الصلاتين في الجملة من غير اعتبار لفظ بعينه فمتفق عليه.
ولم يختلف الفقهاء في جواز الجمع في الجملة لكن أبا حنيفة يخصصه بالجمع بعرفة ومزدلفة وتكون العلة فيه النسك لا السفر ولهذا يقال: لا يجوز الجمع عنده بعذر السفر,
ـــــــ
1 البخاري "1107".
2 أما لفظ رواية مسلم "705" "51" فهو: عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاة في سفرة سافرها في غزوة تبوك جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء.(1/219)
وأهل هذا المذهب يؤولون الأحاديث التي وردت بالجمع على أن المراد تأخير الصلاة الأولى إلى آخر وقتها.
وتقديم الثانية في أول وقتها وقد قسم بعض الفقهاء الجمع إلى جمع مقارنة وجمع مواصلة وأراد بجمع المقارنة أن يكون الشيئان في وقت واحد كالأكل والقيام مثلا فإنهما يقعان في وقت واحد وأراد بجمع المواصلة أن يقع أحدهما عقيب الآخر وقصد إبطال تأويل أصحاب أبي حنيفة بما ذكرناه لأن جمع المقارنة لا يمكن في الصلاتين إذ لا يقعان في حالة واحدة وأبطل جمع المواصلة أيضا وقصد بذلك إبطال التأويل المذكور إذ لم يتنزل على شيء من القسمين.
و عندي: أنه لا يبعد أن يتنزل على الثاني إذا وقع التحري في الوقت أو وقع المسامحة بالزمن اليسير بين الصلاتين إذا وقع فاصلا ولكن بعض الروايات في الأحاديث لا يحتمل لفظها هذا التأويل إلا على بعد كبير أو لا يحتمل أصلا فإما ما لا يحتمل فإذا كان صحيحا في سنده فيقطع العذر وأما ما يبعد تأويله فيحتاج إلى أن يكون الدليل المعارض له أقوى من العمل بظاهره وهذا الحديث الذي في الكتاب ليس يبعد تأويله كل البعد بما ذكر من التأويل وأما ظاهره فإن ثبت أن الجمع حقيقة لا يتناول صورة التأويل فالحجة قائمة به حتى يكون الدليل المعارض له أقوى من ذلك التأويل من هذا الظاهر.
والحديث يدل على الجمع إذا كان على ظهر سير ولولا ورود غيره من الأحاديث بالجمع في غير هذه الحالة لكان الدليل يقتضي امتناع الجمع في غيرها لأن الأصل عدم جواز الجمع ووجوب إيقاع الصلاة في وقتها المحدد لها وجواز الجمع بهذا الحديث قد علق بصفة مناسبة للاعتبار فلم يكن ليجوز إلغاؤها لكن إذا صح الجمع في حالة النزول فالعمل به أولى لقيام دليل آخر على الجواز في غير هذه الصورة أعني السير وقيام ذلك الدليل يدل على إلغاء اعتبار هذا الوصف ولا يمكن أن يعارض ذلك الدليل بالمفهوم من هذا الحديث لأن دلالة ذلك المنطوق على الجواز في تلك الصورة بخصوصها أرجح.
و قوله: "وكذلك المغرب والعشاء" يريد في طريق الجمع وظاهره اعتبار الوصف الذي ذكره فيهما وهو كونه على ظهر سير وقد دل الحديث على الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء ولا خلاف أن الجمع ممتنع بين الصبح وغيرها وبين العصر والمغرب كما لا خلاف في جواز الجمع بين الظهر والعصر بعرفة وبين المغرب والعشاء بمزدلفة.
ومن ههنا ينشأ نظر القائسين في مسألة الجمع فأصحاب أبي حنيفة يقيسون الجمع المختلف فيه على الجمع الممتنع اتفاقا ويحتاجون إلى إلغاء الوصف الفارق بين محل النزاع ومحل الإجماع وهو الاشتراك الواقع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء إما مطلقا أو في حالة العذر وغيرهم يقيس الجواز في محل النزاع على الجواز في محل الإجماع ويحتاج إلى إلغاء الوصف الفارق وهو إقامة النسك.(1/220)
18 - باب قصر الصلاة في السفر.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان لا يزيد في السفر على ركعتين وأبا بكر وعمر وعثمان كذلك"1.
هذا هو لفظ رواية البخاري في الحديث ولفظ رواية مسلم أكثر وأزيد فليعلم ذلك.
و في الحديث دليل على المواظبة على القصر وهو دليل على رجحان ذلك وبعض الفقهاء قد أوجب القصر والفعل بمجرده لا يدل على الوجوب لكن المتحقق من هذه الرواية الرجحان فيؤخذ منه وما زاد مشكوك فيه فيترك وقد خرج قول الشافعي أن الإتمام أفضل قياسا على قوله إن الصيام أفضل والصحيح أن القصر أفضل أما أولا: فلمواظبة الرسول صلى الله عليه وسلم وأما ثانيا: فلقيام الفارق بين القصر والصوم فإن الأول يبرئ الذمة من الواجب خلاف الثاني وكان ابن عمر رضي الله عنهما لا يرى التنفل في السفر وقال لو كنت متنفلا لأتممت.
فقوله: "لا يزيد" يحتمل أن يريد: لا يزيد في عدد ركعات الفرض ويحتمل أن يريد: لا يزيد نفلا وحمله على الثاني أولى لأنه وردت أحاديث عن ابن عمر يقتضي سياقها أنه أراد ذلك ويمكن أن يراد العموم فيدخل فيه هذا أعني النافلة في السفر تبعا لا قصدا.
وذكره لأبي بكر وعمر وعثمان مع أن الحجة قائمة بفعل الرسول صلى الله عليه وسلم ليبين - والله أعلم - أن ذلك كان معمولا به عند الأئمة لم يتطرق إليه النسخ ولا معارض راجح وقد فعل ذلك مالك - رحمه الله - في موطئه لتقويته بالعمل.
ـــــــ
1 البخاري "1102" ومسلم "689".(1/221)
19 - باب الجمعة.
1 - عن سهل بن سعد الساعدي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فكبر وكبر الناس وراءه وهو على المنبر ثم رفع فنزل القهقرى حتى سجد في أصل المنبر ثم عاد حتى فرغ من آخر صلاته ثم أقبل على الناس فقال: "أيها الناس إنما صنعت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي" 1.
و في لفظ: "صلى عليها ثم كبر عليها ثم ركع وهو عليها فنزل القهقرى"2.
ـــــــ
1 البخاري "917" ومسلم "544" واللفظ له.
2 وهي لفظ رواية البخاري.(1/221)
أبو العباس: سهل بن سعد بن مالك الساعدي الأنصاري وبنو ساعدة من الأنصار متفق على إخراج حديثه مات سنة إحدى وتسعين وهو ابن مائة سنة وهو آخر من مات بالمدينة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فيه دليل على جواز صلاة الإمام على أرفع مما عليه المأموم لقصد التعليم وقد بين ذلك في لفظ الحديث فإما من غير هذا القصد فقد قيل بكراهته وزاد أصحاب مالك أو من قال منهم فقالوا: إن قصد التكبر بطلت صلاته ومن أراد أن يجيز هذا الارتفاع من غير قصد التعلم فاللفظ لا يتناوله والقياس لا يستقيم لانفراد الأصل بوصف معتبر تقتضي المناسبة اعتباره.
وفيه دليل على جواز العمل اليسير في الصلاة لكن فيه إشكال على من حدد الكثير من العمل بثلاث خطوات فإن منبر النبي صلى الله عليه وسلم كان ثلاث درجات والصلاة كانت على العليا ومن ضرورة ذلك أن يقع ما أوقعه من الفعل على الأرض بعد ثلاث خطوات فأكثر وأقله ثلاث خطوات والذي يعتذر به عن هذا أن يدعى عدم التوالي بين الخطوات فإن التوالي شرط في الإبطال أو ينازع في كون قيام هذه الصلاة فوق الدرجة العليا.
وفيه دليل على جواز إقامة الصلاة أو الجماعة لغرض التعليم كما صرح به في لفظ الحديث والرواية الأخيرة: قد توهم أنه نزل في الركوع ربما يقوى هذا باقتضاء الفاء للتعقيب ظاهرا لكن الرواية الأولى تبين أن النزول كان بعد القيام من الركوع والمصير إلى الأولى أوجب لأنها نص ودلالة الفاء على التعقيب ظاهرة والله أعلم.
2 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من جاء منكم الجمعة فليغتسل" 1.
الحديث صريح في الأمر بالغسل للجمعة وظاهر الأمر الوجوب وقد جاء مصرحا به بلفظ الوجوب في حديث آخر فقال بعض الناس بالوجوب بناء على الظاهر وخالف الأكثرون فقالوا بالاستحباب وهم محتاجون إلى الاعتذار عن مخالفة هذا الظاهر فأولوا صيغة الأمر على الندب وصيغة الوجوب على التأكيد كما يقال: حقك واجب علي وهذا التأويل الثاني أضعف من الأول وإنما يصار إليه إذا كان المعارض راجحا في الدلالة على هذا الظاهر وأقوى ما عارضوا به حديث: "من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل" 2 ولا يقاوم سنده سند هذه الأحاديث وإن كان المشهور من سنده صحيحا على
ـــــــ
1 البخاري "894" ومسلم "844" "2".
2 أبو داود "354" والترمذي "497" والنسائي "1380" من حديث سمرة بن جندب قال الترمذي حديث سمرة حديث حسن.(1/222)
مذهب بعض أصحاب الحديث وربما احتمل أيضا تأويلا مستكرها بعيدا كبعد تأويل لفظ الوجوب على التأكيد وأما غير هذا الحديث من المعارضات المذكورة لما ذكرناه من دلائل الوجوب فلا تقوى دلالته على عدم الوجوب لقوة دلائل الوجوب عليه وقد نص مالك على الوجوب فحمله المخالفون ممن لم يمارسوا مذهبه على ظاهره وحكي عن أنه يروي الوجوب ولم ير ذلك أصحابه على ظاهره.
و في الحديث دليل على تعليق الأمر بالغسل بالمجيء إلى الجمعة والمراد إرادة المجيء وقصد الشروع فيه وقال مالك به واشترك الاتصال بين الغسل والرواح وغيره لا يشترط ذلك.
ولقد أبعد الظاهري إبعادا يكاد يكون مجزوما ببطلانه حيث لم يشترط تقدم الغسل على إقامة صلاة الجمعة حتى اغتسل قبل الغروب كفى عنده تعلقا بإضافة الغسل إلى اليوم في بعض الروايات وقد تبين من بعض الأحاديث: أن الغسل لإزالة الروائح الكريهة ويفهم منه: أن المقصود عدم تأذي الحاضرين وذلك لا يتأتى بعد إقامة الجمعة وكذلك أقول: لو قدمه بحيث لا يحصل هذا المقصود لم يعتد به والمعنى إذا كان معلوما كالنص قطعا أو ظنا مقاربا للقطع: فاتباعه وتعليق الحكم به أولى من اتباع مجرد اللفظ.
وقد كنا قررنا في مثل هذا قاعدة وهي انقسام الأحكام إلى أقسام منها: أن يكون أصل المعنى معقولا وتفصيله يحتمل التعبد فإذا وقع مثل هذا فهو محل نظر.
ومما يبطل مذهب الظاهري: أن الأحاديث التي علق فيها الأمر بالإتيان أو المجيء قد دلت على توجه الأمور إلى هذه الحالة والأحاديث التي تدل على تعليق الأمور باليوم لا يتناوله تعليقه بهذه الحالة فهو إذا تمسك بتلك أبطل دلالة هذه الأحاديث على تعليق الأمر بهذه الحالة وليس له ذلك ونحن إذا قلنا بتعليقه بهذه الحالة فقد عملنا بهذه الأحاديث من غير إبطال لما استدل به.
3 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: جاء رجل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس يوم الجمعة فقال: "صليت يا فلان؟", قال: لا قال: "قم فاركع ركعتين" 1.
وفي رواية: "فصل ركعتين" 2.
اختلف الفقهاء فيمن دخل المسجد والإمام يخطب: هل يركع ركعتي التحية حينئذ أم لا؟ فذهب الشافعي وأحمد وأكثر أصحاب الحديث إلى أنه يركع لهذا الحديث وغيره مما هو أصرح منه وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما" 3.
ـــــــ
1 البخاري "930" ومسلم "785".
2 مسلم "875" "59" من حديث جابر بن عبد الله.
3 البخاري "931" ومسلم "875" "55".(1/223)
وذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنه لا يركعهما لوجوب الاشتغال بالاستماع واستدل على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب يوم الجمعة: أنصت فقد لغوت" 1 قالوا: فإذا منع من هذه الكلمة - مع كونها أمرا بمعروف ونهيا عن منكر في زمن يسير - فلأن يمنع من الركعتين - مع كونهما مسنونتين في زمن طويل - أولى ومن قال بهذا القول يحتاج إلى الاعتذار عن هذا الحديث الذي ذكره المصنف والحديث الذي ذكرناه.
وقد ذكروا فيه اعتذارات في بعضها ضعف ومن مشهورها: أن هذا مخصوص بهذا الرجل المعين وهل سليك الغطفاني - على ما ورد مصرحا به في رواية أخرى2 وإنما خص بذلك - على ما أشاروا إليه - لأنه كان فقيرا فأريد قيامه لتستشرفه العيون ويتصدق عليه وربما يتأيد هذا بأنه صلى الله عليه وسلم أمره بأن يقوم للركعتين بعد جلوسه وقد قالوا: إن ركعتي التحية تفوت بالجلوس وقد عرف أن التخصيص على خلاف الأصل: ثم يبعد الحمل عليه مع صيغة العموم وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب" 3 فهذا تعميم يزيل توهم الخصوص بهذا الرجل وقد تأولوا هذا العموم أيضا بتأويل مستكره.
وأقوى من هذا العذر: ما ورد: "أن النبي صلى الله عليه وسلم سكت حتى فرغ من الركعتين"4 فحينئذ يكون المانع من عدم الركوع منتفيا فثبت الركوع وعلى هذا أيضا ترد الصيغة التي فيها العموم.
4 - عن جابر رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب خطبتين وهو قائم يفصل بينهما بجلوس"5.
الخطبتان واجبتان عند الجمهور من الفقهاء فإن استدل بفعل الرسول لهما مع قوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي" 6 ففي ذلك نظر يتوقف على أن يكون إقامة الخطبتين داخلا تحت كيفية الصلاة فإنه إن لم يكن كذلك كان استدلاله بمجرد الفعل.
وفي الحديث: دليل على الجلوس بين الخطبتين ولا خلاف فيه وقد قيل بركنيته وهو منقول عن أصحاب الشافعي.
ـــــــ
1 البخاري "934" ومسلم "851" من حديث أبي هريرة.
2 وهي رواية مسلم "875" "59" من حديث جابر بن عبد الله.
3 البخاري "1166" ومسلم "875" "59" من حديث جابر.
4 الدارقطني عن محمد بن قيس مرسلا "2/16" قال الدارقطني هذا مرسل لا بقوم به الحجة.
5 لم نجده عن جابر وقد أخرجه البخاري "920" ومسلم "861" من حديث ابن عمر أنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائما ثم يقعد كما تفعلون الآن.
وقد أخرجه النسائي بهذا السياق "1417" وإنما عن ابن عمر.
6 البخاري "631" من حديث مالك بن أنس.(1/224)
وهذا اللفظ - الذي ذكره المصنف لم أقف عليه بهذه الصيغة في الصحيحين - فمن أراد تصحيحه فعليه إبرازه والله أعلم.
5 - عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قلت لصاحبك: أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب - فقد لغوت" 1.
يقال: لغا يلغو ولغي يلغي واللغو واللغي قيل: هو رديء الكلام وما لا خير فيه وقد يطلق على الخيبة أيضا.
والحديث دليل على طلب الإنصات في الخطبة والشافعي يرى وجوبه في حق الأربعين وفيمن عداهم قولان هذه الطريقة المختارة عندنا.
واختلف الفقهاء أيضا في إنصات من لا يسمع الخطبة وقد يستدل بهذا الحديث على إنصاته لكونه عقله بكون الإمام يخطب وهذا عام بالنسبة إلى سماعه وعدم سماعه.
واستدل به المالكية - كما قدمنا - على عدم تحية المسجد من حيث إن الأمر بالإنصات أمر بمعروف وأصله الوجوب فإذا منع منه - مع قلة زمانه وقلة إشغاله - فلأن يمنع الركعتين - مع كونهما سنة وطول الزمان بهما - أولى وهذا قد تقدم والله أعلم.
6 - عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من اغتسل يوم الجمعة ثم راح فكأنما قرب بدنة ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر" 2.
الكلام عليه من وجوه:
الأول: اختلف الفقهاء في أن الأفضل التبكير إلى الجمعة أو التهجير واختار الشافعي التبكير واختار مالك التهجير واستدل للتبكير بهذا الحديث وحمل الساعات فيه على الأجزاء الزمانية التي ينقسم النهار فيها إلى اثني عشر جزءا والذين اختاروا التهجير يحتاجون إلى الاعتذار عنه وذلك من وجوه.
أحدها: قد ينازع في أن الساعة حقيقة في هذه الأجزاء في وضع العرب واستعمال الشرع بناء على أنها تتعلق بحساب ومراجعة آلات تدل عليه لم تجر عادة العرب بذلك ولا أحال الشرع على اعتبار مثله حوالة لا شك فيها وإن ثبت ذلك بدليل تجوزوا في لفظ الساعة
ـــــــ
1 البخاري "934" ومسلم "851".
2 البخاري "881" ومسلم "850".(1/225)
وحملوها على الأجزاء التي تقع فيها المراتب ولا بد لهم من دليل مؤيد للتأويل على هذا التقدير وسنذكر منه شيئا.
الوجه الثاني: ما يؤخذ من قوله: "من اغتسل ثم راح" والرواح لا يكون إلا بعد الزوال فحافظوا على حقيقة راح وتجوزا في لفظ الساعة إن ثبت أنها حقيقة في الجزء من اثني عشر واعترض عليهم في هذا بأن لفظة راح يحتمل أن يراد بها مجرد السير في أي وقت كان كما أول مالك قوله تعالى: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] على مجرد السير لا على الشد والسرعة هذا معنى قوله وليس هذا التأويل ببعيد في الاستعمال.
الوجه الثالث: قوله صلى الله عليه وسلم في بعض الروايات: "فالمهجر كالمهدي بدنة" 1 والتهجير: إنما يكون في الهاجرة ومن خرج عند طلوع الشمس مثلا أو بعد طلوع الفجر لا يقال له مهجر.
واعترض على هذا بأن يكون المهجر من هجر المنزل وتركه في أي وقت كان وهذا بعيد.
الوجه الرابع: يقتضي الحديث: أنه بعد الساعة الخامسة يخرج الإمام وتطوي الملائكة الصحف لاستماع الذكر وخروج الإمام إنما يكون بعد السادسة وهذا الإشكال إنما ينشأ إذا جعلنا الساعة هي الزمانية أما إذا جعلنا ذلك عبارة عن ترتيب منازل السابقين فلا يلزم هذا الإشكال.
الوجه الخامس: يقتضي أن تتساوى مراتب الناس في كل ساعة فكل من أتى في الأولى كان كالمقرب بدنة وكل من أتى في الثانية كان كمن قرب بقرة مع أن الدليل يقتضي أن السابق لا يساويه اللاحق وقد جاء في الحديث: "ثم الذي يليه ثم الذي يليه" 2 ويمكن أن يقال في هذا: إن التفاوت يرجع إلى الصفات.
واعلم أن بعض هذه الوجوه لا بأس به إلا أنه يرد على المذهب الآخر: أنا إذا خرجنا على الساعات الزمانية لم يبق لنا مرد ينقسم فيه الحال إلى خمس مراتب بل يقتضي أن يتفاوت السبق في الإتيان إلى الجمعة وذلك يتأتى منه مراتب كثيرة جدا فإن تبين بدليل أن يكون لنا مرد لا يكون فيه هذا التفاوت الشديد والكثرة في العدد فقد اندفع هذا الإشكال.
فإن قلت: نجعل الوقت من التهجير مقسما على خمسة أجزاء ويكون ذلك مرادا؟
قلت يشكل ذلك لوجهين:
أحدهما: أن الرجوع إلى ما تقرر من تقسيم الساعات إلى اثني عشر أولى إذا كان ولا بد
ـــــــ
1 جزء من حديث أخرجه البخاري "929" ومسلم "850" من حديث أبي هريرة.
2 لم نجده بهذا اللفظ وقد أخرج أحمد في مسنده "7259" عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المهجر إلى الجمعة كالمهدي بدنه ثم الذي يليه كالمهدي بقرة والذي يليه كالمهدي كبشا " حتى ذكر الدجاج والبيضة.(1/226)
من الحوالة على أمر خفي على الجمهور فإن هذه القسمة لم تعرف لأصحاب هذا العلم ولا استعملت على ما استعمله الجمهور وإنما يندفع بها لو ثبت ذلك الإشكال الذي مضى من أن خروج الإمام ليس عقيب الخامسة ولا حضور الملائكة لاستماع الذكر.
الثاني: أن القائلين بأن التهجير أفضل لا يقولون بذلك على هذه القسمة فإن القائل قائلان قائل يقول: بترتيب منازل السابقين على غير تقسيم هذه الأجزاء الخمسة وقائل يقول: تنقسم الأجزاء ستة إلى الزوال.
فالقول بتقسيم هذا الوقت إلى خمسة إلى الزوال: يكون للكل وإن كان قد قال به قائل فلكتف بالوجه الأول.
الوجه الثاني من الكلام على الحديث: أنه يقتضي أن البضة تقرب وقد ورد في حديث آخر: "كالمهدي بدنة وكالمهدي بقرة" - إلى آخره1 فيدل أن هذا التقريب هو الهدي وينشأ من هذا: أن اسم الهدي هل ينطلق على مثل هذا؟ وأن من التزم هديا هل يكفيه مثل هذا أم لا؟ وقد قال به بعض أصحاب الشافعي وهذا أقرب إلى أن يؤخذ من لفظ ذلك الحديث الذي فيه لفظ الهدي من أن يأخذ من هذا الحديث ولكن لما كان ذلك تفسيرا لهذا ويبين المراد منه ذكرناه ههنا.
الوجه الثالث: لفظ البدنة في هذا الحديث ظاهرها أنها منطلقة على الإبل مخصوصة بها لأنها قوبلت بالبقر وبالكبش عند الإطلاق وقسم الشيء لا يكون قسيما ومقابلا له وقيل: إن اسم البدنة ينطلق على الإبل والبقر والغنم لكن الاستعمال في الإبل أغلب نقله بعض الفقهاء وينبني على هذا: ما إذا قال: لله علي أن أضحي ببدنة ولم يقيد بالإبل لفظا ولا نية وكانت الإبل موجودة فهل تتعين؟ فيه وجهان للشافعية أحدهما: التعين لأن لفظ البدنة مخصوصة بالإبل أو غالبة فيه فلا يعدل عنه والثاني: أنه يقوم مقامها بقرة أو سبع من الغنم حملا على ما علم من الشرع من إقامتها مقامها والأول: أقرب وإن لم توجد الإبل فقيل: يصبر إلى أن توجد وقيل: يقوم مقامها البقرة.
7 - عن سلمة بن الأكوع - وكان من أصحاب الشجرة - رضي الله عنه قال: "كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة ثم ننصرف وليس للحيطان ظل نستظل به"2.
وفي لفظ: "كنا نجمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس ثم نرجع فنتبع الفيء"3.
ـــــــ
1 انظر الحديث السابق.
2 البخاري "4168" ومسلم "860" "32".
3 مسلم "860" "31".(1/227)
وقت الجمعة عند جمهور العلماء: وقت الظهر فلا تجوز قبل الزوال وعن أحمد وإسحاق: جوزها قبله وربما يتمسك بهذا الحديث في ذلكن من حيث إنه يقع بعد الزوال الخطبتان والصلاة مع ما روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم: "كان يقرأ فيها بالجمعة والمنافقين"1 وذلك يقتضي زمانا يمتد فيه الظل فحيث كانوا ينصرفون منها وليس للحيطان فيء يستظل به فربما اقتضى ذلك: أن تكون واقعة قبل الزوال أو خطبتاها أو بعضهما واللفظ الثاني من هذا: يبين أنها بعد الزوال.
واعلم أن قوله: "وليس للحيطان ظل نستظل به" لا ينفي أصل الظل بل ينفي ظلا يستظلون به ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم ولم يجزم بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بالجمعة والمنافقين دائما وإنما كان يقتضي ذلك ما توهم لو كان نفي أصل الظل على أن أهل الحساب يقولون: إن عرض المدينة خمس وعشرون درجة أو ما يقارب ذلك فإذا غاية الارتفاع: تكون تسعة وثمانين فلا تسامت الشمس الرؤوس فإذا لم تسامت الرؤوس لم يكن ظل القائم تحته حقيقة بل لا بد له من ظل فامتنع أن يكون المراد: نفي أصل الظل والمراد: ظل يكفي أبدانهم للاستظلال ولا يلزم من ذلك وقوع الصلاة ولا شيء من خطبتيها قبل الزوال.
وقوله نجمع بفتح الجيم وتشديد الميم المكسورة أي نقيم الجمعة واسم الفيء قيل هو مخصوص بالظل الذي بعد الزوال فإن أطلق على مطلق الظل فمجاز لأنه من فاء يفيء إذا رجع وذلك فيما بعد الزوال.
8 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة: {الم تَنْزِيلُ} [السجدة: 1, 2] و {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ} [الانسان: 1]"2.
فيه دليل على استحباب قراءة هاتين السورتين في هذا المحل وكره مالك للإمام قراءة السجدة في صلاة الفرض خشية التخليط على المأمومين وخص بعض أصحابه الكراهة بصلاة السر فعلى هذا لا يكون مخالفا لمقتضى هذا الحديث وفي المواظبة على ذلك دائما أمر آخر وهو أنه ربما أدى الجهال إلى اعتقاد أن ذلك فرض في هذه الصلاة ومن مذهب مالك: حسم مادة هذه الذريعة فالذي ينبغي أن يقال: أما القول بالكراهة مطلقا فيأباه الحديث وإذا انتهى الحال إلى أن تقع هذه المفسدة ينبغي أن تترك في بعض الأوقات دفعا لهذه المفسدة وليس في هذا الحديث ما يقتضي فعل ذلك دائما اقتضاء قويا وعلى كل حال فهو مستحب فقد يترك المستحب لدفع المفسدة المتوقعة وهذا المقصود يحصل بالترك في بعض الأوقات لا سيما إذا كان بحضرة الجهال ومن يخاف منه وقوع هذا الاعتقاد الفاسد
ـــــــ
1 مسلم "877" من حديث ابن عباس.
2 البخاري "1068" ومسلم "880".(1/228)
20 - باب العيدين.
1 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر يصلون العيدين قبل الخطبة"1.
لا خلاف في أن صلاة العيدين من الشعائر المطلوبة شرعا وقد تواتر بها النقل الذي يقطع العذر ويغني عن أخبار الآحاد وإن كان هذا الحديث من آحاد ما يدل عليها وقد كان للجاهلية يومان معدان للعب فأبدل الله المسلمين منهما هذين اليومين اللذين يظهر فيهما تكبير الله وتحميده وتمجيده وتوحديه ظهورا شائعا يغيظ المشركين وقيل: إنما يقعان شكرا لله تعالى على ما أنعم الله به من أداء العبادات المتعلقة بهما فعيد الفطر: شكرا لله تعالى على إتمام صوم شهر رمضان وعيد الأضحى: شكرا على العبادات الواقعات في العشر وأعظمهما: إقامة وظيفة الحج.
وقد ثبت أيضا: أن الصلاة مقدمة على الخطبة في صلاة العيد وهذا الحديث يدل عليه وقد قيل: إن بني أمية غيروا ذلك وجميع ما له خطب من الصلوات فالصلوات مقدمة فيه إلا الجمعة وخطبة يوم عرفة.
وقد فرق بين صلاة العيد والجمعة بوجهين: أحدهما: أن صلاة الجمعة فرض عين ينتابها الناس من خارج المصر ويدخل وقتها بعد انتشارهم في أشغالهم وتصرفاتهم في أمور الدنيا فقدمت الخطبة عليهم حتى يتلاحق الناس ولا يفوتهم الفرض ولا سيما فرض لا يقضى على وجهه وهذا معدوم في صلاة العيد.
الثاني: أن صلاة الجمعة هي صلاة الظهر حقيقة وإما قصرت بشرائط منها الخطبتان والشرائط لا تتأخر وتتعذر مقارنة هذا الشرط للمشروط الذي هو الصلاة فلزم تقديمه وليس هذا المعنى في صلاة العيد إذ ليست مقصورة على شيء آخر بشرط حتى يلزم تقديم ذلك الشرط.
2 - عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأضحى بعد الصلاة فقال: "من صلى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب النسك ومن نسك قبل الصلاة فلا نسك له", فقال أبو بردة بن نيار خال البراء بن عازب: يا رسول الله إني نسكت شاتي قبل الصلاة وعرفت أن اليوم يوم أكل وشرب وأحببت أن تكون شاتي أول ما يذبح في بيتي فذبحت شاتي وتغذيت قبل أن آتي الصلاة فقال: "شاتك شاة لحم" قال: يا رسول الله فإن عندنا عناقا هي أحب إلي من شاتين أفتجزي عني؟ قال: "نعم ولن تجزي عن أحد بعدك" 2.
ـــــــ
1 البخاري "963" ومسلم "888".
2 البخاري "955" واللفظ له وأخرجه مسلم "1961" بألفاظ متقاربة.(1/229)
البراء بن عازب بن الحرث بن عدي أبو عمارة ويقال: أبو عمر أنصاري أوسي نزل الكوفة ومات بها في زمن مصعب بن الزبير متفق على إخراج حديثه.
وأبو بردة بن نيار اسمه هاني بن نيار وقيل: هاني بن عمرو وقيل: الحرث بن عمر وقيل: مالك بن زهير ولم يختلفوا أنه من بلي وينسبونه: هانئ بن عمرو بن نيار كان عقبيا بدريا شهد العقبة الثانية مع السبعين في قول جماعة من أهل السير وقال الواقدي: أنه توفي في أول خلافة معاوية.
والحديث دليل على خطبة لعيد الأضحى ولا خلاف فيه وكذلك هو دليل على تقديم الصلاة عليها كما قدمناه.
والنسك هنا يراد به الذبيحة وقد يستعمل فيها كثيرا واستعملها بعض الفقهاء في نوع خاص هو الدماء المراقة في الحج وقد يستعمل فيما هو أعم من ذلك من نوع العبادات ومنه يقال: فلان ناسك: أي متعبد.
وقوله: "من صلى صلاتنا ونسك نسكنا" أي مثل صلاتنا ومثل نسكنا وقوله فقد أصاب النسك معناه - والله أعلم - فقد أصاب مشروعية النسك أو ما قارب ذلك.
وقوله: "من نسك قبل الصلاة فلا نسك له" يقتضي أ ما ذبح قبل الصلاة لا يقع مجزيا عن الأضحية ولا شك أن الظاهر من اللفظ أن المراد قبل فعل الصلاة فإن أطلق لفظ الصلاة وإرادة وقتها خلاف الظاهر ومذهب الشافعي اعتبر وقت الصلاة ووقت الخطبتين فإذا مضى ذلك دخل وقت الأضحية ومذهب غيره اعتبار فعل الصلاة والخطبتين وقد ذكرنا أنه الظاهر.
ولعل منشأ النظر في هذا أن أن الألف واللام هل يراد بها تعريف الحقيقة؟ فإذا أراد بها تعريف الحقيقة جاز ما قاله غير غير الشافعي وإذا أراد به تعريف العهد انصرف إلى صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ولا يمكن اعتبار حقيقة ذلك الفعل في حق من ذبح بعد تلك الصالة في غير ذلك الوقت فتعين اعتبار مقدار وقتها والحديث نص على اعتبار الصلاة ولم يتعرض لاعتبار الخطبتين لكنه لما كانت الخطبتين مقصودتين في هذه العبادة اعتبرهما الشافعي.
وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: "شاتك شاة لحم" دلالة على إبطال كونها نسكا. وفيه دليل على أن المأمورات إذا وقع على خلاف مقتضى الأمر لم يعذر فيها بالجهل وقد فرقوا في ذلك بين المأمورات والمنهيات فعذروا في المنهيات بالنسيان والجهل كما جاء في حديث معاوية بن الحكم حين تكلم في الصلاة وفرق بينهما بان المقصود من المأمورات إقامة مصالحها وذلك لا يحصل إلا بفعلها والمنهيات مزجور عنها بسبب مفاسدها امتحانا للمكلف بالانكفاف عنها وذلك إنما يكون بالتعمد لارتكابها ومع النسيان والجهل لم يقصد المكلف ارتكاب المنهي فعذر بالجهل فيه.(1/230)
قوله: "ولن تجزي عن أحد بعدك" الذي اختير فيه فتح التاء بمعنى تقضي يقال: جزى عني كذا أي: قضى وذلك أن الذي فعله لم يقع نسكا فالذي يأتي بعده لا يكون قضاء عنه.
وقد صرح بالحديث تخصيص أبي بردة بإجزائها في هذا الحكم عما سبق ذبحه فامتنع قياس غيره عليه.
3 - عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر ثم خطب ثم ذبح وقال: "من ذبح قبل أن يصلي فليذبح أخرى مكانها ومن لم يذبح فليذبح باسم الله" 1.
جندب بن عبد الله بن سفيان بجلي من بجيلة علقي وهو حي من بجيلة يقال: فيه جندب بن سفيان متفق على إخراج حديثه يقال: مات سنة أربع وستين.
والحديث الذي رواه في معنى الحديث الذي قبله وهو أدخل في الظهور في اعتبار فعل الصلاة من الأول من حيث أن الأول اقتضى تعليق الحكم بلفظ الصلاة وقد قلنا أنه يحتمل أن تكون الألف واللام للعهد فينصرف إلى صلة النبي صلى الله عليه وسلم فيتعين وقتها وهذا المعنى معدوم في هذا الحديث لم يعلق فيه الحكم بلفظ فيه الألف واللام حتى يأتي فيه ذلك البحث إلا أنه إن جرينا على ظاهره اقتضى أنه لا تجزى الأضحية في حق من لم يصل صلاة العيد أصلا فإن ذهب إليه أحد فهو أسعد الناس بظاهر هذا الحديث وإلا فالواجب الخروج عن الظاهر في هذه الصورة ويبقى ما عداها بعد الخروج عن الظاهر في محل البحث.
وقد يستدل بصيغة الأمر في قوله عليه السلام: "فليذبح أخرى" إحدى طائفتين: إما من يرى الأضحية واجبة وإما من يرى أنها تتعين بالشراء بنية الأضحية أو بغير ذلك من غير اعتبار لفظ في التعيين وإنما قلت ذلك لأن اللفظ المعين للأضحية من صيغة النذر أو غيرها قليل نادر وصيغة من في قوله: "من ذبح" صيغة عموم واستغراق في حق كل من ذبح قبل أن يصلي فقد ذكرت لتأسيس القواعد على الصورة النادرة أمر مستكره على ما قرر من قواعد التأويل في أصول الفقه فإذا تقرر هذا - وهو استعاد حمله على الأضحية المعينة بالنذر أو غيره من الألفاظ - يبقى التردد في أن الأولى حمله على من سبق له أضحية معينة بغير اللفظ أو حمله على ابتداء الأضحية من غير سبق تعيين.
4 - عن جابر رضي الله عنه قال: "شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم العيد فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بلا أذان ولا إقامة ثم قام متوكئا على بلال فأمر بتقوى الله تعالى,
ـــــــ
1 البخاري "985" ومسلم "1960".(1/231)
وحث على طاعته ووعظ الناس وذكرهم ثم مضى حتى أتى النساء فوعظهن وذكرهن وقال: "يا معشر النساء تصدقن فإنكن أكثر حطب جهنم", فقامت أمراة من سطة النساء سفعاء الخدين فقالت: لم يا رسول الله؟ فقال: "لأنكن تكثرن الشكاة وتكفرن العشير", قال: فجعلن يتصدقن من حليهن يلقين في ثوب بلال من أقراطهن وخواتيمهن"1.
أما البداءة بالصلاة قبل الخطبة فقد ذكرناه وأما عدم الأذان والإقامة لصلاة العيد: فمتفق عليه وكأن سببه تخصيص الفرائض بالأذان تمييزا لها بذلك عن النوافل وإظهارا لشرفها وأشار بعضهم إلى معنى آخر وهو أنه لو دعا النبي صلى الله عليه وسلم إليها لوجبت الإجابة وذلك مناف لعدم وجوبها وهذا حسن بالنسبة إلى من يرى أن صلاة الجماعة فرض على الأعيان.
وهذه المقاصد التي ذكرها الراوي - من الأمر بتقوى الله والحث على طاعته والموعظة والتذكير -: هي مقاصد الخطبة وقد عد بعض الفقهاء من أركان الخطبة الواجبة: الأمر بتقوى الله وبعضهم: جعل الواجب: ما يسمى خطبة عند العرب وما يتأدى به الواجب في الخطبة الواجبة تتأدى به السنة في الخطبة المسنونة.
وقوله عليه السلام: "تصدقن فإنكن حطب جهنم" فيه إشارة إلى أن الصدقة من الدوافع للعذاب وفيه إشارة إلى الإغلاظ في النصح بما لعله يبعث إلى إزالة العيب أو الذنب اللذين يتصف بهما الإنسان.
وفيه أيضا: العناية بذكر ما تشتد الحاجة إليه من المخاطبين وفيه بذل النصيحة لمن يحتاج إليها.
وقوله: "فقامت امرأة من سطة النساء" فيه لهم وجهان.
أحدهما: ما ذهب إليه بعض الفضلاء الأدباء من الأندلسيين: إنه تغيير أي تصحيف من الراوي كأن الأصل: من سفلة النساء فاختلطت الفاء باللام فصارت طاء ويؤيد هذا: أنه ورد في كتاب ابن أبي شيبة والنسائي: "من سفلة النساء" وفي رواية أخرى: "فقامت امرأة من غير علية النساء".
الوجه الثاني: تقرير اللفظ على الصحة وهو أن تكون اللفظة أصلها من الوسط الذي هو الخيار وبهذا فسره بعضهم من علية النساء وخيارهن وعن بعض الرواة: "من واسطة النساء".
وقوله: "سعفاء الخد" الأسعف والسعفاء: من أصاب خده لون يخالف لونه الأصلي من سواد أو خضرة أو غيرهما.
وتعليله صلى الله عليه وسلم بالشكاة وكفران العشير: دليل على تحريم كفران النعمة لأنه جعله سببا لدخول
ـــــــ
1 البخاري "978" ومسلم "885" "5" واللفظ له.(1/232)
النار وهذا السبب في الشكاية يجوز أن يكون راجعا إلى ما يتعلق بالزوج وجحد حقه ويجوز أن يكون راجعا إلى ما يتعلق بحق الله من عدم شكره والاستكانة لقضائه: وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد ذكر ذلك في حق من هذا ذنبه فكيف بمن له منهن ذنوب أكثر من ذلك كترك الصلاة والقذف؟.
وأخذ الصوفية من هذا الحديث: الطلب للفقراء عند الحاجة من الأغنياء وهذا حسن بهذا الشرط الذي ذكرناه.
وفي مبادرة النساء لذلك والبذل لما لعلهن يحتجن إليه - مع ضيق الحال في ذلك الزمان - ما يدل على رفيع مقامهن في الدين وامتثال أمر الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد يؤخذ منه: جواز تصدق المرأة من مالها في الجملة ومن أجاز التصدق مطلقا من غير تقييد بمقدار معين فلا بد له من أمر زائد على هذا يقرر به العموم في جواز الصدقة وكذا من خصص بمقدار معين.
5 - عن أم عطية - نسيبة الأنصارية - قالت: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرج في العيدين العواتق وذوات الخدور وأمر الحيض أن يعتزلن مصلى المسلمين"1.
وفي لفظ: "كنا نؤمر أن نخرج يوم العيد حتى نخرج البكر من خدرها حتى تخرج الحيض فيكبرن بتكبيرهم ويدعون بدعائهم يرجون بركة ذلك اليوم وطهرته"2.
نسيبة بضم النون وفتح السين المهملة بعدها ياء ساكنة آخر الحروف ثم باء ثاني الحروف وقيل: نبيشة - بنون وباء وشين معجمة - واختلف في اسم أبيها فقيل: نسيبة بنت الحرث وقيل: نسيبة بنت كعب قاله أحمد ويحيى قال أبو عمر وفي هذا نظر يعني في كون اسمها: نسيبة بنت كعب.
و"العواتق" جمع عاتق قيل: هي الجارية حيت تدرك.
والمقصود بذلك: بيان المبالغة في الاجتماع وإظهار الشعار وقد كان ذلك الوقت أهل الإسلام في حيز القلة فاحتيج إلى المبالغة بإخراج العواتق وذوات الخدور.
وفيه إشارة إلى أن البروز إلى المصلى هو سنة العيد واعتزال الحيض ليس بتحريم حضورهن فيه إذا لم يكن مسجدا بل إما مبالغة في التنزيه لمحل العبادة في وقتها على سبيل الاستحسان أو لكراهة جلوس من لا يصلي مع المصلين في محل واحد في حال إقامة الصلاة كما جاء: "ما منعك أن تصلي مع الناس ألست برجل مسلم؟" 3.
ـــــــ
1 البخاري "324" ومسلم "890".
2 البخاري "971".
3 مالك "1/114" والنسائي "858" من حديث محجن بن أبي محجن الديلمي.(1/233)
وقولها في الرواية الأخرى: "يرجون بركة ذلك اليوم وطهرته" يشعر بتعليل خروجهن لهذه العلة والفقهاء - أو بعضهم - يستثني خروج الشابة التي يخاف من خروجها الفتنة.(1/234)
21 - باب صلاة الكسوف.
1 - عن عائشة رضي الله عنها: "أن الشمس خسفت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث مناديا ينادي: الصلاة جامعة فاجتمعوا وتقدم فكبر وصلى أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات"1.
الكلام عليه من وجوه:
أحدها: قولها: "خسفت الشمس" يقال بفتح الخاء والسين ويقال: خسفت على صيغة ما لم يسم فاعله.
واختلف الناس في الخسوف والكسوف بالنسبة إلى الشمس والقمر فقيل: الخسوف للشمس والكسوف للقمر وهذا لا يصح لأن الله تعالى أطلق الخسوف على القمر وقيل: بالعكس وقيل: هما بمعنى واحد ويشهد لهذا: اختلاف الألفاظ في الأحاديث فأطلق فيهما الخسوف والكسوف معا في محل واحد وقيل: الكسوف ذهاب النور بالكلية والخسوف: التغير أعني تغير اللون.
الثاني: صلاة الكسوف سنة مؤكدة بالاتفاق أعني كسوف الشمس دليله: فعل الرسول صلى الله عليه وسلم لها وجمعه الناس مظهرا لذلك وهذه إمارات الاعتناء والتأكيد وأما كسوف القمر: فتردد فيها مذهب مالك وأصحابه ولم يلحقها بكسوف الشمس في قول.
الثالث: لا يؤذن لصلاة الكسوف اتفاقا والحديث يدل على أنه ينادى لها الصلاة جامعة وهي حجة لمن استحب ذلك.
الرابع: سنتها الاجتماع للحديث المذكور.
وقد اختلف الأحاديث في كيفيتها: واختلف العلماء في ذلك فالذي اختاره مالك والشافعي رحمهما الله: ما دل عليه حديث عائشة وابن عباس من أنها ركعتان في كل ركعة قيامان وركوعان وسجودان وقد صح غير ذلك أيضا وهو ثلاث ركعات وأربع ركعات في كل ركعة وقيل: في ترجيح مذهب مالك والشافعي: إن ذلك أصح الروايات؟.
والحديث صريح في الرد على من قال: بأنها ركعتان كسائر النوافل واعتذروا عن الحديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع رأسه ليختبر حال الشمس هل انجلت أم لا؟ فلما لم يرها انجلت ركع.
وفي هذا التأويل ضعف إذا قلنا: إن سنتها ركعتان كسائر النوافل لكن قال بعض
ـــــــ
1 البخاري "1066" ومسلم "901" "4".(1/234)
العلماء: إنه يرفع رأسه بعد الركوع فإن رأى الشمس لم تنجل ركع ثم يرفع رأسه ويختبر أمر الشمس فإن لم تنجل ركع ويزيد الركوع هكذا ما لم تنجل فإذا انجلت سجد ولعله قصد بذلك العلم بالأحاديث التي فيها أكثر من ركوعين في ركعة ثلاث وأربع وخمس وهذا على هذا المذهب: أقرب من تأويل المتقدمين لأنه يجعل سنة صلاة الكسوف ذلك ويكون الفعل مبينا لسنة هذه الصلاة.
وعلى مذهب الأولين يريدون أن يخرجوا فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في العبادات عن المشروعية مع مخالفتهم للقياس في زيادة ما ليس من الأفعال المشروعة في الصلاة وقد أطلق في الحديث لفظ ركعات على الركوع.
2 - عن أبي مسعود - عقبة بن عمرو الأنصاري البدري - رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده وإنهما لا ينخسفان لموت أحد من الناس فإذا رأيتم منها شيئا فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم" 1.
في الحديث رد على اعتقاد أهل الجاهلية في أن الشمس تكسفان لموت العظماء وفي قوله عليه السلام: "يخوف الله بهما عباده" إشارة إلى أنه ينبغي الخوف عند وقوع التغيرات العلوية.
وقد ذكر أصحاب الحساب لكسوف الشمس والقمر أسبابا عادية وربما يعتقد معتقد أن ذلك ينافي قوله عليه السلام: "يخوف الله بهما عباده" وهذا الاعتقاد فاسد لأن لله تعالى أفعالا على حسب الأسباب العادية وأفعالا خارجة عن تلك الأسباب فإن قدرته تعالى حاكمة على كل سبب ومسبب فيقطع ما شاء من الأسباب والمسببات بعضها عن بعض فإذا كان ذلك كذلك فأصحاب المراقبة لله تعالى ولأفعاله الذين عقدوا أبصار قلوبهم بوحدانية وعموم قدرته على خرق العادة واقتطاع المسببات عن أسبابها إذا وقع شيء غريب حدث عندهم الخوف لقوة اعتقادهم في فعل الله تعالى ما شاء وذلك لا يمنع أن يكون ثمة أسباب تجري عليها العادة إلى أن يشاء الله تعالى خرقها ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم عند اشتداد هبوب الريح: "يتغير ويدخل ويخرج" خشية أن تكون كريح عاد2 وإن كان هبوب الريح موجودا في العادة.
والمقصود بهذا الكلام أن يعلم أن ما ذكره أهل الحساب من سبب الكسوف: لا ينافي.
ـــــــ
1 البخاري "1041" ومسلم "911" واللفظ له.
2 البخاري "3206" ومسلم "899" عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى مخيلة في السماء أقبل وأدبر ودخل وخرج وتغير وجهه فإذا أمطر سري عنه فعرفته عائشة ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أدري لعله كما قال قوم" : {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} [الاحقاف: 24].(1/235)
كون ذلك مخوفا لعباد الله تعالى وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا الكلام لأن الكسوف كان عند موت ابنه إبراهيم فقيل: إنهما إنما كسفت لموت إبراهيم فرد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك.
وقد ذكروا: أنها إذا صليت صلاة الكسوف على الوجه المذكور ولم تنجل الشمس: إنها لا تعاد على تلك الصفة وليس في قوله: "فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم" ما يدل على خلاف هذا لوجهين.
أحدهما: أنه أمر بمطلق الصلاة لا بالصلاة على هذا الوجه المخصوص ومطلق الصلاة سائغ إلى حين الانجلاء.
الثاني: لو سلما أن المراد الصلاة الموصوفة بالوصف المذكور: لكان لنا أن نجعل هذه الغاية لمجموع الأمرين - أعني الصلاة والدعاء - ولا يلزم من كونهما غاية لمجموع الأمرين: أن تكون غاية لكل واحد منهما على انفراده فجاز أن يكون الدعاء ممتدا إلى غاية الانجلاء بعد الصلاة على الوجه المخصوص مرة واحة ويكون غاية للمجموع.
3 - عن عائشة رضي الله عنها: أنها قالت: خسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس فأطال القيام ثم ركع فأطال الركوع ثم قام فأطال القيام - وهو دون القيام الأول - ثم ركع فأطال الركوع - وهو دون الركوع الأول - ثم سجد فأطال السجود ثم فعل في الركعة الأخرى مثل ما فعل في الركعة الأولى ثم انصرف وقد تجلت الشمس فخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وصلوا وتصدقوا", ثم قال: "يا أمة محمد والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته يا أمة محمد والله لا تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا" 1.
وفي لفظ: "فاستكمل أربع ركعات وأربع سجدات"2.
الكلام عليه من وجوه:
أحدها: ما يتعلق بلفظ الخسوف بالنسبة إلى الشمس وإقامة هذه الصلاة في جماعة وقد تقدم.
الثاني: قولها: "فأطال القيام" لم نجد فيه حدا وقد ذكروا أنه نحوا من سورة البقرة لحديث آخر ورد فيه.
ـــــــ
1 البخاري "1044" ومسلم "901".
2 مسلم "901" "3".(1/236)
وقولها: "فأطال الركوع" لم نجد فيه حدا وذكر أصحاب الشافعي: أنه نحوا من مائة آية واختار غيرهم عدم التحديد إلا بما لايضر بمن خلفه.
وقولها: "ثم أطال القيام وهو دون القيام الأول" يقتضي أن سنة هذه الصلاة: تقصير القيام الثاني عن الأول وقد تقدم قول من استحب ذلك في جميع الصلوات وكأن السبب فيه: أن النشاط في الركعة الأولى يكون أكثر فيناسب التخفيف في الثانية حذرا من الملال والفقهاء اتفقوا على القراءة في هذا القيام الثاني - أعني الذين قالوا بهذه الكيفية في صلاة الكسوف - وجمهورهم على قراءة الفاتحة فيه إلا بعض أصحاب مالك كأنه رآها ركعة واحدة زيد فيها ركوع والركعة الواحدة لا تثنى الفاتحة فيها وهذا يمكن أن يؤخذ من الحديث على ما سننبه عليه في مواضعه.
الثالث: قولها: "ثم سجد فأطال السجود" يقتضي طول السجود في هذه الصلاة وظاهر مذهب الشافعي أنه لا يطول السجود فيها وذكر الشيخ أبو إسحاق الشيرازي عن أبي العباس بن سريج أنه يطيل السجود كما يطيل الركوع ثم قال: وليس بشيء لأن الشافعي لم يذكر ذلك ولا نقل ذلك في خبر ولو كان قد أطال لنقل كما في القراءة والركوع.
قلنا: بل نقل ذلك في أخبار منها حديث عائشة رضي الله عنها هذا وفي حديث آخر عنها أنها قالت ما سجد سجودا أطول منه1 وكذلك نقل تطويله في حديث أبي موسى2 وجابر بن عبد الله3.
الرابع: قولها: "ثم فعل في الركعة الثانية مثلما فعل في الركعة الأولى" وقد حكمت في الركعة الأولى أن القيام الثاني دون القيام الأول وأن الركوع الثاني دون الركوع الأول ومقتضى هذا التشبيه أن يكون القيام الثاني دون القيام الأول وأن الركوع الثاني دون الركوع الأول ولكن هل يراد بالقيام الأول: الأول من الركعة الأولى أو الأول من الركعة الثانية؟ وكذلك في الركوع إذا قلنا دون الركوع الأول هل يراد به الأول من الركعة الأولى أو الأول من الركعة الثانية؟ تكلموا فيه وقد رجح أن المراد بالقيام الأول الأول من الركعة الثانية والركوع الأول: الأول من الثانية أيضا فيكون كل قيام وركوع دون الذي يليه.
ـــــــ
1 لم نجده بهذا اللفظ عن عائشة وقد أخرج مسلم "910" عن عائشة قولها في صلاة الكسوف ما ركعت ركوعا قط ولا سجدت سجود سجودا قط كان أطول منه.
2 البخاري "1059" ومسلم "912" وفيه فأتى المسجد فصلى بأطول قيام وركوع وسجود ما رأيته قط يفعله.
3 مسلم "904" وفيه فأطال القيام حتى جعلوا يخرون ثم ركع فأطال ثم رفع فأطال.(1/237)
الخامس: قولها: "فخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه" ظاهر في الدلالة على أن لصلاة الكسوف خطبة ولم ير ذلك مالك ولا أبو حنيفة قال بعض أتباع مالك: ولا خطبة ولكن ويذكرهم وهذا خلاف الظاهر من الحديث ولا سيما بعد أن ثبت أنه ابتدأ بما تبتدئ به الخطبة من حمد الله والثناء عليه والذي ذكر من العذر عن مخالفة هذا الظاهر ضعيف مثل قولهم إن المقصود إنما كان الإخبار أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته للرد على من قال ذلك في موت إبراهيم والإخبار بما رآه من الجنة والنار وذلك يخصه وإنما استضعفناه لأن الخطبة لا تنحصر مقاصدها في شيء معين بعد الآيتين بما هو مطلوب منها من الحمد والثناء والموعظة وقد يكون بعض هذه الأمور داخلا في مقاصدها مثل ذكر الجنة والنار وكونهما من آيات الله بل هو كذلك جزما.
السادس: قوله: "فإذا رأيتم فادعوا الله وكبروا وصلوا وتصدقوا" اختلف الفقهاء في وقت صلاة الكسوف فقيل: هو ما يعد حل النافلة إلى الزوال وهو ظاهر مذهب مالك أو أصحابه وقيل: إلى ما بعد صلاة العصر وهو في المذهب أيضا وقيل: جميع النهار وهو مذهب الشافعي ويستدل بهذا الحديث فإنه أمر بالصلاة إذا رأى ذلك وهو عام في كل وقت وفي الحديث دليل على استحباب الصدقة عند المخاوف لاستدفاع البلاء المحذور.
السابع: قوله: "ما من أحد أغير من الله من أن يزن يعبده أو تزني أمته" المنزهون لله تعالى عن سمات الحدث ومشابهة المخلوقين بين رجلين إما ساكت عن التأويل وإما مؤول على أن يريد شدة المنع والحماية من الشيء لأن الغائر على الشيء مانع له وحام منه فالمنع والحماية من لوازم الغيرة فأطلق لفظ الغيرة عليهما من مجاز الملازمة أو على غير ذلك من الوجوه السائغة في لسان العرب والأمر في التأويل وعدمه في هذا قريب عند من يسلم التنزيه فإنه حكم شرعي أعني الجواز وعدمه ويؤخذ كما تؤخذ سائر الأحكام إلا أن يدعي المدعي أن هذا الحكم ثبت بالتواتر عن صاحب الشرع أعني المنع من التأويل ثبوتا قطعيا فخصمه يقابله حينئذ بالمنع الصريح وقد يتعدى بعض خصومه إلى التكذيب القبيح.
الثامن: قوله: "و الله لو تعلمون ما أعلم .." الخ فيه دليل على ترجيح مقتضى الخوف وترجيح التخويف في المواعظ على الإشاعة بالرخص لما ف يذلك من التسبب إلى تسامح النفوس لما جبلت عليه من الإخلاد إلى الشهوات وذلك مرض خطر والطبيب الحاذق يقابل العلة بضدها لا بما يزيدها.
التاسع: قوله في لفظ: "فاستكمل أربع ركعات وأربع سجدات" أطلق الركعات على عدد الركوع وجاء في موضع آخر في ركعتين وهذا الذي أشرنا إليه: أنه متمسك من قال من.(1/238)
أصحاب مالك أنه لا يقرأ الفاتحة في الركوع الثاني من حيث أنه أطلق على الصلاة ركعتين والله أعلم.
4 - عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: خسفت الشمس على زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام فزعا يخشى أن تكون الساعة حتى أتى المسجد فقام فصلى بأطول قيام وسجود ما رأيته يفعله في صلاته قط ثم قال: "إن هذه الآيات التي يرسلها الله عز وجل لا تكون لموت أحد ولا لحياته ولكن الله يرسلها يخوف بها عباده فإذا رأيتم منها شيئا فافزعوا إلى ذكر الله ودعائه واستغفاره" 1.
استعمل الخسوف في الشمس كما تقدم.
وقوله: "فزعا يخشى أن تكون الساعة" فيه إشارة إلى ما ذكرنا من دوام المراقبة لفعل الله وتجريد الأسباب العادية عن تأثيرها لمسبباتها.
و فيه دليل على جواز الإخبار بما يوجب الظن من شاهد الحال حيث قال: فزعا يخشى أن تكون الساعة مع أن الفزع محتمل أن يكون لذلك ومحتمل أن يكون لغيره كما خشي صلى الله عليه وسلم من الريح أن تكون كريح قوم عاد ولم يخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه كان سبب خوفه فالظاهر أنه بنى على شاهد الحال أو قرينة دلت عليه.
وفي قوله كأطول قيام وركوع وسجود دليل على تطويل السجود في هذه الصلاة وهو الذي قدمنا أن أبا موسى رواه.
وفي الحديث دليل على أن سنة صلاة الكسوف في المسجد و قوله: "كأطول قيام وركوع وسجود" دليل على تطويله السجود في هذه الصلاة وهو الذي قدمنا أن أبا موسى رواه وفي الحديث دليل على أن سنة صلاة الكسوف في المسجد وهو المشهور عن العلماء وخير بعض أصحاب مالك بين المسجد والصحراء والصواب المشهور: الأول فإن هذه الصلاة تنتهي بالانجلاء وذلك مقتض لأن يعتنى بمعرفة ومراقبة حال الشمس في الانجلاء فلولا أن المسجد راجح لكانت الصحراء أولى لأنها أقرب إلى إدراك حال الشمس في الانجلاء أو عدمه وأيضا فإنه يخاف من تأخيرها فوات إقامتها بأن يشرع الانجلاء قبل اجتماع الناس وبروزهم.
وقد تقدم الكلام على قوله عليه السلام: "لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته" وأنه رد على من اعتقد ذلك.
و في قوله: "فافزعوا" إشارة إلى المبادرة إلى ما أمر به وتنبيه على الالتجاء إلى الله تعالى عند المخاوف بالدعاء والاستغفار وإشارة إلى أن الذنوب سبب للبلايا والعقوبات العاجلة أيضا وأن الاستغفار والتوبة سببان للمحو يرجى بهما زوال المخاوف.
ـــــــ
1 البخاري "1059" ومسلم "912".(1/239)
22 - باب الاستسقاء.
1 - عن عبد الله بن زيد بن عاصم المازني قال: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي فتوجه إلى القبلة يدعو وحول ردائه ثم صلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة"1.
وفي لفظ: "إلى المصلى"2.
فيه دليل على استحباب الصلاة للاستسقاء وهو مذهب جمهور الفقهاء وعند أبي حنيفة لا يصلى للاستسقاء ولكن يدعى وخالفه أصحابه فوافقوا الجماعة وقالوا تصلى فيه ركعتان بجماعة واستدل لأبي حنيفة باستسقاء النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر يوم الجمعة ولم يصل للاستسقاء قالوا: لو كانت سنة لما تركها.
وفيه دليل على أن سنة الاستسقاء البروز إلى المصلى.
و فيه دليل على استحباب تحويل الرداء في هذه العبادة وخالف أبو حنيفة في ذلك وقيل: أن سبب التحويل التفاؤل بتغيير الحال وقال من احتج لأبي حنيفة إنما قلب رداءه ليكون أثبت على عاتقه عند رفع اليدين في الدعاء أو عرف من طريق الوحي تغير الحال عند تغيير رداءه.
قلنا: القلب من جهة إلى أخرى أو من ظهر إلى بطن لا يقتضي الثبوت على العاتق بل أي حالة اقتضت الثبوت أو عدمه في إحدى الجهتين وهو موجود في الأخرى وإن كان قد قرب من السقوط في تلك الحال فيمكن أن يثبته من غير قلب والأصل عدم ما ذكر من نزول الوحي تغيير الحال عند تغيير الرداء والاتباع لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى من تركه لمجرد احتمال الخصوص مع ما عرف في الشرع من محبة التفاؤل.
وفيه دليل على تقديم الدعاء على الصلاة ولم يصرح بلفظ الخطبة والخطبة عند مالك والشافعي بعد الصلاة وفي حديث عن أبي هريرة يقتضيه3.
وفيه دليل على استقبال القبلة عند الدعاء مطلقا.
وفيه دليل على الجهر في هذه الصلاة والتحويل المذكور في الحديث يكتفي في تحصيل مسماه بمجرد القلب من اليمين إلى اليسار والله أعلم.
2 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه: "أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة من باب كان نحو دار القضاء4 ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما ثم.
ـــــــ
1 البخاري "1024" ومسلم "894".
2 البخاري "1027" ومسلم "894".
3 فيما رواه أحمد "8327" وقال محققوه صحيح لغيره.
4 وهي دار كانت لسيدنا عمر في غرب المسجد النبوي سميت دار القضاء لكونها بيعت بعد وفاته في قضاء دينه وقد عرف الباب الذي دخل منه الرجل بباب الرحمة.(1/240)
قال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله تعالى يغيثنا قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال: "اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا" قال أنس: فلا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل النرس فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت قال: فلا والله ما رأينا الشمس سبتا قال: ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب الناس فاستقبله قائما فقال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله أن يمسكها عنا قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال: "اللهم حوالينا ولا علينا اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر", قال: فأقلعت وخرجنا نمشي في الشمس قال شريك: فسألت أنس بن مالك أهو الرجل الأول؟ قال: لا أدري"1.
قال رحمه الله: الظراب: الجبال الصغار2.
هذا هو الحديث الذي أشرنا إليه أنه استدل به لأبي حنيفة في ترك الصلاة والذي دل على الصلاة واستحبابها لا ينافي أن يقع مجرد الدعاء في حالة أخرى وإنما كان هذا الذي جرى في الجمعة مجرد دعاء وهو مشروع حيثما احتيج إليه ولا ينافي شرعية الصلاة في حالة أخرى إذا اشتدت الحاجة إليها.
وفي الحديث علم من أعلام النبوة في إجابة الله تعالى دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عقيبه أو معه وأراد بالأموال: الأموال الحيوانية لأنها التي يؤثر فيها انقطاع المطر بخلاف الأموال الصامتة.
والسبل الطرق وانقطاعها إما بعدم المياه التي يعتاد المسافر ورودها وإما باشتغال الناس وشدة القحط عن الضرب في الأرض.
وفيه دليل على استحباب رفع اليدين في دعاء الاستسقاء فمن الناس من عداه إلى كل دعاء ومنهم من لم يعده لحديث عن أنس يقتضي ظاهره عدم عموم الرفع لما عدا الاستسقاء وفي حديث آخر استثناء ثلاثة مواضع منها الاستسقاء ورؤية البيت وقد أول ذلك على أن يكون المراد رفعا تاما في هذه المواضع وفي غيرها دونه بدليل أنه صح رفع اليدين عنه صلى الله عليه وسلم في غير تلك المواضع وصنف في ذلك شيخنا أبو محمد المنذري رحمه الله جزءا قرأته عليه.
والقزع: سحاب متفرق والقزعة واحدتها ومنها أخذ القزع في الرأس وهو أن يحلق بعض رأس الصبي ويترك بعضه وسلع: جبل عند المدينة.
ـــــــ
1 البخاري "1013" "1014" ومسلم "897".
2 راجع القاموس ظرب.(1/241)
وقوله ما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار تأكيد لقوله وما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة لأنه أخبر أن السحابة طلعت من وراء سلع فلو كان بينهم وبينها لأمكن أن تكون القزعة موجودة لكن حال بينهم وبين رؤيتهم ما بينهم وبين السلع من دار لو كانت.
و قوله ما رأينا الشمس سبتا أي جمعة وقد بين في رواية أخرى.
وقوله في الجمعة الثانية هلكت الأموال أي بكثرة المطر وفيه دليل على الدعاء لإمساك ضرر المطر كما استحب الدعاء لنزوله عند انقطاعه فإن الكل مضر.
والآكام: جمع أكم كأعناق جمع عنق والأكم جمع إكام مثل كتب جمع كتاب والإكام جمع أكم مثل جبال جمع جبل والأكم والأكمات جمع الأكمة وهي التل المرتفع من الأرض والظراب جمع ظرب بفتح الظاء وكسر الراء وهي صغار الجبال.
و قوله: "بطون الأودية ومنابت الشجر" طلب لما يحصل المنفعة ويدفع المضرة وقوله وخرجنا نمشي في الشمس علم آخر من أعلام النبوة في الاستصحاء كما سبق مثله في الاستسقاء والله أعلم.(1/242)
23 - باب صلاة الخوف.
1 - عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنا صلاة الحوف في بعض أيامه فقامت طائفة معه وطائفة بإزاء العدو فصلى بالذين معه ركعة ثم ذهبوا وجاء الآخرون فصلى بهم ركعة وقضت الطائفتان ركعة ركعة"1.
جمهور العلماء على بقاء حكم صلاة الخوف في زماننا كما صلاها النبي صلى الله عليه وسلم في زمنه ونقل عن أبي يوسف خلافه أخذ من قوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ} [النساء: 102] وذلك يقتضي تخصيصه بوجوده فيهم وقد يؤيد هذا بأنها صلاة على خلاف المعتاد وفيها أفعال منفية فيجوز أن تكون المسامحة فيها بسبب فضيلة إمامة الرسول صلى الله عليه وسلم والجمهور يدل على مذهبهم دليل التأسي بالرسول صلى الله عليه وسلم والمخالفة المذكورة لأجل الضرورة وهي موجودة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم كما هي موجودة في زمنه ثم الضرورة تدعو إلى أن لا يخرج وقت الصلاة عن أدائها وذلك يقتضي إقامتها على خلاف المعتاد مطلقا أعني في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وبعده فإذا ثبت جوازها بعد الرسول على الوجه الذي فعله فقد وردت عنه صلى الله عليه وسلم فيها وجوه مختلفة في كيفية أدائها تزيد عن العشرة فمن الناس من أجاز الكل واعتقد أنه عمل بالكل وذلك إذا ثبت أنها وقائع مختلفة قول محتمل ومن الفقهاء من رجح بعض الصفات المنقولة. فأبو حنيفة ذهب.
ـــــــ
1 البخاري "942" ومسلم "839" "306" واللفظ له.(1/242)
إلى حديث ابن عمر هذا إلا أنه قال أنه بعد سلام الإمام تأتي الطائفة الأولى إلى موضع الإمام فتقضي ثم تذهب ثم تأتي إلى الطائفة الثانية إلى موضع الإمام فتقضي ثم تذهب وقد أنكرت عليه هذه الزيادة وقيل أنها لم ترد في حديث.
واختار الشافعي رواية صالح بن خدوات1 عمن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف واختلف أصحابه لو صلى على رواية ابن عمر هل تصح صلاته أم لا؟ فقيل: أنها صحيحة لصحة الرواية وترجيح رواية صالح من باب الأولى.
و اختار مالك ترجيح الصفة التي ذكرها سهل بن أبي حثمة2 التي رواها عنه في الموطأ موقوفة3 وهي تخالف الرواية المذكورة في الكتاب في سلام الإمام فإن فيها أن الإمام يسلم وتقضي الطائفة الثانية بعد سلامه.
والفقهاء لما رجح بعضهم بعض الروايات على بعض احتاجوا إلى ذكر سبب الترجيح فتارة يرجحون بموافقة ظاهر القرآن وتارة بكثرة الرواة وتارة يكون بعضها موصولا وبعضها موقوفا وتارة بالموافقة للأصول في غير هذه الصلاة وتارة بالمعاني وهذه الرواية التي اختارها أبو حنيفة توافق الأصول في أن قضاء الطائفتين بعد سلام الإمام وأما ما اختاره الشافعي ففيه قضاء الطائفتين معا قبل سلام الإمام وأما ما اختاره مالك ففيه قضاء إحدى الطائفتين قبل سلام الإمام.
2 - عن يزيد بن رومان عن صالح بن خوات ابن جبير: "عمن صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة ذات الرقاع صلاة الخوف أن طائفة صفت معه وطائفة وجاه العدو فصلى بالذين معه ركعة ثم ثبت قائما وأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا فصفوا وجاه العدو وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت ثم ثبت جالسا وأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم"4.
الرجل الذي صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هو سهل بن أبي حثمة.
هذا الحديث هو مختار الشافعي في صلاة الخوف إذا كان العدو في غير جهة القبلة ومقتضاه أن الإمام ينتظر الطائفة الثانية قائما في الثانية وهذا في الصلاة المقصورة أو الثنائية في أصل الشرع فأما الرباعية فهل ينتظرها قائما في الثالثة أو قبل قيامه؟ فيه اختلاف
ـــــــ
1 قال الحافظ في البقريب ثقة من الرابعة "2852".
2 قال الحافظ في التقريب صحابي صغير "2653".
3 مالك في موطئه "1/142".
4 البخاري "4129" ومسلم "842".(1/243)
للفقهاء في مذهب مالك وإذا قيل بأنه ينتظرها فهل تفارقه الطائفة الأولى قبل تشهده بعد رفعه من السجود أو بعد التشهد؟ واختلف الفقهاء فيه وليس في الحديث دلالة لفظية على أحد المذهبين وإنما يؤخذ بطريق الاستنباط منه.
ومقتضى الحديث أيضا: أن الطائفة الأولى تتم لأنفسها مع بقاء صلاة الإمام وفيه مخالفة للأصول في غير هذه الصلاة لكن فيها ترجيح من جهة المعنى لأنها إذا قضت وتوجهت إلى نحو العدو توجهت فارغة من الشغل بالصلاة فيتوفر مقصود صلاة الخوف وهو الحراسة على الصفة التي اختارها أبو حنيفة: يتوجه الطائفة للحراسة مع كونها في الصلاة فلا يتوفر المقصود من الحراسة فربما أدى الحال إلى أن يقع في الصلاة الضرب والطعن وغير ذلك من منافيات الصلاة ولو وقع في هذه الصورة لكان خارج الصلاة وليس بمحذور.
ومقتضى الحديث أيضا: أن الطائفة الثانية تتم لأنفسها قبل فراغ الإمام وفيه ما في الأول.
ومقتضاه أيضا: أنه يثبت حتى تتم لأنفسها وتسلم وهو اختيار الشافعي وقول في مذهب مالك وظاهر مذهب مالك: أن الإمام يسلم وتقضي الطائفة الثانية بعد سلامه وربما ادعى بعضهم: أن ظاهر القرآن يدل على أن الإمام ينتظرهم ليسلم بهم بناء على أنه فهم من قوله تعالى: {فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} [النساء: 102] أي بقية الصلاة التي بقيت للإمام فإذا سلم من البقية وليس بالقوي الظهور.
وقد يتعلق بلفظ الراوي من يرى أن السلام ليس من الصلاة من حيث إنه قال: "فصلى بهم الركعة التي بقيت" فجعلهم مصلين معه لما يسمى ركعة ثم أتى بلفظ: "ثم ثبت جالسا وأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم" فجعل مسمى السلام متراخيا عن مسمى الركعة إلا أنه ظاهر ضعيف وأقوى منه في الدلالة: ما دل على أن السلام من الصلاة والعمل بأقوى الدليلين متعين والله أعلم.
3 - عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال: "شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف فصففنا صفين خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم والعدو بيننا وبين القبلة وكبر النبي صلى الله عليه وسلم وكبرنا جميعا ثم ركع وركعنا جميعا ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه وقام الصف المؤخر في نحر العدو فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم السجود وقام الصف الذي يليه: انحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم ثم ركع النبي صلى الله عليه وسلم وركعنا جميعا ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه - الذي كان مؤخرا في الركعة الأولى - فقام الصف(1/244)
المؤخر في نحر العدو فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم السجود والصف الذي يليه: انحدر الصف المؤخر بالسجود فسجدوا ثم سلم صلى الله عليه وسلم وسلما جميعا.
قال جابر: كما يصنع حرسكم هؤلاء بأمرائهم".
ذكره مسلم بتمامه1 وذكر البخاري طرفا منه وأنه: "صلى صلاة الخوف مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغزوة السابعة غزوة ذات الرقاع"2.
هذه كيفية الصلاة إذا كان العدو في جهة القبلة فإنه تتأتى الحراسة مع كون الكل مع الإمام في الصلاة وفيها التأخير عن الإمام لأجل العدو والحديث يدل على أمور.
أحدها: أن الحراسة في السجود لا في الركوع هذا هو المذهب المشهور وحكي وجه عن بعض أصحاب الشافعي: أنه يحرس في الركوع أيضا والمذهب: الأول لأن الركوع لا يمنع من إدراك العدو بالبصر فالحراسة ممكنة معه بخلاف السجود.
الثاني: المراد بالسجود الذي سجده النبي صلى الله عليه وسلم وسجد معه الصف الذي يليه: هو السجدتان جميعا.
الثالث: الحديث يدل على أن الصف الذي يلي الإمام يسجد معه في الركعة الأولى ويحرس الصف الثاني فيها ونص الشافعي علىخلافه وهو أن الصف الأول يحرس في الركعة الأولى فقال بعض أصحابه: لعله سها أو لم يبلغه الحديث وجماعة من العراقيين وافقوا الصحيح ولم يذكر بعضهم سوى ما دل عليه الحديث كأبي اسحاق الشيرازي وبعضهم قال بذلك بناء على المشهور عن الشافعي: أن الحديث إذا صح يذهب إليه ويترك قوله.
وأما الخراسانيون: فإن بعضهم تبع نص الشافعي كالغزالي في الوسيط.
ومنهم من ادعى: أن في الحديث رواية كذلك ورجح ما ذهب إليه الشافعي بأن الصف الأول يكون جنة لمن خلفه ويكون ساترا له عن أعين المشركين وبأنه أقرب إلى الحراسة وهؤلاء مطالبون بإبراز تلك الرواية والترجيح إنما يكون بعدها.
الرابع: الحديث يدل على أن الحراسة يتساوى فيها الطائفتان في الركعتين فلو حرست طائفة واحدة في الركعتين معا ففي صحة صلاتهم خلاف لأصحاب الشافعي.
ـــــــ
1 مسلم "840" سوى قوله: "في نحر العدو" الثانية ففي مسلم: "في نحور العدو".
2 البخاري "4125".(1/245)
كتاب الجنائز.
1 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "نعى النبي صلىالله عليه وسلم النجاشي في اليوم الذي مات فيه خرج بهم إلى المصلى فصف بهم وكبر أربعا"1.
فيه دليل على جواز بعض النعي وقد ورد فيه نهي2 فيحتمل أن يحمل على النعي لغير غرض ديني مثل إظهار التفجع على الميت وإعظام حال موته ويحمل النعي الجائز على ما فيه غرض صحيح مثل طلب كثرة الجماعة تحصيلا لدعائهم وتتميما للعدد الذي وعد بقبول شفاعتهم في الميت كالمائة مثلا3 وأما النجاشي فقد قيل: إنه مات بأرض لم يقم فيها عليه فريضة الصلاة فيتعين الإعلام بموته ليقام فرض الصلاة عليه.
وفي الحديث دليل على جواز الصلاة على الغائب وهو مذهب الشافعي وخالف مالك وأبو حنيفة وقالا: لا يصلى على الغائب ويحتاجون إلى الاعتذار عن الحديث ولهم في ذلك أعذار منها: ما أشرنا إليه من قولهم: إن فرض الصلاة لم يسقط ببلاد الحبشة حيث مات فلا بد من إقامة فرضها ومنها: ما قيل: إنه رفع للنبي صلى الله عليه وسلم فرآه فتكون حينئذ الصلاة عليه كميت يراه الإمام ولا يراه المأمومين وهذا يحتاج إلى نقل يثبته4 ولا يكتفى فيه بمجرد الاحتمال وأما الخروج إلى المصلى: فلعله لغير كراهة الصلاة في المسجد فإن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على سهيل بن بيضاء في المسجد5 ولعل من يكره الصلاة على الميت في المسجد يتمسك به إن كان لا يخص الكراهة بكون الميت في المسجد ويكرهها مطلقا سواء كان الميت في مسجد أم لا.
وفيه دليل على أن سنة الصلاة على الجنازة: التكبير أربعا وقد خالف في ذلك الشيعة ووردت
ـــــــ
1 البخاري "1333" ومسلم "951" "63".
2 هو ما رواه الترمذي "984" "إياكم والنعي فإن النعي من عمل الجاهلية" قال عبد الله بن مسعود والنعي أذان بالميت.
3 لعله يعني رواية مسلم "3102" " ما من ميت يصلى عليه أمة من المسلمين يبلغون مئة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه".
4 في صحيح ابن حبان "3102" "إن أخاكم النجاشي توفي فقوموا فصلوا عليه" فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفوا خلفه وكبر أربعا وهم لا يظنون إلا أن جنازته بين يديه.
5 مسلم "973".(1/247)
أحاديث: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر خمسا"1 وقيل: إن التكبير أربعا متأخر عن التكبير خمسا وروى فيه حديث عن ابن عباس وروي عن بعض المتقدمين: "إنه يكبر على الجنازة ثلاثا" وهذا الحديث يرده.
2 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على النجاشي فكنت في الصف الثاني أو الثالث"2.
وحديث جابر طرف من الأول وقد ورد عن بعض المتقدمين3 أنه كان إذا حضر الناس للصلاة صفهم صفوفا طلبا لقبول الشفاعة للحديث المروي فيمن صلى عليه ثلاثة صفوف ولعل هذا الذي ورد في الحديث من هذا القبيل فإن الصلاة كانت في الصحراء ولعلها كانت لا تضيق عن صف واحد ويمكن أن يكون لغير ذلك والله أعلم.
3 - عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قبر بعد ما دفن فكبر عليه أربعا"4.
فيه جواز الصلاة على القبر لمن لم يصل على الجنازة ومن الناس من قال: إنما يجوز ذلك إذا كان الولي أو الوالي لم يصليا والنبي صلى الله عليه وسلم هو الوالي ولم يكن صلى على هذا الميت فيمكن أن يقال: إنه خارج عن محل الخلاف.
وقد أجيب عن بعض ذلك: بأن غير النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه قد صلى معه ولم ينكر عليه وهذا يحتاج إلى نقل من دليل آخر إذ ليس في الحديث ذكر لذلك.
وفيه من الدلالة على أن التكبير أربع: ما في الحديث قبله والله أعلم.
4 - عن عائشة رضي الله عنها: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب بيض يمانية ليس فيها قميص ولا عمامة"5.
فيه جواز التكفين بما زاد على الواحد الساتر لجميع البدن وأنه لا يضايق في ذلك ولا يتبع من رأى من منع منه من الورثة.
وقوها: "ليس فيها قميص ولا عمامة" يحتمل وجهين: أحدهما: أن لا يكون كفن في قميص ولا عمامة أصلا والثاني: أن يكون ثلاثة أثواب خارجة عن القميص والعمامة والأول: هو الأظهر في المراد والله أعلم.
ـــــــ
1 مسلم "957".
2 البخاري "1317" ومسلم "952" واللفظ للبخاري.
3 منهم مالك بن هبيرة فقد كان كما روي إذا صلى على جنازة فتقال الناس عليها جزأهم ثلاثة أجزاء ثم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى عليه ثلاثة صفوف فقد أوجب" الترمذي "2028" وقال حديث حسن.
4 مسلم "954" "68".
5 البخاري "1264" ومسلم "941".(1/248)
5 - عن أم عطية الأنصارية قالت: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفيت ابنته فقال: "اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك - إن رأيتن ذلك - بماء وسدر واجعلن في الأخير كافورا - أو شيئا من كافور - فإذا فرغتن فآذنني" فلما فرغن آذناه فأعطانا حقوه وقال: "أشعرنها به" يعني إزاره1.
وفي رواية2: "أو سبعا" وقال: "ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها" 3 وأن أم عطية قالت: وجعلنا رأسها ثلاثة قرون4.
وهذه الابنة: هي زينت بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا هو المشهور5 وذكر بعض أهل السير أنها أم كلثوم.
وقد استدل بقوله: "اغسلنها" على وجوب غسل الميت وبقوله: "ثلاثا أو خمسا" على أن الإيتار مطلوب في غسل الميت والاستدلال بصيغة هذا الأمر على الوجوب عندي: يتوقف على مقدمة أصولية: وهي جواز إرادة المعنيين المختلفين بلفظة واحدة من حيث إن قوله: "ثلاثا" غير مستقل بنفسه فلا بد أن يكون داخلا تحت صيغة الأمر فتكون محمولة فيه على الاستحباب وفي أصل الغسل: على الوجوب فيراد بلفظ الأمر: الوجوب بالنسبة للإيتار.
وقوله عليه السلام: "إن رأيتن ذلك" تفويض إلى رأيهن بحسب المصلحة والحاجة لا إلى رأيهن بحسب التشهي فإن ذلك زيادة غير محتاج إليها فهو من قبيل الإسراف في ماء الطهارة وإذا زيد على ذلك فالإيتار مستحب وإنهاؤه الزيادة إلى سبعة - في بعض الروايات - لأن الغالب أنها لا تحتاج إلى الزيادة عليها والله أعلم.
وقوله: "بماء وسدر" أخذ منه: أن الماء المتغير بالسدر تجوز به الطهارة وهذا يتوقف على أن يكون اللفظ ظاهرا في أن السدر ممزوج بالماء وليس يبعد أن يحمل على أن يكون الغسل بالماء من غير مزج له بالسدر بل يكون الماء والسدر مجموعين في الغسلة الواحدة من غير أن يمزجا.
وفي الحديث دليل على استحباب الطيب وخصوصا الكافور وقيل: إن في الكافور خاصية الحفظ لبدن الميت ولعل هذا هو السبب في كونه الأخيرة فإنه لو كان في غيرها أذهبه الغسل بعدها فلا يحصل الغرض من الحفظ لبدن الميت.
ـــــــ
1 البخاري "1253" ومسلم "939" واللفظ للبخاري سوى لفظة: "في الأخيرة" ففيه "في الآخرة".
2 البخاري "1259".
3 مسلم "939" "42".
4 البخاري "1259".
5 هو صريح روية مسلم "939" "40".(1/249)
والحقو بفتح الحاء هنا1: الإزار تسمية للشيء بما يلزمه وقوله: "أشعرنها" أي: اجعلنه شعارا لها والشعار: ما يلي الجسد والدثار: ما فوقه.
وقوله: "ابدأن بميامنها" دليل على استحباب التيمن في غسل الميت وهو مسنون في غيره من الاغتسال أيضا.
وفيه دليل أيضا على البداءة بمواضع الوضوء وذلك تشريف وقد تقدمت إشارة إلى أن ذلك إذا في فعل في الغسل: هل يكون وضوءا حقيقيا أو جزاءا من الغسل خصت به هذه الأعضاء تشريفا؟.
و القرون ههنا الضفائر وفيه دليل على استحباب تسريح شعر الميت وضفره بناء على الغالب بعد التسريح وإن كان اللفظ لا يشعر به صريحا وهذا الضفر ثلاثا مخصوص الاستحباب بالمرة وزاد بعض أصحاب الشافعي فيه: أن يجعل الثلاث خلف ظهرها وروى في ذلك حديث2 أثبت به الاستحباب لذلك وهو غريب وهو ثابت من فعل من غسل بنت النبي صلى الله عليه وسلم.
6 - عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: بينما رجل واقف بعرفة إذ وقع عن راحلته فوقصته - أو قال: فأوقصته - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تحنطوه ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا" 3.
وفي رواية: "ولا تخمروا وجهه ولا رأسه" 4.
قال رحمه الله الوقص كسر العنق5.
الحديث دليل على أن المحرم إذا مات يبقى في حقه حكم الإحرام وهو مذهب الشافعي وخالف في ذلك مالك وأبو حنيفة وهو مقتضى القياس لانقطاع العبادة بزوال محل التكليف وهو الحياة لكن اتبع الشافعي الحديث وهو مقدم على القياس.
وغاية ما اعتذر به عن الحديث ما قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم علل هذا الحكم في هذا المحرم بعلة لا يعلم وجودها في غيره وهو أنه يبعث يوم القيامة ملبيا وهذا الأمر لا يعلم وجوده في غير هذا المحرم لغير النبي صلى الله عليه وسلم والحكم إنما يعم في غير محل النص بعموم علته.
ـــــــ
1 قال في القاموس ويكسر مادة حقو.
2 وبوب البخاري في صحيحه باب يلقى شعر المرأة خلفها وأورد حديث أم عطية وفيه: فضفرنا شعرها ثلاثة قرون وألقيناها خلفها البخاري "1263".
3 البخاري "1265" ومسلم "1206" و"933" "94" واللفظ للبخاري.
4 في مسلم "1206" "98" "ولا بخمروا رأسه ولا وجهه".
5 راجع القاموس وقص.(1/250)
وغير هؤلاء يرى أن هذه العلة إنما تثبت لأجل الإحرام فيعم كل محرم.
7 - عن أم عطية الأنصارية رضي الله عنها قالت: "نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا"1.
فيه دليل على كراهية اتباع النساء الجنازة من غير تحريم وهو معنى قولها: "ولم يعزم علينا" فإن العزيمة دال على التأكيد وفي هذا ما يدل على خلاف ما اختاره بعض المتأخرين من أهل الأصول: أن العزيمة ما أبيح فعله من غير قيام دليل المنع وأن الرخصة: ما أبيح مع دليل المنع.
وهذا القول مخالف لما دل عليه الاستعمال اللغوي من إشعار العزم بالتأكيد فإن هذا القول يدخل تحت المباح الذي لا يقوم دليل الحظر عليه وقد وردت أحاديث تدل على التشديد في اتباع النساء أو بعضهن للجنائز أكثر مما يدل عليه هذا الحديث كالحديث الذي جاء في فاطمة رضي الله عنها2 فإما أن يكون ذلك لعلو منصبها وحديث أم عطية في عموم النساء أو يكون الحديثان محمولين على اختلاف حالات النساء وقد أجاز مالك اتباعهن للجنائز وكرهه للشابة في الأمر المستنكر وخالفه غيره من أصحابه فكرهه مطلقا لظاهر الحديث.
8 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أسرعوا بالجنازة فإنها إن تك صالحة: فخير تقدمونها إليه وإن تك سوى ذلك: فشر تضعونه عن رقابكم" 3.
يقال: الجنازة والجنازة - بالفتح والكسر - بمعنى واحد ويقال: بالفتح هو الميت وبالكسر: النعش الأعلى للأعلى والأسفل للأسفل فعلى هذا يليق الفتح في قوله عليه السلام: "أسرعوا بالجنازة" يعني بالميت فإنه المقصود بأن يسرع به والسنة الإسراع كما جاء في الحديث وذلك بحيث لا ينتهي الإسراع إلى شدة يخاف معها حدوث مفسدة بالميت وقد جعل الله لكل شيء قدرا وقد ظهرت العلة في الإسراع من الحديث وهو قوله: "فإن تك صالحة" إلى آخره.
ـــــــ
1 البخاري "1278" ومسلم "938" "35".
2 أخرجه الإمام أحمد وأبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قبرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم [يوما] يعني ميتا فلما فرغنا انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وانصرفنا معه فلما حاذى بابه وقف فإذا نحن بامرأة مقبلة قال: أظنه عرفها فلما ذهبت إذا هي فاطمة فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أخرجك يا فاطمة من بيتك؟" قالت: أتيت يا رسول الله أهل هذا البيت فرحمت إليهم ميتهم أو عزيتهم به فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فلعلك بلغت معهم الكدى؟" قالت: معاذ الله وقد سمعتك تذكر فيها ما تذكر, فال: "لو بلغت معهم الكدى ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك".
3 البخاري "1315" ومسلم "944" "50" واللفظ للبخاري.(1/251)
9 - عن سمرة بن جندب قال: "صليت وراء النبي صلى الله عليه وسلم على امرأة ماتت في نفاسها فقام في وسطها".
الحديث يدل على أن القيام عند وسط المرأة والوصف الذي ورد في الحديث - وهو كونها ماتت في نفاسها - وصف غير معتبر بالاتفاق وإنما هو حكاية أمر واقع وأما وصف كونها امرأة: فهل هو معتبر أم لا؟ من الفقهاء من ألغاه وقال: يقام عند وسط الجنازة يعني مطلقا ومنهم من اعتبره وقال: يقام عند رأس الرجل وعجيزة المرأة ذكره بعض مصنفي أصحاب الشافعي أو اتفقوا عليه وقد قيل: إن سبب ذلك: أن النساء لم يكن يسترن في ذلك الوقت بما يسترن به اليوم فقيام الإمام عند عجيزتها: يكون كالسترة لها ممن خلفه.
10 - عن أبي موسى - عبد الله بن قيس - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "برئ من الصالقة والحالقة والشاقة"1.
قال رحمه الله الصالقة التي ترفع صوتها عند المصيبة.
فيه دليل على تحريم هذه الأفعال والأصل السالقة بالسين وهو رفع الصوت بالعويل والندب وقريب منه قوله تعالى: {سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} [الأحزاب: 19] والصاد قد تبدل من السين والحالقة حالقة الشعر وفي معناه: قطعة من غير حلق والشاقة شاقة الجيب وكل هذه الأفعال مشعر بعدم الرضى بالقضاء والتسخط له فامتنعت لذلك.
11 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم ذكر بعض نسائه كنيسة رأينها بأرض الحبشة يقال لها: مارية - وكانت أم سلمة وأم حبيبة أتتا أرض الحبشة - فذكرتا من حسنها وتصاوير فيها فرفع رأسه صلى الله عليه وسلم وقال: "أؤلئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا ثم صوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله" 2.
فيه دليل على تحريم مثل هذا الفعل وقد تظاهرت دلائل الشريعة على المنع من التصوير والصور ولقد أبعد غاية البعد من قال: إن ذلك محمول على الكراهة وإن هذا التشديد كان في ذلك الزمان لقرب عهد الناس بعبادة الأوثان وهذا الزمان - حيث انتشر الإسلام وتمهدت قواعده - لا يساويه في هذا المعنى فلا يساويه في هذا التشديد - هذا أو معناه - وهذا القول عندنا باطل قطعا لأنه قد ورد في الأحاديث: الإخبار عن أمر الآخرة بعذاب المصورين وأنهم يقال لهم: "أحيوا ما خلقتم" 3 وهذه علة مخالفة لما قاله هذا القائل وقد صرح بذلك
ـــــــ
1 البخاري "1331" ومسلم "964".
2 البخاري "1341" ومسلم "528".
3 البخاري "2105" ومسلم "2107" "96".(1/252)
في قوله عليه السلام: "المشبهون بخلق الله" 1 وهذه علة عامة مستقلة مناسبة لا تخص زمانا دون زمان وليس لنا أن نصرف في النصوص المتظاهرة المتضافرة بمعنى خيالي يمكن أن يكون هو المراد مع اقتضاء اللفظ التعليل بغيره وهو التشبه بخلق الله.
وقوله عليه السلام: "بنوا على قبره مسجدا" إشارة إلى المنع من ذلك وقد صرح به الحديث الآخر: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد, اللهم لا تجعل قري وثنا يعبد" 2.
12 - عن عائشة رضي الله عنها قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد", قالت: ولولا ذلك أبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجد"3.
هذا الحديث: يدل على امتناع اتخاذ قبر الرسول صلى الله عليه وسلم مسجدا ومنه يفهم امتناع الصلاة على قبره ومن الفقهاء من استدل بعدم صلاة المسلمين على قبره صلى الله عليه وسلم لعدم الصلاة على القبر جملة وأجيبوا عن ذلك بأن قبر الرسول صلى الله عليه وسلم مخصوص عن هذا بما فهم من هذا الحديث من النهي عن اتخاذ قبره مسجدا وبعض الناس: أجاز الصلاة على قبر الرسول صلى الله عليه وسلم كجوازها على قبر غيره عنده وهو ضعيف لتطابق المسلمين على خلافه ولإشعار الحديث بالمنع منه والله أعلم.
13 - عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية" 4.
حديث ابن مسعود يدل على المنع مما ذكر فيه وقد اشترك - مع ما قبله - في شق الجيوب وانفرد بضرب الخدود والتصريح بدعوى الجاهلية فيه وهي أحد ما يدخل تحت لفظ الصالقة في الحديث السابق.
و "دعوى الجاهلية" يطلق على أمرين أحدهما: ما كانت العرب تفعله في القتال من الدعوى.
والثاني: - وهو الذي ينبغي أن يحمل عليه هذا الحديث - هو ما كانت العرب تقوله عند موت الميت كقولهم: واجبلاه واسنداه واسيداه وأشباهها.
ـــــــ
1 مسلم "2107" "91" ولفظه "الذين يشبهون بخلق الله".
2 أحمد "7358" ومالك "1/136" وإسناده قوي كما قال محققو المسند وفيهما تقديم "اللهم." على "لعن اله اليهود.".
3 البخاري "1330" ومسلم "529" واللفظ له.
4 البخاري "1297" ومسلم "103" واللفظ للبخاري.(1/253)
14 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان قيل: وما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين" 1 ولمسلم2: "أصغرهما مثل أحد".
فيه دليل على فضل شهود الجنازة عند الصلاة وعند الدفن وأن الأجر يزداد بشهود الدفن مضافا إلى شهود الصلاة وقد ورد في الحديث: اتباعها من عند أهلها
و"القيراط": تمثيل لجزء من الأجر ومقدار منه وقد مثله في الحديث: بـ "أن أصغرهما مثل أحد" وهو من مجاز التشبيه تشبيها للمعنى العظيم بالجسم العظيم.
ـــــــ
1 البخاري "1325" ومسلم "945" "52" واللفظ له.
2 مسلم "945" "53".(1/254)
كتاب الزكاة
مدخل
...
كتاب الزكاة.
1 - عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: "إنك ستأتي قوما أهل كتاب فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب" 1.
الزكاة في اللغة لمعنيين: أحدهما النماء والثاني: الطهارة فمن الأول قولهم زكاة الزرع ومن الثاني وقوله تعالى: {وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] وسمي هذا الحق زكاة بالاعتبارين أما بالاعتبار الأول فمعنى أن يكون سببا للنماء في المال كما صح: "ما نقص مال من صدقة" 2 ووجه الدليل منه أن النقصان محسوس بإخراج القدر الواجب فلا يكون غير ناقص إلا بزيادة تبلغه إلى ما كان عليه على المعنيين جميعا أعني المعنوي والحسي في الزيادة أو بمعنى أن متعلقها الأموال ذات النماء وسميت بالنماء لتعلقها به أو بمعنى تضعيف أجورها كما جاء "إن الله يربي الصدقة حتى تكون كالجبل" 3.
وأما بالمعنى الثاني فلأنها طهرة للنفس من رذيلة البخل أو لأنها تطهر من الذنوب.
وهذا الحق أثبته الشارع لمصلحة الدافع والآخذ معا أما في حق الدافع فتطهيره وتضعيف أجوره وأما في حق الأخذ فلسد خلته.
وحديث معاذ يدل على فريضة الزكاة وهو أمر مقطوع به نم الشريعة ومن جحده كفر.
وقوله عليه السلام: "إنك ستأتي قوما أهل كتاب" لعله للتوطئة والتمهيد للوصية باستجماع همته في الدعاء لهم فإن أهل الكتاب أهل علم ومخاطبتهم لا تكون كمخاطبة جهال المشركين وعبدة الأوثان في العناية بها والبداءة في المطالبة في الشهادتين لأن ذلك
ـــــــ
1 البخاري "4347" ومسلم "19" واللفظ للبخاري.
2 مسلم "2588" من حديث أبي هريرة.
3 البخاري "7430" ومسلم "1014" من حديث أبي هريرة.(1/255)
أصل الدين الذي لا يصح شيء من فروعه إلا به فمن كان منهم غير موحد على التحقيق كالنصارى فالمطالبة متوجهة إليه بكل واحدة من الشهادتين عينا ومن كان موحدا كاليهود فالمطالبة له بالجمع بين ما أقر به من التوحيد وبين الإقرار بالرسالة وإن كان هؤلاء اليهود الذين كانوا باليمن عندهم ما يقتضي الإشراك ولو باللزوم يكون مطالبتهم بالتوحيد لنفي ما يلزم من عقائدهم وقد ذكر الفقهاء أن من كان كافرا بشيء مؤمنا بغيره لم يدخل في الإسلام إلا بالإيمان بما كفر به1.
وقد يتعلق بالحديث في أن الكفار غير مخاطبين بالفروع من حيث أنه إنما أمر أولا بالدعاء إلى الإيمان فقط وجعل الدعاء إلى الفروع بعد إجاباتهم الإيمان وليس بالقوي من حيث أن الترتيب في الدعاء لا يلزم منه الترتيب في الوجوب ألا ترى أن الصلاة والزكاة لا ترتيب بينهما في الوجوب؟ وقد قدمت في المطالبة على الزكاة وآخر الأخبار لوجوب الزكاة عن الطاعة بالصلاة مع أنهما متساويتان في خطاب الوجوب.
و قوله عليه السلام: "فإن هم أطاعوا لك بذلك" طاعتهم في الإيمان بالتلفظ بالشهادتين وأما طاعتهم في الصلاة فيحتمل وجهين أحدهما: أن يكون المراد إقرارهم بوجوبها وفريضتها عليهم والتزامهم لها والثاني: أتن يكون المراد الطاعة بالفعل وأداء الصلاة وقد رجح الأول بأن المذكور في لفظ الحديث هو الإخبار بالفريضة فتعود الإشارة بذلك إليها ويترجح الثاني بأنهم لو أخبروا بالوجوب فبادروا بالامتثال بالفعل لكفى ولم يشترط تلفظهم بالإقرار بالوجوب وكذلك نقول في الزكاة لو امتثلوا بأدائها من غير تلفظ بالإقرار لكفى فالشرط عدم الإنكار والإذعان للوجوب لا التلفظ بالإقرار.
وقد استدل بقوله عليه السلام: "أعلمهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم" على عدم جواز نقل الزكاة عن بلد المال وفيه عندي ضعيف لأن الأقرب أن المراد يؤخذ من أغنيائهم من حيث إنهم مسلمون لا من حيث إنهم من أهل اليمن وكذلك الرد على فقرائهم وإن لم يكن هذا هو الأظهر فهو محتمل احتمالا قويا ويقويه أن أعيان الأشخاص المخاطبين في قواعد الشرع الكلية لا تعتبر ولولا وجود مناسبة في باب الزكاة لقطع بأن ذلك غير معتبر وقد وردت صيغة الأمر بخطابهم في الصلاة ولا يختص بهم قطعا أعني الحكم وإن اختص بهم خطاب المواجهة.
وقد استدل بالحديث أيضا أن من ملك النصاب لا يعطى من الزكاة وهو مذهب أبي حنيفة وبعض أصحاب مالك من حيث إنه جعل أن المأخوذ منه غنيا وقابله بالفقير ومن ملك
ـــــــ
1 ذلك لأن الإيمان كل لا يتجزأ.(1/256)
النصاب فالزكاة منه فهو غني والغني لا يعطى من الزكاة إلا في المواضع المستثناة في الحديث وليس بالشديد القوة وقد يستدل به من يرى إخراج الزكاة إلى صنف واحد لأنه لم يذكر في الحديث1 إلا الفقراء وفيه بحث.
وقد يستدل به على وجوب إعطاء الزكاة للإمام لأنه وصف الزكاة بكونها: "مأخوذة عن الأغنياء" فكل ما اقتضى خلاف هذه الصفة فالحديث ينفيه.
ويدل الحديث أيضا على كرائم الأموال لا تؤخذ من الصدقة كالأكولة والربى وهي التي تربي ولدها والماخض وهي الحامل وفحل الغنم وحزرات المال وهي التي تحرز بالعين وترمق لشرفها عند أهلها.
و الحكمة فيه أن الزكاة وجبت مواساة للفقراء من مال الأغنياء ولا يناسب ذلك الإجحاف بأرباب الأموال فسامح الشرع أرباب الأموال بما يضنون به ونهى المصدقين عن أخذه وفي الحديث دليل على تعظيم أمر الظلم واستجابة دعوة المظلوم وذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك عقيب النهي عن أخذ كرائم الأموال لأن أخذها ظلم وفيه تنبيه على جميع أنواع الظلم.
2 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمس أواق صدقة ولا فيما دون ذود صدقة ولا فيما دون خمسة أوسق صدقة" 2.
يقال أواقي بالتشديد والتخفيف وتحذف الياء ويقال: أوقية بضم الهمزة وتشديد الياء ووقية وأنكرها بعضهم والأوقية أربعون درهما فالنصاب مائتا درهم والدرهم ينطلق على الخالص حقيقة فإن كان مغشوشا لتجب الزكاة حتى يبلغ من الخالص مائتي درهم والذود قيل: إنه ينطلق على الواحد وقيل إنه كالقوم والرهط.
والحديث دليل على الزكاة فيما دون هذه المقادير من هذه الأعيان وأبو حنيفة يخالف في زكاة الحرث ويعلق الزكاة بكل قليل وكثير منه ويستدل له بقوله عليه السلام: "فيما سقت السماء العشر وفيما سقي بنضح أو دالية ففيه نصف العشر" 3 وهذا عام في القليل والكثير.
ـــــــ
1 يشير بذلك إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل الصدقة لغني إلا لخمسة لغاز في سبيل الله أو لعامل عليها أو لغارم أو لرجل اشتراها بماله أو لرجل كان له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهداها المسكين للغني" أبو داود "1635".
2 البخاري "1405" ومسلم "979".
3 في البخاري "1483" "فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا العشر وما سقي بالنضح نصف العشر".(1/257)
وأجيب عن هذا بأن المقصود من الحديث بيان قدر المخرج لا بيان المخرج منه وهذا فيه قاعدة أصولية وهو أن الألفاظ العامة بوضع اللغة على ثلاث مراتب أحدها: ما ظهر فيه عدم قصد التعميم ومثل بهذا الحديث والثانية: ما ظهر فيه قصد التعميم بأن أورد مبتدأ لا على سبب لقصد تأسيس القواعد والثالثة: ما لم يظهر فيه قرينة تدل على التعميم ولا قرينة تدل على عدم التعميم.
وقد وقع تنازع من بعض المتأخرين في القسم الأول في كون المقصود منه عدم التعميم فطالب بعضهم بالدليل على ذلك وهذا الطريق ليس بجيد لأن هذا أمر يعرف من سياق الكلام ودلالة السياق لا يقام عليها دليل وكذلك لو فهم المقصود من الكلام وطولب بالدليل عليه لعسر فالناظر يرجع إلى ذوقه والمناظر يرجع إلى دينه وإنصافه.
واستدل بالحديث من يرى أن النقصان اليسير في الوزن يمنع وجوب الزكاة وهو ظاهر الحديث ومالك يسامح بالنقص اليسير جدا الذي تروج معه الدراهم والدنانير رواج الكامل.
وأما الأوسق فاختلف أصحاب الشافعي في أن المقدار فيها تقريب أو تحديد ومن قال: إنه تقريب يسامح باليسير وظاهر الحديث: يقتضي أن النقصان لا يؤثر والأظهر: أن النقصان اليسير جدا لا يمنع إطلاق الاسم في العرف ولا يعبأ به أهل العرف: أنه يغتفر.
3 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة" 1.
وفي لفظ2: "إلا زكاة الفطر في الرقيق".
الجمهور على عدم وجوب الزكاة في عين الخيل واحترزنا بقولنا في عين الخيل عن وجوبها في قيمتها إذا كانت للتجارة وأوجب أبو حنيفة في الخيل الزكاة وحاصل مذهبه: أنه إذا اجتمع الذكور والإناث وجبت الزكاة عنده قولا واحدا وإن انفردت الذكور والإناث وإذا وجبت الزكاة فهو مخير بين أن يخرج عن كل فرس دينارا أو يقوم ويخرج عن كل مائتي درهم خمسة دراهم وقد استدل عليه بهذا الحديث فإنه يقتضي عدم وجوب الزكاة في فرس المسلم مطلقا.
والحديث يدل أيضا على عدم وجوب الزكاة في عين العبيد.
وقد استدل بهذا الحديث الظاهرية على عدم وجوب زكاة التجارة وقيل: إنه قول قديم
ـــــــ
1 البخاري "1463" ومسلم "982" "9" واللفظ له.
2 عند أبي داود "1594" "ليس في الخيل والرقيق زكاة إلا زكاة الفطر في الرقيق".(1/258)
للشافعي من حيث إن الحديث يقتضي عدم وجوب الزكاة في الخيل والعبيد مطلقا ويجيب الجمهور عن استدلالهم بوجهين.
أحدهما: القول بالموجب فإن زكاة التجارة متعلقها القيمة لا العين فالحديث يدل على عدم التعلق بالعين فإنه لو تعلقت الزكاة بالعين من العبيد والخيل: لثبتت ما بقيت العين وليس كذلك فإنه لو نوي القنية لسقطت الزكاة والعين باقية وإنما الزكاة متعلقة بالقيمة بشرط نية التجارة وغير ذلك من الشروط.
والثاني: أن الحديث عام في العبيد والخيل فإذا أقاموا الدليل على وجوب زكاة التجارة كان هذا الدليل أخص من ذلك العام من كل وجه فيقدم عليه إن لم يكن فيه عموم من وجه فإن كان خرج على قاعدة العامين من وجه دون وجه إن كان ذلك الدليل من النصوص نعم يحتاج إلى تحقيق إقامة الدليل على وجوب زكاة التجارة وإنما المقصود ههنا: بيان كيفية النظر بالنسبة إلى هذا الحديث.
والحديث يدل على وجوب زكاة الفطر عن العبيد ولا يعرف فيه خلاف إلا أن يكونوا للتجارة وقد اختلف فيه.
وهذه الزيادة - أعني قوله: "إلا صدقة الفطر في الرقيق" 1 - ليس متفقا عليها وإنما هي عند مسلم فيما أعلم.
4 - عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "العجماء جبار والبئر جبار والمعدن جبار وفي الركاز الخمس" 2.
الجبار الهدر وما لا يضمن والعجماء الحيوان البهيم وورد في بعض الروايات3: "جرح العجماء جبار" والحديث يقتضي: أن جرح العجماء جبار بنصه فيحتمل أن يراد بذلك: جناياتها على الأبدان والأموال ويحتمل أن يراد: الجناية على الأبدان فقط وهو أقرب إلى حقيقة الجرح وعلى كل تقدير فلم يقولوا بهذا العموم أما جناياتها على الأموال: فقد فصل في المزارع بين الليل والنهار وأوجب على المالك ضمان ما أتلفته بالليل دون النهار وفيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يقتضي ذلك4.
ـــــــ
1 هذه صيغة مسلم "982" "10" ولم يسقها المصنف رحمه الله تعالى وإنما ساق رواية أبي داود.
2 البخاري "1499" ومسلم "1710" واللفظ للبخاري.
3 في البخاري "العجماء جرحها جبار..." "6912" وقد بدأ المصنف رحمه الله بشرح المفردات على غير ترتيب.
4 هو ما رواه أبو داود "3569" عن حرام بن محيصة عن أبيه أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائط رجل فأفسدته عليهم فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الأموال حفظها بالنهار وعلى أهل المواشي حفظها بالليل.(1/259)
وأما جناياتها على الأبدان: فقد تكلم فيها إذا كان معها الراكب والسائق والقائد وفصلوا فيه القول واختلفوا في بعض الصور فلم يقولوا بالعموم في إهدار جناياتها فيمكن أن يقال: إن جنايتها هدر إذا لم يكن ثمة تقصير من المالك أو ممن هي تحت يده وينزل الحديث على ذلك.
وأما الركاز: فالمعروف فيه عند الجمهور: أنه دفن الجاهلية والحديث يقتضي أن الواجب فيه: الخمس بنصه وفي مصرفه وجهان للشافعية أحدهما: إلى أهل الزكاة والثاني: إلى أهل الفيء وهو اختيار المزني وقد تكلم الفقهاء في مسائل تتعلق بالركاز يمكن أن تؤخذ من الحديث.
أحدها: إن الركاز هل يختص بالذهب والفضة أو يجري في غيرهما وللشافعي فيه قولان وقد يتعلق بالحديث من يجريه في غيرهما من حيث العموم وجديد قول الشافعي: أنه يختص.
الثانية: الحديث يدل على أنه لا فرق في الركاز بين القليل والكثير ولا يعتبر فيه النصاب وقد اختلف في ذلك.
الثالثة: يستدل به على أنه لا يجب الحول في إخراج زكاة الركاز ولا خلاف فيه عند الشافعي كالغنيمة والمعشرات وله في المعدن اختلاف قول في اعتبار الحول والفرق: أن الركاز يحصل جملة من غير كد ولا تعب والنماء فيه متكامل وما تكامل فيه النماء لا يعتبر فيه الحول فإن الحول مدة مضروبة لتحصيل النماء وفائدة المعدن تحصل بكد وتعب شيئا فشيئا فيشبه أرباح التجارة فيعتبر فيها الحول.
الرابعة: تكلم الفقهاء في الأراضي التي يوجد فيها الركاز وجعل الحكم مختلفا باختلافها ومن قال منهم: بأن في الركاز الخمس إما مطلقا أو في أكثر الصور فهو أقرب إلى الحديث وعند الشافعية: أن الأرض إن كانت مملوكة لمالك محترم مسلم أو ذمي فليس بركاز فإن ادعاه فهو له وإن نازعه منازع فالقول قوله وإن لم يدعه لنفسه عرض على البائع ثم على بائع البائع حتى ينتهي الأمر إلى من عمر الموضع فإن لم يعرف فظاهر المذهب: أنه يجعل لقطة وقيل: ليس بلقطة ولكنه مال ضائع يسلم إلى الإمام ويجعله في بيت المال وإن وجد الركاز في أرض عامة لحربي فهو كسائر أموال الحربي إذا حصلت في أيدي المسلمين وإذا وجد في موات دار الحرب فهو كموت دار الإسلام عند الشافعي للواجد أربعة أخماسه.
5 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر رضي الله عنه على الصدقة.(1/260)
فقيل: منع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيرا: فأغناه الله؟ وأما خالد: فإنكم تظلمون خالدا وقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله وأما العباس: فهي علي ومثلها", ثم قال: "ياعمر أما شعرت أن عم الرجل صنو أبيه؟" 1.
الحديث مشكل في مواضع منه والكلام عليه من وجوه:
الأول: قوله: "بعث عمر على الصدقة" الأظهر: أن المراد على الصدقة الواجبة وذكر بعضهم: أن تكون التطوع احتمالا أو قولا وإنما كان الظاهر أنها الواجبة لأنها المعهودة فتصرف الألف واللام إليها ولأن البعث إنما يكون على الصدقات المفروضة.
والثاني: يقال: نقم ينقم - بالفتح في الماضي والكسر في المستقبل وبالعكس بالكسر في الماضي والفتح في المستقبل - والحديث يقتضي: أنه لا عذر له في الترك فإن نقم بمعنى أنكر وإذا لم يحصل له موجب للمنع إلا أن كان فقيرا فأغناه الله فلا موجب للمنع وهذا مما تقصده العرب في مثله النفي على سبيل المبالغة بالإثبات كما قال الشاعر:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
لأنه إن لم يكن فيهم عيب إلا هذا - وهذا ليس بعيب - فلا عيب فيهم فكذلك هنا إذا لم ينكر إلا كون الله أغناه بعد فقره فلم يكن منكرا أصلا.
الثالث: العتاد ما أعد الرجل من السلاح والدواب وآلات الحرب وقد وقع في هذه الرواية أعتاده وفي أخرى أعتده2 واختلف فيها فقيل أعتده بالتاء: وقيل أعبده بالباء ثاني الحروف وعلى هذا اختلفوا فالظاهر: أن أعبده جمع عبد وهو الحيوان العاقل المملوك وقيل: إنه جمع صفة من قولهم فرس عبد وهو الصلب وقيل: المعد للركوب وقيل: السريع الوثب ورجح بعضهم هذا بأن العادة لم تجر بتحبيس العبيد في سبيل الله بخلاف الخيل.
الرابع: فيه دليل على تحبيس المنقولات واختلف الفقهاء في ذلك.
الخامس: نشأ إشكال من كونه لم يؤمر بأخذ الزكاة منه وانتزاعها عند منعه فقيل: في جوابه: يجوز أن يكون عليه السلام أجاز لخالد أن يحتسب ما حبسه من ذلك فيما يجب عليه من الزكاة لأنه في سبيل الله حكاه القاضي قال: وهو حجة لمالك في جواز دفعها.
ـــــــ
1 البخاري "1468" ومسلم "983" واللفظ له وفيهما أنه كان فقيرا.
2 هي رواية البخاري "1468".(1/261)
لصنف واحد وهو قول كافة العلماء خلافا للشافعي في وجوب قسمتها على الأصناف الثمانية قال: وعلى هذا يجوز إخراج القيم في الزكاة وقد أدخل البخاري هذا الحديث في باب أخذ العرض في الزكاة1 فيدل: أنه ذهب إلى هذا التأويل.
وأقول: هذا لا يزيل الإشكال لأن ما حبس على جهة معينة تعين صرفه إليها واستحقه أهل تلك الجهة مضافا إلى جهة الحبس فإن كان قد طلب من خالد زكاة ما حبسه فكيف يمكن من ذلك مع تعين ما حبسه لمصرفه؟ وإن كان قد طلب منه زكاة المال الذي لم يحبسه - من العين والحرث والماشية - فكيف يحاسب بما وجب عليه في ذلك وقد تعين صرف ذلك المحبس إلى جهته؟.
وأما الاستدلال بذلك على أن صرف الزكاة إلى صنف من الثمانية جائز وأن أخذ القيم جائز: فضعيف جدا لأنه لو أمكن توجيه ما قيل في ذلك لكان الإجزاء في المسألتين مأخوذا على تقدير ذلك التأويل وما ثبت على تقدير لا يلزم أن يكون واقعا إلا إذا ثبت وقوع ذلك التقدير ولم يثبت ذلك بوجه ولم يبين قائل هذه المقالة إلا مجرد الجواز والجواز لا يدل على الوقوع.
إلا أن القاضي: أنه حجة لمالك وأبي حنيفة على التقدير فقريب إلا أنه يجب التنبيه لأنه لا يفيد الحكم في نفس الأمر.
وأنا أقول: يحتمل أن يكون تحبيس خالد لأدراعه وأعتاده في سبيل الله: إرصاده إياها لذلك وعدم تصرفه بها في غير ذلك وهذا النوع حبس وإن لم يكن تحبيسا ولا يبعد أن يراد مثل ذلك بهذا اللفظ ويكون قوله: " إنكم تظلمون خالدا" مصروفا إلى قولهم منع خالد أي تظلمونه في نسبته إلى منع الواجب مع كونه صرف ماله في سبيل الله ويكون المعنى: أنه لم يقصد منع الواجب ويحمل منعه على غير ذلك.
السادس: أخذ بعضهم من هذا: وجوب زكاة التجارة وأم خالدا طولب بأثمان الأربع والأعتد قالوا: ولا زكاة في هذه الأشياء إلا أن تكون للتجارة وقد استضيف هذا الاستدلال من حيث إنه استدلال بأمر محتمل غير متعين لما ادعى.
السابع: من قال بأن هذه الصدقة كانت تطوعا ارتفع عنه هذا الإشكال ويكون النبي صلى الله عليه وسلم اكتفى بما حبسه خالد على هذه الجهات عن أخذ شيء آخ من صدقة التطوع ويكون من طلب منه شيئا آخر - مع ما حبسه من ماله وأعتاده في سبيل الله - ظالما له في مجرى العادة وعلى سبيل التوسع في إطلاق اسم الظلم.
الثامن: قوله عليه السلام: "فهي علي ومثلها" فيه وجهان أحدهما: أن يكون هذا
ـــــــ
1 من كتاب الزكاة باب "33".(1/262)
اللفظ صيغة إنشاء لالتزام ما لزم العباس ويرجحه قوله: "إن عم الرجل صنو أبيه" فإن في هذه اللفظة إشعارا بما ذكرناه فإن كونه صنو الأب: يناسب تحمل ما عليه.
الثاني: أن يكون إخبارا عن أمر وقع ومضى وهو تسلف صدقة عامين من العباس وقد روي في ذلك حديث منصوص: "أنا تعجلنا منه صدقة عامين" 1 والصنو المثل وأصله في النخل أن يجمع النخلتين أصل واحد.
6 - عن عبد الله بن زيد بن عاصم قال: لما أفاء الله على رسوله يوم حنين قسم في الناس وفي المؤلفة قلوبهم ولم يعط الأنصار شيئا فكأنهم وجدوا في أنفسهم إذ لم يصبهم ما أصاب الناس فخطبهم فقال: "يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بي؟ وعالة فأغناكم الله بي؟", كلما قال شيئا قالوا: الله ورسوله أمن قال: "ما يمنعكم أن تجيبوا رسول الله؟", قالوا: الله ورسوله أمَنَّ قال: "لو شئتم لقلتم جئتنا كذا وكذا ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون برسول الله إلى رحالكم؟ لولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار ولو سلك الناس واديا أو شعبا لسلكت وادي الأنصار وشعبها الأنصار شعار والناس دثار إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض" 2.
في الحديث دليل على إعطاء المؤلفة قلوبهم إلا أن هذا ليس من الزكاة فلا يدخل في بابها إلا بطريق أن يقاس إعطاؤهم من الزكاة على إعطائهم من الفيء والخمس.
وقوله: "فكأنهم وجدوا في أنفسهم" تعبير حسن كسي حسن الأدب في الدلالة على ما كان غي أنفسهم.
وفي الحديث دليل على إقامة الحجة عند الحاجة إليها على الخصم وهذا الضلال المشار إليه ضلال الإشراك والكفر والهداية بالإيمان ولا شك أن نعمة الإيمان أعلى النعم بحيث لا يوازيها شيء من أمور الدنيا ثم اتبع ذلك بنعمة الألفة وهي أعظم من نعمة الأموال إذ تبذل الأموال في تحصيلها وقد كانت الأنصار في غاية التباعد والتنافر وجرت بينهم حروب قيل المبعث منها يوم بعاث ثم اتبع ذلك بنعمة الغنى والمال وفي جواب الصحابة رضي الله عنهم بما أجابوه استعمال الأدب والاعتراف بالحق الذي كنى عنه بقول الراوي كذا وكذا وقد تبين مصرحا به في رواية أخرى فتأدب الراوي بالكناية وفي جملة ذلك جبر للأنصار وتواضع وحسن مخاطبة ومعاشرة.
ـــــــ
1 الدرفطني "2/125".
2 البخاري "4340" ومسلم "1061" واللفظ للبخاري.(1/263)
وفي قوله عليه السلام: "ألا ترضون" الخ إثارة لأنفسهم وتنبيه على ما وقعت الغفلة عنه من عظم ما أصابهم بالنسبة إلى ما أصاب غيرهم من عرض الدنيا.
وفي قوله عليه السلام: "لولا الهجرة" وما بعده: إشارة عظيمة بفضيلة الأنصار.
وقوله "لكنت امرأ من الأنصار" أي في الأحكام والعداد والله أعلم ولا يجوز أن يكون المراد النسب قطعا.
وقوله: "الأنصار شعار والناس دثار" الشعار الثوب الذي يلي الجسد والدثار الثوب الذي فوقه واستعمال اللفظين مجاز عن قربهم واختصاصهم وتمييزهم على غيرهم في ذلك وقوله عليه السلام: "إنكم ستلقون بعدي أثرة" علم من أعلام النبوة إذ هو إخبار عن أمر مستقبل وقع على وفق ما أخبر به صلى الله عليه وسلم والمراد بالأثرة استئثار الناس عليهم بالدنيا والله أعلم بالصواب.(1/264)
باب زكاة الفطر.
1 - عن عبد الله بن عباس بن عمر رضي الله عنهما قال: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر- أو قال رمضان- على الذكر والأنثى والحر والمملوك صاعا من تمر أو صاعا من شعير قال: فعدل الناس به نصف صاع من بر على الصغير والكبير"1.
و في لفظ: ""وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة"2.
المشهور من مذاهب الفقهاء وجوب زكاة الفطر لظاهر هذا الحديث.
وقوله: "فرض" وذهب بعضهم إلى عدم الوجوب وحملوا: "فرض" على معنى قدر وهو أصله في اللغة لكنه نقل في عرف الاستعمال إلى الوجوب فالحمل عليه أولى لأنه ما اشتهر في الاستعمال فالقصد غليه هو الغالب.
وقوله: "رمضان" وفي رواية أخرى: "من رمضان" قد يتعلق به نم يرى أن وقت الوجوب غروب الشمس من ليلة العيد وقد يتعلق به من يرى أن وقت الوجوب طلوع الفجر من يوم العيد وكلا الاستدلالين ضعيف لأن إضافتهما إلى الفطر من رمضان لا يستلزم أنه وقت الوجوب بل يقتضي إضافة هذه الزكاة إلى الفطر من رمضان فيقال حينئذ بالوجوب لظاهر لفظه: "فرض" ويؤخذ وقت الوجوب من أمر آخر.
ـــــــ
1 البخاري "1511" ومسلم "984" واللفظ للبخاري.
2 البخاري "1503" ومسلم "986".(1/264)
وقوله: "على الذكر والأنثى والحر والمملوك" يقتضي وجوب الإخراج عن هؤلاء وإن كانت لفظة: "على" تقتضي الوجوب عليهم ظاهرا وقد اختلف الفقهاء في أن الذي يخرج عنهم هل باشرهم الوجوب أولا؟ والمخرج يتحمله أم الوجوب يلقي المخرج أولا؟ فقد يتمسك من قال بالقول الأول بظاهر قوله: "على الذكر والأنثى والحر والمملوك" فإن ظاهره يقتضي تعلق الوجوب بهم كما ذكرنا وشرط هذا التمسك إمكان ملاقاة الوجوب للأصل.
والصاع أربعة أمداد والمد: رطل وثلث بالبغدادي وخالف في ذلك أبو حنيفة وجعل الصاع ثمانية أرطال واستدل مالك بنقل الخلف عن السلف بالمدينة وهو استدلال صحيح قوي في مثل هذا ولما ناظر أبا يوسف بحضرة الرشيد في المسألة رجع أبو يوسف إلى قوله لما استدل بما ذكرناه.
وقوله: "صاعا من التمر أو صاعا من شعير" بيان لجنس المخرج في هذه الزكاة وقد ورد تعيين أجناس لها في أحاديث متعددة أزيد مما في هذا الحديث فمن الناس من أجاز جميع هذه الأجناس مطلقا لظاهر الحديث ومنهم من قال لا يخرج إلا غالب قوت البلد إنما ذكرت هذه الأشياء لأنها كلها كانت مقتاتة بالمدينة في ذلك الوقت فعلى هذا لا يجزئ بأرض مصر إلا إخراج البر لأنه غالب القوت.
وقوله فعدل الناس الخ هو مذهب أبي حنيفة في البر فإنه يخرج منه نصف صاع وقيل أن الذي عدل ذلك معاوية بن أبي سفيان وروي في ذلك حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم من جهة ابن عباس ولا يمكن من قال بهذا المذهب أن يستدل بقوله: "فعدل الناس" ويجعل ذلك إجماعا على هذا الحكم ويقدمه على خبر الواحد لأن أبا سعيد الخدري قد خالف في ذلك وقال1 أما أنا فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه ولا يخلو هذا من نظر.
والسنة في صدقة الفطر أن تؤدى قبل الخروج إلى الصلاة ليحصل غنى الفقير وينقطع تشوفه عن الطلب في حالة العبادة.
2 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "كنا نعطيها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم صاعا من طعام أو صاعا من شعير أو صاعا من أقط أو صاعا من زبيب فلما جاء معاوية وجاءت السمراء قال: أرى مدا من هذه يعدل مدين قال أبو سعيد: أما أنا فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم"2.
ـــــــ
1 هو الحديث التالي.
2 البخاري "1508" ومسلم "985".(1/265)
وقول أبي سعيد: "صاعا من طعام" يريد به البر.
فيه دليل على خلاف مذهب أبي حنيفة في أن البر يخرج منه نصف صاع وهذا أصرح في المراد وأبعد عن التقدير والتقويم بنصف صاع من حديث ابن عمر فإن في ذلك الحديث نص على التمر والشعير فتقدير الصاع منهما بنصف الصاع من البر لا يكون مخالفا للنص بخلاف حديث أبي سعيد فإنه يكون مخالفا له وقد كانت لفظة الطعام تستعمل في البر عند الإطلاق حتى إذا قيل اذهب إلى سوق الطعام فهم منه سوق البر وإذا غلب العرف بذلك نزل اللفظ عليه لأن الغالب أن الإطلاق في الألفاظ على حسب ما يخطر في البال من المعاني والمدلولات وما غلب استعمال اللفظ عليه فخطوره عند الإطلاق أقرب فينزل اللفظ عليه وهذا بناء على أن يكون هذا العرف موجودا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وتردد قول الشافعي في إخراج الأقط وقد صح الحديث به.
وقد ذكر الزبيب في هذا الحديث والكلام في هذه الأجناس قد مر وهل تتعين هذه أنها كانت أقواتا في ذلك الوقت أو يتعلق الحكم بها مطلقا؟.
والسمراء: يراد بها الحنطة المحمولة من الشام وفي هذا الحديث دليل على ما قيل من أن معاوية هو الذي عدل الصاع من غير البر بنصف الصاع منه ويؤخذ منه القول بالاجتهاد بالنظر والتعويل على المعاني في الجملة وإن كان في هذا الموضع إذ لم يرد بذلك نص خاص مرجوحا بمخالفة النص والله أعلم.(1/266)
كتاب الصيام
مدخل
...
كتاب الصيام.
1 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين إلا رجلا كان يصوم صوما فليصمه" 1.
الكلام عليه من وجوه:
أحدها: فيه صريح الرد على الروافض الذين يريدون تقديم الصوم على الرؤية لأن رمضان اسم لما بين الهلالين فإذا صام قبله بيوم فقد تقدم عليه.
الثاني: فيه تبيين لمعنى الحديث الآخر الذي فيه: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" 2 وبيان أن اللام للتأقيت لا للتعليل كما زعمت الروافض ولو كانت للتعليل لم يلزم تقديم الصوم على الرؤية أيضا كما تقول: أكرم زيدا لدخوله فلا يقتضي تقديم الإكرام على الدخول ونظائره كثيرة وحمله على التأقيت لا بد فيه من احتمال تجاوز وخروج عن الحقيقة لأن وقت الرؤية وهو الليل لا يكون محلا للصوم.
الثالث: فيه دليل على أن الصوم المعتاد إذا وافقت العادة فيه ما قبل رمضان بيوم أو يومين أنه يجوز صومه ولا يدخل تحت النهي وسواء كانت العادة بنذر أو بسرد عن غير نذر فإنهما يدخلان تحت قوله: "إلا رجلا كان يصوم صوما فليصمه".
الرابع: فيه دليل على كراهية إنشاء الصوم قبل الشهر بيوم أو يومين بالتطوع فإنه خارج عما رخص فيه ولا يبعد أن يدخل تحته النذر المخصوص باليوم من حيث اللفظ ولكنه تعارضه الدلائل الدالة على الوفاء بالنذر.
2 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فاقدروا له" 3.
الكلام عليه من وجوه:
أحدها: أنه يدل على تعليق الحكم بالرؤية ولا يراد بذلك رؤية كل فرد بل مطلق الرؤية ويستدل به على عدم تعليق الحكم بالحساب الذي يراه المنجمون وعن بعض المتقدمين أنه
ـــــــ
1 البخاري "1914" ومسلم "1082" واللفظ له.
2 البخاري "1909" ومسلم "1081" "18".
3 البخاري "1906" ومسلم "1080" "8".(1/267)
رأى العمل به وركن إليه بعض البغداديين من المالكية وقال به بعض أكابر الشافعية بالنسبة إلى صاحب الحساب وقد استشنع هذا لما حكي عن مطرف بن عبد الله من المتقدمين قال بعضهم: ليته لم يقلها.
والذي أقول به أن الحساب لا يجوز أن يعتمد عليه في الصوم لمفارقة القمر للشمس على ما يراه المنجمون من تقدم الشهر بالحساب على الشهر بالرؤية بيوم أو يومين فإن ذلك إحداث لسبب لم يشرعه الله تعالى وأما إذا دل الحساب على أن الهلال قد طلع من الأفق على وجه يرى لولا وجود المانع كالغيم مثلا فهذا يقتضي الوجوب لوجود السبب الشرعي وليس حقيقة الرؤية بشرط من اللزوم لأن الاتفاق على أن المحبوس في المطمورة إذا علم بإكمال العدة أو بالاجتهاد بالإمارات إن اليوم من رمضان وجب عليه الصوم وإن لم ير الهلال ولا أخبره من رآه.
الثاني: يدل على وجوب الصوم على المنفرد لرؤية هلال رمضان وعلى الإفطار على المنفرد برؤية هلال شوال ولقد أبعد من قال بأنه لا يفطر إذا انفرد برؤية هلال شوال ولكن قالوا: يفطر سرا.
الثالث: اختلفوا في أن حكم الرؤية ببلد هل يتعدى إلى غيرها مما لم ير فيه؟ وقد يستدل بهذا الحديث من قال بعدم تعدي الحكم إلى البلد الآخر كما إذا فرضنا أنه رئي الهلال في ببلد في ليلة ولم ير في تلك الليلة بآخر فتكلمت ثلاثون يوما بالرؤية الأولى ولم ير في البلد الآخر هل يفترون أم لا؟ فمن قال بتعدي الحكم قال بالإفطار وقد وقعت المسألة في زمن ابن عباس وقال لا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه وقال: هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم1 ويمكن أنه أراد بذلك هذا الحديث العام لا حديثا خاصا بهذه المسألة وهو الأقرب عندي والله أعلم.
الرابع: استدل لمن قال بالعمل بالحساب في الصوم بقوله: "فاقدروا له" فإنه أمر يقتضي التقدير وتأوله غيرهم بأنه المراد إكمال العدة الثلاثين ويحمل قوله: "فاقدروا له" على هذا المعنى أعني إكمال العدة الثلاثين كما جاء في الرواية الأخرى مبينا: "فأكملوا العدة ثلاثين" 2.
والمراد بقوله عليه السلام: "غم عليكم" استتر أمر الهلال وغم أمره وقد وردت فيه روايات على غير هذه الصيغة.
ـــــــ
1 مسلم "1087".
2 البخاري "1907" من حديث ابن عمر ومسلم "1081" "19" من حديث أبي هريرة بلفظ "فعدوا ثلاثين".(1/268)
3 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تسحروا فإن في السحور بركة" 1.
فيه دليل على استحباب السحور للصائم وتعليل ذلك بأن فيه بركة وهذه البركة يجوز أن تعود إلى الأمور الأخروية فإن إقامة السنة توجب الأجر وزيادته ويحتمل أن تعود إلى الأمور الدنيوية لقوة البدن على الصوم وتيسيره من غير إجحاف به.
و"السَّحور" بفتح السين ما يتسحر به وبضمها الفعل هذا هو الأشهر والبركة محتملة لأن تضاف إلى كل واحد من الفعل والمتسحر به معا وليس ذلك من باب حمل اللفظ الواحد على معنيين مختلفين بل من باب استعمال لمجاز في لفظة في وعلى أن يجوز أن يقال في أن في السحور بفتح السين وهو الأكثر وفي السحور بضمها.
ومما علل به استحباب السحور المخالفة لأهل الكتاب فإنه يمتنع عندهم السحور وهذا أحد الوجوه المقتضية للزيادة في الأمور الأخروية.
4 - عن أنس بن مالك عن زيد بن ثابت رضي الله عنهما قال: "تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قام إلى الصلاة قال أنس: قلت لزيد: كم كان بين الأذان والسحور؟ قال: قدر خمسين آية"2.
فيه دليل على استحباب تأخير السحور وتقريبه من الفجر والظاهر أن المراد بالأذان ههنا الأذان الثاني وإنما يستحب تأخيره لأنه أقرب إلى حصول المقصود من حفظ القوى وللمتصوفة وأرباب البطن في هذا الكلام تشوفوا فيه إلى اعتبار معنى الصوم وحكمته وهو كسر شهوة البطن والفرج وقالوا: إن من لم تتغير عليه عادته في مقدار أكله لا يحصل له المقصود من الصوم وهو كسر الشهوتين.
والصواب إن شاء الله أن ما زاد في المقدار حتى تعدم هذه الحكمة بالكلية لا يستحب كعادة المترفين في التأنق في المآكل والمشارب وكثرة الاستعداد فيها وما لا ينتهي إلى ذلك فهو مستحب على وجه الإطلاق وقد تختلف مراتب هذا الاستحباب باختلاف مقاصد الناس وأحوالهم واختلاف مقدار ما يستعملون.
5 - عن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدركه الفجر وهو جنب من أهله ثم يغتسل ويصوم"3.
كان قد وقع خلاف في هذا فروى فيه أبو هريرة حديثا "من أصبح جنبا فلا صوم له" إلى
ـــــــ
1 البخاري "1923" ومسلم "1095".
2 البخاري "1921" ومسلم "1097".
3 البخاري "1925" "1926" ومسلم "1109".(1/269)
أن روجع في ذلك بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرت بما ذكر من كونه: "كان يصبح جنبا ثم يصوم"1 وصح أيضا: "أنه أخبر بذلك عن نفسه" وأبو هريرة أحال في روايته على غيره واتفق الفقهاء على العمل بهذا الحديث وصار ذلك إجماعا أو كالإجماع.
و قولها: "من أهله" فيه إزالة لاحتمال يمكن أن يكون سببا لصحة الصوم فإن الاحتلام في المنام آت على غير اختيار من الجنب فيمكن أن يكون سببا للرخصة فبين في هذا الحديث أن هذا كان من جماع ليزول هذا الاحتمال ولم يقع خلاف بين الفقهاء المشهورين في مثل هذا إلا في الحائض إذا طهرت وطلع عليها الفجر قبل أن تغتسل ففي مذهب مالك في ذلك قولان - أعني في وجوب القضاء - وقد يدل كتاب الله أيضا على صحة صوم من أصبح جنبا فإن قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] يقتضي إباحة الوطء في ليلة الصوم مطلقا ومن جملته الوقت المقارب لطلوع الفجر بحيث لا يسع الغسل فتقتضي الآية الإباحة في ذلك الوقت ومن ضرورته الإصباح جنبا والإباحة لسبب الشيء إباحة للشيء وقولها: "من أهله" فيه حذف مضاف أي من جماع أهله.
6 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من نسي وهو صائم فأكل وشرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه" 2.
اختلف الفقهاء في أكل الناسي للصوم هل يوجب الفساد أم لا؟ فذهب أبو حنيفة والشافعي إلى أنه لا يوجب وذهب مالك إلى إيجاب القضاء وهو القياس فإن الصوم قد فات ركنه وهو من باب المأمورات والقاعدة تقتضي أن النسيان لا يؤثر في طلب المأمورات وعمدة من لم يوجب القضاء هذا الحديث وما في معناه أو ما يقاربه فإنه أمر بالإتمام وسمي الذي يتم صوما وظاهره حمله على الحقيقة الشرعية وإذا كان صوما وقع مجزئا ويلزم من ذلك عدم وجوب القضاء والمخالف حمله على أن المراد إتمام صورة الصوم وهو متفق عليه ويجاب بما ذكرناه من حمل الصوم على الحقيقة الشرعية وإذا دار اللفظ بين حمله على المعنى اللغوي والشرعي كان حمله على الشرعي أولى اللهم إلا أن يكون ثم دليل خارج يقوي به هذا التأويل المرجوح فيعمل به.
وقوله: "فإنما الله أطعمه وسقاه" يستدل به على صحة الصوم فإن فيه إشعارا بأن الفعل الصادر منه مسلوب الإضافة إليه والحكم بالفطر يلزمه الإضافة إليه والذين قالوا بالإفطار حملوا ذلك على أن المراد الإخبار برفع الإثم عنه وعدم المؤاخذة به وتعليق الحكم بالأكل والشرب لا يقتضي من حيث هو هو مخالفة في غيره لأنه تعليق الحكم باللقب فلا يدل على نفيه عما عداه أو لأنه تعليق الحكم بالغالب فإن نسيان الجماع نادر بالنسبة إليه والتخصيص بالغالب لا يقتضي مفهوما.
ـــــــ
1 أحمد "25509"
2 البخاري "1933" ومسلم "1155" واللفظ له.(1/270)
وقد اختلف الفقهاء في جماع الناسي هل يوجب الفساد على قولنا: إن أكل الناسي لا يوجبه؟ واختلف أيضا القائلون بالفساد هل يوجب الكفارة؟ مع اتفاقهم على أكل الناسي لا يوجبها ومدار الكل على قصور حالة المجامع ناسيا عن حالة الأكل ناسيا فيما يتعلق بالعذر والنسيان ومن أراد إلحاق الجماع بالمنصوص عليه فإنما طريقه القياس والقياس مع الفارق متعذر إلا إذا بين القائس أن الوصف الفارق ملغى.
7 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله هلكت قال: ما أهلكك؟ قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم - وفي رواية: أصبت أهلي في رمضان - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل تجد رقبة تعتقها؟", قال: لا قال: "فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟", قال: لا, قال: "فهل تجد إطعام ستين مسكينا؟", قال: لا, قال: فمكث النبي صلى الله عليه وسلم فبينا نحن على ذلك أتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر - والعرق: المكتل - قال: "أين السائل؟", قال: أنا, قال: "خذ هذا فتصدق به" فقال الرجل: على أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابتيها - يريد الحرتين - أهل بيت أفقر من أهل بيتي فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه ثم قال: "أطعمه أهلك" 1.
الحرة: أرض تركبها حجارة سود.
يتعلق بالحديث مسائل:
المسألة الأولى: استدل به على أن من ارتكب معصية لا حد فيها وجاء مستفتيا أنه لا يعاقب لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعاقبه مع اعترافه بالمعصية ومن جهة المعنى أن مجيئه مستفتيا يقتضي الندم والتوبة والتعزير استصلاح ولا استصلاح مع الصلاح ولأن معاقبة المستفتي تكون سببا لترك الاستفتاء من الناس عند وقوعهم في مثل ذلك وهذه مفسدة عظيمة يجب دفعها.
المسألة الثانية: جمهور الأمة على إيجاب الكفارة بإفطار المجامع عامدا ونقل عن بعض الناس: أنها لا تجب وهو شاذ جدا وتقريره على شذوذه أن يقال: لو وجبت الكفارة بالجماع لما سقطت عند مقارنة الإعسار له لكن سقطت فلا تجب أما بيان الملازمة فلأن القياس والأصل أن سبب وجوب المال إذا وجد لم يسقط بالإعسار فإن الأسباب تعمل إلا مع ما يعارضها مما هو أقوى منها والإعسار إنما يعارض وجوب الإخراج في الحال أما ترتبه في الذمة
ـــــــ
1 البخاري "1936" ومسلم "1111".(1/271)
إلى وقت القدرة فلا يعارضه الإعسار في وقت السبب فالقول برفع مقتضى السبب من غير معارض غير سائغ وأما إنها سقطت بمقارنة الإعسار فلأنها لم تؤد ولا أعلمه النبي صلى الله عليه وسلم إنها مرتبة في الذمة ولو ترتبت لأعلمه.
وجواب هذا إما بمنع الملازمة على مذهب من يرى أنها تسقط بمقارنة الإعسار ويجيب عن الدليل المذكور وإما بأن يسلم الملازمة ويمنع كون الكفارة لم تؤد ويعتذر عن قوله عليه السلام: "كله وأطعمه أهلك" وإما أن يقال بأنها لم تؤد ويعتذر عن السكوت عن بيان ذلك وسيأتي تفصيل هذه الاعتذارات إن شاء الله تعالى.
المسألة الثالثة: اختلفوا في جماع الناسي هل يقتضي الكفارة؟ ولأصحاب مالك قولان ويحتج من يوجبها بأن النبي صلى الله عليه وسلم أوجبها عند السؤال من غير استفصال بين كون الجماع على وجه العمد أو النسيان والحكم من الرسول صلى الله عليه وسلم إذا ورد عقيب ذكر واقعة محتملة لأحوال مختلفة الحكم من غير استفصال يتنزل منزلة العموم.
وجوابه: أن حالة النسيان بالنسبة إلى الجماع ومحاولة مقدماتها وطول زمانه وعدم اعتباره في كل وقت مما يبعد جريانه في حالة النسيان فلا يحتاج إلى الاستفصال بناء على الظاهر لا سيما وقد قال الأعرابي هلكت فإنه يشعر بتعمده ظاهرا ومعرفته بالتحريم.
المسألة الرابعة: الحديث دليل على جريان الخصال الثلاث في كفارة الجماع أعني العتق والصوم والإطعام وقد وقع في كتاب المدونة من قول ابن القاسم ولا يعرف مالك غير الإطعام فإن أخذ على ظاهره من عدم جريان العتق والصوم في كفارة المفطر فهي معضلة زباء1 ذات وبر لا يهتدي إلى توجيهها مع مخالفة الحديث غير أن بعض المحققين من أصحابه حمل هذا اللفظ وتأوله على الاستحباب في تقديم الإطعام على غيره من الخصال وذكروا وجوها في ترجيح الطعام على غيره.
منها: أن الله تعالى قد ذكره في القرآن رخصة للقادر ونسخ هذا الحكم لا يلزم منه نسخ الفضيلة بالذكر والتعيين لإطعام لاختيار الله تعالى له في حق المفطر.
ومنها: بقاء حكمة في حق المفطر للعذر كالكبر والحمل والإرضاع.
ومنها: جريان حكمة في حق من أخر قضاء رمضان حتى دخل رمضان ثان.
ومنها: مناسبة إيجاب الإطعام لخبر فوات الصوم الذي هو إمساك عن الطعام والشراب.
وهذا الوجه لا تقاوم ما دل عليه الحديث من البداءة بالعتق ثم بالصوم ثم بالإطعام فإن هذه
ـــــــ
1 الزباء: الداهية الشديدة.(1/272)
البداءة إن لم تقتض وجوب الترتيب فلا أقل من تقتضي استحبابه وقد وافق بعض أصحاب مالك على استحباب الترتيب على ما جاء في الحديث وبعضهم قال: إن الكفارة تختلف باختلاف الأوقات ففي وقت الشدائد تكون بالإطعام وبعضهم فرق بين الإفطار بالجماع والإفطار بغيره وجعل الإفطار بغيره يكفر بالإطعام لا غير وهذا أقرب في مخالفة النص من الأول.
المسألة الخامسة: إذا ثبت جريان الخصال الثلاثة أعني العتق والصيام والإطعام في هذه الكفارة فهل هي على الترتيب أو على التخيير؟ اختلفوا فيه فمذهب مالك أنها على التخيير ومذهب الشافعي أنها على الترتيب وهو مذهب بعض أصحاب مالك واستدل على الترتيب في الوجوب بالترتيب في السؤال وقوله أولا: "هل تجد رقبة تعتقها؟" ثم رتب الصوم بعد العتق ثم الإطعام بعد الصوم ونازع القاضي عياض في ظهور دلالة الترتيب في السؤال على ذلك وقال: إن مثل هذا السؤال قد يستعمل فيما هو على التخيير هذا أو معناه وجعله يدل على الأولوية مع التخيير ومما يقوي هذا الذي ذكره القاضي ما جاء في حديث كعب بن عجرة من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أتجد شاة؟" فقال: لا, قال: "فصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين" 1 ولا ترتيب بين الشاة والصوم والإطعام والتخيير في الفدية ثابت بنص القرآن.
المسألة السادسة: قوله: "هل تجد رقبة تعتقها؟" يستدل به من يجيز إعتاق الرقبة الكافرة في الكفارة لأجل الإطلاق ومن يشترط الإيمان يقيد الإطلاق ههنا بالتقييد في كفارة القتل وهو ينبني على أن السبب إذا اختلف واتحد الحكم هل يقيد المطلق أم لا؟ وإذا قيد فهل هو بالقياس أم لا؟ والمسألة المشهورة في أصول الفقه والأقرب أنه إن قيد فبالقياس والله أعلم.
المسألة السابعة: قوله: "فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟", قال: لا, لا إشكال في هذه الرواية على الانتقال من الصوم إلى الإطعام لأن الأعرابي نفى الاستطاعة وعند عدم الاستطاعة ينتقل إلى الصوم لكن في بعض الروايات أنه قال: "و هل أتيت إلا من الصوم؟"2 فاقتضى ذلك عدم بسبب شدة الشبق وعدم الصبر في الصوم عن الوقوع فنشأ لأصحاب الشافعي في أن هذا هل يكون عذرا مرخصا في الانتقال إلى الإطعام في حق كم هو كذلك أعني شديد الشبق؟ قال بذلك بعضهم.
المسألة الثامنة: قوله: "فهل تجد إطعام ستين مسكينا؟" يدل على وجوب إطعام هذا العدد ومن قال بأن الواجب إطعام ستين مسكينا فهذا الحديث يرد عليه من وجهين.
أحدهما: أنه أضاف الإطعام الذي هو مصدر أطعم إلى ستين ولا يكون ذلك موجودا في حق من أطعم عشرين مسكينا ثلاثة أيام.
ـــــــ
1 البخاري "1814" ومسلم "1201".
2 جزء من حديث أخرجه الترمذي "1200" وفيه وهل أصابني ما أصابني إلا في الصيام؟.(1/273)
الثاني: أن القول بأجزاء ذلك عمل بعلة مستنبطة تعود على ظاهر النص بالإبطال وقد عرف ما في ذلك في أصول الفقه.
المسألة التاسعة: العرق: بفتح العين والراء معا المكتل من الخوص1 واحدة عرقة وهي ظفيرة تجمع إلى غيرها فيكون مكتلا وقد روي عرق بإسكان الراء وقد قيل أن العرق يسع خمسة عشر صاعا فأخذ في ذلك أن إطعام كل مسكين مد لأن الصاع أربعة أمداد وقد صرفت هذه الخمسة العشر صاعا إلى ستين مدا وقسمه خمسة عشر إلى ستين بربع فلكل مسكين ربع صاع وهو مد.
المسألة العاشرة: اللابة: الحرة والمدينة تكتنفها حرتان والحرة حجارة سود وقيل في ضحك النبي صلى الله عليه وسلم يحتمل أن يكون لتباين حال الأعرابي حيث كان في الابتداء متحرقا متلهفا حاكما على نفسه بالهلاك ثم انتقل إلى طلب الطعام لنفسه وقيل: وقد يكون من رحمة الله تعالى وتوسعته عليه وإطعامه له هذا الطعام وإحلاله له بعد أن كلف إخراجه.
المسألة الحادية عشر: قوله عليه السلام: "أطعمه أهلك" تباينت المذاهب فيه فمن قائل يقول هو دليل على إسقاط الكفارة عنه لأنه لا يمكن أن يصرف كفارته إلى أهله ونفسه وإذا تعذر أن تقع كفارته ولم يبين النبي صلى الله عليه وسلم له استقرار الكفارة في ذمته إلى حين اليسار لزم من مجموع ذلك سقوط الكفارة بالإعسار المقارن لسبب وجوبها وربما قرر ذلك بالاستشهاد بصدقة الفطر حيث تسقط بالإعسار المقارن لاستهلال الهلال وهذا قول الشافعي أعني سقوط هذه الكفارة بهذا الإعسار المقارن ومن قائل يقول: لا تسقط الكفارة بالإعسار المقارن وهو مذهب مالك والصحيح من مذهب الشافعي أيضا وبعد القول بهذا المذهب فههنا طريقان.
الطريق الأول: منع أن لا تكون الكفارة أخرجت في هذه الواقعة.
وأما قوله عليه السلام: "أطعمه أهلك" ففيه وجوه.
منها: ادعاء بعضهم أنه خاص بهذا الرجل أي يجزئه أن يأكل من صدقة نفسه لفقره فسوغها له النبي صلى الله عليه وسلم.
ومنها ادعاء أنه منسوخ وهذان ضعيفان إذ لا دليل على التخصيص ولا على النسخ.
ومنها: أن تكون صرفت إلى أهله لأنه فقير عاجز لا يجب عليه النفقة لعسره وهم فقراء أيضا فجاز إعطاء الكفارة عن نفسه لهم وقد جوز بعض أصحاب الشافعي لمن لزمته الكفارة مع الفقر أن يصرفها إلى أهله وأولاده وهذا لا يتم على رواية من روى: "كله وأطعمه أهلك".
ومنها: ما حكاه القاضي أنه قيل لما ملكه إياه النبي صلى الله عليه وسلم وهو محتاج جاز له أكلها
ـــــــ
1 الخوص: ورق النخل مختار الصحاح خوص.(1/274)
وإطعامها أهله للحاجة وهذا ليس فيه تلخيص لأنه إن جعل عاما فليس الحكم عليه وإن جعل خاصا فهو القول المحكي أولا.
الطريق الثاني: وهو الأقرب أن يجعل إعطاؤه إياه لا عن جهة الكفارة وتكون الكفارة مرتبة في الذمة لما ثبت وجوبها في أول الحديث والسكوت لتقدم العلم بالوجوب فأما أن يجعل ذلك مع استقرار أن ما ثبت في الذمة يتأخر للإعسار ولا يسقط للقاعدة الكلية والنظائر أو يؤخذ الاستقرار من دليل يدل عليه أقوى من السكوت.
المسألة الثانية عشر: جمهور الأمة على وجوب القضاء على مفسد الصوم بالإجماع وذهب بعضهم إلى عدم وجوبه لسكوته عليه السلام عن ذكره وبعضهم ذهب إلى أنه إن كفر بالصيام أجزأه الشهران وإن كفر بغيره قضى يوما والصحيح وجوب القضاء والسكوت عنه لتقرره وظهوره وقد روي أنه ذكر في حديث عمرو بن شعيب وفي حديث سعيد بن المسيب أعني القضاء والخلاف في وجوب القضاء موجود في مذهب الشافعي ولأصحابه ثلاثة أوجه وهي المذاهب التي حكيناها وهذا الخلاف في الرجل فأما المرأة فيجب عليها القضاء من غير خلاف عندهم إذ لم يوجب عليها الكفارة.
المسألة الثالثة عشرة: اختلفوا في وجوب الكفارة على المرأة إذا مكنت طائعة فوطئها الزوج هل تجب عليها الكفارة أم لا؟ وللشافعي قولان.
أحدهما: الوجوب وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وأصح الروايتين عن أحمد.
الثاني: عدم الوجوب عليها واختصاص الزوج بلزوم الكفارة وهو المنصور عند أصحاب الشافعي من قوليه ثم اختلفوا هل هي واجبة على الزوج لا تلاقي المرأة أو هي كفارة واحدة تقوم عنهما جميعا؟ وفيه قولان مخرجان من كلام الشافعي واحتج الذين لم يوجبوا عليها الكفارة بأمور.
منها: ما لا يتعلق بالحديث فلا حاجة بنا إلى ذكره.
والذي يتعلق بالحديث من استدلالهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم المرأة بوجوب الكفارة عليها مع الحاجة إلى الإعلام ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنيسا أن يغدو على امرأة صاحب العسيف فإن اعترفت رجمها فلو وجبت الكفارة على المرأة لأعلمها النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كما في حديث أنيس1.
والذين أوجبوا الكفارة أجابوا بوجوه:
ـــــــ
1 سيأتي تخريجه في كتاب الحدود.(1/275)
أحدها: أنا لا نسلم الحاجة إلى إعلامها فإنها لم تعترف بسبب الكفارة وإقرار الرجل عليها لا يوجب عليها حكما وإنما تمس الحاجة إلى إعلامها إذا ثبت الوجوب في حقها ولم يثبت على ما بيناه.
و ثانيهما: أنها قضية حال يتطرق إليها الاحتمال ولا عموم لها وهذه المرأة يجوز أن لا تكون ممن تجب عليها الكفارة بهذا الوطء إما لصغرها أو جنونها أو كفرها أو حيضها أو طهارتها من الحيض في أثناء اليوم.
واعترض على هذا بأن علم النبي صلى الله عليه وسلم بحيض امرأة أعرابي لم يعلم عسره حتى أخبره بها مستحيل وأما العذر بالصغر والجنون والكفر والطهارة من الحيض فكلها أعذار تنافي التحريم على المرأة وينفيها قوله فيما رواه: "هلكت وأهلكت" وجودة هذا الاعتراض موقوفة على صحة هذه الرواية.
و ثالثها: لا نسلم عدم بيان الحكم فإن بيانه في حق الرجل بيان له في حق المرأة لاستوائهما في تحريم الفطر وانتهاك حرمة الصوم مع العلم بأن سبب أيجاب الكفارة هو داك والتنصيص على الحكم في بعض المكلفين كاف عن ذكره في حق الباقين وهذا كما أنه عليه السلام لم يذكر إيجاب الكفارة على سائر الناس غير الأعرابي لعلمهم بالاستواء في الحكم وهذا وجهه قوي.
وإنما حاولوا التعليل عليه بأن بينوا في المرأة معنى يمكن أن يظن بسببه اختلاف حكمها مع حكم الرجل بخلاف غير الأعرابي من الناس فإنه لا معنى يوجب اختلاف حكمهم مع حكمه وذلك المعنى الذي أبدوه في حق المرأة هو أن مؤن النكاح لازمة للزواج كالمهر وثمن ماء الغسيل عن جماعة فيمكن أن يكون هذا منه.
وأيضا فجعلوا الزوج في باب الوطء هو الفاعل المنسوب إليه الفعل والمرأة محل فيمكن أن يقال الحكم مضاف إلى من ينسب إليه الفعل فيقال: واطئ وومواقع ولا يقال للمرأة ذلك وليس هذان بقويين فإن المرأة يحرم عليها التمكين وتؤثم به إثم مرتكب الكبائر كما في الرجل وقد أضيف اسم الزنى إليها في كتاب الله تعالى ومدار إيجاب الكفارة على هذا المعنى.
المسألة الرابعة عشرة: دل الحديث بنصه على إيجاب التتابع في صيام الشهرين وعن بعض المتقدمين أنه خالف فيه.
المسألة الخامسة عشرة: دل الحديث على أنه لا مدخل لغير هذه الخصال في هذه الكفارة وعن بعض المتقدمين أنه أدخل البدنة فيها عند تعذر الرقبة وورد ذلك في رواية عطاء عن سعيد وقيل: أن سعيد أنكر روايته عنه.(1/276)
1 - باب الصوم في السفر.
1 - عن عائشة رضي الله عنها: أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أأصوم في السفر؟ - وكان كثير الصيام - فقال: "إن شئت فصم وإن شئت فأفطر" 1.
وفي الحديث دليل على التخيير بين الصوم والفطر في السفر وليس فيه تصريح بأنه صوم رمضان وربما استدل به من يجيز صوم رمضان في السفر فمنعوا الدلالة من حيث ما ذكرناه من عدم الدلالة على كونه صوم رمضان.
2 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كنا نسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم"2.
وهذا أقرب في الدلالة على جواز صوم رمضان في السفر من حيث إنه جعل الصوم في السفر بعرض كونه يعاب على عدمه بقوله: "فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم" ولذلك إنما هو في الصوم الواجب وأما الصوم المرسل: فلا يناسب أن يعاب ولا يحتاج إلى نفي هذا الوهم فيه.
3 - عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان في حر شديد حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة"3.
وهذا تصريح بأن هذا الصوم وقع في رمضان ومذهب جمهور الفقهاء: صحة صوم المسافر والظاهرية خالفت فيه - أو بعضهم - بناء على ظاهر لفظ القرآن من غير اعتبار للإضمار وهذا الحديث يرد عليهم.
4 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فرأى زحاما ورجلا قد ظلل عليه فقال: "ما هذا؟" قالوا: صائم, قال: "ليس من البر الصيام في السفر" 4.
وفي لفظ لمسلم: "عليكم برخصة الله التي رخص لكم" 5.
أخذ من هذا: أنه كراهة الصوم في السفر لمن هو في مثل هذه الحالة ممن يجهده الصوم ويشق عليه أو يؤدي به إلى ترك ما هو أولى من القربات ويكون قوله: "ليس من البر الصيام
ـــــــ
1 البخاري "1943" ومسلم "1121" واللفظ للبخاري.
2 البخاري "1947" ومسلم "1118" واللفظ له.
3 البخاري "1945" ومسلم "1122" واللفظ له.
4 البخاري "1946" ومسلم "1115" واللفظ للبخاري.
5 مسلم "1115".(1/277)
في السفر", منزلا على مثل الحالة والظاهرية المانعون من الصوم في السفر يقولون: إن اللفظ عام والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ويجب أن تتنبه للفرق بين دلالة السياق والقرائن الدالة على تخصيص العام وعلى مراد المتكلم وبين مجرد ورود العام على السبب لا يقتضي التخصيص به كقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] بسبب سرقة رداء صفوان وأنه لا يقتضي التخصيص به بالضرورة والإجماع أما السياق والقرائن: فإنها الدالة على مراد المتكلم من كلامه وهي المرشدة إلى بيان المجملات وتعيين المحتملات فاضبط هذه القاعدة فإنها مفيدة في مواضع لا تحصى وانظر في قوله عليه السلام: "ليس من البر الصيام في السفر" مع حكاية هذه الحالة مع أي القبيل هو؟ فنزله عليه.
وقوله: "عليكم برخصة الله التي رخص لكم" دليل على أنه يستحب التمسك بالرخصة إذا دعت الحاجة إليها ولا تترك على وجه التشديد على النفس والتنطع والتعمق.
5 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في السفر فمنا الصائم ومنا المفطر قال: فنزلنا منزلا في يوم حار وأكثرنا ظلا: صاحب الكساء ومنا من يتقي الشمس بيده قال: فسقط الصوام وقام المفطرون فضربوا الأبنية وسقوا الركاب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذهب المفطرون اليوم بالأجر" 1.
أما قوله: "فمنا الصائم ومنا المفطر" فدليل على جواز الصوم في السفر ووجه الدلالة: تقرير النبي صلى الله عليه وسلم للصائمين على صومهم.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "ذهب المفطرون اليوم بالأجر" ففيه أمران:
أحدهما: أنه إذا تعارضت المصالح قدم أولاهما وأقواها.
والثاني: أن قوله عليه السلام: "ذهب المفطرون اليوم بالأجر" فيه وجهان:
أحدهما: أن يراد بالأجر أجر تلك الأفعال التي فعلوها والمصالح التي جرت على أيديهم ولا يراد مطلق الأجر على سبيل العموم.
والثاني: أن يكون أجرهم قد بلغ في الكثرة بالنسبة إلى أجر الصوم مبلغا ينغمر فيه أجر الصوم فتحصل المبالغة بسبب ذلك ويجعل كأن الأجر كله للمفطر وهذا قريب مما يقوله بعض الناس في إحباط الأعمال الصالحة ببعض الكبائر وأن ثواب ذلك العمل صار مغمورا جدا بالنسبة إلى ما يحصل من عقاب الكبيرة فكأنه المعدوم المحبط وإن كان الصوم ههنا.
ـــــــ
1 البخاري "2890" ومسلم "1119" واللفظ له.(1/278)
ليس من المحبطات ولكن المقصود: التشبيه في أن ما قل جدا قد يجعل كالمعدوم مبالغة وهذا قد يوجد مثله في التصرفات الوجودية وأعمال الناس في مقابلتهم حسنات من يفعل معهم منها شيئا بسيئاته ويجعل اليسير منها جدا كالمعدوم بالنسبة إلى الإحسان والإساءة كحجامة الأب لولده في دفع المرض الأعظم عنه فإنه يعد محسنا مطلقا ولا يعد مسيئا بالنسبة إلى إيلامه بالحجامة ليسارة ذلك الألم بالنسبة إلى دفع المرض الشديد.
6 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان يكون علي الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضي إلا في شعبان"1.
فيه دليل على جواز تأخير قضاء رمضان في الجملة وأنه موسع الوقت وقد يؤخذ منه: أنه لا يؤخر عن شعبان حتى يدخل رمضان ثان.
وأما اختلاف الفقهاء في وجوب الإطعام على من أخر قضاء رمضان حتى دخل رمضان ثان: فمما لا يتعلق بهذا الحديث وقد تبين في أخرى عن عائشة رضي الله عنها أن هذا التأخير كان للشغل برسول الله صلى الله عليه وسلم.
7 - عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه" 2.
وأخرجه أبو داود وقال هذا في النذر وهو أحمد بن حنبل3.
ليس هذا الحديث مما اتفق عليه الشيخان على إخراجه4 وهو دليل بعمومه على أن الولي يصوم عن الميت وأن النيابة تدخل في الصوم وذهب إليه قوم وهو قول قديم للشافعي والجديد الذي عليه الأكثر ون: عدم دخول النيابة فيه لأنها عبادة بدنية والحديث لا يقتضي بالتخصيص بالنذر كما ذكر أبو داود عن أحمد بن حنبل نعم قد ورد في بعض الروايات: ما يقتضي الإذن في الصوم عن من مات وعليه نذر بصوم وليس ذلك بمقتض للتخصيص بصورة النذر وقد تكلم الفقهاء في المعتبر في الولاية على ما ورد في لفظ الخبر أهو مطلق القرابة أو بشرط العصوبة أو الإرث؟ وتوقف في ذلك إمام الحرمين وقال: لا نقل عندي في ذلك وقال غيره من فضاء المتأخرين: وأنت إذا فحصت نظائره وجدت الأشبه: اعتبار الإرث.
ـــــــ
1 البخاري "1950" ومسلم "1146".
2 البخاري "1952" ومسلم "1147".
3 أبو داود "2400".
4 قال ابن الملقن في الإعلام وقع في شرح الشيخ تقي الدين أمر غريب لا يليق بجلالته وهو أنه قال: ليس هذا الحديث مما اتفق الشيخان على إخراجه.(1/279)
وقوله: "صام عنه وليه" قيل: ليس المراد أنه يلزمه ذلك وإنما يجوز ذلك له إن أراد هكذا ذكره صاحب التهذيب من مصنفي الشافعية وحكاه إمام الحرمين عن أبيه الشيخ أبي محمد وفي هذا بحث وهو أن الصيغة صيغة خبر أعني صام ويمتنع الحمل على ظاهره فينصرف إلى الأمر ويبقى النظر في أن الوجوب متوقف على صيغة الأمر المعينة وفي افعل مثلا أو يعمها مع ما يقوم مقامها.
وقد يؤخذ من الحديث: أنه لا يصوم عنه الأجنبي إما لأجل التخصيص مع مناسبة الولاية لذلك وإما لأن الأصل: عدم جواز النيابة في الصوم لأنه عبادة لا يدخلها النيابة في الحياة فلا تدخلها بعد الموت كالصلاة وإذا كان الأصل عدم جواز النيابة: وجب أن يقتصر فيها على ما ورد في الحديث ويجري في الباقي على القياس وقد قال أصحاب الشافعي: لو أمر الولي أجنبيا أن يصوم عنه بأجرة أو بغير أجرة جاز كما في الحج فلو استقل به الأجنبي ففي إجزائه وجهان أظهرهما: المنع وأما إلحاق غير الصوم بالصوم: فإنما يكون بالقياس وليس أخذ الحكم عنه من نص الحديث.
8 - عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها؟ فقال: "لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها؟". قال: نعم, قال: "فدين الله أحق أن يقضى" 1.
وفي رواية: "جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم نذر أفأصوم عنها؟ فقال: "أرأيت لو كان على أمك دين فقضيته أكان ذلك يؤدي عنها؟", فقالت: نعم قال: "فصومي عن أمك" 2.
أما حديث ابن عباس: فقد أطلق فيه القول بأن أم الرجل ماتت وعليها صوم شهر ولم يقيده بالنذر وهو يقتضي: أن لا يتخصص جواز النيابة بصوم النذر وهو منصوص الشافعية تفريعا على القول القديم خلافا لما قاله أحمد.
ووجه الدلالة من الحديث وجهين:
الوجه الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر هذا الحكم غير مقيد بعد سؤال السائل مطلقا عن واقعة يحتمل أن يكون وجوب الصوم فيها عن نذر ويحتمل أن يكون عن غيره فخرج ذلك على القاعدة المعروفة في أصول الفقه وهو أن الرسول عليه السلام إذا أجاب بلفظ غير مقيد عن سؤال وقع صورة محتملة أن يكون الحكم فيها مختلفا: أنه يكون الحكم شاملا للصور كلها وهو
ـــــــ
1 البخاري "1953" ومسلم "1148" واللفظ له.
2 البخاري "1953" ومسلم "1148" واللفظ له.(1/280)
الذي يقال فيه ترك الاستفصال عن قضايا الأحوال مع قيام الاحتمال: منزلة العموم في المقال وقد استدل الشافعي بمثل هذا وجعله كالعموم.
الوجه الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم علل قضاء الصوم بعلة عامة للنذر وغيره وهو كونه عليها وقاسه على الدين وهذه العلة لا تختص بالنذر - أعني كونها حقا واجبا - والحكم يعم بعموم علته.
وقد استدل القائلون بالقياس في الشريعة بهذا من حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم قاس وجوب أداء حق الله تعالى على وجوب أداء حق العباد وجعله من طريق الأحق فيجوز لغير القياس لقوله: {فَاتَّبِعُوهُ} [الأعراف: 158] لا سيما وقوله عليه السلام أرأيت إرشاد وتنبيه على العلة التي هي كشيء مستقر في نفس المخاطب.
وفي قوله عليه السلام: "فدين الله أحق بالقضاء" دلالة على المسائل التي اختلف الفقهاء فيها عند تزاحم حق الله تعالى وحق العباد كما إذا مات وعليه دين آدمي ودين الزكاة وضاقت التركة عن الوفاء بكل واحد منهما وقد يستدل من يقول بتقديم دين الزكاة عليه السلام: "فدين الله أحق بالقضاء".
وأما الرواية الثانية: ففيها ما في الأولى من دخول النيابة في الصوم والقياس على حق الآدميين إلا أنه ورد التخصيص فيها بالنذر فقد يتمسك به من يرى التخصيص بصوم النذر إما بأن يدل دليل على أن الحديث واحد يبين من بعض الروايات: أن الواقعة المسؤول عنها واقعة نذر فيسقط الوجه الأول وهو الاستدلال بعدم الاستفصال إذا تبين عين الواقعة إلا أنه قد يبعد لتباين بين الروايتين فإن في إحداهما أن السائل رجل وفي الثانية أنه امرأة وقد قررنا في علم الحديث: أنه يعرف كون الحديث واحدا باتحاد سنده ومخرجه وتقارب ألفاظه وعلى كل حال: فيبقى الوجه الثاني وهو الاستدلال بعموم العلة على عموم الحكم وأيضا فإن معنا عموما وهو قوله عليه السلام: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه" فيكون التنصيص على مسألة صوم النذر مع ذلك العموم راجعا إلى مسألة أصولية وهو أن التنصيص على بعض صوم العام لا يقتضي التخصيص وهو المختار في علم الأصول وقد تشبث بعض الشافعية بأن يقيس الاعتكاف والصلاة على الصوم في النيابة وربما حكاه بعضهم وجها في الصلاة فإن صح ذلك فقد يستدل بعموم هذا التعليل.
9 - عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر" 1.
تعجيل الفطر بعد تيقن الغروب: مستحب باتفاق ودليله هذا الحديث وفيه دليل على
ـــــــ
1 البخاري "1957" ومسلم "1098".(1/281)
المتشيعة الذي يؤخرون إلى ظهور النجم ولعل هذا هو السبب في كون الناس لا يزالون بخير ما عجلوا الفطر لأنهم إذا أخروه كانوا داخلين في فعل خلاف السنة ولا يزالون بخير ما فعلوا السنة.
10 - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا: فقد أفطر الصائم" 1.
الإقبال والإدبار متلازمان أعني: إقبال الليل وإدبار النهار وقد يكون أحدهما أظهر للعين في بعض المواضع فيستدل بالظاهر على الخفي كما لو كان في جهة المغرب ما يستر البصر عن إدراك الغروب وكان المشرق بارزا ظاهرا فيستدل بطلوع الليل على غروب الشمس.
وقوله عليه السلام: "فقد أفطر الصائم" يجوز أن يكون المراد به: فقد حل له الفطر ويجوز أن يكون المراد به: فقد دخل في الفطر وتكون الفائدة فيه: أن الليل غير قابل للصوم وأنه بنفس دخوله خرج الصائم من الصوم وتكون الفائدة على الوجه الأول: ذكر العلامة التي بها يحصل جواز الإفطار وعلى الوجه الثاني: بيان امتناع الوصال بمعنى الصوم الشرعي لا بمعنى الإمساك الحسي فإن من أمسك حسا فهو مفطر شرعا وفي ضمن ذلك: إبطال فائدة الوصال شرعا إذ لا يحصل به ثواب الصوم.
11 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال قالوا: إنك تواصل قال: "إني لست كهيئتكم إني أطعم وأسقى" 2 ورواه أبو هريرة3 وعائشة4 وأنس بن مالك5.
ولمسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: "فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر" 6.
في الحديث دليل على كراهة الوصال.
واختلف الناس فيه ونقل عن بعض المتقدمين فعله ومن الناس من أجازه إلى السحر على حديث أبي سعيد الخدري.
وفي حديث أبي سعيد الخدري: دليل على أن النهي عنه نهي كراهة لا نهي تحريم وقد
ـــــــ
1 البخاري "1954" ومسلم "1100".
2 البخاري "1963" ومسلم "1102".
3 البخاري "1965" ومسلم "1103".
4 البخاري "1964" ومسلم "1105".
5 البخاري "1961" ومسلم "1104".
6 هو عند البخاري "1963" ولم يخرجه مسلم كما ذكر المؤلف رحمه الله.(1/282)
يقال: إن الوصال المنهي عنه: ما اتصل باليوم الثاني فلا يتناوله الوصال إلى السحر فإن قوله عليه السلام: "فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر" يقتضي تسميته وصالا والنهي عن الوصال يمكن تعليله بالتعريض بصوم اليوم الثاني فإن كان واجبا كان بمثابة الحجامة والفصد وسائر ما يتعرض به الصوم للبطلان وتكون الكراهة شديدة وإن كان صوم نفل: ففيه التعرض لإبطال ما شرع فيه من العبادة وإبطالها: إما ممنوع - على مذهب بعض الفقهاء - وإما مكروه وكيفما كان: فعلة الكراهة موجودة إلا أنها تختلف رتبتها فإن أجزنا الإفطار: كان رتبة هذه الكراهة أخف من رتبة هذه الكراهة أخف من رتبة الكراهة في الصوم الواجب قطعا وإن منعناه فهل يكون كالكراهة في تعريض الصوم المفروض بأصل الشرع؟ فيه نظر فيحتمل أن يقال: يستويان لاستوائهما في الوجوب ويحتمل أن يقال: لا يستويان لأن ما ثبت بأصل الشرع فالمصالح المتعلقة به أقوى وأرجح لأنها انتهضت سببا للوجوب وأما ما ثبت وجوبه بالنذر - وإن كان مساويا للواجب بأصل الشرع في أصل الوجوب - فلا يساويه في مقدار المصلحة فإن الوجوب ههنا إنما هو للوفاء بما التزمه العبد لله تعالى وأن لا يدخل فيمن يقول ما لا يفعل وهذا بمفرده لا يقتضي الاستواء في المصالح ومما يؤيد هذا النظر الثاني؟ ما ثبت في الحديث الصحيح: "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النذر"1 مع وجوب الوفاء بالذر فلو كان مطلق الوجوب مما يقتضي مساواة المنذور بغيره من الواجبات: لكان فعل الطاعة بعد النذر أفضل من فعلها قبل النذر لأنه حينئذ يدخل تحت قوله تعالى فيما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ما معناه: "أنه ما تقرب المتقربون إلي بمثل أداء ما افترضت عليهم" 2 ويحمل ما تقدم من البحث على أداء ما افترض بأصل الشرع لأنه لو حمل على العموم لكان النذر وسيلة إلى تحصيل الأفضل فكان يجب أن يكون مستحبا وهذا على إجراء النهي عن النذر على عمومه.
ـــــــ
1 وهو الحديث الذي أخرجه البخاري "6608" ومسلم "1639" من حديث ابن عمر وفيه عن البخاري نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النذر.
2 جزء من حديث أخرجه البخاري "6502" عن أبي هريرة.(1/283)
باب أفضل الصيام و غيره
...
2 - باب أفضل الصيام وغيره.
1 - عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أقول: والله لأصومن النهار ولأقومن الليل ما عشت, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنت الذي قلت ذلك؟", فقلت له: قد قلته بأبي أنت وأمي, فقال: "فإنك لا تستطيع ذلك فصم وأفطر وقم ونم وصم من الشهر ثلاثة أيام فإن الحسنة بعشر أمثالها وذلك(1/283)
مثل صيام الدهر" قلت: فإني أطيق أفضل من ذلك قال: "فصم يوما وأفطر يومين", قلت: أطيق أفضل من ذلك قال: "فصم يوما وأفطر يوما فذلك مثل صيام داود وهو أفضل الصيام", فقلت: إني أطيق أفضل من ذلك قال: "لا أفضل من ذلك" 1.
وفي رواية: "لا صوم فوق صوم أخي داود - شطر الدهر - صم يوما وأفطر يوما" 2.
فيه ست مسائل:
الأولى: صوم الدهر ذهب جماعة إلى جوازه منهم مالك والشافعي ومنعه الظاهرية للأحاديث التي وردت فيه كقوله عليه السلام: "لا صام من صام الأبد" 3 وغير ذلك وتأول مخالفوهم هذا على من صام الدهر وأدخل فيه الأيام المنهي عن صومها كيومي العيدين وأيام التشريق وكأن هذا محافظة على حقيقة صوم الأبد فإن من صام هذه الأيام مع غيرها: هو الصائم للأبد ومن أفطر فيها لم يصم الأبد إلا أن في هذا خروجا عن الحقيقة الشرعية وهو مدلول لفظة صام فإن هذه الأيام غير قابلة للصوم شرعا إذ لا يتصور فيها حقيقة الصوم فلا يحصل حقيقة صام شرعا لمن أمسك في هذه الأيام فإن وقعت المحافظة على حقيقة لفظ الأبد فقد وقع الإخلال بحقيقة لفظ صام شرعا فيجب أن يحمل ذلك على الصوم اللغوي وإذا تعارض مدلول اللغة ومدلول الشرع في ألفاظ صاحب الشرع حمل على الحقيقة الشرعية.
ووجه آخر: وهو أن يتعلق الحكم بصوم الأبد يقتضي ظاهره أن الأبد متعلق الحكم من حيث هو أبد فإذا وقع الصوم في هذه الأيام فعلة الحكم: وقوع الصوم في الوقت المنهي عنه وعليه ترتب الحكم ويبقى ترتيبه على مسمى الأبد غير واقع فإنه إذا صام هذه الأيام تعلق به الذم سواء صام غيرها أو أفطر ولا يبقى متعلق الذم عليه صوم الأبد بل هو صوم هذه الأيام إلا أنه لما كان صوم الأبد يلزم منه صوم هذه الأيام: تعلق به الذم لتعلقه بلازمه الذي لا ينفك عنه فمن ههنا نظر المتأولون بهذا التأويل فتركوا التعليل بخصوص صوم الأبد.
المسألة الثانية: كره جماعة قيام كل الليل لرد النبي صلى الله عليه وسلم على من أراده ولما يتعلق به من الإجحاف بوظائف عديدة وفعله جماعة من المتعبدين من السلف وغيرهم ولعلهم حملوا الرد على طلب الرفق بالمكلف وهذا الاستدلال على الكراهة بالرد المذكور عليه سؤال وهو أن يقال: إن الرد لمجموع الأمرين وهو صيام النهار وقيام الليل فلا يلزمه ترتبه على أحدهما.
ـــــــ
1 البخاري "1976" ومسلم "1159".
2 البخاري "1980" ومسلم "159" "191".
3 البخاري "1977" ومسلم "1159" "186".(1/284)
المسألة الثالثة: قوله عليه السلام: "إنك لا تستطيع ذلك" تطلق عدم الاستطاعة بالنسبة إلى المعتذر مطلقا وبالنسبة إلى الشاق على الفاعل وعليهما ذكر الاحتمال في قوله تعالى: {وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286] فحمله بعضهم على المستحيل حتى أخذ منه جواز تكليف المحال وحمله بعضهم على ما يشق, و هو الأقرب فقوله عليه الصلاة و السلام: "لا تستطيع ذلك" محمول على أنه يشق ذلك عليك على الأقرب ويمكن أن يحمل ذلك على الممتنع: إما على تقدير أن يبلغ من العمر ما يتعذر معه ذلك وعلمه النبي صلى الله عليه وسلم بطريق أو في ذلك التزام لأوقات تقتضي العادة أنه لا بد من وقوعها مع تعذر ذلك فيها ويحتمل أن يكون قوله: "لا تستطيع ذلك" مع القيام ببقية المصالح المرعية شرعا.
المسألة الرابعة: فيه دليل على استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر وعلته مذكورة في الحديث واختلف الناس في تعيينها من الشهر اختلافا في تعيين الأحب والأفضل لا غير وليس في الحديث ما يدل على شيء من ذلك فأضرنا عن ذكره.
المسألة الخامسة: قوله عليه السلام: "وذلك مثل صيام الدهر" مؤول عندهم على أنه مثل أصل صيام الدهر من غير تضعيف للحسنات فإن ذلك التضعيف مرتب على الفعل الحسي الواقع في الخارج والحامل على هذا التأويل: أن القواعد تقتضي أن المقدر لا يكون كالمحقق وأن الأجور تتفاوت بحسب تفاوت المصالح أو المشقة في الفعل فكيف يستوي من فعل الشيء بمن قدر فعله له فأجل ذلك قيل: إن المراد أصل الفعل في التقدير لا الفعل المرتب عليه التضعيف في التحقيق وهذا البحث يأتي في مواضع ولا يختص بهذا الموضع.
ومن ههنا يمكن أن يجاب عن الاستدلال بهذا اللفظ وشبهه على جواز صوم الدهر من حيث إنه ذكر للترغيب في فعل هذا الصوم ووجه الترغيب: أنه مثل بصوم الدهر ولا يجوز أن تكون جهة الترغيب هي جهة الذم.
وسبيل الجواب: أن الذم - عند من قال به - متعلق بالفعل الحقيق ووجه الترغيب ههنا: حصول الثواب على الوجه التقديري فاختلفت جهة الترغيب وجهة الذم وإن كان هذا الاستنباط الذي ذكر لا بأس به ولكن الدلائل الدالة على كراهة صوم الدهر أقوى منه دلالة والعمل بأقوى الدليلين واجب والذين أجازوا صوم الدهر حملوا النهي على ذي عجز أو مشقة أو ما يقرب من ذلك من لزوم تعطيل مصالح راجحة على الصوم أو متعلقة بحق الغير كالزوجة مثلا.
المسألة السادسة: قوله عليه السلام في صوم داود: "وهو أفضل الصيام" ظاهر قوي في تفضيل هذا الصوم على صوم الأبد والذين قالوا بخلاف ذلك: نظروا إلى أن العمل متى كان أكثر كان الأجر أوفر هذا هو الأصل فاحتاجوا إلى تأويل هذا وقيل فيه: إنه أفضل الصيام.(1/285)
بالنسبة إلى من حاله مثل حالك أي من يتعذر عليه الجمع بين الصوم الأكثر وبين القيام بالحقوق والأقرب عندي: أن يجرى على ظاهر الحديث في تفضيل صيام داود عليه السلام والسبب فيه: أن الأفعال متعارضة المصالح والمفاسد وليس كل ذلك معلوما لنا ولا مستحضرا وإذا تعارضت المصالح والمفاسد فمقدار تأثير كل واحد منها في الحث والمنع غير محقق لنا فالطريق حينئذ: أن نفوض الأمر إلى صاحب الشرع ونجري على ما دل عليه ظاهر اللفظ مع قوة الظاهر ههنا وأما زيادة العمل واقتضاء القاعدة لزيادة الأجر بسببه: فيعارضه اقتضاء العادة والجبلة للتقصير في حقوق يعارضها الصوم الدائم ومقادير ذلك الفائت مع مقادير ذلك الحاصل من الصوم غير معلوم لنا وقوله عليه السلام: "لا صوم فوق صوم داود" يحمل على أنه لا فوقه في الفضيلة المسؤول عنها.
2 - عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أحب الصيام إلى الله صيام داود وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه وكان يصوم يوما ويفطر يوما" 1.
وفي هذه الرواية زيادة قيام الليل وتقديره بما ذكره ونوم سدسه الأخير: فيه مصلحة الإبقاء على النفس واستقبال صلاة الصبح وأذكار أول النهار بالنشاط والذي تقدم في الصوم من المعارض: وارد هنا وهو أن زيادة العمل تقتضي زيادة الفضيلة والكلام فيه كالكلام في الصوم من تفويض مقادير المصالح والمفاسد إلى صاحب الشرع.
ومن مصالح هذا النوع من القيام أيضا: أنه أقرب إلى عدم الرياء في الأعمال فإن من نام السدس الأخير: أصبح جاما غير منهوك القوى فهو أقرب إلى أن يخفي أثر عمله على من يراه ومن يخالف هذا يجعل قوله عليه السلام: "أحب الصيام" مخصوصا بحالة أو بفاعل وعمدتهم: النظر إلى ما ذكرناه.
3 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر وركعتي الضحى وأن أوتر قبل أن أنام"2.
فيه دليل على تأكيد هذه الأمور بالقصد إلى الوصية بها وصيام ثلاثة أيام قد وردت علته في الحديث وهو تحصيل أجر الشهر باعتبار أن الحسنة بعشر أمثالها وقد ذكرنا ما فيه ورأى من يرى أن ذلك أجر بلا تضعيف ليحصل الفرق بين صوم الشهر تقديرا وبين صومه تحقيقا.
ـــــــ
1 البخاري "1131" ومسلم "1159" واللفظ له.
2 البخاري "1981" ومسلم "721".(1/286)
وفي الحديث دليل على استحباب صلاة الضحى وأنها ركعتان ولعله ذكر الأقل الذي توجه التأكيد لفعله وعدم مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم عليها لا ينافي استحبابها لأن الاستحباب يقوم بدلالة القول وليس من شرط الحكم: أن تتضافر عليه الدلائل نعم ما واظب عليه الرسول صلى الله عليه وسلم تترجح مرتبته على هذا الظاهر.
وأما النوم عن الوتر: فقد تقدم في هذا الكلام في تأخير الوتر وتقديمه وورد فيه حديث يقتضي الفرق بين من وثق من نفسه بالقيام آخر الليل وبين من لم يثق فعلى هذا تكون الوصية مخصوصة بحال أبي هريرة ومن وافقه في حاله.
4 - عن محمد بن عباد بن جعفر قال: "سألت جابر بن عبد الله أنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الجمعة؟ قال: نعم"1.
وزاد مسلم: "ورب الكعبة"2.
النهي عن صوم يوم الجمعة محمول على صومه مفردا ن كما تبين في موضع آخر ولعل سببه: أن لا يخص يوم بعينه بعبادة معينة لما في التخصيص من التشبه باليهود في تخصيص السبت بالتجرد عن الأعمال الدنيوية إلا أن هذا ضعيف لأن اليهود لا يخصون يوم السبت بخصوص الصوم فلا يقوى التشبه بهم بل ترك الأعمال الدنيوية أقرب إلى التشبه بهم ولم يرد به النهي وإنما تؤخذ كراهته من قاعدة الكراهة التشبه بالكفار ومن قال: بأنه يكره التخصيص ليوم معين فقد أبطل تخصيص يوم الجمعة ولعله ينضم إلى ما ذكرناه من المعنى: أن اليوم لما كان فضيلا جدا على الأيام وهو يوم عيد هذه الملة كان الداعي إلى صومه قويا فنهى عنه حماية أن يتتابع الناس في صومه فيحصل فيه التشبه أو محذور إلحاق العوام إياه بالواجبات إذا أديم وتتابع الناس في صومه فيلحقون بالشرع ما ليس منه وأجاز مالك صومه مفردا وقال بعضهم: لم يبلغه الحديث أو لعله لم يبلغه.
5 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم يوما قبله أو يوما بعده" 3.
حديث أبي هريرة يبين المطلق في الرواية الأولى ويوضح أن المراد إفراده بالصوم ويظهر منه: أن العلة هي الإفراد بالصوم ويبقى النظر: هل ذلك مخصوص بهذا اليوم أم نعديه إلى قصد غيره بالتخصيص بالصوم؟ وقد أشرنا إلى الفرق بين تخصيصه وتخصيص غيره بأن الداعي ههنا
ـــــــ
1 البخاري "1984" ومسلم "1143".
2 زيادة مسلم بلفظ ورب هذا البيت.
3 البخاري "1985" ومسلم "1144" بلفظ قريب.(1/287)
إلى تخصيصه عام بالنسبة إلى كل الأمة فالداعي إلى حماية الذريعة فيه أقوى من غيره فمن هذا الوجه: يمكن تخصيص النهي به ولو قدرنا أن العلة تقتضي عموم النهي عن التخصيص بصوم غيره ووردت دلائل تقتضي تخصيص البعض باستحباب صومه بعينه: لكانت مقدمة على العموم المستنبط من عموم العلة لجواز أن تكون العلة قد اعتبر فيها وصف من أوصاف محل النهي والدليل الدال على الاستحباب لم يتطرق إليه احتمال الرفع فلا يعارضه ما يحتمل فيه التخصيص ببعض أوصاف المحال.
6 - عن أبي عبيد مولى ابن أزهر - واسمه: سعد بن عبيد - قال: شهدت العيد مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: "هذان يومان نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامهما: يوم فطركم من صيامكم واليوم الآخر: تأكلون فيه من نسككم"1.
مدلوله: المنع من صوم يومي العيد ويقتضي ذلك عدم صحة صومهما بوجه من الوجوه وعند الحنفية في الصحة مخالفة في بعض الوجوه فقالوا: إذا نذر صوم يوم العيد وأيام التشريق: صح نذره وخرج عن العهدة بصوم ذلك وطريقهم فيه: أن الصوم له جهة عموم وجهة خصوص فهو من حيث إنه صوم: يقع الامتثال به ومن حيث إنه صوم عيد: يتعلق به النهي والخروج عن العهدة: يحصل بالجهة الأولى أعني كونه صوما والمختار عند غيرهم: خلاف ذلك وبطلان النذر وعدم صحة الصوم: والذي يدعى من الجهتين بينهما تلازم ههنا ولا انفكاك فيتمكن النهي من هذا الصوم فلا يصح أن يكون قربة فلا يصح نذره.
بيانه: أن النهي ورد عن صوم يوم العيد والناذر له معلق لنذره بما تعلق به النهي وهذا بخلاف بالصلاة في الدار المغصوبة عند من يقول بصحتها فإنه لم يحصل التلازم بين جهة العموم أعني كونها صلاة وبين جهة الخصوص أعني كونها حصولا في مكان مغصوب وأعني بعدم التلازم ههنا: عدمه في الشريعة فإن الشره وجه الأمر إلى مطلق الصلاة والنهي إلى مطلق الغصب وتلازمهما واجتماعهما إنما هو في فعل المكلف لا في الشريعة فلم يتعلق النهي شرعا بهذا الخصوص بخلاف صوم يوم العيد فإن النهي ورد عن خصوصه فتلازمت جهة العموم وجهة الخصوص في الشريعة وتعلق النهي بعين ما وقع في النذر فلا يكون قربة.
وتكلم أهل الأصول في قاعدة تقتضي النظر في هذه المسألة وهو أن النهي عند الأكثرين لا يدل على صحة المنهي عنه وقد نقلوا عن محمد بن الحسن: أنه يدل على صحة المنهي عنه.
ـــــــ
1 البخاري "1990" ومسلم "1137".(1/288)
لأن النهي لا بد فيه من إمكان المنهي عنه: إذ لا يقال للأعمى: لا تبصر: وللإنسان لا تطر فإذا هذا المنهي عنه - أعني صوم يوم العيد - ممكن وإذا أمكن ثبتت الصحة وهذا ضعيف لأن الصحة إنما تعتمد التصور والإمكان العقلي أو العادي والنهي يمنع التصور الشرعي فلا يتعارضان وكان محمد بن الحسن يصرف اللفظ في المنهي عنه إلى المعنى الشرعي.
وفي الحديث دلالة على أن الخطيب يستحب له أن يذكر في خطبته ما يتعلق بوقته من الأحكام كذكر النهي عن صوم يوم العيد في خطبة العيد فإن الحاجة تمس إلى مثل ذلك وفيه إشعار وتلويح بأن علة الإفطار في يوم الضحى: الأكل من النسك.
وفيه دليل على جواز الأكل من النسك وقد فرق الفقهاء بين الهدي والنسك وأجاز الأكل إلا من جزاء الصيد وفدية الأذى ونذر المساكين وهدي التطوع إذا عطب قبل محله وجعل الهدي كجزاء الصيد وما وجب لنقص في حج أو عمرة.
7 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يومين: الفطر والنحر وعن الصماء وأن يحتبي الرجل في الثوب الواحد وعن الصلاة بعد الصبح والعصر" أخرجه مسلم بتمامه وأخرج البخاري الصوم فقط1.
أما صوم يوم العيد فقد تقدم وأما اشتمال الصماء فقال عبد الغافر الفارسي في مجمعه تفسير الفقهاء: أنه يشتمل بثوب ويرفعه من أحد جانبيه فيضعه على منكبيه فالنهي عنه لأنه يؤدي إلى التكشف وظهور العورة قال: وهذا التفسير لا يشعر به لفظ الصماء وقال الأصمعي: هو أن يشتمل بالثوب فيستر به جميع جسده بحيث لا يترك فرجة يخرج منها يده واللفظ مطابق لهذا المعنى.
والنهي عنه: يحتمل وجهين:
أحدهما: أنه يخاف معه أن يدفع إلى حالة سادة لمتنفسه فيهلك عما تحته إذا لم تكن فيه فرجة والآخر: أنه إذا تخلل به فلا يتمكن من الاحتراس والاحتراز إن أصابه شيء أو نابه مؤذ ولا يمكنه أن يتقيه بيديه لإدخاله إياهما تحت الثوب الذي اشتمل به والله أعلم.
وقد مر الكلام في النهي عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر.
ـــــــ
1 البخاري "1991" ومسلم "827" "141" مختصرا بلفظ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام يومين: يوم الفطر ويوم النحر
وأما النهي عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر فهو عند مسلم "828" "288" بلفظ: "لا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس ولا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس".(1/289)
وأما الاحتباء في الثوب الواحد: فيخشى منه تكشف العورة.
8 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صام يوما في سبيل الله بعد الله وجهه عن النار سبعين خريفا" 1.
قوله: "في سبيل الله" العرف الأكثر فيه: استعماله في الجهاد فإذا حمل عليه: كانت الفضيلة لاجتماع العبادتين - أعني عبادة الصوم والجهاد - ويحتمل أن يراد بسبيل الله: طاعته كيف كانت ويعبر بذلك عن صحة القصد والنية فيه والأول: أقرب إلى العرف وقد ورد في بعض الأحاديث: جعل الحج أو سفره في سبيل الله وهو استعمال وضعي.
والخريف: يعبر به عن السنة فمعنى سبعين خريفا سبعون سنة وإنما عبر بالخريف عن السنة: من جهة أن السنة لا يكون فيها إلا خريف واحد فإذا مر الخريف فقد مضت السنة كلها وكذلك لو عبر بسائر الفصول عن العام كان سائغا بهذا المعنى إذ ليس في السنة إلا ربيع واحد وصيف واحد قال بعضهم: ولكن الخريف أولى بذلك لأنه الفضل الذي يحصل به نهاية ما بدأ في سائر الفصول لأن الأزهار تبدو في الربيع والثمار تتشكل صورها في الصيف وفيه يبدو نضجها ووقت الانتفاع بها أكلا وتحصيلا وادخارا في الخريف وهو المقصود منها فكان فصل الخريف أولى بأن يعبر به عن السنة من غيره والله أعلم.
ـــــــ
1 البخاري "2840" ومسلم "1153" "168" واللفظ للبخاري.(1/290)
3 - باب ليلة القدر.
1 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر" 1.
فيه دليل على عظم الرؤيا والاستناد إليها في الاستدلال على الأمور الوجوديات وعلى ما لا يخالف القواعد الكلية من غيرها وقد تكلم الفقهاء فيما لو رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وأمره بأمر: هل يلزمه ذلك؟ وقيل فيه: إن ذلك إما أن يكون مخالفا لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من الأحكام في اليقظة أولا فإن كان مخالفا عمل بما ثبت في اليقظة لأنا - وإن قلنا: بأن من رأى النبي صلى الله عليه وسلم على الوجه المنقول من صفته فرؤياه حق - فهذا من قبيل تعارض الدليلين والعمل بأرجحهما وما ثبت في اليقظة فهو أرجح وإن كان غير مخالف لما ثبت في اليقظة: ففيه خلاف والاستناد إلى الرؤيا ههنا: في أمر ثبت استحبابه مطلقا وهو طلب ليلة القدر وإنما ترجح السبع الأواخر.
ـــــــ
1 البخاري "2015" ومسلم "1165".(1/290)
لسبب المرائي الدالة على كونها في السبع الأواخر وهو استدلال على أمر وجودي إنه استحباب شرعي: مخصوص بالتأكيد بالنسبة إلى هذه الليالي مع كونه غير مناف للقاعدة الكلية الثابتة من استحباب طلب ليلة القدر وقد قالوا: يستحب في جميع الشهر.
وفي الحديث دليل على أن ليلة القدر في شهر رمضان وهو مذهب الجمهور وقال بعض العلماء: إنها في جميع السنة وقالوا: لو قال في رمضان لزوجته: أنت طالق ليلة القدر لم تطلق حتى عليها سنة لأن كونها مخصوصة برمضان مظنون وصحة النكاح معلومة فلا تزال بيقين أنعني بيقين مرور ليلة القدر وفي هذا نظر لأنه إذا دلت الأحاديث على اختصاصها بالعشر الأواخر كان إزالة النكاح بناء على مستند شرعي وهو الأحاديث الدالة على ذلك والأحكام المقتضية لوقوع الطلاق يجوز أن تبنى على أخبار الآحاد ويرفع بها النكاح ولا يشترط في رفع النكاح أو أحكامه: أن يكون ذلك مستندا إلى خبر متواتر أو أمر مقطوع به اتفاقا نعم ينبغي أن ينظر إلى دلالة ألفاظ الأحاديث الدالة على اختصاصها بالعشر الأواخر ومرتبتها في الظهور والاحتمال فإن ضعفت دلالتها فلما قيل وجه.
وفي الحديث دليل لمن رجح في ليلة القدر غير ليلة الحادي والعشرين والثالث والعشرين.
2 - عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر" 1.
وحديث عائشة يدل على مادل عليه الحديث قبله مع زيادة الاختصاص بالوتر من السبع الأواخر.
3 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان يعتكف في العشر الأوسط من رمضان فاعتكف عاما حتى إذا كانت ليلة إحدى وعشرين - وهي الليلة التي يخرج من صبيحتها من اعتكافه - قال: "من اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر فقد أريت هذه الليلة ثم أنسيتها وقد رأيتني أسجد في ماء وطين من صبيحتها فالتمسوها في العشر الأواخر والتمسوها في كل وتر", فمطرت السماء تلك الليلة وكان المسجد على عريش فوكف المسجد فأبصرت عيناي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى جبهته أثر الماء والطين من صبح إحدى وعشرين"2.
وفي الحديث دليل لمن رجح ليلة إحدى وعشرين في طلب ليلة القدر ومن ذهب إلى أن ليلة القدر تنتقل في الليالي فله أن يقول: كانت في تلك السنة ليلة إحدى وعشرين ولا يلزم
ـــــــ
1 البخاري "2017" ومسلم "1169".
2 البخاري "2027" ومسلم "1167".(1/291)
من ذلك: أن تترجح هذه الليلة مطلقا والقول بتنقلها حسن لأن فيه جمعا من الأحاديث وحثا على إحياء جميع تلك الليالي.
وقوله: "يعتكف العشر الأوسط" الأقوى فيه: أن يقال الوسط والوسط بضم السين أو فتحها وأما الأوسط فكأنه تسمية لمجموع تلك الليالي والأيام وإنما رجح الأول: لأن العشر اسم لليالي فيكون وصفها الصحيح جمعا لا ئقا بها وقد ورد في بعض الروايات ما يدل على أن اعتكافه صلى الله عليه وسلم في ذلك العشر كان لطلب ليلة القدر وقبل أن يعلم أنها في العشر الأواخر.
وقوله: "فوكف المسجد" أي قطر يقال: وكف البيت يكف وكفا ووكوفا: إذا قطر ووكف الدفع وكيفا ووكفانا: بمعنى قطر.
وقد يأخذ من الحديث بعض الناس: أن مباشرة الجبهة بالمصلى في السجود غير واجب وهو من يقول: إنه لو سجد على كور العمامة - كالطاقة والطاقتين - صح ووجه الاستدلال: أنه إذا سجد في الماء والطين ففي السجود الأول: يعلق الطين بالجبهة فإذا سجد السجود الثاني: كان الطين الذي علق بالجبهة في السجود الأول حائلا في السجود الثاني عن مباشرة الجبهة بالأرض وفيه مع ذلك احتمال لأن يكون مسح ما علق بالجبهة أولا قبل السجود الثاني.
والذي جاء في الحديث من قوله: "وهي الليلة التي يخرج من صبيحتها اعتكافه" وقوله في آخر الحديث: "فرأيت أثر الماء والطين على جبهته من صبح إحدى وعشرين" يتعلق بمسألة تكلموا فيها وهي أن ليلة اليوم: هل هي السابقة عليه كما هو المشهور أو الآتية بعده كما نقل عن بعض أهل الحديث الظاهرية؟.(1/292)
4 - باب الاعتكاف.
4 - عن عائشة رضي الله عنها: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل ثم اعتكف أزواجه من بعده"1.
و في لفظ: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان فإذا صلى الغداة جاء مكانه الذي اعتكف فيه"2.
الاعتكاف: الاحتباس واللزوم لشيء كيف كان وفي الشرع لزوم المسجد على وجه مخصوص والكلام فيه كالكلام في سائر الأسماء الشرعية.
ـــــــ
1 البخاري "2026" ومسلم "1172" "5".
2 البخاري "2041" ومسلم "1173" واللفظ للبخاري.(1/292)
وحديث عائشة فيه استحباب مطلق الاعتكاف واستحبابه في رمضان بخصوصه وفي العشر الأواخر بخصوصها وفيه تأكيد هذا الاستحباب بما أشعر به اللفظ من المداومة وبما صرح به في الرواية الأخرى من قولها: "في كل رمضان" وبما دل عليه من عمل أزواجه من بعده وفيه دليل على استواء الرجل والمرأة في هذا الحكم.
وقولها: "فإذا صلى الغداة جاء مكانه الذي اعتكف فيه" الجمهور على أنه إذا أراد اعتكاف العشر دخل معتكفه قبل غروب الشمس والدخول في أول ليلة منه وهذا الحديث قد يقتضي الدخول في أول النهار وغيره أقوى منه في هذه الدلالة ولكنه أول على أن الاعتكاف كان موجودا وأن دخوله في هذا الوقت لمعتكفه للانفراد عن الناس بعد الاجتماع بهم في الصلاة إلا أنه كان ابتداء دخول المعتكف ويكون المراد بالمعتكف ههنا الموضع الذي خصه بذلك أو أعده له كما جاء: "أنه اعتكف في قبلة" وكما جاء أن أزوجه ضر بن أخبية ويشعر بذلك م في هذه الرواية: "دخل مكانه الذي اعتكف فيه" بلفظ الماضي.
وقد يستدل بهذه الأحاديث على أن المسجد شرط في الاعتكاف من حيث أنه قصد لذلك وفيه مخالفة العادة في الاختلاط بالناس لا سيما النساء فلو جاز الاعتكاف في البيوت لما خالف المقتضي لعدم الاختلاط بالناس في المسجد وتحمل المشقة في الخروج لعوارض الخلقة وإيجاز بعض الفقهاء أن للمرأة أن تعتكف في مسجد بيتها وهو الموضع الذي أعدته للصلاة وهيأته لذلك وقيل: أن بعضهم ألحق بها الرجل في ذلك.
2 - عن عائشة رضي الله عنها: "أنها كانت ترجل النبي صلى الله عليه وهي حائض وهو معتكف في المسجد وهي في حجرتها يناولها رأسه"1.
و في رواية: "وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان"2.
وفي رواية أن عائشة رضي الله عنها قالت: "إن كنت لأدخل البيت لحاجة والمريض فيها فما أسأل عنه إلا وأنا مارة"3.
الترجيل: تسريح الشعر.
فيه دليل على طهارة بدن الحائض وفيه دليل على أن خروج رأس المعتكف من المسجد لا يبطل اعتكافه وأخذ منه بعض الفقهاء أن خروج بعض البدن من المكان الذي حلف الإنسان
ـــــــ
1 البخاري "2046" ومسلم "297" واللفظ للبخاري.
2 البخاري "2029" ومسلم "297" واللفظ له.
3 مسلم "297" "7".(1/293)
على أن لا يخرج منه لا يوجب حنثه وكذلك دخول بعض بدنه إذا حلف أن لا يدخله من حيث أن امتناع الخروج من المسجد يوازن تعلق الحنث بالخروج لأن الحكم في كل واحد منهما متعلق بعدم الخروج فخروج بعض البدن إن اقتضى مخالفة ما علق عليه الحكم في أحد الموضعين اقتضى مخالفته في الآخر وحيث لم يقتض في أحدهما لم يقتض في الآخر لاتحاد المأخذ فيهما وكذلك تنقل هذه المادة في الدخول أيضا بأن تقول لو كان دخول البعض مقتضيا للحكم المعلق بدخول الكل لكان خروج البعض مقتضيا لحكم المعلق بخروج الجملة لكنه لا يقتضيها ثم فلا يقتضيه هنا وبيان الملازمة أن الحكم في الموضعين معلق بالجملة فإما أن يكون البعض موجبا لترتيب الحكم على الكل أو لا الخ.
وقولها: "و كان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان" كناية عما يضطر إليه من الحدث ولا شك في أن الخروج له غير مبطل للاعتكاف لأن الضرورة داعية إليه والمسجد مانع منه وكل ما ذكره الفقهاء أنه لا يخرج إليه أو اختلفوا في جواز الخروج إليه فهذا الحديث يدل على عدم الخروج إليه لعمومه فإذا ضم إلى ذل قرينة الحاجة إلى الخروج لكثير منه أو قيام الداعي الشرعي في بعضه كعيادة المريض وصلاة الجنازة وشبهه قويت الدلالة على المنع وفي الرواية الأخرى عن عائشة جواز عيادة المريض على وجه المرور من غير تعريج وفي لفظها إشعار بعدم عيادته على غير هذا الوجه.
3 - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله إني كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة - وفي رواية - يوما في المسجد الحرام قال: "فأوف بنذرك" 1 ولم يذكر بعض الرواة يوما ولا ليلة.
في الحديث فوائد:
أحدها: لزوم النذر للقربة وقد يستدل بعمومه من يقول بلزوم الوفاء بكل منذور.
و ثانيهما: يستدل به من يرى صحة النذر من الكافر وهو قول أو وجه في مذهب الشافعي والأشهر أنه لا يصح لأن النذر قربة والكافر ليس من أهل القرب ومن يقول بهذا يحتاج إلى أن يؤول الحديث بأنه أمر بأن يأتي باعتكاف يوم شبيه بما نذر لئلا يخل بعبادة نوى فعلها فأطلق عليه أنه منذور لشبهه بالمنذور وقيامه مقامه في فعل ما نواه من الطاعة وعلى هذا إما أن يكون قوله: "أوف بنذرك" من مجاز الحدث أو من مجاز التشبيه وظاهر
ـــــــ
1 البخاري "2032" ومسلم "1656".(1/294)
الحديث خلافه فإن دل دليل أقوى من هذا الظاهر على أنه لا يصح التزام الكافر الاعتكاف احتيج إلى هذا التأويل وإلا فلا.
وثالثها: استدل به على أن الصوم ليس بشرط لأن الليل ليس محلا للصوم وقد أمر بالوفاء بنذر الاعتكاف فيه وعدم اشتراط الصوم هو مذهب الشافعي واشتراطه مذهب مالك وأبي حنيفة وقد أول من اشترط الصوم قوله ليلة بيوم فإن الليلة تغلب في لسان العرب على اليوم حكي عنهم أنهم قالوا صمنا خمسا والخمس يطلق على الليالي فإنه لو أطلق على الأيام لقيل خمسة وأطلقت الليالي وأريدت الأيام أو يقال: المراد ليلة بيومها ويدل على ذلك أنه ورد بعض الروايات بلفظ: "اليوم".
4 - عن صفية بن حيي رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم معتكفا فأتيته أزوره ليلا فحدثته ثم قمت لأنقلب فقام معي ليقلبني وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد فمر رجلان من الأنصار فلما رأيا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرعا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "على رسلكما فإنها صفية بنت حيي", فقالا: سبحان الله يا رسول الله, فقال: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرا- أو قال- شيئا" 1.
وفي رواية: "أنها جاءت تزوره في اعتكافه في المسجد في العشر الأواخر من رمضان فتحدثت عنده ساعة ثم قامت تنقلب فقام النبي صلى الله عليه وسلم معها يقلبها حتى إذا بلغت باب المسجد عند باب أم سلمة" ثم ذكره بمعناه2.
صفية بنت حيي بن أخطب من شعب بني إسرائيل من سبط هارون عليه السلام نضيرية كانت عند سلام بتخفيف اللام ابن مشكم ثم خلف عليها كنانة بن أبي الحقيق فقيل يوم خيبر وتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم في سنة سبع من الهجرة وتوفيت في رمضان في زمن معاوية سنة خمسين من الهجرة.
والحديث يدل على جواز زيارة المرأة المعتكف وجواز التحدث معه وفيه تأنيس الزائر بالمشي معه لا سيما إذا دعت الحاجة إلى ذلك كالليل وقد تبين بالرواية الثانية أن النبي صلى الله عليه وسلم مشى معها إلى باب المسجد فقط.
ـــــــ
1 البخاري "2035" ومسلم "2175" واللفظ له
ليقلبني: أي لأرجع إلى بيتي فقام معي يصحبني النهاية.
2 البخاري "2035".(1/295)
وفية دليل على التحرز مما يقع في الوهم نسبة الإنسان إلية مما لا ينبغي وقد قال بعض العلماء إنه لو وقع ببالهما شيء لكفرا ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أراد تعليم أمته وهذا متأكد في حق العلماء ومن يقتدي بهم فلا يجوز لهم أن يفعلوا فعلا يوجب ظن السوء بهم وإن كان لهم فيه مخلص لأن ذلك تسبب إلى إبطال الانتفاع بعلمهم وقد قالوا إنه ينبغي للحاكم أن يبين وجه الحكم للمحكوم عليه.
إذا خفي عليه وهو من باب نفي التهمه بالنسبة إلى الجور في الحكم.
وفي الحديث دليل على هجوم خواطر الشيطان على النفس وما كان من ذلك غير مقدور على دفعه لا يؤاخذ به لقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] ولقوله عليه السلام في الوسوسة التي يتعاظم الإنسان أن يتكلم بها: "ذلك محض الإيمان" 1 وقد فسروه بأن التعاظم لذلك محض الإيمان لا الوسوسة كيفما كانت ففيه دليل على أن تلك الوسوسة لا يؤاخذ بها نعم في الفرق بين الوسوسة التي لا يؤاخذ بها وبين ما يقع شكا إشكال والله أعلم.
ـــــــ
1 جزء من حديث أخرجه مسلم "133" عن ابن مسعود سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة قال "تلك محض الإيمان" وفي حديث آخر لمسلم "132" عن أبي هريرة قال جاء ناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به؟ قال "وقد وجدتموه؟" قالوا: نعم, قال: "ذاك صريح الإيمان".(1/296)
كتاب الحج
باب المواقيت
...
كتاب الحج.
1 - باب المواقيت.
1 - عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لاهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام الجحفة ولأهل نجد قرن المنازل ولأهل اليمن يلملم.
"هن لهم ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج أو العمرة ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة" 1.
الحج- بفتح الحاء وكسرها القصد في اللغة وفي الشرع قصد مخصوص إلى محل مخصوص على وجه مخصوص.
وقوله: "وقت" قيل أن التوقيت في الأصل ذكر الوقت والصواب أن يقال: تعليق الحكم بالوقت ثم استعمل في التحديد للشيء مطلقا لأن التوقيت تحديد بالوقت فيصير التحديد من لوازم التوقيت فيطلق عليه التوقيت.
وقوله ههنا وقت يحتمل أن يراد به التحديد أي حد هذه المواضع للحرام ويحتمل أن يراد بذلك تعليق الإحرام بوقت الوصول إلى هذه الأماكن بشرط إرادة الحج أو العمرة ومعنى توقيت هذه الأماكن للإحرام أنه لا يجوز مجاوزتها لمريد الحج أو العمرة إلا محرما وإن لم يكن في لفظة وقت من حيث هي هي تصريح بالوجوب فقد ورد في غير هذه الرواية: "يهل أهل المدينة" 2 وهي صيغة خبر يراد به الأمر وورد أيضا في بعض الروايات لفظة الأمر3.
وفي ذكر هذه المواقيت مسائل:
الأولى: إن توقيتها متفق عليه لأرباب هذه الأماكن وإما إيجاب الدم لمجاوزتها عند الجمهور فمن غير هذا الحديث ونقل عن بعضهم أن مجاوزها لا يصح حجه وله إلمام بهذا الحديث من وجه وكأنه يحتاج إلى مقدمة أخرى من حيث آخر أو غيره.
ـــــــ
1 البخاري "1524" ومسلم "1181".
2 البخاري "1525" ومسلم "1182".
3 مسلم "1182" "15".(1/297)
الثانية: ذو الحليفة بضم الحاء المهملة وفتح اللام أبعد المواقيت من مكة وهي على عشر مراحل أو تسع منها والجحفة بضم الجيم وسكون الحاء قيل: سميت بذلك لأن السيل اجتحفها في بعض الزمان وهي على ثلاث مراحل من مكة ويقال لها مهيعة بفتح الميم وسكون الهاء وقيل بكسر الهاء وقرن المنازل بفتح القاف وسكون الراء وصاحب الصحاح ذكر فتح الراء وغلظ في ذلك كما غلظ في أن أويسا القرني منسوب إليها وإنما هو منسوب إلى قرن بفتح القاف والراء بطن من مراد كما بين في الحديث الذي فيه ذكر طلب عمر له ويلملم بفتح الياء واللام وسكون الميم بعدها ويقال فيه ألمم قيل: هي على مرحلتين من مكة وكذلك قرن على مرحلتين أيضا.
الثالثة: الضمير في قوله: "هن" لهذه المواقيت "لهن" أي لهذه الأماكن: المدينة والشام ونجد واليمن وجعلت هذه المواقيت لها والمراد أهلها والأصل أن يقال: هن لهم لأن المراد الأهل وقد ورد ذلك في بعض الروايات على الأصل.
الرابعة: قوله: "ولمن أتى عليهن من غير أهلهن" يقتضي أنه إذا مر بهن من ليس بميقاته أحرم منهن ولم يجاوزهن غير محرم ومثل ذلك بأهل الشام يمر أحدهم بذي الحليفة فيلزمه الإحرام منها ولا يتجاوزها إلى الجحفة التي هي ميقاته وهو مذهب الشافعي وذكر بعض المصنفين: أنه لا خلاف فيه وليس كذلك لأن المالكية نصوا على أن له أن يتجاوز إلى الجحفة قالوا: والأفضل إحرامه منها أي من ذي الحليفة ولعله أن يحمل الكلام على أنه لا خلاف فيه في مذهب الشافعي وإن كان قد أطلق الحكم ولم تضفه إلى مذهب أحد وحكى أن لا خلاف وهذا أيضا محل نظر فإن قوله: "ولمن أتى عليهن من غير أهلهن" عام فيمن أتى يدخل تحته من ميقاته بين يدي هذه المواقيت التي مر بها ومن ليس ميقاته بين يديها.
وقوله ولأهل الشام الجحفة عام بالنسبة إلى من يمر بميقات آخر أولا فإذا قلنا بالعموم الأول دخل تحته الشامي الذي مر بذي الحليفة فيلزم أن يحرم منها وإذا عملنا بالعموم الثاني وهو أن لأهل الشام الجحفة دخل تحته هذا المار أيضا بذي الحليفة فيكون له التجاوز إليها فلكل واحد منها عموم من وجه فكما يحتمل أن يقال ولمن أتى عليهن من غير أهلهن مخصوص بمن ليس ميقاته بين يديه يحتمل أن يقال ولأهل الشام الجحفة مخصوص بمن لم يمر بشيء من هذه المواقيت.
الخامسة: قوله: "ممن أراد الحج والعمرة" يقتضي تخصيص هذا الحكم بالمريد لأحدهما وأن من لم يرد ذلك إذا مر بأحد هذه المواقيت لا يلزمه الإحرام وله تجاوزها غير محرم.
السادسة: استدل بقوله: "ممن أراد الحج والعمرة" على أنه لا يلزمه الإحرام بمجرد دخول.(1/298)
مكة وهو أحد قولي الشافعي من حيث أن من لم يرد الحج أو العمرة لا يلزمه الإحرام فيدخل تحته من يريد دخول مكة لغير الحج أو العمرة وهذا أولا يتعلق بأن المفهوم له عموم من حيث إن مفهومه: أن من لا يريد الحج أو العمرة لا يلزمه الإحرام من حيث المواقيت وهو عام يدخل تحته من لا يريد الحج أو العمرة ولا دخول مكة ومن لا يريد الحج والعمرة ويريد دخول مكة وفي عموم المفهوم نظر في الأصول وعلى تقدير أن يكون له عموم فإذا دل دليل على وجوب الإحرام لدخول مكة وكان ظاهر الدلالة لفظا قدم على هذا المفهوم لأن المقصود بالكلام: حكم الإحرام بالنسبة إلى هذه الأماكن ولم يقصد به بيان حكم الداخل إلى مكة والعموم إذا لم يقصد فدلالته ليست بتلك القوية إذا ظهر من السياق المقصود من اللفظ والذي يقتضيه اللفظ على تقدير تسليم العموم وتناوله لمن يريد مكة لغير الحج أو العمرة أنه لا يجب عليه الإحرام من المواقيت ولا يلزم من عدم هذا الوجوب عدم وجوب الإحرام لدخول مكة.
السابعة: استدل به على أن الحج ليس على الفور لأن من مر بهذه المواقيت لا يريد الحج والعمرة يدخل تحته من لم يحج فيقتضي اللفظ أنه لا يلزمه الإحرام من حيث المفهوم فلو وجب على الفور للزمه أراد الحج أو لم يرده وفيه من الكلام ما في المسالة قبلها.
الثامنة: قوله: "و من كان دون ذلك فمن حيث أنشأ" يقتضي أن من منزله دون الميقات إذا أنشأ السفر للحج أو العمرة فميقاته منزله ولا يلزمه المسير إلى الميقات المنصوص عليه من هذه المواقيت.
التاسعة: يقتضي أن أهل مكة يحرمون منها وهو مخصوص بالإحرام للحج فإن من أحرم بالعمرة ممن هو في مكة يحرم من أدنى الحل ويقتضي الحديث أن الإحرام من مكة نفسها وبعض الشافعية يرى أن الإحرام من الحرم كله جائز والحديث على خلافه ظاهرا ويدخل في أهل مكة من بمكة ممن ليس من أهلها.
3 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يهل أهل المدينة من ذي الحليفة وأهل الشام من الجحفة وأهل نجد من قرن" قال: وبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "و يهل أهل اليمن من يلملم" 1.
وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر "يهل" فيه ما ذكرناه من الدلالة على الأمر بالإهلال خبر يراد به الأمر ولم يذكر ابن عمر سماعه لميقات اليمن من النبي صلى الله عليه وسلم وذكره ابن عباس فلذلك حسن أن يقدم حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
ـــــــ
1 البخاري "1525" ومسلم "1182".(1/299)
2 - باب ما يلبس المحرم من الثياب.
1 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلا قال: يا رسول الله ما يلبس المحرم من الثياب؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يلبس القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف إلا أحد لا يجد نعلين فليلبس خفين وليقطعهما أسفل من الكعبين ولا يلبس من الثياب شيئا مسه زعفران أو ورس" 1.
وللبخاري: "و لا تتنقب المرأة ولا تلبس القفازين" 2.
فيه مسائل:
الأولى: أنه وقع السؤال عما يلبس المحرم فأجيب بما لا يلبس لأن ما لا يلبس محصور وما يلبس غير محصور إذ الإباحة هي الأصل وفيه تنبيه على أنه كان ينبغي وضع السؤال عما لا يلبس وفيه دليل على أن المعتبر في الجواب ما يحصل منه المقصود كيف كان ولو بتغيير أو زيادة ولا تشترط المطابقة.
الثانية: اتفقوا على المنع من لبس ما ذكر في الحديث والفقهاء القياسيون عدوه إلى ما رأوه في معناه فالعمائم والبرانس تعدى إلى كل ما يغطى الرأس مخيطا أو غيره ولعل العمائم تنبيه على ما يغطيها من غير المخيط والبرانس تنبيه على ما يغطيها من المخيط فإنه قيل: إنها قلانس طوال كان يلبسها الزهاد في الزمان الأول والتنبيه بالقمص على تحريم المخيط بالبدن وما يساويه من المنسوج والتنبيه بالخفاف والقفازين وهو ما كانت النساء تلبسه في أيديهن وقيل أنه كان يحشى بقطن ويزر بأزرار فنبه بهما على كل ما يحيط بالعضو الخاص إحاطة مثلى في العادة ومنه السراويلات بإحاطتها بالوسط إحاطة المحيط.
الثالثة: إذا لم يجد نعلين ليس خفين مقطوعين من أسفل الكعبين وعند الحنبلية لا يقطعهما وهذا الحديث يدل على خلاف ما قالوه فإن الأمر بالقطع ههنا مع إتلافه المالية يدل على خلاف ما قالوه.
الرابعة: اللبس ههنا عند الفقهاء محمول على اللبس المعتاد في كل شيء مما ذكر فلو ارتدى بالقميص لم يمنع منه لأن اللبس المعتاد في القميص غير الارتداء واختلفوا في القباء إذا لبس من غير إدخال اليدين في الكمين ومن أوجب الفدية جعل ذلك من المعتاد فيه أحيانا واكتفى في التحريم فيه بذلك.
ـــــــ
1 البخاري "1542" ومسلم "1177" واللفظ للبخاري.
2 البخاري "1838" بلفظ "المحرمة" مكان "المرأة".(1/300)
الخامسة: لفظ المحرم يتناول من أحرم بالحج والعمرة معا والإحرام الدخول في أحد النسكين والتشاغل بأعمالهما وقد كان شيخنا العلامة أبو محمد بن عبد السلام يستشكل معرفة حقيقة الإحرام جدا ويبحث فيه كثيرا وإذا قيل له إنه النية اعترض عليه بأن النية شرط في الحج الذي الإحرام ركنه وشرطه الشيء غيره ويعترض على أنه التلبية بأنها ليست بركن والإحرام ركن هذا أو ما قرب منه وكان يحرم على تعيين فعل تتعلق به النية في الابتداء.
السادسة: المنع من الزعفران والورس وهو نبت يكون باليمن يصبغ به دليل على المنع من أنواع الطيب وعداه القائسون إلى ما يساويه في المعنى من المطيبات وما اختلفوا فيه فاختلافهم بناء على أنه من الطيب أم لا؟.
السابعة: نهي المرأة عن التنقب والقفازين يدل على أن حكم إحرام المرأة يتعلق بوجهها وكفيها والسر في ذلك وفي تحريم المخيط وغيره مما ذكر - والله أعلم - مخالفة العادة والخروج عن المألوف لإشعار النفس بأمرين.
أحدهما: الخروج عن الدنيا والتذكر للبس الأكفان عند نزع المخيط.
و الثاني: تنبيه النفس على التلبس بهذه العبادة العظيمة بالخروج عن معتادها وذلك موجب للإقبال عليها والمحافظة على قوانينها وأركانها وشروطها وآدابها والله أعلم.
2 - عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: يخطب بعرفات "من لم يجد نعلين فليلبس الخفين ومن لم يجد إزارا فليلبس السراويل" 1 يعني للمحرم.
فيه مسألتان:
إحداهما: قد يستدل به من لا يشترط القطع في الخفين عند عدم النعلين فإنه مطلق بالنسبة إلى القطع وعدمه وحمل المطلق ههنا على المقيد جيد لأن الحديث الذي قيد فيه القطع قد وردت فيه صيغة الأمر وذلك زائد على الصيغة المطلقة فإن لم نعمل بها وأجزنا مطلق الخفين تركنا ما دل عليه الأمر بالقطع وذلك غير سائغ وهذا بخلاف ما لو كان المطلق والمقيد في جانب الإباحة فإن إباحة المطلق حينئذ تقتضي زيادة على ما دل عليه إباحة المقيد فإن أخذ بالزائد كان أولى إذ لا معارضة بين إباحة المقيد وإباحة ما زاد عليه وكذلك نقول في جانب النهي: لا يحمل المطلق فيه على المقيد لما ذكرنا من أن المطلق دال على النهي فيما زاد على صورة المقيد من غير معارض فيه وهذا يتوجه إذا كان الحديثان - مثلا - مختلفين باختلاف مخرجهما أما إذا كان المخرج للحديث.
ـــــــ
1 البخاري "1841" ومسلم "1178" واللفظ للبخاري.(1/301)
واحدا ووقع اختلاف على ما انتهت إليه الروايات فههنا نقول: إن الآتي بالقيد حفظ ما لم يحفظه المطلق من ذلك الشيخ فكأن الشيخ لم ينطق به إلا مقيدا فيتقيد من هذا الوجه وهذا الذي ذكرناه في الإطلاق والتقييد: مبنى على ما يقوله بعض المتأخرين من أن العام في الذوات مطلق في الأحوال لا يقتضي العموم وأما على مثل ما نختاره في مثل هذا العموم في الأحوال تبعا للعموم في الذوات: فهو من باب العام والخاص.
الثانية: لبس السراويل إذا لم يجد إزارا يدل الحديث على جوازه من غير قطع وهو مذهب أحمد وهو قوي ههنا إذ لم يرد بقطعه ما ورد في الخفين وغيره من الفقهاء لا يبيح السراويل على هيئته إذا لم يجد الإزار.
3 - عند عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك" 1.
قال: وكان عبد الله بن عمر يزيد فيهما: "لبيك لبيك وسعديك والخير بيديك والرغباء إليك والعمل"2.
التلبية: الإجابة وقيل في معنى لبيك إجابة بعد إجابة ولزوما لطاعتك فثنى للتوكيد واختلف أهل اللغة في أنه تثنية أم لا فمنهم من قال: إنه اسم مفرد لا مثنى ومنهم من قال: إنه مثنى وقيل: إن لبيك مأخوذ من ألب بالمكان ولب: إذا قام به أي أنا مقيم على طاعتك وقيل: إنه مأخوذ من الباب الشيء وهو خالصه أي إخلاصي لك.
وقوله: "إن الحمد والنعمة لك" يروي فيه فتح الهمزة وكسرها والكسر أجود لأنه يقتضي أن تكون الإجابة مطلقة غير معللة فإن الحمد والنعمة لله على كل حال والفتح يدل على التعليل كأنه يقول: أجيب لهذا السبب والأول أعم.
وقوله: "والنعمة لك" الأشهر فيه: الفتح ويجوز الرفع على الابتداء وخبر إن محذوف وسعديك كلبيك قيل: معناه مساعدة لطاعتك بعد مساعدة والرغباء إليك بسكون الغين فيه وجهان:
أحدهما: ضم الراء.
والثاني: فتحها فإن ضممت قصرت وإن فتحت مددت وهذا كالنعماء والنعمى.
وقوله والعمل فيه حذف ويحتمل أن نقدره كالأول أي والعمل إليك أي إليك القصد به والانتهاء به إليك لتجازي عليه ويحتمل أن يقدر والعمل لك.
ـــــــ
1 البخاري "1549" ومسلم "1184".
2 مسلم "1184".(1/302)
وقوله والخير بيديك من باب إصلاح المخاطبة كما في قوله تعالى: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80].
4 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا ومعها محرم" 1.
وفي لفظ البخاري: "لا تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم" 2.
فيه مسائل:
الأولى: اختلف الفقهاء في أن المحرم للمرأة من الاستطاعة أم لا؟ حتى لا يجب عليها الحج إلا بوجود المحرم والذين ذهبوا إلى ذلك: استدلوا بهذا الحديث فإن سفرها للحج من جملة الأسفار الداخلة تحت الحديث فيمتنع إلا مع المحرم والذين لم يشترطوا ذلك قالوا: يجوز أن تسافر مع رفقة مأمونين إلى الحج رجالا ونساء وفي سفرها مع امرأة واحدة: خلاف في مذهب الشافعي وهذه المسألة تتعلق بالنصين إذا تعارضا وكان كل واحد منهما عاما من وجه خاصا من وجه بيانه: أن قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97] يدخل تحته الرجال والنساء فيقتضي ذلك: أنه إذا وجدت الاستطاعة المتفق عليها: أن يجب عليها الحج وقوله عليه السالم: "لا يحل لامرأة" - الحديث خاص بالنساء عام في الأسفار فإذا قيل به وأخرج عنه سفر الحج لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} قال المخالف: نعمل بقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} فتدخل المرأة فيه ويخرج سفر الحج عن النهي فيقوم في كل واحد من النصين عموم وخصوص ويحتاج إلى الترجيح من خارج وذكر بعض الظاهرية أنه يذهب إلى دليل من خارج وهو قوله عليه السلام: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله" 3 ولا يتجه ذلك فإنه عام في المساجد فيمكن أن يخرج عنه المسجد الذي يحتاج إلى السفر في الخروج إليه بحديث النهي.
الثانية: لفظ المرأة عام بالنسبة إلى سائر النساء وقال بعض المالكية: هذا عندي في الشابة وأما الكبيرة غير المشتهاة: فتسافر حيث شاءت في كل الأسفار بلا زوج ولا محرم وخالفه بعض المتأخرين من الشافعية من حيث إن المرأة مظنة الطمع فيها ومظنة الشهوة ولو كانت كبيرة وقد قالوا: لكل ساقطة لاقطة والذي قاله المالكي: تخصيص للعموم بالنظر إلى
ـــــــ
1 البخاري "1088" ومسلم "1339" واللفظ للبخاري.
2 ليس هذا اللفظ عند البخاري وإنما هو عند مسلم "1339" "420" من حديث أبي هريرة.
3 سبق تخريجه.(1/303)
المعنى وقد اختار هذا الشافعي: أن المرأة تسافر في الأمن ولا تحتاج إلى أحد بل تسير وحدها في جملة القافلة فتكون آمنة وهذا مخالف لظاهر الحديث.
الثالثة: قوله: "مسيرة يوم وليلة" اختلف في هذا العدد في الأحاديث فروى: "فوق ثلاث" 1 وروي: "مسيرة ثلاث ليال" 2 وروي: "لا تسافر امرأة يومين" 3 وروي: "مسيرة ليلة" 4 وروي: "مسيرة يوم" 5 وروي: "يوما وليلة" 6 وروي: "بريدا" وهو أربع فراسخ وقد حملوا هذا الاختلاف على حسب اختلاف السائلين واختلاف المواطن وأن ذلك متعلق بأقل ما يقع عليه اسم السفر.
الرابعة: "ذو المحرم" عام في محرم النسب كأبيها وأخيها وابن أخيها وابن أختها وخالها وعمها ومحرم الرضاع ومحرم المصاهرة كأبي زوجها وابن زوجها واستثنى بعضهم ابن زوجها فقال: يكره سفرها معه لغلبة الفساد في الناس بعد العصر الأول لأن كثيرا من الناس لا ينزل زوجة الأب في النفرة عنها منزلة محارم النسب والمرأة فتنة إلا فيما جبل الله عز وجل النفوس عليه من النفرة عن محارم النسب والحديث عام فإن كانت هذه الكراهة للتحريم - مع محرمية ابن الزوج - فهو مخالف لظاهر الحديث بعيد وإن كانت كراهة تنزيه للمعنى المذكور فهو أقرب تشوفا إلى المعنى وقد فعلوا مثل ذلك في غير هذا الموضع وما يقويه ههنا: أن قوله: "لا يحل" استثنى منه السفر مع المحرم فيصير التقدير: إلا مع ذي محرم فيحل.
ويبقى النظر في قولنا: "يحل" هل يتناول المكروه أم لا يتناوله؟ بناء على أن لفظة يحل تقتضي الإباحة المتساوية للطرفين فإن قلنا: لا يتناول المكروه فالأمر قريب مما قاله إلا أنه تخصيص يحتاج إلى دليل شرعي عليه وإن قلنا: يتناول فهو أقرب لأن ما قاله لا يكون حينئذ منافيا لما دل عليه اللفظ.
و المحرم الذي يجوز معه السفر والخلوة: كل من حرم نكاح المرأة عليه لحرمتها على التأبيد بسبب مباح فقولنا على التأبيد احترازا من أخت الزوجة وعمتها وخالتها وقولها بسبب
ـــــــ
1 مسلم "1338".
2 مسلم "1338" "414".
3 البخاري "1864" ومسلم "1827" "415".
4 مسلم "1339".
5 مسلم "1339" "420".
6 سبق تخريجه.(1/304)
مباح احترازا من أم الموطوءة بشبهة فإنها ليست محرما بهذا التفسير فإن وطء الشبهة لا يوصف بالإباحة وقولنا لحرمتها احترازا من الملاعنة فإن تحريمها ليس لحرمتها بل تغليظا هذا ضابط مذهب الشافعية.
الخامسة: لم يتعرض في هاتين الروايتين للزوج وهو موجود في رواية أخرى1 ولا بد من إلحاقه بالحكم بالمحرم في جواز السفر معه اللهم إلا أن يستعملوا لفظة الحرمة في إحدى الروايتين في غير معنى المحرمية استعمالا لغويا فيما يقتضي الاحترام فيدخل فيه الزواج لفظا والله أعلم.
ـــــــ
1 وهي رواية مسلم "1338" "416" و"1430".(1/305)
3 - باب الفدية.
عن عبد الله بن معقل قال: جلست إلى كعب بن عجرة فسألته عن الفدية؟ فقال: نزلت في خاصة وهي لكم عامة حملت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي فقال: "ما كنت أرى الوجع بلغ بك ما أرى" - أو "ما كنت أرى الجهد بلغ بك ما أرى - أتجد شاة؟" فقلت: لا, قال: "فصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع" 1.
وفي رواية: "فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطعم فرقا بين ستة أو يهدي شاة أو يصوم ثلاثة أيام"2.
الكلام عليه من وجوه:
أحدها: معقل والد عبد الله - هذا - بفتح الميم وإسكان العين المهملة وكسر القاف وعبد الله - هذا - هو ابن معقل بن مقرن - بضم الميم وفتح القاف وكسر الراء المشددة المهملة - مزني كوفي يكنى أبا الوليد متفق عليه وقال أحمد بن عبد الله فيه: كوفي تابعي ثقة من خيار التابعين.
وعجرة بضم العين المهملة وسكون الجيم وفتح الراء المهملة و كعب ولده من بني سالم بن عوف وقيل من بلي وقيل: هو كعب بن عجرة بن أمية بن عدي مات سنة اثنتين وخمسين بالمدينة وله خمس وسبعون سنة متفق عليه.
الثاني: في الحديث دليل على جواز حلق الرأس لأذى القمل وقاسوا عليه ما في معناه من الضرر والمرض.
ـــــــ
1 البخاري "1816" ومسلم "1201" "85" واللفظ للبخاري.
2 البخاري "1818" ومسلم "1201" "83".(1/305)
الثالث: قوله نزلت في يعنى آية الفدية وقوله خاصة يريد اختصاص سبب النزول به فإن اللفظ عام في الآية لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً} [البقرة: 196] وهذه صيغة عموم.
الرابع: قوله عليه السلام: "ما كنت أرى" بضم الهمزة أي أظن وقوله عليه السلام: "بلغ بك ما أرى" بفتح الهمزة يعني أشاهد وهو من رؤية العين والجهد بفتح الجيم: هو المشقة وأما الجهد - بضم الجيم - فهو الطاقة ولا معنى لها ههنا إلا أن تكون الصيغتان بمعنى واحد.
الخامس: قوله: "أو أطعم ستة مساكين" تبيين لعدد المساكين الذين تصرف إليهم الصدقة المذكورة في الآية وليس في الآية ذكر عددهم وأبعد من قال من المتقدمين: إنه يطعم عشرة مساكين لمخالفة الحديث وكأنه قاسه علىكفارة اليمين.
السادس: قوله: "لكل مسكين نصف صاع" بيان لمقدار الإطعام ونقل عن بعضهم: أن نصف الصاع لكل مسكين: إنما هو في الحنطة فأما التمر والشعير وغيرهما: فيجب لك مسكين صاع وعن أحمد رواية: أن لكل مسكين مد حنطة أو نصف صاع من غيرها وقد ورد في بعض الروايات تعيين نصف الصاع من تمر لكل مسكين1.
السابع: الفرق بفتح الراء وقد تسكن وهو ثلاثة آصع مفسر من الروايتين أعني هذه الرواية وهي تقسيم الفرق على ثلاثة آصع والرواية الأخرى: هو تعيين نصف الصاع من تمر لكل مسكين.
الثامن: قوله: "أو تهدي شاة" هو النسك المجمل في الآية قال أصحاب الشافعي: هي الشاة التي تجزي في الأضحية.
وقوله: "أو صم ثلاثة أيام" تعيين الصوم المجمل في الآية وأبعد من قال من المتقدمين: إن الصوم عشرة أيام لمخالفة هذا الحديث ولفظ الآية والحديث معا يقتضي التخيير بين هذه الخصال الثلاث - أعني الصيام والصدقة والنسك - لأن كلمة أو تقتضي التخيير.
وقوله: في الرواية: "أتجد شاة؟" فقلت: لا, فأمره أن يصوم ثلاثة أيام ليس المراد به: أن الصوم لا يجزي إلا عند عدم الهي قيل: بل هو محمول على أنه سأل عن النسك؟ فإن وجده أخبره بأنه يخيره بينه وبين الصيام والإطعام وإن عدمه فهو مخير بين الصيام والإطعام.
ـــــــ
1 مسلم: "1201": "84".(1/306)
4 - باب حرمة مكة.
1 - عن أبي شريح - خويلد بن عمرو - الخزاعي العدوي رضي الله عنه: أنه قال لعمرو بن سعيد بن العاص - وهو يبعث البعوث إلى مكة -: "ائذن لي أيها الأمير أن أحدثك قولا قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح فسمعته أذناي ووعاه قلبي وأبصرته عيناي حين تكلم به, أنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال: "إن مكة حرمها الله تعالى ولم يحرمها الناس فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر: أن يسفك بها دما ولا يعضد بها شجرة فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا: إن الله قد أذن لرسوله ولم يأذن لكم وإنما أذن لي ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس فليبلغ الشاهد الغائب" فقيل لأبي شريح: ما قال لك؟ قال: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح إن الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارا بدم ولا فارا بخربة1.
الخربة: بالخاء المعجمة والراء المهملة: هي الخيانة وقيل: البلية وقيل: التهمة وأصلها في سرقة الإبل قال الشاعر:
وتلك قربى مثل أن تناسبا
...
أن تشبه الضرائب الضرائبا
والخارب اللص يحب الخاربا
الكلام عليه من وجوه:
الأول: أبو شريح الخزاعي ويقال فيه: العدوي ويقال: الكعبي اسمه خويلد بن عمرو وقيل: هانئ بن عمرو أسلم قبل فتح مكة وتوفي بالمدينة سنة ثمان وستين.
الثاني: قوله: "ائذن لي أيها الأمير في أن أحدثك" فيه حسن الأدب في المخاطبة للأكابر - لا سيما الملوك - لا سيما فيما يخالف مقصودهم لأن ذلك يكون أدعى للقبول لا سيما في حق من يعرف منه ارتكاب غرضه فإن الغلطة عليه قد تكون سببا لإثارة نفسه ومعاندة من يخاطبه.
و قوله: "أحدثك قولا قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعته أذناي ووعاه قلبي" تحقيق لما يريد أن يخبر به وقوله: "سمعته أذناي" نفي لوهم أن يكون رواه عن غيره وقوله: "ووعاه قلبي" تحقيق لفهمه والتثبت في تعقل معناه.
الثالث: قوله: "فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما" يؤخذ منه أمران:
ـــــــ
1 البخاري: "104" ومسلم: "1354".(1/307)
أحدهما: تحريم القتال بمكة لأهل مكة وهو الذي يدل عليه سياق الحديث ولفظه وقد قال بذلك بعض الفقهاء قال القفال في شرح التلخيص في أول كتاب النكاح في ذكر الخصائص لا يجوز القتال بمكة قال: حتى لو تحصن جماعة من الكفار فيها لم يجز لنا قتالهم فيها وحكى الماوردي أيضا أن من خصائص الحرم أن لا يحارب أهله إذا بغوا على أهل العدل فقد قال بعض الفقهاء يحرم قتالهم بل يضيق عليهم حتى يرجعوا إلى الطاعة ويدخلوا في أحكام أهل العدل قال وقال جمهور الفقهاء: يقاتلون على البغي إذا لم يمكن ردهم عن البغي إلا بالقتال لأن قتال البغاة من حقوق الله تعالى التي لا يجوز إضاعتها فحفظها في الحرم أولى من إضاعتها وقيل إن هذا الذي نقله عن جمهور الفقهاء نص عليه الشافعي في كتاب اختلاف الحديث من كتب الأم ونص عليه أيضا في آخر كتابه المسمى ب سير الواقدي وقيل إن الشافعي أجاب عن الأحاديث بأن معناها تحريم نصب القتال عليهم وقتالهم بما يعم كالمنجنيق وغيره إذا لم يمكن إصلاح الحال بدون ذلك بخلاف ما إذا انحصر الكفار في بلد آخر فإنه يجوز قتالهم على كل وجه وبكل شيء والله أعلم.
و أقول: هذا التأويل على خلاف الظاهر القوي الذي دل عليه عموم النكرة في سياق النفي في قوله صلى الله عليه وسلم: "فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك دما" وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين خصوصياته لإحلالها له ساعة من نهار وقال: "فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم" فأبان بهذا اللفظ أن المأذون لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه لم يؤذن فيه لغيره والذي أذن للرسول فيه إنما هو مطلق القتال ولم يكن قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل مكة بمنجنيق وغيره مما يعم كما حمل عليه الحديث في هذا التأويل وأيضا فالحديث وسياقه يدل على أن هذا التحريم لإظهار حرمة البقعة بتحريم مطلق القتال فيها وسفك الدم وذلك لا يختص بما يستأصل وأيضا فتخصيص الحديث بما يستأصل ليس لنا دليل على تعيين هذا الوجه بعينه لأن يحمل عليه الحديث فلو أن قاتلا أبدى معنى آخر وخص به الحديث لم يكن بأولى من هذا.
و الأمر الثاني: يستدل به أبو حنيفة في أن الملتجئ إلى الحرم لا يقتل به لقوله عليه السلام: "لا يحل لامرئ أن يسفك بها دما" وهذا عام تدخل فيه صورة النزاع قال: بل يلجأ إلى أن يخرج من الحرم فيقتل خارجه وذلك بالتضييق عليه.
الرابع: العضد القطع عض: بفتح الضاد في الماضي يعض بكسر الضاد: يدل على تحريم قطع أشجار الحرم واتفقوا عليه فيما لا يستنبته الآدميون في العادة واختلف الفقهاء فيما يستنبته الآدميون والحديث عام في عض ما يسمى شجرا.
الخامس: قد يتوهم أن قوله عليه السلام: "لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم(1/308)
الآخر" أنه يدل على أن الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الشريعة والصحيح عند أكثر الأصوليين أنهم مخاطبون وقال بعضهم في الجواب عن هذا التوهم: لأن المؤمن هو الذي ينقاد لأحكامنا وينزجر عن محرمات شرعنا ويستثمر أحكامه فجعل الكلام فيه وليس فيه أن غير المؤمن لا يكون مخاطبا بالفروع.
وأقول: الذي أراه أن هذا الكلام من باب خطاب التهييج فإن مقتضاه أن استحلال هذا المنهي عنه لا يليق بمن يؤمن بالله واليوم الآخر بل ينافيه هذا هو المقتضى لذكر هذا الوصف ولو قيل: لا يحل لأحد مطلقا لم يحصل به الغرض وخطاب التهييج معلوم عند علماء البيان ومنه قوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23] إلى غير ذلك.
السادس: في دليل على أن مكة فتحت عنوة وهو مذهب الأكثرين وقال الشافعي وغيره فتحت صلحا وقيل في تأويل الحديث أن القتال كان جائزا له صلى الله عليه وسلم في مكة فلو احتاج إليه لفعله ولكن ما احتاج إليه.
وهذا التأويل يضعفه قوله عليه السلام: "فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم" فإنه يقتضي وجود قتال منه صلى الله عليه وسلم ظاهرا وأيضا السير التي دلت على وقوع القتال وقوله عليه السلام: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن"1 إلى غيره من الأمان المعلق على أشياء مخصوصة تبعد هذا التأويل أيضا.
السابع: قوله: "فليبلغ الشاهد الغائب" فيه تصريح بنقل العلم وإشاعة السنن والأحكام.
وقول عمرو: "أنا أعلم منك بذلك يا أبا شريح" الخ هو كلامه ولم يسنده إلى رواية وقوله: "لا يعيذ عاصيا" أي لا يعصمه وقوله: "ولا فارا بخربة" قد فسرها المصنف ويقال فيها بضم الخاء وأصلها سرقة الإبل كما قال وتطلق على كل خيانة وفي صحيح البخاري أنها البالية وعن الخليل أنه قال: هي الفساد في الدين من الخارب وهو اللص المفسد في الأرض وقيل هي العيب.
2 - عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: "لا هجرة ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا", وقال يوم فتح مكة: "إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق الله السماوات والارض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ولم يحل لي إلا ساعة من النهار فهو حرام
ـــــــ
1 مسلم "1780".(1/309)
بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكة ولا ينفر صيده ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها ولا يختلى خلاه", فقال العباس: يا رسول الله ألا الأذخر فإنه لقينهم وبيوتهم فقال: "إلا الأذخر" 1.
القين: الحداد.
قوله عليه السلام: "لا هجرة" نفي لوجوب الهجرة من مكة إلى المدينة فإن الهجرة تجب من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام وقد صارت مكة دار إسلام بالفتح وإن لم يكن من هذه الجهة فيكون حكما ورد لرفع وجوب هجرة أخرى بغير هذا السبب ولا شك أنه تجب الهجرة اليوم من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام لمن قدر على ذلك.
وفي ضمن الحديث: الإخبار بأن مكة تصير دار إسلام أبدا.
و قوله عليه السلام: "و إذا استنفرتم فانفروا" أي إذا طلبتم للجهاد فأجيبوا ولا شك أنه تتعين الإجابة والمبادرة إلى الجهاد في بعض الصور فأما إذا عين الإمام بعض الناس لفرض الكفاية فهل يتعين عليه؟ اختلفوا فيه ولعله يؤخذ من لفظ الحديث الوجوب في حق من عين للجهاد ويأخذ غيره بالقياس.
و قوله عليه السلام: "و لكل جهاد ونية" يحتمل أن يريد به جهادا مع نية خالصة إذ غير الخالصة غير معتبرة فهي كالعدم في الاعتداد بها في صحة الأعمال ويحتمل أن يراد ولكن جهاد بالفعل أو نية الجهاد لمن يفعل كما قال عليه السلام: "من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق" 2.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض" تكلموا فيه مع قوله عليه السلام: "إن إبراهيم حرم مكة" فقيل بظاهر هذا وأن إبراهيم أظهر حرمتها بعدما نسيت والحرمة ثابتة من يوم خلق الله السماوات والأرض وقيل إن التحريم في زمن إبراهيم وحرمتها يوم خلق الله السماوات والأرض كتابتها في اللوح المحفوظ حراما وأما الظهور للناس ففي زمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
وقوله: "فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة وإنه لم يحل القتال" يدل على أمرين:
أحدهما: أن هذا التحريم يتناول القتال.
والثاني: أن هذا الحكم ثابت لا ينسخ وقد تقدم ما في تحريم القتال أو إباحته.
وقوله: " لا يعضد شوكته" دليل على أن قطع الشوك ممتنع كغيره وذهب إليه بعض مصنفي الشافعية والحديث معه وأباحه غيره من حيث إن الشوك مؤذ.
ـــــــ
1 البخاري "3189" ومسلم "1353".
2 مسلم"1910" من حديث أبي هريرة.(1/310)
وقوله: "و لا ينفر صيده" أي يزعج من مكانه وفيه دليل على طريق فحوى الخطاب أن قتله محرم فإنه إذا حرم تنفيره بأن يزعج من مكانه فقتله أولى.
و قوله: "و لا يلتقط لقطته إلا من عرفها" اللقطة بإسكان القاف وقد يقال بفتحها الشيء الملتقط وذهب الشافعي إلى أن لقطة الحرم لا تؤخذ للتملك وإنما تؤخذ لتعرف لا غير وذهب مالك إلى أنها كغيرها في التعريف والتملك ويستدل للشافعي بهذا الحديث.
و الخلى بفتح الخاء والقصر: الحشيش إذا كان رطبا واختلاؤه قطعه وقد تقدم والإذخر نبت معروف طيب الرائحة وقوله: "فإنه لقينهم" القين: الحداد لأنه يحتاج إليه في عمل النار وبيوتهم تحتاج إليه في التسقيف.
و قوله عليه السلام: "إلا الإذخر" على الفور تتعلق به من يروي اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم أو تفويض الحكم إليه من أهل الأصول وقيل: يجوز أن يكون يوحى إليه في زمن يسير فإن الوحي إلقاء في خفية وقد تظهر أماراته وقد لا تظهر.(1/311)
5 - باب ما يجوز قتله.
1 - عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خمس من الدواب كلهن فاسق يقتلن في الحرم: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور" 1.
ولمسلم: "يقتل خمس فواسق في الحل والحرم" 2.
فيه مباحث:
الأول: المشهور في الرواية: "خمس" بالتنوين "فواسق" ويجوز "خمس فواسق" بالإضافة من غير تنوين وهذه الرواية التي ذكرها المصنف تدل على صحة المشهور فإنه أخبر عن خمس بقوله: "كلهن فواسق" وذلك يقتضي أن ينون: "خمس" فيكون فواسق خبرا وبين التنوين والإضافة في هذا فرق دقيق في المعنى وذلك أن الإضافة تقتضي الحكم على خمس من الفواسق بالقتل وربما أشعر التخصيص بخلاف الحكم في غيرها وبطريق المفهوم وأما مع التنوين فإنه يقتضي وصف الخمس بالفسق من جهة المعنى وقد يشعر بأن الحكم المرتب على ذلك - وهو القتل - معلل بما جعل وصفا وهو الفسق فيقتضي ذلك التعميم لكل فاسق من الدواب وهو ضد ما اقتضاه الأول من المفهوم وهو التخصيص.
ـــــــ
1 البخاري "1829" ومسلم "1198" "71".
2 مسلم "1198" "67".(1/311)
الثاني: الجمهور على جواز قتل هذه المذكورة في الحديث والحديث دليل على ذلك وعن بعض المتقدمين أن الغراب يرمى ولا يقتل1.
الثالث: اختلفوا في الاقتصار على هذه الخمسة أو التعدية لما هو أكثر منها بالمعنى فقيل: بالاقتصار عليها وهو المذكور في كتب الحنفية ونقل غير واحد من المصنفين المخالفين لأبي حنيفة: أنا أبا حنيفة ألحق الذئب بها وعدوا ذلك من مناقضاته والذين قالوا بالتعدية اختلفوا في المعنى الذي به التعدية فنقل عن بعض الشارحين: أن الشافعي قال: المعنى في جواز قتلهن: كونهن مما لا يؤكل فكل ما لا يؤكل قتله جائز للمحرم ولا فدية عليه وقال مالك المعنى فيه كونهن مؤذيات فكل مؤذ يجوز للمحرم قتله وما لا فلا.
وهذا عندي فيه نظر فإن جواز القتل غير جواز الاصطياد وإنما يرى الشافعي جواز الاصطياد وعدم وجوب الجزاء بالقتل لغير المأكول وأما جواز الإقدام على قتل ما لا يؤكل مما ليس فيه ضرر: فغير هذا ومقتضى مذهب أبي حنيفة الذي حكيناه: أنه لا يجوز اصطياد الأسد والنمر ومنا في معناهما من بقية السباع العادية والشافعية يردون هذا بظهور المعنى في المنصوص عليه من الخمس وهو الذي الأذى الطبيعي والعدوان المركب في هذه الحيوانات والمعنى إذا ظهر في المنصوص عليه عدى القائسون إلى كل ما وجد فيه المعنى ذلك الحكم كما في الأشياء الستة التي في الربا وقد وافقه أبو حنيفة على التعدية فيها وإن اختلف هو والشافعي في المعنى الذي يعدى به.
وأقول: المذكور ثم: هو تعليق الحكم بالألقاب وهو لا يقتضي مفهوما عند الجمهور فالتعدية لا تنافي مقتضى اللفظ والمذكور ههنا مفهوم عدد وقد قال به جماعة فيكون اللفظ مقتضيا للتخصيص وإلا بطلت فائدة التخصيص بالعدد وعلى هذا المعنى عول بعض مصنفي الحنفية في التخصيص بالخمس المذكورات - أعني مفهوم العدد - وذكر غير ذلك مع هذا أيضا.
واعلم أن التعدية بمعنى الأذى إلى كل إلى كل مؤذ: قوي بالإضافة إلى تصرف القائسين فإنه ظاهر من جهة الإيماء بالتعليل بالفسق وهو الخروج عن الحد وأما التعليل بحرمة الأكل: ففيه إبطال ما دل عليه إيماء النص من التعليل بالفسق لأن مقتضى العلة: أن يتقيد الحكم بها وجودا وعدما فإن لم يتقيد وثبت الحكم حيث تعدم: بطل تأثيراها بخصوصها في الحكم حيث ثبت الحكم مع انتفائها وذلك بخلاص ما دل عليه النص من التعليل بها.
ـــــــ
1 وهو في الحديث الذي أخرجه أبو داود "1848" عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عما يقتل المحرم؟ فال: "الحية والعقرب والفويسفة ويرمي الغراب ولا يقتله والكلب العقور والحدأة والسبع العادي".(1/312)
البحث الرابع: القائلون بالتخصيص بالخمسة المذكورة وما جاء معها في حديث آخر - من ذكر الحية - وفوا بمقتضى العدد والقائلون بالتعدية إلى غيرها يحتاجون إلى ذكر السبب في تخصيص المذكورات بالذكر وقال من علل بالأذى: إنما خصت بالذكر لينبه بها على ما في معناها وأنواع الأذى مختلف فيها فيكون ذكر كل نوع منها منبها على جواز قتل ما فيه ذلك النوع فنبه بالحية والعقرب على ما يشاركهما في الأذى باللسع كالبرغوث مثلا عند بعضهم ونبه بالفأرة على ما أذاه بالنقب والتقريض كابن عرس ونبه بالغراب والحدأة على ما أذاه بالاختطاف كالصقر والباز ونبه بالكلب على كل عاد بالعقر والافتراس بطبعه كالأسد والفهد والنمر.
وأما من قال بالتعدية إلى كل ما لا يؤكل: فقد أحالوا التخصيص في الذكر بهذه الخمسة على الغالب فإنها الملابسات للناس والمخالطات في الدور بحيث يعم أذاها فكان ذلك سببا للتخصيص والتخصيص لأجل الغلبة إذا وقع لم يكن له مفهوم على ما عرف في الأصول إلا أن خصومهم جعلوا هذا المعنى معترضا عليهم في تعدية الحكم إلى بقية السباع المؤذية.
وتقريره: أن إلحاق المسكوت بالمنطوق قياسا شرطه مساواة الفرع للأصل أو رجحانه أما إذا انفرد الأصل بزيادة يمكن أن تعتبر فلا إلحاق ولما كانت هذه الأشياء عامة الأذى - كما ذكرتم - ناسب أن يكون ذلك سببا لإباحة قتلها لعموم ضررها وهذا المعنى معدوم فيما لا يعم ضرره مما لا يخالط في المنازل فلا تدعوا الحاجة إلى إباحة قتله كما دعت إلى إباحة قتل ما يخالط من المؤذيات فلا يلحق به.
وأجاب الأولون عن هذا بوجهين:
أحدهما: أن الكلب العقور نادر وقد أبيح قتله.
والثاني: معارضة الندرة في غير هذه الأشياء بزيادة قوة الضرر ألا ترى أن تأثير الفأرة بالنقب - مثلا - والحدأة بخطف شيء يسير لا يساوي ما في الأسد والفهد من إتلاف الأنفس؟ فكان إباحة القتل أول.
البحث الخامس: اختلفوا في الكلب العقور فقيل: هو الإنسي المتخذ وقيل: هو كل ما يعدو كالأسد والنمر واستدل هؤلاء بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما دعا على عتبة بن أبي لهب: "بأن يسلط الله عليه كلبا من كلابه افترسه السبع"1 فدل على تسميته بالكلب ويرجح الأولون
ـــــــ
1 أخرجه البيهقي في دلائل النبوة "2/338".(1/313)
قولهم: بأن إطلاق اسم الكلب على غير الإنسي المتخذ: خلاف العرف واللفظة إذا نقلها أهل العرف إلى معنى كان حملها عليه أولى من حملها على المعنى اللغوي.
البحث السادس: اختلفوا في صغار هذه الأشياء وهي عند المالكية منقسمة فأما صغار الغراب والحدأة: ففي قتلهما قولان لهم والمشهور: القتل ودليلهم عموم الحديث في قوله: "الغراب والحدأة" وأما من منع القتل للصغار: فاعتبر الصفة التي علل بها القتل وهي الفسق على ما شهد به إيماء اللفظ وهذا الفسق معدوم في الصغار حقيقة والحكم يزول بزوال علته وأما صغار الكلاب ففيها قولان لهم أيضا وأما صغار غير ذلك من المستثنيات المذكورة في الحديث: فتقتل وظاهر اللفظ والإطلاق: يقتضي أن تدخل الصغار لانطلاق لفظ: "الغراب والحدأة" وغيرهما عليها وأما الكلب العقور: فإنه أبيح قتله بصفة تتقيد الإباحية بها ليست موجودة في الصغير ولا هي معلومة الوجود في حالة الكبر على تقدير البقاء بخلاف غيره فإنه عند الكبر ينتهي بطبعه إلى الأذى قطعا.
البحث السابع: استدل به على أنه يقتل في الحرم من لجأ إلى الحرم بعد قتله لغيره مثلا على ما هو مذهب الشافعي وعلل ذلك بأن إباحة قتل هذه الأشياء في الحرم: معلل بالفسق والعدوان فيعم الحكم بعموم العلة والقاتل عدوانا فاسق بعدوانه فتوجد العلة في قتله فيقتل بالأولى لأنه مكلف وهذه الفواسق فسقها طبعي ولا تكليف عليها والمكلف إذا ارتكب الفسق هاتك لحرمة نفسه فهو أولى بإقامة مقتضى الفسق عليه وهذا عندي ليس بالهين وفيه غور فليتنبه له والله أعلم.(1/314)
باب دخول مكة و غيرها
...
6 - باب دخول مكة وغيرها.
1 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر فلما نزعه جاءه رجل فقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال: "اقتلوه" 1.
ثبت من قول ابن شهاب في رواية مالك: "أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن محرما ذلك اليوم"2 وظاهر كون المغفر على رأسه يقتضي ذلك ولكنه محتمل أن يكون لعذر وأخذ من هذا: أن المريد لدخول مكة إذا كان محاربا يباح له دخولها بغير إحرام لحاجة المحارب إلى التستر بما يقيه وقع السلاح.
وابن خطل بفتح الخاء والطاء: اسمه عبد العزى وإباحة النبي صلى الله عليه وسلم لقتله قد يتسم به في مسألة إباحة قتل الملتجئ إلى الحرم.
ـــــــ
1 البخاري "1846" ومسلم "1357".
2 انظر الموطأ "1/286".(1/314)
ويجاب عنه بأن ذلك محمول على الخصوصية التي دل عليها قوله عليه السلام: "ولم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي وإنما أحلت لي ساعة من نهار".
2 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة من كداء من الثنية العليا التي بالبطحاء وخرج من الثنية السفلى"1.
كداء بفتح الكاف والمد والثنية السفلى المعروف فيها كدا بضم الكاف والقصر وثم موضع آخر يقال له كدي بضم الكاف وفتح الدال وتشديد الياء وليس هو السفلى على المعروف والثنية طريق بين الجبلين والمشهور: استحباب الدخول من كداء وإن لم تكن طريق الداخل إلى مكة فيعرج إليها وقيل: إنما دخل النبي صلى الله عليه وسلم منها لأنها على طريقه فلا يستحب لمن ليست على طريقه وفيه نظر.
3 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت وأسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة فأغلقوا عليهم الباب فلما فتحوا: كنت أول من ولج فلقيت بلالا فسألته: هل صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم بين العمودين اليمانيين"2.
فيه أمران:
أحدهما: قبول خبر الواحد وهو فرد من أفراد لا تحصى كما قدمناه وفيه جواز الصلاة في الكعبة وقد اختلف في ذلك ومالك فرق بين الفرض والنفل فكره الفرض أو منعه وخفف في النفل لأنه مظنة التخفيف في الشروط.
وفي الحديث: دليل أيضا على جواز الصلاة بين الأساطين والأعمدة وإن كان يحتمل أن يكون صلى في الجهة التي بينهما وإن لم يكن في مسامتتهما3 حقيقة وقد وردت في ذلك كراهة فإن لم يصح سندها قدم هذا الحديث وعمل بحقيقة قوله: "بين العمودين" وإن صح سندها: أول بما ذكرناه: أنه صلى في سمت ما بينهما وإن كانت آثارا فقط: قدم المسند عليها.
4 - عن عمر رضي الله عنه: "أنه جاء إلى الحجر الأسود فقبله وقال: إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك"4.
فيه دليل على استحباب تقبيل الحجر الأسود وقول عمر هذا الكلام في ابتداء تقبيله: ليبين أنه فعل ذلك اتباعا وليزيل بذلك الوهم الذي كان ترتب في أذهان الناس في أيام الجاهلة ويحقق عدم الانتفاع بالأحجار من حيث هي هي كما كانت الجاهلية تعتقد في الأصنام.
ـــــــ
1 البخاري "1576" ومسلم "1257".
2 البخاري "1598" ومسلم "1329" واللفظ للبخاري.
3 المسمة: الخاصة القاموس سمم.
4 البخاري "1597" ومسلم "1270" واللفظ للبخاري.(1/315)
5 - عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: "لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة فقال المشركون: إنه يقدم عليكم قوم وهنتهم حمى يثرب فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة وأن يمشوا ما بين الركنين ولم يمنعهم أن يرملوا الأشواط كلها: إلا الإبقاء عليهم"1.
قيل: إن هذا القدوم لم يكن في الحجة وإنما كان في عمرة القضاء فأخذ من هذا: أنه نسخ منه عدم الرمل فيما بين الركنين فإنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم: "رمل من الحجر إلى الحجر"2 وذكر: أنه كان في الحج فيكون متأخرا فيقدم على المتقدم.
وفيه دليل على استحباب الرمل والأكثرون على استحبابه مطلقا في طواف القدوم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبعده وإن كانت العلة التي ذكرها ابن عباس قد زالت فيكون استحبابه في ذلك الوقت لتلك العلة وفيما بعد ذلك تأسيا واقتداء بما فعل في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وفي ذلك من الحكمة: تذكر الوقائع الماضية للسلف الكرام وفي طي تذكرها ك مصالح دينية إذ يتبين في أثناء كثير منها ما كانوا عليه من امتثال أمر الله تعالى والمبادرة إليه وبذل الأنفس في ذلك وبهذه النكتة يظهر لك أن كثيرا من الأعمال التي وقعت في الحج ويقال فيها إنها تعبد ليست كما قيل ألا ترى أنا إذا فعلناها وتذكرنا أسبابها: حصل لنا من ذلك تعظيم الأولين وما كانوا عليه من احتمال المشاق في امتثال أمر الله فكان هذا التذكر باعثا لنا على مثل ذلك ومقررا في أنفسنا تعظيم الأولين وذلك معنى معقول.
مثاله: السعي بين الصفا والمروة إذا فعناه وتذكرنا أن سببه: قصة هاجر مع ابنها وترك الخليل لهما في ذلك المكان الموحش منفردين منقطعي أسباب الحياة بالكلية مع ما أظهره الله تعالى لهما من الكرامة والآية في إخراج الماء لهما - كان في ذلك مصالح عظيمة أي في التذكر لتلك الحال وكذلك رمي الجمار إذا فعلناه وتذكرنا أن سببه: رمي إبليس بالجمار في هذه المواضع عند إرادة الخليل ذبح ولده: حصل من ذلك مصالح عظيمة النفع في الدين.
وفي الحديث: جواز تسمية الطوافات بالأشواط لقوله: "فأمرهم أن يرملوا الأشواط الثلاثة" ونقل عن بعض المتقدمين وعن الشافعي: أنهما كرها هذه التسمية والحديث على خلافه.
وإنما ذكر في هذا الحديث: "أنهم لم يرملوا بين الركنين اليمانيين" لأن المشركين لم يكونوا يرون المسلمين إذا كانوا في هذا المكان.
6 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يقدم مكة إذا
ـــــــ
1 البخاري "1602" ومسلم "1266" واللفظ للبخاري
2 وذلك في رواية مسلم "1262" من حديث ابن عمر.(1/316)
استلم الركن الأسود - أول ما يطوف - يخب ثلاثة أشواط"1.
فيه دليل على الاستلام للركن وذكر بعض مصنفي الشافعية المتأخرين أن استلام الركن يستحب مع استلام الحجر أيضا وله متمسك بهذا الحديث وإن كان يحتمل أن يكون معنى قوله: "استلم الركن" استلم الحجر وعبر بقوله: "استلم الركن" عن كونه استلم الحجر فإن الحجر بعض الركن كما أنه إذا قال: "استلم الركن" إنما يريد بعضه وفيه دليل على الخبب في جميع الأشواط الثلاث وفيه دليل على تقديم الطواف في ابتداء قدوم مكة.
7 - عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: "طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن"2.
المحجن: عصا محنية الرأس.
فيه دليل على جواز الطواف راكبا وقيل: إن الأفضل: المشي وإنما طاف النبي صلى الله عليه وسلم راكبا لتظهر أفعاله فيقتدى بها وهذا يؤخذ منه أصل كبير وهو أن الشيء قد يكون راجحا بالنظر إلى محله من حيث هو فإذا عارضه أمر آخر أرجح منه: قدم على الأول من غير أن تزول الفضيلة الأولى حتى إذا زال ذلك المعارض الراجح: عاد الحكم الأول من حيث هو هو وهذا إنما يقوى إذا قام الدليل على أن ترك الأول إنما هو لأجل المعارض الراجح وقد يؤخذ ذلك بقرائن ومناسبات وقد يضعف وقد يقوى بحسب اختلاف المواضع وههنا يصطدم الظاهر مع المتعبين للمعاني.
واستدل بالحديث على طهارة بول ما يؤكل لحمه من حيث إنه لا يؤمن بول البعير في أثناء الطواف في المسجد ولو كان نجسا لم يعرض النبي صلى الله عليه وسلم المسجد للنجاسة وقد منع لتعظيم المساجد ما هو أخف من هذا.
وفي الحديث دليل على الاستلام بالمحجن إذا تعذر الوصول إلى الاستلام باليد وليس فيه تعرض لتقبيله.
8 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "لم أر النبي صلى الله عليه وسلم يستلم من البيت إلا الركنين اليمانيين"3.
اختلف الناس: هل تعم الأركان كلها بالاستلام أم لا؟ والمشهور بين علماء الأمصار: ما دل عليه هذا الحديث وهو اختصاص الإسلام بالركنين اليمانيين وعلته: أنهما على قواعد إبراهيم عليه السام وأما الركنان الآخران فاستقصرا عن قواعد إبراهيم كذا ظن ابن
ـــــــ
1 البخاري "1603" ومسلم "1261" واللفظ للبخاري
2 البخاري "1607" ومسلم "1272".
3 البخاري "1609" ومسلم "1269" بلفظ قريب.(1/317)
عمر وهو تعليل مناسب وعن بعض الصحابة: أنه كان يستلم الأركان كلها ويقول: "ليس شيء من البيت مهجورا"1 واتباع ما دل عليه الحديث أولى فإن الغالب على العبادات: الاتباع لا سيما إذا وقع التخصيص مع توهم الاشتراك في العلة وهنا أمر زائد وهو إظهار معنى للتخصيص غير موجود فيما ترك فيه الاستلام.
ـــــــ
1 هو معاوية بن أبي سفيان كما روى ذلك البخاري "1608.(1/318)
7 - باب التمتع.
1 - عن أبي جمرة - نصر بن عمران الضبعي - قال: "سألت ابن عباس عن المتعة؟ فأمرني بها وسألته عن الهدي؟ فقال: فيه جزور أو بقرة أو شاة أو شرك في دم قال: وكان ناس كرهوها فنمت فرأيت في المنام كأن إنسانا ينادي: حج مبرور ومتعة متقبلة فأتيت ابن عباس فحدثته فقال: الله أكبر سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم"1.
أبو حمزة بالجيم والراء المهملة نصر بالصاد المهملة الضبعي: بضم الضاد المعجمة وفتح الباء ثاني الحروف وبالعين المهملة متفق عليه.
وقوله: "سألت ابن عباس عن المتعة" الظاهر: أنه يريد بها الإحرام بالعمرة في أشهر الحج ثم الحج من عامه.
وقوله: "أمرني بها" يدل على جوازها عنده من غير كراهة وسيأتي في الحديث.
قوله وكان ناس كرهوها وذلك منقول عن عمر رضي الله عنه وعن غيره على أن الناس اختلفوا فيما كرهه عمر من ذلك: هل هي المتعة التي ذكرناها أو فسخ الحج إلى العمرة؟ والأقرب: أنها هذه فقيل: إن هذه الكراهة والنهي من باب الحمل على الأولى والمشورة به على وجه المبالغة.
وقوله: "رأيت في المنام كأن إنسانا ينادي" الخ فيه: استئناس بالرؤيا فيم يقوم عليه الدليل الشرعي لما دل الشرع عليه من عظم قدرها وأنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة وهذا الاستئناس والترجيح لا ينافي الأصول.
وقول ابن عباس: "الله أكبر سنة أبي القاسم" يدل على أنه تأيد بالرؤيا واستبشر بها وذلك دليل على ما قلناه.
2 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى فساق معه الهدي من ذي الحليفة وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بالعمرة ثم أهل بالحج فتمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة إلى
ـــــــ
1 البخاري "1688" ومسلم "1242" واللفظ للبخاري(1/318)
الحج فكان من الناس من أهدى فساق الهدي من الحليفة ومنهم من لم يهد فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس: "من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه ومن لم يكن أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل ثم ليهل بالحج وليهد فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله", فطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة واستلم الركن أول شيء ثم خب ثلاثة أطواف من السبع ومشى أربعة وركع حين قضى طوافه بالبيت عند المقام ركعتين ثم انصرف فأتى الصفا وطاف بالصفا بالبيت عند المقام ركعتين ثم انصرف فأتى الصفا وطاف بالصفا والمروة سبعة أطواف ثم لم يحلل من شيء حرم منه حتى قضى حجه ونحر هديه يوم النحر وأفاض فطاف بالبيت ثم حل من كل شيء حرم منه وفعل مثل ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أهدى وساق الهدي من الناس1.
قوله: "تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم" قيل: هو محمول على التمتع اللغوي وهو الانتفاع ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم قارنا عند قوم والقران فيه تمتع وزيادة - إذ فيه إسقاط أحد العملين وأحد الميقاتين - سمي تمتعا على هذا باعتبار الوضع اللغوي وقد يحمل قوله تمتع على الأمر بذلك كما قيل بمثل هذا في حجة النبي صلى الله عليه وسلم لما اختلفت الأحاديث وأريد بينها ويدل على هذا التأويل المحتمل: ما ذكرناه وأن ابن عمر - راوي هذا الحديث - هو الذي روى: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد"2.
وقوله: "وساق الهدي" فيه دليل على استحباب سوق الهدي من الأماكن البعيدة وقوله: "فبدأ فأهل بالعمرة ثم بالحج" نص في الإهلال بهما.
ولما ذهب بعض الناس إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم قارن - بمعنى أنه أحرم بهما معا - احتاج إلى تأويل قوله: "أهل بالعمرة ثم بالحج" فإنه على خلاف اختياره فيجعل الإهلال في قوله: "أهل بالعمرة ثم بالحج" على رفع الصوت بالتلبية ويكون قد قدم فيها لفظ الإحرام بالعمرة على لفظه بالحج ولا يراد به تقديم الإحرام بالعمرة على الإحرام بالحج لأنه خلاف ما رواه واعلم أنه لا نحتاج الجمع بين الأحاديث إلى ارتكاب كون القران بمعنى: تقديم الإحرام بالحج على الإحرام بالعمرة فإنه يمكن الجمع وإن كان قد وقع الإحرام بالعمرة أو لا فالتأويل الذي ذكره على الوجه الذي ذكره: غير محتاج إليه في طريق الجمع.
وقوله: "فتمتع الناس إلى آخره" حمل على التمتع اللغوي فإنهم لم يكونوا متمتعين بمعنى التمتع المشهور فإنهم لم يحرموا بالعمرة ابتداء وإنما تمتعوا بفسخ الحج إلى العمرة على ما
ـــــــ
1 البخاري "1691" ومسلم "1227".
2 مسلم "1231".(1/319)
جاء في الأحاديث فقد استعمل التمتع في معناه اللغوي أو يكونون تمتعوا بفسخ الحج إلى العمرة كمن أحرم بالعمرة ابتداء في نظرا إلى المآل ثم إنهم أحرموا بالحج بعد ذلك فكانوا متمتعين ن.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "من كان منكم قد أهدى" - إلى آخره موافق لقوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] وقوله: "فليطف بالبيت وبين الصفا والمروة" دليل على طلب هذا الطواف في الابتداء.
وقوله: "فليقصر" أي من شعره وهو التقصير في العمرة عند التحلل منها قيل: وإنما لم يأمره بالحلق حتى يبقى على الرأس ما يحلقه في الحج فإن الحلاق في الحج أفض من الحلاق في العمرة كما ذكر بعضهم واستدل بالأمر في قوله: "فليحلق" على أن الحلاق نسك وقيل: في قوله: "فليحلل" إن المراد به: يصير حلالا إذ لا يحتاج بعد فعل أفعال العمرة والحلاق فيها: إلى تجديد فعل آخر ويحتمل عندي أن يكون المراد بالأمر بالإحلال: هو فعل ما كان حراما عليه في حال الإحرام من جهة الإحرام ويكون الأمر للإباحة.
وقوله: "فمن لم يجد الهدي" يقتضي تعلق الرجوع إلى الصوم عن الهدي بعدم وجدانه حينئذ وإن كان قادرا عليه في بلده لأن صيامه ثلاثة أيام في الحج إذا عدم الهدي يقتضي الاكتفاء بهذا البدل في الحال لقوله: "ثلاثة أيام في الحج" وأيام الحج محصورة فلا يمكن أن يصوم في الحج إلا إذا كان قادرا على الصوم في الحال عاجزا عن الهدي في الحال وذلك ما أردناه.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "في الحج" هو نص كتاب الله تعالى فيستدل به على أنه لا يجوز للمتمتع الصيام قبل دخوله في الحج لا من حيث المفهوم فقط بل من حيث تعلق الأمر بالصوم الموصوف بكونه في الحج وأما الهدي قبل الدخول في الحج: فقيل: لا يجوز وهو قول بعض أصحاب الشافعي والمشهور من مذهبه: جواز الهدي بعد التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج وأبعد من هذا: من أجاز الهدي قبل التحلل من العمرة من العلماء وقد يستدل به من يجيز للمتمتع صوم أيام التشريق بعد إثبات مقدمة وهي أن تلك الأيام من الحج أو تلك الأفعال الباقية ينطلق عليها: أنها من الحج أو وقتها من وقت الحج.
وقوله: "إذا رجع إلى أهله" دليل لأحد القولين للعلماء في أن المراد بالرجوع من قوله تعالى: {إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] هو الرجوع إلى الأهل لا الرجوع من منى إلى مكة.
وقوله: "واستلم الركن أول شيء" دليل استحباب ابتداء الطواف بذلك: "ثم خب ثلاثة أطواف" دليل على استحباب الخبب وهو الرمل في طواف القدوم.(1/320)
وقوله: "ثلاثة أطواف" يدل على تعميم هذه الثلاثة بالخبب على خلاف ما تقدم من حديث ابن عباس وقد ذكرنا ما فيه.
وقوله: "عند المقام ركعتين" دليل على استحباب أن تكون ركعتا الطواف عند المقام و"طوافه بين الصفا والمروة" عقيب طواف القدوم: دليل على مشروعية ذلك على هذا الوجه واستحباب أن يكون السعي عقيب طواف القدوم وقد قال بعض الفقهاء: إنه يشترط في السعي: أن يكون عقيب طواف كيف كان وقال بعضهم: لا بد أن يكون عقيب طواف واجب وهذا القائل يرى أن طواف القدوم واجب وإن لم يكن ركنا.
وقوله: "ثم لم يحلل" الخ امتثالا لقوله تعالى: {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] ودليل على أن ذلك حكم القارن.
وقوله: "وفعل مثل ما فعل من ساق الهدي" يبين أمر النبي صلى الله عليه وسلم لمن ساق الهدي في حديث آخر بأن لا يحل منها حتى يحل منهما جميعا1.
3 - عن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: يا رسول الله ما شأن الناس حلوا من العمرة ولم تحل أنت من عمرتك؟ فقال: "إني لبدت رأسي وقلدت هدي فلا أحل حتى أنحره" 2.
فيه دليل على استحباب التلبيد لشعر الرأس عند الإحرام والتلبيد أن يجعل في الشعر ما يسكنه ويمنعه من الانتفاش كالصبر أو الصمغ وما أشبه ذلك وفيه دليل على أن للتلبيد أثرا في تأخير الإحلال إلى النحر وفيه: أن من ساق الهدي لم يحل حتى يوم النحر وهو مأخوذ من قوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196].
وقولها: "ما شأن الناس حلوا ولم تحل؟" هذا الإحلال: والذي وقع للصحابة في فسخهم الحج إلى العمرة وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بذلك ليحلوا بالتحلل من العمرة ولم يحل هو صلى الله عليه وسلم لأنه كان قد ساق الهدي.
وقولها: "من عمرتك" يستدل به على أنه كان صلى الله عليه وسلم قارنا ويكون المراد من قولها من عمرتك أي من عمرتك التي مع حجتك وقيل من بمعنى الباء أي لم تحل بعمرتك أي العمرة التي تحلل بها الناس وهو ضعيف لوجهين أحدهما:
أحدهما: كون من بمعنى الباء.
والثاني: أن قولها عمرتك تقتضي الإضافة فيه تقرر عمرة له تضاف إليه والعمرة التي يقع
ـــــــ
1 البخاري "1640" ومسلم "1230" "181" واللفظ له.
2 البخاري "1566" ومسلم "1229".(1/321)
بها التحلل لم تكن متقررة ولا موجودة وقيل: يراد بالعمرة الحج بناء على النظر إلى الوضع اللغوي وهو أن العمرة الزيارة والزيارة موجودة في الحج أي موجودة المعنى فيه وهو ضعيف أيضا لأن الإسم إذا انتقل إلى حقيقة عرفية كانت اللغوية مهجورة في الاستعمال.
4 - عن عمران بن حصين قال: أنزلت أية المتعة في كتاب الله تعالى ففعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينزل قرآن يحرمها ولم ينه عنها حتى مات قال رجل برأيه ما شاء"1 قال البخاري يقال: إنه عمر.
و لمسلم: "نزلت آية المتعة - يعني متعة الحج - وأمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لم تنزل آية تنسخ آية متعة الحج ولم ينه عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات"2 ولهما بمعناه.
يراد بآية المتعة قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] وفي الحديث إشارة إلى جواز نسخ القرآن بالسنة لأنه قوله لم ينه عنها نفي منه لما يقتضي رفع الحكم بالجواز الثابت بالقرآن فلو لم يكن هذا الرفع ممكنا لما احتاج إلى قوله ولم ينه عنها ومراده بنفي نسخ القرآن: الجواز وينفي ورود السنة بالنهي: تقرر الحكم ودوامه إذ لا طريق لرفع إلا أحد هذين الأمرين وقد يؤخذ منه: أن الإجماع لا ينسخ به إذ لو نسخ به لقال: ولم يتفق على المنع لأن الاتفاق حينئذ يكون سببا لرفع الحكم فكان يحتاج إلى نفيه كما نفى نزول القرآن بالنسخ وورود السنة بالنهي.
وقوله قال رجل برأيه ما شاء هو كما ذكر في الأصل عن البخاري: أن المراد بالرجل عمر رضي الله عنه وفيه دليل على أن الذي نهى عنه عمر: هو متعة الحج المشهورة وهو الإحرام بالعمرة في أشهر الحج ثم الحج في عامه خلافا لمن حمله على أن المراد: المتعة بفسخ الحج إلى العمرة أو لمن حمله على متعة النساء لأن شيئا من هاتين المتعتين لم ينزل قرآن بجوازه والنهي المذكور قد قيل فيه: إنه نهي تنزيه وحمل على الأولى والأفضل وحذرا أن يترك الناس الأفضل ويتتابعوا على غيره طلبا للتخفيف على أنفسهم.
ـــــــ
1 البخاري "4518" ومسلم "1226" واللفظ للبخاري
2 مسلم "1226" "172".(1/322)
باب الهدي.
1 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: "فتلت قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أشعرتها وقلدها - أو قلدتها - ثم بعث بها إلى البيت وأقام بالمدينة فما حرم عليه شيء كان له حلا"1.
فيه دليل على استحباب بعث الهدي من البلاد البعيدة لمن لا يسافر معه ودليل على
ـــــــ
1 البخاري "1699" ومسلم "1321" "362" واللفظ للبخاري(1/322)
استحباب تقليده للهدي وإشعاره من بلده بخلاف ما إذا سار مع الهدي فإنه يؤخر الإشعار إلى حين الإحرام.
و فيه دليل على استحباب الإشعار في الجملة خلافا لمن أنكره وهو شق صفحة السنام طولا وسلت الدم عنه واختلف الفقهاء هل يكون في الأيمن أو في الأيسر؟ ومن أنكره قال: إنه مثلة والعمل بالسنة أولى.
و فيه دليل على أن من بعث بهدية لا تحرم عليه محظورات الإحرام ونقل فيه الخلاف عن بعض المتقدمين وهو مشهور عن ابن عباس وفيه دليل على استحباب فتل القلائد.
2 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: "أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة غنما"1.
في هذا الحديث دليل على إهداء الغنم.
3 - عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدنة فقال: "اركبها" قال: إنها بدنة قال: "اركبها" فرأيته راكبها يساير النبي صلى الله عليه وسلم" والنعل في عنقها2.
وفي لفظ قال: "في الثانية أو الثالثة: "اركبها ويلك" أو "ويحك" 3.
اختلفوا في ركوب البدنة المهداة على مذاهب فنقل عن بعضهم أنه أوجب ذلك لأن صيغة الأمر وردت به مع ما يناصف إلى ذلك من مخالفة سيرة الجاهلية من مجانبة السائبة والوصيلة والحامي وتوقيها ورد على هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يركب هدية ولا أمر الناس بركوب الهدايا ومنهم من قال: يركبها مطلقا من غير اضطرار تمسكا بظاهر هذا الحديث ومنهم من قال: لا يركبها إلا عند الحاجة فيركبها من غير إضرار وهذا المنقول من مذهب الشافعي رحمه الله لأنه جاء في الحديث: "اركبها إذا احتجت إليها" 4 فحمل ذلك المطلق على المقيد ومنهم من منع من ركوبها إلا لضرورة.
وقوله: "ويلك" كلمة تستعمل في التغليظ على المخاطب وفيها ههنا وجهان:
أحدهما: أن تجري على هذا المعنى وإنما استحق صاحب البدنة ذلك لمراجعته وتأخر امتثاله لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول الراوي في الثانية أو الثالثة.
و الثاني: أن لا يراد بها موضوعها الأصلي ويكون مما جرى على لسان العرب في
ـــــــ
1 البخاري "1701" ومسلم "1321" "367" واللفظ للبخاري
2 البخاري "1706".
3 البخاري "1689 – 2755 - 6160" ومسلم "1322".
4 مسلم "1324" ولفظه "اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا".(1/323)
المخاطبة من غير لموضوعه كما قيل في قوله عليه السلام: "تربت يداك" 1 و "أفلح وأبيه إن صدق" 2 وكما في قول العرب ويله وتحوه ومن يمنع ركوب البدنة من غير حاجة يحمل هذه الصورة على ظهور الحاجة إلى ركوبها في الواقعة المعينة.
4 - عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنة وأن أتصدق بلحمها وجلودها وأجلتها وأن لا أعطي الجزار منها شيئا, وقال: "نحن نعطيه من عندنا" 3.
فيه دليل على جواز الاستنابة في القيام على الهدي وذبحه والتصدق به.
وقوله: "و أن أتصدق بلحمها" يدل على التصدق بالجميع ولا شك أنه أفضل مطلقا وواجب في بعض الدماء وفيه دليل على أن الجلود تجري مجرى اللحم في التصدق لأنها من جملة ما ينتفع به فحكمها حكمة.
وقوله: "أن لا أعطي الجزار منها شيئا" ظاهرة عدم الإعطاء مطلقا لكل وجه ولا شك في امتناعه إذا كان المعطى أجرة الذبح لأنه معاوضة ببعض الهدي والمعاوضة في الأخرى كالبيع وأما إذا أعطى الأجرة خارجا عن اللحم المعطى وكان اللحم زائدا على الأجرة فالقياس أن جوز ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نحن نعطيه من عندنا" وأطلق المنع من إعطائه منها ولم يقيد المنع بالأجرة والذي يخشى منه في هذا أن تقع مسامحة في الأجرة لأجل ما يأخذه الجزار من اللحم فيعود إلى المعاوضة في نفس الأمر فمن يميل إلى المنع نم الذرائع يخشى من مثل هذا.
5 - عن زياد بن جبير قال: "رأيت ابن عمر أتى على رجل قد أناخ بدنته فنحرها فقال: ابعثها قياما مقيدة سنة محمد صلى الله عليه وسلم"4.
فيه دليل على استحباب نحر الإبل من قيام ويشير إليه قوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: 36] أي سقطت وهو يشعر بكونها كانت قائمة.
وفيه دليل على استحباب أن تكون معقولة وورد في حديث صحيح ما يدل على أن تكون معقولة اليد اليسرى وبعضهم سوى بين نحرها باركة وقائمة ونقل عن بعضهم أنه قال: تنحر باركة والسنة أولى والله أعلم.
ـــــــ
1 جزء من حديث ورد في أحاديث عديدة.
2 جزء من حديث أخرجه مسلم "11" عن طلحة بن عبيد الله وفيه قصة رجل من نجد جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله عن أركان الإسلام.
3 البخاري "1717" ومسلم "1317" واللفظ له.
4 البخاري "1713" ومسلم "1320".(1/324)
9 - باب الغسل للمحرم.
عن عبد الله بن حنين: "أن عبد الله بن عباس والمسور بن مخرمة اختلفا بالأبواء فقال ابن عباس: يغسل المحرم رأسه وقال المسور: لا يغسل رأسه قال: فأرسلني ابن عباس إلى أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه فوجدته يغتسل بين القرنين وهو يستر بثوب فسلمت عليه فقال: من هذا؟ فقلت: أنا عبد الله بن حنين أرسلني إليك ابن عباس يسألك: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل رأسه وهو محرم؟ فوضع أبو أيوب يده على الثوب فطأطأه حتى بدا لي رأسه ثم قال لإنسان يصب عليه الماء اصبب فصب على رأسه ثم حرك رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر ثم قال: هكذا رأيته صلى الله عليه وسلم يفعل".
وفي رواية: "فقال المسور لابن عباس: لا أماريك أبدا"2.
القرنان العامودان الذان تشد فيهما الخشبة التي تعلق عليها البكرة.
الأبواء بفتح الهمزة وسكون الباء الموحدة والمد: موضع معين بين مكة والمدينة.
وفي الحديث دليل على جواز المناظرة في مسائل الاجتهاد والاختلاف فيها إذا غلب على ظن المختلفين فيها حكم وفيه دليل على الرجوع إلى من يظن به أن عنده علما فيما اختلف فيه.
وفيه دليل على قبول خبر الواحد وإن العمل به سائغ شائع بين الصحابة لأن ابن عباس أرسل عبد الله بن حنين ليستعلم له علم المسألة ومن ضرورته قبول خبره عن أبي أيوب فيما أرسل فيه والقرنان فسرهما المصنف.
و فيه دليل على التستر عند الغسل وفيه دليل على جواز الاستعانة في الطهارة لقول أبي أيوب اصبب وقد ورد في الاستعانة أحاديث صحيحة وورد في تركها شيء لا يقابلها في الصحة.
وفيه دليل على جواز السلام على المتطهر في حال طهارته بخلاف من هو على الحدث وفيه دليل على جواز الكلام في أثناء الطهارة فيه دليل على تحريك اليد على الرأس في غسل المحرم إذا لم يؤد إلى نتف الشعر.
وقوله: "أرسلني إليك ابن عباس يسألك كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل رأسه؟" يشعر بأن ابن عباس كان عنده علم بأصل الغسل فإن السؤال عن كيفية الشيء إنما يكون بعد العلم بأصله وفيه دليل على أن غسل البدن كان عنده متقرر الجواز إذ لم يسأل عنه وإنما سأل عن
ـــــــ
1 البخاري "1840" ومسلم "1205".
2 مسلم "1205" "92".(1/325)
كيفية غسل الرأس ويحتمل أن يكون ذلك لأنه موضع الإشكال في المسألة إذ الشعر عليه وتحريك اليد فيه يخاف منه نتف الشعر.
وفيه دليل على جواز غسل المحرم وقد أجمع عليه إذا كان جنبا أو كانت المرأة حائضا فطهرت وبالجملة الأغسال الواجبة وأما إذا كان تبردا من غير وجوب فقد اختلفوا فيه ف الشافعي يجيزه وزاد أصحابه فقالوا له: أن يغسل رأسه بالسدر والخطمي ولا فدية عليه وقال مالك وأبو حنيفة: عليه الفدية أعني غسل رأسه بالخطمي وما في معناه فإن استدل بالحديث على هذا المختلف فيه فلا يقوى لأن المذكور حكاية حال لا عموم لفظ وحكاية الحال تحتمل أن تكون هي المختلف فيها وتحتمل أن لا ومع الاحتمال لا تقوم حجة.(1/326)
10 - باب فسخ الحج إلى العمرة.
1 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أهل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحج وليس مع أحد منهم هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم وطلحة وقدم علي رضي الله عنه من اليمن فقال: أهللت بما أهل النبي صلى الله عليه وسلم فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يجعلوها عمرة فيطوفوا ثم يقصروا ويحلوا إلا من كان معه الهدي فقالوا: ننطلق إلى منى وذكر أحدنا يقطر؟ فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ولولا أن معي الهدي لأحللت", وحاضت عائشة فنسكت المناسك كلها غير أنها لم تطف بالبيت فلم طهرت وطافت بالبيت قالت: يا رسول الله ينطلقون بحج وعمرة وأنطلق بحج؟ فأمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يخرج معها إلى التنعيم فاعتمرت بعد الحج1.
قوله: "أهل النبي صلى الله عليه وسلم" الإهلال: أصله رفع الصوت ثم استعمل في التلبية استعمالا شائعا ويعبر به عن الإحرام.
وقوله: "بالحج" ظاهره يدل على الإفراد وهو رواية جابر.
وقوله: "و ليس مع أحد منهم هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم وطلحة" كالمقدمة لما أمروا به من فسخ الحج إلى العمرة إذ لم يكن هدي.
وقوله: "أهللت بما أهل به النبي صلى الله عليه وسلم" قيل: فيه دليل على جواز تعليق الإحرام بإحرام الغير وانعقاد إحرام المعلق بما أحرم به الغير ومن الناس من عدى هذا إلى صور أخرى أجاز فيها التعليق ومنعه غيره ومن أبى ذلك يقول: الحج مخصوص بأحكام ليست في غيره ويجعل محل النص منها.
ـــــــ
1 البخاري "1651" ومسلم "1213" واللفظ للبخاري.(1/326)
وقوله: "فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يجعلوها عمرة" فيه عموم وهو مخصوص بأصحابه الذين لم يكن معهم هدي ة قد بين ذلك في حديث آخر1 وفسخ الحج إلى العمرة كان جائزا بهذا الحديث وقيل: أن علته حسم مادة الجاهلية في اعتقادها أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور.
واختلف الناس فيما بعد هذه الواقعة هل يجوز فسخ الحج إلى العمرة كما في هذه الواقعة أم لا؟ فذهب الظاهرية إلى جوازه وذهب أكثر الفقهاء المشهورين إلى منعه وقيل إن هذا كان مخصوصا بالصحابة وفي هذا حديث عن أبي ذر رضي الله عنه2 وعن الحارث بن بلال عن أبيه أيضا أعني في كونه مخصوصا.
وقوله: "فيطوفوا ثم يقصروا" يحتمل قوله فيطوفوا وجهين: أحدهما: أن يراد به الطواف بالبيت على ما هو المشهور ويكون في الكلام حذف أي يطوفوا ويسعوا فإن العمرة لا بد فيها من السعي ويحتمل أن يكون استعمل الطواف في الطوف في البيت وفي السعي أيضا فإنه قد يسمى طوافا قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158].
وقوله: "فقالوا: ننطلق إلى منى وذكر أحدنا يقطر", فيه دليل على استعمال المبالغة في الكلام فإنهم إذا حلوا من العمرة وواقعوا النساء كان إحرامهم للحج قريبا من زمن المواقعة والإنزال فحصلت المبالغة في قرب الزمان بأن قيل وذكر أحدنا يقطر وكأنه إشارة إلى اعتبار المعنى في الحج وهو الشعث وعدم الترفه فإذا طال الزمن في الإحرام حصل هذا المقصود وإذا قرب زمن الإحرام من زمن التحلل ضعف هذا المقصود أو عدم وكأنهم استنكروا زوال هذا المقصود أو ضعفه لقرب إحرامهم من تحللهم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت" فيه أمران:
أحدهما: جواز استعمال لفظة لو في بعض المواضع وإن كان قد ورد فيها ما يقتضي خلاف ذلك وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن لو تفتح عمل الشيطان" 3 وقد قيل في الجمع بينهما إن كراهتها في استعمالها في التلهف على أمور الدنيا إما طلبا كما يقال: لو فعلت كذا حصل لي
ـــــــ
1 وهو الحديث الذي أخرجه أحمد "15853" وأبو داود "1808" والنسائي "5/179" وابن ماجه "2984" عن بلال بن الحارث قال: قلت: يا رسول الله فسخ الحج لنا خاصة أو لمن بعدنا؟ قال: "بل لكم خاصة" وإسناده ضعيف على ما قاله محققو المسند.
2 أخرجه مسلم "1224".
3 جزء من حديث أخرجه مسلم "2664".(1/327)
كذا وإما هربا كقوله: لو كان كذا لما وقع لي كذا وكذا لما في ذلك من صورة عدم التوكل في نسبة الأفعال إلى القضاء والقدر وإما إذا استعملت في تمني القربات كما جاء في هذا الحديث فلا كراهة هذا أو ما يقرب منه.
الثاني: استدل به على أن التمتع أفضل ووجه الدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم تمنى ما يكون به ممتعا لو وقع وإنما يتمنى الأفضل مما حصل ويجاب عنه بأن الشيء قد يكون أفضل بالنظر إلى ذاته بالنسبة إلى شيء آخر وبالنظر إلى ذات ذلك الشيء الآخر ثم يقترن بالمفضول في صورة خاصة مما يقتضي ترجيحه ولا يدل ذلك على أفضليته من حيث هو هو وههنا كذلك فإن هذا التلهف اقترن به قصد موافقة الصحابة في فسخ الحج إلى العمرة لما شق عليهم ذلك وهذا أمر زائد على مجرد التمتع وقد يكون التمتع مع هذه الزيادة أفضل ولا يلزم من ذلك أن يكون التمتع بمجرده أفضل.
و قوله صلى الله عليه وسلم: "ولولا أن معي الهدي لأحللت" معلل بقوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] وفسخ الحج إلى العمرة يقتضي التحلل بالحلق عند الفراغ من العمرة ولو تحلل بالحلق عند الفراغ من العمرة لحصل الحلق قبل بلوغ الهدي محله وقد يؤخذ من هذا والله أعلم التمسك بالقياس فإنه يقتضي تسوية التقصير بالحلق في منعه قبل بلوغ الهدي محله مع أن النص لم يرد إلا في الحلق فلو وجب الاقتصار على النص لم يمتنع فسخ الحج إلى العمرة لأجل هذه العلة فإنه حينئذ كان يمكن التحلل من العمرة بالتقصير ويبقى النص معمولا به في منع الحلق حتى يبلغ الهدي محله فحيث حكم بامتناع التحلل من العمرة وعلل بهذه العلة: دل ذلك على أنه أجرى التقصير مجرى الحلق في امتناعه قبل بلوغ الهدي محله مع أن النص لم يدل عليه بلفظه وإنما ألحق به بالمعنى.
وقوله: "وحاضت عائشة" - إلى آخره يدل على امتناع الطواف على الحائض إما لنفسه وإما لملازمته لدخول المسجد ويدل على فعلها لجميع أفعال الحج إلا ذلك وعلى أنه لا تشترط الطهارة في بقية الأعمال.
وقوله: "غير أنها لم تطف بالبيت" فيه حذف تقديره: ولم تسع ويبين ذلك رواية أخرى صحيحة ذكر فيها: "أنها بعد أن طهرت طافت وسعت" ويؤخذ من هذا: أن السعي لا يصح إلا بعد طواف صحيح فإنه لو صح لما لزم من تأخير الطواف بالبيت تأخير السعي إذ هي قد فعلت المناسك كلها غير الطواف بالبيت فلولا اشتراط تقدم الطواف على السعي لفعلت في السعي ما فعلت في غيره وهذا الحكم متفق عليه بين أصحاب الشافعي ومالك وزاد المالكية قولا آخر: أن السعي لا بد أن يكون بعد طواف واجب وإنما صح بعد طواف القدوم - على هذا القول - لاعتقاد هذا القائل وجوب طواف القدوم.(1/328)
وقولها: "ينطلقون بحج وعمرة" تريد العمرة التي فسخوا الحج إليها والحج الذي أنشئوه من مكة وقولها: "وأنطلق بحج؟" يشعر بأنها لم تحصل لها العمرة وأنها لم تحل بفسخ الحج الأول إلى العمرة وهذا ظاهر إلا أنهم لما نظروا إلى روايات أخرى اقتضت: أن عائشة اعتمرت لأنه عليه السلام أمرها بترك عمرتها ونقض رأسها وامتشاطها والإهلال بالحج لما حاضت لامتناع التحلل من العمرة بوجود الحيض ومزاحمته وقت الحج وحملوا أمره عليه السلام بترك العمرة على ترك المضي في أعمالها لا على رفضها بالخروج منها وأهلت بالحج مع بقاء العمرة فكانت قارنة - اقتضى ذلك: أن تكون قد حصل لها عمرة فأشكل حينئذ قولها: "ينطلقون بالحج والعمرة وأنطلق بالحج" إذ هي أيضا قد حصل لها حج وعمرة لما تقرر من كونها صارت قارنة فاحتاجوا إلى تأويل هذا اللفظ فأولوا قولها: "ينطلقون بحج وعمرة وأنطلق بحج" على أن المراد: ينطلقون بحج مفرد عن عمرة وعمرة منفردة عن حج وأنطلق بحج غير مفرد عن عمرة فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بالعمرة ليحصل لها قصدها في عمرة مفردة عن حج وحج مفرد عن عمرة هذا حاصل ما قيل في هذا مع أن الظاهر خلافه بالنسبة إلى هذا الحديث لكن الجمع بين الروايات ألجأهم إلى مثل هذا.
وقوله فأمر عبد الرحمن - إلى آخره يدل على جواز الخلوة بالمحارم ولا خلاف فيه.
وقوله: "أن يخرج معها إلى التنعيم" يدل على أن من أراد أن يحرم بالعمرة من مكة لا يحرم بها من جوفها بل عليه الخروج إلى الحل فإن التنعيم أدنى الحل وهذا معلل بقصد الجمع بين الحل والحرم في العمرة كما وقع ذلك في الحج فإنه جمع فيه بين الحل والحرم فإن عرفة من أركان الحج وهي من الحل.
واختلفوا في أنه لو أحرم بالعمرة من مكة ولم يخرج إلى الحل: هل يكون الطواف والسعي صحيحا ويلزمه دم أو يكون باطلا؟ وفي مذهب الشافعي خلاف ومذهب مالك: أنه لا يصح وجمد بعض الناس فشرط الخروج إلى التنعيم بعينه ولم يكتف بالخروج إلى مطلق الحل ومن علل بما ذكرناه وفهم المعنى - وهو الجمع بين الحل والحرم - اكتفى بالخروج إلى مطلق الحل.
2 - عن جابر رضي الله عنه قال: "قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نقول: لبيك بالحج فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلناها عمرة"1.
حديث جابر على أنهم أحرموا بالحج وردوه إلى العمرة وقد ذكرنا أن مذهب الظاهرية جوازه مطلقا وهو المحكي أيضا عن أحمد.
ـــــــ
1 البخاري "1570" ومسلم "1218" واللفظ للبخاري(1/329)
وقوله فيه: "ونحن نقول لبيك بالحج" يدل على أنهم أحرموا بالحد مفردا لكنه محمول على بعضهم لما ورد في حديث آخر عن جابر: "فمنا من أهل بحج ومنا من أهل بعمرة"1.
3 - عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبيحة رابعة فأمرهم: أن يجعلوها عمرة, فقالوا: يا رسول الله أي الحل؟ قال: "الحل كله" 2.
وحديث ابن عباس يدل أيضا على فسخ الحج إلى العمرة وفيه زيادة: أن التحلل بالعمرة تحلل كامل بالنسبة إلى جميع محظورات الإحرام لقوله صلى الله عليه وسلم للصحابة لما قالوا: أي الحل؟ قال: "الحل كله" وقول الصحابة كأنه لاستبعادهم بعض أنواع الحل وهو الجماع المفسد للإحرام فأجيبوا بما يقتضي التحلل المطلق والذي يدل على هذا: قولهم في الحديث الآخر: "ينطلق أحدنا إلى منى وذكره يقطر" وهذا يشعر بما ذكرناه من استبعاد التحلل المبيح للجماع.
4 - عن عروة بن الزبير قال: "سئل أسامة ابن زيد - وأنا جالس - كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير حين دفع؟ قال: كان يسير العنق فإذا وجد فجوة نص"3.
العنق انبساط السير والنص فوق ذلك.
حديث عروة بن الزبير عن أسامة لا يتعلق بفسخ الحج إلى العمرة وقد أدخله المصنف في بابه والعنق بفتح المهملة والنون والنص فتح النون وتشديد الصاد المهملة - ضربان من السير والنص: أرفعهما.
وفيه دليل على أنه عند الازدحام: كان يستعمل السير الأخف وعند وجود الفجوة - وهو المكان المنفسح - يستعمل السير الأشد وذلك باقتصاد لما جاء في الحديث الآخر: "عليكم السكينة" 4.
5 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع فجعلوا يسألونه فقال: رجل لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح؟ قال: "اذبح ولا حرج" وجاء آخر فقال: لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي؟ قال: "ارم ولا حرج" فما سئل يومئذ عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: "افعل ولا حرج" 5.
ـــــــ
1 البخاري "1562" ومسلم "1211".
2 البخاري "1564" ومسلم "1240".
3 البخاري "1666" ومسلم "1286".
4 البخاري "1671" ومسلم "1218" .
5 البخاري "1736" ومسلم "1316".(1/330)
الشعور العلم وأصله: من المشاعر وهي الحواس فكأنه يستند إلى الحواس والنحر ما يكون في اللبة والذبح ما يكون في الحلق والوظائف يوم النحر أربعة: الرمي ثم نحر الهدي أو ذبحه ثم الحلق أو التقصير ثم طواف الإفاضة هذا هو الترتيب المشروع فيها ولم يختلفوا في طلبية هذا الترتيب وجوازه على هذا الوجه إلا أن ابن جهم - من المالكية - يرى أن القارن لا يجوز له الحلق قبل الطواف وكأنه رأى أن القارن عمرته وحجته قد تداخلا فالعمرة قائمة في حقه والعمرة لا يجوز فيها الحلق قبل الطواف وقد يشهد لهذا: قوله عليه السلام في القارن: "حتى يحل منهما جميعا" فإنه يقتضي أن الإحلال منهما يكون في وقت واحد فإذا حلق قبل الطواف: فالعمرة قائمة بهذا الحديث فيقع الحلق فيهما قبل الطواف وفي هذا الاستشهاد نظر ورد عليه بعض المتأخرين بنصوص الأحاديث والإجماع المتقدم عليه وكأنه يريد بنصوص الأحاديث: ما ثبت عنده: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا في آخر الأمر" وأنه حلق قبل الطواف وهذا إنما ثبت بأمر استدلالي لا نصي عند الجمهور أو كثير أعني: كونه عليه السلام قارنا وابن الجهم بنى على مذهب مالك والشافعي ومن قال بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان مفردا وأما الإجماع: فبعيد الثبوت إن أراد به الإجماع النقلي القولي وإن أراد السكوتي: ففيه نظر وقد ينازع فيه أيضا.
وإذا ثبت أن الوظائف أربع في هذا اليوم فقد اختلفوا فيما لو تقدم بعضها على بعض فاختار الشافعي جواز التقديم: وجعل الترتيب مستحبا ومالك وأبو حنيفة يمنعان تقديم الحلق على الرمي لأنه حينئذ يكون حلقا قبل وجود التحللين وللشافعي قول مثله وقد بنى القولان له على أن الحلق نسك أو استباحة محظور فإن قلنا: إنه نسك جاز تقديمه على الرمي لأنه يكون من أسباب التحلل وإن قلنا: إنه استباحة محظور: لم يجز لما ذكرناه من وقوع الحلق قبل التحللين وفي هذا البناء نظر لأنه لا يلزم من كون الشيء نسكا أن يكون من أسباب التحلل ومالك يرى أن الحلق نسك ويرى - مع ذلك - أنه لا يقدم على الرمي إذ معنى كون الشيء نسكا: أنه مطلوب مثاب عليه ولا يلزم من ذلك أن يكون سببا للتحلل ونقل عن أحمد: أنه إن قدم بعض هذه الأشياء على بعض فلا شيء عليه إن كان جاهلا وإن كان عالما: ففي وجوب الدم روايتان وهذا القول في سقوط الدم عن الجاهل والناسي دون العامد: قوي من جهة أن الدليل دل على وجوب اتباع أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحج بقوله: "خذوا عني مناسككم" وهذه الأحاديث المرخصة في التقديم لما وقع السؤال عنه: إنما قرنت بقول السائل لم أشعر فيخصص الحكم بهذه الحالة وتبقى حالة العمد على أصل وجوب اتباع الرسول في أعمال الحج ومن قال بوجوب الدم في العمد والنسيان عند تقدم الحلق على الرمي: فإنه يحمل قوله عليه السلام: "لا حرج" على نفي الإثم في التقديم مع النسيان ولا يلزم من نفي الإثم نفي وجوب الدم.
وادعى بعض الشارحين: أنه قوله عليه السلام: "لا حرج" ظاهر في أنه لا شيء عليه.(1/331)
وعني بذلك نفي الإثم والدم معا وفيما ادعاه من الظهور نظر وقد ينازعه خصومه فيه بالنسبة إلى الاستعمال العرفي فإنه قد استعمل لا حرج كثيرا في نفي الإثم وإن كان من حيث الوضع اللغوي يقتضي نفي الضيف قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].
وهذا البحث كله إنما يحتاج إليه بالنسبة إلى الرواية التي جاء فيها السؤال عن تقديم الحلق على الرمي وأما على الرواية التي ذكرها المصنف: فلا تعلم من أوجب الدم وحمل نفي الحرج على نفي الإثم فيشكل عليه تأخير بيان وجوب الدم فإن الحاجة تدعو إلى تبيان هذا الحكم فلا يؤخر عنها بيانه.
ويمكن أن يقال: إن ترك ذكره في الرواية لا يلزمه منه ترك ذكره في نفس الأمر.
وأما من أسقط الدم وجعل ذلك مخصوصا بحالة عدم الشعور: فإنه يحمل: "لا حرج" على نفي الإثم والدم معا فلا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ويبني أيضا على القاعدة: في أن الحكم إذا رتب على وصف يمكن أن يكون معتبرا لم يجز اطراحه وإلحاق غيره مما لا يساويه به ولا شك أن عدم الشعور وصف مناسب لعدم التكليف والمؤاخذة والحكم علق به فلا يمكن اطراحه بإلحاق العمد به إذ لا يساويه فإن تمسك بقول الراوي فما سئل عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: افعل ولا حرج فإنه قد يشعر بأن الترتيب مطلقا غير مراعى في الوجوب.
فجوابه: أن الراوي لم يحك لفظا عاما عن الرسول صلى الله عليه وسلم يقتضي جواز التقديم والتأخير مطلقا وإنما أخبر عن قوله عليه الصلاة والسلام: "لا حرج" بالنسبة إلى كل ما سئل عنه من التقديم والتأخير حينئذ هذا الإخبار من الراوي: إنما تعلق بما وقع السؤال عنه وذلك مطلق بالنسبة إلى حال السؤال وكنه وقع عن العمد أو عدمه والمطلق لا يدل على أحد الخاصيين بعينه فلا يبقى حجة في حال العمد والله أعلم.
6 - عن عبد الرحمن بن يزيد النخعي: "أنه حج مع ابن مسعود فرآه رمى الجمرة الكبرى بسبع حصيات فجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه ثم قال: هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة صلى الله عليه وسلم"1.
فيه دليل على رمي الجمرة الكبرى بسبع كغيرها ودليل على استحباب هذه الكيفية في الوقوف لرميا ودليل على أن هذه الجمرة ترمى من بطن الوادي ودليل على مراعاة كل شيء من هيئات الحج التي وقعت من الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قال ابن مسعود هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة.
ـــــــ
1 البخاري "1747" ومسلم "1296" "307".(1/332)
البقرة قاصدا بذلك الإعلام به ليفعل وفيه دليل على جواز قولنا سورة البقرة وقد نقل عن الحجاج بن يوسف: أنه نهى عن ذلك وأمر أن يقال السورة التي تذكر فيها البقرة فرد عليه بهذا الحديث.
7 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم ارحم المحلقين", قالوا: والمقصرين يا رسول الله قال: "اللهم ارحم المحلقين", قالوا: والمقصرين يا رسول الله, قال: "والمقصرين" 1.
الحديث دليل على جواز الحلق والتقصير معا وعلى أن الحلق أفضل لأن النبي صلى الله عليه وسلم ظاهر في الدعاء للمحلقين واقتصر في الدعاء للمقصرين على مرة وقد تكلموا في أن هذا كان في الحديبية أو في حجة الوداع وقد ورد في بعض الروايات ما يدل على أنه في الحديبية ولعله وقع فيهما معا وهو الأقرب وقد كان في كلا الوقتين توقف من الصحابة في الحلق أما في الحديبية: فلأنهم عظم عليهم الرجوع قبل تمام مقصودهم من الدخول إلى مكة وكمال نسكهم وأما في الحج فلأنهم شق عليهم فسخ الحج إلى العمرة وكان من قصر منهم شعره اعتقد: أنه أخف من الحلق إذ هو يدل على الكراهة للشيء فكرر النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء للمحلقين لأنهم بادروا إلى امتثال الأمر وأتموا فعل ما أمروا به من الحلق وقد ورد التصريح بهذه العالة في بعض الروايات فقيل لأنهم لم يشكوا.
8 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: حججنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فأفضنا يوم النحر فحاضت صفية فأراد النبي صلى الله عليه وسلم منها ما يريد الرجل من أهلة فقلت: يا رسول الله إنها حائض قال: "أحابستنا هي؟", قالوا: يا رسول الله إنها قد أفاضت يوم النحر قال: "اخرجوا" 2.
وفي لفظ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "عقري حلقي أطافت يوم النحر؟", قيل: نعم قال: "فانفري" 3.
فيه دليل على أمور:
أحدها: أن طواف الإفاضة لا بد منه وأن المرأة إذا حاضت لا تنفر حتى تطوف لقوله صلى الله عليه وسلم: "أحابستنا هي؟" فقيل: إنها قد أفاضت - إلى آخره فإن في سياقه يدل على أن عدم طواف الإفاضة موجب للحبس.
ـــــــ
1 البخاري "1727" ومسلم "1301" "317".
2 البخاري "1733" ومسلم "1328" "386" بألفاظ متقاربة.
3 البخاري "1771".(1/333)
وثانيهما: أن الحائض يسقط عنها طواف الوداع ولا تقعد لأجله لقوله فانفري.
وثالثهما: قوله عقري مفتوح العين ساكن القاف وحلقي مفتوح الحاء سكان اللام والكلام في هاتين اللفظتين من وجوه.
منها: ضبطهم فالمشهور عن المحدثين - حتى لا يكاد يعرف غيره - أن آخر اللفظتين ألف التأنيث المقصورة من غير تنوين وقال بعضهم عقرا حلقا بالتنوين لأنه يشعر أن الموضع موضع دعاء فأجراه مجرى كلام العرب في الدعاء بألفاظ المصادر فإنها منونة موضع دعاء فأجراه مجرى كلام العرب في الدعاء بألفاظ المصادر فإنها منونة كقولهم سقيا ورعيا وجدعا وكيا ورأى أن عقرى بألف التأنيث نعت لا دعاء والذي ذكره المحدثون صحيح أيضا.
ومنها: ما تقتضيه هاتان اللفظتان فقيل عقرى بمعنى: عقرها لله وقيل: عقر قومها وقيل: جعلها عاقر لا تلد وأما حلقى فإما بمعنى حلق شهرها أو بمعنى أصابها وجع في حلقها أو بمعنى تحلق قومها بشؤمها.
ومنها: أن هذا من الكلام الذي كثر في لسان العرب حتى لا يراد به أصل موضعه كقولهم: ترتب يداك وما أشعره قاتله الله وأفلح وأبيح إلى ذلك من الألفاظ التي لا يقصد أصل موضوعها لكثرة استعمالها.
9 - عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: "أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض"1.
فيه دليل على أن طواف الوداع واجب لظاهر الأمر وهو مذهب الشافعي ويجب الدم بتركه وهذا بعد تقرير أن إخبار الصحابي عن صيغة الأمر كحكايته لها ولا دم فيه عند مالك ولا وجوب له عنده.
وفيه دليل على سقوطه عن الحائض وفيه خلاف عن بعض السلف أعني ابن عمر أو ما يقرب - أي من الخلف - منه.
10 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "استأذن العباس بن عبد المطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته فأذن له"2.
أخذ منه أمران:
أحدهما: حكم المبيت بمنى وأنه من مناسك الحج وواجباته: وهذا من حيث قوله: "أذن للعباس من أجل سقايته" فإنه يقتضي الإذن لهذه العلة المخصوصة وأن غيرها لم يحصل فيه الإذن.
ـــــــ
1 البخاري "1755" ومسلم "1328".
2 البخاري "1745" ومسلم "1315".(1/334)
الثاني: أنه يجوز المبيت لأجل السقاية ومدلول الحديث: تعليق هذا الحكم بوصف السقاية وباسم العباس: فتكلم الفقهاء في أن هذا من الأوصاف المعتبرة في هذا الحكم فأما غير العباس: فلا يختص به الحكم اتفاقا لكن اختلفوا فيما زاد على ذلك: فمنهم من قال: يختص هذا الحكم بآل العباس ومنهم من عمه في بني هاشم ومنهم من عم وقال: كل من احتاج إلى المبيت للسقاية فله ذلك وأما تعليقه بسقاية العباس: فمنهم من خصصه بها حتى لو عملت سقاية أخرى لم يرخص في المبيت لأجلها والأقرب: ابتاع المعنى وأن العلة: الحاجة إلى إعداد الماء للشاربين.
11 - وعنه - أي عن ابن عمر - قال: "جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء بجمع لكل واحدة منهما إقامة ولم يسبح بينهما ولا على إثر واحدة منهما"1.
فيه دليل على جمع التأخير بمزدلفة وهي جمع لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان وقت الغروب بعرفة فلم يجمع بينهما بالمزدلفة إلا وقد أخر المغرب وهذا الجمع لا خلاف فيه وإنما اختلفوا: هل هو بعذر النسك أو بعذر السفر؟ وفائدة الخلف: أن من ليس بمسافر يجمع فيه هل يجمع بين هاتين الصلاتين أم لا؟ والمنقول عن مذهب أبي حنيفة: أن الجمع بعذر النسك وظاهر مذهب الشافعي: أنه بعذر السفر ولبعض أصحابه وجه: أنه بعذر السفر ولبعض أصحابه وجه: أنه بعذر النسك.
ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الصلاتين في طول سفره ذلك فإن كان لم يجمع في نفس الأمر فيقوى أن يكون للنسك لأن الحكم المتجدد عن تجدد أمر يقتضي إضافة ذلك الحكم إلا ذلك الأمر وإن كان قد جمع: إما بأن يرد في ذلك نقل خاص أو يؤخذ من قول ابن عمر إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذ جد به السير جمع بين المغرب والعشاء2 فقد تعارض في هذا الجمع سببان: السفر والنسك فيبقى النظر في ترجيح الإضافة إلى أحدهما على أن في الاستدلال بحديث ابن عمر على هذا الجمع نظرا من حيث إن السير لم يكن مجدا في ابتداء هذه الحركة لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان نازلا عند دخول وقت صلاة المغرب وأنشأ الحركة بعد ذلك فالجد إنما يكون بعد الحركة أما في الابتداء: فلا وقد كان يمكن أن تقام المغرب بعرفة ولا يحصل جد السير بالنسبة إليها وإنما يتناول الحديث: ما إذا كان الجد والسير موجودا عند دخول وقتها فهذا أمر محتمل.
واختلف الفقهاء أيضا: فيما لو أراد الجمع بغير جمع كما لو جمع في الطريق أو بعرفة على التقديم هل يجمع أم لا؟ والذين عللوا الجمع بالسفر: يجيزون الجمع مطلقا والذين يعللونه
ـــــــ
1 البخاري "1673" ومسلم "1287" واللفظ للبخاري.
2 البخاري "1106" ومسلم "1621".(1/335)
بالنسك: نقل عن بعضهم: أنه لا يجمع إلا بالمكان الذي جمع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المزدلفة إقامة لوظيفة النسك على الوجه الذي فعله الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومما يتعلق بالحديث: الكلام في الأذان والإقامة لصلاتي الجمع وقد ذكر فيه: أنه جمع بإقامة لكل واحدة ولم يذكر الأذان1.
وحاصل مذهب الشافعي رحمه الله: أن الجمع إما أن يكون على وجه التقديم أو على وجه التأخير فإن كان على وجه التقديم: أذن للأولى لأن الوقت لها وأقام لكل واحدة ولم يؤذن للثانية إلا على وجه غريب لبعض أصحابه وإن كان على وجه التأخير - كما في هذا الجمع - صلاها بإقامتين كما في ظاهر الحديث وأجروا في الأذان للأولى الخلاف الذي في الأذان للفائتة ودلالة الحديث على عدم الأذان دلالة سكون أعني الحديث الذي ذكره المصنف.
ويتعلق بالحديث أيضا: عدم التنفل بين صلاتي الجمع لقوله: "ولم يسبح بينهما" والسبحة صلاة النافلة على المشهور والمسألة معبر عنها: بوجوب الموالاة بين صلاتي الجمع والمنقول عن ابن حبيب من أصحاب مالك: أن له أن ينتقل أعني للجامع بين الصلاتين ومذهب الشافعي: أن المولاة بين الصلاتين شرط في جمع التقديم وفيها في جمع التأخير خلاف لأن الوقت للصلاة الثانية فجاز تأخيرها وإذا قلنا بوجوب الموالاة فلا يقطعهما قدر الإقامة ولا قدر التيمم لمن يتيمم ولا قدر الأذان لمن يقول بالأذان لكل واحدة من صلاتي الجمع وقد حكيناه وجها لبعض الشافعية وهو قول في مذهب مالك أيضا لمن أراد أن يستدل بالحديث على عدم جواز التنفل بين صلاتي الجمع؟ فلمخالفه أن يقول: هو فعل والفعل بمجرده لا يدل على الوجوب ويحتاج إلى ضميمة أمر آخر إليه.
ومما يؤكده - أعني كلام المخالف - أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتنفل بعدهما كما في الحديث مع أنه لا خلاف في جواز ذلك فيشعر ذلك بأن ترك التنفل لم يكن لما ذكر من وجوب الموالاة وقد ورد بعض الروايات: "أنه فصل بين هاتين الصلاتين بحط الرحال" وهو يحتاج إلى مسافة في الوقت ويدل على جواز التأخير وقد تكرر من المصنف إيراد أحاديث في هذا الباب لا تناسب ترجمته.
ـــــــ
1 جاء ذكر الأذان في الحديث الذي أخرجه مسلم "1218" من حديث جابر وفيه "فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين".(1/336)
11- باب المحرم يأكل من صيد الحلال.
1 - عن أبي قتادة الأنصاري: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج حاجا فخرجوا معه فصرف طائفة منهم - فيهم أبو قتادة - وقال: "خذوا ساحل البحر حتى نلتقي".(1/336)
فأخذوا ساحل البحر فلما انصرفوا أحرموا كلهم إلا أبا قتادة فلم يحرم فينما هم يسيرون إذ رأوا حمر وحش فحمل أبو قتادة على الحمر فعقر منها أتانا فنزلنا فأكلنا من لحمها ثم قلنا: أنأكل لحم صيد ونحن محرمون؟ فحملنا ما بقي من لحمها فأدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عن ذلك؟ فقال: "منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها؟" قالوا: لا, قال: "فكلوا ما بقي من لحمها" 1.
وفي رواية قال: "هل معكم منه شيء؟" فقلت: نعم, فناولته العضد فأكلها2.
تكلموا في كون أبي قتادة لم يكن محرما مع كونهم خرجوا للحج ومروا بالميقات ومن كان كذلك وجب عليه الإحرام من الميقات وأجيب بوجوه:
منها وهو ضعيف أنه لم يكن مريدا للحج والعمرة.
منها: ما دل عليه أول هذا الحديث من أنه أرسل إلى جهة أخرى لكشفها وكان الالتقاء بعد مضي مكان الميقات.
ومنها: أنه قبل توقيت الميقات.
والأتان: الأنثى من الحمار وقولهم: "نأكل من لحم صيد ونحن محرمون" ورجوعهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك: دليل على أمرين:
أحدهما: جواز الاجتهاد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه أكلوه باجتهاد.
والثاني: وجوب الرجوع إلى النصوص عند تعارض الأشباه والاحتمالات.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها" فيه دليل على أنهم لو فعلوا ذلك لكان سببا للمنع.
وقوله عليه السلام: "فكلوا ما بقي من لحمها" دليل على جواز أكل المحرم لحم الصيد إذا لم يكن من دلالة ولا إشارة وقد اختلف الناس في أكل المحرم لحم الصيد على مذاهب.
أحدها: أنه ممنوع مطلقا صيد لأجله أو لا وهذا مذكور عن بعض السلف ودليله: حديث الصعب على ما سنذكره.
والثاني: إنه ممنوع إن صاده أو صيد لأجله سواء كان بإذنه أو بغير إذنه وهو مذهب مالك والشافعي.
والثالث: إنه إن كان باصطياده أو بإذنه أو بدلالته حرم وإن كان على غير ذلك: لم يحرم.
ـــــــ
1 البخاري "1824" ومسلم "1196" "60".
2 البخاري "2570".(1/337)
وحديث أبي قتادة - هذا - يدل على جواز أكله في الجملة وهو على خلاف مذهب الأول ويدل ظاهره: على أنه إذا لم يشر المحرم إليه ولا دل عليه: يجوز أكله فإنه ذكر الموانع المانعة من أكله والظاهر: أنه لو كان غيرها مانعا لذكر.
وإنما احتج الشافعي على تحريم ما صيد لأجله مطلقا وإن لم يكن بدلالته وإذنه: بأمور أخرى منها: حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لحم الصيد لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصد لكم" 1.
والذي في الرواية الأخرى: من قوله عليه السلام: "هل معكم منه شيء؟" فيه أمران:
أحدهما: تبسط الإنسان إلى صاحبه في طلب مثل هذا.
والثاني: زيادة تطييب قلوبهم في موافقتهم في الأكل وقد تقدم لنا قوله عليه السلام: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي" 2 والإشارة إلى أن ذلك لطلب موافقتهم في الحلق فإنه كان أطيب لقلوبهم.
2 - عن الصعب بن جثامة الليثي رضي الله عنه: أنه أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا وهو بالأبواء - أو بودان - فرده عليه فلما رأى ما في وجهي قال: "إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم" 3 وفي لفظ لمسلم: "رِجْلُ حِمَارٍ" وفي لفظ: "شق حمار" وفي لفظ: "عجز حمار"4.
ووجه هذا الحديث: أنه ظن أنه صيد لأجله والمحرم لا يأكل ما صيد لأجله.
الصعب بالصاد المهملة والعين المهملة أيضا وجثامة بفتح الجيم وتشديد الثاء المثلثة وفتح الميم.
وقوله: "أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم" الأصل: أن يتعدى أهدى بإلى وقد يتعدى باللام ويكون بمعناه وقد يحتمل أن تكون اللام بمعنى أجل وهو ضعيف.
وقوله: "حمارا وحشيا" ظاهره: أنه أهداه بجملته وحمل على أنه كان حيا وعليه يدل تبويب البخاري رحمه الله وقيل: إنه تأويل مالك رحمه الله وعلى مقتضاه: يستدل بالحديث على منع وضع المحرم يده على الصيد بطريق التملك بالهدية ويقاس عليها: ما في معناها من البيع.
ـــــــ
1 أخرجه أحمد في مسنده "14894" وأبو داود "1851" والترمذي "846" والنسائي "2830" قال الترمذي والعمل على هذا عند بعض أهل العلم قال الشافعي هذا أحسن حديث روي في الباب وأقيس.
2 سبق تخريجه.
3 البخاري "1825" ومسلم "1193".
4 مسلم "1194" "54".(1/338)
والهبة إلا أنه رد هذا التأويل بالروايات التي ذكرها المصنف عن مسلم من قوله عجز حمار أو شق حمار أو رجل حمار فإنها قوية الدلالة على كون المهدى بعضا وغير حي فيحتمل قوله: "حمارا وحشيا" المجاز وتسمية البعض باسم الكل أو فيه حذف مضاف ولا تبقى فيه دلالة على ما ذكره من تملك الصيد بالهبة على هذا التقدير.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم"
"إنا" الأولى مكسورة الهمزة لأنها ابتدائية والثانية مفتوحة: لأنها حذف منها اللام التي للتعليل وأصله: إلا لأنا.
وقوله: "لم نرده" المشهور عند المحدثين: فيه فتح الدال وهو خلاف مذهب المحققين من النحاة ومقتضى مذهب سيبيويه وهم ضم الدال وذلك في كل مضاعف مجزوم أو موقوف اتصل به هاء ضمير المذكر وذلك معلل عندهم بأن الهاء حرف خفي فكأن الواو تالية للدال لعدم الاعتداد بالهاء وما قبل الواو: يضم وعبروا عن ضمتها لما بعدها وهذا بخلاف ضمير المؤنث إذا اتصل بالمضاعف المشدد فإنه يفتح باتفاق وحكى في مثل هذا الأول الموقوف لغتان أخريان إحداهما: الفتح كما يقول المحدثون والثانية: الكسر وأنشد فيه:
قال أبو ليلى لحبلى: مده ... حتى إذا مددته فشده
إن أبا ليلى نسيج وحده
وقوله عليه السلام: "إلا أنا حرم" يتمسك به في منع أكل المحرم لحم الصيد مطلقا فإنه علل بمجرد الإحرام والذين أباحوا أكله: لا يكون مجرد الإحرام عندهم علة وقد قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما رده لأنه صيد لأجله جمعا بينه وبين حديث أبي قتادة والحرم جمع حرام.
و الأبواء بفتح الهمزة وسكون الباء الموحدة والمد وودان فتح الواو وتشديد الدال آخره نون: موضعان معروفان فيما بين مكة والمدينة.
ولمسألة أكل المحرم الصيد تعلق بقوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} [المائدة: 96] وهل المراد بالصيد: نفس الاصطياد أو المصيد؟ وللاستقصاء فيه موضع غير هذا ولكن تعليل النبي صلى الله عليه وسلم بأنه حرم قد يكون إشارة إليه.
وفي اعتذار النبي صلى الله عليه وسلم للصعب: تطييب لقلبه لما عرض له من الكراهة في رد هديته ويؤخذ منه: استحباب مثل ذلك من الاعتذار.
وقوله: "فلما رأى ما في وجهي" يريد من الكراهة بسبب الرد.(1/339)
كتاب البيوع
مدخل
...
كتاب البيوع.
1 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعا أو يخير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع" 1.
وما في معناه من حديث حكيم بن حزام وهو:
2 - قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا - أو قال: حتى يتفرقا - فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما" 2.
الحديث: يتعلق بمسألة إثبات خيار المجلس في البيع وهو يدل عليه وبه قال الشافعي وفقهاء أصحاب الحديث3 ونفاه مالك وأبو حنيفة ووافق ابن حبيب - من أصحاب مالك - من أثبته والذين نفوه اختلفوا في وجه العذر عنه والذي يحضرنا الآن من ذلك وجوه:
أحدها: أنه حديث خالفه راويه وكل ما كان كذلك: لم يعمل به.
أما الأول: فلأن مالكا رواه ولم يقل به.
وأما الثاني: فلأن الراوي إذا خالف فإما أن يكون مع علمه بالصحة فيكون فاسقا فلا تقبل روايته وإما أن يكون لا مع علمه بالصحة فهو أعلم بعلل ما روى فيتبع في ذلك.
وأجيب عن ذلك بوجهين:
أحدهما: منع المقدمة الثانية وهو أن الراوي إذا خالف لم يعمل بروايته وقوله إذا كان مع علمه بالصحة كان فاسقا ممنوع لجواز أن يعلم بالصحة ويخالف لمعارض راجح عنده ولا يلزم تقليده فيه وقوله إن كان لا مع علمه بالصحة وهو أعلم بروايته فيتبع في ذلك ممنوع أيضا لأنه إذا ثبت الحديث بعدالة النقلة وجب العمل به ظاهرا فلا يترك بمجرد الوهم والاحتمال.
الوجه الثاني: أن هذا الحديث مروي من طرق فإن تعذر الاستدلال به من جهة رواية
ـــــــ
1 البخاري "2112" ومسلم "1531" "44".
2 البخاري "2079" ومسلم "1532".
3 انظر موطأ مالك "2/424" وفيه قال مالك وليس لهذا عندنا حد معروف عندنا ولا أمر معمول به فيه.(1/341)
مالك لم يتعذر من جهة أخرى وإنما يكون ذلك عند التفرد على تقدير صحة هذا المأخذ - أعني أن مخالفة الراوي لروايته تقدم في العمل بها - فإنه على هذا التقدير: يتوقف العمل برواية مالك ولا يلزم من بطلان مأخذ معين بطلان مأخذ الحكم في نفس الأمر.
الوجه الثاني من الاعتذارات: أن هذا خبر واحد فيما تعم به البلوى وخبر الواحد فيما تعم به البلوى غير مقبول فهذا غير مقبول.
أما الأول: لأن البياعات مما تتكرر مرات لا تحصى ومثل هذا تعم البلوى بمعرفة حكمه وأما الثاني: فلأن العادة تقتضي أن ما عمت به البلوى يكون معلوما عند الكافة فانفراد الواحد به على خلاف العادة فيرد.
وأجيب عنه: بمنع المقدمتين معا.
أما الأولى - وهو أن البيع بما تعم به البلوى - فالبيع كذلك ولكن الحديث دل على إثبات خيار الفسخ وليس الفسخ مما تعم به البلوى في البياعات فإن الظاهر من الإقدام على البيع: الرغبة من كل واحد من المتعاقدين فيما صار إليه فالحاجة إلى معرفة حكم الفسخ لا تكون عامة.
وأما الثانية: فلأن المعتمد في الرواية على عدالة الراوي وجزمه بالرواية وقد وجد ذلك وعدم نيل غيره لا يصلح معارضا لجواز عدم سماعه للحكم فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يبلغ الأحكام للآحاد والجماعة ولا يلزم تبليغ كل حكم لجميع المكلفين وعلى تقدير السماع: فجائز أن يعرض مانع من النقل أعني نقل غير هذا الراوي فإنما يكون ما ذكر إذا اقتضت العادة أن لا يخفى الشيء عن أهل التواتر وليست الأحكام الجزئية من هذا القبيل.
الوجه الثالث من الاعتذارات: هذا حديث مخالف للقياس الجلي والأصول القياسية المقطوع بها وما كان كذلك لا يعمل به.
أما الأول: فنعني بمخالف الأصول القياسية: ما ثبت الحكم في أصله قطعا وثبت كون الفرع في معنى المنصوص لم يخالف إلا فيما يعلم عروة عن مصلحة تصلح أن تكون مقصودة بشرع الحكم وههنا كذلك فإن منع الغير من إبطال حق الغير: ثابت بعد التفرق قطعا وما قبل التفرق في معناه لم يفترقا إلا فيما يقطع بتعريه عن المصلحة.
وأما الثاني: فلأن القاطع مقدم على المظنون لا محالة وخبر الواحد مظنون وأجيب عنه: بمنع المقدمتين معا.
أما الأولى: فلا نسلم عدم افتراق الفرع من الأصل إلا فيما لا يعتبر من المصالح وذلك لأن البيع يقع بغتة من غير ترو وقد يحصل الندم بعد الشروع فيه فيناسب إثبات الخيار لكل.(1/342)
واحد من المتعاقدين دفعا لضرر الندم فيما لعله يتكرر وقوعه ولم يمكن إثباته الخيار لكل واحد من المتعاقدين دفعا لضرر الندم فيما لعله يتكرر وقوعه ولم يمكن إثباته مطلقا فيما بعد التفرق وقبله فإنه رفع لحكمة العقد والوثوق بالتصرف فجعل مجلس العقد حريما لاعتبار هذه المصلحة وهذا معنى معتبر لا يستوي فيه ما قبل التفرق مع ما بعده.
وأما الثانية: فلا نسلم أن الحديث المخالف للأصول يرد فإن الأصل يثبت بالنصوص والنصوص ثابتة في الفروع المعينة وغاية ما في الباب أن يكون الشرع أخرج بعض الجزئيات عن الكليات لمصلحة تخصها أو تعبدا فيجب اتباعه.
الوجه الرابع من الاعتذارات: هذا حديث معارض لإجماع أهل المدينة وعملهم وما كان كذلك يقدم عليه العمل فهذا يقدم عليه العمل.
أما الأول: فلأن مالكا قال عقيب روايته وليس لهذا عندنا حد معلوم ولا أمر معمول به فيه.
وأما الثاني: فلما اختص به أهل المدينة من سكناهم في مهبط الوحي ووفاة الرسول بين أظهرهم ومعرفتهم بالناسخ والمنسوخ فمخالفتهم لبعض الأخبار تقتضي علمهم بما أوجب ترك العمل به من ناسخ أو دليل راجح ولا تهمة تلحقهم فيتعين اتباعهم وكان ذلك أرجح من خبر الواحد المخالف لعملهم.
وجوابه من وجهين:
أحدهما: منع المقدمة الأولى وهو كون المسألة من إجماع أهل المدينة وبيانه من ثلاثة أوجه:
منها: أنا تأملنا لفظ مالك فلم نجده مصرحا بأن المسألة إجماع أهل المدينة ويعرف ذلك بالنظر في ألفاظه.
ومنها: أن هذا الإجماع إما أن يراد به إجماع سابق أو لاحق والأول باطل لأن ابن عمر رأس المفتين في المدينة في وقته وقد كان يرى إثبات خيار المجلس.
والثاني: أيضا باطل فإن ابن أبي ذئب - من أقران مالك ومعاصريه - وقد أغلظ على مالك لما بلغه مخالفته للحديث.
وثانيهما: منع المقدمة الثانية وهو أن إجماع أهل المدينة وعملهم مقدم على خبر الواحد مطلقا فإن الحق الذي لا شك فيه: أن عملهم وإجماعهم لا يكون حجة فيما طريقه الاجتهاد والنظر لأن الدليل العاصم للأمة من الخطأ في الاجتهاد لا يتناول بعضهم ولا مستند للعصمة سواه وكيف يمكن أن يقال: بأن من كان بالمدينة من الصحابة رضوان الله عليهم يقبل خلافه باعتبار(1/343)
صفات قائمة به حيث حل فتفرض المسألة فيما اختلف فيه أهل المدينة مع بعض من خرج منها من الصحابة بعد استقرار الوحي وموت الرسول صلى الله عليه وسلم فكل ما قيل من ترجيح لأقوال علماء أهل المدينة وما اجتمع لهم من الأوصاف قد كان حاصلا لهذا الصحابي ولم يزل عنه بخروجه وقد خرج من المدينة أفضل أهل زمانه في ذلك الوقت بالإجماع من أهل السنة وهو علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقال أقوالا بالعراق فكيف يمكن إهدارها إذا خالفها أهل المدينة؟ وهو كان رأسهم وكذلك ابن مسعود رضي الله عنه ومحله من العلم معلوم وغيرهما قد خرجوا وقالوا أقوالا على أن بعض الناس يقول: إن المسائل المختلف فيها خارج المدينة مختلف فيها بالمدينة وادعى العموم في ذلك.
الوجه الخامس: ورد في بعض الروايات للحديث: "ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله" 1 فاستدل بهذه الزيادة على عدم ثبوت خيار المجلس من حيث إنه لولا أن العقد لازم لما احتاج إلى الاستقالة ولا طلب الفرار من الاستقالة.
وأجيب عنه: بأن المراد بالاستقالة: فسخ البيع بحكم الخيار وغاية ما في الباب: استعمال المجاز في لفظ الاستقالة لكن جاز المصير إليه إذا دل الدليل عليه وقد دل من وجهين.
أحدهما: أنه علق ذلك على التفرق فإذا حملناه على خيار الفسخ صح تعليقه على التفرق لأن الخيار يرتفع بالتفرق وإذا حملناه على الاستقالة فالاستقالة لا تتوقف على التفرق ولا اختصاص لها بالمجلس.
الثاني: أنا إذا حملناه على خيار الفسخ فالتفرق مبطل له قهرا فيناسب المنع من التفرق المبطل للخيار على صاحبه أما إذا حملناه على الإقالة الحقيقة: فمعلوم أنه لا يحرم على الرجل أن يفارق صاحبه خوف الاستقالة ولا يبقى بعد ذلك إلى النظر فيما دل عليه الحديث من التحريم.
الوجه السادس: تأويل الحديث بحمل المتبايعين على المتساومين لمصير حالهما إلى البيع وحمل الحمار على خيار القبول.
وأجيب عنه: بأن تسمية المتساومين متبايعين مجاز.
واعترض على هذا الجواب: بأن تسميتهما متبايعين بعد الفراغ من البيع مجاز أيضا فلم فلتم: إن الحمل على هذا المجاز أولى؟ فقيل عليه: إنه إذا صدر البيع فقد وجدت الحقيقة فهذا المجاز أقرب إلى الحقيقة من مجاز لم توجد حقيقته أصلا عند إطلاقه وهو الحمل على المتساومين.
ـــــــ
1 أبو داود "3456" والترمذي "1247" والنسائي "4488" من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.(1/344)
الوجه السابع: حمل التفرق على التفرق بالأقوال وقد عهد ذلك شرعا قال الله تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَ} [النساء: 130] أي عن النكاح.
وأجيب عنه: بأنه خلاف الظاهر فإن السابق إلى الفهم: التفرق عن المكان وأيضا فقد ورد في بعض الروايات: "ما لم يتفرقا عن مكانهما" 1 وذلك صريح في المقصود.
وربما اعترض على الأول بأن حقيقة التفرق: لا تختص بالمكان بل هي عائدة إلى ما كان الاجتماع فيه وإذا كان الاجتماع في الأقوال: كان التفرق فيها وإن كان في غيرها: كان التفرق عنه.
وأجيب عنه: بأن حمله على غير المكان بقرينة: يكون مجازا.
الوجه الثامن: قال بعضهم: تعذر المكان بظاهر الحديث فإنه أثبت الخيار لكل واحد من المتبايعين على صاحبه فالحال لا تخلوا: إما أن يتفقا في الاختيار أو يختلفا فإن اتفقا لم يثبت لواحد منهما على صاحبه خيار وإن اختلفا - بأن اختار أحدهما الفسخ والآخر الإمضاء - فقد استحال أن يثبت على كل واحد منهما لصاحبه الخيار إذ الجمع بين الفسخ والإمضاء مستحيل فيلزم تأويل الحديث ولا نحتاج إليه ويكفينا صدكم عن الاستدلال بالظاهر.
وأجيب عنه بأن قيل: لم يثبت صلى الله عليه وسلم مطلق الخيار بل أثبت الخيار وسكت عما فيه الخيار فنحن نحمله على خيار الفسخ فيثبت لكل واحد منهما خيار الفسخ على صاحبه وإن أبي صاحبه ذلك.
الوجه التاسع: ادعاء أنه حديث منسوخ إما لأن علماء المدينة أجمعوا على عدم ثبوت خيار المجلس وذلك يدل على النسخ وإما لحديث اختلاف المتبايعين2 فإنه يقتضي الحاجة إلى اليمينين وذلك يستلزم لزوم العقد فإنه لو ثبت الخيار لكان كافيا في رفع العقد عند الاختلاف وهو ضعيف جدا.
أما النسخ لأجل عمل أهل المدينة: فقد تكلمنا عليه والنسخ لا يثبت بالاحتمال ومجرد المخالفة لا يلزم منه أن يكون للنسخ لجواز أ يكون التقديم لدليل آخر راجح في ظنهم عند تعارض الأدلة عندهم.
ـــــــ
1 أخرجه البيهقي في سننه "5/271" عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أيما رجل ابتاع من رجل بيعة فإن كل واحد منهما بالخيار حتى يتفرقا عن مكانهما" الحديث وانظر نصب الراية للزيلعي "4/2".
2 أخرج أحمد في مسنده "4444" والترمذي "1270" عن ابن مسعود مرفوعا: "إذا اختلف البيعان فالقول قول البائع والمبتاع بالخيار" وقد أخرج نحوه أبو داود "3511" والنسائي "4652".(1/345)
وأما حديث اختلاف المتبايعين فالاستدلال به ضعيف جدا لأنه مطلق أو عام بالنسبة إلى زمن التفرق وزمن المجلس فيحمل على ما بعد التفرق ولا حاجة إلى النسخ والنسخ ولا يصار إليه إلا عند الضرورة.
الوجه العاشر: حمل الخيار على خيار الشراء أو خيار إلحاق الزيادة بالثمن أو المثمن وإذا تردد لم يتعين حمله على ما ذكرتموه.
وأجيب عنه: بأن حمله على خيار الفسخ أولى لوجهين:
أحدهما: أن لفظة الخيار قد عهد استعمالها من رسول الله صلى الله عليه وسلم في خيار الفسخ كما في حديث حبان بن منقذ: "ولك الخيار" 1 بالمراد منه خيار الفسخ وحديث المصراة: "فهو بالخيار ثلاثا" 2 والمراد خيار الفسخ فيحمل الخيار المذكور ههنا عليه لأنه لما كان معهودا من النبي صلى الله عليه وسلم كان أظهر في الإرادة.
الثاني: قيام المانع من إرادة كل واحد من الخيارين أما خيار الشراء: لأن المراد من اسم المتبايعين المتعاقدان والمتعاقدان: من صدر منهما العقد وبعد صدور العقد منهما لا يكون لهما خيار الشراء فضلا عن أن يكون لهما ذلك إلى أوان التفرق.
وأما خيار إلحاق الزيادة بالثمن أو بالمثمن: فلا يمكن الحمل عليه عند من يرى ثبوته مطلقا أو عدمه مطلقا لأن ذلك الخيار: إن لم يكن لهما فلا يكون لهما إلى أوان التفرق وإن كان: فيبقى بعد التفرق عن المجلس فكيفما كان لا يكون ذلك الخيار لهما ثابتا مغيا إلى غاية التفرق والخيار المثبت بالنص ههنا: هو خيار مغيا إلى غاية التفرق ثم الدليل على أن المراد من الخيار هذا ومن المتبايعين ما ذكر: أن مالكا نسب إلى مخالفة الحديث وذلك لايصح إلا إذا حمل الخيار والمتبايعان والافتراق على ما ذكر هكذا قال بعض النظار إلا إنه ضعيف فإن نسبة مالك إلى ذلك ليست من كل الأمة ولا أكثرهم.
ـــــــ
1 لم نجده بهذا اللفظ وانظر تحقيق الإمام ابن حجر في تلخيص الحبير "3/21" حول هذه الرواية.
2 سيأتي تخريجه.(1/346)
باب ما نهى عنه في البيوع.
1 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نهى عن المنابذة - وهي طرح الرجل ثوبه بالبيع إلى الرجل قبل أن يقلبه أو ينظر إليه - ونهى عن الملامسة والملامسة: لمس الثوب ولا ينظر إليه"1.
ـــــــ
1 البخاري "2144" ومسلم "1512" واللفظ للبخاري(1/346)
اتفق الناس على منع هذين البيعين واختلفوا في تفسير الملامسة فقيل: هي أن يجعل اللمس بيعا بأن يقول: إذا لمست ثوبي فهو مبيع منك بكذا وكذا وهذا باطل للتعليق في الصيغة وعدوله عن الصيغة الموضوعة للبيع شرعا وقد قيل: هذا من صور المعاطاة وقيل: تفسيرها أن يبيعه على أنه إذا لمس الثوب فقد وجب البيع وانقطع الخيار وهو أيضا فاسد بالشرط الفاسد وفسره الشافعي رحمه الله: بأن يأتي بثوب مطوي أو في ظلمة فيلمسه الراغب ويقول صاحب الثوب: بعتك هذا بشرط أن يقوم لمسك مقام النظر وهذا فاسد إن أبطلنا بيع الغائب وكذا إن صححناه لإقامة اللمس مقام النظر وقيل يتخرج على نفي شرط الخيار.
وأما لفظ الحديث الذي ذكره المصنف فإنه يقتضي أن جهة الفساد: عدم النظر والتقليب وقد يستدل به من يمنع بيع الأعيان الغائبة عملا بالعلة ومن يشترط الوصف في بيع الأعيان الغائبة لا يكون الحديث دليلا عليه لأنه ههنا لم يذكر وصفا.
وأما المنابذة فقد ذكر في الحديث: "أنها طرح الرجل ثوبه لا ينظر إليه" والكلام في هذا التعليل كما تقدم.
واعلم أن في كلا الموضعين يحتاج إلى الفرق بين المعاطاة وبين هاتين الصورتين فإذا علل بعدم الرؤية المشروطة: فالفرق ظاهر وإذا فسر بأمر لا يعود إلى ذلك: احتيج حينئذ إلى الفرق بينه وبين مسألة المعاطاة عند من يجيزها.
2 - عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تلقوا الركبان ولا يبع بعضكم على بيع بعض ولا تناجشوا ولا يبع حاضر لباد ولاتصروا الغنم ومن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعا من تمر" 1 وفي لفظ: "هو بالخيار ثلاثا" 2.
تلقي الركبان من البيوع المنهي عنها لما يتعلق به من الضرر وهو أن يتلقى طائفة يحملون متاعا فيشتريه منهم قبل أن يقدموا البلد فيعرفوا الأسعار.
والكلام فيه في ثلاثة مواضع:
أحدها: التحريم فإن كان عالما بالنهي قاصدا للتلقي: فهو حرام وإن خرج لشغل آخر فرآهم مقبلين فاشتري: ففي إثمه وجهان للشافعية أظهرهما: التأثيم.
الموضوع الثاني: صحة البيع أو فساده وهو عند الشافعي: صحيح وإن كان آثما وعند غيره من العلماء: يبطل ومستنده: أن النهي للفساد ومستند الشافعي: أن النهي لا يرجع إلى نفس
ـــــــ
1 البخاري "2150" ومسلم "1515" "11".
2 مسلم "1524" "24".(1/347)
العقد ولا يخل هذا الفعل بشيء من أركانه وشرائطه وإنما هو لأجل الإضرار بالركبان وذلك لا يقدح في نفس البيع.
الموضع: الثالث: إثبات الخيار فحيث لا غرور للركبان بحيث يكونون عالمين بالسعر فلا خيار وإن لم يكونوا كذلك فان اشترى منهم بأرخص من السعر فلهم الخيار وما في لفظ بعض المصنفين من: "أنه يخبرهم بالسعر كاذبا" ليس بشرط في إثبات الخيار وإن اشترى منهم بمثل سعر البلد أو أكثر ففي ثبوت الخيار لهم وجهان للشافعية منهم من نظر إلى لفظ حديث ورد بإثبات الخيار لهم1 فجرى على ظاهره ولم يلتفت إلى المعنى وإذا أثبتنا الخيار: فهل يكون على الفور أو يمتد إلى ثلاثة أيام؟ فيه خلاف لأصحاب الشافعي والأظهر: الأول.
وأما قوله: "ولا يبع بعضكم على بيع بعض" فقد فسر في مذهب الشافعي بأن يشتري شيئا فيدعوه غيره إلى الفسخ ليبيعه خيرا منه بأرخص وفي معناه: الشراء على الشراء وهو أن يدعوا البائع إلى الفسخ ليشتريه منه بأكثر وهاتان الصورتان إنما تتصوران فيما إذا كان البيع في حالة الجواز وقبل اللزوم وتصرف بعض الفقهاء في هذا النهي وخصصه بما إذا لم يكن في الصورة غبن فاحش فإن كان المشتري مغبونا فيدعوه إلى الفسخ ويشتريه منه أكثر.
ومن الفقهاء من فسر البيع على البائع بالسوم على السوم وهو أن يأخذ شيئا ليشتريه فيقول له إنسان رده لأبيع منك خيرا منه وأرخص أو يقول لصاحبه: استرده لأشتريه منك بأكثر وللتحريم في ذلك عند أصحاب الشافعي شرطان:
أحدهما: استقرار الثمن فأما من يباع فيمن يزيد: فللطالب أن يزيد على الطالب ويدخل عليه.
والثاني: أن يحصل التراضي بين المتساومين صريحا فإن وجد ما يدل على الرضا من غير تصريح: فوجهان وليس السكوت بمجرده من دلائل الرضا عند الأكثرين منهم.
وأما قوله: "ولا تناجشوا" فهو من المنهيات لأجل الضرر وهو أن يزيد في سلعة تباع ليغر غيره وهو راغب فيها واختلف في اشتقاق اللفظة فقيل: إنها مأخوذة من معنى الإثارة كأن الناجش يثير همة من يسمعه للزيادة وكأنه مأخوذ من إثارة الوحش من مكان إلى مكان وقيل: أصل اللفظة: مدح الشيء وإطراؤه ولا شك أن هذا الفعل حرام لما فيه من
ـــــــ
1 مسلم "1519" "17" ولفظه: "لا تلقوا الجلب فمن تلقي فاشترى منه فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار".(1/348)
الخديعة وقال بعض الفقهاء: بأن البيع باطل ومذهب الشافعي: أن البيع صحيح وأما إثبات الخيار للمشتري الذي غر بالنجش: فإن لم يكن النجش عن مواطاة من البائع فلا خيار عند أصحاب الشافعي.
وأما: "بيع الحاضر للبادي" فمن البيوع المنهي عنها لأجل الضرر أيضا وصورته: أن يحمل البدوي أو القروي متاعه إلى البلد ليبيعه بسعر يومه ويرجع فيأتيه البلدي فيقول: ضع عندي لأبيعه على التدريج بزيادة سعر وذلك إضرار بأهل البلد وحرام إن علم بالنهي وتصرف بعض الفقهاء من أصحاب الشافعي في ذلك فقالوا: شرطه أن يظهر لذلك المتاع المجلوب سعر في البلد فإن لم يظهر - لكثرته في البلد أو لقلة الطعام المجلوب -: ففي التحريم وجهان ينظر في أحدهما: إلى ظاهر اللفظ وفي الآخر: إلى المعنى وعدم الإضرار وتفويت الربح أو الرزق على الناس وهذا المعنى منتف وقالوا أيضا: يشترط أن يكون المتاع مما تعم الحاجة إليه دون ما لا يحتاج إليه إلا نادرا وأن يدعوا البلدي البدوي إلى ذلك فإن التمسه البدوي منه فلا بأس ولو استشاره البدوي فهل يرشده إلى الادخار والبيع على التدريج؟ فيه وجهان لأصحاب الشافعي.
واعلم أن أكثر هذه الأحكام: قد تدور بين اعتبار المعنى واتباع اللفظ ولكن ينبغي أن ينظر في المعنى إلى الظهور والخفاء فحيث يظهر ظهورا كثيرا فلا بأس باتباعه وتخصيص النص به أو تعميمه على قواعد القياسين وحيث يخفى ولا يظهر ظهورا قويا فاتباع اللفظ أولى فأما ما ذكر من اشتراط أن يلتمس البلدي ذلك: فلا يقوي لعدم دلالة اللفظ عليه وعدم ظهور المعنى فيه فإن الضرر المذكور الذي علل به النهي لا يفترق الحال فيه بين سؤال البدوي وعدمه ظاهرا.
وأما اشتراط أن يكون الطعام مما تدعو الحاجة إليه: فمتوسط في الظهور وعدمه لاحتمال أن يراعي مجرد ربح الناس في هذا الحكم على ما أشعر به التعليل من قوله صلى الله عليه وسلم: "دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض" 1 وأما اشتراط أن يظهر لذلك المتاع المجلوب سعر في البلد فكذلك أيضا أي إنه متوسط في الظهور لما ذكرناه من احتمال أن يكون المقصود مجرد تفويت الربح والرزق على أهل البلد.
وهذه الشروط منها ما يقوم الدليل الشرعي عليه كشرطنا العلم بالنهي ولا إشكال فيه ومنها مايؤخذ باستنباط المعنى فيخرج على قاعدة أصولية وهي أن النص إذا استنبط منه معنى يعود عليه بالتخصيص هل يصح أولا؟ ويظهر لك هذا باعتبار بعض ما ذكرناه من الشروط.
ـــــــ
1 مسلم "1522" من حديث جابر.(1/349)
وقوله: "ولا تصروا الغنم" فيه مسائل:
الأول: الصحيح في ضبط هذه اللفظة: ضم التاء وفتح الصاد وتشديد الراء المهملة المضمومة على وزن تزكوا مأخوذ من صرى يصري ومعنى اللفظة: يرجع إلى الجمع تقول: صريت الماء في الحوض وصريته - بالتخفيف والتشديد - إذا جمعته و"الغنم" منصوبة بالميم على هذا ومنهم من رواه "لا تصروا" - بفتح التاء و ضم الصاد - من صر يصر إذا ربط. المصراة: هي التي تربط أخلافها ليجتمع اللبن والغنم على هذا: منصوبة الميم أيضا وأما ما حكاه بعضهم - من ضم التاء وفتح الصاد وضم ميم الغنم على ما لم يسم فاعله - فهذا لا يصلح مع اتصال ضمير الفاعل وإنما يصح مع إفراد الفعل ولا نعلم رواية حذف فيها هذا الضمير.
المسألة الثانية: لا خلاف أن التصرية حرام لأجل الغش والخديعة التي فيها للمشتري والنهي يدل عليه مع علم تحريم الخديعة قطعا من الشرع.
المسألة الثالثة: النهي ورد عن فعل المكلف وهو ما يصدر باختياره وتعمده فترتب عليه حكم مذكور في الحديث فلو تحفلت1 الشاة بنفسها أو نسيها المالك بعد أن صراها لا لأجل الخديعة فهل يثبت ذلك الحكم؟ فيه خلاف بين أصحاب الشافعي فمن نظر إلى المعنى أثبته لأن العيب مثبت للخيار ولا يشترط فيه تدليس البائع ومن نظر إلى المعنى أثبته لأن العيب مثبت للخيار ولا يشترط فيه تدليس البائع ومن نظر إلى أن الحكم المذكور خارج عن القياس خصه بمورده وهو حالة العمد فإن النهي إنما يتناوله حالة العمد.
المسألة الرابعة: ذكر المصنف "لا تصروا الغنم" وفي الصحيح: "الإبل والغنم" وهذا هو محل التصرية والفقهاء تصرفوا وتكلموا فيما يثبت فيه هذا الحكم من الحيوان ولم يختلف أصحاب الشافعي أنه لا يختص بالإبل والغنم المذكورين في الحديث ثم اختلفوا بعد ذلك فمنهم من عداه إلى النعم خاصة ومنهم من عداه إلى كل حيوان مأكول اللحم وهذا نظر إلى المعنى فإن المأكول اللحم يقصد لبنه فتفويت المقصود الذي ظنه المشتري بالخديعة موجب للخيار فلو حفل أتانا ففي ثبوت الخيار وجهان لهم من حيث إنه غير مقصود لشرب الآدمي إلا أنه مقصود لتربية الجحش وإذا اعتبر المعنى فلا ينبغي أن يصح هذا الوجه لأن إثبات الخيار يعتمد فوات أمر مقصود ولا يختص ذلك بأمر معين أعني الشرب مثلا.
وكذلك اختلفوا في الجارية من الآدميات لو حفلها وإذا أثبت الخيار في الأتان فالظاهر: أنه لا يرد لأجل لبنها شيئا ومن هذا يتبين لك: أن الأتان لا يقاس على المنصوص عليه في الحديث أعني الإبل والغنم لأن شرط القياس: اتحاد الحكم فينبغي أن يكون إثبات الخيار فيها من القياس على قاعدة أخرى وفي رد شيء لأجل لبن الآدمية خلاف أيضا.
ـــــــ
1 تحلفت الشاة أي اجتمع لبنها في ضرعها القاموس المحيط "ح ف ل".(1/350)
المسألة الخامسة: قوله عليه السلام: "بعد أن يحلبها" مطلق في الحلبات لكن قد تقيد في رواية أخرى إثبات الخيار: "بثلاثة أيام" 1 واتفق أصحاب مالك على أنه إذا حلبها ثانية وأراد الرد: أن له ذلك واختلفوا إذا حلبها الثالثة هل يكون رضي بمنع الرد ورجحوا أن لا يمنع لوجهين.
أحدهما: الحديث.
والثاني: أن التصرية لا تتحقق إلا بثلاث حلبات فإن الحلبة الثانية إذا انقصت من الأولى: جوز المشتري أن يكون ذلك لاختلاف المرعى أو لأمر غير التصرية فإذا حلبها الثالثة تحقق التصرية وإذا كانت لفظة حلبها مطلقة فلا دلالة لها على الحلبة الثانية والثالثة وإنما يؤخذ ذلك من حديث آخر.
المسألة السادسة: قوله: "وإن سخطها ردها" يقتضي إثبات الخيار بعيب التصرية واختلف أصحاب الشافعي: هل يكون على الفور أو يمتد إلى ثلاثة أيام؟ فقيل: يمتد للحديث وقيل: يكون على الفور طردا لقياس خيار الرد بالعيب ويتؤول الحديث والصواب: اتباع النص لوجهين:
أحدهما: تقديم النص على القياس.
والثاني: أنه خولف القياس في أصل الحكم لأجل النص فيطرد ذلك ويتبع في جميع موارده.
المسألة السابعة: يقتضي الحديث: رد شيء معها عندما يختار ردها وفي كلام بعض المالكية: ما يدل على خلافه من حيث إن الخراج بالضمان ومعناه: أن الغلة لمن استوفاها بعقد أو شبهته تكون له بضمانه فاللبن المحلوب إذا فات غلة فلتكن للمشتري ولا يرد لها بدلا والصواب: الرد للحديث على ما قررناه.
المسألة الثامنة: الحديث يقتضي رد الصاع مع الشاة بصريحه ويلزم منه عدم رد اللبن والشافعية قالوا: إن كان اللبن باقيا فأراد رده على البائع فهل يلزمه قبوله؟ وجهان:
أحدهما: نعم لأنه أقرب إلى مستحقه.
والثاني: لا لأن طراوته ذهبت فلا يلزمه قبوله واتباع لفظ الحديث أولى في أن يتعين الرد فيما نص عليه.
أما المالكية: فقد زادوا على هذا وقالوا: لو رضي به البائع فهل يجوز ذلك أم لا قولان ووجهوا المنع: بأنه بيع الطعام قبل قبضه لأنه وجب له الصاع بمقتضى الحديث.
ـــــــ
1 مسلم "1524" "24" في حديث أبي هريرة.(1/351)
فباعه قبل قبضه باللبن ووجهوا الجواز: بأن يكون بناء على عادتهم في اتباع المعاني دون اعتبار الألفاظ.
المسألة التاسعة: الحديث يقتضي تعيين جنس المردود في التمر فمنهم من ذهب إلى ذلك وهو الصواب ومنهم من عداه إلى سائر الأقوات ومنهم من اعتبر في ذلك غالب قوت البلد وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صاعا من تمر لا سمراء" 1 وذلك رد على من عداه إلى سائر الأقوات وإن كان السمراء غالب قو البلد - أعني المدينة - فهو رد على قائله أيضا.
المسألة العاشرة: الحديث يدل على تعيين المقدار في الصاع مطلقا وفي مذهب الشافعي وجهان:
أحدهما: ذلك وأن الواجب الصاع قل اللبن أو كثر لظاهر الحديث.
والثاني: أنه يتقدر اللبن اتباعا لقياس الغرامات وهو ضعيف.
المسألة الحادية عشرة: قوله عليه السلام: "فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها" وقد يقال ههنا سؤال وهو أن الحديث يقتضي إثبات الخيار بعد الحلب أو الخيار ثابت قبل الحلب إذا علمت التصرية.
وجواله: أنه يقتضي إثبات الخيار في هذين الأمرين أعني الإمساك والرد مع الصاع وهذا إنما يكون بعد الحلب لتوقف هذين المعنيين على الحب لأن الصاع عوض عن اللبن ومن ضرورة ذلك: الحلب.
المسألة الثانية عشرة: لم يقل أبو حنيفة بهذا الحديث وروى عن مالك قول أيضا بعدم القول به والذي أوجب ذلك: أنه قيل حديث مخالف لقياس الأصول المعلومة وما كان كذلك لا يلزم العمل به.
أما الأول - وهو أنه مخالف لقياس الأصول المعلومة - فمن وجوه:
أحدها: أن المعلوم من الأصول: أن ضمان المثليات بالمثل وضمان المتقومات بالقيمة من النقدين وههنا إن كان اللبن مثليا كان ينبغي ضمانا بمثله لبنا وإن كان متقوما ضمن بمثله من النقدين وقد وقع ههنا مضمونا بالتمر فهو خارج عن الأصلين جميعا.
الثاني: أن القواعد الكلية تقتضي أن يكون المضمون مقدر الضمان بقدر التالف وذلك مختلف فقدر الضمان مختلف لكنه قدر ههنا بمقدار واحد وهو الصاع مطلقا فخرج من القياس الكلي في اختلاف ضمان المتلفات باختلاف قدرها وصفتها.
ـــــــ
1 جزء من حديث أخرجه مسلم "1524 "26" من حديث أبي هريرة.(1/352)
الثالث: أن اللبن التالف إن كان موجودا عند العقد فقد ذهب جزء من المعقود عليه من أصل الخلقة وذلك مانع من الرد كما لو ذهبت بعض أعضاء المبيع ثم ظهر على عيب فإنه يمنع الرد وإن كان هذا اللبن حادثا بعد الشراء فقد حديث على ملك المشتري فلا يضمنه وإن كان مختلطا فما كان منه موجودا عند العقد منع الرد وما كان حادثا لم يجب ضمانه.
الرابع: إثبات الخيار ثلاثا من غير شرط مخالف للأصول فإن الخيارات الثابتة بأصل الشرع من غير شرط: لا تتقدر بالثلاث كخيار العيب وخيار الرؤية عند من ثبته وخيار المجلس عند من يقول به.
الخامس: يلزم من القول بظاهره: الجمع بين الثمن والمثمن للبائع في بعض الصور وهو ما إذا كانت قيمة الشاة صاعا من تمر فإنها ترجع إليه مع الصاع الذي هو مقدار ثمنها.
السادس: أنه مخالف لقاعدة الربا في بعض الصور وهو ما إذا اشترى شاة بصاع فإن استرد معها صاعا من تمر فقد استرجع الصاع الذي هو الثمن فيكون قد باع صاعا وشاة بصاع وذلك خلاف قاعدة الربا عندكم فإنكم تمنعون مثل ذلك.
السابع: إذا كان اللبن باقيا لم يكلف رده عندكم فإذا أمسكه فالحكم كما لو تلف فيرد الصاع وفي ذلك ضمان بالأعيان مع بقائها والأعيان لا تضمن بالبدل إلا مع فواتها كالغصوب وسائر المضمونات.
الثامن: قال بعضهم: إنه أثبت الرد من غير عيب ولا شرط لأن نقصان اللبن لو كان عيبا لثبت به الرد من غير تصرية ولا يثبت الرد في الشرع إلا بعيب أو شرط.
وأما المقام الثاني - وهو أن ما كان من أخبار الآحاد مخالفا لقياس الأصول المعلومة: لم يجب العمل به - فلأن الأصول المعلومة مقطوع بها من الشرع وخبر الواحد مظنون والمظنون لا يعارض المعلوم.
أجاب القائلون بظاهر الحديث: بالطعن في المقامين جميعا أعني أنه مخالف للأصول وأنه إذا خالف الأصول لم يجب العمل به.
أما المقام الأول - وهو أنه مخالف للأصول - فقد فرق بعضهم بين مخالفة الأصول ومخالفة قياس الأصول وخص الرد لخبر الواحد بالمخالفة للأصول لا بمخالفة قياس الأصول وهذا الخبر إنما يخالف قياس الأصول وفي هذا نظر.
وسلك آخرون تجريح جميع هذه الاعتراضات والجواب عنها.
أما الاعتراض الأول: فلا نسلم أن جميع الأصول تقتضي الضمان بأحد الأمرين على ما(1/353)
ذكرتموه فإن الحر يضمن بالإبل وليست بمثل له ولا قيمة والجنين يضمن بالغرة1 وليست بمثل له ولا قيمة وأيضا فقد يضمن المثلى بالقيمة إذا تعذرت المماثلة وههنا تعذرت.
أما الأولى: فمن أتلف شاة لبونا كان عليه قيمتها مع اللبن ولا يجعل بإزلاء لبنها لبن آخر لتعذر المماثلة.
وأما الثاني: - وهو أنه تعذرت المماثلة ههنا - فلأن ما يرده من اللبن عوضا عن اللبن التالف لا تتحقق مماثلته له في المقدار ويجوز أن يكون أكثر من اللبن الموجود حالة العقد أو أقل.
وأما الاعتراض الثاني: فقيل في جوابه: إن بعض الأصول لا يتقدر بما ذكرتموه كالموضحة2 فإن أرشها مقدر مع اختلافها بالكبر والصغر والجنين مقدر أرشه ولا يختلف بالذكورة والأنوثة واختلاف الصفات والحر ديته مقدرة وإن اختلف بالصغر والكبر وسائر الصفات والحكمة فيه: أن ما يقع فيه التنازع والتشاجر يقصد قطع النزاع فيه بتقديره بشيء معين وتقدم هذه المصلحة في مثل هذا المكان على تلك القاعدة.
وأما الاعتراض الثالث: فجوابه أن يقال: متى يمتنع الرد بالنقص: إذا كان النقص لاستعلام العيب أو إذا لم يكن؟ الأول: ممنوع والثاني: مسلم وهذا النقص لاستعلام العيب فلا يمنع الرد.
وأما الاعتراض الرابع: فإنما يكون الشيء مخالفا لغيره إذا كان مماثلا له وخولف في حكمه وههنا هذه الصورة انفردت عن غيرها لأن الغالب: أن هذه المدة هي التي يتبين بها لبن الخلقة المجتمع بأصل الخلفة المجتمع بأصل الخلقة واللبن المجتمع بالتدليس فهي مدة يتوقف علم الغيب عليها غالبا بخلاف خيار الرؤية والعيب فإنه يحصل المقصود من غير هذه المدة فيهما وخيار المجلس ليس لاستعلام عيب.
وأما الاعتراض الخامس: فقد قيل فيه: إن الخبر وارد على العادة والعادة: أن لا تباع شاة بصاع وفي هذا ضعف وقيل: إن صاع التمر بدل عن اللبن لا عن الشاة فلا يلزم الجمع بين العضو والمعوض.
وأما الاعتراض السادس: فقد قيل في الجواب عنه: إن الربا إنما يعتبر في العقود لا في الفسوخ بدليل أنهما لو تبايعا ذهبا بفضة لم يجز أن يفترقا قبل القبض ولو تقاتلا في هذا العقد لجاز أن يفترقا قبل القبض.
وأما الاعتراض السابع: فجوابه فيما قيل: إن اللبن الذي كان في الضرع حال العقد يتعذر رده لاختلاطه باللبن الحادث بعد العقد وأحدهما للبائع والآخر للمشتري وتعذر الرد لا
ـــــــ
1 الغرة: هي العبد أو الأمة تدفع كدية للجنين مختار الصحاح "غ رر".
2 الموضحة: هي الجرح العميق الذي يظهر منه العظم مختار الصحاح "و ض ح".(1/354)
يمنع من الضمان مع بقاء العين كما لو عصب عبدا فأبق فإنه يضمن قيمته مع بقاء عينه لتعذر الرد.
وأما الاعتراض الثامن: فقيل فيه: إن الخيار يثبت بالتدليس كما لو باع رحا دائرة بماء قد جمعه لها ولم يعلم به.
وأما المقام الثاني - وهو النزاع في تقديم قياس الأصول على خبر الواحد - فقيل فيه: إن خبر الواحد أصل بنفسه يجب اعتباره لأن الذي أوجب اعتبار الأصول: نص صاحب الشرع عليها وهو موجود في خبر الواحد فيجب اعتباره وأما تقديم القياس على الأصول باعتبار القطع وكون خبر الواحد مظنونا: فتناول الأصل لمحل خبر الواحد غير مقطوع به لجواز استثناء محل الخبر من ذلك الأصل.
وعندي: أن التمس بهذا الكلام أقوى من التمسك بالاعتذارات عن المقام الأول.
ومن الناس من سلك طريقة أخرى في الاعتذار عن الحديث وهي ادعاء النسخ وأنه يجوز أن يكون ذلك من حيث كانت العقوبة بالمال جائزة وهو ضعيف فإنه إثبات نسخ بالاحتمال والتقدير وهو غير سائغ ومنهم من قال: يحمل الحديث على ما إذا اشترى شاة بشرط أنها تحلب خمسة أرطال مثلا وشرط الخيار فالشرط باطل فاسد فإن اتفقا على إسقاطه في مدة الخيار صح العقد وإن لم يتفقا بطل وأما رد الصاع: فلأنه كان قيمة اللبن في ذلك الوقت.
وأجيب عنه: بأن الحديث يقتضي تعليق الحكم بالتصرية وما ذكر يقتضي تعليقه بفساد الشرط سواء أحدث التصرية أم لا.
3 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نهى عن بيع حبل الحبلة وكان بيعا يتبايعه أهل الجاهلية وكان الرجل يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة ثم تنتج التي في بطنها1.
قيل: إنه كان يبيع الشارف - وهي الكبيرة المسنة - بنتاج الجنين الذي في بطن ناقته".
في تفسير حبل الحبلة وجهان:
أحدهما: أن يبيع إلى أن تحمل الناقة وتضع ثم يحمل هذا البطن الثاني وهذا باطل لأنه يبيع إلى أجل مجهول.
والثاني: أن يبيع نتاج النتاج وهو باطل أيضا لأنه بيع معدوم وهذا البيع كانت الجاهلية تتبايعه فأبطله الشارع للمفسدة المتعلقة به وهو ما بيناه من أحد الوجهين وكأن السر فيه: أنه يفضي إلى أكل المال بالباطل أو إلى التشاجر والتنازع المتنافي للمصلحة الكلية.
ـــــــ
1 البخاري "2143" ومسلم "1514".(1/355)
4 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول صلى الله عليه وسم: "نهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها نهى البائع والمبتاع"1.
أكثر الأمة على أن هذا النهي: نهي تحريم والفقهاء أخرجوا من هذا العموم: بيعها بشرط القطع واختلفوا في بيعها مطلقا من غير شرط ولا إبقاء ولمن يمنعه أن يستدل بهذا الحديث فإنه إذا خرج من عمومه بيعها بشرط القطع يدخل باقي صور البيع تحت النهي ومن جملة صور البيع: بيع الإطلاع وممن قال بالمنع فيه: مالك والشافعي.
وقوله: "نهى البائع والمشتري" تأكيد لما فيه من بيان أن البيع - وإن كان لمصلحة الإنسان - فليس له أن يرتكب النهي فيه قائلا: أسقطت حقي من اعتبار المصلحة ألا ترى أن هذا المنع لأجل مصلحة المشتري؟ فإن الثمار قبل بدو الصلاح معرضة للعاهات فإذا طرأ عليها شيء منها حصل الإجحاف بالمشتري في الثمن لأذي بذله ومع هذا: فقد منعه الشرع ونهى المشتري كما نهى البائع وكأنه قطع النزاع والتخاصم ومثل هذا في المعنى: حديث أنس الذي بعده.
5 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نهى عن بيع الثمار حتى تزهي قيل: وما تزهي؟ قال: "حتى تحمر", قال: "أرأيت إن منع الله الثمرة بم يستحل أحدكم مال أخيه؟" 2.
و الإزهاء: تغير لون الثمرة في حالة الطيب والعلة - والله أعلم - ما ذكرناه من تعرضها للجوائح قبل الإزهاء وقد أشار في هذه الرواية بقوله صلى الله عليه وسلم: "أرأيت إن منع الله الثمرة بما يستحل أحدكم مال أخيه؟" والحديث يدل على أنه يكتفى بمسمى الإزهاء وابتدائه من غير اشتراط تكامله لأنه جعل مسمى الإزهاء غاية للنهي وبأوله يحصل المسمى ويحتمل أن يستدل به على العكس لأن الثمرة المبيعة قبل الإزهاء - أعني ما لم يزه من الحائط - إذا دخل تحت اسم الثمرة فيمتنع بيعه قبل الإزهاء فإن قال بهذا أحد فله أن يستدل بذلك.
وفيه دليل على أن زهو بعض الثمرة كاف في جواز البيع من حيث إنه ينطلق عليها أنها أزهت بعضها مع حصول المعنى وهو الأمن من العاهة غالبا ولولا وجود المعنى كان تسميتها مزهية بإزهاء بعضها: قد لا يكتفي به لكونه مجازا وقد يستدل بقوله عليه السلام: "أرأيت إن منع الله الثمرة بما يأخذ أحدكم مال أخي؟" على وضع الجوائح كما جاء في حديث آخر3.
ـــــــ
1 البخاري "2194" ومسلم "1534" واللفظ للبخاري.
2 البخاري "2198" ومسلم "1555".
3 وهو ما أخرجه مسلم "1554" "17" من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح.(1/356)
6 - عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تتلقى الركبان وأن يبيع حاضر لباد.
قال1: فقلت لابن عباس: ما قوله حاضر لباد؟ قال: لا يكون له سمسارا"2.
وقد تقدم الكلام في النهي عن تلقي الركبان وبيع الحاضر للبادي وتفسيرهما والذي زاد هذا الحديث: تفسير بيع الحاضر للبادي وفسر بأن يكون له سمسارا.
7 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة: أن يبيع ثمر حائطه إن كان نخلا بتمر كيلا وإن كان كرما: أن يبيعه بزبيب كيلا أو كان زرعا: أن يبيعه بكيل طعام نهى عن ذلك كله"3.
المزابنة مأخوذة من الزبن وهو الدفع وحقيقتها: بيع معلوم بمجهول من جنسه وقد ذكر في الحديث لها أمثلة من بيع الثمر بالتمر ومن بيع الكرم بالزبيب ومن بيع الزرع بكيل الطعام وإنما سميت مزابنة من معنى الزبن لما يقع من الاختلاف بين المتبايعين فكل واحد يدفع صاحبه عما يرومه منه.
8 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المخابرة والمحاقلة وعن المزابنة وعن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها وأن لا تباع إلا بالدينار والدرهم إلا العرايا"4.
المحاقلة بيع الحنطة في سنبلها بحنطة.
9 - عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن"5.
اختلفوا في بيع الكلب المعلم فمن يرى نجاسة الكلب - وهو الشافعي - يمنع من بيعه مطلقا لأن على المنع قائمة في العلم وغيره ومن يرى بطهارته: اختلفوا في بيع المعلم منه لأن علة المنع غير عامة عند هؤلاء وقد ورد في بيع المعلم منه حديث في ثبوته بحث يحال على علم الحديث.
وأما مهر البغي فهو ما يعطاها على الزنا.
وسمى مهرا على سبيل المجاز أو استعمالا للوضع اللغوي ويجوز أن يكون من مجاز التشبيه إن لم يكن المهر في الوضع: ما يقابل النكاح.
ـــــــ
1 القائل هو طاوس بن كيسان راوي الحديث عن ابن عباس.
2 البخاري "2158" ومسلم "1521".
3 البخاري "2205" ومسلم "1542" "76".
4 البخاري "2381" ومسلم "1536" "81".
5 البخاري "2282" ومسلم "1567".(1/357)
وحلوان الكاهن هو ما يعطاه على كهانته والإجماع قائم على تحريم هذين لما في ذلك من بذل الأعواض فيما لا يجوز مقابلته بالعوض أما الزنا: فظاهر وأما الكهانة: فبطلانها وأخذ العوض عنها: من باب أكل المال بالباطل وفي معناها كل ما يمنع منه الشرع من الرجم بالغيب.
10 - عن رافع بن خديج رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثمن الكلب خبيث ومهر البغي خبيث وكسب الحجام خبيث" 1.
إطلاق الخبيث على ثمن الكلب يقتضي التعميم في كل كلب فإن ثبت تخصيص شيء منه وإلا وجب إجراؤه على ظاهره والخبيث من حيث هو: لا يدل على الحرمة صريحا ولذلك جاء في كسب الحجام أنه خبيث ولم يحمل على التحريم غير أن ذلك بدليل خارج وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم: "احتجم وأعطى الحجام أجره2 ولو كان حراما لم يعطه" فإن ثبت أن لفظة الخبث ظاهرة في الحرام فخروجها عن ذلك في كسب الحجام بدليل: لا يلزم منه خروجها في غيره بغير دليل.
وأما الكلب فإذا قيل بثبوت الحديث الذي يدل على جواز بيع كلب الصيد: كان ذلك دليلا على طهارته وليس يدل النهي عن بيعه على نجاسته لأن علة منع البيع: متعددة لا تنحصر في النجاسة.
ـــــــ
1 مسلم "1568".
2 البخاري "2278" ومسلم "1202" من حديث ابن عباس.(1/358)
باب العرايا و غير ذلك
...
2 - باب العرايا وغير ذلك.
1 - عن زيد بن ثابت رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لصاحب العرية: أن يبيعها بخرصها"1.
ولمسلم: "بخرصها تمرا يأكلونها رطبا"2.
اختلفوا في تفسير العرية المرخص فيها فعند الشافعي: هو بيع الرطب على رؤوس النخل بقدر كيله من التمر خرصا3 فيما دون خمسة أوسق وعند مالك صورته: أن يعري الرجل - أي يهب - ثمرة نخلة أو نخلات ثم يتضرر بمداخلة الموهوب له فيشتريها منه بخصرها تمرا ولا يجوز ذلك لغير رب البستان ويشهد لهذا التأويل أمران:
أحدهما: أن العرية مشهورة بين أهل المدينة متداولة فيما بينهم وقد نقلها مالك هكذا.
ـــــــ
1 البخاري "2188" ومسلم "1539" "60".
2 مسلم "1539" "61".
3 الخوص: هو حزر ما على النخل من الرطب تمرا.(1/358)
والثاني: قوله لصاحب العربية فإنه يشعر باختصاصه بصفة يتميز بها عن غيره وهي الهبة الواقعة وأنشدوا في تفسير العرايا بالهبة قول الشاعر:
وليست بسنهاء ولا رجبية ... ولكن عرايا في السنين الجوائح
وقوله في الحديث بخرصها في هذه الرواية تقيد بغيرها وهو بيعها بخرصها تمرا.
وقد يستدل بإطلاق هذه الرواية لمن يجوز بيع الرطب على النخل بالرطب على النخل خرصا فيهما وبالرطب على وجه الأرض كيلا وهو وجه لبعض أصحاب الشافعي والأصح: المنع لأن الرخصة وردت للحاجة إلى تحصيل الرطب وهذه الحاجة لا توجد في حق صاحب الرطب وفيه وجه ثالث: أنه اختلف النوعان جاز لأنه قد يزيد ذلك النوع وإلا فلا ولو باع رطبا على وجه الأرض برطب على وجه الأرض: لم يجز وجها واحدا لأن أحد المعاني في الرخصة أن يأكل الرطب على التدريج طريا وهذا المقصود لا يحصل فيما على وجه الأرض وقد يستدل بإطلاق الحديث من لا يرى اختصاص جواز بيع العرايا لمحاويج الناس.
وفي مذهب الشافعي وجه: أنه يختص بهم لحديث ورد عن زيد بن ثابت فيه: "أنه سمى رجلا محتاجين من الأنصار شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نقد في أيديهم يبتاعون به رطبا ويأكلونه مع الناس وعندهم فضول قوتهم من التمر فرخص لهم أن يبتاعوا العرايا بخرصها من التمر"1.
2 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رخص في بيع العرايا في خمسة أوسق أو دون خمسة أوسق"2.
أما تجويز بيع العرايا: فقد تقدم وأما حديث أبي هريرة: فإنه زاد فيه بيان مقدار ما تجوز فيه الرخصة وهو ما دون الخمسة أوسق3.
ولم يختلف قول الشافعي في أنه لا يجوز فيما زاد على خمسة أوسق وأنه يجوز فيما دونها وفي خمسة الأوسق قولان والقدر الجائز: إنما يعتبر بالصفقة إن كانت واحدة: اعتبرنا ما زاد على الخمسة فمنعنا وما دونها فأجزنا أما لو كانت صفقات متعددة: فلا منع ولو باع في صفقة واحدة من رجلين ما يكون لكل واحد منهما القدر الجائز: جاز ولو باع رجلان من واحد: فكذلك الحكم في اصح الوجهين لأن تعدد الصفقة بتعدد البائع أظهر من تعددها بتعدد المشتري.
وفيه وجه آخر أنه لا تجوز الزيادة على خمسة أوسق في هذه الصورة نظرا إلى مشتري.
ـــــــ
1 البيهقي في معرفة السنن والآثار "4/343".
2 البخاري "2190" ومسلم "1541".
3 أوسق جمع وسق والوسق قدره ستون صاعا.(1/359)
الرطب لأنه محل الرخصة الخارجة عن قياس الربويات فلا ينبغي أن يدخل في ملكه فوق القدر المجوز دفعة واحدة.
واعلم أن الظاهر من الحديث: أن يحمل على صفقة واحدة من غير نظر إلى تعدد بائع ومشتر جريا على العادة والغالب.
3 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من باع نخلا قد أبرت فثمرها للبائع إلا أن يشترط المبتاع" 1.
ولمسلم: "ومن ابتاع عبدا فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع" 2.
يقال: أبرت النخلة ابرها وقد يقال بالتشديد والتأبير هو التلقيح وهو أن يشقق أكمه إناث النخل ويذر طلع الذكر فيها ولا يلقح جميع النخيل بل يؤبر البعض ويشقق الباقي بانبثاث ريح الفحول إليه الذي يحصل منه تشقق الطلع وإذا باع الشجرة بعد التأبير فالثمرة للبائع في صورة الإطلاق وقيل: إن بعضهم خالف في هذا وقال تبقى الثمار للبائع أبرت أو لم تؤبر وأما إذا اشترطاها للبائع أو للمشتري: فالشرط متبع.
وقوله: "من باع نخلا قد أبرت" حقيقته: اعتبار التأبير في المبيع حقيقة بنفسه وقد أجرى تأبير البعض مجرى تأبير الجميع إذا كان في بستان واحد واتحد النوع وباعها صفقة واحدة وجعل ذلك كالنخلة الواحدة وإن اختلف النوع ففيه وجهان لأصحاب الشافعي وقيل: إن الأصح أن الكل يبقى للبائع كما لو اتحد النوع دفعا لضرر اختلاف الأيدي وسوء المشاركة.
وقد يؤخذ من الحديث: أنه إذا باع ما لم يؤبر مفردا بالعقد بعد تأبيره غيره في البستان: أنه يكون للمشتري لأنه ليس في المبيع شيء مؤبر فيقتضي مفهوم الحديث: أنها ليست للبائع وهذا أصح وجهي الشافعية وكأنه إنما يعتبر عدم التأبير إذا بيع مع المؤبر فيجعل تبعا وفي هذه الصورة ليس ههنا في المبيع شيئ مؤبر فيجعل غيره تبعا له.
وأدخل من هذه الصورة في الحديث ما إذا كان التأبير وعدمه في بستانين مختلفين والأصح ههنا أن كل واحد منهما ينفرد بحكمه.
أما أولا: فلظاهر الحديث.
وأما ثانيا: فلأن لاختلاف البقاع تأثيرا في التأبير ولأن في البستان الواحد يلزم ضرر اختلاف الأيدي وسوء المشاركة.
ـــــــ
1 البخاري "2204" ومسلم "1543".
2 مسلم "1543" "80".(1/360)
وقوله: "من ابتاع عبدا فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع" يستدل به المالكية على أن العبد يملك لإضافة المال إليه باللام وهي ظاهرة في الملك.
4 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله قال: "من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه" 1 وفي لفظ: "حتى يقبضه" 2 وعن ابن عباس مثله3.
هذا نص في منع بيع الطعام قبل أن يستوفى ومالك خصص الحكم به إذا كان فيه حق التوفية على ما دل عليه الحديث ولا يختص ذلك عند الشافعي بالطعام بل جمي المبيعات لا يجوز بيعها قبل قبضها عنده سواء كانت عقارا أو غيره وأبو حنيفة يجيز بيع العقار قبل القبض ويمنع غيره.
وهذا الحديث يقتضي أمرين:
أحدهما أن تكون صورة المنع فيما إذا كان الطعام مملوكا بجهة البيع.
والثاني: أن يكون الممنوع هو البيع قبل القبض.
أما الأول: فقد أخرج عنه ما إذا كان مملوكا بجهة الهبة أو الصدقة مثلا.
وأما الثاني: فقد تكلم أصحاب الشافعي في جواز التصرف بعقود غير البيع منها: العتق قبل القبض والأصح: أنه ينفذ إذ لم يكن للبائع حق الحبس بأن أدى المشتري الثمن أو كان مؤجلا فإن كان له حق الحبس فقيل: هو كعتق الراهن وقيل: لا والصحيح: أنه لا فرق.
وكذا اختلفوا في الهبة والرهن قبل القبض والأصح عند أصحاب الشافعي: المنع وكذلك في التزويج خلاف والأصح عند أصحاب الشافعي: خلافه ولا يجوز عندهم التولية والشركة وأجازهما مالك مع الإقالة ولا شك أن الشركة والتولية بيع فيدخلان تحت الحديث وإنما استثنى ذلك مالك على خلاف القياس وقد ذكر أصحابه فيها حديثا يقتضي الرخصة الله أعلم.
5 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عام الفتح: "إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام" فقيل: يارسول الله أرأيت شحوم الميتة؟ فإنه يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس فقال: "لا هو حرام", ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: "قاتل الله اليهود إن الله لما حرم عليهم شحومها جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه" 4 قال جملوه أذابوه.
ـــــــ
1 البخاري "2126" ومسلم "1526".
2 مسلم "1525".
3 البخاري "2133" ومسلم "1526".
4 البخاري "2236" ومسلم "1581".(1/361)
أخذ من تحريم بيع الخمر والميتة: نجاستهما لأن الانتفاع بهما لم يعدم فإنه قد ينتفع بالخمر في أمور وينتفع بالميتة في إطعام الجوارح.
وأما بيع الأصنام: فلعدم الانتفاع بها على صورتها وعدم الانتفاع يمنع صحة البيع وقد يكون منع بيعها مبالغة في التنفير عنها.
وأما قولهم: "أرأيت شحوم الميتة.." الخ فقد استدل به على منع الاستصباح بها وإطلاء السفن بقوله عليه السلام لما سئل عن ذلك؟ قال: "لا هو حرام" وفي هذا الاستدلال احتمال لأن لفظ الحديث ليس فيه تصريح فإنه يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر تحريم بيع الميتة قالوا له: "أرأيت شحوم الميتة فإنه تطلى بها السفن" الخ قصدا منهم لأن هذه المنافع تقتضي جواز البيع فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا هو حرام" ويعود الضمير في قوله هو على البيع كأنه أعاد تحريم البيع بعدما بين له فيه منفعة إهدارا لتلك المصالح والمنافع التي ذكرت.
وقوله عليه السلام: "قاتل الله اليهود..." الخ تنبيه على تعليل تحريم بيع هذه الأشياء فإن العلة تحريمها فإن وجه اللوم على اليهود في تحريم أكل الثمن بتحريم أكل الشحوم استدل المالكية بهذا على تحريم الذرائع من حيث إن اليهود توجه عليهم اللوم بتحريم أكل الثمن من جهة تحريم أكل الأصل وأكل الثمن ليس هو أكل الأصل بعينه لكنه لما كان تسببا إلى أكل الأصل بطريق المعنى استحقوا اللوم به.(1/362)
2 - باب السلم.
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار: السنة والسنتين والثلاث فقال: "من أسلف في شيء فليسلف في كليل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم" 1.
فيه دليل على جواز السلم في الجملة وهو متفق عليه لا خلاف فيه بين الأمة وفيه دليل على جواز السلم فيما ينقطع في أثناء المدة إذا كان موجودا عند المحل فإنه إذا أسلم في الثمرة السنة والسنتين فلا محالة ينقطع في أثناء المدة إذا حملت الثمرة على الرطب.
وقوله عليه السلام: "من أسلف فليسلف في كيل معلوم" أي إذا كان المسلم فيه مكيلان وقوله: "ووزن معلوم" أي إذا كان معلوما والواو ههنا بمعنى أو فإنا لو أخذناها على ظاهرها - من معنى الجمع - لزم أن يجمع في الشيء الواحد بين المسلم فيه كيلا ووزنا وذلك يفضي إلى عزة.
ـــــــ
1 البخاري "2240" ومسلم "1604".(1/362)
الوجود وهو مانع من صحة السلم فتعين أن تحمل على ما ذكرناه من التفصيل وأن المعنى: السلم بالكيل في المكيل وبالوزن في الموزون.
وأما قوله عليه السلام: "إلى أجل معلوم" فقد استدل به من منع السلم الحال وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وهذا يوجه الأمر في قوله: "فليسلف" إلى الأجل والعلم معا والذين أجازوا الحال وجهوا الأمر إلى العلم فقط ويكون التقدير: إن أسلم إلى أجل فليسم إلى أجل معلوم لا إلى أجل مجهول كما أشرنا إليه في الكيل والوزن والله أعلم.(1/363)
4 - باب الشروط في البيع.
1 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: "جاءتني بريرة فقالت: كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فأعينيني فقلت: إن أحب أهلك أن أعدها لهم وولاؤك لي فعلت فذهبت بريرة إلى أهلها فقالت لهم فأبوا عليها فجاءت من عندهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فقالت: إني عرضت ذلك على أهلي فأبوا إلا أن يكون لهم الولاء فأخبرت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "خذيها واشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن أعتق" ففعلت عائشة ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أما بعد فما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله؟ كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط قضاء الله أحق وشرط الله أوثق وإنما الولاء لمن أعتق" 1.
قد أكثر الناس من الكلام على هذا الحديث وأفردوا التصنيف في الكلام عليه وما يتعلق بفوائده وبلغوا بها عددا كثيرا ونذكر من ذلك عيونا إن شاء الله تعالى.
والكلام عليه من وجوه:
أحدها: كاتبت فاعلت من الكتابة وهو العقد المشهور بين السيد وعبده فإما أن يكون مأخوذا من كتابة الخط لما أنه يصحب هذا العقد الكتابة له فيما بين السيد وعبده وإما أن يكون مأخوذا من معنى الإلزام كما في قوله تعالى: {كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء: 103] كأن السيد ألزم نفسه عتق العبد عند الأداء والعبد ألزم نفسه الأداء للمال الذي تكاتبا عليه.
الثاني: اختلفوا في بيع المكاتب على ثلاثة مذاهب: المنع والجواز والفرق بين أن يشتري للعتق فيجوز أو للاستخدام فلا.
فأما من أجاز بيعه فاستدل بهذا الحديث فإنه ثبت أن بريرة كانت مكاتبة وأما من منع
ـــــــ
1 البخاري "2168" ومسلم "1504" "6" واللفظ للبخاري(1/363)
فيحتاج إلى العذر عنه فمن العذر عنه ما قيل إنه يجوز بيعه عند العجز عن الأداء أو الضعف عن الكسب فقد يحمل الحديث على ذلك.
ومن الاعتذارات أن تكون عائشة اشترت الكتابة لا الرقبة وقد استدل على ذلك بقولها في بعض الروايات: "فإن أحبوا أن أقضي عنك كتابتك" 1 فإنه يشعر بأن المشتري هو الكتابة لا الرقبة ومن فرق بين شرائه للعتق وغيره فلا إشكال عنده لأنه يقول أنا أجيز بيعه للعتق والحديث موافق لما أقول.
الثالث: بيع العبد بشرط العتق اختلفوا فيه وللشافعي قولان:
أحدهما: أنه باطل كما لو باعه بشرط أن لا يبيعه ولا يهبه وهو باطل.
والثاني: وهو الصحيح: أن العقد صحيح لهذا الحديث.
ومن منع بيع العبد بشرط العتق فقد قيل إنه يمنع كون عائشة مشترية للرقبة ويحمل على قضاء الكتابة عن بريرة أو على شراء الكتابة خاصة والأول ضعيف مخالف للفظ الوارد في بعض الروايات وهو قوله عليه السلام: "ابتاعي" 2 وأما الثاني: فإنه محتاج فيه إلى أن يكون قد قيل بمنع البيع بشرط العتق مع جواز بيع الكتابة ويكون قد ذهب إلى الجمع بين هذين ذاهب واحد معين وهذا يستمد من مسألة إحداث القول الثالث.
الرابع: إذا قلنا بصحة البيع بشرط العتق فهل يصح الشرط أو يفسد؟ فيه قولان للشافعي أصحهما: أن الشرط يصح لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر إلا اشتراط الولاء والعقد تضمن أمرين اشتراط العتق واشتراط الولاء ولم يقع الإنكار إلا للثاني فيبقى الأول مقررا عليه ويؤخذ من لفظ الحديث فإن قوله: "اشترطي لهم الولاء" من ضرورة اشتراط العتق فيكون من لوازم اللفظ لا من مجرد التقرير ومعنى صحة الشرط أنه يلزم الوفاء به من جهة المشتري فإن امتنع فهل يجبر عليه أم لا؟ فيه اختلاف بين أصحاب الشافعي وإذا قلنا لا يجبر أثبتنا الخيار للبائع.
الخامس: اشتراط الولاء للبائع هل يفسد العقد؟ فيه خلاف وظاهر الحديث أنه لا يفسده لما قال فيه: "و اشترطي لهم الولاء" ولا يأذن النبي صلى الله عليه وسلم في عقد باطل وإذا قلنا إنه صحيح فهل يصح الشرط؟ فيه اختلاف في مذهب الشافعي والقول ببطلانه موافق لألفاظ الحديث وسياقه وموافق للقياس أيضا من وجه وهو أن القياس يقتضي أن الأثر مختص بمن صدر منه السبب والولاء من آثار العتق فيختص بمن صدر منه العتق وهو المعتق وهذا.
ـــــــ
1 البخاري "2717" ومسلم "1504" "6".
2 أخرج هذا اللفظ البخاري "2561" ومسلم "1504" "6".(1/364)
التمسك والتوجيه في حصة البيع والشرط يتعلق بالكلام على معنى قوله: "و اشترطي لهم الولاء " وسيأتي.
السادس: الكلام على الإشكال العظيم في هذا الحديث وهو أن يقال: كيف يأذن النبي صلى الله عليه وسلم في البيع على شرط فاسد؟ وكيف يأذن حتى يقع البيع على هذا الشرط فيدخل البائع عليه ثم يبطل اشتراطه؟.
فاختلف الناس في الكلام على هذا الإشكال فمنهم من صعب عليه فأنكر هذه اللفظة أعني قوله: "و اشترطي لهم الولاء" وقد نقل ذلك عن يحيى بن أكثم وبلغني عن الشافعي قريب منه وأنه قال: اشتراط الولاء رواه هشام بن عروة عن أبيه وانفرد به دون غيره من رواة هذا الحديث وغيره من رواته أثبت من هشام والأكثرون على إثبات اللفظة للثقة براويها واختلفوا في التأويل والتخريج وذكر فيه وجوه.
أحدها: أن لهم بمعنى عليهم واستشهدوا لذلك بقوله تعالى: {لَهُمُ اللَّعْنَةُ} [الرعد: 25] بمعنى عليهم: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الاسراء: 7] بمعنى عليها وفي هذا ضعف.
أما أولا: فلأن سياق الحديث وكثيرا من ألفاظه ينفيه وأما ثانيا: فلأن اللام لا تدل بوضعها على الاختصاص النافع بل تدل على مطلق الاختصاص فقد يكون في اللفظ ما يدل على الاختصاص النافع وقد لا يكون.
و ثانيهما: ما فهمته من كلام بعض المتأخرين وتلخيصه أن يكون هذا الاشتراط بمعنى ترك المخالفة لما شرطه البائعون وعدم إظهاره النزاع فيما دعوا إليه وقد يعبر عن التخلية والترك بصيغة تدل على الفعل ألا ترى أنه قد أطلق لفظ الإذن من الله تعالى على التمكين من الفعل والتخلية بين العبد وبينه وإن كان ظاهر اللفظ يقتضي الإباحة والتجويز؟ وهذا موجود في كتاب الله تعالى على ما يذكره المفسرون كما في قوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102] وليس المراد بالإذن ههنا إباحة الله تعالى للإضرار بالسحر ولكنه لما خلى بينهم وبين ذلك الإضرار أطلق عليه لفظة الإذن مجازا وهذا وإن كان محتملا إلا أنه خارج عن الحقيقة من غير دلالة ظاهرة على المجاز من حيث اللفظ.
و ثالثهما: أن لفظة الاشتراط والشرط وما تصرف منها تدل على الإعلام والإظهار ومنه أشراط الساعة والشرط اللغوي والشرعي ومنه قول أويس بن حجر بفتح الحاء والجيم "فأشرط فيها نفسه" أي أعلمها وأظهرها وإذا كان كذلك فيحمل "اشترطي" على معنى: أظهري حكم الولاء وبينيه واعلمي أنه لمن أعتق على عكس ما أورده السائل وفهمه من الحديث.(1/365)
ورابعها: ما قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان أخبرهم: "أن الولاء لمن أعتق" ثم أقدموا على اشتراط ما يخالف هذا الحكم الذي علموه فورد هذا اللفظ على سبيل الزجر والتوبيخ والتنكيل لمخالفتهم الحكم الشرعي وغاية ما في الباب: إخراج لفظة الأمر عن ظاهرها وقد وردت خارجة عن ظاهرها في مواضع يمتنع إجراؤها على ظاهرها كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40]: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] وعلى هذا الوجه والتقدير الذي ذكر لا يبقى غرور.
و خامسها: أن يكون إبطال هذا الشرط عقوبة لمخالفتهم حكم الشرع فإن إبطال الشرط يقتضي تغريم ما قوبل به الشرط من المالية المسامح بها لأجل الشرط ويكون هذا من باب العقوبة بالمال كحرمان القاتل الميراث.
و سادسها: أن يكون ذلك خاصا بهذه القضية لا عاما في سائر الصور ويكون سبب التخصيص بإبطال هذا الشرط: المبالغة في زجرهم عن هذا الاشتراط المخالف للشرع كما أن فسخ الحج إلى العمرة كان خاصا بتلك الواقعة مبالغة في إزالة ما كانوا عليه من منع العمرة في أشهر الحج وهذا الوجه ذكره بعض أصحاب الشافعي وجعله بعض المتأخرين منهم الأصح في تأويل الحديث.
الوجه السابع: من الكلام على الحديث يدل على أن كلمة "إنما" للحصر لأنها لو لم تكن للحصر لما لزم من إثبات الولاء لمن أعتق نفيه عمن لم يعتق لكن هذه الكلمة ذكرت في الحديث لبيان نفيه عمن لم يعتق فدل على أن مقتضاها الحصر.
الوجه الثامن: لا خلاف في ثبوت الولاء للمعتق عن نفسه بالحديث المذكور واختلفوا فيمن أعتق على أن لا ولاء له وهو المسمى بالسائبة ومذهب الشافعي بطلان هذا الشرط وثبوت الولاء للمعتق والحديث يتمسك به في ذلك.
الوجه التاسع: قالوا: يدل على ثبوت الولاء في سائر وجوه العتق كالكتابة والتعليق بالصفة وغير ذلك.
الوجه العاشر: يقتضي حصر الولاء للمعتق ويستلزم حصر السببية في العتق فيقتضي ذلك أن لا ولاء بالحلف ولا بالموالاة ولا بإسلام الرجل على يد الرجل ولا بالتقاطه للقيط وكل هذه الصور فيها خلاف بين الفقهاء ومذهب الشافعي أن لا ولاء في شيء منها للحديث.
الحادي عشر: الحديث دليل على جواز الكتابة وجواز كتابة الأمة المزوجة.
الثاني عشر: فيه دليل على تنجيم الكتابة لقولها: "كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية" وليس فيه تعرض للكتابة الحالة فيتكلم عليه.(1/366)
الثالث عشر: قوله عليه السلام: "ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله؟" يحتمل أن يريد بكتاب الله حكم الله أو يراد بذلك نفي كونها في كتاب الله بواسطة أو بغير واسطة فإن الشريعة كلها في كتاب الله إما بغير واسطة كالمنصوصات في القرآن من الأحكام وإما بواسطة قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] و {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59].
و قوله صلى الله عليه وسلم: "قضاء الله أحق" أي بالاتباع من الشروط المخالفة لحكم الشرع و "شرط الله أوثق" أي باتباع حدوده وفي هذا اللفظ دليل على جواز السجع الغير المتكلف.
2 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: "أنه كان يسير على جمل فأعيى فأراد أن يسيبه فلحقني النبي صلى الله عليه وسلم فدعا لي وضربه فسار سيرا لم يسر مثله ثم قال: "بعنيه بأوقية" قلت: لا, ثم قال: "بعنيه" فبعته بأوقية واستثنيت حملانه إلى أهلي فلما بلغت أتيته بالجمل فنقدني ثمنه ثم رجعت فأرسل في إثري فقال: "أتراني ماكستك لآخذ جملك؟ خذ جملك ودراهمك فهو لك" 1.
في الحديث علم من أعلام النبوة ومعجزة من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم وأما بيعه واستثناء حملانه إلى المدينة فقد أجاز مالك مثله في المدة اليسيرة وظاهر مذهب الشافعي المنع وقيل: بالجواز تفريعا على جواز بيع الدار المستأجرة فإن المنفعة تكون مستثناه ومذهب الشافعي الأول والذي يعتذر به عن الحديث على هذا المذهب أن لا يجعل استثناؤه على حقيقة الشرط في العقد بل على سبيل تبرع الرسول صلى الله عليه وسلم بالجمل عليه أو يكون الشرط سابقا على العقد والشروط المفسدة ما تكون مقارنة للعقد وممزوجة به على ظاهر مذهب الشافعي وقد أشار بعض الناس إلى أن اختلاف الرواة في ألفاظ الحديث مما يمنع الاحتجاج به على هذا المطلب فإن بعض الألفاظ صريح في الاشتراط وبعضها لا فيقول: إذا اختلفت الروايات وكانت الحجة ببعضها دون بعض توقف الاحتجاج.
فنقول: هذا صحيح لكن بشرط تكافؤ الروايات أو تقاربها أما إذا كان الترجيح واقعا لبعضها إما لأن رواته أكثر أو أحفظ فينبغي العمل بها إذ الأضعف لا يكون مانعا من العمل بالأقوى والمرجوح لا يدفع التمسك بالراجح فتمسك بهذا الأصل فإنه نافع في مواضع عديدة.
منها: أن المحدثين يعللون الحديث بالاضطراب ويجمعون الروايات العديدة فيقوم في الذهن منها صورة توجب التضعيف والواجب أن ينظر إلى تلك الطرق فما كان منها ضعيفا.
ـــــــ
1 البخاري "2718" ومسلم "715" "109".(1/367)
اسقط عن درجة الاعتبار ولم يجعل مانعا من التمسك بالصحيح القوي ولتمام هذا موضع آخر ومذهب مالك وإن قال بظاهر الحديث فهو يخصصه باستثناء الزمن اليسير وربما قيل: إنه ورد ما يقتضي ذلك.
وقد يؤخذ من الحديث جواز بيع الدار المستأجرة بأن يجعل هذا الاستثناء المذكور في الحديث أصلا ويجعل بيع الدار المستأجرة مساويا له في المعنى فيثبت الحكم إلا أن في كون مثل هذا معدودا فيما يؤخذ من الحديث وفائدة من فوائده نظرا.
3 - عن أبي هريرة رضي لله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد ولا تناجشوا ولا يبع الرجل على بيع أخيه ولا يخطب على خطبته ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفئ ما في صحفتها"1.
أما النهي عن بيع الحاضر للبادي والنجش وبيع الرجل على بيع أخيه: فقد مر الكلام عليه.
وأما النهي عن الخطبة فقد تصرف في إطلاقه الفقهاء بوجهين.
أحدهما: أنهم خصوه بحالة التراكن والتوافق بين الخاطب والمخطوب إليه وتصدى نظرهم بعد ذلك فيما به يحصل تحريم الخطبة وذكروا أمورا لا تستنبط من الحديث وأما الخطبة قبل التراكن فلا تمتنع نظرا إلى المعنى الذي لأجله حرمت الخطبة وهو وقوع العداوة والبغضاء وإيحاش النفوس.
الوجه الثاني: وهو للمالكية أن ذلك في المتقاربين أما إذا كان الخاطب الأول فاسقا والآخر صالحا فلا تندرج تحت النهي ومذهب الشافعي رحمه الله: أنه إذا ارتكب النهي وخطب على خطبة أخيه لم يفسد العقد ولم يفسخ لأن النهي مجانب لأجل وقوع العداوة والبغضاء وذلك لا يعود على أركان العقد وشروطه بالاختلال ومثل هذا لا يقتضي فساد العقد.
وأما نهي المرأة عن سؤال طلاق أختها فقد استعمل فيه ألفاظ مجازية فجعل طلاق المرأة بعقد النكاح بمثابة تفريغ الصحفة بعد امتلائها وفيه معنى آخر وهو الإشارة إلى الرزق لما يوجبه النكاح من النفقة فإن الصحفة وملأها من باب الأرزاق وكفاؤها قلبها.
ـــــــ
1 البخاري "2140" ومسلم "1413" بألفاظ قريبة.(1/368)
باب الربا و الصرف
...
5 - باب الربا والصرف.
1 - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذهب بالورق ربا(1/368)
إلا هاء وهاء والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء1 والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء" 2.
الحديث يدخل على وجوب الحلول وتحريم النساء3 في بيع الذهب بالورق والبر بالبر والشعير بالشعير إلا هاء وهاء واللفظة موضوعة للتقابض وهي ممدودة مفتوحة وقد أنشد بعض أهل اللغة في ذلك:
لما رأت في قامتي انحناء ... والمشي بعد قعس أجناء
أجلت وكان حبها إجلاء ... وجعلت نصف غبوقي ماء
تمزج لي من بغضها السقاء ... ثم تقول من بعيد هاء
دحرجة إن شئت أو إلقاء ... ثم تمنى أن يكون داء
لا يجعل الله له شفاء
ثم اختلف العلماء بعد ذلك ف الشافعي يعتبر الحلول والتقابض في المجلس فإذا حصل ذلك لم يعتبر غيره ولا يضر عنده طول المجلس إذا وقع العقد حالا وشدد مالك أكثر من هذا ولم يسامح بالطول في المجلس وإن وقع القبض فيه وهو أقرب إلى حقيقة اللفظ فيه والأول أدخل في المجاز وهذا الشرط لا يختص باتحاد الجنس بل إذا جمع المبيعين علة واحدة كالنقدية في الذهب والفضة والطعم في الأشياء الأربعة أو غيره مما قيل به اقتضى ذلك تحريم النساء وقد اشتمل الحديث على الأمرين معا حيث منع ذلك بين الذهب بالورق وبين البر بالبر والشعير بالشعير فإن هذين في الجنس الواحد والأول في جنسين جمعتهما علة واحدة.
2 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا منها غائبا بناجز "4 وفي لفظ: "إلا يدا بيد" 5 وفي لفظ: "إلا وزنا بوزن مثلا بمثل سواء بسواء" 6.
في الحديث أمران:
أحدهما: تحريم التفاضل في الأموال الربوية عند اتحاد الجنس ونصفه في الذهب بالذهب من قوله: "إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض".
ـــــــ
1 زيادة من صحيح البخاري.
2 البخاري "2134" ومسلم "1586".
3 النساء: التأخير مختار الصحاح ن س أ.
4 البخاري "2177" ومسلم "1584".
5 مسلم "1584" "76".
6 مسلم "1584" "77".(1/369)
الثاني: تحريم النساء من قوله: "و لا تبيعوا منها غائبا بناجز" وبقية الأموال الربوية ما كان منها منصوصا عليه في غير هذا الحديث أخذ فيه بالنص وما لا قاسه القائسون.
وقوله: "إلا يدا بيد" في الرواية الأخرى: يقتضي منع النساء.
وقوله: "وزنا بوزن" يقتضي اعتبار التساوي ويوجب أن يكون التساوي في هذا بالوزن لا بالكيل والفقهاء قرروا أنه يجب التماثل بمعيار الشرع فما كان موزونا فبالوزن وما كان مكيلا فبالكيل.
3 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: جاء بلال إلى رسول الله بتمر برني فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "من أين هذا؟" قال بلال: كان عندنا تمر رديء فبعت منه صاعين بصاع ليطعم النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك: "أوه أوه عين الربا عين الربا لا تفعل ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر ثم اشتر به" 1.
هو نص في تحريم ربا الفضل في التمر وجمهور الأمة على ذلك وكان ابن عباس يخالف ربا الفضل وكلم في ذلك فقيل: إنه رجع عنه وأخذ قوم من الحديث: تجويز الذرائع من حيث قوله: "بع التمر ببيع آخر ثم اشتر به" فإنه أجاز بيعه والشراء على الإطلاق ولم يفصل بين أن يبيعه ممن باعه أو من غيره ولا بين أن يقصد التوصل إلى شراء الأكثر أو لا.
والمانعون من الذرائع يجيبون بأنه مطلق لا عام فيحمل على بيعه من غير البائع أو على غير الصورة التي يمنعونها فإن المطلق يكتفي في العمل به بصورة واحدة وفي هذا الجواب نظر لأنا نفرق بين العمل بالمطلق فعلا كما إذا قال لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق فإنه يصدق بالدخول مرة واحدة وبين العمل بالمطلق حملا على المقيد فإنه يخرج اللفظ من الإطلاق إلى التقييد.
وفيه دليل على أن التفاضل في الصفات لا اعتبار به في تجويز الزيادة.
قوله: "ببيع آخر" يحتمل أن يريد به بمبيع آخر ويراد به التمر ويحتمل أن يراد بيع على صفة أخرى على معنى زيادة الباء كأنه قال: بعه بيعا آخر ويقوي الأول قوله: " ثم اشتر به".
4 - عن أبي المنهال قال: "سألت البراء بن عازب وزيد بن أرقم عن
ـــــــ
1 البخاري "2312" ومسلم "1594".(1/370)
الصرف؟ فكل واحد يقول: هذا خير مني وكلاهما يقول: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالورق دينا"1.
في الحديث دليل على التواضع والاعتراف بحقوق الأكابر وهو نص في تحريم ربا النسيئة فيما ذكر فيه - وهو الذهب بالورق - لاجتماعهما في علة واحدة وهي النقدية وكذلك الأجناس الأربعة أعني البر وما ذكر معه باجتماعهما في علة واحدة أخرى فلا يباع بعضها ببعض نسيئة والواجب فيما يمنع النساء أمران:
أحدهما: التناجز في البيع أعني أن لا يكون مؤجلا.
والثاني: التقابض في المجلس وهو الذي يؤخذ من قوله: "يدا بيد".
5 - عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفضة بالفضة والذهب بالذهب إلا سواء بسواء وأمرنا أن نشتري الفضة بالذهب كيف شئنا ونشتري الذهب بالفضة كيف شئنا قال: فسأله رجل فقال: يدا بيد؟ فقال: هكذا سمعت".
قوله: "نشتري الذهب بالفضة كيف شئنا" يعني بالنسبة إلى الحلول والتأجيل وقد ورد ذلك مبينا في حديث آخر حيث قيل: "فإذا اختلفت الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد".
ـــــــ
1 البخاري "2180" ومسلم "1589" واللفظ للبخاري(1/371)
باب الرهن و غيره
...
6 - باب الرهن وغيره.
1 - عن عائشة رضي الله عنها: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاما ورهنه درعا من حديد"1.
اللفظة مأخوذة من الحبس والإقامة رهن بالمكان إذا أقام به.
والحديث دليل على جواز الرهن مع ما نطق به الكتاب العزيز ودليل على جواز معاملة الكفار وعدم اعتبار الفساد في معاملاتهم ووقع في غير هذه الرواية ما استدل به على جواز الرهن في الحصر.
وفيه دليل على جواز الشراء بالثمن المؤخر قبل قبضه لأن الرهن إنما يحتاج إليه حيث لا يتأتى الإقباض في الحال غالبا وقد يستدل به على جواز الشراء لمن لا يقدر على الثمن في وقته لما ذكرناه.
ـــــــ
1 البخاري "2068" ومسلم "1603".(1/371)
2 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مطل الغني ظلم فإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع" 1.
فيه دليل على تحريم المطل بالحق ولا خلاف فيه مع القدرة بعد الطلب واختلفوا في مذهب الشافعي هل يجب الأداء مع القدرة من غير طلب صاحب الحق؟ وذكر فيه وجهان ولا ينبغي أن يؤخذ الوجوب من الحديث لأن لفظة المطل تشعر بتقديم الطلب فيكون مأخذ الوجوب دليلا آخر.
وقوله: "الغني" يخرج عن العاجز الأداء.
وقوله: "فإذا أتبع" مضموم الهمزة ساكن التاء مكسور الباء.
وقوله: "فليتبع" مفتوح الياء ساكن التاء مفتوح الباء الموحدة مأخوذ من قولنا: أتبعت فلانا: جعلته تابعا للغير والمراد ههنا تبعيته في طلب الحق بالحوالة.
وقد قال الظاهرية بوجوب قبول الحوالة على المليء لظاهر الأمر وجمهور الفقهاء على أنه أمر ندب لما فيه من الإحسان إلى المحيل بتحصيل مقصوده من تحويل الحق عنه وترك تكليفه التحصيل بالطلب.
وفي الحديث إشعار بأن الأمر بقبول الحوالة على المليء معلل بكون مطل الغني ظلما ولعل السبب فيه أنه إذا تعين كونه ظلما والظاهر من حال المسلم الاحتراز عنه فيكون ذلك سببا للأمر بقبول الحوالة عليه لحصول المقصود منه من غير ضرر المطل ويحتمل أن يكون ذلك لأن المليء لا يتعذر استيفاء الحق منه عند الامتناع بل يأخذه الحكم قهرا ويوفيه ففي قبول الحوالة عليه: تحصيل الغرض من غير مفسدة تواء2 الحق والمعنى الأول أرجح لما فيه من بقاء معنى التعليل بكون المطل ظلما وعلى هذا المعنى الثاني تكون العلة عدم تواء الحق لا الظلم.
3 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من أدرك ماله بعينه عند رجل أو إنسان قد أفلس فهو أحق به من غيره" 3.
فيه مسائل:
الأولى: رجوع البائع إلى عين ماله عند تعذر الثمن بالفلس أو الموت فيه ثلاثة مذاهب:
الأول: أنه لا يرجع إليه في الموت الفلس وهذا مذهب الشافعي.
والثاني: أنه لا يرجع إليه لا في الموت ولا في الفلس وهو مذهب أبي حنيفة.
ـــــــ
1 البخاري "2287" ومسلم "1564".
2 التواء والتوى الهلاك مختار الصحاح "ت و ي".
3 البخاري "2402" ومسلم "1559".(1/372)
والثالث: يرجع إليه في الفلس دون الموت ويكون في الموت أسوة الغرماء وهو مذهب مالك.
وهذا الحديث دليل على الرجوع في الفلس ودلالته قوية جدا حتى قيل: إنه لا تأويل له وقال الاصطخري من أصحاب الشافعي لو قضى القاضي بخلافه نقض حكمه.
ورأيت في تأويله وجهين ضعفين:
أحدهما أن يحمل على الغضب والوديعة لما فيه من اعتبار حقيقة المالية وهو ضعيف جدا لأنه يبطل فائدة تعليل الحكم بالفلس.
الثاني: أن يحمل على ما قبل القبض وقد استضعف بقوله صلى الله عليه وسلم: "أدرك ماله أو وجد متاعه" فإن ذلك يقتضي إمكان العقد وذلك بعد خروج السلعة من يده.
المسألة الثانية: الذي يسبق إلى الفهم من الحديث أن الرجل المدرك ههنا هو البائع وأن الحكم يتناول البيع لكن اللفظ أعم من أن يحمل على البائع فيمكن أن يدخل تحته ما إذا أقرض رجل مالا وأفلس المستقرض والمال باق فإن المقرض يرجع فيه وقد علله الفقهاء بالقياس على المبيع بعد التفريع على أنه يملك بالقبض وقيل في القياس: مملوك ببدل تعذر تحصيله فأشبه المبيع وإدراجه تحت اللفظ ممكن إذا اعتبرناه من حيث الوضع فلا حاجة إلى القياس فيه.
المسألة الثالثة: لا بد في الحديث من إضمار أمور يحمل عليها وإن لم تذكر لفظا مثل: كون الثمن غير مقبوض ومثل: كون السلعة موجودة عند المشتري دون غيره ومثل: كون المال لا يفي بالديون احترازا عما إذا كان مساويا وقلنا: يحجر على المفلس في هذه الصورة.
المسألة الرابعة: إذا أجر دارا أو دابة فأفلس المستأجر قبل تسليم الأجرة ومضي المدة فللمؤجر الفسخ على الصحيح من مذهب الشافعي وإدراجه تحت لفظ الحديث متوقف على أن المنافع هل ينطلق عليها اسم المتاع أو المال؟ وانطلاق اسم المال عليها أقوى.
وقد علل منع الرجوع: بأن المنافع لا تتنزل منزلة الأعيان القائمة إذ ليس لها وجود مستقر فإذا ثبت انطلاق اسم المال أو المتاع عليها فقد اندرجت تحت اللفظ وإن نوزع في ذلك فالطريق أن يقال: إن اقتضى الحديث أن يكون أحق بالعين ومن لوازم ذلك: الرجوع في المنافع فيثبت بطريق اللازم لا بطريق الأصالة وإنما قلنا: إنه يتوقف عن كون اسم المنافع ينطلق عليها اسم المال أو المتاع لأن الحكم في اللفظ معلق بذلك في الأحاديث.
ونقول أيضا: الرجوع إنما هو في المنافع فإنها المعقود عليه والرجوع إنما يكون فيما يتناوله العقد والعين لم يتناولها عقد الإجارة.
المسألة الخامسة: إذا التزم في ذمته نقل متاع من مكان إلى مكان ثم أفلس والأجرة بيده.(1/373)
قائمة: ثبت حق الفسخ والرجوع إلى الأجرة وإندراجه تحت الحديث ظاهر إن أخذنا باللفظ ولم تخصصه بالبائع فإن خص به فالحكم ثابت بالقياس لا بالحديث.
المسألة السادسة: قد يمكن أن يستدل بالحديث على أن الديون المؤجلة تحل بالحجر ووجه: أنه يندرج تحت كونه أدراك ماله فيكون أحق به ومن لوازم ذلك: أن يحل إذ لا مطالبة بالمؤجل قبل الحلول.
المسألة السابعة: يمكن أن يستدل به على أن الغرماء إذا قدموا البائع بالثمن لم يسقط حقه من الرجوع لاندراجه تحت اللفظ والفقهاء عللوه بالمنة.
المسألة الثامنة: قيل: إن هذا الخيار في الرجوع يستبد به البائع وقيل: لا بد من الحاكم والحديث يقتضي ثبوت الأحقية بالمال وأما كيفية الأخذ: فهو غير متعرض له وقد يكن أن يستدل به على الاستبداد إلا أن فيه ما ذكرناه.
المسألة التاسعة: الحكم في الحديث معلق بالفلس ولا يتناول غيره ومن أثبت من الفقهاء الرجوع بامتناع المشتري من التسليم مع اليسار أو هربه أو امتناع الوارث من التسليم بعد موته - فإنما يثبته بالقياس على الفلس ومن يقول بالمفهوم في مثل هذا: فله أن ينفي هذا الحكم بدلالة المفهوم من لفظ الحديث.
المسألة العاشرة: شرط رجوع البائع: بقاء العين في ملك المفلس فلو هلكت لم يرجع لقوله عليه الصلاة والسلام: "فوجد متاعه أو أدرك ماله" 1 فشرط في الأحقية: إدارك المال بعينه وبعد الهلاك: فات الشرط وهذا ظاهر في الهلاك الحسي والفقهاء نزلوا التصرفات الشرعية منزلة الهلاك الحسي كالبيع والهبة والعتق والوقف ولم ينقضوا هذه التصرفات بخلاف تصرفات المشتري في حق الشفيع بها فإذ تبين أنها كالهلكة شرعا: دخلت تحت اللفظ فإن البائع حينئذ لا يكون مدركا لماله.
واختلفوا فيما إذا وجد متاعه عند المشتري بعد أن خرج عنه ثم رجع إليه بغير عوض فقيل: يرجع فيه لأنه وجد ماله بعينه فيدخل تحت اللفظ وقيل: لا يرجع لأن هذا الملك متلقى من غيره لأنه لو تخللت حالة وصادفها الإفلاس والحجر لما رجع فيستصحب حكمها وهذا تصرف في اللفظ بالتخصيص بسبب معنى مفهوم منه وهو الرجوع إلى العين لتعذر العوض من تلك الجهة كما يفهم منه ما قدمنا ذكره أو تخصيص بالمعنى وإن سلم باقتضاء اللفظ له.
المسألة الحادية عشرة: إذا باع عبدين - مثلا - فتلف أحدهما ووجد الثاني بعينه رجع فيه
ـــــــ
1 لم نجده بهذا اللفظ وقد أخرج أحمد في مسنده "10048" عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أفلس الرجل فوجد متاعه بعينه فهو أحق به".(1/374)
عند الشافعي والمذهب: أنه يرج بحصته من الثمن ويضارب بحصة ثمن التلف وقيل: يرجع في الباقي بكل الثمن فأما رجوعه في الباقي فقد يندرج تحت قوله: "فوجد متاعه أو ماله" فإن الباقي متاعه أو ماله وأما كيفية الرجوع: فلا تعلق للفظ به.
المسألة الثانية عشرة: إذا تغير المبيع في صفته بحدوث عيب فأثبت الشافعي الرجوع إن شاءه البائع بغير شيء يأخذه وإن شاء ضارب بالثمن وهذا يمكن أن يدرج تحت اللفظ فإنه وجده بعينه والتغير حادث في الصفة لا في العين.
المسألة الثالثة عشرة: إطلاق الحديث يقتضي: الرجوع في العين وإن كان قد قبض بعض الثمن وللشافعي قول قدم: أنه لا يرجع في العين إذا قبض بعض الثمن لحديث ورد فيه1.
المسألة الرابعة عشرة: الحديث يقتضي الرجوع في متاعه ومفهومه: أنه لا يرجع في غير متاعه فيتعلق بذلك الكلام في الزوائد المنفصلة فإنها تحدث ملك المشتري فليست بمتاع للبائع فلا رجوع له فيها.
المسألة الخامسة عشرة: لا يثبت الرجوع إلا إذا تقدم سبب لزوم الثمن على المفلس بصيغة الشروط فإن المشروط مع الشرط أو عقيبه ومن ضرورة ذلك: تقدم سبب اللزوم على الفلس.
4 - جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "جعل - وفي لفظ قضى - النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق: فلا شفعة"2.
استدل بالحديث على سقوط الشفعة للجار من وجهين:
أحدهما: المفهوم فإن قوله: "جعل الشفعة فيما لم يقسم" يقتضي: أن لا شفعة فيما قسم وقد ورد في بعض الروايات: "إنما الشفعة"3 وهو أقوى في الدلالة لا سيما إذا جعلنا إنما دالة على الحصر بالوضع دون المفهوم.
والوجه الثاني: قوله: "فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة" وهذا اللفظ الثاني: يقتضي ترتيب الحكم على مجموع أمرين: وقوع الحدود وصرق الطرق وقد يقول قائل ممن يثبت الشفعة للجار: إن المرتب على أمرين لا يلزم ترتبه على أحدهما وتبقى دلالة المفهوم الأول مطلقة وهو
ـــــــ
1 وهو الحديث الذي أخرجه أبو داود "3520" من حديث أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أيما رجل باع متاعه فأفلس الذي ابتاعه ولم يقبض من ثمنه شيئا فوجد متاعه بيمينه فهو أحق به وإن مات المشتري فصاحب المتاع أسوة الغرماء".
2 البخاري "2213" ومسلم "1608" "134" واللفظ للبخاري.
3 البخاري "2495".(1/375)
قوله: "إنما الشفعة فيما لم يقسم" فمن قال بعدم ثبوت الشفعة: تمسك بها ومن خالفه: يحتاج إلى إضمار قيد آخر يقتضي اشتراط أمر زائد وهو صرف الطرق مثلا وهذا الحديث يستدل به ويجعل مفهومه مخالفة الحكم عند انتفاء الأمرين معا: وقوع الحدود وصرف الطرق.
وقد يستدل بالحديث على مسألة اختلف فيها وهو أن الشفعة هل تثبت فيما لم يقبل القسمة أم لا؟ فقد يستدل به من يقول: لا تثبت الشفعة فيه لأن هذه الصيغة في النفي تشعر بالقبول فيقال للبصير: لم يبصر كذا وإن استعمل أحد الأمرين في الآخر فذلك للاحتمال فعلى هذا يكون في قوله: "فيما لم يقسم" إشعار بأنه قابل للقسمة فإذا دخلت "إنما" المعطية للحصر: اقتضت انحصار الشفعة في القابل.
وقد ذهب شذاذ من الناس إلى ثبوت الشفعة في المنقولات واستدل بصدر الحديث من يقول بذلك إلا أن آخره وسياقه: يشعر بأن المراد به العقار وما فيه الحدودوصرف الطرق.
5 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أصاب عمر أرضا بخيبر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها فقال: يا رسول الله إني أصبت أرضا بخيبر لم أصب مالا قط هو أنفس عندي منه فما تأمرني به؟ فقال: "إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها" قال: فتصدق بها غير أنه لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث, قال: فتصدق عمر في الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف لا جناح على من وليها: أن يأكل منها بالمعروف أو يطعم صديقا غير متمول فيه" وفي لفظ: "غير متأثل"1.
الحديث دليل على صحة الوقف والحبس على جهات القربات وهو مشهور متداول النقل بأرض الحجاز خلفا عن سلف أعني الأوقاف.
وفيه دليل على ما كان أكابر السلف والصالحين عليه من إخراج أنفس الأموال عندهم لله تعالى وانظر إلى تعليل عمر رضي الله عنه لمقصوده بكونه لم يصب مالا أنفس عنده منه.
وقوله: "تصدقت بها" يحتمل أن يكون راجعا إلى الأصل المحبس وهو ظاهر اللفظ ويتعلق بذلك ما تكلم فيه الفقهاء من ألفاظ التحبيس التي منها الصدقة ومن قال منهم: بأنه لا بد من لفظ يقترن بها يدل على معنى الوقف والتحبيس كالتحبيس المذكور في الحديث وكقولنا مؤبدة محرمة أو لا تباع ولاتوهب ويحتمل أن يكون قوله: "وتصدقت بها" راجعا إلى الثمرة على حذف المضاف ويبقى لفظ الصدقة على إطلاقه.
ـــــــ
1 البخاري "2737" ومسلم "1632".(1/376)
وقوله: "فتصدق بها غير أنه لا يباع.." الخ محمول عند الجماعة - منهم الشافعي - على أن ذلك حكم شرعي ثابت للوقف من حيث هو وقف ويحتمل من حيث اللفظ: أن يكون ذلك إرشادا إلى شرط هذا الأمر في هذا الوقف فيكون ثبوته بالشرط لا بالشرع والمصارف التي ذكرها عمر رضي الله عنه: مصارف خيرات وهي جهة الأوقاف فلا يوقف على ما ليس بقربة من الجهات العامة.
والقربى يراد بها ههنا: قربي عمر ظاهرا والرقاب قد اختلف في تفسيرها في باب الزكاة ولا بد أن يكون معناها معلوما عن إطلاق هذا اللفظ وإلا كان المصرف مجهولا بالنسبة إليها وفي سبيل الله المسافر والقريبة تقتضي اشتراط حاجته والضيف من نزل بقوم والمراد: قراه ولا تقتضي القرينة تخصيصه بالفقر.
وفي الحديث: دليل على جواز الشروط في الوقوف واتباعها وفيه دليل على المسامحة في بعضها حيث علق الأكل على المعروف وهو غير منضبط وقوله: "غير متأثل" أي: متخذ أصل مال يقال: تأثلت المال: اتخذته أصلا.
6 - عن عمر رضي الله عنه قال: حملت على فرس في سبيل الله فأضاعه الذي كان عنده فأردت أن أشتريه فظننت أنه يبيعه برخص فسألت النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: "لا تشتره ولا تعد في صدقتك وإن أعطاكه بدرهم فإن العائد في هبته كالعائد في قيئه" 1.
7 – وعن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "العائد في هبته كالعائد في قيئه" 2.
وفي لفظ: "فإن الذي يعود في صدقته كالكلب يعود في قيئه".
هذا الحمل تمليك لمن أعطى الفرس ويكون معنى كونه في سبيل الله أن الرجل كان غازيا فآل الأمر بتمليكه: إلى أنه في سبيل الله فسمى بذلك باعتبار المقصود فإن المقصد بتمليكه: أن يستعمله فيما عادته أن يستعمله في وإنما اخترنا ذلك: لأن الذي حمل عليه أرد بيعه ولم ينكر ذلك ولو كان الحمل عليه: حمل تحبيس لم يبع إلا أن يحمل على أنه انتهى إلى حالة لا ينتفع به فيما حبس عليه لكن ذلك ليس في اللفظ ما يشعر به ولو ثبت أنه حمل تحبيس لكان في ذلك متعلق لمسألة وقف الحيوان ومما يدل على أنه حمل تمليك: قوله عليه الصلاة والسلام: "ولا تعد في صدقتك" وقوله: "فإن العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه".
وفي الحديث دليل: على منع شراء الصدقة للمتصدق أو كراهته وعلل ذلك بأن المتصدق
ـــــــ
1 البخاري "490" ومسلم "1620".
2 البخاري "2621" ومسلم "1662" "7".(1/377)
عليه ربما سامح المتصدق في الثمن بسبب تقدم إحسانه إليه بالصدقة عليه فيكون راجعا في ذلك المقدار الذي سومح به.
وفي الحديث دليل على المنع من الرجوع في الصدقة والهبة لتشبيهه برجوع الكلب في قيئه وذلك يدل على غاية التنفير والحنفية اعتذروا عن هذا بأن رجوع الكلب في قيئه لا يوصف بالحرمة لأنه غير مكلف فالتشبيه وقع بأمر مكروه في طبيعته لتثبت به الكراهة في الشريعة.
وقد وقع التشديد في التشبيه من وجهين:
أحدهما: تشبيه الراجع بالكلب.
والثاني: تشبيه المرجوع فيه بالقيء.
واجاز أبو حنيفة رجوع الأجنبي في الهبة.
ومنع من رجوع الوالد في الهبة لولده عكس مذهب الشافعي والحديث: يدل على منع رجوع الواهب مطلقا وإنما يخرج الوالد في الهبة لولده بدليل خاص.
8 - عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: تصدق علي أبي ببعض ماله فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشهد على صدقتي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفعلت هذا بولدك كلهم؟" قال: لا, قال: "اتقوا الله واعدلوا في أولادكم", فرجع أبي فرد الصدقة1.
وفي لفظ: "فلا تشهدني إذا فإني لا أشهد على جور" 2.
وفي لفظ: "فأشهد على هذا غيري" 3.
الحديث: يدل على طلب التسوية بين الأولاد في الهبات والحكمة فيه: أن التفضيل يؤدي إلى الإيحاش والتباغض وعدم البر من الولد لولده أعني الولد المفضل عليه واختلفوا في هذه التسوية: هل تجري مجرى الميراث في تفضيل الذكر على الأنثى أم لا؟ فظاهر الحديث: يقتضي التسوية مطلقا واختلف الفقهاء في التفضيل: هل هو محرم أو مكروه؟ فذهب بعضهم إلى أنه محرم لتسميته صلى الله عليه وسلم إياه جورا وأمره بالرجوع فيه ولا سيما إذا أخذنا بظاهر الحديث: أنه كان صدقة فإن الصدقة على الولد لا يجوز الرجوع فيها فإن الرجوع ههنا يقتضي أنها وقعت على غير الموقع الشرعي حتى نقضت بعد لزومها ومذهب الشافعي ومالك: أن هذا التفضيل مكروه لا يغر وربما استدل على ذلك بالرواية التي قيل فيها: "أشهد على هذا
ـــــــ
1 البخاري "2587" ومسلم "1623" "12".
2 مسلم "1623" "14".
3 مسلم "1623" "17".(1/378)
غيري" فإنها تقتضي إباحة إشهاد الغير ولا يباح إشهاد الغير إلا على أمر جائز ويكون امتناع النبي صلى الله عليه وسلم من الشهادة على وجه التنزيه.
وليس هذا بالقوي عندي لأنه الصيغة - وإن كان ظاهرها الإذن - إلا أنها مشعرة بالتنفير الشديد على ذلك الفعل حيث امتنع الرسول صلى الله عليه وسلم من المباشرة لهذه الشهادة معللا بأنها جور فتخرج الصيغة عن ظاهر الإذن بهذه القرائن وقد استعملوا مثل هذا اللفظ مقصود التنفير.
ومما يستدل به على المنع أيضا: قوله: "اتقوا الله" فإنه يؤذن بأن خلاف التسوية ليس بتقوى وأن التسوية تقوى.
9 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من تمر أو زرع"1.
اختلفوا في هذه المعاملة فذهب بعضهم: إلى جوازها على ظاهر الحديث وذهب كثيرون إلى المنع من كراء الأرض بجزء مما يخرج منها وحمل بعضهم هذا الحديث على أن المعاملة كانت مساقاة على النخيل والبياض المتخلل بين النخيل كان يسيرا فتقع المزارعة تبعا للمساقاة وذهب غيره إلى أن صورة هذه: صورة المعاملة وليست لها حقيقتها وأن الأرض كانت قد ملكت بالاغتنام والقوم صاروا عبيدا فالأموال كلها للنبي صلى الله عليه وسلم والذي جعل لهم منها بعض ماله لينتفعوا به لا على أنه حقيقة المعاملة وهذا يتوقف على إثبات أن أهل خيبر استرقوا فإنه ليس بمجرد الاستيلاء يحصل الاسترقاق للبالغين.
10 - عن رافع بن خديج قال: "كنا أكثر الأنصار حقلا وكنا نكري الأرض على أن لنا هذا ولهم هذه فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه فنهانا عن ذلك فأما بالورق: فلم ينهنا"2.
11 - ولمسلم عن حنظلة بن قيس قال: "سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والورق؟ فقال: لا بأس به إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما على الماذيانات وأقبال الجداول وأشياء من الزرع فيهلك هذا ويسلم هذا ولم يكن للناس كراء إلا هذا ولذلك زجر عنه فأما شيء معلوم مضمون: فلا بأس به"3.
ـــــــ
1 البخاري "2329" ومسلم "1551".
2 البخاري "2332" ومسلم "1547" "17" وليس في البخاري لفظ: فأما الذهب والورق فلم ينهنا,
3 مسلم "1547" "16".(1/379)
الماذيانات الأنهار الكبار والجدول النهر الصغير.
فيه دليل على جواز كراء الأرض بالذهب والورق وقد جاءت أحاديث مطلقة في النهي عن كرائها وهذا مفسر لذلك الإطلاق.
وفيه دليل على أنه لا يجوز أن تكون الأجرة شيئا غير معلوم المقدار عند العقد لما فيه من الإجارة على ما ذكر في الحديث من منع الكراء بما على الماذيانات - إلى آخره - فإنه قد دل على أن الجهالة لم تغتفر.
وقد يستدل به على جواز كرائها بطعام مضمون لقوله: "فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به" وجواز هذه الإجارة - أي الإجارة على طعام معلوم مسمى في الذمة -: هو مذهب الشافعي ومذهب مالك: المنع من ذلك وقد ورد في بعض الروايات الصحيحة: ما يشعر بذلك وهو قوله: "نهى عن كراء الأرض بكذا - إلى قوله - أو بطعام مسمى"1.
12 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرى لمن وهبت له"2.
وفي لفظ: "من أعمر عمرى له ولعقبه فإنها للذي أعطيها ولا ترجع إلى الذي أعطاها لأنه قد أعطى عطاءا وقعت فيه المواريث" 3.
وقال جابر: "إنما العمرى التي أجازها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: هي لك ولعقبك فأنا إذا قال: هي لك ما عشت: فإنها ترجع إلى صاحبها"4.
وفي لفظ لمسلم: "أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها فإنه من أعمر عمرى فهي للذي أعمرها: حيا وميتا ولعقبه" 5.
العمرى: لفظ مشتق من العمر وهي تمليك المنافع أو إباحتها مدة العمر وهي على وجوه:
أحدها: أن يصرح بأنها للمعمر ولورثته من بعده فهذه هبة محققة يأخذها الوارث بد موته.
وثانيها: أن يعمرها ويشترط الرجوع إليه بعد موت المعمر وفي صحة هذه العمرى خلاف لما فيها من تغيير وضع الهبة.
وثالثها: أن يعمرها مدة حياته ولا يشترط الرجوع إليه ولا التأبيد بل يطلق وفي صحتها
ـــــــ
1 مسلم "1548".
2 البخاري "2625" ومسلم "1625" "25" بألفاظ متقاربة.
3 مسلم "1625".
4 مسلم "1625" "23".
5 مسلم "1625" "26".(1/380)
خلاف مرتب على ما إذا اشرط الرجوع إليه وأولى ههنا بأن تصح لعدم اشتراط شرط يخالف مقتضى العقد.
والذي ذكر في الحديث من قوله: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرى" يحتمل أن يحمل على صورة الإطلاق وهو أقرب إذ ليس في اللفظ تقييد ويحتمل أن يحمل الصورة الثانية وهو مبين بالكلام بعد في الرواية الأخرى ويحتمل أن يحمل على جميع الصور إذا قلنا: إن مثل هذه الصيغة من الراوي تقتضي العموم وفي خلاف بين أرباب الأصول.
وقوله: "لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث" يريد: أنها التي شرط فيها له ولعقبه ويحتمل أن يكون المراد: صورة الإطلاق ويؤخذ كونه وقعت فيه المواريث من دليل آخر وهذا الذي قاله جابر: تنصيص على أن المراد بالحديث صورة التقييد بكونها له ولقبه.
وقوله: "إنما العمرى التي أجازها رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي أمضاها وجعلها للعقب لا تعود وقد نص على أنه إذا أطلق هذه العمرى: أنها لا ترجع وهو تأويل منه ويجوز من حيث اللفظ: أن يكون رواه أعني قوله إنها العمرى التي أجازها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: هي لك ولعقبك فإن كان مرويا فلا إشكال في العمل به وإن لم يكن مرويا فهذا يرجع إلى تأويل الصحابي الراوي فهل يكون مقدما من حيث إنه قد تقع له قرائن تورثه العلم بالمراد ولا يتفق تعبيره عنها؟.
13 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يمنعن جار جاره أن يغرز خشبة في جداره" ثم يقول أبو هريرة: ما لي أراكم عنها معرضين؟ والله لأرمين بين أكتافكم1.
إذا طلب الجار إعارة حائط جاره ليضع عليها خشبة ففي وجوب الإجابة قولان للشافعي.
أحدهما: تجب الإجابة لظاهر الحديث
والثاني: - وهو الجديد - أنها لا تجب ويحمل الحديث - إذا كان بصيغة النهي - على الكراهة وعلى الاستحباب إذا كان بصيغة الأمر.
وفي قوله ما لي أراكم عنها معرضين؟ إلى آخره ما يشعر بالوجوب لقوله والله لأرمين بها بين أكتافكم وهذا يقتضي التشديد والخوف والكراهة لهم.
14 - عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ظلم قيد شبر من الأرض: طوقه من سبع أرضين" 2.
في الحديث دليل على تحريم الغصب.
ـــــــ
1 البخاري "2463" ومسلم "1609".
2 البخاري "2453" ومسلم "1612".(1/381)
والقيد بمعنى القدر وقيد بالشبر: للمبالغة ولبيان أن ما زاد على مثله أولى منه.
وطوقه: أي جعل طوقا له واستدل به على أن العقار يصح غصبه واستدل به على الأرض متعدد بسبع أرضين للفظ المذكور فيه وأجاب بعض من خالف ذلك بأن حمل "سبع أرضين" على سبعة الأقاليم والله أعلم.(1/382)
7 - باب اللقطة.
1 - عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لقطة الذهب أو الورق؟ فقال: "اعرف وكاءها وعفاصها ثم عرفها سنة فإن لم تعرف فاستنفقها ولتكن وديعة عندك فإن جاء طالبها يوما من الدهر: فأدها إليه" . وسأله عن ضالة الإبل؟ فقال: "مالك ولها؟ دعها فإن معها حذاءها وسقاءها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها", وسأله عن الشاة؟ فقال: "خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب" 1.
اللقطة: هي المال المتلقط وقد استعمله الفقهاء كثيرا بفتح القاف وقياس هذا: أن يكون لمن يكثر منه الالتقاط كالهزأة والضحكة وأمثاله.
والوكاء: ما يربط به الشيء.
والعفاص: الوعاء الذي تجعل فيه النفقة ثم يربط عليه والأمر بمعرفة ذلك: ليكون وسيلة إلى معرفة المال تذكرة لما عرفه الملتقط.
وفي الحديث: دليل على وجوب التعريف سنة وإطلاقه: يدخل فيه القليل والكثير وقد اختلف في تعريف القليل ومدة تعريفه.
وقوله: "فإن لم تعرف فاستنفقها" ليس الأمر فيه على الوجوب وإنما هو للإباحة.
وقوله: "ولتكن وديعة عندك" يحتمل أن يراد بذلك: بعد الاستنفاق ويكون قوله: "ولتكن عندك وديعة" فيه مجاز في لفظ الوديعة فإنها تدل على الأعيان وإذا استنفق اللقطة لم تكن عينا فتجوز بلفظة الوديعة عن كون الشيء بحيث يؤد إذا جاء ربه ويحتمل أن يكون قوله: "ولتكن" الواو فيه بمعنى أو فيكون حكمها حكم الأمانات والودائع فإنه إذا لم يتملكها بقيت عنده على حكم الأمانة فهي كالوديعة.
وقوله: "فإن جاء طالبها يوما من الدهر فأدها إليه" فيه دليل على وجوب الرد على المالك,
ـــــــ
1 البخاري "2372" ومسلم "1722" بألفاظ متقاربة.(1/382)
إذا بين كونه صاحبها واختلف الفقهاء: هل يتوقف وجوب الرد على إقامة البينة أم يكتفى بوصفه بإماراتها التي عرفها المتلقط أولا؟.
وقوله: وسأله عن ضالة الإبل الخ.
فيه دليل على امتناع التقاطها وقد نبه على العلة فيه وهي استغناؤها عن الحافظ والمتفقد والحذاء والسقاء ههنا مجازان كأنه لما استغنت بوقتها وما ركب في طبعها من الجلادة عن الماء: كأنها أعطيت الحذاء والسقاء.
وقوله: وسأله عن الشاة - إلى آخر الحديث يريد الشاة الضالة والحديث يدل على التقاطها وقد نبه فيه على العلة وهي خوف الضياع عليها إن لم يلتقطها أحد وفي ذلك إتلاف لماليتها على مالكها والتساوي بين هذا الرجل وبين غيره من الناس إذا وجدها فإن هذا التساوي تقتضي الألفاظ: بأنه لا بد منه: إما لهذا الواجد وإما لغيره من الناس والله أعلم.(1/383)
8 - باب الوصايا.
1 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ماحق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبين ليلتين إلا وصيته مكتوبة عنده" 1.
زاد مسلم: "قال ابن عمر ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك إلا وعندي وصيتي"2.
الوصية على وجهين:
أحدهما: الوصية بالحقوق الواجبة على الإنسان وذلك واجب وتلك بعضهم في الشيء اليسير الذي جرت العادة بتداينه ورده مع القرب: هل تجب الوصية به على التضييق والفور؟ وكأنه روعي في ذلك المشقة.
والوجه الثاني: الوصية بالتطوعات في القربات وذلك مستحب وكأن الحديث إنما يحمل على النوع الأول.
والترخيص في الليلتين أو الثلاث دفع للحرج والعسر وربما استدل به قوم على العمل بالخط والكتابة لقوله: "وصية مكتوبة" ولم يذكر أمرا زائدا ولولا أن ذلك كاف لما كان لكتابته فائدة والمخالفون يقولون: المراد وصيته مكتوبة بشروطها ويأخذون الشروط من الخارج.
والحديث دليل على فضل ابن عمر لمبادرته في امتثال الأمر ومواظبته على ذلك.
ـــــــ
1 البخاري "2738" ومسلم "1627".
2 مسلم "1627" "4".(1/383)
2 - عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني عام حجة الوداع من وجع اشتد بي فقلت: يا رسول الله قد بلغ بي من الوجع ما ترى وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: "لا", قلت: فالشطر يا رسول الله؟ قال: "لا", قلت: فالثلث, قال: "الثلث والثلث كثيير إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها حتى ما تجعل في امرأتك" قال: قلت: يا رسول الله أخلف بعد أصحابي؟ قال: "إنك لن تخلف فتعمل علما تبتغي به وجه الله إلا ازددت به درجة ورفعة ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على اعقابهم", لكن البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة"1.
فيه دليل على عيادة الإمام أصحابه ودليل على ذكر شدة المرض لا في معرض الشكوى وفيه دليل على استحباب الصدقة لذوي الأموال.
وفيه دليل على مبادرة الصحابة وشدة رغبتهم في الخيرات لطلب سعد التصدق بالأكثر وفيه دليل على تخصيص الوصية بالثلث.
وفيه دليل على أن الثلث في حد الكثرة في باب الوصية.
وقد اختلف مذهب مالك في الثلث بالنسبة إلى مسائل متعددة ففي بعضها جعل في حد الكثرة وفي بعضها جعل في حد القلة فإذا جعل في حد الكثرة استدل بقوله صلى الله عليه وسلم: "والثلث كثير" إلا أن هذا يحتاج إلى أمرين:
أحدهما: أن لا يعتبر السياق الذي يقتضي تخصيص كثرة الثلث بالوصية بل يؤخذ لفظا عاما
والثاني: أن يدل دليل على اعتبار مسمى الكثرة في ذلك الحكم فحينئذ يحصل المقصود بأن يقال: الكثرة معتبرة في هذا الحكم والثلث كثير فالثلث معتبر ومتى لم تلمح كل واحدة من هاتين المقدمتين: لم يحصل المقصود.
مثال من ذلك: ذهب بعض أصحاب مالك إلى أنه مسح ثلث رأسه في الوضوء: أجزأه لأنه كثير للحديث فيقال له: لم قلت إن مسمى الكثيرة معتبر في المسح؟ فإذا أثبته قيل له: لم قلت إن مطلق الثلث كثير وإن كل ثلث فهو كثير بالنسبة إلى كل حكم؟ وعلى هذا فقس سائر المسائل فيطلب فيها تصحيح كل واحدة من المقدمتين.
ـــــــ
1 البخاري "1295" ومسلم "1628".(1/384)
وفيه دليل على أن طلب الغنى للورثة راجح على تركهم فقراء عالة يتكففون الناس ومن هذا: أخذ بعضهم استحباب الغض من الثلث وقالوا أيضا: ينظر إلى قدر المال في القلة والكثرة فتكون الوصية بحسب ذلك اتباعا للمعنى المذكور في الحديث من ترك الورثة أغنياء.
وفيه دليل على أن الثواب في الإنفاق: مشروط بصحة النية في ابتغاء وجه الله وهذا دقيق عسر إذا عارضه مقتضى الطبع والشهوة فإن ذلك لا يحصل الغرض من الثواب حتى يبتغي به وجه الله ويشق تخليص هذا المقصود مما يشوبه من مقتضى الطبع والشهوة.
وقد يكون فيه دليل على أن الواجبات المالية إذا أديت على قصد الواجب وابتغاء وجه الله: أثيب عليها فإنه قوله: "حتى ما تجعل في امرأتك" لا تخصيص له بغير الواجب ولفظة حتى ههنا تقتضي المبالغة في تحصيل هذا الأجر بالنسبة إلى المغني كما يقال: جاء الحاج حتى المشاة ومات الناس حتى الأنبياء فيمكن أن يقال: سبب هذا: ما أشرنا إليه من توهم أن أداء الواجب قد يشعر بأنه لا يقتضي غيره وأن لا يزيد على تحصيل براءة الذمة ويحتمل أن يكون ذلك دفعا لما عساه يتوهم من أن إنفاق الزوج على الزوجة وإطعامه إياها واجبا أو غير واجب: لا يعارض تحصيل الثواب إذا ابتغى بذلك وجه الله كما جاء في حديث زينب الثقفية لما أرادت الإنفاق من عندنا وقال لست بتاركتهم1 وتوهمت أن ذلك مما يمنع الصدقة عليهم فرفع ذلك عنها وأزيل الوهم.
نعم في مثل هذا يحتاج إلى النظر في أنه هل يحتاج إلى نية خاصة في الجزئيات أم تكفي نية عامة؟ وقد دل الشرع على الاكتفاء بأصل النية وعمومها في باب الجهاد حيث قال: "لو مر بنهر ولا يريد أن يسقي به فشربت: كان له أجر" 2 أو كما قال: فيمكن أن يعدي إلى سائر الأشياء فيكتفي بنية مجملة أو عامة ولا يحتاج في الجزئيات إلى ذلك.
وقوله عليه السلام: "ولعلك أن تخلف" الخ تسلية لسعد على كراهيته للتخلف بسبب المرض الذي وقع له وفيه إشارة إلى تلمح هذا المعنى حيث تقع بالإنسان المكاره حتى تمنعه مقاصد له ويرجو المصلحة فيما يفعله الله تعالى.
وقوله عليه السلام: "اللهم أمض لأصحابي هجرتهم" لعله يراد به: إتمام العمل على وجه لا يدخله نقض ولا نقض لما ابتدئ به.
وفيه دليل على تعظيم أمر الهجرة وأن ترك إتمامها مما يدخل تحت قوله: "ولا تردهم على أعقابهم".
ـــــــ
1 جزء من حديث أخرجه البخاري "5369" ومسلم "1001" من حديث أم سلمة.
2 جزء من حديث طويل أخرجه البخاري "2371" ومسلم "987" من حديث أبي هريرة.(1/385)
3 - عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع؟ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الثلث والثلث كثير" 1.
قول ابن عباس: قد مرت الإشارة إلي سببه وقد استنبطه ابن عباس من لفظ كثير وإن كان القول الذي أقر صلى الله عليه وسلم عليه وأشار لفظه إلى الأمر به - وهو الثلث - يقتضي الوصية به ولكن ابن عباس قد أشار إلى اعتبار هذا بقوله لو أن الناس فإنها صيغة فيها ضعف ما بالنسبة إلى طلب الغض إلى مادون الثلث والله أعلم.
ـــــــ
1 البخاري "2743" ومسلم "1629".(1/386)
9 - باب الفرائض.
1 - عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر" 1.
وفي رواية: "اقسموا المال بين أهل الفرائض على كتاب الله فما تركت: فلأولى رجل ذكر" 2.
الفرائض: جمع فريضة وهي الأنصباء المقدرة في كتاب الله تعالى: النصف ونصفه وهو الربع ونصف نصفه وهو الثمن والثلثان ونصفهما وهو الثلث ونصف نصفهما وهو السدس.
وفي الحديث: دليل على أن قسمة الفرائض تكون بالبداءة بأهل الفرض وبعد ذلك: ما بقي للعصبة.
وقوله: "فما بقي فلأولى رجل ذكر" أو "عصبة ذكر" قد يورد ههنا إشكاله وهو أن الأخوات عصبات البنات والحديث يقتضي اشتراط الذكورة في العصبة المستحق للباقي وجوابه: أنه من طريق المفهوم وأقصى درجاته: أن يكون له عموم فيخص بالحديث الدال على ذلك الحكم أعني: أن الأخوات عصبات البنات.
2- عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قلت: يا رسول الله أتنزل غدا في دارك بمكة؟ قال: "وهل ترك لنا عقيل من رباع؟", ثم قال: "لا يرث الكافر المسلم ولا المسلم الكافر" 3.
الحديث دليل على انقطاع التوارث بين المسلم والكافر.
ـــــــ
1 البخاري "6732" ومسلم "1615".
2 مسلم "1615" "4".
3 البخاري "1588" ومسلم "1351".(1/386)
ومن المتقدمين من قال: يرث المسلم الكافر والكافر لا يرث المسلم وكأن ذلك تشبيه بالنكاح حيث ينكح المسلم الكافرة الكتابية بخلاف العكس والحديث المذكور يدل على ما قاله الجمهور.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "وهل ترك لنا عقيل من دار؟" سببه: أن أبا طالب لما مات: لم يرثه علي ولا جعفر وورثه عقيل وطالب لأن عليا وجعفرا كانا مسلمين حينئذ فلم يرثا أبا طالب: وقد تعلق بهذا الحديث في مسألة دور مكة وهل يجوز بيعها أم لا؟.
3 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الولاء وعن هبته"1.
الولاء حق ثبت بوصف وهو الاعتاق فلا يقبل النقل إلى الغير بوجه من الوجوه لأن ما ثبت بوصف يدوم بدوامه ولا يستحقه إلا من قام به ذلك الوصف وقد شبه الولاء بالنسب قال عليه السلام: "الولاء لحمة كلحمة النسب" 2 فكما لا يقبل النسب النقل بالبيع والهبة فكذلك الولاء.
4 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كانت في بريرة ثلاث سنن: خيرت على زوجها حين عتقت وأهدي لها لحم فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم والبرمة على النار فدعا بطعام فأتي بخبز وأدم من أدم البيت فقال: "ألم أر البرمة على النار فيها لحم؟" قالوا: بلى يا رسول الله ذلك لحم تصدق به على بريرة فكرهنا أن نطعمك منه فقال: "هو عليها صدقة وهو منها لنا هدية", وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيها: "إنما الولاء لمن أعتق" 3.
حديث بريرة: قد استنبط منه أحكام كثيرة وجمع في ذلك غير ما تصنيف وقد اشرنا إلى أشياء منها في مواضع فيما مضى وقد صرح ههنا بثبوت الخيار لها وهي أمة عتقت تحت عبد فيثبت ذلك لكل من هو في حالها.
وفيه دليل على أن الفقير إذا ملك شيئا على وجه الصدقة: لم يمتنع على غيره ممن لا تحل له الصدقة أكله إذا وجد سبب شرعي من جهة الفقير يبيحه له.
وفيه دليل على تبسط الإنسان في السؤال عن أحوال منزله وما عهده فيه لطلبه من أهله مثل ذلك.
وفيه دليل على حصر الولاء للمعتق وقد تكلمنا عليه فيما مضى.
ـــــــ
1 البخاري "2535" ومسلم "1506".
2 ابن حبان "495" من حديث ابن عمر.
3 البخاري "5097" ومسلم "1504" "14".(1/387)
كتاب النكاح
مدخل
...
كتاب النكاح
1 - عن عبد الله بن مسعود قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغرض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" 1.
الباءة: النكاح مشتق من اللفظ الذي يدل على الإقامة والنزول والباءة المنزل فلما كان الزوج ينزل بزوجته: سمى النكاح باءة لمجاز الملازمة واستطاعة النكاح: القدرة على مؤنة المهر والنفقة.
وفيه دليل على أنه لا يؤمر به إلا القادر على ذلك وقد قالوا: من لم يقدر عليه فالنكاح مكروه في حقه وصيغة الأمر ظاهرة في الوجوب.
وقد قسم الفقهاء النكاح إلى الأحكام الخمسة أعني الوجوب: والندب والتحريم والكراهة والإباحة وجعل الوجوب فيما إذا خالف العنب وقدر على النكاح إلا أنه لا يتعين واجبا بل إما هو وإما التسري فإن تعذر التسري تعين النكاح حينئذ للوجوب لا لأصل الشرعية.
وقد يتعلق بهذه الصيغة من يرى أن النكاح أفضل من التخلي لنوافل العبادات وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه.
وقوله عليه السلام: "فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج" يحتمل أمرين:
أحدهما: أن تكون أفعل فيه مما استعمل لغير المبالغة.
والثاني: أن تكون على بابها فإن التقوى سبب لغض البصر وتحصين الفرج وفي معارضتها: الشهوة والداعي إلى النكاح وبعد النكاح: يضعف هذا المعارض فيكون أغض للبصر وأحصن للفرج مما إذا لم يكن فإن وقوع الفعل - مع ضعف الداعي إلى وقوعه - أندر من وقوعه مع وجود الداعي والحوالة على الصوم لما فيه كسر الشهوة فإن شهوة النكاح تابعة لشهوة الأكل تقوى بقوتها وتضعف بضعفها.
ـــــــ
1 البخاري "1905" ومسلم "1400".(1/389)
وقد قيل في قوله: "فعليه بالصوم" بأنه إغراء للغائب وقد منعه قوم من أهل العربية والوجاء الخصاء وجعل وجاء: نظرا إلى المعنى فإن الوجاء قاطع للفعل وعدم الشهوة قاطع له أيضا وهو من مجاز المشابهة.
وإخراج الحديث لمخاطبة الشباب: بناء على الغالب لأن أسباب قوة الداعي إلى النكاح فيه موجودة بخلاف الشيوخ والمعنى معتبر إذا وجد في الكهول والشيوخ أيضا.
2 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر؟ فقال بعضهم: لا أتزوج النساء وقال بعضهم: لا آكل اللحم وقال بعضهم: لا أنام على فراش فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه وقال: "ما بال أقوام قالوا كذا؟ لكني أصلي وأنام وأصوم وافطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني" 1.
يستدل به من يرجح النكاح على التخلي لنوافل العبادات فإن هؤلاء القوم قصدوا هذا القصد والنبي صلى الله عليه وسلم رده عليهم وأكد ذلك بأن خلافه: رغبة عن السنة ويحتمل أن تكون هذه الكراهة للتنطع والغلو في الدين وقد يختلف ذلك باختلاف المقاصد فإن من ترك اللحم - مثلا - يختلف في حكمه بالنسبة إلى مقصوده فإن كل من باب الغلو والتنطع والدخول في الرهبانية: فهو ممنوع مخالفة للشرع وإن كان لغير ذلك من المقاصد المحمودة كمن تركه تورعا لقيام شبهة في ذلك الوقت في اللحوم أو عجزا أو لمقصود صحيح غير ما تقدم: لم يكن ممنوعا.
وظاهر الحديث: ما ذكرناه من تقديم النكاح كما يقوله أبو حنيفة ولا شك أن الترجيح يتبع المصالح ومقاديرها مختلفة وصاحب الشرع أعلم بتلك المقادير فإذا لم يعلم المكلفة حقيقة تلك المصالح ولم يستحضر أعدادها: فالأولى اتباع اللفظ الوارد في الشرع.
3 - عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: "رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل ولو أذن له لاختصينا".
التبتل: ترك النكاح ومنه قيل لمريم عليها السلام البتول وحديث سعد أيضا من هذا الباب لأن عثمان بن مظعون ممن قصد التبتل والتخلي للعبادة مما هو داخل في باب التنطع والتشبه بالرهبانية إلا أن ظاهر الحديث: يقتضي تعليق الحكم بمسمى التبتل وقد قال الله تعالى في كتابه العزيز: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} [المزمل: 8] فلا بد أن يكون هذا المأمور.
ـــــــ
1 البخاري "5063" ومسلم "1401".(1/390)
به في الآية غير المردود في الحديث ليحصل الجمع وكأن ذلك: إشارة إلى ملازمة التعبد أو كثرته لدلالة السياق عليه من الأمر بقيام الليل وترتيل القرآن والذكر فهذه إشارة إلى كثرة العبادات ولم يقصد معها ترك النكاح ولا أمر به بل كان النكاح موجودا مع هذا الأمر ويكون ذلك التبتل المردود: ما انضم إليه مع ذلك - من الغلو في الدين وتجنب النكاح وغيره مما يدخل في باب التشديد على النفس بالإجحاف بها ويؤخذ من هذا: منع ما هو داخل في هذا الباب وشبهه مما قد يفعله جماعة من المتزهدين.
4 - عن أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله انكح أختي ابنة أبي سفيان, قال: "أو تحبين ذلك؟", فقلت: نعم, لست لك بمخلية وأحب من شاركني في خير أختي: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن ذلك لا يحل لي", قالت: إنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة قال: "بنت أم سلمة؟" قالت: قلت: نعم, قال: "إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي إنها لابنة أخي من الرضاعة أرضعتني وأبا سلمة ثويبة فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن".
"قال عروة وثويبة: مولاة أبي لهب أعتقها فأرضعت النبي صلى الله عليه وسلم فلما مات أبو لهب رآه بعض أهله بشر خيبة فقال له: ماذا لقيت؟ قال أبو لهب: لم ألق بعدكم خيرا غير أني سقيت في هذه بعتاقي ثويبة"1.
الخيبة: الحالة بكسر الخاء.
الجمع بين الأختين وتحريم نكاح الربيبة: منصوص عليه في كتاب الله تعالى ويحتمل أن تكون هذه المرأة السائلة لنكاح أختها: لم يبلغها أمر هذا الحكم وهو أقرب من نكاح الربيبة فإن لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم يشعر بتقدم نزول الآية حيث قال: "لو لم تكن ربيبتي في حجري"2 وتحريم الجمع بين الأختين في النكاح متفق عليه فأما بملك اليمين: فكذلك عند علماء الأمصار وعن بعض الناس: فيه خلاف ووقع الاتفاق بعده على خلاف ذلك من أهل السنة غير أن الجمع في ملك اليمين: إنما هو في استباحة وطئها إذ الجمع في ملك اليمين: غير ممتنع اتفاقا وقال الفقهاء: إذا وطئ إحدى الأختين لم يطأ الأخرى حتى يحرم الأولى ببيع أو عتق أو كتابة أو تزويج لئلا يكون مستبيحا لفرجيهما معا.
وقولها: "لست لك بمخلية" مضموم الميم ساكن الخاء المعجمة مكسور اللام معناه: لست أخلي بغير بغير ضرة.
ـــــــ
1 البخاري "5101" ومسلم "1449" وليس عند مسلم قوله: عروة . الحديث.
2 مسلم "1449".(1/391)
وقولها: "وأحب من شاركني" وفي رواية: "شركني" بفتح الشين وكسر الراء وأرادت بالخير ههنا: ما يتعلق بصحبة الرسول صلى الله عليه وسلم من مصالح الدنيا والآخرة وأختها: اسما عزة بفتح العين وتشديد الزاي المعجمة.
وقولها: "إنا كنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة" هذه يقال لها درة بضم الدال المهملة وتشديد الراء المهملة أيضا ومن قال فيه درة بفتح الذال المعجمة فقد صحف.
وقد يقع من هذه المحاورة في النفس: أنها إنما سألت نكاح أختها لاعتقادها خصوصية الرسول صلى الله عليه وسلم بإباحة هذا النكاح لا لعدم علمها بما دلت عليه الآية وذلك: أنه إذا كان سبب اعتقادها التحليل: اعتقادها خصوصية الرسول صلى الله عليه وسلم ناسب ذلك: أن تعترض بنكاح درة بنت أبي سلمة فكأنها تقول: كما جاز نكاح درة - مع تناول الآية لها - جاز الجمع بين الأختين للاجتماع في الخصوصية أما إذا لم تكن عالمة بمقتضى الآية: فلا يلزم من كون الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بتحريم نكاح الأخت على الأخت أن يرد على ذلك تجويز نكاح الربيبة لزوما ظاهرا لأنهما إنما يشتركان حينئذ في أمر أعم أما إذا كانت عالمة بمدلول الآية: فيكون اشتراكهما في أمر خاص وهو التحريم العام واعتقاد التحليل الخاص.
وقوله عليه السلام: "بنت أم سلمة؟" يحتمل أن يكون للاستثبات ونفي الاشتراك ويحتمل أن يكون لإظهار جهة الإنكار عليها أو على من قال ذلك.
وقوله عليه السلام: "لو لم تكن ربيبتي في حجري".
والربيبة بنت الزوجة مشتقة من الرب وهو الإصلاح لأنه يربها ويقوم بأمورها وإصلاح حالها ومن ظن من الفقهاء: أنه مشتق من التربية فقد غلط لأن شرط الاشتقاق الاتفاق في الحروف الأصلية والاشتراط مفقود فإن آخر رب باء موحدة وآخر ربي ياء مثناه من تحت والحجر بالفتح أفصح ويجوز بالكسر.
وقد يحتج بهذا الحديث من يرى اختصاص تحريم الربيبة بكونها في الحجر وهو الظاهري وجمهور الفقهاء على التحريم مطلقا وحملوا التخصيص على أنه خرج مخرج الغالب وقالوا: ما خرج مخرج الغالب لا مفهوم له وعندي نظر في أن الجواب المذكور في الآية فيه - أنه خرج مخرج الغالب: هل يرد في لفظ الحديث أو لا؟.
وفي الحديث دليل على أن تحريم الجمع بين الأختين شامل للجمع على صفة الاجتماع في عقد واحد وعلى صفة الترتيب.(1/392)
5 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها" 1.
جمهور الأمة على تحريم هذا الجمع أيضا وهو مما أخذ من السنة وإن كان إطلاق الكتاب يقتضي الإباحة لقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] - الآية إلا أن الأئمة من علماء الأمصار خصوا ذلك العموم بهذا الحديث وهو دليل على جواز تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد.
وظاهر الحديث يقتضي التسوية بين الجمع بينهما على صفة المعية والجمع على صفة الترتيب وإذا كان النهي واردا على مسمى الجمع - وهو محمول على الفساد - فيقتضي ذلك: أنه إذا أراد نكحهما معا فنكاحهما باطل لأن هذا عقد حصل فيه الجمع المنهي عنه فيفسد وإن حصل الترتيب في العقدين فالثاني: هو الباطل لأن مسمى الجمع قد حصل به وقد وقع في بعض الروايات لهذا الحديث: "لا تنكح الصغرى على الكبرى ولا الكبرى على الصغرى" 2 وذلك مصرح بتحريم جمع الترتيب.
والعلة في هذا النهي ما يقع بسبب المضارة من التباغض والتنافر فيقضي ذلك إلى قطيعة الرحم وقد ورد الإشعار بهذا التعليل.
6 - عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أحق الشروط أن توفوا به: ما استحللتم به الفروج" 3.
ذهب قوم إلى ظاهر الحديث وألزموا الوفاء بالشروط وإن لم تكن من مقتضى العقد كأن لا يتزوج عليها ولا يتسرى ولا يخرجها من البلد لظاهر الحديث وذهب غيرهم: إلى أنه لا يجب الوفاء بمثل هذه الشروط التي لا يقتضيها العقد فإن وقع شيء منها فالنكاح صحيح والشرط باطل والواجب مهر المثل وربما حمل بعضهم الحديث على شروط يقتضيها العقد مثل: أن يقسم لها وأن ينفق عليها ويوفيها حقها أو يحسن عشرتها ومثل: أن لا تخرج من بيته إلا بإذنه ونحو ذلك مما هو من مقتضيات العقد.
وفي هذا الحمل ضعف لأن هذه الأمور لاتؤثر الشروط في إيجابها فلا تشتد الحاجة إلى تعليق الحكم بالاشتراط فيها.
ومقتضى الحديث: أن لفظة: "أحق الشروط" تقتضي: أن يكون بعض الشروط يقتضي الوفاء,
ـــــــ
1 البخاري "5109" ومسلم "1408".
2 أبو داود "2065" والترمذي "1126" قال الترمذي حديث حسن صحيح.
3 البخاري "2721" ومسلم "1418" بألفاظ متقاربة.(1/393)
وبعضها أشد اقتضاء له والشروط التي هي مقتضى العقود: مستوية في وجوب الوفاء ويترجح على ما عدا النكاح: الشروط المتعلقة بالنكاح من جهة حرمة الأبضاع وتأكيد استحلالها والله أعلم.
7 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نهى عن الشغار.
والشغار أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه ابنته وليس بينهما صداق"1.
هذا اللفظ الذي فسر به الشغار تبين في بعض الروايات: أنه من كلام نافع والشغار بكسر الشين وبالغين المعجمة: اختلفوا في أصله في اللغة فقيل: هو من شغر الكلب: إذا رفع رجله ليبول كأن العاقد يقول: لا ترفع رجل ابنتي حتى أرفع رجل ابنتك وقيل: هو مأخوذ من شغر البلد: إذا خلا كأنه سمي بذلك للشغور عن الصداق.
والحديث صريح في النهي عن نكاح الشغار واتفق العلماء على المنع منه واختلفوا - إذا وقع - فساد العقد فقال بعضهم: العقد صحيح والواجب مهر المثل وقال الشافعي: العقد باطل وعند مالك فيه تقسيم ففي بعض الصور: العقد باطل عنده وفي بعض الصور: يفسخ قبل الدخول ويثبت بعده وهو ما إذا سمي الصداق في العقد بأن يقول: زوجتك ابنتي بكذا على أن تزوجني ابنتك بكذا فاستخف مالك هذا لذكر الصداق.
وصورة الشغار الكاملة: أن يقول: زوجتك ابنتي على أن تزوجني ابنتك وبضع كل منهما صداق الأخرى ومهما انعقد لي نكاح ابنتك انعقد لك نكاح ابنتي ففي هذه الصورة وجوه من الفساد.
منها تعليق العقد.
ومنها: التشريك في البضع.
ومنها: اشتراط هدم الصداق وهو مفسد عند مالك ولا خلاف أن الحكم لا يختص بمن ذكر في الحديث وهو الابنة بل يتعدى إلى سائر الموليات.
وتفسير نافع وقوله: "ولا صداق بينهما" يشعر بأن جهة الفساد: ذلك وإن كان يحتمل أن يكون ذكر ذلك لملازمته لجهة الفساد.
وعلى الجملة: ففيه إشعار بأن عدم الصداق له مدخل في النهي.
8 - عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن نكاح المتعة يوم خيبر وعن لحوم الحمر الأهلية"2.
نكاح المتعة: هو تزوج الرجل المرأة إلى أجل وقد كان ذلك مباحا ثم نسخ والروايات تدل على أنه: أبيح بعد النهي ثم نسخت الإباحة فإن هذا الحديث عن علي رضي الله عنه: يدل على النهي عنها يوم خيبر وقد وردت إباحته عام الفتح ثم النهي عنها وذلك بعد يوم خيبر.
ـــــــ
1 البخاري "5112" ومسلم "1415".
2 البخاري "4216" ومسلم "1407"ألفاظ قريبة.(1/394)
وقد قيل: إن ابن عباس رجع عن القول بإباحتها بعدما كان يقول به وفقهاء الأمصار كلهم على المنع وما حكاه بعض الحنفية عن مالك من الجواز فهو خطأ قطعا وأكثر الفقهاء على الاقتصار في التحريم على العقد المؤقت وعداه مالك بالمعنى إلى توقيت الحل وإن لم يكن عقد فقال: إذا علق طلاق امرأته بوقت لا بد من مجيئه: وقع عليها الطلاق الآن وعلله أصحابه بأن ذلك تأقيت للحل وجعلوه في معنى نكاح المتعة.
وأما لحوم الحمر الأهلية: فإن ظاهر النهي التحريم وهو قول الجمهور وفي طريقة للمالكية: أنه مكروه مغلظ الكراهة ولم ينهوه إلى التحريم والتقيد بالأهلية: يخرج الحمر الوحشية ولا خلاف في إباحتها.
9 - عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا تنكح البكر حتى تستأذن" قالوا: يا رسول الله فكيف إذنها؟ قال: "أن تسكت" 1.
كأنه أطلقت الأيم ههنا بإزاء الثيب والاستئمار طلب الأمر والاستئذان طلب الإذن.
وقوله: "فكيف إذنها؟" راجع إلى البكر.
وفي الحديث دليل على أن إذن البكر سكوتها وهو عام بالنسبة إلى لفظ البكر ولفظ النهي في قوله: "لا تنكح" إما أن يحمل على التحريم أو على الكراهة فإن حمل على التحريم: تعين أحد الأمرين: إما أن يكون المراد بالبكر ما عدا الصغيرة فعلى هذا: لا تجبر البكر البالغ وهو مذهب أبي حنيفة وتمسكه بالحديث قوي لأنه أقرب إلى العموم من لفظ البكر وربما يزاد على ذلك بأن يقال: إن الاستئذان إنما يكون في حق من له إذن ولا إذن للصغيرة فلا تكون داخلة تحت الإرادة ويختص الحديث بالبوالغ فيكون أقرب إلى التناول وإما أن يكون المراد: اليتيمة وقد اختلف قول الشافعي في اليتيمة: هل يكتفي فيها بالسكوت أم لا؟ والحديث يقتضي الاكتفاء به وقد ورد مصرحا به في حديث آخر2 ومال إلى ترجيح هذا القول من يميل إلى الحديث من أصحابه وغيرهم من أهل الفقه: يرجح الآخر.
10 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: "جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: كنت عند رفاعة القرظي فطلقني فبت طلاقي فتزوجت بعده عبد الرحمن بن
ـــــــ
1 البخاري "5136" ومسلم "1419".
2 أبو داود "2100" والنسائي "3263" عن ابن عباس ولفظه عند أبي داود: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس للولي مع الثيب أمر واليتيمة تستأمر وصمتها إقرارها".(1/395)
الزبير وإنما معه مثل هدبة الثوب فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا, حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك", قالت: وأبو بكر عنده وخالد بن سعيد بالباب ينتظر أن يؤذن له فنادى أبا بكر: ألا تسمع إلى هذه ما تجهر به عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟1.
تطليقه إياها بالبتات من حيث اللفظ: يحتمل أن يكون بإرسال الطلقات الثلاث ويحتمل أن يكون بإرسال الطلقات الثلاث ويحتمل أن يكون بإيقاع آخر طلقة ويحتمل أن يكون بإحدى الكنايات التي تحمل على البينونة عند جماعة من الفقهاء وليس في اللفظ عموم ولا إشعار بأحد هذه المعاني وإنما يؤخذ ذلك من أحاديث أخر تبين المراد ومن احتج على شيء من هذه الاحتمالات بالحديث: فلم يصب لأنه إنما دل على مطلق البت والدال على المطلق لا يدل على أحد قيديه بعينه.
وقولها: "فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير" هو بفتح الزاي وكسر الباء ثاني الحروف وثالثه ياء آخر الحروف.
وقولها: "إنما معه مثل هدبة الثوب" فيه وجهان:
أحدهما: أن تكون شبهته بذلك لصغره.
والثاني: أن تكون شبهته به لاسترخائه وعدم انتشاره.
وقوله عليه السلام: "لا حتى تذوقي عسيلته" يدل على أن الإحلال للزوج الثاني يتوقف على الوطء وقد يستدل به من يرى الانتشار في الإحلال شرطا من حيث إنه يرجح حمل قولها: "إنما معه مثل هدبة" على الاسترخاء وعدم انتشاره لاستبعاد أن يكون الصغر قد بلغ إلى حد لا تغيب منه الحشفة أو مقدارها الذي يحصل به التحليل.
وقوله عليه السلام: "أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟" كأنه بسبب: أنه فهم عنها إرادة فراق عبد الرحمن وإرادة أن يكون فراقه سببا للرجوع إلى رفاعة وكأنه قيل لها: إن هذا المقصود لا يحصل إلا بالدخول ولم ينقل فيه خلاف إلا عن سعيد بن المسيب فيما نعلمه واستعمال لفظ العسيلة مجاز عن اللذة ثم عن مظنتها وهو الإيلاج فهو مجاز على مذهب جمهور الفقهاء الذين يكتفون بتغييب الحشفة.
11 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "من السنة إذا تزوج البكر على الثيب: أقام عندها سبعا ثم قسم وإذا تزوج الثيب: أقام عندها ثلاثا ثم قسم.
قال أبو قلابة ولو شئت لقلت: إن أنسا رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم"2.
الذي اختاره أكثر الأصوليين: أن قول الراوي من السنة كذا في حكم المرفوع لأن
ـــــــ
1 البخاري "2639" ومسلم "1433".
2 البخاري "5213" ومسلم "1461" بألفاظ متقاربة.(1/396)
الظاهر أنه ينصرف إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان يحتمل أن يكون ذلك قاله بناء على اجتهاد رآه ولكن الأظهر خلافه.
وقول أبي قلابة لو شئت لقلت: إن أنسا رفعه . إلخ يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون ظن ذلك مرفوعا لفظا عن أنس فتحرز عن ذلك تورعا.
والثاني: أن يكون رأى أن قول أنس من السنة في حكم المرفوع فلو شاء لعبر عنه بأنه مرفوع على حسب ما اعتقده: من أنه في حكم المرفوع والأول: أقرب لأن قوله من السنة يقتضي أن يكون مرفوعا بطريق اجتهادي محتمل وقوله إنه رفعه نص في رفعه وليس للراوي أن ينقل ما هو ظاهر محتمل إلى ما هو نص غير محتمل.
والحديث يقتضي: أن هذا الحق للبكر أو الثيب: إنما هو فيه إذا كانتا متجددتين على نكاح امرأة قبلهما ولا يقتضي أنه ثابت لكل متجددة وإن لم يكن قبلها غيرها وقد استمر عمل الناس على هذا وإن لم يكن قبلها امرأة في النكاح والحديث لا يقتضيه.
وتكلموا في علة هذا فقيل: إنه حق للمرأة على الزوج لأجل إيناسها وإزالة الحشمة عنها لتجددها أو يقال: إنه حق للزوج على المرأة.
وأفرط بعض الفقهاء من المالكية فجعل مقامه عندها عذرا في إسقاط الجمعة إذا جاءت في أثناء المدة وهذا ساقط مناف للقواعد فإن مثل هذا من الآداب أو السنن لا يترك له الواجب ولما شعر بهذا بعض المتأخرين وأنه لا يصلح أن يكون عذرا: توهم أن قائله يرى الجمعة فرض كفاية وهو فاسد جدا لأن قول هذا القائل متردد محتمل أن يكون جعله عذرا أو أخطأ في ذلك وتخطئته في هذا أولى من تخطئته فيما دلت عليه النصوص وعمل الأمة من وجوب الجمعة على الأعيان.
13 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أن أحدهم إذا أراد أن يأتي أهله قال: بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره الشيطان أبدا" 1.
فيه دليل استحباب التسمية والدعاء المذكور في ابتداء الجماع.
وقوله عليه السلام: "لم يضره الشيطان" يحتمل أن يؤخذ عاما يدخل تحته الضرر الديني ويحتمل أن يؤخذ خاصا بالنسبة إلى الضرر البدني بمعنى أن الشيطان لا يتخبطه ولا يداخله بما يضر عقله أو بدنه وهذا أقرب وإن كان التخصيص على خلاف الأصل لأنا إذا حملناه على
ـــــــ
1 البخاري "6388" ومسلم "1434".(1/397)
العموم اقتضى ذلك: أن يكون الولد معصوما عن المعاصي كلها وقد لا يتفق ذلك أو يعز وجوده ولا بد من وقوع ما أخبر عنه صلى الله عليه وسلم أما إذا حملناه على أمر الضرر في العقل أو البدن: فلا يمتنع ذلك ولا يدل دليل على وجوم خلافه والله أعلم.
13 - عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والدخول على النساء", فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله أرأيت الحمو؟ قال: "الحمو الموت" 1.
ولمسلم عن أبي الطاهر عن ابن وهب قال: سمعت الليث يقول الحمو أخو الزوج وما أشبهه من أقارب الزوج ابن العم ونحوهم2.
لفظ الحمو يستعمل عند الناس اليوم في أبي الزوج وهو محرم من المرأة لا يمتنع دخوله عليهما فلذلك فسره الليث بما يزيل هذا الإشكال وحمله على من ليس بمحرم فإنه لا يجوز له الخلوة بالمرأة.
والحديث دليل على تحريم الخلوة بالأجانب.
وقوله: "إياكم والدخول على النساء" مخصوص بغير المحارم وعام بالنسبة إلى غيرهن ولا بد من اعتبار أمر آخر وهو أن يكون الدخول مقتضيا للخلوة أما إذا لم يقتض ذلك فلا يمتنع.
وأما قوله عليه السلام: "الحمو الموت" فتأويله يختلف بحسب اختلاف الحمو فإن حمل على محرم المرأة - كأبي زوجها - فيحتمل أن يكون قوله: "الحمو الموت" بمعنى أنه لا بد من إباحة دخوله كما أنه لا بد من الموت وإن حمل على ما ليس بمحرم فيحتمل أن يكون هذا الكلام خرج مخرج التغليظ والدعاء لأنه فهم من قائله: طلب الترخيص بدخول مثل هؤلاء الذين ليسوا بمحارم فغلظ عليه لأجل هذا القصد المذموم بأن دخول الموت عوضا من دخوله زجرا عن هذا الترخيص على سبيل التفاؤل والدعاء كأنه يقال: من قصد ذلك فليكن الموت في دخوله عوضا من دخول الحمو الذي قصد دخوله ويجوز أن يكون شبه الحمو بالموت باعتبار كراهته لدخوله وشبه ذلك بكراهة دخول الموت.
ـــــــ
1 البخاري "5232" ومسلم "2172" "20".
2 مسلم "2172" "21".(1/398)
باب الصداق.
1 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه: "أن رسول الله أعتق صفية وجعل عتقها صداقها"1.
قوله: "و جعل عتقها صداقها" يحتمل وجهين:
ـــــــ
1 البخاري "5086" ومسلم "1365" "85".(1/398)
أحدهما: أن يكون تزوجها بغير صداق على سبيل الخصوصية برسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كان عتقها مقام الصداق إذ لم يكن ثم عوض سمي صداقا.
والوجه الثاني: قول بعض الفقهاء أنه أعتقها فتزوجها على قيمتها وكانت مجهولة وذلك من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم وقال بعض أصحاب الشافعي معناه: أنه شرط عليها أن يعتقها ويتزوجها فقبلت فلزمها الوفاء به.
وقد اختلف الفقهاء فيمن أعتق أمته على أن يتزوجها ويكون عتقها صداقها فقال جماعة: لا يلزمها أن تتزوج به وممن قاله مالك والشافعي وأبو حنيفة وهو إبطال للشرط قال الشافعي فإن أعتقها على هذا الشرط فقبلت عتقت ولا يلزمها الوفاء بتزوجه بل عليها قيمتها لأنه لم يرض بعتقها مجانا وصار ذلك كسائر الشروط الباطلة أو كسائر ما يلزم من الأعواض لمن لم يرض بالمجان.
فإن تزوجته على مهر يتفقان عليه كان لها ذلك المسمى وعليها قيمتها للسيد فإن تزوجها على قيمتها: فإن كانت القيمة معلومة لها وله صح الصداق ولا يبقى له عليها قيمة ولا لها عليه صداق وإن كانت مجهولة فالأصح من وجهي الشافعية أنه لا يصح الصداق ويجب مهر المثل والنكاح صحيح.
و منهم من صحح الصداق بالقيمة المجهولة على ضرب من الاستحسان وأن يرى العقد فيه ضرب من المسامحة والتخفيف.
وذهب جماعة منهم الثوري والزهري وقول عن أحمد وإسحاق: أنه يجوز أن يعتقها على أن يتزوج بها ويكون عتقها صداقها ويلزمها ذلك ويصح الصداق على ظاهر لفظ الحديث.
والأولون قد يؤولونه بما تقدم من أنه جعل عتقها قائما مقام الصداق فسماه باسمه والظاهر مع الفريق الثاني إلا أن القياس مع الأول فيتردد الحال بين ظن من نشأ من قياس وظن من نشأ من ظاهر الحديث مع احتمال الواقعة للخصوصية.
و هي - وإن كانت على خلاف الأصل - إلا أنه يتأنس في ذلك بكثرة خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم في النكاح لا سيما هذه الخصوصية لقوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50] ولعله يؤخذ من الحديث استحباب عتق الأمة وتزوجها كما جاء مصرحا به في حديث آخر1.
ـــــــ
1 وهو ما أخرجه البخاري "244" عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كانت له جارية فعلمها فأحسن إليها ثم أعتقها وتزوجها كان له أجران".(1/399)
2 - عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جاءته امرأة فقالت: إني وهبت نفسي لك فقامت طويلا فقال رجل: يا رسول الله زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة فقال: "هل عندك من شيء تصدقها؟", فقال: ما عندي إلا إزاري هذا, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إزارك إن أعطيتها جلست ولا إزار لك فالتمس شيئا" قال: ما أجد, قال: "التمس ولو خاتما من حديد" فالتمس فلم يجد شيئا, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل معك شيء من القرآن؟" قال: نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "زوجتكها بما معك من القرآن" 1.
في الحديث دليل على عرض المرأة نفسها على من ترجى بركته.
وقولها: "وهبت نفسي لك" مع سكوت النبي صلى الله عليه وسلم دليل لجواز هبة المرأة نكاحها له صلى الله عليه وسلم كما جاء في الآية فإذا تزوجها على ذلك صح النكاح من غير صداق لا في الحال ولا في المآل ولا بالدخول ولا بالوفاة وهذا هو موضع الخصوصية فإن غيره ليس كذلك فلا بد من المهر في النكاح إما مسمى أو مهر المثل.
واستدل به من أجاز من الشافعية انعقاد نكاحه بلفظ الهبة ومنهم من منعه إلا بلفظ الإنكاح أو التزويج كغيره صل الله عليه وسلم وجعل الخصوصية عدم لزوم المهر فقط.
وقوله: "هل عندك من شيء تصدقها؟" فيه دليل على طلب الصداق في النكاح وتسميته فيه.
وقوله: "إزارك إن أعطيتها جلست ولا إزار لك" دليل على الإرشاد إلى المصالح من كبير القوم والرفق برعيته.
وقوله: "فالتمس ولو خاتما من حديد" دليل على الاستحباب لئلا يخلى العقد من ذكر الصداق لأنه أقطع للنزاع وأنفع للمرأة فإنه لو حصل الطلاق قبل الدخول وجب لها نصف المسمى واستدل به من يرى جواز الصداق بما قل أو كثر وهو مذهب الشافعي وغيره ومذهب مالك أن أقله ربع دينار أو ثلاثة دراهم أو قيمتها ومذهب أبي حنيفة أن أقله عشرة دراهم ومذهب بعضهم أن أقله خمسة دراهم واستدل به على جواز اتخاذ خاتم الحديد وفيه خلاف لبعض السلف وقد قيل عن بعض الشافعية كراهته.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "زوجتكها" اختلف في هذه اللفظة فمنهم من رواها كما ذكر ومنهم من رواها: "ملكتها" ومنهم من رواها: "ملكتكها" فيستدل بهذه الرواية من يرى انعقاد النكاح بلفظ التمليك إلا أن هذه لفظة واحدة في حديث واحد اختلف فيها والظاهر القوي: أن الواقع أحد الألفاظ لا كلها فالصواب في مثل هذا النظر إلى الترجيح بأحد وجوهه ونقل عن
ـــــــ
1 البخاري "5135" ومسلم "1425".(1/400)
الدارقطني أن الصواب رواية من روى: "زوجتكها" وأنه قال: وهم أكثر وأحفظ وقال بعض المتأخرين: ويحتمل صحة اللفظين ويكون أرجى لفظ التزويج أولا فملكها ثم قال له: "اذهب فقد ملكتها" بالتزويج السابق.
قلت: هذا أولا بعيد فإن سياق الحديث يقتضي تعيين موضع هذه اللفظة التي اختلف فيها وأنها التي انعقد بها النكاح وما ذكره يقتضي وقوع أمر آخر انعقد به النكاح واختلاف موضع كل واحد م اللفظين وهو بعيد جدا.
و أيضا فلخصمه أن يعكس الأمر ويقول: كان انعقاد النكاح بلفظ التمليك وقوله عليه السلام: "زوجتكها" إخبارا عما مضى بمعناه فإن ذلك التمليك هو تمليك نكاح.
و أيضا فإن رواية من روى ملكتها التي لم يتعرض لتأويلها يبعد فيها ما قال إلا على سبيل الإخبار عن الماضي بمعناه ولخصمه أن يعكسه وإنما الصواب في مثل هذا أن ينظر إلى الترجيح والله أعلم.
و في لفظ الحديث: متمسك لمن يرى جواز النكاح بتعليم القرآن والروايات مختلفة في هذا الموضع أيضا أعني قوله: "بما معك من القرآن", والناس متنازعون أيضا في تأويله فمنهم من يرى أن الباء هي التي تقتضي المقابلة في العقود كقولك: بعتك كذا بكذا وزوجتك بكذا ومنهم من يراها باء السببية أي بسبب ما معك من القرآن إما أن يخلى النكاح عن العوض على سبيل التخصيص لهذا الحكم بهذه الواقعة وإما أن يخلى عن ذكره فقط ويثبت فيه حكم الشرع في أمر الصداق.
3 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأى عبد الرحمن بن عوف وعليه ردع زعفران فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مهيم؟" فقال: يا رسول الله تزوجت امرأة فقال: "ما أصدقتها؟" قال: وزن نواة من ذهب, قال: "فبارك الله لك أولم ولو بشاة" 1.
ردع الزعفران بالعين المهملة: أثر لونه.
و قوله عليه السلام: "مهيم" أي ما أمرك؟ وما خبرك؟ قيل: إنها لغة يمانية قال بعضهم: ويشبه أن تكون مركبة.
و في قوله عليه السلام: "ما أصدقتها؟" تنبيه وإشارة إلى وجود أصل الصداق في النكاح إما بناء على ما تقتضيه العادة وإما بنا على ما يقتضيه الشرع من استحباب تسميته في النكاح وذلك
ـــــــ
1 البخاري "2049" ومسلم "1427"بألفاظ متقاربة.(1/401)
أنه سأله ب ما والسؤال ب ما بعد السؤال ب هل فاقتضى ذلك أن يكون أصل الإصداق متقررا لا يحتاج إلى السؤال عنه.
وفي قوله: "وزن نواة" قولان:
أحدهما: أن المراد نواة من نوى التمر وهو قول مرجوح ولا يتحدد الوزن به لاختلاف نوى التمر في المقدار.
والثاني: أنه عبارة عن مقدار معلوم عندهم وهو وزن خمسة دراهم.
ثم في المعنى وجهان:
أحدهما: أن يكون المصدق ذهبا وزنه خمسة دراهم.
والثاني: أن يكون المصدق دراهم بوزن نواة من ذهب وعلى الأول يتعلق قوله من ذهب بلفظ وزن وعلى الثاني: يتعلق بنواة.
وقوله بارك الله لك دليل على استحباب الدعاء للمتزوج بمثل هذا اللفظ.
والوليمة الطعام المتخذ لأجل العرس وهو من المطلوبات شرعا ولعل من جملة فوائده أن اجتماع الناس لذلك مما يقتضي اشتهار النكاح.
و قوله: "أولم" صيغة أمر محمولة عند الجمهور على الاستحباب وأجراها بعضهم على ظاهرها فأوجب ذلك.
و قوله: "و لو بشاة" يفيد معنى التقليل وليست لو هذه هي التي تقتضي امتناع الشيء لوجود غيره وقال بعضهم: هي التي تقتضي معنى التمني.(1/402)
كتاب الطلاق
مدخل
...
كتاب الطلاق.
1 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "أنه طلق امرأته وهي حائض فذكر ذلك عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتغيظ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: "ليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها قبل أن يمسها فتلك العدة كما أمر الله عز وجل" 1.
و في لفظ: "حتى تحيض حيضة مستقبلة سوى حيضتها التي طلقها فيها" 2.
و في لفظ: "فحسبت من طلاقها وراجعها عبد الله كما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم"3.
الطلاق في الحيض محرم للحديث وذكر عمر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم لعله ليعرفه الحكم. و تغيظ النبي صلى الله عليه وسلم إما لأن المعنى الذي يقتضي المنع كان ظاهرا وكان يقتضي الحال التثبت في الأمر أو لأنه كان يقتضي الأمر المشاورة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل ذلك إذا عزم عليه.
و قوله عليه السلام: "ليراجعها" صيغة أمر محمولة عند الشافعي على الاستحباب وعند مالك على الوجوب ويجبر الزوج على الرجعة إذا طلق في الحيض عنده واللفظ يقتضي امتداد المنع للطلاق إلى أن تطهر من الحيضة الثانية لأن صيغة حتى للغاية وقد علل توقف الأمر إلى الطهر من الحيضة الثانية بأنه لو طلق في الطهر من الحيضة الأولى لكانت الرجعة لأجل الطلاق وليس ذلك موضوعها إنما هي موضوعة للاستباحة فإذا أمسك عن الطلاق في هذا الطهر استمرت الإباحة فيه وربما كان دوام مدة الاستباحة مع المعاشرة سببا للوطء فيمتنع الطلاق في ذلك الطهر لأجل الوطء فيه وفي الحيض الذي يليه فقد يكون سببا لدوام العشرة وعدم الطلاق.
ومن الناس من علل امتناع الطلاق في الحيض بتطويل العدة فإن تلك الحيضة لا تحسب من العدة فيطول زمان التربص ومنهم من لم يعلل بذلك ورأى الحكم معلقا بوجود الحيض وصورته وينبني على هذا ما إذا قلنا: إن الحامل تحيض فطلقها في الحيض الواقع في الحمل فمن
ـــــــ
1 البخاري "4908" ومسلم "1471" بألفاظ متقاربة.
2 مسلم "1471" "4".
3 مسلم "1471" 4".(1/403)
علل بتطويل العدة لم يحرم لأن العدة ههنا بوضع الحمل ومن أراد الحكم على صورة الحيض منع.
و قد يؤخذ من الحديث ترجيح المنع في هذه الصورة من جهة أن النبي صلى الله عليه وسلم ألزمه المراجعة من غير استفصال ولا سؤال عن حال المرأة: هل هي حامل أو حائل؟ وترك الاستفصال في مثل هذا ينزل منزلة عموم المقال عند جمع من أرباب الأصول إلا أنه قد يضعف ههنا هذا المأخذ لاحتمال أن يكون ترك الاستفصال لندرة الحيض في الحمل.
وينبني أيضا على هذين المأخذين: ما إذا سألت المرأة الطلاق في الحيض هل يحرم طلاقها فيه؟ فمن مال إلى التعليل بطول المدة لما فيه من الإضرار بالمرأة لم يقتض ذلك التحريم لأنها رضيت بذلك الضرر ومن أدار الحكم على صورة الحيض منع والعمل بظاهر الحديث في ذلك أولى وقد يقال في هذا ما قيل في الأول من ترك الاستفصال وقد يجاب عنه فيهما بأنه مبني على الأصل فإن الأصل عدم سؤال الطلاق وعدم الحمل.
ويتعلق بالحديث مسألة أصولية وهي أن الأمر بالأمر بالشيء هل هو أمر بذلك الشيء أم لا؟ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر في بعض طرق هذا الحديث: "مره فأمره بأمره" وعلى كل حال فلا ينبغي أن يتردد في اقتضاء ذلك الطلب وإنما ينبغي أن ينظر في أن لوازم صيغة الأمر هل هي لوازم لصيغة الأمر بالأمر بمعنى أنهما هل يستويان في الدلالة على الطلب من وجه واحد أم لا؟.
وفي قوله: "قبل أن يمسها" دليل على امتناع الطلاق في الطهر الذي مسها فيه فإنه شرط في الإذن عدم المسيس لها والمعلق بالشرط معدوم عند عدمه وهذا هو السبب الثاني لكون الطلاق بدعيا وهو الطلاق في طهر مسها فيه وهو معلل بخوف الندم فإن المسيس سبب الحمل وحدوث الولد وذلك سبب للندامة الطلاق.
وقوله فحسبت من طلاقها هو مذهب الجمهور من الأمة أعني وقوع الطلاق في الحيض والاعتداد به.
2 - عن فاطمة بنت قيس: "أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة وهو غائب وفي رواية طلقها ثلاثا فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته فقال: والله ما لك علينا من شيء فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: "ليس لك عليه نفقة" وفي لفظ: "ولا سكنى" فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك ثم قال: "تلك امرأة يغشاها أصحابي اعتدي عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك فإذا حللت فآذنيني" قالت: فلما حللت ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم(1/404)
خطباني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه وأما معاوية فصعلوك لا مال له انكحي أسامة بن زيد" فكرهته ثم قال: "انكحي أسامة بن زيد", فنكحته فجعل الله فيه خيرا واغتبطت به1.
قوله: "طلقها البتة" يحتمل أن يكون حكاية للفظ أوقع به الطلاق وقوله: "طلقها ثلاثا" تعبير عما وقع من الطلاق بلفظ البتة وهذا على مذهب من يجعل لفظ البتة للثلاث ويحتمل أن يكون اللفظ الذي وقع به الطلاق هو الطلاق الثلاث كما جاء في الرواية الأخرى ويكون قوله طلقها البتة تعبيرا عما وقع من الطلاق بلفظ الطلاق ثلاثا وهذا يتمسك به من يرى جواز إيقاع الطلاق الثلاث دفعة لعدم الإنكار من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه يحتمل أن يكون قوله طلقها ثلاثا أي أوقع طلقة تتم بها الثلاث وقد جاء في بعض الروايات ثلاث تطليقات2.
و قوله: "وهو غائب" فيه دليل على وقوع الطلاق في غيبة المرأة وهو مجمع عليه.
وقوله: "فأرسل إليها وكيله بشعير" يحتمل أن يكون مرفوعا ويكون الوكيل هو المرسل ويحتمل أن يكون منصوبا ويكون الوكيل هو المرسل وقد عين بعضهم للرواية الاحتمال الأول والضمير في قوله وكيله يعود على أبي عمرو بن حفص وقيل: اسمه كنيته وقيل: اسمه عبد الحميد وقيل اسمه أحمد وقال بعضهم: أبو حفص بن عمرو وقيل: أبو حفص بن المغيرة ومن قال أبو عمرو بن حفص أكثر.
وقوله عليه السلام: "ليس لك عليه نفقة" هذا مذهب الأكثرين إذا كان البائن حلالا وأوجبها أبو حنيفة.
و قوله: "ولا سكنى" هو مذهب أحمد وأوجب الشافعي ومالك السكنى لقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} [الطلاق: 6] وأما سقوط النفقة فأخذوه من مفهوم قوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6].
فمفهومه إذا لم يكن حوامل لا ينفق عليهن وقد نوزعوا في تناول الآية للبائن أعني قوله: {أَسْكِنُوهُنَّ} ومن قال لها السكنى فهو محتاج إلى الاعتذار عن حديث فاطمة فقيل في العذر ما حكوه عن سعيد بن المسيب أنها كانت امرأة لسنة استطالت على
ـــــــ
1 مسلم "1480" ولم يخرج البخاري قصة فاطمة بنت قيس وإنما ذكرها في ترجمة باب إثر حديث "5320" قال ابن حجر في فتح الباري هكذا أخرج مسلم قصتها من طريق متعددة عنها ولم أرها عند البخاري وإنما ترجم لها كما ترى وأورد أشياء من قصتها بطريق الإشارة إليها ووهم صاحب العمدة فأورد حديثها بطولها في المتفق.
2 مسلم "1480" "40".(1/405)
أحمائها فأمرها بالانتقال1 وقيل: لأنها خافت في ذلك المنزل وقد جاء في كتاب مسلم أخاف أن يقتحم علي2.
واعلم أن سياق الحديث على خلاف هذه التأويلات فإنه يقتضي أن سبب الحكم أنها اختلفت مع الوكيل بسبب سخطها الشعير وأن الوكيل ذكر أن لا نفقة لها: وأن ذلك اقتضى أن سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجابها بما أجاب وذلك يقتضي أن التعليل بسبب ما جرى من الاختلاف في وجوب النفقة لا بسبب هذه الأمور التي ذكرت فإن قام دليل أقوى وأرجح من هذا الظاهر عمل به.
و قوله: "فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك" قيل: اسمها غزية وقيل: غزيلة وهي قرشية عامرية وقيل: إنها أنصارية.
قوله عليه السلام: "تلك امرأة يغشاها أصحابي" قيل: كانوا يزورونها ويكثرون من التردد إليها لصلاحها ففي الاعتداد عندها حرج ومشقة في التحفظ من الرؤية إما في رؤيتهم لها أو رؤيتها لهم على مذهب من يرى تحريم نظر المرأة للأجنبي أو لهما معا.
و قوله: "اعتدي عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى" قد يحتج به من يروي جواز نظر المرأة إلى الأجنبي فإنه علل بالعمى وهو مقتض لعدم رؤيته لا لعدم رؤيتها فيدل على أن جواز الاعتداد عنده معلل بالعمى المنافي لرؤيته.
واختار بعض المتأخرين تحريم نظر المرأة إلى الأجنبي مستدلا بقوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30]: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور: 31] وفيه نظر لأن لفظة من للتبعيض ولا خلاف أنها إذا خافت الفتنة حرم عليها النظر فإذا هذه حالة يجب فيها الغض فيمكن حمل الآية عليها ولا تدل حينئذ على وجوب الغض مطلقا أو في غير هذه الحالة وهذا إن لم يكن ظاهر اللفظ فهو محتمل له احتمالا جيدا يتوقف معه على الاستدلال على محل الخلاف.
وقال هذا المتأخر: وأما حديث فاطمة بنت قيس مع ابن أم مكتوم فليس فيه إذن لها في النظر إليه بل فيه أنها تأمن عنده من نظر غيره وهي مأمورة بغض بصرها فيمكنها الاحتراز عن النظر بلا مشقة بخلاف مكثها في بيت أم شريك.
وهذا الذي قاله إعراض عن التعليل بعماه وما ذكره من المشقة موجود في نظرها إليه مع مخالطتها له
ـــــــ
1 أبو داود "2296".
2 مسلم "1482".(1/406)
في البيت ويمكن أن يقال: إنما علل العمى لكونها تضع ثيابها من غير رؤيته لها فحينئذ يخرج التعليل عن الحكم باعتدادها عنده.
و قوله عليه السلام: "فإذا حللت فآذنيني" ممدود الهمز أي أعلميني واستدل به على جواز التعريض بخطبة البائن وفيه خلاف عند الشافعية.
قوله عليه السلام: "أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه" فيه تأويلان.
أحدهما: أنه كثير الأسفار.
والثاني: أنه كثير الضرب ويترجح هذا الثاني بما جاء في بعض روايات: "مسلم" أنه ضراب النساء1.
وفي الحديث دليل على جواز ذكر الإنسان بما فيه عند النصيحة ولا يكون من الغيبة المحرمة وهذا أحد المواضع التي أبيحت فيها الغيبة لأجل المصلحة والعاتق ما بين العنق والمنكب.
وفي الحديث دليل على جواز استعمال مجاز المبالغة وجواز إطلاق مثل هذه العبارة فإن أبا جهم لا بد وأن يضع عصاه حالة نومه وأكله وكذلك معاوية لا بد وأن يكون له ثوب يلبسه مثلا لكن اعتبر حال الغلبة وأهدر حال النادر واليسير وهذا المجاز فيما قيل في أبي جهم أظهر منه فيما قيل في معاوية لأن لنا أن نقول إن لفظة المال انتقلت في العرف عن موضوعها الأصلي إلى ما له قدر من المملوكات أو ذلك مجاز شائع يتنزل منزلة النقل فلا يتناول الشيء اليسير جدا بخلاف ما قيل في أبي جهم.
و قوله: "انكحي أسامة بن زيد" فيه جواز نكاح القرشية للمولى وكراهتها له إما لكونه مولى أو لسواده واغتبطت مفتوح التاء والباء.
وأبو جهم المذكور في الحديث مفتوح الجيم ساكن الهاء وهو غير أبي الجهيم الذي في حديث التيمم.
ـــــــ
1 مسلم "1480" "47".(1/407)
باب العدة.
1 - عن سبيعة الأسلمية: "أنها كانت تحت سعد بن خولة وهو من بني عامر بن لؤي وكان ممن شهد بدرا فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل فلم أن تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته فلما تعلت من نفاسها تجملت للخطاب فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك رجل من بني عبد الدار فقال لها: ما لي أراك(1/407)
متجملة؟ لعلك ترجين للنكاح والله ما أنت بناكح حتى يمر عليك أربعة أشهر وعشر قالت سبيعة: فلما قال لي ذلك جمعت علي ثيابي حين أمسيت فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك؟ فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي وأمرني بالتزويج إن بدا لي".
قال ابن شهاب: ولا أرى بأسا أن تتزوج حين وضعت وإن كانت في دمها غير أنه لا يقربها زوجها حتى تطهر1.
في الحديث دليل على أن الحامل تنقضي عدتها بوضع الحمل أي وقت كان وهو مذهب فقهاء الأمصار وقال بعضهم من المتقدمين إن عدتها أقصى الأجلين فإن تقدم وضع الحمل على تمام أربعة أشهر وعشر انتظرت وضع الحمل وقيل: إن بعض المتأخرين من المالكية: اختار هذا المذهب وهو سحنون.
و سبب الخلاف تعارض عموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} [البقرة: 234] - الآية مع قوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] فإن كل واحدة من الآيتين عام من وجه وخاص من وجه.
فالآية الأولى: عامة في المتوفى عنهن أزواجهن سواء كن حوامل أم لا والثانية: عامة في أولات الأحمال سواء كن متوفى عنهن أم لا ولعل هذا التعارض هو السبب لاختيار من اختار أقصى الأجلين لعدم ترجيح أحدهما على الآخر وذلك يوجب أن لا يرفع تحريم العدة السابق إلا بيقين الحل وذلك بأقصى الأجلين غير أن فقهاء الأمصار اعتمدوا على هذا الحديث فإنه تخصيص لعموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} [البقرة: 234] مع ظهور المعنى في حصول البراءة بوضع الحمل.
وأبو السنابل بن بعك بفتح السين وبعك بفتح الباء وسكون العين.
و فتح الكاف وهو ابن الحجاج بن الحارث بن السباق بن عبد الدار هكذا نسب وقيل: في نسبه غير ذلك قيل: اسمه عمرو وقيل: حبة بالباء وقيل: حنة بالنون.
و قولها: "فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي" يقتضي انقضاء العدة بوضع الحمل وإن لم تطهر من النفاس كما صرح به الزهري فيما بعد ذلك وهو مذهب فقهاء الأمصار.
وقال بعض المتقدمين: لا تحل من العدة حتى تطهر من النفاس ولعل بعضهم أشار إلى تعلق في هذا بقوله: "فلما تعلت من نفاسها" أي طهرت قال لها: "قد حللت فانكحي من
ـــــــ
1 البخاري "5318" ومسلم "1484".(1/408)
شئت" رتب الحل على التعلي فيكون علة له وهذا ضعيف لتصريح هذه الرواية بأنه قد أفتاها بالحل بوضع الحمل وهو أصرح من ذلك الترتيب المذكور يعني ترتيب الحل على التعلي.
وربما استدل بهذا الحديث بعضهم على أن العدة تنقضي بوضع الحمل على أي وجه كان مضغة أو علقة استبان فيه الخلق أم لا من حيث إنه رتب الحل على وضع الحمل من غير استفصال وترك الاستفصال في قضايا الأحوال ينزل منزلة العموم في المقال وهذا ههنا ضعيف لأن الغالب هو الحمل التام المتخلق ووضع المضغة والعلقة نادر وحمل الجواب على الغالب الظاهر وإنما تقوى تلك القاعدة حيث لا يترجح بعض الاحتمالات على بعض ويختلف الحكم باختلافها وقول ابن شهاب: قد قدمنا أنه قول فقهاء الأمصار والمنقول عنه خلاف ذلك: وهو الشعبي والنخعي وحماد.
2 - عن زينب بنت أم سلمة رضي الله عنهما قالت: "توفي حميم لأم حبيبة فدعت بصفرة فمسحت بذراعيها فقالت: إنما أصنع هذا: لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج: أربعة أشهر وعشرا" 1.
الحميم: القرابة.
الإحداد: ترك الطيب والزينة وهو الواجب على المتوفى عنها زوجها ولا خلاف فيه في الجملة وإن اختلفوا في التفصيل.
وقوله: "إلا على زوج" يقتضي الإحداد على كل زوج سواء كان بعد الدخول أو قبله.
وقوله: "لامرأة" عام في النساء تدخل فيه الصغيرة والكبيرة والأمة وفي دخول الصغيرة تحت هذا اللفظ نظر فإن وجب من غير دخوله تحت اللفظ فبدليل آخر.
وأما الكتابية: فلا تدخل تحت اللفظ لقوله عليه الصلاة والسلام: "لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر" فمن ههنا خالف بعضهم في وجوب الإحداد على الكتابية وأجاب غيره - ممن أوجب عليها الإحداد -: بأن هذا التخصيص له سبب والتخصيص إذا كان لفائدة أو سبب - غير اختلاف الحكم - لم يدل على اختلاف الحكم قال بعض المتأخرين في السبب في ذلك: إن المسلمة هي التي تستثمر خطاب الشارع وتنتفع به وتنقاد له فلهذا قيد به وغير هذا أقوى منه وهو أن يكون ذكر هذا الوصف لتأكيد التحريم لما يقتضيه سياقه ومفهومه من أن خلافه مناف للإيمان بالله واليوم الآخر كما قال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23] فإنه يقتضي تأكيد أمر التوكل بربطه بالإيمان وكما يقال: إن كنت ولدي فافعل كذا
ـــــــ
1 البخاري "1281" ومسلم "1486" واللفظ له.(1/409)
وأصل لفظة الإحداد؟ من معنى المنع ويقال: حدت تحد إحدادا وحدت تحد - بفتح الحاء في الماضي من غير همز - وعن الأصبعي: أنه لم يجز إلا أحدت رباعيا والله أعلم.
وقد يؤخذ من هذا الحديث: أنه لا إحداد على الأمة المستولدة لتعليق الحكم بالزوجية وتخصيص منع الإحداد بمن توفي عنها زوجها واقتضي مفهومه: أن لا إحداد إلا لمن توفي عنها زوجها والله أعلم.
3 - عن أم عطية رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تحد امرأة على ميت فوق ثلاث إلا على زوج: أربعة أشهر وعشرا ولا تلبس مصبوغا إلا ثوب عصب ولا تكتحل ولا تمس طيبا إلا إذا طهرت: نبذة من قسط أو أظفار" 1.
العصب: ثياب من اليمن فيها بياض وسواد.
النبذة: الشيء اليسير والقسط العود أو نوع من الطيب تبخر به النفساء.
والأظفار: جنس من الطيب لا واحد له من لفظه وقيل هو عطر أسود القطعة من تشبه الظفر.
فيه دليل على منع المرأة المحد من الكحل ومذهب الشافعي: أنها لا تكتحل إلا ليلا عند الحاجة بما لا طيب فيه وجوزه بعضهم عند الحاجة وإن كان فيه طيب وجوزه آخرون إذا خافت على عينها بكحل لا طيب فيه والذين أجازوه: حملوا النهي المطلق على حالة عدم الحاجة والجواز على حالة الحاجة.
وفي الحديث: المنع من الثياب المصبغة للزينة إلا ثوب العصب واستثنى بعضهم من المصبوغ: الأسود فرخص فيه ونقل عن بعضهم: كراهة العصب وعن بعضهم المنع والحديث حجة عليهم وقد يؤخذ من مفهوم الحديث: جواز ما ليس بمصبوغ وهي الثياب البيض ومنه بعض المالكية المرتفع منها الذي يتزين به وكذلك الجيد السواد.
والنبذة بضم النون: القطعة والشيء اليسير والقسط بضم القاف والأظفار نوعان من البخور وقد رخص فيه في الغسل من الحيض في تطييب المحل وإزالة كراهته.
4 - عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفنكحلها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا" - مرتين أو ثلاثا - ثم قال: "إنما هي أربعة أشهر وعشر وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول" فقالت زينب:
ـــــــ
1 البخاري "313" ومسلم في كتاب الطلاق "938" واللفظ له.(1/410)
كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها: دخلت حفشا ولبست شر ثيابها ولم تمس طيبا ولا شيئا حتى تمر بها سنة ثم تؤتي بدابة - حمار أو طير أو شاة - فتفتض به فقلما تفتض بشيء إلا مات ثم تخرج فتعطي بعرة فترمي بها ثم تراجع بعد ما شاءت من الطيب أو غيره"1.
الحفش: البيت الصغير, الحقير, وتفتض: تدلك به جسدها.
يجوز في قولها اشتكت عينها وجهان:
أحدهما: ضم النون على الفاعلية على أن تكون العين هي المشتكية.
والثاني: فتحها ويكون المشتكي من اشتكت ضمير الفاعل وهي المرأة وقد رجح هذا ووقع في بعض الروايات عيناها.
وقولها أفنكحلها بضم الحاء وقوله عليه السلام: "لا" يقتضي المنع من الكحل للحادة وإطلاقه يقتضي: أن لا فرق بين حالة الحاجة وغيرها إلا أنهم استثنوا حالة الحاجة وقد جاء في حديث آخر: "تجعله بالليل وتمسحه بالنهار"2 فحمل على حالة الحاجة وقيل: في قوله عليه السلام: "لا" وجهان:
أحدهما: أنه نهي تنزيه.
والثاني: أنه مؤول على أنه لم يتحقق الخوف على عينها.
وقوله عليه السلام: "إنما هي أربعة أشهر وعشر" تقليل للمدة وتهوين للصبر على ما منعت منه.
وقوله عليه السلام: "وقد كانت إحداكن ترمي بالبصرة عند رأس الحول" قد فسر في الحديث واختلفوا في وجه الإشارة فقيل: إنها رمت بالعدة وخرجت منها كانفصالها من هذه البعرة ورميها بها وقيل: هو إشارة إلى أن الذي فعلته وصبرت عليه من الاعتداد سنة ولبسها شر ثيابها ولزومها بيتا صغيرا: هين بالنسبة إلى حق الزوج وما يستحقه من المراعاة كما يهون الرمي بالبعرة.
وقولها: دخلت حفشا بكسر الحاء المهملة وسكون الفاء وبالشين المعجمة: أي بيتا صغيرا حقيرا قريب السمك.
وقولها: ثم تؤتي بدابة: حمار أو طير أو شاة هو بدل من دابة وقولها فتفتض به بفتح
ـــــــ
1 البخاري "5336 و 5337" ومسلم "1488 و1489".
2 أبو داود "2305ط والنسائي "3537" من حديث أم سلمة وفيه عند أبي داود "إنه يشيب الوجه فلا تجعليه إلا بالليل وتنزعه بالنهار".(1/411)
ثالث الحروف وسكون الفاء وآخره ضاد معجمة قال ابن قتيبة: سألت الحجازيين عن معنى الإفتضاض؟ فذكروا: أن المعتدة كانت لا تغتسل ولا تمس ماء ولا تقلم ظفرا ثم تخرج بعد الحول بأقبح منظر ثم تفتض أي تكسر ما هي فيه من العدة بطائر تمسح به قبلها وتنبذه فلا يكاد يعيش ما تفتض به وقال مالك: معناه تمسح به جلدها وقال ابن وهب: تمسح بيدها عليه أو على ظهره وقيل: معناه تمسح به ثم تفتض أي تغتسل والافتضاض الاغتسال بالماء العذب للاتقاء وإزالة الوسخ حتى تصير بيضاء نقية كالفضة في نقائها وبياضها وقال الأخفش: معناه تتنظف وتتنقى من الدرن تشبيها لها بالفضة في نقائها وبياضها وقيل: إن الشافعي روى هذه اللفظة بالقاف والصاد المهملة والباء ثاني الحروف والمعروف هو الأول.(1/412)
كتاب اللعان.
1 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "أن فلان بن فلان, قال: يا رسول الله أرأيت أن لو وجد أحدنا امرأته على فاحشة كيف يصنع؟ إن تكلم تكلم بأمر عظيم وإن سكت سكت على مثل ذلك قال: فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجبه فلما كان بعد ذلك أتاه فقال: إن الذي سألتك عنه قد ابتليت به فأنزل الله عز وجل هؤلاء الآيات في سورة النور: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] فتلاهن عليه ووعظه وذكره وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة فقال: لا والذي بعثك بالحق ما كذبت عليها ثم دعاها فوعظها وأخبرها: أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة فقالت: لا والذي بعثك بالحق إنه لكاذب فبدأ بالرجل فشهد أربع شهادات بالله: إنه لمن الصادقين والخامسة: أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ثم ثنى بالمرأة فشهدت أربع شهادات بالله: إنه لمن الكاذبين والخامسة: أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ثم فرق بينهما ثم قال: "إن الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب؟ - ثلاثا"1.
وفي لفظ: "لا سبيل لك عليها" قال: يا رسول الله مالي؟ قال: "لا مال لك إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها وإن كنت كذبت فهو أبعد لك منها" 2.
اللعان لفظة مشتقة من اللعن سميت بذلك لما في اللفظ من ذكر اللعنة.
وقوله: "أرأيت لو أن أحدنا" يحتمل أن يكون سؤالا عن أمر لم يقع فيؤخذ منه: جوز مثل ذلك والاستعداد للوقائع بعلم أحكامها قبل أن تقع وعليه استمر عمل الفقهاء فيما فرعوه وقرروه من النازل قبل وقوعها وقد كان السلف من يكره الحديث في الشيء قبل أن يقع ويراه من ناحية التكلف.
وقول الراوي: "فلما كان بعد ذلك: أتاه فقال: إن الذي سألتك عنه قد ابتليت به" يحتمل وجهين أحدهما: أن يكون السؤال عما لم يقع ثم وقع.
ـــــــ
1 البخاري "5311" ومسلم "1493".
2 البخاري "5350" ومسلم "1493" "5".(1/413)
والثاني: أن يكون السؤال أولا عما وقع وتأخر الأمر في جوابه فبين ضرورته إلى معرفة الحكم.
والحديث يدل على أن سؤاله سبب نزول الآية وتلاوة النبي صلى الله عليه وسلم لها عليه: لتعريف الحكم والعمل بمقتضاها وموعظة النبي صلى الله عليه وسلم: قد ذكر الفقهاء استحبابها عندما تريد المرأة أن تلفظ بالغضب وظاهر هذه الرواية: أنه لا يختص بالمرأة فإنه ذكره فيها وفي الرجل فلعل هذه موعظة عامة ولا شك أن الرجل متعرض للعذاب وهو حد القذف كما أن المرأة متعرضة للعذاب الذي هو الرجم إلا أن عذابها أشد.
وظاهر لفظ الحديث والكتاب العزيز: يقتضي تعيين لفظ الشهادة وذلك يقتضي أن لا تبدل بغيرها.
والحديث يقتضي أيضا: البداءة بالرجل وكذلك لفظ الكتاب العزيز لقوله تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} [النور: 8] إن الدرء يقتضي وجوب سبب العذاب عليها وذلك بلعان الزوج واختصت المرأة بلفظ الغضب لعظم الذنب بالنسبة إليها على تقدير وقوعه لما فه من تلويث الفراش والتعرض لإلحاق من ليس من الزوج به وذلك أمر عظيم يترتب عليه مفاسد كثيرة كانتشار المحرمية وثبوت الولاية على الإناث واستحقاق الأموال بالتوارث فلا جرم خصت بلفظة الغضب التي هي أشد من اللعنة ولذلك قالوا: لو أبدلت المرأة الغضب باللعنة: لم يكتف به أما لو أبدل الرجل اللعنة بالغضب: فقد اختلفوا فيه والأولى اتباع النص.
وفي الحديث: دليل على إجراء الأحكام على الظاهر وعرض التوبة على المذنبين وقد يؤخذ منه: أن الزوج لو رجع وأكذب نفسه: كان توبة ويجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أرشد إلى التوبة فيما بينهما وبين الله.
وقوله عليه السلام: "لا سبيل لك عليها" يمكن أن يؤخذ منه: وقوع التفريق بينهما باللعان لعموم قوله: "لا سبيل لك عليها" ويحتمل أن يكون "لا سبيل لك عليها" راجعا إلى المال.
وقوله: "إن كنت صادقا عليها فهو بما استحللت من فرجها" دليل على استقرار المهر بالدخول وعلى استقرار مهر الملاعنة أما هذا: فبالنص وأما الأول: فبتعليله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: "بما استحللت من فرجها" فيه دليل على أنه لا يستقر ولو أكذبت نفسها لوجود العلة المذكورة والله أعلم.
2 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "أن رجلا رمى امرأته وانتفى من ولدها في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلاعنا كما قال الله تعالى ثم قضى بالولد للمرأة وفرق بين المتلاعنين1.
هذه الرواية الثانية فيها زيادة نفي الولد وأنه يلتحق بالمرأة ويرثها بإرث البنوة منها,
ـــــــ
1 البخاري "5315" ومسلم "1494".(1/414)
وتثبت أحكام البنوة بالنسبة إليها ومفهومه يقتضي انقطاع النسب إلى الأب مطلقا وقد ترددوا فيما لو كانت بنتا هل يحل للملاعن تزوجها؟.
و قوله: "فتلاعنا كما قال الله تعالى" ليس فيه ما يشعر بذكر نفي الولد في لعانه إلا بطريق الدلالة فإن كتاب الله يقتضي أن يشهد أنه لمن الصادقين وذلك راجع إلى ما ادعاه ودعواه قد اشتملت على نفي الولد.
وقوله: "فرق بين المتلاعنين" يقتضي أن اللعان موجب للفرقة ظاهرا.
3 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل من بني فزارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن امرأتي ولدت غلاما أسودا, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هل لك إبل؟", قال: نعم قال: "فما ألوانها؟" قال: حمر قال: "فهل يكون فيها من أورق؟", قال: إن فيها لورقا, قال: "فأنى أتاها ذلك؟" قال: عسى أن يكون نزعه عرق, قال: "وهذا عسى أن يكون نزعة عرق" 1.
فيه ما يشعر بأن التعريض بنفي الولد لا يوجب حدا كما قيل وفيه نظر لأنه جاء على سبيل الاستفتاء والضرورة داعية إلى ذكره وإلى عدم ترتب الحد أو التعزير على المستفتين.
وفيه دليل على أن المخالفة في اللون بين الأب والابن - بالبياض والسواد - لا تبيح الانتفاء وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الحكم والتعليل وأجاز بعضهم في السواد الشديد مع البياض الشديد والورقة لون يميل إلى الغبرة كلون الرماد يسمى أورق والجمع ورق بضم الواو وسكون الراء.
واستدل به الأصوليون على العمل بالقياس فإن النبي صلى الله عليه وسلم حصل منه التشبيه لولد هذا الرجل المخالف للونه بولد الإبل المخالف لألوانها وذكر العلة الجامعة وهي نزع العرق إلا أنه تشبيه في أمر وجودي والذي حصلت المنازعة فيه: هو التشبيه في الأحكام الشرعية.
4 - عن عائشة رضي الله عنها قال: اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة في غلام فقال سعد: يا رسول الله هذا ابن أخي عتبة بن أبي وقاص عهد إلي أنه ابنه انظر إلى شبهه وقال عبد بن زمعة: هذا أخي يا رسول الله ولد على فراش أبي من وليدته فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شبهه فرأى شبها بينا بعتبة فقال: "هو لك يا عبد بن زمعة الولد للفراش وللعاهر الحجر واحتجبي منه يا سودة" فلم ير سودة قط2.
يقال زمعة بإسكان الميم وهو الأكثر ويقال زمعة بفتح الميم أيضا.
ـــــــ
1 البخاري "7314" ومسلم "1500".
2 البخاري "2218" ومسلم "1457".(1/415)
والحديث أصل في إلحاق الولد صاحب الفراش وإن طرأ عليه وطء محرم وقد استدل به بعض المالكية على قاعدة من قواعدهم وأصل من أصول المذهب وهو الحكم بين حكمين وذلك أن يكون الفرع يأخذ مشابهة من أصول متعددة: فيعطى أحكاما مختلفة ولا يمحض لأحد الأصول.
وبيانه من الحديث: أن الفراش مقتض لإلحاقه بزمعة والشبه البين مقتض لإلحاقه بعتبة فأعطي النسب بمقتضى الفراش وألحق بزمعة وروعي أمر الشبه بأمر سودة بالاحتجاب منه فأعطي الفرع حكما بين حكمين فلم يمحض أمر الفراش فتثبت المحرمية بينه وبين سودة ولا روعي أمر الشبه مطلقا فيلتحق بعتبة.
قالوا: وهذه أولى التقديرات فإن الفرع إذا دار بين أصلين فألحق بأحدهما مطلقا فقد أبطل شبهه الثاني من وكل وجه وكذلك إذا فعل بالثاني ومحض إلحاقه به: كان إبطالا لحكم شبهه بالأول فإذا ألحق بكل واحد منهما من وجه: كان أولى من إلغاء أحدهما من كل وجه.
ويعترض على هذا بأن صورة النزاع: ما إذا دار الفرع بين أصلين شرعيين يقتضي الشرع إلحاقه بكل واحد منهما من حيث النظر إليه وههنا لا يقتضي الشرع إلا إلحاق هذا الولد بالفراش والشبه ههنا غير مقتض للإلحاق شرعا فيحمل قوله: "واحتجبي منه يا سودة" على سبيل الاحتياط والإرشاد إلى مصلحة وجودية لا على سبيل بيان حكم شرعي ويؤكده: أنا لو وجدنا شبها في ولد لغير صاحب الفراش لم يثبت لذلك حكما وليس في الاحتجاب ههنا إلا ترك أمر مباح على تقدير ثبوت المحرمية وهو قريب.
وقوله عليه السلام: "هو لك" أي أخ وقوله عليه السلام: "الولد للفراش" أي تابع للفراش أو محكوم له للفراش أو يقارب هذا.
وقوله عليه السلام: "وللعاهر الحجر" قيل: إن معناه: أن له الخيبة مما ادعاه وطلبه كما يقال: لفلان التراب وكما جاء في الحديث الصحيح: "وإن جاء يطلب ثمن الكلب فاملأ كفه ترابا" تعبيرا بذلك عن خيبته: وعدم استحقاقه لثمن الكلب وإنما لم يجروا اللفظ على ظاهره ويجعلوا الحجر ههنا عبارة عن الرجم المستحق في حق الزاني: لأنه ليس كل عاهر يستحق الرجم وإنما يستحقه المحصن فلا يجرى لفظ العاهر على ظاهره في العموم أما إذا حملناه على ما ذكرناه من الخيبة: كان ذلك عاما في حق كل زان والأصل العمل بالعموم فيما تقتضيه صيغته.
5 - عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل علي مسرورا تبرق أسارير وجهه فقال: "ألم ترى أن مجززا نظرا آنفا إلى زيد بن حارثة وأسامة بن(1/416)
زيد فقال: إن بعض هذه الأقدام لمن بعض" 1.
وفي لفظ: "كان مجزز قائفا"2.
أسارير وجهه تعني الخطوط التي في الجبهة واحدها سرر وسرر وجمعه أسرار وجمع الجمع أسارير وقال الأصمعي: الخطوط التي تكون في الكف مثلها السرر - بفتح السين والراء - والسرر - بكسر السين.
استدل به فقهاء الحجاز ومن تبعهم على أصل من أصولهم وهو العمل بالقيافة حيث يشتبه إلحاق الولد بأحد الواطئين فهو طهر واحد لا في كل الصور بل في بعضها.
ووجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم سر بذلك وقال الشافعي رحمه الله: ولا يسر بباطل وخالفه أبو حنيفة وأصحابه واعتذارهم عن الحديث: أنه لم يقع فيه إلحاق متنازع فيه ولا هو وارد في محل النزاع فإن أسامة كان لاحقا بفراش زيد من غير منازع له فيه وإنما كان الكفار يطعنون في نسبه للتباين بين لونه ولون أبيه في السواد والبياض فلما غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما وألحق مجزز أسامة بزيد: كان ذلك إبطالا لطعن الكفار بسبب اعترافهم بحكم القيافة وإبطال طعنهم حق فلم يسر النبي صلى الله عليه وسلم إلا بحق.
والأولون يجيبون: بأنه - وإن كان ذلك واردا في صورة خاصة - إلا أنه له جهة عامة وهي دلالة الأشباه على الأنساب فنأخذ هذه الجهة من الحديث ونعمل بها.
واختلف مذهب الشافعي في أن القيافة: هل تختص ببني مدلج أم لا؟ من حيث إن المعتبر في ذلك الأشباه وذلك غير خاص بهم أو يقال: إن لهم في ذلك قوة ليست لغيرهم ومحل النص إذا اختص بوصف يمكن اعتباره لم يمكن إلغاؤه لاحتمال أن يكون مقصودا للشارع.
و مجزز بضم الميم وفتح الجيم وكسر الزاي المشددة المعجمة وبعدها زاي معجمة.
واختلف مذهب الشافعي أيضا في أنه هل يعتبر العدد في القائف أم يكتفي القائف الواحد؟ فإن مجززا انفرد بهذه القيافة ولا يرد على هذا لأنه ليس من محال الخلاف وإذا أخذ من هذا الحديث: الاكتفاء بالقائف الواحد فليس من محال الخلاف كما قدمنا.
وقوله آنفا أي في الزمن القريب من القول وقد ترك في هذه الرواية ذكر تغطية أسامة وزيد رؤوسهما وظهور أقدامهما3 وهي زيادة مفيدة جدا لما فيها من الدلالة على صدق القيافة وكان يقال: إن من علوم العرب ثلاثة: السيافة والعيافة والقيافة فأما السيافة: فهي شم تراب الأرض ليعلم بها الاستقامة على الطريق أو الخروج منها قال المعري:
ـــــــ
1 البخاري "6770" ومسلم "1459" "38".
2 مسلم "1459" "40".
3 أخرج هذه الزيادة مسلم "1459" "39" ولفظه: "يا عائشة ألم تري أن مجززا المدلجي دخل على فرأى أسامة وزيدا وعليهما قطيفة قد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض".(1/417)
أودي فليت الحادثات كفاف ... مال المسيف وعنبر المستاف
و المستاف هو هذا القاص وأما العيافة: فهي زجر الطير والطيرة والتفاؤل بهما وما قارب ذلك وأما السانح والبارح: ففي الوحش وفي الحديث: "العيافة والطيرة والطَرْقُ من الجبت" 1 وهو الرمي بالحصا.
وأما القيافة: فهي ما نحن فيه وهو اعتبار الأشباه لإلحاق الأنساب.
6 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: ذكر العزل لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ولم يفعل ذلك أحدكم؟" - ولم يقل: فلا يفعل ذلك أحدكم "فإنه ليست نفس مخلوقة إلا الله خالقها" 2.
اختلف الفقهاء في حكم العزل فأباحه بعضهم مطلقا وقيل: فيه: إذا جاز ترك أصل الوطء جاز ترك الإنزال ورجح هذا بعض أصحاب الشافعي ومن الفقهاء من كرهه في الحرة إلا بإذنها وفي الزوجة إلا بإذن السيد لحقهما في الولد ولم يكرهه في السراري لما في ذلك - أعني الإنزال - من التعرض لإتلاف المالية وهذا مذهب المالكية.
وفي الحديث إشارة إلى إلحاق الولد وإن وقع العزل وهو مذهب أكثر الفقهاء.
7 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "كنا نعزل والقرآن ينزل".
قال سفيان: "لو كان شيئا ينهى عنه لنهانا عنه القرآن"3.
يستدل به من يجيز العزل مطلقا واستدل جابر بالتقرير من الله تعالى على ذلك وهو استدلال غريب وكان يحتمل أن يكون الاستدلال بتقرير الرسول صلى الله عليه وسلم لكنه مشروط بعلمه بذلك ولفظ الحديث لا يقتضي إلا الاستدلال بتقرير الله تعالى.
8 - عن أبي ذر رضي الله عنه: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليس من رجل ادعى لغير أبيه - وهو يعلمه - إلا كفر ومن ادعى ما لي له: فليس منا وليتبوأ مقعده من النار ومن دعا رجلا بالكفر", أو قال: "عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه".
كذا عند مسلم4 وللبخاري نحوه5.
ـــــــ
1 أحمد "15915" وأبو داود "3907" قال محققو المسند إسناده ضعيف.
2 البخاري "7409" ومسلم "1438" "132" واللفظ له.
3 البخاري "5208" ومسلم "1440" "132 وليس في البخاري قول سفيان لو كان شيئا.
4 مسلم "61".
5 البخاري "3508" ولفظه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر ومن ادعى قوما ليس له فيهم فليتبوأ مقعده من النار"
كما أخرج البخاري "6045" عن أبي ذر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يرمي رجل رجلا بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك".(1/418)
يدل على تحريم الانتفاء من النسب المعروف والاعتزال إلى نسب غيره ولا شك أن ذلك كبيرة لما يتعلق به من المفاسد العظيمة وقد نبهنا على بعضها فيما مضى وشرط الرسول صلى الله عليه وسلم العلم لأن الأنساب قد تتراخى فيها مدد الآباء والأجداد ويتعذر العلم بحقيقتها وقد يقع اختلال في النسب في الباطن من جهة النساء ولا يشعر به فشرط العلم لذلك.
وقوله: "إلا كفر" متروك الظاهر عند الجمهور فيحتاجون إلى تأويله وقد يؤول بكفر النعمة أو بأنه أطلق عليه "كفر" لأنه قارب الكفر لعظم الذنب فيه تسمية للشيء باسم ما قاربه أو يقال: بتأويله على فاعل ذلك مستحلا له.
وقوله عليه السلام: "من ادعى ما ليس له" يدخل فيه الدعاوى الباطلة كلها ومنها: دعوى المال بغير حق وقد جعل الوعيد عليه بالنار لأنه لما قال: "فليتبوأ مقعده من النار" اقتضى ذلك تعيين دخوله النار لأن التخيير في الأوصاف فقط يشعر بثبوت الأصل.
وأقول: إن هذا الحديث يدخل تحته ما ذكره بعض الفقهاء في الدعاوى من نصب مسخر يدعي في بعض الصور حفظا لرسم الدعوى والجواب وهذا المسخر يدعي ما يعلم أنه ليس له والقاضي الذي يقيمه عالم بذلك أيضا وليس حفظ هذه القوانين من المنصوصات في الشرع حتى يخص بها هذا العموم والمقصود الأكبر في القضاء إيصال الحق إلى مستحقه فانخرام هذه المراسم الحكمية مع تحصيل مقصود القضاء وعدم تنصيص صاحب الشرع على وجوبها: أولى من مخالفة هذا الحديث والدخول تحت الوعيد العظيم الذي دل عليه وهذه طريقة أصحاب مالك أعني عدم التشديد في هذه المراسيم.
وقوله عليه السلام: "فليس منا" أخف مما مضى فيمن ادعى إلى غير أبيه لأنه أخف في المفسدة من الأولى إذا كانت الدعوى بالنسبة إلى المال وليس في اللفظ ما يقتضي الزيادة على الدعوى بأخذ المال المدعى به مثلا وقد يدخل تحت هذا اللفظ: الدعاوي الباطلة في العلوم إذا ترتبت عليها مفاسد.
وقوله: "فليس منا" قد تأوله بعض المتقدمين في غير هذا الوضع بأن قال: ليس مثلنا فرارا من القول بكفره وهذا كما يقول الأب لولده - إذا أنكر منه أخلاقا أو أعمالا - لست مني وكأنه من باب نفي الشيء لانتفاء ثمرته فإن المطلوب أن يكون الابن مساويا للأب فيما يريده من الأخلاق الجميلة فلما انتفت هذه الثمرة نفيت البنوة مبالغة وأما من وصف غيره.(1/419)
بالكفر: فقد رتب عليه الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: "حار عليه" بالحاء المهملة: أي رجع قال الله تعالى: {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} [الانشقاق:14] أي يرجع حيا وهذا وعيد عظيم لمن أكفر أحدا من المسلمين وليس كذلك هي ورطة عظيمة وقع فيها خلق كثير من المتكلمين ومن المنسوبين إلى السنة وأهل الحديث لما اختلفوا في العقائد فغلظوا على مخالفيهم وحكموا بكفرهم وخرق حجاب الهيبة في ذلك جماعة من الحشوية وهذا الوعيد لاحق بهم إذا لم يكن خصومهم كذلك.
وقد اختلف الناس في التكفير وسببه حتى صنف فيه مفردا والذي يرجع إليه النظر في هذا: أن مآل المذهب: هل هو مذهب أو لا؟ فمن أكفر المبتدعة قال: إن مآل المذهب مذهب فيقول: المجسمة كفار لأنه عبدوا جسما وهو غير الله تعالى فهم عابدون لغير الله ومن عبد غير الله كفر ويقول: المعتزلة كفار لأنهم - وإن اعترفوا بأحكام الصفات - فقد أنكروا الصفات ويلزم من إنكار الصفات إنكار أحكامها ومن أنكر أحكامها فهو كافر وكذل المعتزلة تنسب الكفر إلى غيرها بطريق المآل.
والحق: أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة إلا بإنكار متواتر من الشرعية عن صاحبها فإنه حينئذ يكون مكذبا للشرع وليس مخالفة القواطع مأخذا للتكفير وإنما مأخذه مخالفة القواعد السمعية القطعية طريقا ودلالة.
وعبر بعض أصحاب الأصول عن هذا بما معناه: إن من أنكر طريق إثبات الشرع لم يكفر كمن أنكر الإجماع ومن أنكر الشرع بعد الاعتراف بطريقة كفر لأنه مكذب وقد نقل عن بعض المتكلمين أنه قال: لا أكفر إلا من كفرني وربما خفي سبب هذا القول على بعض الناس وحمله على غير محمله الصحيح والذي ينبغي أن يحمل عليه: أنه قد لمح هذا الحديث الذي يقتضي أن من دعا رجلا بالكفر - وليس كذلك - رجع عليه الكفر وكذلك قال عليه السلام: "من قال لأخيه: كافر: فقد باء بهما أحدهما" 1 وكأن هذا المتكلم يقول: الحديث دل على أنه يحصل الكفر لأحد الشخصين: إما المكفر أو المكفر فإذا أكفرني بعض الناس فالكفر واقع بأحدنا وأنا قاطع بأني لست بكافر فالكفر راجع إليه.
ـــــــ
1- البخاري "6103", مسلم "60" من حديث ابن عمر(1/420)
كتاب الرضاع.
1 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في بنت حمزة: "لا تحل لي يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب وهي ابنة أخي من الرضاعة" 1.
صريحه: يدل على أن بنت الأخ من الرضاعة حرام وقوله عليه السلام: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" الحرام من النسب سبع: الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت فيحرمن بالرضاع كما يحرم من النسب.
فأمك كل من أرضعتك أو أرضعت من أرضعتك أو أرضعت من ولدتك بواسطة أو بغير واسطة وكذلك كل امرأة ولدت المرضعة والفحل.
وكل امرأة أرضعت بلبنك أو أرضعتها امرأة ولدتها أو أرضعت بلبن من ولدته فهي بنتك وكذلك بناتها من النسب والرضاع.
وكل امرأة أرضعتها أمك أو أرضعت بلبن أبيك فهي أختك وكذلك كل امرأة ولدتها المرضعة أو الفحل فأخوات الفحل والمرضعة وأخوات من ولدتها من النسب والرضاع عماتك وخالاتك.
وكذلك كل امرأة أرضعتها واحدة من جداتك أو أرضعت بلبن واحد من أجدادك من النسب أو الرضاع وبنات أولاد المرضعة والفحل في الرضاع والنسب بنات أخيك وأختك وكذلك كل أنثى أرضعتها أختك أو أرضعت بلبن وبناتها وبنات أولادها من الرضاع والنسب بنات أختك وبنات كل ذكر أرضعته أمك أو أرضع بلبن أخيك أو أختك وبنات أولادهن من الرضاع والنسب بنات أخيك وبنات كل امرأة أرضعتها أمك أو أرضعت بلبن أبيك وبنات أولادها من النسب والرضاع أو أختك.
وقد استثنى الفقهاء من هذا العموم أعني قوله عليه السلام: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" أربع نسوة يحرمن من النسب ولا يحرمن من الرضاع.
الأولى: أم أخيك وأم أختك من النسب هي أمك أو زوجة أبيك وكلاهما حرام ولو أرضعت أجنبية أخاك أو أختك لم تحرم.
ـــــــ
1 البخاري "2645" ومسلم "1447" واللفظ للبخاري.(1/421)
الثانية: أم نافلتك إما بنتك أو زوجة ابنك وهما حرام وفي الرضاع قد لا تكون بنتا ولا زوجة ابن بأن ترضع أجنبية نافلتك.
الثالثة: جدة ولدك من النسب: إما أمك أو أم زوجتك وهما حرامان وفي الرضاعة قد لا تكون أما ولا أم زوجة كما إذا أرضعت أجنبية ولدك فأمها جدة ولدك وليست بأمك ولا أم زوجتك.
الرابعة: أخت ولدك من النسب حرام لأنها إما ابنتك أو ربيبتك ولو أرضعت أجنبية ولدك فبنتها أخت ولدك وليست ببنت ولا ربيبة فهذه الأربع مستثنيات من عموم قولنا: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب".
وأما أخت الأخ فلا تحرم من النسب ولا من الرضاع وصورته أن يكون لك أخ من أب وأم وأخت من أم فيجوز لأخيك من الأب نكاح أختك من الأم وهي أخت أخيه وصورته من الرضاع امرأة أرضعتك وأرضعت صغيرة أجنبية منك يجوز لأخيك نكاحها وهي أختك.
و في معنى هذا الحديث: حديث عائشة الذي بعده وهو قوله عليه السلام: "إن الرضاعة تحرم ما يحرم من الولادة" وهو:
2 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الرضاعة تحرم ما يحرم من الولادة" 1.
3 - وعنها قالت: "إن أفلح - أخا أبي القعيس - استأذن علي بعدما أنزل الحجاب؟ فقلت: والله لا آذن له حتى أستأذن النبي صلى الله عليه وسلم فإن أخا القعيس ليس هو أرضعني ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إن الرجل ليس هو أرضعني ولكن أرضعتني امرأته فقال: "ائذني له فإنه عمك تربت يمينك".
قال عروة: فبذلك كانت عائشة تقول: حرموا من الرضاعة ما يحرم من النسب2.
وفي لفظ: "استأذن علي أفلح فلم آذن له فقال: أتحتجبين مني وأنا عمك؟ فقلت: كيف ذلك؟ قال: أرضعتك امرأة أخي بلبن أخي قالت: فسألت رسول الله عليه وسلم فقال: "صدق أفلح ائذني له تربت يمينك" 3.
أي افتقرت والعرب تدعو على الرجل ولا تريد وقوع الأمر به.
ـــــــ
1 البخاري "2646" ومسلم "1444".
2 البخاري "4796" ومسلم "1445" "5" بألفاظ متقاربة.
3 البخاري "2647" ومسلم "1455" "32".(1/422)
4 - و عنها رضي الله عنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي رجل فقال: "يا عائشة من هذا؟" قلت: أخي من الرضاعة, فقال: "يا عائشة انظرن من إخوانكن فإنما الرضاعة من المجاعة" 1.
"انظرن من إخوانكن" نوع من التعريض لخشية أن تكون رضاعة ذلك الشخص وقعت في حال الكبر.
وفيه دليل على أن كلمة إنما للحصر لأن المقصود حصر الرضاعة المحرمة في المجاعة لا مجرد إثبات الرضاعة في زمن المجاعة.
5 - عن عقبة بن الحارث رضي الله عنه: أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب فجاءت أمة سوداء فقالت: قد أرضعتكما فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قال: فأعرض عني قال: فتنحيت فذكرت ذلك له قال: "كيف؟ وقد زعمت أن قد أرضعتكما" 2.
من الناس من قال: إنه تقبل شهادة المرضعة وحدها في الرضاع أخذا بظاهر هذا الحديث ولا بد فيه مع ذلك أيضا إذا أجريناه على ظاهره من قبول شهادة الأمة ومنهم من لم يقبل ذلك وحمل هذا الحديث على الورع ويشعر به قوله عليه السلام: "كيف وقد قيل؟" والورع في مثل هذا متأكد.
و عقبة بن الحرث هو أبو سروعة بكسر السين المهملة وسكون الراء وفتح الواو والعين المهملة والله أعلم.
6 - عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني من مكة - فتبعتهم ابنة حمزة تنادي: يا عم فتناولها علي فأخذ بيدها وقال لفاطمة دونك ابنة عمك فاحتملتها فاختصم فيها علي وجعفر وزيد فقال علي: أنا أحق بها وهي ابنة عمي وقال جعفر: ابنة عمي وخالتها تحتي وقال زيد: ابنة أخي فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالتها وقال: "الخالة بمنزلة الأم" وقال لعلي: "أنت مني وأنا منك" وقال لجعفر: "أشبهت خلقي وخلقي" وقال لزيد: "أنت أخونا ومولانا" 3.
الحديث أصل في باب الحضانة وصريح في أن الخالة فيها كالأم عند عدم الأم وقوله
ـــــــ
1 البخاري "2647" ومسلم "1455" "32".
2 البخاري "2659" ولم يخرجه مسلم.
3 البخاري "2699" وقصة ابنة حمزة جاءت في سياق حديث صلح الحديبية والإمام مسلم أخرج حديث صلح الحديبية "1783" دون قصة ابنة حمزة.(1/423)
عليه السلام: "الخالة بمنزلة الأم" سياق الحديث يدل على أنها بمنزلتها في الحضانة وقد يستدل بإطلاقه أصحاب التنزيل على تنزيلها منزلة الأم في الميراث إلا أن الأول أقوى فإن السياق طريق إلى بيان المجملات وتعيين المحتملات وتنزيل الكلام على المقصود منه وفهم ذلك قاعدة كبيرة من قواعد أصول الفقه ولم أر من تعرض لها في أصول الفقه بالكلام عليها وتقرير قاعدتها مطولة إلا بعض المتأخرين ممن أدركنا أصحابهم وهي قاعدة متعينة على الناظر وإن كانت ذات شغب على المناظر.
و الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء الجماعة من الكلام المطيب لقلوبهم من حسن أخلاقه صلى الله عليه وسلم.
و لعلك تقول: أما ما ذكره لعلي وزيد فقد ظهرت مناسبته لأن حرمانهما من مرادهما مناسب لجبرهما بذكر ما يطيب قلوبهم وأما جعفر: فإنه حصل له مراده من أخذ الصبية فكيف ناسب ذلك جبره بما قيل له؟.
فيجاب عن ذلك بأن الصبية استحقتها الخالة والحكم بها لجعفر بسبب الخالة لا بسبب نفسه فهو في الحقيقة غير محكوم له بصفته فناسب ذلك جبره بما قيل له.(1/424)
كتاب القصاص.
1 - عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة" 1.
وهؤلاء الثلاثة مباحو الدم بالنص وقوله عليه السلام: "يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله" كالتفسير لقوله: "مسلم" وكذلك: "المفارق للجماعة" كالتفسير لقوله: "التارك لدينه" والمراد بالجماعة جماعة المسلمين وإنما فراقهم بالردة عن الدين وهو سبب لإباحة دمه بالإجماع في حق الرجل واختلف الفقهاء في المرأة هل تقتل بالردة أم لا؟ ومذهب أبي حنيفة لا تقتل ومذهب غيره تقتل.
و قد يؤخذ من قوله: "المفارق للجماعة" بمعنى المخالف لأهل الإجماع فيكون متمسكا لمن يقول: مخالف الإجماع كافر وقد نسب ذلك لبعض الناس وليس ذلك بالهين وقد قدمنا الطريق في التفكير.
فالمسائل الإجماعية تارة يصحبها التواتر بالنقل عن صاحب الشرع كوجوب الصلاة مثلا وتارة لا يصحبها التواتر.
فالقسم الأول: يكفر جاحده لمخالفته التواتر لا لمخالفته الإجماع.
والقسم الثاني: لا يكفر به وقد وقع في هذا المكان من يدعي الحذق في المعقولات ويميل إلى الفلسفة فظن أن المخالفة في حدوث العالم من قبيل مخالفة الإجماع وأخذ من قوله من قال إنه لا يكفر مخالف الإجماع أن لا يكفر هذا المخالف في هذه المسألة وهذا كلام ساقط بالمرة إما عن عمى في البصيرة أو تعام لأن حدوث العالم من قبيل ما اجتمع فيه الإجماع والتواتر بالنقل عن صاحب الشريعة فيكفر المخالف بسبب مخالفته النقل المتواتر لا بسبب مخالفته الإجماع.
وقد استدل بهذا الحديث على أن تارك الصلاة لا يقتل بتركها فإن ترك الصلاة ليس من هذه الأسباب أعني زنا المحصن وقتل النفس والردة وقد حصر النبي صلى الله عليه وسلم إباحة الدم في هذه
ـــــــ
1 البخاري "6878" ومسلم "1676".(1/425)
الثلاثة وبذلك استدل شيخ والدي الإمام الحافظ أبو الحسن علي بن المفضل المقدسي في أبياته التي نظمها في حكم تارك الصلاة أنشدنا الفقيه المفتي أبو موسى هارون بن عبد الله المهراني قديما قال: أنشدنا الحافظ أبو الحسن علي بن المفضل المقدسي لنفسه:
خسر الذي ترك الصلاة وخابا ... وأبى معادا صالحا ومآبا
إن كان يجحدها فحسبك أنه ... أمسى بربك كافرا مرتابا
أو كان يتركها لنوع تكاسل ... غطى على وجه الصواب حجابا
فالشافعي ومالك رأيا له ... إن لم يتب حد الحسام عقابا
وأبو حنيفة قال: يترك مرة ... هملا ويحبس مرة إيجابا
والظاهر المشهور من أقواله ... تعزيزه زجرا له وعقابا
إلى أن قال:
والرأي عندي أن يؤدبه الإما ... م بكل تأديب يراه صوابا
و يكف عنه القتل طول حياته ... حتى يلاقي في المآب حسابا
فالأصل عصمته إلى أن يمتطي ... إحدى الثلاث إلى الهلاك ركابا
الكفر أو قتل المكافي عامدا ... أو محصن طلب الزنا فأصابا
فهذا من المنسوبين إلى اتباع مالك اختار خلاف مذهبه في ترك قتله وإمام الحرمين أبو المعالي الجويني استشكل قتله في مذهب الشافعي أيضا.
وجاء بعض المتأخرين ممن أدركنا زمنه1 فأراد أن يزيل الإشكال فاستدل بقوله عليه السلام: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة" 2 ووجه الدلالة منه: أنه وقف العصمة على مجموع الشهادتين وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والمرتب على أشياء لا يحصل إلا بحصول مجموعها وينتفي بانتفاء بعضها.
وهذا إن قصد الاستدلال بالمنطوق وهو قوله عليه السلام: "أمرت أن أقاتل الناس حتى" الخ فإنه يقتضي بمنطوقه: الأمر بالقتال إلى هذه الغاية فقد وهل وسها لأنه فرق بين المقاتلة على الشيء والقتل عليه فإن المقاتلة مفاعلة تقتضي الحصول من الجانبين ولا يلزم من إباحة المقاتلة على الصلاة - إذا قوتل عليها - إباحة القتل عليها من الممتنع عن فعلها إذا لم يقاتل,
ـــــــ
1 قال الدمانيني في المصابيح أظنه الشيخ قاضي القضاة ناصر الدين بن المنير.
2 البخاري "25" ومسلم "22".(1/426)
ولا إشكال بأن قوما لو تركوا الصلاة ونصبوا القتال عليها: أنهم يقاتلون إنما النظر والخلاف فيما إذا تركوا إنسان من غير نصب قتال هل يقتل أم لا؟ فتأمل الفرق بين المقاتلة على الصلاة والقتل عليها وأنه لا يلزم من إباحة المقاتلة عليها إباحة القتل عليها.
و إن كان أخذ هذا من لفظ حديث آخر الحديث وهو ترتيب العصمة على فعل ذلك: فإنه يدل بمفهومه على أنها لا تترتب بفعل بعضه: هان الخطب لأنها دلالة مفهوم والخلاف فيها معروف مشهور وبعض من ينازعه في هذه المسألة لا يقول بدلالة المفهوم ولو قال بها فقد رجح عليها دلالة المنطوق في هذا الحديث.
2 - عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء" 1.
هذا تعظيم لأمر الدماء فإن البداءة تكون بالأهم فالأهم وهي حقيقة بذلك فإن الذنوب تعظم بحسب عظم المفسدة الواقعة بها أو بحسب فوات المصالح المتعلقة بعدمها وهدم البنية الإنسانية من أعظم المفاسد ولا ينبغي أن يكون بعد الكفر بالله تعالى أعظم منه ثم يحتمل من حيث اللفظ أن تكون هذه الأولية مخصوصة بما يقع فيه الحكم بين الناس ويحتمل أن تكون عامة في أولية ما يقضى فيه مطلقا ومما يقوي الأول: ما جاء في الحديث: "إن أول ما يحاسب به العبد صلاته" 2.
3 - عن سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه قال: انطلق عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود إلى خيبر وهي يومئذ صلح فتفرقا فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط3 في دمه قتيلا فدفنه ثم قدم إلى المدينة فانطلق عبد الرحمن بن سهل ومحيصة وحويصة ابنا مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذهب عبد الرحمن يتكلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كبر كبر - وهو أحدث لقوم - فسكت فتكلما فقال: "أتحلفون وتستحقون قاتلكم أو صاحبكم" قالوا: وكيف نحلف ولم نشهد ولم نر؟ قال: "فتبرئكم يهود بخمسين يمينا" قالوا: كيف بأيمان قوم كفار؟ فعقله النبي صلى الله عليه وسلم من عنده"4.
و في حديث حماد بن زيد: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقسم خمسون منكم على رجل منهم,
ـــــــ
1 البخاري "6533" ومسلم "1678".
2 الترمذي "413" والنسائي "465" وابن ماجه "1425" من حديث أبي هريرة.
قال الترمذي حديث أبي هريرة حديث حسن غريب.
3 يتشحط أي يتخبط فيه ويضطرب ويتمرغ.
4 البخاري "3173" ومسلم "1669" "1 و2".(1/427)
فيدفع برمته" قالوا: أمر لم نشهده كيف نحلف؟ قالوا: "فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم؟" قالوا: يا رسول الله قوم كفار, فوداه رسول الله صلى الله عليه و سلم من عنده1.
و في حديث سعيد بن عبيد: "فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبطل دمه فواده بمائة من إبل الصدقة"2.
فيه مسائل:
الأولى: حثمة بفتح الحاء المهملة وسكون الثاء المثلثة وحويصة بضم الحاء المهملة وسكون الياء وقد تشدد مكسورة ومحيصة بضم الميم وفتح الحاء المهملة وسكون الياء وقد تشدد.
الثانية: هذا الحديث أصل في القسامة وأحكامها.
والقسامة بفتح القاف: هي اليمين التي يحلف بها المدعي للدم عند اللوث وقيل: إنها في اللغة: اسم للأولياء الذين يحلفون على دعوى الدم وموضع جريان القسامة: أن يوجد قتيل لا يعرف قاتله ولا تقوم عليه بينة ويدعي ولي القتيل قتله على واحد أو جماعة ويقترن بالحال: ما يشعر بصدق الولي على تفصيل في الشروط عند الفقهاء أو بعضهم ويقال له اللوث فيحلف على ما يدعيه.
الثالثة: قد ذكرنا اللوث ومعناه وفرع الفقهاء له صورا منها: وجدان القتيل في محلة أو قرية بينه وبين أهلها عداوة ظاهرة ووصف بعضهم القرية ههنا: بأن تكون صغيرة واشترط أن لا يكون معهم ساكن من غيرهم لاحتمال أن القتل من غيرهم حينئذ.
الرابعة: في الحديث: "وهو يتشحط في دمه قتيلا" وذلك يقتضي وجود الدم صريحا والجراحة ظاهرة ولم يشترط الشافعية في اللوث لا جراحة ولا دما وعن أبي حنيفة: أنه إن لم تكن جراحة ولا دم فلا قسامة وإن وجدت الجراحة ثبتت القسامة: وإن وجد الدم دون الجراحة فإن خرج من أنفه: فلا قسامة وإن خرج من الفم أو الأذن ثبتت القسامة هكذا حكي واستدل الشافعية بأن القتل قد يحصل بالخنق وعصر الخصية والقبض على مجرى النفس فيقوم أثرهما مقام الجراحة.
الخامسة: عبد الرحمن بن سهل هو أخو القتيل ومحيصة وحويصة ابنه مسعود: ابنا عمه وأمر النبي صلى الله عليه و سلم بالكبر بقوله: "كبر كبر" فيقال في هذا: إن الحق لعبد الرحمن لقربه.
ـــــــ
1 مسلم "1669" "2".
2 البخاري "6898" ومسلم "1669" "5".(1/428)
والدعوى له فكيف عدل عنه؟ وقد يجاب عن هذا بأن الكلام ليس هو حقيقة الدعوى التي يترتب عليها الحكم بل هو كلام لشرح الواقعة وتبيين حالها أو يقال: إن عبد الرحمن يفوض الكلام والدعوى إلى من هو أكبر منه.
السادسة: مذهب أهل الحجاز أن المدعي في محل القسامة يبدأ به في اليمين كما اقتضاه الحديث ونقل عن أبي حنيفة خلافه وكأنه قدم المدعي ههنا - على خلاف قياس الخصومات - بما انضاف إلى دعواه من شهادة اللوث مع عظم قدر الدماء ولينبه على أنه ليس كل واحد من هذين المعنيين بعلة مستقلة بل ينبغي أن يجعل كل واحد جزء علة.
السابعة: اليمين المستحقة في القسامة خمسون يمينا وتكلم الفقهاء في علة تعدد اليمين في جانب المدعي فقيل لأن تصديقه على خلاف الظاهر فأكد بالعدد وقيل: سببه تعظيم شأن الدم وبني على العلتين: ما إذا كانت الدعوى في غير محل اللوث وتوجهت اليمين على المدعى عليه ففي تعددها خمسين: قولان للشافعي.
الثامنة: قوله عليه السلام: "فتبرئكم يهود بخمسين يمينا" فيه دليل على أن المدعي في محل القسامة إذا نكل: أنه تغلظ اليمين بالتعداد على المدعي عليه وفي هذه المسألة طريقان:
إحداهما: إجراء قولين فإن نكوله يبطل اللوث فكأنه لا لوث.
والثانية - وهي الأصح - القطع بالتعدد للحديث فإنه جعل أيمان المدعي عليهم كأيمان المدعين.
التاسعة: قوله: "و تستحقون قاتلكم أو صاحبكم" وفي رواية: "دم صاحبكم" يستدل به من يرى القتل بالقسامة وهو مذهب مالك وللشافعي قولان: إذا وجد ما يقتضي القصاص في الدعوى والمكافأة في القتل.
أحدهما: كمذهب مالك وهو قديم قوليه تشبيها لهذه اليمين باليمين المردودة.
والثاني - وهو جديد قوليه - أن لا يتعلق بها قصاص واستدل له من الحديث بقوله عليه السلام: "إما أن يدوا صاحبكم وإما أن تؤذنوا بحرب" 1 فإنه يدل على أن المستحق دية لا قود ولأنه لم يتعرض للقصاص والاستدلال بالرواية التي فيها: "فيدفع برمته" أقوى من الاستدلال بقوله عليه السلام: "فتستحقون دم صاحبكم" لأن قولنا يدفع برمته يستعمل في دفع القاتل للأولياء للقتل ولو أن الواجب الدية لتبعد استعمال هذا اللفظ فيها وهو في استعماله في تسليم القاتل أظهر والاستدلال بقوله: "دم صاحبكم" أظهر من الاستدلال بقوله: "فتستحقون قاتلكم أو
ـــــــ
1 مسلم "1669" "6" من حديث سهل بن حثمة.(1/429)
صاحبكم" لأن هذا اللفظ الأخير لا بد فيه من إضمار فيحتمل أن يضمر "دية صاحبكم" احتمالا ظاهرا وأما بعد التصريح بالدم: فتحتاج إلى تأويل اللفظ بإضمار بدل صاحبكم والإضمار على خلاف الأصل ولو احتيج إلى إضمار: لكان حمله على ما يقتضي إراقة الدم أقرب والمسألة مستشنعة عند المخالفين لهذا المذهب أو بعضهم فربما أشار بعضهم إلى احتمال أن يكون: "دم صاحبكم" هو القتيل لا القاتل ويردده قوله: "دم صاحبكم أو قاتلكم".
العاشرة: لا يقتل بالقسامة عند مالك إلا واحد خلافا للمغيرة بن عبد الرحمن من أصحابه وقد يستدل لمالك بقوله عليه السلام: "يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته" فإنه لو قتل أكثر من واحد لم يتعين أن يقسم على واحد منهم.
الحادية عشرة: قوله: "برمته" مضموم الراء المهملة مشدد الميم المفتوحة وهو مفسر بإسلامه للقتل وفي أصله في اللغة قولان:
أحدهما: أن الرمة حبل يكون في عنق البعير فإذا قيد أعطي به.
والثاني: أنه حبل يكون في عنق الأسير فإذا أسلم للقتل سلم به.
الثانية عشرة: إذا تعدد المدعون في محل القسامة ففي كيفية أيمانهم قولان للشافعي.
أحدهما: أن كل واحد يحلف خمسين يمينا الثاني: أن الجميع يحلفون خمسين يمينا وتوزع الأيمان عليهم وإن وقع كسر تمم فلو كان الوارث اثنين مثلا حلف كل واحد خمسة وعشرين يمينا وإن اقتضى التوزيع كسرا في صورة أخرى - كما إذا كانوا ثلاثة - كملنا الكسر فحلف سبعة عشر يمينا.
الثالثة عشر: قوله عليه السلام: "يحلف خمسون منكم" قد يؤخذ منه مسألة ما إذا كانوا أكثر من خمسين.
الرابعة عشرة: الحديث ورد بالقسامة في قتيل حر وهل تجري القسامة في بدل العبد؟ فيه قولان للشافعي.
وكان منشأ الخلاف أن هذا الوصف - أعني الحرية - هل له مدخل في الباب أو اعتبار أم لا؟ فمن اعتبره يجعله جزءا من العلة إظهارا لشرف الحرية ومن لم يعتبره قال: إن السبب في القسامة إظهار الاحتياط في الدماء والصيانة من إضاعتها.
وهذا القدر شامل لدم الحر والعبد وألغي وصف الحرية بالنسبة إلى هذا المقصود وهو جيد.
الخامسة عشرة: الحديث وارد في قتل النفس وهل يجري مجراه ما دونها من الأطراف والجراح؟ مذهب مالك: لا وفي مذهب الشافعي قولان:(1/430)
ومنشأ الخلاف فيها أيضا ما ذكرناه من أن هذا الوصف - أعني كونه نفسا - هل له أثر أو لا؟ وكون هذا الحكم على خلاف القياس مما يقوي الاقتصار على مورده.
السادسة عشرة: قيل فيه: إن الحكم بين المسلم والذمي كالحكم بين المسلمين في الاحتساب بيمينه والاكتفاء بها وأن يمين المشرك مسموعة على المسلمين كيمين المسلم عليه ومن نقل من الناس عن مالك أن أيمانهم لا تسمع على المسلمين كشهادتهم فقد أخطأ قطعا في هذا الإطلاق بل هو خلاف الإجماع الذي لا يعرف غيره لأن في الخصومات إذا اقتضت توجه اليمين على المدعى عليه حلف وإن كان كافرا والله أعلم.
4 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه: "أن جارية وجد رأسها مرضوضا بين حجرين فقيل: من فعل هذا بك؟ فلان فلان؟ حتى ذكر يهودي فأومأت برأسها فأخذ اليهودي فاعترف فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يرض رأسه بين حجرين"1.
5 - ولمسلم والنسائي عن أنس: "أن يهوديا قتل جارية على أوضاح فأقاده رسول الله صلى الله عليه وسلم بها"2.
الحديث دليل على مسألتين من مشاهير مسائل الخلاف.
الخلاف أن القتل بالمثقل موجب للقصاص وهو ظاهر من الحديث وقوي في المعنى أيضا فإن صيانة الدماء من الإهدار أمر ضروري والقتل بالمثقل كالقتل بالمحدد في إزهاق الأرواح فلو لم يجب القصاص بالقتل بالمثقل لأدى ذلك إلى أن يتخذ ذريعة إلى إهدار القصاص وهو خلاف المقصود من حفظ الدماء وعذر الحنفية عن هذا الحديث ضعيف وهو أنهم قالوا: هو بطريق السياسة.
وادعى صاحب المطول: أن ذلك اليهودي ساع في الأرض بالفساد وكان من عادته قتل الصغار بذلك الطريق قال: أو نقول: يحتمل أن يكون جرحها برضخ وبه نقول يعني على إحدى الروايتين عن أبي حنيفة والأصح عندهم أنه يجب به.
المسألة الثانية: اعتبار المماثلة في طريق القتل هو مذهب الشافعي ومالك وإن اختار الولي العدول إلى السيف فله ذلك وأبو حنيفة يخالف في هذه المسألة فلا قود عنده إلا بالسيف والحديث دليل لمالك والشافعي فإن النبي صلى الله عليه وسلم رض رأس اليهودي بين حجرين كما فعل هو بالمرأة ويستثنى من هذا ما إذا كان الطريق الذي حصل به القتل محرما كالسحر فإنه لا يمكن فعله.
ـــــــ
1 البخاري "2413" ومسلم "1672" "17" واللفظ له.
2 مسلم "1672" والنسائي "4744" واللفظ له.(1/431)
واختلف أصحاب الشافعي فيما إذا قتل باللواط أو بإيجار الخمر فمنهم من قال: يسقط اعتبار المماثلة للتحريم كما قلنا في السحر ومنهم من قال: تدس فيه خشبة ويؤجر خلا بدل الخمر.
وأما قولنا: إن للولي أن ينتقل إلى السيف إذا اختار فقد استثنى بعضهم منه: ما إذا قتله بالخنق قال: لا يعدل إلى السيف وادعى أنه عدول إلى أشد فإن الخنق يغيب الحس فيكون أسهل.
والأوضاح: حلى من الفضة يتحلى بها سميت بها لبياضها واحدها وضح وفي قوله في هذه الرواية فأقاده ما يقتضي بطلان ما حكيناه من عذر الحنفي.
6 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما فتح الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم مكة قتلت خزاعة رجلا من بني ليث بقتيل كان لهم في الجاهلية فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن الله عز وجل قد حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين وإنها لم تحل لأحد كان قبلي ولا تحل لأحد بعدي وإنما أحلت لي ساعة من نهار وإنها ساعتي هذه حرام لا يعضد شجرها ولا يختلى خلاها ولا يعضد شوكها ولا تلتقط ساقتطتها إلا لمنشد ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يقتل وإما أن يدي" فقام رجل من أهل اليمن يقال له أبو شاه فقال: يا رسول الله اكتبوا لي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اكتبوا لأبي شاه" ثم قام العباس فقال: يا رسول الله إلا الإذخر فإنا نجعله في بيوتنا وقبورنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إلا الإذخر" 1.
فيه مسائل سوى ما تقدم في باب الحج:
الأولى: قوله عليه السلام: "إن الله حبس عن مكة الفيل" هذه الرواية الصحيحة في الحديث والفيل بالفاء والياء آخر الحروف وشذ بعض الرواة فقال: الفيل أو القتل والصحيح الأول وحبسه: حبس أهله الذين جاءوا للقتال في الحرم.
الثانية: قوله عليه السلام: "و سلط عليها رسوله والمؤمنين" يستدل به من رأى أن فتح مكة كان عنوة فإن التسليط الذي وقع للرسول: مقابل للحبس الذي وقع للفيل وهو الحبس عن القتال وقد مر ما يتعلق بالقتال بمكة.
الثالثة: التحريم المشار إليه يجمعه إثبات حرمات تتضمن تعظيم المكان منها: تحريم القتل وتحريم القتل هو ما ذكر في الحديث.
ـــــــ
1 البخاري "6880" ومسلم "1355" "132" بألفاظ متقاربة.(1/432)
الرابعة: اختلف الفقهاء في موجب القتل العمد على قولين:
أحدهما: أن الموجب هو القصاص عينا.
والثاني: أن الموجب أحد الامرين: إما القصاص أو الدية والقولان للشافعي.
ومن فوائد هذا الخلاف أن من قال: الموجب هو القصاص قال: ليس للولي حق أخذ الدية بغير رضى القاتل وقيل على هذا القول: للولي حق إسقاط القصاص وأخذ الدية بغير رضى القاتل وثمرة هذا القول على هذا تظهر في عفو الولي وموت القاتل فعلى قول التخيير يأخذ المال بالعفو عن الدية لا في الموت ويستدل بهذا الحديث على أن الواجب أحد الأمرين وهو ظاهر الدلالة ومن يخالف قال في معناه وتأويله: إن شاء أخذ الدية برضى القاتل إلا أنه لم يذكر الرضى لثبوته عادة وقيل: إنه كقوله عليه السلام فيما ذكر: "خذ سلمك أو رأس مالك" 1 يعني: رأس مالك برضى المسلم إليه لثبوته عادة لأن السلم بأبخس الأثمان فالظاهر: أنه يرضى بأخذ رأس المال وهذا الحديث المستشهد به يحتاج إلى إثباته.
الخامسة: كان قد وقع اختلاف في الصدر الأول في كتابة غير القرآن وورد فيه نهي ثم استقر الأمر بين الناس على الكتابة لتقييد العلم بها وهذا الحديث يدل على ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أذن في الكتابة لأبي شاه والذي أراد أبو شاه كتابته هو خطبة النبي صلى الله عليه وسلم.
7 - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "أنه استشار الناس في إملاص المرأة فقال المغيرة بن شعبة: شهدت النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيه بغرة عبد أو أمة فقال: لتأتين بمن يشهد معك فشهد معه محمد بن مسلمة"2.
إملاص المرأة: أن تلقي جنينها ميتا.
الحديث أصل في إثبات غرة الجنين وكون الواجب فيه غرة عبد أو أمة وذلك إذا ألقته ميتا بسبب الجناية وإطلاق الحديث في العبد والأمة للفقهاء فيه تصرف بالتقييد في سن العبد وليس ذلك من مقتضى هذا الحديث فنذكره.
واستشارة عمر في ذلك أصل في الاستشارة في الأحكام إذا لم تكن معلومة للإمام.
و في ذلك دليل أيضا على أن العلم الخاص قد يخفى على الأكابر ويعلمهم من هو دونهم وذلك يصد في وجه من يغلو من المقلدين إذا استدل عليه بحديث فقال: لو كان صحيحا لعلمه فلان مثلا فإن ذلك إذا خفي على أكابر الصحابة وجاز عليهم فهو على غيرهم أجوز.
ـــــــ
1 لم نجده بهذا اللفظ راجع نصب الراية "4/51" والدراية "2/160".
2 البخاري "6908" ومسلم "1683".(1/433)
وقوله عمر: "لتأتين بمن يشهد معك" يتعلق به من يرى اعتبار العدد في الرواية وليس هو بمذهب صحيح فإنه قد ثبت قبول خبر الواحد وذلك قاطع بعدم اعتبار العدد في حديث جزئي فلا يدل على اعتباره كليا لجواز أن يحال ذلك على مانع خاص بتلك الصورة أو قيام سبب يقتضي التثبت وزيادة الاستظهار لا سيما إذا قامت قرينة مثل عدم علم عمر رضي الله عنه بهذا الحكم وكذلك حديثه مع أبي موسى في الاستئذان ولعل الذي أوجب ذلك استبعاده عدم العلم به وهو في باب الاستئذان أقوى وقد صرح عمر رضي الله عنه بأنه أراد أن يستثبت.
8 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن دية جنينها غرة عبد أو وليدة وقضى بدية المرأة على عاقلتها وورثها ولدها ومن معهم فقام حمل بن النابغة الهذلي فقال: يا رسول الله كيف أغرم من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل فمثل ذلك يظل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما هو من إخوان الكهان" من أجل سجعه الذي سجع1.
قوله: "فقتلتها وجنينها" ليس فيه ما يشعر بانفصال الجنين ولعله لا يفهم منه بخلاف حديث عمر الماضي فإنه صرح بالانفصال والشافعية شرطوا في وجوب الغرة الانفصال ميتا بسبب الجناية فلو ماتت الأم ولم ينفصل الجنين لم يجب شيء قالوا: لأنا لا نتيقن وجود الجنين فلا نوجب شيئا بالشك.
وعلى هذا هل المعتبر نفس الانفصال أو أن ينكشف ويتحقق حصول الجنين؟ فيه وجهان أصحهما الثاني وينبني على هذا ما إذا قدت بنصفين وشوهد الجنين في بطنها ولم ينفصل وما إذا خرج رأس الجنين بعدما ضرب وماتت الأم لذلك ولم ينفصل وبمقتضى هذا يحتاجون إلى تأويل هذه الرواية وحملها على أنه انفصل وإن لم يكن في اللفظ ما يدل عليه.
مسألة أخرى: الحديث علق الحكم بلفظ الجنين والشافعية فسروه بما ظهر فيه صورة الآدمي من يد أو إصبع أو غيرهما ولو لم يظهر شيء من ذلك وشهدت البينة بأن الصورة خفية يختص أهل الخبرة بمعرفتها وجبت الغرة أيضا وإن قالت البينة: ليست فيه صورة خفية ولكنه أصل الآدمي ففي ذلك اختلاف والظاهر عند الشافعية أنه لا تجب الغرة وإن شكت البينة في كون أصله الآدمي لم تجب بلا خلاف.
وحظ الحديث: أن الحكم مرتب على اسم الجنين فما تخلق فهو داخل فيه وما كان دون
ـــــــ
1 البخاري "5758" ومسلم "1681" "36".(1/434)
ذلك فلا يدخل تحته إلا من حيث الوضع اللغوي فإنه مأخوذ من الاجتنان وهو الاختفاء فإن خالفه العرف العام فهو أولى منه وإلا اعتبر الوضع.
وفيه الحديث: دليل على أنه لا فرق في الغرة بين الذكر والأنثى ويجبر المستحق على قبول الرقيق من أي نوع كان وتعتبر فيه السلامة من العيوب المثبتة للرد في البيع واستدل بعضهم على ذلك بأنه ورد في الخبر لفظة الغرة قال: وهي الخيار وليس المعيب من الخيار.
وفيه أيضا من الإطلاق في العبد والأمة: أنه لا يتقدر قيمة وهو وجه للشافعية والأظهر عندهم: أنه ينبغي أن تبلغ قيمتها نصف عشر الدية وهي خمس من الإبل وقيل: إن ذلك يروي عن عمر وزيد بن ثابت.
وفيه دليل على أنه إذا وجدت الغرة بالصفات المعتبرة: أنه لا يلزم المستحق قبول غيرها لتعيين حقه في ذلك في الحديث وأما إذا عدمت: فليس في الحديث ما يشعر بحكمه وقد اختلفوا فيه فقيل: الواجب خمس من الإبل وقيل: يعدل إلى القيمة عند الفقد.
وقد قدمنا الإشارة إلى أن الحديث بإطلاقه لا يقتضي تخصيص سن دون سن والشافعية قالوا: لا يجبر على قبول ما لم يبلغ سبعا لحاجته إلى التعهد وعدم استقلاله وأما في طرف الكبر فقيل: إنه لا يؤخذ الغلام بعد خمسة عشرة سنة ولا الجارية بعد عشرين سنة وجعل بعضهم الحد: عشرين والأظهر: أنهما يؤخذان وإن جاوزوا الستين ما لم يضعفا ويخرجا عن الاستقلال بالهرم لأن من أتى بما دل الحديث عليه ومسماه: فقد أتى بما وجب فلزم قبوله إلا أن يدل دليل على خلافه وقد أشرنا إلى أن التقييد بالسن ليس من مقتضى لفظ الحديث.
مسألة أخرى: الحديث ورد في جنين حرة وهذا الحديث الثاني ليس فيه عموم يدخل تحته جنين الأمة بل هو حكم وارد في جنين الحرة من غير لفظ عام وأما حديث عمر السابق - وإن كان في لفظ الاستشارة ما يقتضي العموم لقوله: "في إملاص المرأة" لكن لفظ الراوي يقتضي أنه شهد واقعة مخصوصة فعلى هذا: ينبغي أن يؤخذ حكم جنين الأمة من محل آخر وعند الشافعية: الواجب في جنين الرقيق: عشر قيمة الأم ذكرا أو أنثى وكذلك نقول: إن الحديث وارد في جنين محكوم بإسلامه ولا يتعرض لجنين محكوم له بالتهود أو التنصر تبعا ومن الفقهاء من قاسه على الجنين المحكوم بإسلامه تبعا وهذا مأخوذ من القياس لا من الحديث.
وقوله: "قضى بدية المرأة على عاقلتها" إجراء لهذا القتل مجرى غير العمد.
وحمل: بفتح الحاء المهملة والميم معا.
وطل: دم القتيل إذا أهدر ولم يؤخذ فيه شيء.(1/435)
وقوله عليه السلام: "إنما هو من إخوان الكهان" الخ فيه إشارة إلى ذم السجع وهو محمول على السجع المتكلف لإبطال حق أو تحقيق باطل أو لمجرد التكلف بدليل أنه قد ورد السجع في كلام النبي صلى الله عليه وسلم وفي كلام غيره من السلف ويدل على ما ذكرناه: أنه شبهه بسجع الكهان لأنهم كانوا يرجون أقاويلهم الباطلة بأسجاع تروق السامعين فيستميلون بها القلوب ويستصغون إليها الأسماع قال بعضهم: فأما إذا كان وضع السجع في مواضعه من الكلام فلا ذم فيه.
9 - عن عمران بن حصين رضي الله عنه: أن رجلا عض يد رجل فنزع يده من فيه فوقعت ثنيته فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل لا دية لك" 1.
أخذ الشافعي بظاهر هذا الحديث فلم يوجب ضمانا لمثل هذه الصورة إذا عض إنسان يد آخر فانتزعها فسقط سنه وذلك إذا لم يمكنه تخليص يده بأيسر ما يقدر عليه من فك لحييه أو الضرب في شدقيه ليرسلها فحينئذ إذا سل أسنانه أو بعضها فلا ضمان عليه.
وخالف غير الشافعي في ذلك وأوجب ضمان السن والحديث صريح لمذهب الشافعي وأما التقيد بعدم الإمكان بغير هذا الطريق: فعله مأخوذ من القواعد الكلية وأما إذا لم يمكنه التخليص إلا بضرب عضو آخر كبعج البطن وعصر الانثيين فقد اختلف فيه فقيل: له ذلك وقيل: ليس له قصد غير الفم وإذا كان القياس وجوب الضمان فقد يقال: إن النص ورد في صورة التلف بالنزع من اليد فلا نقيس عليه غيره لكن إذا دلت القواعد على اعتبار الإمكان في الضمان وعدم الإمكان في غير الضمان وفرضنا أنه لم يكن الدفع إلا بالقصد إلى غير الفم: قوي بعد هذه القاعدة: أن يسوى بين الفم وغيره.
10 - عن الحسن بن أبي الحسن البصري رحمه الله تعالى قال: حدثنا جندب في هذا المسجد وما نسينا منه حديثا وما نخشى أن يكون جندب كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح فجزع فأخذ سكينا فحز بها يده فما رقأ الدم حتى مات قال الله عز وجل: عبدي بادرني بنفسه حرمت عليه الجنة" 2.
الحسن بن أبي الحسن: يكنى أبا سعيد من أكابر التابعين وسادات المسلمين ومن مشاهير العلماء والزهاد المذكورين وفضائله كثيرة.
ـــــــ
1 البخاري "6892" ومسلم "1673".
2 البخاري "3463" ومسلم "113" "180 - 181" واللفظ للبخاري.(1/436)
وجندب بضم الدال وفتحها: ابن عبد الله بن سفيان البجلي العقلي - بفتح العين واللام - والعلق: بطن من بجيلة ومنهم من ينسبه إلى جده فيقول: جندب بن سفيان كنيته: أبو عبد الله كان بالكوفة ثم صار إلى البصرة: وحز يده قطعها أو بعضها ورقأ الدم بفتح الراء والقاف والهمز: ارتفع وانقطع.
وفي الحديث إشكالان.
أحدهما قوله: "بادرني عبدي بنفسه" وهي مسألة تتعلق بالآجال وأجل كل شيء: وقته يقال: بلغ أجله أن تم أمده وجاء حينه وليس كل وقت أجلا ولا يموت أحد بأي سبب كان إلا بأجله وقد علم الله بأنه يموت بالسبب المذكور وما علمه فلا يتغير فعلى هذا: يبقى قوله: "بادرني عبدي بنفسه" يحتاج إلى التأويل فإنه قد يوهم: أن الأجل كان متأخرا عن ذلك الوقت فقدم عليه.
الثاني قوله: "حرمت عليه الجنة" فيتعلق به من يرى بوعيد الأبد وهو مؤول عند غيرهم على تحريم الجنة بحالة مخصوصة كالتخصيص بزمن كما يقال: إنه لا يدخلها مع السابقين أو يحملونه على فعل ذلك مستحلا فيكفر به ويكون مخلدا بكفره لا بقتله نفسه.
والحديث أصل كبير في تعظيم قتل النفس سواء كانت نفس الإنسان أو غيره لأن نفسه ليس ملكه أيضا فيتصرف فيها على حسب ما يراه.(1/437)
كتاب الحدود
مدخل
...
كتاب الحدود.
1 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "قدم ناس من عكل - أو عرينة - فاجتووا المدينة فأمر لهم النبي صلى الله عليه وسلم بلقاح وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها فانطلقوا فلما صحوا قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم واستاقوا النعم فجاء الخبر في أول النهار فبعث في آثارهم فلما ارتفع النهار جيء بهم فأمر بهم: فقطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وسمرت أعينهم وتركوا في الحرة يستسقون فلا يسقون".
قال أبو قلابة فهؤلاء سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله أخرجه الجماعة1.
اجتويت البلاد: إذا كرهتها وإن كانت موافقة, واستوبأتها: إذا لم توافقك.
استدل بالحديث على طهارة أبوال الإبل للإذن في شربها والقائلون بنجاستها اعتذروا عن هذا: بأنه للتداوي وهو جائز بجميع النجاسات إلا بالخمر.
واعترض عليهم الأولون بأنها لو كانت محرمة الشرب: لما جاز التداوي بها لأن الله لم يجعل شفاء هذه الأمة فيما حرم عليها.
وقد وقع في هذا الحديث التمثيل بهم واختلف الناس في ذلك فقال بعضهم: هو منسوخ بالحدود فعن قتادة: أنه قال: فحدثني محمد بن سيرين: أن ذلك قبل أن تنزل الحدود وقال ابن شهاب - بعد أن ذكر قصتهم - وذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى بعد ذلك عن المثلة بالآية التي في سورة المائدة: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] الآية والتي بعدها وروي محمد بن الفضل - بإسناد صحيح منه إلى ابن سيرين - قال كان شأن العرنيين قبل أن تنزل الحدود التي أنزل الله عز وجل في المائدة من شأن المحاربين: أن يقتلوا أو يصلبوا: فكان شأن العرنيين منسوخا بالآية التي يصف فيها إقامة حدودهم.
وفي حديث أبي حمزة عن عبد الكريم - وسئل عن أبوال الإبل؟ - فقال: حدثني سعيد بن جبير عن المحاربين - فذكر الحديث - وفي آخره فما مثل النبي صلى الله عليه وسلم قبل ولا بعد ونهى عن المثلة وقال: "لا تمثلوا بشيء".
ـــــــ
1 البخاري "233" مسلم "1671".(1/439)
وفي رواية إبراهيم بن عبد الرحمن عن محمد بن الفضل الطبري بإسناد فيه موسى بن عبيدة الربذي - بسنده إلى جرير بن عبد الله البجلي بقصتهم - وفي آخره فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم سمل الأعين فأنزل الله عز وجل فيهم هذه الآية: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية.
وروي ابن الجوزي في كتابه حديثا من رواية صالح بن رستم عن كثير بن شنظير عن الحسن عن عمران بن حصين قال ما قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا إلا أمرنا بالصدقة ونهانا عن المثلة وقال قال ابن شاهين: هذا الحديث ينسخ كل مثلة كانت في الإسلام قال ابن الجوزي: وادعاء النسخ محتاج إلى تاريخ وقد قال بعض العلماء: إنما سمل أعين أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاة فاقتص منهم بمثل ما فعلوا والحكم ثابت.
قلت: هنا تقصير لأن الحديث ورد فيه المثلة من جهات عديدة وبأشياء كثيرة فهب أنه ثبت القصاص في سمل الأعين فماذا يصنع بباقي ما جرى من المثلة؟ فلا بد فيه من جواب عن هذا وقد رأيت عن الزهري في قصة العرنيين: أنه ذكر أنهم قتلوا يسارا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مثلوا به فلو ذكر ابن الجوزي هذا: كان أقرب إلى مقصوده مما ذكره من سمل الأعين فقط على أنه أيضا بعد ذلك: يبقى نظر في بعض ما حكي في القصة.
وعكل: بضم العين المهملة وسكون الكاف وآخره لام وعرينة: بضم العين المهملة وفتح الراء المهملة وسكون آخر الحروف بعدها نون وقال بعضهم: هم ناس من بني سليم وناس من بني بجيلة وبني عرينة واللقاح: النوق ذوات اللبن.
2 - عن عبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما أنهما قالا: "إن رجلا من الأعراب أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أنشدك الله إلا قضيت بيننا بكتاب الله فقال الخصم الآخر - وهو أفقه منه - نعم فاقض بيننا بكتاب الله وائذن لي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قل" فقال: إن ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته وإني أخبرت: أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة ووليدة فسألت أهل العلم فأخبروني: إنما على ابني جلد مائة وتغريب عام وأن على امرأة هذا الرجم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله الوليدة والغنم: رد عليك وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام واغد يا أنيس - لرجل من أسلم - على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" فغدا عليها فاعترفت فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمت"1.
العسيف: الأجير.
ـــــــ
1 البخاري "2725" ومسلم "1697 و1698".(1/440)
قوله: "إلا قضيت بيننا بكتاب الله" تنطلق هذه اللفظة على القرآن خاصة وقد ينطلق كتاب الله على حكم الله مطلقا والأولى: حمل هذه اللفظة على هذا لأنه ذكر فيه التغريب وليس ذلك منصوصا في كتاب الله إلا أن يؤخذ ذلك بواسطة أمر الله تعالى بطاعة الرسول وأتباعه.
وفي قوله: "وائذن لي" حسن الأدب في المخاطبة للأكابر.
وقوله: "كان عسيفا" أي أجيرا وقوله: "فافتديت منه" أي من الرجم وفيه دليل على شرعية التغريب مع الجلد والحنفية يخالفون فيه بناء على أن التغريب ليس مذكورا في القرآن وأن الزيادة على النص نسخ ونسخ القرآن بخبر الواحد غير جائز وغيرهم يخالفهم في تلك المقدمة وهي أن الزيادة على النص نسخ والمسألة مقررة في علم الأصول.
وفي قوله: "فسألت أهل العلم" دليل على الرجوع إلى العلماء عند اشتباه الأحكام والشك فيها ودليل على الفتوى في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ودليل على استصحاب الحال والحكم بالأصل في استمرار الأحكام الثابتة وإن كان يمكن زوالها في حياة النبي صلى الله عليه وسلم بالنسخ.
وقوله: "رد عليك" أي مردود أطلق المصدر على اسم المفعول وفيه دليل على أن ما أخذ بالمعارضة الفاسدة يجب رده ولا يملك وبه يتبين ضعف عذر من اعتذر من أصحاب الشافعي عن بعض العقود الفاسدة عنده: بأن المتعاوضين أذن كل واحد منهما للآخر في التصرف في ملكه وجعل ذلك سببا لجواز التصرف فإن ذلك الإذن ليس مطلقا وإنما هو مبني على المعارضة الفاسدة.
وفي الحديث دليل على أن مايستعمل من الالفاظ في محل الاستفتاء يسامح به في أقامة الحد أوالتعزير فإن هذا الرجل الذي قذف المرأة بالزنى ولم يتعرض النبي صلى الله عليه وسلم لأمر حده بالقذف وأعرض عن ذلك إبتداءا.
وفيه تصريح بحكم الرجم وفيه استنابة الإمام في إقامة الحدود ولعله يؤخذ منه: أن الإقرار مرة واحدة يكفي في إقامة الحد فإنه رتب رجمها على مجرد إعترافها ولم يقيده بعدد وقد يستدل به على عدم الجمع بين الجلد والرجم فإنه لم يعرفه أنيسا ولا أمره به.
3 - عن عبيد الله بن عقبة بن مسعود عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما قالا: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأمة إذا زنت ولم تحصن؟ قال: "إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم بيعوها ولو بضفير".
قال ابن شهاب: ولا أدري: أبعد الثالثة أو الرابعة؟1.
ـــــــ
1 البخاري "2154" ومسلم "1703" ولييس عند مسلم قول ابن شهاب.(1/441)
والضفير: الحبل.
يستدل به على إقامة الحد على المماليك كإقامته على الأحرار ودلالته على إقامة السيد الحد على عبده محتملة وليست بالقوية.
وفيه بيان لحكم الأمة إذا لم تحصن والكتاب العزيز تعرض لحكمها إذا أحصنت وجمهور العلماء: إنه إذا لم تحصن تجلد الحد ونقل عن ابن عباس في العبد والأمة أنه قال إذا لم يكونا مزوجين فلا حد عليهما وإن كانا مزوجين فعليها نصف الحد وهو خمسون قال بعضهم: وبه قال طاوس وأبو عبيد وهذا مذهب من تمسك بمفهوم الكتاب العزيز وهو قوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] إلا أن مذهب الجمهور راجح لأن هذا الحديث نص في إيجاب الجلد على من لم يحصن فإذا تبين بحديث آخر: أنه الحد أو أخذ من السياق: فهو مقدم على المفهوم.
والضفير الحبل المضفور فعيل بمعنى فعول.
وذكر بعضهم: أن قوله: "فليبعها ولو بضفير" دليل على أن الزنا عيب في الرقيق يرد به ولذلك حط من القيمة قال: وفيه دليل على جواز بيع غير المحجوز عليه مالا بما لا يتغابن به الناس.
وفيما قاله في الأول نظر لجواز أن يكون المقصود أن يبيعها وإن انحطت قيمتها إلى الضفير فيكون ذلك إخبارا متعلقا بحال وجودي لا إخبارا عن حكم شرعي ولا شك أن من عرف بتكرر زنا الأمة انحطت قيمتها عنده.
وفيما قاله في الثاني نظر أيضا لجواز أن يكون هذا العيب أوجب نقصان قيمتها عند الناس فيكون بيعها بالنقصان بيعا بثمن المثل لا بيعا بما لا يتغابن الناس به.
وفي الحديث دليل على أن المأمور به: هو الحد المنوط بها دون ضرب التعزير والتأديب ونقل عن أبي ثور: أن هذا الحديث إيجاد الحد وإيجاب البيع أيضا وأن لا يمسكها إذا زنت أربعا.
وقد يقال أيضا: إن فيه إشارة إلى أن العقوبات إذا لم تفد مقصودها من الزجر لم تفعل فإن كانت واجبة كالحد فلترك الشرط في وجوبها على السيد وهو الملك لأن أحد الأمرين لازم: إما ترك الحد ولا سبيل إليه لوجوبه وإما إزالة شرط الوجوب وهو الملك فتعين ولم يقل: اتركوها أو حدوها كلما تكرر لأجل ما ذكرناه والله أعلم.
فيخرج عن هذا التعزيرات التي لا تفيد لأنها ليست بواجبة الفعل فيمكن تركها.
4 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: "أتى رجل من المسلمين رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو في المسجد - فناداه: يا رسول الله إني زنيت فأعرض عنه فتنحى تلقاء وجهه.(1/442)
فقال: يا رسول الله إني زنيت فأعرض عنه حتى ثنى ذلك عليه أربع مرات فلما شهد على نفسه أربع شهادات: دعاه رسول الله فقال: "أبك جنون؟" قال: لا قال: "فهل أحصنت؟" قال: نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اذهبوا به فارجموه".
قال ابن شهاب: فأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن سمع جابر بن عبد الله يقول: "كنت فيمن رجمه فرجمناه بالمصلى فلما أذلقته الحجارة هرب فأدركناه بالحرة فرجمناه"1.
الرجل هو ماعز بن مالك روى قصته جابر بن سمرة وعبد الله بن عباس وأبو سعيد الخدري وبريد بن الحصيب الأسلمي.
ذهب الحنفية إلى أن تكرار الإقرار بالزنا أربعا: شرط لوجوب إقامة الحد ورأوا أن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث - إنما أخر الحد إلى تمام الأربع لأنه لم يجب قبل ذلك وقالوا: لو وجب بالإقرار مرة: لما أخر الرسول صلى الله عليه وسلم الواجب وفي قول الراوي فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه رسول الله الخ إشعار بأن الشهادة أربعا هي العلة في الحكم.
ومذهب الشافعي ومالك ومن تبعهما: أن الإقرار مرة واحدة موجب للحد قياسا على سائر الحقوق فكأنهم لم يروا أن تأخير الحد إلى تمام الإقرار أربعا لما ذكره الحنفية وكأنه من باب الاستثبات والتحقيق لوجود السبب لأن مبنى الحد على الاحتياط في تركه ودرئه بالشبهات.
وفي الحديث: دليل على سؤال الحاكم في الواقعة عما يحتاج إليه في الحكم وذلك من الواجبات كسؤاله عليه السلام عن الجنون ليتبين العقل وعن الإحصان ليثبت الرجم ولم يكن بد من ذلك فإن الحد متردد بين الجلد والرجم: ولا يمكن الإقدام على أحدهما إلا بعد تبين سببه.
وقوله عليه السلام: "أبك جنون؟" ويمكن أن يسأل عنه فيقال: إن إقرار المجنون غير معتبر فلو كان مجنونا لم يفد قوله: إنه ليس به جنون فما وجه الحكمة في سؤاله عن ذلك؟ بل سؤال غيره ممن يعرفه هو المؤثر.
وجوابه: أنه قد ورد أنه سأله غيره عن ذلك وعلى تقدير أن لا يكون وقع سؤال غيره فيمكن أن يكون سؤاله ليتبين بمخاطبته ومراجعته تثبته وعقله فيبني الأمر عليه لا على مجرد إقراره بعدم الجنون.
وفي الحديث: دليل على تفويض الإمام الرجم إلى غيره ولفظه يشعر بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحضره فيؤخذ منه: عدم حضور الإمام الرجم وإن كان الفقهاء قد استحيوا أن يبدأ الإمام بالرجم إذا ثبت الزنا بالإقرار ويبدأ الشهود به إذا ثبت بالبينة وكأن الإمام لما كان عليه التثبت
ـــــــ
1 البخاري "5272" ومسلم "1691" "16".(1/443)
والاحتياط قيل له: ابدأ ليكون ذلك زاجرا عن التساهل في الحكم بالحدود وداعيا إلى غاية التثبت وأما في الشهود: فظاهر لأن قتله بقولهم.
وقوله: "فلما أذلفته الحجارة" أي بلغت منه الجهد وقيل: عضته وأوجعنه وأوهنته وقوله هرب فيه دليل على عدم الحفر له.
5 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: إن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له: أن امرأة منهم ورجلا زنيا فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟" فقالوا: نفضحهم ويجلدون, قال عبد الله بن سلام: كذبتم فيها آية الرجم فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ماقبلها وما بعدها فقال به عبد الله بن سلام: ارفع يدك فرع يده فإذا فيها آية الرجم فقال: صدق يا محمد فأمر بهما النبي صلى الله عليه وسلم فرجما قال: فرأيت الرجل: يجنأ على المرأة يقيها الحجارة"1.
قال رضي الله عنه: الذي وضع يده على آية الرجم: هو عبد الله بن صوريا.
اختلف الفقهاء في أن الإسلام: هل هو شرط الإحصان أم لا؟ فذهب الشافعي أنه ليس بشرط فإذا حكم الحاكم على الذمي المحصن رجمه ومذهب أبو حنيفة: أن الإسلام شرط في الإحصان واستدل الشافعية بهذا الحديث ورجم النبي صلى الله عليه وسلم اليهوديين واعتذر الحنفية عنه بأن قالوا: رجمهما بحكم التوراة وأنه سألهم عن ذلك وأن ذلك عندما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وادعوا أن آية حد الزنا نزلت بعد ذلك فكان ذلك الحديث منسوخا وهذا يحتاج إلى تحقيق التاريخ أعني ادعاء النسخ.
وقوله: "فرأيت الرجل يجنأ عن المرأة", في الرواية: يجنأ بفتح الياء وسكون الجيم وفتح النون والهمزة: أي يميل ومنه الجنى قال الشاعر:
وبدلتني بالشطاط الجنى ... وكنت كالصعدة تحت السنان
وفي كلام بعضهم ما يشعر بأن اللفظة بالحاء يقال: حنا الرجل يحنو إذا أكب على الشيء قال الشاعر:
حنو العابدات على وسادي
6 - عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن رجلا - أو قال: امرءا -
ـــــــ
1 البخاري "3635" ومسلم "1699".(1/444)
اطلع عليك بغير إذنك فحذفته بحصاة ففقأت عينه: ما كان عليك جناح" 1.
أخذ الشافعي وغيره بظاهر الحديث وأباه المالكية وقالوا: لا يقصد عينه ولا غيرها وقيل: يجب القود إن فعل وهذا مخالف للحديث.
ومما قيل في تعليل المنع: أن المعصية لا تدفع بالمعصية وهذا ضعيف جدا لأنه يمنع كونه معصية في هذه الحالة ويلحق ذلك بدفع الصائل وإن أريد بكونها معصية: النظر إلى ذاتها مع قطع النظر عن هذا السبب فهو صحيح لكنه لا يفيد.
وتصرف الفقهاء في هذا الحكم بأنواع من التصرفات.
منها: أن يفرق بين أن يكون هذا الناظر واقفا في الشارع أو في خالص ملك المنظور إليه أو في سكة منسدة الأسفل اختلفوا فيه والأشهر: أن لا فرق ولا يجوز مد العين إلى حرم الناس بحال وفي وجه الشافعية: أنه لا يقصد إلا عين من وقف في ملك المنظور إليه.
ومنها: أنه هل يجوز رمي الناظر قبل النهي والإنذار؟ فيه وجهان للشافعية.
أحدهما: لا على قياس الدفع في البداءة بالأهون فالأهون.
والثاني: نعم وإطلاق الحديث مشعر بهذين الأمرين معا أعني أنه لا فرق بين موقف هذا الناظر وأنه لا يحتاج إلى الإنذار وورد في هذا الحكم الثاني ما هو أقوى من هذا الإطلاق وهو: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يختل الناظر بالمدري"2.
ومنها: أنه لو تسمع إنسان فهل يلحق السمع بالنظر؟ اختلفوا فيه.
وفي الحديث إشعار: إنه إنما يقصد العين بشيء خفيف كمدي وبندق وحصاة لقوله: "فحذفته" قال الفقهاء: أما إذا زرق بالنشاب أو رماه بحجر يقتله فقتله فهذا قتل يتعلق بالقصاص أو الدية.
ومما تصرف فيه الفقهاء: في أن هذا الناظر إذا كان له محرم في الدار أو زوجة أو متاع لم يجز قصد قينه لأن له في النظر شبهة وقيل: لا يكفي أن يكون له في الدار محرم إنما يمنع قصد عينه إذا لم يكن فيها إلا محارمه.
ومنها: أنه إذا لم يكن في الدار إلا صاحبها فله الرمي إن كان مكشوف العورة ولا ضمان وإلا فوجهان أظهرهما: أنه لا يجوز رميه.
ومنها: أن الحرم إذا كان في الدار مستترات أو في بيت ففي وجه: لا يجوز قصد عينه لأنه لا يطلع على شيء قال بعض الفقهاء: الأظهر الجواز لإطلاق الأخبار ولأنه لا تنضبط أوقات الستر والتكشف فالاحتياط حسم الباب.
ـــــــ
1 البخاري "6902" ومسلم "2158" "44".
2 البخاري "6900" عن أنس رضي الله عنه أن رجلا اطلع من حجر في بعض حجر النبي صلى الله عليه وسلم فقام إليه بمشقص أو بمشاقص وجعل يختله ليطعنه.(1/445)
ومنها: أن ذلك إنما يكون إذا لم يقصر صاحب الدار فإن كان بابه مفتوحا أو ثم كوة واسعة أو ثلمة مفتوحة فنظر: فإن كان مجتازا لم يجز قصده.
وإن توقف وتعمد فقيل: لا يجوز قصده لتفريط صاحب الدار بفتح الباب وتوسيع الكوة وقيل: يجوز لتعديه بالنظر.
وأجري هذا الخلاف فيما إذا نظر من سطح نفسه أو نظر المؤذن من المأذنة لكن الأظهر عندهم ههنا: جواز الرمي لأنه لا تقصير من صاحب الدار.
واعلم أن ما كان من هذه التصرفات الفقهية داخلا تحت إطلاق الأخبار فإنه قد يؤخذ منها وما لا فبعضه مأخوذ من فهم المعنى المقصود بالحديث وبعضه مأخوذ بالقياس وهو قليل فيما ذكرناه.(1/446)
1 - باب حد السرقة.
1 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في مجن قيمته - وفي لفظ: ثمنه - ثلاثة دراهم"1.
اختلف الفقهاء في النصاب في السرقة أصلا وقدرا أما الأصل: فجمهورهم على اعتبار النصاب وشذ الظاهرية فلم يعتبروه ولم يفرقوا القليل والكثير وقالوا بالقطع فيهما ونقل في ذلك وجه في مذهب الشافعي.
والاستدلال بهذا الحديث على اعتبار النصاب ضعيف فإنه حكاية فعل ولا يلزم من القطع في هذا المقدار فعلا: عدم القطع فيما دونه نطقا.
وأما المقدار: فإن الشافعي يرى أن النصاب ربع دينار لحديث عائشة الآتي يقوم ماعدا الذهب بالذهب وأبو حنيفة يقول: إن النصاب عشرة دراهم ويقوم ما عدا الفضة بالفضة ومالك يرى: أن النصاب ربع دينار من الذهب أو ثلاثة دراهم وكلاهما أصل ويقوم ما عداهما بالدرهم وكلا الحديثين يدل على خلاف مذهب أبي حنيفة.
وأما هذا الحديث: فإن الشافعي بين أنه لا يخالف حديث عائشة وأن الدينار كان اثني عشرة درهما وربعه ثلاثة دراهم أعني صرفه ولهذا قومت الدية باثني عشر ألفا من الورق وألف دينار من الذهب.
وهذا الحديث يستدل به لمذهب مالك في أن الفضة أصل في التقويم فإن المسروق كان غير الذهب والفضة وقوم بالفضة دون الذهب: دل على أنها أصل في التقويم وإلا كان الرجوع
ـــــــ
1 البخاري "6795" ومسلم "1686" "6".(1/446)
إلى الذهب - الذي هو الأصل - أولى وأوجب عند من يرى التقويم به والحنفية في مثل هذا الحديث وفيمن روى في حديث عائشة: "القطع في ربع دينار فصاعدا" يقولون - أو من قال منهم - في التأويل ما معناه: إن التقويم أمر ظني تخميني فيجوز أن تكون قيمته عند عائشة ربع دينار أو ثلاثة دراهم ويكون عند غيرها أكثر وقد ضعف غيرهم هذا التأويل وشنعه عليهم بما معناه: إن عائشة لم تكن لتخبر بما يدل على مقدار ما يقطع فيه إلا عن تحقيق لعظم أمر القطع.
والمجن بكسر الميم وفتح الجيم: الترس مفعل من معنى الاجتنان وهو الاستتار والاختفاء وما يقارب ذلك ومنه الجن وكسرت ميمه لأنه آلة في الاجتنان كأن صاحبه يستتر به عما يحاذره قال الشاعر:
فكان مجني دون ما كنت أتقي ... ثلاث شخوص: كاعبان ومعصر
والقيمة والثمن: مختلفان في الحقيقة وتعتبر القيمة وما ورد في بعض الروايات من ذكر الثمن فلعله لتساويهما عند الناس في ذلك الوقت أو في ظن الراوي أو باعتبار الغلبة وإلا فلو اختلفت القيمة والثمن الذي اشتراه به مالكه لم تعتبر إلا القيمة.
2 - عن عائشة رضي الله عنها: أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تقطع اليد في ربع دينار فصاعدا" 1.
هذا الحدي اعتماد الشافعي رحمه الله في مقدار النصاب وقد روي عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم فعلا وقولا وهذه الرواية قول وهو أقوى في الاستدلال من الفعل لأنه لا يلزم من القطع في مقدار معين - اتفق أن السارق الذي قطع سرقه أن لا يقطع من سرق ما دونه وأما القول الذي يدل على اعتبار مقدار معين في القطع: فإنه يدل على عدم اعتبار ما زاد عليه في إباحة القطع فإنه لو اعتبر في ذلك لم يجز القطع فيما دونه وأيضا: فرواية الفعل يدخل فيها ما ذكرناه من التأويل المستضعف في أن التقويم أمر ظني إلى آخره.
واعلم أن هذا الحديث قوي في الدلالة على أصحاب أبي حنيفة فإنه يقتضي صريحه: القطع في هذا المقدار الذي لا يقولون بجواز القطع به وأما دلالته على الظاهر: فليس من حيث النطق بل من حيث المفهوم وهو داخل في مفهوم العدد ومرتبته أقوى من مرتبة مفهوم اللقب.
3 - عائشة رضي الله عنها: أن قريشا أهمهم شأن المخزومية التي سرقت فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه أسامة فقال: "أتشفع في حد من حدود الله؟" ثم قام فاختطب.
ـــــــ
1 البخاري "6791" ومسلم "1684".(1/447)
فقال: "إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف: أقاموا عليه الحد وأيم الله: لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها" 1.
وفي لفظ: "كانت امرأة تستعير المتاع وتجحده فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها"2.
قد أطلق في هذا الحديث على هذه المرأة لفظة السرقة ولا إشكال فيه وإنما الإشكال في الرواية الثانية وهو إطلاق جحد العارية على المرأة وليس في لفظ هذا الحديث ما يدل على أن المعبر عنه امرأة واحدة ولكن في عبارة المصنف ما يشعر بذلك فإنه جعل الذي ذكره ثانيا رواية وهو يقتضي من حيث الإشعار العادي: أنهما حديث واحد.
اختلف فيه: هل كانت هذه المرأة المذكورة سارقة أو جاحدة؟ وعن أحمد: أنه أوجب القطع في صورة جحود العارية عملا بتلك الرواية فإذا أخذ بطريق صناعي - أعني في صنعة الحديث - ضعفت الدلالة على مسألة الجحود قليلا فإنه يكون اختلافا في واقعة واحدة فلا يثبت الحكم المرتب على الجحود حتى يتبين ترجيح رواية من روى في هذا الحديث أنها كانت جاحدة على رواية من روى أنها كانت سارقة.
وأظهر بعض الشافعية النكير والتعجب ممن أول حديث عائشة في القطع في ربع دينار - الذي روي فعلا - بأن اعتمد على رواية من رواه قولا فإنه كان مخرج الحديث مختلفا فالأمر كما قال فإن أحد الحديثين حينئذ يدل على القطع فعلا في هذا المقدار والثاني: يدل عليه قولا ولا يتأتى فيه تأويل احتمال الغلط في التقويم وإن كان مخرج الحديث واحدا ففيه من الكلام ما أشرنا إليه الآن إلا أنه ههنا قوي لأنه لا يجوز للراوي إذا كان سمعه لرواية الفعل: أن يغيره إلى رواية القول فيظهر من هذا: أنهما حديثان مختلفان اللفظ وإن كان مخرجهما واحدا.
وفي الحديث: دليل على امتناع الشفاعة في الحد بعد بلوغه السلطان وفيه تعظيم أمر المحاباة للأشراف في حقوق الله تعالى.
ولفظة إنما ههنا دالة على الحصر والظاهر: أنه ليس للحصر المطلق مع احتمال ذلك فإن بني إسرائيل كانت فيهم أمور كثيرة تقتضي الإهلاك فيحمل ذلك على حصر مخصوص وهو الإهلاك بسبب المحاباة في حدود الله فلا ينحصر ذلك في هذا الحد المخصوص.
وقد يستدل بقوله عليه السلام: "وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها" على أن ما خرج هذا المخرج من الكلام الذي يقتضي تعليق القول بتقدير أمر آخر: لا يمنع وقد شدد جماعة في مثل هذا ومراتبه في القبح مختلفة.
ـــــــ
1 البخاري "3475" ومسلم "1688".
2 مسلم "1688" "10".(1/448)
2 - باب حد الخمر.
1 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل قد شرب الخمر فجلده بجريدة نحو أربعين قال: وفعله أبو بكر فلما كان عمر استشار الناس فقال عبد الرحمن بن عوف: أخف الحدود ثمانون فأمر به عمر"1.
لا خلاف في الحد على شرب الخمر واختلفوا في مقداره فمذهب الشافعي: أنه أربعون واتفق أصحابه: أنه لا يزيد على الثمانين وفي الزيادة على الأربعين إلى الثمانين: خلاف والأظهر: الجواز ولو رأى الإمام أن يحده بالنعال وأطراف الثياب كما فعله النبي صلى الله عليه وسلم جاز ومنهم من منع ذلك تعليلا بعسر الضبط وظاهر قوله: "فجلده بجريدة نحو أربعين" أن هذا العدد هو القدر الذي ضرب به وقد وقع في رواية الزهري عن عبد الرحمن بن أزهر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اضربوه" فضربوه بالأيدي والنعال وأطراف الثياب2 وفي الحديث: "قال: فلما كان أبو بكر سأل من حضر ذلك الضرب؟ فقومه أربعين فضرب أبو بكر في الخمر أربعين" ففسره بعض الناس وقال: أي قدر الضرب الذي ضربه بالأيدي والنعال وأطراف الثياب: فكان مقدار أربعين ضربة لا أنها عددا أربعون بالثياب والنعال والأيدي إنما قايس مقدار ما ضربه ذلك الشارب فكان: مقدار أربعين عصا فلذلك قال فقومه أي جعل قيمته أربعين وهذا عندي خلاف الظاهر ويبعده: قوله إن النبي صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر أربعين فإنه لا ينطلق إلا على عدد كثير من الضرب بالأيدي والنعال وتسليط التأويل على لفظة قومه أنها بمعنى قدر ما وقع فكان أربعين: أقرب من تسليط هذا صدق قولنا جلد أربعين حقيقة.
وقوله فقال عبد الرحمن: أخف الحدود ثمانون ويروى بالنصب أخف الحدود ثمانين أي اجعله وما يقارب ذلك.
وفيه دليل على المشاورة في الأحكام والقول فيها بالاجتهاد وقيل: إن الذي أشار بالثمانين: هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه3 وقد يستدل به من يرى الحكم بالقياس أو الاستحسان.
وقوله فلما كان عمر يجوز أن يكون على حذف مضاف أي فلما كان زمن ولاية عمر وما يقارب ذلك ومذهب مالك: أن حد الخمر: ثمانون على ما وقع في زمن عمر.
ـــــــ
1 البخاري "6773" ومسلم "1706" واللفظ له.
2 أبو داود "4489" من حديث عبد الرحمن بن أزهر.
3 أخرجه مالك عن ثور بن زيد الديلي أن عمر بن الخطاب استشار في الخمر يشربها الرجل فقال له علي بن أبي طالب نرى أن تجلده ثمانين فإنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى أو كما قال فجلد عمر في الخمر ثمانين الموطأ "2/528".(1/449)
2 - عن أبي بردة - هانئ بن نيار - البلوي رضي الله عنه: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا حد من حدود الله" 1.
فيه مسألتان:
إحداهما: إثبات التعزير في المعاصي التي لا حد فيها لما يقتضيه من جواز العشرة فما دونها.
المسألة الثانية: اختلفوا في مقدار التعزير والمنقول عن مالك: أنه لا يتقدر بهذا القدر ويجيز في العقوبات فوق هذا وفوق الحدود على قدر الجريمة وصاحبها وأن ذلك موكول إلى اجتهاد الإمام وظاهر مذهب الشافعي: أنه لا يبلغ بالتعزير إلى الحدود وعلى هذا: ففي المعتبر وجهان:
أحدهما: أدنى الحدود في حق المعزر فلا يزاد في تعزير الحر على تسع وثلاثين ضربة ليكون دون حد الشرب ولا في تعزير العبد على تسعة عشر سوطا.
والثاني: أنه يعتبر أدنى الحدود على الإطلاق فلا يزاد في تعزير الحر أيضا على تسعة عشر سوطا أيضا.
وفيه وجه ثالث: أن الاعتبار بحد الأحرار فيجوز أن يزاد تعزير العبد على عشرين.
وذهب غير واحد إلى ظاهر الحديث وهو أنه لا يزاد في التعزير على عشرة وإليه ذهب الشافعية صاحب التقريب وذكر بعض المصنفين منهم: أن الأظهر: أنه لا يجوز الزيادة على العشر.
واختلف المخالفون لظاهر هذا الحديث في العذر عنه فقال بعض مصنفي الشافعية: إنه منسوخ بعمل الصحابة بخلافه وهذا ضعيف جدا لأنه يتعذر عليه إثبات إجماع الصحابة على العمل بخلافه وفعل بعضهم أو فتواه لا يدل على النسخ والمنقول في ذلك: فعل عمر رضي الله عنه أنه ضرب صبيغا أكثر من الحد أو مائة وصبيغ هذا - بفتح الصاد المهملة وكسر ثاني الحروف وأخره غين معجمة - وقال بعض المالكية: وتأول أصحابنا الحديث على أنه مقصور على زمن النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان يكفي الجاني منهم هذا القدر وهذا في غاية الضعف أيضا لأنه ترك للعموم بغير دليل شرعي على الخصوص وما ذكره مناسبة ضعيفة لا تستقل بإثبات التخصيص.
قال هذا المالكي: وتأولوه أيضا على أن المراد بقوله: "في حد من حدود الله" أي حق من حقوقه وإن لم يكن من المعاصي المقدرة حدودها لأن المحرمات كلها من حدود الله.
ـــــــ
1 البخاري "6848" ومسلم "1708".(1/450)
وبلغني عن بعض أهل العصر: أنه قرر هذا المعنى بأن تخصيص الحد بهذه المقدمات أمر اصطلاحي فقهي وأن عرف الشرع في أول الإسلام: لم يكن كذلك أو يحتمل أن لا يكون كذلك - هذا وكما قال - فلا يخرج عنه إلا التأديبات التي ليست عن محرم شرعي.
وهذا - أولا - خروج في لفظة الحد عن العرف فيها وما ذكره هذا العصري: يوجب النقل والأصل عدمه.
وثانيا: أنا إذا حملناه على ذلك وأجزنا في كل حق من حقوق الله: أن يزاد لم يبق لنا شيء يختص المنع فيه بالزيادة على عشرة أسواط إذ ما عدا المحرمات كلها التي لا تجوز فيها الزيادة: ليس إلا ما ليس بمحرم واصل التعزير فيه ممنوع فلا يبقى لخصوص منع الزيادة منى وهذا أوردناه على ما قاله المالكي في إطلاقه لحقوق الله وقد يتعذر عنه بما أشرنا إليه من أنه لا يخرج عنه إلا التأديبات على ما ليس بمحرم ومع هذا فيحتاج إلى إخراجها عن كونها من حقوق الله.
وثالثا: - على أصل الكلام وما قاله العصري فيما نقل عنه - ما تقدم في الحديث قبله من حديث عبد الرحمن أخف الحدود ثمانون فإنه يقطع دابر هذا الوهم ويدل على أن مصطلحهم في الحدود: إطلاقها على المقدرات التي يطلق عليها الفقهاء اسم الحد فإن ما عدا ذلك لا ينتهي إلى مقدار أربعين فهو ثمانون وإنما المنتهي إليه: هي الحدود المقدرات.
وقد ذهب أشهب من المالكية إلى ظاهر هذا الحديث كما ذهب إليه صاحب التقريب من الشافعية والحديث متعرض للمنع من الزيادة على العشرة ويبقى ما دونها لا نعرض للمنع فيه.
وليس التخيير فيه ولا في شيء مما يفوض إلى الولاة: تخيير تشه بل لا بد عليهم من الاجتهاد.
وعن بعض المالكية: أن مؤدب الصبيان لا يزيد على ثلاثة فإن زاد اقتص منه وهذا تحديد يبعد إقامة الدليل المتين عليه ولعله يأخذه من الثلاث: اعتبرت في مواضع وهو أول حد الكثرة وفي ذلك ضعف.
والذي ذكره المصنف - من أن أبا بردة: هو هانئ بن نيار - مختلف فيه فقد قيل: إنه رجل من الأنصار.(1/451)
كتاب الأيمان و النذور
مدخل
...
كتاب الأيمان والنذور.
1 - عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فكفر عن يمينك وائت الذي هو خير" 1.
فيه مسائل:
المسألة الأولى: ظاهره يقتضي كراهية سؤال الإمارة مطلقا والفقهاء تصرفوا فيه بالقواعد الكلية فمن كان متعينا للولاية وجب عليه قبولها إن عرضت عليه وطلبها إن لم تعرض لأنه فرض كفاية لا يتأدى إلا به فيتعين عليه القيام به وكذا إذا لم يتعين وكان أفضل من غيره ومنعنا ولاية الفضول مع وجد الأفضل وإن كان غيره أفضل منه ولم نمنع تولية المفضول مع وجود الفاضل: فههنا يكره له أن يدخل في الولاية وأن يسألها وحرم بعضهم الطلب وكره للإمام أن يوليه وقال: إن ولاه انعقدت ولايته وقد استخطئ فيما قال ومن الفقهاء من أطلق القول بكراهية القضاء لأحاديث وردت فيه2.
المسألة الثانية: لما كان خطر الولاية عظيما بسبب أمور في الوالي وبسبب أمور خارجة عنه: كان طلبها تكلفا ودخولا في غرر عظيم فهو جدير بعدم العون ولما كانت إذا أتت من غير مسألة لم يكن فيها هذا التكلف: كانت جديرة بالعون على أعبائها وأثقالها.
وفي الحديث: إشارة إلى ألطاف الله تعالى بالعبد بالإعانة على إصابة الصواب في فعله وقوله تفضلا زائدا على مجرد التكليف والهداية إلى النجدين هي مسألة أصولية كثر فيها الكلام في فنها والذي يحتاج إليه في الحديث: ما أشرنا إليه الآن.
المسألة الثالثة: للحديث تعلق بالتكفير قبل الحنث ومن يقول بجوازه قد يتعلق بالبداءة بقوله عليه السلام: "فكفر عن يمينك وائت الذي هو خير" وهذا ضعيف لأن الواو لا تقتضي الترتيب,
ـــــــ
1 البخاري "6622" ومسلم "1652".
2 منها ما أخرجه الترمذي "1325" عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ولي القضاء أو جعل قاضيا بين الناس فقد ذبح بغير سكين", قال الترمذي هذا حديث حسن.(1/453)
والمعطوف والمعطوف عليه بها كالجملة الواحدة وليس بجيد طريقة من يقول في مثل هذا: إن الفاء تقضي الترتيب والتعقيب فيقتضي ذلك: أن يكون التكفير مستعقبا لروية الخير في الحنث فإذا استعقبه التكفير: تأخر الحنث ضرورة وإنما قلنا إنه ليس بجيد لما بيناه من حكم الواو فلا فرق بين قولنا فكفر وائت الذي هو خير وبين قولنا فاعل هذين ولو قال كذلك لم يقتض ترتيبا ولا تقديما فكذلك إذا أتى بالواو.
وهذه الطريقة التي أشرنا إليها ذكرها بعض الفقهاء في اشتراط الترتيب في الوضوء وقال: إن الآية تقتضي تقديم غسل الوجه بسبب الفاء وإذا وجب تقديم غسل الوجه وجب الترتيب في بقية الأعضاء اتفاقا وهو ضعيف لما بيناه.
المسألة الرابعة: يقتضي الحديث: تأخير مصلحة الوفاء بمقتضى اليمين إذا كان غيره خيرا بنصه وأما مفهومه: فقد يشير بأن الوفاء بمقتضى اليمين عند عدم رؤية الخير في غيرها مطلوب وقد تنازع المفسرون في معنى قوله تعلى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا} [البقرة: 224] وحمله بعضهم على ما دل عليه الحديث ويكون معنى عرضة أي مانعا وأن تبروا بتقدير: ما أن تبروا.
2 - عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني والله - إن شاء الله - لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها" 1.
في هذا الحديث: تقديم ما يقتضي الحنث في اللفظ على الكفارة إن كان معنى قوله عليه السلام وتحللتها التكفير عنها ويحتمل أن يكون معناه: إتيان ما يقتضي الحنث فإن التحلل نقيض العقد والعقد: هو ما دلت عليه اليمين من موافقة مقتضاها فيكون التحلل: الإتيان بخلاف مقتضاها.
فإن قلت: فيكفي عن هذا قوله: "أتيت الذي هو خير منها" فإنه بإتيانه إياه تحصل مخالفة اليمين والتحلل منها فلا يفيد قوله عليه السلام حينئذ "وتحللت" فائدة زائدة على ما في قوله: "أتيت الذي هو خير منها".
قلت: فيه فائدة التصريح والتنصيص على كون ما فعله محللا والإتيان به بلفظه يناسب الجواز والحل صريحا فإذا صرح بذلك كان أبلغ مما إذا أتى به على سبيل الاستلزام.
وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الحكم المذكور باليمين بالله تعالى وهو يقتضي المبالغة في ترجيح الحنث على الوفاء عند هذه الحالة.
وهذا الخير الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم: أمر يرجع إلى مصالح الحنث المتعلقة بالمفعول المحلوف على تركه مثلا.
ـــــــ
1 البخاري "3133" ومسلم "1649".(1/454)
وهذا الحديث له سبب مذكور في غير هذا الموضع وهو: "أن النبي صلى الله عليه وسلم حلف أن يحملهم ثم حملهم".
3 - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم" 1.
ولمسلم: "فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت"2.
وفي رواية قال عمر: "فوالله ما حلفت بها منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عنها ذاكرا ولا آثرا"3.
يعني: حاكيا عن غيري: أنه حلف بها.
الحديث: دليل على المنع من الحلف بغير الله تعالى واليمين منعقد عند الفقهاء باسم الذات وبالصفات العلية وأما اليمين بغير ذلك: فهو ممنوع واختلفوا في هذا المنع هل هو على التحريم أو على الكراهة؟ والخلاف موجود عند المالكية فالأقسام ثلاثة.
الأول: ما يباح به اليمين وهو ما ذكرناه من أسماء الذات والصفات.
والثاني: ما تحرم اليمين به بالاتفاق كالأنصاب والأزلام واللات والعزى فإن قصد تعظيمها فهو كفر كذا قال بعض المالكية معلقا للقول فيه حيث يقول فإن قصد تعظيمها فكفر وإلا فحرام القسم بالشيء تعظيم له وسيأتي حديث يدل إطلاقه على الكفر لمن حلف ببعض ذلك وما يشبهه ويمكن إجراؤه على ظاهره لدلالة اليمين بالشيء على التعظيم له.
الثالث: ما يختلف فيه بالتحريم والكراهة وهو ما عدا ذلك مما يقتضي تعظيمه كفرا.
وفي قول عمر رضي الله عنه ذاكرا ولا آثرا مبالغة في الاحتياط وأن لا يجري على اللسان ما صورته صورة الممنوع شرعا.
4 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال سليمان بن داود عليهما السلام: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة تلد كل امرأة منهن غلاما يقاتل في سبيل الله فقيل له: قل: إن شاء الله فلم يقل فطاف بهن فلم تلد منهم إلا امرأة واحدة: نصف إنسان", قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو قال إن شاء الله: لم يحنث وكان دركا لحاجته" 4.
قوله: "قيل له: قل إن شاء الله" يعني قال له الملك.
ـــــــ
1 البخاري "6646" ومسلم "1646" "1".
2 مسلم "1646" "3" قلت وقد أخرجه البخاري أيضا "6646".
3 البخاري "6647" ومسلم "1646" "1".
4 البخاري "3424" ومسلم "1654" "24" واللفظ له.(1/455)
فيه دليل: على أن اتباع اليمن بالله بالمشيئة: يرفع حكم اليمين لقوله عليه السلام لم يحنث وفيه نظر وهذا ينقسم إلى ثلاثة أوجه.
أحدها: أنها ترد المشيئة إلى الفعل المحلوف عليه كقوله مثلا لأدخلن الدار إن شاء الله وأراد: رد المشيئة إلى الدخول أي إن شاء الله دخولها وهذا هو الذي ينفعه الاستثناء بالمشيئة ولا يحنث إن لم يفعل.
الثاني: أن يرد الاستثناء بالمشيئة إلى نفس اليمين فلا ينفعه الرجوع لوقوع اليمين وتيقن مشيئة الله.
والثالث: أن يذكر على سبيل الأدب في تفويض الأمر إلى مشيئة الله وامتثالا لقوله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23 ,24] لا على قصد معنى التعليق وهذا لا يرفع حكم اليمين.
ولا تعلق للحديث بتعليق الطلاق بالمشيئة والفقهاء مختلفون فيه ومالك يفرق بين الطلاق واليمين بالله ويوقع الطلاق وإن علق بالمشيئة بخلاف اليمين بالله لأن الطلاق حكم قد شاءه الله وهو مشكل جدا تركنا التعرض لتقريره لعدم تعلقه بالحديث.
و قد يؤخذ من هذا الحديث أن الكناية في اليمين مع النية كالصريح في حكم اليمين من حيث إن لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم الذي حكاه عن سليمان عليه السلام وهو قوله: "لأطوفن" ليس فيه التصريح باسم الله تعالى لكنه مقدر لأجل اللام التي دخلت على قوله: "لأطوفن" فإن كان قد قيل بذلك وأن اليمين تلزم بمثل هذا فالحديث حجة لمن قاله وإن لم يكن فيحتاج إلى تأويله وتقدير اللفظ باسم الله تعالى صريحا في المحكي وإن كان ساقطا في الحكاية وهذا ليس بممتنع في الحكاية فإن من قال والله لأطوفن فقد قال لأطوفن فإن اللافظ بالمركب لافظ بالمفرد.
وقوله: "وكان دركا لحاجته" يراد به: أنه كان يحصل ما أراد.
وقد يؤخذ من الحديث جواز الإخبار عن وقوع الشيء المستقبل بناء على الظن فإن هذا الإخبار أعني قول سليمان عليه السلام: "تلد كل امرأة منهن غلاما" لا يجوز أن يكون عن وحي وإلا لوجب وقوع مخبره وأجاز الفقهاء الشافعية اليمين على الظن في الماضي وقالوا: يجوز أن يحلف على خط أبيه وذكر بعضهم أضعف من هذا وأجاز الحلف في صورة بناء على قرينة ضعيفة.
و أما بعض المالكية فإنه دل لفظه على احتمال في هذا الجواز وتردد أو على نقل خلاف أعني اليمين على الظن لأنه قال: والظاهر أن الظن كذلك وهو محتمل لما ذكرناه من الوجهين.(1/456)
وقد يؤخذ من الحديث أن الاستثناء إذا اتصل باليمين في اللفظ أنه يثبت حكمه وإن لم ينو من أول اللفظ وذلك أن الملك قال: قل إن شاء الله تعالى عند فراغه من اليمين فلو لم يثبت لما أفاد قوله ويمكن أن يجعل ذلك تأدبا لا لرفع حكم اليمين فلا يكون فيه حجة.
و أقوى من ذلك في الدلالة قوله عليه السلام: "لو قال إن شاء الله لم يحنث" مع احتماله للتأويل.
5 - عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان", ونزلت: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} [آل عمران: 77] إلى آخر الآية"1.
يمين الصبر هي التي يصبر فيها نفسه على الجزم باليمين والصبر الحبس فكأنه يحبس نفسه على هذا الأمر العظيم وهي اليمين الكاذبة ويقال لمثل هذه اليمين الغموس أيضا وفي الحديث وعيد شديد لفاعل ذلك وذلك لما فيها من أكل المال بالباطل ظلما وعدوانا والاستخفاف بحرمة اليمين بالله.
و هذا الحديث يقتضي تفسير هذه الآية بهذا المعنى وفي ذلك اختلاف بين المفسرين ويترجح قول من ذهب إلى هذا المعنى بهذا الحديث وبيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني كتاب الله العزيز وهو أمر يحصل للصحابة بقرائن تحف بالقضايا.
6 - عن الأشعث بن قيس رضي الله عنه قال: كان بيني وبين رجل خصومة في بئر فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شاهداك أو يمينه", قلت: إذا يحلف ولا يبالي, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله عز وجل وهو عليه غضبان" 2.
هذا الحديث فيه دلالة على الوعيد المذكور كالأول وفيه شيء آخر يتعلق بمسألة اختلف فيها الفقهاء وهو ما إذا ادعى على غريمه شيئا فأنكره وأحلفه ثم أراد إقامة البينة عليه بعد الإحلاف فله ذلك عند الشافعية وعند المالكية: ليس له ذلك إلا أن يأتي بعذر في ترك إقامة البينة يتوجه له وربما يتمسكون بقوله عليه السلام: "شاهداك أو يمينه" وفي حديث آخر: "ليس لك إلا ذلك" 3 ووجه الدليل منه أن أو تقتضي أحد الشيئين فلو أجزنا إقامة.
ـــــــ
1 البخاري "2357" ومسلم "138".
2 البخاري "2516" ومسلم "138".
3 مسلم "139" "224".(1/457)
البينة بعد التحليف لكان له الأمران معا أعني اليمين وإقامة البينة مع أن الحديث يقتضي أن ليس له إلا أحدهما.
و قد يقال في هذا إن المقصود من الكلام نفي طريق أخرى لإثبات الحق فيعود المعنى إلى حصر الحجة في هذين الجنسين - أعني البينة واليمين - إلا أم هذا قليل النفع بالنسبة إلى المناظرة وفهم مقاصد الكلام نافع بالنسبة إلى النظر وللأصوليين في أصل هذا الكلام بحث ولم ينبه على هذا حق التنبيه - أعني اعتبار مقاصد الكلام - وبسط القول فيه إلا أحد مشايخ بعض مشايخنا من أهل المغرب وقد ذكره قبله بعض المتوسطين من الأصوليين المالكيين في كتابه في الأصول وهو عندي قاعدة صحيحة نافعة للناظر في نفسه غير أن المناظر الجدلي قد ينازع في المفهوم ويعسر تقريره عليه.
و قد استدل الحنفية بقوله عليه السلام: "شاهداك أو يمينه" على ترك العمل بالشاهد واليمين.
7 - عن ثابت بن الضحاك الأنصاري رضي الله عنه: أنه بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف على يمين بملة غير الإسلام كاذبا متعمدا فهو كما قال ومن قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة وليس على رجل نذر فيما لا يملك" 1.
وفي رواية: "ولعن المؤمن كقتله" 2.
وفي رواية: "من ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها لم يزده الله عز وجل إلا قلة" 3.
فيه مسائل:
المسألة الأولى: الحلف بالشيء حقيقة هو القسم به وإدخال بعض حروف القسم عليه كقوله والله والرحمن وقد يطلق على التعليق بالشيء يمين كما يقول الفقهاء: إذا حلف بالطلاق على كذا ومرادهم تعليق الطلاق به وهذا مجاز وكأن سببه مشابهة هذا التعليق باليمين في اقتضاء الحنث أو المنع.
إذا ثبت هذا فنقول: قوله عليه السلام: "من حلف على يمين بملة غير الإسلام" يحتمل أن يراد به: المعنى الأول ويحتمل أن يراد به المعنى الثاني والأقرب أن المراد الثاني لأجل قوله: "كاذبا متعمدا".
والكذب يدخل القضية الإخبارية التي يقع مقتضاها تارة وتارة لا يقع وأما قولنا والله.
ـــــــ
1 البخاري "6047" ومسلم "110".
2 البخاري "6105" ومسلم "110".
3 مسلم "110".(1/458)
وما أشبهه فليس الإخبار بها أمر خارجي وهي للإنشاء أعني إنشاء القسم فتكون صورة هذا اليمين على وجهين.
أحدهما: أن يتعلق بالمستقبل كقوله إن فعلت كذا فهو يهودي أو نصراني.
والثاني: أن يتعلق بالماضي مثل أن يقول إن كنت فعلت كذا فهو يهودي أو نصراني.
فأما الأول - وهو ما يتعلق بالمستقبل - فلا تتعلق به الكفارة عند المالكية والشافعية وأما عند الحنفية ففيها الكفارة وقد يتعلق الأولون بهذا الحديث فإنه لم يذكر كفارة وجعل المرتب على ذلك قوله: "هو كما قال" وأما إن تعلق بالماضي فقد اختلف الحنفية فيه فقيل: إنه لا يكفر اعتبارا بالمستقبل وقيل: يكفر لأنه تنجيز معنى فصار كما إذا قال هو يهودي قال بعضهم: والصحيح أنه لا يكفر فيهما إن كان يعلم أنه يمين وإن كان عنده أنه يكفر بالحلف يكفر فيهما لأنه رضي بالكفر حيث أقدم على الفعل.
المسألة الثانية: قوله عليه السلام: "و من قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة" هذا من باب مجانسة العقوبات الأخروية للجنايات الدنيوية.
ويؤخذ منه أن جناية الإنسان على نفسه كجنايته على غيره في الإثم لأن نفسه ليست ملكا له وإنما هي ملك لله تعالى فلا يتصرف فيها إلا أذن له فيه.
قال القاضي عياض وفيه دليل لمالك ومن قال بقوله على أن القصاص من القاتل بما قتل به محددا كان أو غير محدد خلافا لأبي حنيفة اقتداء بعقاب الله عز وجل لقاتل نفسه في الآخرة ثم ذكر حديث اليهودي وحديث العرنيين.
وهذا الذي أخذه من هذا الحديث في هذه المسألة ضعيف جدا لأن أحكام الله تعالى لا تقاس بأفعاله وليس كل ما فعله في الآخرة بمشروع لنا في الدنيا كالتحريق بالنار وإلساع الحيات والعقارب وسقي الحميم المقطع للأمعاء.
وبالجملة: فما لنا طريق إلى إثبات الأحكام إلا نصوص تدل عليها أو قياس على المنصوص عند القياسيين ومن شرط ذلك: أن يكون الأصل المقيس عليه حكما أما ما كان فعلا لله تعالى فلا وهذا ظاهر جدا وليس ما نعتقده فعلا لله تعالى في الدنيا أيضا بالمباح لنا فإن لله أن يفعل ما يشاء بعباده ولا حكم عليه وليس لنا أن نفعل بهم إلا ما أذن لنا فيه بواسطة أو بغير واسطة.
المسألة الثالثة: التصرفات الواقعة قبل الملك للشيء على وجهين.
أحدهما: تصرفات التنجيز كما لوأعتق عبد غيره أو باعه أو نذر نذرا متعلقا به فهذه تصرفات لاغية اتفاقا إلا ما حكي عن بعضهم في العتق خاصة أنه إذا كان موسرا: يعتق عليه وقيل: إنه رجع عنه.(1/459)
الثاني: التصرفات المتعلقة بالملك كتعلق الطلاق بالنكاح مثلا فهذا مختلف فيه ف الشافعي يلغيه كالأول وملك وأبو حنيفة يعتبرانه وقد يستدل للشافعي بهذا الحديث وما يقاربه ومخالفوه يحملونه على التنجيز أو يقولون بموجب الحديث فإن التنفيذ إنما يقع بعد الملك فالطلاق - مثلا - لم يقع قبل الملك فمن هنا يجيء القول بالموجب.
وههنا نظر دقيق في الفرق بين الطلاق - أعني تعليقه بالملك - وبين النذر في ذلك فتأمله واستبعد قوم تأويل الحديث وما يقاربه بالتنجيز من حيث إنه أمر ظاهر جلي لا تقوم به فائدة يحسن حمل اللفظ عليها وليست جهة هذا الاستبعاد بقوية فإن الأحكام كلها: في الابتداء كانت منتفية وفي أثنائها فائدة متجددة وإنما حصل الشيوع والشهرة لبعضها فيما بعد ذلك وذلك لا ينفي حصول الفائدة عند تأسيس الأحكام.
المسألة الرابعة: قوله عليه السلام: "و لعن المؤمن كقتله" فيه سؤال وهو أن يقال: إما أن يكون كقتله في أحكام الدنيا أو في أحكام الآخرة؟ لا يمكن أن يكون المراد أحكام الدنيا لأن قتله يوجب القصاص ولعنه لا يوجب ذلك وأما أحكام الآخرة فإما أن يراد بها التساوي في الإثم أو العقاب؟ وكلاهما مشكل لأن الإثم يتفاوت بتفاوت مفسدة الفعل وليس إذهاب الروح في المفسدة كمفسدة الأذى باللعنة وكذلك العقاب يتفاوت بحسب تفاوت الجرائم قال الله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 7, 8] وذلك دليل على التفاوت في العقاب والثواب بحسب التفاوت في المصالح والمفاسد فإن الخيرات مصالح والمفاسد شرور.
قال القاضي عياض: قال الإمام - يعني المازري - الظاهر من الحديث تشبيهه في الإثم وهو تشبيه واقع لأن اللعنة قطع عن الرحمة والموت قطع عن التصرف قال القاضي وقيل: لعنته تقتضي قصده بإخراجه من جماعة المسلمين ومنعهم منافعه وتكثير عددهم به كما لو قتله وقيل: لعنته تقتضي قطع منافعه الأخروية عنه وبعده منها بإباحة لعنته فهو كمن قتل في الدنيا وقطعت عنه منافعه فيها وقيل: الظاهر من الحديث: تشبيه في الإثم وكذلك ما حكاه من أن معناه استواؤهما في التحريم.
و أقول هذا يحتاج إلى تلخيص ونظر أما ما حكاه عن الإمام - من أن معناه استواؤهما في التحريم - فهذا يحتمل أمرين:
أحدهما: أن يقع التشبيه والاستواء في أصل التحريم والإثم.
والثاني: أن يقع في مقدار الإثم.
فأما الأول: فلا ينبغي أن يحمل عليه لأن كل معصية - قلت أو عظمت - فهي مشابهة أو مستوية مع القتل في أصل التحريم فلا يبقى في الحديث كبير فائدة مع أن المفهوم منه تعظيم أمر اللعنة بتشبيهها بالقتل.(1/460)
وأما الثاني: فقد بينا ما فيه من الإشكال وهو التفاوت في المفسدة بين إزهاق الروح وإتلافها وبين الأذى باللعنة.
وأما ما حكاه عن الإمام من قوله: إن اللعنة قطع عن الرحمة والموت قطع عن التصرف فالكلام عليه أن نقول: اللعنة قد تطلق على نفس الإبعاد الذي هو فعل الله تعالى وهذا الذي يقع فيه التشبيه.
والثاني: أن تطلق اللعنة على فعل اللاعن وهو طلبه لذلك الإبعاد بقوله لعنة الله مثلا أو بوصفه للشخص بذلك الإبعاد بقوله فلان ملعون وهذا ليس بقطع عن الرحمة بنفسه ما لم تتصل به الإجابة فيكون حينئذ تسببا إلى قطع التصرف ويكون نظيره: التسبب إلى القتل غير أنهما يفترقان في أن التسبب إلى القتل بمباشرة الحز وغيره من مقدمات القتل مفض إلى القتل بمطرد العادة فلو كان مباشرة اللعن مفضيا إلى الإبعاد الذي هو اللعن دائما: لاستوى اللعن مع مباشرة مقدمات القتل أو زاد عليه.
وبهذا يتبين لك الإيراد على ما حكاه القاضي من أن لعنته تقتضي قصده إخراجه عن جماعة المسلمين كما لو قتله فإن قصده إخراجه لا يستلزم إخراجه كما يستلزم مقدمات القتل وكذلك أيضا ما حكاه من أن لعنته تقتضي قطع منافعه الأخروية عنه بإجابة دعوته إنما يحصل ذلك بإجابة الدعوة وقد لا تجاب في كثير من الأوقات فلا يحصل انقطاعه عن منافعه كما يحصل بقتله ولا يستوي القصد إلى القطع بطلب الإجابة مع مباشرة مقدمات القتل المفضية إليه في مطرد العادة.
و يحتمل ما حكاه القاضي عن الإمام وغيره أو بعضه أن لا يكون تشبيها في حكم دنيوي ولا أخروي بل يكون تشبيها لأمر وجودي بأمر وجودي كالقطع والقطع - مثلا في بعض ما حكاه - أي قطعه عن الرحمة أو عن المسلمين بقطع حياته وفيه بعد ذلك نظر.
و الذي يمكن أن يقرر به ظاهر الحديث في استوائهما في الإثم أنا نقول: لا نسلم أن مفسدة اللعن مجرد أذاه بل فيها - مع ذلك - تعريضه لإجابة الدعاء فيه بموافقة ساعة لا يسأل الله فيها شيئا إلا أعطاه كما دل عليه الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تدعوا على أنفسكم, و لا تدعوا على أموالكم, و لا تدعوا على أولادكم لا توافقوا ساعة -" الحديث1 وإذا عرضه باللعنة لذلك وقعت الإجابة وإبعاده من رحمة الله تعالى كان ذلك أعظم من قتله لأن القتل تفويت الحياة الفانية قطعا والإبعاد من رحمة الله تعالى أعظم ضررا بما لا يحصى وقد يكون أعظم الضررين على سبيل الاحتمال مساويا أو مقاربا لأخفهما على سبيل التحقيق ومقادير الفساد والمصالح وأعدادهما أمر لا سبيل للبشر إلى الاطلاع على حقائقه.
ـــــــ
1 جزء من حديث طويل أخرجه مسلم "3014" من حديث جابر.(1/461)
1 - باب النذر.
1 - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "قلت: يا رسول الله إني كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة - وفي رواية يوما - في المسجد الحرام؟ قال: "فأوف بنذرك" 1.
فيه دليل على الوفاء بالنذر المطلق والنذور ثلاثة أقسام:
أحدها: ما علق على وجود نعمة أو دفع نقمة فوجد ذلك فيلزم الوفاء به.
والثاني: ما علق على شيء لقصد المنع أو الحث كقوله: إن دخلت الدار فلله علي كذا وقد اختلفوا فيه وللشافعي قولان: أنه مخير بين الوفاء بما نذر وبين كفارة يمين وهذا الذي يسمى نذر اللجاج والغضب.
والثالث: ما ينذر من الطاعة من غير تعليق بشيء كقوله لله علي كذا فالمشهور: وجوب الوفاء بذلك وهذا الذي أردناه بقولنا النذر المطلق وأما ما لم يذكر مخرجه كقوله: لله علي نذر هذا هو الذي يقول مالك: إنه يلزم فيه كفارة يمين.
وفيه دليل على أن الاعتكاف قربه تلزم بالنذر وقد تصرف الفقهاء الشافعية فيما يلزم بالنذر من العبادات وليس كل ما هو مثاب عليه لازما بالنذر عندهم فتكون فائدة هذا الحديث من هذا الوجه أن الاعتكاف من القسم الذي يلزم بالنذر.
وفيه دليل عند بعضهم على أن الصوم لا يشترط فيه الاعتكاف لقوله ليلة وهذا مذهب الشافعي ومذهب أبى حنيفة ومالك اشتراط الصوم أول قوله ليلة على اليوم فإن العرب تعبر بالليلة عن اليوم ولا سيما وقد ورد في بعض الروايات يوما.
واستدل به على أن نذر الكافر صحيح وهو قول في مذهب الشافعي والمشهور أنه لا يصح لأن الكافر ليس من أهل التزام القربة ويحتاج على هذا إلى تأويل الحديث ولعله أن قال: أنه أمره بأن يأتي بعبادة تماثل ما التزم في الصورة وهو اعتكاف يوم فأطلق عليها وفاء بالنذر لمشابهتها إياه ولأن المقصود قد حصل وهو الإتيان بهذه العبادة.
2 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه نهى عن النذر وقال: "إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل" 2.
مذهب المالكية العمل بظاهر الحديث وهو أن نذر الطاعة مكروه وإن كان لازما إلا أن سياق بعض الأحاديث يقتضي أحد أقسام النذر التي ذكرناها وهو ما يقصد به تحصيل غرض أو دفع مكروه وذلك لقوله: "و إنما يستخرج به من البخيل".
ـــــــ
1 البخاري "2032" ومسلم "1656".
2 البخاري "6608" ومسلم "1639" "4" واللفظ له.(1/462)
وفي كراهة النذر إشكال على القواعد فإن القاعدة تقتضي أن وسيلة الطاعة طاعة ووسيلة المعصية معصية ويعظم قبح الوسيلة بحسب عظم المفسدة وكذلك تعظم فضيلة الوسيلة بحسب عظم المصلحة ولما كان النذر وسيلة إلى الالتزام قربة لزم على هذا أن يكون قربة إلا أن ظاهر إطلاق الحديث دل على خلافه وإذا حملناه على القسم الذي أشرنا إليه من أقسام النذر كما دل عليه سياق الحديث فذلك المعنى الموجود في ذلك القسم ليس بموجود في النذر المطلق فإن ذلك خرج مخرج طلب العوض وتوقيف العبادة على تحصيل الغرض وليس هذا المعنى موجودا في التزام العبادة والنذر بها مطلقا.
وقد يقال أن البخيل لا يأتي بالطاعة إلا إذا اتصفت بالوجوب فيكون النذر هو الذي أوجب له فعل الطاعة لتعلق الوجوب به ولو لم يتعلق به الوجوب لتركه البخيل فيكون النذر المطلق أيضا مما يستخرج به من البخيل إلا أن لفظة البخيل هنا قد تشعر بما يتعلق بالمال وعلى كل تقدير فاتباع النصوص أولى.
وقوله عليه السلام: "إنما يستخرج به من البخيل" الأظهر في معناه أن البخيل لا يعطي طاعة إلا في عوض ومقابل يحصل له فيكون النذر هو السبب الذي استخرج منه تلك الطاعة.
وقوله عليه السلام: "لا يأتي بخير" يحتمل أن تكون الباء باء السببية كأنه يقول: لا يأتي بسبب خير في نفس الناذر وطبعه في طلب القرب والطاعة من غير عوض يحصل له وإن كان يترتب عليه خير وهو فعل الطاعة التي نذرها ولكن سبب ذلك الخير حصول غرضه.
3 - عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله الحرام حافية فأمرتني أن أستفتي لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيته فقال: "لتمش ولتركب" 1.
نذر المشي إلى بيت الله الحرام لازم عند مالك مطلقا وتعليقا فيحتاج إلى تأويل قوله: "و لتركب" فيمكن أن يحمل على حالة العجز عن المشي فإنها تركب وفي ما يلزم عن ذلك الركوب تفصيل مذهبي عندهم.
4 - عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: استفتى سعد بن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم في نذر كان على أمه توفيت قبل أن تقضيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فاقضه عنها" 2.
فيه دليل على جواز قضاء المنذور عن الميت وقوله: "عن نذر" هو نكرة في الإثبات ولم يبين في هذه الرواية ما كان النذر.
ـــــــ
1 البخاري "1866" ومسلم "1644".
2 البخاري "6959" ومسلم "1638".(1/463)
وقد انقسمت العبادة إلى مالية وبدنية والمالية لا إشكال في دخول النيابة فيها والقضاء على الميت وإنما الإشكال في العبادة البدنية كالصوم.
5 - عن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك" 1.
فيه دليل على أن إمساك ما يحتاج إليه من المال أولى من إخراج كله في الصدقة وقد قسموا ذلك بحسب أخلاق الإنسان فإن كان لا يصبر على الإضافة كره له أن يتصدق بكل ماله وإن كان ممن يصبر لم يكره.
وفيه دليل على أن الصدقة لها أثر في محو الذنوب ولأجل هذا شرعت الكفارات المالية وفيها مصلحتان كل واحدة منهما تصلح للمحو.
إحداهما: التواب الحاصل بسببها وقد تحصل به الموازنة فتمحو أثر الذنب.
والثانية: دعاء من يتصدق عليه فقد يكون سببا لمحو الذنوب.
وقد ورد في بعض الروايات: "يكفيك من ذلك الثلث" 2.
واستدل بعض المالكية على أن من نذر التصدق بكل ماله اكتفى منه بالثلث وهو ضعيف لأن اللفظ الذي أتى به كعب بن مالك ليس بتنجيز صدقة حتى يقع في محل الخلاف وإنما هو لفظ عن نية قصد فعل متعلقها ولم يقع بعد فأشار عليه السلام بأن لا يفعل ذلك وأن يمسك بعض ماله وذلك قبل إيقاع ما عزم عليه هذا ظاهر اللفظ أو هو محتمل له وكيفما كان فتضعف منه الدلالة على مسألة الخلاف وهو تنجيز الصدقة بكل المال نذرا مطلقا أو معلقا.
ـــــــ
1 البخاري "2758" ومسلم "2769".
2 أحمد "15750" وأبو داود "2319" من حديث أبي لبابة.(1/464)
2 - باب القضاء.
1 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" 1.
و في لفظ: "من عمل ليس عليه أمرنا فهو رد" 2.
ـــــــ
1 البخاري "2697" ومسلم "1718".
2 البخاري معلقا في ترجمة باب النجش ومن قال لا يجوز لك البيع. إثر الحديث "2141" ومسلم "1718" "18".(1/464)
هذا الحديث أحد الأحاديث الأركان من أركان الشريعة لكثرة ما يدخل تحته من الأحكام وقوله: "فهو رد" أي مردود أطلق المصدر على اسم المفعول.
ويستدل به على إبطال جميع العقود الممنوعة وعدم وجود ثمراتها.
واستدل به في أصول الفقه على أن النهي يقتضي الفساد نعم قد يقع الغلط في بعض المواضع لبعض الناس فيما يقتضيه الحديث من الرد لأنه قد يتعرض أمران فينتقل من أحدهما إلى الآخر ويكون العمل بالحديث في أحدهما كافيا ويقع الحكم به في الآخر في محل النزاع فللخصم أن يمنع دلالته عليه فتنبه لذلك.
2 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني إلا ما أخذت من ماله بغير علمه فهل علي في ذلك من جناح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك" 1.
استدل به بعضهم على القضاء على الغائب وفيه ضعف من حيث أنه يحتمل الفتوى بل ندعي أنه يتعين ذلك للفتوى لأن الحكم يحتاج إلى إثبات السبب المسلط على الأخذ من مال الغير ولا يحتاج إلى ذلك في الفتوى وربما قيل: إن أبا سفيان كان حاضرا في البلد ولا يقضي على الغائب الحاضر في البلد مع إمكان إحضاره وسماعه للدعوى عليه في المشهور من مذاهب الفقهاء فإن ثبت أنه كان حاضرا فهو وجه يبعد الاستدلال عنه الأكثرين من الفقهاء وهذا يبعد ثبوته إلا أن يؤخذ بطريق الاستصحاب بحال حضوره.
نعم فيه دليل على مسالة للظفر بالحق وأخذه من غير مراجعة من هو عليه.
ولم يدل الحديث على جواز أخذها من الجنس أو من غير الجنس ومن يستدل بالإطلاق في مثل هذا يجعله حجة في الجميع.
واستدل به على أنه لا يتوقف أخذ الحق من مال من عليه على تعذر الإثبات عند الحاكم وهو وجه للشافعية لأن هندا كان يمكنها الرفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ الحق بحكمه.
وفيه دليل على أن النفقة غير مقدرة بمقدار معين بل بالكفاية لقوله: "ما يكفيك وبنيك".
وفيه دليل على تصرف المرأة في نفقة ولدها في الجملة.
وقد يستدل به من يرى أن للمرأة ولاية على ولدها من حيث أن صرف المال إلى المحجور عليه أو تمليكه له يحتاج إلى ولاية وفيه نظر لوجود الأب فيحتاج إلى الجواب عن هذا
ـــــــ
1 البخاري "2211" ومسلم "1714" واللفظ له.(1/465)
التوجيه المذكور فقد يقال إن تعذر استيفاء الحق من الأب أو غيره مع تكرر الحاجة دائما يجعله كالمعدم وفيه نظر أيضا.
وفيه دليل على جواز ذكر بعض الأوصاف المذمومة إذا تعلقت بها مصلحة أو ضرورة.
وفيه دليل على أن ما يذكر في الاستفتاء لأجل ضرورة معرفة الحكم إذا تعلق به أذى الغير لا يوجب تعزيرا.
3 - عن أم سلمة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى عليه وسلم سمع جلبة خصم بباب حجرته فخرج إليهم فقال: "ألا إنما أنا بشر وإنما يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من نار فليحملها أو يذرها" 1.
فيه دليل على إجراء الأحكام على الظاهر وإعلام الناس بأن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك كغيره وإن كان يفترق مع الغير في إطلاعه على ما يطلعه الله عز وجل عليه من الغيوب الباطنة وذلك في أمور مخصوصة لا في الأحكام العامة وعلى هذا يدل قوله عليه السلام: "إنما أنا بشر" وقد قدمنا في أول الكتاب أن الحصر في إنما يكون عاما يكون خاصا هذا من الخاص وهو فيما يتعلق بالحكم بالنسبة إلى الحجج الظاهرة.
ويستدل بهذا الحديث من يرى أن القضاء لا ينفذ في الظاهر والباطن معا مطلقا وإن حكم القاضي لا يغير حكما شرعيا في الباطن.
واتفق أصحاب الشافعي على أن القاضي الحنفي إذا قضى بشفعة الجار للشافع أخذها في الظاهر واختلفوا في حل ذلك في الباطن له على وجهين.
والحديث عام بالنسبة إلى سائر الحقوق والذين يتفقون عليه - اعني أصحاب الشافعي - أن الحجج إذا كانت باطلة في نفس الأمر بحيث لو اطلع عليها القاضي لم يجز له الحكم بها إن ذلك لا يؤثر وإنما وقع التردد في الأمور الاجتهادية إذا خالف اعتقاد القاضي اعتقاد المحكوم له كما قلنا في شفعة الجار.
4 - عن عبد الرحمن بن أبي بكرة رضي الله عنهما قال: كتب أبي أو كتبت له إلى ابنه عبد الله بن أبي بكرة وهو قاض بسجستان أن لا تحكم بين اثنين وأنت غضبان فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان" 2.
وفي رواية: "لا يقضين حاكم بين اثنين وهو غضبان" 3.
ـــــــ
1 البخاري "2458" ومسلم "1713" "5" واللفظ له.
2 البخاري "7158" ومسلم "1717".
3 وهي رواية البخاري السابقة.(1/466)
النص وارد في المنع من القضاء حالة الغضب وذلك لما يحصل للنفس بسببه من التشويش الموجب لاختلال المنظر وعدم استيفائه على الوجه وعداه الفقهاء بهذا المعنى إلى كل ما يحصل منه ما يشوش الفكر كالجوع والعطش وهو قياس مظنة على مظنة فإن كل واحد من الجوع والعطش مشوش للفكر ولو قضى مع الغضب والجوع لنفذ إذا صادف الحق وقد ورد في بعض الأحاديث ما يدل على ذلك1 وكأن الغضب إنما خص لشدة استيلائه على النفس وصعوبة مقاومته.
وفيه دليل على أن الكتابة بالحديث كالسماع من الشيخ في وجوب العمل وأما في الرواية فقد اختلفوا في ذلك والصواب أن يقال إن أدى الرواية بعبارة مطابقة للواقع جاز كقوله: كتب إلي فلان بكذا وكذا.
5 - عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟" - ثلاثا - قلنا: بلى يا رسول الله, قال: "الإشراك بالله وعقوق الوالدين", وكان متكئا فجلس وقال: "ألا وقول الزور وشهادة الزور" فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت2.
فيه مسائل:
الأولى: قد يدل الحديث على انقسام الذنوب إلى صغائر وكبائر وعليه أيضا يدل قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} [النساء: 31] وفي الاستدلال بهذا الحديث على ذلك نظر لأن من قال: كل ذنب كبيرة فالكبائر والذنوب عنده متواردان على شيء واحد فيصير كأنه قيل: ألا أنبئكم بأكبر الذنوب.
وعن بعض السلف أن كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة وظاهر القرآن والحديث على خلافه ولعله أخذ الكبيرة باعتبار الوضع اللغوي ونظر إلى عظم المخالفة للأمر والنهي وسمى كل ذنب كبيرة.
ـــــــ
1 منها الحديث الذي أخرجه البخاري "2360" ومسلم "2357" عن عبد الله بن الزبير أن رجلا من الأنصار خاصم الزبير عند النبي صلى الله عليه وسلم في شراج الحرة التي يسقون بها النخل فقال الأنصاري سرح الماء يمر فأبى عليه فاختصما عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير "اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك" فغضب الأنصاري فقال: أن كان ابن عمتك فتلون وجه النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: "اسق يا زبير ثم اجلس الماء حتى يرجع الجدار." الحديث.
2 البخاري "2654" ومسلم "78".(1/467)
الثانية: يدل على انقسام الكبائر في عظمها إلى كبير وأكبر لقوله عليه السلام: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟" وذلك بحسب تفاوت مفاسدها ولا يلزم من كون هذه أكبر الكبائر استواء رتبها أيضا في نفسها فإن الإشراك بالله أعظم كبيرة من كل ما عداه من الذنوب المذكورة في الأحاديث التي ذكر فيها الكبائر.
الثالثة: اختلف الناس في الكبائر.
فمنهم من قصد تعريفها بتعددها وذكروا في ذلك أعدادا من الذنوب ومن سلك هذه الطريقة فليجمع ما ورد في ذلك في الأحاديث إلا أنه لا يستفيد بذلك الحصر ومن هذا قيل: إن بعض السلف قيل له: أنها سبع فقال: إنها إلى السبعين أقرب منها إلى السبع.
ومنهم من سلك طريق الحصر بالضوابط فقيل عن بعضهم: إن كل ذنب قرن به وعيد أو لعن أو حد فهو من الكبائر فتغيير منار الأرض كبيرة لاقتران اللعن به وكذا قتل المؤمن لاقتران الوعيد به والمحاربة به والزنا والسرقة والقذف كبائر لاقتران الحدود بها واللعنة ببعضها.
وسلك بعض المتأخرين طريقا فقال: إذا أردت معرفة الفرق بين الصغائر والكبائر فأعرض مفسدة الذنب على مفاسد الكبائر المنصوص عليها فإذا نقصت على أقل مفاسد الكبائر فهي من مفاسد الكبائر المنصوص عليها فإن نقصت عن أقل مفاسد الكبائر فهي من الصغائر وإن ساوت أدنى مفاسد الكبائر أو أربت عليه فهي من الكبائر وعد من الكبائر شتم الرب تبارك وتعالى أو الرسول والاستهانة بالرسل وتكذيب واحد منهم وتضميخ الكعبة بالعذرة وإلقاء المصحف في القاذورات فهذا من أكبر الكبائر ولم يصرح الشرع بأنه كبيرة.
وهذا الذي قاله داخل عندي فيما نص عليه الشرع بالكفر إن جعلنا المراد بالإشراك بالله مطلق الكفر على ما سنسببه عليه ولا بد مع هذا من أمرين:
أحدهما: أن المفسدة لا تؤخذ مجردة عما يقترن بها من أمر آخر فإنه قد يقع غلط في ذلك ألا ترى أن السابق إلى الذهن أن مفسدة الخمر السكر وتشويش العقل فإن أخذنا هذا بمجرده لزم منه أن لا يكون شرب القطرة الواحدة كبيرة لخلائها عن المفسدة المذكورة لكنها كبيرة فإنها وإن خلت عن المفسدة المذكورة إلا أنه يقترن بها مفسدة الإقدام والتجري على شرب الكثير الموقع في المفسدة فبهذا الاقتران تصير كبيرة.
الثاني: أنا إذا سلكنا هذا المسلك فقد تكون مفسدة بعض الوسائل إلى بعض الكبائر مساويا لبعض الكبائر أو زائدا عليها فإن من أمسك امرأة محصنة لم يزني بها أو مسلما معصوما لمن يقتله فهو كبيرة أعظم مفسدة من أكل مال الربا أو أكل مال اليتيم وهو منصوص عليهما وكذلك لو دل على عورة من عورات المسلمين تفضي إلى قتلهم وسبي.(1/468)
ذراريهم وأخذ أموالهم كان ذلك أعظم من فراره من الزحف والفرار من الزحف منصوص عليه دون هذه وكذلك تفعل على هذا القول الذي حكيناه من أن الكبيرة ما رتب عليها اللعن أو الحد أو الوعيد فتعتبر مفاسد بالنسبة إلى ما رتب عليه من ذلك فما ساوى أقلها فهو كبيرة وما نقص عن ذلك فليس بكبيرة.
الرابعة: قوله عليه السلام: "الإشراك بالله" يحتمل أن يراد به مطلق الكفر فيكون تخصيصه بالذكر لغلبته في الوجود لا سيما في بلاد العرب فذكر تنبيها على غيره ويحتمل أن يراد به خصوصه إلا أنه يرد على هذا الاحتمال أنه قد يظهر أن بعض الكفر أعظم قبحا من الإشراك وهو كفر التعطيل فبهذا يترجح الاحتمال الأول.
الخامسة: عقوق الوالدين معدود من أكبر الكبائر في هذا الحديث ولا شك في عظم مفسدته لعظم حق الوالدين إلا أن ضبط الواجب من الطاعة لهما والمحرم من العقوق لهما فيه عسر ورتب العقوق مختلفة.
قال شيخنا الإمام أبو محمد بن عبد السلام: ولم أقف في عقوق الوالدين ولا فيما يختصان به من الحقوق على ضابط أعتمد عليه فإن ما يحرم في حق الأجانب فهو حرام في حقهما وما يجب للأجانب فهو واجب لهما فلا يجب على الولد طاعتهما في كل ما يأمران به ولا في كل ما ينهيان عنه باتفاق العلماء وقد حرم على الولد السفر إلى الجهاد بغير إذنهما لما يشق عليهما من توقع قتله أو قطع عضو من أعضائه ولشدة تفجعهما على ذلك وقد ألحق بذلك كل سفر يخافان فيه على نفسه أو على عضو من أعضائه وقد ساوى الوالدان الرقيق في النفقة والكسوة والسكنى انتهى كلامه.
والفقهاء قد ذكروا صورا جزئية وتكلموا فيها منثورة لا يحصل ضابط كلي فليس يبعد أن يسلك في ذلك ما أشرنا إليه في الكبائر وهو أن تقاس المصالح في طرف الثبوت بالمصالح التي وجبت لأجلها والمفاسد في طرف العدم بالمفاسد التي حرمت لأجلها.
السادسة: اهتمامه عليه السلام بأمر شهادة الزور أو قول الزور يحتمل أن تكون لأنها أسهل وقوعا على الناس والتهاون بها أكثر فبمفسدتها أيسر وقوعا ألا ترى أن المذكور معها هو الإشراك بالله؟ ولا يقع فيه المسلم وعقوق الوالدين والطبع صارف عنه.
وأما قول الزور فإن الحوامل عليه كثيرة كالعداوة وغيرها فاحتيج إلى الاهتمام بتعظيمها وليس ذلك لعظمها بالنسبة إلى ما ذكر معها وهو الإشراك قطعا "قول الزور وشهادة الزور" ينبغي أن يحمل قوله الزور على شهادة الزور فإنا لو حملناها على الإطلاق لزم أن تكون الكذبة الواحدة مطلقا كبيرة وليس كذلك وقد نص الفقهاء على أن الكذبة الواحدة.(1/469)
وما يقاربها لا تسقط العدالة ولو كانت كبيرة لسقطت وقد نص الله تعالى على عظم بعض الكذب فقال: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [النساء:112] وعظم الكذب ومراتبه تتفاوت بحسب تفاوت مفاسده وقد نص في الحديث الصحيح على أن الغيبة والنميمة كبيرة لإيجابها الحد ولا تساويها الغيبة بقبح الخلقة مثلا أو قبح بعض الهيئة في اللباس مثلا والله أعلم.
6 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه" 1.
الحديث دليل على أنه لا يجوز الحكم إلا بالقانون الشرعي الذي رتب وإن غلب على الظن صدق المدعي ويدل على أن اليمين على المدعى عليه مطلقا وقد اختلف الفقهاء في اشتراط أمر آخر في وجه اليمين على المدعى عليه وفي مذهب مالك وأصحابه تصرفات بالتخصيصات لهذا العموم خالفهم فيها غيرهم منها: اعتبار الخلطة بين المدعي والمدعى عليه في اليمين ومنها أن من ادعى سببا من أسباب القصاص لم تجب به اليمين إلا أن يقيم على ذلك شاهدا فتجب اليمين ومنها إذا ادعى رجل على امرأة نكاحا لم يجب له عليها من يمين في ذلك قال سحنون: منهم إلا أن يكونا طارئين ومنها أن بعض الأمناء ممن يجعل القول قوله لا يوجبون عليه يمينا ومنها: دعوى امرأة طلاقا على الزوج وكل من خالفهم في شيء من هذا يتدل بعموم هذا الحديث.
ـــــــ
1 البخاري "4552" ومسلم "1711" واللفظ له.(1/470)
كتاب الأطعمة
مدخل
...
كتاب الأطعمة.
1 - عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول - وأهوى النعمان بإصبعيه إلى أذنيه -: "إن الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ألا وأن لكل ملك حمى ألا وأن حمى الله محارمه ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب" 1.
هذا أحد الأحاديث العظام التي عدت من أصول الدين فأدخلت في الأربعة الأحاديث التي جعلت أصلا في هذا الباب وهو أصل كبير في الورع وتارك المتشابهات في الدين.
والشبهات لها مثارات:
منها: الاشتباه في الدليل الدال على التحريم أو التحليل أو تعارض الأمارات والحجج ولعل قوله عليه السلام: "لا يعلمهن كثير من الناس" إشارة إلى هذا المثار مع أنه يحمل أن يراد: لا يعلم عينها وإن علم حكم أصلها في التحليل والتحريم وهذا أيضا من مثار الشبهات.
وقوله عليه السلام: "من اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه" أصل في الورع وقد كان في عصر شيوخ شيوخنا بينهم اختلاف في هذه المسألة وصنفوا فيها تصانيف وكان بعضهم سلك طريقا في الورع فخالفه بعض أهل عصره وقال: إن كان هذا الشيء مباحا - والمباح ما استوى طرفاه - فلا ورع فيه لأن الورع ترجيح لجانب الترك والترجيح لأحد الجانبين مع التساوي محال وجمع بين المتناقضين وبنى على ذلك تصنيفا.
والجواب عن هذا عندي من وجهين:
أحدهما: أن المباح قد يطلق على ما لا حرج في فعله وإن لم يتساو طرفاه وهذا أعم من المناخ المتساوي الطرفين فهذا الذي ردد فيه القول وقال: إما أن يكون مباحا أو لا فإن كان مباحا فهو مستوي الطرفين يمنعه إذا حملنا المباح على هذا المعنى فإن المباح قد صار
ـــــــ
1 البخاري "52" ومسلم "1599" واللفظ له.(1/471)
منطلقا على ما هو أعم من المتساوي الطرفين فلا يدل اللفظ على التساوي إذ الدال على العام لا يدل على الخاص بعينه.
الثاني: أنه قد يكون متساوي الطرفين باعتبار ذاته راجحا باعتبار أمر خارج ولا يتناقض حينئذ الحكمان.
وعلى الجملة: فلا يخلو هذا الموضع من نظر فإنه إن لم يكن فعل هذا المشتبه موجبا لضرر ما في الآخرة وإلا فيعسر ترجيح تركه إلا أن يقال: إن تركه محصل لثواب أو زيادة درجات وهو على خلاف ما يفهم من أفعال الورعين فإنهم يتركون ذلك تحرجا وتخوفا وبه يشعر لفظ الحديث.
وقوله عليه السلام: "و من وقع في الشبهات وقع في الحرام" يحتمل وجهين.
أحدهما: أنه إذا عود نفسه عدم التحرز مما يشتبه أثر ذلك استهانة في نفسه توقعه في الحرام مع العلم به.
والثاني: أنه إذا تعاطى الشبهات وقع في الحرام في نفس الأمر فمنع من تعاطي الشبهات لذلك.
وقوله عليه السلام: "كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه" من باب التمثيل والتشبيه و "يوشك" بكسر الشين بمعنى يقرب و "الحمى" المحمي أطلق المصدر على اسم المفعول وتنطلق المحارم على المنهيات قصدا وعلى ترك المأمورات التزاما وإطلاقها على الأول أشهر.
وقد عظم الشارع أمر القلب لصدور الأفعال الاختيارية عنه وعما يقوم به من الاعتقادات والعلوم ورتب الأمر فيه على المضغة والمراد المتعلق بها ولا شك أن صلاح جميع الأعمال باعتبار العلم أو الاعتقاد بالمفاسد والمصالح.
2 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "أنفجنا أرنبا بمر الظهران فسعى القوم فلغبوا وأدركتها فأخذتها فأتيت بها أبا طلحة فذبحها وبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بوركها وفخذيها فقبله"1.
يقال لغبوا إذا أعيوا وأنفجت الأرنب بفتح الهمزة وسكون النون وفتح الفاء وسكون الجيم فنفج أي: أثرته فثار كأنه يقول: أثرناه وذعرناه فعدا و مر الظهران موضع معروف.
والحديث دليل على جواز أكل الأرنب فإنه إنما ينتفع ببعضها إذا ذبحت بالأكل وفيه دليل على الهدية وقبولها.
ـــــــ
1 البخاري "2572" ومسلم "1953".(1/472)
3 - عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنه قالت: "نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا فأكلناه"1.
وفي رواية: "و نحن بالمدينة"2.
4 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في لحوم الخيل"3.
ولمسلم وحده قال: "أكلنا زمن خيبر الخيل وحمر الوحش ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحمار الأهلي"4.
يستدل بهذين الحديثين من يرى جواز أكل الخيل وهو مذهب الشافعي وغيره وكرهه مالك وأبو حنيفة واختلف أصحاب أبي حنيفة هل هي كراهة تنزيه أو كراهة تحريم؟ والصحيح عندهم أنها كراهة تحريم واعتذر بعضهم عن هذا الحديث أعني بعض الحنفية بأن قال: فعل الصحابي في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إنما يكون حجة إذا علمه النبي صلى الله عليه وسلم وفيه شك على أنه معارض بقول بعض الصحابة: أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم لحوم الخيل ثم إن سلم عن المعارض ولكن لا يصح التعلق به في مقابلة دلالة النص.
وهذا إشارة إلى ثلاثة أجوبة:
فأما الأول: فإنما يرد على هذه الرواية والرواية الأخرى لجابر وأما الرواية التي فيها: "و أذن في لحوم الخيل" فلا يرد عليها التعلق.
وأما الثاني: وهو المعارضة بحديث التحريم فإنما نعرفه بلفظ النهي لا بلفظ التحريم من حديث خالد بن الوليد وفي ذلك الحديث كلام ينقض به عن مقاومة هذا الحديث عند بعضهم.
وأما الثالث: فإنما أراد بدلالة الكتاب قوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] ووجه الاستدلال أن الآية خرجت مخرج الامتنان بذكر النعم على ما دل عليه سياق الآيات التي في سورة النحل فذكر الله تعالى الامتنان بنعمة الركوب والزينة في الخيل والبغال والحمير وترك الامتنان بنعمة الأكل كما ذكر في الأنعام5 ولو كان الأكل ثابتا لما ترك الامتنان به لأن نعمة الأكل في حنسها فوق نعمة الركوب والزينة فإنه يتعلق بها البقاء بغير واسطة ولا يحسن ترك الامتنان بأعلى النعمتين وذكر الامتنان بأدناهما فدل ترك الامتنان بالأكل على المنع منه ولا سيما وقد ذكرت نعمة الأكل في نظائرها من الأنعام وهذا - وإن كان استدلالا حسنا - إلا أنه يجاب عنه من وجهين:
ـــــــ
1 البخاري "5510" ومسلم "1942".
2 البخاري "5511".
3 البخاري "5520" ومسلم "1941".
4 ومسلم "1941" "37".
5 يريد قوله تعالى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [النحل:5](1/473)
أحدهما: ترجيح دلالة الحديث على الإباحة على هذا الوجه من الاستدلال من حيث قوته بالنسبة إلى بلك الدلالة.
الثاني: أن يطالب بوجه الدلالة على عين التحريم فإنما يشعر بترك الأكل وترك الأكل أعم من كونه متروكا على سبيل الحرمة أو على سبيل الكراهة.
وفي الحديث دليل من حيث ظاهر اللفظ في هذه الرواية على جواز النحر للخيل.
وقوله: "و نهى النبي صلى الله عليه وسلم الخ" يستدل به من يرى تحريم الحمر الأهلية لظاهر النهي وفيه خلاف لبعض العلماء بالكراهة المغلظة وفيه احتراز عن الحمار الوحشي ودلالة على جواز أكله بطريق المفهوم.
5 - عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: "أصابتنا مجاعة ليالي خيبر فلما كان يوم خيبر وقعنا في الحمر الأهلية فانتحرناها فلما غلت بها القدور نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أكفئوا القدور وربما قال: ولا تأكلوا من لحوم الحمر شيئا"1.
هذه الرواية تشتمل على لفظ التحريم وهو أدل من لفظ النهي وأمره عليه السلام بإكفاء القدور محمول على أن سببه تحريم الأكل للحومها عند جماعة وقد ورد فيه علتان أخريان أحدهما: أنها أخذت قبل المقاسم والثانية: أنه لأجل كونها من جوال القرية ولكن المشهور والسابق إلى الفهم أنه لأجل التحريم فإن صحت تلك الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم تعين الرجوع إليها وكفأت القدر قلبته ففرغت ما فيه.
6 - عن أبي ثعلبة رضي الله عنه قال: "حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوم الحمر الأهلية"2.
7 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: دخلت أنا وخالد بن الوليد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت ميمونة فأتي بضب محنوذ فأهوى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده فقال بعض النسوة اللاتي في بيت ميمونة: أخبروا رسول الله بما يريد أن يأكل [فقالوا: هو ضب يا رسول الله]3 فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فقلت: أحرام هو يا رسول الله؟ قال: "لا ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه", قال خالد: فاجتررته فأكلته والنبي صلى الله عليه وسلم ينظر4.
قال رضي الله عنه: المحنوذ المشوي بالرضيف: وهي الحجارة المحماة.
ـــــــ
1 البخاري "3155" ومسلم "1397" "27" واللفظ له.
2 البخاري "5527" ومسلم "1936".
3 زيادة من صحيح البخاري.
4 البخاري "5537" ومسلم "1946" بلفظ قريب.(1/474)
فيه دليل على جواز أكل الضب لقوله صلى الله عليه وسلم لما سئل: أحرام هو؟ قال: "لا" ولتقرير النبي صلى الله عليه وسلم على أكله مع العلم بذلك وهو أحد الطرق الشرعية في الأحكام - أعني الفعل والقول والتقرير مع العلم -.
وفيه دليل على الإعلام بما يشك في أمره ليتضح الحل فيه فإن كان لا يمكن أن لا يعلم النبي صلى الله عليه وسلم عين ذلك الحيوان وأنه ضب فقصد الإعلام بذلك ليكونوا على يقين من إباحته إن أكله أو أقر عليه.
وفيه دليل على أن ليس مطلق النفرة وعدم الاستطابة دليلا على التحريم بل أمر مخصوص من ذلك إن قيل: إن ذلك من أسباب التحريم أعني الاستخباث كما يقول الشافعي.
8 - عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: "غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد"1.
فيه دليل على إباحة أكل الجراد ولم يتعرض في الحديث لكونها ذكيت بذكاة مثلها كما يقوله المالكية من أنه لا بد من سبب يقتضي موتها كقطع رؤوسها مثلا فلا يدل على اشتراط ذلك ولا على عدم اشتراطه فإنه لا صيغة للعموم ولا بيان لكيفية أكلهم.
9 - عن زهدم بن مضرب الجرمي قال: "كنا عند أبي موسى الأشعري فدعا بمائدة وعليها لحم دجاج فدخل رجل من بني تيم الله أحمر شبيه بالموالي فقال: هلم فتلكأ فقال: هلم فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل منه"2.
زهدم: بفتح الزاي والدال المهملة وسكون الهاء بينهما ومضرب بضم الميم وفتح الضاد المعجمة وكسر الراء المهملة المشددة والجرمي بفتح الجيم وسكون الراء المهملة.
وفي الحديث: دليل على إباحة أكل الدجاج ودليل على البناء على الأصل فإنه قد بين برواية أخرى: أن هذا الرجل علل تأخره بأنه رآه يأكل شيئا فقذره فإما أن يكون كما قلناه في البناء على الأصل ويكون أكل الدجاج الذي يأكل القذر مكروها أو يكون ذلك دليلا على أنه لا اعتبار بأكله للنجاسة وقد جاء النهي عن لبن الجلالة وقال الفقهاء: إذا تغير لحمها بأكل النجاسة لم تؤكل.
و هلم: كلمة استدعاء والأكثر فيها: أنها تستعمل للواحد والجماعة والمذكر والمؤنث بصيغة واحدة وتلكأ أي تردد وتوقف.
ـــــــ
1 البخاري "5495" ومسلم "1952".
2 البخاري "518" ومسلم "1649" "9" واللفظ له.(1/475)
10 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أكل أحدكم طعاما فلا يمسح يده حتى يلعقها أو يلعقها" 1.
"يلعقها" بفتح الياء متعديا إلى مفعول واحد "ويلعقها" الثاني: بضمها متعديا إلى مفعولين وقد جاءت علة هذا مبينة في بعض الروايات: "فإنه لا يدري في أي طعامه البركة" 2.
وقد يعلل بأن مسحها قبل ذلك: فيه زيادة تلويث لما مسح به مع الاستغناء عنه بالريق ولكن إذا صح الحديث بالتعليل لم نعدل عنه.
ـــــــ
1 البخاري "5456" ومسلم "2031".
2 مسلم "2033" من حديث جابر.(1/476)
1 - باب الصيد.
1 - عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إنا بأرض قوم أهل كتاب أفنأكل في آنيتهم؟ وفي أرض صيد أصيد بقوسي وبكلبي الذي ليس بمعلم وبكلبي المعلم فما يصلح لي؟ قال: "أما ما ذكرت - يعني من آنية أهل الكتاب - فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها وإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها وما صدت بقوسك فذكرت اسم الله عليه فكل وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله عليه فكل وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاته فكل" 1.
أبو ثعلبة الخشني بضم الخاء وفتح الشين المعجمة منسوب إلى بني خشين بطن من قضاعة وهو وائل بن نمر بن وبرة بن تغلب بالغين المعجمة ابن حلوان بن عمران بن إلحاف بن قضاعة وخشين تصغير أخشن مرخما قيل: اسمه جرثوم بن ناشب - أعني اسم أبي ثعلبة.
وفي الحديث مسائل:
الأولى: أنه يدل على أن استعمال أواني أهل الكتاب يتوقف على الغسل واختلف الفقهاء في ذلك بناء على قاعدة تعارض الأصل والغالب وذكروا الخلاف فيمن يتدين باستعمال النجاسة من المشركين وأهل الكتاب كذلك وإن كان فرق بينهم وبين أولئك لأنهم يتدينون باستعمال الخمر أو يكثرون ملابستها فالنصارى لا يجتنبون النجاسات ومنهم من يتدين بملابستها كالرهبان فلا وجه لإخراجهم ممن يتدين باستعمال النجاسات والحديث جار على مقتضى ترجيح غلبة الظن فإن المستفاد من الغالب راجح على الظن المستفاد من الأصل.
ـــــــ
1 البخاري "5478" ومسلم "1930".(1/476)
الثانية: فيه دليل على جواز الصيد بالقوس والكلب معا ولم يتعرض في الحديث للتعليم المشترك والفقهاء تكلموا فيه وجعلوا المعلم من ينزجر بالانزجار وينبعث بالإشلاء ولهم نظر في غير ذلك من الصفات والقاعدة أن ما رتب عليه الشرع حكما لم يحد فيه حدا يرجع فيه إلى العرف.
الثالثة: فيه حجة لمن يشترط التسمية على الإرسال لأنه وقف الإذن في الأكل علىالتسمية والمعلق بالوصف ينتفي بانتفائه عند القائلين بالمفهوم وفيه ههنا زيادة على كونه مفهوما مجردا وهو أن الأصل: تحريم أكل الميتة وما أخرج الإذن منها إلا ما هو موصوف بكونه مسمى عليه فغير المسمى عليه: يبقى على أصل التحريم داخلا تحت النص المحرم للميتة.
الرابعة: الحديث يدل على أن المصيد بالكلب المعلم لا يتوقف على الذكاة لأنه فرق بينه وبين غير المعلم في إدراك الذكاة فإذا قتل الكلب الصيد بظفره أو نابه حل وإن قتله بثقله ففيه خلاف في مذهب الشافعي وقد يؤخذ من إطلاق الحديث: جواز أكله وفيه بعض الضعف أعني أخذ الحكم من هذا اللفظ.
الخامسة: شرط عليه السلام في غير المعلم إذا صاد: أن تدرك ذكاة الصيد وهذا الإدراك يتعلق بأمرين:
أحدهما: الزمن الذي يمكن فيه الذبح فإن أدركه ولم يذبح فهو ميتة ولو كان ذلك لأجل العجز عما يذبح به: لم يعذر في ذلك.
الثاني: الحياة المستقرة كما ذكره الفقهاء فإن أدركه وقد أخرج حشوته أو أصاب نابه مقتلا فلا اعتبار بالذكاة حينئذ هذا على ما قاله الفقهاء.
2 - عن همام بن الحارث عن عدي بن حاتم قال: قلت: يا رسول الله إني أرسل الكلاب المعلمة فيمسكن علي وأذكر اسم الله؟ فقال: "إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك", قلت: وإن قتلن؟ قال: "وإن قتلن ما لم يشركها كلب ليس منها" قلت: فإني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب؟ فقال: "إذا رميت بالمعراض فخزق فكله وإن أصابه بعرضه فلا تأكله" 1.
3 - وحديث الشعبي عن عدي نحوه وفيه: "إلا أن يأكل الكلب فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه وإن خالطها كلاب من غيرها فلا تاكل فإنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره".
وفيه: "إذا أرسلت كلبك المكلب فاذكر اسم الله عليه فإن أمسك عليك فأدركته حيا
ـــــــ
1 البخاري "5477" ومسلم "1929".(1/477)
فاذبحه وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله فإن أخذ الكلب ذكاته".
وفيه أيضا: "إذا رميت بسهمك فاذكر اسم الله عليه".
وفيه: "و إن غاب عنك يوما أو يومين".
وفي رواية: "اليومين والثلاثة فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل إن شئت وإن وجدته غريقا في الماء فلا تأكل فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك؟" 1.
فيه دليل على اشتراط التسمية كما ذكرناه في الحديث السابق وهو أقوى في الدلالة من الأول لأن هذا مفهوم شرط والأول مفهوم وصف ومفهوم الشرط أقوى من مفهوم الوصف.
وفيه تصريح بأكل مصيد الكلب إذا قتل بخلاف الحديث الماضي فإنه إنما يؤخذ هذا الحكم منه بطريق المفهوم وهذا الحديث يدل على أكل ما قتله الكلب بثقله بخلاف الدلالة الماضية التي استضعفناها في الحديث المتقدم.
وفيه دليل على أنه إذا شارك الكلب كلب آخر لم يؤكل وقد ورد معللا في حديث آخر: "فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على كلب غيرك" .
والمعراض: بكسر الميم وسكون العين المهملة وبالراء المهملة وبعد الألف ضاد معجمة: عصا رأسها محدد فإن أصاب بحده أكل لأنه كالسهم وإن أصاب بعرضه لم يؤكل وقد علل في الحديث بأنه وقيذ وذلك لأنه ليس في معنى السهم وهو في معنى الحجر وغيره من المثقلات.
والشعبي: بفتح الشين المعجمة وسكون العين المهملة: اسمه عامر ابن شراحيل من شعب همدان.
وإذا أكل الكلب من الصيد ففيه قولان للشافعي.
أحدهما: لا يؤكل لهذا الحديث ولما أشار إليه من العلة فإن أكله دليل ظاهر على اختيار الإمساك لنفسه.
والثاني: أنه يؤكل لحديث آخر ورد فيه من رواية أبي الخشني.
وحمل هذا النهي في حديث عدي على التنزيه وربما علل بأنه كان من المياسير فاختير له الحمل على الأولى وأن أبا ثعلبة كان على عكس ذلك فأخذ له بالرخصة وهو ضعيف لأنه علل عدم الأكل بخوف الإمساك على نفسه وهذه علة لا تناسب إلا التحريم أعني تخوف الإمساك على نفسه.
ـــــــ
1 البخاري "175" وانظر أطراف "2054, 5476, 5483,5484, 5486" وأخرجه مسلم "1929" "2, 3, 6, 7".(1/478)
اللهم إلا أن يقال: إنه علل بخوف الإمساك لا بحقيقة الإمساك فيجاب عن هذا بأن أصل التحريم في الميتة فإذا شككنا في السبب المبيح رجعنا إلى الأصل وكذلك إذا شككنا في أن الصيد مات بالرمي أو لوجود سبب آخر يجوز أن يحال عليه الموت لم يحل كالوقوع في الماء مثلا.
بل وقد اختفوا فيما هو أشد من ذلك وهو ما إذا غاب عنه الصيد ثم وجده ميتا وفيه أثر سهمه ولم يعلم وجود سبب آخر فمن حرمه اكتفى بمجرد تجويز سبب آخر فقد ذكرنا ما دل عليه الحديث من المنع إذا وحده غريقا لأنه سبب للهلاك ولا يعلم أنه مات بسبب الصيد وكذلك إذا تردى من جبل لهذه العلة نعم يسامح في خبط الأرض إذا كان طائرا لأنه أمر لا بد منه.
4 - عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من اقتنى كلبا - إلا كلب صيد أو ماشية - فإنه ينقص من أجره كل يوم قيراطان" 1.
قال سالم: وكان أبو هريرة يقول: "أو كلب حرث" وكان صاحب حرث2.
فيه دليل على منع اقتناء الكلاب إلا لهذه الأغراض المذكورة - أعني الصيد والماشية والزرع - وذلك لما في اقتنائها من مفاسد الترويع والعقر للمارة ولعل ذلك لمجانبة الملائكة لمحلها ومجانبة الملائكة أمر شديد لما في مخالطتهم من الإلهام إلى الخير والدعاء إليه.
وفيه دليل على جواز اقتناء لهذه الأغراض واختلف الفقهاء: هل يقاس عليها غرض حراسة الدروب أم لا؟.
واستدل المالكية بجواز اتخاذها للصيد من غير ضرورة على طهارتها فإن ملابستها - مع الاحتراز عن مس شيء منها - شاق والإذن في الشيء إذن في مكملات مقصودة كما أن المنع من لوازمه مناسب للمنع منه.
وقوله وكان صاحب حرث محمول على أنه أراد ذكر سبب العناية بهذا الحكم حتى عرف منه ما جهل غيره والمحتاج إلى الشيء أكثر اهتماما بمعرفة حكمه من غيره.
5 - عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة من تهامة فأصاب الناس جوع فأصابوا إبلا وغنما وكان النبي صلى الله عليه وسلم في أخريات
ـــــــ
1 البخاري "5481" ومسلم "1574" "51".
2 مسلم "1574" "54".(1/479)
القوم فعجلوا وذبحوا ونصبوا القدور, فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقدور فأكفئت ثم قسم فعدل عشرة من الغنم ببعير فند منها بعير فطلبوه فأعياهم وكان في القوم خيل يسيرة فأهوى رجل منهم بسهم فحبسه الله فقال: "إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش فما ند عليكم منها فاصنعوا به هكذا", قلت: يا رسول الله إنا لاقوا العدو غدا وليس معنا مدى أفنذبح بالقصب؟ قال: "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه ليس السن والظفر وسأحدثكم عن ذلك أما السن: فعظم وأما الظفر: فمدى الحبشة" 1.
خديج: والد رافع: بفتح الخاء المعجمة وكسر الدال المهملة وبعد آخر الحروف جيم.
وفي الحديث دليل على أن ما توحش من المستأنس يكون حكمه حكم الوحش كما أن ما تأنس من الوحش يكون حكمه حكم المستأنس.
وهذا القسم ومقابله كل عشرة من الغنم ببعير قد يحمل على أنه قسمة تعديل بالقيمة وليس من طريق التعديل الشرعي كما جاء في البدنة أنها عن سبعة ومن الناس م حمله على ذلك.
وند بمعنى شرد والأوابد جمع آبدة وقد تأبدت: أي نفرت وتوحشت من الإنس يقال: أبدت - بفتح الباء المخففة - تأبد - بكسرها وضمها - أبودا وجاء فلان بآبدة أي كلمة غريبة أو خصلة للنفوس نفرة عنها والكلمة لازمة إلا أن تجعل فاعلة بمعنى مفعولة.
ومعنى الحديث: أن من البهائم ما فيه نفار كنفار الوحش وفيه دليل على جواز الذبح بما يحصل به المقصود من غير توقف على كونه حديدا بعد أن يكون محددا.
وقوله: "وذكر اسم الله عليه" دليل على اشتراط التسمية أيضا فإنه علق الإذن بمجموع أمرين والمعلق على شيئين ينتفي بانتفاء أحدهما وفيه دليل علة منع الذبح بالسن والظفر وهو محمول على المتصلين وقد ذكرت العلة فيهما في الحديث.
واستدل به قوم على منع الذبح بالعظم مطلقا لقوله عليه السلام: "أما السن فعظم" علل منع الذبح بالسن بأنه عظم والحكم يعم بعموم علته.
ـــــــ
1 البخاري "2488" ومسلم "196".(1/480)
2 - باب الأضاحي.
1 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبر ووضع رجله على صفاحهما"1.
ـــــــ
1 البخاري "5558" ومسلم "1966".(1/481)
الأملح: الأغبر وهو الذي فيه سواد وبياض.
لا خلاف أن الأضحية من شعائر الدين والمالكية يقدمون فيها الغنم على الإبل بخلاف الهدايا فإن الإبل فيها مقدمة والشافعي يقدم الإبل فيهما وقد يستدل المالكية باختيار النبي صلى الله عليه وسلم في الأضاحي للغنم وباختيار الله تعالى في فداء الذبيح.
والأملح: الأبيض والملحة: البياض و قد اختار الفقهاء هذا اللون للأضحية.
وفيه تعداد الأضحية وكذلك القرن من المحبوبات فيها.
وفيه دليل على استحباب تولي الأضحية للمضحي بنفسه إذا قدر على ذلك.
وفيه دليل على التكبير عند الذبح.(1/482)
كتاب الأشربة
1 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن عمر قال - على منبر رسول الله -: "أما بعد أيها الناس إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة: من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والخمر: ما خامر العقل ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عهد إلينا فيها عهدا ننتهي إليه: الجد والكلالة وأبواب من الربا"1.
فيه دليل على أن اسم الخمر لا يقتصر على ما اعتصر من العنب كما قال أهل الحجاز خلافا لأهل الكوفة.
و قوله: "وهي من كذا وكذا" جملة في موضع الحال.
وقوله: "خامر العقل", مجاز تشبيه وهو من باب تشبيه المعنى بالمحسوس.
والجد: يريد به ميراثه وقد كان للمتقدمين فيه خلاف كثير ومذهب أبي بكر رضي الله عنه: أنه بمنزلة الأب عند عدم الأب.
والكلالة: من لا أب له ولا ولد عند الجمهور.
2 - عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن البتع؟ فقال: "كل شراب أسكر فهو حرام" 2.
قال رضي الله عنه: البتع: نبيذ العسل.
البتع: بكسر الباء وسكون التاء ويقال: بفتحها أيضا.
وفيه دليل على تحريمه وتحريم كل مسكر نعم أهل الحجاز يرون أن المراد بالشراب الجنس لا العين والكوفيون يحملونه على القدر المسكر وعلى قول الأولين: يكون المراد بقوله أسكر أنه مسكر بالقوة أي فيه صلاحية ذلك.
3 - عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: "بلغ عمر أن فلانا باع خمرا3 فقال:
ـــــــ
1 البخاري "4619" ومسلم "3032" "33".
2 البخاري "5585" ومسلم "2001".
3 البخاري "2223" ومسلم "1582".(1/483)
قاتل الله فلانا ألم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها؟" 1.
جملوها: أذابوها.
وفيه دليل على تحريم بيع ما حرمت عينه.
وفيه دليل على استعمال الصحابة القياس في الأمور من غير نكير لأن عمر رضي الله عنه قاس تحريم بيع الخمر عند تحريمها على بيع الشحوم عند تحريمها وهو قياس من غير شك وقد وقع تأكيد أمره بأن قال عمر فيمن خالفه قاتل الله فلانا وفلان الذي كنى عنه هو: سمرة بن جندب.
ـــــــ
1 البخاري "2223" ومسلم "1582".(1/484)
كتاب اللباس.
1 - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تلبسوا الحرير فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة" 1.
الحديث يتناول مطلق الحرير وهو محمول عند الجمهور على الخالص منه في حق الرجال وهو عندهم نهي تحريم وأما الممتزج بغيره فللفقهاء فيه اختلاف كثير فمنهم من يعتبر الغلبة في الوزن ومنهم من يعتبر الظهور في الرؤية واختلفوا في العتابي من هذا.
ومن يقول بالتحريم: لعله يستدل بالحديث ويقول: إنه يدل على تحريم مسمى الحرير فما خرج منه بالإجماع حل ويبقى ما عداه على التحريم.
2 - عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تلبسوا الحرير ولا الديباج ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافهما فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة" 2.
3 - عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: "ما رأيت من ذي لمة في حلة حمراء أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم له شعر يضرب منكبيه بعيد ما بين المنكبين ليس بالقصير ولا بالطويل"3.
فيه دليل على لبس الأحمر والحلة عند العرب ثوبان وفيه دليل توفير الشعر وهذه الأمور الخلقية المنقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم يستحب الاقتداء به في هيئتها وكان ضروريا منها لم يتعلق بأصله استحباب بل بوصفه.
4 - عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع أمرنا بعيادة المريض واتباع الجنازة وتشميت العاطس وإبرار القسم.
ـــــــ
1 البخاري "5834" ومسلم "2069" "11" واللفظ له.
2 البخاري "5426" ومسلم "2067" "5".
3 البخاري "5901" ومسلم "2337" "92" واللفظ له.(1/485)
أو المقسم ونصر المظلوم وإجابة الداعي وإفشاء السلام ونهانا عن خواتيم - أو عن تختم - بالذهب وعن الشرب بالفضة وعن المياثر وعن القسي وعن لبس الحرير والإستبرق والديباج"1.
عيادة المريض عند الأكثرين مستحبة بالإطلاق وقد تجب حيث يضطر المريض إلى من يتعاهده وإن لمم يعد ضاع وأوجبها الظاهرية من غير هذا القيد لظاهر الأمر.
واتباع الجنائز يحتمل أن يراد به: اتباعها للصلاة عليها فإن عبر به عن الصلاة فذلك من فروض الكفايات عند الجمهور ويكون التعبير بالاتباع عن الصلاة من باب مجاز الملازمة في الغالب لأنه ليس من الغالب أن يصلى على الميت ويدفن في محل موته ويحتمل أن يراد بالاتباع الرواح إلى محل الدفن لمواراته والمواراة أيضا من فروض الكفايات لا تسقط إلا بمن تتأدى به.
وتشميت العاطس عند جماعة كثيرة من باب الاستحباب بخلاف رد السلام فإنه من واجبات الكفايات.
وقوله إبرار القسم أو المقسم فيه وجهان أحدهما: أن يكون المقسم مضموم الميم مكسور السين ويكون بمعنى القسم وإبراره هو الوفاء بمقتضاه وعدم التحنيث فيه فإن كان ذلك على سبيل اليمين كما إذا قال: والله لتفعلن كذا فهو كما أكد مما إذا كان على سبيل التحليف كقوله بالله أفعل كذا لأن في الأول إيجاب الكفارة على الحالف وفيه تغريم للمال وذلك إضرار به.
ونصر المظلوم من الفروض اللازمة على من علم بظلمه وقدر على نصره وهو من فروض الكفايات لما فيه من إزالة المنكر ودفع الضرر عن المسلم.
وأما إجابة الداعي فهي عامة والاستحباب شامل للعموم ما لم يقم مانع.
وقد اختلف الفقهاء من ذلك في إجابة الداعي إلى وليمة العرس: هل تجب أم لا؟ وحصل أيضا في نظر بعضهم توسع في الأعذار المرخصة في ترك إجابة الداعي وجعل بعضها مخصصا لهذا العموم بقوله لا ينبغي لأهل الفضل التسرع إلى إجابة الدعوات أو كما قال فجعل هذا القدر من التبذل بالإجابة في حق أهل الفضل مخصصا لهذا العموم وفيه نظر.
وإفشاء السلام إظهاره والإعلان به وقد تعلقت بذلك مصلحة المودة كما أشار إليه في الحديث الآخر من قوله عليه السلام: "ألا أدلكم على ما إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم" 2.
ـــــــ
1 البخاري "1239" ومسلم "2066" واللفظ له.
2 جزء من حديث أخرجه مسلم "54" من حديث أبي هريرة.(1/486)
وليتنبه لأنا إذا قلنا باستحباب بعض هذه الأمور التي ورد فيها لفظ الأمر وإيجاب بعضها كنا قد استعملنا اللفظة الواحدة في الحقيقة والمجاز معا إذا جعلنا حقيقة الأمر الوجوب ويمكن أن يتحيل في هذا على مذهب من يمنع استعمال اللفظ الواحد في الحقيقة والمجاز بأن يقال: نختار مذهب من يرى أن الصيغة موضوعة للقدر المشترك بين الوجوب والندب وهو مطلق الطلب فلا يكون دالا على أحد الخاصين - الذي هو الوجوب أو الندب - فتكون اللفظة استعملت في معنى واحد.
فيه دليل على تحريم التختم بالذهب وهو راجع إلى الرجال و دليل على تحريم الشرب في أواني الفضة وهو عام في الرجال والنساء والجمهور على ذلك وفي مذهب الشافعي قول ضعيف أنه مكروه فقط ولا اعتداد به لورود الوعيد عليه بالنار والفقهاء القياسيون لم يقصروا هذا الحكم على الشرب وعدوه إلى غيره كالوضوء والأكل لعموم المعنى فيه.
والمياثر جمع ميثرة ـ بكسر الميم ـ واصل اللفظة: من الواو لأنها مأخوذة من الوثار فالأصل: موثرة قلبت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها وهذا اللفظ مطلق في هذه الرواية مفسر في غيرها.
وفيه النهي عن المياثر الحمر وفي بعض الروايات مياثر الأرجوان1.
والقسي بفتح القاف وكسر السين المهملة المشددة - ثياب حرير تنسب إلى القس وقيل: إنها بلدة من ديار مصر.
والإستبرق ما غلظ من الديباج وذكر الديباج بعده إما من باب ذكر العام بعد ذكر الخاص ليستفاد بذكر الخاص فائدة التنصيص ومن ذكر العام زيادة إثبات الحكم في النوع الآخر أو يكون ذكر الديباج من باب التعبير بالعام عن الخاص ويراد به: ما رق من الديباج ليقابل بما غلظ وهو الإستبرق وقد قيل: إن الإستبرق لغة فارسية انتقلت إلى اللغة العربية وذلك الانتقال بضرب من التغيير كما هو العادة عند التعريب.
5 - عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اصطنع خاتما من ذهب فكان يجعل فصه في باطن كفه إذا لبسه فصنع الناس كذلك ثم إنه جلس على المنبر فنزعه فقال: "إني كنت ألبس هذا الخاتم وأجعل فصه من داخل فرمى به" ثم قال: "والله لا ألبسه أبدا" فنبذ الناس خواتيمهم2.
ـــــــ
1 أحمد في مسنده "981" من حديث علي بن أبي طالب بإسناد صحيح على شرط الشيخين.
2 البخاري "5865" ومسلم "2091" واللفظ له.(1/487)
وفي لفظ: "جعله في يده اليمنى".
فيه دليل على منع لباس خاتم الذهب وأن لبسه كان أولا وتجنبه كان متأخرا وفيه دليل على إطلاق لفظ اللبس على التختم.
واستدل به الأصوليون على مسألة التأسي بأفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الناس نبذوا خواتيمهم لما رأوه نبذ خاتمه وهذا عندي لا يقوى في جميع الصور التي تمكن في هذه المسألة فإن الأفعال التي يطلب فيها التأسي على قسمين: أحدهما: ما كان الأصل أن يمتنع لولا التأسي لقيام المانع منه فهذا يقوي الاستدلال به في محله والثاني: ما لا يمنع فعله لولا التأسي كما نحن فيه فإن أقصى ما في الباب أن يكون لبسه حراما على رسول الله صلى الله عليه وسلم دون الأمة ولا يمتنع حينئذ أن يطرحه من أبيح له لبسه فمن أراد أن يستدل بمثل هذا على التأسي فيما الأصل منعه لولا التأسي فلم يفعل جيدا لما ذكرته من الفرق الواقع.
وفيه دليل على التختم في اليد اليمنى ولا يقال: إن هذا فعل منسوخ لأن المنسوخ منه جواز اللبس بخصوص كونه ذهبا ولا يلزم من ذلك نسخ الوصف وهو التختم في اليمنى بخاتم غير الذهب.
6 - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نهى عن لبوس الحرير إلا هكذا ورفع لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إصبعيه: السبابة والوسطى".
ولمسلم: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير إلا موضع إصبعين أو ثلاث أو أربع".
هذا الحديث يدل على استثناء هذا المقدار من المنع وقد ذكرنا توسع من توسع في هذا واعتبر غلبة الوزن أو الظهور ولا بد لهم في هذا الحديث من الاعتذار عنه إما بتأويل أو بتقديم معارض.(1/488)
كتاب الجهاد.
1 - عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - في بعض أيامه التي لقي فيها العدو انتظر, حتى إذا مالت الشمس قام فيهم فقال: "أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف", ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم" 1.
فيه دليل على استحباب القتال بعد زوال الشمس وقد ورد فيه حديث أصرح من هذا أو أثر عن بعض الصحابة.
ولما كان لقاء الموت من أشق الأشياء وأصعبها على النفوس من وجوه كثيرة وكانت الأمور المقدرة عند النفس ليست كالأمور المحققة لها: خشي أن لا تكون عند التحقيق كما ينبغي فكره تمني لقاء العدو لذلك ولما فيه - إن وقع - من احتمال المخالفة لما وعد الإنسان من نفسه ثم أمر بالصبر عند وقوع الحقيقة وقد ورد النهي عن تمني الموت مطلقا لضر نزل2 وفي حديث: "لا تتمنوا الموت فإن هول المطلع شديد" 3 وفي الجهاد زيادة على مطلق الموت.
ووقوله عليه السلام: "و اعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف" من باب المبالغة والمجاز الحسن فإن ظل الشيء لما كان ملازما له جعل ثواب الجنة واستحقاقها عن الجهاد وإعمال السيوف لازما لذلك ن كما يلزم الظل.
وهذا الدعاء لعله أشار إلى ثلاثة أسباب تطلب بها الإباحة.
أحدها: طلب النصر بالكتاب المنزل وعليه يدل قوله عليه السلام: "منزل الكتاب" كأنه قال: كما أنزلته فانصره وأعله وأشار إلى القدرة بقوله: "و مجري السحاب" وأشار إلى أمرين أحدهما: بقوله: "و هازم الأحزاب" إلى التفرد بالفعل وتجريد التوكل واطراح الأسباب واعتقاد.
ـــــــ
1 البخاري "2966" ومسلم "1742".
2 البخاري "6351" ومسلم "2680".
3 أحمد في مسنده "14564" بسند يحتمل التحسين.(1/489)
أن الله وحده هو الفاعل والثاني: التوسل بالنعمة السابقة إلى النعمة اللاحقة وقد ضمن الشعراء هذا المعنى أشعارهم بعدما أشار إليه كتاب الله تعالى حكاية عن زكريا عليه السلام في قوله: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً} [مريم: 4] وعن إبراهيم عليه السلام في قوله: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} [مريم: 47].
وقال الشاعر:
كما أحسن الله فيما مضى ... كذلك يحسن فيما بقي
وقال الآخر:
لا والذي قد من بالإ ... سلام يثلج في فؤادي
ما كان يختم بالإساء ... ة وهو بالإحسان بادي
2 - عن سهل بن سعد رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها وموضع سوط أحدكم في الجنة: خير من الدنيا وما عليها والروحة يروحها العبد في سبيل الله والغدوة خير من الدنيا وما فيها" 1.
الرباط: مراقبة العدو في الثغور المتاخمة لبلاده.
و في قوله عليه السلام: "خير من الدنيا وما عليها" وجهان.
أحدهما: أن يكون من باب تنزيل المغيب منزلة المحسوس تحقيقا له وتثبيتا في النفوس فإن ملك الدنيا ونعيمها ولذاتها محسوسة مستعظمة في طباع النفوس.
فحقق عندها أن ثواب اليوم الواحد في الرباط - وهو من المغيبات - خير من المحسوسات التي عهدتموها من لذات الدنيا.
والثاني: أنه قد استبعد بعضهم أن يوازن شيء من نعيم الآخرة بالدنيا كلها فحمل الحديث أو ما في معناه على أن هذا الذي رتب عليه الثواب خير من الدنيا كلها لو أنفقت في طاعة الله تعالى وكأنه قصد بهذا أن تحصل الموازنة بين ثوابين أخرويين لاستحقاره الدنيا في مقابلة شيء من الأخرى ولو على سبيل التفضيل والأول عندي أوجه وأظهر.
والغدوة: بفتح الغين السير في الوقت الذي من أول النهار إلى الزوال والروحة: من الزوال إلى الليل واللفظ مشعر بأنها تكون فعلا واحدا ولا شك أنه قد يقع على اليسير والكثير من الفعل الواقع في هذين الوقتين ففيه زيادة ترغيب وفضل عظيم.
3 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "انتدب الله" , ولمسلم: "تضمن الله
ـــــــ
1 البخاري "2892" ومسلم "1881" واللفظ للبخاري.(1/490)
- لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسلي وهو علي ضامن: أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة" 1.
4 - ولمسلم: "مثل المجاهد في سبيل الله - والله أعلم بمن جاهد في سبيله - كمثل الصائم القائم وتوكل الله للمجاهد في سبيله إن توفاه أن يدخله الجنة أو يرجعه سالما مع أجر أو غنيمة" 2.
الضمان والكفالة ههنا: عبارة عن تحقيق هذا الموعود من الله سبحانه وتعالى فإن الضمان والكفالة: مؤكدان لما يضمن ويتكفل به وتحقيق ذلك من لوازمها.
وقوله: "لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي" دليل على أنه لا يحصل هذا الثواب إلا لمن صحت نيته وخلصت من شوائب إرادة الأغراض الدنيوية فإنه ذكر بصيغة النفي والإثبات المقتضيين للحصر.
وقوله: "فهو علي ضامن" قيل: إن فاعلا ههنا بمعنى مفعول كما قيل في ماء دافق وعيشة راضية أي مدفوق ومرضية على احتمال هاتين اللفظتين لغير ذلك.
وقد يقال إن ضامنا بمعنى ذا ضمان كلابن وتامر ويكون الضمان ليس منه وإنما نسب إليه لتعلقه به والعرب تضيف لأدنى ملابسة.
وقوله: "أرجعه" مفتوح الهمزة مكسور الجيم من رجعه ثلاثيا متعديا ولازمه ومتعديه واحد قال الله تعالى: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ} [التوبة: 83].
قيل إن هذا الحديث معارض للحديث الآخر وهو قوله عليه السلام: "من غازية أو سرية تغزو فتغنم وتسلم إلا كان قد تعجلوا ثلثي أجرهم وما من غازية أو سرية تغزو فتخفق أو تصاب إلا تم لهم أجرهم" 3 والإخفاق أن تغزو فلا تغنم شيئا ذكر القاضي معنى ما ذكرناه من المعارضة عن غير واحد.
وعندي: أنه أقرب إلى موافقته منه إلى معارضته ويبعد جدا أن يقال بتعارضهما نعم كلاهما مشكل أما ذلك الحديث فلتصريحه بنقصان الأجر بسبب الغنيمة وأما هذا فلأن أو تقتضي أحد الشيئين لا مجموعها فيقتضي إما حصول الأجر أو الغنيمة وقد قالوا: لا.
ـــــــ
1 البخاري "36" ومسلم "1876".
2 مسلم "1878" بنحوه وقد أخرجه البخاري "2767".
3 مسلم "1906" "154" من حديث عبد الله بن عمر.(1/491)
يصح أن تنقص الغنيمة من أجر أهل بدر وكانوا أفضل المجاهدين وأفضلهم غنيمة ويؤكد هذا تتابع فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده على أخذ الغنيمة وعدم التوقف عنها.
وقد اختلفوا بسبب هذا الإشكال في الجواب فمنهم من جنح إلى الطعن في ذلك الحديث وقال: إنه لا يصح وزعم أن بعض رواته ليس بمشهور وهذا ضعيف لأن مسلما أخرجه في كتابه ومنهم من قال: إن هذا الذي تعجل من أجره بالغنيمة في غنيمة أخذت على غير وجهها قال بعضهم وهذا بعيد لا يحتمله الحديث وقيل إن هذا الحديث أعني الذي نحن في شرحه شرط فيه ما يقتضي الإخلاص والحديث الذي في نقصان الأجر يحمل على من قصد مع الجهاد طلب المغنم فهذا شرك بما يجوز له التشريك فيه وانقسمت نيته بين الوجهين فنقص أجره والأول أخلص فكمل أجره.
قال القاضي: وأوجه من هذا عندي في استعمال الحديثين على وجهيهما أيضا إن نقص أجر الغانم بما فتح الله عز وجل عليه من الدنيا وحساب ذلك بتمتعه عليه في الدنيا وذهاب شظف عيشه في غزوه وبعده إذا قوبل بمن أخفق ولن يصب منها شيئا وبقي على شظف عيشه والصبر على غزواه في حاله وجد أجر هذا أبدا في ذلك وافيا مطردا بخلاف الأول ومثله في الحديث الآخر: "فمنا من مات ولم يأكل من أجره شيئا ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها"1.
وأقول أن التعارض بين الحديثين فقد نبهنا على بعده فأما الإشكال في الحديث الثاني فظاهره الجار على القياس لأن الأجور قد تتفاوت بحسب زيادة المشقات لا سيما ما كان أجره بحسب مشقته أو لمشقته دخل في الأجر وإنما يشكل عليه العمل المتصل بأخذ الغنائم فلعل هذا من باب تقديم بعض المصالح الجزئية على بعض فإن ذلك الزمن كان الإسلام فيه غريبا أعني ابتداء زمن النبوة وكان أخذ الغنائم عونا على علو الدين وقوة المسلمين وضعفاء المهاجرين وهذه مصلحة عظمى قد يغتفر بعض النقص في الأجر من حيث هو هو.
وأما ما قيل في أهل بدر فقد يفهم منه أن النقصان بالنسبة إلى الغير وليس ينبغي أن يكون كذلك بل ينبغي أن يكون التقابل بين كمال أجر الغازي نفسه إذا لم يغنم وأجره إذا غنم فيقتضي هذا أن يكون حالهم عند عدم الغنيمة أفضل من حالهم عند وجودها لا من حال غيرهم وإن كان أفضل من حال غيرهم قطعا فمن وجه آخر لكن لا بد من هذا من اعتبار المعارض الذي ذكرناه فلعله مع اعتباره لا يكون ناقصا ويستثنى حاله من العموم الذي في الحديث الثاني أو حال من يقاربهم في المعنى.
ـــــــ
1 البخاري "1276" ومسلم "940" من حديث خباب قال: "هاجرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نلتمس وجه الله فوقع أجرنا على الله فمنا من مات لم يأكل من أجره شيئا منهم مصعب بن عمير...". الحديث.(1/492)
وأما هذا الحديث الذي نحن فيه فإشكاله من كلمة "أو" أقوى من ذلك الحديث فإنه قد يشعر بأن الحاصل إما أجر وإما غنيمة فيقتضي أنه إذا حصلنا الغنيمة يكتفى بها له وليس كذلك.
وقيل في الجواب عن هذا بأن أو بمعنى الواو وكأنه التقدير بأجر وغنيمة وهذا وإن كان فيه ضعف من جهة العربية ففيه إشكال من حيث إنه إذا كان المعنى يقتضي اجتماع الأمرين كان ذلك داخلا في الضمان فيقتضي أنه لا بد من حصول أمرين لهذا المجاهد إذا رجع مع رجوعه وقد لا يتفق ذلك بأن يتلف ما حصل في الرجوع من الغنيمة اللهم إلا أن يتجاوز في لفظة الرجوع إلى الأهل أو يقال: المعية في مطلق الحصول لا في الحصول في الرجوع.
ومنهم من أجاب بأن التقدير أو أرجعه إلى أهله مع من نال من أجره وحده أو غنيمة وأجر فحذف الأجر من الثاني وهذا لا بأس به لأن المقابلة إنما تشكل إذا كانت بين مطلق الأجر وبين الغنيمة مع الأجر وأما مع الأجر المفيد بانفراده عن الغنيمة فلا.
5 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مكلوم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة وكلمه يدمى اللون لون الدم والريح ريح المسك" 1.
الكلم: الجرح ومجيئه يوم القيامة مع سيلان الجرح فيه أمران.
أحدهما: الشهادة على ظلمه بالقتل الثاني: إظهار شرفه لأهل المشهد الموقف بما فيه من رائحة المسك الشاهدة بالطيب وقد ذكروا في الاستنباط من هذا الحديث أشياء متكلفة غير صابرة على التحقيق.
منها: أن المراعى في الماء تغير لونه دون تغير رائحته لأن النبي صلى الله عليه وسلم سمى هذا الخارج من جرح الشهيد دما وإن كان ريحه ريح المسك ولم يكن مسكا فغلب الاسم لونه على رائحته فكذلك الماء ما لم يتغير طعمه لم يلتفت إلى تغير رائحته وفي هذا نظر يحتاج إلى تأمل.
ومنها ما ترجم البخاري فيما يقع من النجاسات في الماء والسمن قال القاضي: وقد يحتمل أن حجته فيها الرخصة في الرائحة كما تقدم أو التغليظ بعكس الاستدلال الأول فإن الدم لما انتقل لطيب رائحته من حكم النجاسة إلى الطهارة ومن حكم القذارة إلى التطييب بتغير رائحته وحكم له بحكم المسك والطيب للشهيد فكذلك الماء ينتقل إلى العكس بخبث الرائحة وتغير أحد أوصافه من الطهارة إلى النجاسة.
ـــــــ
1 البخاري "5533" ومسلم "1876" "105" واللفظ للبخاري.(1/493)
ومنها: ما قال القاضي: ويحتج بهذا الحديث أبو حنيفة في جواز استعمال الماء المضاف المتغيرة أوصافه بإطلاق اسم الماء عليه كما انطلق على هذا اسم الدم وإن تغيرت أوصافه إلى الطيب قال: وحجته بذلك ضعيفة وأقول: الكل ضعيف.
6 - عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "غدوة في سبيل الله أو روحة خير مما طلعت عليه الشمس وغربت" أخرجه مسلم1.
7 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "غدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها" أخرجه البخاري2.
قد تقدم الكلام على هذا المعنى في حديث مضى.
8 - عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين وذكر قصة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه" قالها ثلاثا3.
الشافعي يرى استحقاق القاتل للسلب حكما شرعيا بأوصاف مذكورة في كتب الفقه ومالك وغيره يرى أنه لا يستحقه بالشرع وإنما يستحقه بصرف الإمام إليه نظرا وهذا يتعلق بقاعدة وهو أن تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم في أمثال هذا إذا ترددت بين التشريع والحكم الذي يتصرف به ولاة الأمور هل يحمل على التشريع أو على الثاني؟ والأغلب حمله على التشريع إلا أن مذهب مالك في هذه المسألة فيه قوة لأن قوله عليه السلام: "من قتل قتيلا فله سلبه" يحتمل ما ذكرناه من الأمرين أعني التشريع العام وإعطاء القاتلين في ذلك الوقت السلب تنفيلا فإن حمل على الثاني فظاهر وإن ظهر حمله على الأغلب وهو التشريع العام فقد جاءت أمور في أحاديث ترجح الخروج عن هذا الظاهر مثل قوله عليه السلام - بعدما أمر أن يعطى السالب قاتلا فقابل هذا القاتل خالد بن الوليد بكلام - قال النبي صلى الله عليه وسلم بعده: "لا تعطه يا خالد" فلو كان مستحقا له بأصل التشريع لم يمنعه منه بسبب كلامه لخالد فدل على أنه كان على وجهة النظر فلما كلم خالدا بما يؤذيه استحق العقوبة بمنعه نظرا إلى غير ذلك من الدلائل.
ـــــــ
1 مسلم "1883".
2 البخاري "2792" وقد أخرجه ومسلم أيضا "1880".
3 البخاري "3142" ومسلم "1751".(1/494)
9 - عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم عين من المشركين وهو في سفر فجلس عند أصحابه يتحدث ثم انفتل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اطلبوه واقتلوه", فقتلته فنفلني سلبه"1.
و في رواية: فقال: "من قتل الرجل؟", فقالوا: ابن الأكوع, فقال: "له سلبه أجمع" 2.
فيه تعلق بمسألة الجاسوس الحربي وجواز قتله ومن يشبهه ممن لا أمان له.
وأما كلامهم ههنا عن الجاسوس الذمي والمسلم فلا تعلق للحديث به.
وفيه أيضا تعلق بمسألة السلب وقد تمسك به من يراه غير واجب بأصل الشرع بل بتنفيل الإمام لقوله: "فنفلنيه", وفي هذا ضعف ما.
وفيه دليل إذا قلنا بأن السلب للقاتل أنه يستحق جميعه نعم إنما يدل على ما يسمى سلبا والفقهاء ذكروا صورا فيما يستحقه القاتل وترددوا في بعضها فإن كان اسم السلب منطلقا على كل ما معه فقد يستدل به فيما اختلف فيه من بعض الصور.
10 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى نجد فخرجت فيها فأصبنا إبلا وغنما فبلغت سهماننا اثني عشر بعيرا ونفلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيرا بعيرا"3.
فيه دليل على بعث السرايا في الجهاد وقد يستدل به على أن المنقطع منها عن جيش الإمام ينفرد بما يغنمه من حيث إنه يقتضي أن السهمان كانت لهم ولا يقتضي أن غيرهم شاركهم فيها وإنما قالوا بمشاركة الجيش لهم إذا كانوا قريبا منه يلحقهم عونه وغوثه إن احتاجوا.
وقوله: "ونفلنا" النفل في الأصل: هو العطية غير اللازمة وذكر بعض أهل اللغة: أن الأنفال الغنائم وأطلقه الفقهاء على ما يجعله الإمام لبعض الغزاة لأجل الترغيب وتحصيل مصلحة أو عوض منها.
واختلف مذاهبهم في محله فمنهم من جعله من رأس الغنيمة ومنهم من جعله من الخمس وهو مذهب مالك واستحب بعضهم من خمس الخمس والذي يقرب من لفظ هذا الحديث أن هذا التنفيل كان من الخمس لأنه أضاف الإثني عشر إلى سهمانهم فقد يقال: إنه إشارة إلى ما تقرر لهم استحقاقه وهو أربعة الأخماس الموزعة عليهم فيبقى النفل من الخمس واللفظ محتمل لغير ذلك احتمالا قريبا وإن استبعد بعضهم أن يكون هذا النفل إلا
ـــــــ
1 البخاري "3051".
2 مسلم "1754".
3 البخاري "4338" ومسلم "1749".(1/495)
من الخمس من جهة اللفظ فليس بالواضح الكثير وقد قيل: إنه تبين كون هذا النفل من الخمس من مواضع أخر.
11 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا جمع الله عز وجل الأولين والآخرين يرفع لكل غادر لواء فيقال: هذه غدرة فلان بن فلان" 1.
فيه تعظيم الغدرة وذلك في الحروب كل اغتيال ممنوع شرعا: إما لتقدم أمان أو ما يشبهه أو لوجوب تقدم الدعوة حيث تجب أو يقال بوجوبها.
وقد يراد بهذا الغدر ما هو أعم من أمر الحروب وهو ظاهر اللفظ وإن كان بين المشهور بين جماعة من المصنفين وضعه في معنى الحرب وقد عوقب الغادر بالفضيحة العظمى وقد يكون ذلك من باب مقابلة الذنب بما يناسب ضده في العقوبة فإن الغادر أخفى جهة غدره ومكره فعوقب بنقيضه وهو شهرته على رؤوس الاشهاد.
وفي اللفظ المروي ههنا ما يدل على شهرة الناس والتعريف بهم في القيامة بالنسبة إلى آبائهم خلاف ما حكي أن الناس يدعون في القيامة بالنسبة إلى أمهاتهم.
12 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "أن امرأة وجدت في بعض مغازي النبي مقتولة فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم قتل النساء والصبيان"2.
هذا حكم مشهور متفق عليه فيمن لا يقاتل ويحمل هذا الحديث على ذلك لغلبة عدم القتال على النساء والصبيان.
ولعل سر هذا الحكم أن الأصل عدم إتلاف النفوس وإنما أبيح منه ما يقتضيه دفع المفسدة ومن لا يقاتل ولا يتأهل للقتال في العادة ليس في إحداث الضرر كالمقاتلين فرجع إلى الأصل فيهم وهو المنع هذا مع ما في نفوس النساء والصبيان من الميل وعدم التشبث الشديد بما يكونون عليه كثيرا أو غالبا فرفع عنهم القتل لعدم مفسدة المقاتلة في الحال الحاضر ورجاء هدايتهم عند بقائهم.
13 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه: "أن عبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام شكوا القمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة لهما فرخص لهما في قميص الحرير ورأيته عليهما"3.
أجازوا للمحارب لبس الديباج الذي لا يقوم غيره مقامه في دفع السلاح وهذا الحديث يدل
ـــــــ
1 البخاري "3188" ومسلم "1735" واللفظ له.
2 البخاري "3015" ومسلم "1744".
3 البخاري "2920" ومسلم "2076".(1/496)
على جوازه لأجل هذه المصلحة المذكورة فيه ولعله تعين لذلك في دفعهما في ذلك الوقت وقد سماه الراوي رخصة لأجل الإباحة مع قيام دليل الخطر.
14 - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب وكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصا فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعزل نفقة أهله سنة ثم يجعل ما بقي في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله عز وجل"1.
قوله كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله يحتمل وجهين.
أحدهما أن يراد بذلك أنها كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة لا حق فيها لأحد من المسلمين ويكون إخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يخرجه منها لغير أهله ونفسه تبرعا منه صلى الله عليه وسلم.
والثاني: أن يكون ذلك مما يشترك فيه هو وغيره صلى الله عليه وسلم ويكون ما يخرجه منها لغيره من تعيين المصرف وإخراج المستحق وكذلك ما يأخذه صلى الله عليه وسلم لأهله من باب أخذ النصيب المستحق من المال المشترك في المصرف ولا يمنع ذلك قوله: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [الحشر: 7] لأن هذه اللفظة قد وردت مع الاشتراك قال الله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} [الحشر: 7] الآية فأطلق على كونه إفاءة على رسوله مع الاشتراك في المصرف.
وفي الحديث جواز الادخار للأهل قوت سنة.
وفي لفظه: ما يوجه الجمع بينه وبين الحديث الآخر: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخر شيئا لغد"2.
فيحمل هذا على الادخار لنفسه وفي الحديث الذي نحن في شرحه على الادخار لأهله على أنه لا يكاد يحصل شك في أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مشاركا لأهله فيما يدخره من القوت ولكن يكون المعنى أنهم المقصودون بالادخار الذي اقتضاه حالهم حتى لو لم يكونوا لم يدخر3.
و فيه دليل على تقديم مصلحة الكراع والسلاح على غيرهما لا سيما في مثل ذلك الزمان والمتكلمون على لسان الطريقة قد جعلوا - أو بعضهم ما زاد على السنة خارجا عن طريقة التوكل.
15 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "أجرى النبي صلى الله عليه وسلم ما ضمر من الخيل من الحفياء إلى ثنية الوداع وأجرى ما لم يضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق قال ابن عمر: وكنت فيمن أجرى".
ـــــــ
1 البخاري "2904" ومسلم "1757".
2 الترمذي "2362" من حديث أنس.
3 البخاري "2868" ومسلم "1870" واللفظ للبخاري وسفيان هو سفيان بن عيينة رضي الله عنه تعالى.(1/497)
قال سفيان: من الحفياء إلى ثنية الوداع: خمسة أميال أو ستة ومن ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق ميل.
هذا الحديث أصل في جواز المسابقة بالخيل وبيان الغاية التي يسابق إليها وفيه إطلاق الفعل على الأمر به والمسوغ له وأما المسابقة على غير الخيل والشروط التي اشترطت في هذا العقد: فليست من متعلقات هذا الحديث وكذلك أيضا لا يدل هذا الحديث على أمر العوض وأحكامه فإنه لم يصرح فيه.
والإضمار ضد التسمين وهو تدريج لها في أقواتها إلى أن يحصل لها الضمر والحفياء بفتح الحاء المهملة وسكون الفاء ثم ياء آخر الحروف وألف ممدودة وثنية الوداع مكانان معلومان وزريق بالزاي المعجمة قبل الراء المهملة.
16 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة فلم يجزني وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني"1.
اختلف الناس في المدة التي إذا بلغها الإنسان ولم يحتلم حكم ببلوغه فقيل: سبع عشرة وقيل: ثمان عشرة وقيل: خمس عشرة وهذا مذهب الشافعي وقد استدل له بهذا الحديث وهو إجازة النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمر في القتال بخمس عشرة سنة وعدم إجازته له فيما دونها ونقل عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنه لما بلغه هذا الحديث جعله حدا فكان يجعل من دون الخمس عشرة في الذرية.
والمخالفون لهذا الحديث اعتذروا عن هذا الحديث بأن الإجازة في القتال حكمها منوط بإطاقته والقدرة عليه وأن إجازة النبي صلى الله عليه وسلم لابن عمر في الخمس عشرة لأنه رآه مطيقا للقتال ولم يكن مطيقا له قبلها لا لأنه أدار الحكم على البلوغ وعدمه.
17 - وعنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم في النفل: للفرس سهمين وللرجل سهم"2.
النفل: بتحريك الفاء والنون معا: يطلق ويراد به الغنيمة وعليه حمل قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1] ويطلق على ما ينفله الإمام لسرية أو لبعض الغزاة خارجا عن السهمان المقسومة إما من أصل الغنيمة أو من الخمس على الاختلاف بين الناس في ذلك ومنه حديث نافع عن ابن عمر في سرية نجد: "و إن سهمانهم كان عشر أو أحد عشر بعيرا ونقلوا بعيرا بعيرا" ومذهب مالك والشافعي أن للفارس ثلاثة أسهم ومذهب أبي حنيفة أن للفارس سهمين.
و هذا الحديث الذي ذكره المصنف متعرض للتأويل من وجهين:
ـــــــ
1 البخاري "2664" ومسلم "1868".
2 البخاري "2863" ومسلم "1762" واللفظ له.(1/498)
أحدهما: أ يحمل النفل على المعنى الذي ذكرناه فيكون المعطى زيادة على السهمين خارجا عنها.
والثاني: أن تكون اللام في قوله: "للفرس سهمين" اللام التي للتعليل لا اللام التي للملك أو الاختصاص أي أعطى الرجل سهمان لأجل فرسه أي لأجل كونه ذا فرس وللرجل سهما مطلقا.
وقد أجيب عن هذا ببيان المراد في رواية أخرى صريحة وهي رواية أبي معاوية عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم لرجل ولفرسه ثلاثة أسهم سهما له وسهمين لفرسه"1 فقوله أسهم استدلال به على أنه ليس بخارج عن السهمين وقوله ثلاثة أسهم صريح في العدد المخصوص وهذا الحديث الذي ذكرناه من رواية أبي معاوية عن عبيد الله صحيح الإسناد إلا أنه قد اختلف فيه على عبيد الله بن عمر ففي رواية بعضهم عنه: "للفرس سهمين وللرجل سهما" وقيل: إنه وهم فيه أي هذا الراوي.
وهذا الحديث أعني رواية أبي معاوية وما في معناها له عضد م غيره ومعارض له لا يساويه في الإسناد.
أما العاضد فرواية المسعودي حدثني أبو عمرة عن أبيه قال: "أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة نفر ومعنا فرس فأعطى كل إنسان منا سهما وأعطى للفرس سهمين" هذه رواية عبيد الله بن يزيد عن المسعودي عند أبي داود2 وعنده من رواية أمية بن خالد المسعودي عن أبي خلف بن عمرو عن أبي عمرة قال أبو داود: بمعناه إلا أنه قال ثلاثة نفر زاد وكان للفارس ثلاثة أسهم3 وهذا اختلاف في الإسناد.
وأما المعارض فمنه ما روى عبد الله بن عمر وهو أخو عبيد الله الذي قدمنا ذكره عن نافع عن ابن عمر: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم يوم خيبر للفارس سهمين وللرجال سهما"4 قال الشافعي: وليس يشك أحد من أهل العلم في تقدمة عبيد الله بن عمر على أخيه في الحفظ وقال في القديم: فإنه سمع نافعا يقول للفرس سهمين وللرجل سهما فقال: "للفرس سهمين وللرجل سهما".
قلت: وعبيد الله وعبد الله هذان هما ابنا عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب.
وما ذكره الشافعي من تقدمة عبيد الله بن عمر على أخيه عند أهل العلم فهو كذلك ولكن في حديث مجمع بن جارية ما يعضده ويوافقه وهو حديث رواه أبو داود من حديث مجمع بن
ـــــــ
1 أبو داود "2733".
2 أبو داود "2734".
3 أبو داود "2735".
4 البخاري "4228".(1/499)
يعقوب بن مجمع عن عمه مجمع بن جارية الأنصاري وكان أحد القراء الذين قرؤوا القرآن قال: "شهدت الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما انصرفنا عنها إذا الناس يهزون الأباعر فقال بعض الناس لبعض: ما للناس؟ قال: أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجنا مع الناس نوجف فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم واقفا على راحلته عند كراع الغميم فلما اجتمع عليه الناس قرأ عليهم: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} [الفتح:1] فقال رجل: يا رسول الله أفتح هو؟ قال: "نعم, والذي نفس محمد بيده إنه لفتح" فقسمت خيبر على أهل الحديبية فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثمانية عشر سهما وكان الجيش ألفا وخمسمائة فيه ثلاثة مائة فارس فأعطى للفارس سهمين وأعطى للرجال سهما" رواه أبو داود عن محمد بن عيسى عن مجمع1 وهذا يوافق رواية عبد الله بن عمر في قسم خيبر إلا أن الشافعي قال في مجمع بن يعقوب أنه شيخ لا يعرف فقال: فأخذنا في ذلك بحديث عبيد الله ولم نر له خبرا مثله يعارضه ولا يجوز خبر إلا بخبر مثله.
18 - وعنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينفل بعض من يبعث في السرايا لأنفسهم خاصة سوى قسم عامة الجيش"2.
هذا هو التنفيل بالمعنى الثاني الذي ذكرناه في معنى النفل وهو أن يعطي الإمام لسرية أو لبعض أهل الجيش خارجا عن السهمين والحديث مصرح بأنه خارج عن قسم عامة الجيش إلا أنه ليس مبينا لكونه من رأس الغنيمة أو من الخمس فإن اللفظ محتمل لها جميعا والناس مختلفون في ذلك ففي رواية مالك عن أبي الزناد أنه سمع سعيد بن المسيب يقول كان الناس يعطون النفل من الخمس3 وهذا مرسل وروى محمد بن إسحاق عن نافع ابن عمر قال: "بعث رسول الله سرية إلى نجد فخرجت معها فأصبنا نعما كثيرة فنفلنا أميرنا بعيرا بعيرا لكل إنسان ثم قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسم بيننا غنيمتنا فأصاب كل رجل منا اثني عشر بعيرا بعد الخمس وما حاسبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي أعطانا ولا عاب عليه ما صنع فكان لكل رجل منا ثلاثة عشر بعيرا بنفله"4.
و هذا يدل على أن التنفيل من رأس الغنيمة وروى زياد بن جارية عن حبيب بن مسلمة قال: "شهدت النبي صلى الله عليه وسلم نفل الربع في البدأة والثلث في الرجعة"5 وهذا أيضا يدل على أن التنفيل.
ـــــــ
1 أبو داود "2736".
2 البخاري "3135" ومسلم "170"40".
3 مالك "1/298".
4 أبو داود "2743".
5 أبو داود "2750".(1/500)
من أصل الغنيمة ظاهرا مع احتماله لغيره وروى في حديث حبيب هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان ينفل الربع بعد الخمس والثلث بعد الخمس إذا قفل"1 وهذا يحتمل أن يكون المراد منه ينفل بعد إخراج الخمس أي ينفله من أربعة أخماس ما يأتون به ردء الغنيمة إلى موضع في البدأة او في الرجعة وهذا ظاهر وترجم أبو داود عليه باب فيمن قال: الخمس قبل النفل وأبدى بعضهم فيه احتمالا آخرا وهو أن يكون قوله بعد الخمس أي بعد أن ينفرد الخمس فعلى هذا يبقى محتملا لأن ينفل ذلك من الخمس أو من غير الخمس فيحمله على أن ينفل من الخمس احتمالا وحديث ابن إسحاق صريح أو كالصريح.
وللحديث تعلق بمسائل الإخلاص في الأعمال وما يضر من المقاصد الداخلة وما لا يضر وهو موضع دقيق المأخذ ووجه تعلقه به أن التنفيل للترغيب في زيادة العمل والمخاطرة والمجاهدة وفي ذلك مداخله لقصد الجهاد لله تعالى إلا أن ذلك لم يضرهم قطعا لفعل الرسول صلى الله عليه وسلم لهم ففي ذلك دلالة لا شك فيها على أن بعض المقاصد الخارجة عن محض التعبد لا يقدح من الإخلاص وإنما الإشكال في ضبط قانونها وتمييز ما يضر مداخلته من المقاصد ويقتضي الشركة فيه المنافاة للإخلاص وما لا تقتضيه ويكون تبعا لا له ويتفرع عنه غير ما مسألة.
وفي الحديث دلالة على أن لنظر الإمام مدخلا في المصالح المتعلقة في المال أصلا وتقديرا على حسب المصلحة على ما اقتضاه حديث حبيب بن مسلمة في الربع والثلث فإن الرجعة لما كانت أشق على الراجعين واشد لخوفهم لأن العدو قد كان نذر بهم لقربهم فهو على يقظة من أمرهم اقتضى زيادة التنفيل والبدأة لما لم يكن فيها هذا المعنى اقتضى نقصه ونظر الإمام متقيد بالمصلحة لا على أن يكون بحسب التشهي حيث يقال: إن النظر للإمام إنما يعني هذا أعني أن يفعل ما تقتضيه المصلحة لا أن يفعل على حسب التشهي.
19 - عن أبي موسى عبد الله بن قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حمل علينا السلاح فليس منا" 2.
حمل السلاح: يجوز أن يراد به ما يضاد وضعه ويكون ذلك كناية عن القتال به وأن يكون حمله ليراد به القتال ودل على ذلك قرينة قوله عليه السلام: "علينا" ويحتمل أن يراد به ما هو أقوى من هذا وهو الحمل للضرب فيه أي في حالة القتال والقصد بالسيف للضرب به وعلى كل حال فهو دليل على تحريم قتال المسلمين وتغليظ الأمر فيه.
و قوله: "فليس منا" قد يقتضي ظاهره الخروج عن المسلمين لأنه إذا حمل: "علينا" على أن
ـــــــ
1 أبو داود "2749".
2 البخاري "7071" ومسلم "100".(1/501)
المراد به المسلمون كان قوله: "فليس منا" كذلك وقد ورد مثل هذا فاحتاجوا إلى تأويله كقوله عليه السلام: "من غشنا فليس منا" 1 وقيل فيه: ليس مثلنا أو ليس على طريقتنا أو ما يشبه ذلك فإذا كان الظاهر كما ذكرناه ودل الدليل علة عدم الخروج عن الإسلام بذلك اضطررنا إلى التأويل.
20 - عن أبي موسى رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء أي ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" 2.
في الحديث دليل على وجوب الإخلاص في الجهاد وتصريح بأن القتال للشجاعة والحمية والرياء خارج عن ذلك.
فأما الرياء: فهو ضد الإخلاص بذاته لاستحالة اجتماعهما - أعني أن يكون القتال لأجل الله تعالى ويكون بعينه لأجل الناس.
وأما القتال للشجاعة فيحتمل وجوها: أحدها: أن يكون التعليل داخلا في قصد المقاتل أي قاتل لأجل إظهار الشجاعة فيكون فيه حذف مضاف وهذا لا شك في منافاته للإخلاص وثانيها: أن يكون ذلك تعليلا لقتاله من غير دخول له في القصد بالقتال كما يقال: أعطى لكرمه ومنع لبخله وآذى لسوء خلقه وهذا بمجرده من حيث هو هو لا يجوز أن يكون مرادا بالسؤال ولا الذم فإن الشجاع المجاهد في سبيل الله إنما فعل ما فعل لأنه شجاع غير أنه ليس يقصد به إظهار الشجاعة ولا قصد إظهار الشجاعة في التعليل وثالثها: أن يكون المراد بقولنا: قاتل للشجاعة: أنه يقاتل لكونه شجاعا فقط وهذا غير المعنى الذي قبله لأن الأحوال ثلاثة: حال يقصد بها إظهار الشجاعة وحال يقصد بها إعلاء كلمة الله تعالى وحال يقاتل فيها لأنه شجاع إلا أنه لم يقصد إعلاء كلمة الله تعالى ولا إظهار الشجاعة عنه وهذا يمكن فإن الشجاع الذي تداهمه الحرب وكانت طبيعته المسارعة إلى القتال يبدأ بالقتال لطبيعته وقد لا يستحضر أحد الأمرين - أعني أنه لغير الله تعالى أو لإعلاء كلمة الله تعالى.
ويوضح الفرق بينهما أيضا: أن المعنى الثاني لا ينافيه وجود قصد فإنه يقال: قاتل إعلاء كلمة الله تعالى لأنه شجاع وقاتل للرياء لأنه شجاع فإن الجبن مناف للقتال مع كل قصد
ـــــــ
1 جزء من حديث أخرجه مسلم "101" عن أبي هريرة وتمامه: "من حمل عينا السلاح فليس منا ومن غشنا فليس منا".
2 البخاري "7458" ومسلم "1904" واللفظ له.(1/502)
يفرض وأما المعنى الثالث: فإنه ينافيه القصد لأنه أخذ فيه القتال للشجاعة بقيد التجرد عن غيرها ومفهوم الحديث أنه في سبيل الله تعالى إذا قاتل لتكون كلمة الله هي العليا وليس في سبيل الله إذا لم يقاتل لذلك.
فعلى الوجه الأول: تكون فائدته بيان أن القتال لهذه الأغراض مانع وعلى الوجه الأخير تكون فائدته: إن القتال لأجل إعلاء كلمة الله تعالى شرط وقد بينا الفرق بين المعنيين وقد ذكرنا أن مفهوم الحديث الاشتراط لكن إذا قلنا بذلك فلا ينبغي أن نضيق فيه بحيث تشترط مقارنته لساعة شروعه في القتال بل بالخروج إليه لإعلاء كلمة الله تعالى ويشهد لهذا الحديث الصحيح1 في أنه يكتب للمجاهد استنان فرسه وشربها في النهر من غير قصد لذلك لما كان القصد الأول من الجهاد واقعا لم يشترط أن يكون ذلك في الجزئيات ولا يبعد أن يكون بينهما فرق إلا أن الأقرب عندنا ما ذكرناه من أنه لا يشترط اقتران القصد بأول الفعل المخصوص بعد أن يكون القصد صحيحا في الجهاد إعلاء كلمة الله تعالى دفعا للحرج والمشقة فإن حالة الفزع حالة دهش وقد تأتي على غفلة فالتزام حضور الخواطر في ذلك الوقت حرج ومشقة.
ثم إن الحديث يدل على أن المجاهد في سبيل الله مؤمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا والمجاهد لطلب ثواب الله تعالى والنعيم المقيم مجاهد في سبيل الله ويشهد له فعل الصحابة وقد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض" 2 فألقى الثمرات التي كن في يده وقاتل حتى قتل وظاهر هذا أنه قاتل لثواب الجنة والشريعة كلها طافحة بان الأعمال لأجل الجنة أعمال صحيحة غير معلولة لأن الله تعالى ذكر صفة الجنة وما أعد فيها للعاملين ترغيبا للناس في العمل ومحال أن يرغبهم للعمل للثواب ويكون ذلك معلولا مدخولا اللهم إلا أن يدعى أن غير هذا المقام أعلى منه فهذا قد يتسامح فيه وأما أن يكون علة في العمل فلا.
فإذا ثبت هذا وأن المقاتل لثواب الله وللجنة مقاتل في سبيل الله تعالى فالواجب أن يقال:
ـــــــ
1 روى البخاري "2371" عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الخيل لرجل أجر ولرجل ستر وعلى رجل وزر فأما الذي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله فأطال لها في مرج أو روضة فما أصابت في طيلها ذلك من المرج أوالروضة كانت له حسنات ولو أنه انقطع طيلها فاستنت شرفا أو شرفين كانت آثارها وأرواثها حسنات له ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ولم يرد أن يسقي كان ذلك حسنات له فهي لذلك أجر ورجل ربطها تغنيا وتعليقا ثم لم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها فهي لذلك ستر ورجل ربطها فخرا ورياء ونواء لأهل الإسلام فهي على ذلك وزر".
2 جزء من حديث طويل أخرجه مسلم "1901" من حديث أنس بن مالك.(1/503)
أحد الأمرين إما أن يضاف إلى هذا لامقصود - أعني القتال إعلاء كلمة الله تعالى - ما هو مثله أو ما يلازمه كالقتال لثواب الله تعالى وإما أن يقال: إن المقصود بالكلام وسياقه بيان أن هذه المقاصد منافية للقتال في سبيل الله فإن السؤال إنما وقع عن القتال لهذه المقاصد وطلب بيان أنها في سبيل الله فإن السؤال إنما وقع عن القتال لهذه المقاصد وطلب بيان أنها في سبيل الله أم لا؟ فخرج الجواب عن قصد السؤال بعد بيان منافاة هذه المقاصد للجهاد في سبيل الله هو بيان أن هذا القتال إعلاء كلمة الله تعالى هو قتال في سبيل الله لا على أن سبيل الله للحصر وأن لا يكون غيره في سبيل الله مما لا ينافي الإخلاص كالقتال لطلب الثواب والله أعلم.
وأما القتال حمية فالحمية من فعل القلوب فلا يقتضي ذلك إلا أن يكون مقصود الفاعل إما مطلقا وإما في مراد الحديث ودلالة السياق وحينئذ يكون قادحا في سبيل الله تعالى إما لانصرافه إلى هذا الفرض وخروجه عن القتال إعلاء كلمة الله تعالى وإما لمشاركته المشاركة القادحة في الإخلاص ومعلوم أن المراد بالحمية الحمية لغير دين الله وبهذا يظهر لك ضعف الظاهرية في مواضع كثيرة ويتبين أن الكلام يستدل على المراد منه بقرائنه وسياقه ودلالة الدليل الخارج عن المراد منه وغير ذلك.
فإن قلت: فإذا حلت قوله قاتل للشجاعة أي إظهار الشجاعة فما لفائدة بعد ذلك في قولهم: يقاتل رياء.
قلت: يحتمل أن يراد بالرياء إظهار قصده للرغبة في ثواب الله تعالى والمسارعة للقربات وبذل النفس في مرضاة الله تعالى والمقاتل إظهار الشجاعة مقاتل لغرض دنيوي وهو تحصيل المحمدة والثناء من الناس عليه بالشجاعة والمقصدان مختلفان ألا ترى أن العرب في جاهليتها كانت تقاتل للحمية وإظهار الشجاعة ولم يكن لها قصد في المراءاة بإظهار الرغبة في ثواب الله تعالى والدار الآخرة؟ فافترق القصدان.
وكذلك أيضا القتال للحمية مخالف للقتال شجاعة والقتال للرياء لأن الأول يقاتل لطلب المحمدة بخلق الشجاعة وصفتها وإنها قائمة بالمقاتل وسجية له والقتال للحمية قد لا يكون كذلك وقد يقاتل الجبان حمية لقومه أو لحريمه مكره أخاك لا بطل والله أعلم.(1/504)
كتاب العتق
مدخل
...
كتاب العتق.
1 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أعتق شركا له في عبد فكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد وإلا فقد عتق منه ما عتق" 1.
الكلام عليه من وجوه:
الأول: صيغة من للعموم فيقتضي دخول أصناف المعتقين في الحكم المذكور ومنهم المريض وقد اختلف في ذلك فالشافعية يرون أنه إن خرج من الثلث جميع العبد قوم عليه نصيب الشريك وعتق عليه لأن تصرف المريض في ثلثه كتصرف الصحيح في كله ونقل أحمد أنه لا يقوم في حال المريض وذكر قاضي الجماعة أبو الوليد ابن رشد المالكي عن ابن الماجشون من المالكية فيمن أعتق حظه من عبد بينه وبين شريكه في المرض أنه لا يقوم عليه نصيب شركه إلا من رأس ماله إن صح وإن لم يصح لم يقوم في الثلث على حال وعتق منه حظه وحده والعموم كما ذكرناه يقتضي التقويم وتخصيصه بما يحتمله الثلث مأخوذ من الدليل الدال على اختصاص تصرف المريض بالتبرعات بالثلث.
الثاني: العموم يدخل فيه المسلم والكافر وللمالكية تصرف في ذلك فإن كان الشريكان والعبد كفارا لم يلزموا بالتقويم وإن كانا مسلمين والعبد كافرا فالتقويم وإن كان أحدهما مسلما والآخر كافرا فإن أعتق المسلم كمل عليه كان العبد مسلما أو ذميا وإن أعتق الكافر فقد اختلفوا في التقويم على ثلاثة مذاهب: الإثبات والنفي والفرق بين أن يكون العبد مسلما فيلزم التقويم وبين أن يكون ذميا فلا يلزم وإن كانا كافرين والعبد مسلما فالروايتان وللحنابلة أيضا وجهان فيما إذا أعتق الكافر نصيبه من مسلم وهو موسر هل يسري إلى باقيه؟.
وهذا التفصيل الذي ذكرناه يقتضي تخصيص صور من هذه العمومات أحدها: إذا كان الجميع كافرا وسببه ما دل عندهم على عدم التعرض للكفار في خصوص الأحكام الفرعية وثانيها: إذا كان المعتق هو الكافر على مذهب من يرى أن لا تقويم أو لا تقويم إذا كان العبد كافرا.
ـــــــ
1 البخاري "5222" ومسلم "1501".(1/505)
فأما الأول: فيرى أن المحكوم عليه بالتقويم هو الكافر ولا إلزام له بأحكام فروع الإسلام.
وأما الثاني: فيرى أن التقويم إذا كان العبد مسلما لتعلق حق العتق بالمسلم وثالثها: إذا كانا كافرين والعبد مسلما على قول وسببه ما ذكرناه من تعلق حق المسلم بالعتق.
واعلم أن هذه التخصيصات إن أخذت من قاعدة كلية لا مستند فيها إلى نص معين فتحتاج إلى الاتفاق عليها وإثبات تلك القاعدة بدليل وإن استندت إلى نص معين فلا بد إلى النظر في دلالته مع دلالة هذا العموم ووجه الجمع بينهما أو التعارض.
الثالث: إذا أعتق أحدهما نصيبه ونصيب شريكه مرهون ففي السراية إلى نصيب الشريك اختلاف لأصحاب الشافعي وظاهر العموم يقتضي التسوية بين المرهون وغيره ولكنه ظاهر ليس بالشديد القوة لأنه خارج عن المعنى المقصود بالكلام لأن المقصود إثبات السراية إلى نصيب الشريك على المعتق من حيث هو كذلك لا مع قيام المانع.
فالمخالف لظاهر العموم يدعي قيام المانع من السراية وهو إبطال حق المرتهن ويقويه بأن تناول اللفظ لصور قيام المانع غير قوي لأنه غير المقصود.
والموافق لظاهر العموم يلغي هذا المعنى بان العتق قد قوي على إبطال حق المالك في العين بالرجوع إلى القيمة فلأن يقوى على إبطال حق المرتهن كذلك أولى وإذا ألغي المانع عمل اللفظ العام عمله.
الرابع: كاتبا عبدا ثم أعتق أحدهما نصيبه فيه من البحث ما قدمناه من أمر العموم والتخصيص بحالة عدم المانع والمانع ههنا صيانة الكتابة عن الإبطال وههنا زيادة أمر آخر وهو أن يكون لفظ العبد عند الإطلاق متناولا للمكاتب ولا يكتفي في هذا بثبوت أحكام الرق عليه لأن ثبوت تلك الأحكام لا يلزم منه تناول لفظ العبد لأنه عند الإطلاق متناول للمكاتب ولا يكتفي في هذا بثبوت أحكام الرق عليه لأن ثبوت تلك الأحكام لا يلزم منه تناول لفظ العبد له عند الإطلاق فإن ذلك حكم لفظي يؤخذ من غلية استعمال اللفظ وقد لا يغلب الاستعمال وتكون أحكام الرق ثابتة وهذا المقام إنما هو إدراج هذا الشخص تحت هذا اللفظ وتناول اللفظ له أقرب.
الخامس: إذا أعتق نصيبه ونصيب شريكه مدبر فيه ما تقدم من البحث وتناول اللفظ ههنا أقوى من المكاتبة ولهذا كان الأصح من قولي الشافعي عند أصحابه: أنه يقوم عليه نصيب الشريك والمانع ههنا إبطال حق الشريك من قربة مهد سبيلها.
السادس: أعتق نصيبه من جارية ثبت الاستبلاد في نصيب شريكه منها فالمانع من إعمال العموم ههنا أقوى مما تقدم لأن السراية تتضمن نقل الملك وأم الولد لا تقبل نقل الملك من ملك إلى ملك عند من يمنع من بيعها وهذا أصح وجهي الشافعية ومن يجري على العموم يلغي.(1/506)
هذا المانع بأن الإعتاق وسرايته كالإتلاف وإتلاف أم الولد يوجب القيمة ويكون التقويم سبيله سبيل غرامة المتلفات وذلك يقتضي بصدور أمر يجعله إتلافا.
السابع: العموم يقتضي أن لا فرق بين عتق مأذون فيه وغير مأذون وفرق الحنفية بين الإعتاق المأذون فيه وغير المأذون فيه وقالوا: لا ضمان في إعتاق المأذون فيه كما لو قال لشريكه: أعتق نصيبك.
الثامن: قوله عليه السلام: "أعتق" يقتضي صدور العتق منه واختياره له فيثبت الحكم حيث كان مختارا وينتفي حيث لا اختيار إما من حيث المفهوم وإما لأن السراية على خلاف القياس فتختص بمورد النص وإما لإبداء معنى مناسب يقتضي التخصيص بالاختيار وهو أن التقويم سبيله سبيل غراما المتلفات وذلك يقتضي التخصيص بصدور أمر يجعل إتلافا.
وههنا ثلاث مراتب: مرتبة لا إشكال في وقع الاختيار فيها ومرتبة لا إشكال في عدم الاختيار فيها ومرتبة مترددة بينهما.
أما المرتبة الأولى: فإصدار الصيغة المقتضية للعتق بنفسها ولا شك في دخولها في مدلول الحديث.
وأما المرتبة الثانية: فمثالها: ما إذا ورث بعض قريبه فعتق عليه ذلك البعض فلا سراية ولا تقويم عند الشافعية ونص عليه أيضا بعض مصنفي متأخري المالكية والحنفية لعدم الاختيار في العتق وسببه معا وعن أحمد رواية: أنه يعتق عليه نصيب الشريك إذا كان موسرا ومن أمثلته أن يعجز المكاتب نفسه بعد أن اشترى شقصا يعتق على سيده فإن الملك والعتق يحصل بغير اختيار السيد فهو كالإرث.
وأما المرتبة الثالثة الوسطى: فهي ما إذا وجد سبب العتق باختياره وهذا أيضا يختلف رتبه فمنه ما يقوى فيه تنزيل مباشرة السبب منزلة مباشرة المسبب كقوله لبعض قريبه في بيع أو هبة أو وصية وقد نزله الشافعية منزلة المباشر وقد نص عليه أيضا بعض المالكية في الشراء والهبة وينبغي أن يكون من ذلك تمثيله بعبده وعند من يرى العتق بالمثلة وهو مالك وأحمد ومنه ما يضعف عن هذا وهو تعجيز السيد المكاتب بعد أن اشترى شقصا ممن يعتق على سيده فانتقل إليه الملك بالتعجيز الذي هو سبب العتق فإنه لما اختاره كان كاختياره لسبب العتق بالشراء وغيره وفيه اختلاف لأصحاب الشافعي.
ووجه ضعف هذا عن الأول أنه لم يقصد التملك وإنما قصد التعجيز وقد حصل الملك فيه ضمنا إلا أن هذا ضعيف والأول أقوى.
التاسع: الحديث يقتضي الاختيار في العتق وقد نزلوا منزلته الاختيار في سبب العتق على(1/507)
الوجه الذي قدمناه ولا يدخل تحته اختيار ما يوجب الحكم عليه بالعتق ففرق بين اختياره ما يوجب العتق في نفس الأمر وبين اختياره ما يوجبه ظاهرا.
فعلى هذا إذا قال أحد الشريكين لصاحبه: قد أعتقت نصيبك - وهما معسران عند هذا القول - ثم اشترى أحدهما نصيب صاحبه فإنه يحكم بعتق النصيب المشترى ومؤاخذة للمشتري بإقراره وهل يسري إلى نصيبه؟ مقتضى ما قررناه أن لا يسري لأنه لم يختر ما يوجب العتق في نفس الأمر وإنما اختار ما يوجب الحكم به ظاهرا.
وقال بعض الفقهاء من الحنابلة: يعتق جميعه وهو ضعيف.
العاشر: الظاهر أن المراد بالعتق عتق التنجيز وأجرى الفقهاء مجراه التعليق بالصفة مع وجود الصفة وأما العتق إلى أجل فاختلف المالكية فيه فالمنقول عن مالك وابن القاسم: أنه يقوم عليه الآن فيعتق إلى أجل وقال سحنون إن شاء المتمسك قوم الساعة فكان جميعه حرا إلى سنة مثلا وإن شاء تماسك وليس له بيعة قبل السنة إلا من شريكه وإذا تمت السنة قوم على مبتدئ العتق عند التقويم.
الحادي عشر: الشرك في الأصل هو مصدر لا يقبل العتق وأطلق على متعلقه وهو المشترك ومع هذا لا بد من إضمار تقديره: "جزء مشترك" أو ما يقارب ذلك لأن المشترك في الحقيقة هو جملة العين أو الجزء المعين منها إذا أفرد بالتعيين كاليد والرجل مثلا أما النصيب المشاع فلا اشتراك فيه.
الثاني عشر: يقتضي الحديث أن لا يفرق في الجزء المعتق بين القليل والكثير لأجل التنكير الواقع في سياق الشرط.
الثالث عشر: إذا أعتق عضوا معينا - كاليد والرجل - اقتضى الحديث ثيوت الحكم المذكور فيه وخلاف أبي حنيفة في الطلاق جار هنا وتناول اللفظ لهذه الصورة أقوى منتناوله للجزء المشاع على ما قررناه لأن الجزء الذي أفرد بالعتق مشترك حقيقة.
الرابع عشر: يقتضي أن يكون المعتق جزءا من المشترك فيتصدى النظر فيما إذا أعتق الجنين: هل يسري إلى الأم؟.
الخامس عشر: قوله صلى الله عليه وسلم: "له" يقتضي أن يكون العتق منه مصادفا لنصيبه كقوله: أعتقت نصيبي من هذا العبد فعلى هذا لو قال: أعتقت نصيب شريكي: لم يؤثر في نصيبه ولا في نصيب الشريك على المذهبين فلو قال للعبد الذي يملك نصفه نصفك حر أو أعتقت نصفك فهل يحمل على النصف المختص به أو يحمل على النصف شائعا؟ فيه اختلاف لأصحاب الشافعي وعلى كل حال: فقد عتق: إما كل نصيبه أو بعضه فهو داخل تحت الحديث.(1/508)
السادس عشر: هذه الرواية تقتضي ثبوت هذا الحكم في العبد والأمة مثله وهو بالنسبة إلى هذا اللفظ قياس في معنى الأصل الذي لا ينبغي أن ننكره منصف غير أنه قد ورد ما يقتضي دخول الأمة في اللفظ فإنهم اختلفوا في الرواية فقال القعنبي عن مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما في مملوك وكذلك جاء في رواية أيوب عن نافع وأما عبيد الله عن نافع فاختلفوا عليه ففي رواية أسامة وابن نمير عنه في مملوك كما في رواية القعنبي عن مالك وفي رواية بشر بن المفضل عن عبيد الله في عبد وفي بعض هذه الروايات عموم وجاء ما هو أقوى من ذلك في رواية موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر أنه كان يرى في العبد والأمة يكون بين الشركاء فيعتق أحدهما نصيبه منه يقول: قد وجب عليه عتقه كله وفي آخر الحديث يخبر بذلك ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك جاء في رواية صخر بن جويرية عن نافع بذكر العبد والأمة قريبا مما ذكرناه في رواية موسى وفي آخره رفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
السابع عشر: قوله صلى الله عليه وسلم: "و كان له مال" إن كان بالفاء "فكان له مال" اقتضى ذلك أن يكون اليسار معتبرا في وقت العتق وإن كان بالواو وكان احتمل أن يكون للحال فيكون الأمر كذلك.
الثامن عشر: قوله صلى الله عليه وسلم: "له مال" يخرج عنه من لا مال له وبه قال الشافعية: فيما إذا أوصى أحد الشريكين بإعتاق نصيبه بعد موت فأعتق بعد موته فلا سراية وإن خرج كله من الثلث لأن المال ينتقل بالموت إلى الوارث ويبقى الميت لا مال له ولا يقوم على من لا يملك شيئا وقت نفوذ العتق في نصيبه وكذلك لو كان يملك كل العبد فأوصى بعتق جزء منه فأعتق منه لم يسر وكذلك لو دبر أحد الشريكين نصيبه فقال: إذا مت فنصيبي منك حر وكل هذا جار على ما ذكرناه عند من قال به وظاهر المذهب عند المالكية فيمن قال: إذا مت فنصيبي منك حر أنه لا يسري وقيل إنه يقوم في ثلثه وجعله موسرا بعد الموت.
التاسع عشر: أطلق الثمن في هذه الرواية والمراد القيمة فإن الثمن ما اشتريت به العين وإنما يلزم بالقيمة لا بالثمن وقد تبين المراد في رواية بشر بن المفضل عن عبيد الله: "ما يبلغ ثمنه يقوم عليه قيمة عدل" وفي رواية عمرو بن دينار عن سالم عن أبيه: "أيما عبد كان بين اثنين فأعتق أحدهما نصيبه فإن كان موسرا فإنه يقوم عليه بأعلى القيمة" أو قال: قيمة "ولا وكس ولا شطط" وفي رواية أيوب: "من كان له من المال ما يبلغ ثمنه بقيمة العدل" وفي رواية موسى: "يقام وماله قيمة العدل" وفي هذا ما يبين أن المراد بالثمن القيمة.
العشرون: قوله صلى الله عليه وسلم: "ما يبلغ ثمن العبد" يقتضي تعليق الحكم في مال يبلغ ثمن العبد فإذا كان المال لا يبلغ كمال القيمة ولكن قيمة بعض النصيب ففي السراية وجهان لأصحاب.(1/509)
الشافعي فيمكن أن يستدل به من لا يرى السراية بمفهوم هذا اللفظ ويؤيده بأن في السراية تبعيضا لملك الشريك عليه والأصح عندهم السراية إلى القدر الذي هو موسر به تحصيلا للحرية بقدر الإمكان والمفهوم في مثل هذا ضعيف.
الحادي والعشرون: إذا ملك يبلغ كمال القيمة إلا أن عليه دينا يساوي ذل أو يزيد عليه فهل يثبت الحكم في السراية والتقويم؟ فيه الخلاف الذي في منع الدين الزكاة ووجه الشبه بينهما اشتراكهما في كونهما حقا لله مع أن فيهما حقا للآدمي ويمكن أن يستدل بالحديث من لا يرى الدين مانعا ههنا أخذا بالظاهر ومن يرى الدين مانعا: يخصص هذه الصورة بالمانع الذي يقيمه فيها خصمه والمالكية على أصلهم في أن من عليه دين بقدر ماله فهو معسر.
والثاني والعشرون: يقتضي الخبر أنه مهما كان للمعتق ما يفي بقيمة نصيب شريكه فيقوم عليه وإن لم يملك غيره هذا الظاهر والشافعية أخرجوا قوت يومه وقوت من تلزمه نفقته ودست ثوب وسكنى يوم والمالكية اختلفوا فقيل: باعتبار قوت الأيام وكسوة ظهره كما في الديون التي عليه ويباع منزله الذي يسكن فيه وشوار بيته وقال أشهب منهم: إنما يترك له ما يواريه لصلاته.
الثالث والعشرون: اختلف العلماء في وقت حصول العتق عند وجود شرائط السراية إلى الباقي وللشافعي ثلاثة أقوال: أحدها: وهو الأصح عند أصحابه أنه يحصل بنفس الإعتاق وهي رواية عن مالك الثاني: أن العتق لا يحص إلا إذا أدى نصيب الشريك وهذا ظاهر مذهب مالك الثالث: أن يتوقف فإن أدى القيمة بأن حصول العتق في وقت الإعتاق وإلا بان أنه لم يعتق وألفاظ الحديث المذكور مختلفة عند الرواة ففي بعضها قوة لمذهب مالك وفي بعضها ظهور لمذهب الشافعي وفي بعضها احتمال متقارب.
وألفاظ هذه الرواية تشعر بما قاله مالك وقد استدل بها على هذا المذهب لأنها تقتضي ترتيب التقويم على عتق النصيب وتعقب الإعطاء وعتق الباقي للتقويم فهذا الترتيب بين الإعطاء وعتق الباقي للتقويم.
فالتقويم إما أن يكون راجعا إلى ترتيب في الوجود أو إلى ترتيب في الرتبة والثاني باطل لأن عتق النصيب الباقي على قول السراية بنفس إعتاق الأول إما مع إعتاق الأول أو عقيبه فالتقويم أن أريد به الأمر الذي يقوم به الحاكم والمقوم فهو متأخر في الوجود عن عتق النصيب والسراية معا فلا يكون عتق نصيب الشريك مرتبا على التقويم في الوجود مع أن ظاهر اللفظ يقتضيه.(1/510)
وإن أريد بالتقويم وجوب التقويم مع ما فيه من المجاز فالتقويم بهذا التفسير مع العتق الأول يتقدم على الإعطاء وعتق الباقي فلا يكون عتق الباقي متأخرا عن التقويم على هذا التفسير لكنه متأخر على ما دل عليه ظاهر اللفظ.
وإذا بطل الثاني تعين الأول وهو أن يكون عتق الباقي راجعا إلى الترتيب في الوجود أي يقع أولا التقويم ثم الإعطاء وعتق الباقي وهو مقتضى مذهب مالك.
إلا أنه يبقى على هذا احتمال أن يكون وعتق معطوفا على قوم لا على أعطى فلا يلزم تأخر عتق الباقي على الإعطاء ولا كونه معه في درجة واحدة.
فعليك بالنظر في أرجح الاحتمالين أعني عطفه على أعطى أو عطفه على "قوم".
وأقوى منه رواية عمرو بن دينار عن سالم عن أبيه إذ فيها: "فكان موسرا فإنه يقوم عليه بأعلى القيمة"- أو قال: قيمة "ولا وكس ولا شطط ثم يقوم لصاحبه حصته ثم يعتق", فجاء بلفظة ثم المقتضية لترتيب العتق على الإعطاء والتقويم.
وأما ما يدل ظاهره للشافعي: فرواية حماد بن زيد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر: "من أعتق نصيبا له في عبد وكان له من المال ما يبلغ ثمنه بقيمة العدل فهو عتيق" وأما ما في رواية بشر بن المفضل عن عبيد الله فما جاء فيها: "من أعتق شركا له في عبد فقد عتق كله إن كان للذي عتق نصيبه من المال ما يبلغ ثمنه يقوم عليه قيمة عدل فيدفع إلى شركائه أنصباءهم ويخلي سبيله".
فإن في أوله: ما يستدل به لمذهب الشافعي لقوله: "فقد عتق كله" فإن ظاهره يقتضي: تعقيب عتق كله لإعتاق النصيب وفي آخره: ما يشهد لمذهب مالك فإنه قال: "يقوم قيمة عدل فيدفع" فأتبع إعتاق النصيب للتقويم ودفع القيمة للشركاء عقيب التقويم وذكر تخلية السبيل بعد ذلك بالواو.
والذي يظهر لي في هذا: أن ينظر إلى هذه الطرق ومخارجها فإذا اختلفت الروايات في مخرج واحد: أخذنا بالأكثر فالأكثر أو بالأحفظ فالأحفظ ثم نظرنا إلى أقربها دلالة على المقصود فعمل بها.
وأقوى ما ذكرناه لمذهب مالك لفظة: "ثم" وأقوى ما ذكرناه لمذهب الشافعي روايةحماد وقوله: "من أعتق نصيبا له في عبد وكان له من المال ما يبلغ ثمنه بقيمة العدل فهو عتيق" لكنه يحتمل أن يكون المراد: أن مآله إلى العتق أو أن العتق قد وجب له وتحقق.
وأما قضية وجوبه بالنسبة إلى تعجيل السراية أو توقفها على الأداء: فمحتمل فإذا آل الحال إلى هذا فالواجب النظر في أقوى الدليلين وأظهرهما دلالة ثم على تراخي العتق عن.(1/511)
التقويم والإعطاء أو دلالة لفظة عتيق على تنجيز العتق هذا بعد أن يجري ما ذكرناه من اعتبار اختلاف الطرق أو اتفاقها.
الرابع والعشرون: يمكن أن يستدل به من يرى بنفس الإعتاق على عكس ما قدمناه في الوجه قبله.
وطريقه أن يقال: لو لم تحصل السراية بنفس الإعتاق لما تعينت القيمة جزاء للاعتاق لكن تعينت فالسراية حاصلة بالإعتاق.
بيان للملازمة: أنه إذا تأخرت السراية عن الإعتاق وتوقفت على التقويم فإذا أعتق الشريك الآخر نصيبه: نفذ وإذا نفذ فلا تقويم فلو تأخرت السراية: لم يتعين التقويم لكنها متعينة للحديث.
الخامس والعشرون: اختلف الحنفية في تجزيء الإعتاق بعد اتفاقهم على عدم تجزي العتق فأبو حنيفة يرى التجزي في الإعتاق وصاحباه لا يريانه.
وانبنى على مذهب أبي حنيفة: أن للساكت أن يعتق إبقاء للملك ويضمن شريكه لأنه جنى على ملكه بالإفساد واستسعى العبد لأنه ملكه وهذا في حال يسار المعتق فإن كان في حال إعساره: سقط التضمين وبقي الأمران الآخران.
وعند أبي يوسف ومحمد: لما لم يتجزأ الإعتاق: عتق كله ولا يملك إعتقاه ولهما أن يستدلا بالحديث من جهة ما ذكرناه من تعين القيمة فيه ومع تجزي الإعتاق لا تتعين القيمة.
ا لسادس والعشرون: الحديث يقتضي وجوب القيمة على المعتق للنصيب: إما صريحا كما في بعض الروايات: "يقوم عليه قيمة العدل فيدفع لشركائه حصصهم" وإما دلالة سياقية لا يشك فيها كما في رواية أخرى وهذا يرد مذهب من يرى أن باقي العبد يعتق من بيت مال المسلمين وهو قول مروي عن ابن سيرين مقتضاه: التقويم على الموسر.
وذكر بعضهم قولا آخر أنه ينفذ عتق من أعتق ويبقى من لم يعتق على نصيبه يفعل فيه ما شاء وروي في ذلك عن عبد الرحمن بن يزيد قال كان بيني وبين الأسود غلام شهد القادسية وأبلى فيها فأرادوا عتقه وكنت صغيرا فذكر ذلك الأسود لعمر فقال: أعتقوا أنتم ويكون عبد الرحمن على نصيبه حتى يرغب في مثل ما رغبتم فيه أو يأخذ نصيبه وفي رواية عن الأسود قال كان لي ولأخوتي غلام أبلى يوم القادسية فأردت عتقه لما صنع فذكرت ذلك لعمر فقال: لا تفسد عليهم نصيبهم حتى يبلغوا فإن رغبوا فيما رغيب فيه وغلا لم تفسد عليهم نصيبهم فقال بعضهم: لو رأى التضمين لم يكن ذلك إفسادا لنصيبهم والإسناد صحيح غير أن في إثبات قول بعدم التضمين عند اليسار بهذا نظر ما.
وعلى تقدير: فالحديث يدل على التقويم عند اليسار المذكور فيه.(1/512)
السابع و العشرون: "قوم عليه قيمة عدل", يدل على إعمال الظنون في باب القيم. هو أمر متفق عليه, لامتناع النص على الجزئيات من القيم في طول مدة الزمان.
الثامن والعشرون: استدل به على أن ضمان المتلفات التي ليست من ذوات الأمثال بالقيمة لا بالمثل صورة.
التاسع والعشرون: اشتراط قيمة العدل: يقتضي اعتبار ما تختلف به القيمة عرفا من الصفات التي يعتبرها الناس.
الثلاثون: فيه التصريح بعتق نصيب الشريك المعتق بعد إعطاء شركائه حصصهم قال يونس - هو ابن يزيد - عن ربيعة: سألته عن عبد بين اثنين فأعتق أحدهما نصيبه من العبد؟ فقال ربيعة: عتقه مردود فقد حمل على أنه يمنع عتق المشاع.
الحادي والثلاثون: ظاهره: تعليق العتق بإعطاء شركائه حصصهم لأنه رتب على العتق التقويم بالفاء ثم على التقويم بالفاء: الإعطاء والعتق وعلى قولنا: إنه يسرى بنفس العتق: لايتوقف العتق على التقويم والإعطاء.
وقد اختلفوا في ذلك على ثلاثة أقوال أحدها: أنه يسري إلى نصيب الشريك بنفس العتق والثاني: يعتق بإعطاء القيمة والثالث: أنه موقوف فإن أعطى القيمة ثبتت السراية من وقت العتق وهذا القول قد لا ينافيه لفظ الحديث".
الثاني والثلاثون: قوله وإلا فقد فقد عتق منه ما عتق فهم منه عتق ما عتق فقط لأن الحكم السابق يقتضي عتق الجميع أعني عتق الموسر فيكون عتق المعسر لا يقتضيه.
نعم يبقى ههنا: أنه هل يقتضي بقاء الباقي من العبد على الرق أو يستعسي العبد؟ فيه نظر والذين قالوا بالاستعساء: منع بعضهم أن يدل الحديث على بقاء الرق في الباقي وأنه إنما يدل على عتق هذا النصيب فقط ويؤخذ حكم الباقي من حديث آخر وسيأتي الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى.
2 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أعتق شقيصا من مملوك فعليه خلاصه كله في ماله فإن لم يكن له مال قوم المملوك قيمة عدل ثم استسعي العبد غير مشقوق عليه" 1.
فيه مسائل:
المسألة الأولى: في تصحيحه وقد أخرجه الشيخان في صحيحهما وحسبك بذلك فقد
ـــــــ
1 البخاري "2491" ومسلم "1503".(1/513)
قالوا: إن ذلك أعلى درجات الصحيح والذين لم يقولوا بالاستعساء: تعللوا في تضعيفه بتعللات لا تصبر على النقد ولا يمكنهم الوفاء بمثلها في المواضع التي يحتاجون إلى الاستدلال فيها بأحاديث يرد عليهم فيها مثل تلك التعللات فلنقصر على هذا القدر ههنا في الاعتماد على تصحيح الشيخين ونترك البسط فيه إلى موضع البسط إن شاء الله.
المسألة الثانية: قوله صلى الله عليه وسلم: "من مملوك " يعم الذكر والأنثى معا وهو أدل من لفظ "من عبد" على أن بعض الناس: ادعى أن لفظ العبد يتناول الذكر والأنثى وقد نقل "عبد وعبدة" وهذا إلى خلاف مراده أقرب منه إلى مراده على أنه قد يتعسف متعسف ولا يرى أن لفظ المملوك يتناول المملوكة.
المسألة الثالثة: قوله عليه السلام: "فعليه خلاصه" قد يشعر بأنه لا يسري بنفس العتق لأنه لو عتق بنفس العتق سراية: لتخلص على هذا التقدير بنفس العتق واللفظ يشعر باستقبال خلاصه إلا أن يقدر محذوف كما يقال: فعليه عوض خلاصه أو ما يقارب هذا.
المسألة الرابعة: قوله عليه السلام: "فعليه خلاصه" هذا يراد به: الكل من حيث هو كل أعني الكل المجموعي لأن بعضه قد تخلص بالعتق السابق والذي يخلصه كله من حيث هو كل: هو تتمة عتقه.
المسألة الخامسة: قوله عليه السلام: "في ماله" يستدل به على خلاف ما حكي عمن يقول: إنه يعتق من بيت المال وهو مروي عن ابن سيرين.
المسألة السادسة: قد يستدل به لمن يقول: إن الشريك الذي لم يعتق أولا ليس له أن يعتق بعد عتق الأول إذا كان الأول موسرا لأنه لو أعتق ونفذ لم يحصل الوفاء يكون خلاصه من ماله لكن يرد عليه لفظ ذلك الحديث فإن كان من لوازم عدم صحة عتقه: أنه يسري بنفس العتق على المعتق الأول فيكون دليلا على السراية بنفس العتق ويبقى النظر في الترجيح بين هذه الدلالة وبين الدلالة التي قدمناها من قوله صلى الله عليه وسلم: "قوم عليه قيمة عدل وأعطي شركاؤه حصصهم وعتق عليه العبد" فإنه ظاهره: ترتب العتق على إعطاء القيمة فأي الدليلين كان أظهر عمل به.
المسألة السابعة: قوله عليه السلام: "فعليه خلاصه من ماله" يقتضي عدم استعساء العبد عند يسار المعتق.
المسألة الثامنة: قوله عليه السلام: "فإن لم يكن له مال" ظاهره: النفي العام للمال وإنما يراد به: مال يؤدي إلى خلاصه.
المسألة التاسعة: قوله عليه السلام: "استسعى العبد" أي ألزم السعي فيما يفك به بقية رقبته من(1/514)
الرق وشرط مع ذلك: أن يكون غير مشقوق عليه وفي ذلك: الحوالة على الاجتهاد والعمل بالظن في مثل هذا كما ذكرناه في مقدار القيمة.
المسألة العاشرة: الذين قالوا بالاستعساء في حالة عسر المعتق: هذا مستندهم ويعارضه مخالفوهم بما قدمناه من قوله صلى الله عليه وسلم: "وإلا فقد عتق منه ما عتق" والنظر بعد الحكم بصحة الحديث منحصر في تقديم إحدى الدلالتين على الأخرى أعني دلالة قوله: "عتق منه ما عتق" على رق الباقي ودلالة استعسى على لزوم الاستعساء في هذه الحالة والظاهر: ترجيح هذه الدلالة على الأولى.(1/515)
باب بيع المدبر.
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: دبر رجل من الأنصار غلاما له1.
وفي لفظ: بلغ النبي صلى الله عليه وسلم: أن رجلا من أصحابه أعتق غلاما له عن دبر - لم يكن له مال غيره فباعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بثمانمائة درهم ثم أرسل ثمنه إليه"2.
اختلف العلماء في بيع المدبر ومن منع من بيعه مطلقا: فالحديث حجة عليه لأن المنع الكلي يناقضه الجواز الجزئي وقد دل الحديث على بيع المدبر بصريحه فهو يناقض المنع من بيع كل مدبر.
وأما من أجاز بيع المدبر في صورة من الصور: فإذا احتج عليه بهذا الحديث من يرى جواز بيع كل مدبر يقول: أنا أقول به في صورة كذا والواقعة واقعة حال لا عموم لها فيجوز أن يكون في الصورة التي أقول بجواز بيعه فيها فلا تقوم علي الحجة في المنع من بيعه في غيرها كما يقول مالك في جواز بيعه في الدين على التفصيل المذكور في مذهبه ومذهب الشافعي: جواز بيعه مطلقا والله أعلم.
والحمد لله وحده وصلاته على أشرف خلقه محمد وآله.
ـــــــ
1 مسلم "997".
2 البخاري "7186" ومسلم "997" واللفظ للبخاري.(1/515)