الحدود في الإسلام
للدكتور جمعة علي الخولي
رئيس قسم الدعوة بالجامعة
مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
ربيع الآخر - رمضان 1401هـ
الحدود في الإسلام جزء من نظام إلهي كامل أنزله رب العالمين على خاتم رسله صلى اللّه عليه وسلم ليكون نظاما يكفل لمن أتبعه السعادة والأمان والاستقرار إلى قيام الساعة {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} (سورة البقرة 138).. وأساس الحدود في الإسلام أنها ضابط يحفظ التوازن بين حقوق الفرد والجماعة معا. فمن حق الفرد على الجماعة تحقيق مصالحه وحفظها، وصيانة حياته ومقوماتها والعمل على حمايته ليس فقط من غيره بل من نفسه أيضا. وللمجتمع كذلك الحق في صيانة كيانه من كل اعتداء أو مساس، وفي الحصول على حياة آمنة وادعة تتسم بالطهر والعفاف. وجميع الجرائم التي حرمها الإسلام إنما هي من النوع الذي لو ترك وشأنه لأدى إلى اضطراب المجتمع، وإشاعة الفوضى والقلاقل فيه.
وينبغي أن يعلم أن الإسلام لا يعتمد على العقوبة في إنشاء الحياة النظيفة بين الناس ولا يتخذها الوسيلة الوحيدة لذلك، وإنما يعمل على الوقاية من الجريمة ومحاربتها بالضمير الوازع، والنفس المهذبة، والسلوك المستقيم، وتوفير أسباب الحياة النظيفة لكل الناس، فمن ارتضى هذه الأسباب واتخذها منهج حياته ارتقى وعز بالإسلام. وسعد بالمجتمع، وسعد به مجتمعه، ومن هجر هذه الأسباب ونفر منها وسعى في الأرض فسادا، دون رادع من خلق أو وازع من ضمير. فهو كمن يتمرغ في الوحل مختارا، وحق للإسلام أن ينزل به عقابه ليحمى الناس من شروره، ويوفر للمجتمع أمنه واستقراره.
138(1/1)
والإسلام لم يرصد عقوبة دنيوية لكل انحراف أو معصية، بل إن هناك كثيرا من الانحرافات والمحرمات، اكتفى الإسلام فيها بأن أنذر مرتكبيها بغضب الله وعقابه، وترك تقدير عقابهم الدنيوي للقاضي حسبما يراه كافياً في التأديب والتعزير، ويتلاءم مع أثر المخالفة في المجتمع وذلك مثل الكذب، والرياء، وأكل الربا، وشهادة الزور، وخيانة الأمانات، وأكل الميتة، والمحرمات، والغش في المعاملات. والتطفيف في الكيل والميزان. وعقوق الوالدين. والغيبة والنميمة. الخ.. أما الجرائم التي أرصد لها الإسلام حدودا معينة فهي جرائم محدودة بعضها جاء به القرآن الكريم، وبعضها الآخر ورد في السنة وهى.. السرقة، الزنا، القذف، شرب الخمر، الردة، البغي، الحرابة (وهى التي تسمى بقطع الطريق)، ثم جريمة قتل العمد، والقتل شبه العمد والقتل الخطأ، والعقوبة المقررة للجرائم السبعة الأولى تسمى حدًّا، بمعنى أن العقوبة المقررة فيها هي حق اللّه تعالى.
وحينما يقول الفقهاء: إن العقوبة حق اللّه تعالى يعنون بذلك أنها لا تقبل الإسقاط لا من الفرد المجني عليه، ولا من الجماعة أو ولي الأمر، وهم يعتبرون العقوبة حقاً لله كلما استوجبتها المصلحة العامة، وهي دفع الفساد عن الناس وتحقيق الأمن والسلامة لهم 1 .. أما العقوبات المتعلقة بجرائم القصاص والدية فلا تسمى حدا 2 - عند بعض الفقهاء-؛ لأنها حق الأفراد، بمعنى أنه إذا عفا المجني عليه أو وليه عن القصاص أو الدية سقطا.(1/2)
وعلة التفريق هنا أن جرائم الحدود يصيب ضررها المباشر الجماعة أكثر مما يصيب الأفراد، أما جرائم القصاص والدية، فمع مساسها بكيان المجتمع، إلا أن ضررها المباشر يصيب الأفراد أكثر مما يصيب الجماعة، ولقد كانت الشريعة عملية واقعية في إعطائها حق العفو للمجني عليه بالنسبة للقصاص والدية؛ لأنهما يتصلان اتصالا وثيقا بشخصه، ولأن العفو هنا لا يكون إلا بعد حصول التراضي، والتنازل، وصفاء النفس بين الطرفين، وذلك هو غاية عقوبة القصاص والقصد من ورائها.
لكن يلاحظ هنا أن الشريعة أباحت في حال عفو المجني عليه، وسقوط القصاص أو الدية عن الجاني، أباحت لولي الأمر معاقبة الجاني بعقوبة تعزيرية ملائمة لظروف
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 التشريع الجنائي الإسلامي. عبد القادر عودة جـ1/79.
2 ذهب البعض إلى أن الحدّ يطلق على عقوبة مقدرة بتقدير الشارع سواء كان جريمة الاعتداء فيها على حقوق الله. أم كان الاعتداء فيها على حقوق العباد. انظر فتح القدير جـ5 /4ط دار إحياء التراث العربي بيروت. وكتاب العقوبة للشيخ محمد أبو زهرة ص70 ط1974
139
الجريمة والمجرم1، أوجب ذلك الإمام مالك2؛ حتى لا يستغل أسلوب الإغراء المادي للإفلات من العقاب، أو يساء استعمال حق العفو عن المجني عليه.(1/3)
والعقوبات المقررة في الإسلام عقوبات ملائمة للجرائم المرصودة لها، وقد شرعت على أساس محاربة الدوافع الخاصة بكل جريمة، فهي في الزنا الرجم للمحصن، والجلد لغير المحصن وتغريب عام، وهي في السرقة القطع، وفي القذف والشرب الجلد، وهى في الحرابة وقطع الطريق كما قال سبحانه: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} (سورة المائدة 33). وهي في الردة والبغي القتل، وهي في القتل والجرح العمد القصاص، وفي القتل الخطأ الدية. وعلة التشديد في هذه الجرائم بالذات أنها من الخطورة بمكان، والتساهل فيها يؤدى إلى انهيار الأخلاق، وفساد المجتمعات، إذ هي جرائم رئيسية تتصل بالحياة العامة ولا يقتصر ضررها على مرتكبيها فقط، ولكنه يتعدى إلى الأفراد والجماعات. فالقتل العمد عدوان على الحياة التي اختص اللّه وحده بمنحها للإنسان، فهو عدوان على حق اللّه، زِد على ذلك ما يترتب على هذه الجريمة من الاستهانة بحرمة الدماء، وتأريث الأحقاد والعداوات، وإشاعة الفتن والذعر بين الناس؛ ولذلك كان قتل نفس واحدة بمثابة عدوان على البشرية كلها {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} (سورة المائدة 32)، وكان قتل النفس عمدا هو الجرم الذي لا يكفر عنه دية ولا عتق رقبة {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} (سورة النساء93)، وكان القصاص هو الجزاء العادل {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (سورة البقرة 179).(1/4)
وجريمة الزنا تشيع الفوضى الجنسية في بيئات الإنسان، وتظهر الشخص منتكسا قذرا كالحيوان، وما يترتب على ذلك من اختلاط الأنساب، وإثارة الأحقاد، وتهديد بنيان الأسرة والذرية.. وفي السرقة عدوان على أموال الناس، وحرمانهم من الاستمتاع بأمنهم وأموالهم اللذين من حقهم أن يستمتعوا بهما.. وقطع الطريق فيه ترويع للآمنين والاعتداء على أموال الناس ودمائهم، بشكل جماعي أشبه ما يكون بالعصابات المسلحة التي تستهين بالإنسان وما يملكه الإنسان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 التشريع الجنائي الإسلامي. عبد القادر عودة جـ1/245 ط دار الكتاب العربي- لبنان.
2مواهب الجليل جـ2/268 عن المرجع السابق
140
والقذف فيه تجريح للأعراض، وتلويث للسمعة، وإشاعة للسوء والشكوك في جو الأسر، وتلك حالات تهدد البيوت بالانهيار. وفي شرب الخمر- أم الخبائث - سلب للعقل(1/5)
- أشرف ما وهب الله الإنسان وميزه به عن الحيوان - كما أنها تعرض شاربها للعربدة والتعدي على حرمات الناس، وتحطم قوى الشباب، وتضر بنفوسهم وعقولهم وجسومهم، وكم شرح الأطباء ما لها من ضرر جسيم على النفس والجسم، وأجمعوا على ضرها البالغ وأثرها السيئ على الأمة في دينها ورجالها وأخلاقها1. وفي الردة كفر بالإسلام ونظامه، وتجريحٍ له واستهانة به، وخروج على نظام الجماعة المسلمة، ذلك أن الإسلام عقيدة وشريعة، أو دين ودولة، فالخارج عن الإسلام أقل ما يوصف به أنه خارج على نظام الدولة، وهو يشبه في أيامنا هذه جريمة الخيانة العظمى، وعقوبتها الإعدام، يقول الأستاذ علال الفاسي: "وقع إجماع المسلمين منذ إنشاء المذاهب الفقهية على قتل المرتد مستدلين بحديث "من بدل دينه فاقتلوه" ولكنهم لا يعتبرون قتله عقابا له على كونه لم يعد مسلما، إنما يعتبرون ذلك نتيجة خيانته للملة الإسلامية التي انخرط في عداد أفرادها ثم غدرها فلو ستر كفره لم يتعرض له أحد، ولم يثق على بيضة قلبه كما كان يقع للمنافقين"2.
أما ما عدا هذه الجرائم من مخالفات، وسبق ضرب أمثلة لها- فقد ترك التصرف بشأنه لولي الأمر فيؤدب المخطئ عن طريق ما يسمى في الفقه الإسلامي بالتعزير، والتعزير: التأديب؛ وهو عقوبة لم تحدد الشريعة مقدارها، وتركت للقاضي التقدير الملائم لنوع الجريمة ولحال المجرم وسوابقه.. ولقد أعطى الشارع قاضي المسلمين صلاحية فرض العقوبة المناسبة والتي يراها كفيلة بتأديب الجاني وإصلاحه، وحماية الجماعة وصيانتها وهى تبدأ بالزجر والنصح، وتتراوح بينهما الحبس، والنفي والتوبيخ، والغرامات المالية، ومصادرة أدوات الجريمة. والحرمان من تولي الوظائف العامة، ومن أداء الشهادة.. الخ.. وقد تصل إلى أشد العقوبات كالحبس والجلد والقتل وذلك في الجرائم الخطيرة، كالتجسس لحساب العدو مثلا، أو معتاد الجرائم الخطيرة 3.(1/6)
وبعد: فإنه لا يزال البعض يتحرج من إقامة حدود الإسلام. ويثير حول عجاجة من غبار، ويصفها بالقسوة والشدة، وعدم مسايرتنا لروح العصر الذي ارتقت فيه المدارك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر كتاب الإسلام والطب الحديث د/عبد العزيز إسماعيل.
2 مقاصد الشريعة الإسلامية ط الرباط سنة 1963 ص 249
3 التشريع الجنائي جـ1/688 نقلا عن طريق الحكيمة لابن القيم /106 الحسبة لابن تيمية/58 حاشية ابن عابدين 4/647.على أن الشافعية ومعظم المالكية لا يبيحون القتل تعزيرا ويفضلون أن يحبس الجاني الذي يستضر بجريمة إلى غير أمد لكف شره عن الجماعة ويؤيدهم في هذا الاتجاه بعض الحنابلة ( انظر المرجع السابق).
141
والطباع الإنسانية، ولكن يبدو أن هؤلاء يجهلون فقه الحدود الإسلامية، وحكمتها، ولا يعرفون متى تقام ومتى لا تقام، ومتى يؤخذ بتلابيب المجرم. ولهؤلاء وأمثالهم أسوق الفقرات التالية في مغزى الحدود والملابسات المحيطة بها، والظروف التي تراعى إقامتها، وأثرها في القضاء على الجريمة، وفي سلامة المجتمع وأمنه، فنقول والله المستعان.
1- إن الذي شرع الحدود، وحدد العقوبات هو عالم الغيب والشهادة، الخبير بمسالك النفوس ودروبها، العليم بما يصلحها ويقومها {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (سورة الملك 14)، إذا كان الأمر كذلك فتشريع الله لعباده أمرا أو نهيا، حكماً أوْحَدّاً بعيدٌ عن كل معاني النقص والقصور. والمبالغة والهوى، وغير ذلك من صفات الجهل والعجز التي يتصف بها البشر وتتسم بها مناهجهم، وإذا كانت الحدود من تشريع اللّه، فإن اللّه أرأف بعباده وأرحم مما يظن القاصرون، وهو أخبر بما يصلح حياتهم ويهذب طباعهم، فليس لمتشدق أن يتحدث عن قسوة الحدود، وشدة العقوبات، لأنه ليس أبصر بمصلحة الخلق. وأرحم بهم من خالقهم، ومن يظن غير ذلك فقد خرج من الإيمان.(1/7)
2- المتأمل في تشريع الحدود يجد أن علاج النفس الإنسانية بها يتسم بالحكمة والرحمة معا: أما الحكمة فتتجلى في أن لكل جرم حدا معينا، ولكل مخالفة عقوبة خاصة دون غلو أو زيادة. ودون مبالغة أو إفراط، بحيث تلحظ أن الشارع قد سار في هذه الأمور كما سار في غيرها- على أدق المقاييس، وأعدلها، فالذي يريد أن يستمتع بنشوة اللذة عليه أن يتوقع أنه سيذوق من الألم أشده.. والذي يريد الثراء من كسب غيره يعامل بنقيض مقصوده، وتقطع منه أداة كسبه.. والذي يريد أن يحقر غيره بالقذف سيجد التحقير من الجماعة كلها، فتسقط شهادته، ويمشي بينهم لا يوثق له بكلام.
وهكذا.. وهكذا.. ناسبت كل عقوبة جريمتها، ووضعت على أساس محاربة الدوافع التي تدفع إليها كل جريمة، فهي لم توضع اعتباطا، وإنما وضعت على أساس طبيعة الإنسان وفهم لنفسيته وعقله. ولهذا كانت العقوبة في الشريعة الإسلامية قائمة على واقعية علمية فنية تامة الضبط والإحكام، لأنه مما لا شك فيه أن العقوبة التي تقوم على أساس العلم بالطبيعة البشرية، وفهم نفسية المجرم هي العقوبة التي يكتب لها النجاح. لأنها تحارب الإجرام في نفس الفرد وداخله، قبل أن تحاربه في حسه وظاهره، الأمر الذي يجعل الشخص يبتعد حتى عن مجرد التفكير في اقتراف المنكر.
يقول الإمام ابن القيم: "لما تفاوتت مراتب الجنايات لم يكن بد من تفاوت مراتب العقوبات، وكان من المعلوم أن الناس لو وكلوا إلى عقولهم في معرفة ذلك وترتب كل عقوبة
142(1/8)
على ما يناسبها من الجناية جنسا ووصفا وقدرا، لذهبت بهم الآراء كل مذهب، وتشعبت بهم الطرق كل متشعب، ولعظم الاختلاف، فكفاهم أرحم الراحمين مؤنة ذلك، وأزال عنهم كلفته، وتولى بحكمته وعلمه ورحمته تقديره نوعا وقدرا، ورتب على كل جناية ما يناسبها من العقوبة وما يليق بها من النكال، و أنت تلحظ أن هناك تناسباً جيدا بين الجريمة وعقوبتها المقررة لها بحيث لو وضعت واحدة مكان أخرى أو لو عممت عقابا واحدا على جرائم متعددة لظهر لك على الفور الاختلال والاضطراب وعدم العدل في الأحكام.. فالشريعة مثلا عاقبت على السرقة بقطع اليد. ولكنها لم تعاقب على القذف بقطع اللسان، ولم تعاقب على الزنا بالخصاء. وعاقبت في القتل بالقصاص، ولكنها لم تعاقب في إتلاف المال بالقصاص، وسبحان اللطيف الخبير"1.. هذا عن أن الحدود حكمة.. وأما أنها رحمة.. فهي كذلك بالنسبة للمنحرف ذاته، وبالنسبة للمجتمع الذي يعيش فيه.. أما بالنسبة للمجتمع فذلك ظاهر لما تجلبه له من شيوع الأمن والحماية الأموال والدماء! وبما تدفعه عنه من أذى العدوان والقلق والترويع. فإذا أرخص الإسلام دم قاتل، فلكي يحقن ألوف الدماء ويحيط الجماعة كلها بما يحفظ عليها حياتها وأمنها {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (سورة البقرة 179) أي حياة هادئة مطمئنة لا بغي فيها ولا عدوان.(1/9)
زد على ذلك ما في إقامة الحدود من بركات تعم المجتمع بأسره، وفي الحديث: "حد يعمل به في الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحا"2 وفي رواية "أربعين ليلة"، أما أن الحدود رحمة بالمعتدي فيتجلى ذلك في مغفرة اللّه ورحمته التي تحوطه بعد إقامة الحد عليه. فالحدود كفارات للآثام وجوابر لها، تغسل أثرها وتمحو ذنبها، وكون الحدود جوابر لا ينفي أنها زواجر كذلك. وفي حديث الرسول صلى اللّه عليه وسلم عن ماعز: "لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم"3 وعن الغامدية: "لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم"4 كما جاء في السنة: "من أصاب في الدنيا ذنبا، فعوقب به فاللّه أعدل من أن يثني على عبده العقوبة"5. وروي أن "السارق إذا تاب سيقت يده إلى الجنة وإن لم يتب سيقت يده إلى النار"6، فالحد أشبه بجرعة من الدواء
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إعلام الموقعين جـ2/83.82.
2 ابن ماجة-باب إقامة الحدود.
3 رواه الخمسة واللفظ للترميذي انظر التاج 3/25
4 رواه الخمسة، انظر التاج جـ3/27.
5 ابن ماجة، باب الحد كفارة.
6 العقوبة في الفقه الإسلامي جـ2/265
143
الكريه يشربها الإنسان ليحصل بعد ذلك على الراحة، وفي الحديث: "من أصاب منكم حدا فعجلت له عقوبته فهو كفارته" 1.
يقول ابن القيم: "بلغ من رحمة الله تعالى وَجُوده أن جعل تلك العقوبات كفارات لأهلها. وطهرة تزيل عنهم المؤاخذة بالجنايات إذا قدموا عليه، ولا سيما إذا كان منهم بعدها التوبة النصوح والإنابة. فرحمهم بهذه العقوبات أنواعا من الرحمة في الدنيا والآخرة"2.(1/10)
3- لا يرى الإسلام العقوبة غاية في ذاتها، ولكنه يراها وسيلة - ضمن وسائل كثيرة أخرى - لتقويم النفس الإنسانية وكفها عن الانحراف؛ ولذلك فإن الإسلام لا يتربص بالمجرم لكي يوقع عليه العقاب، ولا ينتظر عثرة العاثر ليبطش به أو ينتقم منه، إنه طالما نصح بالستر عليه لعله يتوب أو يستغفر، دليل ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: "تعافوا الحدود بينكم فما بلغني من حد فقد وجب"3، وعنه صلى الله عليه وسلم: "اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى اللّه عز وجل عنها فمن ألم فليستتر بستر اللّه عز وجل، فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه الحد"4، وقال عليه الصلاة والسلام: "من ستر مسلما ستره الله يوم القيامة"5. ويكره الإسلام أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا حتى لا تجرح أعراض الجماعة المسلمة. ويلوث جَوَّها بالقيل والقال.. ولما جاء ماعزا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم قال لهزال - رجل حرضه على الإقرار-: "لو سترته بثوبك كان خير لك"6. ويروى أن ماعزا مرّ على عمر قبل أن يقر فقال له عمر: "أأخبرت أحدا قبلي"، قال: "لا". قال: "فاذهب فاستتر بستر الله تعالى وتب إلى اللّه، فإن الناس يعيرون ولا يغيرون، والله تعالى يغير ولا يعير، فتب إلى الله تعالى ولا تخبر به أحدا". وذهب إلى أبى بكر فقال مثل ما قال عمر، ثم ذهب إلى هذا الرجل الذي لامه النبي صلى اللّه عليه وسلم فأمره بما أقر به 7.. وهذا يدل على أن الجريمة إذا ارتكبت في غير إعلان ينبغي سترها وعدم كشفها.
4- إذا ضبط الجاني وجيء به إلى القاضي هل يقام عليه الحد فوراً.. لا.. إنه يدرأ ما كان هناك مخرج منه لقوله صلى اللّه عليه وسلم: "ادرؤا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن كان له مخرج فخلوا سبيله. فإن الإمام إن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ابن ماجة،باب الحد كفارة.
2 إعلام الموقعين 2/83.
3 الحاكم والبيهقي: تنظر جمع الجوامع 472(1/11)
4 رواه البيهقي 8/330 والحاكم 4/244. انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة جـ/272.
5 ابن ماجة باب الحدود.
6 أبو داود باب الحدود.
7 العقوبة في فقه الإسلامي، محمد أبو زهرة 219.
144
العقوبة"1 .. فحين توجد أي شبهة، فمبدأ الإسلام هنا هو قول النبي صلى الله عليه وسلم : "ادرؤوا الحدود بالشبهات"2. ولذلك يقول عمر بن الخطاب: "لأن أعطل الحدود بالشبهات أحب إلى أن أقيمها بالشبهات"3، ولهذا لم يقطع عام الرمادة عندما انتشرت المجاعة 4 ، ولم يقطع كذلك عندما سرق غلمان حاطب بن أبي بلتعة ناقة رجل من مزينة بعد أن تبين أن سيدهم يجيعهم، وغرم السيد ضعف ثمن الناقة تأديبا له 5 . ولعل القصد من وراء الأخذ بمبدأ الشبهة التي تدرأ الحد هو التقليل من العقوبات ما أمكن. إذ القليل منها كاف في الزجر والتخويف 6. ومن أمثلة ذلك ما ذكره الفقهاء من أنه لا قطع إذا كان السارق والدا أو زوجا7. أو كان في ظروف مجاعة. وبالنسبة للقذف قالوا لا حد بالتعريض8، وبالنسبة للزنا قالوا لا حد إذا لم يصرح الشهود أو المقر بالعبارات الدالة عليه من غير احتمال فإن الحد يقام 9 كما جاء في كتاب المغني لابن قدامة أنه إذا ادعى أحد الجهل بفساد نكاح باطل قبل قوله؛ لأن عمر رضي اللّه عنه قبل قول المدعي الجهل بتحريم النكاح في العدة، ولأن مثل هذا يجهل كثيرا ويخفى على غير أهل العلم10 فالتضييق في الحدود أمر محبب في الإسلام حتى يكون العقاب قليلا مانعا بدل أن يكون عاما جامعا.(1/12)
على أن الفقهاء وإن كانوا اتفقوا على أن الشبهات تدرأ الحدود، إلا أنهم لم يتفقوا على كل الشبهات، فما يراه البعض شبهة صالحة للدرء قد لا يراه الآخرون كذلك، وتلك أمور كلها من مصلحة المتهم، ومن أمثلة ذلك أن كل نكاح أجمع على بطلانه كنكاح الخامسة أو المتزوجة أو المعتدة أو المطلقة ثلاثا يدرأ فيه أبو حنيفة الحد ولو كان الجاني عالما بالتحريم لأن العقد في رأي أبي حنيفة شبهة والشبهة تدرأ الحد 11، ولا يرى مالك والشافعي وأحمد درء الحد في هذه الحالات؛ لأنهم لا يعتبرون العقد شبهة 12.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترميذي، باب الحدود.
2 البيهقي والدار قطني. انظر فيض القدير جـ1/228.
3 التشريع الحنائي جـ1/208.
4 العقوبة في فقه الإسلامي ص259 دار الفكر.
5 حقائق الإسلام وأباطيل خصومه ص 265 ط دار الهلال.
6 لا ينكر قاعدة درء الحدود بالشبهات إلا أهل الظاهر الذين لا يسلون بصحة ما ورد عن الرسول والصحابة في هذا المجال ( انظر فتح القدير 4/139.)
7 العقوبة في فقه الإسلامي 226.
8 العقوبة في فقه الإسلامي 259.
9 العقوبة في فقه الإسلامي 242.
10 التشريع الجنائي جـ1/210 عن فتح القدير 4/148.143.
11 المرجع السابق 232.
12 المرجع السابق عن شرح الزرقاني جـ8/77.76 وأسني المطلب جـ4/127.
145
ويجعل أبو حنيفة التفاهة شبهة في المال تدرأ الحد عن سارقه، ويرتب على ذلك ألا قطع في التراب والطين والتبن والحصى وأشباهها إلا إذا أخرجته الصنعة عن تفاهته كان القطع واجبا، ويخالف مالك والشافعي وأحمد مذهب أبي حنيفة، ولا يهون شبهة في تفاهة المال ما دام يبلغ النصاب 1.
ولا يرى أبو حنيفة الحد في سرقة ما يتسارع إليه الفساد كالطعام والرطب والبقول واللحم ولا في سرقة باب المسجد لشبهة عدم تحريزه2، ويرى مالك والشافعي وأحمد القطع في كل هذا 3.(1/13)
5- يوفر الإسلام الضمانات الكاملة والكافية لكل متهم، حتى لا يؤخذ بغير دليل ثابت ولذلك كان من المبادئ المقررة في الشريعة أنه لا يصح الحكم بالعقوبة إلا بعد التثبت من أن الجاني ارتكب جريمته، فإن كان هناك شك في ارتكاب الجاني لجريمته، ولم تتقرر بالنسبة له أدلة الإثبات وجب العفو عنه، وأصل ذلك المبدأ قول النبي صلى اللّه عليه وسلم : "إن الإمام إن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة"4. ومن جهة أخرى نجد أن أدلة الإثبات التي قررتها الشريعة في الحدود دقيقة قلما ثبتت إلا على محترفي الإجرام.. فهي في الزنا مثلا الإقرار أو أربعة شهود رجالا يقرون برؤية الفعل، فإذا لم يتكامل العدد أربعة وأصر واحد أو اثنان أو ثلاثة على قولهم اعتبر من أصر قاذفا ويحد حد القذف 5وذلك لقوله تعالى { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون } (سورة النور آية 4). وفى القذف بشهادة اثنين أو بالإقرار بعد الدعوى 6، وفي السرقة الاعتداء على مال الغير المتقوم المحرز خفية ... ِ الخ تلك الشروط. ولابد معها من الإقرار وشهادة اثنين 7. وفي الشرب مثل السرقة بالإقرار أو بشهادة اثنين8. ومثل هذه الشروط لا تنطبق إلا على المصر المجاهر بمعصيته الذي تكررت منه حتى أمكن أن تقع منه علنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المرجع السابق نقلا عن فتح القدير 4/148،وبدائع الصنائع جـ7/68.67.
2 المرجع السابق عن فتح القدير 4/230.
3 المرجع السابق عن شرح الزرقاني 8/99 وأسني المطالب 4/140.
4 الترمذي، باب الحدود.
5 المغني جـ10/72 ط أولى سنة 1389. والجريمة في الفقه الإسلامي 78 وذكر المغني عن الشافعي في المسألة قولين أحدهما لأحد عليهم.
6 الجريمة في الفقه الإسلامي 83.
7 المرجع السابق 81.
8 المرجع السابق.
146(1/14)
ويضبط متلبسا بها، ومن حق المجتمع أن يحمي نفسه ممن لا يأبه بحرمة الله دون استثناء لأي اعتبار كان. ولذلك كان صلى اللّه عليه وسلم يقيم حدود اللّه دون مجاملة، وقد رفض الشفاعة فيها من أعز أحبابه أسامه بن زيد وقال له: "أتشفع في حد من حدود اللّه، إنما هلك بنو إسرائيل أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها"1، وعنه صلى اللّه عليه وسلم قال: "من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد اللّه في أمره"2.
6- ذهب بعض العلماء إلى أن توبة الجاني تسقط الحد عنه وتكون سببا للتجاوز عنه وإخلاء سبيله. واستدل هؤلاء بقوله تعالى بعد آية المحاربة {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (سورة المائدة 34).. وحجتهم في ذلك أن القرآن نص على سقوط عقوبة المحارب بالتوبة، وجريمة الحرابة هي أشد الجرائم. فإذا دفعت التوبة عن المحارب عقوبته، كان من الأولى أن تدفع التوبة عقوبة ما دون الحرابة من الجرائم، وأنَّ القرآن لما جاء بعقوبة الزنا الأولى رتب على التوبة منع العقوبة، وذلك قوله تعالى {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} (سورة النساء16).. وذكر القرآن حدّ السارق وأتبعه بذكر التوبة في قوله تعالى {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} (سورة الأنفال 38).(1/15)
وقد أيد ابن القيم هذا الرأي ودافع عنه بقوله: "وأما اعتبار توبة المحارب قبل القدرة عليه دون غيره، فيقال أين في نصوص الشارع هذا التفريق، بل نصه على اعتبار توبة المحارب قبل القدرة عليه. إما من باب التنبيه على اعتبار توبة غيره بطريق الأولى. فإنه إذا دفعت توبته عنه حد حرابة مع شدة ضررها وتعديه. فلأن تدفع التوبة ما دون حد الحراب بطريق الأولى والأخرى. وقد قال اللّه تعالى {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (سورة الأنفال 38). وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له" 3 واللّه تعالى جعل الحدود عقوبة لأرباب الجرائم ورفع العقوبة عن التائب شرعا وقدرا، فليس في شرع اللّه وقدره عقوبة تائب البتة، وفي الصحيحين من حديث أنس قال: كنت مع النبي صلى اللّه عليه وسلم فجاء رجل وقال يا رسول اللّه: " إنما أصبت حدا فأقمه علي قال: ولم يسأله عنه فحضرت الصلاة فصلى مع النبي صلى اللّه عليه وسلم، فلما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه الخمسة، انظر أبواب الحدود.
2 مجمع الزوائد جـ6/259ط ثالثة.
3 ابن ماجة في الزهد. و البيهقي في شعب الإيمان
147(1/16)
قضى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة، قام إليه الرجل فقال: يا رسول اللّه إني أصبت حدا فأقم فيَّ كتاب الله قال: "ليس قد صليت معنا"، قال نعم، قال "فإن اللّه تعالى قد غفر لك ذنبك". قال ابن القيم: "فهذا لما جاء تائبا بنفسه - من غير أن يطلب - غفر الله له، ولم يقم عليه الحد الذي اعترف به، وهو أحد القولين في المسألة، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وهو الصواب.. فإن قيل فماعز جاء تائبا، والغامدية جاءت تائبة وأقام عليهما الحد قيل لا ريب في ذلك، وبهما احتج أصحاب القول الآخر، وسألت شيخا عن ذلك فأجاب بما مضمونه أن الحد مطهر وأن التوبة مطهرة، وهما اختاروا التطهير بالحد على التطهير بمجرد التوبة وأبيا إلا أن يطهرا بالحد، فأجابهما النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك وأرشد إلى اختيار التطهير بالتوبة على التطهير بالحد، فقال في حق ماعز: "هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه".. ولو تعين الحد بعد التوبة لما جاز تركه، بل الإمام مخير بين أن يتركه كما قال -لصاحب الحد الذي اعترف به-: "اذهب فقد غفر الله لك"، وبين أن يقيمه كما أقامه على ماعز والغامدية لما اختارا إقامة الحدّ وأبيا إلا التطهير به، ولذلك ردهما النبي صلى اللّه عليه وسلم مرارا وهما يأبيان إلا إقامته عليهما ثم يقول: "وهذا المسلك وسط بين مسلك من يقول لا تجوز إقامته بعد التوبة البتة، وبين مسلك من يقول تجوز إقامته بعد التوبة. ومن مسلك من يقول لا أثر للتوبة في إسقاطه البتة، وإذا تأملت السنة رأيتها لا تدل إلا على هذا القول الوسط 1، لكنه إذا أخذ بهذا الرأي الذي يسقط الحد بالتوبة. فإنه ينبغي أن يراعى ما يأتي:
أ- أن يكون ذلك فيما يتعلق بحق اللّه تعالى كشرب الخمر مثلا ولا يكون مما يمس حق الأفراد، كالقتل أو الضرب، فلا بد في ذلك من عفو أصحابهما.(1/17)
ب- أن تكون تلك التوبة عن الجريمة الأولى، فإذا عاد إلى انحرافه مرة أخرى وضبط وادعى التوبة، فينبغي أن يعاد النظر في قبول توبته حتى لا يتعطل القضاء، أو يستهين بحدود الله تعالى، فقد يكون كاذبا قد خدع القضاء بها أولا فلا يخدعه ثانياً؛ لأن فعله هذا يثبت أن التوبة الأولى لم تكن صحيحة. لأن شرط التوبة الصحيحة، التي تقبل الغفران ألا يقع الشخص في الفعل الذي تاب منه مرة أخرى، ولا شك أن الثانية من نوع الأولى ولا فرق بينهما، ثم إن النفس إذا تمرست بالمعصية أحاطت بها واستولت عليها، ولذلك قال اللّه تعالى {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. (سورة البقرة 81)2.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إعلام الموقعين جـ2/64 ط دار الكتب الحديثة سنة1389.
2 انظر العقوبة في الفقه الإسلامي 276.
148(1/18)
7- كثير من هذه العقوبات منصوص عليها في التوراة. وصدق عليها الإنجيل لأن ما لا نص عليه في الإنجيل بالمنع أو الإباحة تتبع به نصوص التوراة، لأن عيسى عليه السلام قال: "ما جئت لألغي الناموس بل جئت لأحيي الناموس". ويقول اللّه عز وجل في هذا الشأن { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ، وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ} (سورة المائدة 46045).. ويقول عليه الصلاة والسلام: "إنما أهلك من كان قبلكم أنه كان إذا سرق منهم الشريف تركوه وإذا سرق منهم الضعيف أقاموا عليه الحد" 1. وفي سفري الخروج2 والتثنية3 أمثلة على عقوبات القتل والغدر والضرب وسائر أنواع القصاص 4، فالذي يهاجم الإسلام من الأوربيين في تشريع العقوبات فهو يهاجم الأديان السابقة كذلك. على أنه إذا كان اليهود والمسيحيون قد تركوا تلك الأحكام واستغنوا عنها فنحن المسلمين ليس عندنا استعداد لترك ديننا، والتخلي عن شريعتنا، لأننا لا نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض.(1/19)
8- إذا تعلل بعض الرقعاء بأن الحدود لا تناسب أذواق العصر ومداركه؛ لأنها وضعت لنفوس قاسية غير مدركة، أما الآن فقد أرهفت الأحاسيس، وعلت المدارك فلا سبيل إلى مثل هذه العقوبات، قلنا لهم: مصداق هذا الادعاء ألا توجد أسبابه، فلا توجد السرقة التي أوجبت عقوبتها، ولا يوجد الزنا الذي أوجب عقوبته ..وهكذا.. ولكن الجرائم مازالت قائمة، وقد تعددت أسبابها، وتفتحت أبوابها، وتفننت العقول في طرائقها، وتصفح أي جريدة في أي بلد في العالم تجدها لا تخلو من جرائم السرقة والقتل والنصب والاختلاس. حتى صار الشخص لا يأمن على نفسه وماله في كثير من بلدان العالم.
ولقد نشرت جريدة الأخبار القاهرية منذ سبع سنوات ما يلي: -نقلا عن وكالات الأنباء- قتل المجرمون في الولايات المتحدة أكثر من عشرين ألف شخص خلال عام 1973م، وسرق اللصوص ممتلكات وأشياء تزيد قيمتها على ألفين وستمائة مليون دولار، وذلك بعد أن زادت موجة الجريمة خلال سنة 1974 بنسبة 18% عن العام الأسبق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه الخمسة، انظر أبواب الحدود.
2 الإصحاح 35.21.
3 الإصحاح 9.
4 لا نذكر هذه الشواهد على أنها صحيحة لأن فيها أمورا تخالف النقل والعقل مثل من شتم أباه أو أمه يقتل. كما لا نذكرها على أنها التوراة الحقيقة، وإنما لنلطم به وجه الذين يطعنون في عقوبات الإسلام وثبت لهم وللأروبيين أن القصاص وكثيراً من عقوبات موجود في الكتب السابقة.
149(1/20)
وذكر تقرير مكتب التحقيقات الفيدرالية في عام 1974 أن عشرة ملايين ومائة ألف جريمة خطيرة وقعت في الولايات المتحدة، وذلك بزيادة مليون ونصف مليون جريمة عن عام 1973، وكان ثلث الذين اعتقلوا لارتكاب الجرائم الخطيرة من الشباب المراهق تحت العشرين1.. ومثل ذلك كثير في البلدان التي لا تقيم حدود اللّه، فكثرة أسباب العقوبة دليل على شدة الحاجة إلى الحدود والعقوبات ودليل على أنَّ النفوس لم تسم عن نفوس السابقين، وإن ارتفعت في مجال العقل والفكر، لأن العقل وحده لا يكفى، بل لا بد له من خلق كريم يسيره، وهداية إلهية تهديه سواء السبيل.
وإذا بدا للبعض أن العقوبات شديدة موجعة، فذلك شأن العقوبة دائما، فاسمها مشتق من العقاب، ولا يكون العقاب عقابا إذا كان موسوما بالرخاوة والضعف، بل يكون لعبا وعبثا. أو شيئا قريبا من هذا 2.
أما العقوبات فشأنها أن تكون رادعة بحيث تكف عن الجريمة قبل وقوعها، فإذا وقعت كانت كفيلة بتأديب الجاني وزجر غيره، وإلا ما حققت المقصود منها؛ يقول أحد الفقهاء عن العقوبات: "إنها موانع قبل الفعل زواجر بعده"3 أي العلم بشرعيتها يمنع الأقدام على الفعل، وإيقاعها بعده يمنع العود إليه، ثم أن عدم الردع في العقوبات الحاضرة دليل على الحاجة إلى العقوبات السماوية، وإذا كان السجن الآن هو أبرز العقوبات على مخالفات العصر، أو هو العقوبة الأساسية التي يعاقب بها في كل الجرائم بسيطة كانت أوْ خطيرة فهل ترى ذلك أغنى شيئا؟.
إن الجرائم لم تقلّ، بل هي في ازدياد مستمر.. كما تدل على ذلك سجلات المحاكم وملفات المحامينِ، وفوق أن السجن لم يقض على الجريمة، ولم يوقف نشاطها فإن العلاج به فيه كثير من العيوب نشير إلى بعضها:(1/21)
1- تكليف الدولة كثير من النفقات والأموال الباهظة التي لا بد من رصدها للإنفاق على نزلاء السجون، وموظفيها وعمالها، زيادة على تكاليف بنائها وإنشائها، وكم يرصد من أجل ذلك من أموال. إن ميزانية السجون بين الميزانيات الضخمة التي يدفعها المجتمع وهو في حاجة إليها دون فائدة أو جدوى، ذلك أنك تسأل هل استطاعت السجون المسماة بدُور الإصلاح والتقويم أن تقوم بهذا الغرض فعلا من حيث علاج المجرم والقضاء على الجريمة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جريدة الأخبار 18/11/1975-ص2.
2 التشريع الجنائي جـ1/564 فقرة 462.
3 المرجع السابق نقلا عن شرح فتح القدير 4/112.
150
إن الواقع يؤكد عكس هذا، فإن الحبس لا يمنع المجرم من مزاولة هوايته إلا مدة لحبس فقط، ثم يعود بعده سيرته الأولى كأعتى ما يكون، لأنه يعيش بين قوم ألفوا الإجرام واعتادوه، فيخرج من سجنه وقد أصبح أستاذا في الجريمة بعد أن أخذ قواعدها من مدرسة الجريمة، ولذلك فانه قد يكون في الحبس بعض من لم يتمرس على الجريمة لأنه ليس مجرما حقيقيا. ولكنه باختلاطه مع زملائه، وتبادل المعلومات والخبرات معهم يخرج وقد أصبح خبيرا متخصصا.
2- يحول السجن بين اللصوص وبين العمل خلال فترة السجن، وغالبا ما يكونون أصحاب قدرة ونشاط، وفي ذلك تعطيل للمواهب والقدرات، وكان من الممكن- لو أنهم عوقبوا بعقوبة أخرى غير الحبس تكفي لتأديبهم، كان من الممكن أن يستغلوا جهدهم المعطل في العمل فيستفيدوا ويفيدوا مجتمعهم.
3- كثيرا ما يعود السجن على السجين بالضرر البالغ في صحته وجسده نظرا للازدحام الموجود فيه، وعدم الرعاية الصحية والنظافة الكاملة، ولذلك فالسجن غالبا ما يكون وسيلة لنقل الأمراض ونشرها بين المسجونين، وسببا لإفساد أخلاقهم.(1/22)
4- السجن فيه إهدار لانسانية الإنسان، لأن السجين ينادى عليه هناك برقمه لا باسمه وفي ذلك إلغاء لشخصية الإنسان وذاته، وإشعاره بالإهانة وعدم الكرامة، ومن شعر بفقد كرامته وانحطاط إنسانيته هانت عليه كثيرا من الجرائم.
5- في مدة حبس السارق تكون النتيجة اضطراب أسرته، وعدم استقرارها وفي ذلك من تيسير الانحراف وطرق الإجرام ما فيه.
6- بعد أن يخرج السارق من السجن نجده محكوما عليه بالموت الأدبي إن لم يكن المادي أيضا- وذلك لأن الجمهور ينبذه ولا يفتح له صدره أو ييسر له طريقا لاستئناف حياة نظيفة. وقد يضطره ذلك إلى أن يزاول الإجرام من جديد، وبصورة فيها تصميم على الانتقام، فيمرن عليه ويتشبع بدمه ويصبح عنده حرفة وعادة. وكثيرا ما قرأنا في الصحف عن أشخاص خرجوا من السجن، ولما نووا الاستقامة، أخذوا يبحثون عن عمل شريف فأوصد المجتمع في وجوههم أبوابه، ووصمهم بعار الانحراف والخيانة، ولذلك كانوا يناشدون المجتمع في حياة أنقى، وسيرة أطهر.
وبعد.. فلقد أخفقت عقوبة الحبس في تأديب المجرمين، كما أخفقت سائر القوانين الوضعية في تنظيف المجتمع من الانحرافات والسوءات، فهل لنا أن نعود إلى طريق الكمال
151
والطهر والعفاف.. إلى شرع الله.. {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (سورة الأحقاف 31، 33).
جريمة قتل كل 22 دقيقة في أمريكا...(1/23)
كشفت وزارة العدل للولايات المتحدة الأمريكية في تقرير صدر أخيراً أن سير الجرائم في الولايات المتحدة قد ازداد بنسبة تسعة في المائة بالنسبة للعام السابق. وبنسبة خمسة وخمسين في المائة خلال اثنتي عشرة سنة أخيرة. وطبقاً للتقرير تقع كل جريمة وعمل عنيف كل 34 دقيقة. وجريمة قتل كل 23 دقيقة، وانتهاك حرمة كل 6 دقائق وكشفت الإحصائيات الرسمية أن عدد القتلى بلغ إلى 33 ألف و 544 وأكثرهم تتراوح أعمارهم بين عشرين وتسعة وعشرين عاماً.
152
بحث حول: طبيعة العقوبة في الشريعة الإسلامية ومثاليتها
للدكتور حمد الحماد كلية الشريعة
الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
السنة السادسة عشرة ،العدد الثاني والستون ربيع الآخر
جمادى الآخرة 1404هـ
إن الأشياء التي تعتبر في نظر الشريعة جرائم إنما نهي عنها لأن في ارتكابها أضراراً جسيمة تلحق بنظام المجتمع وعقائده أو بأمنه وكرامته أو بحياة أفراده وأموالهم وأعراضهم ومشاعرهم.
وعمل العقوبة هو أن تشعر المذنب بذنبه وأن تنبّهه إلى خطئه عسى أن يقوده هذا إلى التوبة والإصلاح وبذلك تصبح الجريمة كالملغاة.
وإذا أمكن الوصول إلى هذه الغاية بوسيلة أخرى أقل كلفة لم يكن من الحزم الإصرار على استخدام العقوبة في غير الحدود طبعاً لذا كان العفو أحيانا صورة من صور العقوبة بمعنى أنه قد يحقق غرضها من الإصلاح غير أنه له نفوس خاصة وظروف خاصة وذنوب خاصة.
وقد شرع العقاب لمنع الناس من ارتكاب المحظور وحملهم فعل المأمور حيث أن الأمر بفعل شيء والنهى عن فعل شيء لا يكفي في تنفيذه فالعقاب هو الذي يحمل على التنفيذ ويجعل للأمر والنهى معنى مفهوماً ونتيجة حقيقية, وهو الذي يزجر ويردع الناس عن المعاصي ويقضي على الفساد في الأرض.(1/24)
قال الماوردي: "والحدود زواجر وضعها الله تعالى للردع عن ارتكاب ما حظر وترك ما أمر به لما في الطبع من مغالبة الشهوات الملهية عن وعيد الآخرة بعاجل اللذة فجعل الله تعالى من زواجر الحدود ما يردع به ذا الجهالة حذراً من ألم العقوبة وخيفة من نكال الفضيحة ليكون ما حظر من محارمه ممنوعاً وما أمم به من فروضه متبوعاً فتكون المصلحة أعم والتكليف أتم"1.
إنّ تطبيق العقوبات في الشريعة يحقق ما تقدم إلى جانب أنه سوف يطارد الجريمة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الأحكام السلطانية ص 221 طبعة مصطفي الحلبي (الطبعة الثالثة).
192
ويحصرها في مجال ضيق بل يقضي عليها قضاء تاما فيعيش المجتمع ملتزما إيجابيا بعيدا عن المحالفات وبذلك يتحقق صلاح حال البشر.
وإذا كان تطبيقها يحقق ما تقدم فإن تعطيلها يهدر ذلك كله وبسببه تتعطل أحكام الشرع من أمر ونهي لعدم وجود ضمان لها يحمل عليها من لا ينفذها طوعاً وتعود حياة المجتمع إلى مثل حياة الغاب يتسلط فيها القوي على الضعيف نهباً وسلباً وقتلاً واعتداء بل تعود الحياة إلى مثل قطعان البهائم لا شرف ولا كرامة ولا عرض مصان.
فتعطيل عقوبة الزنا مثلاً معناه إباحة الزنا الذي حرمته جميع الأديان الإلهية لما فيه من المفاسد العظيمة والمضار الشديدة.
وتعطيل عقوبة السرقة معناه إباحة لها كذلك فيؤدي ذلك إلى الاعتداء على ممتلكات الناس فيكون الإنسان غير آمن على طعامه وشرابه وكسائه ومسكنه وَأداة عمله.
وتعطيل عقوبة الردة معناه إباحة الاعتداء على نظام المجتمع المسلم والخروج على مبادئه والتشكيك في صحة دينه ولا يمكن أن تستقيم الأمور في هذا المجتمع إذا وضع نظامه موضع التشكيك والطعن.
وتعطيل القصاص معناه إباحة الاعتداء على حياة الأفراد من ناحية واعتداء على نظام المجتمع من ناحية أخرى.(1/25)
وتعطيل عقوبة القذف معناه إباحة الاعتداء على نظام الأسرة حيث أن القذف هنا قاصر على الأعراض والذي يمس الأعراض يشكك في صحة نظام الأسرة... كما يترتب على القذف إشاعة الفاحشة فما ترامى الناس بها إلا شاع فعلها بينهم فإن القول يسهل الفعل. {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}. (النور: 19).
وتعطيل عقوبة الخمر معناه إباحة للفساد في الأرض عموماً إذ هو يؤدي إلى فقدان الشعور وإذا فقد الشارب شعوره فقد أصبح على استعداد لارتكاب جميع الجرائم فضلاً عن أن شربها يضيع المال ويفسد الصحة ويضعف النسل ويذهب العقل الذي هو ملاك التكليف.
وعلى العموم فإن تعطيل هذه العقوبات مدعاة إلى تعطيل أحكام الشرع وانتشار الفساد والفوضى في المجتمع، وتطبيقها هو الضمان الوحيد لتنفيذ أحكام الشرع وقطع دابر الفساد والحفاظ على النظام والأمن والاطمئنان
193
وما يُرى الآن في بعض المجتمعات من مفاسد وفوضى واضطراب واختلال أمن وكثرة جرائم إنما هو بسبب تعطيل العقوبات في الشريعة الإسلامية التي شرعها وأنزلها العليم الخبير بهذا الكون وما يصلحه {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُون} (المائدة: 5).
وتأديب الجاني ليس للانتقام والتشفي منه وإنما لإصلاحه، والعقوبات على اختلاف أنواعها تتفق- كما يقول الفقهاء- في أنها "تأديب استصلاح وزجر يختلف بحسب اختلاف الذنب"1.
فهي إنما شرعت رحمة من الله تعالى بعباده فهي صادرة عن رحمة الخلق وإرادة الإحسان إليهم ولذا يجب على من يؤدب المذنبين أن يقصد بذلك الإحسان إليهم والرحمة لهَم كما يقصد الوالد تأديب ولده وكما يقصد الطبيب معالجة المريض.
هذا وقد نشأت مذاهب مختلفة في العقوبة تعددت اتجاهاتها في الغرض منها.(1/26)
فمذهب يقول: إن العقوبة يجب أن تكون انتقامية فلابد أن ينال الجاني جزاء ما اقترفت يداه حتى يشعر بأن النتائج الشريرة لجرائمه وبال عليه هو.
ومذهب يقول: يجب أن تكون العقوبة رادعة فالغاية منها ردع الجاني وزجره عن العودة للجناية.
ومذهب يقول: يجب أن تكون العقوبة واعظة للغير فالغاية منها زجر الناس عن ارتكاب جرائم تشبه جريمة الذي يعاقب المجرم من أجلها فهي تعظ قوما ليسوا مجرمين لكيلا يصبحوا يوماً مجرمين.
ومذهب يقول: يجب أن تكون العقوبة مصلحة فمعاقبة الجاني الغاية منه أولاً وآخراً هو إصلاح الجاني لا الانتقام منه واكتفاء شره ولا عظة غيره2.
وبالنظر إلى هذه المذاهب نجد كل واحد منها نظر إلى العقوبة والغرض منها من زاوية واحدة ولو نظر إليها من جميع الجهات فقد يجد الأغراض الأخرى يمكن أن تأتي تبعاً للغرض الذي يراه هو المقصود، وكما تقدم أن العقوبات في الشريعة الإِسلامية هي في الدرجة الأولى استصلاحية بيد أن هذا لا يمنع أن تردع العقوبة وأن تزجر في نفسِ الوقت كما لا يمنع أن تكون قصاصاً من الجاني فيه معنى الانتقام فتتحقق الأغراض جميعاً، وكل ما تقدم لا يمنع أن يكون هناك مسائل استثنائية مثل
قتل المرتد وقتل القاتل قصاصاً إذ لا يتأتى إصلاح
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الأحكام السلطانية للماوردي ص 236.
2انظر فلسفة العقوبة لمحمد مهدي علام ص 36
194
الشخص بعد إزهاق روحه ومثل هذا روعي فيه مصالح أخرى تتعلق بنظام المجتمع وأمنه يجب أن تراعى قبل مراعاة مصلحة الجاني.
ومما يؤيد القول بأن العقوبات في الشريعة الإسلامية استصلاحية نظرية العفو في الشريعة الإسلامية في مجال التعازير والقصاص والديات... فلولي الأمر أن يعفو عن تعزير من استحقَ التعزير إذا رأى أن المصلحة في ذلك مثلما إذا تاب المذنب وندم على ذنبه واستقام وهكذا.(1/27)
أما الحدود فلا مجال للعفو فيها إذا وصلت إلى الحاكم إنما شرع التستر على المسلم ومنع التجسس عليه، والحدود تدرأ بالشبهات وكل ذلك يؤيد أن الاستصلاح مراعى فيها بالدرجة الأولى.
والعقوبات في الشريعة الإسلامية -وخاصة الحدود- أُحيطت بضمانات كثيرة حتى تنحصر في أضيق دائرة ممكنة فالحدود تدرأ بالشبهات والإثبات فيها اقترن بضمانات قوية تمنع الكذب كما أن الإسلام في تطبيقه القضائي ما سوغ لأحَد التتبع والتجسس على الناس {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا...}. (الحجرات: 12).
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تحسّسوا ولا تجسّسوا..."1.
إن الإسلام يعاقب على الجرائم إذا أعلنها فاعلها وكشف أمره فيها ولم يستتر عن الناس إذ في الإعلان تحريض عليها ودعوة إليها. "أيها الناس قد آن لكم تنتهوا عن حدود الله من أصاب من هذه القاذورات شيئاً فليستتر بستر الله فإنه من يبدِ لنا صفحته نقم عليه كتاب الله"2. إذاً فلا تجسس ولا تتبع للعورات بل إنّ العقاب يكون حيث يتحقق الإثبات فهو مفسدة ودفعها مصلحة وهذه
الأصول
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1البخاري بشرح فتح الباري الطبعة السلفية 10/ 481. حديث رقم 6064 ومسلم تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 4/1985 حديث رقم 28 من كتاب البر والصلة.
2 رواه مالك في الموطأ ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي 2/825 ضمن حديث مرسل وقد وصل ذلك الحاكم في المستدرك 4/383 والبيهقي في السنن 8/330 وهو حديث مشهور معروف العمل عليه
195
الخمسة حفظها واقع في رتبة الضرورات فهو أقوى المراتب في المصالح"1.
والحدود تقوم على دعامتين هما:(1/28)
1- حماية المجتمع من الشرور والآفات التي تفتك به وتروع أمنه وعلى مقدار ما في الجريمة من ضرر وفساد وترويع وإفزاع تكون غلظة العقوبة بقدر ذلك.
2- عموم العقاب في أحكام الشريعة الإسلامية فالحدود تطبق على الجميع ولا يعفى منها أحد لمركزه أو شخصه أو لغير ذلك من الاعتبارات.
الموازنة بين الضرب والسجن:
إن المشرعين في القوانين الوضعية يعيبون على الإسلام أن العقوبات فيه أكثرها بدني بالضرب المبرح وقالوا إن هذه العقوبات ليست إنسانية بل فيها استهانة وحط للكرامة الواجب توفيرها للإنسان.
ويرد على هذا بأن الإسلام لاحظ في العقوبات ما لاحظه في كل تشريعه وهو ملاحظة أكبر منفعة والموارنة بين الضَرر الواقع والنفع المطلوب من حيث المقدار وتحمل أقل الضررين ولاشك أن العقاب كيفما كان ضرره لابد منه لأنه يترتب عليه نفع أكبر من الضرر اللاحق بالمعاقب.
وقد لاحظ الإسلام في العقاب الرادع أن يكون ضرره غير وخيم العاقبة بحيث يكون عاجلاً غير معطل للقوى أو مفضياً إلى ما هو أشد ضرراً في عاقبته.
والناظر في عقوبة السجن التي تعتمد عليها القوانين الوضعية إلى حد بعيد يوازن بين ضرر السجن وضرر الضرب أيهما أوخم عاقبة وأيهما أحسم للداء، إنه يلاحظ في السجن أضراراً كثيرة وبالغة الخطورة منها:
1- انقطاع الجاني عن أهله وأولاده مدة قد تطول لا يرعونه ولا يرعاهم.
2- أنه يعاشر في السجن المجرمين فتصل إليه عدواهم -وعدوى الجريمة كعدوى المرض يسري بالمجاورة والاختلاط- فيدخل مريضاً بجريمة واحدة ربما كان وقوعه فيها بسبب عارض وليس متمكناً من نفسه ولكنه يخرج وقد أصيب بعدة أمراض أخرى ربما حولته إلى إنسان شاذ في المجتمع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المستصفى للغزالي ص 251 تحقيق محمد مصطفى أبو العلا
196(1/29)
3- أن السجن تهان فيه الكرامة, وحيث فقدت الكرامة واستمر السجين أمدا ذليلا مهينا فإن قلبه يفسد ويكون مستعدا لارتكاب الكثير من الجرائم لأن الجريمة مهانة تسهل عند المهين وتصعب على الكريم .
4- أن السجناء وقت سجنهم قوة إنسانية معطلة وبذلك يوقع السجن ضرراً بالمجتمع.
5- أن السجين يعاقب أثناء السجن بعقوبات بدنية إذا ارتكب ما يخالف لوائح السجن وقليل من ينجو من هذه المخالفات وآثارها وبهذا يقعون فيما فروا منه.
هذه بعض أضرار السجن فوق ما فيه من تقييد الحريات وعدم الردع الكافي عن ارتكاب الجرائم.
أما عقوبة الضرب فإنها وإن كانت لا تخلو من امتهان لكنه لا يدوم وسرعان ما يسترد المعاقب بالضرب اعتباره إذا عمل بعد ذلك صالحاً ونفسه لم تتدرن بدرن يأكل الكرامة وإذا مازالت جراحه استأنف نشاطه واستئناف النشاط يرد إليه اعتباره ويستمر بين أهله يرعاهم ويرعونه ولا تصل إليه عدوى من أمراض أخرى كما لا يوقع الضرب ضررا بالمجتمع كما هي الحال في السجن.
وقولهم إن في الضرب استهانة وحطاً للكرامة فكرة لا محل لها في العقاب ولا يصح أن يحتج بها لمن لا يوفر الاحترام لنفسه.
وبعد فإن العقوبات في الحدود وغيرها شرعت لمنع الكافة عن الجريمة وزجرهم عنها فهي ضمانات لتطبيق أحكام الشريعة وليس كما يتصورها الجاهلون بها وبحقيقتها وبطبيعة المجتمع المسلم حيث يتصورونه أو يصورونه مجتمعاً مقطع الأيدي في كل زاوية رجل مصلوب وفي كل شارع رجل مجلود أو مرجوم ويكفينا لتقرير هذه الحقيقة ورد هذه التصورات الجاهلة أننا حينما ننظر في المجتمع الملتزم بأحكام الله وحدوده أن هذه الجرائم لا تقع إلا في حالات قليلة بل نادرة في بعض أنواعها، في حين أننا نلاحظ ازدياد جرائم السرقة مثلاً في المجتمعات التي لا تطبق فيها الشريعة الإسلامية رغم أنها تعاقب عليها أحياناً بالإعدام.(1/30)
آمنا بالله وبشرعه فهو العليم الخبير أعلم بطبيعة خلقه وبما يصلحهم وما تستقيم به أحوالهم وشئون حياتهم .
{وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}
197
دفاعٌ عنِ العقوُباَت الإسلاَمِيةِ
للشيخ محمد بن ناصر السحيباني عميد كلية الشريعة بالجامعة
الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
السنة السادسة عشر - العددان الثالث والستون والرابع
والستون رجب - ذو الحجة 1404هـ
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين...
أما بعد:
فقد سبق أن وعدت في مقالة سابقة تكلمت فيها عن مزايا التشريع الإسلامي، وأشرت إلى ما تتعرض له الشريعة الإسلامية من استنقاص وازدراء من قِبَل أعدَائها، ومن قبل من يتظاهرون بأنهم من أبنائهَا، وقد وعدت في تلك المقالة أن أخص العقوبات الإسلامية بكلمة مختصرة موجزة، أبين فيها ما تبين من وجوه الحكمة فيها، وما تمتاز به عن العقوبات التي وضعها الإنسان وضعا ارتجاليا متأثراًَ بأهوائه ورغباته، مسترشدا بنظره القاصر، وتفكيره المحدود، وقبل أن أدخل في موضوع العقوبات، أقدم بكلمة قصيرة عن الجريمة ونظرة الإسلام إليها، فأقول مستعينا بالله:
أولا: تعريف الجريمة:
الجريمة عند أهل اللغة تأتي بمعنى الجناية وبمعنى الذنب. قال في اللسان: "وجرم إليهم وعليهم جريمة وأجرم: جنى جناية"1.(1/31)
وفي تاج العروس، والجرم بالضم الذنب كالجريمة. وقال: والمجرمون في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} الكافرون لأن الذي ذكر من قصتهم التكذيب بآيات الله والاستكبار عنها قاله الزجاج2، والذي يلفت النظر، أن لفظة الإجرام وردت في كثير من الآيات الكريمة، وكلها والله أعلم يقصد بها الكافرون أو المشركون ونحوهم من المكذبين والمنافقين. كما نقله صاحب التاج عن الزجاج، كما ورد في قوله تعالى: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ} الأنعام: 124.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لسان العرب لابن منظور ج/12 ص 91.
2 تاج العروس للزبيدي ج/8 ص 224.
71
وقوله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى}. (طه: 74)1.
أما عند الفقهاء فقد عرفها الماوردي بقوله: "الجرائم محظورات شرعية زجر الله تعالى عنها بحد أو تعزير"2.
وقوله تعالى: {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ}، (المعارج: 11)، وقوله تعالى:
{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} (القلم: 35)، وهي تصل إلى أكثر من خمسين آية3، بينما في السنة لم ترد هذه الكلمة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في حالات قليلة جدا، كما في حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أعظم المسلمين جرماًَ من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته". أخرجه البخاري4.
وحديث عائشة رضي الله عنها قالت:" قيل لها إن ابن عمر يرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم إن الميت يعذب ببكاء الحي، قالت: وهل أبو عبد الرحمن، إنما قال إن أهل الميت يبكون عليه، وأنه ليعذب بجرمه"5.(1/32)
ولم تستعمل هذه الكلمة من قبل الفقهاء في الصدر الأول بمعنى الجناية إلا في حالات قليلة، فقد بوب البخاري رحمه الله في كتابه على حديث كعب بن مالك رضي الله عنه في قصته المشهورة لما تخلّف هو ومن معه عن غزوة تبوك، بوب بقوله: باب هل للإمام أن يمنع المجرمين وأهل المعصية من الكلام معه والزيارة ونحوه6 مع أن الحديث كما هو معروف لم يتضمن هذه الكلمة، وقد ذكر الحافظ رحمه الله أن رواية ابن التين الإسماعيلي والجرجاني، لم تكن بلفظ المجرِمين، وإنما بلفظ المحبوس بدل المجرمين. كما بوب في الديات بقوله: باب إثم من قتل ذمياًَ بغير جرم، وساق حديث عبد الله ابن عمرو بهذا الصدد7، مع أنه لم يتضمن هذه الكلمة، ومثل ذلك فعل في كتاب الجزية فعنون بهذا العنوان وساق الحديث.
فقد يكون السلف رضي الله عنهم يتحرجون من إطلاق هذه الكلمة في حق العصاة من المسلمين لما لاحظوه من ورودها في القرآن الكريم في حق الكفار في أكثر المواضع، وإن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر تفسير النسفي ج/3، ج/ 4 ص 60، 341، ص 282.
2 الأحكام السلطانية للما وردي ص 219.
3 وانظر القرطبي ج/19 ص 267، ج/18 ص 286، 246.
4 انظر فتح الباري ج/13 ص 264.
5 المسند ج/6 ص 57، الفتح الرباني ج/7 ص 116.
6 انظر فتح الباري ج/13 ص 216.
7 انظر فتح الباري ج/2 1 ص 259، ج/6 ص 269.
72
كان لا يمتنع استعمالها لغة في هذا الموضع، أعني موضع الجناية... والله أعلم
ثانيا: نظرة الإِسلام إلى الجريمة:(1/33)
إنه باستقراء النصوص من الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة نلاحظ أن نظرة الإسلام إلى الجريمة- الجناية- نظرته إلى الظاهرة العادية فهو يعتبر الجريمة جزءً من المجتمع الإنساني لا تنفك عنه. فكما أن النقص والتقصير لا ينفك عن الإنسان، وبالتالي عن المجتمع الإنساني، فإن الجريمة كذلك، فهي ليست إلا صورة من صور النقص والتقصير الذي يعتبر صفة ملازمة لبني آدم في هذه الحياة يقول سبحانه وتعالى عن الإنسان: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ}. (عبس: آية 17) {كَلاَّ إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى} (العلق: 6). {وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً}. (الإسراء: 11). {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً}. (الأحزاب: 72) وفى الحديث عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه قال حين حضرته الوفاة: قد كنت كتمت عنكم شيئا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لولا أنكم تذنبون لخلق الله تبارك وتعالى قوماً يذنبون فيغفر لهم". رواه أحمد1، وفى الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون"2. أخرجه الترمذي. وقال: "هذا حديث غريب"، والحديث وان اختلف في صحته فمعناه صحيح.(1/34)
إذن فالجريمة بحد ذاتها كظاهرة اجتماعية، تعتبر في نظر الإسلام أمراً مسلما به، ولابد منه لأن الكمال لله سبحانه، والعصمة لله وحده. ولكن كونَ الجريمة ظاهرة لابد منها، لا يعني هذا أنه يسلم بوجودها وتترك في المجتمع لتنمو وتنتشر وتتكاثر دون أن تستنكر وتحارب، بل إن الإسلام وضع لها الحل السليم والعلاج الشافي والحكم العادل، فالإسلام يحارب تكاثر الجرَيمة وتصاعدها، إلا أنه من الأمور المسلم بها أنه لا يمكن بحَال من الأحوال أن يخلو مجتمع من جريمة، ولو كان ذلك ممكناً، لكان المجتمع النبوي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عهد الخلفاء الراشدين، لكان هذا المجتمع أولى المجتمعات وأقريها إلى الخلو من الجريمة وأحراها بالقضاء عليها، إلا أنه من المعروف أن هذا المجتمع الطاهر النظيف قد وجدت فيه الجرائم على اختلاف أنواعها، فالإسلام لا ينظر إلى المجتمع الإنساني نظرة مثالية خيالية، تهدف إلى إنهاء الجريمة من الَمجتمع والقضاء عليها قضاء مبرماً، لأن من المبادئ الرئيسية أن الإنسان مبتلى بالخير والشر- والله سبحانه قد سلط عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المسند ج/5 ص 4 41 وهو صحيح وقد أخرجه مسلم والترمذي أنظر سلسلة الأحاديث الصحيحة ج/ 4 ص ه 34.
2 جامع الأصول ج/ 2 ص ه 1 5، سنن الترمذي ج/7 ص 1 9 1 وراجع كشف الخفاء ج/ 2 ص 76 1 وأسنى المطالب للحوت البيروتي ص 167.
73
الشيطان، ابتلاءً وامتحاناً، فمادام الشيطان موجوداً، فالجريمة موجودة لأنه هو الذي يوسوس بها في نفس الإنسان، وهو الذي يدعوه إلى ارتكابها ويحسنها له {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً} (النساء: 120) {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (الحجر: 39-0 4).(1/35)
والآيات بهذا الشأن كثيرة جدا والمسألة واضحة. إلا أن الإسلام وهو يسلّم بوجود الجريمة لا يتركها هكذا كما أسلفت بل يسعى إلى تقليلها، ووضعهاَ في حجم معين ويسعى إلى حصر آثارها والتخفيف من نتائجها، ومن ناحية أخرى فالإِسلام بهذه النظرة لا يقطع خط الرجعة على المجرمين، بل يدعوهم ويطالبهم بالعودة إلى المجتمع، ويعيد لهم اعتبارهم، ولا يجعل من مقار فتهم للجريمة أياً كانت سبباً في نبذهم وطردهم إلا بقدر محدود، عندما يصرون على ارتكاب الجريمة وير تكسون في الإجرام حيث لا تجدي فيهم الموعظة1، فإنه في هذه الحالة ينتقل إلى العقوبة ومع العقوبة كذلك لا يعتبرهم منبوذين، بل يعتبرهم جزء من المجتمع، ويترك لهم الفرصة ليعيدوا الاعتبار إلى أنفسهم إذا كانوا أحياء، وإذا كانوا في عداد الأموات- في حالة العقوبة المتلفة- فهو يعتبرهم مسلمين، لهم ما للمسلمين من حقوق واحترَام، في الحديث أن خالد بن الوليد رضي الله عنه سب المرأة التي رجمت من الزنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مهلا يا خالد، فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له، ثم أمر بها فصلى عليها ودفنت". رواه أحمد ومسلم وأبو داود.(1/36)
وقال لعمر رضي الله عنه عندما قال: تصلي عليها وقد زنت. "لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله". رواه مسلم وغيره، في بعض روايات قصة ماعز بن مالك الأسلمي فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلين من أصحابه يقول أحدهما لصاحبه: انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب، فسكت عنهما، وسار ساعة حتى مر بجيفة حمار شائلا رجله. فقال: "أين فلان وفلان؟" فقالا: نحن ذان يا رسول الله. قال: "كلا من جيفة هذا الحمار" فقالا: يا نبي الله من يأكل من هذا؟ قال: "فما نلتما من عرض أخيكما أنفاَ أشد من أكل منه، والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها". رواه أبو داود.
ولما جاءوا بالسارق بعد قطعه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قل استغفر الله وأتوب إليه فقال:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لا ينبغي أن يفهم من ذلك أن العقوبة لا توقع عليهم إلا في حالة الإصرار بل أن العقوبة توقع على المجرم بمجرد ارتكابه للجريمة ولو لم يصر أو تتكرر منه، إلا في التعازير فالأمر فيها يختلف.
74
استغفر الله وأتوب إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم تب عليه". رواه أحمد وأبو داود.
ولما أتي بشارب خمر وأمر الناس بضربه، فقال بعض القوم أخزاك الله، فقال صلى الله عليه وسلم: "لا تقولوا هكذا لا تعينوا عليه الشيطان". رواه أحمد والبخاري.
فهذه النصوص وأمثالها تؤكد ما أشير إليه من أن المسلم إذا ارتكب جرماً مهما كان لا يبرر نبذه وطرده، ولكن تقام عليه العقوبة المقررة شرعاً، وفق الأحكام الشرعية في الإثبات والحكم والتنفيذ، ويعاد له اعتباره بعد ذلك حيا كان أو ميتاً إذا تاب وصلحت توبته.
العقوبة ضرورة اجتماعية1:(1/37)
تعتبر العقوبة من الأمور الضرورية للمجتمعات، ولا يمكن أن يعيش مجتمع دون أن تفرض فيه عقوبة، فكما أن الجريمة جزء من المجتمع ملازمة له ولا يتصور وجود مجتمع بدون جريمة، فكذلك لا يتصور وجود مجتمع بدون عقوبة، فالعقوبة تعتبر رد فعل للجريمة، ولذلك نجد حتى في المجتمعات الحيوانية ومجتمع الطيور والحشرات نجد العقوبة فيما بينها يوقعها بعضها على بعض.
والمجتمعات الإنسانية وان كانت العقوبة موجودة فيها، إلا تفاوتاً كبيراً بين مجتمع وآخر في مدى تأثير هذه العقوبة، ونتائجها في المجتمع وذلك من حيث تناسب العقوبة مع الجريمة باعتبارها رد فعل، فما لم يكن رد الفعل متناسباَ مع أن هناك الفعل بل مساوياً له، فإن العقوبة تكون في هذه الحالة فاشلة في علاج الإجرام.
والذي يحصل أن كثيراً من المجتمعات في العقوبة تفرق بين الإفراط والتفريط فبعضها يتشدد في العقوبة ويقسو حتى تكون العقوبة أكبر من الجريمة، مما يدفع بالمجرم أو عائلته أو عصابته أن يسعوا في استعادة الفرق، وقد تكون العقوبة أقل من الجريمة بحيث تغرى المجرم بالعودة إلى الجريمة أو تدفع المعتدى عليه إلى الأخذ ببقية حقه بنفسه، أما بالنسبة للمجتمعات المفرطة في العقوبة المتساهلة فيها فأمثلتها كثيرة ونستطيع أن نقول إن أكثر الدول الغربية في الوقت الحاضر ومن سار في ركابها من الدول الإسلامية على هذه الشاكلة، من تدليل المجرم وعدم معاملته بحزم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تعريف العقوبة:
يقول صاحب اللسان: العقاب والمعاقبة أن تجزي الرجل بما فعل سوء، والاسم العقوبة وعاقبه بذنبه معاقبة وعقابا: أخذه به. هذا عند أهل اللغة. (لسان العرب لابن منظور 1/ 619).
عرفها بعض الفقهاء "بأنها الجزاء المقرر لمصلحة الجماعة على عصيان أمر الشارع". (أورده عبد القادر عودة في التشريع الجنائي (1/609).
75(1/38)
أما المجتمعات المفرطة المتشددة فمنها بعض المجتمعات الغربية إلى نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، فقد عرفت بريطانيا في القرن التاسع عشر التشهير بمرتكبي جنايات الغش في مواد التموين، فكان الخباز الذي يبيع خبزاً يقل وزناَ عن الوزن القانوني، يربط إلى إطار خشبي ويتدلى عنقه من فتحة الإطار، وقد علق بعنقه رغيفٌ، وربما عوقب بوضع أصابع اليدين في آلة ضاغطة أو بالضغط عَلى الساقين، وعرفت الصين حتى تاريخ حديث ألوانا من العقوبات القاسية، كوضع ألواح من الخشب حول أعناق المتهمين ليتمكن الناس من معرفتهم عندما يمرون بهم وقد وقفوا خارج جدار السجن1. وفى الهند أشد وأبشع فقد نشرت جريدة الرياض في أحد أعدادها أن وكالات الأنباء الهندية أعلنت أن إحدى النساء أرغمت خادمتها البالغة من العمر خمسة عشر عاما على غمس يديها في زيت حار لإثبات برائتها من تهمة سرقة ساعة وقعت في الأسبوع الماضي في مدينة راجكوت غربي الهند.(1/39)
وقالت الوكالة أن الضحية مانجو لا ديفي نفت التهمة التي وجهتها لها سيدتها بسرقة ساعة، وعندها قامت السيدة التي لم يعلن عن اسمها بإرغام الخادمة على غمس يديها في زيت كان يغلى على النار لإثبات أنها لا تكذب والجدير بالذكر أن مثل طرق التعذيب هذه مألوفة في الريف الهندي، ومن أمثلتها قيام الشرطة الهندية بفقأ عيون عشرين متهما في جرائم السرقة في ولاية بيهار الهندية الشرقية مؤخرا2 وكل هذه المجتمعات المفرطة منها والمفرطة فشل في محاربة الجريمة، ولا يرجع فشل هذه المجتمعات في محاربة الجريمة لمجرد أن العقوبات لا تتناسب مع الجرائم، بل هناك أمر مهم وهو أن هذه المجتمعات المفرطة والمفرطة لا تؤمن بشرع الله ولا تحكم بحكم الله بل تتبع الهوى في أحكامها وأنظمتها وتتخبط في اجتهادها ولذلك لا يمكن أن تصل إلى نتيجة مرضية وحالة مسعدة والله تعالى يقول: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ}. (المؤمنون: 71).
أما الشريعة الإسلامية فإنها في عقوباتها متوسطة لا إفراط ولا تفريط خاصة عندما تطبق بأمانة وعدالة، فإنَها تؤثر تأثيرا بالغاً في التقليل من الإجرام والحد منه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الجريمة والعقاب في المجتمع القبلي الإفريقي: محمد عبد الفتح إبراهيم (ص 40 ا-141).
2 جريدة الرياض العدد 4723 الصادر بتاريخ 3/1/ 1 0 4 1 هـ
الحكمة من العقوبة:
إن الحكمة من العقوبة بصفة عامة هي معالجة الأمراض الاجتماعية فإذا نظرنا إلى المجتمع كوحدة واحدة وجسم واحد، ونظرنا إلى الأفراد وهم يمثلون خلايا الجسم وأعضائه
76(1/40)
وأطرافه، أمكننا أن نتصور كيف أن إيقاع العقوبات على بعض الأفراد يعتبر علاجاً للمجتمع، تماماً كما يعالج جسم الإنسان، إما بأدوية مرة، أو بالمضاد، أو بالشق والجراحة، وقد يصل الأمر إلى بتر العضو وإزالته حتى لا يكون سببا في تلف الجسم كله، وهذا ما يحصل لخلايا وأعضاء هذا الجسم الكبير المجتمع، فقد يعالج بعض أفراده بالجَلد، أو الهجر أو الحبس أو القطع أو القتل إذا لزم الأمر.
وللعقوبة من ناحية أخرى أهداف ترجع إلى الجاني وأهداف ترجع إلى عموم الناس، فبالنسبة للجاني تهدف العقوبة إلى استصلاحه وزجره إذا لم تكن العقوبة متلفه (قتلا)، وبالنسبة لسائر الناس فإن العقوبة تهدف من ناحية إلى حماية مصالحهم الضرورية في الأعراض والأموال والأبدان، والعقول، وغير ذلك من المصالح، ومن ناحية أخرى تهدف إلى ردع المجرمين وتخويفهم وتحذيرهم من الوقوع فيما وقع فيه المتهم فيحل بهم مثل ما حل به من العقوبة.
هل العقوبات الإسلامية قاسية:(1/41)
تعرضت العقوبات التي شرعها الله سبحانه وتعالى، وشرعها رسوله صلى الله عليه وسلم، لتأديب المجرمين وزجرهم وردعهم، من جلد وهجر أو قطع أو رجم أو قتل، لقد تعرضت للهجوم والسخرية والاستهزاء من قبل كثير من الكتاب، فتارة توصف بأنها وحشية وتارة توصف بأنها عقوبات قاسية قديمة ولا تليق بالعصر الحديث، ومن المؤسف أن نجد مثل هذا الانتقاد عند بعض الكتاب المسلمين، فهذا أحد الكتاب وهو يتحدث عن العقوبات وتطورها يقول: والتعويض المدني يمتاز عن الدية بأنه مرن يزيد وينقص حسب مقدار الضرر الناتج عن الجريمة، كما أنه يمتاز عن القصاص في أنه لا يقصد به مجرد الانتقام من الجاني وإنما يقصد به إزالة الضرر الواقع على المجني عليه إذا أمكن، أو تعويضه عن هذا الضرر ليخفف أثره إذا لم تكن الإزالة ممكنة، كما أن التعويض المدني يمتاز عن الدية والقصاص في أنه حق مدني منفصل عن العقوبة فيمكن للمجني عليه أن يتنازل عنه، ولكن ذلك لا يعفى الجاني من العقوبة التي هي حق للمجتمع1 وهذا كلام جاهل بالشريعة، وإلا فأي مرونة أكثر من المرونة في تقاد ير الديات في التشريع الإسلامي وتقديرها بحسب الضرر الذي يصيب المجني عليه، ولم تبلغ شريعة من الشرائع ولاَ نظام من الأنظمة ما بلغته هذه الشريعة في تقدير الديات بحسب الإصابة، حتى قدروا للظفر ديته، وللشعر ديته، ولكل جرح
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 العقوبات الجنائية في التشريعات العربية: د. توفيق الشاوي الصفحات 24، 73- 5 7
77
بحسب غوره في البدن ديته التي تناسبه، فأي مرونة أكثر من هذه المرونة، ومن ذا الذي يجهل أن للمجني عليه أن يتنازل عن الدية، بل هو مدعو إلى ذلك ومرغّب فيه، كما أن التنازل عن الدية لا يعنى الإعفاء من المسئولية مطلقا، بل لولى الأمر أن يعزر الجاني تعزيراً مناسبا، كل هذه المعلومات يدركها أقل المسلمين اطلاعا، ولكنه الجهل أو التجاهل.(1/42)
وفي موضع آخر يقول: "ومنذ بدأت حركة إصلاح النظم الجنائية في العصور الحديثة أصبحت العقوبات البدنية محل هجوم شديد من ناحية الفلاسفة والمصلحين، باعتبار أنها تتضمن امتهاناً لكرامة الإنسانية الواجب رعايتها حتى بالنسبة للمجرمين..." إلى أن قال: "ولم تشذ التشريعات العَربية عن تأثير المذاهب الإصلاحية بل نرى أن التطور التشريعي في بلادنا يأخذ نفس الاتجاه..." ثم يمضى في كلامه... "ورغم أن الاتجاه الحديث يرمى إلى الغاء هذه- العقوبات الجسمانية، لما يترتب عليها من مهانة وإذلال للآدمي بمعاملته معاملة الحيوان، فإن بعض المؤلفين يرى ضرورة بقائها في أحوال معينة، ولكن الاتجاه الغالب في العالم المتحضر يدعو إلى الغائها باعتبارها لا تتناسب مع المدنية الحاضرة"1 أما عقوبة القتل فهي بزعمهم أصبحت محل نقد كثير من الفلاسفة والباحثين، لأنهم يرون أن القتل إجراء وحشي لا يجوز أن يرتكبه المجتمع ضد أحد الأفراد لأي سبب كان مادام يمكن الاستعاضة عنه بالسجن المؤبد2.
وعن عقوبة الجَلد: لقد تأثرت التشريعات المعاصرة بالنقد الموجه إلى عقوبة الجلد أو الضرب ذلك النقد الذي يستند إلى منافاتها لكرامة البشرية إذ أن استعمال الضرب في تأديب الإنسان تشبيه له بالحيوان ونزول به إلى مرتبة الدواب مما يتعارض مع الاحترام الذي تقتضيه الَصفة الإنسانية التي لا يمكن نزعها عن الشخص لمجرد أرتكابه جريمة3. هذا نموذج من النماذج الكثيرة. ونحن نرد على هؤلاء المتهجمين بردين رد مجمل ورد مفصل مع الاختصار الذي يقتضيه المقام.
فأما الرد المجمل:
فإن هؤلاء المتهجمين على العقوبات الإسلامية أحد رجلين، أما كافر بالإسلام لا يؤمن بالله ولا برسوله صلى الله عليه وسلم، وأما مسلم، فبالنسبةَ للكافر فإن القضية مع الكفار أكبر وأعظم من أن تقف عند فرع من فروع الدين فهم أصلا لا يؤمنون بالله سبحانه ومن يزعم منهم أنه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(1/43)
1 العقوبات الجنائية في التشريعات العربية. د. توفيق الشاوي الصفحات 24، 73- 75.
2 العقوبات الجنائية في التشريعات العربية. د. توفيق الشاوي الصفحات 24، 73- 75.
3 العقوبات الجنائية في التشريعات العربية. د. توفيق الشاوي 24، 73- 75
78
يؤمن بالله فهو لا يؤمن به الإيمان الصحيح الكامل، ولا ينطلق في إيمانه من تصور صحيح. فهم لا يؤمنون بالرسول ولا يقرون برسالته ولا يؤمنون بالقرآن ولا بالبعث بعد الموت والحساب والجزاء. وهذه القضايا أخطر وأكبر من قضية العقوبات. فمادام هؤلاء لا يسلمون بأصول الدين ولا يسلمون لله سبحانه بالحكمة والعدالة والرحمة، بل إنهم ليتهجمون على الشريعة الإسلامية ويسخرون منها فمن باب أولى ألا يسلموا بما دون ذلك. وأما المسلم الذي يتهجم على العقوبات الإسلامية فإما أن يكون متظاهرا بالإسلام مجرد تظاهر وهو يبطن الكفر والإلحاد والنفاق، فهذا شأنه شأن الفريق الأول، وإما أَن يكون مسلما ضعيفا جاهلا، فهذا ينبغي أن يعرف أنه لا يصح إيمانه حتى يسلم بكل ما شرعه الله وشرعه رسوله صلى الله عليه وسلم، فالله سبحانه وتعالى عليم حكيم خبير، متصف بكل صفات الكمال منزه عن كل صفات النقص فأحكامه وشرائعه تبدو فيها صفاته من الحكمة والرحمة وقد ندرك ذلك وقد لا ندركه ولكن مقتضى الإيمان أن نسلم لله سبحانه بكل ما شرعه لنا، وإن كان هذا لا يمنع أن نتحرى الحكمة ونبحث عن أسرار التشريع بأدب مع الله سبحانه ومع رسوله صلى الله عليه وسلم، هذا هو الرد المجمل باختصار.
أما الرد المفصل فإنه:
يحتاج منا إلى وقفات وهى وقفات سريعة حيث أن المقام لا يتحمل الإطالة.
الوقفة الأولى:(1/44)
مقارنة العقوبات الإسلامية بالعقوبات في المجتمعات الأخرى لنرى مدى القسوة والشدة فيهما، ولقد تطرق الأستاذ عبد القادر عوده رحمه الله في كتابه التشريع الجنائي الإسلامي إلى شيء من ذلك فقال: "فإذا قدرنا أن الجرائم التعزيرية التي يمكن العقاب عَليها بالقتل تصل إلى خمس جرائم، كانت كل الجرائم المعاقب عليها بالقتل في الشريعة لا تزيد على عشر جرائم عند من يجيزون القتل تعزيرا، وكان عددها لا يزيد على خمس جرائم عند من لا يجيزون القتل تعزيرا، وتلك ميزة انفردت بها الشريعة الإسلامية من يوم نزولها، فهي لا تسرف في عقوبة القتل ولا تفرضها دون مقتضى، ونستطيع أن نحيط بمدى تفوق الشريعة في هذه الوجهة، إذا علمنا أن القوانين الوضعية كانت إلى آواخر القرن الثامن عشر تسرف في عقوبة القتل إلى حد بعيد، بحيث كان القانون الإنجليزي مثلا يعاقب على مائتي جريمة بالإعدام، والقانون الفرنسي يعاقب على مائة وخمس عشرة جريمة بالإعدام"1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 التشريع الجنائي الإسلامي ج 1ص 9 68
79
ويقول في موضع آخر وهو بصدد الحديث عن أساس المسئولية الجنائية، "كانت القوانين الوضعية في العصور الوسطى والى ما قبل الثورة الفرنسية تجعل الإنسان والحيوان بل والجماد محلا للمسئولية الجنائية، وكان الجماد يعاقب كالحيوان على ما نسب إليه من أفعال ضارة، كما يعاقب الإنسان على ما ينسب إليه من أفعال محرمة، وكانت العقوبة تَصيب الأموات كما تصيب الأحياء، ولمِ يكن الموت من الأسباب التي تعفى الميت من المحاكمة والعقاب. ولم يكن الإنسان مسئولا جنائياً عن أفعاله فقط و إنما كان يسأل عن عمل غيره ولو لم يكن عالماً بعمل هذا الغير، ولو لم يكن له سلطان على هذا الغير، فكانت العقوبة تتعدى المجرم إلى أهله وأصدقائه وتصيبهم كما تصيبه، وهو وحده الجاني وهم البرءاء من جنايته.(1/45)
وكان الإنسان يعتبر مسئولا جنائيا عن عمله، سواء كان رجلا أو طفلا مميزا أو غير مميز وسواء كان مختَارا أو غير مختار، مدركا أو فاقد الإدراك وكانت الأفعال المحرمة لا تعين قبل تحريمها، ولا يعلم بها الناس قبل مؤاخذتهم عليها، وكانت العقوبات التي توقع غير معينة في الغالب..." الخ 1
وكان من الممكن في بعض الشرائع القديمة بل وفي العصور الوسطى في أوربا نفسها أن توقع العقوبات الجنائية على حيوان، أو على جثة الجاني بعد موته أو على من به مس من الجنون2.
ولقد ألمحتُ في الفقرة السابقة إلى بعض العقوبات القاسية التي تمارس في بعض المجتمعات كما في الهند والصين- فالعقوبات الإسلامية كما نلاحظ من هذا العرض المختصر المقارن أشد ما تكون قتلا أو قطعا ومع ذلك فعدد الجرائم التي يعاقب عليها بالقتل لا يجاوز العشر أو الخمس، والجرائم التي يعاقب عليها بالقطع جريمتان فقط. وسوف نلاحظ فيما بعد الحكمة الدقيقة في سن هذه العقوبات للجرائم الخاصة بها.
والقوانين الوضعية وإن كان أغلبها في العصر الحاضر قد استبدل عقوبة الحبس المؤبد بعقوبة الإعدام وصارت تركز على عقوبة السجن مؤقتا أو مؤبدا فإن السجن المؤبد أو الطويل الأجل ليس إلا قتلا بالتقسيط للمجرم، وقتلا لأسرته معه، فلا هو بالميت الذي استراح من عناء السجن ورهبته وأفضى إلى ما قدم من خير أو شر، ولا هو بالمطلق سراحه ليعمل ويكدح، وكم تعاني أسرة السجين من الشقاء والضياع، وكم تفقد من العناية والرعاية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 التشريع الجنائي ج1 ص 381.
2 محاضرات عن المسئولية الجنائية في التشريعات العربية. د. توفيق الشاوي ص 32.
80
ولقد لخص "عودة" رحمه الله عيوب عقوبة الحبس بعدة نقاط مؤيدة بالأرقام الإحصائية فذكر منها1:(1/46)
أولا: إرهاق خزانة الدولة وتعطيل الإنتاج فلاشك أن الدولة سوف تتحمل نفقات كبيرة لإعداد السجون وصيانتها والعناية بها، ومع ذلك فلا يزال السجناء يعانون في كثير من الدول من قلة العناية والرعاية.
ثانيا: إفساد المسجونين ويقول بهذا الصدد وكان من الممكن أن تتحمل الجماعة هذه الخسارة الكبيرة سنوياً أي نفقات هذا السجن والسجناء لو كانت عقوبة الحبس تؤدي إلى إصلاح المسجونين، ولكنها في الواقع تؤدي بالصالح إلى الفساد وتزيد الفاسد فساداَ على فساده، فالسجن يجمع بين المجرم الذي ألف الإجرام وتمرس بأساليبه، وبين المجرم المتخصص في نوع من الإجرام وبين المجرم العادي، كما يضم السجن أشخاصاً ليسوا بمجرمين حقيقين، وإنما جعلهم القانون مجرمين اعتبارا كالمحكوم عليهم في حمل الأسلحة أو لعدم زراعة نسبة معينة من القمح والشعير، وكالمحكوم عليهم في جرائم الخطأ والإهمال، إلى آخر ما ذكره رحمه الله. فحاصل ما ذكر أن السجن أصبح مدرسة إجرامية يلقن فيها المجرمون العتاة والمعتادون المبتدئين من المجرمين.
إلى أن قال: ولقد دلت المشاهدات على أن الرجل يدخل السجن لأمر لا يعتبره العرف جريمة كضبط قطعة سلاح معه، وكان المعروف عنه قبل دخوله السجن أنه يكره المجرمين ويأنف أن يكون منهم، فإذا خرج من السجن حبب إليه الإجرام واحترافه بل صار يتباهى به إلى آخر ما ذكر، وهو كلام جيد مدعم بالإحصائيات فيحسن الرجوع إليه.
ثالثا: قتل الشعور بالمسئولية: وعقوبة الحبس فوق أنها غير رادعة فإنها تؤدى إلى قتل الشعور بالمسئولية في نفوس المجرمين، وتحبب إليهم التعطل، خاصة من يقضى منهم مدة طويلة في السجن.(1/47)
رابعا: انعدام قوة الردع: إن عقوبة الحبس قد فرضت على أساس أنها عقوبة رادعة ولكن الواقع قد أثبت أنها لا فائدة منها ولا أثر لها في نفوس المجرمين، فالذين يعاقبون بالأشغال الشاقة وهى أقصى أنواع الحبس لا يكادون يخرجون من السجن حتى يعودوا لارتكاب الجرائم، ولو كانت العقوبة رادعة لما عادوا، لما عوقبوا عليه بهذه السرعة ثم ذكر إحصائيات تدعم ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 نقلتها من التشريع الجنائي ج1 من الصفحة 732-.74. ملخصة بشيء من التصرف.
81
ومن الطريف ما ذكره بعض الكتاب أنهم في أمريكا قاموا بعرض أفلام على السجناء عن بعض المجرمين وكيف كانت نهايتهم المحزنة، وأن الجريمة لم تجرهم إلا إلى الخيبة والفشل، ثم استطلعوا آراء السجناء ليعرفوا مدى تأثرهم بهذه الأفلام وتأثيرها في سلوكهم، وكان الباحثون يتوقعون أن يعتبر السجناء بمصير المجرمين ويتعظوا، ولكن الذي حصل هو أن السجناء كانوا يركزون على البحث في نقاط الضعف في الخطط التي سلكها المجرمون، ويركزون على الأخطاء التي صدرت عنهم، وكانت سببا في القبض عليهم، فكانوا يقولون لو أن المجرم عمل كذا لنجا، ولو أنه لم يعمل كذا لما قبض عليه وهكذا، مما يدل على تأصل الروح الإجرامية في هؤلاء، وأن السجن لم يزدهم إلا عتوا وتمردا، مصادقا لما ذكره عودة رحمه الله.
خامسا: ازدياد سلطان المجرمين بعد خروجهم من السجن وتمردهم على المجتمع.
سادسا: انخفاض المستوى الصحي والأخلاقي نظرا لأن السجون ثابتة المساحة. بينما السجناء يزداد عددهم يوما بعد يوم، وبالتالي ينخفض مستوى الخدمات التي تقدم لهم.
سابعا: ازدياد الجرائم: وقد وضعت عقوبة الحبس على اختلاف أنواعها لمحاربة الجريمة ولكن الإحصائيات التي لا تكذب تدل على أن الجرائم تزداد عاماً بعد عام زيادة تسترعى النظر وتبعث على التفكير الطويل ثم أورد الإحصائيات الرسمية التي تؤيد ذلك.(1/48)
ثامنا: وأمر مهم أغفله "عودة" رحمه الله ألا وهو وضع عوائل المسجونين. من ينفق عليها، ومن يقوم بشأنها، ومن يتولى تصريف شئونها وتدبير أمورها، من يغمر صغارهم بالعطف والمودة، لاشك أن أسرة السجين سوف تتعرض للضياع، وربما لحقت بوليها في ركاب الإجرام نتيجة الانحراف الذي ينجرف بها إلى الإجرام، وبسبب الحاجة الماسة وانعدام الشفقة والعطف، وربما قيل إن المجرم وجوده كعدمه في الأسرة. بل قد يكون وجوده وبالا عليها وسببا في ضلالها وانحرافها إن كان وليا لها أو مجرد فرد من أفرادها ربما قيل ذلك.
ولكننا نقول أولا: إن أكثر المسجونين والعدد الأكبر منهم ليسوا مجرمين بمعنى الكلمة كما ذكر "عودة" رحمه الله، وليست قضاياهم بالقضايا الإجرامية الخطيرة، بل قد لا تكون جريمة على الإطلاق، ولكنها مخالفة بسيطة وبالتالي فلا خوف على السجين لأنه ليس مجرما.
ثانيا: إن المجرم مهما كان متماديا في الأجرام فإنه أولى برعاية أسرته وهو أشفق عليها
82
وأرحم بها من غيره، كما أن الحيوانات المتوحشة تعطف على أبنائها وتربيهم رغم ما فيها من القسوة والوحشية، فكذلك هذا الإنسان المجرم اللهم إلا في الجرائم الخطيرة جدا وهي قليلة نادرة فقد تقتضي المصلحة عزلة الَمجرم وإبعاده عن أسرته لألا يفسدها وهذا نادر.
فمن هذه الوقفة يتبين لنا كيف أن العقوبات الإسلامية هي أفضل بكثير من العقوبات الوضعية التي تتمثل أكثر مما تتمثل بالسجن المؤقت أو المؤبد والذي ذكرنا شيئا من مساؤه وعيوبه فالعقوبات الإسلامية أفضل في حق المجرم وفي حق المجتمع.
الوقفة الثانية:(1/49)
هؤلاء الذين يزعمون أن العقوبات الإسلامية قاسية هل درسوها حقيقة وعرفوا الجرائم الشنيعة التي فرضت من أجلها هذه العقَوبات، وهل أدركوا مدى تأثير هذه الجرائم على المجتمع وخطورتها عليه، ولو أنهم لاحظوا ذلك لما نبسوا ببنت شفه. ومن ناحية أخرى هل درسوا أدلة الإثبات في هذه الجرائم وكيف أن أدلة الإثبات متناسبة مع العقوبة ومع الجريمة فكما أن العَقوبة مشددة فإن أدلة الإثبات كذلك مشددة فيها، وهناك شروط متعددة ودقيقة ولابد من توافرها في المجرم والجريمة كي توقع العقوبة على المتهم.
إن أغلب الظن أن هؤلاء المتهجمين على العقوبات الشرعية يسمعون بها مجرد سماع دون أن يدرسوها دراسة متأنية منصفة متجردة، و إلا لو فعلوا ذلك لما وسعهم إلا الإكبار لهذه الشريعة في أحكامها العادلة.
الوقفة الثالثة:
لماذا هؤلاء دائما في صف المجرم، ولا يرِد في تصورهم إلا المجرم وهو تحت العقوبة جلداً أو قطعا أو قتلاً، ولا يرد في تصورهم مطلقاَ ذلك الضحية المسكين، الذي اعتدى عليه بغير حق، فجرح أو فقئت عينه أو قتل ظلماً وعدواناً، أليس المعتدى عليه أولى بالعطف والشفقة والرحمة من ذلك المجرم.
الوقفة الرابعة:
إن العقوبات الشرعية التي تبدوا شديدة لا تخرج عن حالتين:
الحالة الأولى: القصاص حيث يجرح من جرح قصاصاً، وتفقأ عينه قصاصاً إذا فقأ عين غيره عمدا أو جرحه عمدا. ويقتل من قتل قصاصاً، إذا قتل على وجه العمد، ولا يمكن أن يعترض حكيم أو عاقل منصف على هذه النظرية، نظرية القصاص حيث يعاقب
83
المجرم بنفس الطريقة التي أرتكبها مع الضحية ما أمكن ذلك، إلا في الحالات التي لا يمكن تنفيذ القصاص فيها، أو أن القصاص يؤدى إلى مفسدة. فيما عدا ذلك فالقصاص هو الأصل ولا يعترض عليه أو ينتقده إلا مغفل أو مغرض. هذه حاله.(1/50)
الحالة الثانية: أن تكون العقوبة التي تبدو شديدة جدا، والعقوبات الحدية التي قد تكون شديدة لا تزيد عن ثلاث: عقوبة الزاني المحصن رجما، والمحارب قاطع الطريق، بقطعه من خلاف، يده اليمنى، ورجله اليسرى والسارق بقطع يده اليمنى، وهذه الجرائم لا يمكن بحال من الأحوال أن تعالج إلا بهذه العقوبات، هذا أمر، والأمر الثاني أن من ينظر في هذه الحدود الثلاثة وطرق إثباتها يلاحظ أنها لا تثبت إلا عن طريقين فقط.
الطريق الأولى: طريِقة الاعتراف الصحيح، الخالي من الموانع، الصادر من عاقل بالغ، وفى حالة معتبرة شرعاً، دون إكراه أو ضرورة، وأن يثبت على إقراره حتى يتم تنفيذ العقوبة فيه، وله الحق أن يرجع عن إقراره ولو بعد الشروع في معاقبته.
فأي شدة أو قسوة في ذلك؟ إذا كان إنسان عاقل بالغ مدرك يختار عقوبته بنفسه ويعلم أنه سوف يرجم أو تقطع يده أو يجلد إذا أصر على إقراره واستمر فيه، فما ذنب الحاكم في ذلك، إذا كان هذا المتهم مؤمن ومعتقد بأنه سوف يقدم على ربه، ويعتبر تحمل هذه العقوبة من باب التوبة الصادقة مع العلم بأنه لا يجوز التحايل لأخذ الإقرار في الحدود، بل القاعدة على العكس حيث يستحب تلقين المتهم ما يصرفه عن الاعترَاف الصريح.
الطريقة الثانية: أن تثبت هذه الحدود عن طريق الشهادة، وإنها لطريق صعبة، ومسلك وعر، فقد وضعت شروط دقيقة عديدة، قل أن تتوفر، خاصة بالنسبة للزنا، فهناك شروط في الشاهد، وهناك شروط في الشهادة وشروط في الإحصان، وشروط في الزنا، ومن النادر جدا أن تتوفر هذه الشروط في قضية من القضايا1.(1/51)
ولقد سألنا من نعرف من العلماء والباحثين عما إذا كانوا يعرفون واقعة زنا ثبتت في عصر من العصور بالشهادة، فلم نجد عندهم جوابا، مما يدل على أن هذا الأمر نادر جدا، فهذه العقوبات والله أعلم هي للتهويل والتخويف، والتهييب للمجرمين، أكثر مما يراد بها إيقاعها بهم. فالمجرم لاشك أنه إذا علم بهذه العقوبة الشديدة، سوف يتصور أنها ربما أوقعت به، ولا يزال في ذهنه شيء من الاحتمال مهما كان قليلا، وهذا التصور وهذا الاحتمال له دور كبير في صرف المجرم عن جريمته، ولفت نظره لإعادة الحساب. والله سبحانه وتعالى أعلم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكر صاحب المغنى أنه حصل في عهد الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله واقعة زنا ثبتت بالشهادة وذلك في الجزء السابع ص163 في كتاب الفرائض
84
الوقفة الخامسة:
لننظر في نتائج وآثار العقوبات الإسلامية في المجتمع الإسلامي، وآثار العقوبات الوضعية في المجتمعات الأخرى.(1/52)
لقد كانت آثار هذه العقوبات التي يزعمون أنها قاسية، لقد كانت آثارها الاستقرار والأمن الذي لا يتصور، فلا تكاد تحدث جريمة، فاطمأن الناس على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم وانصرفوا إلى العمل والإنتاج والإصلاح حتى إن الرجل ليترك متاعه في الطريق دون أن يتعرض له أحد بسوء، وينقل لنا الأستاذ أبو الحسن الندوي انطباعات الأستاذ محمد أسد، وهو من النمسا عندما زار دمشق في أول القرن العشرين الميلادي، ويوم كانت دمشق تعيش تحت ظل الخلافة العثمانية، على ما كان فيها من تقصير وإهمال يقول: "وقفت على ذلك الاستقرار الروحي في حياة سكانها، إن أمنهم الباطني كان يمكن أن يرى في الطريقة التي كان أحدهم يتصرف بها نحو الآخر، ثم يسترسل فيقول: وفي الطريقة التي كان أصحاب الدكاكين يعاملون بعضهم بعضا، أولئك التجار في الحوانيت الصغيرة الذين كانوا يبدون وكأنما ليس فيهم أيما قدر من الخوف أو الحسد، حتى إن صاحب دكان فيهم ليترك دكانه في عهدة جاره ومزاحمه، كل ما دعته حاجته إلى التغيب بعض الوقت، وما أكثر ما رأيت زبونا يقف أمام دكان غاب صاحبه عنه، يتساءل فيما بينه وبين نفسه، ما إذا كان ينتظر عودة البائع أو ينتقل إلى الدكان المجاور، فيتقدم التاجر المجاور دائما " التاجر المزاحم "، ويسأل الزبون عن حاجته ويبيعه ما يطلب من البضاعة، لا بضاعته هو بل بضاعة جاره الغائب، ويترك له الثمن على مقعده، أين في أوربا يستطيع المرء أن يشاهد مثل هذه الصفقه. هذه صورة1.(1/53)
أما الصورة الثانية: فينقلها لنا الأستاذ الدكتور عبد القادر عودة رحمه الله، وهو يشير إلى ازدياد الجرائم في المجتمع المصري، بسبب عدم تطبيق التشريعات الإسلامية، مقارناً بين المجيمع المصري والمجتمع السعودي في ظل الإسلام، فيقول إن الحالة الإقتصادية مهما قيل فيها لا تكون سبباً في ازدياد الجرائم، ما دامت العقوبة رادعة، وليس أدل على صحة هذا القول من الحالة في الحجاز، فلا شك أن الحالة الإقتصادية والاجتماعية في مصر أفضل منها في الحجاز، ومع ذلك فقد قلت الجرائم في الحجاز وازدادت في مصر وانتشر الأمن هناك واختل هنا. ولقد كان الحجاز في يوم ما مضرب الأمثال في اختلال الأمن والنظام، والجرأة على
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1من نهر كابل إلى نهر اليرموك أبو الحسن الندوي ص 155
85(1/54)
ارتكاب الجرائم وترويع الآمنيين، والحجاج والمسافرين، وقطع الطريق عليهم لنهب مالهم ومتاعهم، ولعل الحالة الإقتصادية والاجتماعية في الحجاز الآن ليست خيراً منها يوم كان الفساد مستشرياً في الحجاز، والفرق بين الحجاز قديماً وحديثاً هو نفس الفرق بين مصر والحجاز اليوم، هو وجود العقوبة الرادعة في الحجاز الآن، وانعدامها قديماً، وهو كذلك انعدام هذه العقوبة في مصر اليوم، فهذه العقوبة الرادعة في ظل الشريعة الإسلامية هي التي وطدت الأمن في الحجاز، وقضت على السلب والنهب وقطع الطريق، وجعلت الأمن فيه مضرب الأمثال، فلا يسقط من مسافر شيء إلا وجده في دار الشرطة، ولا يضيع لأحد شيء إلا رد إليه حيث كان، ولو لم يبلغ بضياعه مادام مع المال ما يدل على اسم صاحبه1 وهذا ما نعيشه الآن في هذه البلاد والحمد لله حيث أن الإنسان دائما- إلا في حالات نادرة- مطمئن على متاعه وعلى أمواله يتركها غالبا دون ماَ حراسة تذكر ودون اهتمام بها فيوفر المجتمع بذلك طاقات كبيرة وجهودا كثيرة بينما الدول الأخرى كما هو معروف، حيث نقرأ يوميا عن الجرائم البشعة التي لا تتصور، حيث تداهم البيوت والمؤسسات المالية ويهجم على المصارف ويختطف التجار والسياسيون، أو أبناؤهم ولا يطلقون إلا مقابل فدية مالية كبيرة، وتختطف الطائرات أما لأغراض سياسية أو لأغراض إجرامية بحته، وأصبح الناس في كثير من الدول التي تزعم أنها متطورة ومتقدمة وفي قمة الحضارة، أصبح الناس يحذرون من التجول بعد غروب الشمس، وهذا الأستاذ محمد قطب يذكر في إحدى محاضراته أنه في سان فرنسسكو حدثه أكثر من شخص وأنه قرأ في الصحف كذلك، أن الإنسان لا يملك أن يخرج وحده في هذه المدينة بعد غروب الشمس، ويقول: كنت في زيارة قصيرة لمدينة صغيرة في فلادليفيا مدينة أشبه بالمدن الريفية وهي بالنسبة لمدننا كبيرة ولكنها بالنسبة للمدن الأمريكية صغيرة جدا، وجاء الغروب فحدثتنا أنفسنا أن نخرج قليلا للتنزه،(1/55)
فقال لنا المقيمون هناك، احذروا، لا تستطيعون أن تخرجوا، قلنا لماذا، قالوا بسبب العصابات، حيث إنها تبدأ عملها بعد غروب الشمس، قتلا وخطفا وسرقة2.
وهذه دولة من الدول الحديثة، المتقدمة صناعيا، وهي ألمانيا، تقول عنها إحدى الجرائد اليومية، أنه في تقرير نشر عنها أظهر أن لصوص ألمانيا الغربية يحافظون على سمعة مواطنيهم، بوصفهم شعباً عرف بتفانيه في العمل، فقد أوضح التقرير أن هؤلاء اللصوص يرتكبون حادث سرقة كل دقيقة في شتى أنحاء البلاد، وتقدر لجنة غير حكومية قيمة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 التشريع الجنائي ج 1ص 740.
2 من محاضرة ألقاها الأستاذ محمد قطب في كلية الشريعة لجامعة قطر في أول عام 401 ا هـ
86
الممتلكات التي تتعرض للفقد أو الإتلاف نتيجة للسرقات بثلاثة آلاف مليون مارك في العام الواحد، وقد طالبت اللجنة المواطنين الذين يقضون عطلاتهم خارج مساكنهم بتأمين منازلهم بواسطة الأقفال والسلاسل، أو أجهزة الإنذار 1.(1/56)
ولم يزل الإجرام يفتك بالدول الغربية وغيرها حتى أصبح المجرمون لهم مراكز خطيرة، وكلمة نافذة، بل أصبح لهم مؤسسات رسمية أو شبه رسمية، تحميهم وتدافع عنهم، حتى صاروا كما يقال حكومات داخل الحكومات. ويقول الأستاذ عودة رحمه الله في هذا الصدد، وهو يتحدث عن سلطان المجرمين "ومن المجرمين من يغادر السجن ليعيش عالة على الجماعة، يستغل جريمته السابقة لإخافة الناس وإرهابهم، وابتزاز أموالهم، ويعيش على هذا السلطان الموهوم وهذا المال المحرم، دون أن يفكر في حياة العمل الشريف والكسب الحلال، وقد أصبح سلطان هؤلاء المجرمين على السكان الآمنين، يزاحم سلطان الحكومات، بل أصبح المجرمون في الواقع أصحاب الكلمة النافذة، والأمر المطاع، ومن الوقائع التي اعرفها ويعرفها غيري أن رجال الإدارة يستعينون بالمجرمين أيام الانتخابات العامة، ليوجهوا الناخبين المتمسكين بحزبيتهم، وجهات معينة بعد أن يعجزوا هم عن هذا التوجيه.
وقد أدى هذا المركز الخطير، إلى زيادة المجرمين الشباب الذين يتطلعون بدافع من طموحهم إلى نوال كل مركز ممتاز كما أدى إلى قلب الموازين والأوضاع، فبعد أن كانت الجريمة عارا وذلا في القديم، أصبحت اليوم مدعاة للتباهي والتفاخر، وبعد أن كان المجرم يطرد ذليلا مهانا، أصبح اليوم عزيز الجانب مسموع الكلمة نافذ السلطان"2.
فهذه هي بعض آثار العقوبات الوضعية في المجتمعات الغربية ليست إلا خوفا واضطرابا ورعبا وزيادة مضطردة في عدد الجرائم وأساليبها وأنواعها.
وتلك بعض آثار العقوبات الشرعية ونتائجها في المجتمع الإسلامي قديما وحديثا، أمن واستقرار واطمئنان وانخفاض في نسبة الجرائم، فأي الفريقين أحق بالأمن، وأي الفريقين أحق بالفخر والاعتزاز، فليصفوا العقوبات الشرعية بما شاءوا من الأقاويل، وليتهجموا مادامت تلك آثارها وهذه نتائجها.
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وآله وأصحابه أجمعين.(1/57)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جريدة الرياض العدد 1333 الصادر بتاريخ 6/ 5/ 396 1 هـ.
2 التشريع الجنائي 1/737.
87
دحض الشبهات التي تثار حول العقوبات الشرعية
د. عبد العزيز بن فوزان بن صالح الفوزان [*]
fawzan@yahoo.com
مجلة البيان العدد 192 – شعبان 1424 – أكتوبر 2003 – الصفحة 118
أولاً : الشبهات العامة :
* الشبهة الأولى : أن العقوبات الشرعية قديمة وجامدة :(1/58)
قد عفّى عليها الزمان ، وتجاوزتها الحضارة ، ولم تعد ملائمة لهذا العصر : عصر التقدم والمدنية ، والتحضر التقني والصناعي . فالأخذ بها تقهقر بالإنسانية الراقية ، ورجعة بها إلى عهود الظلام الدامس ، والقرون الوسطى . ولئن كانت هذه العقوبات صالحة للبيئة البدوية التي نزل فيها القرآن ، ومناسبة لأولئك الحفاة الجفاة من الأعراب قبل ألف وأربعمائة عام ؛ فإنها لا تصلح للعالم المتحضر الحديث ، ولا تناسب المتحضرين المتمدينين في القرن العشرين ، وكيف يليق بهم أن يخضعوا لقانون نشأ بين جبال مكة و المدينة ، وجلاميد الصحراء ، وأحراش الجزيرة [1] . - دحض هذه الشبهة : كل ما في هذه الشبهة أن العقوبات الشرعية قديمة ، شُرعت لمجتمعات بدائية ، تختلف بطبيعتها وعاداتها عن المجتمعات العصرية المتحضرة ، وهذا دليل على عدم صلاحيتها للتطبيق في هذا العصر الذي بلغت فيه المدنية ذروتها . وهذا قول متهافت ساقط من وجوه : 1 - أن العاقل المنصف لا يزن الأحكام والتشريعات بالزمان الذي صدرت فيه أو نُقلت منه ، ولا بالبقعة التي جاءت منها أو كانت فيها . ولكن الميزان الذي تُقَوّم به هو مدى صلاحيتها ، وتحقيقها للغاية المبتغاة منها . فالعاقل نصير الحق ، وناشد الحكمة أنى وجدها ، ومن أي شخص جاء بها ، وفي أي زمان أو مكان وقعت فيه . وهو عدو الباطل ، بصرف النظر عن مصدره وعن زمانه ومكانه ، ومن دعا إليه وعمل به . وعليه ؛ فليس كل قديم مردوداً ، ولا كل جديد مقبولاً ، ولا كل ما نشأ في البادية فاسداً ، ولا كل ما نشأ في الحضر صالحاً [2] .(1/59)
2 - أن مصدر هذا التشريع ليس بقعة من بقاع الأرض ، ولا اجتهاداً بشرياً قاصراً ، وإنما هو شريعة الله التي أنزلها هدى ورحمة للعالمين : عربهم وعجمهم ، باديهم وحاضرهم ، أولهم وآخرهم ، [ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ]( الأنبياء : 107 ) ، [ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ]( سبأ : 28 ) ، [ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ]( الأعراف : 158 ) [3] ، فهو لم ينبع من أرض عربية أو أعجمية ، ولا اخترعته أدمغة بشرية ، وإنما هو حكم الله الذي أوحى به إلى عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ليبلغه للناس ، وليحملهم تبعة تطبيقه والعمل به ، [ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ ]( يونس : 108 ) [4] . 3 - أن تعلق هؤلاء بالجديد ونبذهم للقديم ؛ ليس مبنياً على منطق عقلي سليم ، وإنما هو استجابة لوهم من الأوهام النفسية التي تتعلق بالجديد أياً كان نوعه ، ظناً منها بأنه لا يزال يحتفظ بذخره ومكنون خيراته ، وتعاف القديم مهما كان نوعه أيضاً لتبرمها به وتوهمها بأن الزمن قد استحلب خيراته ، وقضى على فوائده ، وأن العقل البشري لا بد أن يكون قد تجاوزه إلى ما هو أجدى وأنفع . ولا يجوز لعاقل يحترم عقله أن يستجيب لهذه الإيحاءات النفسية الخاطئة ، ويلغي ما يقتضيه العقل السليم ، والمنطق الصحيح . ولئن كانت النفس البشرية تخيل لصاحبها أن القديم قد زال نفعه ، وجنيت ثماره ، فإن العقل السديد يقرر أن قيمة كل قديم وجديد بجدواه وآثاره ، وتحقيقه للثمرة المرجوة منه . وربّ جديد كان مبعث شقاء ودمار على الإنسان ، ورب قديم شهد له العقلاء ، والتاريخ الغابر ، والواقع المعاصر ، على أنه كان ولا يزال مصدر خير وسعادة لكل من ظفر به .(1/60)
ولقد علم كل إنسان أن مقومات الحياة في هذه الدنيا ، من شمس وهواء ، وأرض وماء ، وزرع وضرع ؛ لم يُخْلِقْها تعاقب الزمان ، وكَرُّ الليالي والأيام ! فهل قاطع أصحاب النفوس التي تشمئز من القديم هذه المقومات الأساسية لقدمها ؟ وهل تحولوا ساعة عن التعامل معها ؟ والعقوبات المقدرة في الشريعة ؛ إنما هي عقوبات على جرائم ثابتة لا يتبدل وجه المفسدة فيها مهما اختلفت الأزمان والأماكن ، وتطورت الحياة والنظم . ولهذا فإنها لا تزال صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان [5] . 4 - أن هذه الشبهة جاءت من قياس العقوبات الشرعية على العقوبات الوضعية التي تتطور مع الزمن ، ويحصل فيها التغيير والتبديل بين الحين والحين ، تلافياً لما فيها من الأخطاء ، وتحقيقاً لما هو أجدى وأكمل . وما دامت القوانين تُلغى أو تُعدل ؛ فلم لا نفعل مثل ذلك في العقوبات الشرعية ؟ وهذه نظرة خاطئة إلى الشريعة الإسلامية ، ومكمن الخطأ فيها قياس شريعة الله عز وجل العادلة المحكمة ، على الاجتهادات البشرية القاصرة التي تتأثر بما حولها من مؤثرات شخصية أو اجتماعية أو بيئية ، أو غيرها [6] . ولو سلمنا جدلاً : أنه ينبغي مسايرة التشريع للعصر ؛ فما مقياس ذلك ؟ إنْ كان يرجع إلى انتشار الفساد ، وكثرة الإجرام ، وتفشي الظلم والعدوان ؛ فإن العقوبات في هذا الزمن يجب أن تزيد قسوة وشدة . وما كان يصلح لأولئك الأعراب البسطاء ذوي الإمكانات المحدودة ؛ فإنه لا يصلح لمجرمي العصر ، حيث الإجرام المنظم ، وتوظيف التقنية الحديثة لخدمة محترفي الإجرام ، والساعين في الأرض بالفساد والظلم .(1/61)
وإنْ كان المقياس هو التقدم العلمي والتقني ، والتطور الصناعي والمدني ؛ فإن الذي سنّ هذه العقوبات الشرعية هو الذي منح البشرية ما وصلت إليه من العلم والتقدم ، فلا يمكن أن تكون هذه العقول المخلوقة أعلم ممن خلقها ، وأكثر منه إدراكاً لمصالح البشرية وأسباب سعادتها وأمنها !! قال الله تعالى : [ وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ]( الإسراء : 85 ) ، وقال تعالى : [ قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّه ]( البقرة : 140 ) . وإنْ كان المقياس ضَعْفَ النفوس ورخاوتها ، والرغبة في إطلاق العنان لها للتمادي في الظلم والإجرام ، من غير رادع ولا زاجر ؛ فليس هذا بمقياس . 5 - أن تحقيق هذه العقوبات الشرعية للأمن ، وحمايتها لمصالح الناس ، ومكافحتها للجرائم ، على مدى القرون الماضية التي طبقت فيها ، مع اختلاف البيئات والثقافات والأجناس ؛ دليل على أنها تشريع من حكيم خبير ، وأنه لا يمكن أن يقوم غيرها مقامها ، ولا أن يحقق الثمرة التي تتحقق من خلالها . * الشبهة الثانية : أن العقوبات الشرعية تتسم بالقسوة والهمجية التي تبعث على الاشمئزاز : ولا تتناسب وروح هذا العصر ، وإنسانيته ، وحمايته لحقوق الإنسان وكرامته [7] . - دحض هذه الشبهة : وهذه شبهة داحضة من وجوه : أولاً : أن العقوبة ليست مكافأة على عمل مبرور ، وإنما هي جزاء مقرر على ارتكاب جريمة ، يقصد به الإيلام والردع : وإذا لم تكن العقوبة مؤلمة ؛ فليس لتطبيقها أي أثر في الزجر والردع . حتى تأديب الرجل ولده ؛ لا بد أن يكون فيه شيء من الإيلام والقسوة ، ليتأتى تأديبه وإصلاحه [8] . وقديماً قال الشاعر الحكيم [9] : فقسا ليزدجروا ، ومَنْ يَكُ حازماً فليَقْسُ أحياناً على مَنْ يرحمُ ولا شك أن الإنسان يتمنى ألا توجد في المجتمع جريمة أبداً ، حتى لا توجد عقوبات أصلاً ؛ بحيث يفهم كل فرد ما له فيقتصر عليه ، وما عليه فيؤديه عن طواعية واختيار .(1/62)
ولكن هذا حلم لا يمكن أن يتحقق ، ورغبة خيالية تصطدم بالواقع المعاش . فهناك نفوس جاهلة حمقاء لا تلتزم بما لها وما عليها ، ونفوس شريرة ظالمة قد تأصّل فيها الإجرام والإفساد ، وسعت للإضرار بالآخرين وبخسهم حقوقهم . والحياة لا يمكن أن تستقيم وتنتظم إلا بالالتزام ، واحترام حقوق الآخرين ، وعدم المضارة بهم . فمن خرج عن هذا الالتزام ، وسعى للإضرار بنفسه وبغيره ، كان ردعه واجباً عقلاً وشرعاً ، ولا ردع إلا بقسوة وإيلام . واسم العقوبة مشتق من العقاب ، ولا يكون العقاب عقاباً إذا كان موسوماً بالرخاوة والضعف . فعنصر القسوة - إذاً - يمثل الركن الأساسي لمعنى العقوبة ، فلو فُقدت القسوة فُقدت معها العقوبة بدون شك . ولكن ما هي الدرجة التي يجب أن تقف عندها قسوة العقوبة على جريمة ما ؟ إن الذي يحدد هذه الدرجة هو تصور مدى خطورة الجريمة التي استلزمتها ؛ أي أن القسوة يجب أن تكون ملائمة للجريمة ، فتزيد بزيادة خطورتها وشدة آثارها ، وتنقص بنقص ذلك . وهذه الحقيقة محل وفاق عند جميع المشتغلين بالتشريع والتقنين ، مهما اختلفوا في تحليل فلسفة العقاب . وإن اختلاف القوانين العقابية الوضعية أكبر شاهد على ذلك . فإذا كان في الناس من يصف العقوبات الشرعية بقسوة زائدة على مقتضى هذه القاعدة التي لا خلاف فيها ؛ فسبب ذلك أنهم يخطئون في تقويم خطورة الجرائم التي رتبت عليها هذه العقوبات ، دون أن يعتبروا في ذلك نظرة المشرِّع لها ، وتقويمه لخطورتها . والعجيب أن خصوم الشريعة الإسلامية يدركون هذه الحقيقة ، ويفقهون هذا المعنى ، عندما يكون البحث متعلقاً بقانون من القوانين الوضعية . فرُبَّ كلمة لا نرى بها بأساً ، يتفوه بها فرد من رعايا دولة تطبق قانوناً وضعياً ؛ تواجهه بسببها عقوبة الإعدام .(1/63)
ورُبَّ فاحشة عظمى يجب مكافحتها ، تشيع بين رعايا تلك الدولة ؛ فلا يؤبه بها ، ولا يلتفت إليها بأي نقد أو استنكار !! وليس أيسر على خصوم الشريعة الإسلامية من أن يدافعوا عن كلا المذهبين ؛ بأن كل أمة إنما تسن قوانينها حسب مبادئها وفلسفتها التي تنظر بها إلى الإنسان والكون والحياة . أفيحق لكل أمة أن تسن ما تشاء من قوانين الردع والزجر ، حسب نظرتها إلى الكون والإنسان والحياة - خطأً كانت النظرة أم صواباً - ، ثم لا يحق لخالق الكون والإنسان والحياة أن يشرع هو الآخر قوانين الردع والزجر بما يتفق مع مقاصد شريعته ، ويتسق مع نظام كونه ، ويحقق مصالح عباده ؟!! [10] والحكمة في تغليظ العقوبات الشرعية التي توصف بالوحشية والهمجية ، من قتل القاتل ، ورجم الزاني ، وقطع السارق ، وغيرها من العقوبات المقدرة ؛ ظاهرة جلية ، فإن هذه الجرائم هي أمهات المفاسد ، وكل واحدة منها تتضمن اعتداء على واحدة أو أكثر من المصالح الخمس الكبرى ، والتي أجمعت الشرائع والعقلاء في كل زمان على وجوب حفظها وصيانتها ؛ لأنها لا يمكن أن تستقيم الحياة بدونها . ولأجل هذا كان المرتكب لشيء منها جديراً بأن تغلّظ عليه العقوبة ، حتى تكون زاجرة له ، ورادعة لغيره . وها هي ذي الجرائم الكبرى تعصف بكثير من الدول التي لا تطبق الشريعة الإسلامية ، مع كل ما توفر لها من إمكانيات وقدرات ، وتقدم مادي وتقني ، وأجهزة أمنية وإدارية واستخبارية . ثانياً : أن هؤلاء الطاعنين في هذه العقوبات قد اعتبروا مصلحة المجرم ، ونسوا مصلحة المجتمع ، وأشفقوا على الجاني ، وأهملوا الضحية ، واستكثروا العقوبة ، وغفلوا عن قسوة الجريمة : ولو أنهم قرنوا العقوبة بالجريمة ، ولاحظوا الاثنتين معاً ، لخرجوا موقنين بالعدالة في العقوبات الشرعية ، ومساواتها لجرائمها .(1/64)
فإذا استحضرنا مثلاً فعل السارق وهو يسير في جنح الظلام متخفياً ، ينقب الجدار ، ويكسر القفل ، ويُشهر السلاح ، ويروّع الآمنين ، هاتكاً حرمة البيوت ، وعازماً على قتل من يقاومه ، وكثيراً ما تقع جريمة القتل كوسيلة يتذرع بها السارق إلى إتمام سرقته ، أو الفرار من تبعاتها فيقتل من غير تمييز . وإذا تصورنا حالة النساء والأطفال في البيت وهم يستيقظون ويفتحون أعينهم على وجه السارق المرعب الشرس ، وهو شاهر سلاحه يهدد من يواجهه . وتصورنا ما يُحدثه فعل السارق من قلق عند الناس جميعاً ، وتعطيل لحركتهم ، وبث للرعب في نفوسهم ، وإذهاب لطاقاتهم في حماية أموالهم ، وتأمينها بالمغاليق والأقفال ؛ لأن السارق يبغي المال ، وهو موجود عندهم جميعاً ، فهم معرضون لإجرامه دون تمييز . لو تصورنا هذا أو بعضه مما يحدثه فعل السارق ، ثم قارناه بقطع يده الآثمة الظالمة ؛ لما قلنا عن عقوبته : إنها قاسية ظالمة . وهكذا الشأن في بقية العقوبات ، علينا أن نستحضر جرائمها ، وما فيها من أخطار وأضرار ، وظلم واعتداء ، حتى نستيقن أن الله تعالى قد شرع لكل جريمة ما يناسبها ، وجعل الجزاء من جنس العمل ، وما ربك بظلام للعبيد [11] . ثالثاً : أن الله تعالى أراد للناس أن يعيشوا آمنين مطمئنين ، ولن يتيسر لهم ذلك إلا ببتر الفاسدين وقطع دابرهم . وهذه سنة الله في خلقه : فإن الإنسان إذا كان فيه عضو فاسد ، لا علاج له إلا بقطعه كله أو بعضه ، فلا مناص من الإقدام على ذلك . وهذا الطبيب الذي يستأصل بمبضعه المرهف هذا العضو الفاسد من جسم أخيه ؛ أليس ضربه المبضع في لحمه ، وقطعه الجزء الفاسد من جسمه مظهراً من مظاهر القسوة ؟! ولكنها قسوة هي عين الحكمة والرحمة والمصلحة ، وبخاصة إذا قيست بما يترتب على تركها من هلاك وتلف ، وما ينشأ عنها من آلام وأوجاع تفوق مصلحة بقائها . والمجتمع هو الجسم كله ، وما الفرد الفاسد إلا عضو من أعضائه [12] .(1/65)
فهي تحفظ للمجتمع حقه ، ولا تضحي به في سبيل الأفراد الخارجين عليه . والعقوبة التي تحابي هؤلاء الأفراد على حساب الجماعة ؛ إنما تضيع مصلحة الفرد والجماعة معاً ؛ لأنها تؤدي إلى ازدياد الجرائم واختلال الأمن ، وانحلال المجتمع ، وإذا دبَّ الانحلال في مجتمع ، فقل على الأفراد وعلى المجتمع العفاء [13] . قال عز الدين بن عبد السلام : « وربما كانت أسباب المصالح مفاسد ، فيؤمر بها أو تباح ؛ لا لكونها مفاسد ، بل لكونها مؤدية إلى المصالح ، وذلك كقطع الأيدي المتآكلة ، حفظاً للأرواح ، وكالمخاطرة بالأرواح في الجهاد . وكذلك العقوبات الشرعية كلها ليست مطلوبة لكونها مفاسد ، بل لأدائها إلى المصالح المقصودة من شرعها ، كقطع السارق ، وقطّاع الطريق ، وقتل الجناة ، ورجم الزناة وجلدهم وتغريبهم ، وكذلك التعزيرات ، كل هذه مفاسد أوجبها الشرع لتحصيل ما رتب عليها من المصالح الحقيقية » [14] . رابعاً : أن الإسلام قبل أن يستأصل هؤلاء المجرمين ، ويقرر عليهم العقوبات الرادعة ؛ قد أعذر إليهم : حيث قدم لهم من وسائل التربية والوقاية ما كان يكفي لإبعادهم عن الجريمة التي اقترفوها ؛ لو كانت لهم قلوب تعقل ، أو نفوس ترحم . ثم إنه لا يطبقها أبداً حتى يضمن أن الفرد الذي ارتكب الجريمة قد ارتكبها دون مسوّغ ولا شبهة اضطرار . فوقوعه فيها بعد كل هذا دليل على فساده وشذوذه ، واستحقاقه للعقوبات الرادعة المؤلمة . فهو مثلاً لا يقطع يد السارق إلا بعد توفير الوسائل التي تمنع من السرقة ، فقد عمل على توزيع الثروة توزيعاً عادلاً ، وجعل في أموال الأغنياء حقاً معلوماً للفقراء ، وأوجب النفقة على الزوج والأقارب ، وأمر بإكرام الضيف والإحسان إلى الجار ، وجعل الدولة مسؤولة عن كفالة أفرادها بتوفير تمام الكفاية لهم في الحاجات الضرورية من مطعم وملبس ومسكن وغيرها ، بحيث يعيشون حياة لائقة كريمة .(1/66)
كما أنها تكفل أفرادها بفتح أبواب العمل الكريم لمن يستطيعه ، وتمكين كل قادر من أن يعمل بمقدار طاقته ، وتهيئة الفرص المتساوية للجميع . وبذلك يمنع الإسلام الدوافع المعقولة للسرقة ، فإن وقعت بعد ذلك ؛ فإنه يتحقق من ثبوتها ، وانتفاء موانعها ، وعدم وجود شبهة تسقطها ، كأن يرتكبها بدافع الحاجة والاضطرار [15] . وهو يعترف بقوة الدافع الجنسي ، وعنف إلحاحه على البشر ، ولكنه يعمل على إشباع هذا الدافع بالطريق المشروع : طريق الزواج ، فيدعو إلى الزواج المبكر ، ويعين العاجز عن تكاليفه المادية بوسائل كثيرة ، من الزكاة والصدقات ، والنفقة ، وبيت المال . كما أنه يحرص على تنظيف المجتمع من كل وسائل الإغراء والإثارة التي تؤجج الغريزة ، وتحرك كوامن الشهوة . كما أنه يأمر بغض البصر ، وحفظ الفرج ، والاستعفاف ، ومجاهدة النفس والتسامي بها . ويحرص كذلك على شغل أوقات الفراغ ، واستنفاد الطاقة الحيوية الفائضة بالتقرب إلى الله ، والمسارعة إلى الخير ، وفعل كل ما من شأنه أن يحقق لصاحبه النفع في الدنيا والآخرة . وبذلك كله يمنع الدوافع التي تسوِّغ الجريمة . ثم إذا وقعت فإنه يحتاط احتياطاً شديداً في إثباتها ، فلا يقيمها إلا على من أقر بها إقراراً صريحاً أربع مرات ، وطلب تطهيره بالحد ، ولم يتراجع عن إقراره حتى تنفيذ الحد عليه ، أو يكون قد تبجح بارتكابها ، حتى ليراه أربعة شهود وهو على هذه الحال . وهكذا شأن الإسلام في بقية العقوبات ، يعمل على وقاية المجتمع أولاً من دوافع الجريمة ، ثم يدرأ الحدود بالشبهات زيادة في الاحتياط . فليست العقوبة هي الوسيلة الأولى أو الوحيدة للإصلاح والتقويم ، ولكن حين يأتي دورها في التطبيق ، فإنها تمثل مواجهة حاسمة للظاهرة الإجرامية . فهل يبقى بعد ذلك مجال للطعن في عدالة هذه العقوبات ومناسبتها ؟!! [16] .(1/67)
خامساً : أن الغاية الكبرى من هذه العقوبات هو التخويف والردع الذي يمنع وقوعها ابتداء ، ولا يُحوِج إلى اللجوء إليها إلا في أضيق الحدود : فإن هؤلاء الذين يشنعون بهذه العقوبات يتصورون خطأً أنها كالعقوبات الوضعية ، ستطبق كل يوم ، وعلى أعداد غفيرة من الناس ، فيتصورون في المجتمع الإسلامي مجزرة هائلة : هذا يُجلد ، وهذا يُقطع ، وهذا يُرجم . ولكن الواقع أن هذه العقوبات الرادعة ؛ لا تكاد تنفذ إلا في نطاق محدود ، وعلى أعداد يسيرة غارقة في الفساد ، ومتأصلة في الشر والإفساد ، وفي إيذاء الأمة ، وزعزعة أمنها واستقرارها [17] . وللدكتور محمد سعيد البوطي كلام قيم في هذا المعنى ، أنقله مع طوله ، حيث يقول : « إن ادعاء القسوة والشدة في حدود الشريعة الإسلامية ؛ مظهر من مظاهر السطحية في فهمها ، بل الجهل العجيب بطبيعتها وأنظمتها وقيودها . وإن كل دارس للشريعة الإسلامية يدرك أن ما قد يبدو في حدودها من القسوة لا يعدو أن يكون قسوة تلويح وتهديد . فهو أسلوب تربوي وقائي أكثر من أن يكون عملاً انتقامياً أو علاجاً بعد الوقوع . وهي بهذا تنطلق من أدق الأسس التربوية السليمة للمجتمع . وتبرز هذه الحقيقة إذا لاحظنا الأمور التالية : أولاً : لقد أعلنت الشريعة أن عقوبة الزاني المحصن هي الرجم . وهو إعلان مخيف ، وتلويح بسلاح رهيب ولا شك . ولكنها شرطت لإيقاع هذه العقوبة أحد الشرطين : الاعتراف القاطع الصريح ، أو شهادة أربعة شهود برؤية الفعل على حقيقته . فأما الإقرار : فشيء نادر لا يقام عليه أي اعتبار . وعندما يقع هذا الشيء النادر ؛ فإن على القاضي أن يبادر فيقطع سبيل الإقرار على الزاني قبل أن يتفوه بالاعتراف القاطع الصريح ، وأن ينصحه بالتوبة والستر .. وكلنا يذكر هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك .(1/68)
وأما الشهادة : فإن علينا أن نلاحظ أن ثلاثة أرباع الشهادة التامة فيها ؛ تنقلب ردعاً للشاهد وزجراً له عن التفوه بالشهادة ؛ كي يظل المتهم في حماية من الستر ونجوة من العقاب . وحسبك أن تعلم أن عدد الشهود ما لم يتكاملوا أربعة ؛ يعدّون آثمين متلبسين بجريمة القذف ، وتغدو شهاداتهم سبباً لإنزال العقوبة عليهم بدلاً من أن تكون موجباً لأخذ المتهم بجريمة الزنا . فإذا ما تكامل الشهود أربعة ؛ فإن العقوبة تتحول عندئذ إلى المشهود عليه ، حيث يستحق عقوبة الزنا ... فإنه لم يقترف جريمته هذه بحيث رآه متلبساً بها أربعة من الرجال الثقات العدول ، إلا وهو مستعلنٌ بعمله في الناس ، مستهينٌ بكرامة الأمة وسمعة المجتمع . وتصرف من هذا القبيل من شأنه أن ينشر وباء الفاحشة فيه كما تنتشر النار في الهشيم . لا جَرَمَ أن فاحشة تُرتكب بهذا الشكل تستدعي عقوبة صارمة ، تحقق الغاية المرجوّة منها ، وهي العبرة والردع . ثانياً : لقد أعلنت الشريعة الإسلامية أن الحدود تُدرأ بالشبهات ، وهي قاعدة فقهية كبرى ، أجمع على الأخذ بها جماهير الأئمة والفقهاء . ومعنى القاعدة : أن أي احتمال لعدم تكامل شروط إقامة الحد يطوف بالمتهم ، أو بالظرف الذي تمت فيه الجريمة ، يُسقط الحد ويلغي ثبوته . وعلى الحاكم أن يستعيض عنه بما يراه من أنواع العقوبات التعزيرية الأخرى . وإننا لنتأمل فنجد أن هذه الاحتمالات كثيرة متنوعة لا تكاد تتناهى ؛ وننظر ؛ فنجد لها التطبيقات الكثيرة والمختلفة في عهد الصحابة والتابعين ، كما نجد لها التطبيقات المتنوعة في تخريجات الفقهاء وفتاواهم . فإذا ما ألغي الحد لشبهة ؛ فإن الجاني لا يؤخذ عندئذٍ إلا بمسؤوليتين اثنتين : أولاهما : التسوية الحقوقية ؛ إذا كانت الجناية مما يستلزم ذلك ، كالسرقة وقطع الطريق ، حيث يجب أن يغرم السارق ما قد سرقه .. وهو خطاب وضعي يُواجه به حتى مَنْ لم يكن أهلاً للتكليف .(1/69)
الثانية : عقوبة التعزير ، ويتخير الحاكم نوعها وكيفيتها وكميتها حسب ما تقضي به المصلحة ، ويحقق الغاية من شرع العقوبات .. فتلك هي قصة القسوة التي ينعت بها بعض الناس حدود الشريعة الإسلامية . وإنه لنعتٌ ظالم باطل ، يندفع إليه من لا يريد لهذه الأمة أن ترقى إلى شيء من الالتزام بمنهج الفضيلة والخلق الإنساني القويم . ويشفق على وباء الإباحية الذي تسفيه علينا رياح الغرب والشرق ؛ أن ينقطع سيله ، أو تسكن ريحه . وإنه لشيء مثير للعجب حقاً ؛ أن يُضخم أناس من مظهر هذه القسوة الخيالية التي عرفنا حقيقتها ، في غيبوبة من التأمل العقلي ، ثم لا يلتفتوا بأي نظرة إلى النتائج الإنسانية الحميدة التي تنبسط في ساحة المجتمع كله لدى اتخاذ قرار جاد بتطبيق هذه الحدود . وأعجب من هذا أن يعبِّروا عن مشاعر الرحمة في نفوسهم ، بصدد ما يتخيلونه من قسوة الحدود ، ثم لا يستشعروا أي رحمة بالمجتمعات التي تشيع فيها القرصنة وينتشر الإجرام ، وتزهق فيها الأرواح رخيصة طمعاً في تمزيق عِرْض أو الوصول إلى مال ! ولَكَمْ سمعنا وقرأنا قصص أُسَرٍ طاف بها الموت في جوف الليالي خنقاً أو تذبيحاً ؛ ابتغاء اقتناص ثروة من المال !! كل هذه الشراسة المتوحشة لا تحرك قلوب أولئك الذين يمثّلون الرحمة والرحماء ، حتى إذا ما أقبلت الشريعة الإسلامية تلوّح بعصا التأديب التي لا بديل عنها لتقي المجتمع من هذه الفوضى والوحشية المرعبة ، وتغرس في مكانهما الأمن والنظام والرحمة ؛ استشعَروا القسوة فجأة ، وتذكروا الرحمة على حين غرة !! » [18] .(1/70)
* الشبهة الثالثة : أن العقوبات الشرعية تهمل شخصية المجرم وتأثير البيئة فيه : فهي لا تتفق مع النظرية الحديثة في تحليل نفسية المجرم ، وأنه مريض النفس ، منحرف المزاج ، متأثر بما حوله ، بل هو ضحية من ضحايا المجتمع ، والذي يعدّ مشتركاً معه لسبب أو لآخر فيما أقدم عليه ، فكان من العدالة أن يتقاسم معه المسؤولية ، وأن يعمل على علاجه لا عقابه [19] . - دحض هذه الشبهة : وهذه أيضاً شبهة داحضة من ثلاثة وجوه : الوجه الأول : أن الظروف المحيطة بالفرد ذات أثر بعيد في تكوينه ، والعقد النفسية والأمراض العصبية تدفع أحياناً إلى الجريمة . ولكن الإنسان مع ذلك ليس كائناً سلبياً بحتاً بإزاء هذه الظروف . إن عيب المحللين النفسيين ؛ أنهم - بطبيعة علمهم - ينظرون إلى الطاقة المحركة في الإنسان ، وإلى الغرائز الكامنة في ذاته ، والتي تدفعه إلى إشباعها والاستجابة لها ، ولكنهم لا ينظرون إلى الطاقة الضابطة له ، وإلى قدراته العقلية التي كان من المفترض أن تعقله عن الإقدام على ارتكاب الجريمة ، والاستجابة المطلقة لهذه الغرائز الدافعة . إنهم كما قال محمد قطب ينظرون إلى الطاقة المحركة ، إلى ( الدينامو ) ، ولا ينظرون إلى الطاقة الضابطة ، إلى ( الفرامل ) ، مع أنها جزء أصيل من كيان النفس البشرية غير مفروض عليها من الخارج . إن الطاقة التي تجعل الطفل يضبط إفرازاته فلا يتبول في فراشه بعد سنٍّ معينة حتى لو لم يدر به أحد ؛ لهي ذاتها ، أو شبيهة بها ، الطاقة التي تضبط انفعالاته وتصرفاته ، فلا ينساق دائماً وراء الشهوة الجامحة ، أو وراء النزوة الطارئة [20] . ولأجل هذا أسقط الإسلام الحدود والقصاص عن الصبيان والمجانين ، فلا تقام إلا على من كان بالغاً عاقلاً [21] . فما دام المجرم بالغاً عاقلاً مختاراً ؛ فإن أحواله النفسية وبيئته وثقافته لا تصلح مسوِّغاً لارتكاب الجرائم ، والاعتداء على الآخرين .(1/71)
كما أن هذه الأمور عائمة لا تقوم على أساس متين ولا يضبطها ضابط معين ، ولا حدود تنتهي إليها ؛ مما يؤدي إلى إفلات المجرمين من العقاب الرادع ، ومن ثم كثرة الجرائم ، وانتشار الفوضى ، وزعزعة الأمن والاستقرار [22] . قال الشيخ أحمد محمد شاكر : « إن بعض النظريات الحديثة ترفّه عن المجرم حتى يظن أنه موضع إكرام بما جَنَى ، وتدّعي أن القصد من العقاب التربية والتأديب فقط ، وأنه لا يجوز أن يُقصد به إلى الانتقام ، وتزعم أن الواجب درسُ نفسية ( الجاني ) ، فتُلتمس له المعاذير من ظروفه الخاصة ، وظروف الجريمة ، ومن نشأته وتربيته ، ومن صحته ومرضه ، وما يعتمل في جوانحه من عواطف وشهوات ، وما يحيط به من مغريات أو موبقات ، إلى آخر ما هنالك .. ونسي قائلوها أن يَدْرسُوا ( المجني عليه ) هذا الدرس الطريف ، ليَروا أيّ ذنب اجترح حتى يكون مهدداً في سرْبه ، معتدىً عليه في مأمنه من حيث لا يشعر !! ولم يفكروا أي الفريقين أحق بالرعاية : أمَن جعلته ظروفه ونشأته ونفسيّته وما إلى ذلك هادئاً مطمئناً ، لا ينزع إلى الشر ، فكان مجنياً عليه ، أمّن كان على الضد من ذلك ، فكان جانياً ؟! إن الله خلق الخلق وهو أعلم بهم ، وهو يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، ويعلم ما يصلح الفرد ، وما يصلح الأمة ، وقد شرع الحدود في القرآن زجراً ونكالاً ، بكلام عربي واضح لا يحتمل التأويل » [23] . الوجه الثاني : أن الشريعة الإسلامية إذْ ترسم أحكامها لمعاقبة الجانحين والمجرمين ؛ لا تنطلق في ذلك من حصر المسؤولية فيهم ، وتحميلهم وحدهم عاقبة ما أقدموا عليه ، بل هي تجعل المجتمع مسؤولاً في بعض الحالات عن هذه الجرائم التي ارتكبوها ، وقاعدة درء الحدود بالشبهات أبلغ تجسيد لهذه الحقيقة ، وأوضح برهان عليها [24] . الوجه الثالث : أن رغبة المعترضين في جعل العقاب كالعلاج للمريض ؛ متحققة في العقوبات الشرعية التي هي مبنية على أساس الرحمة بالمجرم والمجتمع .(1/72)
ولكن هؤلاء فاتهم أن العلاج لا يُشترط فيه أن يكون لذيذاً تشتهيه النفس ، فقد يكون كريهاً مرّاً ، وقد يتضمن إسالة الدماء وقطع الأعضاء ، وهو في جميع هذه الصور يبقى علاجاً موصوفاً بالرحمة في حق المريض ، خالياً من الانتقام منه . كما فات هؤلاء أن العقوبات شُرعت لوقاية المجتمع وتطهيره من جراثيم الأمراض ، والأعضاء الفاسدة التي سرت فيها الأمراض المزمنة والمعدية ، وغفلوا أو نسوا أن التغاضي عن هذه الأعضاء الفاسدة ، والتسامح معها ، رغبة في صلاحها وصحتها ، سينتج عنه تفاقم المرض واستفحاله ، وانتشاره في سائر الجسم ، فلم يستصح العضو ولم يسلم الجسم . وهذا هو الشأن في العقوبات ، فقد شُرعت لتكون علاجاً لمن لا يجدي معهم علاج الوعظ والتذكير والإنذار [25] . ثانياً : الشبهات الخاصة : * الشبهة الأولى : حول حد الزنا : يقولون : إن الزنا برضا الطرفين حرية شخصية ، وإقامة الحد في هذه الحال مصادرة لهذ الحرية التي يجب أن تصان ، كما أن حد الزنا فيه إهدار لآدمية المجرم ، وإيذاء له لم يعد مقبولاً في العصر الحديث [26] . - دحض هذه الشبهة : أما الاحتجاج بالحرية الشخصية إذا وقع الزنا برضا الطرفين ، فإنه قول متهافت مردود ؛ لأن الإنسان ليس حراً في فعل ما يضره ، أو يضر غيره . فله مطلق الحرية ، إلا فيما يعود عليه أو على غيره بالضرر . وقد ثبت بالشرع والعقل والحس أن الزنا شر سبيل ، وأن له أضراراً كثيرة على الزانيَيْن ، وعلى أسرتَيْهما ، وعلى مجتمعهما . وعليه ؛ فإن وقوع الزنا بالتراضي لا يبيح الزنا ، ولا يزيل أضراره وآثاره السيئة . فوجب معاقبة فاعله والأخذ على يده [27] . وأما القول بقسوة هذه العقوبة ، وإهدارها لآدمية الزاني بجلده أو رجمه ؛ فالجواب عنه : أن الزاني هو الذي أهان نفسه وعرضها للإذلال والإهدار ، فإنه لو لم يفعل هذه الفاحشة المنكرة لبقي محترماً موفور الكرامة ، حرمته مصونة ، ونفسه معصومة [28] .(1/73)
وأما اتهام هذه العقوبة بالقسوة والشدة ، فقد تقدم الجواب عنه قريباً . * الشبهة الثانية : حول حد الردة : قالوا : إن هذه العقوبة القاسية مصادمة لمبدأ عدم الإكراه في الدين ، والذي قرره الله في أكثر من آية في كتابه ، كقوله تعالى : [ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَي ]( البقرة : 256 ) ، وقوله : [ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ]( يونس : 99 ) . وهي كذلك مصادمة للحرية الشخصية في اختيار الدين الذي يراه الإنسان [29] ، كما أنها سبب لانتشار النفاق في صفوف المسلمين [30] . - دحض هذه الشبهة : أما قولهم : إن حد الردة مصادم لما قرره القرآن من مبدأ عدم الإكراه في الدين . فإنه غير صحيح ؛ لأن الإكراه المنفي في الآيتين إنما هو الإكراه على الدخول في الإسلام ابتداءً ، فالإسلام يريد ممن يدخل فيه أن يدخله عن قناعة ورغبة واختيار ، وإدراك لحقائقه وميزاته ، وأنه الدين الذي ارتضاه الله لعباده ، وجعله مهيمناً على الأديان كلها ، ولن يقبل من أحد ديناً سواه . فإذا دخل فيه كذلك ، فليس له من بعد أن ينكص عنه ، ويشتري الضلالة بالهدى ، ويستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير ؛ إذْ ماذا بعد الحق إلا الضلال ؟ [31] وإن القلب الذي تذوَّق حلاوة الإيمان ، وعاش في ظلاله الوارفة ؛ لا يمكن أن يرتد عنه ، وينكص على عقبيه ، إلا إذا غلب عليه هواه ، وفسد فساداً لا يرجى له بعده صلاحٌ أبداً . ومن كان هذا حاله ، فجدير به أن يُقتل ويُستأصل . وأما قولهم : إنها مصادمة للحرية الشخصية في التدين بما يراه الإنسان . فالجواب عنه من وجهين : الوجه الأول : أن الحرية الشخصية مقيدة كما سبق بعدم الإضرار بالنفس أو بالغير ، والردة تلحق بصاحبها وبالمجتمع المسلم أشد الضرر وأبلغه . فبالردة يحبط عمل المرتد ، ويخسر الدنيا والآخرة .(1/74)
وبها يحصل العدوان على الدين ، والطعن في عقيدة الأمة ونظامها الذي تقوم عليه جميع شؤونها . الوجه الثاني : أن عقوبة الردة لا تتنافى مع الحرية الشخصية في اختيار العقيدة التي يرتضيها الإنسان ؛ لأن حرية العقيدة توجب أن يكون الإنسان مؤمناً بما يقول ويفعل . وبأن يكون له منطق سليم في انتقاله من عقيدة إلى أخرى ، وإعلانه ذلك أمام الناس . ومن أين يكون المنطق والعقل السليم ، لمن يخرج من ديانة التوحيد إلى الوثنية ؟ ومَنْ ذا الذي يخرج من دينٍ كلّ ما فيه موافق للفطرة والعقل المستقيم ، إلى دين مناقض للعدل والمصلحة ، ولا يستطيع العقل تسويغ ما فيه ؟ لا يفعل ذلك أحد ، وهو ذو حرية فكرية حقيقية ، إنما يخرج من هذا الدين القويم اتباعاً للهوى ، أو جنوحاً إلى المادة يطلبها ، أو كيداً للإسلام وطعناً فيه . فإذا حارب الإسلام اتخاذ الأديان هزواً ولعباً وتضليلاً وعبثاً ؛ فإنما يفعل ذلك لحماية الفكر والرأي من هؤلاء العابثين والمخربين . وليست الحرية في أي باب من أبوابها انطلاقاً عابثاً لا يعرف حدوداً أو حقوقاً ؛ إنما هي اختيار مبني على حسن الإدراك وتبين الحقائق [32] . وأما قولهم : إن عقوبة الردة تؤدي إلى انتشار النفاق في صفوف المسلمين ؛ لأن المرتد إذا علم أنه سيقتل أخفى على الناس كفره ، وأظهر ما ليس في قلبه . والحقيقة غير هذا ، فإن عقوبة المرتد من أكبر العوامل المانعة من النفاق ؛ ذلك أن مَنْ يكثر منهم الارتداد هم الدخلاء على الإسلام لهوى أو طمع دنيوي ، أو رغبة في التجسس على المسلمين وكشف عوراتهم من الداخل ، فهم لم يدخلوه عن رغبة واقتناع ، وإنما دخلوه لتحقيق حاجة في نفوسهم ، فهم منافقون منذ دخولهم فيه ، عازمون على الارتداد عنه عند قضاء حاجتهم . فإذا علموا أن الموت ينتظرهم إذا ارتدوا ؛ امتنعوا من الدخول في الإسلام ابتداء ، وبهذا ندرك أن في عقوبة الردة قطعاً لرقاب المنافقين ، وليس فيها زيادة لعددهم [33] .(1/75)
* الشبهة الثالثة : حول حد السرقة والحرابة : قالوا : إن العقوبة بتقطيع الأطراف فيها إضرار بالمجتمع ، وذلك بإشاعة البطالة فيه ، وتعطيل بعض الطاقات البشرية التي كانت تسهم في العمل والإنتاج ، وتكثير المشوهين والمقطعين الذين أصبحوا عالة على المجتمع بسبب عجزهم عن الكسب والإنفاق ، فيجب أن يستعاض عن هذه العقوبة بالحبس مع التربية والتوجيه [34] . - دحض هذه الشبهة : هكذا يزعمون !! وهو زعم ينقصه الإنصاف والنظر الصحيح ، بل هو مغالطة صريحة وقلب للحقائق . ذلك أن ترك السرّاق والمحاربين دون عقوبة رادعة ؛ يجعلهم يعيثون في الأرض فساداً ، ويهددون أمن المجتمع ، ويهتكون الحرمات ، ويقطعون على الناس سبل العيش والكسب ، ويعطلون مصالحهم ، ويخيفونهم في مأمنهم ، ويفجعون النساء والأطفال في مساكنهم ، ويسرقون جهود الآخرين ، ويستبيحون أموالهم بغير حق . كما أن ذلك يدعوهم إلى البطالة والقعود عن العمل والكسب المشروع ؛ لأنهم يستطيعون تحصيل ما يريدون عن طريق السرقة وقطع الطريق . كما أن العاملين المجتهدين في تحصيل الأموال بالسبل المشروعة سينقبضون عن العمل ، وينتظمون في سلك الكسالى العاطلين ؛ ما دامت أموالهم مهددة بالاستلاب والضياع ، فتتعطل الأعمال ، وتفسد الأحوال ، ويقعد الناس عن التكسب وجمع المال . ومعنى ذلك أن السارق لا يسرق المال فقط ، وإنما يسرق معه أمن المجتمع واستقراره وطمأنينته ، فكان في التساهل مع هؤلاء السراق خراب العمران ، وشل قدرات الإنسان ، واستنفاد طاقته ووقته وجهده في حفظ ماله وحمايته . كما أن السرقة تتبعها - في الغالب - أقسى الجرائم المباشرة من القتل والجرح ، وانتهاك الأعراض ، وهتك حرمات البيوت ، وغيرها . وإن السراق يتسلحون دائماً خشية الظفر بهم فيدافعون عن أنفسهم ، أو لقتل وجرح من يقف في طريقهم ، ويحول بينهم وبين تحقيق مرادهم ، أو يخشون منه أن يكشفهم ويعلن عنهم .(1/76)
ولا يكاد يمر يوم في المدن الكبرى من غير ارتكاب جريمة قتل لأجل السرقة . وقد سبق الكلام مفصلاً عن هذه الأضرار وغيرها حين الكلام عن الحكمة من مشروعية حد السرقة وحد الحرابة [35] . فقطع طرف واحد ، كما أنه تنكيل بالمجرم وزجر له ، فإنه يؤدي إلى زجر الجناة من أمثاله ، وحفظ مئات الأرواح ، وآلاف الأطراف سليمة طاهرة ، عاملة منتجة [36] . وأما دعوتهم إلى الاستعاضة عن القطع بالحبس - كما هو الحال في القوانين الوضعية - فقد شهد واقع الدول التي تطبق عقوبة الحبس على إخفاق هذه العقوبة في ردع المجرمين واستصلاحهم . وإن الطواف على السجون وعدّ نزلائها يرينا أنهم في ازدياد دائم وتفاقم مستمر ، فما ردعت السجون عن الجريمة إلا قليلاً [37] ، بل أصبح السجن مدرسة يتعلم فيها المجرمون كثيراً من فنون السرقة وأساليبها الخفية ، ثم يخرجون بعد ذلك أكثر خطورة وخبرة وإقداماً ، فصار السجن محضناً للإفساد وتلقين أساليب الإجرام ، وكسب متعاونين جدد من حدثاء العهد بالجريمة ، بل لقد جعلوا من السجن ساحة ممهدة لرسم الخطط ، وتقاسم المهمات ، يشاركهم إخوان لهم في الإجرام خارج القضبان . أضف إلى ذلك ما يخلق لديهم السجن من شعور بالعداء ورغبة في الانتقام للنفس ، وإثبات الذات [38] . كما أن السجن يؤدي إلى تحطيم الطاقات القادرة على العمل ، وقتل الشعور بالمسؤولية في نفس المجرم تجاه ذاته وأسرته ، ويحبب إليه القعود والكسل . حيث ينعم بتوفير وسائل الراحة والترفيه له ، وتقديم الغذاء والكساء والدواء له مجاناً طيلة بقائه في السجن . ولربما رغب في البقاء بالسجن طلباً لذلك الذي قد لا يحصله خارج السجن ، وقد يعاود الجريمة بعد خروجه منه من أجل العودة إليه ، والتنعم بما فيه ، وضمان لقمة العيش بين جدرانه .(1/77)
هذا فضلاً عما تخسره الدولة في الإنفاق على هؤلاء المساجين ، وحراستهم والقيام عليهم ، وما تخسره من تضييع جهودهم ، وهدر طاقاتهم ، وحبسهم عن العمل والكسب . وفضلاً عما ينتج من سجنهم من عزلهم عن بيوتهم وزوجاتهم وأولادهم ، وتعريضهم للحاجة والضياع . أضف إلى ذلك كله أن حبس المساجين عن مزاولة نشاطهم ، وحرمانهم من الاتصال بزوجاتهم ، وجمعهم في مكان واحد قد لا تتوفر فيه المواصفات الصحية الكاملة في أغلب الأحيان سبب مباشر لانخفاض المستوى الصحي والأخلاقي بينهم ، وانتشار كثير من الأمراض فيهم ، وانتقال العدوى من بعضهم لبعض . هذه بعض عيوب العقوبة بالحبس ، والتي ينادون بتطبيقها بدلاً عن العقوبة الشرعية [39] . والفرق الأساسي بين هذه العقوبة الوضعية وبين العقوبة الشرعية ، وسبب نجاح هذه دون تلك : هو أن العقوبة الشرعية قد وُضعت على أساس من طبيعة الإنسان ، وعِلْمٍ بما يزجره ويردعه . فإن السارق حينما يفكر في السرقة إنما يريد منها تكثير ماله ، وزيادة كسبه بكسب غيره ، فهو يستصغر ما يكسبه عن طريق الحلال ، ويريد أن ينميه من طريق الحرام وسرقة جهود الآخرين وثمرة أتعابهم . وهو يفعل ذلك ليزيد من قدرته على الإنفاق أو الظهور ، أو ليرتاح من عناء الكد والعمل . فهذا هو الدافع الذي يدفعه إلى السرقة . وقد حاربت الشريعة هذا الدافع في نفس الإنسان بتقرير عقوبة القطع ؛ لأن قطع اليد أو الرجل يؤدي إلى نقص الكسب ؛ إذْ اليد والرجل كلاهما أداة العمل أياً كان . ونقص الكسب يؤدي إلى نقص الثراء ، وهذا يؤدي إلى نقص القدرة على الإنفاق وعلى الظهور ، ويدعو إلى شدة الكدح وكثرة العمل ، والتخوف الشديد على المستقبل . كما أن قطع يده أو رجله فيه فضحٌ له وتشهير به ، وقطع للثقة فيه ، بخلاف ما كان يقصده بسرقته من الظهور والتباهي .(1/78)
فالشريعة الإسلامية بتقريرها عقوبة القطع ؛ دفعت العوامل النفسية التي تدعو لارتكاب الجريمة بعوامل نفسية مضادة ، تصرف عن ارتكابها . فإذا تغلبت العوامل النفسية الداعية ، وارتكب الإنسان الجريمة مرة ، كان في العقوبة والمرارة التي تصيبه منها ما يغلّب العوامل النفسية الصارفة ، فلا يعود إلى الجريمة مرة ثانية [40] . وأما عقوبة الحبس ؛ فإنها لا تخلق في نفس السارق العوامل النفسية التي تصرفه عن جريمة السرقة ؛ لأن عقوبة الحبس لا تحول بين السارق وبين العمل والكسب إلا مدة الحبس . وما حاجته إلى الكسب في المحبس وهو ملبى الطلبات مكفيّ الحاجات ؟ فإذا خرج من محبسه استطاع أن يعمل وأن يكسب ، وكان لديه أوسع الفرص لأن يزيد من كسبه وينمي ثروته من طريق الحلال والحرام على السواء ؛ لأنه لم يخسر شيئاً يحد من كسبه ، ويفقده ثقة الناس به . ولكنه إذا قطعت يده نقصت قدرته على الكسب نقصاً كبيراً ، ولن يستطيع أن يخدع الناس ويحملهم على الثقة به والتعاون معه وهو يحمل أثر الجريمة في جسمه ، وتعلن يده المقطوعة عن سوابقه . فالخاتمة التي لا يخطئها الحساب أن جانب الخسارة مقطوع به إذا كانت العقوبة القطع ، وجانب الربح مرجح إذا كانت العقوبة الحبس . وفي طبيعة الناس كلهم ، لا السارق وحده ، أن لا يتأخروا عن عمل يرجح فيه جانب المنفعة ، وأن لا يقدموا على عمل تتحقق فيه الخسارة [41] . كما أن عقوبة السجن فيها إخفاء للجريمة ، وستر على المجرم ، فتُنسى جريمته ، ويخرج من السجن وكأنه لم يقترف ذنباً ، ولم يرتكب جرماً . أما تطبيق الحد الشرعي فإنه بمثابة إعلان بالخط العريض ، يحمله المجرم حيثما كان ، معلناً دناءته وخسته ، وقبح فعله ، وسوء عاقبته ، فيرتدع بذلك كل من رآه أو سمع به ، فتنقطع جذور البلاء ، وينقمع المجرمون وأهل المطامع والأهواء .(1/79)
ذلك هو الأساس الذي قامت عليه عقوبة السرقة في الشريعة الإسلامية ، وهو السر في نجاح هذه العقوبة في الحد من السرقة أو القضاء عليها في البلاد التي طُبّقت فيها قديماً وحديثاً . لقد كانت الجزيرة العربية قبل تحكيم الشريعة فيها من أسوأ بلاد العالم أمناً ، فكان المسافر إليها وكذلك المقيم فيها لا يأمن على نفسه وماله وعياله ساعة من ليل أو نهار ، بالرغم مما له من قوة وما معه من عدة ، وكان كثير من السكان لصوصاً وقطاع طرق ، ديدنهم السلب والنهب ، والغارات والثارات . فلما طُبّقت الحدود أصبحت الجزيرة خير بلاد العالم كله أمناً واستقراراً ، يأمن فيها المسافر والمقيم ، حتى إنه لتترك الأموال على الطرقات دون حراسة ، فلا تجد من يسرقها أو يزيلها من مكانها على الطريق ، وتترك المتاجر مفتوحة أوقات الصلوات مدة غير قليلة ، والمعروضات في متناول اليد ، فلا يمسها أحد ، ويأخذ أصحاب الأموال ودائعهم من البنوك مهما كثرت غير متحرجين أو خائفين ، فيذهبون بها إلى حيث أرادوا وهم آمنون مطمئنون [42] . فقد أقامت هذه العقوبة الشرعية أعراب البادية الذين هم أجرأ من العقبان ، أقامتهم على سواء السبيل ، فلا تمتد يد أحد منهم إلى ما ليس له ، ولو كان في معرض ناظرَيْه ومتناول يدَيْه . وننظر في المجتمعات الغربية وغيرها من الدول التي تطبق القوانين الجاهلية ، ممن يرمون حد السرقة بهذه التهمة ، وكيف يعيش الناس هناك في فزع دائم ، وخوف مستمر من سطو اللصوص عليهم ، واعتدائهم على أموالهم وأنفسهم ، في الطرقات والمنازل والمصارف والمتاجر وغيرها ، جهاراً نهاراً ، يأخذون ما تصل إليه أيديهم ، دون خوف من رادع يردعهم ، أو عقوبة تنزل بهم ، اللهم إلا عقوبة السجن التي يجدون فيها كل ما يشتهون .(1/80)
ولو أنه أقيم عليهم الحد الشرعي للسرقة ؛ لتفيأ الناس ظلال الأمن والسكينة ، واطمأنوا على أموالهم ومصالحهم ، ولما رأوا أكثر من يد أو بضعة أيد تقطع خلال عام أو أكثر [43] . وكونها تشوه أو تعطل هذه القلة القليلة من المجرمين ؛ فإن هذا هو فعلهم بأنفسهم ، وهو جزاء ما اقترفته أيديهم من ظلم وإجرام . وهو أمر لا بد منه لحماية أمن الجماعة ، وتحقيق الطمأنينة للكافة . فهم حينما يقطعون يداً واحدة خائنة ؛ يحفظون نفوساً كثيرة ، ويصونون أيدياً أمينة عاملة لا تُعد ولا تُحصى . ويا ليت الناس يوازنون بين عدد المشوهين والمجروحين والمقتولين الذين جنت عليهم جرأة اللصوص والمجرمين ، وبين من يُقطعون لكف عدوانهم ، وقطع شرهم عن أنفسهم ومجتمعاتهم ، حتى يدركوا أن إقامة الحد الشرعي تأمين للمجتمع ، وتحصين لمصالح الناس ، وتوفير للطاقات العاملة ، والقوى البشرية المنتجة [44] . وصدق الله عز وجل حيث يقول : [ أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ]( المائدة : 50 ) . قال الشيخ أحمد محمد شاكر مخاطباً رجال القانون في مصر ، وهو يقارن بين أثر العقوبة الوضعية والشرعية لجريمة السرقة : « وهذه جرائم السرقة ، ليست بي حاجة أن أفصّل لكم ما جنت كثرتُها على الأمة وعلى الأمن ، وها أنتم أولاء تسمعون حوادثها وفظائعها ، وتقرؤون من أخبارها في كل يوم ، وترون السجون قد ملئت بأكابر المجرمين العائدين ، وبتلاميذهم المبتدئين الناشئين ، ثم كلما زادوهم سجناً زادوا طغياناً . ولو أنهم أقاموا ما أنزل إليهم من ربهم ، وحدّوا السارق بما حكم الله به عليه ؛ لكنتم تتشوفون إلى أن تسمعوا خبراً واحداً عن سرقة . ثم لو وقع كان فاكهةً يتندّر الناس بها ؛ ذلك أن عقوبة الله حاسمة ، لا يحاول اللصّ معها أن يختبر ذكاءه وفنّه .(1/81)
نعم أنا أعرف أن كثيراً منا يرون أن قطع يد السارق لا يناسب مبادئ التشريع الحديث ! ولكن المسلم الصادق الإيمان لا يستطيع إلا أن يقول : ألا سحقاً لهذا التشريع الحديث ! أفَنَدَع الألوف من المجرمين يروّعون الآمنين ، لا يرهبون قوياً ، ولا يرحمون ضعيفاً ، في سبيل حماية يدٍ أو يدَيْن تقطعان في كل عام ، وقد يكون ذلك في كل بضعة أعوام ؟! [45] وأنتم ترون أنه قد تزهق عشراتٌ من النفوس لاختلاف على مبدأ سياسي ، أو لمظاهرة قد لا تضر ولا تنفع ؛ بحجة المحافظة على الأمن والنظام . لا تظنوا أنكم ستقطعون من السارقين بقدر ما تسجنون . فهاكم الأمن في الحجاز وبادية العرب ، وقد كان مجرموهم قُساةً لا يحصيهم العد ، وعجزت الحكومات السابقة عن تأديبهم بمثل قوانينكم ، فما هو إلا أن جاءت الدولة الحاضرة ، واتّبعت شرع الله وأقامت حدوده ، حتى استتب الأمن ، ثم لا تكاد تجد سارقاً هناك ، إلا أن يكون من الغرباء في موسم الحج » [46] . * الشبهة الرابعة : حول عقوبة القصاص : قالوا : إن القصاص عقوبة قاسية لا تراعي شخصية المجرم وظروفه ودوافعه ، كما أن جعل القصاص حقاً لأولياء القتيل ؛ فيه تغليب لجانب الانتقام ، واعتباره أساساً للعقاب ، وهذا من الهمجية الأولى ، ولا يتفق مع التحضر والمدنية ، واعتبار العقاب تهذيباً واستصلاحاً . - دحض هذه الشبهة : أما أن القصاص عقوبة قاسية فهذا حق ، ولكنها هي مقتضى العدل والإنصاف ؛ لأن القصاص يفعل بالجاني مثل فعله بالمجني عليه ، فهو جارٍ على سنن المساواة بين الجريمة والعقوبة مساواة دقيقة ، ولا ظلم في القصاص ، بل الظلم أن يُترك الجاني من غير قصاص . وأما إهمال شخصية المجرم ، فقد ذكرت فيما سبق أن الشريعة تراعي شخصية المجرم بالقدر الذي تستلزمه هذه الرعاية ، فلا تقيم القصاص إلا على من كان عامداً عاقلاً بالغاً .(1/82)
فإن كانت الجناية خطأً أو شبه عمد ، فلا قصاص ، وإن كان الجاني صغيراً أو مجنوناً ، فعمده خطأ ، ولا قصاص عليه أيضاً . أما تجاوز هذه الحدود بحجة ملاحظة نفسية المجرم وميوله وتربيته ؛ فإن ذلك من شأنه أن يوقع في متاهات الأهواء ، ويجعل أحكام القصاص مضطربة قلقة ، ويؤدي إلى إفلات المجرمين من العقاب ، وانتشار الجريمة وعدم السيطرة عليها . وأما اعتبار القصاص من حق المجني عليه أو أوليائه ، لا من حق المجتمع ، فإن هذا من حسنات تشريع هذه العقوبة ، لا من مثالبها ؛ لأن الجريمة تمس المجني عليه وأهله مباشرة ، فهم الذين اكتووا بنارها ، وتلوعوا بما وقع على قريبهم . أما تضرر المجتمع فيأتي بصورة غير مباشرة . فكان من العدل والحكمة شفاء غيظ المجني عليه خاصة ، وإطفاء نار الغضب في نفسه بتمكينه من القصاص إن أحب أو الدية أو العفو المطلق . ولا شك أن العناية بشفاء غيظ المجني عليه وتمكينه من الجاني عليه ، يقتل في نفسه الرغبة في الثأر والانتقام ، ويمنعه من الإسراف في القتل والاعتداء [47] . وإذا عفا المجني عليه أو وليه عن الجاني ؛ فللقاضي أن يعاقبه بعقوبة تعزيرية تتناسب مع جرمه وحاله حفظاً للنظام العام ، وحماية لحق المجتمع . ويتأكد ذلك إذا كان هذا الجاني معروفاً بالشر والفساد [48] . ________________________ (*) أستاذ الفقه المساعد ، بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ، بالرياض . (1) انظر : أثر تطبيق الحدود في المجتمع ، ص 174 - 175 ، وحول تطبيق الشريعة ، ص 93 ، وعلى طريق العودة إلى الإسلام ، ص 122 ، وشبهات حول الإسلام ، ص 157 .(2) انظر : أثر تطبيق الحدود في المجتمع ، ص 175 ، ومجموعة بحوث فقهية ، ص 413 .(3) انظر : أثر تطبيق الحدود في المجتمع ، ص 175 ، والمحاورة : مساجلة فكرية حول قضية تطبيق الشريعة ، ص 101 .(4) انظر : على طريق العودة إلى الإسلام ، ص 116 .((1/83)
5) انظر : على طريق العودة إلى الإسلام ، ص 95 ، 124 - 126 .(6) انظر : على طريق العودة إلى الإسلام ، ص 97 - 98 ، وفي التشريع الإسلامي ، ص 89 ، والإسلام بين جهل أبنائه وعجز علمائه ، ص 64 .(7) انظر : مجموعة بحوث فقهية ، ص 409 ، وروح الدين الإسلامي ، ص 428 ، وأثر تطبيق الحدود في المجتمع ، ص 168 ، وشبهات حول الإسلام ، ص 150 ، وفي التشريع الإسلامي ، ص 96 ، وعلى طريق العودة إلى الإسلام ، ص 123 .(8) انظر : مجموعة بحوث فقهية ، ص 409 ، وأثر تطبيق الحدود في المجتمع ، ص 168 ، والتشريع الجنائي الإسلامي ، 1/655 .(9) هو أبو تمام حبيب بن أوس الطائي ، انظر : من القائل ، 2/458 .(10) انظر : على طريق العودة إلى الإسلام ، ص 103 - 104 ، 126 - 128 .(11) انظر : مجموعة بحوث فقهية ، ص 409 - 410 ، وروح الدين الإسلامي ، ص 429 .(12) انظر : حد السرقة بين الإعمال والتعطيل ص 209 ، وأثر تطبيق الحدود في المجتمع ، ص 169 .(13) انظر : التشريع الجنائي الإسلامي ، 1/644 .(14) قواعد الأحكام في مصالح الأنام ، ص 35 - 36 ، الطبعة القديمة ، 1/12 .((1/84)
15) وذلك كالسرقة عام المجاعة ، فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الضرورة شبهة قوية تدرأ حد السرقة ، وهو ما فعله عمر مع غلمان حاطب بن أبي بلتعة ، حيث درأ عنهم الحد لما سرقوا في عام مجاعة ، وقال رضي الله عنه : (أما والله ! لولا أني أعلم أنكم تستعملونهم وتجيعونهم ، حتى إن أحدهم لو أكل ما حرم الله عليه ، حلّ له ، لقطعت أيديهم) ، ولأن من شروط قطع السارق : أن يكون مختاراً ، ولا اختيار له عند الجوع الموفي على الهلاك ، ولأن له أن يأخذه ما دام مضطراً إليه ، وقد حكى الماوردي الإجماع على سقوط القطع لشبهة الضرورة ، فقال : (روي عن مروان بن الحكم أنه أتي بسارق سرق عام مجاعة ، فلم يقطعه ، وقال : أراه مضطراً ، فلم ينكر عليه أحد من الصحابة وعلماء عصره ، فكان إجماعاً) ، وعلى الرغم من أن ابن حزم لا يقول بدرء الحد بالشبهة ، إلا أنه ذهب في هذه المسألة مذهب الجمهور ، فدرأ الحد عن السارق للضرورة ، وفي ذلك يقول ابن القيم : (وهذا محض القياس ، ومقتضى قواعد الشرع ، فإن السّنة إذا كانت سنة مجاعة وشدة ، غلب على الناس الحاجة والضرورة ، فلا يكاد يسلم السارق من ضرورة تدعوه إلى ما يسد به رمقه ، ويجب على صاحب المال بذل ذلك له ، إما بالثمن أو مجاناً ، على الخلاف في ذلك ، والصحيح وجوب بذله مجاناً ، لوجوب المواساة وإحياء النفوس مع القدرة على ذلك ، والإيثار بالفضل مع ضرورة المحتاج ، وهذه شبهة قوية تدرأ القطع عن المحتاج ، وهي أقوى من كثير من الشبه التي يذكرها كثير من الفقهاء ، لا سيما وهو مأذون له في مغالبة صاحب المال على أخذ ما يسد رمقه ، وعام المجاعة يكثر فيه المحاويج والمضطرون ، ولا يتميز المستغني منهم ، والسارق لغير حاجة من غيره ، فاشتبه من يجب عليه الحد بمن لا يجب عليه ، فدري) ، انظر : إعلام الموقعين ، 3/11 - 12 ، والمغني ، 12/462 ، والمهذب ، 2/282 ، والحاوي الكبير ، 18/108 ، والمحلى 11/343 ، وأحكام السرقة في(1/85)
الشريعة الإسلامية والقانون ، للكبيسي ، ص 320 - 321 ، وحديث غلمان حاطب ، أخرجه البيهقي في السنن الكبرى ، في كتاب السرقة ، باب ما جاء في تضعيف الغرامة ، 8/278 ، و عبد الرزاق في المصنف في كتاب اللقطة ، باب سرقة العبد ، 10/238 - 239 .(16) انظر : شبهات حول الإسلام ، ص 154 - 155 ، وفي التشريع الإسلامي ، ص 97 - 98 ، وأثر تطبيق الحدود في المجتمع ، ص 169 ، والمهمة المزدوجة للتشريع الجنائي الإسلامي ، مقال للدكتور : جمال الدين محمود ، في مجلة التضامن الإسلامي ، ص 47 ، ذو القعدة ، 1408هـ .(17) انظر : شبهات حول الإسلام ، ص 155 .(18) على طريق العودة إلى الإسلام ، ص 129 - 134 ، مع تصرف يسير .(19) انظر : مجموعة بحوث فقهية ، ص 407 ، وشبهات حول الإسلام ، ص 150 ، وعلى طريق العودة إلى الإسلام ، ص 103 - 123 .(20) شبهات حول الإسلام ، ص 151 - 152 .(21) انظر : ص 1077 .(22) انظر : مجموعة بحوث فقهية ، ص 408 ، والتشريع الجنائي الإسلامي ، 1/720 .(23) الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين في مصر ، ص 27 - 28 .(24) انظر : على طريق العودة إلى الإسلام ، ص 134 .(25) انظر : مجموعة بحوث فقهية ، ص 408 - 409 .(26) انظر : مجموعة بحوث فقهية ، ص 410 ، ومنهج القرآن في حماية المجتمع من الجريمة ، 2/294 ، وروح الدين الإسلامي ، ص 428 .(27) انظر : روح الدين الإسلامي ، ص 428 ، ومجموعة بحوث فقهية ، ص 411 - 412 ، ومنهج القرآن في حماية المجتمع من الجريمة ، ص 2/ 294 - 295 .(28) انظر : مجموعة بحوث فقهية ، ص 410 ، وأثر تطبيق الشريعة الإسلامية في منع وقوع الجريمة ، ص 97 .(29) انظر : العقوبة ، لأبي زهرة ، ص 92 ، وأثر تطبيق الحدود في المجتمع ، ص 178 ، ومنهج القرآن في حماية المجتمع من الجريمة ، 2/293 ، والحدود في الشريعة الإسلامية ، ص 138 .(30) انظر : العقوبة ، لأبي زهرة ، ص 93 .((1/86)
31) انظر : العقوبة ، لأبي زهرة ، ص 93 ، ومجموعة بحوث فقهية ، ص 415 ، ومنهج القرآن في حماية المجتمع من الجريمة ، 2/293 ، والعقوبات المقدرة وحكمة تشريعها ، ص 64 .(32) انظر : العقوبة ، لأبي زهرة ، ص 93 .(33) انظر : العقوبة ، لأبي زهرة ، ص 94 ، والعقوبات المقدرة وحكمة تشريعها ، ص 65 .(34) انظر : مجموعة بحوث فقهية ، ص 413 ، ومكافحة جريمة السرقة في الإسلام ، ص 270 ، وعقوبة السارق بين القطع وضمان المسروق في الفقه الإسلامي ، ص 402 ، وأثر تطبيق الحدود في المجتمع ، ص 171 ، ومنهج القرآن في حماية المجتمع من الجريمة ، ص 296 ، وحول تطبيق الشريعة ، ص 94 .(35) انظر : ص 998 - 1004 ، ص 1019 - 1022 .(36) انظر : أثر تطبيق الحدود في المجتمع ، ص 171 - 172 .(37) والإحصائيات الرسمية تدل على أن الجرائم تزداد عاماً بعد عام زيادة تسترعي النظر وتبعث على التفكير الطويل ، ففي مصر مثلاً كان عدد السرقات في سنة 1891م : تسعة آلاف وثلاثمائة وستاً وخمسين ، وما زالت في تزايد مستمر ، حتى بلغت في عام 1939م : خمسة وستين ألفاً وخمسمائة وسبعاً وثمانين سرقة ، ومعنى هذا أن السرقات زادت في ثمانية وأربعين عاماً سبعة أمثال ما كانت عليه ! وهي نسبة لا تسوّغها زيادة السكان ، ولا يقوم لها أي عذر مهما اختلفت المعاذير ، فالسكان لم يتضاعف عددهم مرة واحدة ، فكيف تتضاعف السرقة سبع مرات ؟ وما يقال عن السرقات يقال عن غيرها من الجنح والجنايات ، انظر : التشريع الجنائي الإسلامي ، 1/739 - 740 .(38) انظر : مجموعة بحوث فقهية ، ص 413 ، ومنهج القرآن في حماية المجتمع من الجريمة ، 2/297 .(39) انظر : التشريع الجنائي الإسلامي ، 1/ 732 - 740 ، ومكافحة جريمة السرقة في الإسلام ، ص 240 - 244 ، وحد السرقة بين الإعمال والتعطيل وأثره على المجتمع الإسلامي ، ص 211 - 212 ، ووجوب تطبيق الحدود الشرعية ، ص 33 - 40 .((1/87)
40) انظر : التشريع الجنائي الإسلامي ، 1/652 ، وفي ظلال القرآن 2/884 ، وحد السرقة بين الإعمال والتعطيل وأثره على المجتمع الإسلامي ، ص 208 .(41) انظر : التشريع الجنائي الإسلامي ، 1/ 653 - 654 .(42) انظر : التشريع الجنائي الإسلامي 1/653 ، ومكافحة جريمة السرقة في الإسلام ص 234 ، ومجموعة بحوث فقهية ، ص 413 - 414 .(43) انظر : الحدود في الإسلام : حكمتها وأثرها في الأفراد والجماعات والأمم ، ص 69 - 70 .(44) انظر : الحدود في الإسلام : حكمتها وأثرها في الأفراد والجماعات والأمم ، ص 70 ، وأثر تطبيق الحدود في المجتمع ، ص 172 ، والعقوبة ، لأبي زهرة ، ص 87 ، ومنهج القرآن في حماية المجتمع من الجريمة ، 2/297 .(45) ذكر الشيخ محمد قطب في كتابه : (شبهات حول الإسلام) ، ص 155 : أن حد السرقة لم ينفذ إلا ست مرات فقط خلال أربعمائة عام في صدر الإسلام ، وهذا يدل على أنها عقوبة قصد بها التخويف الذي يمنع وقوعها ابتداء ، ويغني عن اللجوء إليها .(46) الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين في مصر ، ص 25 - 27 .(47) انظر : مجموعة بحوث فقهية ، ص 419 ، والعقوبة ، لأبي زهرة ، ص 47 - 49 ، ومنهج القرآن في حماية المجتمع من الجريمة ، 2/300 ، وفلسفة العقوبة في الشريعة الإسلامية والقانون ، ص 252 ، وأثر تطبيق الشريعة الإسلامية في منع الجريمة ، ص 56 .(48) انظر : التشريع الجنائي الإسلامي ، 2/183 - 184 ، ومجموعة بحوث فقهية ، ص 419 ، وأحكام الجناية على النفس وما دونها عند ابن القيم ، ص 134 .(1/88)