فالأطباء الإغريق كانوا يعتقدون بأن «القلب هو مركز الحياة وعدّوه أول الأعضاء خلقا وآخرها موتا» وبناء على ذلك قالوا بأنه جوهر الحياة وأنه المسؤول عن خلق الأرواح الحيوية وأن توقفه العلامة الرئيسة للموت. ولم يعد خبراء الإغريق والرومان وظائف التنفس والدماغ من ضروريات الحياة الإنسانية إلا أن أبقراط وجالينوس قالوا بأن المخ مصدر الإدراك والأحاسيس والحركة.
ومع أن التراث الغربي عَدَّ الحاخام والطبيب اليهودي ابن ميمون أبا فكرة «موت الدماغ» وذلك لملاحظته بأن الإنسان المفصول جسده يعد ميتا مع استمرار حركة الجسم والأطراف، إلا أن الفقهاء والعلماء المسلمين يجب أن يحصلوا على هذا الشرف - وباستحقاق - لأن ما تحدث عنه ابن ميمون هو ما يعرف في الفقه الإسلامي «بحركة المذبوح» قبل ولادة ابن ميمون بمئات السنين علما أن ابن ميمون عاش في الأندلس أيام نهضتنا في العصور الوسطى.
إن الحركات التشنجية للجسد عند المذبوح بعد انفصال رأسه عن جسده لا تعتبر دليلاً على الحياة كما نسب لابن ميمون; لأنها لا تعني استمرارية التحكم المركزي (المخي). فقد ساوى ابن ميمون بين التنفس كجوهر للحياة والعمليات المركزية التي تتحكم بالوظائف الحركية. وهذا يتماشى مع القانون العبري القديم (هلكه) والذي عَدَّ التنفس جوهرا للحياة وليس دقات القلب ولذلك عرف الموت بتوقف التنفس وليس بتوقف القلب.
علما أن المسلمين حددوا انتهاء الحياة الإنسانية بمغادرة الروح للجسد الذي تعلق به.
ومن علامات الموت التي تحدث عنها فقهاء المسلمين انقطاع نفس الميت وإحداد بصره وانفراج شفتيه فلا ينطبقان وسقوط قدميه فلا ينتصبان. واليوم يبقى مفهوم حركة المذبوح أساس المفهوم العصري لموت الدماغ.(35/2)
وفي القرن الثامن والتاسع عشر سيطر الخوف من إمكانية دفن إنسانا ما زال حيا بسبب التشخيص الخاطىء لموته. ولتفادي مثل هذا الخطأ الفادح بيعت بالأسواق أجراس وأعلام لتدفن مع الموتى. فإذا كان التشخيص خاطئا وأفاق الشخص فإنه يستعمل هذه الأدوات لتنبيه الناس بضرورة إخراجه من القبر. مع حلول جهاز التنفس الصناعي في الخمسينيات بدأت المرحلة المعاصرة من مفهوم موت الدماغ وبالتالي - ولأول مرة - أصبح المرضى ذوو الإصابات الدماغية البالغة الميؤوس منها، وفاقدو القدرة على التنفس ذاتيا - أصبح بالإمكان إنعاش قلوبهم ودورتها الدموية بواسطة أجهزة التنفس الصناعية. وهذه الحالة الإكلينيكية الفريدة من نوعها والمرافقة لغيبوبة عميقة كانت تؤدي بالتأكيد لموت المرضى بعد فقدانهم القدرة الذاتية على التنفس. وفي أواخر الخمسينيات كتب الطبيبان الفرنسيان مولارت وجيلون عن هذا النوع من الغيبوبة العميقة التي لم تعرف سابقاً وطرحوا السؤال المهم: هل هؤلاء المرضى يعدون أحياء أم أمواتا؟..
في العام 1968 نشرت اللجنة الخاصة التابعة لكلية هارفرد الطبية ورقتها العلمية والتي كانت نقطة التحول في هذا الموضوع. فقد حددت المعايير التي تجزم بأن المرضى الذين يعانون من التوقف النهائي للتنفس مع فقدان الحركات الانعكاسية لجذع الدماغ وفقدان الاستجابة التامة للمؤثرات الخارجية بسبب تلف مدمر للمخ حسبوا أمواتاً من الناحية القانونية. بعد ذلك صقلت فكرة موت الدماغ كما جاء بلجنة هارفرد وعززت بدراسات ومعايير إضافية كما حدث في معايير مينسوتا 1971 ومعايير لجنة الكليات الملكية البريطانية 1976 مما أدى لتوفير الغطاء الفلسفي لقبول هؤلاء المرضى كأموات وفي العام 1979 اعتبر موت جذع الدماغ مساويا لنهاية الحياة الإنسانية.
النظرة الفلسفية لموت الدماغ(35/3)
حتى الماضي القريب تركز النقاش الفلسفي للموت على الأمور الغيبية وليس البيولوجية. فمن الناحية البيولوجية قبل حلول المنفسة الصناعية كان الموت ظاهرة موحدة، لذلك إذا ما توقف أحد الأعضاء الحيوية للحياة بشكل نهائي فإن فشل وتوقف الأعضاء الأخرى يتبعه بسرعة ويحدث الموت اليقين خلال دقائق.
فالمرضى الذين يتوقف تنفسهم بسرعة يفقدون وظيفة القلب وضغط الدم، وذلك يؤدي للتلف النهائي لخلايا المخ والأعضاء الأخرى، ويتبعه التخشب والتعفن وتحلل الجسد وهذه النتيجة نفسها التي ستحدث إذا ما توقف القلب قبل التنفس. وكما هو واضح فلم يطرح التساؤل عن المرضى الذين فقدوا وظيفة حيوية مع استمرار وظائف أخرى هل هم في عداد الأموات أم الأحياء؟
عندما نبه الأطباء الفرنسيون المجتمع الطبي لمرضى موت الدماغ أصبح الوضع القانوني والشرعي لهؤلاء المرضى مبهما وذلك لأنهم يملكون بعض الصفات التي ارتبطت سابقا بالحياة:
ـ أجسادهم دافئة ودقات قلوبهم تضخ الدم بالشرايين.
ـ أجسادهم تفرز البول والفضلات.
ـ وبالإضافة لذلك فهم يملكون صفات ومميزات ارتبطت بالموت:
ـ الإغماء الكامل وعدم الاستجابة لأية مؤثرات لتنبيه المصاب مهما تكررت ومهما كانت وسائل التنبيه قوية ومؤلمة.
ـ فقدان القدرة على التنفس بشكل نهائي.
ـ انعدام الحركات الإرادية.
ـ انعدام نظام المحافظة على التوازن البدني.
إن التحليل الفلسفي الدقيق لمفاهيم الموت يجب أن يشمل إعادة تعريف الموت في ضوء مفهوم موت الدماغ ويجب أن يكون متجذرا في واقعنا العقائدي والحياتي.
فكما عرف التراث المسيحي واليهودي في الماضي الموت بمفارقة الروح الجسد وفقدان نفس الحياة فقد ترجم العلماء المعاصرون في الغرب هذا المفهوم الديني لما هو متعارف عليه في مجتمعاتهم. فقد وضعوا مفارقة الروح الجسد مقابل الغيبوبة الدائمة. وفسروا فقدان نفس الحياة بفقدان القدرة الذاتية على التنفس عند موتى الدماغ.(35/4)
من الملاحظ أن هذا التفسير قريب من مفاهيم طرحها بعض الفقهاء المسلمون عندما عدوا غياب الحس والحركة الاختيارية بصورة نهائية علامة على مفارقة الروح للجسد، وقوبل بالمفهوم الطبي عن موت الدماغ وهو غياب كلي ونهائي للحس والحركة الاختيارية، وبذلك وصلوا للقول بأن علامة مفارقة الروح للجسد موت الدماغ بصورة نهائية لا عودة منها. وهذا هو المعهود في الشريعة الإسلامية لأنها تبني أحكامها على الأمور الحسية كما في مسائل الصيام والفطر وغيرها.
وهكذا فقد خرجت فكرة الموت من المفاهيم الضمنية للمقاييس الحسية. فإذا ما اتفقنا على تعريف الموت يجب تحديد المعايير التي يمكننا قياسها وتعني أن التعريف قد تم تطبيقه وتكون - أيضا - ضرورية وكافية لتحقيق الموت.
فقد طور الأطباء فحوصات سريرية تم إثبات صحتها وبوساطة هذه الفحوصات سيتم التحقق من سلامة المعايير ومصداقيتها.
هل الموت لحظة أو مرحلة؟
من القضايا التي لم تحسم للآن هل يعد الموت مرحلة أم لحظة؟
فالموت له صفات مرحلية إذ أنه يبدأ بسلسلة من فقدان الوظائف تتبعها تغيرات تفسخية وتدميرية تؤدي لتصفية الكائن الحي نهائيا بعد توقف كل الوظائف الجسدية.
ولاعتبارات شرعية خاصة بالأحكام التي تترتب على إعلان الوفاة - كالصلاة على الميت والدفن والإرث - يجب أن يعد الموت لحظة نزع أجهزة الإنعاش وتوقف القلب إذا لم يكن قد توقف قبل ذلك.
ومن المشاكل العملية لاعتبار الموت مرحلة تدريجية هو أن هذه الفترة الزمنية يجب ألا تتعدى ساعات أو أياماً وسوف يكون الموقف محرجا جدا إذا ما كان ميت الدماغ يحمل داخل صدره قلبا ميكانيكيا والذي ربما سيستمر بالعمل لمدة أسابيع وربما أشهر كما حدث لطبيب الأسنان الأمريكي بارني لكلارك بعد موت جذع دماغه.
المتغيرات المستقبلية لتعريف الموت البشري
التشخيص الطبي الحالي لموت الدماغ يشترط وجود غيبوبة دائمة مع انعدام بعض الأفعال الانعكاسية لجذع الدماغ.(35/5)
إن انعدام الأفعال الانعكاسية لجذع الدماغ بذاتها لا تعني بالضرورة وفاة الإنسان. فالشخص ذو الوعي يعد حيا مع توسع حدقة العين وغيرها من الأفعال الانعكاسية لجذع الدماغ. فغياب الوعي نهائيا هو الشرط الجوهري أما ثبوت غياب الأفعال الانعكاسية لجذع الدماغ فهو إشارة بأن فقدان الوعي أصبح لا رجعة منه.
وهناك من يعدون الشخص ميتا إذا ما دخل في غيبوبة دائمة وحجتهم أنه بدون الوعي ليست هناك صفة شخصية. فمع موت قشرة المخ ربما يفهم موت الشخص مع بقاء البدن حيا.
وفي حقيقة الأمر فإن كل تعريفات الموت; الدماغي منها وغير الدماغي تتضمن طرقاً غير مباشرة لتشخيص الغيبوبة التي لا عودة منها. ومن الطبيعي أن يترك تعريف الموت الذي أساسه توقف التنفس الذاتي أو دقات القلب لأن هذين التعريفين لا يؤديان بالضرورة لغيبوبة دائمة بعد حلول أجهزة الإنعاش.
عندما ظهر مفهوم الموت الدماغي كان تعريف الموت يشترط فقدان كل وظائف الجهاز العصبي المركزي ولكن بعد مرور فترة زمنية بسيطة اكتشف أن موت الدماغ ممكن بدون موت الحبل الشوكي ولذلك ألغي الأخذ به من معايير موت الدماغ المتعارف عليها.
وبما أن جذع الدماغ ليس موطن الشخصية الإنسانية فإنه لا يعد أساسيا للحياة الإنسانية وإذا ما توصل العلم مستقبلا للحفاظ على التركيب الشبكي مع موت جذع الدماغ استمرارية الوعي. فربما يؤدي ذلك لإسقاط موت جذع الدماغ من المعايير المستقبلية لموت الدماغ. ومن الجدير بالذكر أنه لا يكون هناك وعي بدون قشرة الدماغ.
إن المعاييرالحالية لموت الدماغ - كالتي تعتمد على موت جذع الدماغ أو موت الدماغ كوحدة متكاملة - تواجه تحديات فلسفية وعملية وذلك لوجود نشاط هرموني وربما دماغي موجه وذي وظيفة منظمة. وليس مجرد نشاط خلوي غير مترابط. وبالتالي فإنه كحل لهذه المعضلة الفلسفية يمكن أن يعد فقدان الوعي بصورة نهائية هو الموت الحقيقي والذي سيكون نتيجة حتمية لموت جذع الدماغ أو الدماغ ككل.(35/6)
هذا التعريف وعلى الأقل في البداية - سيوصف بكونه خروجا عن المعهود وسيرفضه المجتمع لأنه في هذا الإطار سيحسب المرضى النباتيين والمولودين بدون دماغ في عداد الأموات مع حياة أبدانهم. والمشكلة الأخرى التي سيواجهها هذا التعريف كيفية تحديد وتشخيص الغيبوبة الدائمة. ولكن طرق التشخيص ستتغير مع تطور العلم. ومع ذلك فبالإمكان الاعتماد على علامات موت جذع الدماغ السريرية وتوقف الدورة الدموية للدماغ.
المأزق والحل
إن الجدل الدائر في الدول الإسلامية من مؤيد ومعارض لمفهوم موت الدماغ له جذور فلسفية ودينية عميقة والتي للأسف لم تؤخذ بعين الاعتبار. فقد استورد أصحاب الاختصاص أفكاراً ومعايير جاهزة من الغرب وأريد للمجتمع الإسلامي الطبي وغيره أن يتقبلها. فقد غاب عن أهل الاختصاص أن هذه المعايير الطبية ليست مجرد فحوصات إذا ما طبقت تعني نهاية الحياة الإنسانية. وإنما مفهوم الموت له جذوره الفلسفية والدينية والإنسانية عند الإنسان الغربي وهذا هو أساس الجدل المستمر. صحيح أن أصحاب الاختصاص عندنا اعتمدوا على أن المعايير المتعارف عليها إذا ما طبقت بشكل صحيح فلن يكون هناك خطأ بالتشخيص وبالتالي لن يعود المريض من الموت. ولايخفى على أحد أن هذه المعايير لم تكن امتدادا للتعريف الإسلامي للموت وهو مغادرة الروح للجسد وسكون الجسد.(35/7)
إن المعيار الذي طرحه الدكتور محمد نعيم ياسين في ندوة الحياة الإنسانية 1985، وهو أن الروح تؤثر في البدن الإنساني ومن أهم آثارها الحركة الاختيارية. وأن الحركة الاضطرارية التي لا اختيار فيها ليست أثرا من آثار الروح وأن الروح تسيطر على جسدها الحي في هذه الدنيا بوساطة المخ فيحرك أعضاء الجسد الأخرى فيرسل عن طريقها ما تريد الروح استقباله. فإذا ما أصيب الدماغ بعجز نهائي لارجعة منه ولا أمل في استدراكه رحلت الروح من الجسد بإذن ربها وقبضها ملك الموت.. وبذلك أدى موت الدماغ إلى موت الكائن البشري مع استمرار بعض الحياة الخلوية غير الاختيارية بل الاضطرارية.
إن طرح معايير موت الدماغ في هذا الإطار الشرعي سيؤدي إلى تضييق فجوة الخلاف بين الطرفين المؤيد والمعارض لمفهوم موت الدماغ والله أعلم.
مع التركيز على أن المعايير المتوفرة لموت الدماغ إذا ما طبقت بشكل دقيق فإنها تعكس نهاية الحياة الإنسانية بشكل نهائي والله أعلم.
الرئيس الدكتور حسين الجزائري: شكراً. الموضوع الآن مطروح للنقاش وأرجو أن نستطيع الوصول إلى اتفاق على أنه إذا كان كل الدماغ أو جذع الدماغ قد مات أيكون الشخص قد توفّي أو لم يُتوفَّ بعد؟ وأرجو أن نركز على هذه النقطة لأن هذا هو المطلوب معرفته بالنسبة للطبيب. الموضوع الآن مطروح للنقاش.. دكتور عصام الشربيني. تفضل:(35/8)
كلمة التحرير
دكتور أحمد رجائي الجندي
الأمين العام المساعد للمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية
الحمد لله رب العالمين ونصلي ونسلم على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين.
فهذه أعمال ندوة: «التعريف الطبي للموت» والتي عقدت في الفترة ما بين 17 - 19 ديسمبر 1997م، وكما نلاحظ عزيزي القارئ بأنها استغرقت وقتاً طويلاً عن بقية الندوات الأخرى لأسباب عدة:
1 ـ معظم المشاركين كانوا من الأطباء ونصف حديثهم إن لم يكن أكثره جاء بالعربية مُطعماً بالإنجليزية، فحاولنا قدر الإمكان أن تخرج الندوة باللغة العربية. فكان لزاما علينا الترجمة والتأكد من كل المصطلحات العلمية والطبية التي وردت بالإنجليزية.
2 ـ معظم حديث الإخوة الأطباء بالعربية جاء بالعامية الإقليمية المختلفة، فكان من الضروري تحويلها قدر الإمكان إلى اللغة العربية الفصيحة.
3 ـ المصطلحات الطبية جاءت في كثير من الأحيان مبعثرة بين العربية والإنجليزية، ولذلك أشركنا معنا الدكتورة أسمهان الشبيلي استشارية الأمراض العصبية بمستشفى ابن سينا للتأكد من الترجمة والمعنى المطلوب عند كل عبارة.
4 ـ الندوة كان بها طرفان معارض وموافق على استخدام موت جذع الدماغ لاتخاذه أساساً للتعريف الطبي للموت، فجاءت الندوة في معظم أيامها حارة النقاش حادة المزاج، فصدرت عبارات وكلمات نابية من الطرفين، فحاولنا قدر الإمكان رفعها من كل أعمال الندوة دون تغيير في المعنى العام لأننا على يقين من أن الجميع لم يكن يقصد إهانة أو إساءة الطرف الآخر.
وتأكيداً على أهمية الندوة فإن الأسئلة التي طرحها الأخ الدكتور صفوت لطفي.... في ورقته المقروءة وليست المكتوبة، وبرغم أن معظم هذه الأسئلة أجيب عنها أثناء المناقشات، لكن وجدنا من المفيد تحويلها إلى الأخ الدكتور حسن حسن علي للإجابة عليها، وقد أدرجت الأسئلة والإجابة في نهاية الكتاب.(36/1)
بالإضافة إلى ذلك فلقد قام الدكتور صفوت بعرض فيلم متعلق بهذا الموضوع، والذي كان مجالاً للنقد من قبل معظم المشاركين، قد تم التعليق عليه من قبل المشاركين، وهذه التعليقات مدرجة ضمن أعمال الندوة، إلا أن أحد الأساتذة الأجانب «جانيت» نشرت تعليقاً علمياً حول هذا الفيلم، فترجم إلى العربية، وهو مدرج ضمن أعمال الندوة للاطلاع عليه لأهميته، حيث قامت بتحليله تحليلاً دقيقاً.
كنا نأمل أن تدرج المادة العلمية التي جمعتها المنظمة، المنشورة في الدوريات والمؤتمرات العالمية حول هذا الموضوع، ولكن نظراً لضخامتها وصعوبة ترجمتها لم نتمكن من إدراجها، وهي متوافرة لدى المنظمة كأحد الوثائق الهامة، ولمن أراد أن يستزيد منها يمكن تزويده بها.
ونظراً لخطورة الموضوع وأهميته، فإن المنظمة حتى الآن على اتصال دائم ومستمر، مع جميع الجهات ذات الاهتمام بالموضوع، وتقوم بتجميع ما ينشر عنه لمتابعة آخر المستجدات، بحيث إذا رأت تغييراً فيما تم الاتفاق عليه لن تتأخر بعقد ندوة أخرى لتدارس الموضوع.
وانطلاقاً من اهتمام المنظمة في البحث عن الحقيقة، ولاشيء سوى الحقيقة الخالصة المجردة من كل هوى أو مصلحة، فإنها لم تتردد في عقد هذه الندوة رغم أن الأبحاث والمناقشات التي جمعتها، لم تكن بها أي تغيير عما اتخذته من توصيات سابقة، إلا أنها كانت تأمل أن تجمع أطباء المسلمين على كلمة سواء، حول هذا الموضوع الشائك والخطير.
وبعد فهذه أعمال الندوة بدقائقها وبكل ما جرى فيها - لا نبتغي غير وجه الله سبحانه وتعالى، وندعوه سبحانه أن يوفقنا إلى ما يحبه ويرضاه.
ويسعدنا أن نتلقى أية تعليقات على أعمال الندوة من أي زميل سواء كان مشاركاً أو غير مشارك.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(36/2)
موت الدماغ
الدكتور محمد زهير القاوي
رئيس إدارة الطب الباطني
مستشفى الملك فيصل التخصصي
الولادة والوفاة أهم حدثين في حياة الفرد. إذ يتم بينهما تحديد الفترة التي يقضيها الفرد على سطح هذا الكوكب طالت أو قصرت. ويتعلق بالوفاة أمور هامة كالإرث وعدة الزوجة، ولذلك فإن تحديد وقت الوفاة وحدوثها أمر على قدر كبير من الأهمية العملية. وعلى الرغم من هذه الأهمية فإنه لم يرد نص شرعي واضح قاطع بتحديد الكيفية التي تعرف بها الوفاة أو علامات حدوثها. وحاشا أن يكون ذلك سهوا {لا يضل ربي ولا ينسى} (طه - 52). و{ما فرطنا في الكتاب من شيء} (الأنعام - 35). لكن هنالك أموراً كثيرة علم الله أن معرفة البشر بها يعتريها التبدل والتغير. والشريعة الصالحة لكل زمان ومكان لن تكون ملزمة بالجمود عند معرفة البشر في حقبة معينة من التاريخ. فكثير من هذه الأمور يترك تقديرها لأهل الخبرة من الناس. ولذلك نرى كثيرا من الفقهاء يعودون في مشاكل كثيرة إلى الرأي السائد في عصرهم من أهل الخبرة في ذلك الموضوع مثل (طول مدة الحمل) فيثبتونها في كتبهم ولو لم يرد فيها نص شرعي بناء على أنها من المصالح المرسلة.(37/1)
وينطبق ذلك على تعريف الوفاة حيث نجد في بعض كتب الفقه أوصافا كانوا يعرفون بها حدوث الوفاة من برودة الجسم وشحوب الوجه وغؤور العين وانحدار الأنف وما إلى ذلك. ولما عرف الناس أهمية عمل القلب في استمرار الحياة أصبح غياب النبض علامة واسمة لحدوث الوفاة لأنه لم يكن بالإمكان إعادة القلب إلى الحركة بعلاج معين. وبقيت هذه العلامة معلما لتشخيص الوفاة أكسبها الزمن درجة تقترب من اليقين المطلق. إلا أنه مع التقدم في وسائل الإنعاش في النصف الثاني من القرن الحالي والنجاح في إنعاش القلب وإعادته إلى النبضان تزعزعت الثقة في هذه العلامة إلى درجة أن غالبية حالات توقف القلب في المستشفيات وكثيرا من حالات توقف القلب خارج المستشفى تعالج بالوسائل المعروفة للإنعاش القلبي الرئوي، ولا يُجزم بحدوث الوفاة في هذه الحالات إلا بعد إخفاق تلك الوسائل.
والحقيقة أن الحدود الفاصلة بين الحياة والوفاة قد تعرضت للتبدل على مستويات شتى وأدت إلى ظهور تعريفات جديدة.
فمن ذلك الحياة الخلوية.. فإن وسائل زرع أنسجة الجسم وخلايا الدم وتجميد البويضات وبنوك النطف وما إلى ذلك تجعل هذه الأجزاء الدقيقة من الجسم تبقى حية ولو توفي الشخص الذي أخذت منه. ولا يقول عاقل بأن ذلك الشخص ما يزال حيا بناء على حياة بعض خلاياه في المعمل. فالمستوى الأول من الحياة الخلوية لا يقضي بحياة الشخص ككل.
ويتبع ذلك حياة الأعضاء وصورة ذلك أن يتبرع حي إلى قريب له بعضو لا تتوقف حياته عليه كأن يعطيه إحدى كليتيه وتبقى هذه الكلية في جسم الشخص. ولو تصورنا أن المتبرع توفي فيما بعد في حادث أو نحوه فلن يعترض قائل بأن حياة جزء منه أو أحد أعضائه في جسم حي آخر دليل على استمرار حياته. فحياة العضو أو عدد من الأعضاء بذاتها لا تعتبر حياة الشخص بكامله، إذن حياة الشخص تبقى قائمة ما دامت كل أعضاء الجسم الضرورية للحياة تعمل مع بعضها كمجموع لا كأفراد.(37/2)
ويقابل الوضع السابق وضع آخر ينفي أن يكون توقف القلب في حد ذاته علامة على الوفاة إذ أنه في عمليات القلب يتم إيقاف القلب عن النبضان مؤقتا ريثما يتم إجراء الجزء الحرج من العملية الجراحية يتم بعدها تنبيهه إلى النبضان مرة أخرى. وتوقفه بحد ذاته لم يكن معلماً لوفاة صاحبه. فمن الذي يجمع الأعضاء كلها للعمل في توافق وانسجام؟ يبدو أن ارتباط كل هذه الأعضاء بشكل مباشر أو غير مباشر بالجهاز العصبي أمر يوفق بينها ويجعل الشخص يتصرف ككل لا يتجزأ وتعطيه الشخصية الاعتبارية كفرد.
وهنا قد يبرز سؤال. ماذا عن الذي أصيب بمرض في الدماغ أدى إلى تعطيل جزء كبير من تفكيره ووعيه وقدرته على الكلام ولكنه احتفظ بقدرته على التنفس والتغذي فماذا نعده؟ هل هو في عداد الأحياء أم نحكم بوفاته؟ والظاهر في هذه الحالة أنه طالما استطاع أن يقوم بالوظائف الضرورية للحياة من تنفس ودورة دموية واغتذاء فهو حي وإن كان معاقاً غير قادر على النطق أو الحركة أو الإحساس، ولذلك يعد الأشخاص في مثل هذا الوضع في حالة نباتية مزمنة لأنه كالنبات يحتاج إلى تقديم الماء والمغذيات له.
إن تحديد الفصل بين الحياة والموت بعد إنعاش القلب وإعادته إلى النبضان أمر يتعلق بقدرة الدماغ على أن يستمر في عمله كرابط بين هذه الأعضاء جميعا وبقدرة الشخص على التنفس هذا من الناحية الطبية.
وإذا أردنا أن نسترشد بالنصوص الشرعية لوضع الخطوط العريضة في تقدير هذه الحالة لوجدنا أن التعريف الوحيد الذي يصفه القرآن لحالة الموت هو حالة اللاعودة.. {حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلّي أعمل صالحا فيما تركت. كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون} (المؤمنون - 100).(37/3)
فالموت هو النقطة التي لا يمكن بعدها للشخص أن يعود إلى الحياة. ونظرا للتشابه الظاهري بين الموت والنوم في تعطل الحركة والوعي فإننا نجد في الآية الكريمة أيضا التعريف بواسطة اللاعودة {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى} (الزمر - 42).
فالمعلم الأساسي والقرينة الكبرى هي عدم إمكان العودة. ولما كان تقدير إمكان العودة إلى الحياة من عدمه أمراً يقرره الأطباء ذوو الخبرة وذلك في حالات نجاح الإنعاش القلبي الرئوي فقد تحول الأطباء عن مفهوم موت القلب إلى مفهوم موت الدماغ مع اختلافات في مدى شدة القرائن التي يعتمدونها عند تقرير تلك النقطة، وهي هل وصل الشخص إلى نقطة اللاعودة؟ وهل أصبح من المستحيل بالوسائل الحاضرة إعادة أعضاء الجسم لتعمل سويا ولو لم تنته حالة الغيبوبة؟ وبنيت مثل هذه التقريرات على دراسة أعداد كبيرة من المصابين بتلك الحالة. والقرائن التي اعتمدت في المملكة تعتبر أقرب إلى القرائن الشديدة دفعا للخلاف ونفيا للاشتباه، فهي تعتمد وجود دليل سريري على توقف أعمال الدماغ بأكملها، ودليل مثبت أيضا بتوقف النشاط الكهربائي لخلايا قشر الدماغ أو انقطاع جريان الدم إلى الدماغ، تدل الدراسات إلى أن من تحققت فيه هذه القرائن جميعا فإنه لو استمر دعم قلبه بالأدوية ودمه بالأوكسجين عن طريق المنفسة فإنه صائر إلى الوفاة بتوقف القلب أو فشل الأجهزة الأخرى في الجسم في بضعة أيام نادراً ما تمتد إلى بضعة أسابيع.
وكل الدراسات للتحقيق في موت الدماغ تعتمد على إثبات هذه النقطة، وهي وصول المصاب إلى نقطة اللاعودة واليأس من استمرار الحياة بسبب التلف الشامل في الدماغ. والقرائن طبعا تختتم باختبار نهائي لمعرفة قدرة المريض على إحداث أي حركة تنفسية إذا ما أوقف منه جهاز المنفسة.(37/4)
لكن السؤال ذا الأهمية الكبرى من الناحية الشرعية يتعلق بتوقيت الوفاة هل يحكم بتوقيت الوفاة من بدء اعتماد المريض على المنفسة أم حين استكمال الفحوص المثبتة لوفاة الدماغ أو بعد توقف القلب نهائيا عقيب سحب الأجهزة المساعدة؟
فإذا استعرضنا هذه الخيارات الثلاثة لوجدنا ما يلي:
1 ـ اختيار بدء الغيبوبة واعتماد المريض على المنفسة: يبرز هذا الخيار من الناحية المنطقية أنه يتزامن مع بدء الحالة النهائية وعدم خضوعه للتغير الناتج عن التأخر في استكمال الفحوص المثبتة. ويعارض بأن الوفاة الدماغية قد تتطور في أثناء وجود المريض في حالة الغيبوبة وتحت المنفسة وبذلك يكون التحديد غير دقيق.
2 ـ اختيار استكمال الفحوص المثبتة لوفاة الدماغ: يبرر هذا الخيار أنه دقيق التحديد ويتزامن مع الوقت الذي تحقق فيه الأطباء من الحالة. لكنه يعارض بأنه يمكن تأخيره رغبة أو اضطرارا مما قد يثير النزاع أو الشك.
3 ـ الخيار الثالث وهو انتظار توقف القلب: قد يبرره أنه يعتمد على إحدى القرائن التي اكتسبت ثقة على مر الأزمان، ولكن يعارضه أنه يجعل من عملية تقرير وفاة الدماغ عبءاً وأنه يفسد احتمالات نقل الأعضاء كالكبد والقلب.
ويبدو أن الخيار الثاني هو الأقرب إلى الواقع والمنطق.
فقد استبعدت في مقالي هذا تفاصيل كيفية التثبت من موت الدماغ وذلك لأنها معروفة لدى الاختصاصيين ومتداولة في الكراسات التي توزع مع الاستمارات الخاصة بها في وحدات العناية المركزة.
الرئيس الدكتور خيري السمرة: شكرا للأخ الدكتور محمد زهير القاوي والحقيقة أضاف لنا الكثير من المعلومات وأجاب على كثير من الاستفسارات وأود أن أقول بأنه كلما تقدم الوقت في هذه الندوة أشعر بالشكر الجزيل للدكتور عبدالرحمن العوضي والدكتور أحمد الجندي لاختيارهم هذه النخبة المتميزة من الأطباء المختصين، المتحدث الأخير في هذه الجلسة هو الأخ الدكتور محمود كريديه فليتفضل:(37/5)