خرج المعتمر فور انتهاء عمرته.
أقول: إذا اعتمر الإنسان متمتعاً أو غير متمتع وخرج من مكة فوراً فلا وداع عليه، وأما إذا أقام ولو ساعة أو ساعتين فعليه طواف الوداع حتى لو لم يبت بعد طواف الوداع، لا تشترون إلا حاجة
للبيت أو السفر- لا تجارة- وأنتم مارون في الطريق هذا لا بأس به.
س 1691: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: أنا حججت منذ ست سنين، ولم أطف طواف الوداع لأني لم أكن أعرف ورفقائي في الحج نووا نية طواف الإفاضة وطواف الوداع معاً، وأنا نويت فقط طواف الإفاضة ولم أتمكن بعدها من طواف الوداع، لم أعرف إلا بعد أن رجعت، وكان طواف الإفاضة عند السفر.
فأجاب فضيلته بقوله: إذا طفتم طواف الإفاضة عند السفر فإنه يكفي عن طواف الوداع، إذا طاف الحاج طواف الإفاضة عند السفر كفاه عن طواف الوداع.
س 1692: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يجوز لمن حج أن يوكل في الرمي أول مرة؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يجوز للحاج أن يوكل على أي شيء من النسك لا على الرمي ولا غيره سواء فريضة أو غير فريضة؛ لأن الله عز وجل يقول: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) (1) والرمي من الحج أما
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 196.(24/134)
إذا كان عاجزاً فإنه يوكل من يرمي عنه ولا حرج عليه سواء في الفريضة أو في النافلة لقوله تعالى: (فَأتَّقَوُأ اللَّهَ مَا أستَطَعْتمْ) (1) ولا بأس أن يوكل في الهدي في شرائه أو ذبحه.
س 1693: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: إذا أراد الإنسان العمرة وذهب إلى جدة ولديه هناك شغل يومين أو ثلاثة فكيف يعمل بالنسبة للإحرام؟
فأجاب فضيلته بقوله: لابد أن يحرم من الميقات، حتى لو أراد البقاء في جدة عدة أيام والمسألة يسيرة يحرم من الميقات وينزل إلى مكة ويقضي عمرته ويرجع في خلال ثلاث ساعات، وإلا يبقى في إحرامه في جدة مهما طالت المدة ثم إذا نزل إلى مكة أتم عمرته.
السائل: هل تصح الوكالة في الطواف؟
الشيخ: لا تصح الوكالة في الطواف، ولهذا لما قالت أم سلمة أنها تريد أن تطوف وكانت مريضة أمرها الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن تركب وأن تطوف من وراء الناس وهي راكبة، ولو حصل عليه مشقة من الطواف يُحمل.
س 1694: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: القارن إذا أدى العمرة هل يحلق أم لا؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يحلق، لكن الأفضل أن القارن
__________
(1) سورة التغابن، الآية: 16.(24/135)
يحول قرانه إلى عمرة ليصير متمتعاً.
القارن إذا وصل إلى مكة يطوف ويسعى ويبقى على إحرامه إلى يوم العيد، نقول له: الأفضل إذا طفت وسعيت أن تقصر وأن تحل، وإذا كان يوم ثمانية تحرم بالحج، هذا هو الأفضل.
وإذا بقي على قرانه فلا يحلق، ولكن الأفضل أن يكون متمتعاً وليس هناك فرق بينهما من جهة الهدي كلهم عليهم هدي، فأنت اختر الأفضل وهو التمتع.
س 1695: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل جاء من اليمن بعمرة ونيته أن يحج لنفسه، لما وصل مكة حصل حجة بفلوس، فأحرم من مكة بدون ما يرجع للميقات، وهو أتى بعمرة من
قبل من الميقات وتحلل منها، وحج من مكة لغيره، وهو قد حج لنفسه من قبل؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان قد أتى بعمرة من الميقات وتحلل منها وحج من مكة لغيره وكان قد حج لنفسه من قبل فلا مانع.
س 1696: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: أنا امرأة وأخي يشتغل في جيزان وأرغب في الحج معه فهل يصح أن أذهب من الرياض إلى جدة ويقابلني هناك في جدة؟(24/136)
فأجاب فضيلته بقوله: لا، هو إن شاء الله يأتي من جيزان إلى الرياض وتسافرين معه جميعاً.
س 1697: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: أنا أشتغل مع أناس فجئت معهم من مصر وليس معي محرم فهل سفري هذا حرام؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم، والله هذا حرام.
السائلة: وهل إقامتي عندهم حرام؟
الشيخ: لا يحل للمرأة أن تسافر إلا بمحرم سواء كان للحج أو للعمرة أو لغير ذلك.
السائلة: أنا سافرت معهم للعمرة في رمضان فهل يصلح؟
الشيخ: لا، ما يصلح- بارك الله فيك- لكن عليك الآن أن تتوبي إلى الله عز وجل عن هذا وأن تعلمي أنه لا سفر للمرأة إلا بمحرم كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما صح عنه، أما عمرتك فصحيحة إن شاء الله.
س 1698: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: يوجد أناس ينظمون حملات للحج فهل يصح أن أذهب معهم وأتقابل هناك مع محرمي الذي سيأتي من جيزان؟
فأجاب فضيلته بقوله: أبداً، خلي المحرم الذي في جيزان يأتي واذهبي معه.(24/137)
س 1699: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل الحبوب التي تمنع الدورة حرام؟
فأجاب فضيلته بقوله: الحبوب التي تمنع الدورة ثبت عندي من طرق متعددة عن الأطباء أنها مضرة، وأنها بالنسبة للمرأة التي لم تتزوج ربما تؤدي إلى العقم وعدم الولادة وهذا شيء يضر، فالذي
أنصح به نساء المؤمنين أن يتجنبن هذه الحبوب، اللهم إلا عند الضرورة القصوى وبعد مراجعة الطبيب.
س 1700: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: أرجو أن تبينوا باختصار أنواع النسك التمتع والإفراد والقران؟
فأجاب فضيلته بقوله: أنواع النسك ثلاثة: التمتع والإفراد والقران، التمتع معناه: أن يحرم أولاً بالعمرة في أشهر الحج التي أولها شهر شوال، ويأتي بها كاملة ويتحلل ثم يحرم بالحج في نفس السنة،
وسمي تمتعاً لأن الإنسان يتمتع فيما بين العمرة والحج بما أحل الله له.
وأما القران: فأن يحرم بالعمرة والحج جميعاً، أو يحرم بالعمرة أولاً ثم يدخل الحج عليها قبل أن يشرع في طوافها.
وأما الإفراد فأن يحرم بالحج مفرداً.
التلبية في النوع الأول أن يقول: لبيك عمرة، فإذا شرع في الطواف قطع التلبية، وإذا أحرم بالحج في اليوم الثامن قال: لبيك حجًا.(24/138)
والتلبية في النوع الثاني أن يقول: لبيك عمرة وحجاً.
والتلبية في النوع الثالث أن يقول: لبيك حجًّا.
س 1701: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: بالنسبة للرمي والحلق والتقصير هل يجوز حل الإحرام بعدهما مع العلم أنه لم يطف طواف الإفاضة في يوم العيد؟
فأجاب فضيلته بقوله: في يوم العيد يفعل الإنسان خمسة أنساك:
رمي جمرة العقبة، ثم النحر، ثم الحلق أو التقصير، ثم الطواف، ثم السعي بالنسبة للمتمتع مطلقاً، وبالنسبة للقارن والمفرد إن لم يكونا سعيا بعد طواف القدوم، فإذا رمى الإنسان يوم العيد جمرة العقبة وحلق أو قصر حل التحلل الأول، وإذا طاف وسعى مع الحلق أو التقصير والرمي فإنه يحل التحلل الثاني.
س 1702: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: على من يجب طواف الإفاضة؟ وهل هناك سعي بعد الطواف يوم النحر؟
فأجاب فضيلته بقوله: ذكرنا أن المتمتع عليه سعي ولابد، وأما القارن والمفرد فإن سعيا بعد طواف القدوم لم يعيدا السعي مرة ثانية وإلا سعيا بعد طواف الإفاضة.(24/139)
س 1703: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يجوز تأخير طواف الإفاضة مع طواف الوداع؟
فأجاب فضيلته بقول: يجوز ذلك يعني أنه يجوز أن يؤخر الإنسان طواف الإفاضة عند خروجه، فإذا طاف للإفاضة أجزأه عن طواف الوداع، كما تجزئ الفريضة عن تحية المسجد لمن صلى الفريضة حين دخول المسجد.
س 1704: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: أيها أفيد للمرأة أن توكل بالرمي أم ترمي بنفسها مع العلم أن هناك مشقة بالنسبة للمرأة كما تعلمون؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يجوز للمرأة ولا لغير المرأة أن توكل في الرمي مادامت قادرة عليه، لأن الله تعالى يقول: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) (1) والرمي كما نعلم جميعاً جزء من أجزاء الحج فيجب على القادر أن يقوم به ولا يحل له أن يوكل، سواء كان رجلاً أو امرأة، وتهاون بعض الناس اليوم في ذلك لا شك أنه خطأ، وأنه كما لا ينيب الإنسان أحداً في المبيت عنه في المزدلفة، أو في المبيت عنه في منى، أو في السعي عنه فإنه لا يجوز أن ينيب في الرمي، ولولا أنه روي عن الصحابة- رضي الله عنهم- أنهم كانوا يرمون عن الصبيان لولا ذلك لقلنا: إن من عجز عن الرمي فإنه لا ينيب أحداً بل يسقط عنه كغيره من الواجبات التي يعجز عنها، إذاً
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 196.(24/140)
فالأمر ليس بذاك الهين كما يتصوره بعض الناس بالنسبة للرمي، وأما الزحام فكما نعلم جميعاً فهو موجود في الطواف، وموجود في السعي، مع أنه يمكن التخلص من الزحام بأن ترمي المرأة أو من
كان غير نشيط في الليل، ولهذا لم يرخص النبي - صلى الله عليه وسلم - لضعفة أهله أن يوكلوا بل أمرهم أن يتقدموا في آخر الليل في ليلة المزدلفة حتى يرموا قبل حطمة الناس.
المهم أني أريد منك أن تعرف أنت ومن سمع بأنه لا يجوز أن نتهاون في الرمي وأن هناك متسعاً لفعله في الليل بدلاً من النهار، وأما رمي جمرة العقبة يوم العيد فإنه جائز لكن لم تثبت السنة بتقييده بنصف الليل، وإنما جاءت السنة بأنه في آخر الليل أو في السحر وكانت أسماء بنت أبي بكر- رضي الله عنها- تنتظر غروب القمر فإذا غاب القمر دفعت من مزدلفة، ومعلوم أن غروب القمر في الليلة العاشرة لا يكون إلا حوالي ثلثي الليل، والحاصل أنه من كان يخشى من الزحام فإنه لا حرج عليه أن يدفع من مزدلفة في آخر الليل ليلة العيد ويرمي الجمرة إذا وصل، وإذا شاء أن ينزل إلى مكة
ويطوف ويسعى فله ذلك.
س 1705: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: نحن في جدة وقد نحج نافلة فهل يجوز أن ننزل جدة بعد رمي جمرة العقبة والقص بغرض تغيير الملابس ثم نعود إلى مكة؟(24/141)
فأجاب فضيلته بقوله: لا شيء في ذلك، لكن الأفضل لجميع الحجاج أن يبقوا يوم النحر وفي أيام منى أن يبقوا في منى ليلاً ونهاراً.
س 1706: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: أنوي الحج متمتعاً وأرغب في أداء العمرة قبل الزحام يوم (5) أو (4) ثم أرجع بلدي ثم أعود يوم (8) أو (7) للحج هل يجوز هذا؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا ليس فيه بأس، لا حرج على الإنسان أن يأتي بالعمرة في أشهر الحج ثم يرجع إلى بلده ثم يأتي بعد ذلك للحج، وإن بقي في مكة فهو أكمل.
س 1707: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: لو أحرمت ونزلت على جدة مع الحملة بالسيارات وأمر على وادي السيل متجهاً إلى مكة للعمرة ثم البقاء في مكة هل هذا أفضل؟
فأجاب فضيلته بقوله: على كل حال لا يمكن أن تتجاوز الميقات حتى تحرم مادمت قد أردت الحج أو العمرة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما وقت المواقيت قال: "هن لهن ولمن أتى عليهم من غير أهلهن ممن أراد الحج أو العمرة" (1) .
فتحرم من وادي السيل وتنزل مكة وتقضي العمرة فتخرج إلى جدة
__________
(1) تقدم تخريجه ص 125.(24/142)
السائل: هل يمكن أن أنزل جدة ثم آتي منها إلى مكة في حافلة بسبب منع السيارات الصغيرة؟
الشيخ: وهو كذلك.
س 1708: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: نوينا الحج هذا العام أنا والعائلة ومعنا طفلة صغيرة عمرها عشرة أشهر فهل على هذه البنت ما على الحاج من تغطية الشعر؟
فأجاب فضيلته بقوله: أبداً ليس عليها شيء، وأرى أنكم لا تخلوها تحرم لأن فيه مشقة عليكم وعليها، وتعرف أن هذه المواسم فيها زحام شديد وتعب، والحمد لله مادام لم يجب عليها الحج بعد
فلا يلزم، ويمكن أن تصطحبوها معكم بدون إحرام، ولا أشير عليكم بالإحرام لها لأنه يترتب عليها طواف وسعي ورمي جمرات كما أنها لا تعقل النية، وإذا كانت كذلك فإن أهل العلم يقول بعضهم يلزم أن يطوف الولي لنفسه أولاً ثم يطوف بها ثانية أو يستأجر واحداً يطوف بها ويمشي معها.
السائل: ولو كانت الطفلة متبولة أو متبرزة ولكنها محفظة فهل يجوز الطواف بها؟
الشيخ: لاشيء في ذلك أبداً.
س 1709: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: إذا حبس المرأة(24/143)
الحاجة الحيض يوم وقفة عرفة أو قبل الوقفة بيوم وهي لم تطف بالبيت ولم تسع بين الصفا والمروة؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذه إذا مررتم بالميقات وعليها العذر (أي الحيض) تحرم كما تحرمون، فإذا وصلت إلى مكة فإن طهرت قبل الطلوع فإنها تؤدي العمرة تطوف وتسعى وتقصر وتحل، وإن
جاء وقت الخروج إلى منى وهي على حيضها فإنها تدخل الحج على العمرة وتكون قارنة، ويلزمها بعد الوقوف بعرفة طواف واحد وسعي واحد تنويهما عن الحج والعمرة جميعاً، وهذا بعد وقفة
عرفة يعني يوم العيد، وعليها هدي القران.
س 1710: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يجوز لمن حاضت أيام التشريق أن تطوف طواف الوداع؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا حاضت المرأة بعد أن طافت طواف الإفاضة فإنها تخرج بدون وداع مادام جاء وقت السفر وعليها الحيض، وقد أدت طواف الإفاضة يعني طواف الحج فإنها تخرج بدون وداع.
س 1711: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: حالياً نسمع أن طاعة أولي الأمر واجبة وزوجتي حجت منذ سنتين وترغب في الحج هذا العام وإقامتها لم تختم ختم الحج فهل في هذا مخالفة شرعية؟(24/144)
فأجاب فضيلته بقوله: هذا شيء يرجع إلى نظام الدولة، وأنتم بينوا للمسؤولين الأمر على وجهه فإذا بينتم الأمر على وجهه فسيجعل الله لكم من أمركم يسراً، كل إنسان يبين الأمور على وجهها ويوضحها فالله ييسر أمره.
السائل: من هم المسؤولين؟
الشيخ: هم الذين ينظرون في الجوازات.
س 1712: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: المفرد بالحج هل يجوز له دخول مكة قبل الإحرام؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يجوز له لأنه إذا مر الإنسان بالميقات وهو يريد الحج أو العمرة وجب عليه أن يحرم من الميقات.
س 1713: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما هي أعمال الحاج المفرد؟
فأجاب فضيلته بقوله: أول ما يصل مكة يطوف طواف القدوم ويسعى للحج بعد طواف القدوم ويبقى على إحرامه إلى يوم العيد، ويكفيه السعي الأول عن السعي بعد طواف الإفاضة.
السائل: هل يجوز أن يعتمر من التنعيم بعد أن يتحلل من الحج؟
الشيخ: يكفي الحج.(24/145)
السائل: وإذا أراد أن يعتمر عن والده أو والدته مثلاً؟
الشيخ: لا، والدته ووالده الأحسن أن يدعو لهما في عرفة وفي مزدلفة وعند الجمرات في أيام التشريق.
س 1714: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يجوز النقاب (غطاء الوجه) للمرأة في الحج؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يجوز أن تنتقب، ولكن إذا مر من عندها رجال أجانب يعني غير محارم وجب عليها أن تغطي وجهها فإذا كانت تطوف، أو تسعى، أو تذهب لرمي الجمرات، أو في
الطريق فيجب عليها أن تغطي وجهها، أما إذا كانت في الخيمة مع زميلاتها فلا يجوز أن تنتقب، والله أعلم.
س 1715: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يجوز أن يعتمر عمرة ويهبها لشخص متوفى لم يؤد فريضة الحج ولا العمرة في حياته، وهذا الواهب قد أدى فريضة الحج والعمرة عن نفسه؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا حرج، ما فيه مانع، امرأة جاءت إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت فأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تحج عن أمها لما ماتت.
س 1716: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يجوز الرجوع(24/146)
للسكن أثناء النهار في منى ثم العودة للمبيت بها فقط؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا ليس فيه شيء. الذي يذهب في النهار إلى سكنه ويرجع في الليل إلى منى ليس عليه شي؛ لأن الواجب أن يبيت في منى وقد حصل، ولكن الأفضل والأكمل أن يبقى الإنسان في منى في كل أيام الحج؛ لأن هذا هو فعل النبي عليه الصلاة والسلام، والإنسان ما ترك بلده وعمله وجاء إلى هذه المشاعر إلا يرجو ثواب الله عز وجل ويقتدي بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، فالأفضل أن يبقى في منى حتى ينتهي الحج.
س 1717: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل كبير مسن أوصله السائق في يوم العيد بعد النزول من المزدلفة إلى الحرم وتركه هناك فبات به اليوم الأول يوم العيد وهو لا يعرف؟
فأجاب فضيلته بقوله: عليه أن يتصدق بشيء، بما شاء، عشرة ريالات، عشرين ريالاً أو ما أشبه ذلك، ولا يعود، ما عليه إلا هذا، لأنه ما يعرف، ولأن ترك الليلة الواحدة من منى ما فيه دليل
على أنه يجب فيه شاة، فيتصدق بالميسور.
س 1718: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يجوز لي أن أرمي ليلاً مع العلم أن زوجي سيكون معي لأنه يرفض أن يذهب مرتين في الصباح ثم في الليل؟(24/147)
فأجاب فضيلته بقوله: لا مانع، ترميان جميعاً في الليل.
س 1719: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: أريد أن أعمل عمرة في أشهر الحج ثم أسافر إلى القاهرة ثم أرجع لكي أحج فهل يكون حجي تمتعاً أم غيره مع العلم أنني سأحرم من هناك بالحج فهل العمرة السابقة تعتبر عمرة التمتع؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا، لأن التمتع الذي فيه الهدي يشترط ألا يرجع الإنسان إلى بلده، فإن رجع الإنسان إلى بلده ثم عاد محرماً بالحج فليس عليه هدي.
س 1720: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: أنا بيتي في جدة، ولذا فسأرجع من القاهرة إلى جدة ثم أحرم من بيتي في جدة هل يجوز أم ينبغي أن آتي محرمة من القاهرة؟
فأجاب فضيلته بقوله: إن أحرمت بعد رجوعك من القاهرة بتمتع، أو قران فعليك الهدي.
س 1721: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: في رمضان هل يصح أن أفصل بين طواف العمرة والسعي حوالي ثلاث ساعات بغرض الإفطار مثلاً؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا مانع، الموالاة بين الطواف والسعي(24/148)
أفضل ولكن لو لم يوال بينهما فلا شيء عليه.
س 1722: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: أفضل أن أحلق رأسي للتحلل من العمرة اتباعاً للرسول - صلى الله عليه وسلم - لكن والدي يعارض فهل أطيع والدي، وحجته أن هذا يشوه شكلي؟
فأجاب فضيلته بقوله: أعوذ بالله، افعل الأخير واقنع الوالد، ولا تطعه في ترك الطاعة إلا إذا كان هناك ضرر عليه هو، وهنا لا ضرر عليه، فالطاعات إما واجبة أو مستحبة، فالواجبة لابد من
تنفيذها رضي أم لم يرض، والمستحبة انظر الذي ترى أنه أصلح ولكن لا يلزمك أن تطيع والديك في ترك المستحب إذا لم يكن عليه ضرر، والحلق في الحج أو العمرة مستحب إلا المتمتع إذا قدم مكة
متأخراً فالتقصير في حقه أفضل ليبقى في رأسه شعر للحج.
س 1723: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: حججت العام الماضي قارناً وأديت أعمال الحج غير أني لم أعرف أن على المقرن هدي فلم أذبح هدياً فماذا أفعل الآن؟
فأجاب فضيلته بقوله: اذبح الهدي هناك في مكة، ولا حرج في أن توكل شخصاً يذبح عنك هذا الهدي، ويأكل منه، ويتصدق، ويهدي، وإذا لم يأكل منه بل وزعه كله على الفقراء فلا حرج.(24/149)
س 1724: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: من المتبع عند بعض الناس أن يوكل شخصاً يحج عن فلان المتوفى لقاء مبلغ معين من المال فهل يصل ثواب الحج للميت مع العلم أن هذا الحج نافلة؟
فأجاب فضيلته بقوله: حج النافلة يرى بعض العلماء أن النافلة لا يحج فيها أحد عن أحد، ويقول إن الذي ورد فيه الحديث إنما هو الفريضة، ويفرق بين الفريضة والنافلة بأن الفريضة لابد من فعلها بخلاف النافلة، وعلى هذا فإن الإنسان قد يتوقف في جواز حج النافلة عن الميت، وقد يقول قائل: مادام عملاً صالحاً قام به مسلم بنية أنه لشخص مسلم فإن هذا لا بأس به، ولو كان بمبلغ معين
لا حرج.
السائل: وهل الذي أوصى بذلك له أجر؟
الشيخ: نعم إن شاء الله له أجر؛ لأنه أوصى بفعل خير، كما لو أوصى أن يتصدق عنه أو ما أشبه ذلك.
س 1725: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يكبر الإنسان بعد الانتهاء من الطواف أي بعد الانتهاء من الشوط السابع؟
فأجاب فضيلته بقوله: التكبير مشروع في أول الشوط، وعلى هذا يكون آخر الشوط ليس فيه تكبير عند مرورك بالحجر.
أولاً: لأن السنة إنما وردت بالتكبير عند أول الأشواط.
الثاني: أنه في آخر شوط ينتهي الطواف عند محاذاة الحجر(24/150)
وحينئذ فلا تكون مررت به.
س 1726: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: بعد الانتهاء من العمرة وحلق الرأس بالمكينة هل يعتبر هذا حلق أو تقصير؟
فأجاب فضيلته بقوله: الظاهر أنه تقصير حتى لو كانت المكينة تأخذ شيئاً كثيراً، وأن الحلق يختص بالحلق بالموس.
س 1727: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: إذا قدم أحدنا من اليمن وعمل بالسعودية مدة سنة أو أكثر وأراد أن يحج فهل حجه صحيح؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم يكون حجه صحيح.
السائل: بعض الناس يقولون: لا يصح حجه إلا إذا أتى من بلاده مباشرة؟
الشيخ: لا، هذا غلط، وليس بصحيح.
س 1728: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: قدمت إلى المملكة للعمل ونويت أني إذا اشتغلت وحصلت على فلوس أن أحج من فلوسي ولكني مرضت وصرفت نقوداً للعلاج، وأيضاً علي دين في البلاد فهل أبدأ بقضاء الدين أم أحج؟ مع العلم أن الدين لوالدتي وزوجتي وقد استأذنت والدتي في الحج فوافقت بشرط أن(24/151)
أجد رفيقاً؟
فأجاب فضيلته بقوله: اقض الدين أولاً ثم حج، وإذا وافقت كل من والدتك وزوجتك لك بالحج قبل وفاء الدين فلا مانع من الحج، أما إذا طالبتك إحداهما بالدين فأعطها أولاً لأن الدين مقدم
على الحج.
س 1729: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: عندما يعود الحاج يقومون بذبح ذبيحة له أمام باب البيت يقولون لا يمر الحاج يدخل البيت إلا على دم؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا غلط ما يصلح، هذه عقائد فاسدة.
السائل: وفي الليلة الثانية يجتمعون في بيته ويقومون بأداء مولد يسمونه مولد حجازي، ويعملون له مولد ميرغني، ثم يقومون بترديد أناشيد وتوسلات ومدح ويضربون بالدفوف ويتمايلون وينحبون نحباً يسمونه.
الشيخ: هذا كله خطأ أيضاً، ونصيحتي لهؤلاء أن يدعوا ذلك، وأن يقتصروا على الترحيب بالقادم، ويسلمون عليه سلاماً عادياً.
س 1730: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: في العام الماضي حججت ورميت جمرة العقبة صباح العيد وثاني يوم لم أرم الجمرات(24/152)
الثانية بسبب الزحمة ورميت ثالث يوم، وأريد الحج هذا العام أيضاً فهل حج هذا العام يجبر ذلك؟ وما هو الحكم؟
فأجاب فضيلته بقوله: في العام الماضي عليك فدية تذبحها في مكة وتوزعها على الفقراء حيث إنك تركت الرمي ويتم حجك، وأما حج هذا العام فلا يجبره بل هو حج مستقل يكون لك نافلة.
السائل: أنا فقير ما أقدر.
الشيخ: مادام ما عندك فلوس فيكفي أن تتوب إلى الله عز وجل.
س 1731: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: اعتمرت قبل فترة أحرمنا وطفنا وسعينا وحللنا وأقمنا ثلاثة أيام في مكة، وجامعت زوجتي بعد حل الإحرام فهل علي في ذلك شيء؟
فأجاب فضيلته بقوله: أبداً، لا شيء عليك مادام أنك طفت وسعيت وقصرت يحل لك كل شيء.
السائل: وقيل لي أن طواف الوداع لا يلزم أن تحرم ويمكن أن تطوف لو بثيابك؟
الشيخ: نعم صحيح.
س 1732: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يجوز للرجل المحرم أن يلبس حزام على وسطه به مخيط؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم يجوز أن يلبس الحزام لو كان فيه(24/153)
خياط، وكذلك الساعة إذا فيها مخيط؛ لأن المخيط عند العلماء هو الثياب المعروفة هذه القميص والفنيلة وما أشبه ذلك، ليس المخيط هو الذي فيه خياط.
س 1733: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: إذا تجاوز الحاج أو المعتمر الميقات ولم يحرم فهل عليه أن يرجع ويحرم من الميقات أم يحرم من مكانه؟ وهل عليه دم في هذه الحالة أم لا؟ مع العلم أنه لا يستطيع الرجوع للميقات؟
فأجاب فضيلته بقوله: يجب عليه أن يرجع إلى الميقات ويحرم منه، وإذا لم يستطع أحرم من مكانه وعليه فدية يذبحها في مكة ويوزعها على الفقراء.
فهذه ضرورة حيث لم يستطيع أن يعود إلى الميقات فيحرم من مكانه ويجبر هذا بدم يذبحه في مكة ويوزعها على الفقراء.
س 1734: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: امرأة ملبية بالعمرة في رمضان، سكبت إحداهن على ثيابها طيباً، وذلك بعد أن نوت العمرة ولبت؟
فأجاب فضيلته بقوله: الواجب عليها إذا كبت عليها الطيب أن تغير ثيابها فوراً وإذا كانت لا تدري فليس عليها شيء.(24/154)
س 1735: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: شخص حج لكنه بعد الحج كان يترك الصلاة كثيراً ثم تاب الآن وواظب على الصلاة فهل مفروض عليه أن يحج مرة ثانية أم تكفيه حجة الفريضة
الماضية؟
فأجاب فضيلته بقوله: حجه الأول صحيح ولا يلزمه حج آخر بل يسأل الله الثبات.
س 1736: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يجوز أن تذبح وأنت محرم؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم يجوز للمحرم أن يذبح الشاة والدجاجة وغيرهما ماعدا الصيد.
س 1737: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: الشهر الماضي ذهبت من الرياض إلى جدة وأحرمت من جدة فهل علي شيء؟
فأجاب فضيلته بقوله: عليك فدية تذبح في مكة وتوزع على الفقراء، لأن الواجب أن يحرم الإنسان من الميقات إذا مر به وهو يريد الحج أو العمرة.
س 1738: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل مفرد بالحج فهل عليه عمرة، وأدى العمرة مرات من قبل؟(24/155)
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان قد أدى العمرة سابقاً لم تلزمه عمرة ثانية.
س 1739: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل تتغطى المرأة في الحج؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم، لازم تتغطى في الحج إذا كانت تطوف وتسعى، لأن حولها رجال، أما في الخيمة فلا تغطي وجهها لأنه ليس عندها رجال، وإذا كانت خارجها في طواف أو سعي أو رمي جمرات لازم تغطي وجهها.
س 1740: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: يوم العيد طفنا ولم نسع وحجنا تمتع فهل علينا دم؟
فأجاب فضيلته بقوله: لازم تسعون، لأن المتمتع عليه طوافان وسعيان، طواف وسعي للعمرة، وطواف وسعي للحج.
والدم يوزع في مكة وليس في عرفة لأن عرفة خارج الحرم.
س 1741: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: نحن طالعين الحج مع حملة هل الأفضل أن أعطيهم فلوس الأضحية من هنا أو ما أضحي إلا هناك؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا، الأحسن ما تضحي إلا هناك إذا(24/156)
كنت تريد بالأضحية الهدي، ولا تعطهم الفلوس لأنه قد يذبحونها قبل أن يصلوا مكة.
السائل: سمعت يقولون أن الراجحي يأخذ فلوس ويضحي هناك.
الشيخ: نعم الراجحي لا بأس أعطه.
س 1742: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: غالبية الحجيج لا يقفون بالمشعر الحرام حال الرجوع من عرفات فما الحكم وبعضهم لا يبيت بالمزدلفة؟
فأجاب فضيلته بقوله: أما الأول فكل مزدلفة مشعر حرام؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف بعد أن صلى الفجر عند المشعر الحرام وقال: "وقفت هاهنا وجمع كلها موقف " (1) وجمع يعني مزدلفة، فإذا وقف الإنسان في أي مكان من مزدلفة من الشرق منها، أو الغرب، أو الجنوب، أو الشمال فقد حصل على الخير والأجر.
وأما ترك المبيت بها فهذا حرام لا يجوز، بل يجب على الإنسان أن يبقى في مزدلفة إلى آخر الليل على الأقل إلى أن يغيب القمر يعني حوالي ثلثي الليل وينصرف بعد ذلك إذا كان يخشى من
مشقة الزحام إذا تأخر، وإن كان قوياً يتحمل مشقة الزحام فإنه يبقى حتى يصلي الفجر، ثم يذكر الله عز وجل ويدعوه بما أحب، ثم
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب ما جاء أن عرفة كلها موقف (1218) (149) .(24/157)
ينصرف من مزدلفة إذا أسفر جداً، فحال الناس إذاً:
أولاً: من لم يبت بمزدلفة فقد أخطأ، وعليه فدية دم يذبحها في مكة، أو في منى ويوزعها على الفقراء.
ثانياً: من بات في مزدلفة إلى آخر الليل فإنه يدفع إذا كان يخشى من مشقة الزحام، وإن كان لا يخشى وكان رجلاً قوياً فالأفضل أن يبقى حتى يصلي الفجر ويدعو الله عز وجل حتى يسفر
جداً، ثم ينصرف فإن تيسر له أن يكون وقوفه عند المشعر الحرام فذاك، وإن لم يتيسر حصل له الأجر، ولو كان في مكانه، للحديث الذي ذكرناه قبل قليل وهو قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وقفت هاهنا وجمع كلها موقف " (1) .
س 1743: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: أنا حججت العام الماضي وعند رمي الجمرات سقطت مني حوالي أربع حصوات، وأنا راجع لقيت صديقاً فطلبت منه حصوات ورجعت كملت الرمي فهل هذا جائز؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا جائز، لا حرج، ولكن لو أخذت من مكانك لا مانع، وهذا الذي مضى إن شاء الله لا شيء فيه، لكن في المستقبل إذا سقطت منك حصاة، أو حصاتان، أو كل الحصى
فخذ مما تحت رجلك في المكان الذي سقط منك وأنت في مكانك خذ الحصى وارم به؟ لأن الحجر حجر سواء كان حول الجمرات،
__________
(1) تقدم تخريجه ص (157) .(24/158)
أو بعيداً عنها، ولا يؤخذ من مزدلفة، بل أخذه كله من مزدلفة ليس له أصل، لكن بعض السلف قد استحب أن يأخذه من مزدلفة لكي يبدأ برمي الجمرات بمجرد أن يصل إلى منى.
أما السنة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإنه لم يأخذ حصى الجمرات من مزدلفة، ولهذا أقول أيضاً خذ الحصى من منى وأنت ذاهب في طريقك إلى الجمرات، أو من خيمتك في منى، ولا حرج عليك في هذا.
س 1744: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: حججت في عام 1404 هـ أنا وزوجتي وكانت زوجتي حامل لا تستطيع أن ترمي الجمرات فوكلتني في الرمي عنها، وكان معنا شيخ كبير وزوجته وكلوني أيضاً في رمي الجمرات لهم، وفي اليوم الأول للرمي ذهبت إلى رمي الجمرات وأنا أنوى أن أرمي الصغرى فالوسطى فالكبرى، ولكني دخلت الساحة من تحت خطأ فرميت الكبرى فالوسطى فالصغرى ظناً مني أن الكبرى هي الصغرى فما الحكم؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان الذين وكلوك لا يستطيعون الرمي أبداً لا ليلاً ولا نهاراً فتوكيلهم هذا لا بأس به، إذا كان الإنسان لا يستطيع أن يرمي بنفسه لا ليلاً ولا نهاراً فإنه لا بأس أن يوكل من يرمي عنه، ولكن يرمي الوكيل عن نفسه أولاً فيقف مثلاً على الجمرة الأولى فيرمي سبعاً عن نفسه، ثم سبعاً عن موكله، ثم يرمي(24/159)
الوسطى سبعاً عن نفسه، ثم سبعاً عن موكله، ثم جمرة العقبة سبعاً عن نفسه وسبعاً عن موكله.
وأما الإنسان القادر على الرمي فإنه لا يجوز أن يوكل بل يجب أن يرمي بنفسه، فإن كان يشق عليه مزاحمة الناس فليؤخر الرمي إلى الليل، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأذن لضعفة أهله أن يوكلوا بل قدمهم ودفعوا من مزدلفة بليل لأجل أن يرموا جمرة العقبة، كذلك الرعاة الذين يرعون الإبل في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يأذن لهم أن يوكلوا من يرمي عنهم، بل أذن لهم ورخص لهم أن يرموا يوماً ويدعوا يوماً يرمونه مع اليوم الثالث، فتهاون الناس بالتوكيل في الرمي خطأ عظيم فإن الله يقول: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) (1) ومن إتمام الحج والعمرة أن يقوم الإنسان بجميع أجزائهما، ولا يحل له أن يوكل من يرمي عنه إلا إذا كان عاجزاً لا يستطيع لا ليلاً ولا نهاراً
كالشيخ الكبير والمريض والمرأة الحامل التي لا تستطيع أن ترمي. وأما مسألة الزحام فالزحام والحمد لله الآن وجد الجسر الذي يرمي الناس فيه من فوق ويمكن للإنسان أن يؤخر الرمي عن النهار
إلى الليل مثلاً يوم أحد عشر يؤخره إلى ليلة اثني عشر، ويوم اثني عشر لابد أن يرميه قبل أن تغرب الشمس إذا كان يريد أن يتعجل فإن كان يريد أن يتأخر فيرميه أيضاً ليلة ثلاثة عشر.
السائل: أنا رميت خطأ الكبرى فالوسطى فالصغرى ما الحكم؟
الشيخ: لم يصح، ما صح منه إلا رمي الأولى الصغرى، ولكن إذا
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 196.(24/160)
كان الإنسان جاهلاً ولا يدري فأرجو أن يكون رميه صحيحاً، وأنه لا شيء عليه.
س 1745: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: عن وقت الوقوف بعرفات هل يمكن أن يقف بالليل ليلة العاشر؟
فأجاب فضيلته بقوله: الأفضل أن يقف من بعد الظهر إلى غروب الشمس، والذي لم يدرك ذلك له إلى طلوع الفجر من الليلة العاشرة.
س 1746: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: الذي يحج عن ميت ما هو الدعاء الذي يقوله هل يدعو لنفسه أم يدعو للميت؟
فأجاب فضيلته بقوله: يدعو لنفسه وللميت في الطواف والسعي وغيره، وهذا أحسن لكي يكون نافعاً للميت الذي حج من أجله.
س 1747: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل للعمرة طواف وداع؟ وما الحكم لو تركه؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم للعمرة طواف وداع إلا إذا كان الإنسان من نيته أن يطوف ويسعى ويقصر ويمشي ومشى، فهذا لا وداع عليه اكتفاء بالطواف الأول، أما إذا أقام بعد الطواف والسعي(24/161)
فإنه لا يخرج حتى يطوف طواف الوداع لعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا ينفر أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت " (1) والعمرة حج أصغر كما في حديث عمرو بن حزم الحديث المشهور أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "والعمرة الحج الأصغر " (2) .
س 1748: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: سيدة مريضة ولا تستطيع أن تحج هل ينفع أن يحج عنها ابنها الفريضة؟
فأجاب فضيلته بقوله: أولاً: قلت إنها (سيدة مريضة) والذي ينبغي لنا أن نسمي النساء بأسمائهن فنقول (امرأة مريضة) أما إطلاق السيدة على المرأة فهذا جاءنا من الغرب، وليس من كلام الله
ورسوله أن تسمى المرأة سيدة، وإنما تسمى امرأة وأنثى وما أشبه ذلك، ونحن مسلمون والحمد لله ينبغي لنا أن نلتزم بالألفاظ التي جاء بها الشرع خصوصاً إذا كانت الألفاظ البديلة توحي بأمر يخالف
الشرع وهو تسويد المرأة وتقديمها على الرجال.
أما بالنسبة للسؤال فإن كانت المرأة هذه لا تستطيع الحج لكبر أو مرض لا يرجى برؤه فلا حرج أن يحج عنها ابنها إذا كان قد أدى الفريضة عن نفسه، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة من
خثعم أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إن أبي أدركته فريضة الله
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض (1327) .
(2) أخرجه ابن حبان كما في الموارد (793) والحاكم (1/395- 397) والدارقطني (1/121) ، والبيهقي (1/88) وصححه إسحاق بن راهويه والشافعي وابن عبد البر، انظر التلخيص الحبير (175) .(24/162)
على عباده في الحج شيخاً لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: "نعم " (1) .
س 1749: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: امرأة كبيرة في السن لا تستطيع الحج فهل يجوز لابنتها أن تحج عنها؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم يجوز أن تحج عنها بعد أن تؤدي الحج عن نفسها هي، فإذا كانت البنت لم تحج عن نفسها من قبل تبدأ بالحج عن نفسها أولاً ثم تحج عن أمها.
س 1750: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما هي الأدعية الواردة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في يوم عرفة؟
فأجاب فضيلته بقوله: الأدعية الواردة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كثيرة منها ذكر الله عز وجل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وقد ذكر ابن القيم- رحمه الله- جملة كثيرة منها في زاد المعاد فارجع إليها. وليس بلازم أن الإنسان يتقيد بما ورد، إن كان يدركه ويحفظه فذلك المطلوب، وإن كان لا يدركه فليدع بما شاء، وكل إنسان له حاجة في نفسه يرفعها إلى الله عز وجل ويدعوه ويسأله، لكن المهم هو صدق اللجوء إلى الله عز
وجل والافتقار إليه، وأن يدعو الإنسان بقلب حاضر وأن يؤمل الإجابة من الله عز وجل، وأن يشعر بأنه يناجي ربه سبحانه وتعالى
__________
(1) تقدم تخريجه ص 127.(24/163)
في ذلك الدعاء، وأن يحرص على أن يكون الدعاء في آخر النهار يتفرغ له تفرغاً كاملاً.
س 1751: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: عن قص الشعر بحج أو بغير حج؟
فأجاب فضيلته بقوله: الرجل في الحج يشرع له أن يحلق رأسه حلقاً كاملاً، فإن قصر من جميع الرأس أجزأه، لكن الحلق أفضل، أما المرأة فإنها تقصر من شعر رأسها بقدر أنملة، شيء يسير
قدر أنملة الأصبع من جميع ظفائر الرأس.
س 1752: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يجوز أن تدخل المرأة المسجد الحرام وعليها العادة؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يجوز أن تمكث المرأة في المسجد الحرام ولا في غيره من المساجد وهي حائض، أما تدخل مارة فتمر مروراً فلا بأس بذلك إذا أمنت تلويث المسجد، فإن كانت مع أهلها
وكان عليها العادة وأهلها دخلوا إلى المسجد فهي تبقى في المسعى تنتظرهم فيه.
س 1753: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رمي الجمرات هل يكون الرمي باليد اليمنى أم بالشمال؟(24/164)
فأجاب فضيلته بقوله: يكون باليد اليمنى أفضل لأنها عبادة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله، لكن إذا كان الإنسان أعسر يعني لا يعمل
بيده اليمنى وإنما يعمل بيده اليسرى فلا حرج عليه أن يرمي باليسرى.
السائل: والإشارة باليد عند تعسر استلام الحجر؟
الشيخ: أيضاً باليمنى، وكذلك استلام الحجر، واستلام الركن اليماني يكون باليمنى ما يكون باليسرى، والإشارة تكون باليمنى فقط، ولا تكون باليدين جميعاً، بل تكون بيد واحدة فترفع اليد
اليمنى فقط كأنك تشير إلى أحد تسلم عليه، والإشارة تكون إلى الحجر، أما الركن اليماني فلم يرد فيه إشارة.
س 1754: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: أديت فريضة الحج منذ سنتين وأنا الآن في مكة، وقد أديتها متمتعاً، وذبحت هدياً ولكني بعد طواف الإفاضة لم أسعَ فما الحكم؟ والآن عملت عمرة
في مكة وتمتعت للحج الثاني والسبب في أنني لم أسع هو أنني فهمت خطأ من الكتاب لأنه قال (تطوف طواف الإفاضة ثم تذهب إلى منى) .
فأجاب فضيلته بقوله: كان ينبغي أن تسأل. المهم عليك أن تسعى الآن مادمت في مكة، تسعى السعي الذي تركته في حجتك(24/165)
الأولى وتتوب إلى الله عز وجل ولا تتعود، يجب على الإنسان أن يسأل عن دينه مبادراً بذلك.
على كل حال ما قلت (من أنك جاهل بالحكم ولم تكن مهملاً) يرفع الله به الأثم إن شاء الله، والآن عليك أن تقضي السعي الذي تركته في الحجة الأولى بملابسك العادية، وكذلك من كان معك من أهلك إذا كانوا لم يسعوا.
يقول النبي عليه الصلاة والسلام: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها" فأنتم الآن تركتم السعي جهلاً وعلمتم الآن فأتوا به، وما عليكم إلا أن تتوبوا إلى الله بتأخير السؤال، الذي ينبغي أن تسألوا في وقته.
س 1755: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: جاءت والدتي من مصر في شهر ذي القعدة الحالي ونزلت في مطار جدة وأحرمت من جدة وعملت عمرة والآن هي في زيارتنا في الرياض وتريد أن تحج هذا العام إن شاء الله فهل عليها هدي لأنها عملت عمرة في أشهر الحج وهي حينما جاءت من القاهرة كانت تنوي الحج في هذا العام؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم عليها الهدي؛ لأنها متمتعة، وعليها أيضاً فدية دم تذبحها في مكة وتوزعها على الفقراء لترك الإحرام من الميقات؛ لأنها ما أحرمت إلا من جدة، كان يجب عليها أن تحرم من محاذاة أول ميقات تمر به في الطائرة.(24/166)
س 1756: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل سوداني مقيم في الرياض عمل عمرة في الأسبوع الماضي ورجع إلى الرياض ويريد الحج هذا العام هل عليه هدي لأنه عمل عمرة في أشهر الحج كذلك، ولما أتى بالعمرة نيته أن يحج؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذاً الأحوط أن يذبح الهدي؛ لأن الرياض ليست بلده، والمتمتع إذا سافر بين العمرة والحج لغير بلده فإنه يبقى على تمتعه ويجب عليه الهدي، أما لو رجع إلى بلده ثم أنشأ السفر من بلده بالحج فقط فهو مفرد ولا هدي عليه، كما لو كان واحد من أهل الرياض مثلاً أتى بعمرة في أشهر الحج وقد نوى أن يحج هذا العام ثم عاد إلى الرياض ثم رجع من الرياض بحج فقط
فهو مفرد ولا هدي عليه لأنه أنشأ سفراً جديداً للحج، أما السوداني المقيم في الرياض فإن الرياض لا تعتبر بلده ولذلك قلت لك أن الأحوط أن يذبح الهدي لأنه متمتع.
س 1757: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: أنوي إن شاء الله الحج هذا العام ووالدي ووالدتي متوفية، وأنا حججت عن نفسي فهل أحج عن الوالد أو أحج عن الوالدة وكلاهما لم يحج الفريضة؟
فأجاب فضيلته بقوله: ابدأ بالأم أولاً؛ لأن بر الأم مقدم على بر الأب.(24/167)
س 1758: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: بالنسبة لميقات أهل المدينة هل يجوز لي أن أحرم من المدينة أو من أبيار علي؟
فأجاب فضيلته بقوله: الأفضل أن تحرم من أبيار علي لأنه الميقات الذي وقته النبي - صلى الله عليه وسلم -، تخرج من المدينة وتنزل في أبيار علي وتغتسل ثم تحرم من هناك أفضل، وإذا كنت تخشى من الزحام والضيق واغتسلت في المدينة وخرجت إلى أبيار علي ولبست إحرامك هناك وأحرمت فلا حرج.
س 1759: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: بالنسبة للصلوات التي تصلى في المدينة هل يجب أن تكون خمس صلوات أم أقل؟
فأجاب فضيلته بقوله: أبداً ليس لها أصل، ولا يلزم أن تكون خمس صلوات، صل صلاة واحدة أو ثنتان أو خمس أو عشر حسب إقامتك في المدينة وليس هناك شيء محدد.
س 1760: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: أنا معي زوجتي وطفلة صغيرة عمرها أربعة شهور هل يجوز أن توكلني زوجتي في رمي الجمار؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان لا يمكنها أن ترمي هي فلها أن توكلك، وأما إذا كان يمكنها أن ترمي ولو في الليل فلترم هي.
بالنسبة للطفلة لا تحرم لأن إحرامها الآن فيه مشقة عليكم(24/168)
وعليها، تعرف زحام وهذا الأمر ليس بواجب والحمد لله.
س 1761: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل أثناء الحج وقبل أن يذهب إلى عرفات حصلت له حادثة فلم يستطع صعود جبل عرفات فما الحكم في ذلك مع أنه وصل عرفات؟
فأجاب فضيلته بقوله: استمع بارك الله فيك، الصعود إلى جبل الرحمة كما يسمونه- جبل الرحمة- غير مشروع وليس هو مسنون، وليس عليه شيء إذا لم يصعد، وأقول لك: لا تصعد إلى الجبل؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصعد إلى الجبل، إنما الجهال الذين لا يعرفون هم الذين يقولون يجب صعوده، ولو سألتني هل الأفضل أن أصعد الجبل أو ما أصعد؟ لقلت لك الأفضل ألا تصعد، ومتى وصل أرض عرفات يكفي فيقف هناك ولو بقي فيها في السيارة.
س 1762: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: حججنا قبل خمس سنوات وجلسنا في عرفات إلى الساعة التاسعة بسبب الزحام ولم نصل المغرب وذهبنا إلى مزدلفة ولم نصلها إلا الساعة الواحدة ليلاً هل علينا شيء؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا حصل هذا وخفتم أن ينتصف الليل فصلوا في مكانكم في عرفة أو في غيرها؛ لأنه لا يجوز أن تؤخر صلاة العشاء إلى ما بعد نصف الليل، والذي مضى منكم نرجو الله(24/169)
أن يعفو عنكم وليس عليكم فيه شيء، لكن في المستقبل يجب أن تصلوا العشاء قبل نصف الليل، فالواجب عليكم لما وصلت الساعة التاسعة أن تصلوا المغرب والعشاء ولو في عرفة.
س 1763: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يجوز التوكيل للحريم في الجمار بسبب الزحمة؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يجوز للحريم أن يوكلن في الجمار، يجب أن يرمين هن بأنفسهن، وأما عند الزحمة فيذهبن بالليل لا يكون هناك زحمة.
التوكيل لا يجوز إلا للإنسان المريض والكبير الذي ما يقدر يمشي، والجمرات التي ترمى بالنهار ترمى ليلاً، جمرات الحادي عشر ترمى ليلة اثنتي عشر لا مانع لأنه يجوز الرمي ليلاً للحاجة.
س 1764: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: أخرنا طواف الإفاضة مع طواف الوداع يوم نزلنا من منى طفنا مرة واحدة وسعينا فهل يكفي؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا بأس، يكفي لأنه إذا طاف الإنسان طواف الإفاضة عند السفر أجزأ عن الوداع.(24/170)
س 1765: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: بعض الناس يستطيعون الحج لكنهم لا يحجون يقولون لم ينادي المنادي بعد أو لم يرد الله تعالى، فما الحكم في ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: الصحيح من أقوال أهل العلم أن الحج واجب على الفور، وأن الإنسان إذا صار مستطيعاً وجب عليه أن يبادر بالحج؛ لأن أوامر الله عز وجل وأوامر رسوله - صلى الله عليه وسلم - يجب أن يبادر بها الإنسان، إذ لا يدري ماذا يعرض له، ربما يموت، ربما يفتقر، ربما يمرض، فالواجب على كل إنسان استطاع الحج أن يبادر به إذا كان فرضه، لأن الله تعالى يقول: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (1) وفي
الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر من وجب عليه الحج أن يبادر ويعجل إلى الفريضة فإنه لا يدري ما يعرض له.
س 1766: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل يعمل بالمملكة ويريد أن يحج هذا العام وعليه مبلغ ألف ريال دين ولا يستطيع الوفاء به الآن هل الأفضل أن يحج أم لا؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان بعد أن يرجع من الحج يجد دراهم يعطيهم فإنه يستأذن منهم، فإذا وافق أصحاب الدين وكان عنده دراهم يعطيهم بعد الرجوع فلا بأس.
__________
(1) سورة آل عمران، الآية: 97.(24/171)
س 1767: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل هناك فترة زمنية بين الاغتسال والإحرام يعني هل يمكن أن أغتسل للإحرام في الصباح وأحرم في المساء؟
فأجاب فضيلته بقوله: الأفضل أن الاغتسال يكون عند الإحرام ما يكون هناك فارق زمني.
س 1768: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: امرأة اغتسلت للإحرام ثم تطيبت وسرحت شعرها قبل أن تحرم فهل هذا صحيح؟
فأجاب فضيلته بقوله: مادام قبل الإحرام فلا شيء عليها.
س 1769: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: أنا شخص مقيم في المملكة وأريد أن أحج مفرداً، الهدي الذي يكون للقارن والمتمتع هل هو فضيلة أم يكون جبراً لخلل؟ وهل علي هدي؟
فأجاب فضيلته بقوله: هو فضيلة وهو من باب الشكر لله؛ لأن المتمتع والقارن حصل لهما نسكان في سفر واحد فكان من شكر نعمة الله عليهما أن يذبحا هدياً، والمفرد ليس عليه هدي لكن التمتع
مع الهدي أفضل.
س 1770: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: عن التلفظ بالنية عند الصلاة والحج؟(24/172)
فأجاب فضيلته بقوله: لا يتلفظ بالنية، والنية تكون في القلب لا في اللسان.
س 1771: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: أنا الآن أغتسل وأفارق بلدي وألبس الإحرام فلماذا أتلفظ بالنية في الحج؟
فأجاب فضيلته بقوله: ليس هناك تلفظ بالنية في الحج أيضاً إنما تلبي، تقول: لبيك عمرة، لبيك حجاً، أما أن تقول: اللهم إني نويت العمرة أو نويت الحج فهذا ما ورد عن الرسول عليه الصلاة
والسلام.
س 1772: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: حجت والدتي الفريضة ولم يتيسر لها أن ترمي الجمرة مع أنها وصلت إلى الجمرة لكنها لم تقدر ووكلت من يرمي عنها فهل عليها شيء؟
فأجاب فضيلته بقوله: ليس عليها شيء.
س 1773: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: في المرة الثانية لم ترم أيضاً لأن الرجال منعوها وبقية النساء من الدخول فلم تستطيع الدخول ووكلت فهل عليها شيء؟
فأجاب فضيلته بقوله: الواجب على المرأة وغير المرأة إذا كانت قادرة أن ترمي بنفسها، ولا يحل لها أن توكل، وإذا كان زحام(24/173)
فلترم بالليل، ولهذا لم يأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - لسودة بنت زمعة ولضعفة أهله أن يوكلوا، ولا أذن للرعاة أن يوكلوا. وجعلهم يرمون بأنفسهم فقدم الضعفة من أهله ليلة المزدلفة ولم يأذن لهم أن يتأخروا ويولكوا.
والرعاة جعلهم يرمون يوماً بعد يوم، وما فعله الناس اليوم من التهاون بالرمي والتوكيل خطأ مخالف لقوله تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) (1) .
السائل: فعلت ذلك عن جهل لأنهم لم يعرفوا ذلك الحكم؟
الشيخ: على كل حال إذا كانت وكلت عن جهل فليس عليها إثم، لكن إذا كانت موسرة تستطيع أن تذبح فدية في مكة وتوزعها على الفقراء هناك فهذا طيب، سواء ذهبت هي بنفسها أو وكلت أحداً يذبحها في مكة ويوزعها على الفقراء، وإذا ما عندها فلوس فنرجو الله لها العفو والمغفرة.
س 1774: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: أديت فريضة الحج منذ سنوات، وخرجت من الرياض إلى جدة أولاً بقصد زيارة والد زوجتي ثم كان في نيتي أن أذهب إلى المدينة وأحرم من الميقات (أبيار علي) ولكن لما ذهبت إلى جدة وسألت أحد الشيوخ هناك فقال لي ممكن تحرم من جدة وتذهب إلى مكة، ثم سألت للتأكد شيخاً آخر فقال: لا يصح لأنه يجب أن تحرم من الميقات، فرجعت
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 196.(24/174)
إلى الشيخ الأول وقال: هذا خطأ احرم من هنا، فأحرمت من جدة؟
فأجاب فضيلته بقوله: مادمت أنك خرجت من الرياض تنوي الحج فيلزم أن تحرم من الميقات، والذي قال لك أحرم من جدة فهو غلطان، وأما أنت فلا شيء عليك لأنك فعلت ما أوجب الله عليك من سؤال أهل اعلم؛ لأن الله عز وجل يقول: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (1) وإذا أفتى الإنسان مفت وأخطأ فلا إثم على المستفتي ولا لوم، الإثم إذا كان هناك إثم فهو على من أفتاه.
س 1775: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: أنوي الحج هذا العام فهل إذا كان علي كفارة أو دفع أؤديها؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم يمكن أن تذبحها هذا العام وتوزعها على الفقراء.
س 1776: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: زوجتي قادمة للحج هذا العام، وأنا ذاهب من الرياض إلى مكة للعمرة فهل يصح أن أخرج من مكة لاستقبالها في جدة بعد أداء طواف القدوم؟
فأجاب فضيلته بقوله: تحرم بالعمرة وإذا وصلت مكة تطوف وتسعى وتقص شعر رأسك من جميع الرأس لا من جانب واحد ثم تخرج إلى جدة لاستقبال أهلك ولا شيء في ذلك.
__________
(1) سورة النحل، الآية: 43.(24/175)
س 1777: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: كم عدد الجمرات؟
فأجاب فضيلته بقوله: عدد الجمرات ثلاث، ترمي يوم العيد جمرة العقبة فقط، وترمي بقية الأيام جميع الثلاث. عدد الجمرات أول يوم (يوم العيد) سبع حصيات فقط. واليوم الحادي عشر واحد
وعشرون حصاة، ترمي بها الأولى، ثم الوسطى، ثم جمرة العقبة كل واحدة بسبع حصيات. واليوم الثاني عشر واحد وعشرون حصاة ترميها كاليوم الحادي عشر.
س 1778: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: أنا مقرنة الحج مع العمرة، وذلك لأني ما أستطيع أن أمشي كثيراً فهل يلزم على كل واحد منا فدية أو تكفي فدية واحدة؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا، على كل واحد هدي.
السائل: يوم النحر يذبح لكل واحد أضحية؟
الشيخ: على كل واحد هدي، أما الأضحية فلغير الحجاج، والحجاج عليهم هدي فقط لكنه ليس بواجب إلا على المتمتع والقارن.
س 1779: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: إذا سعى الحاج سعي الحج والعمرة معاً فهل يسعى مرة ثانية بين الحج والعمرة؟(24/176)
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان قارناً يكفيه سعي واحد، أما المتمتع فعليه سعيان سعي للعمرة وسعي للحج، وليس هناك سعي بين الحج والعمرة.
س 1780: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: أنا مقيم هنا للعمل ونويت تأدية فريضة الحج هذا العام، وعلي ديون لبعض الناس في بلدي واستأذنتهم وتعهدت لهم بأدائه إذا رجعت إن شاء الله وقد أذنوا لي بذلك فما الحكم؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا بأس ما دامت ديوناً يمكن أن توفيها في المستقبل إن شاء الله وسمحوا فلا بأس.
س 1781: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: أنوي أن أزور مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - قبل أن أحج ففي هذه الحالة من أين أحرم؟
فأجاب فضيلته بقوله: تحرم من أبيار علي بعد أن تزور المسجد النبوي فإذا اتجهت إلى مكة تحرم من أبيار علي.
س 1782: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما هي أقل مدة يمكن أن يجلسها الحاج في عرفة ويعتبر حجه مقبول؟
فأجاب فضيلته بقوله: الحاج في عرفة يجب أن يبقى حتى غروب الشمس، إذا غربت الشمس سار إلى مزدلفة، أما قبل(24/177)
الغروب فلا يجوز أن يخرج، ولكني أقول لك انتبه لحدود عرفة؛ لأن بعض الناس ينزلون خارج حدود عرفة، ومن لم يقف بعرفة فلا حج له.
س 1783: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: بعض الحجاج وقفوا خارج عرفة ولكن قبل ساعة من نفرة الحجيج اتضح لهم أنهم خارج عرفة فلم يمكثوا فيها إلا مدة ساعة فهل يعتبر حجهم مقبول في هذه الحالة؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا دخلوا إلى عرفة قبل الغروب ولم يخرجوا إلا بعد الغروب فحجهم صحيح ولا شيء فيه.
س 1784: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: بعض الحجاج لا يستطيعون المبيت في مزدلفة من أصحاب العوائل والأعذار هل في ذلك شيء؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا، لابد أن يبيتوا بها، ولكن إذا كانوا عوائل وضعفاء يخرجون في آخر الليل، إذا غاب القمر خرجوا من مزدلفة إلى منى ورموا جمرة العقبة.
س 1785: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: بعض الحجاج يطوفون طواف الوداع في اليوم الثاني أو الثالث من أيام التشريق قبل(24/178)
رمي الجمرات هل هذا صحيح أرجو التنبيه؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا، هذا غير صحيح؟ لأن طواف الوداع لا يجوز إلا إذا انتهى النسك، ولا ينتهي النسك إلا برمي الجمرات في اليوم الثاني عشر، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا ينفر أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت " (1) .
ومن طاف ثم رجع ورمى فآخر عهده بالجمار لا بالبيت.
س 1786: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: في شهر رمضان كنتم تجيبون على بعض الأسئلة في الحرم المكي وكان السؤال حول لبس المخيط وفهمنا نحن الحضور أنه يجوز لبس السراويل أو
الفنايل الداخلية، أرجو تفسير هذه النقطة يا فضيلة الشيخ؟
فأجاب فضيلته بقوله: السراويل لا يجوز لبسها إلا إذا كان الإنسان ما معه إزار، إذا لم يجد إزاراً فليلبس السراويل، أما إذا وجد الإزار فلا يجوز أن يلبس السراويل، لكن الذي يجب التنبه له
أن بعض العوام يفهمون من قول العلماء البس المخيط (أن المراد: ما فيه خياطة، وهذا خطأ؛ لأن مراد أهل العلم بقولهم لبس المخيط ما فصل على البدن أو على جزء منه، وأما الذي فيه الخياطة فهذا إذا كان إزاراً أو رداءً، أو نعلين، أو حزاماً، أو كمراً فهذا كله لا بأس به، فمراد العلماء بلبس المخيط ما لا يحل لبسه مما صنع على هيئة
__________
(1) تقدم تخريجه ص 162.(24/179)
البدن، أو على هيئة جزء من البدن، وأما ما فيه الخياطة فلا بأس به إذا كان مما يجوز لبسه.
س 1787: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: أريد أن أحج عن أخت لي توفيت فكيف أعقد نية الحج؟
فأجاب فضيلته بقوله: تقول: لبيك عن أختي، وتنوي عنها الأفعال كالطواف والسعي، وكل شيء تفعله تنويه عن أختك.
س 1788: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: يقولون: إنه إذا أدى شخص العمرة خلال هذه السنة ممكن يؤدي الحج مفرداً هل هذا صحيح؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم صحيح يمكن أن يؤديه مفرداً، لكن الأفضل التمتع، ولو كان قد أخذ عمرة؛ لأن التمتع أفضل.
س 1789: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: حج شخص منذ سنتين، وطاف طواف الحج لكنه لم يسع سعي الحج فماذا عليه وقد تركه جاهلاً؟
فأجاب فضيلته بقوله: ليسع الآن بملابسه وليس عليه شيء لأنه جاهل.(24/180)
س 1790: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: كيف يتم إحرام الولد الذي عمره أقل من سنتين؟
فأجاب فضيلته بقوله: يتم إحرامه بنية وليه عنه، فينوي عقد الإحرام له، ولكن أخشى أن يكون في إحرامه مشقة عليكم وعليه، فالأحسن أن لا تحرموا له.
س 1791: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يصح أن أرمي عن زوجتي وولدي الجمار بسبب الزحام؟
فأجاب فضيلته بقوله: أما الولد فإن كان صغيراً فلا يلزمكم أن تحرموا له، وحينئذ ليس عليه رمي جمرات ولا غيره، وأما الزوجة فيجب أن ترمي الجمرات بنفسها ولو في الليل، ولا يجوز أن ترمي عنها إلا أن تكون عاجزة لا تستطيع الوصول إلى الجمرات إلا بمشقة.
س 1792: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: أرغب في النزول إلى جدة عند أهلي والبقاء عندهم كم يوم قبل الطلوع إلى مكة فهل يجب أن أحرم من الميقات أم يصح أن أحرم من جدة؟
فأجاب فضيلته بقوله: يجب أن تحرم من الميقات.
س 1793: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: إذا وصلت إلى منى يوم الثامن من ذي الحجة قريباً من العصر أو قريباً من المغرب فهل(24/181)
أصبت السنة أم يجب أن أصلها صباحاً؟
فأجاب فضيلته بقوله: السنة أن تصلها ضحى اليوم الثامن وتصلي فيها الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والفجر قصراً للرباعية بدون جمع.
س 1794: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: إذا رميت جمرة العقبة يوم النحر وجئت إلى مكة لطواف الإفاضة ثم رجعت إلى منى قريب المغرب أو بعده فهل يجب أن أصل إلى منى قبل المغرب؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا، لا يلزم فلو وصلتها مثلاً بعد المغرب لا مانع، لكن لابد أن تقضي معظم الليل في منى، والمقصود المبيت فقط.
س 1795: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: أنوي الحج هذا العام عن الوالدة رحمها الله، وسمعت البارحة في برنامج نور على الدرب يقول: أنه لا يجوز أن يحج الشخص وعليه دين؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم لا تحج وعليك دين؛ لأن الدين مقدم على الحج، إذا كانت الفريضة تسقط عن المدين فغير الفريضة من باب أولى، فلا تحج عن والدتك قبل أن تقضي الدين الذي
عليك.
السائل: هذا الدين على أقساط أسددها شهرياً، وعندي ما يكفيني ولله الحمد.(24/182)
الشيخ: مادام أنه أقساط شهرية، وأنت عندك ما توفي به فلا بأس.
السائل: هل أنوي العمرة والحج كلها صدقة عن الوالدة؟
الشيخ: نعم.
س 1796: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: نحن من سوريا نريد أن نضحي لكن سنصل بلدنا بعد العيد ممكن نوكل أحد يضحي عنا؟ وما هي الشروط التي يلزم توفرها في الشخص الذي لازم يضحي؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم ممكن توكلون أحداً يضحي عنكم في سوريا.
أما الشروط التي يلزم توفرها فيمن يضحي فهي أن يكون قادراً على الأضحية مع أن الأضحية سنة مؤكدة، وقال بعض العلماء: إنها واجبة.
س 1797: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: حججت قبل سنتين وصار في أثناء الحج جدال فهل أعيد الحج؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا تعيده، ولكن تتوب إلى الله وتستغفر الله.
س 1798: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: والدتي توفيت ولم تحج الفريضة وكانت ترغب في الحج هل أحج عنها أم الأفضل أن(24/183)
أتصدق عنها؟ وهل يصل ثواب الحج لها؟
فأجاب فضيلته بقوله: حج عنها، وإن شاء الله يصل ثواب الحج لها.
س 1799: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: منذ سنين ذهبنا إلى مكة ولما وصلنا مرضت إحدانا فلم تعتمر وبقيت في إحرامها لمدة يومين ثم اعتمرت؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا حرج عليها.
س 1800: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: بعد أن يطوف الحاج طواف الوداع هل يحق له أن يقيم في مكة ليأخذ بعض الراحة كأن ينام عند قريب له سواء في العمرة أو الحج؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يجوز، إذا نام يجب عليه أن يعيد الطواف.
س 1801: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: طاف شخص ثلاثة أشواط ثم أحدث فخرج ليتوضأ فهل يبدأ من الأول أم يتم ويبني على ما قدم؟
فأجاب فضيلته بقوله: يبدأ من الأول.(24/184)
س 1802: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: شخص من سكان الرياض أدى العمرة في أشهر الحج هل يكون متمتعاً وقد رجع إلى الرياض وسيعود إن شاء الله لأداء الحج وهو مقيم في الرياض؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا لم يكن من أهل الرياض المواطنين وكان ينوي أن يعود إلى مكة لأداء الحج فالأحوط أنه يذبح هدياً؛ لأن الرياض ليست بلده، أما إن كان من أهل الرياض ورجع محرماً
بالحج فإن الهدي يسقط عنه.
السائل: ولكنه مقيم لسنوات طويلة في الرياض؟
الشيخ: نعم إقامة وليست سكنى فالأحوط أن يذبح هدياً ويكون متمتعاً وينال أجر المتمتع.
السائل: وإذا نوى أن يحج مفرداً.
الشيخ: لكنه أتى بعمرة في أشهر الحج فيكون متمتعاً.
س 1803: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: إذا لبس الرجل ملابس الإحرام فهل يجوز له أن يغطي رأسه قبل التلفظ بالنية؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم مادام أنه لم يدخل في النسك فله أن يغطي رأسه ويتطيب؛ لأن النسك ما يلزم إلا إذا نوى ودخل.
السائل: إذا نسي التلفظ بالنية ولم يذكرها إلا بعد تعدي الميقات بمسافة؟
الشيخ: نية القلب تكفي، إذا نوى أنه الآن دخل في النسك فقد دخل(24/185)
سواء تلفظ بالنية أم لم يتلفظ.
س 1804: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل هناك فرق عملي بين الإفراد والقران سوى نحر الهدي؟
فأجاب فضيلته بقوله: أبداً لا فرق بينهما عملياً، إلا أن القران فيه الهدي، وأيضاً القران يحصل فيه حج وعمرة، بخلاف الإفراد.
س 1805: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: من نحر الهدي يوم العيد لكن في عرفة خارج حدود الحرم؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يجوز على ما قاله أهل العلم؛ لأنه يجب أن يكون هدي التمتع والقران في نفس الحرم، يعني داخل الأميال.
السائل: ألا تدخل في عموم قوله في الحديث فجاج مكة؟
الشيخ: لا، هذا خارج فجاج مكة؛ لأن عرفة من الحل وليست من مكة، ولا تعتبر من فجاج مكة.
س 1806: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل على الحاج المفرد فدي أم لا؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا، ليس عليه هدي.(24/186)
س 1807: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يجزئ طواف القدوم عن طواف الإفاضة للحاج المفرد؟
فأجاب فضيلته بقوله: طواف القدوم لا يجزئ عن طواف الإفاضة؟ لأن طواف الإفاضة يجب أن يكون بعد عرفة.
س 1808: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: الحاج المفرد هل يطوف ويسعى أم يطوف فقط؟
فأجاب فضيلته بقوله: الحاج المفرد يطوف ويسعى، لكن إذا سعى بعد طواف القدوم يكفي.
س 1809: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما هو ترتيب أعمال يوم النحر للمفرد؟
فأجاب فضيلته بقوله: أعمال يوم النحر للمفرد هي رمي جمرة العقبة، ثم ذبح الهدي لمن يريد أن يهدي، ثم يحلق ويقصر، ثم يطوف ويسعى خمسة أعمال، ويتحلل إذا رمى وحلق أو قصر التحلل الأول، فإذا فعل الخمسة كلها حل التحلل الثاني، والأفضل أن ترتب كما ذكرنا فإن قدم بعضها على بعض فلا حرج.
س 1810: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: أريد الحج هذا العام وعندي عمارة مشترك فيها مع أخي وعلينا فيها دين مؤجل،(24/187)
ووعدني أخي بقضاء الدين عني عند ذهابي للحج؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان الدين مؤجلاً وليس حالاً، وعندكم ما توفون به الدين إذا حل، بمعنى إذا حل عليكم القسط عندكم مال توفون به فلك أن تحج.
س 1811: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يجوز أن آخذ سلفة زيادة على ما معي وأحج بها؟
فأجاب فضيلته بقوله: الأحسن ما تأخذ سلفة. يعني ما يجوز، لا تأخذ سلفة فتحمل نفسك الدين لأنك في هذه الحالة ما يجب عليك الحج.
س 1812: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل تمشط المرأة شعرها في أيام عشر ذي الحجة سواء تريد أن تضحي أو يضحى عنها؟
فأجاب فضيلته بقوله: إن كانت هي ستضحي فلا تكد الشعر؛ لأنه يتساقط، أما إذا كان سيضحى عنها فلا بأس أن تمشط، لأن الذي يضحى عنه لا شيء عليه وكذلك قص الأظافر.
س 1813: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يجوز للمرأة أن تعتمر في رمضان وهي في عدة وفاة، وإذا اعتمرت جاهلة فماذا عليها؟(24/188)
فأجاب فضيلته بقوله: لا يجوز أن تعتمر وهي في عدة وفاة، وإذا اعتمرت وهي جاهلة بالحكم فلا شيء عليها.
س 1814: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: امرأة تريد الحج وهي لم تصم رمضان إذ عليها صيامه قضاء؟
فأجاب فضيلته بقوله: يجوز للمرأة أو الرجل الحج ولو كان عليه قضاء رمضان.
س 1815: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل صيام ثلاثة الحج جائز؟
فأجاب فضيلته بقوله: ليس له أصل لكن صيام يوم عرفة يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده.
س 1816: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يجوز للحاج غسل اليدين والوجه بالصابون؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم يجوز إذا كان الصابون ليس فيه طيب، وإذا كان الصابون مطيباً أو فيه رائحة طيب فلا يجوز.
السائل: هل يجوز استعمال معجون الأسنان؟
الشيخ: لا بأس به.
السائل: حتى لو كان به طيب.
الشيخ: لا، كل شيء فيه طيب لا يجوز استعماله للمحرم لكن أظن(24/189)
أن معجون الأسنان ليس فيه طيب.
السائل: فيه رائحة النعناع؟
الشيخ: النعناع ما يخالف.
س 1817: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: نريد الذهاب للطائف ومن هناك نريد أن نذهب للعمرة ونعود للطائف ثم نفرد بالحج منه فهل يجوز؟ وهل يجوز أن نخرج من مكة بعد أن نعتمر؟
وهل هذا تمتع؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم لا حرج أن تخرجوا من مكة وتبقوا في الطائف فإذا كان يوم ثمانية تحرمون بالحج من الطائف، وتمتعكم باق وعليكم الهدي، ولا حرج عليكم أن تخرجوا إلى
الطائف بعد العمرة؟
السائل: هل التمتع ينقضه الخروج؟
الشيخ: التمتع ينقضه الخروج إلى بلدك، إذا رجعت إلى بلدك ثم عدت من بلدك إلى مكة بحج مفرد انقطع التمتع، أما إذا ذهبت إلى الطائف أو إلى جدة فإن التمتع باق.
السائل: لو نوينا الإفراد أفردنا عمرة وأفردنا الحج؟
الشيخ: ما يحصل مادام أنك نويت أن تحج من عامك فأنت متمتع فإذا نويت العمرة والحج من هذه السنة وكانت العمرة في أشهر الحج فأنت متمتع.(24/190)
السائل: إذا لم أعتمر بل أنزل في الطائف حتى يوم ثمانية ثم أذهب إلى مكة، ولا آتي بعمرة؟
الشيخ: إذا كنت لم تأت بعمرة ولكن أتيت الطائف وما فيها حتى قرب الحج ثم أحرمت بالحج فإنك تكون مفرداً. أما إذا أحرمت بالعمرة في أشهر الحج وأنت قد نويت الحج هذا العام فأنت متمتع
ولو ذهبت إلى الطائف ما لم ترجع إلى بلدك، فإذا رجت إلى بلدك ثم عدت من بلدك محرماً بالحج وحده فأنت غير متمتع فلا هدي عليك.
س 1818: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: امرأة حجت العام الماضي ورمت اليوم الأول، واليوم الثاني والثالث وكلت زوجها فماذا عليها؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كانت وكلت زوجها لأنها تعبت ولم تقدر فلا بأس.
س 1819: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: امرأة حجت مرتين كلها لم ترم فيها وهي مستطيعة وزوجها يرفض لمزاحمة الرجال فما الحكم؟
فأجاب فضيلته بقوله: كان ينبغي أن ترمي بالليل، وعلى كل حال إذا هي قادرة تذبح فديتين في مكة، واحدة عن السنة الأولى والأخرى عن السنة الثانية.(24/191)
س 1820: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: حججت عام 1403 هـ وأريد أن أحج عن والدتي المتوفية فهل يصح ذلك أم أجدد الحجة مرة ثانية؟ وهل فيه ما يسمى تجديد حجة؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كنت حججت الفريضة بعد البلوغ وكانت والدتك توفيت ولم تفرض فحجي عنها، وليس هناك شيء اسمه تجديد حجة.
س 1821: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: زوجي حج عن خالته بدون أن توكله فهل يصح أم يلزم أن توكله؟
فأجاب فضيلته بقوله: هل حج عنها الفريضة أو نافلة؟
السائلة: الفريضة.
الشيخ: هل خَالته حية أم ميتة؟
السائلة: موجودة لكن صحتها لا تسمح ولا تستطيع.
الشيخ: لما حج عنها وأخبرها وافقت أم رفضت؟
السائلة: وافقت وفرحت.
الشيخ: إذاً يكفي.
س 1822: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: والدي ووالدتي يرغبون في الاتيان من اليمن للحج، وظروفي صعبة إذ لا أستطيع الذهاب إلى جدة وأصير متمتعاً فهل يجوز أن يأتوا إلى جدة بدون نية(24/192)
الحج ولا العمرة حتى يأتي اليوم الثامن فينوا الحج؟
فأجاب فضيلته بقوله: يلزم أن يحرموا من الميقات. السائل: لو فرضنا أنهم نووا الحج فهل يحق لهم أن يغيروها إلى عمرة فيصيروا متمتعين؟
الشيخ: نعم يمكن، وهذا هو الأحسن، والهدي إن كانوا قادرين يهدوا، وإن لم يكونوا قادرين يصومون ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعوا إلى بلادهم.
س 1823: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: حججت من قبل مرتين وأريد الحج هذا العام وأن أهب هذه الحجة لوالدي المتوفي، وأنا لا أعمل وليس لي دخل فهل يجوز أن أحج من مال زوجي؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا وافق زوجك فلا مانع.
س 1824: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: في حجتي الأولى منذ أربع سنين مررنا بمزدلفة لجمع الحصوات منها ولم نتمكن من المبيت بها بسبب المرور حيث لم يسمح لنا بالوقوف؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذه تحتاج إلى نظر.
س 1825: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: قضينا أول يوم العيد وثاني يوم وثالث يوم العيد رمينا الجمرات في الصباح ومشينا(24/193)
لأنه كان معنا طفلة مريضة فهل علينا دم؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم يقول العلماء عليكم دم يذبح في مكة ويوزع على الفقراء.
س 1826: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: بالنسبة للقارن يجب أن يأخذ الهدي من مكانه أو يمكن أن يأخذه من مكة؟
فأجاب فضيلته بقوله: ممكن من مكة أو من منى ولا يلزم أن تأخذها من مكانك.
س 1827: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: أنا لم أقض فرضي ومعي من المال ما يكفي لحجة شخص واحد، وولي أمري ليس لديه القدرة للحج بنفسه معي، فهل أعطي هذا المال لمن يحج به عن أمي التي توفيت مع العلم أني موظفة وآمل أن أوفر ما يكفي لحجي وحج ولي أمري السنة القادمة إن شاء الله؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا تعطي النقود ليُحج بها عن أمك المتوفاة، ولكن احفظيها لتحجي بها إن شاء الله.
س 1828: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: حاج ذاهب إلى مكة وهو قادم من خارج المملكة هل يفسخ إحرامه بعد رجوعه من مكة؟(24/194)
فأجاب فضيلته بقوله: إذا وصل مكة يطوف ويسعى ويقصر ويحل من إحرامه ويلبس ثيابه المعتادة، وإذا صار يوم ثمانية من ذي الحجة يحرم بالحج.
س 1829: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: كنت عملت عمرة وأنوي الحج هذه السنة إن شاء الله، فعندما أذهب أطوف طواف القدوم وأسعى بين الصفا والمروة فهل تجوز هذه عمرة للوالدة؟
فأجاب فضيلته بقوله: تطوف وتسعى وتقصر وتجعلها للوالدة لا مانع.
السائل: هل أحل الإحرام بعد التقصير؟
الشيخ: نعم تحل الإحرام وتبقى إلى يوم ثمانية من ذي الحجة، ويوم ثمانية تحرم بالحج ولا تطوف إلا يوم العيد طواف الإفاضة.
السائل: هل قص الأظافر قبل الإحرام محرَّم؟
الشيخ: لا ليس محرَّماً.
س 1830: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: من أراد أن يحج عن رجل متوفى فماذا يلزمه من ناحية النية كليف ينوي ويدعو؟
فأجاب فضيلته بقوله: ينوي أنه أحرم عن هذا الرجل ويقول: لبيك عن فلان، يقول: لبيك حجًّا أو عمرة، والمتمتع يقول: لبيك عمرة عن فلان، وفي الحج يقول: لبيك حجًّا عن فلان، والدعاء(24/195)
تدعو له ولنفسك، تدعو لنفسك أولاً ثم له.
السائل: وبالنسبة لكفارة اليمين هل بإمكاني أن أكفر في نفس أيام الحج؟
الشيخ: لا حرج لكن إذا حنث في يمينه فالواجب أن يبادر بالتكفير لازم يبادر مثلاً: حنث اليوم لازم أن يكفر اليوم.
س 1831: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: الذي عليه دين هل يمكن أن يحج ودينه من بنك التسليف (من الدولة) ؟
فأجاب فضيلته بقوله: هل له وفاء له؟ هل يقدر أن يوفيه؟
السائل: يحل القسط كل شهر يأخذ من الراتب 555 ريال مستمر.
الشيخ: ما يخالف.
السائل: والذي عليه دين حوالي ألف أو ألفي ريال؟
الشيخ: يقضيه ثم يحج.
س 1832: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: شخص حج مع والدته وهو بالغ وأدى الحج كاملاً وبعد العودة من الحج تهاون بالصلاة وكاد أن يتركها وهو ينوي الحج هذا العام فهل سقط عنه الفرض أو يحج فرضاً هذا العام أو نافلة؟
فأجاب فضيلته بقوله: بشرني عسى الله هداه؟
السائل: نعم تاب والحمد لله.
الشيخ: يحج نافلة وسقط الفرض عنه.(24/196)
س 1833: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: أنا في الأصل من أهل مكة ومتربي فيها وقد سكنت بأهلي المدينة من اليوم الخامس عشر من محرم ومازلت إلى اليوم وأريد الحج إن شاء الله فما هو الأفضل لي من النسك وما صفته؟
فأجاب فضيلته بقوله: الأفضل أن تتمتع: تحرم بالعمرة من أبيار علي وإذا وصلت مكة تطوف وتسعى وتقصر وتترك الحلق للحج وتفك الإحرام، ويوم ثمانية تحرم بالحج من مكة.
السائل: وإذا عدت إلى المدينة بعد العمرة ثم عدت للحج هل أنوي الحج أو العمرة؟
الشيخ: الأفضل أن تبقى في مكة بعد العمرة ثم تحرم بالحج، ولكن إن عدت للمدينة ثم رجعت إلى مكة فأحرم بالعمرة لأن التمتع الأول انقطع برجوعك إلى بلدك.
السائل: أنا عندي عمل هنا إلى اليوم السابع وأريد أن أعتمر في يومي الإجازة الخميس والجمعة وأرجع، ويوم ثمانية أنزل للحج فأمشي من هنا إلى منى هل يمكن هذا وأكون متمتع؟
الشيخ: ممكن هذا، لكن أنت من أهل المدينة أو أن عملك فقط في المدينة؟
السائل: أنا عملي فقط في المدينة ومتى ما تركت العمل يمكن أعود مكة.
الشيخ: إذاً تكون متمتعاً وتذبح الهدي.(24/197)
س 1834: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: أحد الإخوة اليمنيين زميل لي في العمل ذهب إلى العمرة في شوال وعاد إلى المدينة ويريد أن يدخل مكة بغير إحرام لكي لا يختم الجواز بحج؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يجوز إلا إذا كان لا يريد الحج، أما إذا أراد الحج فلا يجوز أن يدخل إلا بإحرام.
س 1835: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: الوالد يريد أن يحج عن رجل متوفى، وقد أدى العمرة في رمضان فهل تجزئ العمرة؟
الشيخ: هل الميت قد أدى فريضته أم لا؟
السائل: لا، لم يؤدها.
الشيخ: إذاً لازم يعتمر عنه.
س 1836: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: المتمتع إذا نزل مكة في أول العشر وأدى العمرة هل يلزمه الهدي إذا خلع الإحرام وقصر؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم يلزمه الهدي، لأن الهدي شكراً لله على هذه النعمة، ولكن يذبحه يوم العيد أو في أيام التشريق الثلاثة بعده.(24/198)
س 1837: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: حججت عام 1404 وقتلت نملة نسياناً وعلى سهو مني فما الحكم؟
فأجاب فضيلته بقوله: ليس عليك شيء.
س 1838: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما حكم من سكن العزيزية من أهالي مكة وغير الساكن بها من الحجاج هل يجوز لهم المبيت فيها؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يجوز للإنسان أن يبيت ليلة الحادي عشر وليلة الثاني عشر وليلة الثالث عشر إن تأخر إلا في منى فإذا لم يجد مكاناً فليبت في أدنى مكان من الخيام، هذا هو الذي دلت عليه
السنة، وأما المبيت في العزيزية فلا يجوز؛ لأنها ليست من منى.
س 1839: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: يوجد ناس يريدون الحج والشغالة معهم هل يلزم لها محرم؟ وإذا لم يوجد لها محرم فما الحكم؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم يلزم المحرم، وإذا لم يوجد فلا تحج، ولا يجوز أن تحج إلا بمحرم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم " فقام رجل فقال: يا رسول الله، إن امرأتي خرجت حاجة وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا فقال: "انطلق فحج مع امرأتك " (1) وإذا لم يوجد لهذه الشغالة محرم وكان في بقائها في
__________
(1) تقدم تخريجه ص 117.(24/199)
البلد خوف عليها فإنها تسافر معهم وتحج.
س 1840: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: النساء هل يجوز أن يوكلن من يرمي عنهن في غير الجمرة الكبرى؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يوكل الإنسان في الجمرات لا الكبرى ولا غيرها ولو كن نساء فإنهن يرمين بالليل ولا يوكلن.
س 1841: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: القصر في الصلوات في الحج هل يكون في كل الصلوات؟ والجمع كيف؟
فأجاب فضيلته بقوله: تقصر الصلاة الرباعية أيام الحج إلا إذا صلى الإنسان مع الإمام الذي يتم فيجب عليه الإتمام، وأما الجمع فلا جمع إلا في عرفة تقديماً وفي مزدلفة.
س 1842: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: إذا أتى الحيض المرأة في يوم عرفة ماذا عليها؟
فأجاب فضيلته بقوله: تستمر في الحج وتفعل ما يفعله الناس ولا تطوف بالبيت حتى تطهر، ولكنها ترمي وتقصر وتبيت بمنى ومزدلفة وتفعل كل ما يفعله الحاج ولا تطوف بالبيت حتى تطهر.(24/200)
س 1843: سئل فضيلة "الشيخ- رحمه الله تعالى-: إذا كانت الأضحية تطوعاً هل يلزم أن يكف عن قص الشعر والأظافر أيضاً؟
فأجاب فضيلته بقوله: الذي يريد أن يضحي لا يأخذ الشعر ولا الظفر ولو كانت تطوعاً.
س 1844: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: أنا من أهل جدة ونزلت من منى إلى جدة ولم نطف طواف الإفاضة ورجعنا بعد أيام وطفنا بسبب الزحمة؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا بأس، لكن الإنسان الذي معه زوجة ما يقرب زوجته ولا مانع من تأخير طواف الإفاضة مادام أنكم طفتم قبل دخول شهر محرم.
س 1845: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رمينا أول يوم الساعة الثانية ليلاً لأن معنا شيباً، وخفنا من الزحمة؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا تعودون لهذا، لا ترمون بعد اليوم إلا إذا طلعت الشمس يوم العيد، والذي يخاف من الزحمة لا بأس ولا حرج.
س 1846: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل صام الرسول - صلى الله عليه وسلم - عشر ذي الحجة وحث على صيامها أم لا؟(24/201)
فأجاب فضيلته بقوله: النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبت عنه أنه قال: "ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر" (1) والصيام من العمل الصالح بل من أفضل الأعمال، فيدخل في عموم الحديث.
وروت أم المؤمنين حفصة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصومها، وهذا الحديث وإن كان في إسناده مقال، لكن الحديث الأول الذي ذكرت حديث صحيح، ولا إشكال في أن صيام عشر ذي الحجة سنَّة وفيه أجر (2) .
س 1847: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: الشاب الذي في أول حجة له هل يجوز أن يأخذ وكالة عن غيره في الرمي؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يجوز أن يوكل أحد في الرمي أبداً إلا إنسان عاجز، وأما غير العاجز فيلزم أن يرمي بنفسه، فإذا كان يستطيع المشي وخاف الزحمة فليرم في الليل وهو واسع وبارد.
س 1848: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يجوز ذبح هدي التمتع قبل يوم العيد؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يجوز.
السائل: قابلت مجموعة حجاج من إحدى الدول العربية وعلمت
__________
(1) تقدم تخريجه ص 81.
(2) انظر تفصيل ذلك في الفتاوى رقم (400، 401، 402) ج 20.(24/202)
منهم أن عندهم فتوى بذلك، أن يدفع هدي التمتع فور انتهائه من العمرة؟
الشيخ: هذا قاله بعض العلماء ولكنه قول ضعيف؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما ساق الهدي قال: "إني لا أحل حتى أنحر" (1) يعني يوم النحر، ولو كان الذبح يجوز قبل يوم النحر لذبح ثم حل. فلا يجوز لأحد أن يذبح هدي التمتع ولا هدي القران قبل يوم النحر، ومن فعل ذلك
مستنداً إلى فتوى عالم فلا شيء عليه ولكن لا يعود؛ لأن هذا القول ضعيف.
س 1849: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: امرأة جاءها عذر الحيض بعد رمي الجمرات، ولم تكن طافت طواف الإفاضة ولم تسع حيث أنها متمتعة ومرتبطة بجماعة في سيارة هي ومحرمها ولا
تستطيع أن تمكث في مكة حتى تطهر؟
الشيخ: هل يمكن أن تذهب إلى بلدها وإذا طهرت رجعت؟
السائل: لا، هي خارج المملكة ولا يمكنها أن ترجع.
الشيخ: إذاً تتحفظ وتطوف طواف الإفاضة للضرورة، ويصح ذلك.
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب التمتع والقران والإفراد بالحج (1566) ، ومسلم، كتاب الحج، باب بيان أن القارن لا يتحلل إلا في وقت تحلل الحاج المفرد (1229) .(24/203)
س 1850: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يجوز للحائض أن ترمي الجمرات؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم تفعل كل المناسك إلا الطواف بالبيت والسعي إذا كان بعد الطواف.
س 1851: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: شخص لم يتمكن من رمي الجمرات يوم الحادي عشر والثاني عشر هل يجوز أن يرميها جميعاً يوم الثالث عشر عن الثلاثة أيام؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم لا بأس.
السائل: هل يمكن أن يؤخرها لليوم الثالث عشر؟
الشيخ: يمكن أن يؤخرها إذا لم يستطع أن يرمي كل يوم في يومه، لكن يرمي الجمرات الثلاث كلها عن اليوم الأول ثم عن اليوم الثاني، ثم عن اليوم الثالث.
س 1852: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: في معظم الدول الإسلامية فور عودة الحجيج من الأراضي المقدسة بعد أداء الفريضة يلقب من أدى الفريضة بلقب حاج وتظل ملازمة له دائماً فما حكم ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا خطأ؛ لأن فيه نوعاً من الرياء، لا يتلقب بذلك ولا ينبغي أن يدعوه الناس بذلك؛ لأنه ما كان الناس في(24/204)
عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقولون للحاج أنت حاج.
س 1853: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يجوز للمرأة استعمال ما يؤخر الحيض إن خافت أن يأتيها في وقت الحج؟
فأجاب فضيلته بقوله: يجوز استعماله بعد مراجعة الطبيب إذا قال الطبيب إنه لا يضر فلا حرج عليها.
س 1854: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: الحائض ما الذي عليها إذا لم تؤد طواف الوداع؟
الشيخ: متى جاءها الحيض؟
السائل: أثناء نزولها من عرفات أو بعد نزولها من عرفات.
الشيخ: هل طافت طواف الحج طواف الإفاضة قبل الحيض؟
السائل: نعم طافت وسعت قبل الحيض يوم العيد.
الشيخ: إذا طافت وسعت يوم العيد قبل الحيض وبعد ذلك جاءها الحيض فليس عليها وداع.
س 1855: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: لو جاءها نزيف قبل طواف القدوم أو السعي؟ أي قبل أن تصل مكة.
فأجاب فضيلته بقوله: النزيف لا يمنع أن تطوف ولو كان عليها، أما في الحيض فلا تطوف.
السائل: وهل حجتها جائزة؟(24/205)
الشيخ: نعم حجتها جائزة.
س 1856: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يلزم حلق الشعر بالنسبة للرجل أم يجوز التقصير؟
فأجاب فضيلته بقوله: يوم العيد الأفضل الحلق، ويجوز التقصير، وأما العمرة للمتمتع فالأفضل فيها التقصير، وأما الحلق ففي الحج.
س 1857: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: حججنا العام الماضي ولم نصل إلى مزدلفة إلا في الساعة العاشرة من النهار، ولم نبت فيها بسبب السير هل علينا فدية؟
فأجاب فضيلته بقوله: إن فديتم فهو أحسن، وإذا لم تفدوا فأنا أتوقف في هذا ما أدري والله أعلم، لكن الفدية أحسن.
س 1858: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: أخي حج العام الماضي مفرداً ولم يهد إلا أنه أدى كل المناسك؟
فأجاب فضيلته بقوله: المفرد ليس عليه هدي.
س 1859: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: إنسان مسلم يرغب في الحج وعليه خمسة أيام من رمضان لم يستطع قضاءها فهل يجوز أن يحج؟(24/206)
فأجاب فضيلته بقوله: نعم يتم حجه وإن كان عليه أيام من رمضان، لأن أيام رمضان له أن يؤخرها إلى شعبان القادم.
وهذه فائدة ثانية: بعض الناس يقولون: إذا ما تمم له ما يحج وهذا أيضاً غير صحيح يحج الواحد لو ما تمم له.
س 1860: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: حججت ووالدي في العام الماضي ومعنا زوجاتنا وحججنا عن طريق مؤسسة تجمع في الخيمة ثمانية أنفار وطلبنا أن يكون معنا في الخيمة التي نسكنها نساء كي لا يخرج أمام نساءنا فأضافوا إلى خيمتنا أربع خادمات أندونيسيات فسكنا في الخيمة معاً فهل في ذلك شيء؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا جائز لكن ينبغي أن تضعوا فاصلاً بينكم، اجعلوا حاجزاً بينكم في الخيمة ولابد.
السائل: ما جعلنا حاجز ولم نسأل في ذلك فهل حجنا صحيح؟
الشيخ: في المستقبل لازم أن تجعل هذه المؤسسات حواجز في الخيام بين الرجال والنساء، وحجكم إن شاء الله صحيح.
س 1861: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يجوز ذبح الأضحية (والنحر) في بلد أنت فيه أو ترسل مبلغ مقابل ذلك إلى بلدك أو أي بلد من بلدان المسلمين؟
فأجاب فضيلته بقوله: الأفضل أن تضحي في بلدك إذا كان(24/207)
أهلك عندك، وإذا كان أهلك في مكان آخر وليس عندهم من يضحي لهم فأرسل دراهم لهم يضحوا هناك.
س 1862: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يرتبط الأضحية والنحر بشروط؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم لابد من شروط:
يشترط أن يكون المضحى به من بهيمة الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم.
وأن يبلغ السن الذي حدده الشارع، وهو نصف سنة للضأن، وسنة للمعز، وسنتان للبقر، وخمس سنوات للإبل.
وشرط ثالث: أن يسلم من العيوب المانعة من الإجزاء وهي أربع بينها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله: " أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ظلعها، والعجفاء التي لا مخ فيها" (1) وهذه أربع، وكذلك التي بمعناها أو أشد مثل العمياء، ومقطوعة اليد أو الرجل، فإنها بمعناها أو أشد.
بقي شرط رابع: وهو أن تكون الأضحية في الوقت المحدد وهو من صلاة يوم عيد النحر إلى غروب الشمس آخر يوم من أيام التشريق، فتكون الأيام أربعة: يوم العيد، واليوم الحادي عشر، واليوم الثاني عشر، واليوم الثالث عشر.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (4/301) .(24/208)
س 1863: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ركعتا الإحرام هل هي واجبة أم سنة وهل تفعل في أوقات النهي؟
فأجاب فضيلته بقوله: ليست بواجبة ولا سنة، فلا تصلها لكن اجعل إحرامك بعد صلاة الفريضة إن كان وقت فريضة، وإلا فصل ركعتين للوضوء وأحرم بعدهما.
س 1864: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: نسيت في العمرة فلبست ثيابي قبل أن أقصر فهل علي شيء؟
فأجاب فضيلته بقوله: ما جرى عليك الآن ليس عليك فيه شيء، لقوله تعالى: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) (1) لكن في المستقبل إذا نسيت ولبست ثيابك قبل التقصير فاخلع الثياب
والبس ثياب الإحرام، وقصر وعليك ثياب الإحرام، أي تخلع ثيابك فوراً وتلبس ثياب الإحرام وتقصر ثم تعود وتلبس ثيابك.
س 1865: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: خرجت من الرياض إلى جدة قاصداً العمرة أنا والأهل في الطائرة، ولما كانت الطائرة قرب السيل أعلن المضيف أن من ينوي العمرة يلبس
الإحرام، ولم يكن لدي إحرام في ذلك الوقت ولما وصلت الطائرة جدة كنت في حيرة من أمري ولم أجد شخصاً يرشدني في ذلك، واستعنت بالله ثم استأجرت سيارة وذهبت بها إلى السيل عن طريق
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 286.(24/209)
مكة وأحرمت من هناك، ورجعت وأديت العمرة، ويقول بعض الناس إن علي دم فهل هذا صحيح أنا والأهل؟
فأجاب فضيلته بقوله: ليس عليك شيء، لأنك أحرمت من الميقات.
س 1866: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: امرأة حجت مع زوجها وكانت حاملاً وعند رمي الجمار رمت الأولى ووكلته في الباقي بسبب الزحمة حيث لم تقدر فهل عليها شيء؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا بأس، لأن الذي لا يقدر أن يرمي له أن يوكل، والذي يقدر ويخاف من الزحام يرمي بالليل.
س 1867: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: فيه حديث متداول عند العوام أن الإنسان إذا أراد عمرة ثانية قبل أربعين يوم من العمرة الأولى أنه لا يحرم؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا ليس بصحيح.
س 1868: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما حكم الذي يؤدي العمرة والحج مرة واحدة فقط؟
فأجاب فضيلته بقوله: الإنسان إذا أدى العمرة أول مرة وأدى الحج لم يجب عليه شيء بعد ذلك حتى لو بقي عن مكة أربعين(24/210)
سنة، فذهب إلى مكة وهو لا يريد حجًّا ولا عمرة فلا شيء عليه. "
س 1869: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هناك رجل أتى للحج وأثناء وقوفه بعرفات أصيب بضربة شمس وأدخل المستشفى ولم يتمكن من رمي جمرة العقبة ولا بقية الجمرات ولا بقية المناسك فماذا عليه؟ وهل حجه صحيح؟
فأجاب فضيلته بقوله: مادام وقف بعرفة فحجه صحيح، وهل طاف طواف الإفاضة (طواف الحج) وسعى؟
السائل: لا ما طاف طواف الحج ولم يسع لأنه بقي مدة في المستشفى وتحلل.
الشيخ: هل قال عند إحرامه إن حبسني حابس فمحلى حيث حبستنى؟
السائل: لا لم يقل.
الشيخ: الصحيح أدن عليه هدياً لأنه أحصر عن إتمام الحج.
السائل: الهدي عن كل المناسك أم عن كل منسك هدي؟
الشيخ: لا بل يتحلل بهدي، ويعيد الحج من جديد في السنة القادمة إن كان لم يؤد الفريضة.
السائل: إذا كان سافر لمصر مثلاً يلزمه أن يرجع مرة أخرى؟
الشيخ: إن كان حجه هذا هو الفريضة فلابد أن يؤديه فيرجع يحج مر ة أخرى.(24/211)
س 1870: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: قال تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) (1) ما المقصود بالجناح؟ وما المقصود بالتطوع في الآية الكريمة؟
فأجاب فضيلته بقوله: المراد بالجناح الإثم يعني أنه لا إثم عليه أن يطوف بين الصفا والمروة إذا كان حاجًّا أو معتمراً، وكان الصحابة تحرجوا من الطواف بينها يعني خافوا من الإثم، فأنزل الله
هذه الآية وأنه ليس عليكم إثم بالطواف بها ثم قال: (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا) يعني من فعل الطاعة لله سواء كانت واجبة أو كانت مستحبة (فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) والمعنى أن الطواف بها من طاعة الله، ومن
فعل طاعة لله (فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) يثيبه عليها الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة.
س 1871: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: شخص حج عن نفسه وأتيحت له الفرصة للحج مرة أخرى فحج عن قريب له ميت ولا يريد من ذلك سوى الأجر والثواب وأن يكون عمله خالصاً لله تعالى ولم يعلم أحداً عن ذلك حتى ولا أبناء هذا الشيخ الميت فهل يجب عليه أن يخبر أبناءه حتى لا يحجوا عنه مرة أخرى أم يحتفظ بهذا بينه وبين الله؟
فأجاب فضيلته بقوله: هل الحجة التي حجها عن صاحبها
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 158.(24/212)
هل هي فريضة أو نافلة؟
السائل: فريضة.
الشيخ: إذاً لابد أن يخبرهم لئلا يحجوا مرة ثانية حتى يعلموا أن الفريضة سقطت عنه.(24/213)
من دروس المسجد الحرام
كلمة للحجاج عام 1415 هـ
إن الحمد لله نحمده ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن
محمداً عبده ورسوله، أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحق، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله، وأصحابه،
ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا حجاج بيت الله الحرام نتكلم اليوم عن الركن الخامس من أركان الإسلام وهو حج بيت الله الحرام، الحج هو قصد المشاعر المقدسة لإقامة المناسك تعبداً لله عز وجل، فرضه الله تعالى على
المسلمين في السنة التاسعة من الهجرة، ولم يفرض قبل ذلك والحكمة من تأخره أمران:
الأول: أن مكة كانت قبل هذا الوقت تحت حكم المشركين، لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يفتح مكة إلا في السنة الثامنة من الهجرة في رمضان، ولم يحج النبي صلى الله عليه وعلى
آله وسلم في السنة التاسعة، لأن هذه السنة كثر فيها الوافدون على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من أنحاء الجزيرة ليأخذوا(24/215)
عنه دينهم، فرأى - صلى الله عليه وسلم - أن من المناسب أن يبقى في المدينة يتلقى أولئك الوفود.
الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن تكون حجته حجة خالصة للمسلمين بمعنى ألا يشارك فيها مشرك، ولهذا أمر أبا بكر رضي الله عنه أن يؤذن في الناس في السنة التاسعة، أن لا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان (1) ، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه حاج في العام العاشر من الهجرة، فقدم إلى المدينة بشر كثير يقدرون بنحو مائة ألف، يرون من بين يديه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شمائله مد البصر (2) ، فحج عليه الصلاة والسلام في ذلك العام.
ولكن على من يجب الحج أهو على كل إنسان؟ بين الله من يجب عليه بقوله: (مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) (3) لم يقل في الصلاة من استطاع أن يصلي ولا في الصوم من استطاع أن يصوم، بل في الحج من استطاع إليه سبيلاً، وذلك لأن الحج يكون من أنحاء بعيدة ويشق على الناس الوصول إلى البيت، فلهذا قيده الله عز وجل بقوله: (مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) والاستطاعة نوعان: استطاعة بالمال،
واستطاعة بالبدن، فالاستطاعة بالمال بأن يكون عند الإنسان ما يحج به من المال زائداً على نفقاته وحاجته وضرورياته وقضاء ديونه، وبناء على ذلك إذا كان على الإنسان دين لا يستطيع وفائه مع
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب لا يطوف بالبيت عريان ولا يحج مشرك (1622) ، ومسلم، كتاب الحج، باب لا يحج البيت مشرك ولا يطوف بالبيت عريان (1347) .
(2) مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومسلم (1218) .
(3) سورة آل عمران، الآية: 97.(24/216)
الحج، أي إما أن يحج وإما أن يقضي الدين، فهذا يقضي الدين أولاً، ثم يحج ثانياً، وإذا كان عند الإنسان مال إما أن يتزوج به وإما أن يحج وهو محتاج للزواج يشق عليه عدمه فيتزوج لأن الله يقول: (مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) (1) ، وإذا كان عنده مال وفيه مرض يحتاج إلى معالجة بهذا المال ولا يكفي هذا المال للعلاج والحج فيقدم العلاج، وهلم جر ا، لأن الله يقول: (مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) .
أما الاستطاعة بالبدن بأن يكون الإنسان قادراً على الحج بلا مشقة، فإن كان يشق عليه لمرض أو كبر، فإنه إن كان لديه مال يجب عليه أن يقيم من يحج عنه، وإن لم يكن له مال فلا جب عليه الحج، فإن من ليس لديه مال لا يجب عليه الحج ولو كان قادراً، وحينئذ نقول: إذا تمت شروط الحج أي شروط الوجوب وجب على الإنسان أن يبادر به وأن لا يؤخره، لأن الله أمر به، ونحن نعلم لو أن ملك من الملوك أمرك أن تفعل شيئاً وتأخرت عن فعله فإنه يغضب عليك ويؤدبك ويعاقبك، هذا وهو أمر من إنسان لإنسان فكيف بأمر الرب عز وجل؟ إذا أمرك بأمر وتمت شروط الوجوب فبادر ولا يحل لك أن تتأخر، ولأن الإنسان لا يدري ما يعرض له، هو الآن قادر
وربما يكون في العام المقبل غير قادر، وربما يموت فتأخير الحج بعد استكمال شروط الوجوب حرام، يجب أن يبادر بذلك.
فإن قال قائل: كيف تقول هذا القول وقد قال الله تعالى:
__________
(1) سورة آل عمران، الآية: 196.(24/217)
(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) (1) وهذه الآية نزلت في السنة الثالثة من الهجرة والنبي لم يحج إلا في العاشرة وأنت تقول أنه واجب على الفور؟
فالجواب: أن قوله تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) يخاطب به من شرع في الحج والعمرة فإنه يجب عليه الإتمام، وليس معناه ابتداء الفرض، وفرق بين وجوب الإتمام وبين وجوب الشروع في
العمل، والآية الكريمة (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) فيها أمر من شرع في الحج أو العمرة أن يتمهما، وليس فيها أن الحج والعمرة واجبة، وفرق بين وجوب الإتمام ووجوب الابتداء، وإذا وجب الحج على الإنسان فإنه يجب عليه أن يتعلم كيف يحج لا أن يذهب مع الناس، هكذا سمعت الناس يقولون فقلته، رأيت الناس يفعلون شيئاً ففعلته، بل يجب أن يتعلم أحكام الحج ليعبد الله على بصيرة، وإنما
قلنا يجب أن يتعلم أحكام الحج لأن للعبادة شرطين:
الأول: الإخلاص لله، بمعنى أن الإنسان لا يريد بعبادته إلا وجه الله، فمن أشرك مع الله غيره فعبادته باطلة مردودة، فلو قصد بعبادته أن يقول الناس إن فلاناً عابد، فعمله حابط، ولو قصد بعبادته أن يكرمه الناس، فعبادته باطلة، ولو قصد بعبادته أن يتقرب إلى رئيس أو وزير أو ما أشبه ذلك فعبادته باطلة، لابد أن تكون العبادة خالصة لله، وأنا أقول لك أيها الأخ الكريم ماذا ينفعك الناس إذا تعبدت لله تعالى من أجل أن يمدحوك؟ ماذا ينفعونك؟ إنهم لن
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 196.(24/218)
ينفعوك، وماذا يضرك الناس لو أخلصت العبادة لله؟ إنهم لن يضروك، إذن لا تر اعي الناس، اجعل عملك خالصاً لله كما قال ربك عز وجل: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (1) (فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (2) (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا) (3) إلى غير ذلك من الآيات الدالة على وجوب الإخلاص لله عز وجل، ولقد ضرب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مثلاً يتبين به الفرق بين المخلص وغير المخلص، فقال: "من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه " (4) .
رجلان هاجرا خرجا من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام الفعل واحد، والصورة واحدة، لكن اختلف حكم الفعلين أحد الفعلين لله تعالى، هاجر إلى الله ورسوله، والثاني هجرته لدنيا يصيبها تجارة
أو امرأة يتزوجها، فالأول هجرته صحيحة يثاب عليها، والثاني لا، ولهذا قال: "فهجرته لله ورسوله "، والثاني قال: "هجرته إلى ما هاجر إليه "، رجل حج من أجل أن يقول الناس إذا رجع إلى بلده:
فلان حاج، هذا ليس بمخلص، رجل حج من أجل أن يستقبله الناس إذا رجع إلى بلده فيمدحوه فيقولون: فلان ما شاء الله حج،
__________
(1) سورة البينة، الآية: 5.
(2) سورة غافر، الآية: 14.
(3) سورة الروم، الآية: 30.
(4) أخرجه البخاري، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي رقم (1) ، ومسلم، كتاب الإمارة، باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات " رقم (1907) .(24/219)
فهذا غير مخلص.
الشرط الثاني لقبول العبادة أن تكون موافقة لشرع الله، أي أن يكون المتعبد لله متابعاً لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فإن لم يكن متابعاً للرسول فإنها لا تقبل عبادته، دليله قال الله
تعالى: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (1) وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" (2) أي مردود عليه مهما أتقن العمل، ومهما جد فيه، ومهما داوم عليه فإنه مردود؛ لأنه ليس على شريعة الله عز وجل، وبناء
على هذا الشرط يجب أن يتعلم الإنسان كيف يحج لا يأتي هكذا إمعة مع الناس، بل يجب أن يعرف كيف يحج، ولكن ما الطريق إلى العلم؟ كيف يحج؟ الطريق طريقان:
الأول: قراءة الكتب التي يثق بمؤلفيها، والثاني: ملازمة أحد أهل العلم، والسؤال والاستفهام سواء لازمه في البلد قبل أن يأتي للحج، أو سافر معه وصحبه، فإن صحبة العلماء كلها خير، وبناء
على هذا نذكر كيف حج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وصل النبي - صلى الله عليه وسلم - الميقات خارجاً من المدينة، وميقات أهل المدينة ذي الحليفة، فأحرم من هناك وركب ناقته، فلما استوت به على البيد لبى: لبيك اللهم، يعني يا الله، لبيك تكرار وتوكيد، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، لا شريك لله تعالى لا في ألوهيته ولا في
__________
(1) سورة الجاثية، الآية: 18.
(2) تقدم تخريجه ص 11.(24/220)
عبوديته، ولا في أسمائه وصفاته، لا شريك له في ربوبيته، خلق السماوات والأرض، وأنزل من السماء ماء، وجعل الليل والنهار، وخلق الشمس والقمر، وخلق النجوم، وخلقنا، وخلق البهائم،
وهلم جرا، فالله تعالى ليس له شريك في الربوبية، وليس له معين في الخلق، يعني لم يعاونه أحد على خلقه جل وعلا، بل انفرد بالخلق والتدبير واستمع إلى قول الله تعالى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) (1) فنفى الله هذه الثلاثة لا يملكون مثقال ذرة يعني ليس أحد يملك (مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ) أي ولا يشارك أيضاً (وَمَا لَهُ مِنْهُمْ) أي ما لله من هذه الأصنام من معين (مِّن ظَهِيرٍ) الظهير يعني المعين كما قال تعالى: (والملائكة بعد ذلك ظهير) .
لو قال قائل: الولي هل يدبر الكون؟ هل ينزل الغيث؟ هل يوجب أن تلد المرأة؟ أبداً، كل هذا لا يكون، ومن اعتقد أن وليًّا من الأولياء يدبر الكون، أو يخلق، أو يرزق، فهو مشرك كافر مخلد في
النار، الجاهليون خير منه، الجاهليون الذين قاتلهم الرسول عليه الصلاة والسلام خير من هذا، لأن الجاهليين الذين قاتلهم الرسول عليه الصلاة والسلام إذا سألتهم من خلق السماوات والأرض؟
يقولون: الله، (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) (2) (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ
__________
(1) سورة سبأ، الآية: 22.
(2) سورة الزخرف، الآية: 87.(24/221)
مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) (1) ، (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ) (2) ، فهم يقرون بهذا ومع ذلك قاتلهم الرسول عليه الصلاة والسلام،
واستحل دمائهم، وأموالهم، ونسائهم، وذرياتهم.
فلو قال قائل: أنا لا أعتقد أن الولي ينفع، ولكن أعتقد أنه واسطة بيني وبين الله.
فالجواب: أن هذا يخالف الواقع؛ لأن المتعلقين بالأولياء يدعون الولي نفسه، يقول يا سيدي فلان افعل كذا وكذا، فبطل قولهم إننا نجعلهم وسطاً ثم نقول: لو جعلتهم وسطاً فليس هذا من
العقل ومن الشرع، لأن هذا الولي ميت جثة جماد، ربما تكون الأرض قد أكلته ولم يبق إلا عجب الذنب، فكيف تجعله واسطة هل سيدعو الله لك؟ لو قلت يا سيدي فلان اشفع لي عند الله لا ينفع هذا، لأنه ميت، وقد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث " (3) انقطع عمله كيف يدعو الله لك هذا غير صحيح.
ونقول الصحابة رضي الله عنهم، هل كانوا يأتون إلى الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم ويقولون: يا رسول الله اشفع لنا؟
__________
(1) سورة العنكبوت، الآية: 61.
(2) سورة يونس، الآية: 31.
(3) تقدم تخريجه ص 23.(24/222)
الجواب: لا، هل كانوا يأتون إلى قبره، ويقولون: يا رسول الله أدعو لنا الله أن يسقينا، أدعو الله أن يرفع عنا الحروب؟ لم يفعلوا هذا، ولما قحط وأجدب الناس في عهد أمير المؤمنين عمر رضي
الله عنه وخرجوا يستسقون لم يذهبوا إلى قبر الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقولون: يا رسول الله أدعو الله أن يسقينا أبداً، بل هم دعوا الله حتى قال عمر بن الخطاب: اللهم إنا كنا نستسقي إليك بنبينا فتسقينا، وإننا نستسقي إليك بعم نبينا- يعني العباس بن عبد المطلب- فقام العباس واستسقى، فلا تعلق يا أخي قلبك بأي مخلوق لا حي ولا ميت، بل بعدك عن تعلقك بالمخلوق الميت يجب أن يكون أولى من تعلقك بالمخلوق الحي، لأن المخلوق الحي قد ينفع في بعض الأمور، أما الميت فلا ينفع، وبناء على ذلك يجب علينا ونحن مسلمون إذا رأينا أحداً من العامة يذهب إلى الأضرحة يدعو صاحب الضريح، أو يطلب أن يكون شفيعاً له يجب علينا أن ننصحه، وأن نقول: يا أخي بدلاً من أن تذهب إلى الضريح اذهب إلى المسجد، لا تكن ممن يعمر المشاهد ويهجر المساجد، لأن بعض الناس لعب بهم الشيطان فعمروا المشاهد وهجروا المساجد، لا يأتون إلى المساجد لكن المشاهد يملئونها، نقول له يا أخي اتق الله لا تأتى إلى هذا الضريح، بدلاً من أن تأتي للضريح، اذهب إلى المسجد، فالصحابة رضي الله عنهم كان النبي - صلى الله عليه وسلم - عندهم قريباً منهم، ولكنهم لا يأتون إلى قبره، فيقولون: اشفع لنا يا رسول(24/223)
الله أبداً، ما جرى هذا إطلاقاً، بل كانوا يأتون إلى المسجد يصلون فيه ويعبدون الله فيه، فلا تعبد غير الله، لا تعبد غير الله لا بقولك ولا بفعلك، العبادة لله وحده فمن تعبد لغير الله فهو مشرك، ولهذا منع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كل شيء يفضي إلى عبادة غير الله، فسئل عن الرجل يلقى أخاه أينحني له قال: "لا" (1) ، حتى لو حنى رقبته فلا يجوز، سدًّا للباب، لأنه يتوصل بالانحناء إلى ما هو أبلغ، ولما قدم إليه بعض أصحابه سجد له، أي هذا الصحابي سجد للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لأنه قدم من بلاد يسجدون فيها لأساقفتهم فنهاه وقال: "لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها" (2) ، ويجب على من انحنى الناس له أن ينكر عليهم، ولا يحل له أن يقرهم على ذلك، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن السجود له، فإذا سلم عليك إنسان وانحنى لك فانهه لا تقل: والله الرجل أكرمني، لا أحب أن أخجله، بل انهه عن هذا، لأن هذا أعظم هدية تهديها إليه، أن تمنعه عما نهى عنه الرسول عليه الصلاة والسلام. ومن ذهب إلى قبر فسجد لصاحب القبر فهو مشرك، سجد لغير الله، والسجود لا يكون إلا لله عز وجل، كذلك أيضاً لا شريك لّه تعالى في أسمائه وصفاته، قال " الله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (3) .
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد 3/198، والترمذي (2728) .
(2) أخرجه الإمام أحمد (5/227) .
(3) سورة الشورى، الآية: 11.(24/224)
أحرم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من ذي الحليفة ومازال يلبي، وأحرم بالقِران أي جمع بين الحج والعمرة فقال: لبيك اللهم عمرة وحجًّا، لبيك اللهم عمرة وحجًّا، وإنما أحرم بالقِران لأنه ساق الهدي، وحينما وصل إلى المسجد الحرام بدأ بالطواف استلم الحجر الأسود، وطاف سبعة أشواط، وفي هذا الطواف رمل ثلاثة أشواط أي أسرع في المشي، ثم مشى الأربعة الباقية، وفي هذا الطواف أيضاً اضطبع، فجعل وسط ردائه تحت إبطه الأيمن وطرفيه على كتفه الأيسر، والاضطباع لا يكون في أول الإحرام وإنما يكون في الطواف فقط، فما نراه الآن من كثير من الحجاج أنهم يضطبعون من حين أن يحرموا خطأ، يجب علينا إذا رأينا أحداً وتمكنا من نصيحته أن نقول له يا أخي الاضطباع لا يكون إلا في الطواف ولا يكون في جميع الإحرام، ولما طاف تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) (1) وصلى ركعتين خفيفتين، وقرأ في الأولى قل يا أيها الكافرون، وفي الثانية قل هو الله أحد، ثم رجع إلى الحجر الأسود فاستلمه، والاستلام هو
مسكه باليد ثم خرج إلى الصفا، ولما دنا من الصفا قرأ: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) (2) أبدأ بما بدأ الله، فبدأ بالصفا فصعد عليه فاستقبل القبلة فرفع يديه يذكر الله ويدعوه وكان من ذكر الله
الذي قاله: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 125.
(2) سورة البقرة، الآية: 158.(24/225)
وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ثم دعا، ثم أعاد الذكر مرة أخرى ثم دعا ثم أعاده مرة ثالثة، ثم نزل متجهاً إلى المروة يمشي، حتى إذا
أنصبت قدماه في بطن الوادي سعى، أعجل المشي وركض ركضاً شديداً، فلما صعد من بطن الوادي مشى كعادته، حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا، ثم نزل متجهاً إلى الصفا حتى أتم سبعة أشواط، ثم أمر الناس الذين لم يسوقوا الهدي أن يجعلوها عمرة، أما هو فبقي على إحرامه لأنه ساق الهدي، وفي اليوم الثامن من ذي الحجة خرج إلى منى بأصحابه فنزل فيها،
وصلى فيها خمس صلوات وهي الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، صلى الظهر والعصر والعشاء قصراً بلا جمع، ولما طلعت الشمس سار إلى عرفة ونزل في نمرة- موضع قريب من عرفة- حتى إذا زالت الشمس- جاء وقت الظهر- ركب ونزل في بطن عرنة- وهو الوادي الذي فيه الآن مسجد عرفة- وخطب الناس، وصلى بها الظهر والعصر جمعاً وقصراً، ثم ركب حتى أتى الموقف، وموقف الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان عند الجبل عند الصخرات العظيمة الكبيرة، وقف هناك وقال للناس: "وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف " (1) يعني لا تكلفوا أنفسكم بالحضور إلى هذا المكان كل عرفة موقف، وجعل صلى الله عليه وعلى آله وسلم يدعو الله إلى أن غربت الشمس، وكان راكبا على بعيره رافعاً يديه
__________
(1) تقدم تخريجه ص 155.(24/226)
حين الدعاء، ولما غربت الشمس سار إلى مزدلفة فوصل إليها بعد دخول وقت العشاء فصلى بها المغرب والعشاء جمع تأخير، ثم اضطجع حتى طلع الفجر، وفي هذه الليلة أوتر؛ لأن النبي صلى الله
عليه وعلى آله وسلم لم يكن يترك الوتر حضراً ولا سفراً وقال لأمته: " اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً" (1) ولم يذكر ذلك جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في سياق حجه عليه الصلاة والسلام إما لأنه لم يعلم، أو لأنه كان نائماً، أو لغير ذلك من الأسباب، ولما صلى الصبح ركب ناقته حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة ودعا الله ووحده وكبره حتى أسفر جداً، ثم دفع إلى منى وسلك الطريق
الوسطى، وكانت منى لها طرق على اليمين والشمال والوسط، فسلك الطريق الوسطى لأنها تخرجه على الجمرة، فلما وصل الجمرة رماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة، رماها راكباً، ثم
انصرف بعد ذلك إلى المنحر- أي إلى المكان الذي أعده لنحر هديه - وكان قد أهدى مائة بعير فنحر منها ثلاثاً وستين بيده، ثم أعطى علي بن أبي طالب رضي الله عنه الباقي فنحره، لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أشركه في هديه حيث كان رضي الله عنه قادماً من اليمن ببعث من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فنحر الهدي ثم حلق رأسه كله بالموس، ثم أمر أن يؤخذ من كل ناقة قطعة من اللحم فجعلت في قدر فطبخت فأكل من لحمها وشرب من
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الوتر، باب ليجعل آخر صلاته وتراً (998) ، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الليل مثنى مثنى 000 (749) (148) .(24/227)
مرقها، ثم تحلل وتطيب ونزل إلى البيت فطاف بالكعبة سبعة أشواط، وشرب من ماء زمزم، وصلى ظهر يوم العيد، ثم ركب راجعاً إلى منى، ووجد بعض الصحابة هناك فصلى بهم الظهر
إماماً، لكنها نافلة والفريضة هي التي صلاها في المسجد الحرام، وبات هناك ثلاث ليال، وفي كل يوم من أيام التشريق يرمي الجمرات الثلاث، الأولى ثم يقف بعدها يدعو الله، ثم الوسطى ثم يقف بعدها يدعو الله، ثم جمرة العقبة ثم ينصرف ولا يقف، ولما رمى اليوم الثالث عشر نزل صلى الله عليه وعلى آله وسلم من منى إلى مكان يقال له المحصب لكثرة حصبائه فنام تلك الليلة وصلى في هذا المكان صلاة الظهر يوم الثالث عشر والعصر والمغرب والعشاء، ثم رقد رقدة، ثم أذن بالرحيل فارتحل المسلمون حتى أتوا المسجد الحرام فطافوا للوداع، ثم صلى الفجر، ثم انصرف إلى المدينة، وأمضى في مكة عشرة أيام من اليوم الرابع إلى اليوم الرابع عشر، هذه خلاصة لحج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أسأل الله تعالى أن يرزقني وإياكم الإخلاص، اللهم ارزقنا الإخلاص لوجهك والمتابعة لرسولك، اللهم اختم لنا بالخير، اللهم اجعل خير أعمالنا آخرها، وخير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا وأسعدها يوم نلقاك، اللهم اجعلنا من دعاة الحق وأنصاره، اللهم اجعلنا هداة مهتدين، وقادة مصلحين، اللهم يسر أمورنا، واستر عيوبنا، واغفر ذنوبنا، اللهم أصلحنا وأصلح بنا، وأصلح لنا(24/228)
يا رب العالمين، إنك على كل شيء قدير، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.(24/229)
من دروس المسجد الحرام عام 1416 هـ
كلمة للحجاج حول بعض الكتب والنشرات التي توزع في موسم الحج
إن الحمد لله، نحمده ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن
محمداً عبده ورسوله أرسله الله تعالى بدين الحق، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وترك أمته على بيضاء نقية لا يزيغ عنها إلا هالك، فصلوات الله وسلامه عليه
وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد، يا عباد الله بين يدي منشورات على صفة كتيبات فيها سور من القرآن، وفيها أحاديث موضوعة مكذوبة على الرسول عليه الصلاة والسلام، وفيها أخطاء مطبعية، وفيها أيضاً طلب لأمور بدعية مثل قراءة الفاتحة على المرحوم فلان بن فلان وما أشبه ذلك، وإنني بهذه المناسبة أحذر إخواني في المسجد الحرام من تلقي هذه الرسائل، وأن لا يقرأوها، ولا ينظروا فيها إلا بعد عرضها على العلماء المحققين حتى يبينوا ما فيها من خطأ وصواب، وأحذر كذلك إخواني عن ما ينشر في بعض المساجد- في غير المسجد(24/231)
الحرام- من مطويات ونشرات فيها أحاديث مكذوبة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد يكون ناشرها أراد خيراً لكن لم يوفق له، وقد يكون ناشرها خرافياً مبتدعاً يريد أن ينشر خرافته وبدعته بين المسلمين، وقد تكون له إرادات أخرى، والله أعلم بما في القلوب، لكنني أحذر
العامة من تلقي هذه المطويات والمنشورات إلا بعد أن تعرض على أهل العلم والتحقيق حتى لا يضل الناس بمثل هذا، ومثل هذه المنشورات التي يتقدم بها من يتقدم هي خسارة على من تقدم بها
خسارة مالية، وخسارة بدنية وإضاعة وقت وإثم كبير، لأن من نشر حديثاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يرى أنه كذب فإنه أحد الكاذبين (1) ، هكذا صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وصح عنه أنه من كذب عليه متعمداً فليتبوأ مقعده من النار (2) ، وصح عنه أنه ليس الكذب عليه ككذب على أحد من الناس (3) ، لأن الكذب عليه إدخال شيء في شريعته ليس منها،
فيكون الكاذب عليه قد افترى على الله كذباً، فالحذر الحذر أيها المسلمون من مثل هذه المنشورات والمطويات إلا بعد عرضها على أهل العلم والتحقيق حتى يتبين ما فيها من حق وباطل.
وأحذر كذلك هؤلاء الذين ينشرون هذه المطويات وأقول لهم: إن أي إنسان يضل بسبب هذه المنشورات والمطويات فإثمه على الذي نشر هذه المنشورة أو المطوية، ويكون هذا الرجل ممن
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد 5/14.
(2) أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب النياحة على الميت. ومسلم في المقدمة باب تغليظ الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
(3) أخرجه مسلم في المقدمة، باب تغليظ الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.(24/232)
أنفق ماله ليصد عن سبيل الله فيدخل في قوله تبارك وتعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ) (1) وهو وإن لم يصل إلى درجة الكفر لكنه فيه شبه من هؤلاء الكافرين الذين ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله، وأحذر هؤلاء الذين ينشرون هذه المنشورات والمطويات أن لا ينشروا شيئاً إلا بعد أن يتحققوا من صحته حتى لا يضل الناس بغير علم، نعوذ بالله تعالى من الفتن ما ظهر منها وما بطن، ونسأل الله تعالى أن يرزقنا جميعاً البصيرة في دينه، والبصيرة لما يخفيه أعداء المسلمين الذين يرضون بأفواههم ولكن في قلوبهم شر وبلاء وفتنة تأبى قلوبهم، فنسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا ممن رأى الحق حقًّا واتبعه، ورأى الباطل باطلاً واجتنبه.
__________
(1) سورة الأنفال، الآية: 36.(24/233)
كلمة حولي الحريق بمنى في حج عام 1417 هـ
بسم الله الرحمن الرحيم (1)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
إخواني، في حج هذا العام عام سبعة عشر وأربعمائة وألف حدث حريق في يوم التروية، وكثير من الناس في منى، وكثير من الناس في مكة، وكثير من الناس في عرفة، وكثير من الناس الذين في منى قد أحرموا، وكثير منهم لم يحرموا، وكانت الكارثة عظيمة لولا أن الله تعالى منَّ بتقليلها حتى انحصرت فيما انحصرت فيه، وقد قدرت الخيام التي التهمتها النار بسبعين ألف خيمة، والموتى
بأكثر من ثلاثمائة حاج، والجرحى بنحو ألفين أو يزيدون قليلاً أو ينقصون قليلاً، والضائعون أيضاً كثيرون، ولا شك أن هذه كارثة، ولكن بسبب الذنوب والمعاصي، لقول الله تعالى: (وَمَآ أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (2)
فيجب علينا أن نتخذ من ذلك عبرة وعظة، ومن أكبر ما ينبغي أن نتعظ فيه أن لا نتخذ من الحج نزهة، لا نريد منه إلا أن نرفه أنفسنا ويجلس بعضنا إلى بعض بالمزح والضحك وإضاعة الوقت، لأن
الحج عبادة، حتى إن الله تعالى سماه نذراً وسماه فرضاً فقال تبارك
__________
(1) جزء من كلمة لفضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى- بمناسبة انتهاء العام الهجري 1417 هـ.
(2) سورة الشورى، الآية: 30.(24/235)
وتعالى: (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ) (1) وقال: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) (2) فهو عبادة جليلة ليس نزهة، ومن الناس من يتخذه وقتاً للتسول، ومن الناس من يتخذه وقتاً للسرقة والعدوان والعياذ بالله، فالناس يختلفون، فهذه المصائب لا شك أنها بذنوبنا، ولا شك أيضاً أنها قد كتبت علينا قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، ولهذا يجب علينا أن
نتخذ من هذه المصيبة موعظة تتعظ بها القلوب، وأن نتخذ منها رضاءً بقضاء الله وقدره، وأن نقول: الحمد لله على كل حال، والذين أصيبوا بها وماتوا إن كانوا محرمين فإنه يرجى أن يكونوا
شهداء، ويخرجون من قبورهم يقولون: لبيك اللهم لبيك، فيجتمع لهم الشهادة والموت على الإحرام، والخروج من القبور يلبون، ومن لم يكن أحرم فإنا نرجو أن يكون من الشهداء أيضاً، لأن
الحريق شهيد، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم (3) ، ولقد كان في هذه الحادثة عجائب، منها الريح الشديدة التي كانت تنقل اللهب من مكان إلى مكان، فتنقل قطع الخيام
المشتعلة من جهة إلى جهة، ثم إذا وقعت في جهة احترقت الجهات التي انتقلت إليها هذه القطعة، وأخبرني شخص أثق به عن إنسان شاهد بعينه أن حمامة مرت قد أصابها اللهب ففرت من اللهب
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 197.
(2) سورة الحج، الآية: 29.
(3) أبو داود، كتاب الجنائز، باب فضل من مات بالطاعون (3111) .(24/236)
وجناحها وذيلها يلتهب فسقطت ميتة أدركها الاحتراق على خيمة فاشتعلت الخيمة، سبحان الله، هذا مما يدل على أن الله عز وجل ابتلى العباد بهذا الحريق، ثم الرياح الشديدة العاصفة في ذلك اليوم
التي نراها تسوق النيران سوقاً حثيثاً مما يدل على أن الله سبحانه وتعالى أراد من عباده- وله حكمة- أن يتعظوا بمثل هذه الأمور وحصل فيها من الحريق ما حصل، وحصل فيها أن من الناس من فقد أمه، ومنهم من فقد زوجته، ومنهم من فقد أبناءه، ومنهم من رؤي محترق وهو ساجد- سبحان الله- ساجد لله عز وجل، فأما أن يكون يصلي الظهر أو العصر، وإما أن يكون لما أحس أن النار أدركته قام يصلي وأحب أن يموت على صلاته، وعلى كل حال نسأل الله تعالى لإخواننا الذين ماتوا أن يغفر لهم ويكتبهم من الشهداء، وأن يشفي إخواننا الذين مازالوا على قيد الحياة، ويجعل ما أصابهم في تكفير سيئاتهم ورفعة درجاتهم، ونسأل الله تعالى أن يأجر كل من أصيب بهذه المصيبة؛ لأن كل مؤمن مصاب بلا شك بهذه المصيبة، فنسأل الله تعالى أن يجبر كسر الجميع، وأن يعفو عنا، ويغفر لنا، إنه على كل شيء قدير.(24/237)
من فوائد الحج
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، ونصلي ونسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، فإن الله تعالى بحكمته نوع العبادات على الخلق ليبلوهم أيهم أحسن عملاً، وأقوم سبلاً، فإن الناس يختلفون في مواردهم ومصادرهم، فمنم من يتقبل القيام بنوع من العبادات لأنه يلائمه ولا يتقبل النوع الآخر لأنه لا يلائمه، فتجده في النوع الأول منقاداً مسرعاً، وفي الثاني متثاقلاً ممانعاً، والمؤمن حقاً هو الذي ينقاد لما يرضي مولاه لا لما يوافق هواه.
ومن تنوع العبادات تنوع أركان الإسلام فمنها ما هو بدني محض يحتاج إلى عمل وحركة جسم كالصلاة، ومنها ما هو بدني لكنه كف عن المحبوبات التي تميل إليها النفس كالصيام، ومنها ما
هو مالي محض كالزكاة، ومنها ما هو مالي بدني كالحج.
فالحج جامع للتكليف البدني والمالي، ولما كان يحتاج إلى سفر وتعب أكثر من غيره لم يوجبه الله تعالى في العمر إلا مرة واحدة، ونص على اشتراط الاستطاعة فيه. والاستطاعة شرط للوجوب فيه وفي غيره، لكن الحج أمس بها من غيره، هذا وللحج(24/239)
فوائد عظيمة منها:
1- أنه قيام بأحد أركان الإسلام التي لا يتم إلا بها، وهذا يدل على أهميته ومحبة الله له.
2- أنه نوع من الجهاد في سبيل الله، ولذلك ذكره الله تعالى بعد ذكر آيات الجهاد.
وثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة حين سألته هل على النساء جهاد؟ قال: "نعم، عليهن جهاد لا قتال فيه، الحج والعمرة " (1) .
3- الثواب الجزيل والأجر العظيم لمن قام به على الوجه المشروع، فقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة" (2) وقال: "من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" (3) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: "الحجاج والعمار وفد الله، إن دعوه أجابهم، وإن استغفروه غفر لهم " (4) . رواه النسائي وابن ماجه.
4- ما يحصل فيه من إقامة ذكر الله وتعظيمه وإظهار شعائره مثل التلبية، والطواف بالبيت وبالصفا والمروة، والوقوف بعرفة
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (6/71، 165) ، وابن ماجه، كتاب المناسك، باب الحج جهاد النساء، وابن خزيمة (3074) والبيهقي في سننه الكبرى (4/350) وصححه الألباني.
(2) تقدم تخريجه ص 11.
(3) تقدم تخريجه ص 106.
(4) أخرجه ابن ماجه، كتاب المناسك، باب فضل دعاء الحج (2892) وعند النسائي بلفظ: "وفد الله ثلاثة: الغازي والحاج والمعتمر" كتاب المناسك، باب فضل الحج 2624.(24/240)
والمبيت بمزدلفة، ورمي الجمار وما يتبع ذلك من الذكر والتكبير والتعظيم، وفي الحديث عن النبي هـ أنه قال: "إنما جعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله " (1) .
5- ما يكون فيه من اجتماع المسلمين من جميع الأقطار وتبادل المودة والمحبة والتعارف بينهم، وما يتصل بذلك من المواعظ والتوجيه والإرشاد إلى الخير والحث على ذلك.
6- ظهور المسلمين بهذا المظهر الموحد في الزمان والمكان والعمل والهيئة، فكلهم يقفون في المشاعر بزمن واحد، وعملهم واحد، وهيئتهم واحدة، إزار ورداء، وخضوع وذلك بين يدي الله عز وجل.
7- ما يحصل في الحج من مواسم الخير الديني والدنيوي وتبادل المصالح بين المسلمين ولذلك قال الله تعالى: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ) (2) وهذا يعم منافع الدين والدنيا.
8- ما يحصل من الهدايا الواجبة والمستحبة من تعظيم حرمات الله، والتنعم بها أكلاً وإهداء وصدقة للفقراء. فمصالح الحج وحكمه وأسراره كثيرة.
__________
(1) تقدم تخريجه ص 26.
(2) سورة الحج، الآية: 28.(24/241)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أخي المسلم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ... وبعد:
فمن نعمة الله عليك أن بلغك هذه العشر المباركة- عشر ذي الحجة- التي قال فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه العشر "، قالوا، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء" (1) .
ومن شكر نعمة الله أن تستغل هذه الأيام بالأعمال الصالحة التي تقرب إلى الله عز وجل، ومن هذه الأعمال:
1- التكبير والتحميد والتهليل والتسبيح لله عز وجل، يفعل ذلك الرجال جهراً في أسواقهم ومساجدهم وأماكنهم العامة، والنساء تفعل ذلك سراً.
2- صيام هذه الأيام- إلا يوم العيد- وأخص هذه الأيام باستحباب الصوم فيها يوم عرفة، فقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أن صيامه يكفر السنة الماضية والباقية (2) .
3- الحج، وهو من أفضل القربات إلى الله عز وجل في هذه الأيام، وهو من أسباب غفران الذنوب، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه " (3) .
__________
(1) تقدم تخريجه ص 81.
(2) أخرجه مسلم، كتاب الصيام، باب استحباب صيام يوم عرفة (196) .
(3) تقدم تخريجه ص 106.(24/243)
4- كثرة الدعاء، في كل وقت وخصوصاً في هذه الأيام الفاضلة فربك سبحانه قال:. (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (1) . وقال - صلى الله عليه وسلم -: "الدعاء هو العبادة" (2) .
واعلم- بارك الله فيك- أن هذه الأيام محل لجميع الأعمال الصالحة، من قراءة القرآن، والصدقة، والصلاة النافلة، وصلة الرحم، وبر الوالدين، والإحسان إلى خلق الله، وغير ذلك، لعموم
حديث ابن عباس المذكور.
ولا يفوتني- أخي- أن أوصيك بتقوى الله عز وجل وباستغلال هذه الأيام فلعلك لا تدركها العام القادم، واحرص على الإخلاص لله والمتابعة للنبي - صلى الله عليه وسلم - في كل أقوالك وأفعالك تكن مقبولاً.
أسأل الله أن يتقبل منا جميعاً صالح الأعمال.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
قرأت هذه المنشورة المتضمنة للحث على العمل الصالح في عشر ذي الحجة، فوجدتها صحيحة، ونشرها حسن، جزى الله كاتبها خيراً، ونفع بها.
قال ذلك كاتبه: محمد الصالح العثيمين، في 24/11/1412 هـ.
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 186.
(2) أخرجه الترمذي (5/426) وأبو داود (1479) .(24/244)
مناسك الحج والعمرة والمشروع في الزيارة(24/245)
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً.
أما بعد: فهذه فصولٌ في السفر والحج وزيارة المسجد النبوي ألقيناها في عدة مجالس، وكتبناها في فصولِ.
الفصل الأول: في السفر وشيء من آدابه وأحكامه.
الفصل الثاني: في شروط الحج.
الفصل الثالث: في المواقيت وأنواع الأنساك.
الفصل الرابع: ما يجب به الهدي من الأنساك، وصفة الهدي.
الفصل الخامس: في محظورات الإحرام.
الفصل السادس: في صفة العمرة.
الفصل السابع: في صفة الحج.
الفصل الثامن: في واجبات الحج.
الفصل التاسع: في أخطاء يرتكبها بعض الحجاج.
الفصل العاشر: في زيارة المسجد النبوي.
وقد أضفنا إليها أسئلة مهمة في هذه الموضوعات.
أسال الله أن يجعلها خالصة لوجهه، وأن ينفع بها، إنه جوادٌ كريم.
المؤلف(24/247)
الفصل الأول
في السفر وشيء من آدابه وأحكامه
السفر: مفارقة الوطن، ويكون لأغراض كثيرة؛ دينية ودنيوية.
وحكمه: حكم الغرض الذي أُنشىء من أجله: فإن أُنشىء لعبادة كان عبادة؛ كسفر الحج والجهاد.
وإن أُنشىء لشيء مباح كان مباحاً: كالسفر للتجارة المباحة.
وإن أُنشىء لعمل محرَّم كان حراماً كالسفر للمعصية والفساد في الأرض.
وينبغي لمن سافر للحج أو غيره من العبادات أن يعتني بما يلي:
(1) إخلاص النية لله- عز وجل- بأن ينوي التقرب إلى الله عز وجل في جميع أحواله لتكون أقواله وأفعاله ونفقاته مقربة له إلى الله سبحانه وتعالى، تزيد في حسناته، وتكفر سيئاته، وترفع درجاته.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: "إنك لن تُنفق نفقة
تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعله في فِي امرأتك " (1) أي: فمها، متفق عليه.
(2) أن يحرص على القيام بما أوجب الله عليه من الطاعات واجتناب المحرمات، فيحرص على إقامة الصلاة جماعة في أوقاتها، وعلى النصيحة لرفقائه وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ودعوتهم إلى
الله عز وجل بالحكمة والموعظة الحسنة.
ويحرص كذلك على اجتناب المحرمات القولية والفعلية، فيجتنب
__________
(1) البخاري، كتاب الإيمان، باب أن الأعمال بالنية، ومسلم كتاب الوصية، باب الوصية بالثلث.(24/249)
الكذب والغيبة والنميمة والغش والغدر، وغير ذلك من معاصي الله عز وجل.
(3) أن يتخلق بالأخلاق الفاضلة من الكرم بالبدن والعلم والمال، فيُعين من يحتاج إلى العون والمساعدة، ويبذل العلم لطالبه والمحتاج إليه، ويكون سخيًّا بماله، فيبذله في مصالح نفسه ومصالح إخوانه وحاجاتهم.
وينبغي أن يُكثر من النفقة وحاجات السفر، لأنه ربما تعرض الحاجة وتختلف الأمور.
وينبغي أن يكون في ذلك كله طَلْقَ الوجه، طيب النفس، رضي البال، حريصاً على إدخال السرور على رفقته ليكون أليفاً مألوفاً.
وينبغي أن يصبر على ما يحصل من جفاء رفقته ومخالفتهم لرأيه، ويداريهم بالتي هي أحسن، ليكون محترماً بينهم، معظماً في نفوسهم.
(4) أن يقول: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون، اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهم هون علينا سفرنا هذا واطو عنا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنظر، وسوء المنقلب في المال والأهل.
وينبغي أن يكبر كلما صعد مكاناً عالياً، ويُسبح إذا هبط مكاناً منخفضاً.
وإذا نزل منزلاً فليقل: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) فمن نزل منزلاً ثم قالها لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك.(24/250)
الصلاة في السفر
يجب على المسافر أن يحافظ على أداء الصلاة في أوقاتها جماعة، كما يجب على المقيم كذلك.
قال الله تعالى: (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)) (1) .
فأوجب الله الجماعة على الطائفتين في حال الحرب والقتال مع الخوف، ففي حال الطمأنينة والأمن تكون الجماعة أوجب وأولى.
ولقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يُواظبون على صلاة الجماعة حضراً وسفراً حتى قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يُؤتى به يُهادى بين الرجلين حتى يُقام في الصف) (2) . رواه مسلم.
ويجب أن يعتني بوضوئه وطهارته، فيتوضأ من الحدث الأصغر، كالبول والغائط والريح والنوم المستغرق، ويغتسل من الجنابة كإنزال المني والجماع.
فإن لم يجد الماء، أو كان معه ماء قليل يحتاجه لطعامه وشرابه، فإنه يتيمم لقوله تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا
__________
(1) سورة النساء، الآية: 102.
(2) أخرجه مسلم، كتاب المساجد، باب إتيان المسجد على من سمع النداء (256) (654) .(24/251)
بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (1) .
وكيفية الوضوء والغُسل معلومة.
وكيفية التيمم أن يضرب الأرض بيديه فيمسح بهما وجهه وكفيه " ففي "صحيح البخاري " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعمار بن ياسر رضي الله عنه: "يكفيك الوجه والكفان " (2) ، وفي رواية: (ضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده الأرض فمسح وجهه وكفيه) (3) وفي رواية مسلم (ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة (4) .
وطهارة التيمم طهارة مؤقت، فمتى وجد الماء بطلت ووجب عليه استعماله، فإذا تيمم عن جنابة ثم وجد الماء وجب عليه الاغتسال عنها، وإذا تيمم من الغائط ثم وجد الماء وجب عليه الوضوء عنه.
وفي الحديث: "الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته " (5) .
والسنة للمسافر أن يقصر الصلاة الرباعية، وهي الظهر والعصر والعشاء الآخرة إلى ركعتين، لما في "الصحيحين " من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: صحبتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان لا يزيد في السفر على
__________
(1) سورة المائدة، الآية: 6.
(2) البخاري، كتاب التيمم، باب المتيمم هل ينفخ فيهما، ومسلم، كتاب الحيض، باب التيمم.
(3) البخاري، الموضع السابق.
(4) مسلم، كتاب الحيض، باب التيمم (368) .
(5) رواه الإمام أحمد (5/146- 147، 155، 180) ، وأبو داود، كتاب الطهارة، باب الجنب يتيمم (332، 333) ، والترمذي، كتاب الطهارة، باب ما جاء في التيمم (124) ، والنسائي، كتاب الطهارة، باب الصلوات بتيمم واحد (321) وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.(24/252)
ركعتين، وأبا بكر وعمر وعثمان كذلك (1) .
وفي "صحيح البخاري " عن عائشة رضي الله عنها قالت: "فُرِضت الصلاة ركعتين ثم هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - ففرضت أربعاً، وتُركت صلاة السفر على الأولى" (2) .
فالسنة للمسافر قصر الصلاة الرباعية إلى ركعتين من حين أن يخرج من بلده إلى أن يرجع إليه، سواء طالت مدة سفره أم قَصُرت.
وفي "صحيح البخاري " عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقام بمكة تسعة عشر يوماً يصلي ركعتين يعني عام الفتح، إلا أن يصلي المسافر خلف إمام يُصلي أربعاً فيلزمه أن يُصلي أربعاً، سواءً أدرك الإمام من أول الصلاة أم من أثنائها لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنما جُعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه " (3) . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ... فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا" (4) .
وسُئل ابن عباس رضي الله عنهما: ما بال المسافر يُصلي ركعتين إذا انفرد وأربعاً إذا ائتم بمقيم؟ فقال: تلك السنة (5) .
وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا صلى مع الإمام صلى أربعاً، وإذا صلى وحده صلى ركعتين، يعني في السفر.
وأما الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، فهو سنة
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب تقصير الصلاة، باب الصلاة بمنى (1082) ، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب الصلاة بمنى 16 (894) .
(2) أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب كيف فرضت الصلوات (343) ، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين (658) .
(3) رواه البخاري، كتاب الأذان رقم (722) ، ومسلم، كتاب الصلاة رقم (417) .
(4) تقدم تخريجه ص 19.
(5) أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين 7 (688) .(24/253)
للمسافر عند الحاجة إليه، إذا جد به السير واستمر به، فيفعل ما هو الأرفق به من جمع التقديم أو التأخير؛ ففي "الصحيحين " من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل فجمع بينهما، فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب (1) .
وللبيهقي (2) : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان في سفر وزالت الشمس
صلى الظهر والعصر جمعاً.
وأما إذا لم يكن المسافر محتاجاً للجمع فلا يجمع، مثل أن يكون نازلاً في مكان لا يريد أن يرتحل منه إلا بعد دخول وقت الثانية، فالأولى عدم الجمع لأنه غير محتاج إليه، ولذلك لم يجمع النبي حين كان نازلاً في منى في حجة الوداع لعدم الحاجة إليه.
وأما صلاة التطوع، فيتطوع المسافر بما يتطوع به المقيم، فيصلي صلاة الضحى وقيام الليل والوتر وغيرها من النوافل سوى راتبة الظهر والمغرب والعشاء فالسنة أن لا يُصليها.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
__________
(1) البخاري، كتاب التقصير، باب يؤخر الظهر إلى العصر، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين باب جواز الجمع بين الصلاتين في السفر.
(2) "معرفة السنن والآثار" (6203) وسنده صحيح وأصله في "صحيح مسلم " (4891) بالإسناد نفسه.(24/254)
الفصل الثاني
في شروط الحج
إن الشريعة الإسلامية جاءت من لدن حكيم خبير، لا يُشرع منها إلا ما كان مُوافقاً للحكم، ومطابقاً للعدل، لذلك كانت الواجبات والفرائض لا تلزم الخلق إلا بشروط مرعية يلزم وجودها حتى يكون فرضها واقعاً موقعه.
فمن ذلك فريضة الحج لا تكون فرضاً على العباد إلا بشروط:
* الشرط الأول: أن يكون مسلماً، بمعنى أن الكافر لا يجب عليه الحج قبل الإسلام، وإنما نأمره بالإسلام أولاً، ثم بعد ذلك نأمره بفرائض الإسلام، لأن الشراِئع لا تُقبل إلا بالإسلام، قال الله تعالى: (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54)) (1) .
* الشرط الثاني: العقل، فالمجنون لا يجب عليه الحج ولا يصح منه لأن الحج لابد فيه من نية وقصد، ولا يمكن وجود ذلك في المجنون.
* الشرط الثالث: البلوغ، ويحصل البلوغ في الذكور بواحد من أمور ثلاثة:
1- الإنزال، أي إنزال المني لقوله تعالى: (وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) (2) ، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "غسل الجمعة واجب على كل محتلم " (3) . متفق عليه.
__________
(1) سورة التوبة، الآية: 54.
(2) سورة النور، الآية: 59.
(3) أخرجه البخاري، كتاب الجمعة، باب فضل الغسل يوم الجمعة (879) ، ومسلم، كتاب=(24/255)
2- نباتُ شعر العانة، وهو الشعر الخشن ينبت حول القُبل لقول عطية القرظي رضي الله عنه. عُرضنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم قُريظة، فمن كان محتلماً أو أنبتَ عانته قُتِل ومَنْ لا تُرِك (1) .
3- تمام خمس عشرة سنة، لقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عُرضت على النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أُحد وأنا ابن أربعَ عشرة سنةٌ فلم يُجزني.
زاد البيهقي وابن حبان: ولم يَرَني بلغتُ، وعُرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني.
وفي رواية للبيهقي وابن حبان: ورآني بلغت.
قال نافع: فقدِمتُ على عمر بن عبد العزيز وهو خليفة فحدثته الحديث، فقال: "إن هذا الحد بين الصغير والكبير، وكتب لعماله أن يفرضوا- يعني من العطاء- لمن بلغ خمس عشرة سنة". رواه
البخاري.
4- ويحصل البلوغ في الإناث بما يحصل به البلوغ في الذكور، وزيادة أمر رابع، وهو الحيضُ، فمتى حاضت فقد بلغت وإن لم تبلغ عشر سنين.
فلا يجب الحج على من دون البلوغ لصغر سنه، وعدم تحمُّله أعباء الواجب غالباً، ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "رُفع القلم عن ثلاثة؛ عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يَكبُر، وعن المجنون حتى يفيق " (2) . رواه أحمد وأبو داود والنسائي وصححه الحاكم.
__________
= الجمعة، باب وجوب غسل الجمعة 5 (846) .
(1) رواه أبو داود وابن ماجه والدارمي، بسند صحيح.
(2) رواه أبو داود، كتاب الحدود، باب في المجنون يسرق (4401) ، والترمذي، كتاب الحدود، باب فيمن لا يجب عليه الحد (1423) . وقال: حديث حسن غريب من هذا الوجه.(24/256)
لكن يصح الحج من الصغير الذي لم يبلغ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لقي رَكباً بالروحاء- اسم موضع- فقال: "من القوم؟ " قالوا: المسلمون. فقالوا: من أنت؟ قال: "رسول الله "، فرفعت إليه امرأة صبيًّا فقالت: ألهذا حج؟ قال: "نعم ولكِ أجر" (1)
رواه مسلم.
وإذا أثبت النبي - صلى الله عليه وسلم - للصبي حجًّا ثبت جميع مقتضيات هذا الحج فليُجنِّب جميع ما يجتنبه المحرم الكبير من محظورات الإحرام، إلا أن عمدَه خطأٌ، فإذا فعل شيئاً من محظورات الإحرام فلا فدية عليه ولا على وليِّه.
* الشرط الرابع: الحرية، فلا يجب الحج على مملوك لعدم استطاعته.
* الشرط الخامس: الاستطاعة بالمال والبدن، بأن يكون عنده مال يتمكن به من الحج ذهاباً وإياباً ونفقة، ويكون هذا المال فاضلاً عن قضاء الديون والنفقات الواجبة عليه، وفاضلاً عن الحوائج التي
يحتاجها من المطعم والمشرب والملبس والمنكح والمسكن ومتعلقاته وما يحتاج إليه من مركوب وكُتبِ علم وغيرها، لقوله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) (2) .
ومن الاستطاعة أن يكون للمرأة مَحْرَمٌ، فلا يجب أداء الحج على من لا محرم لها لامتناع السفر عليها شرعاً، إذ لا يجوز للمرأة أن تسافر للحج ولا غيره بدون محرم، سواء أكان السفر طويلاً أم قصيراً، وسواء
__________
(1) تقدم تخريجه ص 70.
(2) سورة آل عمران، الآية: 97.(24/257)
أكان معها نساء أم لا، وسواء كانت شابة جميلة أم عجوزاً شوهاء، وسواء في طائرة أم غيرها لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب يقول: " لا يخلون رجلٌ بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم "، فقام رجل فقال: يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجة، وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"انطلق فحج مع امرأتك " (1) .
ولم يستفصله النبي - صلى الله عليه وسلم - هل كان معها نساء أم لا؟ ولا هل كانت شابة جميلة أم لا؟ ولا هل كانت آمنةً أم لا؟
والحكمة في منع المرأة من السفر بدون محرم صونُ المرأة عن الشر والفساد، وحمايتها من أهل الفجور والفسق؛ فإن المرأة قاصرة في عقلها وتفكيرها والدفاع عن نفسها، وهي مطمعُ الرجال، فربما تُخدع أو تُقهر، فكان من الحكمة أن تُمنع من السفر بدون محرم يُحافظ عليها ويصونها؛ ولذلك يُشترط أن يكون المَحرَم بالغاً عاقلاً، فلا يكفي المحرم الصغير أو المعتوه.
والمَحرَمُ زوج المرأة، وكل ذَكرٍ تَحرمُ عليه تحريماً مؤبداً بقرابةٍ، أو رضاع، أو مصاهرة.
فالمحارم من القرابة سبعة:
1- الأصول؛ وهم الآباء والأجداد وإن علوا، سواء من قِبَلِ الأب أو من قِبَلِ الأم.
2- الفروع؛ وهم الأبناء وأبناء الأبناء وأبناء البنات وإن نزلوا.
3- الإخوة؛ سواءٌ كانوا إخوةً أشقاء أم لأب أم لأم.
4- الأعمام؛ سواء كانوا أعماماً أشقاء أم لأب أو لأم، وسواء كانوا
__________
(1) تقدم تخريجه ص 116.(24/258)
أعماماً للمرأة أو لأحدٍ من آبائها أو أمهاتها، فإن عم الإنسان عمٌّ له ولذريته منهما نزلوا.
5- الأخوال سواء كانوا أخوالاً أشقاء أم لأب أم لأم، وسواء كانوا أخوالاً للمرأة أو لأحدٍ من آبائها أو أُمهاتها، فإن خال الإنسان خالٌ له ولذريته مهما نزلوا.
6- أبناء الإخوة وأبناء أبنائهم وأبناء بناتهم وإن نزلوا، سواءٌ كانوا أشقاء أم لأب أم لأم.
7- أبناء الأخوات وأبناء أبنائهن وأبناء بناتهن وإن نزلوا، سواءٌ كن شقيقات أم لأب أم لأم.
والمحارم من الرضاع نظير المحارم من النسب، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يحرمَ من الرضاع من يحرمُ من النسب " (1) . متفق عليه.
* والمحارم بالمصاهرة أربعة:
1- أبناء زوج المرأة وأبناء أبنائه وأبناء بناته وإن نزلوا.
2- آباء زوج المرأة وأجداده من قِبَل الأب أو من قِبَل الأم وإن عَلَوا.
3- أزواج بنات المرأة وأزواج بنات أبنائها وأزَواج بنات بناتها وإن نزلن.
وهذه الأنواع الثلاثة تثبت المحرمية فيهم بمجرد العقد الصحيح على الزوجة، وإن فارقها قبل الخلوةِ والدخولِ.
4- أزواج أمهات المرأة وأزواج جداتها وإن علوا، سواء من قِبَل الأب أو من قِبَل الأم، لكن لا تثبت المحرمة في هؤلاء إلا بالوطء، وهو الجماع في نكاح صحيح، فلو تزوج امرأة ثم فارقها قبل الجماعِ لم
__________
(1) البخاري، كتاب النكاح، باب ما يحل من الدخول والنظر إلى النساء من الرضاع، ومسلم،
كتاب الرضاع، باب تحريم ابنة الأخ من الرضاع.(24/259)
يكن محرماً لبناتها وإن نزلن.
فإن لم يكن الإنسان مستطيعاً بماله فلا حج عليه، وإن كان مستطيعاً بماله عاجزاً ببدنه؛ نظرنا:
فإن كان عجزاً يُرجى زواله كمرض يُرجى أن يزول، انتظر حتى يزول، ثم يؤدي الحج بنفسه.
وإن كان عجزاً لا يُرجى زواله، كالكبر والمرض المُزمن الذي لا يُرجى برؤه، فإنه يُنيب عنه من يقوم بأداء الفريضة عنه لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة من خثعم قالت: "يا رسول الله إن أبي أدركته فريضة الله في الحج شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره، قال: "حجي عنه " (1) رواه الجماعة.
هذه شروط الحج التي لابد من توافرها لوجوبه.
واعتبارها مطابقٌ للحكمة والرحمة والعدل (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)) (2) .
__________
(1) تقدم تخريجه ص 129.
(2) سورة المائدة، الآية: 50.(24/260)
الفصل الثالث
في المواقيت وأنواع الأنساك
المواقيت نوعان: زمانية ومكانية.
فالزمانية للحج خاصة، أما العمرة فليس لها زمن معين لقوله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) (1) وهي ثلاثة شوال وذو القعدة وذو الحجة.
وأما المكانية فهي خمسة، وقَّتها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففي "الصحيحين " من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "وقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأهل المدينة ذا الحُليفة، ولأهل الشام الجُحفة، ولأهل نجد قَرن المنازل، ولأهل اليمن يَلَملَم، فهن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن لمن كان يريد الحج والعمرة، فمن كان دونهن فمهلُّه من أهله، وكذا حتى أهل
مكة يهلُّون منها" (2) .
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقَّت لأهل العراق (ذات عِرْق) (3) رواه أبو داود والنسائي.
فالأول: ذو الحليفة ويسمى (أبيار علي) بينه وبين مكة نحو عشر مراحل، وهو ميقات أهل المدينة ومن مرَّ به من غيرهم.
الثاني: الحجفة، وهي قرية قديمة بينها وبين مكة نحو ثلاث مراحل، وقد خربت فصار الناس يُحرمون من رابغ بدلاً عنها وهي ميقات أهل الشام ومن مر بها من غيرهم إن لم يمروا بذي الحليفة قبلها،
فإن مروا به لزمهم الإحرام منه.
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 197.
(2) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب مهل الشامل (1526) ، ومسلم، كتاب الحج، باب مواقيت الحج (1181) ..
(3) أخرجه أبو داود، كتاب المناسك، باب في المواقيت (1739) ، وعند مسلم: "ومهل أهل العراق من ذات عرق" أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب مواقيت الحج والعمرة (1183) .(24/261)
الثالث: قرن المنازل؛ ويسمى (السيل) وبينه وبين مكة نحو مرحلتين، وهو ميقات أهل نجد ومن مر به من غيرهم.
الرابع: يلملم وهو جبل أو مكان بتهامة، بينه وبين مكة نحو مرحلتين، ويسمى (السعدية) وهو ميقات أهل اليمن ومن مر به من غيرهم.
الخامس: ذات عرق، ويسمى عند أهل نجد (الضريبة) بينها وبين مكة مرحلتان، وهي لأهل العراق ومن مر بها من غيرهم.
ومن كان أقرب إلى مكة من هذه المواقيت فميقاته مكانه فَيُحرم منه، حتى أهل مكة يحرمون من مكة، إلا في العمرة فيحرم من كان في الحَرَم من أدنى الحلّ لأَن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعبد الرحمن بن أبي بكر: "اخْرُج بأختِك -يعني عائشة لما طلبت منه العمرة- من الحَرَم فَلتُهِل بعمرة" (1) متفق عليه.
ومن كان طريقه يميناً أو شمالاً من هذه المواقيت فإنه يحرم إذا حاذى أقرب المواقيت إليه، فإن لم يُحاذِ ميقاتاً مثل أهل سواكنَ في السودان ومن يمر من طريقهم فإنهم يحرمون من جُدّة.
ولا يجوز لمن مر بهذه المواقيت وهو يريد الحج أو العمرة أن يتجاوزها إلا محرماً، وعلى هذا فإذا كان في الطائرة وهو يُريد الحج أو العمرة، وجب عليه الإحرام إذا حاذى الميقات من فوقه، فيتأهب ويلبس ثياب الإحرام قبل محاذاة الميقات، فإذا حاذاه عقد نية الإحرام فوراً. ولا يجوز له تأخيره إلى الهبوط في جُدَّة، لأن ذلك من تعدي حدود الله تعالى، وقد قال سبحانه: (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) (2) ،
__________
(1) تقدم تخريجه ص 45.
(2) سورة الطلاق، الآية: 1.(24/262)
(وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)) (1) ، (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ) (2) .
ومن مر بالمواقيت وهو لا يريد حجًّا ولا عمرة، ثم بدا له بعد ذلك أن يعتمر أو يحج فإنه يُحرم من المكان الذي عزم فيه على ذلك لأن في "الصحيحين " من حديث ابن عباس رضي الله عنهما في ذكر المواقيت قال: ومن كان دون ذلك فَمِن حيث أنشأ، وإذا مر بهذه المواقيت وهو لا يريد الحج ولا العمرة وإنما يريد مكة لغرض آخر كطلب علم، أو زيارة قريب، أو علاج مرض، أو تجارة أو نحو ذلك فإنه لا يجب عليه الإحرام إذا كان قد أدى الفريضة، لحديث ابن عباس السابق وفيه: "هن
لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن لمن كان يريد الحج والعمرة" (3) ، فإن مفهومه أن من لا يريدهما لا يجب عليه الإحرام.
وإرادة الحج والعمرة غير واجبة على من أدى فريضتهما، وهما لا يجبان في العُمرِ إلا مرة واحدة، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - حين سئل هل يجب الحج كل عام؟ قال: "الحج مرة فما زاد فهو تطوع " (4) .
والعمرة كالحج لا تجب إلا مرة في العمر.
لكن الأولى لمن مر بالميقات أن لا يدع الإحرام بعمرة أو حج إن كان في أشهره، وإن كان قد أدى الفريضة، ليحصل له بذلك الأجر، ويخرج من الخلاف في وجوب الإحرام عليه.
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 229.
(2) سورة النساء، الآية: 14.
(3) تقدم تخريجه ص 127.
(4) أخرجه الإمام أحمد (1/290) ، وأبو داود، كتاب المناسك، باب فرض الحج (1721) ، والنسائي، كتاب المناسك، باب وجوب الحج (5/111) ، وابن ماجه، كتاب المناسك، باب فرض الحج (2886) .(24/263)
أنواع الأنساك ثلاثة
الأول: التمتع بالعمرة إلى الحج، وهو أن يُحرم في أشهر الحج بالعمرة وحدها، ثم يفرغ منها بطواف وسعي وتقصير، ويحل من إحرامه، ثم يحرم بالحج في وقته من ذلك العام.
الثاني: القران؛ وهو أن يحرم بالعمرة والحج جميعاً، أو يُحرم بالعمرة أولاً ثم يُدخل الحج عليها قبل الشروع في طوافها فإذا وصل إلى مكة طاف طواف القدوم، وسعى بين الصفا والمروة للعمرة والحج
سعياً واحداً، ثم استمر على إحرامه حتى يُحل منه يوم العيد.
ويجوز أن يؤخر السعي عن طواف القدوم إلى ما بعد طواف الحج، لاسيما إذا كان وصوله إلى مكة متأخراً وخاف فوات الحج إذا اشتغل بالسعي.
الثالث: الإفراد؛ وهو أن يُحرم بالحج مفرداً، فإذا وصل مكة طاف طواف القدوم، وسعى للحج، واستمر على إحرامه حتى يحل منه يوم العيد.
ويجوز أن يؤخر السعي إلى ما بعد طواف الحج كالقارن.
وبهذا تبين أن عمل المُفرد والقارن سواء، إلا أن القارن عليه الهديُ لحصول النُّسُكين له دون المفرد.
وأفضل هذه الأنواع التمتع، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر به أصحابه وحثهم عليه، بل أمرهم أن يُحولوا نية الحج إلى العمرة من أجل التمتع.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سُئل عن متعةِ الحج؟ فقال: "أهل المهاجرون والأنصار وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع وأهللنا، فلما قدمنا مكة قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اجعلوا إهلالكم بالحج عُمرةً إلا من قلد(24/264)
الهدي" (1) فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة وأتينا النساء ولبسنا الثياب) رواه البخاري.
وعن جابر رضي الله عنه قال: "خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُهلين بالحج، معنا النساء والولدان، فلما قدمنا مكة طُفنا بالبيت والصفا والمروة، فقال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من لم يكن معه هديٌ فليحلُل "، قال: قلنا: أي الحل؟! قال: "الحلُ كله". قال: فأتينا النساء، ولبسنا الثياب ومَسَسنا الطيب، فلما كان يومُ التروية أهللنا بالحج " (2) رواه مسلم.
وفي رواية له قال: "قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "قد علمتم أني أتقاكم لله، وأصدقكم وأبرُّكم، ولولا هديي لأحللت كما تُحلون، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لم اسق الهديَ، فَحِلُّوا" (3) . فحللنا وسَمِعنا وأطعنا ".
فهذا صريح في تفضيل التمتع على غيره من الأنساك لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسُق الهدي " (4) ، ولم يمنعه من الحل إلا سوقُ الهدي، ولأن التمتع أيسر على الحاج، حيث يتمتع بالتحلل بين الحج والعمرة، وهذا هو الذي يوافق مُراد الله عز وجل حيث قال سبحانه: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (5) ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "بُعِثتُ بالحنيفية السمحة" (6) .
__________
(1) البخاري، كتاب الحج، باب قوله تعالى:"ذلك لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام".
(2) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب صفة حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - (1218) .
(3) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب صفة حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - (1218) .
(4) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب صفة حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - (1218) .
(5) سورة البقرة، الآية: 185.
(6) رواه الإمام اْحمد (6/116 و 233) عن عائشة، وحسنه السخاوي في "المقاصد الحسنة" (214) والمناوي في "فيض القدير" (3/203) .(24/265)
هذا وقد يُحرم الحاج بالعمرة متمتعاً بها إلى الحج، ثم لا يتمكن من إتمامها قبل الوقوف بعرفة، ففي هذه الحال يدخل الحج على العمرة قبل الشروع في طوافها ويصير قارناً، ولذلك مثالان:
المثال الأول: امرأة أحرمت بالعمرة متمتعة بها إلى الحج، فحاضت أو نَفِست قبل أن تطوف، ولم تطهر قبل وقت الوقوف بعرفة، فإنها تُحرم بالحج وتصير قارنة، وتفعل ما يفعله الحاج، غير أنها لا تطوف بالبيت، ولا تسعى بين الصفا والمروة حتى تطهر وتغتسل.
المثال الثاني: شخص أحرم بالعمرة متمتعاً بها إلى الحج، فلم يتمكن من الدخول إلى مكة قبل وقت الوقوف بعرفة، فإنه يُدخِلُ الحج على العمرة ويصير قارناً لتعذُّر إكمال العمرة منه.(24/266)
الفصل الرابع
فيما يجب به الهدي
من الأنساك، وما صفة الهدي
سبق في الفصل الثالث أن الأنساك ثلاثة: التمتع والقِران والإفراد، والذي يجب به الهديُ هو التمتع والقِران.
والمتمتع: هو مَن أحرم بالعمرة في أشهر الحج ثم حلَّ منها وأحرم بالحج في عامِه، فلو أحرم بالعمرة قبل دخول شهر شوال، وبقي في مكة ثم حج في عامه فلا هدي عليه لأنه ليس بمتمتع، حيث كان إحرامه بالعمرة قبل دخول أشهر الحج.
ولو أحرم بالعمرة بعد دخول شوال وحج من العام الثاني، فلا هدي عليه أيضاً لأن العمرة في عامٍ والحج في عام آخر.
ولو أحرم بالعمرة في أشهر الحج، وحل منها ثم رجع إلى بلده وعاد منه مُحرماً بالحج وحده لم يكن متمتعاً لأنه أفرد الحج بسفر مستقل.
وأما القِران: فهو أن يُحرم بالعمرة والحج معاً، أو يُحرم بالعمرة أولاً ثم يُدخل الحج عليها قبل الشروع في طوافها كما سبق.
ولا يجب الهدي على المتمتع والقارن إلا بشرط أن لا يكونا من حاضري المسجد الحرام، أي: لا يكونا من سكان مكة أو الحرم، فإن كانوا من سكان مكة أو الحرم فلا هدي عليهم لقوله تعالى: (ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) (1) .
ويلزم الهدي أهل جُدّة إذا أحرموا بتمتع أو قِران، لأنهم ليسوا من حاضري المسجد الحرام.
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 196.(24/267)
ومَن كان من سُكان مكة ثم سافر إلى غيرها لطلب علم أو غيره، ثم رجع إليها متمتعاً أو قارناً فلا هدي عليه لأن العبرة بمحل إقامته ومسكنه وهو مكة.
أما إذا كان من أهل مكة ولكن انتقل للسكنى في غيرها ثم رجع إليها متمتعاً أو قارناً فإنه يلزمه الهدي، لأنه حينئذ ليس من حاضري المسجد الحرام.
ومتى عَدِمَ المتمتع والقارن الهدي أو ثمنه بحيث لا يكونُ معه من المال إلا ما يحتاجه لنفقته ورجوعه فإنه يسقط عنه الهدي، ويلزمه الصوم؛ لقوله تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) .
ويجوز أن يصوم الأيام الثلاثة في أيام التشريق؛ وهي اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة، لقول عائشة وابن عمر رضي الله عنهم: "لم يُرخّص في أيام التشريق أن يُصمن إلا لمن لم يجد الهدي " (1) رواه البخاري.
ويجوز أن يصومها قبل ذلك، بعد الإحرام بالعمرة إذا كان يعرف من نفسه أنه لا يستطيع الهدي، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة" (2) ، فمن صام الثلاثة في العمرة فقد صامها في الحج.
لكن لا يصوم هذه الأيام يوم العيد لحديث أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن صوم يومين: يوم الفطر ويوم النحر " (3) . متفق عليه.
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب صيام أيام التشريق (1997) .
(2) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب صفة حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - (1812) .
(3) البخاري، كتاب الصوم، باب صوم يوم النحر، مسلم، كتاب الصيام، باب النهي عن صوم يوم الفطر والأضحى.(24/268)
ويجوز أن يصوم هذه الثلاثة متوالية ومتفرقة، ولكن لا يؤخرها عن أيام التشريق. وأما السبعة الباقية فيصومها إذا رجع إلى أهل إن شاء متوالية، وإن شاء متفرقة، لأن الله سبحانه أوجبها ولم يشرط أنها
متتابعة.
مسائل تتعلق بالهدي:
المسألة الأولى: في بيان نوع الهدي.
المسألة الثانية: فيما يجب أو ينبغي أن يتوافر فيه.
المسألة الثالثة: في مكان ذبحه.
المسألة الرابعة: في وقت ذبحه.
المسألة الخامسة: في كيفية الذبح المشروع.
المسألة السادسة: في كيفية توزيعه.
فأما نوع الهدي: فهو من الإبل أو البقر أو الغنم الضأن والمعز لقوله تعالى: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ) (1) .
وبهيمة الأنعام هي الإبل والبقر والغنم.
وتجزىء الواحدة من الغنم في الهدي عن شخص واحد.
وتُجزىء الواحدة من الإبل أو البقر عن سبعة أشخاص لحديث جابر رضي الله عنه قال: "أمَرَنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نشترك في الإبل والبقر، كلُّ سبعةٍ منا في بَدَنة" (2) متفق عليه.
وأما ما يجب أن يتوافر فيه:
فيجب أن يتوافر فيه شيئان:
__________
(1) سورة الحج، الآية: 34.
(2) مسلم، كتاب الحج، باب الاشتراك في الهدي (956) .(24/269)
1- بلوغ السن الواجب وهو خمس سنين في الإبل، وسنتان في البقر، وسنة في المعز، وستة أشهر في الضأن، فما دون ذلك لا يجزئ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تذبحوا إلا مُسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعةً من الضأن " رواه الجماعة إلا البخاري.
2- السلامة من العيوب الأربعة التي أمر النبي " - صلى الله عليه وسلم - باتقائها وهي: - العوراء البين عورها، والعمياء أشد فلا تجزئ.
- المريضة البين مرضها بجرب أو غيره.
- العرجاء البين ضلعها، والزمنى التي لا تمشي، ومقطوعة إحدى القوائم أشدُّ.
- الهزيلة التي لا مُخَّ فيها.
لما روى مالك في "الموطأ" عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئل: ماذا يتقى من الضحايا، فأشار بيده وقال: "أربعاً،- وكان- البراء يُشيرُ بيده ويقولُ: يدي أقصر من يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، "العرجاء البيِّن ضلعها، والعوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعجفاء التي لا تُنقى".
فأما العيوب التي دون ذلك كعيب الأذن والقرن فإنها تكره، ولا تمنع الإجزاء على القول الراجح.
وأما ما ينبغي أن يتوافر في الهدي، فينبغي أن يتوافر فيه السمن والقوة وكبر الجسم وجمال المنظر، فكلما كان أطيب فهو أحب إلى الله عز وجل، وإن الله طيب لا يقبل إلا طيباً.
وأما مكان ذبح الهدي: ففي منى، ويجوز في مكة وفي بقية الحرم،(24/270)
لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كل فجاج مكة منحرٌ وطريقٌ " (1) رواه أبو داود.
وقال الشافعي رحمه الله: الحرم كله منحر؛ حيث نحر منه أجزأه في الحج والعمرة.
وعلى هذا فإن كان ذبح الهدي بمكة أفيد وأنفع للفقراء فإنه يذبح في مكة، إما في يوم العيد، أو في الأيام الثلاثة بعده.
ومن ذبح الهدي خارج حدود الحرم في عرفة أو غيرها من الحل لم يجزئه على المشهور.
وأما وقت الذبح: فهو يوم العيد إذا مضى قدر فعل الصلاة بعد ارتفاع الشمس قدرَ رمحٍ إلى آخر أيام التشريق، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحر هديه ضحى يوم العيد، ويُروى عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "كل أيام التشريق ذبح " (2) .
فلا يجوز تقديم ذبح هدي التمتع والقران على يوم العيد، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يذبح قبل يوم العيد، وقال: "خُذوا عني مناسككم " (3) ، وكذلك لا يجوز تأخير الذبح عن أيام التشريق لخروج ذلك عن أيام النحر.
ويجوز الذبح في هذه الأيام الأربعة ليلاً ونهاراً، ولكن النهار أفضل.
وأما كيفية ذبح الهدي: فالسنة نحر الإبل قائمة معقولة يدها اليسرى، فإن لم يتيسر نحرها قائمة فباركة.
والسنة في غير الإبل الذبح مضجعة على جنبها.
والفرق بين النحر والذبح أن النحر في أسفل الرقبة مما يلي الصدر، والذبح في أعلاها ما يلي الرأس.
__________
(1) أخرجه أبو داود، كتاب المناسك، باب الصلاة بجمع (1937) والحاكم (1/473) وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي وصححه الألباني في صحيح الجامع (5436) .
(2) أخرجه الإمام أحمد (4/82) .
(3) تقدم تخريجه ص 8.(24/271)
ولابد في النحر والذبح من إنهار الدم بقطع الودجين لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا ما لم يكن سناً أو ظفراً" (1) متفق عليه.
وإنهارُ الدم يكون بقطع الودجين، وهما العرقان الغليظان المُحيطان بالحُلقوم، وتمام ذلك بقطع الحُلقوم والمريء أيضاً.
ولابد من قول الذابح: "بسم الله " عند الذبح أو النحر، فلا تؤكل الذبيحة إذا لم يذكر اسم الله عليها، لقوله تعالى: (وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) (2) ، ولا تجزئ عن الهدي حينئذ لأنها ميتة لا يحل أكلها.
وأما كيفية توزيع الهدي: فقد قال الله تعالى: (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28)) (3) ، (وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجته من كل بدنة بقطعة فجُمعت في قدر فطبخت، فأكل من لحمها وشرب من مرقها) (4) رواه مسلم.
فالسنة أن يأكل من هديه ويُطعم منه غيره، ولا يكفي أن يذبح الهدي ويرمي به بدون أن يتصدق منه وينتفع به، لأن هذا إضاعةٌ للمال، ولا يحصل به الإطعام الذي أمر الله به، إلا أن يكونَ الفقراء حوله فيذبحه ثم يُسلمه لهم، فحينئذ يبرأ منه.
فعلى الحاج أن يعتني بهديه من جميع هذه النواحي ليكون هدياً مقبولاً مقرباً له إلى الله عز وجل، ونافعاً لعباد الله.
__________
(1) البخاري، كتاب الذبائح، باب التسمية عند الذبح، ومسلم، كتاب الأضاحي، باب جواز الذبح بكل ما أنهر الدم إلا السن.
(2) سورة الأنعام، الآية: 121.
(3) سورة الحج، الآية: 28.
(4) مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - (886) .(24/272)
واعلم أن إيجاب الهدي على المتمتع والقارن، أو الصيام عند العدم، ليس غُرماً على الحاج، ولا تعذيباً له بلا فائدة، وإنما هو من تمام النسك وكماله، ومن رحمة الله وإحسانه، حيث شرع لعباده ما به كمال عبادتهم وتقربهم إلى ربهم، وزيادة أجرهم، ورفعة درجاتهم، والنفقة فيه مخلوفة، والسعي فيه مشكور، فهو نعمة من الله تعالى يستحق عليه الشكر بذبح الهدي، أو القيام ببدله، ولهذا كان الدم فيه دم شُكران لا دم جبران، فيأكل منه الحاج ويهدي ويتصدق.
وكثيرٌ من الناس لا تخطر ببالهم هذه الفائدة العظيمة، ولا يحسبون لها حساباً، فتجدهم يتهربون من وجوب الهدي، ويسعون لإسقاطه بكل وسيلة، حتى إن منهم من يأتي بالحج مفرداً من أجل أن لا يجب عليهم الهدي أو الصيام، فيحرمون أنفسهم أجر التمتع وأجر الهدي أو بدله، والله المستعان.(24/273)
الفصل الخامس
في محظورات الإحرام
محظورات الإحرام: ما يُمنع منه المحرم بحج أو عمرة وهي ثلاثة أقسام:
قسم محرم على الذكور والإناث.
قسم محرم على الذكور فقط.
قسم محرم على الإناث فقط.
فأما المحرم على الذكور والإناث فهو:
1- إزالة شعر الرأس بحلق أو غيره لقوله تعالى: (َلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) (1) ، وألحق جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى شعر بقية الجسم بشعر الرأس، وعلى هذا فلا يجوز للمحرم أن يُزيل أي شعر كان من بدنه.
وقد بين الله سبحانه وتعالى فدية حلق الرأس بقوله: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ َفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) (2) .
وأوضح النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الصيام مقداره ثلاثة أيام، وأن الصدقة مقدارُها ثلاثة آصع من الطعام لستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع، وأن النسك شاة، والمراد شاة تبلغ السن المعتبر في الهدي، وتكون سليمة من العيوب المانعة من الإجزاء.
ويُسمى العلماء هذه الفدية فدية الأذى لقوله تعالى: (أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ) .
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 196.
(2) سورة البقرة، الآية: 196.(24/274)
2- تقليم الأظافر أو قلعها أو قصها قياساً على حلق الشعر؛ على المشهور عند أهل العلم.
ولا فرق بين أظفار اليدين والرجلين، لكن لو انكسر ظُفرهُ وتأذى به فلا بأس أن يقص القدر المؤذي منه، ولا فدية عليه.
3- استعمال الطيب بعد الإحرام في ثوبه أو بدنه أو غيرهما مما يتصل به لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في المُحرم: "لا يلبس ثوباً مسه زعفران ولا ورس " (1) ، وقال في المحرم الذي وقصته راحلته وهو واقف بعرفة: "لا تُقربوه طيباً" (2) وعلل ذلك بكونه يُبعث يوم القيامة ملبياً. والحديثان صحيحان.
فدل هذا على أن المحرم ممنوع من قُربان الطيب.
ولا يجوز للمحرم شم الطيب عمداً ولا خلط قهوته بالزعفران الذي يؤثر في طعم القهوة أو رائحتها، ولا خلط الشاي بماء الورد ونحوه مما يظهر فيه طعمه أو ريحه.
ولا يستعمل الصابون المُمَسك إذا ظهرت فيه رائحة الطيب، وأما الطيب الذي تطيب به قبل إحرامه فلا يضر بقاؤه بعد الإحرام لقول عائشة رضي الله عنها: "كنت أنظر إلى وبيص المسك في مفارق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مُحرم " (3) متفق عليه.
4- عقد النكاح لقول النبي عم: "لا ينكح المحرم ولا يُنكح ولا
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب ما لا يلبس المحرم من الثياب (1542) ، ومسلم، كتاب الحج، باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة (1177) .
(2) تقدم تخريجه ص 87.
(3) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب الطيب عند الإحرام (1539) ، ومسلم، كتاب الحج، باب الطيب للمحرم عند الإحرام (1189) (133) .(24/275)
يخطب " (1) رواه مسلم.
فلا يجوز للمحرم أن يتزوج امرأة ولا أن يعقد لها النكاح بولاية ولا بوكالة، ولا يخطب امرأة حتى يحل من إحرامه.
ولا تُزوَّج المرأة وهي محرمة. وعقدُ النكاح حال الإحرام فاسدٌ غير صحيح، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَن عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" (2) .
5- المباشرة لشهوة بتقبيل أو لمس أو ضمِ أو نحوه لقوله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) (3) .
ويدخل في الرفث مقدمات الجماع كالتقبيل والغمز والمُداعبة لشهوة.
فلا يحل للمحرم أن يقبل زوجته لشهوة، أو يمسها لشهوة، أو يغمزها لشهوة، أو يداعبها لشهوة.
ولا يحل لها أن تمكنه من ذلك وهي مُحرمة.
ولا يحل النظر لشهوة أيضاً لأنه يستمتع به كالمباشرة.
6- الجماع لقوله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) (4) .
والرفث الجماع ومقدماته، والجماع أشد محظورات الإحرام تأثيراً على الحج وله حالان:
الحال الأولى: أن يكون قبل التحلل الأول فيترتب عليه شيئان:
أ- وجوب الفدية وهي بدنَة أو بقرة تجزئ في الأضحية يذبحها
__________
(1) تقدم تخريجه ص 28.
(2) تقدم تخريجه ص 11.
(3) سورة البقرة، الآية: 197.
(4) سورة البقرة، الآية: 197.(24/276)
ويُفرقها كلها على الفقراء، ولا يأكل منها شيئاً.
ب- فساد الحج الذي حصل فيه الجماع، لكن يلزم إتمامه وقضاؤه من السنة القادمة بدون تأخير.
قال مالك في "الموطأ": بلغني أن عمر وعلياً وأبا هريرة سُئلوا عن رجل أصاب أهله وهو مُحرم؟ فقالوا: يَنفذان لوجههما حتى يقضيا حجهما، ثم عليهما حج قابل والهدي.
قال: وقال علي: وإذا أهلا بالحج من عام قابل تفرقا حتى يقضيا حجهما.
ولا يفسد النسك في باقي المحظورات.
الحال الثانية: أن يكون الجماع بعد التحلل الأول، أي بعد رمي جمرة العقبة والحلق، وقبل طواف الإفاضة، فالحج صحيح، لكن يلزمه شيئان على المشهور من المذهب:
أ- فدية شاة يذبحها ويفرقها جميعاً على الفقراء، ولا يأكل منها شيئاً.
ب- أن يخرج إلى الحل، أي: إلى ما وراء حدود الحرم فيجدد إحرامه، ويلبس إزاراً ورداء ليطوف للإفاضة محرماً.
7- من محظورات الإحرام: قتل الصيد، والصيد: كل حيوان بري حلال متوحش طبعاً كالظباء والأرانب والحمام، لقوله تعالى: (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا) (1) ، وقوله: (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)) (2) فلا يجوز للمحرم اصطياد الصيد
__________
(1) سورة المائدة، الآية: 96.
(2) سورة المائدة، الآية: 95.(24/277)
المذكور، ولا قتله بمباشرة أو تسبب أو إعانة على قتله بدلالة أو إشارة أو مناولة سلاح أو نحو ذلك.
وأما الأكل منه فهو أقسام ثلاثة:
الأول: ما قتله المحرم أو شارك في قتله فأكله حرام على المحرم وغيره.
الثاني: ما صاده حلال بإعانة المحرم، مثل أن يدله المحرم على الصيد، أو يناوله آلة الصيد، فهو حرام على المحرم دون غيره.
الثالث: ما صاده الحلال للمحرم، فهو حرام على المحرم دون غيره، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يُصَد لكم " (1) .
وعن أبي قتادة رضي الله عنه أنه صاد حمراً وحشيًّا، وكان أبو قتادة غير محرم وأصحابه محرمين، فأكلوا منه، ثم شكوا في أكلهم، فسألوا النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: "هل أشار إليه إنسان أو أمره بشيء "؟ قالوا: لا، قال: "فكلوه" (2) .
وإذا قتل المحرم الصيد متعمداً فعليه جزاؤه، لقوله تعالى: (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا) (3) .
فإذا قتل حمامة مثلاً فمثلها الشاة، فيخير بين أن يذبح الشاة ويفرقها على الفقراء فدية عن الحمامة، وبين أن يُقومها ويخرج ما يقابل القيمة طعاماً للمساكين، لكل مسكين نصف صاع، وبين أن يصوم عن إطعام
__________
(1) أخرجه أحمد (3/362، 387، 389) وأبو داود (1851) والترمذي (5/187) وابن خزيمة (2641) .
(2) أخرجه البخاري (1725) ومسلم (1196) عن أبي قتادة.
(3) سورة المائدة، الآية: 95.(24/278)
كل مسكين يوماً.
وأما قطع الشجر فليس حراماً على المحرم من أجل الإحرام، لأنه لا تأثير للإحرام فيه، وإنما يحرم على من كان داخل حدود الحرم سواء أكان محرماً أم غير محرم، وعلى هذا يجوز قطع الشجر في عرفة
للمحرم وغير المحرم، ويحرَّم في مزدلفة ومنى على المحرم وغير المحرم لأن عرفة خارج حدود الحرم، ومزدلفة ومنى داخل حدود الحرم.
فهذه المحظورات السبعة حرام على الرجال والنساء.
ويختص الرجال بمحظورين حرام عليهم دون النساء وهما:
1- تغطية الرأس، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في المحرم الذي وقصته راحلته بعرفة: "اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تخُمروا رأسه- أي لا تُغطوه- " (1) ، متفق عليه.
فلا يجوز للرجل أن يُغطي رأسه بما يلاصقه كالعمامة- والقُبع والطاقية والغُترة ونحوها، فأما غير الملاصق كالشمسية وسقف السيارة والخيمة ونحوها فلا بأس به لقول أم حصين رضي الله عنها: "حججنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حج الوداع فرأتيه حين رمى جمرة العقبة وانصرف وهو على راحلته ومعه بلال وأسامة أحدهما يقود راحلته والآخر رافع ثوبه على رأس النبي - صلى الله عليه وسلم - يُظلله من الشمس " رواه مسلم.
وفي رواية: "يستره من الحر حتى رمى جمرة العقبة" (2) .
ولا بأس أن يحمل متاعه على رأسه وإن تغطى ببعض الرأس لأن ذلك لا يُقصد به الستر غالباً. ولا بأس أن يغوص في الماء ولو تغطى رأسه بالماء.
__________
(1) تقدم تخريجه ص 87.
(2) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر (1298) .(24/279)
2- مما يختص به الرجال من محظورات الإحرام لُبس المخيط، وهو أن يلبس ما يلبس عادة على الهيئة المُعتادة، سواء كان شاملاً للجسم كله، كالبرنس والقميص، أو لجزء منه كالسراويل والفنايل والخفاف والجوارب وشراب اليدين والرجلين، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئل: ما يلبس المحرم من الثياب؟ قال: "لا يلبس القميص ولا العمامة ولا البرانس ولا السراويل ولا الخفاف ولا ثوباً مسّه زعفرانٌ ولا ورس " (1) متفق عليه.
لكن إذا لم يجد الإزار ولا ثمنه لبس السراويل، وإذا لم يجد النعلين ولا ثمنهما لبس الخفين ولا شيء عليه، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب بعرفات يقول: "من لم يجد إزاراً فليلبس سراويل، ومن لم يجد نعلين فليلبس خفين " (2) متفق عليه.
ولا بأس أن يلف القميص على جسمه بدون لبس.
ولا بأس أن يجعل العباءة رداءً بحيث لا يلبسها كالعادة.
ولا بأس أن يلبس رداءً أو إزاراً مرقعاً.
ولا بأس أن يعقد على إزاره خيطاً أو نحوه.
ولا بأس أن يلبس الخاتم وساعة اليد ونظارة العين وسماعة الأذن، ويُعلق القربة ووعاء النفقة في عنقه.
ولا بأس أن يعقد رداءه عند الحاجة مثل أن يخاف سقوطه، لأن هذه الأمور لم يرد فيها منع عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وليست في معنى المنصوص عليه، بل لقد سُئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عما يلبس المحرم؟ فقال: "لا يلبس
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب اللباس، باب البرانس (5803) ، ومسلم، كتاب الحج، باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة وما لم يبح (1177) .
(2) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب لبس الخفين للمحرم (1841) ، ومسلم، الباب السابق.(24/280)
القميص ولا العمامة ولا البرانس ولا السراويل ولا الخفاف " (1) .
فإجابته - صلى الله عليه وسلم - بما لا يُلبس عن السؤال عما يلبس دليل على أن كل ما عدا هذه المذكورات فإنه يلبسه المحرم.
وقد أجاز النبي - صلى الله عليه وسلم - للمحرم أن يلبس الخفين إذا عدم النعلين لاحتياجه إلى وقاية رجليه، فمثل ذلك لبس نظارة العين لاحتياج لابسها إلى حفظ عينيه.
وهذان المحظوران خاصان بالرجال، أما المرأة فلها أن تغطي رأسها، ولها أن تلبس في الإحرام ما شاءت من الثياب، غير أن لا تتبرج بالزينة، ولا تلبس القفازين، وهما شراب اليدين، ولا تنتقب ولا تغطي وجهها إلا أن يمر الرجال قريباً منها فتغطي وجهها حينئذ، لأنه لا يجوز كشف الوجه للرجال الأجانب أي غير المحارم.
ويجوز للرجال والنساء تغيير ثياب الإحرام إلى غيرها مما لا يمتنع عليهما لبسه حال الإحرام.
وإذا فعل المحرم شيئاً من المحظورات السابقة من الجماع أو قتل الصيد أو غيرهما فله ثلاث حالات:
الأولى: أن يكون ناسياً أو جاهلاً أو مكرهاً أو نائماً، فلا شيء عليه، لا إثم ولا فدية ولا فساد نسك، لقوله تعالى: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) (2) وقوله: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)) (3) .
فإذا انتفى حكم الكفر عمن أُكره عليه، فما دونه من الذنوب أولى.
__________
(1) تقدم تخريجه ص 282.
(2) سورة الأحزاب، الآية: 5.
(3) سورة النحل، الآية: 106.(24/281)
وهذه نصوص عامة في محظورات الإحرام وغيرها، تفيد رفع الحكم عمن كان معذوراً بها.
وقال الله تعالى في خصوص المحظورات في الصيد: (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) (1) ، فقيَّد وجوب الجزاء بكون القاتل متعمداً، والتعمد وصف مناسب للعقوبة والضمان، فوجب اعتباره وتعليق الحكم به، وإن لم يكن متعمداً فلا جزاء عليه ولا إثم، لكن متى زال العذر فعلم الجاهل، وذكر الناسي، واستيقظ النائم، وزال الإكراه وجا عليه التخلي عن المحظور فوراً.
فإن استمر عليه مع زوال العذر كان آثماً، وعليه ما يترتب على فعله من الفدية وغيرها.
مثال ذلك أن يُغطي المحرم رأسه وهو نائم، فلا شيء عليه مادام نائماً، فإذا استيقظ لزمه كشف رأسه فوراً، فإن استمر في تغطيته مع علمه بوجوب كشفه كان آثماً، وعليه ما يترتب على ذلك.
الثانية: أن يفعل المحظور عمداً لكن لعذر يبيحه، فعليه ما يترتب على فعل المحظور ولا إثم عليه لقوله تعالى: (وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) (2) .
الثالثة: أن يفعل المحظور عمداً بلا عذر يبيحه، فعليه ما يترتب على فعله مع الإثم.
أقسام المحظورات باعتبار الفدية:
تنقسم محظورات الإحرام باعتبار الفدية إلى أربعة أقسام:
__________
(1) سورة المائدة، الآية: 95.
(2) سورة البقرة، الآية: 196.(24/282)
أولاً: ما لا فدية فيه، وهو عقد النكاح.
ثانياً: ما فديته بدنة، وهو الجماع في الحج قبل التحلل الأول.
ثالثاً: ما فديته جزاؤه أو ما يقوم مقامه، وهو قتل الصيد.
رابعاً: ما فديته صيامٌ أو صدقة أو نسك حسب البيان السابق في فدية الأذى، وهو حلق الرأس.
وألحق به العلماء بقية المحظورات سوى الثلاثة السابقة.(24/283)
الفصل السادس
في صفة العمرة
العمرة إحرامٌ وطوافٌ وسعيٌ وحلقٌ أو تقصيرٌ.
فأما الإحرام فهو نية الدخول في النسك والتلبس به. والسنة لمريده أن يغتسل كما يغتسل للجنابة، ويتطيب بأطيب ما يجد في رأسه ولحيته بدهن عود أو غيره، ولا يضره بقاؤه بعد الإحرام لما في "الصحيحين " من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يُحرم تطيب بأطيب ما يجد، ثم أرى وبيص المسك في رأسه ولحيته بعد ذلك " (1) .
والاغتسال عند الإحرام سُنَّةٌ في حق الرجال والنساء، حتى المرأة الحائض والنفساء؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أسماء بنت عميس حين ولدت محمد بن أبي بكر في ذي الحليفة في حجة الوداع أمرها فقال: "اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي " رواه مسلم من حديث جابر رضي الله عنه.
ثم بعد الاغتسال والتطيب يلبس ثياب الإحرام، وهي للرجال إزارٌ ورداء، وأما المرأة فتلبس ما شاءت من الثياب غير أن لا تتبرج بزينة، ولا تنتقب ولا تلبس القفازين وتغطي وجهها عند الرجال غير المحارم.
ثم يصلي غير الحائض والنفساء صلاة الفريضة إن كان في وقت فريضة، وإلا صلى ركعتين ينوي بهما سنة الوضوء.
فإذا فرغ من الصلاة أحرم، وقال لبيك عمرة، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.
هذه تلبية النبي - صلى الله عليه وسلم -، وربما زاد: لبيك إله الحق لبيك.
__________
(1) تقدم تخريجه ص 275.(24/284)
والسنة للرجال رفع الصوت بالتلبية لحديث السائب بن خلاد رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال والتلبية " (1) أخرجه الخمسة.
ولأن رفع الصوت بها إظهارٌ لشعائر الله وإعلانٌ بالتوحيد.
وأما المرأة فلا ترفع صوتها بالتلبية ولا غيرها من الذكر لأن المطلوب في حقها التستر.
ومعنى قول الملبي: لبيك اللهم لبيك، أي: إجابةً لك يا رب، وإقامة على طاعتك، لأن الله سبحانه دعا عباده إلى الحِج على لسان الخليلين إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ) (2) .
وإذا كان من يريد الإحرام خائفاً من عائق يمنعه من إتمام نُسكه؛ من مرض أو غيره، فإنه يسن أن يشترط عند نية الإحرام، فيقول عند عقده: "إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني "، أي: إن منعني مانع من إتمام نُسكي من مرض أو تأخر أو غيرهما، فإني أحل بذلك من إحرامي، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل على ضباعة بنت الزبير فقال: "لعلك أردت الحج؟ " فقالت: والله ما أجدني إلا وَجعة، قال: "حجي واشترطي، وقولي: اللهم محلي حيث حَبَستني، وقال: إن لك على
ربك ما استثنيتِ ". حديث صحيح (3) .
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (4/55، 56) ، وأبو داود، كتاب المناسك، باب كيف التلبية (1814) ، والترمذي، كتاب الحج، باب ما جاء في رفع الصوت بالتلبية (829) وقالك هذا حديث حسن صحيح.
(2) سورة الحج، الآيتان: 27- 28.
(3) رواه مسلم، كتاب الحج، باب جواز اشتراط المحرم التحلل بعذر المرض وغيره (1207) .(24/285)
وأما من لا يخاف من عائق يمنعه من إتمام نُسكه فلا ينبغي له أن يشترط، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحرم ولم يشترط، وقال: "لتأخذوا عني مناسككم " (1) ، ولم يأمر بالاشتراط كل أحدٍ أمراً عامًّا، وإنما أمر به ضُباعة بنت الزبير لوجود المرض بها، والخوف من عدم إتمام نُسكها.
وينبغي للمحرم أن يُكثر من التلبية لأنها الشعارُ القولي للنسك خصوصاً عند تغير الأحوال والأزمان، مثل أن يعلو مرتفعاً، أو ينزل منخفضاً، أو يُقبل ليلٌ، أو نهار، أو يهمَّ بمحظور أو مُحرم أو نحو ذلك.
ويستمر في التلبية في العمرة من الإحرام إلى أن يشرع في الطواف وفي الحج من الإحرام إلى أن يرمي جمرة العقبة يوم العيد.
فإذا قَرُب من مكة سُنَّ أن يغتسل لدخولها إن تيسر له، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يغتسل عند دخولها.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل مكة دخل من الثنية العليا التي بالبطحاء، وإذا خرج خرج من الثنية السُّفلى" (2) متفق عليه.
فإذا تيسر للحاج الدخول من حيث دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - والخروج من حيث خرج فهو أفضل.
فإذا وصل المسجد الحرام قدم رجله اليمنى لدخوله، وقال: بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك، أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وبسلطانه القديم من الشيطان الرجيم.
__________
(1) تقدم تخريجه ص 8.
(2) البخاري، كتاب الحج، باب من أين يدخل مكة، ومسلم، كتاب الحج، باب استحباب دخول مكة من الثنية.(24/286)
ويدخل بخشوع وخضوع وتعظيم لله عز وجل، مُستحضراً بذلك نعمة الله عليه بتيسير الوصول إلى بيته الحرام.
ثم يتقدم إلى البيت متجهاً نحو الحجر الأسود ليبتدىء الطواف، ولا يقول: نويت الطواف لأنه لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
والنية محلها القلب.
فيستلم الحجر الأسود بيده اليمنى ويقبله إن تيسر له ذلك، يفعل ذلك تعظيماً لله عز وجل، واقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا اعتقاداً أن الحجر ينفع أو يضر، فإنما ذلك لله عز وجل.
وعن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يُقبّل الحجر ويقول: "إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله لمج يقبلك ما قبلتك " رواه الجماعة.
فإن لم يتيسر له التقبيل، استلمه بيده وقبلها، ففي "الصحيحين " من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه استلم الحجر بيده ثم قبل يده، وقال: ما تركته منذ رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله.
فإن لم يتيسر له استلامه بيده فلا يُزاحم، لأن الزحام يؤذيه، ويؤذي غيره، وربما حصل به الضرر، ويذهب الخشوع، ويخرج بالطواف عما شرع من أجله من التعبد لله، وربما حصل به لغو وجدال، ومقاتلة.
ويكفي أن يُشير إليه بيده ولو من بعيد، وفي "البخاري " من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف بالبيت على بعير، كلما أتى على الركن أشار إليه.
وفي رواية: أشار إليه بشيء كان عنده وكبّر.
ثم يأخذ ذات اليمين، ويجعل البيت على يساره، فإذا وصل الركن اليماني استلمه إن تيسر له بدون تقبيل، فإن لم يتيسر له فلا يزاحم.(24/287)
ولا يستلم من البيت سوى الحجر الأسود والركن اليماني؛ لأنهما كانا على قواعد إبراهيم، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستلم سواهما.
وروى الإمام أحمد (1) عن مجاهد عن ابن عباس أنه طاف مع معاوية بالبيت، فجعل مُعاوية يستلم الأركان كلها، فقال ابن عباس: لم تستلم هذين الركنين ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستلمهما؟ فقال معاوية: ليس شيء من البيت مهجوراً. فقال ابن عباس: "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة" فقال معاوية: صدقت.
ويقول بين الركن اليماني والحجر الأسود: (رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)) (2) .
وكلما مر بالحجر الأسود فعل ما سبق وكبر ويقول في بقية طوافه ما أحب من ذكر ودعاء وقراءة، فإنما جُعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله.
والسنة للرجل في هذا الطواف- أعني الطواف أول ما يقدم- أن يضطبع في جميع طوافه ويرمل في الأشواط الثلاثة الأولى منه، دون الأربعة الباقية.
فأما الاضطباع فهو أن يُبرز كتفه الأيمن، فيجعل وسط ردائه تحت إبطه وطرفيه على كتفه الأيسر.
وأما الرمل فهو: إسراعُ المشي مع مُقاربة الخُطا.
والطواف سبعة أشواط، يبتدىء من الحجر الأسود وينتهي به.
ولا يصحُّ الطواف من داخل الحِجْر.
فإذا أتم سبعة أشواط، تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ)
__________
(1) تقدم تخريجه ص 30.
(2) سورة البقرة، الآية: 201.(24/288)
إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) (1) ثم صلى ركعتين خلفه قريباً منه إن تيسر، وإلا فبعيداً، يقرأ في الأولى بعد الفاتحة: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)) وفي الثانية بعد الفاتحة: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)) ثم يرجع إلى الحجر الأسود فيستلمه إن تيسر له، وإلا فلا يشير إليه.
ثم يخرج إلى المسعى ليسعى، فإذا دنا من الصفا قرأ (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) (2) ، ولا يقرؤها في غير هذا الموضع.
ثم يرقى على الصفا حتى يرى الكعبة، فيستقبلها ويرفع يديه فيحمد الله ويدعو بما شاء أن يدعو، وكان من دُعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - هنا: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده " يكرر ذلك ثلاث مراتٍ، ويدعو بينها.
ثم ينزل من الصفا إلى المروة ماشياً حتى يصل إلى العمود الأخضر، فإذا وصله، أسرع إسراعاً شديداً بقدر ما يستطيع إن تيسر له بلا أذية، حتى يصل العمود الأخضر الثاني، ثم يمشي على عادته حتى يصل المروة، فيرقى عليها ويستقبل القبلة، ويرفع يديه ويقول ما قاله على الصفا.
ثم ينزل من المروة إلى الصفا يمشي في موضع مشيه، ويسرع في موضع إسراعه، فيرقى على الصفا، ويستقبل القبلة ويرفع يديه ويقول مثل ما سبق في أول مرة، ويقول في بقية سعيه ما أحب من ذكر وقراءة ودعاء.
والصعود على الصفا والمروة، والسعي الشديد بين العلمين، كلها
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 125.
(2) سورة البقرة، الآية: 158.(24/289)
سنة وليست بواجب.
فإذا أتم سعيه سبعة أشواط، من الصفا إلى المروة شوط، ومن المروة إلى الصفا شوط آخر، حلق رأسه إن كان رجلاً أو قصره، والحلق أفضل إلا أن يكون متمتعاً والحج قريب لا يمكن أن ينبت شعره قبله، فالتقصير أفضل، ليبقى الشعر فيحلقه في الحج، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أصحابه حين قدموا صبيحة رابعة ذي الحجة أن يتحللوا بالتقصير.
وأما المرأة فتقصر رأسها بكل حال، ولا تحلق، فتقصر من كل قرنٍ أُنملة.
ويجب أن يكون الحلق شاملاً لجميع الرأس؛ لقوله تعالى: (مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ) (1) ، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حلق جميع رأسه، وقال: "لتأخذوا عني مناسككم " (2) .
وكذلك التقصير يعمُّ به جميع الرأس.
وبهذه الأعمال تمت عمرته وحل منها حِلاًّ كاملاً، يُبيح له جميع محظورات الإحرام.
خلاصة أعمال العمرة:
1- الاغتسال كما يغتسل للجنابة والتطيب.
2- لبس ثياب الإحرام، إزار ورداء للرجل، وللمرأة ما شاءت من الثياب المباحة.
3- التلبية والاستمرار فيها إلى الطواف.
4- الطواف بالبيت سبعة أشواط ابتداء من الحجر الأسود وانتهاءً به.
5- صلاة ركعتين خلف المقام.
__________
(1) سورة الفتح، الآية: 27.
(2) تقدم تخريجه ص 8.(24/290)
6- السعي بين الصفا والمروة سبعةَ أشواط ابتداء بالصفا وانتهاء بالمروة.
7- الحلق أو التقصير للرجال، والتقصيرُ للنساء.(24/291)
الفصل السابع
في صفة الحج
الإحرام بالحج: إذا كان ضحى يوم التروية- وهو اليوم الثامن من ذي الحجة- أحرم من يريد الحج بالحج من مكانه الذي هو نازلٌ فيه.
ولا يسن أن يذهب إلى المسجد الحرام أو غيره من المساجد فيحرم منه، لأن ذلك لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن أصحابه فيما نعلم.
ففي "الصحيحين " من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لهم: "أقيموا حلالاً حتى إذا كان يوم التروية فأهلوا بالحج ... " (1) الحديث.
ولمسلم عنه رضي الله عنه قال: "أمرنا رسول الله لما أحللنا أن نحرم إذا توجهنا إلى منى فأهللنا من الأبطح " (2) وإنما أهلوا من الأبطح لأنه مكان نزولهم.
ويفعل عند إحرامه بالحج كما فعل عند إحرامه بالعمرة، فيغتسل ويتطيب ويصلي سنة الوضوء، ويُهل بالحج بعدها، وصفة الإهلال والتلبية بالحج كصفتهما في العمرة، إلا أنه في الحج يقول: لبيك
حجًّا، بدل: لبيك عمرة، ويشترط أن محلي حيث حبستني، إن كان خائفاً من عائق يمنعه من إتمام نسكه، وإلا فلا يشترط.
الخروج إلى منى:
ثم يخرج إلى منى فيصلي بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر قصراً من غير جمع؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل كذلك.
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب التمتع والقران (1568) ، ومسلم، كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام (1211) (143) .
(2) كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام (1214) .(24/292)
وفي "صحيح مسلم " عن جابر رضي الله عنه قال: "فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج وركب النبي - صلى الله عليه وسلم - فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر" (1) .
وفي "صحيح البخاري " من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنى ركعتين وأبو بكر وعمر وعثمان صدراً من خلافته (2) ، ولم يكن - صلى الله عليه وسلم - يجمع في منى بين الصلاتين في الظهر والعصر، أو المغرب والعشاء، ولو فعل ذلك لنُقل كما نُقل جمعه في عرفة ومزدلفة.
ويقصر أهل مكة وغيرهم بمنى وعرفة ومزدلفة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يُصلي بالناس في حجة الوداع في هذه المشاعر ومعه أهل مكة، ولم يأمرهم بالإتمام، ولو كان الإتمام واجباً عليهم لأمرهم به كما أمرهم به عام الفتح حين قال لهم: "أتموا يا أهل مكة فإنا قوم سفر" (3) .
لكن حيث امتد عمران مكة فشمل منى وصارت كأنها حي من أحيائها فإن أهل مكة لا يقصرون فيها.
الوقوف بعرفة:
فإذا طلعت الشمس من اليوم التاسع سار من منى إلى عرفة فنزل بنمرة إلى الزوال إن تيسر له، وإلا فلا حرج عليه؛ لأن النزول بنمرة سنة لا واجب.
فإذا زالت الشمس صلى الظهر والعصر ركعتين ركعتين، يجمع بينهما جمع تقديم كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - (1218) .
(2) البخاري، كتاب الحج، باب الصلاة بمنى.
(3) تقدم تخريجه ص 62.(24/293)
ففي "صحيح مسلم " من حديث جابر رضي الله عنه قال: وأمر- يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - بقبة من شعر تُضرب له بنمرة، فسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أتى عرفة (1) فوجد القبة قد ضُربت له بنمرة، فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرُحِلَت له فأتى بطن الوادي فخطب الناس، ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئاً.
ثم ركب حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة، فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس " الحديث ".
والقصر والجمع في عرفة لأهل مكة وغيرهم.
وإنما كان الجمع جمع تقديم ليتفرغ الناس للدعاء، ويجتمعوا على إمامهم، ثم يتفرقوا على منازلهم، فالسنة للحاج أن يتفرغ في آخر يوم عرفة للدعاء والذكر والقراءة ويحرص على الأذكار والأدعية الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنها من أجمع الأدعية وأنفعها فيقول: - اللهم لك الحمد كالذي نقول وخيراً مما نقول، اللهم لك صلاتي ونُسكي ومحياي ومماتي وإليك رب مآبي ولك رب تُراثي.
- اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ووسوسة الصدر وشتات الأمر.
- اللهم إني أعوذ بك من شر ما تجيء به الريح.
- اللهم إنك تسمع كلامي، وترى مكاني، وتعلم سري وعلانيتي، لا يخفى عليك شيء من أمري، أنا البائس الفقير، المستغيث المستجير، الوجل المشفق المقر المعترف بذنوبي، أسألك مسألة المسكين،
__________
(1) أخذ بعضُ الناس من هذا اللفظ أن نمِرَة من عرفة، ولكن لا دلالة فيه لأن نمرة موضعٌ قرب عرفة وليست منها.
ومراد جابر رضي الله عنه أن مُنتهى مسيره عرفة، ولم يفعل كما تفعل قريش في الجاهلية فتنتهي بمزدلفة وتقفُ فيها يوم عرفة.(24/294)
وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وأدعوك دعاء من خضعت لك رقبته وفاضت لك عيناه، وذل لك جسده، ورغم لك أنفه.
- اللهم لا تجعلني بدعاءك رب شقيًّا، وكن بي رؤوفاً رحيماً يا خير المسؤولين ويا خير المعطين.
- اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي سمعي نوراً وفي بصري نوراً.
- اللهم اشرح لي صدري ويسر لي أمري، اللهم إني أعوذ بك من شر ما يلج في الليل، وشر ما يلج في النهار، وشر ما تهب به الرياح، وشر بوائق الدهر.
- اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
- اللهم إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم.
- اللهم إني أعوذ بك من جهد البلاء، ومن درك الشقاء، ومن سوء القضاء، ومن شماتة الأعداء.
- اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وضلع الدين وغلبة الرجال، وأعوذ بك من أن أرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا.
- اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم، ومن شر فتنة الغنى، وأعوذ بك من فتنة الفقر.
- اللهم اغسل عني خطاياي بماء الثلج والبرد، ونق قلبي من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب.
فالدعاء يوم عرفة خير الدعاء.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلتُ أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد(24/295)
وهو على كل شيء قدير" (1) .
وإذا لم يحط بالأدعية الواردة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، دعا بما يعرف من الأدعية المباحة. فإذا حصل له ملل، وأراد أن يستجم بالتحدث مع رفقته بالأحاديث النافعة، أو مُدارسة القرآن، أو قراءة ما تيسر من الكتب المفيدة، خُصوصاً ما يتعلق بكرم الله تعالى وجزيل هباته، ليقوي جانب الرجاء في هذا اليوم، كان حسناً، ثم يعود إلى الدعاء والتضرع إلى الله، ويحرص على اغتنام آخر النهار بالدعاء.
وينبغي أن يكون حال الدعاء مستقبلاً القبلة، وإن كان الجبل خلفه أو يمينه أو شماله، لأن السنة استقبال القبلة، ويرفع يديه، فإن كان في إحداهما مانع رفع السليمة، لحديث أسامة بن زيد رضي الله عنه قال:
"كنت رِدفَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرفات فرفع يديه يدعو، فمالت به ناقته فسقط خطامها فتناول الخطام بإحدى يديه وهو رافع الأخرى" رواه النسائي (2) .
ويُظهر الافتقار والحاجة إلى الله عز وجل، ويُلح في الدعاء ولا يستبطىء الإجابة.
ولا يعتدي في دعائه بأن يسأل ما لا يجوز شرعاً، أو ما لا يُمكن قدراً، فقد قال الله تعالى: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)) (3) . وليتجنب أكل الحرام فإنه من أكبر موانع الإجابة، ففي "صحيح مسلم " من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً ... " (4) الحديث. وفيه، "ثم ذكر الرجل يطيل
__________
(1) رواه مالك في "الموطأ" (1/422) .
(2) (5/254) . ورواه الإمام أحمد (5/209) وابن خزيمة (2834) بسند صحيح.
(3) سورة الأعراف، الآية: 55.
(4) مسلم، كتاب الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب (1015) .(24/296)
السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب ومطعمه حرامٌ، ومشربه حرامٌ، وملبسه حر امٌ، وغذي بالحرام فأنى يُستجاب لذلك ".
فقد استبعد النبي - صلى الله عليه وسلم - إجابة من يتغذى بالحرام ويلبس الحرام مع توفر أسباب القَبول في حقه وذلك لأنه يتغذى بالحرام.
وإذا تيسر له أن يقف في موقف النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الصخرات فهو أفضل، وإلا وقف فيما تيسر له من عرفة، فعن جابر رضي الله عنه أن النبي قال: "نحرتُ هاهنا، ومنى كلها منحر فانحروا في رحالكم، ووقفت هاهنا وعرفة كلها موقف، ووقفت هاهنا وجَمعٌ- يعني مزدلفة- كلها
موقف " رواه أحمد ومسلم.
ويجب على الواقف بعرفة أن يتأكد من حدودها، وقد نُصبت عليها علامات يجدها من يتطلبها، فإن كثيراً من الحجاج يتهاونون بهذا فيقفون خارج حدود عرفة جهلاً منهم، وتقليداً لغيرهم، وهؤلاء الذين وقفوا خارج حدود عرفة ليس لهم حج؛ لأن الحج عرفة، لما روى عبد الرحمن بن يعمر: "أن أناساً من أهل نجد أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو واقف بعرفة فسألوه فأمر مُنادياً ينادي: الحج عرفة، من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك، أيام منى ثلاثة أيام، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه، وأردف رجلاً ينادي بهن " (1) رواه الخمسة.
فتجب العناية بذلك، وطلب علامات الحدود حتى يتيقن أنه داخل حدودها.
ومن وقف بعرفة نهاراً وجب عليه البقاءُ إلى غروب الشمس، لأن
__________
(1) أبو داود، كتاب المناسك، باب من لم يدرك عرفة، وابن ماجه، كتاب المناسك، باب من أتى عرفة قبل الفجر. والترمذي، كتاب التفسير، والإمام أحمد (4/309) .(24/297)
النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف إلى الغروب، وقال: "لتأخذوا عني مناسككم " ولأن الدفع قبل الغروب من أعمال الجاهلية التي جاء الإسلام بمخالفتها.
ويمتد وقتُ الوقوف بعرفة إلى طلوع الفجر يوم العيد، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدركَ " (1) .
فإن طلع الفجر يوم العيد قبل أن يقف بعرفة فقد فاته الحج.
فإن كان قد اشترط في ابتداء إحرامه إن حبسني حابس فمحلِّي حيث حبستني تحلل من إحرامه ولا شيء عليه، وإن لم يكن اشترط فإنه يتحلل بعمرة فيذهب إلى الكعبة، ويطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة ويحلق، وإن كان معه هدي ذبحه، فإذا كان العام القادم قضى الحج الذي فاته، وأهدى هدياً، فإن لم يجد صام عشرة أيام ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله، لما روى مالك في "الموطأ" أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر أبا أيوب وهبار بن الأسود حين فاتهما الحج
فأتيا يوم النحر أن يُحِلا بعمرة ثم يرجعا حلالاً ثم يحجا عاماً قابلاً ويهديا، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله.
المبيت بمزدلفة:
ثم بعد الغروب يدفع الواقف بعرفة إلى مزدلفة فيصلي بها المغرب والعشاء؛ يصلي المغرب ثلاثاً والعشاء ركعتين.
وفي "الصحيحين " عن أُسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: "دفع النبي - صلى الله عليه وسلم - من عرفة فنزل الشعب، فبال ثم توضأ ولم يُسبغ الوضوء، فقلت: يا رسول الله الصلاة! قال: "الصلاة أمامك " فجاء المزدلفة
__________
(1) تقدم تخريجه ص (297) .(24/298)
فتوضأ فأسبغ الوضوء، ثم أُقيمت الصلاة فصلى المغرب، ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله ثم أقيمت العشاء فصلاها".
فالسنة للحاج أن لا يصلي المغرب والعشاء إلا بمزدلفة اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إلا أن يخشى خروج وقت العشاء بمنتصف الليل فإنه يجب عليه أن يُصلي قبل خروج الوقت في أي مكان كان.
ويبيت بمزدلفة، ولا يُحيى الليل بصلاة ولا بغيرها، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفعل ذلك.
وفي "صحيح البخاري (1) " من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بين المغرب والعشاء بجمع ولم يُسبح بينهما شيئاً ولا على إثر كل واحدة منهما.
وفي "صحيح مسلم " (2) من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يُسبح بينهما شيئاً، ثم اضطجع حتى طلع الفجر.
ويجوز للضعفة من رجال ونساء أن يدفعوا من مزدلفة بليل في آخره.
في "صحيح مسلم " (3) عن ابن عباس رضي الله عنهما بعث بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسحرٍ من جمع في ثقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وفي "الصحيحين " من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يقدم ضعفة أهله فيقفون عند المشعر الحرام بالمزدلفة بليل، فيذكرون
__________
(1) البخاري، كتاب تقصير الصلاة، باب النزول بين عرفة وجمع، ومسلم، كتاب الحج، باب الإفاضة من عرفات إلى مزدلفة.
(2) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - (1218) .
(3) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب من قدم ضعفة أهله بليل (1677، 1678) ، ومسلم، كتاب الحج، باب استحباب تقديم دفع الضعفة (1293، 1294) .(24/299)
الله ما بدا لهم ثم يدفعون، فمنهم من يقدم منى لصلاة الفجر ومنهم من يقدم بعد ذلك، فإذا قدموا رموا الجمرة، وكان ابن عمر يقول: أرخَصَ في أولئك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1) .
وأما من ليس ضعيفاً ولا تابعاً لضعيف، فإنه يبقى بمزدلفة حتى يُصلي الفجر اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وفي "صحيح مسلم " عن عائشة رضي الله عنها قالت: "استأذنت سودة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة المزدلفة تدفع قَبله وقبل حطمة الناس وكانت امرأة ثَبِطَة، فأذن لها وحَبَسنا حتى أصبحنا فدفعنا بدفعه ولأن أكون استأذنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما استأذنت سودة فأكون أدفعُ بإذنه أحب إلي من مفروح به " (2) .
وفي رواية أنها قالت: "فليتني كنتُ استأذنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما استأذنته سودة".
فإذا صلى الفجر أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فوحد الله وكبره وهلله ودعا بما أحب حتى يسفر جداً.
وإن لم يتيسر له الذهاب إلى المشعر الحرام دعا في مكانه لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وقفتُ هاهنا وجمعٌ كلها موقف " (3) .
السير إلى منى والنزول فيها:
ينصرف الحجاج المقيمون بمزدلفة إلى منى قبل طلوع الشمس عند الانتهاء من الدعاء والذكر، فإذا وصلوا إلى منى عملوا ما يأتي:
__________
(1) البخاري، كتاب الحج، باب من قدم ضعفة أهله بليل، ومسلم، كتاب الحج، باب استحباب تقديم دفع الضعفة.
(2) مسلم، كتاب الحج، باب استحباب تقديم دفع الضعفة.
(3) تقدم تخريجه ص 26.(24/300)
1- رمي جمرة العقبة وهي الجمرة الكبرى التي تلي مكة في منتهى منى، فيلقط سبع حصيات مثل حصا الخَذَفِ، أكبر من الحمص قليلاً، ثم يرمي بهن الجمرة، واحدة بعد واحدة، ويرمي من بطن الوادي إن تيسر له فيجعل الكعب عن يساره ومنى عن يمينه، لحديث ابن مسعود رضي الله عنه "أنه انتهى إلى الجمرة الكبرى فجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه، ورمى بسبع وقال: هكذا رمى الذي أُنزلت عليه سورة البقرة" متفق عليه.
ويُكبر مع كل حصاةٍ فيقول: الله أكبر.
ولا يجوزُ الرمي بحصاة كبيرة ولا بالخفاف والنعال ونحوها.
ويَرمي خاشعاً خاضعاً مُكبراً الله عز وجل، ولا يفعل ما يفعله كثيرٌ من الجهال من الصياح واللغط والسب والشتم؛ فإن رمي الجمار من شعائر الله: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)) (1) .
وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إنما جُعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله " (2) .
ولا يندفع إلى الجمرة بعنف وقوة، فيؤذي إخوانه المسلمين أو يضرهم.
2- ثم بعد رمي الجمرة يذبح الهدي إن كان معه هدي، أو يشتريه فيذبحه.
وقد تقدم بيان نوع الهدي الواجب وصفته ومكان ذبحه وزمانه وكيفية الذبح، فليلاحظ.
3- ثم بعد ذبح الهدي يحلق رأسه إن كان رجلاً، أو يقصره، والحلق
__________
(1) سورة الحج، الآية: 32.
(2) تقدم تخريجه ص 26.(24/301)
أفضل، لأن الله قدمه فقال: (مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) (1) ولأنه فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى منى، فأتى الجمرة، فرماها ثم أتى منزله بمنى ونحر ثم قال للحلاق: خُذ، وأشار إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر ثم جعل يُعطيه الناس " (2) رواه مسلم.
ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا للمحلقين بالرحمة والمغفرة ثلاثاً وللمقصرين مرة، ولأن الحلق أبلغ تعظيماً لله عز وجل حيث يُلقى به جميع شعر رأسه.
ويجب أن يكون الحلق أو التقصير شاملاً لجميع الرأس لقوله تعالى: (مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) . والفعل المضاف إلى الرأس يشمل جميعه، ولأن حلق بعض الرأس دون بعفض منهي عنه شرعاً لما في "الصحيحين " (3) عن نافع عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن القَزع، فقيل لنافع: ما القزعُ؟ قال: أن يحلق بعض رأس الصبي ويترك بعضاً، وإذا كان القزع منهيًّا عنه لم يصح أن يكون قربة إلى الله، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حلق جميع رأسه تعبداً لله عز وجل وقال: "لتأخذوا عني مناسككم " (4) .
وأما المرأة فتقصر من أطراف شعرها بقدر أنملة فقط.
فإذا فعل ما سبق حل له جميع محظورات الإحرام ما عدا النساء فيحل له الطيب واللباس وقص الشعر والأظافر وغيرها من المحظورات
__________
(1) سورة الفتح، الآية: 27.
(2) مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(3) البخاري، كتاب اللباس، باب القزع، ومسلم، كتاب اللباس، باب كراهة القزع.
(4) تقدم تخريجه ص 8.(24/302)
ما عدا النساء.
والسنة أن يتطيب لهذا الحل، لقول عائشة رضي الله عنها: "كنت أُطيب النبي - صلى الله عليه وسلم - لإحرامه قبل أن يُحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت " (1) .
متفق عليه، واللفظ لمسلم.
وفي لفظ له: "كنت أطيب النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يُحرم ويوم النحر قبل أن يطوف بالبيت بطيب فيه مسكٌ ".
4- الطواف بالبيت وهو طواف الزيارة والإفاضة لقوله تعالى: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (2) .
وفي "صحيح مسلم " (3) عن جابر رضي الله عنه في صفة حج النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ثم ركب - صلى الله عليه وسلم - فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر ... الحديث.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: حججنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأفضنا يوم النحر ... الحديث متفق عليه.
وإذا كان مُتمتعاً أتى بالسعي بعد الطواف، لأن سعيه الأول كان للعمرة، فلزمه الإتيان بسعي الحج.
وفي "الصحيحين " (4) عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "فطاف الذين كانوا أهلُّوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة، ثم حلوا ثم طافوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم، وأما الذين جمعوا
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب الطيب عند الإحرام (1539) ، ومسلم، كتاب الحج، باب الطيب للمحرم عند الإحرام (1189) .
(2) سورة الحج، الآية: 29.
(3) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب صفة حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - (1218) .
(4) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب طواف القارن (1638) ، ومسلم، كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام (1211) .(24/303)
الحج والعمرة فإنما طافوا طوافاً واحداً".
وفي "صحيح مسلم " (1) عنها أنها قالت: "ما أتم الله حج امرىء ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة" وذكره البخاري تعليقاً.
وفي "صحيح البخاري " (2) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "ثم أمرنا- يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - عشية التروية أن نُهلَّ بالحج، فإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة، وقد تم حجنا وعلينا الهدي " ذكره البخاري في: (باب ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) .
وإذا كان مفرداً أو قارناً فإن كان قد سعى بعد طواف القدوم لم يعد السعي مرة أخرى لقول جابر رضي الله عنه: "لم يطف النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً، طوافه الأول " (3) رواه مسلم.
وإن كان لم يَسْعَ وجب عليه السعي لأنه لا يتم الحج إلا به كما سبق عن عائشة رضي الله عنها.
وإذا طاف طواف الإفاضة وسعى للحج بعده أو قبله إن كان مُفرداً أو قارناً فقد حل التحلل الثاني، وحلَّ له جميع المحظورات؛ لما في "الصحيحين " (4) عن ابن عمر رضي الله عنهما في صفة حج النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ونحر هديه يوم النحر وأفاض فطاف بالبيت ثم حل من كل شيء
حُرم منه ".
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب بيان أن السعي بين الصفا والمروة ركن (1277) .
(2) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب: (ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) .
(3) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب جواز التمتع (1215) .
(4) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب من ساق البدن معه (1691) ، ومسلم، كتاب الحج، باب صفة حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - (1218) .(24/304)
والأفضل أن يأتي بهذه الأعمال يوم العيد مرتبة كما يلي:
1- رمي جمرة العقبة.
2- ذبح الهدي.
3- الحلق أو التقصير.
4- الطواف ثم السعي إن كان متمتعاً أو كان مفرداً أو قارناً ولم يسعَ مع طواف القدوم.
لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رتبها هكذا وقال: "لتأخذوا عني مناسككم " (1) .
فإن قدم بعضها على بعض فلا بأس لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قيل له في الذبح والحلق والرمي والتقديم والتأخير فقال: "لا حرج " (2) متفق علي.
وللبخاري عنه قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُسأل يوم النحر بمنى؟ فيقول: "لا حرج " فسأله رجل فقال: حلقت قبل أن أذبح، قال: "اذبح ولا حرج " وقال: رميت بعدما أمسيت قال: "لا حرج ".
وفي "صحيح مسلم " من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئل عن تقديم الحلق على الرمي، وعن تقديم الذبح على الرمي، وعن تقديم الإفاضة على الرمي، فقال: "ارمِ ولا حرج "، قال: فما رأيته سُئل يومئذ عن شيء، إلا قال: "افعلوا ولا حرج " (3) .
وإذا لم يتيسر له الطواف يوم العيد جاز تأخيره، والأولى أن لا يتجاوز به أيام التشريق إلا من عُذرِ كمرض وحيض ونفاس.
__________
(1) تقدم تخريجه ص 8.
(2) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب الفتيا على الدابة عند الجمرة (1736) ، ومسلم، كتاب الحج، باب جواز تقديم الذبح على الرمي (1306) .
(3) أخرجه مسلم، كتاب الحج، الباب السابق.(24/305)
الرجوع إلى منى للمبيت ورمي الجمار:
يرجع الحاج يوم العيد بعد الطواف والسعي إلى منى، فيمكث فيها بقية يوم العيد وأيام التشريق ولياليها، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يمكث فيها هذه الأيام والليالي، ويلزمه المبيت في منى ليلة الحادي عشر وليلة الثاني عشر وليلة الثالث عشر إن تأخر، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بات فيها. وقال: "لتأخذوا عني مناسككم " (1) .
ويجوز ترك المبيت لعذر يتعلق بمصلحة الحج أو الحجاج، لما في "الصحيحين " (2) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه استأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته، فأذن له.
وعن عاصم بن عدي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخص لرعاء الإبل في البيتوتة عن منى، الحديث (3) . رواه الخمسة وصححه الترمذي.
ويرمي الجمرات الثلاث في كل يوم من أيام التشريق كل واحدة بسبع حصيات مُتعاقبات، يكبر مع كل حصاة ويرميها بعد الزوال.
فيرمي الجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف، ثم يتقدم فيسهّل فيقوم مستقبل القبلة قياماً طويلاً فيدعو وهو رافعٌ يديه.
ثم يرمي الجمرة الوسطى، ثم يأخذُ ذات الشمال فيسهّل فيقوم مستقبل القبلة قياماً طويلاً فيدعو وهو رافعٌ يديه.
ثم يرمي جمرة العقبة، ثم ينصرف ولا يقفُ عندها.
__________
(1) تقدم تخريجه ص 8.
(2) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب هل يبيت أصحاب السقاية 000 (1743) ، ومسلم، كتاب الحج، باب وجوب المبيت 00، (346) (1315) .
(3) أخرجه الترمذي، كتاب الحج، باب ما جاء في الرخصة للرعاء أن يرموا يوماً. 00 (955) وقال: هذا حديث صحيح حسن.(24/306)
هكذا رواه البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل كذلك.
وإذا لم يتيسر له طول القيام بين الجمار، وقف بقدر ما يتيسر له ليحصل إحياء هذه السنة التي تركها أكثر الناس، إما جهلاً أو تهاوناً بهذه السنة.
ولا ينبغي ترك هذا الوقوف فتضيع السنة، فإن السنة كلما أُضيعت كان فعلها أوكد لحصول فضيلة العمل ونشر السنة بين الناس.
والرمي في هذه الأيام- أعني أيام التشريق- لا يجوز إلا بعد زوال الشمس، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرم إلا بعد الزوال، وقد قال: "لتأخذوا عني مناسككم " (1) : فعن جابر رضَي الله عنه قال: "رمى النبي - صلى الله عليه وسلم - الجمرة يوم النحر ضُحى، وأما بعد فإذا زالت الشمس " (2) رواه مسلم.
وهكذا كان الصحابة رضي الله عنهم يفعلون.
ففي "صحيح البخاري " أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما سُئل: متى أرمي الجمار؛ قال: كنا نتحين فإذا زالت الشمس رمينا (3) .
وإذا رمى الجمار في اليوم الثاني عشر فقد انتهى من واجب الحج فهو بالخيار إن شاء بقي في منى لليوم الثالث عشر ورمى الجمار بعد الزوال، وإن شاء نفر منها لقوله تعالى: (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى) (4) .
__________
(1) تقدم تخريجه ص 8.
(2) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - (1218) .
(3) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب الفتيا على الدابة عند الجمرة (1736) .
(4) سورة البقرة، الآية: 203.(24/307)
والتأخر أفضل لأنه فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولأنه أكثر عملاً حيث يحصل له المبيت ليلة الثالث عشر، ورمي الجمار من يومه.
لكن إذا غربت الشمس في اليوم الثاني عشر قبل نفره من منى فلا يتعجل حينئذ لأن الله سبحانه قال: (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ) فقيّد التعجل في اليومين، ولم يُطلق فإذا انتهت اليومان فقد انتهى وقتُ التعجل، واليوم ينتهي بغروب شمسه.
وفي "الموطأ" عن نافع أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان يقول: من غربت له الشمس من أوساط أيام التشريق وهو بمنى فلا ينفر حتى يرمي الجمار من الغد، لكن إذا كان تأخره إلى الغروب بغير اختياره مثل أن يتأهب للنفر ويشد رحله فيتأخر خروجه من منى بسبب زحام السيارات أو نحو ذلك فإنه ينفر ولا شيء عليه ولو غربت الشمس قبل أن يخرج من منى.
الاستنابة في الرمي: رمي الجمار نسك من مناسك الحج، وجزء من أجزائه، فيجب على الحاج أن يقوم به بنفسه إن استطاع إلى ذلك سبيلاً، سواء كان حجه فريضة أم نافلة، لقوله تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) (1) .
فالحج والعمرة إذا دخل فيهما الإنسان وجب عليه إتمامهما وإن كانا نفلاً. ولا يجوز للحاج أن يُوكل مَنْ يرمي عنه إلا إذا كان عاجزاً عن الرمي بنفسه لمرض أو كِبَر أو صِغَر أو نحوها، فيوكل من يثق بعلمه ودينه فيرمي عنه سواء لقط المُوَكل الحصا وسلمها للوكيل، أو لقطها الوكيلُ ورمى بها عن موكله.
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 196.(24/308)
وكيفية الرمي في الوكالة أن يرمي الوكيل عن نفسه أولاً سبع حصيات، ثم يرمي عن موكله بعد ذلك، فيعينه بالنية.
ولا بأس أن يرمي عن نفسه وعمن وكله في موقف واحد، فلا يلزمه أن يكمل الثلاث عن نفسه، ثم يرجع عن موكله، لعدم الدليل على وجوب ذلك.
طواف الوداع:
إذا نَفَرَ الحاج من منى وانتهت جميع أعمال الحج، وأراد السفر إلى بلده فإنه لا يخرجُ حتى يطوف بالبيت للوداع سبعة أشواط، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف للوداع قد قال: "لتأخذوا عني مناسككم " (1) .
ويجبُ أن يكون هذا الطواف آخر شيء يفعله بمكة لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان الناس ينصرفون في كل وجه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا ينفرنّ أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت " (2) رواه مسلم.
فلا يجوز البقاء بعده بمكة، ولا التشاغل بشيء إلا ما يتعلق بأغراض السفر وحوائجه، كشد الرحل وانتظار الرفقة، أو انتظار السيارة إذا كان قد وعدَهم صاحبها في وقت معين فتأخر عنهم، ونحو ذلك.
فإن أقام لغير ما ذُكر وَجَبَ عليه إعادة الطواف ليكون آخر عهده بالبيت.
ولا يجب طواف الوداع على الحائض والنفساء لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "أُمِرَ الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه
__________
(1) تقدم تخريجه ص 8.
(2) تقدم تخريجه ص 159.(24/309)
خفف عن الحائض " (1) متفق عليه.
وفي "صحيح مسلم " عن عائشة رضي الله عنها قالت: حاضت صفية
بنت حيي بعدما أفاضت، قالت عائشة: فذكرت حيضتها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -
فقال: "أحابستنا هي؟ " فقلت: يا رسول الله إنها قد كانت أفاضت
وطافت بالبيت ثم حاضت بعد الإفاضة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:"فلتنفر" (2) .
والنفساء كالحائض لأن الطواف لا يصح منها.
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب طواف الوداع (1755) ومسلم، كتاب الحج، باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض (1328) .
(2) تقدم تخريجه ص 66.(24/310)
مجمل أعمال الحج
عمل اليوم الأول وهو اليوم الثامن:
1- يحرمُ بالحج من مكانه فيغتسل ويتطيب ويلبس ثياب الإحرام ويقول: لبيك حجًّا، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.
2- يتوجه إلى منى فيبقى فيها إلى طُلوع الشمس في اليوم التاسع، ويُصلي فيها الظهر من اليوم الثامن، والعصر والمغرب والعشاء والفجر، كل صلاة في وقتها، ويقصر الرباعية.
عمل اليوم الثاني وهو اليوم التاسع:
1- يتوجه بعد طلوع الشمس إلى عرفة، ويُصلي الظهر والعصر قصراً وجمعَ تقديم، وينزل قبل الزوال بنمرة إن تيسر له.
2- يتفرغ بعد الصلاة للذكر والدعاء مستقبل القبلة رافعاً يديه إلى غُروب الشمس.
3- يتوجه بعد غروب الشمس إلى مُزدلفة فيصلي فيها المغرب ثلاثاً والعشاء ركعتين، ويبيت فيها حتى يطلع الفجر.
4- يصلي الفجر بعد طلوع الفجر، ثم يتفرغ للذكر والدعاء حتى يسفر جداً.
5- يتوجه قبل طلوع الشمس إلى منى.
عمل اليوم الثالث وهو يوم العيد:
1- إذا وصل إلى منى، ذهب إلى جمرة العقبة، فرماها بسبع حصيات متعاقبات، واحدة بعد الأخرى، يكبر مع كل حصاة.
2- يذبح هديه إن كان له هدي.(24/311)
3- يحلق رأسه أو يقصره، ويتحلل بذلك التحلل الأول فيلبس ثيابه ويتطيب وتحل له جميع محظورات الإحرام سوى النساء.
4- ينزل إلى مكة فيطوف بالبيت طواف الإفاضة، وهو طواف الحج، ويسعى بين الصفا والمروة للحج، إن كان متمتعاً، وكذلك إن كان غير متمتع ولم يكن سعى مع طواف القدوم.
وبهذا يحل التحلل الثاني، ويحل له جميع محظورات الإحرام حتى النساء.
5- يرجع إلى منى فيبيت فيها ليلة الحادي عشر.
عمل اليوم الرابع وهو الحادي عشر:
1- يرمي الجمرات الثلاث، الأولى ثم الوسطى ثم جمرة العقبة، كل واحدة بسبع حصيات متعاقبات يكبر مع كل حصاة، يرميهن بعد الزوال ولا يجوز قبله. ويلاحظ الوقوف للدعاء بعد الجمرة الأولى والوسطى.
2- يبيبت في منى ليلة الثاني عشر.
عمل اليوم الخامس وهو الثائي عشر:
1- يرمي الجمرات الثلاث كما رماهن في اليوم الرابع.
2- ينفر من منى قبل غروب الشمس إن أراد التعجل، أو يبيت فيها إن أراد التأخر.
عمل اليوم السادس وهو الثالث عشر:
هذا اليوم خاص بمن تأخر ويعمل فيه:
1- يرمي الجمرات الثلاث كما سبق في اليومين قبله.
2- ينفر من منى بعد ذلك.
وآخر الأعمال طواف الوداع عند سفره، والله أعلم.(24/312)
الفصل الثامن
الواجبات في الحج
الواجبات في الحج قسمان: قسم لا يصح الحج بدونها، وقسمٌ يصح الحج بدونها.
فالتي لا يصح بدونها تسمى الأركان، وهي:
1- الإحرام وهو نية الدخول في الحج لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى" (1) ، ووقته من دخول شهر شوال لقول الله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) (2) ، وأول هذه الأشهر شوال، وآخرها آخر ذي الحجة.
وأمكنة الإحرام المعينة خمسة وهي:
* ذو الحليفة (وتسمى أبيار علي) لأهل المدينة.
* الجحفة (وهي قرية قرب رابغ) وقد خربت، فجعل الإحرام من (رابغ) بدلاً عنها لأهل الشام.
* يلملم (وهو جبل أو مكان في طريق اليمن إلى مكة) لأهل اليمن، وتُسمى (السعدية) .
* قرن المنازل (ويسمى السيل) لأهل نجد.
* وذات عرق (وتسمى الضريبة) لأهل العراق.
من مر بهذه المواقيت فهي ميقات له وإن لم يكن من أهلها.
2- الوقوف بعرفة لقول الله تعالى: (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ
__________
(1) تقدم تخريجه ص 217.
(2) سورة البقرة، الآية: 197.(24/313)
فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ) (1) ، ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الحج عرفة، من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك " (2) .
ووقته من زوال الشمس من اليوم التاسع من ذي الحجة إلى طلوع الفجر من اليوم العاشر، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف بعد زوال الشمس وقال:
"من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك " (3) .
وقيل: يبتدىء وقته من طلوع الفجر من اليوم التاسع، ومكانه عرفة كلها، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف " (4) .
3- الطواف بالبيت لقوله تعالى: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)) ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال حين أخبر بأن صفية حاضت: "أحابستنا هي؟ " فقالوا: يا رسول الله إنها قد أفاضت وطافت بالبيت ثم حاضت بعد الإفاضة! قال: "فلتنفر إذن " (6) ، فقوله: أحابستنا هي؟ دليل على أن طواف الإفاضة لابد منه وإلا لما كان سبباً لحبسهم، ولهذا لما أخبر بأنها طافت طواف الإفاضة رخص لها في الخروج.
ووقته بعد الوقوف بعرفة ومزدلفة لقوله تعالى: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)) ، ولا يكون قضاء التفث ووفاء النذور إلا بعد الوقوف بعرفة ومزدلفة.
4- السعي بين الصفا والمروة لقوله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) (7) ، ولقول ابن عباس رضي الله عنهما: ثم أمرنا- يعني
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 198.
(2) تقدم تخريجه ص 289.
(3) تقدم تخريجه ص 289.
(4) تقدم تخريجه ص 155.
(5) سورة الحج، الآية: 29.
(6) تقدم تخريجه ص 66.
(7) سورة البقرة، الآية: 158.(24/314)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشية التروية أن نُهل بالحج، فإذا فرغنا من المناسك جئنا فَطُفنا بالبيت وبالصفا والمروة، وقد تم حجنا. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة رضي الله عنها: "يجزئ عنك طوافك بالصفا والمروة عن حجك وعمرتك " (1) . وقالت عائشة رضي الله عنها: ما أتم الله حج امرىء ولا عُمرته ما لم يطف بين الصفا والمروة (2) .
ووقته للمتمتع بعد الوقوف بعرفة ومزدلفة وطواف الإفاضة، فإن قدَّمه عليه فلا حرج، لاسيما إن كان ناسياً أو جاهلاً، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأله رجلٌ: سعيت قبل أن أطوف؟ قال: " لا حرج " (3) .
وأما القارن والمفرد فلهما السعي بعد طواف القدوم.
فهذه الأربعة: الإحرامُ، والوقوف بعرفة، وطواف الإفاضة، والسعي بين الصفا والمروة لا يصح الحج بدونها.
وأما الواجبات التي يصح الحج بدونها فتسمى اصطلاحاً بـ (الواجبات) وهي:
1- أن يكون الإحرام من الميقات المُعتبر شرعاً، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يُهل أهل المدينة من ذي الحليفة ... " (4) إلى آخر الحديث. وهو خَبَرٌ بمعنى الأمر، بدليل الرواية الثانية عن ابن عمر رضي الله عنهما حين سُئل: من أين يجوز أن أعتمر؟ قال: فرضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأهل نجد قرناً… (5) إلى آخره.
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام (1211) (132) .
(2) تقدم تخريجه ص 294.
(3) تقدم تخريجه ص 296.
(4) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب ميقات أهل المدينة (1525) ، ومسلم، كتاب الحج، باب مواقيت الحج والعمرة (1182) .
(5) البخاري، كتاب الحج، باب فرض مواقيت الحج والعمرة (1522) .(24/315)
والروايتان في "البخاري " عن ابن عمر رضي الله عنهما.
2- استمرار الوقوف بعرفة إلى غروب الشمس يوم التاسع من ذي الحجة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف إلى الغروب وقال: "لتأخذوا عني مناسككم "، ولأن في الدفع قبل الغروب مشابهة لأهل الجاهلية، فإنهم كانوا يدفعون قبل غروب الشمس.
3- المبيت بمزدلفة ليلة عيد النحر، لقوله تعالى: (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ) (1) ، ووقته إلى
صلاة الفجر، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعروة بن مضرس رضي الله عنه: "من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه " (2) .
ويجوز الدفع في آخر الليل إلى منى للضعفة من النساء والصبيان ممن يشق عليهم زحام الناس ليرموا الجمرة قبل وصول الناس إلى منى؛ لأن ابن عمر رضي الله عنهما كان يُقدّم ضعفة أهله، فمنهم من يَقدُم منى لصلاة الفجر، ومنهم من يَقدم بعد ذلك، فإذا قَدمُوا رَموا الجمرة، وكان يقول: أرخَصَ في أولئك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (3) .
وكانت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما (تنتظر حتى يغيب القمر ثم ترتحل إلى منى فترمي الجمرة، ثم ترجع فتصلي الصبح في منزلها، وتقول: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أذن للظعُنِ) (4) أخرجهما البخاري في "صحيحه ". ومزدلفة كلها موقف، ويجب على الحاج أن يتأكد من
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 198.
(2) تقدم تخريجه ص 35.
(3) تقدم تخريجه ص 291.
(4) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب من قدم ضعفة أهله بليل (679) ومسلم، كتاب الحج، باب استحباب دفع الضعفة (1291) .(24/316)
حدودها لئلا ينزل خارجاً عنها.
4- رمي جمرة العقبة يوم العيد، ورمي الجمرتين الأخريين معها في أيام التشريق في أوقاتها، لقوله تعالى: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى) (1) .
والأيام المعدودات: أيام التشريق.
ورمي الجمار من ذكر الله تعالى لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنما جُعل الطواف بالبيت، وبالصفا والمروة، ورمي الجمار لإقامة ذكر الله " (2) .
5- الحلق أو التقصير للرجال، والتقصير فقط للنساء، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ليس على النساء الحلق، إنما على النساء التقصير" (3) .
6- المبيت بمنى ليلتين، ليلة إحدى عشرة وليلة اثنتي عشرة لمن تعجل، فإن تأخر فليلة ثلاث عشرة أيضاً، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بات بها، وقال: "لتأخذوا عني مناسككم " (4) .
وروى ابن عمر رضي الله عنهما أن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه استأذن من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته فأذن له (5) .
وفي لفظ: فرخص له.
والتعبير بالرخصة دليل على وجوب المبيت لغير عذر.
فهذه الأمور الستة واجبة في الحج، لكن الحج يصح بدونها.
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 203.
(2) تقدم تخريجه ص 26.
(3) أخرجه أبو داود، كتاب المناسك، باب الحلق والتقصير (1984، 1985) .
(4) تقدم تخريجه ص 8.
(5) تقدم تخريجه ص 296.(24/317)
وفي تركها عند الجمهور من العلماء فدية شاة أو سُبع بدنة أو سُبع بقرة تُذبح في مكة وتُعطى فقراء أهلها، والله أعلم.
فأما طواف الوداع فهو واجب على كل من خرج من الحجاج من مكة إلى بلده، لقول ابن عباس رضي الله عنهما: "أُمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خُفف عن الحائض " (1) .
وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه طاف بالبيت حين خُروجه من مكة في حجة الوداع (2) .
__________
(1) تقدم تخريجه ص 299.
(2) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب طواف الوداع (1756) ، ومسلم، كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام (1211) (123) .(24/318)
الفصل التاسع
أخطاء يرتكبها بعض الحجاج
قال الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)) (1) .
وقال تعالى: (فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)) (2) .
وقال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)) (3) .
وقال تعالى: (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79)) (4) .
وقال تعالى: (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32)) (5) .
فكل ما خالف هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وطريقته فهو باطل وضلال مردود على فاعله، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من عَمِلَ عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌ" (6) ، أي: مردود على صاحبه، غير مقبول منه.
وإن بعض المسلمين- هداهم الله ووفقهم- يفعلون أشياء في كثير من العبادات غير مبنية على كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، ولاسيما في الحج الذي يكثر فيه المقدمون على الفُتيا بدون علم، ويُسارعون فيها حتى صار مقامُ الفتيا متجراً عند بعض الناس للسمعة والظهور، فحصل بذلك من الضلال والإضلال ما حصل.
__________
(1) سورة الأحزاب، الآية: 21.
(2) سورة الأعراف، الآية: 158.
(3) سورة آل عمران، الآية: 31.
(4) سورة النمل، الآية: 79.
(5) سورة يونس، الآية: 32.
(6) تقدم تخريجه ص 11.(24/319)
والواجب على المسلم أن لا يُقدِمَ على الفُتيا إلا بعلمٍ يواجه به الله عز وجل، لأنه في مقام المُبلغ عنِ الله تعالى القائل عنه، فليتذكر عند الفُتيا قوله تعالى في نبيه - صلى الله عليه وسلم -: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47)) (1) ، وقوله
تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)) (2) .
وأكثر الأخطاء من الحجاج ناتجة عن هذا- أعني عن الفُتيا بغير علم- وعن تقليد العامة بعضهم بعضاً دون برهان.
ونحن نبين بعون الله تعالى السنة في بعض الأعمال التي يكثر فيها الخطأ، مع التنبيه على الأخطاء، سائلين الله أن يوفقنا للحق، وأن ينفع بذلك إخواننا المسلمين إنه جوادٌ كريمٌ.
__________
(1) سورة الحاقة، الآيات: 44- 47.
(2) سورة الأعراف، الآية: 33.(24/320)
الإحرام والأخطاء فيه
ثبت في "الصحيحين " وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجُحفة، ولأهل نجد قرنَ المنازل، ولأهل اليمن يَلمْلَم، وقال: "فهن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن لمن كان يريد الحج والعمرة" (1) .
وعن عائشة رضي الله عنها "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقَّت لأهل العراق ذات عرق" (2) رواه أبو داود والنسائي.
وثبت في "الصحيحين " أيضاً من حديث عبد الله بن عُمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يُهل أهل المدينة من ذي الحليفة، ويُهل أهلُ الشام من الجحفة، ويُهل أهلُ نجد من قرن ... " (3) الحديث.
فهذه المواقيت التي وقَّتها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حدود شرعية توقيفية موروثة عن الشارع، لا يحلُّ لأحد تغييرها أو التعدي فيها، أو تجاوزها بدون إحرام لمن أراد الحج أو العمرة، فإن هذا من تعدي حدود الله، وقد قال الله تعالى: (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)) (4) ،
ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في حديث ابن عمر رضي الله عنهما: يُهل أهل المدينة ويُهل أهل الشام ويُهل أهل نجد، وهذا خبر بمعنى الأمر، ولهذا قال ابن عمر رضي الله عنهما: فرضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
والإهلالُ: رفع الصوتِ بالتلبية، ولا يكونُ إلا بعد عقدِ الإحرام.
فالإحرامُ من هذه المواقيت واجبٌ على من أراد الحج أو العمرة إذا
__________
(1) تقدم تخريجه ص 125.
(2) تقدم تخريجه ص 257.
(3) تقدم تخريجه ص 306.
(4) سورة البقرة، الآية: 229.(24/321)
مرَّ بها أو حاذاها، سواءُ أتى من طريق البر أو البحر أو الجو.
فإن كان من طريق البر نزل فيها إن مر بها أو فيما حاذاها إن لم يمر بها، وأتى بما ينبغي أن يأتي به عند الإحرام، من الاغتسال وتطييب بدنه ولبس ثياب إحرامه، ثم يُحرم قبل مغادرته.
وإن كان من طريق البحر، فإن كانت الباخرة تقف عند محاذاة الميقات اغتسل وتطيب ولبس ثياب إحرامه حال وقوفها، ثم أحرم قبل سيرها، وإن كانت لا تقف عند محاذاة الميقات اغتسل وتطيب ولبس ثياب إحرامه قبل أن تُحاذيه، ثم يُحرم إذا حاذته.
وإن كان من طريق الجو، اغتسل عند ركوب الطائرة، وتطيب، ولبس ثوب إحرامه قبل مُحاذاة الميقات، ثم أحرم قُبيلَ مُحاذاته، ولا ينتظرُ حتى يُحاذيه، لأن الطائرة تمر به سريعة فلا تُعطي فرصة، وإن أحرم قبله احتياطاً فلا باس.
والخطأ الذي يرتكبه بعض الناس أنهم يمرون من فوق الميقات في الطائرة أو من فوق محاذاته ثم يُؤخرون الإحرام حتى ينزلوا في مطار جدة فيُحرمون منها، وهذا مخالفٌ لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وتعدّ لحدود الله تعالى.
وفي "صحيح البخاري " عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: لما فتح هذان المِصران- يعني البصرة والكوفة- أتوا عمر رضي الله عنه فقالوا: يا أمير المؤمنين إن النبي - صلى الله عليه وسلم - حدَّ لأهل نجد قرناً، وإنه جَورٌ عن طريقنا، وإن أردنا أن نأتي قرناً شق علينا، قال: فانظروا إلى حذوها من طريقكم.
فجعل أمير المؤمنين أحدُ الخلفاء الراشدين ميقات من لم يمر بالميقات إذا حاذاه، ومَنْ حاذاه جوًّا فهو كمن حاذاه برًّا، ولا فرق.(24/322)
فإن وقع الإنسان في هذا الخطأ، فنزل جُدة قبل أن يُحرم فعليه أن يرجع إلى الميقات الذي حاذاه في الطائرة فيُحرم منه، فإن لم يفعل وأحرم من جدة فعليه عند أكثر العلماء فدية يذبحها في مكة ويُفرقها كلها على الفقراء فيها، ولا يأكل منها، ولا يُهدي منها لغني لأنها بمنزلة الكفارة.(24/323)
الطوافُ والأخطاء الفعلية فيه
ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ابتدأ الطواف من الحجَرِ الأسود في الركن اليماني الشرقي من البيت، وأنه طاف بجميع البيت من وراء الحجر، وأنه رَمَل في الأشواط الثلاثة الأولى فقط في الطواف أولَ ما قَدِمَ مكة، وأنه كان في طوافه يستلم الحجر الأسود ويُقبله، واستلمه بيده وقبلها، واستلمه بمحجن كان معه وقبل المحجن وهو راكب على بعيره، وطاف على بعيره فجعل يُشير إلى الركن- يعني الحجر- كلما مر به.
وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يستلم الركن اليماني.
واختلاف الصفات في استلام الحجر إنما كان- والله أعلم- حسب السهولة، فما سَهُل عليه منها فعل، وكلُّ ما فعل من الاستلام والتقبيل والإشارة إنما هو تعبد لله تعالى، وتعظيم له، لا اعتقاد أن الحجر ينفعُ أو يضر.
وفي "الصحيحين " عن عمر رضي الله عنه أنه كان يُقبّل الحجر ويقول: "إني لأعلمُ أنك حجر لا تضرُّ ولا تنفع، ولولا أني رأيتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يُقبّلك ما قبَّلتك " (1) .
__________
(1) تقدم تخريجه ص 29.(24/324)
الأخطاء التي تقع من بعض الحجاج
1- ابتداء الطواف قبل الحجر الأسود، أي بينه وبين الركن اليماني، وهذا من الغلو في الدين الذي نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يشبه من بعض الوجوه تقدم رمضان بيوم أو يومين، وقد ثبت النهي عنه.
وادعاء بعض الحجاج أنه يفعل ذلك احتياطاً غير مقبول منه، فالاحتياط الحقيقي النافع هو اتباع الشريعة، وعدم التقدم بين يدي الله ورسوله.
2- طوافهم عند الزحام من داخل الحجر، بحيث يدخل من باب الحِجر إلى الباب المقابل، ويدع بقية الحجر عن يمينه، وهذا خطأ عظيم لا يصح الطواف إذا فعله، لأن الحقيقة أنه لم يطف بالبيت، وإنما طاف ببعضه.
3- الرَّملُ في جميع الأشواط السبعة.
4- المزاحمة الشديدة للوصول إلى الحجر لتقبيله، حتى إنه يؤدي في بعض الأحيان إلى المُقاتلة والمشاتمة، فيحصل من التضارب والأقوال المنكرة ما لا يليق بهذا العمل، ولا بهذا المكان في مسجد الله الحرام، وتحت ظل بيته، فينقص بذلك الطواف، بل النسك كله، لقوله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) (1) .
وهذه المزاحمة تُذهب الخشوع وتُنسي ذكر الله تعالى، وهما من أعظم المقصود في الطواف.
5- اعتقادهم أن الحجر الأسود نافع بذاته، ولذلك تجدهم إذا
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 197.(24/325)
استلموه مسحوا بيديهم على بقية أجسامهم، أو مسحوا بها على أطفالهم الذين معهم!!
وكل هذا جهل وضلال، فالنفع والضرر من الله وحده، وقد سبق قول أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه: "إني لأعلم أنك حجرٌ لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبلك ما قبَّلتك " (1) .
6- استلامهم- أعني بعض الحجاج- لجميع أركان الكعبة، ورُبما استلموا جميع جدران الكعبة، وتمسحوا بها، وهذا جهل وضلال، فإن الاستلام عبادة وتعظيم لله عز وجل، فيجب الوقوف فيها على ما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يستلم النبي - صلى الله عليه وسلم - من البيت سوى الركنين اليمانيين (الحجر الأسود وهو في الركن اليماني الشرقي من الكعبة، والركن
اليماني الغربي) .
وفي "مسند الإمام أحمد" عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه طاف مع معاوية رضي الله عنه، فجعل معاوية يستلم الأركان كلها، قال ابن عباس: لم تستلم هذين الركنين ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستلمها؟ فقال معاوية: ليس شيءٌ من البيت مهجوراً. فقال ابن عباس:
لقد كان لكم في رسول الله أُسوةٌ حسنة. فقال معاوية: صدقت.
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب استحباب تقبيل الحجر الأسود (1270) .(24/326)
الطواف والأخطاء القولية فيه
ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يُكبر الله تعالى كلما أتى على الحجر الأسود. وكان يقول بين الركن اليماني والحجر الأسود: (رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)) (1) .
وقال: "إنما جعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة، ورمي الجمار لإقامة ذكر الله " (2) .
والخطأ الذي يرتكبه بعض الطائفين في هذا، تخصيص كل شوط بدعاء معين لا يدعو فيه بغيره، حتى إنه إذا أتم الشوط قبل تمام الدعاء قطعه ولو لم يَبق عليه إلا كلمة واحدة، ليأتي بالدعاء الجديد للشوط الذي يليه، وإذا أتم الدعاء قبل تمام الشوط سكت.
ولم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الطواف دعاء مخصص لكل شوط.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله-: وليس فيه- يعني الطواف- ذكر محدود عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، لا بأمره، ولا بقوله، ولا بتعليمه، بل يدعو فيه بسائر الأدعية الشرعية، وما يذكره كثيرٌ من الناس من دعاء مُعين تحت الميزاب ونحو ذلك فلا أصل له.
وعلى هذا فيدعو الطائف بما أحب من خيري الدنيا والآخرة، ويذكر الله تعالى بأي ذكر مشروع من تسبيح أو تحميد أو تهليل أو تكبير أو قراءة القرآن.
ومن الخطأ الذي يرتكبه بعض الطائفين أن يأخذ هذه الأدعية المكتوبة فيدعو بها وهو لا يعرف معناها، وربما يكون فيها أخطاء من
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 201.
(2) تقدم تخريجه ص 26.(24/327)
الطابع أو الناسخ تقلبُ المعنى رأساً على عقب، وتجعل الدعاء للطائف دعاء عليه، فيدعو على نفسه من حيث لا يشعر، وقد سمعنا من هذا العَجَبَ العجاب.
ولو دعا الطائف ربه بما يريده ويعرفه، فيقصد معناه لكان خيراً له وأنفع، ولرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثر تأسياً وأتبع.
ومن الخطأ الذي يرتكبه بعضُ الطائفين أن يجتمع جماعةٌ على قائد يطوف بهم ويُلقنهم الدعاء بصوت مرتفع فيتبعه الجماعة بصوت واحد، فتعلوا الأصوات، وتحصل الفوضى، ويتشوش بقية الطائفين، فلا يدرون ما يقولون، وفي هذا إذهاب للخشوع، وإيذاء لعباد الله في هذا المكان الآمن.
وقد خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - على الناس وهم يُصلون ويجهرون بالقراءة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كلكم يُناجي ربه، فلا يجهر بعضكم على بعض في القرآن " (1) . رواه مالك في "الموطأ"، قال ابن عبد البر: وهو حديثٌ صحيح.
ويا حبذا لو أن هذا القائد إذا أقبل بهم على الكعبة وقف بهم وقال: افعلوا كذا، قولوا كذا، ادعوا بما تُحبون، وصار يمشي معهم في المطاف حتى لا يخطىء منهم أحد، فطافوا بخشوع وطمأنينة، يدعون ربهم خوفاً وطمعاً، وتضرعاً وخُفية بما يحبونه، وما يعرفون معناه ويقصدونه، وسَلِمَ الناسُ من أذهم.
__________
(1) رواه مالك، كتاب الصلاة وباب العمل في القراءة (1/86) (225) .(24/328)
الركعتان بعد الطواف والخطأ فيهما
ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لما فرغ من الطواف تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) (1) ، فصلى ركعتين، والمقام بينه وبين الكعبة، وقرأ في الركعة الأولى الفاتحة وقل يا أيها الكافرون، وفي الركعة الثانية الفاتحة وقل هو الله أحد.
والخطأ الذي يفعله بعض الناس هنا ظنهم أنه لابد أن تكون صلاة الركعتين قريباً من المقام، فيزدحمون على ذلك، ويُؤذون الطائفين في أيام الموسم، ويُعوقون سير طوافهم، وهذا الظن خطأ، فالركعتان بعد الطواف تُجزيان في أي مكان من المسجد، ويُمكن المصلي أن يجعل المقام بينه وبين الكعبة، وإن كان بعيداً عنه، فيُصلي فِي الصحن أو في رُواق المسجد، ويسلم من الأذية فلا يُؤذِي ولا يُؤذى، وتحصلُ له الصلاة بخشوع وطمأنينة.
ويا حبذا لو أن القائمين على المسجد الحرام منعوا من يؤذون الطائفين بالصلاة خلف المقام قريباً منه، وبيَّنوا لهم أن هذا ليس بشرط للركعتين بعد الطواف.
ومن الخطأ أن بعض الذين يُصلون خلف المقام يُصلون عدة ركعات كثيرة بدون سبب، مع حاجة الناس الذين فرغوا من الطواف إلى مكانهم.
ومن الخطأ أن بعض الطائفين إذا فرغ من الركعتين وقف بهم قائدهم يدعو بهم بصوتٍ مرتفع فيُشوشون على المصلين خلف المقام، فيعتدون عليهم، وقد قال الله تعالى: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)) (2) .
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 125.
(2) سورة الأعراف، الآية: 55.(24/329)
هـ
صعود الصفا والمروة والدعاء فوقهما والسعي بين العلمين
والخطأ في ذلك
ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه حين دنا من الصفا قرأ: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) (1) ، ثم رقى عليه حتى رأى الكعبة فاستقبل القبلة ورفع يديه فجعل يحمد الله ويدعو ما شاء أن يدعو، فوحد الله وكبره، وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجزَ وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. ثم دعا بين ذلك فقال مثل هذا ثلاث مرات، ثم نزل ماشياً فلما انصبت قدماه في بطن الوادي وهو ما بين العلمين الأخضرين سعى حتى إذا تجاوزهما مشى حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على
الصفا.
والخطأ الذي يفعله بعض الساعين هنا أنهم إذا صعدوا الصفا والمروة استقبلوا الكعبة فكبروا ثلاث تكبيرات يرفعون أيديهم ويومئون بها كما يفعلون في الصلاة، ثم ينزلون، وهذا خلاف ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإما أن يفعلوا السنة كما جاءت إن تيسر لهم، وإما أن يدعوا ذلك ولا يحدثوا فعلاً لم يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ومن الخطأ الذي يفعله بعض الساعين أنهم يسعون من الصفا إلى المروة، أعني أنهم يشتدون في المشي ما بين الصفا والمروة كله، وهذا خلاف السنة، فإن السعي فيما بين العلمين فقط، والمشي في بقية
المسعى، وأكثر ما يقع ذلك إما جهلاً من فاعله، أو محبة كثير من الناس للعجلة والتخلص من السعي، والله المستعان.
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 158.(24/330)
ومن الخطأ أن بعض، النساء يسعين بين العلمين، أي يُسرعن في المشي بينهما كما يفعل الرجال، والمرأة لا تسعى، وإنما تمشي المشية المعتادة، لقول ابن عمر رضي الله عنهما: ليس على النساء رمل بالبيت ولا بين الصفا والمروة.
ومن الخطأ أن بعض الساعين يقرأ قوله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) (1) كلما أقبل على الصفا أو على المروة، والسنة أن يقرأها إذا أقبل على الصفا في أول شوط فقط.
ومن الخطأ أن بعض الساعين يُخصص لكل شوط دعاءً معيناً، وهذا لا أصل له.
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 158.(24/331)
الوقوف بعرفة والخطأ فيه
ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه مكث يوم عرفة بنمرة حتى زالت الشمس، ثم ركب، ثم نزل في بطن وادي عُرنة، فصلى الظهر والعصر ركعتين ركعتين جمعَ تقديم، بأذانٍ واحد وإقامتين، ثم ركب حتى أتى موقفه فوقف، وقال: "وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف " (1) ، فلم يزل واقفاً
مستقبل القبلة رافعاً يديه يذكر الله ويدعوه حتى غربت الشمس وغاب قرصُها فدفع إلى مزدلفة.
ومن الأخطاء التي يرتكبها بعض الحجاج في الوقوف:
1- أنهم ينزلون خارج حدود عرفة، ويبقون في منازلهم حتى تغرب الشمس، ثم ينصرفون منها إلى مزدلفة من غير أن يقفوا بعرفة، وهذا خطأ عظيم يفوت به الحج، فإن الوقوف بعرفة ركنٌ لا يصح الحج إلا به، فمن لم يقف بعرفة في وقت الوقوف فلا حج له، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الحج عرفة من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك ".
وسبب هذا الخطأ الفادح أن الناس يغتر بعضهم ببعض، لأن بعضهم ينزل قبل أن يصلها ولا يتفقد علاماتها، فيفوت على نفسه الحج ويغرُّ غيره.
ويا حبذا لو أن القائمين على الحج أعلنوا للناس بوسيلة تبلغ جميعهم، وبلغات متعددة، وعهدوا إلى المطوفين بتحذير الحجاج من ذلك، ليكون الناس على بصيرة من أمرهم، ويؤدوا حجهم على الوجه
الذي تبرأ به الذمة.
2- أنهم ينصرفون من عرفة قبل غروب الشمس، وهذا حرام لأنه
__________
(1) تقدم تخريجه ص 289.(24/332)
خلاف سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، حيث وقف إلى أن غربت الشمس وغاب قرصها، ولأن الانصراف من عرفة قبل الغروب عمل أهل الجاهلية.
3- أنهم يستقبلون الجبل- جبل عرفة- عند الدعاء، ولو كانت القبلة خلف ظهورهم أو على أيمانهم أو شمائلهم، وهذا خلاف السنة، فإن السنة استقبال القبلة كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -.(24/333)
رمي الجمرات والخطأ فيه
ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه رمى جمرة العقبة وهي الجمرة القصوى التي تلي مكة بسبع حصيات، ضحى يوم النحر، يكبر مع كل حصاة منها، مثل حصا الخذف، أي فوق الحمص قليلاً.
وفي "سنن النسائي " من حديث الفضل بن عباس رضي الله عنهما- وكان رديف النبي - صلى الله عليه وسلم - من مزدلفة إلى منى- قال: فهبط- يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - - محسراً وقال: "عليكم بحصا الخذف الذي ترمى به الجمرة"، قال: والنبي - صلى الله عليه وسلم - يشير بيده كما يخذف الإنسان (1) .
وفي "مسند الإمام أحمد" عن ابن عباس رضي الله عنهما قال يحيى: لا يدري عوفٌ عبد الله أو الفضل: قال: "قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غداة العقبة وهو واقف على راحلته: هاتِ القطْ لي، قال فلقطت له حصيات هن حصا الخذف، فوضعهن في يده قال: "بأمثال هؤلاء" مرتين، وقال بيده فأشار يحيى أنه رفعها وقال: "إياكم والغلو فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين " (2) .
وعن أم سليمان بن عمرو بن الأحوص رضي الله عنها قالت: "رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يرمي جمرة العقبة من بطن الوادي يوم النحر، وهو يقول: "يا أيها الناس لا يقتل بعضكم بعضاً، وإذا رميتم الجمرة فارموها بمثل حصا الخذفِ " رواه أحمد (3) .
__________
(1) أخرجه النسائي، كتاب المناسك، باب من أين يلتقط الحصى (3060) .
(2) أخرجه الإمام أحمد (1/268) وأبو يعلى (2427) وابن خزيمة (2867) والحاكم (1/466) وصححه ووافقه الذهبي والبيهقي (5/127) .
(3) (3/503) و (6/376، 379) . ورواه أبو داود (1966) والطيالسي (1660) من طرق =(24/334)
وفي "صحيح البخاري " عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات يكبر على إثر كل حصاة ثم يتقدم حتى يسهل فيقوم مستقبل القبلة فيقوم طويلاً ويدعو ويرفع يديه، ثم يرمي الوسطى، ثم يأخذ ذات الشمال فيسهل ويقوم مستقبل القبلة فيقوم طويلاً، ويدعو ويرفع يديه، ثم يرمي جمرة العقبة من بطن الوادي، ولا يقف عندها، ثم ينصرف فيقولُ: هكذا رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله.
وروى أحمد وأبو داود عن عائشة رضي الله عنها أن النبي قال: "إنما جُعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله " (1) .
والأخطاء التي يفعلها بعض الحجاج هي:
1- اعتقادهم أنه لابد من أخذ الحصا من مزدلفة فيتعبون أنفسهم بلقطها في الليل واستصحابها في أيام منى حتى إن الواحد منهم إذا أضاع حصاة حزن حُزناً كبيراً، وطلب من رفقته أن يتبرعوا له بفضل ما معهم من حصا مزدلفة.
وقد عُلم مما سبق أنه لا أصل لذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه أمر ابن عباس رضي الله عنهما بلقط الحصا له وهو واقف على راحلته، والظاهر أن هذا الوقوف كان عند الجمرة، إذ لم يُحفظ عنه أنه وقف بعد مسيره من مزدلفة قبل ذلك، ولأن هذا وقت الحاجة إليه فلم يكن ليأمر بلقطها قبله لعدم الفائدة فيه وتكلف حمله.
2- اعتقادهم أنهم برميهم الجمار يرمون الشيطان، ولهذا يُطلقون اسم الشياطين على الجمار، فيقولون: رمينا الشيطان الكبير أو الصغير
__________
= يقوي بعضها بعضاً.
(1) تقدم تخريجه ص 26.(24/335)
أو رمينا أبا الشياطين يعنون به الجمرة الكبرى جمرة العقبة، ونحو ذلك من العبارات التي لا تليق بهذه المشاعر.
وتراهم أيضاً يرمون الحصا بشدة وعنف وصراخ وسب وشتم لهذه الشياطين على زعمهم حتى شاهدنا من يصعد فوقها يبطش بها ضرباً بالنعل والحصا الكبار بغضب وانفعال! والحصا تصيبه من الناس، وهو لا يزداد إلا غضباً وعنفاً في الضرب، والناس حوله يضحكون ويقهقهون كأن المشهد مشهد مسرحية هزلية! شاهدنا هذا قبل أن تُبنى الجسور وترتفع أنصاب الجمرات، وكل هذا مبني على هذه العقيدة أن الحجاج يرمون شياطين، وليس لها أصل صحيح يعتمد عليه.
وقد علمت مما سبق الحكمة في مشروعية رمي الجمار، وأنه إنما شرع لإقامة ذكر الله عز وجل، ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكبر على إثر كل حصاة.
3- رميهم الجمرات بحصا كبيرة، وبالحذاء (النعل) والخفاف (الجزمات) ، والأخشاب!! وهذا خطأ كبير مخالف لما شرعه النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته بفعله وأمره، حيث رمى - صلى الله عليه وسلم - بمثل حصا الخذف، وأمر أمته أن يرموا بمثله، وحذرهم من الغلو في الدين، وسبب هذا الخطأ الكبير ما سبق من اعتقادهم أنهم يرمون شياطين.
4- تقدمهم إلى الجمرات بعنف وشدة، لا يخشعون لله تعالى، ولا يرحمون عباد الله، فيحصل بفعلهم هذا من الأذية للمسلمين والإضرار بهم، والمشاتمة والمضاربة ما يقلب هذه العبادة وهذا المشعر إلى
مشهد مشاتمة ومقاتلة، ويخرجها عما شُرعت من أجله، وعما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ففي "المسند" عن قدامة بن عبد الله بن عمار قال: "رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم -(24/336)
يوم النحر يرمي جمرة العقبة على ناقة صهباء، لا ضرب ولا طرد ولا إليك إليك " رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.
5- تركهم الوقوف للدعاء بعد رمي الجمرة الأولى والثانية في أيام التشريق، وقد علمت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقفُ بعد رميها مستقبل القبلة، رافعاً يديه يدعو دعاءً طويلاً.
وسبب ترك الناس لهذا الوقوف الجهل بالسنة، أو محبة كثير من الناس للعجلة والتخلص من العبادة.
ويا حبذا لو أن الحاج تعلم أحكام الحج قبل أن يحج، ليعبد الله تعالى على بصيرة، ويحقق متابعة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ولو أن شخصاً أراد أن يسافر إلى بلد لرأيته يسأل عن طريقها حتى يصل إليها عن دلالة، فكيف بمن أراد أن يسلك الطريق الموصلة إلى الله تعالى، وإلى جنته، أفليس من الجدير به أن يسأل عنها قبل أن يسلكها ليصل إلى المقصود؟
6- رميهم الحصا جميعاً بكفٍّ واحدة، وهذا خطأ فاحش، وقد قال أهل العلم إنه إذا رمى بكف واحدة أكثر من حصاة لم يحتسب له سوى حصاة واحدة.
فالواجب أن يرمي الحصا واحدة فواحدة، كما فعل النبي.
7- زيادتهم دعوات عند الرمي لم ترد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، مثل قولهم: اللهم اجعلها رضا للرحمن، وغضباً للشيطان، وربما قال ذلك وترك التكبير الوارد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
والأولى الاقتصار على الوارد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير زيادة ولا نقص.
8- تهاونهم برمي الجمار بأنفسهم فتراهم يوكلون من يرمي عنهم مع قدرتهم على الرمي ليُسقطوا عن أنفسهم معاناة الزحام ومشقة العمل،(24/337)
وهذا مخالف لما أمر الله. تعالى به من إتمام الحج، حيث يقول سبحانه: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) (1) ، فالواجب على القادر على الرمي أن يُباشره بنفسه، ويصبر على المشقة والتعب فإن الحج نوعٌ من الجهاد، لابد فيه من الكُلفة والمشقة.
فليتق الحاج ربه، وليتم نُسكه، كما أمره الله تعالى به ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 196.(24/338)
طواف الوداع والأخطاء فيه
ثبت في "الصحيحين " عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "أُمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن الحائض " (1) .
وفي لفظ لمسلم عنه قال: "كان الناس ينصرفون في كل وجه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا ينفرنَّ أحدٌ حتى يكون آخر عهده بالبيت " (2) .
ورواه أبو داود بلفظ: "حتى يكونَ آخرَ عهده الطوافُ بالبيت " (3) .
وفي "الصحيحين " عن أُم سلمة رضي الله عنها قالت: "شكوت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أني أشتكي، فقال: "طُوفي من وراء الناس وأنت راكبة" (4) ، فطُفت ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُصلي إلى جنب البيت وهو يقرأ بالطور وكتاب مسطور".
وللنسائي عنها أنها قالت: "يا رسول الله، والله ما طُفتُ طوافَ الخروجِ فقال: "إذا قيمت الصلاة فطوفي على بعيرك من وراء الناس ".
وفي "صحيح البخاري " (5) عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم رقد رقدةً بالمحصب ثم ركب إلى البيت فطاف به.
وفي "الصحيحين " عن عائشة رضي الله عنها أن صفية رضي الله عنها حاضت بعد طواف الإفاضة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أحابِستنا هي؟ " قالوا: إنها قد أفاضت وطافت بالبيت، قال: "فلتنفر إذن " (6) .
__________
(1) تقدم تخريجه ص 299.
(2) تقدم تخريجه ص 159.
(3) سنن أبي داود، كتاب المناسك، باب الوداع (2052) .
(4) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب المريض يطوف راكباً (1633) ، ومسلم، كتاب الحج، باب جواز الطواف على بعير وغيره (1276) .
(5) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب حجة - صلى الله عليه وسلم - (1218) .
(6) تقدم تخريجه ص 66.(24/339)
وفي "الموطأ" عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أن عمر رضي الله عنه قال: "لا يَصدُرن أحدٌ من الحج حتى يطوف بالبيت، فإن آخر النسك الطوافُ بالبيت ".
وفيه عن يحيى بن سعيد أن عمر رضي الله عنه ردّ رجلاً من مرِّ الظهران لم يكن ودّع البيت حتى ودَّع.
والخطأ الذي يرتكبه بعض الناس هنا:
1- نزولهم من منى يوم النفر قبل رمي الجمرات، فيطوفوا للوداع ثم يرجعوا إلى منى فيرموا الجمرات، ثم يُسافروا إلى بلادهم من هناك.
وهذا لا يجوز، لأنه مخالف لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكون آخر عهد الحاج بالبيت، فإن من رمى بعد طواف الوداع فقد جعل آخرَ عهده بالجمار لا بالبيت، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يطف للوداع إلا عند خروجه حين استكمل جميع مناسك الحج، وقد قال: "خذوا عني مناسككم " (1) .
وأثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه صريح في أن الطواف بالبيت آخرُ النسك، فمن طافَ للوداع ثم رمى بعده فطوافه غير مجزىء لوقوعه في غير محله، فيجبُ عليه إعادته بعد الرمي، فإن لم يُعد كان حكمه حكم من تركه.
2- مُكثهم بمكة بعد طواف الوداع، فلا يكون آخر عهدهم بالبيت وهذا خلاف مما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبينه لأمته بفعله، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أن يكون آخر عهد الحاج بالبيت، ولم يطف للوداع إلا عند خروجه، وهكذا فعل أصحابه، ولكن رخص أهلُ العلم في الإقامة بعد طوافِ الوداع للحاجة إذا كانت عارضةً، كما لو أقيمت الصلاة بعد طوافه للوداع فصلاها، أو حضرت جنازةٌ فصلى عليها أو كان له حاجةٌ تتعلق
__________
(1) تقدم تخريجه ص 8.(24/340)
بسفره كشراء متاع وانتظار رفقةٍ ونحو ذلك. فمن أقام بعد طواف الوداع إقامة غير مرخصٍ فيها وجبت عليه إعادتهُ.
3- خروجهم من المسجد بعد طواف الوداع على أقفيتهم يزعمون بذلك تعظيم الكعبة، وهذا خلافُ السنة، بل هو من البدع التي حذرنا منها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال فيها: "كل بدعة ضلالة" (1) .
والبدعة: كل ما أُحدث من عقيدة أو عبادة على خلاف ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخُلفاؤه الراشدون، فهل يظن هذا الراجع على قفاه تعظيماً للكعبة على زعمه أنه أشد تعظيماً لها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو يظن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يعلم أنّ في ذلك تعظيماً لها، لا هو ولا خُلفاؤه الراشدون؟!!
4- التفاتهم إلى الكعبة عند باب المسجد بعد انتهائهم من طواف الوداع ودعاؤهم هناك كالمودعين للكعبة، وهذا من البدع، لأنه لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن خُلفائه الراشدين، وكل ما قُصد به التعبد لله تعالى وهو مما لم يرد به الشرع فهو باطل مردودٌ على صاحبه، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من أحدثَ في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" (2) ، أي: مردود على
صاحبه.
فالواجب على المؤمن بالله ورسوله أن يكون في عباداته مُتبعاً لما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها لينال بذلك محبة الله ومغفرته، كما قال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)) (3) .
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة (867) .
(2) أخرجه البخاري، كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور ... (2697) ، ومسلم، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ... 17 (1718) .
(3) سورة آل عمران، الآية: 31.(24/341)
واتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يكون في مفعولاته يكون كذلك في متروكاته.
فمتى وُجد مقتضى الفعل في عهده ولم يفعله كان ذلك دليلاً على أن السنة والشريعة تركه، فلا يجوز إحداثه في دين الله تعالى، ولو أحبه الإنسان وهواه.
قال الله تعالى: (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ) (1) .
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به " (2) . نسأل الله أن يهدينا صراطه المستقيم، وأن لا يُزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب.
__________
(1) سورة المؤمنون، الآية: 71.
(2) أخرجه الإمام أحمد (3/503) و (6/376، 379) . ورواه أبو داود (1966) والطيالسي (1660) من طرق يقوي بعضها بعضاً.(24/342)
الفصل العاشر
في زيارة المسجد النبوي
زيارة المسجد النبوي من الأمور المشروعة المستحبة، فهو ثاني المساجد الثلاثة التي تُشد الرحال إليها للصلاة فيها والعبادة.
ففي "الصحيحين " عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى" (1) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "صلاةٌ في مسجدي خيرٌ من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام " (2) رواه الجماعة.
زاد الإمام أحمد من حديث عبد الله بن الزبير: "وصلاة في المسجد الحرام أفضلُ من ألف صلاة في هذا".
وعن ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: "إني سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:
"صلاةٌ فيه- يعني مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - أفضل من ألفِ صلاة فيما سواهُ من المساجد إلا مسجد الكعبة" (3) رواه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي " (4) رواه البخاري.
فيُسن للحاج وغيره زيارة مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - والصلاة فيه قبل الحج أو
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة (1189) ، ومسلم، كتاب الحج، باب لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد (1397) .
(2) أخرجه البخاري، كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة ... (1189) ومسلم، كتاب الحج، باب لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد (1397) .
(3) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة (1396) .
(4) أخرجه البخاري، كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة، باب فضل ما بين القبر والمنبر
(1195) ، ومسلم، كتاب الحج، باب ما بين القبر والمنبر روضة (1391) .(24/343)
بعده، وليست هذه الزيارة من شروط الحج ولا أركانه ولا واجباته، ولا تعلُّق لها به.
فإذا دخل المسجد قدم رجله اليمنى، وقال: بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك، أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وبسلطانه القديم من الشيطان الرجيم.
ثم يصلي ركعتين تحية المسجد لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يُصلي ركعتين " (1) متفق عليه.
وفي "الصحيحين " من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه قال: وأصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قادماً، وكان إذا قَدِمَ من سفر بدأ بالمسجد فيركع فيه ركعتين (2) .
وعن جابر رضي الله عنه قال: كنتُ مع رسول الله في سفر فلما قدمنا المدينة قال: "اُدخُل فصلِّ ركعتين " (3) .
وينبغي أن يتحرى الصلاة في الروضة إن تيسر له من أجل فضيلتها، وإن لم يتيسر له صلى في أي جهة من المسجد تتيسر له، وهذا في غير صلاة الجماعة، أما في صلاة الجماعة فليحافظ على الصف الأول الذي يلي الإمام لأنه أفضل؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "خير صفوف الرجال
أولها" (4) ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لو يعلمُ الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا" (5) .
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين (444) ، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب تحية المسجد بركعتين (714) (70) .
(2) مسلم، كتاب الحج، باب فضل الصلاة بمسجد مكة والمدينة.
(3) كتاب الجهاد، باب الصلاة إذا قدم من سفر، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب ركعتين في المسجد لمن قدم من سفر.
(4) البخاري، كتاب الجهاد، باب الصلاة عند القدوم.
(5) أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب الاستهام في الأذان (615) .(24/344)
زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -
وقبري صاحبيه رضي الله عنهما
بعد أن يُصلي في المسجد النبوي أول قدومه ما شاء الله أن يُصلي، يذهب للسلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
1- فيقف أمام قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - مُستقبلاً للقبر مُستدبراً للقبلة، فيقولُ: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، وإن زاد شيئاً مناسباً فلا بأس مثل أن يقول: السلام عليك يا خليل الله وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، أشهد أنك قد بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، وجاهدت في الله حق جهاده.
وإن اقتصر على الأول فحسنٌ.
وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا سلم يقول: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتِ، ثم ينصرف.
2- ثم يخطو خطوة عن يمينه ليكون أمام أبي بكر رضي الله عنه فيقول: السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أمته، رضي الله عنك وجزاك عن أمة محمد خيراً.
3- ثم يخطو خطوة عن يمينه ليكون أمام عمر رضي الله عنه فيقول: السلام عليك يا عمر، السلام عليك يا أمير المؤمنين، رضي الله عنك وجزاك عن أمة محمد خيراً.
وليكن سلامه على النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه بأدب، وخفض صوت، فإن رفع الصوت في المساجد منهيٌّ عنه، لاسيما في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعند قبره.
وفي "صحيح البخاري " عن السائب بن يزيد قال: كنت قائماً أو نائماً(24/345)
في المسجد فحصبني رجلٌ فنظرتُ فإذا عمر بن الخطاب فقال: اذهب فأتني بهذين، فجئتهُ بهما فقال: من أنتما؟ قالا: من أهل الطائف، قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما جلداً، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ولا ينبغي إطالة الوقوف والدعاء عند قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقبري صاحبيه، فقد كرهه مالك وقال: هو بدعة لم يفعلها السلف، ولن يُصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله-: وكره مالكٌ لأهل المدينة كلما دخل إنسان المسجد أن يأتي إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأن السلف لم يكونوا يفعلون ذلك، بل كانوا يأتون إلى مسجده فيصلون فيه خلف أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وهم يقولون في الصلاة: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، ثم إذا قضوا الصلاة قعدوا أو خرجوا ولم يكونوا يأتون القبر للسلام لعلمهم أن الصلاة والسلام عليه في الصلاة أكمل وأفضل.
قال: وكان أصحابه خير القرون، وهم أعلمُ الأمة بسنته، وأطوعُ الأمة لأمره.
قلت: وأقواهم في تعظيمه ومحبته، وكانوا إذا دخلوا إلى مسجده لا يذهب أحدٌ منهم إلى قبره، لا من داخل الحجرة ولا من خارجها، وكانت الحجرة في زمانهم يُدخل إليها من الباب إلى أن بُني الحائط الآخر، وهم مع ذلك التمكن من الوصول إلى قبره لا يدخلون إليه، لا لسلام، ولا لصلاة عليه، ولا لدعاء لأنفسهم، ولا لسؤال عن حديث أو علم!(24/346)
ولم يكن أحدٌ من الصحابة رضوان الله عليهم يأتيه ويسأله عن بعض ما تنازعوا فيه، كما أنهم أيضاً لم يطمع الشيطان فيهم فيقولُ: اطلبوا منه أن يأتي لكم بالمطر، ولا أن يستنصر لكم، ولا أن يستغفر كما كانوا في حياته يطلبون منه أن يستسقي لهم، وأن يستنصر لهم.
قال: وكان الصحابة إذا أراد أحدٌ أن يدعو لنفسه، استقبل القبلة ودعا في مسجده كما كانوا يفعلون في حياته، لا يقصدون الدعاء عند الحجرة، ولا يدخل أحدهم إلى القبر.
قال: وكانوا يقدمون من الأسفار للاجتماع بالخلفاء الراشدين وغير ذلك، فيصلون في مسجده، يُسلمون عليه في الصلاة، وعند دخولهم المسجد والخروج منه، ولا يأتون القبر؛ إذ كان هذا عندهم مما لم يأمرهم به. ولكن ابن عمر كان يأتيه فيسلم عليه وعلى صاحبيه عند قدومه من السفر، وقد يكون فَعَلَه غير ابن عمر أيضاً ولم يكن جمهور الصحابة يفعلون كما فعل ابن عمر رضي الله عنهما.
ولا يتمسح بجدار الحجرة، ولا يقبله، فإن فَعَلهُ عبادة لله وتعظيماً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو بدعة، وكل بدعة ضلالة، وقد أنكر ابن عباس رضي الله عنهما على معاوية رضي الله عنه مسح الركنين الشامي والغربي من الكعبة، مع أن جنس ذلك مشروع في الركنين اليمانيين. وليس تعظيم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومحبته بمسح جدران حُجرة لم تبن إلا بعد عهده بقرون، وإنما محبته وتعظيمه باتباعه ظاهراً وباطناً، وعدم الابتداع في دينه ما لم يشرعه. قال الله تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) (1) .
وأما إن كان مسح جدار الحجرة وتقبيله مجرد عاطفة أو عبث فهو
__________
(1) سورة آل عمران، الآية: 31.(24/347)
سفه وضلال لا فائدة فيه، بل فيه ضرر وتغرير للجهال.
ولا يدعو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجلب منفعة له، أو دفع مضرة، فان ذلك من الشرك، قال الله تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي َيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)) (1) . وقال تعالى: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18)) (2) ، وأمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يعلن لأمته بأنه لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرًّا، فقال تعالى: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ) (3) ، وإذا كان لا يملك ذلك لنفسه، فلا يمكن أن يملكه لغيره.
وأمره سبحانه أن يُعلن لأمته أنه لا يملك مثل ذلك لهم، فقال تعالى: (قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21)) (4) .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: لما نزلت: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)) (5) (قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا فاطمة ابنة محمد، يا صفية بنت عبد المطلب، يا بني عبد المطلب لا أملكُ لكم من الله شيئاً، سَلُوني من مالي ما شئتم " (6) .
ولا يطلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو له، أو يستغفرَ له، فإن ذلك قد انقطع بموته - صلى الله عليه وسلم -، لما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله " (7) .
فأما قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا
__________
(1) سورة غافر، الآية: 60.
(2) سورة الجن، الآية: 18.
(3) سورة الأعراف، الآية: 188.
(4) سورة الجن، الآية: 21.
(5) سورة الشعراء، الآية: 214.
(6) مسلم، كتاب الإيمان، باب قوله تعالى: (وأنذر عشيرتك الأقربين) .
(7) تقدم تخريجه ص 23.(24/348)
اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64)) (1) فهذا في حياته، فليس فيها دليل على طلب الاستغفار منه بعد موته؛ فإن الله قال: (إذ ظلَمُوَا) ولم يقل: إذا ظلموا أنفسهم، وإذ ظرف للماضي لا للمستقبل، فهي في قوم كانوا في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا تكون لمن بعده.
فهذا ما ينبغي في زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقبري صاحبيه والسلام عليهم.
وينبغي أن يزورَ مقبرة البقيع، فيسلم على من فيها من الصحابة والتابعين، مثل عثمان بن عفان رضي الله عنه، فيقفُ أمامه ويُسلم عليه فيقول: السلام عليك يا عثمان بن عفان، السلام عليك يا أمير المؤمنين، رضي الله عنك وجزاك عن أمة محمد خيراً.
وإذا دخل المقبرة فليقل ما علمه رسول الله على أمته كما في "صحيح مسلم " عن بُريدة رضي الله عنه قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر فكان قائلهم يقول: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون، نسأل الله لنا
ولكم العافية" (2) .
وفيه أيضاً عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخرج من آخر الليل إلى البقيع، فيقول: "السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين، وأتاكم ما توعدون غداً مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد" (3) .
وإن أحب أن يخرج إلى أُحد ويزور الشهداء هناك فيسلم عليهم ويدعو لهم ويتذكر ما حصل في تلك الغزوة من الحكم والأسرار فحسن.
__________
(1) سورة النساء، الآية: 64.
(2) مسلم، كتاب الجنائز، باب ما يقال عند دخول المقابر.
(3) مسلم، كتاب الجنائز، باب ما يقال عند دخول المقابر.(24/349)
وينبغي أن يخرج إلى مسجد قباء، فيصلي فيه لقوله تعالى: (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) (1) .
وفي "صحيح البخاري " (2) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأتي مسجد قُباء كل سبت ماشياً وراكباً، وكان ابن عمر يفعله "، وفي رواية: "فيصلّي فيه ركعتين ".
وروى النسائي عن سهل بن حنيف رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ
خرج حتى يأتي هذا المسجد- مسجد قباء- فصلى فيه كان له عدلَ عمرة" (3) .
وإذا انصرف إلى بلاده وأقبل عليها قال: آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون، حتى يقدم، كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك.
وليحمد الحاج الله الذي يسر له الحج وزيارة المدينة، ليحمد الله على ذلك، وليقم بشكره، ويستقم على أمره، فاعلاً ما أمر الله به ورسوله، تاركاً ما نهى الله عنه ورسوله، ليكون من عباد الله الصالحين، وأوليائه المتقين.
(أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)) (4) .
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) سورة التوبة، الآية: 108.
(2) أخرجه البخاري، كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب من أتى مسجد قباء كل سبت (1193) ، ومسلم، كتاب الحج، باب فضل مسجد قباء وفضل الصلاة فيه وزيارته (1399) (52) .
(3) أخرجه النسائي، كتاب المساجد، باب فضل مسجد قباء (700) .
(4) سورة يونس، الآيات: 62- 64.(24/350)
أسئلة وأجوبة في بعض مسائل الحج
س 1: امرأة حاضت ولم تطف طواف الإفاضة وتسكن خارج المملكة، وحان وقتُ مغادرتها المملكة، ولا تستطيع التأخر، ويستحيل عودتها المملكة مرة أخرى، فما الحكم؟
ج 1: إذا كان الأمر كما ذُكر، امرأة لم تطف طواف الإفاضة، وحاضت ويتعذر أن تبقى في مكة أو أن ترجع إليها لو سافرت قبل أن تطوف، ففي هذه الحال يجوز لها أن تستعمل واحداً من أمرين: فإما أن تستعمل إبراً توقف هذا الدم وتطوف، وإما أن تتلجم بلجام يمنع من سيلان الدم إلى المسجد، وتطوف للضرورة، وهذا القول الذي ذكرناه هو القول الراجح، والذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وخلافُ ذلك واحدٌ من أمرين، إما أن تبقى على ما بقي من إحرامها بحيث لا تحل لزوجها، وإما أن تُعتبر مُحصرة تذبح هدياً وتحلُّ من إحرامها.
وفي هذه الحال لا تعتبر هذه الحجة حجًّا لأنها لم تكملها، وكلا الأمرين صعب، الأمر الأول وهو بقاؤها على ما بقي من إحرامها، والأمر الثاني الذي يُفوِّت عليها حجها، فكان القول الراجح هو ما ذهب إلي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مثل هذه الحال للضرورة، وقد قال الله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ في اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (1) ، وقال: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ) (2) .
أما إذا كانت المرأة يمكنها أن تسافر ثم ترجع إذا طهرت فلا حرج عليها أن تسافر، فإذا طهرت رجعت فطافت طواف الحج.
__________
(1) سورة الحج، الآية: 78.
(2) سورة البقرة، الآية: 185.(24/351)
وفي هذه المدة لا تحل لزوجها لأنها لم تحل التحلل الثاني.
س 2: حاجٌّ من خارج المملكة لا يعلم عن ظروف السفر وترتيبات التذاكر والطائرات، وسأل في بلده هل يمكنه الحجز الساعة الرابعة عصراً من يوم (13/12/1405 هـ) ؟ قيل: يمكن ذلك، فحجز على هذا الموعد، ثم أدركه المبيت بمنى ليلة الثالث عشر، فهل يجوز له أن يرمي صباحاً ثم ينفر، علماً أنه لو تأخر بعد الزوال لفات السفر، وترتب عليه مشقة كبيرة، ومخالفة لأولي الأمر؟ وإذا كان لا يجوز أليس هناك من يجيز الرمي قبل الزوال؟
ج 2: لا يجوز له أن يرمي قبل الزوال، ولكن يمكن أن نُسقط عنه الرمي في هذه الحال للضرورة، ونقول "له: يلزمك فدية تذبحها في منى أو في مكة أو تُوكل من يذبحها عنك، وتوزع على الفقراء، وتطوفُ طواف الوداع وتمشي.
ونقول: أما قولك إذا كان الجواب بعدم الجواز أليس هناك رأي يجيز الرمي قبل الزوال؟ فالجواب: هناك رأي يجيز الرمي قبل الزوال، ولكنه ليس بصحيح، والصواب أن الرمي قبل الزوال لا يجوز، وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خذوا عني مناسككم " (1) ، ولم يرم - صلى الله عليه وسلم - إلا بعد الزوال.
فإن قال قائل: رمي النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الزوال مجرد فعل، ومجرد الفعل لا يدل على الوجوب، قلنا: هذا صحيح أنه مجرد فعل، ومجرد الفعل لا يدل على الوجوب، أما كونه مجرد فعل فلأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر بأن يكون الرمي بعد الزوال، ولا نهى عن الرمي قبل الزوال.
وأما كون الفعل لا يدل على الوجوب، فنعم لا يدل على الوجوب لأن الوجوب لا يكون إلا بأمر بالفعل أو نهي عن الترك.
__________
(1) تقدم تخريجه ص 8.(24/352)
ولكن نقول: هذا الفعل دلت القرينة على أنه للوجوب، ووجه ذلك أن كون الرسول - صلى الله عليه وسلم - يؤخر الرمي حتى تزول الشمس يدل على الوجوب، إذ لو كان الرمي قبل الزوال جائزاً لكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله، لأنه أيسر على العباد وأسهل، والنبي - صلى الله عليه وسلم - ما خُير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، فكونه - صلى الله عليه وسلم- لم يختر الأيسر هنا وهو الرمي قبل الزوال يدل على إنه إثم.
والوجه الثاني مما يدل على أن هذا الفعل للوجوب: كون الرسول - صلى الله عليه وسلم - يرمي فور زوال الشمس قبل أن يصلي الظهر، فكأنه يترقب الزوال بفارغ الصبر ليبادر بالرمي، ولهذا أخر صلاة الظهر مع أن الأفضل تقديمها في أول الوقت، كل ذلك من أجل أن يرمي بعد الزوال مباشرة.
س 3: رجلٌ سمع أنه يجوز السعي قبل الطواف فسعى ثم طاف في اليوم الثاني عشر أو الثالث عشر، فقيل له: إن ذلك خاص بيوم العيد، فما الحكم؟
ج 3: الصواب أنه لا فرق بين يوم العيد وغيره في أنه يجوزُ تقديم السعي على الطواف في الحج، حتى لو كان بعد يوم العيد لعموم الحديث، حيث قال رجلٌ للنبي - صلى الله عليه وسلم -: سعيتُ قبل أن أطوف قال: "لا حرج " (1) . وإذا كان الحديث عاماً فإنه لا فرق بين أن يكون ذلك في يوم العيد أو فيما بعده.
س 4: إذا طاف مَن عليه سعي، ثم خرج ولم يسع، وأخبر بعد خمسة أيام بان عليه سعياً، فهل يجوز أن يسعى فقط ولا يطوف قبله؟
ج 4: إذا طاف الإنسان معتقداً أنه لا سعي عليه ثم خرج، ثم بعد ذلك بأيام أُخبر بأن عليه سعياً، فإنه يأتي للسعي فقط ولا حاجة إلى إعادة الطواف، وذلك لأنه لا يُشترط الموالاة بين الطواف والسعي، حتى لو فرض أن الرجل ترك ذلك عمداً، أي أخر السعي عن الطواف عمداً، فلا
حرج عليه، ولكن الأفضل أن يكون السعي موالياً للطواف.
__________
(1) تقدم تخريجه ص 296.(24/353)
س 5: حاج قدم متمتعاً، فلما طاف وسعى لبس ملابسه العادية، ولم يقصر أو يحلق، وسأل بعد الحج وأخبر أنه أخطأ، فكيف يفعل وقد ذهب الحج بعد وقت العمرة؟
ج 5: هذا الرجل يُعتبر تاركاً لواجب من واجبات العمرة، وهو التقصير، وعليه عند أهل العلم أن يذبح فدية في مكة ويوزعها على فقراء مكة وهو باقٍ على تمتعه فيلزمه هدي التمتع أيضاً.
س 6: ما حكم الحلق أو التقصير بالنسبة للعمرة؟
ج 6: الحلق أو التقصير بالنسبة للعمرة واجب، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قدم إلى مكة في حجة الوداع وطاف وسعى، أمر كل من لم يسق الهدي أن يقصر، ثم يحل، والأصل في الأمر الوجوب، ويدل لذلك أيضاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهم حين أحصروا في غزوة الحديبية، أن يحلقوا حتى إنه - صلى الله عليه وسلم - غضب حين توانوا في ذلك.
وأما: هل الأفضل في العمرة التقصير أو الحلق؟ فالأفضل الحلق، إلا للمتمتع الذي قدم متأخراً فإن الأفضل في حقه التقصير من أجل أن يتوفر الحلق للحج.
س 7: حاج رمى جمرة العقبة من جهة الشرق، ولم يسقط الحجر في الحوض، فما العمل وهو في اليوم الثالث عشر، وهل يلزمه إعادة الرمي في أيام التشريق؟
ج 7: لا يلزمه إعادة الرمي كله، وإنما يلزمه إعادة الرمي الذي أخطأ فيه فقط، وعلى هذا يعيد رمي جمرة العقبة فقط، ويرميها على الصواب، ولا يجزئه الرمي الذي رماه من جهة الشرق لأنه في هذه الحال لا يسقط في الحوض الذي هو موضع الرمي، ولهذا لو رماها من الجسر من الناحية الشرقية أجزأ لأنه يسقط في الحوض.(24/354)
س 8: متى ينتهي رمي جمرة العقبة أداءً؟ ومتى ينتهي قضاءً؟
ج 8: أما رمي جمرة العقبة يوم العيد فإنه ينتهي بطلوع الفجر من اليوم الحادي عشر، ويبتدىء من آخر الليل من ليلة النحر للضعفاء ونحوهم من الذين لا يستطيعون مزاحمة الناس.
وأما رميها في أيام التشريق فهي كرمي الجمرتين اللتين معها، يبتدىء الرمي من الزوال، وينتهي بطلوع الفجر من الليلة التي تلي اليوم، إلا إذا كان في آخر أيام التشريق، فإن الليل لا رمي فيه، وهو ليلة الرابع عشر، لأن أيام التشريق انتهت بغروب شمسها، والرمي في النهار أفضل، إلا أنه في هذه الأوقات مع كثرة الحجيج وغشمهم، وعدم مبالاة بعضهم ببعض إذا خاف على نفسه من الهلاك أو الضرر أو المشقة الشديدة فإنه يرمي ليلاً ولا حرج عليه، كما أنه لو رمى ليلاً بدون أن
يخاف هذا، فلا حرج عليه، ولكن الأفضل أن يُراعي الاحتياط، ولا يرمي ليلاً إلا عند الحاجة إليه.
وأما قوله: قضاءً، فإنها تكون قضاء إذا طلع الفجر من اليوم التالي في أيام التشريق ولم يرمها.
س 9: إذا لم تصب جمرة من الجمار السبع المرمى، أو جمرتان، ومضى يوم أو يومان، فهل يلزمه إعادة هذه الجمرة أو الجمرتين؟ وإذا لزمه فهل يعيد ما بعدها من الرمي؟
ج 9: إذا بقي عليه رمي جمرة أو جمرتين من الجمرات، أو على الأوضح حصاة أو حصاتين من إحدى الجمرات، فإن الفقهاء يقولون إذا كان من آخر جمرة فإنه يكملها، أي يكمل هذا الذي نقص فقط، ولا يلزمه رمي ما قبلها، وإن كان من غير آخر جمرة فإنه يكمل الناقص، ويرمي ما بعدها.(24/355)
والصواب عندي أنه يكمل الناقص مطلقاً، ولا يلزمه إعادة رمي ما بعدها؛ وذلك لأن الترتيب يسقط بالجهل أو بالنسيان، وهذا الرجل قد رمى الثانية وهو لا يعتقد أن عليه شيئاً مما قبلها، فهو بين الجهل والنسيان، وحينئذ نقول له: ما نقص من الحصا فارمه ولا يجب عليك رمي ما بعدها. وقبل إنهاء الجواب أُحب أن أنبه إلى أن المرمى مجتمع الحصا، وليس العمود المنصوب للدلالة عليه، فلو رمى في الحوض، ولم يصب العمود بشيء من الحصيات فرميه صحيح، والله أعلم.
س 10: إذا خرج الحاج من منى قبل غروب الشمس يوم الثاني عشر بنية التعجل، ولديه عمل في منى سيعود له بعد الغروب، فهل يعتبر متعجلاَّ؟
ج 10: نعم؟ يُعتبر متعجلاً لأنه أنهى الحج، ونية رجوعه إلى منى لعمل فيها لا يمنع التعجل، لأنه إنما نوى الرجوع للعمل المنوط به لا للنسك.
س 11: من أحرم بالحج من الميقات، ثم ساو إلى أن قرب من مكة فمنعه مركز التفتيش لأنه لم يحمل بطاقة الحج، فما الحكم؟
ج 11: الحُكم في هذه الحال أنه يكون مُحصِراً حين تعذر عليه الدخول، فيذبح هدياً في مكان الإحصار، ويحل، ثم إن كانت هذه الحجة هي الفريضة، أداها فيما بعد بالخطاب الأول لا قضاء، وإن كانت غير الفريضة فإنه لا شيء عليه على القول الراجح، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر الذين أحصروا في غزوة الحديبية أن يقضوا تلك العمرة التي أُحصروا عنها، وليس في كتاب الله، ولا في سنة رسوله وجوب القضاء على من أُحصر؛ قال تعالى: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) (1) ولم يذكر شيئاً سوى ذلك.
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 196.(24/356)
وعمرة القضاء سميت بذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاضى قُريشاً، أي عاهدهم عليها، وليس من القضاء الذي هو استدراك ما فات، والله أعلم.
س 12: إذا دخل الآفاقي بملابسه العادية إلى مكة حتى يتحايل على الدولة بعدم الحج، ثم أحرم من مكة، فهل يجوز حجه؟ وما الذي يلزمه؟
ج 12: أما حجه فيصح، وأما فعله فحرام، حرام من وجهين: أحدهما: تعدي حدود الله سبحانه وتعالى بترك الإحرام من الميقات.
والثاني: مخالفته أمر ولاة الأمور الذين أُمرنا بطاعتهم في غير معصية الله.
وعلى هذا يلزمه أن يتوب إلى الله ويستغفره مما وقع، وعليه فدية يذبحها في مكة ويوزعها على الفقراء لتركه الإحرام من الميقات، على ما قاله أهل العلم من وجوب الفدية على من ترك واجباً من واجبات الحج أو العمرة.
س 13: سمعتُ أن المتمتع إذا رجع إلى بلده انقطع تمتعه، فهل يجوز له أن يحج مفرداً ولا دم عليه؟
ج 13: نعم إذا رجع المتمتع إلى بلده، ثم أنشأ سفراً للحج من بلده فهو مفردٌ، وذلك لانقطاع ما بين العمرة والحج برجوعه إلى أهله فإنشاؤه السفر معناه أنه أنشأ سفراً جديداً للحج، وحينئذ يكون حجه إفراداً، فلا يجب عليه هدي التمتع، لكن لو فعل ذلك تحيلاً على إسقاطه فإنه لا يسقط عنه، لأن التحيل على إسقاط الواجب لا يقتضي إسقاطه، كما أن التحيل على المحرَّم لا يقتضي حله.
س 14: إذا قَدِمَ المسلم إلى مكة قبل أشهر الحج بنية الحج، ثم اعتمر وبقي إلى الحج فحجَّ، فهل حجه يعتبر تمتعاً أم إفراداً؟(24/357)
ج 14: حجه يعتبر إفراداً، لأن التمتع هو أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج، ويفرغ منها، ثم يحرم بالحج من عامه.
وأما من أحرم بالعمرة قبل أشهر الحج وبقي في مكة حتى حج، فإنه يكون مفرداً، إلا إذا قرن، بأن يحرم بالحج والعمرة جميعاً، فيكون قارناً، وإنما اختص التمتع بمن أحرم بالعمرة في أشهر الحج لأنه لما
دخلت أشهر الحج كان الإحرام بالحج فيها أخص من الإحرام بالعمرة، فخفف الله تعالى عن العباد، وأذن لهم بل أحب أن يجعلوا عمرة ليتمتعوا بها إلى الحج.
س 15: حملة خرجت من عرفة بعد الغروب، فضلوا الطريق فتوجهوا إلى مكة، ثم ردتهم الشرطة إلى مزدلفة، فلما أقبلوا عليها توقفوا، وصلوا المغرب والعشاء في الساعة الواحدة ليلاً، ثم دخلوا
المزدلفة أذان الفجر فصلوا فيها الفجر ثم خرجوا، فهل عليهم شيء في ذلك أم لا؟
ج 15: هؤلاء لا شيء عليهم لأنهم أدركوا صلاة الفجر في مزدلفة حين دخلوها وقت أذان الفجر، وصلوا الفجر فيها بغلس وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مَن شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه " (1) ، ولكن هؤلاء أخطأوا حين أخروا الصلاة إلى ما بعد منتصف الليل، لأن وقت صلاة العشاء إلى نصف الليل، كما ثبت ذلك في "صحيح مسلم " من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يحل تأخيرها عن منتصف الليل.
س 16: معلوم أن حلق الرأس من محظورات الأحرام، فكيف يجوز
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب الحج/باب من قد ضعفه أهله بليل رقم (1677) .(24/358)
البدء به في التحلل يوم العيد، لأن العلماء يقولون: إن التحلل بفعل اثنين من ثلاث، ويذكرون منها الحلق، وعلى هذا فإن الحاج يجوز أن يبدأ به؟
ج 16: نعم يجوز البدء به لأن حلقه عند الإحلال للنسك، فيكون غير مُحرم، بل يكون نُسكاً مأموراً به، وإذا كان مأموراً به فإن فعله لا يعد إثماً ولا وقوعاً في محظور.
وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سُئل عن الحلق قبل النحر وقبل الرمي، فقال: "لا حرج " (1) .
وكون الشيء مأموراً به أو محظوراً إنما يتلقى من الشرع: ألا ترى إلى السجود لغير الله تعالى كان شركاً، ولما أمر الله به الملائكة أن يسجدوا لآدم كان سجودهم له طاعة.
ثم ألم تر إلى قتل النفس، لاسيما الأولاد كان من الكبائر العظيمة، فلما أمر الله تعالى نبيه إبراهيم أن يقتل ابنه إسماعيل كان طاعة نال بها إبراهيم عليه الصلاة والسلام مرتبة عظيمة، ولكن الله تعالى برحمته خفف عنه
وعن ابنه وقال: (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ) (2)
س 17: متى ينتهي زمن ذبح هدي التمتع؟ وهل هناك خلاف وآراء في تحديد الزمن؟
ج 17: ينتهي زمن الذبح لهدي التمتع بغروب الشمس من اليوم الثالث عشر من ذي الحجة، ويبتدىء إذا مضى قدر صلاة العيد من يوم العيد بعد ارتفاع الشمس قدر رمح.
__________
(1) تقدم تخريجه ص 296.
(2) صورة الصافات، الآيات: 103- 106.(24/359)
وأما: هل هناك خلاف؟ فنعم فيه خلافٌ في ابتدائه وانتهائه، ولكن الراجح ما ذكرناه، والله أعلم.
س 18: ما حكم من بات في منى إلى الساعة الثانية عشرة ليلاً، ثم دخل مكة ولم يعد حتى طلوع الفجر؟
ج 18: إذا كانت الساعة الثانية عشرة ليلاً هي منتصف الليل في منى، فإنه لا بأس أن يخرج منها بعدها.
وإن كان الأفضل أن يبقى في منى ليلاً ونهاراً، وإن كانت الساعة الثانية عشرة قبل منتصف الليل فإنه لا يخرج، لأن المبيت في منى يشترط أن يكون معظم الليل على ما ذكره فقهاؤنا رحمهم الله تعالى.
س 19: يقال: إنه لا يجوزُ الرمي بجمرة قد رُمي بها، فهل هذا صحيح؟ وما الدليلُ عليه؟
ج 19: هذا ليس بصحيح، لأن الذين استدلوا بأنه لا يُرمى بجمرة قد رُمي بها، عللوا ذلك بعلل ثلاث: قالوا إنها- أي الجمرة التي رُمي بها- كالماء المستعمل في طهارة واجبة، والماء المستعمل في الطهارة الواجبة يكون طاهراً غير مُطهِّر، وإنها كالعبد إذا أُعتق فإنه لا يُعتَق بعد ذلك في كفارة أو غيرها، وإنه يلزم من القول بالجواز أن يرمي جميع الحجيج بحجر واحد، فترمي أنت هذا الحجر، ثم تأخذه وترمي، ثم تأخذه وترمي حتى تكمل السبعَ، ثم يجيء الثاني فيأخذه فيرمي حتى يُكمل السبع، فهذه ثلاثُ علل وكلها عند التأمل عليلة جداً.
أما التعليل الأول: فإنما نقول بمنع الحكم في الأصل، وهو أن الماء المستعمل في طهارة واجبة يكون طاهراً غير مطهِّر لأنه لا دليل على ذلك، ولا يمكن نقل الماء عن وصفه الأصلي، وهو الطهورية إلا بدليل.(24/360)
وعلى هذا فالماء المستعمل في طهارة واجبة طهورٌ مطهِّرٌ، فإذا انتفى حكم الأصل المقيس عليه، انتفى حكم الفرع.
وأما التعليل الثاني: وهو قياس الحصاة المرمي بها على العبد المعتق، فهو قياس مع الفارق، فإن العبد إذا أُعتق كان حُرًّا لا عبداً، فلم يكن محلاً للعتق، بخلاف الحجر إذا رُمي به فإنه يبقى حجراً بعد الرمي به، فلم ينتف المعنى الذي كان من أجله صالحاً للرمي به، ولهذا لو أن هذا العبد الذي أُعتق استرقَّ مرة أخرى بسبب شرعي جاز أن يعتق مرة ثانية.
وأما التعليل الثالث: وهو أنه يلزم من ذلك أن يقتصر الحجاج على حصاة واحدة، فنقول: إن أمكن ذلك فليكن ولكن هذا غير ممكن، ولن يعدل إليه أحد مع توفر الحصا.
وبناء على ذلك، فإنه إذا سقطت من يدك حصاة أو أكثر حول الجمرات فخذ بدلها مما عندك، وارم به سواء غلب على ظنك أنه قد رُمي بها أم لا.
س 20: إذا قصر الحاج والمعتمر من جانبي رأسه ثم حل إحرامه وهو لم يعمم الرأس فما الحكم؟
ج 20: الحكم إن كان في الحج وقد طاف ورمى فإنه يبقى في ثيابه، ويكمل حلق رأسه أو تقصيره، وإن كان في عمرة فعليه أن يخلع ثيابه ويعود إلى ثياب الإحرام ثم يحلق أو يقصر تقصيراً تاماً يعم جميع الرأس وهو محرم، أي وهو لابس ثياب الإحرام.
س 21: هل يجوز للحاج أن يقدم سعي الحج على طواف الإفاضة؟
ج 21: إن كان الحاج مُفرداً أو قارناً، فإنه يجوز أن يقدم السعي على طواف الإفاضة، فيأتي به بعد طواف القدوم كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -،(24/361)
وأصحابه الذين ساقوا الهدي.
أما إن كان متمتعاً، فإن عليه سعيين: الأول عند قدومه إلى مكة، وهو للعمرة، والثاني للحج.
والأفضل أن يكون بعد طواف الإفاضة، لأن السعي تابع للطواف، فإن قدمه على الطواف فلا حرج على القول الراجح، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئل قيل له: سعيت قبل أن أطوف؟! قال: "لا حرج " (1) . فالحاج يفعل يوم العيد خمسة أنساك مرتبة: رمي جمرة العقبة، ثم لنحر، ثم الحلق أو التقصير، ثم الطواف بالبيت، ثم السعي بين الصفا والمروة، إلا أن يكون قارناً أو مفرداً سعى بعد طواف القدوم فإنه لا يعيد السعي، والأفضل أن يرتبها على ما ذكرنا، وإن قدم بعضها على بعض، لاسيما مع الحاجة فلا حرج، وهذا من رحمة الله تعالى وتيسيره، فلله الحمد
رب العالمين.
__________
(1) تقدم تخريجه ص 296.(24/362)
المنهج لمريد الحج والعمرة(24/363)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه، وعلى آله، وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً، أما بعد:
فإن الحج من أفضل العبادات، وأجل الطاعات؛ لأنه أحد أركان الإسلام الذي بعث الله به محمداً - صلى الله عليه وسلم -، والتي لا يستقيم دين العبد إلا بها.
ولما كانت العبادة لا يستقيم التقرب بها إلى الله، ولا تكون مقبولة إلا بأمرين:
أحدهما: الإخلاص لله عز وجل، بأن يقصد بها وجه الله، والدار الآخرة، لا يقصد بها رياء ولا سمعة.
الثاني: اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيها قولاً وفعلاً. والاتباع للنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يمكن تحقيقه إلا بمعرفة سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -. لذلك كان لابد لمن أراد تحقيق الاتباع أن يتعلم سنته - صلى الله عليه وسلم - بأن يتلقاها من أهل العلم بها، إما بطريق المكاتبة أو بطريق المشافهة. وكان من واجب أهل العلم، الذين ورثوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفوه في أمته أن يطبقوا عباداتهم وأخلاقهم ومعاملاتهم على ما علموه من سنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم -، وأن يبلغوا ذلك إلى(24/365)
الأمة ويدعوهم إليه؛ ليتحقق لهم ميراث النبي - صلى الله عليه وسلم - علماً وعملاً، وتبليغاً ودعوة، وليكونوا من الرابحين الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق، وتواصوا بالصبر.
وهذه خلاصة فيما يتعلق بمناسك الحج والعمرة، مشيت فيها على ما أعرفه من نصوص الكتاب والسنة، راجياً من الله تعالى أن تكون خالصة له نافعة لعباده.
آداب السفر
ينبغي لمن خرج إلى الحج أو غيره من العبادات أن يستحضر نية التقرب إلى الله تعالى في جميع أحواله؛ لتكون أقواله وأفعاله ونفقاته مقربة له إلى الله تعالى، فإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرىء ما نوى. وينبغي أن يتخلق بالأخلاق الفاضلة، مثل الكرم، والسماحة، والشهامة، والانبساط إلى رفقته، وإعانتهم بالمال والبدن، وإدخال السرور عليهم. هذا بالإضافة إلى قيامه بما أوجبه
الله عليه من العبادات، واجتناب المحرمات.
وينبغي أن يكثر من النفقة ومتاع السفر، ويستصحب فوق حاجته من ذلك احتياطاً لما يعرض من الحاجات.
وينبغي أن يقول عند سفره، وفي سفره ما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن ذلك:
1- إذا وضع رجله على مركوبه قال: بسم الله. فإذا استقرَّ عليه فليذكر نعمة الله على عباده بتيسير المركوبات المتنوعة ثم ليقل: "الله أكبر الله اكبر الله أكبر، سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا
له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون، اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر(24/366)
والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهم هوِّن علينا سفرنا هذا، واطوِ عنا بُعده، اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنظر، وسوء المنقلب
في المال والأهل والولد.
2- التكبير إذا صعد مكاناً علواً، والتسبيح إذا هبط مكاناً منخفضاً.
3- إذا نزل منزلاً فليقل: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، فإن من قالها لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله الذي قالها فيه.
سفر المرأة
لا يجوز للمرأة أن تسافر للحج أو غيره إلا ومعها محرم، سواء كان السفر طويلاً أم قصيراً، وسواء كان معها نساء أم لا، وسواء كانت شابة أم عجوزاً، لعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم " (1) .
والحكمة في منع المرأة من السفر بلا محرم: قصور المرأة في عقلها، والدفاع عن نفسها، وهي مطمع الرجال، فربما تخدع أو تقهر، أو تكون ضعيفة الدين، فتندفع وراء شهواتها، ويكون فيها مطمع للطامعين. والمحرم يحميها، ويصون عرضها ويدافع عنها. ولذلك يشترط أن يكون بالغاً عاقلاً، فلا يكفي الصغير الذي لم يبلغ، ولا مَنْ لا عقل له.
والمحرم زوج المرأة، وكل من تحرم عليه تحريماً دائماً،
__________
(1) تقدم تخريجه ص 116.(24/367)
بقرابة، أو رضاعة، أو مصاهرة، فالمحارم من القرابة سبعة:
1- الآباء والأجداد وإن علوا، سواء من قِبل الأم، أو من قِبل الأب.
2- الأبناء، وأبناء الأبناء، وأبناء البنات وإن نزلوا.
3- الإخوة سواء كانوا إخوة أشقاء أو لأب أو لأم.
4- أبناء الإخوة، سواء كانوا أبناء إخوة أشقاء، أو أبناء إخوة من الأب، أو أبناء إخوة من الأم.
5- أبناء الأخوات، سواء كانوا أبناء أخوات شقيقات، أو من الأب، أو من الأم.
6- الأعمام، سواء كانوا أعماماً أشقاء، أو أعماماً من الأب، أو أعماماً من الأم.
7- الأخوال، سواء كانوا أخوالاً أشقاء، أو من الأب، أو من الأم.
والمحارم من الرضاع نظير المحارم من القرابة؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ". (متفق عليه) (1) .
والمحارم بالمصاهرة:
1- أبناء زوج المرأة، وأبناء أبنائه، وأبناء بناته وإن نزلوا، سواء كانوا من زوجة قبلها، أو معها، أو بعدها.
2- آباء زوج المرأة وأجداده وإن علوا، سواء أجداده من قبل أبيه، أو من قبل أمه.
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الشهادات، باب الشهادة على الأنساب (2654) ، ومسلم، كتاب الرضاع، باب تحريم ابنة الأخ من الرضاعة (1446) (13) .(24/368)
3- أزواج البنات، وأزواج بنات الأبناء، وأزواج بنات البنات، وإن نزلن.
وهؤلاء الثلاث تثبت المحرمة فيهم بمجرد العقد، حتى ولو فارقها بموت، أو طلاق، أو فسخ، فإن المحرمية تبقى لهؤلاء.
4- أزواج الأمهات، وأزواج الجدات وإن علون، لكن الأزواج لا يصيرون محارم لبنات زوجاتهم، أو بنات أبناء زوجاتهم، أو بنات بنات زوجاتهم، حتى يطؤوا الزوجات، فإن حصل الوطء صار الزوج محرماً لبنات زوجته من زوج قبله، أو زوج بعده، وبنات أبنائها، وبنات بناتها ولو طلقها بعد.
أما إذا عقد على المرأة ثم طلقها قبل الوطء، فإنه لا يكون محرماً لبناتها، ولا لبنات أبنائها، ولا لبنات بناتها.
صلاة المسافر
دين الإسلام دين اليسر والسهولة، لا حرج فيه ولا مشقة، وكلما وجدت المشقة فتح الله لليسر أبواباً. قال الله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِن حَرَجٍ (1) . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الدين يسرٌ" (2) ، وقال أهل العلم- رحمهم الله-: "المشقة تجلب التيسير".
__________
(1) سورة الحج، الآية: 78.
(2) رواه البخاري، كتاب الأيمان، باب الدين يسر رقم (39) بلفظ "إن الدين يسر".(24/369)
ولما كان السفر مظنة المشقة غالباً خففت أحكامه، فمن ذلك:
1- جواز التيمم للمسافر إذا لم يجد الماء، أو كان معه من الماء ما يحتاجه لأكله وشربه. لكن متى غلب على ظنه أنه يصل إلى الماء قبل خروج الوقت المختار، فالأفضل تأخير الصلاة حتى يصل
إلى الماء ليتطهر به.
2- إن المشروع في حق المسافر أن يقصر الصلاة الرباعية، فيجعلها ركعتين من حين يخرج من بلده إلى أن يرجع إليه، ولو طالت المدة؛ لما ثبت في صحيح البخاري (1) عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقام بمكة عام الفتح تسعة عشر يوماً يصلي ركعتين، وأقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بتبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة".
لكن إذا صلى المسافر خلف إمام يصلي أربعاً فإنه يصلي أربعاً تبعاً لإمامه سواء أدرك الإمام من أول الصلاة أو في أثنائها. فإذا سلم الإمام أتى بتمام الأربع؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنما جُعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه " (2) . وعموم قوله: "فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا" (3) . وسئل ابن عباس- رضي الله عنهما-: ما بال المسافر يصلي ركعتين إذا انفرد وأربعاً إذا ائتم بمقيم، فقال: "تلك السنة" (4) .
وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا صلى مع الإمام صلى
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب التقصير رقم (1080) وفي المغازي رقم (4298) .
(2) تقدم تخريجه ص 253.
(3) نقدم تخريجه ص 19.
(4) تقدم تخريجه ص 253.(24/370)
أربعاً، وإذا صلى وحده صلى ركعتين. "يعني في السفر ".
3- إن المشروع في حق المسافر أن يجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء إذا احتاج إلى الجمع، مثل أن يكون مستمرًّا في سيره، والأفضل حينئذ أن يفعل ما هو الأرفق به من جمع التقديم أو التأخير.
أما إذا كان غير محتاج إلى الجمع فإنه لا يجمع. مثاله أن يكون نازلاً في محل لا يريد أن يرتحل منه إلا بعد دخول وقت الصلاة الثانية، فهذا لا يجمع، بل يصلي كل فرض في وقته؛ لأنه لا
حاجة به إلى الجمع.
المواقيت
المواقيت هي الأمكنة التي عيَّنها النبي - صلى الله عليه وسلم - ليحرم منها من أراد الحج أو العمرة، والمواقيت خمسة:
الأول: ذو الحليفة ويسمى (أبيار علي) ، ويسميه بعض الناس (الحساء) ، وبينه وبين مكة نحو عشر مراحل، وهو ميقات أهل المدينة، ومن مرَّ به من غيرهم.
الثاني: الجحفة وهي قرية قديمة بينها وبين مكة نحو خمس مراحل، وقد خربت، فصار الناس يحرمون بدلها من رابغ، وهي ميقات أهل الشام ومن مرَّ بها من غيرهم.
الثالث: يلملم وهو جبل أو مكان بتهامة بينه وبين مكة نحو مرحلتين، وهو ميقات أهل اليمن، ومن مرَّ به من غيرهم.
الرابع: قرن المنازل ويسمى (السيل) بينه وبين مكة نحو مرحلتين، وهو ميقات أهل نجد، ومن مرَّ به من غيرهم.(24/371)
الخامس: ذات عرق ويسمى (الضريبة) بينها وبين مكة مرحلتان، وهي ميقات أهل العراق، ومن مرَّ بها من غيرهم.
ومن كان أقرب إلى مكة من هذه المواقيت فإن ميقاته مكانه، فيحرم منه حتى أهل مكة من مكة، ومن كان طريقه يميناً أو شمالاً من هذه المواقيت، فإنه يحرم حين يحاذي أقرب المواقيت إليه، ومن كان في طائرة فإنه يحرم إذا حاذى الميقات من فوق، فيتأهب ويلبس ثياب الإحرام قبل محاذاة الميقات، فإذا حاذاه نوى الإحرام في الحال، ولا يجوز تأخيره. هذا وبعض الناس يكون في الطائرة،
وهو يريد الحج أو العمرة، فيحاذي الميقات ولا يحرم منه، بل يؤخر إحرامه حتى ينزل في المطار، وهذا لا يجوز؛ لأنه من تعدي حدود الله تعالى. نعم لو مرَّ بالميقات وهو لا يريد الحج ولا العمرة، ولكنه بعد ذلك نوى الحج أو العمرة فإنه يحرم من مكان نيته ولا شيء عليه.
ومن مرَّ بهذه المواقيت وهو لا يريد الحج ولا العمرة وإنما يريد مكة لزيارة قريب، أو تجارة، أو طلب علم، أو علاج أو غيرها من الأغراض، فإنه لا يجب عليه الإحرام؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقَّت المواقيت ثم قال: "هنَّ لهنَّ ولمن أتى عليهنَّ من غير أهلهن لمن كان يريد الحج أو العمرة" (1) . فعلَّق الحكم بمن يريد الحج أو العمرة. فمفهومه أن من لا يريد الحج والعمرة لا يجب عليه الإحرام منها، وإرادة الحج أو العمرة غير واجبة على من أدى الفرض، والحج لا يجب في العمر إلا مرة؛
__________
(1) تقدم تخريجه ص 127.(24/372)
لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الحج مرة فما زاد فهو تطوع " (1) ، لكن الأولى ألا يحرم نفسه من التطوع بالنسك، ليحصل له الأجر لسهولة الإحرام في هذا الوقت، ولله الحمد والمنة.
أنواع الأنساك
الأنساك ثلاثة: تمتع، وإفراد، وقران.
فالتمتع أن يحرم بالعمرة وحدها في أشهر الحج، فإذا وصل مكة طاف وسعى للعمرة، وحلق أو قصر، فإذا كان يوم التروية وهو اليوم الثامن من ذي الحجة أحرم بالحج وحده، وأتى بجميع أفعاله.
والإفراد أن يحرم بالحج وحده، فإذا وصل مكة طاف للقدوم، ثم سعى للحج، ولا يحلق ولا يقصر، لا يحل من إحرامه، بل يبقى محرماً حتى يحل بعد رمي جمرة العقبة يوم العيد، وإن أخر سعي الحج إلى ما بعد طواف الحج فلا بأس.
والقران أن يحرم بالعمرة والحج جميعاً، أو يحرم العمرة أولاً، ثم يدخل الحج عليها قبل الشروع في طوافها، وعمل القارن كعمل المفرد سواء، إلا أن القارن عليه هدي، والمفرد لا هدي عليه، وأفضل هذه الأنواع الثلاثة التمتع وهو الذي أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه وحثَّهم عليه حتى لو أحرم الإنسان قارناً أو مفرداً فإنه يتأكد
عليه أن يقلب إحرامه إلى عمرة ليصير متمتعاً ولو بعد أن طاف وسعى؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما طاف وسعى عام حجة الوداع ومعه أصحابه أمر كل من ليس معه هدي أن يقلب إحرامه عمرة ويقصر ويحل، وقال: "لولا أني سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم
__________
(1) تقدم تخريجه ص 259.(24/373)
به " (1) .
هذا وقد يحرم الإنسان بالعمرة متمتعاً بها إلى الحج، ثم لا يتمكن من إتمام العمرة قبل الوقوف بعرفة؛ ففي هذه الحال يدخل الحج على العمرة ويصير قارناً، ولنمثل لذلك بمثالين:
المثال الأول: امرأة أحرما بالعمرة متمتعة بها إلى الحج، فحاضت أو نفست قبل أن تطوف، ولم تطهر حتى جاء وقت الوقوف بعرفة؛ فإنها في هذه الحال تنوي إدخال الحج على العمرة، وتكون قارنة، فتستمر في إحرامها، وتفعل ما يفعله الحاج، غير أنها لا تطوف بالبيت، ولا تسعى بين الصفا والمروة،
حتى تطهر وتغتسل.
المثال الثاني: إنسان أحرم بالعمرة متمتعاً بها إلى الحج، فحصل له عائق يمنعه من الدخول إلى مكة قبل يوم عرفة، فإنه ينوي إدخال الحج على العمرة، ويكون قارناً، فيستمر في إحرامه، ويفعل ما يفعله الحاج.
المحرم الذي يلزمه الهدي
المحرم الذي يلزمه الهدي هو المتمتع، والقارن دون المفرد.
فالمتمتع هو الذي يحرم بالعمرة في أشهر الحج، أي بعد دخول شهر شوال، ويحل منها، ثم يحرم بالحج في عامه. فإن أحرم بالعمرة قبل دخول شهر شوال فليس بمتمتع، فلا هدي عليه، سواء كان قد صام رمضان بمكة أم لا، فصيام رمضان بمكة لا أثر له
__________
(1) رواه البخاري، كتاب الحج رقم (1568) .(24/374)
وإنما العبرة بعقد إحرام العمرة، فمتى كان قبل دخول شهر شوال فلا هدي عليه، وإن كان بعد دخول شهر شوال فهو متمتع يلزمه الهدي إذا تمت شروط الوجوب. وأما ما يعتقده بعض العوام من أن العبرة بصيام رمضان، وأن من صام بمكة فلا هدي عليه، ومن لم يصم بها فعليه هدي، فهذا اعتقاد غير صحيح. وأما القارن فهو الذي يحرم بالعمرة والحج جميعاً، أو يحرم بالعمرة ثم يدخل الحج عليها قبل الشروع في طوافها، ولا يجب الهدي على المتمتع والقارن إلا بشرط أن لا يكونا من حاضري المسجد الحرام، فإن كانا من حاضري المسجد الحرام فلا هدي عليهما.
وحاضرو المسجد الحرام هم أهل الحرم، ومن كانوا قريبين منه، بحيث لا يكون بينهم وبين الحرم مسافة تعد سفراً، كأهل الشرائع ونحوهم، فإنه لا هدي عليهم. أما من كانوا بعيدين من الحرم، بحيث يكون بينهم وبينه مسافة تعد سفراً كأهل جدة، فإنه يلزمهم الهدي.
ومن كان من أهل مكة ثم سافر إلى غيرها لطلب علم أو غيره ورجع إليها متمتعاً، فإنه لا هدي عليه؛ لأن العبرة بمحل إقامته وسكناه وهي مكة، إلا إذا انتقل إلى غير مكة للسكنى، فإنه إذا رجع
إليها متمتعاً يلزمه الهدي؛ لأنه حينئذ ليس من حاضري المسجد الحرام.
والهدي الواجب على المتمتع والقارن شاة تجزئ في الأضحية، أو سُبع بدنة، أو سُبع بقرة، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام(24/375)
في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله. ويجوز أن يصوم الأيام الثلاثة في أيام التشريق، وهي الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر من ذي الحجة، ويجوز أن يصومها قبل ذلك بعد إحرام العمرة،
لكن لا يصومها يوم العيد ولا بعرفة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن صوم يومي العيدين، ونهى عن صوم يوم عرفة بعرفة، ويجوز أن يصوم هذه الأيام الثلاثة متوالية ومتفرقة، لكن لا يؤخرها عن أيام التشريق. أما السبعة الباقية فيصومها إذا رجع إلى أهله، إن شاء صامها متوالية، وإن شاء متفرقة.
وأيام ذبح الهدي أربعة: يوم العيد، وثلاثة أيام بعده، فمن ذبح قبل هذه الأيام فشاته شاة لحم لا تجزئه عن الهدي؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يذبح هديه قبل يوم العيد، والهدي من النسك وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا عني مناسككم " (1) . وفي الحديث عنه أنه قال: "كل أيام التشريق ذبح " (2) ، وأيام التشريق هي الأيام الثلاثة التي بعد العيد.
ويجوز الذبح في هذه الأيام ليلاً ونهاراً، لكن النهار أفضل.
ويجوز أيضاً في منى، وفي مكة، لكن في منى أفضل، إلا أن يكون الذبح بمكة أنفع للفقراء بحيث يكون الانتفاع به في منى يسيراً فإنه يتبع ما هو أصلح وأنفع، وعلى هذا فلو أخر هديه إلى اليوم الثالث عشر، وذبحه بمكة فلا بأس.
واعلم أن إيجاب الهدي على القادر، أو الصيام على من لم يجد الهدي ليس غرماً على العبد، أو إتعاباً لبدنه بلا فائدة، وإنما هو
__________
(1) تقدم تخريجه ص 8.
(2) تقدم تخريجه ص 271.(24/376)
من إتمام النسك وإكماله، ومن رحمة الله وإحسانه حيث شرع لعباده ما فيه كمال عبادتهم وتقربهم إلى ربهم، وزيادة أجرهم، ورفعة درجاتهم، والنفقة فيه مخلوفة، والسعي فيه مشكور. وكثير من
الناس لا يلاحظون هذه الفائدة، ولا يحسبون لهذا الأجر حسابه، فتجدهم يتهربون من وجوب الهدي، ويسعون لإسقاطه بكل وسيلة، حتى إن بعضهم يفرد الحج وحده من أجل ألا يجب عليه
الهدي، فيحرمون أنفسهم أجر التمتع، وأجر الهدي، وهذه غفلة ينبغي التنبه لها.
صفة العمرة
إذا أراد أن يحرم بالعمرة فالمشروع أن يتجرد من ثيابه، ويغتسل كما يغتسل للجنابة، ويتطيب بأطيب ما يجد من دهن عود أو غيره في رأسه ولحيته، ولا يضره بقاء ذلك بعد الإحرام؛ لما في
الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يحرم تطيب بأطيب ما يجد ثم أرى وبيص المسك في رأسه ولحيته بعد ذلك " (1) .
والاغتسال عند الإحرام سنة في حق الرجال والنساء حتى النفساء والحائض؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أسماء بنت عميس حين نفست أن تغتسل عند إحرامها، وتستثفر بثوب وتحرم (2) . ثم بعد الاغتسال والتطيب يلبس ثياب الإحرام، ثم يصلي- غير الحائض والنفساء- الفريضة إن كان في وقت فريضة، وإلا صلى ركعتين
__________
(1) تقدم تخريجه ص 269.
(2) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب صفة حج النبي - صلى الله عليه وسلم - (1218) .(24/377)
ينوي بهما سنة الوضوء، فإذا فرغ من الصلاة أحرم وقال: "لبيك عمرة، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك ". يرفع الرجل صوته بذلك، والمرأة تقوله بقدر ما يسمع من بجنبها.
وإذا كان من يريد الإحرام خائفاً من عائق يعوقه عن إتمام نسكه، فإنه ينبغي أن يشترط عند الإحرام، فيقول عند عقده: "إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني "، أي منعني مانع عن إتمام
نسكي من مرض، أو تأخر أو غيرهما، فإني أحل من إحرامي؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر ضباعة بنت الزبير حين أرادت الإحرام وهي مريضة أن تشترط، وقال: "إن لك على ربك ما استثنيت " (1) ، فمتى اشترط، وحصل له ما يمنعه من إتمام نسكه، فإنه يحل ولا شيء عليه.
وأما من لا يخاف من عائق يعوقه عن إتمام نسكه، فإنه لا ينبغي له أن يشترط؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشترط، ولم يأمر بالاشتراط كل أحد، وإنما أمر به ضباعة بنت الزبير لوجود المرض بها.
وينبغي للمحرم أن يكثر من التلبية، خصوصاً عند تغير الأحوال والأزمان، مثل أن يعلو مرتفعاً، أو ينزل منخفضاً، أو يقبل الليل أو النهار، وأن يسأل الله بعدها رضوانه والجنة، ويستعيذ برحمته من النار.
والتلبية مشروعة في العمرة من الإحرام إلى أن يبتدىء بالطواف، وفي الحج من الإحرام إلى أن يبتدىء برمي جمرة العقبة يوم العيد.
__________
(1) تقدم تخريجه ص 278.(24/378)
وينبغي إذا قرب من مكة أن يغتسل لدخولها؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - اغتسل عند دخوله، فإذا دخل المسجد الحرام قدم رجله اليمنى وقال: "بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك، أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وبسلطانه القديم من الشيطان الرجيم "، ثم يتقدم إلى الحجر الأسود ليبتدىء الطواف، فيستلم الحجر بيده اليمنى ويقبله، فإن لم يتيسر تقبيله قبَّل يده إن استلمه بها، فإن لم يتيسر استلامه بيده فإنه يستقبل الحجر، ويشير إليه بيده إشارة ولا يقبِّلها، والأفضل ألا يزاحم فيؤذي الناس ويتأذى بهم، لما في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لعمر: "يا عمر، إنك رجل قوي لا تزاحم على
الحجر فتؤذي الضعيف، إن وجدت خلوة فاستلمه، وإلا فاستقبله وهلل وكبَّر " (1) .
ويقول عند استلام الحجر: بسم الله والله أكبر، اللهم إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعاً لسنة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم -.
ثم يأخذ ذات اليمين، ويجعل البيت عن يساره، فإذا بلغ الركن اليماني استلمه من غير تقبيل، فإن لم يتيسر فلا يزاحم عليه، ويقول بينه وبين الحجر الأسود: (رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (2) . اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، وكلما مر بالحجر الأسود كبر، ويقول
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في المسند (1/28) والبيهقي (5/80) ، وحسنه محققو المسند الشيخ شعيب الأرناؤوط (1/321 رقم 190) .
(2) سورة البقرة، الآية ك 201(24/379)
في بقية طوافه ما أحب من ذكر، ودعاء، وقراءة القرآن، فإنما جُعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله.
وفي هذا الطواف- أعني الطواف أول ما يقدم- ينبغي للرجل أن يفعل شيئين:
أحدهما: الاضطباع من ابتداء الطواف إلى انتهائه، وصفة الاضطباع أن يجعل وسط ردائه داخل إبطه الأيمن، وطرفيه على كتفه الأيسر، فإذا فرغ من الطواف أعاد رداءه إلى حالته قبل الطواف؛ لأن الاضطباع محله الطواف فقط.
الثاني: الرمل في الأشواط الثلاثة الأولى فقط، والرمل إسراع المشي مع مقاربة الخطوات. أما الأشواط الأربعة الباقية فليس فيها رمل، وإنما يمشي كعادته.
فإذا أتم الطواف سبعة أشواط تقدم إلى مقام إبراهيم، فقرأ (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) (1) ، ثم صلى ركعتين خلفه يقرأ في الأولى بعد الفاتحة (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) وفي الثانية: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) بعد الفاتحة.
فإذا فرغ من صلاة الركعتين رجع إلى الحجر الأسود فاستلمه، إن تيسر له.
ثم يخرج إلى المسعى، فإذا دنا من الصفا قرأ: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) (2) ، ثم يرقى على الصفا حتى يرى الكعبة، فيستقبلها، ويرفع يديه فيحمد الله، ويدعو ما شاء أن يدعو. وكان
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 125.
(2) سورة البقرة، الآية: 158.(24/380)
من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - هنا: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كلل شيء قدير. لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده "، يكرر ذلك ثلاث مرات، ويدعو بين ذلك.
ثم ينزل من الصفا إلى المروة ماشياً، فإذا بلغ العلم الأخضر ركض ركضاً شديداً بقدر ما يستطيع، ولا يؤذي. فقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يسعى حتى تُرى ركبتاه من شدة السعي، يدور به إزاره.
وفي لفظ: وإن مئزره ليدور من شدة السعي. فإذا بلغ العلم الأخضر الثاني مشى كعادته، حتى يصل إلى المروة، فيرقى عليها، ويستقبل القبلة، ويرفع يديه، ويقول ما قاله على الصفا، ثم ينزل من المروة
إلى الصفا، فيمشي في موضع مشيه، ويسعى في موضع سعيه، فإذا وصل الصفا فعل كما فعل أول مرة، وهكذا المروة حتى يكمل سبعة أشواط، ذهابه من الصفا إلى المروة شوط، ورجوعه من المروة إلى الصفا شوط آخر، ويقول في سعيه ما أحب من ذكر، ودعاء، وقراءة.
فإذا أتم سعيه سبعة أشواط حلق رأسه، إن كان رجلاً، وإن كانت امرأة، فإنها تقصر من كل قرن أنملة.
ويجب أن يكون الحلق شاملاً لجميع الرأس، وكذلك التقصير يعم به جميع جهات الرأس، والحلق أفضل من التقصير؛ لأن النبي دعا للمحلقين ثلاثاً، وللمقصرين مرة، إلا أن يكون وقت الحج قريباً بحيث لا يتسع لنبات شعر الرأس، فإن الأفضل التقصير ليبقى الرأس للحلق في الحج، بدليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر(24/381)
أصحابه في حجة الوداع أن يقصروا للعمرة؛ لأن قدومهم كان صبيحة الرابع من ذي الحجة.
وبهذه الأعمال تمت العمرة فتكون العمرة: الإحرام، والطواف، والسعي، والحلق أو التقصير، ثم بعد ذلك يحل منها إحلالاً كاملاً، ويفعل ما يفعله المحلون من اللباس، والطيب، وإتيان النساء، وغير ذلك.
صفة الحج
إذا كان يوم التروية، وهو يوم الثامن من ذي الحجة أحرم بالحج ضحى من مكانه الذي أراد الحج منه، ويفعل عند إحرامه بالحج كما فعل عند إحرامه بالعمرة من الغسل، والطيب، والصلاة، فينوي الإحرام بالحج ويلبي. وصفة التلبية في الحج كصفة التلبية في العمرة، إلا أنه يقول هنا: لبيك حجًّا، بدل قوله لبيك عمرة. وإن كان خائفاً من عائق يمنعه من إتمام حجه اشترط فقال: "وإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني "، وإن لم يكن خائفاً لم يشترط.
ثم يخرج إلى منى فيصلي بها الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والفجر قصراً من غير جمع؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقصر بمنى، ولا يجمع. والقصر كما هو معلوم جعل الصلاة الرباعية ركعتين، ويقصر أهل مكة وغيرهم بمنى، وعرفة، ومزدلفة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي بالناس في حجة الوداع ومعه أهل مكة، ولم يأمرهم بالإتمام، ولو كان واجباً عليهم لأمرهم به كما أمرهم به،(24/382)
عام الفتح.
فإذا طلعت الشمس يوم عرفة سار من منى إلى عرفة، فنزل بنمرة إلى الزوال إن تيسير له، وإلا فلا حرج؛ لأن النزول بنمرة سنة. فإذا زالت الشمس صلى الظهر، والعصر على ركعتين يجمع بينهما جمع تقديم، كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ليطول وقت الوقوف والدعاء.
ثم يتفرغ بعد الصلاة للذكر، والدعاء، والتضرع إلى الله عز وجل، ويدعو بما أحب، رافعاً يديه، مستقبلاً القبلة، ولو كان الجبل خلفه؛ لأن السنة استقبال القبلة لا الجبل، وقد وقف النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الجبل، وقال: "وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف، وارفعوا عن بطن عرنة" (1) .
وكان أكثر دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك الموقف العظيم: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير" (2) .
فإن حصل له ملل، وأراد أن يستجم بالتحدث مع أصحابه بالأحاديث النافعة، أو قراءة ما تيسر من الكتب المفيدة، خصوصاً فيما يتعلق بكرم الله وجزيل هباته ليقوى جانب الرجاء في ذلك اليوم
كان ذلك حسناً، ثم يعود إلى التضرع إلى الله ودعائه، ويحرص على اغتنام آخر النهار بالدعاء، فإن خير الدعاء دعاء يوم عرفة.
فإذا غربت الشمس سار إلى مزدلفة، فإذا وصلها صلى
__________
(1) تقدم تخريجه ص 155.
(2) أخرجه الترمذي، كتاب الدعوات، باب في دعاء يوم عرفة (3585) .(24/383)
المغرب والعشاء جمعاً، إلا أن يصل مزدلفة قبل العشاء الآخرة، فإنه يصلي المغرب في وقتها، ثم ينتظر حتى يدخل وقت العشاء الآخرة، فيصليها في وقتها. هذا ما أراه في هذه المسألة. وفي صحيح البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه "أنه أتى المزدلفة حين الأذان بالعتمة، أو قريباً من ذلك، فأصر رجلاً فأذن وأقام، ثم صلى المغرب، وصلى بعدها ركعتين، ثم دعا بعشائه فتعشى، ثم أمر
رجلاً فأذن وأقام، ثم صلى العشاء ركعتين " وفي رواية: "فصلى الصلاتين كل صلاة وحدها بأذان وإقامة والعشاء بينهما " (1) .
لكن إن كان محتاجاً إلى الجمع، إما لتعب أو قلة ماء أو غيرهما، فلا بأس بالجمع، وإن لم يدخل وقت العشاء، وإن كان يخشى ألا يصل إلى مزدلفة إلا بعد نصف الليل، فإنه يصلي ولو قبل الوصول إلى مزدلفة، ولا يجوز أن يؤخر الصلاة إلى ما بعد نصف الليل.
ويبيت بمزدلفة، فإذا تبين الفجر صلى الفجر مبكراً بأذان وإقامة، ثم قصد المشعر الحرام، فوحد الله وكبره، ودعا بما أحب حتى يسفر جداً، وإن لم يتيسر له الذهاب إلى المشعر الحرام دعا في مكانه؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وقفت هاهنا وجمع كلها موقف " (2) .
ويكون حال الذكر والدعاء مستقبلاً القبلة رافعاً يديه.
فإذا أسفر جداً دفع قبل أن تطلع الشمس إلى منى، ويسرع في وادي محسر. فإذا وصل إلى منى رمى جمرة العقبة، وهي الأخيرة
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب من أذن وأقام لكل واحدة منهما (1275) .
(2) تقدم تخريجه ص 155.(24/384)
مما يلي مكة بسبع حصيات متعاقبات، واحدة بعد الأخرى، كل واحدة بقدر نواة التمر تقريباً، يكبر مع كل حصاة. فإذا فرغ ذبح هديه، ثم حلق رأسه إن كان ذكراً، وأما المرأة فحقها التقصير دون
الحلق، ثم ينزل لمكة، فيطوف ويسعى للحج.
والسنة أن يتطيب إذا أراد النزول إلى مكة للطواف بعد الرمي والحلق؛ لقول عائشة رضي الله عنها: "كنت أطيب النبي - صلى الله عليه وسلم - لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت " (1) .
ثم بعد الطواف والسعي يرجع إلى منى فيبيت بها ليلتي اليوم الحادي عشر، والثاني عشر، ويرمي الجمرات الثلاث إذا زالت الشمس في اليومين، والأفضل أن يذهب للرمي ماشياً، وإن ركب
فلا بأس، فيرمي الجمرة الأولى، وهي أبعد الجمرات عن مكة، وهي التي تلي مسجد الخيف بسبع حصيات متعاقبات واحدة بعد الأخرى، ويكبر مع كل حصاة، ثم يتقدم قليلاً، ويدعو دعاء طويلاً
بما أحب، فإن شق عليه طول الوقوف والدعاء دعا بما يسهل عليه ولو قليلاً، ليحصل السنة.
ثم يرمي الجمرة الوسطى بسبع حصيات متعاقبات، يكبر مع كل حصاة، ثم يأخذ ذات الشمال، فيقف مستقبلاً القبلة رافعاً يديه، ويدعو دعاء طويلاً إن تيسر عليه، وإلا وقف بقدر ما يتيسر، ولا
ينبغي أن يترك الوقوف للدعاء لأنه سنة، وكثير من الناس يهمله إما جهلاً أو تهاوناً، وكلما أضيعت السنة كان فعلها ونشرها بين الناس أوكد، لئلا تترك وتموت.
__________
(1) تقدم تخريجه ص 294.(24/385)
ثم يرمي جمرة العقبة بسبع حصيات متعاقبات، يكبر مع كل حصاة، ثم ينصرف ولا يدعو بعدها.
فإذا أتم رمي الجمار في اليوم الثاني عشر، فإن شاء تعجل ونزل من منى، وإن شاء تأخر فبات بها ليلة الثالث عشر، ورمى الجمار الثلاث بعد الزوال كما سبق، والتأخر أفضل، ولا يجب إلا أن تغرب الشمس من اليوم الثاني عشر وهو بمني، فإنه يلزمه التأخر حتى يرمي الجمار الثلاث بعد الزوال، لكن لو غربت عليه الشمس بمنى في اليوم الثاني عشر بغير اختياره، مثل أن يكون قد ارتحل وركب، لكن تأخر بسبب زحام السيارات ونحوه، فإنه لا يلزمه التأخر، لأن تأخره إلى الغروب بغير اختياره.
فإذا أراد الخروج من مكة إلى بلده لم يخرج حتى يطوف للوداع، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا ينفر أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت " (1) ، وفي رواية: "أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خُفف عن الحائض " (2) . فالحائض والنفساء ليس عليهما وداع، ولا ينبغي أن يقفا عند باب المسجد الحرام للوداع، لعدم وروده عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ويجعل طواف الوداع آخر عهده بالبيت إذا أراد أن يرتحل للسفر، فإن بقي بعد الوداع لانتظار رفقة، أو تحميل رحله، أو اشترى حاجة في طريقه فلا حرج عليه، ولا يعيد الطواف إلا أن
ينوي تأخير سفره، مثل أن يريد السفر في أول النهار فيطوف
__________
(1) تقدم تخريجه ص 159.
(2) تقدم تخريجه ص 299.(24/386)
للوداع، ثم يؤجل السفر إلى آخر النهار مثلاً، فإنه يلزمه إعادة الطواف، ليكون آخر عهده بالبيت.
زيارة المسجد النبوي
إذا أحب الحاج أن يزور المسجد النبوي قبل الحج أو بعده فلينو زيارة المسجد النبوي لا زيارة القبر، فإن شد الرحال على وجه التعبد لا يكون لزيارة القبور، وإنما يكون للمساجد الثلاثة:
المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى كما في الحديث الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى " (1) .
فإذا وصل المسجد النبوي قدم رجله اليمنى لدخوله وقال: "بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك، أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وبسلطانه القديم من الشيطان الرجيم "، ثم يصلي ما شاء. والأولى أن تكون صلاته في الروضة، وهي ما بين منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وحجرته التي فيها قبره؛ لأن ما بينهما روضة من رياض الجنة، فإذا صلى وأراد زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فليقف أمامه بأدب ووقار، وليقل: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على
إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أشهد أنك رسول الله حقاً، وأنك قد بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة،
__________
(1) تقدم تخريجه ص 334.(24/387)
وجاهدت في الله حق جهاده، فجزاك الله عن أمتك أفضل ما جزى نبيًّا عن أمته.
ثم يأخذ ذات اليمين قليلاً، فيسلم على أبي بكر الصديق، ويترضى عنه.
ثم يأخذ ذات اليمين قليلاً أيضاً، فيسلم على عمر بن الخطاب، ويترضى عنه، وإن دعا له ولأبي بكر رضي الله عنهما بدعاء مناسب فحسن.
ولا يجوز لأحد أن يتقرب إلى الله بمسح الحجرة النبوية، أو الطواف بها، ولا يستقبلها حال الدعاء، بل يستقبل القبلة؛ لأن التقرب إلى الله لا يكون إلا بما شرعه الله ورسوله، والعبادات مبناها
على الاتباع لا على الابتداع.
والمرأة لا تزور قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا قبر غيره؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج، لكن تصلي، وتسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي في مكانها، فيبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - في أي مكان كانت. ففي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "صلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم " (1) . وقال: "إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني من أمتي السلام " (2) .
وينبغي للرجل خاصة أن يزور البقيع، وهي مقبرة المدينة، فيقول: "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله
__________
(1) أخرجه أبو داود، كتاب المناسك، باب زيارة القبور (2042) .
(2) أخرجه الأمام أحمد (1/387) .(24/388)
لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم " (1) .
وإن أحب أن يأتي أُحداً، ويتذكر ما جرى للنبي وأصحابه في تلك الغزوة من جهاد وابتلاء، وتمحيص وشهادة، ثم يسلم على الشهداء هناك مثل حمزة بن عبد المطلب عم النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا بأس بذلك، فإن هذا قد يكون من السير في الأرض المأمور به، والله أعلم.
الفوائد
هذه فوائد تتعلق بالمناسك تدعو الحاجة إلى بيانها ومعرفتها:
الفائدة الأولي في آداب الحج والعمرة:
قال الله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)) (البقرة: 197) . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنما جُعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله " (2) .
فينبغي للعبد أن يقوم بشعائر الحج على سبيل التعظيم والإجلال والمحبة، والخضوع لله رب العالمين، فيؤديها بسكينة ووقار واتباع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وينبغي أن يشغل هذه المشاعر العظيمة بالذكر والتكبير، والتسبيح والتحميد، والاستغفار؛ لأنه في عبادة من حين أن يشرع
__________
(1) تقدم تخريجه ص 340.
(2) تقدم تخريجه ص 26.(24/389)
في الإحرام حتى يحل منه، فليس الحج نزهة للهو واللعب، يتمتع به الإنسان كما شاء من غير حد كما يشاهد بعض الناس يستصحب من آلات اللهو والغناء ما يصده عن ذكر الله، ويوقعه في معصية الله.
وترى بعض الناس يفرط في اللعب والضحك والاستهزاء بالخلق وغير ذلك من الأعمال المنكرة، كأنما شرع الحج للمرح واللعب.
ويجب على الحاج وغيره أن يحافظ على ما أوجبه الله عليه من الصلاة جماعة في أوقاتها، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وينبغي أن يحرص على نفع المسلمين، والإحسان إليهم بالإرشاد والمعونة عند الحاجة، وأن يرحم ضعيفهم، خصوصاً في مواضع الرحمة، كمواضع الزحام ونحوها، فإن رحمة الخلق جالبة لرحمة الخالق، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء.
ويتجنب الرفث والفسوق، والعصيان والجدال لغير نصرة الحق. أما الجدال من أجل نصرة الحق فهذا واجب في موضعه.
ويتجنب الاعتداء على الخلق وإيذاءهم؛ فيتجنب الغيبة والنميمة، والسب والشتم، والضرب والنظر إلى النساء الأجانب، فإن هذا حرام في الإحرام وخارج الإحرام، فيتأكد تحريمه حال الإحرام.
وليتجنب ما يحدثه كثير من الناس من الكلام الذي لا يليق بالمشاعر كقول بعضهم إذا رمى الجمرات رمينا الشيطان، وربما شتم المشعر، أو ضربه بنعلٍ ونحوه، مما ينافي الخضوع والعبادة،
ويناقض المقصود برمي الجمار، وهو إقامة ذكر الله عز وجل.(24/390)
الفائدة الثانية في محظورات الإحرام:
محظورات الإحرام هي التي يُمنع منها المحرم بحج أو بعمرة بسبب الإحرام، وهي ثلاثة أقسام:
قسم يحرم على الذكور والإناث، وقسم يحرم على الذكور دون الإناث، وقسم يحرم على الإناث دون الذكور.
فأما الذي يحرم على الذكور والإناث، فمنه ما يأتي:
1- إزالة الشعر من الرأس بحلق أو غيره، وكذلك إزالته من بقية الجسد على المشهور، لكن لو نزل بعينيه شعر يتأذى منه، ولم يندفع أذاه إلا بقلعه، فله قلعه ولا شيء عليه، ويجوز للمحرم أن يحك رأسه بيده برفق، فإن سقط منه شعر بلا تعمد فلا شيء عليه.
2- تقليم الأظافر من اليدين أو الرجلين، إلا إذا انكسر ظفره وتأذي به، فلا بأس أن يقص المؤذي منه فقط، ولا شيء عليه.
3- استعمال الطيب بعد الإحرام في الثوب أو البدن أو غيرهما. أما الطيب الذي تَطَيَّبَ به قبل الإحرام، فإنه لا يضر بقاؤه بعد الإحرام؛ لأن الممنوع في الإحرام ابتداء الطيب دون استدامته،
ولا يجوز للمحرم أن يشرب قهوة فيها زعفران؛ لأن الزعفران من الطيب إلا إذا كان قد ذهب طعمه وريحه بالطبخ، ولم يبق إلا مجرد اللون فلا بأس.
4- النظر والمباشرة لشهوة.
5- لبس القفازين وهما (شراب) اليدين.
6- قتل الصيد وهو الحيوان الحلال البري المتوحش، مثل الظباء والأرانب والحمام والجراد، فأما صيد البحر فحلال، فيجوز(24/391)
للمحرم صيد السمك من البحر، وكذلك يجوز له الحيوان الأهلي كالدجاج.
وإذا انفرش الجراد في طريقه ولم يكن طريق غيرها فوطئ شيئاً منه من غير قصد فلا شيء عليه؛ لأنه لم يقصد قتله، ولا يمكنه التحرز منه.
وأما قطع الشجر فليس حراماً على المحرم؛ لأنه لا تأثير للإحرام فيه، وإنما يحرم على من كان داخل أميال الحرم، سواء كان محرماً أو غير محرم، وعلى هذا فيجوز قطع الشجر في عرفة، ولا يجوز في منى ومزدلفة؛ لأن عرفة خارج الأميال، ومنى ومزدلفة داخل الأميال.
ولو أصاب شجرة وهو يمشي من غير قصد فلا شيء عليه، ولا يحرم قطع الأشجار الميتة.
وأما الذي يحرم على الذكور دون الإناث فهو شيئان:
1- لبس المخيط، وهو أن يلبس الثياب ونحوها على صفة لباسها في العادة كالقميص (والفنيلة) والسروال ونحوها، فلا يجوز للذكر لبس هذه الأشياء على الوجه المعتاد. أما إذا لبسها على
غير الوجه المعتاد فلا بأس بذلك، مثل أن يجعل القميص رداء، أو يرتدي العباءة جاعلاً أعلاها أسفلها فلا بأس بذلك كله، ولا بأس أن يلبس رداءً مرقعاً أو إزاراً مرقعاً، أو موصولاً.
ويجوز لبس السبتة، وساعة اليد، ونظارة العين، وعقد ردائه وزره بمشبك ونحوه؛ لأن هذه الأشياء لم يرد فيها منع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وليست في معنى المنصوص على منعه، بل قد سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عما(24/392)
يلبس المحرم فقال: "لا يلبس القميص، ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا البرانس، ولا الخفاف " (1) ، فإجابته - صلى الله عليه وسلم - بما لا يلبس عن السؤال عما يلبس دليل على أن كل ما عدا هذه المذكورات مما يلبسه المحرم. وأجاز - صلى الله عليه وسلم - للمحرم أن يلبس الخفين إذا عدم النعلين، لاحتياجه إلى وقاية رجليه، فمثله نظارات العين لاحتياج لابسها إلى وقاية عينيه، وأجاز الفقهاء على المشهور من المذهب لباس الخاتم للرجل المحرم.
ويجوز للمحرم أن يلبس السراويل إذا لم يجد الإزار ولا ثمنه، وأن يلبس الخفين إذا لم يجد النعلين ولا ثمنهما، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال وهو يخطب بعرفات: "من لم يجد النعلين فليلبس الخفين، ومن لم يجد إزاراً فليلبس السراويل " (2) .
2- تغطية رأسه بملاصق كالعمامة والغترة والطاقية وشبهها.
فأما غير المتصل كالخيمة، والشمسية، وسقف السيارة فلا بأس به؛ لأن المحرَّم ستر الرأس دون الاستظلال، وفي حديث أم الحصين الأحمسية قالت: "حججنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع فرأيته حين رمى جمرة العقبة وانصرف وهو على راحلته، ومعه بلال وأسامة أحدها يقود به راحلته، والآخر رافعاً ثوبه على رأس النبي - صلى الله عليه وسلم - يظلله من الشمس ". وفي رواية: "يستره من الحرِّ حتى رمى جمرة العقبة"، رواه أحمد ومسلم (3) ، وهذا كان في يوم العيد قبل
__________
(1) تقدم تخريجه ص 273.
(2) تقدم تخريجه ص 273.
(3) تقدم تخريجه ص 273.(24/393)
التحلل؟ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يرمي الجمار في غير يوم العيد ماشياً لا راكباً.
ويجوز للمحرم أن يحمل المتاع على رأسه، إذا لم يكن قصده ستر الرأس، ويجوز له أيضاً أن يغوص في الماء، ولو تغطى رأسه بالماء.
وأما الذي يحرم على النساء دون الذكور فهو النقاب، وهو أن تستر وجهها بشيء، وتفتح لعينيها ما تنظر به. ومن العلماء من قال لا يجوز أن تغطي وجهها لا بنقاب ولا غيره إلا أن يمر الرجال قريباً
منها؛ فإنه يلزمها أن تغطي وجهها ولا فدية عليها، سواء مسَّه الغطاء أم لا.
وفاعل المحظورات السابقة له ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن يفعل المحظور بلا عذر ولا حاجة، فهذا آثم وعليه الفدية.
الحالة الثانية: أن يفعل المحظور لحاجة إلى ذلك، مثل أن يحتاج إلى لبس القميص لدفع برد يخاف منه الضرر، فيجوز أن يفعل ذلك وعليه فديته، كما جرى لكعب بن عجرة رضي الله عنه حين حُمل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - والقمل يتناثر من رأسه على وجهه؛ فرخص له النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يحلق رأسه ويفدي (1) .
الحالة الثالثة: أن يفعل المحظور وهو معذور، إما جاهلاً، أو ناسياً، أو نائماً، أو مكرهاً، فلا إثم عليه، ولا فدية لقوله تعالى: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ
__________
(1) رواه البخاري، كتاب المحصر باب الإطعام في الفدية نصف صاع رقم (1814) ، وما بعده، ومسلم، كتاب الحج باب جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى رقم (1201) .(24/394)
وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيما) ً (5) (الأحزاب: هـ) . وقال تعالى: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) (البقرة: 286) . فقال الله تعالى: قد فعلت. وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " (1) ، وهذه نصوص عامة في محظورات الإحرام وغيرها تفيد رفع المؤاخذة عن المعذور بالجهل والنسيان والإكراه. وقال تعالى في خصوص الصيد الذي هو أحد محظورات الإحرام: (مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ) (2) (المائدة: 95) . فقيَّد وجوب الجزاء بكون القاتل متعمداً، والتعمد وصف مناسب للعقوبة والضمان، فوجب اعتباره وتعليق الحكم به، وإن لم يكن متعمداً فلا جزاء عليه ولا إثم.
لكن متى زال العذر، فعلم الجاهل، وتذكر الناسي، واستيقظ النائم، وزال الإكراه فإنه يجب التخلي عن المحظور فوراً، فإن استمر عليه مع زوال العذر فهو آثم، وعليه الفدية. مثال ذلك أن يغطي الذكر رأسه وهو نائم فإنه مادام نائماً فلا شيء عليه، فإذا استيقظ لزمه كشف رأسه فوراً، فإن استمر في تغطيته، مع علمه بوجوب كشفه فعليه الفدية.
__________
(1) ابن ماجة كتاب الطلاق رقم (2043) .
(2) سورة المائدة، الآية: 95.(24/395)
ومقدار الفدية في المحظورات التي ذكرناها كما يأتي:
1- في إزالة الشعر، والظفر، والطيب، والمباشرة لشهوة، ولبس القفازين، ولبس الذكر المخيط، وتغطيته رأسه، وانتقاب المرأة، الفدية في هذه الأشياء في كل واحد منها إما ذبح شاة، وإما
إطعام ستة مساكين، وإما صيام ثلاثة أيام يختار ما يشاء من هذه الأمور الثلاثة. فإن اختار ذبح الشاة، فإنه يذبح ذكراً أو أنثى من الضأن أو الماعز، مما يجزئ في الأضحية، أو ما يقوم مقامه من
سُبع بدنة أو سُبع بقرة، ويفرق جميع اللحم على الفقراء ولا يأكل منه شيئاً، وإن اختار إطعام المساكين، فإنه يدفع لكل مسكين نصف صاع، مما يطعم من تمر أو بر أو غيرهما، وإن اختار الصيام، فإنه يصوم الأيام الثلاثة إن شاء متوالية وإن شاء متفرقة.
2- في جزاء الصيد فإن كان للصيد مثل، خُيِّرَ بين ثلاثة أشياء:
إما ذبح المثل، وتفريق جميع لحمه على فقراء مكة؛ وإما أن ينظر كم يساوي هذا المثل، ويخرج ما يقابل قيمته طعاماً يفرق على المساكين لكل مسكين نصف صاع، وإما أن يصوم عن طعام كل
مسكين يوماً. فإن لم يكن للصيد مثل خُيِّر بين شيئين: إما أن ينظر كم قيمة الصيد المقتول، ويخرج ما يقابلها طعاماً يفرقه على المساكين لكل مسكين نصف صاع؛ وإما أن يصوم عن إطعام كل
مسكين يوماً.
مثال الذي له مثل من النعم الحمام، ومثيلها الشاة، فنقول(24/396)
لمن قتل حمامة: أنت بالخيار إن شئت فاذبح شاة، وإن شئت فانظر كم قيمة الشاة وأخرج ما يقابلها من الطعام لفقراء الحرم لكل واحد نصف صاع، وإن شئت فصم عن إطعام كل مسكين يوماً.
ومثال الصيد الذي لا مثل له الجراد فنقول لمن قتل جراداً متعمداً: إن شئت فانظر كم قيمة الجراد، وأخرج ما يقابلها من الطعام لمساكين الحرم لكل مسكين نصف صاع، وإن شئت فصم عن إطعام كل مسكين يوماً.
الفائدة الثالثة في إحرام الصغير:
الصغير الذي لم يبلغ لا يجب عليه الحج، لكن لو حج فله أجر الحج، ويعيده إذا بلغ، وينبغي لمن يتولى أمره من أب أو أم أو غيرهما أن يحرم به، وثواب النسك يكون للصبي، ولوليه أجر على
ذلك لما في الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة رفعت صبيًّا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، ألهذا حج؟ قال: "نعم ولك أجر " (1) .
وإذا كان الصبي مميزاً- وهو الذي يفهم ما يقال له- فإنه ينوي الإحرام بنفسه، فيقول له وليه: أنو الإحرام بكذا، ويأمره أن يفعل ما يقدر عليه من أعمال الحج، مثل الوقوف بعرفة، والمبيت بمنى
ومزدلفة. وأما ما يعجز عن فعله كرمي الجمار، فإن وليه ينوب عنه فيه أو غيره بإذنه، إلا الطواف والسعي، فإنه إذا عجز عنهما يُحمل ويقال له: أنو الطواف، أنو السعي. وفي هذه الحال يجوز لحامله
__________
(1) تقدم تخريجه ص 69.(24/397)
أن ينوي الطواف والسعي عن نفسه أيضاً، والصبي عن نفسه، فيحصل الطواف والسعي للجميع؛ لأن كلا منهما حصل منه نية، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرىء ما نوى" (1) .
وإذا كان الصبي غير مميز، فإن وليه ينوي له الإحرام، ويرمي عنه، ويحضره مشاعر الحج: عرفة، ومزدلفة، ومنى، ويطوف ويسعى به، ولا يصح في هذه الحال أن ينوي الطواف والسعي لنفسه
وهو يطوف ويسعى بالصبي؛ لأن الصبي هنا لم يحصل منه نية ولا عمل، وإنما النية من حامله، فلا يصح عمل واحد بنيتين لشخصين، بخلاف ما إذا كان الصبي مميزاً لأنه حصل منه نية، والأعمال بالنيات. هذا ما ظهر لي. وعليه فيطوف الولي ويسعى أولاً عن نفسه، ثم يطوف ويسعى بالصبي، أو يُسلمه إلى ثقة يطوف ويسعى به.
وأحكام إحرام الصغير كأحكام إحرام الكبير؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أثبت أن له حجًّا، فإذا ثبت الحج ثبتت أحكامه ولوازمه، وعلى هذا فإذا كان الصغير ذكراً جنِّب ما يجتنبه الرجل الكبير، وإن كانت أنثى جنبت ما تجتنبه المرأة الكبيرة، لكن عمد الصغير بمنزلة خطأ الكبير، فإذا فعل بنفسه شيئاً من محظورات الإحرام فلا فدية عليه ولا على وليه.
__________
(1) تقدم تخريجه ص 217.(24/398)
الفائدة الرابعة في الاستنابة في الحج:
إذا وجب الحج على شخص، فإن كان قادراً على الحج بنفسه، وجب عليه أن يحج، وإن كان عاجزاً عن الحج بنفسه فإن كان يرجو زوال عجزه كمريض يرجو الشفاء، فإنه يؤخر الحج حتى
يستطيع، فإن مات قبل ذلك حُجَّ عنه من تركته، ولا إثم عليه.
وإن كان الذي وجب عليه الحج عاجزاً عجزاً لا يرجو زواله، كالكبير، والمريض الميؤوس منه، ومن لا يستطيع الركوب، فإنه يوكل من يحج عنه. لما في الصحيحين (1) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما "أن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: "نعم "، وذلك في حجة الوداع.
ويجوز أن يكون الرجل وكيلاً عن المرأة، والمرأة عن الرجل.
وإذا كان الوكيل قد وجب عليه الحج ولم يحج عن نفسه، فإنه لا يحج عن غيره، بل يبدأ بنفسه أولاً، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة، فقال النبي: "من شبرمة"؟ قال: أخ لي أو قريب لي. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"أحججت عن نفسك "؟ قال: لا. قال: "حج عن نفسك ثم حُجَّ عن شبرمة" رواه أبو داود وابن ماجة (2) .
__________
(1) تقدم تخريجه ص 127.
(2) رواه أبو داود، كتاب المناسك، باب الرجل يحج عن غيره، رقم (1811) ، وابن ماجة، كتاب المناسك، باب الرجل يحج عن غيره رقم (2903) ، والبيهقي في سننه الكبرى (3/155) وقال: إسناده صحيح، لي في الباب أصح منه، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3128) .(24/399)
والأولى أن يصرح الوكيل بذكر موكله، فيقول: لبيك عن فلان، وإن كانت أنثى قال: لبيك عن أم فلان، أو عن بنت فلان، وإن نوى بقلبه ولم يذكر الاسم فلا بأس، وإن نسي اسم الموكل نوى
بقلبه عمن وكله، وإن لم يستحضر اسمه فالله تعالى يعلمه ولا يخفى عليه.
ويجب على الوكيل أن يتقي الله تعالى، ويحرص على تكميل النسك؛ لأنه مؤتمن على ذلك، فيحرص على فعل ما يجب، وترك ما يحرم، ويكمل ما استطاع من المكملات للنسك ومسنوناته.
الفائدة الخامسة في تبديل ثياب الإحرام:
يجوز للمحرم بحج أو عمرة، رجلاً كان أو أنثى تبديل ثياب الإحرام التي أحرم بها ولبس ثياب غيرها إذا كانت الثياب الثانية مما يجوز للمحرم لباسه. كما يجوز للمحرم أيضاً أن يلبس النعلين بعد
الإحرام، وإن كان حين عقده حافياً.
الفائدة السادسة في محل ركعتي الطواف:
السنة لمن فرغ من الطواف أن يصلي ركعتي الطواف خلف المقام. فإن كان المحل القريب من المقام واسعاً فذاك، وإلا صلاهما ولو بعيداً، ويجعل المقام بينه وبين الكعبة، فيصدق عليه أنه صلى خلف المقام، واتبع في ذلك هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث جابر رضي الله عنه في صفة حج النبي أنه - صلى الله عليه وسلم - جعل المقام بينه وبين البيت.
الفائدة السابعة في الموالاة في بين السعي والطواف:
الأفضل أن يكون السعي موالياً للطواف، فإن أخره عنه كثيراً(24/400)
فلا بأس، مثل أن يطوف أول النهار، ويسعى آخره، أو يطوف في الليل، ويسعى بعد ذلك في النهار، ويجوز لمن تحب في السعي أن يجلس ويستريح، ثم يكمل سعيه ماشياً، أو على عربة ونحوها.
وإذا أقيمت الصلاة، وهو يسعى، دخل في الصلاة، فإذا سلَّم أتمَّ سعيه من المكان الذي انتهى إليه قبل إقامة الصلاة.
وكذلك لو أقيمت وهو يطوف، أو حضرت جنازة، فإنه يصلي، فإذا فرغ أتم طوافه من مكانه الذي انتهى إليه قبل الصلاة، ولا حاجة إلى إعادة الشوط الذي قطعه على القول الراجح عندي؛
لأنه إذا كان القطع للصلاة معفوًّا عنه، فلا دليل على بطلان أول الشوط.
الفائدة الثامنة في الشك في عدد الطواف أو السعي:
إذا شك الطائف في عدد الطواف، فإن كان كثير الشكوك مثل من به وسواس، فإنه لا يلتفت إلى هذا الشك، وإن لم يكن كثير الشكوك، فإن كان شكه بعد أن أتم الطواف، فإنه لا يلتفت إلى هذا
الشك أيضاً إلا أن يتيقن أنه ناقص، فيكمل ما نقص. وإن كان الشك في أثناء الطواف، مثل أن يشك هل الشوط الذي هو فيه الثالث أو الرابع مثلاً، فإن ترجح عنده أحد الأمرين عمل بالراجح عنده، وإن لم يترجح عنده شيء عمل باليقين وهو الأقل.
ففي المثال المذكور إن ترجح عنده الثلاثة جعلها ثلاثة، وأتى بأربعة، وإن ترجحت عنده الأربعة جعلها أربعة وأتى بثلاثة، وإن لم يترجح عنده شيء جعلها ثلاثة، لأنها اليقين وأتى بأربعة.
وحكم الشك في عدد السعي، كحكم الشك في عدد الطواف(24/401)
في كل ما تقدم.
الفائدة التاسعة في الوقوف بعرفة:
سبق أن الأفضل للحاج أن يحرم بالحج يوم الثامن من ذي الحجة، ثم يخرج إلى منى فيمكث فيها بقية يومه، ويبيت ليلة التاسع، ثم يذهب إلى عرفة ضحى، وهذا على سبيل الفضيلة. فلو خرج إلى عرفة من غير أن يذهب قبلها إلى منى، فقد ترك الأفضل، ولكن لا إثم عليه.
ويجب على الواقف بعرفة أن يتأكد من حدودها، فإن بعض الحجاج يقفون خارج حدودها، إما جهلاً، وإما تقليداً لغيرهم.
وهؤلاء الذين وقفوا خارج حدود عرفة لا حج لهم لأنهم لم يقفوا بعرفة. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الحج عرفة" (1) . وفي أي مكان وقف من عرفة فإنه يجزئه لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف " (2) .
ولا يجوز لمن وقف بعرفة أن يدفع من حدودها حتى تغرب الشمس يوم عرفة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف إلى الغروب، وقال: "خذوا عني مناسككم " (3) .
ويمتد وقت الوقوف بعرفة إلى طلوع الفجر يوم العيد. فمن
__________
(1) رواه أبو داود، كتاب المناسك، باب من لم يدرك عرفة رقم (1949) ، والترمذي، كتاب الحج
باب فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج رقم (889) ، والنسائي، كتاب مناسك الحج باب فيمن
لم يدرك صلاة الصبح مع الإمام في مزدلفة رقم (3044) ، وابن ماجة، كتاب المناسك باب من أتى
عرفة قبل الفجر ليلة جمع رقم (3015) .
(2) تقدم تخريجه ص 155.
(3) تقدم تخريجه ص 8.(24/402)
طلع عليه الفجر يوم العيد ولم يقف بعرفة فقد فاته الحج. فإن كان قد اشترط في ابتداء الإحرام إن حبسني حابس، فمحلي حيث حبستني تحلل من إحرامه، ولا شيء عليه، وإن لم يكن اشترط وفاته الوقوف، فإنه يتحلل بعمرة، فيذهب إلى البيت، ويطوف ويسعى ويحلق، وإذا كان معه هدي ذبحه، فإذا كانت السنة الثانية قضى الحج الذي فاته، وأهدى هدياً فإن لم يجد هدياً صام عشرة أيام، ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله.
الفائدة العاشرة في الدفع من مزدلفة:
لا يجوز للقوي أن يدفع من مزدلفة حتى يصلي الفجر يوم العيد؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بات بها ليلة العيد، ولم يدفع منها حتى صلى الفجر، وقال: "خذوا عني مناسككم " (1) ، وفي صحيح مسلم (2) عن عائشة رضي الله عنها قالت: "استأذنت سودة رسول الله ليلة المزدلفة تدفع قبله وقبل حطمة الناس وكانت امرأة ثبطة- أي ثقيلة- فأذن لها، فخرجت قبل دفعه، وحبسنا حتى أصبحنا فدفعنا بدفعه ".
وفي رواية: "وددت أني كنت استأذنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما استأذنته سودة، فأصلي الصبح بمنى، فأرمي الجمرة قبل أن يأتي الناس ".
وأما الضعيف الذي يشق عليه مزاحمة الناس عند الجمرة، فإن له أن يدفع قبل الفجر إذا غاب القمر، ويرمي الجمرة قبل الناس.
وفي صحيح مسلم عن أسماء "أنها كانت ترتقب غيوب القمر، وتسأل مولاها هل غاب القمر، فإذا قال: نعم. قالت: ارحل
__________
(1) تقدم تخريجه ص 8.
(2) تقدم تخريجه ص 291.(24/403)
بي. قال: فارتحلنا حتى رمت الجمرة، ثم صلت (يعني الفجر) في منزلها، فقلت لها: أي هنتاه- أي يا هذه- لقد غلسنا. قالت: كلا أي بني إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أذن للظعن " (1) .
ومن كان من أهل هؤلاء الضعفاء الذين يجوز لهم الدفع من مزدلفة قبل الفجر، فإنه يجوز أن يدفع معهم قبل الفجر؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث ابن عباس رضي الله عنهما في ضعفة أهله - صلى الله عليه وسلم - من مزدلفة بليل. فإن كان ضعيفاً رمى الجمرة معهم إذا وصل إلى منى؛ لأنه لا يستطيع المزاحمة، أما إن كان يستطيع زحام الناس، فإنه يؤخر الرمي حتى تطلع الشمس؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أغيلمة بني عبد المطلب على حُمُراتٍ لنا من جَمْع فجعل يلطح أفخاذنا ويقول: أبينيَّ لا ترموا حتى تطلع الشمًس " (2) (رواه الخمسة، وصححه الترمذي، وابن ماجه) .
فنخلص إلى أن الدفع من مزدلفة، ورمي جمرة العقبة يوم العيد يكونان على النحو التالي:
الأول: من كان قويًّا لا ضعيف معه، فإنه لا يدفع من مزدلفة حتى يصلي الفجر، ولا يرمي الجمرة حتى تطلع الشمس؛ لأن هذا هو فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي فعله، وكان يقول: "خذوا عني مناسككم " (3) ، ولم يرخص لأحد من ذوي القوة في الدفع من مزدلفة قبل الفجر، أو رمي الجمرة قبل طلوع الشمس.
الثاني: من كان قويًّا وفي صحبته أهل ضعفاء، فإنه يدفع
__________
(1) تقدم تخريجه ص 307.
(2) يأتي تخريجه ص (543) .
(3) تقدم تخريجه ص 8.(24/404)
معهم آخر الليل إن شاء، ويرمي الضعيف الجمرة إذا وصل منى. أما القوي فلا يرميها حتى تطلع الشمس، لأنه لا عذر له.
الثالث: الضعيف فيجوز له الدفع من مزدلفة آخر الليل إذا غاب القمر، ويرمي الجمرة إذا وصل إلى منى.
ومن لم يصل إلى مزدلفة إلا بعد طلوع الفجر ليلة العيد، وأدرك الصلاة فيها، وكان قد وقف بعرفة قبل الفجر فحجه صحيح؛ لحديث عروة بن مضرس، وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من شهد صلاتنا هذه- يعني الفجر- ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك نهاراً أو ليلاً فقد تم حجُّه، وقضى تفثه " (1) . (رواه الخمسة، وصححه الترمذي والحاكم) .
وظاهر هذا الحديث أنه لا دم عليه، وذلك لأنه أدرك جزءاً من وقت الوقوف بمزدلفة، وذكر الله تعالى عند المشعر الحرام بما أداه من صلاة الفجر، فكان حجه تامًّا، ولو كان عليه دم لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم -.
والله أعلم.
الفائدة الحادية عشرة فيما يتعلق بالرمي:
1- في الحصى الذي يرمي به يكون بين الحمص والبندق، لا كبيراً جداً، ولا صغيراً جداً، ويلقط الحصى من منى، أو مزدلفة، أو غيرهما كل يوم بيومه، ولم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لقط الحصى من مزدلفة، ولا أنه لقط حصى الأيام كلها وجمعها، ولا أمر أحداً بذلك من أصحابه فيما أعلم.
2- لا يجب في الرمي أن تضرب الحصاة نفس العمود
__________
(1) تقدم تخريجه ص 35.(24/405)
الشاخص، بل الواجب أن تستقر في نفس الحوض الذي هو مجمع الحصى، فلو ضربت العمود ولم تسقط في الحوض، وجب عليه أن يرمي بدلها، ولو سقطت في الحوض واستقرت به أجزأت، وإن
لم تضرب العمود.
3- لو نسي حصاة من إحدى الجمار، فلم يرم إلا بست حصيات، ولم يذكر حتى وصل إلى محله، فإنه يرجع ويرمي الحصاة التي نسيها، ولا حرج عليه، وإن غربت الشمس قبل أن يتذكر، فإنه يؤخرها إلى اليوم الثاني، فإذا زالت الشمس رمى الحصاة التي نسيها قبل كل شيء، ثم رمى الجمار لليوم الحاضر.
الفائدة الثانية عشرة في التحلل الأول والثاني:
إذا رمى الحاج جمرة العقبة يوم العيد، وحلق رأسه أو قصره حل التحلل الأول، وجاز له جميع محظورات الإحرام من الطيب واللباس، وأخذ الشعور، والأظافر، وغير ذلك إلا النساء، فإنه لا
يجوز له أن يباشر زوجته، أو ينظر إليها لشهوة، حتى يطوف بالبيت، ويسعى بين الصفا والمروة، فإذا طاف، وسعى حل التحلل الثاني، وجاز له جميع محظورات الإحرام حتى النساء، لكن مادام داخل الأميال، فإنه لا يحل له الصيد، ولا قطع الشجر والحشيش الأخضر لأجل الحرم، لا لأجل الإحرام، لأن الإحرام قد تحلل منه.
الفائدة الثالثة عشرة في التوكيل في رمي الجمار:
لا يجوز لمن قدر على رمي الجمار بنفسه أن يوكل من يرمي عنه، سواء كان حجه فرضاً أم نفلاً؛ لأن نفل الحج يلزم من شرع فيه(24/406)
إتمامه. أما من يشق عليه الرمي بنفسه، كالمريض، والكبير، والمرأة الحامل ونحوهم، فإنه يجوز أن يوكل من يرمي عنه سواء كان حجه فرضاً أم نفلاً، وسواء لقط الحصى وأعطاها الوكيل، أو
لقطها الوكيل بنفسه، فكل ذلك جائز.
ويبدأ الوكيل بالرمي عن نفسه ثم عن موكله لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ابدأبنفسك " (1) ، وقوله: "حُجَّ عن نفسك ثم حُجَّ عن شبرمة" (2) .
ويجوز أن يرمي عن نفسه، ثم عن موكله في موقف واحد. فيرمي الجمرة الأولى بسبع عن نفسه، ثم بسبع عن موكله، وهكذا الثانية والثالثة، كما يفيده ظاهر الحديث المروي عن جابر قال: "حججنا
مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلبينا عن الصبيان ورمينا عنهم "، رواه أحمد، وابن ماجه (3) ، وظاهره أنهم يفعلون ذلك في موقف واحد، إذ لو كانوا يكملون الثلاث عن أنفسهم، ثم يرجعون من أولها عن الصبيان، لنقل ذلك، والله أعلم.
الفائدة الرابعة عشرة في ائساك يوم العيد:
يفعل الحاج يوم العيد أربعة أنساك مرتبة كما يلي:
الأول: رمي جمرة العقبة.
الثاني: ذبح الهدي إن كان له هدي.
الثالث: الحلق أو التقصير.
الرابع: الطواف بالبيت.
وأما السعي فإن كان متمتعاً سعى للحج، وإن كان قارناً أو
__________
(1) رواه مسلم، كتاب الزكاة، باب الابتداء في النفقة بالنفس (997) .
(2) تقدم تخريجه ص 391.
(3) ابن ماجه، كتاب المناسك، باب الرمي عن الصبيان (3038) .(24/407)
مفرداً، فإن كان سعى بعد طواف القدوم كفاه سعيه الأول، وإلا سعى بعد هذا الطواف، أعني طواف الحج.
والمشروع أن يرتبها على هذا الترتيب، فإن قدم بعضها على بعض بأن ذبح قبل الرمي، أو حلق قبل الذبح، أو طاف قبل الحلق، فإن كان جاهلاً أو ناسياً فلا حرج عليه، وإن كان متعمداً عالماً،
فالمشهور من مذهب الإمام أحمد أنه لا حرج عليه أيضاً، لما روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عمن حلق قبل أن يذبح ونحوه فقال: لا حرج " وعنه قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُسئل يوم النحر بمنى فيقول: "لا حرج ". فسأله رجل فقال: حلقت قبل أن أذبح، قال: "اذبح ولا حرج ". وقال: رميت بعدما أمسيت،
قال: "لا حرج ". وعنه أيضاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قيل له في الذبح والحلق والرمي والتقديم والتأخير فقال: "لا حرج ". وسئل عمن زار (أي طاف طواف الزيارة) قبل أن يرمي، أو ذبح قبل أن يرمي فقال: "لا حرج ". رواه البخاري (1) . وفي حديث عبد الله بن عمرو قال: فما
سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - يومئذ عن شيء قُدِّم ولا أُخر إلا قال: "افعل ولا حرج " (2) .
وإن أخر الذبح إلى نزوله إلى مكة فلا بأس، لكن لا يؤخره عن أيام التشريق، وإن أخر الطواف أو السعي عن يوم العيد فلا بأس، لكن لا يؤخرهما عن شهر ذي الحجة إلا من عذر، مثل أن يحدث للمرأة نفاس قبل أن تطوف، فتؤخر الطواف حتى تطهر، ولو
__________
(1) تقدم تخريجه ص 296.
(2) تقدم تخريجه ص 296.(24/408)
بعد شهر ذي الحجة، فلا حرج عليها ولا فدية.
الفائدة الخامسة عشرة في وقت الرمي والترتيب بين الجمار:
سبق أن وقت الرمي يوم العيد للقادر بعد طلوع الشمس، ولمن يشق عليه مزاحمة الناس من آخر الليل ليلة العيد. أما وقت الرمي في أيام التشريق، فإنه من زوال الشمس، فلا رمي قبل الزوال
لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما رمى في أيام التشريق إلا بعد الزوال وقال: "خذوا عني مناسككم " (1) . ويستمر وقت الرمي في يوم العيد وما بعده إلى غروب الشمس، فلا يرمى في الليل (2) . ويرى بعض العلماء أنه إذا فات الرمي في النهار، فله أن يرمي في الليل إلا ليلة أربعة عشر لانتهاء أيام منى بغروب الشمس من اليوم الثالث عشر، والقول الأول أحوط. وعليه فلو فاته رمي يوم، فإنه يرمي في اليوم الذي بعده إذا زالت الشمس، يبدأ برمي اليوم الذي فاته، فإذا أكمله رمى لليوم الحاضر.
والترتيب بين الجمار الثلاث واجب، فيرمي أولاً الجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف، ثم الوسطى، ثم جمرة العقبة. فلو بدأ برمي جمرة العقبة، ثم الوسطى، أو بالوسطى، فإن كان متعمداً عالماً وجب عليه إعادة الوسطى، ثم جمرة العقبة، وإن كان جاهلاً أو ناسياً أجزأه، ولا شيء عليه.
__________
(1) تقدم تخريجه ص 8.
(2) ذكر فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى- في رسالته "صفة الحج " "الأفضل للإنسان أن يرمي
الجمرات في النهار، فإن كان يخشى من الزحام فلا باس أن يرميها ليلاً، وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقت ابتداء الرمي، ولم يوقت انتهاءه، فدل هذا على أن الأمر في ذلك واسع".(24/409)
الفائدة السادسة عشرة في المبيت بمنى:
المبيت بمنى ليلة الحادي عشر، وليلة الثاني عشر واجب.
والواجب المبيت معظم الليل، سواء من أول الليل، أو من آخره.
فلو نزل إلى مكة أول الليل، ثم رجع قبل نصف الليل، أو نزل إلى مكة بعد نصف الليل من منى فلا حرج عليه، لأنه قد أتى بالواجب.
ويجب أن يتأكد من حدود منى، حتى لا يبيت خارجاً عنها، وحدُّها من الشرق وادي محسر، ومن الغرب جمرة العقبة، وليس الوادي والجمرة من منى. أما الجبال المحيطة بمنى، فإن وجوهها مما يلي منى منها، فيجوز المبيت بها، وليحذر الحاج من المبيت في وادي محسر أو من وراء جمرة العقبة، لأن ذلك خارج عن حدود منى، فمن بات به لم يجزئه البيت. الفائدة السابعة عشرة في طواف الوداع:
سبق أن طواف الوداع واجب عند الخروج من مكة على كل حاج، ومعتمر إلا الحائض أو النفساء، لكن إن طهرتا قبل مفارقة بنيان مكة فإنه يلزمهما، وإذا ودع ثم خرج من مكة، وأقام يوماً أو أكثر لم يلزمه إعادة الطواف، ولو كانت إقامته في موضع قريب من مكة.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله، وصحبه أجمعين.
تم بقلم مؤلفه في 7 شعبان سنة 1387 هـ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. وانتهى تصحيحه ضحى يوم الخميس لثلاثة عشر خلت من رمضان لعام 1387 هـ، وصلى الله على محمد، وآله، وصحبه أجمعين.(24/410)
صفة الحج(24/411)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلِّي وأسلِّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإني أتقدم إلى إخواني بما تيسَّر من الكلام على شيء من الحج بمناسبة حلول وقته، راجياً من الله تعالى أن يجعل عمل الجميع خالصا لوجهه، ونافعاً ومقرِّباً إليه، إنه جواد كريم.
والكلام في الحج يتلخص فيما يأتي:
1- الأحكام المتعلقة بالسفر.
2- متى فرض الحج، وعلى مَن يكون فريضة؟
3- من أين يُحرم من أراد الحج أو العمرة؟
4- الأنساك وأفضلها.
5- صفة التمتع من ابتداء الإحرام بالعمرة إلى انتهاء الحج بصفة مختصرة.
6- طواف الوداع.
7- محظورات الإحرام.
8- حكم فاعل هذه المحظورات.
9- زيارة المسجد النبوي.
الأحكام المتعلقة بالسفر
لما كان الحج لابد له من السفر، بل هو نفسه سفر، كان من المهم أن نتكلم عن بعض أحكام السفر هنا. فللسفر أحكام تتعلق به(24/413)
وأهمها ما يتصل بالصلاة، ويتلخص فيما يلي:
(أ) في الطهارة: فالمسافر يجب عليه أن يتطهر بالماء إن وجده في وضوئه وغسله، فإن لم يجده تيمم صعيداً طيباً، فمسح بوجهه ويديه منه، فيضرب الأرض ضربة واحدة، ثم يمسح وجهه كله، وكفيه من أطراف أصابعه إلى كوعه- وهو مفصل كفِّه من ذراعه- وبذلك يكون متطهراً طهارة كاملة لا تنتقض إلا بما تنتقض به طهارة الماء، أو بوجود الماء، فإذا تيمم لصلاة الظهر وبقي على طهارته إلى العصر صلى العصر بلا تيمم، وكذلك لو بقي إلى المغرب والعشاء على طهارته صلاهما بلا تيمم. وإذا حصل على المسافر جنابة ولم يجد الماء تيمم فارتفعت جنابته، فإذا وجد الماء عادت الجنابة ووجب عليه الاغتسال، وإذا أحدث ببول أو غائط ولم يجد الماء تيمم فارتفع حدثه، فإذا وجد الماء عاد حدثه ووجب عليه الوضوء؛ لحديث: "الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسح بشرته ".
وفي حديث آخر: "طَهُور المسلم " رواه أحمد. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح (1) .
والمسافر يمسح على خفيه ثلاثة أيام بلياليها بخلاف المقيم فيوماً وليلة.
(ب) في صلاة الفريضة: فالمسافر يصلي الصلاة الرباعية وهي الظهر والعصر والعشاء الآخرة ركعتين فقط من حين أن يخرج
__________
(1) تقدم تخريجه ص 248.(24/414)
من بلده حتى يرجع إليها، سواء طالت مدة سفره أم قصرت، ففي "صحيح البخاري " عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من المدينة إلى مكة (يعني في حجة الوداع) فكان يصلي ركعتين ركعتين، حتى رجعنا إلى المدينة، فقيل لأنس: أقمتم بها
شيئاً؟ قال: أقمنا بها عشراً (1) . وفيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ركعتين في الحضر والسفر، فأقرَّت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر (2) . وفي رواية أخرى له: فرضت الصلاة ركعتين ثم هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - ففرضت
أربعاً، وتركت صلاة السفر على الأولى (3) . ولمسلم: فأقرت صلاة السفر على الفريضة الأولى (4) .
ولم يُحفظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أتم في سفره مرة واحدة، ولهذا ذهب كثير من أهل العلم إلى أن قصر المسافر الصلاة الرباعية إلى ركعتين واجب. وفي "صحيح البخاري " عن عبد الرحمن بن يزيد قال: صلى بنا عثمان رضي الله عنه بمنى أربع ركعات، فقيل ذلك لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه فاسترجع، ثم قال: صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنى ركعتين، وصليت مع أبي بكر رضي الله عنه بمنى ركعتين، وصليت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمنى ركعتين،
__________
(1) رواه البخاري، كتاب التقصير، باب ما جاء في التقصير، رقم (1081) .
(2) رواه البخاري، كتاب الصلاة، باب كيف فرضت الصلاة في الإسراء، رقم (350) .
(3) رواه البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب التاريخ، من أين أرَّخوا التاريخ، رقم (3935) .
(4) رواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة المسافرين وقصرها، رقم (685) .(24/415)
فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقلبتان (1) .
فجعل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إتمام عثمان رضي الله عنه من المصائب حيث استرجع له، وبيَّن أن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه على خلافه، وقد كان عثمان رضي الله عنه يقصر في منى ست سنين أو ثماني سنين من خلافته، ثم أتم كما في "صحيح مسلم " من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: صلى النبي وبمنى صلاة المسافر وأبو بكر وعمر وعثمان ثماني أو قال: ست سنين (2) . وكان إتمامه لتأويل رآه رضي الله عنه، واختلفت الآثار وأقاويل العلماء
في ذلك التأويل.
أما إذا صلى المسافر خلف إمام يتم فإنه يجب عليه الإتمام، ففي "صحيح مسلم " عن موسى بن سلمة الهذلي قال: سألت ابن عباس: كيف أصلي إذا كنت بمكة إذا لم أصلِّ مع الإمام؟ فقال:
ركعتين سنة أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم - (3) ، وفيه أيضاً عن نافع قال: كان ابن عمر إذا صلى مع الإمام صلى أربعاً، وإذا صلاها وحده صلى ركعتين (4) . وسواء دخل مع الإمام من أول الصلاة أم من أثنائها؛ لعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا " (5) .
__________
(1) رواه البخاري، كتاب التقصير، باب الصلاة بمنى، رقم (1084) .
(2) رواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب قصر الصلاة بمنى، رقم (694) .
(3) رواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة المسافرين وقصرها، رقم (688) .
(4) انظر تخريج الحديث قبل السابق.
(5) رواه البخاري، كتاب الأذان، باب قول الرجل: فاتتنا الصلاة، رقم (635) ، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب إتيان الصلاة بوقار وسكينة، رقم (603) .(24/416)
وأما الجمع للمسافر بين الظهر والعصر أو بين المغرب والعشاء فسنة، حيث كان على ظهر سير، أي حيث كان سائراً؛ لما في "صحيح البخاري " عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين صلاة الظهر والعصر إذا كان على ظهر سير، ويجمع بين المغرب والعشاء (1) ، أما إذا كان نازلاً فالسنة أن لا يجمع؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يجمع بمنى؛ لأنه كان نازلاً، وإن جمع فلا بأس لاسيما إذا احتاج إلى ذلك لشغل يقضيه أو نوم يستريح فيه، وفي "الصحيحين " من حديث أبي جحيفة رضي الله عنه أن النبي خرج من قبة كانت له بالأبطح بمكة، قال أبو جحيفة: خرج بالهاجرة (يعني شدة الحر) إلى البطحاء فتوضأ ثم صلى الظهر ركعتين والعصر ركعتين ... الحديث (2) ، وفي "صحيح مسلم " عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفرة سافرها في غزوة تبوك، فجمع بين الظهر والعصر
والمغرب والعشاء، قال سعيد: فقلت لابن عباس: ما حمله على ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أمته (3) . وله عن معاذ بن جبل رضي الله عنه نحوه تماماً (4) . ومعنى "يحرج أمته " يوقعها في حرج وضيق.
__________
(1) رواه البخاري، كتاب التقصير، باب الجمع في السفر بين المغرب والعشاء، رقم (1107) .
(2) رواه البخاري، كتاب الوضوء، باب استعمال فضل وضوء الناس، رقم (187) ومسلم، كتاب الصلاة، باب سترة المصلي، رقم (503) .
(3) رواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب الجمع بين الصلاتين في الحضر، رقم (705) .
(4) رواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب: الجمع بين الصلاتين في الحضر برقم (706) .(24/417)
(جـ) في صلاة النافلة: فالمسافر يشرع له أن يتطوع بالنوافل كما يتطوع المقيم، فيصلي صلاة الليل والوتر وصلاة الضحى وتحية المسجد وصلاة الكسوف، وفي "صحيح البخاري " عن
عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أعجله السير يؤخِّر المغرب فيصليها ثلاثاً ثم يسلم، ثم قلما يلبث حتى يقيم العشاء فيصليها ركعتين ثم يسلم، ولا يسبح بعد العشاء (يعني لا يتنفل) حتى يقوم من جوف الليل (1) .
وفي "الصحيحين " عن سعيد بن يسار قال: كنت أسير مع عبد الله بن عمر بطريق مكة، فلما خشيت الصبح نزلت فأوترت ثم لحقته، فقال: أين كنت؟ فأخبرته، فقال: أليس لك في رسول الله
أسوة حسنة؟ قلت: بلى والله، قال: إن رسول الله كان يوتر على البعير (2) . وفيهما أيضاً عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: ما أخبرني أحدٌ أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي الضحى إلا أم هانىء، فإنها حدثت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل بيتها يوم فتح مكة فصلى ثماني
ركعات (3) . وفيهما أيضاً عن أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين " (4) .
وفيهما أيضاً من حديث عائشة رضي الله عنها في قصة صلاة
__________
(1) رواه البخاري، كتاب التقصير، باب تصلى المغرب ثلاثاً في السفر، رقم (1091، 1092) .
(2) رواه البخاري، كتاب الوتر، باب الوتر على الدابة، رقم (999) ، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب جواز صلاة النافلة على الدابة في السفر، رقم (700) .
(3) رواه البخاري، كتاب التقصير، باب من تطوع في السفر في غير دبر الصلوات، رقم (1103) ، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب صلاة الضحى، رقم (336 م) .
(4) رواه البخاري، كتاب الصلاة، باب إذا دخل المسجد فليركع ركعتين، رقم (444) ، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب تحية المسجد بركعتين، رقم (714) .(24/418)
الكسوف، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا
ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموهما (يعني منخسفين) فافزعوا إلى الصلاة" (1) ، وهذان الحديثان عامَّان لم يخص النبي - صلى الله عليه وسلم - فيهما وقتاً دون وقت، ولا إقامة دون سفر.
وفي "صحيح البخاري " عن جابر بن عبد الله قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي التطوع وهو راكب في غير القبلة (2) . و (أل) في التطوع تحتمل الجنس وتحتمل الاستغراق، ويؤيد الثاني أن الأصل بقاء التطوع بالنوافل على مشروعيته حتى يرد دليل على تركه، ولم يرد الدليل على الترك فيما نعلم إلا في راتبة الظهر والمغرب والعشاء.
ففي "صحيح مسلم " عن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: صحبت ابن عمر في طريق مكة قال: فصلى لنا الظهر ركعتين ثم أقبل وأقبلنا معه حتى جاء رحله، وجلس وجلسنا معه، فحانت منه التفاتة نحو حيث صلى، فرأى ناساً قياماً فقال: ما يصنع هؤلاء؟ قلت: يسبحون (يعني يصلون نافلة) قال: لو كنت مسبحاً لأتممت صلاتي يا ابن أخي، إني صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السفر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وذكر مثله عن أبي بكر وعمر وعثمان، ثم قال: وقد قال الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (3) [الأحزاب 21] .
__________
(1) رواه البخاري، كتاب الكسوف، باب خطبة الإمام في الكسوف، رقم (1046) ومسلم، كتاب صلاة الكسوف، باب صلاة الكسوف رقم (901) .
(2) رواه البخاري، كتاب التقصير، باب صلاة التطوع على الدواب، رقم (1094) .
(3) رواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة المسافرين، رقم (689) .(24/419)
وسبق من حديثه في الجمع بين المغرب والعشاء ما يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يصلي راتبة لهما، ومراد ابن عمر رضي الله عنهما بقوله: "لو كنت مسبحاً لأتممت " أي لو كنت متطوعاً بما تكمل به فريضتي من راتبة لأتممتها؛ بدليل أنه صحَّ عنه رضي الله عنه أنه كان يتطوع على راحلته ويوتر عليها، ويخبر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفعله.
ومن تراجم البخاري رحمه الله في "صحيحه ": باب من لم يتطوع في السفر دبر الصلاة وقبلها، وباب من تطوع في السفر في غير دبر الصلاة وقبلها.
أما راتبة الفجر فيصليها حضراً وسفراً؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن على شيء من النوافل أشد تعاهداً منه على ركعتي الفجر، ولم يكن يدعهما أبداً كما في "صحيح البخاري" عن عائشة رضي الله عنها (3/42) من "الفتح "، وفي "صحيح مسلم " عن أبي قتادة رضي الله
عنه أنه كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر قصة نومهم عن صلاة الفجر حتى طلعت الشمس، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهم فساروا عن مكانهم، ثم نزل فتوضأ، ثم أذَّن بلال بالصلاة فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين ثم صلى الغداة، فصنع كما يصنع كل يوم، وله نحوه من حديث أبي هر ير ة (1) .
وإنما أطلنا الكلام في تطوع المسافر بالنافلة؛ لأن بعض الناس يري أن لا تطوع للمسافر مطلقاً، وقد تبيَّن مما ذكرنا أن الذي
__________
(1) رواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب قضاء الصلاة الفائتة، رقم (680، 681) .(24/420)
دلَّ عليه الدليل أنه لا يتطوع براتبة الظهر والمغرب والعشاء، وما عدا ذلك من النوافل فباق على مشروعيته. والله الموفق.
وللمسافر أن يتطوع في السفر وهو على ظهر مركوبه حيث كان وجهه، وإن لم يكن إلى جهة القبلة، ففي "صحيح البخاري " عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي على راحلته نحو المشرق، فإذا أراد أن يصلي المكتوبة- يعني الفريضة-
نزل فاستقبل القبلة (1) .
ومن أحكام السفر: أنه ينبغي أن يكون مع المسافر رفقة للإيناس ودفع الحاجة، فلا ينبغي أن يسافر الرجل وحده إلا لحاجة أو مصلحة دينية، للجهاد في سبيل الله ونحوه، ففي "صحيح
البخاري " عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لوْ يعلمُ الناس ما في الوحدة ما أعلم ما سار راكب بليل وحده " (2) .
وينبغي أن يكون معه ما يثبت اسمه وعنوانه حتى لا يخفى لو حصل عليه تلف بحادث أو غيره.
ومن أحكام السفر: أنه لا يجوز للمرأة أن تسافر بدون محرم سواء كان السفر بعيداً أم قريباً، وسواء كان للحج أم لغيره، وسواء كانت شابة جميلة أم عجوزاً شوهاء، وسواء كان معها نساء من
أقاربها وصاحباتها أم لا، وسواء غلب على الظن سلامتها أم لا، وسواء كان ذلك في طيارة أو غيرها، ففي "الصحيحين " من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب يقول: "لا
__________
(1) رواه البخاري، كتاب التقصير، باب ينزل للمكتوبة، رقم (1099) .
(2) رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب السير وحده، رقم (2998) .(24/421)
يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم " فقام رجل فقال: يا رسول الله، إن امرأتي خرجت حاجَّة وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "انطلق فحجَّ مع امرأتك " (1) . فأطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - النهي عن سفر المرأة بدون محرم، ولم يقيده بسفر دون سفر، ولا بامرأة دون أخرى، ولا بحال دون حال، ولم يستفصل الرجل عن امرأته.
والمَحْرمُ زوج المرأة وكل من يحرم عليه نكاحها تحريماً مؤبداً بقرابة أو رضاع أو مصاهرة، فالمحارم من القرابة أو الرضاع سبعة: الأب وإن علا، والابن وإن نزل، والأخ، وابنه وإن نزل، وابن الأخت وإن نزل، والعم وإن علا، والخال وإن علا.
والمحارم من المصاهرة أربعة: أبو زوج المرأة وإن علا، وابن زوج المرأة وإن نزل، وزوج بنت المرأة وإن نزلت، والرابع زوج أم المرأة وإن علت، بشرط أن يكون قد دخل بها.
ويشترط أن يكون المحرم بالغاً عاقلاً، فالصغير والمجنون لا يكفيان لجواز السفر معهما.
وعلى هذا فإذا لم تجد المرأة محرماً لم يجب عليها الحج؛ لأنها لا تستطيع إليه سبيلاً.
متي فرض الحج؟
فرض الحج في السنة التاسعة أو العاشرة من الهجرة على أرجح أقوال أهل العلم؛ لأن فرضه كان بقوله تعالى:
__________
(1) رواه البخاري، كتاب النكاح، باب لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم، رقم (5233) ، ومسلم، كتاب الحج، باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره، رقم (1341) .(24/422)
(وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)) (1) ، وتلك الآية في صدر سورة آل عمران النازل عام الوفود سنة تسع من الهجرة، وحكمة تأخر فرضه- والله أعلم- أن مكة- زادها الله شرفاً- كانت قبل تلك السنة تحت سيطرة المشركين من قريش، فليس يتسنى للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أن يحجوا على الوجه الأكمل، وما أمر عمرة الحديبية ببعيد، فقد صدَّ المشركون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه سنة ست من الهجرة عن إتمام عمرتهم.
والحج فريضة على كل مسلم بالغ عاقل مستطيع للحج بماله وبدنه.
فأما غير البالغ، فلا يجب الحج عليه، لكن يصح منه، وله فيه أجر حج التطوع، وإذا بلغ أدَّى الفريضة؛ لأن حجه قبل بلوغه حج قبل وقت خطابه به، فهو كما لو أدى صلاة الفريضة قبل وقتها.
والعاجز عن الحج بماله كالفقير والرقيق لا يجب عليه الحج؛ لقوله تعالى: (مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) وهذا غير مستطيع فلا يجب عليه.
وأما العاجر ببدنه فقط: فإن كان عجزه لا يرجى زواله كالكبر والمرض المستمر فإنه يوكِّل من يحج عنه، وإن كان عجزه يرجى زواله كالمرض الطارئ فإنه ينتظر حتى يشفى منه ثم يحج، فإن مات قبل ذلك حُجَّ عنه من تركته.
ومتى وجب الحج على المسلم وجب عليه المبادرة إلى
__________
(1) سورة آل عمران، الآية: 97.(24/423)
أدائه؛ لأن أوامر الله ورسوله إذا لم تكن مقيدة بوقت، ولم تقم قرينة على أنها للتراخي فهي على الفور. ولحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "تعجلوا إلى الحج- يعني الفريضة- فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له " رواه أحمد، وفي سنده ضعف (1) .
لكن القول بالفورية له أدلَّة عامَّة تؤيد هذا الحديث.
من أين يحرم من أراد الحج أو العمرة؟
يحرم من أراد الحج أو العمرة من المواقيت التي وقَّتها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي خمسة:
أحدها: ذو الحليفة، ويسمى (أبيار على) لأهل المدينة، ومَن مرَّ بها من غيرهم.
الثاني: الجحفة، وهي قرية قديمة خربت، فجعل الناس بدلها (رابغاَّ) لأهل الشام، ومن مرَّ بها من غيرهم إن لم يمروا بذي الحليفة قبلها.
الثالث: يلملم، وهو جبل أو مكان بتهامة، ويسمى (السعدية) لأهل اليمن ومن مَرَّ به من غيرهم.
الرابع: قرن المنازل،، ويسمى (السيل) لأهل نجد، ومن مَرَّ به من غيرهم.
الخامس: ذات عرق، ويسمى (الضريبة) لأهل العراق، ومن مَرَّ بها من غيرهم.
فمَن مرَّ بهذه المواقيت وهو يريد الحج أو العمرة وجب عليه أن يحرم.
__________
(1) رواه الإمام أحمد (1/313) .(24/424)
ومن حاذاها من طريق الجو أو البحر وجب عليه أن يحرم عند محاذاتها، ولا يجوز له تأخير الإحرام حتى يهبط في المطار أو يرسي في الميناء؛ لأن هذا من تعدي حدود الله، (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (1) .
ومَن كان دون هذه المواقيت من مكة أحرم من موضعه حتى من في مكة يحرمون من مكة إلا للعمرة فيحرمون من خارج الحرم أي من وراء الأميال من الحل؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبد الرحمن بن أبى بكر: "اخرج بأختك (يعني عائشة) من الحرم فلتهل بعمرة" (2) .
ومن مرَّ بهذه المواقيت لا يريد حجًّا ولا عمرة كمن يريد تجارة أو زيارة قريب أو طلب علم ونحوها لم يجب عليه الإحرام؛ لأن الحج والعمرة لا يجبان في العمر أكثر من مرة، ولا إحرام إلا في
حج أو عمرة.
الأنساك وأفضلها:
الأنساك ثلاثة: التمتع والقِران والإفراد.
فالتمتع: أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج (أي بعد دخول شهر شوال) ويفرغ منها ثم يحرم بالحج من عامه.
والقِران: أن يقرن بين الحج والعمرة، فيحرم بهما جميعاً، أو يحرم بالعمرة وحدها ثم يدخل الحج عليها قبل الشروع في طوافها.
والإفراد: أن يحرم بالحج وحده.
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 229.
(2) رواه البخاري، كتاب الحج، باب قول الله تعالى: (الحج أشهر معلومات) رقم (1560) ومسلم، كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام، رقم (1211) .(24/425)
وجمهور العلماء على أن الإنسان مخيَّر بين هذه الأنساك، واختلفوا في الأفضل منها، والصحيح أن الأفضل التمتع؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر به أصحابه وحثَّهم عليه، ولأنه أكثر عملاً، لأنه يأتي بأفعال العمرة كاملة وأفعال الحج كاملة، ولأنه أيسر من غيره لمن قدم مكة في وقت مبكر، حيث يتمتع بالحل فيما بين العمرة والحج.
ويجب بالتمتع هدي شكران لا جبران مما يجزئ في الأضحية من شاة أو سبع بدنة أو سبع بقرة، يذبحه يوم العيد أو في الأيام الثلاثة بعده، ويفرقه بمنى أو بمكة ويأكل منه، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج لا يتجاوز بهن الأيام الثلاثة بعد العيد وسبعة أيام إذا رجع.
والقارن كالمتمتع في وجوب الهدي أو بدله.
صفة التمتع من ابتداء الإحرام إلى انتهاء الحج بصفة مختصرة.
(أ) العمرة:
1- إذا أراد أن يحرم بالعمرة اغتسل كما يغتسل للجنابة، وتطيب بأطيب ما يجد في رأسه ولحيته، ولبس إزاراً ورداء أبيضين، والمرأة تلبس ما شاءت من الثياب غير ألا تتبرج بزينة.
2- ثم يصلي الفريضة إن كان وقت فريضة؛ ليحرم بعدها، فإن لم يكن وقت فريضة صلى ركعتين بنية سنة الوضوء لا بنية سنة الإحرام؛ لأنه لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن للإحرام سنة.
3- ثم إذا فرغ من الصلاة نوى الدخول في العمرة، فيقول:(24/426)
(لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، لبيك اللهم عمرة) .
يرفع الرجل صوته بذلك وتخفيه المرأة.
ويسن الإكثار من التلبية حتى يبدأ بالطواف فيقطعها.
4- فإذا وصل إلى مكة بدأ بالطواف من حين قدومه فيقصد الحجر الأسود فيستلمه (أي يمسحه) بيده اليمنى ويقبِّله إن تيسر بدون مزاحمة وإلا أشار إليه، ويكبر ثم ينحرف فيجعل البيت عن
يساره، فإذا مرَّ بالركن اليماني وهو آخر ركن يمر به بعد ركن الحجر استلمه بيده اليمنى إن تيسر بدون تقبيل، ويطوف سبعة أشواط، يرمل الرَّجُلُ في الأشواط الثلاثة الأولى، ويضطبع في جميع
الطواف.
والرمل: الإسراع في المشي مع مقاربة الخطأ.
والاضطباع: أن يجعل وسط ردائه تحت إبطه الأيمن وطرفيه على عاتقه الأيسر.
ويذكر الله ويسبحه في طوافه، ويدعو بما أحب في خشوع وحضور قلب، كلما أتى الحجر الأسود كبَّر، ويقول بين الركن اليماني والحجر الأسود: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)) (1) . وأما التقيد بدعاء معين لكل شوط فليس له أصل من السنة بل هو بدعة محدثة.
5- فإذا فرغ من الطواف صلى ركعتين وراء مقام إبراهيم، ولو بَعُدَ عنه، يقرأ بعد الفاتحة في الأولى: (قُلْ يَا أَيُّهَا
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 201.(24/427)
الْكَافِرُونَ (1)) ، وفي الثانية: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)) .
6- ثم يطوف بالصفا والمروة- أي بينهما- سبعة أشواط، يبدأ بالصفا ويختم بالمروة، والسنة أن يصعد عليهما ويقف مستقبل القبلة رافعاً يديه ويذكر الله ويدعوه، والسنَّة للرَّجل أن يسعى بين
العَلَمين الأخضرين سعياً شديداً.
7- فإذا أتم السعي قصَّر من شعر رأسه يعمّه بالتقصير، وتقصر المرأة منه قدر أنملة.
وبذلك تمت العمرة، وحلَّ من إحرامه فيتمتع بكل ما أحل الله له قبل الإحرام من اللباس والطيب والنكاح وغير ذلك.
(ب) الحج:
1- فإذا كان يوم التروية وهو اليوم الثامن من ذي الحجة أحرم بالحج من مكانه الذي هو نازل فيه، ويفعل عند إحرامه كما فعل عند إحرام العمرة من الغسل والطيب ولبس ثياب الإحرام.
2- فإذا فرغ من ذلك نوى الدخول في الحج، فيقول: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، لبيك اللهم حجًّا) .
يرفع الرجل صوته بذلك وتخفيه المرأة.
ويسن الإكثار من التلبية حتى يرمي جمرة العقبة يوم العيد فيقطعها.
3- ثم يخرج إلى منى فيصلي بها الظهر والعصر والمغرب(24/428)
والعشاء والفجر، يقصر الرباعية إلى ركعتين ولا يجمع.
4- فإذا طلعت الشمس من اليوم التاسع سار إلى عرفة فينزل بنمرة إن تيسَّر له إلى الزوال وإلا نزل بعرفة، فإذا زالت الشمس صلى الظهر والعصر قصراً وجمعاً، ثم تفرَّغ لذكر الله ودعائه،
يستقبل القبلة في ذلك ولو كان الجبل خلفه حتى تغرب الشمس.
5- فإذا غربت الشمس سار إلى مزدلفة فصلى بها المغرب ثلاثاً والعشاء ركعتين ويبيت بها، فإذا صلى الفجر اشتغل بذكر الله ودعائه حتى يسفر جداً.
6- فإذا أسفر جداً سار إلى منى، فإذا وصل إليها بدأ برمي جمرة العقبة وهي أقرب الجمرات إلى مكة، فيرميها بسبع حصيات متعاقبات، كل حصاة فوق الحمصة قليلاً، ويُكبِّر مع كل حصاة
بخشوع وتعظيم لله تعالى.
فإذا فرغ من رميها نحر هديه إن تيسر، ثم حلق رأسه كله أو قصره، والحلق أفضل إلا المرأة فتقصر من رأسها بقدر أنملة.
وبالرمي والحلق أو التقصير يحل من إحرامه التحلل الأول، فيلبس ثيابه ويتطيب ويفعل كل ما أحل الله له قبل الإحرام ما عدا النساء، فإنه لا يحل له ما يتعلق بهن حتى يحل التحلل الثاني.
ثم ينزل إلى مكة فيطوف طواف الحج، ويسعى بين الصفا والمروة على صفة ما سبق في طواف العمرة وسعيها؛ إلا أنه لا يرمل في الطواف ولا يضطبع؛ لأنهما (أعني الرمل والاضطباع) لا
يشرعان في غير الطواف أول ما يقدم.
وبالطواف والسعي المسبوقين برمي الجمرة والحلق أو(24/429)
التقصير يحل التحلل الثاني، فيحل له كل ما أحل الله له قبل الإحرام حتى النساء.
وخلاصة ما يفعل من الأنساك يوم العيد ما يلي:
* رمي جمرة العقبة.
* نحر الهدي.
* الحلق أو التقصير.
* الطواف والسعي.
والسنة أن يرتبها هكذا، وإن لم يتيسر له فقدم بعضها على بعض فلا حرج.
7- ويبيت بمنى ليلة الحادي عشر والثاني عشر.
8- ويرمي الجمرات الثلاث في هذين اليومين بعد الزوال، يبدأ بالجمرة الأولى وهي أبعد الجمرات عن مكة، فيرميها بسبع حصيات متعاقبات، ويُكبِّر مع كل حصاة، فإذا فرغ منها تقدم قليلاً
عن الزحام، فوقف مستقبل القبلة رافعاً يديه يدعو الله تعالى بما أحب دعاء طويلاً، ثم يرمي الجمرة الثانية ويقف بعدها للدعاء كما فعل في الأولى سواء.
ثم يرمي الجمرة الثالثة، وهي جمرة العقبة التي رماها يوم العيد كما رمى الجمرتين قبلها، ولا يقف بعدها للدعاء.
9- فإذا أتم رمي الجمرات الثلاث في اليوم الثاني عشر، فإن شاء تأخَّر في منى لليوم الثالث عشر ورمى الجمار فيه بعد الزوال وهو أفضل؛ لأنه فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه زيادة عمل صالح. وإن شاء تعجل في يومين فخرج من منى في اليوم الثاني عشر قبل الغروب.(24/430)
وينبغي أن يكثر من التكبير والذكر في تلك الأيام والليالي؛ لقوله تعالى: (* وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)) (1) ، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل " (2) .
وبهذا تمت أفعال الحج.
طواف الوداع:
إذا أنهى الحاج جميع أفعال الحج وأراد الرجوع إلى بلده؛ فإنه لا يخرج من مكة حتى يطوف بالبيت طواف الوداع، يجعله آخر أموره عند سيره.
وليس على الحائض والنفساء طواف وداع؛ لقول ابن عباس رضي الله عنهما: "أُمِر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفِّف عن الحائض " (3) .
محظورات الإحرام
محظورات الإحرام هي الأشياء المحرمة في الإحرام بسبب الإحرام:
وتتلخص فيما يلي:
1- إزالة الشعر من الرأس بحلق أو غيره، وألحق به جمهور العلماء
__________
(1) سورة البقر ة، الآية: 203.
(2) رواه مسلم، كتاب الصيام، باب تحريم صوم أيام التشريق، رقم (1141) .
(3) تقدم تخريجه ص 299.(24/431)
شعر بقية الجسم.
2- إزالة الظفر من اليدين أو الرجلين، ألحقه جمهور العلماء بالشعر بجامع الترفه.
3- استعمال الطيب بعد الإحرام في البدن أو الثوب أو المأكول أو المشروب.
4- لبس القفازين وهما شراب اليدين.
5- المباشرة لشهوة.
وفدية هذه المحظورات الخمسة على التخيير كما ذكره الله تعالى في القرآن في حلق الرأس، وقيس عليه الباقي، فيخير بين صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، أو
ذبح شاة، ويفرق الطعام والشاة على المساكين إما في مكة أو في مكان فعل المحظور.
6- الجماع في الفرج، وإذا وقع في الحج قبل التحلل الأول ترتب عليه أربعة أمور:
* فساد النسك الذي وقع فيه الجماع.
* وجوب المضي فيه.
* وجوب قضائه من العام القادم.
* فدية نحر بدنة يفرقها على المساكين في مكة أو في مكان الجماع.
7- عقد النكاح، وليس فيه فدية، لكن النكاح يفسد سواء كان المحرم الزوج أو الزوجة أو الولي أو وكيله فيه.
8- قتل الصيد البري المتوحش، وعليه جزاؤه وهو ذبح مثله يفرقه على فقراء الحرم، أو تقويمه بطعام يفرقه على فقراء الحرم، أو(24/432)
يصوم عن إطعام كل مسكين يوماً.
وهذه المحظورات الثمانية حرام على كل محرم ذكراً كان أم أنثى، ويختص الذكر بالمحظورين التاليين:
1- تغطية الرأس بملاصق، فأما غير الملاصق كالخيمة وسقف السيارة والشمسية فلا بأس به.
2- لبس المخيط، وهو كل ما خيط على قدر البدن أو على جزء منه أو عضو من أعضائه كالقميص والسراويل والخفين، فأما الإزار والرداء المرقع فلا بأس به، وكذلك لا بأس بلبس الخاتم والساعة ونظارة العين وسماعة الأذن ووعاء النفقة ونحوها.
وتختص الأنثى بالمحظور التالي:
تغطية الوجه على أي صفة كانت، وقال بعض العلماء: المحظور عليها النقاب فقط، وهو أن تغطي وجهها بغطاء منقوب لعينيها فيه، والأوْلى أن لا تغطيه مطلقاً، إلا أن يراها رجال غير محارم لها فيجب عليها ستره في حال الإحرام وغيره.
وفدية هذه المحظورات الخاصة على التخيير كفدية الخمسة السابقة.
حكم فاعل هذه المحظورات:
لفاعل المحظورات السابقة ثلاث حالات:
الأولى: أن يفعل المحظور بلا حاجة ولا عذر، فهذا آثم، وعليه فديته.
الثانية: أن يفعله لحاجة، فليس بآثم، وعليه فدية. قال الله تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا(24/433)
رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)) (1) ، فلو احتاج إلى تغطية رأسه من أجل بردٍ أو حر يخاف منه جاز له تغطيته، وعليه الفدية على التخيير بين ما سبق.
الثالثة: أن يفعله وهو معذور بجهل أو نسيان أو إكراه أو نوم، فلا إثم عليه ولا فدية؟ لقوله تعالى: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) (2) ، وفي الحديث عن النبي أنه قال: "إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " (3) ، لكن متى زال العذر فعلم بالمحظور، أو ذكره، أو زال إكراهه، أو استيقظ من نومه وجب عليه التخلي عنه- أي عن المحظور- فوراً.
زيارة المسجد النبوي:
المسجد النبوي أحد المساجد الثلاثة التي لا تشد الرحال إلا إليها، وهي: المسجد الحرام في مكة، والمسجد النبوي في
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 196.
(2) سورة البقرة، الآية: 286.
(3) تقدم تخريجه ص 386.(24/434)
المدينة، والمسجد الأقصى في القدس. والصلاة في المسجد النبوي خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، ومن أجل هذا تُشرع زيارة المسجد للصلاة فيه كل وقت وليس خاصًّا في وقت
الحج، ولا علاقة له بالحج، فالحج يكمل بدونه، ولا ينقص بتركه، لكن الناس جعلوه مع الحج ليكون السفر لهما واحداً لاسيما لمن يشق عليه إفراد كل واحد منهما بسفر كأهل الأقطار البعيدة.
فإذا دخل المسجد صلى فيه ما شاء الله ثم ذهب إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فوقف أمامه وقال: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
ثم يخطو عن يمينه قليلاً ليسلم على أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فيقول: السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أمته، رضي الله عنك وجزاك عن أمة محمد خيراُ.
ثم يخطو عن يمينه قليلاً ليسلم على عمر رضي الله عنه فيقول: السلام عليك يا أمير المؤمنين عمر، رضي الله عنك، وجزاك عن أمة محمد خيراً.
ْويخرج إلى مسجد قباء متطهراً ويصلي فيه.
ويزور البقيع وهو مقبرة المدينة فيسلم على عثمان رضي الله عنه، يقف على قبره ويقول: السلام عليكم يا أمير المؤمنين(24/435)
عثمان، رضي الله عنك، وجزاك عن أمة محمد خيراً، ويسلِّم على أهل البقيع ويدعو لهم بالمغفرة والرحمة.
ويخرج إلى أُحد فيزور قبر حمزة عم النبي - صلى الله عليه وسلم - ومَن هناك من الشهداء ويترضى عنهم، ويدعو لهم بالمغفرة والرحمة.
والمرأة لا تزور القبور لا قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا قبور غيره. وليس في المدينة شيء يُشرع قصده من المساجد وغيرها سوى ما ذكرنا.
والله الموفق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
كتبه الفقير إلى الله
محمد الصالح العثيمين(24/436)
شرح حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - في صفة حج النبي - صلى الله عليه وسلم -(24/437)
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله، وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان، وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد:
فإن هذا الكتاب يحتوي على شرع لفضيلة شيخنا محمد بن صالح العثيمين- رحمه الله تعالى- لحديث جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- في صفة حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقد جاء هذا الشرح ضمن الدروس العلمية التي كان يعقدها فضيلته- رحمه الله تعالى- في "بلوغ المرام "، و"صحيح مسلم " بالجامع الكبير في مدينة عنيزة.
ورغبة في تقديمه إلى القارئ المتطلع إلى معرفة المسائل والأحكام الفقهية في مناسك الحج والعمرة كما وردت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتسهيلاً لتناوله، تمَّ إخراج هذا الشرح مفرداً.
وقد عهدت مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية إلى الشيخ مساعد بن عبد الله السلمان- أثابه الله- بالعمل لإعداد هذا الكتاب للنشر، وتخريج أحاديثه وآثاره، فجزاه الله خيراً.
نسأل الله تعالى أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، موافقاً لمرضاته، نافعاً لعباده، وأن يجزي فضيلة شيخنا عن(24/439)
الإسلام والمسلمين خير الجزاء، ويضاعف له المثوبة والأجر، ويعلي درجته في المهديين، إنه سميع قريب. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله، وأصحابه،
والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللجنة العلمية
في مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية
25/10/1424 هـ(24/440)
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله الله تعالى بالهدى، ودين الحق، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله تعالى حق جهاده، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله، وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن من شروط العبادة الإخلاص لله، والمتابعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهما الركنان الأساسيان في كل عبادة. فلا تقبل عبادة بشرك، ولا تقبل ببدعة. فالشرك ينافي الإخلاص، والبدعة تنافي الاتباع. ولا تتحقق المتابعة إلا بمعرفة الصفة والكيفية التي أدى النبي - صلى الله عليه وسلم - العبادة عليها. ومن ثم احتاج العلماء- رحمهم الله- إلى بيان صفات العبادات، فبينوا صفة الوضوء، وصفة الصلاة، وصفة الزكاة، وصفة الصيام، وصفة الحج وغير ذلك، حتى يعبد الناس
الله عز وجل على شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
فحديث جابر- رضي الله عنه- الطويل المشهور في صفة حج النبي - صلى الله عليه وسلم - جعله بعض العلماء عمدة لصفة الحج (1) ، ومنسكاً
__________
(1) قال النووي- رحمه الله- تعالى في شرحه على صحيح مسلم (8/402) . حديث جابر=(24/441)
كاملاً؛ لأن جابراً رضي الله عنه ضبط حج الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أوله إلى آخره، فذكر رضي الله عنه:
"أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكث تسع سنين لم يحج، ثم أذن في الناس في العاشرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاج، فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويعمل مثل عمله، فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة، فولدت أسماء بنت عُمَيْس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كيف أصنع؟ قال: "اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي ". فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرتُ إلى مد بصري بين يديه من راكب وماش، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن، وهو يعرف تأويله، وما عمل به من شيء عملنا به فأهلَّ بالتوحيد "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك ". وأهلَّ الناس بهذا الذي يهلون به، فلم يَرُدَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليهم شيئاً منه. ولزم رسول الله تلبيته، قال جابر رضي الله عنه: لسنا ننوي إلا الحج- لسنا نعرف
العمرة- حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن، فرمل ثلاثاً، ومشى أربعاً ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقرأ (وَاتَّخِذُوا
__________
= حديث عظيم مشتمل على جمل من الفوائد، ونفائس من مهمات القواعد، وهو من أفراد مسلم لم يروه البخاري في صحيحه، ورواه أبو داود كرواية مسلم. قال القاضي وقد تكلم الناس على ما فيه من الفقه وأكثروا، وصنف فيه ابن المنذر جزءاً، وخرج من الفقه مائة ونيفا وخمسين نوعا، ولو تقصي لزيد على هذا القدر قريب منه ا. هـ.(24/442)
مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً) (1) ؛ فجعل المقام بينه وبين البيت، فكان أبي يقول ولا أعلمه ذكره إلا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: كان يقرأ في الركعتين (قُل هُوَ اللَّهُ أَحَد (1)) ، (قُلْ يَآ أَيُّهَا الكَافِرُونَ (1)) ؛ ثم رجع إلى الركن فاستلمه ثم خرج من الباب إلى الصفا؛ فلما دنا من الصفا
قرأ (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) (2) " أبدأ بما بدأ الله به "، فبدأ بالصفا فرقي عليه، حتى رأى البيت فاستقبل القبلة، فوحد الله وكبره، وقال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده " ثم دعا بين ذلك. قال مثل هذا ثلاث مرات، ثم نزل إلى المروة، حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى حتى إذا صعدتا مشى، حتى أتى المروة، ففعل على المروة كما فعل على الصفا، حتى إذا كان آخر طوافه على المروة، فقال: "لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة". فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله! ألعامنا هذا أم لأبد؟ فشبك رسول الله أصابعه واحدة في الأخرى وقال: "دخلت العمرة في الحج " مرتين "لا بل لأبد أبد". وقدم عليٌّ من اليمن ببدن النبي - صلى الله عليه وسلم - فوجد فاطمة رضي الله عنها ممن حل ولبست ثياباً صبيغا واكتحلت، فأنكر ذلك عليها، فقالت: إن أبي أمرني بهذا. قال: فكان عليٌّ يقول بالعراق: فذهبت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محرشاً على
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 125.
(2) سورة البقرة، الآية: 158.(24/443)
فاطمة للذي صنعت مستفتياً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما ذكرت عنه. فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها. فقال: "صدقت صدقت ماذا قلت حين فرضت الحج؟ " قال قلت: اللهم إني أهلُّ بما أهلَّ به رسولك.
قال: "فإن معي الهدي فلا تحل " قال: فكان جماعة الهدي الذي قدم به علي من اليمن، والذي أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - مائة. قال فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن كان معه هدي. فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج. وركب رسول الله فصلى بها الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والفجر. ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة فسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية.
فأجاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها، حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له، فأتى بطن الوادي، فخطب الناس وقال: "إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا كل
شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، ديان أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث كان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع وأول
ربا أضع ربانا ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله، فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن(24/444)
بالمعروف. وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله. وأنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون؟ " قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء
وينكتها إلى الناس "اللهم اشهد! اللهم اشهد" ثلاث مرات. ثم أذن ثم أقام، فصلى الظهر، ثم أقام، فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئاً، ثم ركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه، واستقبل
القبلة، فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس، وذهبت الصفرة قليلاً حتى غاب القرص، وأردف أسامة خلفه، ودفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد شنق للقصواء الزمام، حتى أن رأسها ليصيب مورك رحله ويقول بيده اليمنى "أيها الناس السكينة السكينة" كلما أتى حبلا من الحبال
أرخى لها قليلاً حتى تصعد، حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئاً، ثم اضطجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى طلع الفجر، وصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، فدعاه وكبره وهلله ووحده، فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً، فدفع قبل أن تطلع الشمس، وأردف الفضل بن عباس، وكان رجلاً حسن الشعر أبيض وسيماً، فلما دفع رسول الله مرت به ظعن
يجرين، فطفق الفضل ينظر إليهن، فوضع رسول الله يده على وجه الفضل فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر، فحول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده من الشق الآخر على وجه الفضل، يصرف وجهه من الشق الآخر ينظر حتى أتى بطن محسر، فحرك قليلاً، ثم سلك(24/445)
الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها، مثل حصى الخذف. رمى من بطن الوادي، ثم انصرف إلى المنحر، فنحر ثلاثاً وستين بيده، ثم أعطى علياً فنحر ما غبر، وأشركه في هديه، ثم أمر من كل بدنه ببضعة، فجعلت في قدر فطبخت، فأكلا من لحمها، وشربا من مرقها، ثم ركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأفاض إلى البيت، فصلى بمكة الظهر، فأتي بني عبد المطلب يسقون على زمزم
فقال: "انزعوا بني عبد المطلب! فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم "، فناولوه دلوا فشرب منه " (1) .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب حجة النبي- (1218) ، وأبو داود في كتاب المناسك، باب صفة حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - (1955) ، وابن ماجه في كتاب المناسك، باب حجة
رسول الله (3074) .(24/446)
شرح الحديث
قال جابر رضي الله عنه: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكث تسع سنين لم يحج، ثم أذن في الناس في العاشرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاج، فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويعمل مثل عمله، فخرجنا معه ".
قوله: "فخرجنا معه " كان ذلك في الخامس والعشرين من ذي القعدة في يوم السبت، بعد أن أعلم الناس في خطبة الجمعة كيف يحرمون، وسئل ماذا يلبس المحرم، وأوضح للناس مبادئ النسك. وبقي في ذي الحليفة، وبات بها، وفي اليوم التالي اغتسل ولبس ثياب إحرامه، ثم أحرم.
وقوله: "حتى أتينا ذا الحليفة فولدت أسماء" أتى بحرف (الفاء) لأنها معطوفة على جملة هي جواب الشرط يعني: حتى إذا أتينا ذا الحليفة نزل وصار كذا كذا فولدت.
وذو الحليفة ميقات أهل المدينة، وتعرف الآن بأبيار علي، وهي مكان بينه وبين المدينة نحو تسعة أميال وبينه وبين مكة عشر مراحل، وسمي بذي الحليفة لكثرة هذا الشجر فيه وهي شجر الحَلْفَاء وهي معروفة.
وقوله: "فولدت أسماء بنت عميس "، وهي زوجة أبي بكر رضي الله عنه ولدت محمد بن أبي بكر فأرسلت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كيف تصنع، فقال لها: "اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي "، فأمرها(24/447)
بالاغتسال للإحرام وليس لرفع الحدث، لأن الحدث لا زال باقياً، وأمرها أن تستثفر بثوب، يعني تتعصب به، وتشد عليها ثوباً حتى لا يخرج شيء من هذا الدم.
وقوله: "وأحرمي "، وأطلق لها الإحرام. وقد أحرم الناس من ذي الحليفة على وجوه ثلاثة منهم من أحرم بالحج، ومنهم من أحرم بالعمرة، ومنهم من أحرم بالحج والعمرة. ولم يقل لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: "افعلي ما يفعل الحاج "، كما قال لعائشة رضي الله عنها لأنها إنما أرسلت تسأل عن قضية معينة وهي الإحرام كيف تحرم، وقد أصابها ما أصابها ولم تسأله عن بقية النسك، ولهذا أخطأ ابن حزم (1) - رحمه الله- حيث قال: إن النفساء يجوز لها أن تطوف البيت بخلاف الحائض، واستدل لقوله بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة رضي الله عنها: "افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت " (2) .
ولو كان الطواف بالبيت ممنوعاً بالنسبة للنفساء لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم - فأجاب الجمهور بأن المرأة لم تسأل عما تفعل في النسك، وإنما تسأل ماذا تصنع عند الإحرام، فبين لها النبي يكيف تصنع.
وقوله: "وصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد" يعني مسجد ذي الحليفة.
وقوله: "ثم ركب القصواء" هو لقب ناقته وله ناقة تسمى العضباء. وقد ذكر ابن القيم- رحمه الله- في أول زاد المعاد (3) ما
__________
(1) انظر: المحلي (5/189) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب الحيض/باب الأمر بالنفساء إذا نفست (294) ، ومسلم في كتاب الحج/باب بيان وجوه الإحرام (2910) .
(3) (1/123) .(24/448)
يلقب من دوابه صلوات الله وسلامه عليه.
وقوله: "حتى إذا استوت به على البيداء" يعنى علت به على البيداء. والبيداء جبل صغير طرف ذي الحليفة.
وقوله: "نظرت إلى مد بصري بين يديه من راكب وماش، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك " أي أنهم كثير وقد قدروا بنحو مائة ألف الذين حجوا مع رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - يعني لم يبق من الصحابة رضي الله عنهم إلا أربعة وعشرون ألفاً وإلا فكلهم جوا معه، لأنه أعلن عليه الصلاة والسلام للناس أنه سيحج فقدم الناس كلهم من أجل أن ينظروا إلى حج النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقتدوا به.
وقوله: " وهو يعرف تأويله " المراد بالتأويل هنا التفسير، فإن أعلم الخلق بمعاني كلام الله تعالى هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولهذا قال العلماء- رحمهم الله- يرجع في التفسير إلى القرآن الكريم، ثم إلى السنة، ثم إلى أقوال الصحابة، ثم إلى كلام التابعين الذين أخذوا عن الصحابة رضي الله عنهم.
وقوله: "ثم أهلَّ بالتوحيد"، أي رفع صوته بالتوحيد قائلاً: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك " رفع صوته بهذه الكلمات العظيمة التي سماها جابر رضي الله عنه توحيداً لأنها تضمنت التوحيد والإخلاص.
ولبيك كلمة إجابة. والدليل على هذا ما ورد في الصحيح "أن(24/449)
الله تعالى يقول يوم القيامة: يا آدم فيقول: لبيك " (1) ، وتحمل معنى الإقامة من قولهم ألبَّ بالمكان: أي أقام فيه، فهي متضمنة للإجابة والإقامة. الإجابة لله، والإقامة على طاعته. ولهذا فسرها بعضهم
بقوله: لبيك أي أنا مجيب لك مقيم على طاعتك. وهذا تفسير جيد.
فإذا قال قائل: أين النداء من الله حتى يلبيه المحرم؟
(وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً) (2) ، أي أعلم الناس بالحج، أو ناد فيهم بالحج و (يَأْتُوكَ رِجَالاً) أي: على أرجلهم، وليس المعنى ضد الإناث. والدليل على أنهم على أرجلهم ما بعدها
(وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)) .
وهذه قاعدة مفيدة في التفسير (فإنه قد يعرف معنى الكلمة بما يقابلها) .
ومثلها قوله تعالى: وهو أخفى من الآية التي معنا: (فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً) (3) ؛ فمعنى ثبات: متفرقون، مع أن ثبات يبعد جداً أن يفهمها الإنسان بهذا المعنى، لكن لما ذكر بعدها (أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً) علم أن المراد بالثبات المتفرقون.
والتثنية في التلبية هل المقصود بها حقيقة التثنية أي أجبتك مرتين أم المقصود بها مطلق التكثير؟
__________
(1) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء/باب قصة يأجوج ومأجوج (3348) ، وأخرجه مسلم في كتاب الأيمان/باب قوله: "يقول الله لآدم " (222) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(2) سورة الحج، الآية: 27.
(3) سورة النساء، الآية: 71،(24/450)
الجواب: المقصود بها الثاني. لأن المعنى إجابة بعد إجابة، وإقامة بعد إقامة، فالمراد بها مطلق التكثير، أي: مطلق العدد، وليس المراد مرتين فقط.
ولهذا قال النحويون: إنها ملحقة بالمثنى وليست مثنى حقيقة، لأنه يراد بها الجمع والعدد الكثير.
ولماذا جاءت بالياء الدالة على أنها منصوبة؟
قالوا: لأنها مصدر لفعل محذوف وجوبا لا يجمع بينه وبينها، والتقدير ألبيت إلبابين لك.
ألببت يعني: أقمت بالمكان إلبابين.
لكن حصل فيها حذف حرف الهمزة، وصارت لبابين بعد حذف الهمزة.
ثم قيل: تحذف أيضاً الباء الثانية، فنقول لبيك، والياء علامة للإعراب.
وقوله: "اللهم " معناها: يا الله، لكن حذفت ياء النداء، وعوض عنها الميم، وجعلت الميم أخيراً ولم تكن في مكان الياء تبركا بذكر اسم الله ابتداءً، وعوض عنها الميم، لأن الميم أدل على الجمع. ولهذا كانت الميم من علامات الجمع.
فكان الداعي جمع قلبه على ربه عز وجل لأنه يقول يا الله.
وقوله: "لبيك " الثانية من باب التوكيد اللفظي ولم يتغير عن لفظ الأول؛ لكن له معنى جديداً، فيكرر ويؤكد أنه مجيب لربه، مقيم على طاعته: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، لأنك تجيب الله عز وجل، وكلما أجبته ازددت إيماناً به وشوقاً إليه،(24/451)
فكان التكرير مقتضى الحكمة. ولهذا ينبغي لك أن تستشعر- وأنت تقول: لبيك- نداء الله عز وجل لك، وإجابتك إياه لا مجرد كلمات تقال.
وقوله: "لا شريك لك " أي: لا شريك لك في كل شيء، وليس في التلبية فقط لأنه أعم، أي: لا شريك لك في ملكك. ولا شريك لك في ألوهيتك ولا شريك لك في أسمائك وصفاتك، ولا
شريك لك في كل ما يختص بك.
ومنها إجابتي هذه الإجابة، فأنا مخلص لك فيها، ما حججت رياء ولا سمعة، ولا للمال ولا لغير ذلك، إنما حججت لك، ولبَّيت لك فقط.
وقوله: "لا شريك لك " إعرابها: لا نافية للجنس، وشريك: اسمها، ولك خبرها، والنافية للجنس أعم من النافية لمطلق النفي؛ لأن النافية للجنس تنفي أي شيء من هذا، بخلاف ما إذا قلت لا
رجل في البيت بالرفع، فهذه ليست نافية للجنس، بل هذه لمطلق النفي.
ولهذا يجوز أن تقول لا رجل في البيت بل رجلان، لكن لو قلت: لا رجلَ في البيت بل رجلان صاح عليك العالمون بالنحو، وقالوا: هذا غلط لا يصح أن تقول لا رجلَ في البيت بل رجلان، فتنفي الجنس أولا، ثم تعود وتثبت، ولكن إن شئت فقل لا رجلَ في البيت بل أنثى.
وقوله: "إن الحمد والنعمة لك " يقال: بكسر همزة إن، ورويت بالفتح. فعلى رواية فتح الهمزة "أن الحمد لك " تكون(24/452)
الجملة تعليلية أي: لبيك لأن الحمد لك، فصارت التلبية مقيدة بهذه العلة، أي: بسببها؛ والتقدير لبيك لأن الحمد لك.
أما على رواية الكسر: "إن الحمد لك "، فالجملة استئنافية، وتكون التلبية غير مقيدة بالعلة، بل تكون تلبية مطلقة بكل حال.
ولهذا قالوا: إن رواية الكسر أعم وأشمل، فتكون أولى، أي: أن تقول: إن الحمد والنعمة لك، ولا تقل: أن الحمد والنعمة لك، ولو قلت ذلك لكان جائزاً.
والحمد والمدح يتفقان في الاشتقاق، أي في الحروف دون الترتيب ح- م- د موجودة في الكلمتين، فهل الحمد هو المدح أم بينهما فرق؟
الجواب: الصحيح أن بينهما فرقاً عظيماً. لأن الحمد مبني على المحبة والتعظيم.
والمدح لا يستلزم ذلك. فقد يبنى على ذلك، وقد لا يبنى، وقد أمدح رجلاً لا محبة له في قلبي ولا تعظيم، ولكن رغبة في نواله فيما يعطيني، مع أن قلبي لا يحبه ولا يعظمه.
أما الحمد فإنه لابد أن يكون مبنياً على المحبة والتعظيم.
ولهذا نقول في تعريف الحمد: هو وصف المحمود بالكمال محبةً وتعظيماً، ولا يمكن لأحد أن يستحق هذا الحمد على وجه الكمال إلا الله عز وجل.
وقول بعضهم: الحمد هو الثناء بالجميل الاختياري، أي: أن يثني على المحمود بالجميل الاختياري. ويفعله اختياراً من نفسه، تعريف غير صحيح، يبطله الحديث الصحيح: "أن الله قال:(24/453)
قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال: الحمد لله رب العالمين، قال: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم قال: أثنى عليَّ عبدي " (1) . فجعل الله تعالى الثناء غير الحمد، لأن الثناء
تكرار الصفات الحميدة، وأل في الحمد للاستغراق، أي: جميع أنواع المحامد لله وحده، المحامد على جلب النفع، وعلى دفع الضرر، وعلى حصول الخير الخاص والعام، كلها لله على الكمال
كله.
وقد ذكر ابن القيم- رحمه الله- في كتابه "بدائع الفوائد" (2) بحثاً مستفيضاً حول الفروق بين (المدح- والحمد) ، وكلمات أخرى في اللغة العربية تخفى على كثير من الناس، وقال كان شيخنا
- ابن تيمية- إذا تكلم في هذا أتى بالعجب العجاب، ولكنه كما قيل: تألق البرق نجدياً فقلت له إليك عني فإني عنك مشغول أي: أن شيخ الإسلام- رحمه الله- مشغول بما هو أهم من
البحث في كلمة في اللغة العربية، وأسرار اللغة العربية.
وقوله: "النعمة" أي الإنعام، فالنعمة لله.
وقوله: "النعمة لك " كيف تتعدى باللام؟ مع أن الظاهر أن يقال: النعمة منك؟
الجواب: النعمة لك يعني التفضل لك، فأنت صاحب الفضل.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة/باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة (395) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) (2/92-96)(24/454)
وقوله: "والملك لا شريك لك " الملك شامل لملك الأعيان وتدبيرها، وهذا تأكيد بأن الحمد والنعمة لله لا شريك له. فإذا تأملت هذه الكلمات وما تشتمل عليه من المعاني الجليلة وجدتها تشتمل على جميع أنواع التوحيد، وأن الأمر كما قال جابر رضي الله عنه: "أهل بالتوحيد". والصحابة رضي الله عنهم أعلم الناس بالتوحيد.
فقوله: "الملك " من توحيد الربوبية، والألوهية من توحيد الربوبية أيضاً، لأن إثبات الألوهية متضمن لإثبات الربوبية، وإثبات الربوبية مستلزم لإثبات الألوهية، ولهذا لا تجد أحداً يوحد الله في ألوهيته إلا وقد وحده في ربوبيته. لكن من الناس من يوحد الله في ربوبيته، ولا يوحده في ألوهيته، وحينئذ نلزمه ونقول: إذا وحدت الله في الربوبية لزمك أن توحده في الألوهية. ولهذا فإن عبارة
العلماء- رحمهم الله- محكمة: حيث قالوا: (توحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الألوهية، وتوحيد الألوهية متضمن لتوحيد الربوبية) .
ونأخذ توحيد الأسماء والصفات من قوله: "إن الحمد والنعمة".
فالحمد: وصف المحمود بالكمال، مع المحبة والتعظيم.
والنعمة من صفات الأفعال؛ فقد تضمنت توحيد الأسماء والصفات.
ومن أين نعرف أنه بلا تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل؟(24/455)
الجواب: من قوله "لا شريك لك ". لأن التمثيل شرك، والتعطيل شرك أيضاً، والمعطل لم يعطل إلا حين اعتقد أن الإثبات تمثيل، فمثَل أولا، وعطَّل ثانياً، والتحريف والتكييف متضمنان التمثيل والتعطيل.
وبهذا تبين أن هذه الكلمات العظيمة مشتملة على التوحيد له. ومع الأسف أنك تسمع بعض الناس في الحج أو العمرة يقولها وكأنها أنشودة، لا يأتون بالمعنى المناب. تقول: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) .
لكنهم يقفون على (إن الحمد، والنعمة لك) ، ثم يقولون: (والملك لا شريك لك) .
مسألة: فهل لنا أن نزيد على ما ورد عن النبي من التلبية التي رواها جابر رضي الله عنه؟
نقول: نعم فقد روى الإمام أحمد في "المسند": أن النبي كان يقول: "لبيك. إله الحق " (1) و"إله الحق " من إضافة الموصوف إلى صفته، أي: لبيك أنت الإله الحق.
وكان ابن عمر رضي الله عنهما يزيد: "لبيك وسعديك، والخير في يديك، والرغباء إليك والعمل " (2) .
فلو زاد الإنسان مثل هذه الكلمات فلا بأس، اقتداء بعبد
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (2/476) ، وأخرجه النسائي في كتاب المناسك/باب كيف التلبية 5/161) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الحج/باب التلبية (1184) .(24/456)
الله بن عمر رضي الله عنهما. لكن الأولى ملازمة ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وهل لهم أن يكبروا بدل التلبية إذا كان في وقت التكبير كعشر ذي الحجة؟
الجواب: نعم. لقول أنس رضي الله عنه: "حججنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - منا المكبر، ومنا المهل " (1) ، وهذا يدل على أنهم ليسوا يلبون التلبية الجماعة، ولو كانوا يلبون التلبية الجماعة لكانوا كلهم مهلين، أو مكبرين، لكن بعضهم يكبر، وبعضهم يهل، وكل يذكر ربه على حسب حاله.
مسألة: قال العلماء- رحمهم الله-: وينبغي أن يذكر نسكه في التلبية. فإذا كان في العمرة يقول: لبيك اللهم عمرة، وفي الحج: لبيك اللهم حجاً، وفي القرن: لبيك اللهم عمرة وحجاً.
ثم قال جابر رضي الله عنه: "حتى إذا أتينا البيت "، يعني الكعبة.
وقوله: " استلم الركن " أي الحجر الأسود. وأطلق عليه اسم الركن، لأنه في الركن، والاستلام قال العلماء- رحمهم الله- أن يمسحه بيده، وليس أن يضع يده عليه، لأن الوضع ليس فيه استلام،
بل لابد من المسح، والمسح يكون باليد اليمنى، لأن اليد اليمنى تقدم للإكرام والتعظيم.
وهل يقبله؟ نقول: نعم. لأنه ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الحج، باب التلبية والتكبير إذا غدا من منى إلى عرفة (1659) ، ومسلم في كتاب الحج، باب التلبية والتكبير في الذهاب من منى إلى عرفات (1285) .(24/457)
يقبله (1) لكن يقبله محبةً لله عز وجل وتعظيماً له، لا محبةً للحجر لكونه حجراً، ولا يتبرك به أيضاً كما يصنعه بعض الجهال، فيمسح يده بالحجر الأسود ثم يمسح بها بدنه، أو يمسح صبيانه الصغار
تبركاً به، فإن هذا من البدع.
ولهذا لما قبلَّ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه الحجر الأسود قال: "إن لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبلك ما قبلتك " (2) . فأفاد رضي الله عنه بهذا أنه مجرد تعبد واتباع للرسول - صلى الله عليه وسلم -. إذاً فتقبيلنا للحجر الأسود هو محبة لله عز وجل وتعظيم له، ومحبة للقرب منه سبحانه وتعالى.
فإن شق الاستلام والتقبيل، فإنه يستلمه بيده ويقبل يده (3) .
وهذا بعد استلامه ومسحه، لا أنه يقبل يده بدون مسح، وبدون استلام. فإن شق اللمس أشار إليه (4) . وإذا أشار إليه فإنه لا يقبل يده.
كل هذه الصفات وردت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي مرتبة حسب الأسهل.
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الحج/باب الرمل في الحج (1605) ، ومسلم، كتاب الحج، باب استحباب تقبيل الحجر الأسود (1270) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(2) المرجع السابق.
(3) لما روى نافع قال: "رأيت ابن عمر استلم الحجر بيده، ثم قبل يده وقال: ما تركته منذ
رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله" أخرجه مسلم، كتاب الحج باب استحباب استلام الركنين
اليمانيين في الطواف (3054) .
(4) أخرجه البخاري في الحج/باب التكبير عند الركن (1213) من حديث ابن عباس رضي
الله عنهما قال: "طاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بعير كلما أتى على الركن أشار إليه بشيء كان عنده
وكبر".(24/458)
فأعلاها استلام باليد وتقبيل الحجر، ثم استلام باليد مع تقبيلها، ثم استلام بعصاً ونحوه مع تقبيله إن لم يكن فيه أذية، والسنة إنما وردت في هذا للراكب فيما نعلم، ثم إشارة.
فالمراتب صارت أربعاً تفعل أولاً فأولاً بلا أذية ولا مشقة.
مسألة: كيفية الإشارة؟ هل الإشارة كما يفعل العامة أن تشير إليه كأنما تشير في الصلاة، أي: ترفع اليدين قائلاً الله أكبر؟
الجواب: لا بل الإشارة باليد اليمنى. كما أن المسح يكون باليد اليمنى. ولكن هل تشير وأنت ماشٍ والحجر على يسارك، أم تستقبله؟ الجواب: روي عن عمر رضي الله عنه أن النبي قال له: "إنك رجل قوي فلا تزاحم فتؤذي الضعيف إن وجدت فرجة فاستلم وإلا فاستقبله وهَلِّلْ وكَبِّرْ " (1) قال: "وإلا فاستقبله ". فالظاهر: أنه عند الإشارة يستقبله. ولأن هذه الإشارة تقوم مقام الاستلام
والتقبيل؟ والاستلام والتقبيل يكون الإنسان مستقبلاً له بالضرورة؛ لكن إن شق أيضاً مع كثرة الزحام فلا حرج أن يشير وهو ماشٍ.
ويقول عند محاذاته ما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنه عند ابتداء الطواف "بسم الله والله أكبر" (2) "اللهم إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك، ووفاءً بعهدك، واتباعاً لسنة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم - " (3) كما كان
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (1/28) ، وعبد الرزاق (8910) ، والبيهقي (5/80) عن سعيد بن المسيب عن عمر رضي الله عنه.
(2) أخرجه البيهقي (5/79) عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان إذا استلم الركن قال. "بسم
الله والله أكبر".
(3) أخرجه البيهقي (5/79) ، وابن أبي شيبة (4/105) ، وعبد الرزاق (8898) عن ابن
عباس رضي الله عنهما.(24/459)
ابن عمر رضي الله عنهما يقول ذلك.
أما في الأشواط الأخرى فإنه يكبر كلما حاذى الحجر، اقتداءً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1) . إذاً الحجر الأسود له سنتان: سنة فعلية، وسنة قولية.
وأما الركن اليماني فيستلمه بلا تقبيل، ولا تكبير، ولا إشارة إليه عند التعذر. لأن ذلك لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. والقاعدة الفقهية الأصولية الشرعية: (أن كل ما وجد سببه. في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولم يفعله فالسنة تركه) وهذا قد وجد سببه فالركن اليماني كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يستلمه، ولم يكن يكبر. وعلى هذا فلا يسن التكبير عند
استلامه.
مسألة: وهل يستلمهما في آخر شوط؟
الجواب: يستلم الركن اليماني، ولا يستلم الحجر الأسود، لأنه إذا مر بالركن اليماني مر وهو في طوافه. وإذا انتهى إلى الحجر الأسود، انتهى طوافه. ولهذا لا يستلم الحجر الأسود ولا يكبر أيضاً
في آخر شوط. لأن التكبير تابع للاستلام، ولا استلام الآن؛ والتكبير في أول الشوط، وليس في آخر الشوط.
مسألة: ماذا يقول بين الركن اليماني، والحجر الأسود؟ الجواب: يقول: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)) (2) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله-: (والمناسبة في
__________
(1) سبق تخريجه ص 29.
(2) سورة البقرة، الآية: 201.(24/460)
ذلك أن هذا الجانب من الكعبة هو آخر الشوط وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يختم
دعاءه غالباً بهذا الدعاء) .
وأما الزيادة "وأدخلنا الجنة مع الأبرار يا عزيز يا غفار"، فهذه لم ترد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا ينبغي للإنسان أن يتخذها تعبداً لله، لكن لو دعا بها لم ينكر عليه، لأن هذا محل دعاء.
ولكن كونه يجعله مربوطاً بهذه الجملة (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) غير صحيح. وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول أيضاً "اللهم إني أسألك العفو والعافية"، ولكنه حديث ضعيف (1) .
وقوله: "فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً". قال العلماء- رحمهم الله-: الرَّمَلُ هو سرعة المشي مع مقاربة الخطى.
والظاهر أن مرادهم مع تقارب الخطى أن الإنسان لا يمد خطوه، لأن العادة في الإنسان إذا أسرع تكون خطوته أبعد. ولكن يسرع، ولا يمد خطوه، بل يكون طبيعياً. وليس الرمل هو هز الكتفين، كما يفعله الجهال.
"ثلاثاً " أي: ثلاثة أشواط " ومشى أربعاً "، يعني أربعة أشواط مشى على عادته بدون إسراع. ويسن له الاضطباع في الطواف، وهو: أن يجعل وسط ردائه تحت عاتقه الأيمن، وطرفيه على عاتقه
الأيسر، والحكمة من ذلك: الاقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2) ، وإظهار
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في المناسك/باب فضل الطواف (2957) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) أخرجه الإمام أحمد (4/223) ، وأبو داود في المناسك/باب الاضطباع في الطواف (1883) ، والترمذي في الحج/باب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف مضطبعاً (859) ، وابن ماجه في المناسك/باب الاضطباع (2954) عن أبي يعلى بن أمية رضي الله عنه.(24/461)
القوة والنشاط إذ هو أنشط للإنسان مما لو التحف والتف بردائه.
مسألة: وهل الاضطباع مثل الرمل يكون في الأشواط الثلاثة، أو يكون في جميع الأشواط؟
الجواب: نقول يكون في جميع الأشواط.
وقوله: "ثم نفذ إلى مقام إبراهيم " يدل على أن هناك زحاماً.
وفي رواية، ثم تقدم إلى مقام إبراهيم. والجمع بينهما أنه نفذ متقدماً إلى مقام إبراهيم ليصلي خلفه.
ومقام إبراهيم هو الحجر الذي كان إبراهيم عليه الصلاة والسلام يرقى عليه لما ارتفِع جدار الكعبة.
وقوله: "فقرأ (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً) "، قرأ ذلك في حال نفوذه إشارة إلى أنه إنما فعل ذلك امتثالاً لأمر الله تعالى في قوله: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً) (1) . وهذا أمر مطلوب منا
عندما نفعل العبادات أن نستشعر بأننا نقوم بها امتثالاً لأمر الله تعالى؛ لأن شعور الإنسان عندما يفعل العبادة بأنه يفعلها امتثالاً لأمر الله تعالى فإن هذا مما يزيد في إيمانه، ويجد لها لذة، وهذه هي
نية المعمول له. بخلاف الذي يفعل العبادة وهو غافل عن هذا المعنى، فإن العبادة تكون كالعادة. ولهذا قال المتكلمون على النيات إن النية نوعان نية العمل، ونية المعمول له، والأخيرة أعظم مقاماً من الأولى؛ لأن نية العمل تأتي ضرورة، فما من إنسان عاقل يقوم بعمل إلا وقد نواه وقصده حتى قال بعض العلماء- رحمهم الله- لو كلفنا الله عملاً بلا نية لكان من تكليف مالا يطاق. لكن
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 125.(24/462)
المقام الأسنى والأعلى نية المعمول له التي تغيب عنا كثيراً.
وقوله تعالى: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً) استدل بعض العلماء- رحمهم الله- باستشهاد النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه الآية على أن ركعتي الطواف واجبة، وهذا له حظ من النظر؟ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فسر به الآية الدالة على الوجوب للأمر بها. ولهذا لا ينبغي للإنسان أن يدع الركعتين بعد الطواف.
وقوله: "فجعل المقام بينه وبين البيت " المقام أي مقام إبراهيم، جعله بينه وبين الكعبة.
وهذا يشعر بأن المقام في مكانه الحالي، لأنه لو كان لاصقاً بالبيت- كما في الرواية المشهورة- ما احتاج أن يقول جعله بينه وبين البيت، لأن المقام لاصق بالبيت.
وهذه المسألة اختلف فيها المؤرخون، وأكثر المؤرخين على أنه كان في أول الأمر لاصقا بالبيت، ثم زحزح. ولكن الذي يظهر أنه من الأصل في مكانه هذا.
ومقام إبراهيم جعل الله فيه آية، وهي أثر قدمي إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وقد شهد أوائل هذه الأمة أثر القدم، ولكنه انمحي وزال لكثرة مسه من الناس. وقد أشار إلى هذا أبو طالب في قوله:
وموطىء إبراهيم في الصخر رطبة على قدميه حافيا غير ناعل (1) وقوله: "فصلى" يعني ركعتين. واعلم أن المشروع في هاتين الركعتين التخفيف، وأن يقرأ فيهما (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)) ، و () قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)) وأنه ليس قبلهما
__________
(1) البداية والنهاية (3/43) .(24/463)
دعاء، وليس بعدهما دعاء.
والحكمة من تخفيفهما أن تفسح المجال لمن هو أحق منك.
فالناس ينتهون من الطواف أرسالاً؛ فإذا انتهى الطائفون وأنت حاجز هذا المكان تطيل الصلاة، فمعناه أنك حجزت مكاناً لمن هو أحق منك، فلا تطل الصلاة. ثم إنه قد يكون المطاف مزدحماً،
فيحتاج الطائفون إلى المكان الذي أنت فيه أيضاً، فمن ثم خفف النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة، واختار أن يقرأ بعد الفاتحة سورتي الكافرون والإخلاص (قُل يَآ أَيُّهَا الكَافِرُون (1)) ، و (قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، لأن إمام الحنفاء هو صاحب هذا المقام وهو إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذي قال الله لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)) (1) .
والحكمة في قراءة هاتين السورتين أن فيهما التوحيد كله، بنوعيه التوحيد الخبري، والتوحيد الطلبي العملي. فالتوحيد الخبري في (قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)) ، والعملي الطلبي في (قُلْ يَآ أيُّهاَ الكَافِرُونَ (1)) .
وهل للمقام دعاء؟
والجواب: ليس للمقام دعاء، ولا دعاء قبل الركعتين، ولا بعدهما؛ ولكن المشكلة أن مثل هذه البدع صارت كأنها قضايا مسلمة مشروعة، حتى إن الحاج ليرى أن حجه ناقص إذا لم يفعل
هذا؛ وكل هذا بسبب تقصير العلماء أو قصورهم. وإلا فمن الممكن أن يعطى هؤلاء الحجاج مناسك من بلادهم توجههم
__________
(1) سورة النحل، الآية: 123.(24/464)
للطريق الصحيح.
وقوله: "ثم رجع إلى الركن فاستلمه "؛ يعني استلم الحجر الأسود، ولم يقبله. ولم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أشار إليه. وعلى هذا فيكون هنا استلام بلا تقبيل ولا إشارة إليه عند التعذر.
وقوله: "ثم خرج من الباب إلى الصفا"؛ يعني بعد أن صلى الركعتين خلف المقام رجع إلى الركن فاستلمه، ثم خرج من الباب، أي من باب المسجد إلى الصفا؛ ومن المعلوم أنه سيختار الباب الذي يلي الصفا. والصفا هو الجبل الذي يكون أمام الحجر الأسود من الكعبة، أو يميل قليلاً إلى الركن اليماني.
وهو جبل معروف يسمى جبل أبي قبيس (1) .
وقوله: "فلما دناِ من الصفا"؛ يعني قرب منه. "قرأ (* إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) أبدأ بما بدأ الله به ".
وفائدة هذه القراءة إشعار نفسه بأنه إنما اتجه إلى السعي امتثالاً لما أرشد الله إليه في قوله: (* إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) (2) ؛ وليعلم الناس أنهم إنما يسعون بين الصفا والمروة من أجل أنهما من شعائر الله، وليعلم الناس أيضاً أنه ينبغي للإنسان إذا فعل عبادة أن يشعر نفسه أنه يفعلها طاعة لله عز وجل، كما لو توضأ الإنسان فينبغي أن يستشعر عند وضوئه أن يتوضأ امتثالاً لقوله
__________
(1) الصفا بالفتح والقصر. والصفا والصفوان والصفواء كله العريض من الحجارة الملس.
جمع صفاة، ويكتب بالألف، ويثنى صفوان. ومنه الصفا والمروة، وهما جبلان بين بطحاء مكة والمسجد. أما الصفا فمكان مرتفع من جبل أبي قبيس، بينه وبين المسجد الحرام عرض الوادي الذي هو طريق وسوق. معجم البلدان (3/467) .
(2) سورة البقرة، الآية: 158.(24/465)
تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) (1) الآية. ويشعر أيضاً أنه يتوضأ كأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمامه يتبعه في وضوئه؛ وهكذا جميع العبادات. فإذا استشعر الإنسان عند فعل العبادة أنه يفعلها امتثالاً لأمر الله، فإنه يجد لها لذةً وأثراً طيباً.
وقوله: قرأ (* إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) يحتمل أنه قرأ الآية كلها؛ وكان السلف يعبرون ببعض الآية عن جميعها.
ويحتمل أنه لم يقرأ إلا هذا فقط الذي هو محل الشاهد، وهو كون الصفا والمروة من شعائر الله، وكون الصفا هو الذي يبدأ به، وهذا هو المتعين، وذلك لأن الأصل أن الصحابة رضي الله عنهم ينقلون كل ما سمعوا وإذا لم يقل: حتى ختم الآية، أو حتى أتم الآية، فإنه يقتصر على ما نقل فقط.
وقوله: (مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) الشعائر جمع شعيرة، وهي النسك أو العبادة المتميزة عن غيرها بتعظيم الله عز وجل.
وقوله: "أبدأ بما بدأ الله به " لأنه بدأ بالصفا فقال: (* إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ) ؛ وفيه إشارة إلى أن الله إذا بدأ بشيء كان دليلاً على أنه مقدم إلا بدليل.
وقوله: "فرقي الصفا"، أي: عليه. وهذا الرقي ليس بواجب، وإنما هو سنة وإلا لو وقف على حد الصفا من أسفل حصل المقصود لقوله تعالى: (فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) (2) . وحد
__________
(1) سورة المائدة، الآية: 6.
(2) سورة البقرة، الآية: 158.(24/466)
الواجب الآن هو حد هذه الأسياخ التي جعلوها للعربات؛ وعلى هذا فلا يجب أن يصعد ويتقدم ولا سيما في أيام الزحام.
وقوله: "حتى رأى البيت " أي: الكعبة "فاستقبل القبلة فوحد الله وكبره، وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير".
وقوله: "وحد الله " أي: نطق بتوحيده؛ ولعله قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير الله أكبر. والنفي هنا نفي للإله الحق، أي: لا إله حق إلا الله؛ وأما
الآلهة التي تعبد من دون الله فليست بحق كما قال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ) (1) .
وقوله: "وكبره وقال لا إله إلا الله "، يحتمل أنه زائد على قوله: فوحد الله أو أنه تفسير له. لكن وردت السنة بأنه يكبر ثلاث تكبيرات، ولكنه ليس كتكبير الجنازة، كما يتوهم بعض العامة،
حيث يقول الله أكبر بيديه يشير بها كما يشير بها في الصلاة هذا خطأ. لكن يرفع يديه، ويكبر ثلاثاً، ويقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصره عبده وهزم الأحزاب وحده.
وقوله: "وحده لا شريك له " وحده تأكيد للإثبات و" لا شريك له " تأكيد للنفي، واستفدنا توحده بالملك من تقديم الخبر "له الملك " لأن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر. والملك يشمل ملك الذوات أي الأعيان؛ وملك التصرف، والله سبحانه وتعالى مالك
__________
(1) سورة الحج، الآية: 62.(24/467)
لكل ما في السماوات والأرض، مالك للتصرف فيهما، لا شريك له في ملكه، ولا في تدبيره.
وقوله: "وله الحمد"، يعني أنه يحمد على كمال صفاته وعلى كمال إنعامه وإحسانه، وكذلك على كمال تصرفه وأفعاله.
وأعقب به قوله "له الملك "، ليفيد أن ملكه ملك يحمد عليه، فما كل من ملك شيئاً وتصرف فيه يحمد على تصرفه؛ لكن الله عز وجل يحمد على ملكه وتصرفه.
وقوله: "وهو على كل شيء قدير" كل شيء؛ فالله تعالى قادر عليه إن كان موجوداً، فهو قادر على إعدامه وتغييره، وإن كان معدوماً فهو قادر على إيجاده. والقدرة: صفة يتمكن بها من الفعل
بدون عجز، وهي أخص من القوة من وجه وأعم من وجه لأن القوة يوصف بها من له إرادة ومن لا إرادة له. فيقال: حديد قوي، وإنسان قوي. أما القدرة فلا يوصف بها إلا من كان ذا إرادة. فيقال الإنسان قدير، ولا يقال الحديد قدير؛ لكن القوة أخص لأنها قدرة وزيادة.
ولهذا نقول: كل قوي ممن له قدرة فهو قادر، ولا عكس.
وقوله: " لا إله إلا الله وحده " كرر ذلك، لأن باب التوحيد أمر مهم ينبغي تكراره، ليثبت ذلك في قلبه، وهو مع ذلك يؤجر عليه.
وقوله: "أنجز وعده " يعني بنصر المؤمنين، فأنجز للرسول - صلى الله عليه وسلم - ما وعده قال الله تعالى: (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ) (1) .
وقوله: "ونصر عبده " هذا اسم جنس يشمل كل عبد من عباد
__________
(1) سورة الفتح، الآية: 27.(24/468)
الله قائم بأمر الله، فإنه منصور. قال الله تعالى: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)) (1) .
وقو له: "وهزم الأحزاب وحده " الأحزاب جمع حزب، وهم الطوائف الذي تحزبوا على الباطل، وتجمعوا عليه (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ) (2) . فهزمهم الله وحده ومثال على ذلك قصة الأحزاب الذين تجمعوا لحرب النبي - صلى الله عليه وسلم - وحاصروه في المدينة
وهم نحو عشرة آلاف نفر، ومع ذلك هزمهم الله وحده أرسل عليهم ريحاً وجنوداً فقلقلتهم حتى انهزموا. وهل المراد بهزيمة الأحزاب في قوله: "وهزم الأحزاب وحده " ما جرى في عام الخندق أو ما هو أعم!؟ نقول: ما هو أعم.
وقوله: "ثم دعا بين ذلك قال مثل هذا ثلاث مرات " يعني قال هذا الذكر ثم يدعو، ثم يقوله مرة ثانية ثم يدعو، ثم يقوله مرة ثالثة ثم ينزل، لأنه قال: "ثم دعا بين ذلك "؟ والبينية تقتضي أن يكون
محاطاً بالذكر من الجانبين، فيكون الدعاء مرتين، والذكر ثلاث مرات.
وقوله: "ثم نزل إلى المروة" أي مشى إلى المروة متجهاً إليها.
والمروة هي الجبل المعروف بقعيقعان (3) ، وهما جبلان
__________
(1) سورة غافر، الآية: 51.
(2) سورة الصف، الآية: 8.
(3) قعيقعان: بالضم ثم الفتح بلفظ تصغير: وهو اسم جبل بمكة قيل: إنما سمي بذلك لأن قطوراء وجرهم لما تحاربوا قعقعت الأسلحة فيه. وعن السدي أنه قال: سمي الجبل الذي بمكة قعيقعان، لأن جرهم كانت تجعل فيه قسيها وجعابها ودرقها فكانت تقعقع فيه.=(24/469)
معروفان في مكة، أحدهما"أبو قبيس الآخر قعيقعان.
وقوله: "حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى" بطن الوادي هو مجرى السيل، ومكانه ما بين العلمين الأخضرين الآن، وكان في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - مسيل المياه النازلة من الجبال.
وقوله: "سعى"، أي: ركض ركضاً شديداً، حتى إن إزاره لتدور به من شدة السعي.
وقوله: "حتى إذا صعدتا" يعني ارتفع عن بطن الوادي "مشى حتى أتى المروة"، وإنما فعل ذلك اقتداءً بأم إسماعيل رضي الله عنها؛ فإن أم إسماعيل كما وضعها إبراهيم عليه الصلاة والسلام هي وولدها في هذا المكان، وجعل عندهما ماء وتمراً، فجعلت الأم تأكل من التمر، وتشرب من الماء، وترضع الطفل، فنفد التمر والماء، وجاعت الأم وعطشت، ونقص لبنها فجاع الطفل، فجعل الطفل يصيح ويتلوى من الجوع، فأمه من أجل الأمومة رحمته، وخرجت إلى أدنى جبل إليها تستمع لعلها تسمع أحداً أو ترى أحداً، فصعدت الصفا، وجعلت تنظر، فلم تجد أحداً، فرأت أقرب جبل إليها بعد الصفا المروة، فاتجهت إليه تمشي وهي تنظر إلى الولد " فلما نزلت بطن الوادي احتجب الولد عنها، فجعلت تركض ركضاً شديداً من أجل أن تلاحظ الولد. فلما صعدت من المسيل مشت، حتى أتت المروة، ففعلت ذلك سبع مرات، وهي في أشد ما تكون من الشدة لا بالنسبة إليها جائعة عطشى فقط، ولا بالنسبة إلى الولد
__________
= والواقف على قعيقعان يشرف على الركن العراقي، إلا أن الأبنية قد حالت بينهما. معجم البلدان (4/430) .(24/470)
فقط عند الشدة يأتي الفرج، فبعث الله عز وجل جبريل، فضرب بعقبه أو جناحه الأرض في مكان زمزم، فنبع الماء بشدة، فجعلت أم إسماعيل تحجر الماء، تخشى أن يضيع من شدة شفقتها. قال
النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم لكانت عيناً معيناً.
ولكن لاشك أن هذا من حكمة الله عز وجل. ووجه ذلك أنه لو كانت عيناً معيناً" في هذا المكان وقرب الكعبة لصار فيها مشقة على الناس، ولكن من نعمة الله عز وجل أن صار الأمر كما أراد الله تبارك وتعالى.
لكنها حجرتها ثم شربت من هذا الماء فكان هذا الماء، طعاماً وشراباً، وجعلت تسقي الولد. والحديث ذكره البخاري مطولاً (1) .
فهذا أصل السعي كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -. فلذلك سعى الناس. والمهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما انصبت قدماه في بطن الوادي سعى من أجل أن الناس إنما سعوا من أجل سعي أم إسماعيل.
وقوله: "ففعل على المروة كما فعل على الصفا" لم يذكر جابر رضي الله عنه ماذا يقوله الرسول - صلى الله عليه وسلم - في بقية سعيه، ولكن قد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن السعي لذكر الله، فقال: "إنما جعل الطواف بالبيت، وبالصفا والمروة، ورمي الجمار لإقامة ذكر الله " (2) . فأي ذكر تذكر الله به فهو خير، سواء بالقرآن، أو بالتسبيح، أو بالتهليل، أو بالتكبير، أو بالتحميد، أو بالدعاء. فأي شيء تذكر الله به، فإنك قد حصلت على المطلوب.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء، باب (يزفون) (3364) .
(2) أخرجه أبو داود في المناسك/باب الرمل (1888) ، والترمذي في الحج/باب ما جاء في كيف يرمي الجمار (902) ، والدرامي في المناسك/باب الذكر بعد رمي الجمار (279) .(24/471)
وهل ينافي ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
الجواب: لا، لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الذكر، لأنه تذكير للخلق بما شرع الله لهم.
وقوله: "ففعل على المروة كما فعل على الصفا" يعني من الصعود، والدعاء، والمقام. فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك سبع مرات. فلما كان آخر طواف على المروة نادى وهو على المروة وأمر الناس من لم يسق الهدي منهم أن يجعلوا نسكهم عمرة فجعلوا يراجعون النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى قالوا: الحل كله يا رسول الله قال: الحل كله قالوا: نخرج إلى منى وذكر أحدنا يقطر منياً، يعني من جماع أهله قال: افعلوا ما آمركم به، فلولا أن معي الهدي لأحللت معكم، فأحلوا رضي الله عنهم. أما النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن ساق الهدي فلم يحلوا ثم نزلوا بالأبطح (1) في ظاهر مكة. فلما كان يوم التروية خرجوا إلى منى فمن كان منهم باقياً على إحرامه فهو مستمر في إحرامه ومن كان قد أحل أحرم بالحج من جديد.
وقوله: "لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة". هل يقال إن النبي - صلى الله عليه وسلم - تمنى خلاف الواقع أو يقال إن هذا خبر مجرد. الجواب: الثاني. فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتمن، لأنه يعلم
أن هذا هو الأفضل، أعني قرانه؛ لكنه قال للصحابة رضي الله عنهم
__________
(1) الأبطح: بالفتح ثم السكون وفتح الطاء والحاء المهملة هو كل مسيل فيه دقاق الحصى، فهو أبطح والأبطح يضاف إلى مكة، وإلى منى لأن المسافة بينه وبينها واحدة وربما كان إلى منى أقرب وهو المحصب معجم البلدان (1/95) .(24/472)
هكذا لتطييب نفوسهم ويحلوا برضى.
وقوله: "فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله ألعامنا هذا أم لأبد؟ " قوله: "فقام سراقة" كان هذا عند المروة، والسياق الذي في البخاري- رحمه الله- كان عند العقبة، فما
الجمع بينهما؟ نقول الجمع بينهما: ربما أن سراقة رضي الله عنه أعاد السؤال مرة أخرى إما لأنه نسي ما قاله عند المروة، وإما لزيادة التأكد، وهذا قد يقع.
وقوله: "وقدم علي من اليمن ببدن النبي - صلى الله عليه وسلم - فوجد فاطمة رضي الله عنها ممن حل ولبست ثياباً صبيغاً، واكتحلت فأنكر ذلك عليها، فقالت: إن أبي أمرني بهذا. قال: فكان علي يقول بالعراق: فذهب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محرشاً على فاطمة للذي صنعت مستفتياً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما ذكرت عنه، فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها،
فقال: "صدقتْ صدقتْ. ماذا قلت حين فرضتَ الحج " قال: اللهم إني أهل بما أهل به رسولك ".
قوله: "قدم علي من اليمن "، أي: وصل إلى مكة والنبي - صلى الله عليه وسلم - في الأبطح. والسبب في ذهابه إلى اليمن لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسله إلى اليمن للدعوة إلى الله وأخذ الزكوات منهم، وغير ذلك. وقوله: "ببدن النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي ببعضها، لأن بعضها جاء بها علي رضي الله عنه، وبعضها جاء بها الرسول - صلى الله عليه وسلم -، كما يأتي في آخر الكلام.
وقوله: "فوجد فاطمة رضي الله عنها ممن حل، ولبست ثياباً صبيغاً" أي: ثوباً جميلاً، وكأنها متهيئة لزوجها رضي الله عنهما.(24/473)
وقوله: "فأنكرت ذلك عليها"، لأنهم لم يكونوا يعرفون العمرة في أشهر الحج.
وقوله: "فقالت: إن أبي أمرني بهذا" أي أخبرته أن أباها - صلى الله عليه وسلم - أمرها بهذا.
وقوله: "فذهبت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محرشاً على فاطمة للذي صنعت، مستفتياً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما ذكرت عنه ". التحريش في الأصل التهييج والإغراء، كما يحرش بين البهائم، وكما يحرش بين الناس. ولهذا يقال حرش فلان على فلان، أي هيج غيره عليه وأغراه به. فذهابه للنبي - صلى الله عليه وسلم - لغرضين الغرض الأول التحريش على
فاطمة رضي الله عنها لماذا تحل، والثاني: الاستفتاء، هل عملها صحيح أو غير صحيح؟
وقوله: "فأخبرته أنى أنكرت ذلك عليها فقال: صدقت صدقت " يعني أمرتها بهذا، وكرر ذلك توكيداً؛ لأن المقام يقتضي ذلك. فقوله: "صدقت " أي فيما قالت أني أمرتها به. وإنما أمرها
النبي - صلى الله عليه وسلم - كما أمر غيرها، لأنها لم تسق الهدي فحلت. وقوله: "ماذا قلت حين فرضت الحج "، أي سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب رضي الله عنه ماذا قال حين فرض الحج قال قلت اللهم إني أهل بما أهل به رسولك قال: إن معي الهدي فلا تحل.
ففي هذا دليل على مسألة خاصة بعلي رضي الله عنه، وعلى مسألة عامة للمسلمين.
أما المسألة الخاصة بعلي فهو ذكاؤه رضي الله عنه وفطنته،(24/474)
وحرصه على التأسي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث أحرم بما أحرم به الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
أما المسألة العامة، فهي جواز مثل هذا، أي أنه يجوز للإنسان أن يقول لبيك، أو أحرمت بما أحرم به فلان ممن يثق بعلمه ودينه، مع أنه سيكون مجهولاً له حتى يصل إلى فلان.
فإذا قال أحرمت بما أحرم به فلان وكان فلان قارناً، فهل لهذا إذا لم يكن معه هدي أن يحل بعمرة؟
الجواب: نعم. لأنه لو أحرم به من أول، فإننا نأمره أن يحل بعمرة، فكيف إذا كان مقتدياً بغيره. ولكن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أشركه النبي - صلى الله عليه وسلم - في هديه وجعل منه نصيباً. ولهذا قال معي الهدي فلا تحل.
وظاهر هذه العبارة أن من أحرم بمثل ما أحرم به فلان، وكان فلان قد ساق الهدي ولم يحل، فإن الثاني لا يحل. لكن هذا مقيد بما إذا كان الثاني قد ساق الهدي أو مشاركاً له فيه، كما سيأتي في
سياق الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشرك علياً رضي الله عنه في هديه.
وقوله: "قال جماعة الهدي الذي قدم به علي من اليمن والذي أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - مائة".
قوله: "جماعة"، أي مجموع الهدي، و (مائة) بالألف، ولكن هذه الألف لا ينطق بها، والناطق بها يعتبر لاحناً، بل يقال مئة كما يقال فئة بدون نطق الألف.
وقوله: "فلما كان يوم التروية" "يوم " بالرفع مع أنه ظرف زمان، لأنه هنا سلبت منه الظرفية. فـ"يوم " هنا فاعل "كان"، وكان(24/475)
هنا تامة وليست ناقصة، فلا تحتاج إلى اسم وخبر. والمعنى: لما جاء يوم التروية توجهوا إلى منى.
ويوم التروية هو اليوم الثامن من ذي الحجة؛ وسمي بذلك؛ لأن الناس يتروون فيه الماء لما بعده. يعني يستسقون فيه الماء ليوم عرفة وأيام منى. ومن هذا اليوم إلى آخر أيام التشريق لكل يوم من
هذه الأيام الخمسة اسم خاص. فالثامن يوم التروية، والتاسع يوم عرفة، والعاشر يوم النحر، والحادي عشر يوم القر، والثاني عشر يوم النفر الأول، والثالث عشر يوم النفر الثاني.
وقوله: "توجهوا إلى منى"؛ الضمير يعود على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه توجهوا من الأبطح؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نزل هناك في الأبطح، ولم يذكر جابر رضي الله عنه أن أحداً من الصحابة رضي الله عنهم جاء إلى البيت وأحرم منه، ولو أن أحداً فعل ذلك لبينه.
وقوله: "إلى منى"؛ منى: اسم مكان معروف، وسميت بهذا الاسم لكثرة ما يمنى فيها من الدماء. أي: يراق من الدماء، وهي من حيث الإعراب مصروفة، فنقول: منىً بالتنوين. وحدُّها شرقاً
وغرباً من وادي محسر إلى جمرة العقبة، ومن الشمال والجنوب قال العلماء- رحمهم الله-: كل سفوح الجبال الكبيرة، ووجوهها التي تتجه إلى منى من منى. وبناء على هذا تكون منى واسعة جداً،
وتسع الحجاج لو أنها نظمت تنظيماً تاماً مبيناً على العدل. لكن بعض الناس يتخذ مكاناً واسعاً يسع أكثر من حاجته.
مسألة: توجد مشكلة في الوقت الحاضر. يقول بعض الناس أنا لا أجد أرضاً بمنى إلا بأجرة فهل يجوز لي أن أستأجر أرضاً في منى؟(24/476)
فالجواب: نعم يجوز؛ والإثم على المؤجر الذي أخذ المال بغير حق. أما المستأجر فلا إثم عليه. ولهذا قال فقهاء الحنابلة - رحمهم الله-: لا يجوز تأجير بيوت مكة، ولكن إذا لم يجد بيتا إلا بأجرة دفع الأجرة، والإثم على المؤجر. وبيوت منى وأرضها من باب أولى لأن منى مشعر محدود محصور، فأين يذهب الناس إذا استولى عليها من يقول: أنا لا أُنزل فيها الناس إلا بأجرة؟!.
أما مكة فيمكن أن ينزل الإنسان بعيداً، ولكن منى وعرفة ومزدلفة مشاعر كالمساجد، لا يجوز لأحد إطلاقاً أن يبني فيها بناءً يؤجره، ولا أن يختط أرضاً ويؤجرها، فإن فعل فالناس معذورون
يبذلون الأجرة، والإثم على الذي أخذها.
وقوله: "وركب النبي - صلى الله عليه وسلم - فصلى بها الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والفجر" صلى بمنى خمس صلوات، كل صلاة في وقتها بدون جمع، لأنه لو كان يجمع لبينه جابر رضي الله عنه فإن الجمع خلاف الأصل. ولما لم ينبه عليه علم أن صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الصلوات الخمس صلاة مفرودة كل صلاة في وقتها، الظهر، والعصر، والعشاء قصراً، لحديث أنس الثابت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج عام حجة الوداع، ولم يزل يصلي ركعتين حتى رجع إلى المدينة (1) ، وأنس رضي الله عنه له خبرة بأحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه خادمه.
وقوله: "أمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة فسار رسول الله
__________
(1) قال أنس رضي الله عنه: "خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة إلى مكة، فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة" أخرجه البخاري في كتاب تقصير الصلاة/باب ما جاء في التقصير (1081) ، ومسلم في صلاة المسافرين (693) .(24/477)
- صلى الله عليه وسلم -، ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية". قريش لحميتها الجاهلية وتعصبها لا تقف يوم عرفة إلا في مزدلفة، تقول نحن أهل الحرم، فلا نخرج إلى الحل؛ وأما بقية الناس، فيقفون في عرفة لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - جدد الحج على مشاعر إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
وقوله: "فأجاز حتى أتى عرفة"؛ أجاز بمعنى تعدى، يعني جاوز مزدلفة إلى عرفة.
وقوله: "فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها". أجاز النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أتى عرفة، وكان قد أمر أن تضرب له قبة بنمرة (1) ، وهي قرية قرب عرفة، فضربت له القبة بنمرة، فنزل بها حتى زالت الشمس؛ وهذا النزول فيه استراحة بعد التعب من المشي من منى إلى عرفة لأن هذه هي أطول مسافة في الحج- من منى إلى عرفة- فبقي النبي - صلى الله عليه وسلم - هناك واستراح.
وظاهر السياق أن نمرة من عرفة؛ لأنه قال: "حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة". وهذا يدل على أن نمرة من عرفة وأنها جزء منها فتكون نمرة اسماً لمكان معين من عرفة.
وهذا أحد القولين لأهل اللغة وأهل الفقه فإن أهل اللغة، وأهل الفقه؛ اختلفوا هل نمرة من عرفة أم لا؟
فجزم النووي -رحمه الله- (2) وجماعة من أهل العلم بأنها
__________
(1) نمرة: بفتح أوله وسر ثانيه أنثى النمر: ناحية بعرفة نزل بها النبي - صلى الله عليه وسلم - وقيل الحرم من طريق الطائف على طرف عرفة من نمرة على أحد عشر ميلاً، وقيل نمرة الجبل الذي عليه أنصاب الحرم عن يمينك إذا خرجت من المازمين تريد الموقف. معجم البلدان (5/352) .
(2) انظر: شرح صحيح مسلم للنووي (8/411) .(24/478)
ليست من عرفة، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله وهذا هو الصواب؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أذن ببناء الخيمة فيها، ولو كانت مشعراً لم يأذن ببناء الخيمة فيها، ولهذا ما بني له خيمة في عرفة، ولا بني له خيمة في منى، حتى إنه يروى أنه قيل له ألا نبني لك خيمة في منى
فقال: (لا، منى مناخ من سبق) (1) . هكذا روي عنه. وكونه يأذن أن يبنى له خيمة في نمرة يدل على أنها ليست من المشاعر، وإلا لما أذن فيها.
وأما قوله: "حتى أتى عرفة"، فمعناه بيان لمنتهى تجاوزه، وأنه لم يقف بمزدلفة كما كانت قريش تفعل، بل تجاوزها حتى بلغ عرفة التي هي موقف الناس؟ كما قال الله تعالى: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) (2) ؛ والناس يفيضون من عرفة. ولهذا لم يقل: "فوجد القبة قد ضربت بها في نمرة".
وذهب آخرون إلى أنها من عرفة، وهو قول جماعة من أهل الفقه، ومن أهل اللغة أيضاً، كما في القاموس (3) . وسيأتي- إن شاء الله- ما يترتب على هذا الخلاف من الحكم في الفوائد.
فإن قال قائل: أين تقع نمرة؟
قلنا: تقع نمرة على حدود الحرم، عند الجبل الذي يكون على يمينك وأنت سائر إلى عرفة من الطريق الذي يخرج على المسجد. ويقولون إن نمرة عند أعلام الحرم، وهذا ما جزم به الأزرقي- رحمه الله- صاحب تاريخ مكة (4) .
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (6/187، 207) .
(2) سورة البقرة، الآية: 199.
(3) (4/442) .
(4) أخبار مكة (2/252) .(24/479)
وقوله: "فوجد القبة"، القبة خيمة من صوف أو غيره ضربت للرسول - صلى الله عليه وسلم -، فنزل بها واستراح.
وقوله: "حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له " زاغت: بمعنى مالت إلى الغرب، والقصواء اسم ناقته التي حج عليها صلوات الله وسلامه عليه.
وقوله: "فرحلت له "، أي: جعل رحلها عليها؛ وفيه دليل على أنه قد نزل الرحل عنها، لأنه استراح من أول النهار إلى زوال الشمس، وهذه مدة طويلة.
وقوله: "فأتى بطن الوادي "، يعني وادي عرنة نزل فيه عليه الصلاة والسلام، لأنه أسهل من الأرض الجرداء، إذ إن مجرى الوادي سهل لين. ففي هذا دليل على طلب السهل في النزول، ولكن لا يبيت الإنسان في مجاري السيول، لأن السيول قد تأتي بدون شعور، فيكون في ذلك ضرر؛ ولهذا نهي عن الإقامة فيها. أما إقامة النبي - صلى الله عليه وسلم - هنا، فإنها إقامة قصيرة يسيرة.
وقوله: "فخطب الناس " خطبهم خطبة عظيمة بليغة، قرر فيها قواعد الإسلام (1) . فقال عليه الصلاة والسلام: "إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا". أكد التحريم عليه الصلاة والسلام، تحريم الدماء، والأموال بهذا التأكيد كحرمة يومكم هذا، وهو يوم عرفة، فإنه يوم حرام، لأنه من جملة أيام الحج، والناس فيه محرمون.
__________
(1) قد شرحها الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد- رحمه الله- في رسالة صغير مفيدة.(24/480)
وقوله: "في شهركم هذا"، يعني شهر ذي الحجة، لأنه من الأشهر الحرم، بل هو أوسط الأشهر الحرم الثلاثة المقترنة.
وقوله: "في بلدكم هذا"، يعني مكة، فإنه لاشك أن أعظم البلاد حرمة هي مكة.
وقوله: "الأكل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع "، يعني موضوع تحت القدم، وهذا كناية عن إبطاله وإهانته، لأنه جرت عادة الناس أن الشيء المكرم يقال على الرأس، والمهان يقال
تحت القدم.
والمعنى أنها باطلة مهينة لا عبرة بها. وهذا عام في جميع أمور الجاهلية، كلطم الخدود، وشق الجيوب، والدعاء بدعوى الجاهلية، وغير ذلك. وعلى هذا فيكون كل أمور الجاهلية قد محيت بهذا الحديث ولا اعتماد عليها، ولا رجوع إليها.
وقوله: "ودماء الجاهلية موضوعة"، أي الدماء التي حصلت بين أهل الجاهلية كلها موضوعة، لا حكم لها، ولا قصاص، ولا دية، ولا شيء.
وقوله: "وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث "، يعني ابن عمه عليه الصلاة والسلام وضعه الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأنه أولى الناس به، أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فوضعه.
وقوله: "فقال كان مسترضعاً في بني سعد فقتله هذيل "، فهذا قريب النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن عمه أهدر النبي - صلى الله عليه وسلم - دمه، وجعله موضوعاً يعني فلا يطالب به. كل هذا لئلا يعود الناس إلى أمور الجاهلية، فيطالبون بما كان بينهم من أمور الجاهلية من دماء أو أموال.(24/481)
وقوله: "وربا الجاهلية موضوع، وإن أول ربا أضع ربانا ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله ". كل ربا الجاهلية موضوع، أبطله النبي - صلى الله عليه وسلم - وأول ما أبطل من الربا ربا أقاربه، ربا عباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، وكان غنياً يرابي، فوضع النبي - صلى الله عليه وسلم - رباه كله؛ وهذا تحقيق لقوله تعالى: (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ)) (1) .
ثم انتقل - صلى الله عليه وسلم - إلى قضية المرأة التي كانت في الجاهلية مظلومة، وكان الرجال يستعبدون النساء، حتى تصل بهم الحال إلى أن يمنعوهن من الميراث، ويقولون لا إرث للمرأة، الإرث
للرجال، لأنهم هم الذين يذودون عن البلاد، ويحمون الأعراض.
أما المرأة فليس لها ميراث، ولكن الإسلام حكم بالعدل في النساء، وأعطاهن حقهن.
من ذلك إعلان النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الخطبة في قوله "فاتقوا الله في النساء"، أي لا تظلموهن، ولا تقصروا في حقوقهن، ولا تعتدوا عليهن. وقوله: "فإنكم أخذتموهن بأمان الله "، أي أمانة عندكم، لا يجوز الغدر فيها ولا الخيانة. وقوله: "واستحللتم فروجهن بكلمة
الله "، كقوله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5)) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6)) (2) ؛ فهذه من كلمات الله التي استحل بها الرجل فرج امرأته.
وقوله: "ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه ".
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 279.
(2) سورة المؤمنون، الآيتان 5-6.(24/482)
هذا من حق الزوج على زوجته ألا توطئ فراشه أحداً يكرهه.
والمراد بالفراش ما هو أعم من فراش النوم، فيدخل في ذلك فراش البيت، ويدخل في ذلك أيضاً ما كان وسيلة إليه، كإدخال أحد بيت زوجها وهو يكرهه، سواء كان من أقاربها أو من الأباعد، فلا يحل للمرأة أن تدخل أحداً بيت زوجها وهو لا يرضى بذلك.
وقوله: "فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح "، يعني إذا أدخلن في بيوتكم من تكرهونه فاضربوهن. وهنا قال - صلى الله عليه وسلم - اضربوهن؛ وفي القرآن الكريم يقول الله تبارك وتعالى: (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ) (1) ؟ والفرق بينهما أن الآية قال الله فيها (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ) ؛ وأما هذا الحديث فقد وقعت المفسدة محققة منها، فتضرب على ما مضى لا إصلاحاً للمستقبل، الإصلاح هو قوله: (فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ) ، لكن هذا تأديب وتعزير على ما وقع من المرأة حيث أوطأت فراش زوجها من يكرهه؛ لكنه ضرب غير مبرح، أي غير شديد ولا جارح لجسدها، بل هو ضرب خفيف يحصل به التأديب، وبيان سلطة الرجل عليها.
وقوله: "ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف " الرزق العطاء، وهو ما يقوم به البدن من طعام وشراب. وقوله: "وكسوتهن " أي ما يستر به ظاهر الجسد، فهو على الزوج لكن بالمعروف.
وقوله: "بالمعروف "، أي بما يتعارفه الناس مما يكون على
__________
(1) سورة النساء، الآية: 34.(24/483)
الزوج الغني حسب غناه، والفقير حسب فقره.
واختلف العلماء- رحمهم الله- هل المعتبر حال الزوج أو حال الزوجة أو حالهما.
فالمشهور من المذهب إن المعتبر حالهما. والقول الثاني إن المعتبر حال الزوج. والقول الثالث أن المعتبر حال الزوجة.
والصواب أن المعتبر حال الزوج، لقول الله تعالي: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ) (1) . فالغنية مع الغني نفقتها نفقة غني، والفقيرة مع الفقير نفقتها نفقة فقير
والمتوسطة مع المتوسط نفقتها نفقة المتوسط، وهذا واضح تتفق فيه الأقوال.
والغنية مع الفقير نفقة فقير، على القول بأن المعتبر حال الزوج، ونفقة غني على القول بأن المعتبر حال الزوجة، ونفقة متوسط على القول بأن المعتبر حالهما؛ لكن الصحيح أن المعتبر حال الزوج.
ويفهم من هذا الحديث أنه لا نفقة للزوج على الزوجة ولو كانت غنية وهو فقير؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعلن في هذا المجتمع أن الإنفاق على الزوج، خلافاً لابن حزم- رحمه الله- حيث قال إذا كان الزوج فقيراً والزوجة غنية فإنه يلزمها أن تنفق عليه لعموم قوله تعالى: (وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ) (2) ، والزوجة وارث لزوج، فيلزمها أن تنفق عليه. فيقال نعم إذا كان الإنفاق من أجل المواساة.
__________
(1) سورة الطلاق، الآية: 7.
(2) سورة البقرة، الآية: 233.(24/484)
أما إذا كان معاوضة، فلا يمكن أن نلزم الزوجة بالإنفاق على زوجها؛ لأن المستمتع الزوج. ولهذا سمي المهر أجراً، كأنه دفعه المستأجر إلى الأجير. فالإنفاق عليها معاوضة، وليس من باب المواساة. أما لو كان من باب المواساة، كالإنفاق بين الأقارب، فنعم يجب على الغني أن ينفق على الفقير.
وقوله: "وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله ". هذا فيه بيان بعد الإجمال، والبيان بعد الإجمال من أساس البلاغة؛ لأن الشيء إذا جاء مجملاً تشوفت النفوس إلى بيانه. فقد قال: ما إن اعتصمتم به لن تضلوا بعده، فتتشوف النفوس ما هذا؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: "كتاب الله "، يعني هو كتاب الله وهو القرآن الكريم وأضيف إلى الله لأن الله هو الذي أنزله، وهو الذي تكلم به، وسمي كتاباً لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ. وفي الصحف التي بأيدي الملائكة، وفي الصحف التي بأيدينا.
وقوله: " وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون " يسألون عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة هل بلغكم رسولي؟. وإنما يسئلُ الناس عن ذلك إقامة للحجة عليهم، وإلا فالرب عز وجل يعلم أن رسوله بلغ البلاغ المبين صلوات الله وسلامه عليه، فهو شبيه بقوله تعالى: () وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)) (1) ، هي لا تسأل لأجل أن تعذب، ولكنه توبيخ لمن وأدها.
وقوله: "ثم أذن ثم أقام، فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر" أذن يعني أمر بالأذان، وكذلك في الإقامة، لأن مؤذنه إذ ذاك بلال
__________
(1) سورة التكوير، الآيتان: 8، 9.(24/485)
رضي الله عنه أمره أن يؤذن بعد الخطبة، ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر، وكان ذلك يوم جمعة، ولكن لم يصل الجمعة، لأنه ليس من هدي الرسول أن يقيم الجمعة في السفر، ومن أقام
الجمعة في السفر فهو مبتدع، وصلاته باطلة، وهذا يدل على قصور نظر بعض الناس الذين قالوا إن الجمعة واجبة في الحضر والسفر.
فإن قال قائل: ما الدليل على أنها لا تجب في السفر، مع أن ما وجب في السفر وجب في الحضر، وما وجب في الحضر وجب في السفر؟
فالجواب: هذا النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي في السفر، وكم مر عليه من جمعة؟
كثير، ومع ذلك لم ينقل عنه حديث صحيح ولا ضعيف أنه كان يقيم الجمعة في السفر، فمن أقام الجمعة في السفر فهو مبتدع بلا شك، مخالف لهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وصلاته باطلة. فهذا النبي في أعظم جمع اجتمع به في أمته في حجة الوداع أتت عليه الجمعة، وهو في أفضل يوم وهو يوم عرفة، ومع ذلك ما أقام الجمعة ولو كانت مشروعة فهل يدعها الرسول - صلى الله عليه وسلم -؟!.
أبداً لا يمكن. فلما لم يفعلها مع وجود السبب المقتضى لها علم أنها ليست مشروعة، وأنها ليست من دين الله؛ ولهذا بدأ بالخطبة قبل الأذان، وصلاة الجمعة يبدأ بالأذان قبل الخطبة، وأيضاً يقول: "فصلى الظهر " وهذا صريح ثم "أقام وصلى العصر"، وكان ذلك يوم الجمعة وهذا بخلاف المسافر المقيم في بلد تقام فيه الجمعة فإن ظاهر النصوص وجوبها عليه لعموم الأدلة ولأنه قد(24/486)
يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً، لكن إن تضرر بالتأخر للجمعة، أو خاف فوت رفقته فهو معذور في تركها.
وقوله: "ولم يصل بينهما شيئاً"، لأنه ليس من المشروع أن يتطوع الإنسان براتبة الظهر في السفر. ولهذا ما صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - راتبة الظهر التي بعدها كما لم يصل التي قبلها.
وقوله: "ثم ركب حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس ". قوله: "ركب " أي من مكانه الذي صلى
فيه ركب ناقته "حتى أتى الموقف "، (أل) هنا للعهد الذهني، أي الموقف الذي اختار أن يقف فيه وإلا فإن عرفة كلها موقف، كما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف " (1) .
لكن أتى الموقف الذي اختار أن يقف فيه، وهو شرقي عرفة عند الصخرات. والحكمة من ذهاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك الموقف، لأنه - والله أعلم- كان عليه الصلاة والسلام من عادته أن يكون في أخريات القوم، يتفقد من احتاج إلى معونة أو مساعدة، أو ما شابه ذلك، وليس هذا من أجل اختصاص هذا المكان المعين بخصيصة، بل كل عرفة موقف، ولهذا قال: "وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف ".
وقوله: "فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات " يعني يلي الصخرات. وهي معروفة إلى الآن لا تزال موجودة.
وقوله: "وجعل حبل المشاة بين يديه ". حبل المشاة قال
__________
(1) تقدم تخريجه ص 155.(24/487)
العلماء- رحمهم الله-: إنه طريقهم الذي يمشون معه، وسمي حبلاً لأنه كان رملاً، والأقدام تؤثر فيه، فالطريق الذي أثرت فيه الأقدام كأنه حبل.
وقوله: "واستقبل القبلة" يدعو الله عز وجل، رافعاً يديه مبتهلاً إلى الله عز وجل بالذكر والدعاء، والإنابة والخشوع، حتى إن زمام راحلته سقط، فأمسكه بإحدى يديه وهو رافع الأخرى. وهذا
يدل على تأكد رفع اليدين هنا.
وقوله: "فلم يزل واقفا"، المراد بالوقوف هنا المكث، لا الوقوف على القدمين؛ فالقاعد يعتبر واقفاً، والوقوف قد يراد به السكون لا القيام. ومعلوم أن الراكب على الناقة جالس عليها ليس واقفاً عليها.
وهل الأفضل أن يقف راكباً، أم أن يقف غير راكب؟ سيأتي ذلك في الفوائد- إن شاء الله-.
وقوله: "فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس "، لم يزل واقفاً منذ أن وصل إلى موقفه بعد الصلاة وبعد المسير من عرنة إلى الموقف حتى غربت الشمس، ولم يمل، ولم يتعب من طول القيام، ولكن الله عز وجل أعانه على طاعته عوناً لم يحصل لأحد مثله عليه الصلاة والسلام.
ثم إنه في هذا الموقف سئل عن رجل وقصته ناقته وهو واقف بعرفة ومات فقال - صلى الله عليه وسلم -: "اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه، ولا تخمروا رأسه، ولا تحنطوه فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً" (1) .
__________
(1) تقدم تخريجه ص 87.(24/488)
فقوله: "وكفنوه في ثوبيه "، يعني ثياب الإحرام؟ فلا يكفن بغيرها ولو تيسر أن يكفن بغيرها، بل الأفضل والسنة أن يكفن بها، لأنه سيخرج من قبره يوم القيامة يقول: لبيك اللهم لبيك.
وقوله: "وذهبت الصفرة قليلاً"، يعني لم تذهب نهائياً، بل ذهبت قليلاً لأنه إذا غابت الشمس، واستحكم غروبها قلت الصفرة.
وقوله: "حتى غاب القرص"، هذا تأكيد لقوله: "حتى غربت الشمس "، لأنه قد يتوهم واهم أن المراد بغروب الشمس غروب بعضها، فأكد ذلك بقوله: "حتى غاب القرص" ويفهم منه كون
الجو صحواً ليس فيه سحاب يحول بين الناس ورؤية الشمس عند غروبها.
وقوله: "وأردف أسامة خلفه " أردف أسامة بن زيد رضي الله عنه ولم يردف كبار الصحابة رضي الله عنهم، ولا أقاربه أو كبار أقاربه.
مسألة: هل يلزم من إرداف النبي - صلى الله عليه وسلم - لأسامة رضي الله عنه أن يكون أفضل من غيره؟
الجواب: لا يلزم من فضيلة أسامة رضي الله عنه بهذه الخصيصة أن يكون أفضل من غيره مطلقاً، لأن الفضل منه ما هو مقيد ومنه ما هو مطلق فأفضل الصحابة على الإطلاق أبو بكر رضي
الله عنه.
ولكن لا يلزم أن يفضله غيره في بعض الخصائص، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: "أنت(24/489)
مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي" هذه خصيصة لم تكن لغيره رضي الله عنه.
وقوله: "ودفع وقد شنق للقصواء الزمام، حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله ويقول بيده اليمنى يا أيها الناس السكينة، السكينة وكلما أتى حبلاً من الحبال أرخى لها قليلاً حتى تصعد"؛ القصواء ناقته شنق لها الزمام يعني خنقه وضيقه وجذبه لكيلا تسرع، حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله، ومورك الرحل هو الذي يضع الراكب رجله عليه إذا تعب أو مل من الركوب، وهو يقول للناس بيده اليمنى يا أيها الناس السكينة السكينة، لأنه جرت عادة الناس منذ زمن طويل أنهم عند الدفع يندفعون ويسرعون يتبادرون النهار من جهة، ولأن الإنسان خلق من عجل وصفته العجلة. قال الله
تعالى: (خُلِقَ الْأِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ) (1) وقال تعالى: (وَكَانَ الْأِنْسَانُ عَجُولاً (11)) (2) ، فأصل إمداده وإعداده كله عجلة.
وقوله: "السكينة السكينة" بالنصب، أي الزموا السكينة، يعني لا تسرعوا، لا تعجلوا. وقد جاء في حديث آخر: "فإن البر ليس بالإيضاع " (3) ، يعني ليس بالسرعة.
وقوله: "وكلما أتى حبلاً من الحبال أرخى لها قليلاً حتى تصعد"، يعني إذا أتى دعثاً أو رملاً أرخى لها قليلاً حتى تصعد رأفة بالناقة لأنه لو شنق لها الزمام وأمامها شيء مرتفع، وفيه شيء من
__________
(1) سورة الأنبياء، الآية: 37.
(2) سورة الإسراء، الآية: 11.
(3) أخرجه البخاري في كتاب الحج/باب أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الإفاضة، وإشارته إليهم بالسوط
(1671) .(24/490)
الدعث والرمل صعب عليها، فيرخي لها النبي - صلى الله عليه وسلم - قليلاً حتى تصعد.
وقوله: "حتى أتى مزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ". المزدلفة من الإزدلاف، وهو القرب، وتسمى جمعاً، لأن الناس يجتمعون فيها بعد الوقوف بعرفة، وكانوا أيضاً يجتمعون بها من قبل لما كانت قريش لا تخرج إلى عرفة بل تقف في مزدلفة وتقول: إننا أهل الحرم، فلا نخرج عنه.
فصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بها المغرب والعشاء جمع تأخير؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان واقفاً في أقصى عرفة من الناحية الشرقية، ثم دفع حتى أتى المزدلفة. وبين عرفة ومزدلفة مسافة طويلة، والرسول - صلى الله عليه وسلم - قد شنق للقصواء الزمام، وهو يقول للناس: السكينة السكينة، وهذه المسافة لاشك أنها ستستوعب مدة صلاة المغرب، فلم يصل إلا بعد دخول وقت صلاة العشاء، لاسيما أنه وقف في أثناء الطريق، وبال وتوضأ وضوءاً خفيفاً، كما في حديث أسامة رضي الله عنه (1) .
إذاً جَمْعُ الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان جمع تأخير. ولهذا قال العلماء - رحمهم الله- يسن أن يجمع في مزدلفة جمع تأخير، وقيد بعضهم ذلك، فقال: إن لم يوافها وقت المغرب يعني فإن وافاها
وقت المغرب فإنه يصلي المغرب، في وقتها.
وقوله: "بأذان واحد وإقامتين "، وهذا هو الصحيح في الجمع أنه أذان واحد للصلاتين جميعاً وإقامتان، لكل صلاة إقامة،
__________
(1) أخرجه البخاري في الوضوء/باب إسباغ الوضوء (139) ، ومسلم في الحج/باب الإفاضة من عرفات (1280) .(24/491)
والمؤذن بلال رضي الله عنه، فالأذان للإعلام بحضور وقت الصلاة، وهو للمجموعتين وقت واحد. والإقامة للإعلام بالقيام للصلاة، ولكل صلاة قيام خاص.
وقوله: "ولم يسبح بينهما شيئاً" يسبح أي: يصلي، والصلاة تسمى تسبيحاً من باب إطلاق البعض على الكل، وأطلق التسبيح عليها لأن التسبيح ركن فيها، أو واجب فيها، وهنا قاعدة مهمة
مفيدة، وهي أنه إذا عبر عن العبادة ببعضها كان ذلك دليلاً على أن هذا البعض واجب فيها، إذاً لم يسبح أي: لم يتنفل بينهما بشيء.
وقوله: "ثم اضطجع حتى طلع الفجر وصلى الفجر، حين تبين له الصبح بأذان وإقامة".
وقوله: "ثم اضطجع " أي نام عليه الصلاة والسلام حتى طلع الفجر، وهذا من حسن رعايته لنفسه، تحقيقاً لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن لنفسك عليك حقاً". (1) ومعلوم أن من عمل كعمل الرسول فلابد أن يتعب ويحتاج إلى الراحة وإلى النوم. والنوم إذا كان لرعاية النفس كان الإنسان مأجوراً عليه.
فالرسول - صلى الله عليه وسلم - أقام بنمرة، ودفع منها حين زالت الشمس، وخطب الناس، وصلى، وذهب إلى الموقف، ووقف ولم ينم - صلى الله عليه وسلم -، ثم مشى من عرفة إلى مزدلفة كل هذا يحتاج إلى طاقة وراحة فاضطجع - صلى الله عليه وسلم -، ولم يتهجد تلك الليلة.
وقوله: "ثم اضطجع حتى طلع الفجر". لم يذكر جابر رضي
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأدب/باب صنع الطعام، والتكلف للضيف (6139) ، والترمذي في كتاب الزهد/باب حدثنا محمد بن بشار (2526) .(24/492)
الله عنه الوتر، فهل النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يوتر؟ قد يقول قائل: إنه لم يوتر، لأن جابراً كان متتبعاً لأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد يقال: إن جابراً رضي الله عنه سكت عنه، لأنه لا يدري، ولهذا لما لم يتنفل بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء نفى وقال: لم يسبح بينهما شيئاً، فلما لم ينف الوتر دل على أن جابراً رضي الله عنه لم يحط به علماً، وعلى هذا فنرجع إلى الأحاديث الدالة على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يدع الوتر حضراً، ولا سفراً، وعليه فنقول يوتر إن شاء قبل أن ينام، وإن شاء في آخر الليل حسب قوته ونشاطه.
وقوله: "وصلى الفجر"، لم يذكر جابر رضي الله عنه أيضاً سنة الفجر، فهل الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يصلها؟ نقول لو كان عند جابر رضي الله عنه علم بأنه لم يصلها لنفاها، كما نفى الصلاة بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، فإذا كان حديث جابر رضي الله عنه لا يدل على نفيها، فإن حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في الصحيح أنه لم يكن يدعهما أي الركعتين قبل الفجر حضراً ولا سفراً (1) ، يفيد أن الإنسان يصلي الركعتين في فجر يوم العيد.
وقوله: "حين تبين له الصبح "، يعني ظهر واتضح، لأنه لا تجوز الصلاة مع الشك في الصبح، بل لابد أن يتبين، فإن كان ثمَّ غيم فإذا غلب على ظنه أنه خرج الفجر صلى، كما سنذكره في
الفوائد- إن شاء الله تعالى-.
وقوله: "ثم ركب حتى أتى المشعر الحرام " هذا يدل على أن
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب التهجد/باب تعاهد ركعتي الفجر (1169) ولفظه: "لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - على شيء من النوافل أشد منه تعاهداً على ركعتي الفجر".(24/493)
النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن مبيتُه في مزدلفة في نفس المشعر الحرام، بل في مكان آخر. ولهذا لما صلى الفجر أمر بالقصواء فرحلت له، ثم أتى المشعر الحرام. والمشعر الحرام هو المكان الذي فيه المصلى الآن في مزدلفة، وسمي مشعراً حراماً، لأنه داخل الحرم، فهل هناك مشعر حلال فيكون الوصف للقيد، أم ليس هناك مشعر حلال فيكون الوصف لبيان الواقع؟
الجواب: قال العلماء- رحمهم الله- بل هناك مشعر حلال، وهو عرفة، وهو أعظم مشاعر الحج. فإذاً لدينا مشعر حرام وهو مزدلفة، ومشعر حلال وهو عرفة.
وقوله: "فاستقبل القبلة فدعاه وكبره وهلله "، استقبل القبلة يعني جعل وجهه إلى القبلة " ودعاه " الضمير يعود على الله.
فإذا قال قائل لم يسبق له ذكره؟ نقول: هذا معلوم بالذهن والمعلوم بالذهن، كالمعلوم بالذكر.
أما الدعاء فمعروف، وهو طلب الحاجة؛ وأما التكبير فقول الله أكبر، والتهليل قول لا إله إلا الله.
وقوله: "فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً، فدفع قبل أن تطلع الشمس " لم يزل واقفاً يعني على ناقته لقوله فيما سبق "ركب حتى أتى".
وقوله: "حتى أسفر جداً"، يعني إسفاراً بالغاً، ليس مجرد إسفار، بل انتشر السفر، وبان وظهر.
وقوله: "فدفع قبل أن تطلع الشمس "، أي لم ينتظر طلوع الشمس فسار من مزدلفة ليخالف المشركين، لأن المشركين كانوا(24/494)
ينتظرون في مزدلفة إلى أن تطلع الشمس وكانوا يقولون: "أشرِقْ ثَبيرْ كيما نُغير"، أي: كي نغير وندفع، فخالفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدفعين، الدفع من عرفة، والدفع من مزدلفة، فمن عرفة دفع بعد الغروب، ومن مزدلفة دفع قبل الشروق.
وقوله: "وأردف الفضل بن عباس "، وذلك حين دفع من مزدلفة إلى منى يوم العيد، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أردف في دفعه من عرفة إلى مزدلفة أسامة بن زيد رضي الله عنهما وأردف في دفعه من مزدلفة إلى منى الفضل بن عباس رضي الله عنهما، وهؤلاء ليسوا من كبار القوم. فأسامة ابن مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زيد بن حارثة، فلم يختر النبي - صلى الله عليه وسلم - أشراف القوم ووجهاءهم ليردفهم على ناقته، بل اختار من صغار القوم في السن، واختار المولى يردفه من عرفة إلى مزدلفة؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يعتني بمظاهر التعظيم ولا تهمه، بل كان من عادته عليه الصلاة والسلام أن يكون في أخريات القوم، يتفقدهم وينظر من يحتاج إلى أمر. وقصة جابر رضي الله عنه في جمله واضحة، فإن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما كان معه جمل ضعيف لا يمشي يقول: فلحقني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضربه ودعا له، فسار الجمل سيراً لم يسر مثله قط، حتى صار الجمل يكون في مقدمة القوم، وجابر رضي الله عنه يرده، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - دعا له، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - أتبيعني إياه؟ قال: نعم، قال: بعنيه بأوقية.- والأوقية أربعون درهماً- قال: لا، فقال: بعنيه فباعه فاشترط أن يحمله إلى أهله في المدينة فأعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - شرطه، فلما وصلا إلى المدينة دفع إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - الثمن وقال له: خذ جملك ودراهمك هو(24/495)
لك (1) .
وقوله: "حتى أتى بطن محسر فحرك قليلاً"، يعني حرك ناقته عليه الصلاة والسلام حين بلغ بطن مُحَسِّر (2) . ومحسر واد عظيم يفصل بين مزدلفة ومنى، وبهذا نعرف أن ما بين المشاعر أودية.
فبين المشعر الحرام والمشعر الحلال واد هو وادي عرنة.
وبين المشعرين الحرامين منى ومزدلفة واد هو وادي محسر.
واختلف العلماء- رحمهم الله- في سبب الإسراع، فقال بعضهم: أسرع لأن بطن الوادي يكون لينا يحتاج لأن يحرك الإنسان بعيره لأن مشي البعير على الأرض الصلبة أسرع من مشيه على الأرض الرخوة، فحرك من أجل أن يتساوى سيرها في الأرض الصلبة، وسيرها في الأرض الرخوة. وعلى هذا، فالملاحظ هنا هو مصلحة السير فقط.
وقيل: أسرع لأن الله أهلك فيه أصحاب الفيل، فينبغي أن يسرع، لأن المشروع للإنسان إذا مر بأراضي العذاب أن يسرع كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - (حين مر بديار ثمود في غزوة تبوك زجر الناقة عليه الصلاة والسلام وقنع رأسه وأسرع) (3) . وبعض الناس اليوم يتخذ
__________
(1) أخرجه البخاري في الشروط/باب إذا اشترط البائع ظهر الدابة (2718) ، ومسلم في المساقاة/باب بيع البعير واستثناء ركوبه (1222) .
(2) مُحَسِّر: بالضم ثم بالفتح وكسر السين المشددة وراء، هو اسم الفاعل. من الحسر، وهو
بين منى ومزدلفة وليس من منى، ولا المزدلفة، بل هو واد برأسه. معجم البلدان (5/74) .
(3) أخرجه البخاري في المغازي/باب نزول النبي - صلى الله عليه وسلم - الحجر (4419) ، ومسلم في الزهد والرقائق/باب لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين (2980) عن ابن عمر رضي الله عنهما.(24/496)
هذه الأماكن، أعني ديار ثمود سياحة ونزهة- والعياذ بالله-، مع أن رسول الله أسرع فيها وقال: "لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم ما أصابهم ". ففي عملهم خطر عظيم، لأن الإنسان إذا دخل على هؤلاء بهذه الصفة فقلبه يكون غير لين، فيكون قاسياً مع مشاهدته آثار العذاب، وحينئذ يصيبه ما أصابهم من التكذيب والتولي. هذا معنى الحديث؛ وليس المراد أن يصيبكم العذاب والزجر الحسي، فقد يراد به العذاب والزجر المعنوي وهو أن يقسو قلب الإنسان، فيكذب بالخبر ويتولى عن الأمر.
والذين يذهبون إلى النزهة أو الفرجة، الظاهر أنهم للضحك أقرب منهم للبكاء. فنسأل الله لنا ولهم العبرة والهداية.
وتعليل إسراع النبي - صلى الله عليه وسلم - في وادي محسر بذلك فيه نظر؛ لأن أصحاب الفيل لم يهلكوا هنا، بل في مكان يقال له المغمس (1) حول الأبطح. وفي هذا يقول الشاعر الجاهلي أمية بن أبي الصلت: حبس الفيل بالمغمس حتى ظل يحبو كأنه معقور وقال بعض العلماء- رحمهم الله-: إن النبي أسرع، لأنهم كانوا في الجاهلية يقفون في هذا الوادي، ويذكرون أمجاد آبائهم. فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يخالفهم كما خالفهم في الخروج من عرفة، وفي الخروج من مزدلفة، ولعل هذا أقرب التعاليل. ولهذا قال الله تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ
__________
(1) المُغَمَّس: بالضم ثم بالفتح وتشديد الميم وفتحها. اسم المفعول من غمست الشيء في الماء إذا غيبته فيه: موضع قرب مكة في طريق الطائف. معجم البلدان (5/188) .(24/497)
الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)) ثم قال: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) (1) .
وقوله: "ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى" في منى ثلاث طرق في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، شرقي، وغربي ووسط، فسلك النبي - صلى الله عليه وسلم - الطريق الوسطى بين الطريقين، وإنما سلكها، لأنها كانت أقرب إلى رمي جمرة العقبة، ولأنها هي التي تخرج على جمرة العقبة قصداً ليرميها حين وصوله إلى منى، ولهذا رماها النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يذهب إلى رحله وينزل من بعيره، رماها وهو على بعيره وكان معه أسامة وبلال رضي الله عنهما أحدهما يقود راحلته والآخر يظلله بثوب يستره من الحر حتى رمى الجمرة صلوات الله وسلامه عليه.
قال أهل العلم: وإنما بادر بذلك، لأن رمي جمرة العقبة تحية منى، فهي بمنزلة ركعتي المسجد.
ولم يذكر جابر رضي الله عنه من أين لقط حصى الجمرات، ولكن نعلم أنه لم يلقطها من مزدلفة، لأنه اضطجع حتى طلع الفجر، ثم ذهب إلى المشعر الحرام، ثم دفع منه. لكن هل لقطها من الطريق، أم لقطها حين وقف على الجمرة، حديث ابن عباس (2)
__________
(1) سورة البقرة، الآيتان: 198، 200.
(2) وهو (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر ابن عباس أن يلقط الحصى وهو يقول للناس: بأمثال هؤلاء فارموا، وإياكم والغلو في الدين) أخرجه النسائي في الحج/باب التقاط الحصى =(24/498)
رضي الله عنهما في هذا محتمل أنه لقطها من الطريق، أو لقطها حين وقف على الجمرة. والله أعلم.
وعلى كل حال، فالذي ينبغي أن يكون الإنسان مستعداً بالحصى حتى إذا وصل الجمرة رماها.
وقوله: "التي تخرج على الجمرة الكبرى" وصفها بالكبرى بالنسبة لما قبلها من الجمرات، وهي الأولى، والوسطى، فإنها كبرى بالنسبة لهما وهي أوسعهن حوضاً، لكن نظراً لكونها في الجبل لم يكن حوضها دائراً عليها.
وقوله: "حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة" وهي الكبرى، وهي شجرة معروفة في ذلك الزمان، لكنها الآن ليست موجودة.
وقوله: "فرماها بسبع حصيات " رمى الجمرة بسبع حصيات.
والجمرة سميت بذلك من قولهم تجمر القوم إذا اجتمعوا، لأن الناس يجتمعون عليها للرمي. وقيل: إنها من الجمار، وهي الحصى الصغار لأنها ترمى بها. ويمكن أن نقول: إنها سميت بذلك مراعاة للمعنيين جميعاً، لأن الناس يتجمرون عندها أي يتجمعون، ولأنها ترمي بالجمار أي بالحصى الصغار.
وقوله: "فرماهما بسبع حصيات " قد يفهم منه: أنه لابد أن يرمي الشاخص (العمود القائم) ، ولكنه غير مراد، بل المقصود أن تقع الحصاة في الحوض، سواء ضربت العمود أم لم تضربه.
والحكمة من رمي الجمرات: إقامة ذكر الله عز وجل، كما في
__________
= (5/268) ، وابن ماجه في المناسك/باب قدر حصى الرمي (3029) ، وأحمد (1/215، 347) .(24/499)
حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنما جعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله " (1) ، ولهذا يشرع أن يكبر عند رمي كل حصاة من أجل أدق يعظم الله تعالى بلسانه كما هو معظم له بقلبه، لأن رمي الجمرات على هذا المكان أظهر ما فيه من المعنى المعقول هو التعبد لله، وهذا كمال الانقياد، إذ إن الإنسان لا يعرف معنى معقولاً واضحاً في رمي هذه الحصى في هذا المكان سوى أنه يتعبد لله عز وجل بأمر، وِإن كان لا يعقل معناه على وجه التمام تعبداً لله تعالى وتذللاً له، وهذا هو كمال الخضوع لله عز وجل. ولهذا كان في رمي الجمار تعظيم لله باللسان وبالقلب.
أما ما اشتهر عند الناس من أنهم يرمون الشياطين في هذه الجمرات، فهذا لا أصل له، وإن كان قد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما بسند ضعيف أنه قال: (الشيطان ترمون) (2) ، فإنما يقصد بذلك إن صح عنه هذا الخبر أو هذا الأثر فالمراد أنكم تغيظون الشيطان برميكم هذه الجمرات حيث تعبدتم لله عز وجل بمجرد أن أمركم به من غير أمر معقول لكم على وجه التمام. وما قيل أيضاً- إن صح- من أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان الشيطان يعرض له في هذه المواقف ليحول بينه وبين تنفيذ أمر الله تعالى بذبح ولده، فكان إبراهيم عليه الصلاة والسلام يرميه بهذه الجمرات (3) ، فإنه لا
__________
(1) تقدم تخريجه ص (26) .
(2) أخرجه الحاكم في المستدرك في المناسك حديث (1713) من قول ابن عباس رضي الله عنهما ولفظه (الشيطان ترجمون وملة أبيكم تتبعون) .
(3) أخرجه الحاكم في المستدرك في المناسك حديث (1713) ، وأخرجه البيهقي في الحج/ باب ما جاء في بدء الرمي. حديث (9693) ولفظه: (لما أتى إبراهيم خليل الله المناسك=(24/500)
يستلزم أن يكون رمينا رميا لإبليس، لأن إبليس لم يتعرض لنا في هذه الأماكن. ونظير هذا أن السعي إنما شرع من أجل ما جرى لأم إسماعيل رضي الله عنها. ومعلوم أن تردد أم إسماعيل بين الصفا والمروة سببه طلب الغوث لعلها تجد من يكون حولها ويسقيها ويطعمها ونحن في سعينا لا نسعى لهذا الغرض. فكذلك رمي الجمرات، حتى لو صح أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان يرمي الشيطان بهذه الجمرات مع أنه بعيد، لأن الله عز وجل جعل لنا دواء نرمي به الشيطان إذا عرض لنا وهو أن نستعيذ بالله منه (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ) (1) . إذاً الحكمة من رمي الجمرات هو كمال التعبد لله تعالى، والتعظيم لأمره. ولهذا يحصل ذكر الله بالقلب واللسان.
فإن قال قائل: لماذا لم تكن خمساً، أو ثلاثاً، أو تسعاً، أو إحدى عشرة حصاة؟
فالجواب: هذا ليس لنا الحق في أن نتكلم فيه، كما أنه ليس لنا الحق أن نقول لماذا كانت الصلوات الخمس سبع عشرة ركعة؟
ولماذا لم تكن الظهر ستا والعصر ستاً والعشاء ستاً مثلاً؟
نقول: هذا لا تدركه عقولنا، وليس لنا فيه إلا مجرد التعبد.
وقوله: "يكبر مع كل حصاة" والمعية تقتضي المصاحبة، فيكبر عندما يرمي ويقذف.
__________
= عرض له الشيطان عند جمرة العقبة، فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض، ثم عرض له
عند الجمرة الثانية، فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض ثم عرض له عند الجمرة الثالثة فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض.
(1) سورة فصلت، الآية: 36.(24/501)
وقوله: "كل حصاة منها مثل حصى الخذف " حصى الخذف حصى صغير ليس بكبير، والخذف: هو أن تجعل الحصاة على ظفر الإبهام، وتجعل فوقها السبابة. وقدر العلماء- رحمهم الله- بأنه بين الحمص والبندق.
وقوله: "رمى من بطن الوادي "، أي رمى الجمرة من بطن الوادي، لا من الجبل. وكانت جمرة العقبة فيما سبق قبل هذه التوسعة والتعديلات كان في سفح جبل، وتحتها واد هو مجرى الشعيب، وفوقها جبل لكنه ليس بالرفيع، وهي لاصقة في نفس الجبل. فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - من بطن الوادي ورماها، ولم يأتها من فوق؛ وعلى هذا تكون السنة أن يرميها من هذه الجهة، فيجعل مكة عن يساره، ويجعل منى عن يمينه كما فعل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وقال هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة (1) . ولكن إذا كانت محاولة الوصول إلى الجمرة من هذه الناحية فيه مشقة على الإنسان ولو رماها من وجه آخر لم يكن فيه مشقة، وصار أخشع له وأبلغ في الطمأنينة كان رميه من الجهة الأخرى أفضل، بناء على القاعدة المعروفة إن الفضل المتعلق بذات العبادة أولى بالمراعاة من الفضل المتعلق بمكانه.
وقوله: "ثم انصرف إلى المنحر فنحر"، يعني بعد أن رمى جمرة العقبة انصرف إلى المنحر، أي مكان نحر الإبل، وكذلك ذبح الشاة والمعز. وكان عليه الصلاة والسلام قد أهدى مائة بدنة، فنحر
__________
(1) أخرجه البخاري في الحج/باب رمي الجمار من بطن الوادي (1747) ، ومسلم في الحج/باب رمي جمرة العقبة من بطن الوادي (1296) .(24/502)
منها ثلاثاً وستين بيده، وأعطى علي بن أبي طالب رضي الله عنه فنحر الباقي، وأمره أن يتصدق بلحومها وجلالها وجلودها، وأمر أن يؤخذ من كل بعير قطعة فجعلت في قدر فطبخت، فأكل من
لحمها، وشرب من مرقها تحقيقاً لقوله تعالى: (فَكُلُواْ مِنْهَا) (1) قال العلماء- رحمهم الله-: وفي نحره ثلاثاً وستين بعيراً مناسبة لسنوات عمره الشريف فإنه - صلى الله عليه وسلم - مات وله من العمر ثلاث وستون سنة.
وقوله: "ثم ركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأفاض إلى البيت " لم يذكر جابر رضي الله عنه حلق الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولكن ثبت (2) أنه حلق بعد نحره، وحل من إحرامه، وتطيب ونزل إلى مكة، فطاف. ولا يلزم من عدم ذكر جابر رضي الله عنه لذلك ألا يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله إذ لا يلزم أن يعلم جابر رضي الله عنه ولا غيره بكل ما يفعله الرسول - صلى الله عليه وسلم - لكن تكمل أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعضها ببعض، مما رواه الصحابة رضي الله عنهم جميعاً.
وقوله: "ثم ركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأفاض إلى البيت "، أي نزل إليه فطاف به سبعة أشواط، ولم يسع بين الصفا والمروة، لأنه كان قارناً، وقد سعى بعد طواف القدوم ولم يسع أصحابه الذين كانوا معه الذين لم يحلوا، بل طافوا طوافاً واحداً. أما الذين حلوا فقد ثبت في صحيح البخاري من حديث ابن
__________
(1) سورة الحج، الآية: 28.
(2) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما رمى رسول الله الجمرة، ونحر نسكه وحلق ... الحديث أخرجه مسلم في الحج/باب بيان أن السنة يوم النحر أن يرمي، ثم ينحر، ثم يحلق (1305) .(24/503)
عباس (1) رضي الله عنهما أنه لما كان عشية يوم التروية أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فأحرموا فلما أنهوا المناسك طافوا بالبيت، وبالصفا والمروة. هكذا جاء في صحيح البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وهو صريح في أنهم طافوا بالبيت وبالصفا والمروة، وكذلك ثبت في الصحيح من حديث عائشة (2) رضي الله عنها أن الذين أحرموا بالعمرة سعوا بين الصفا والمروة مرتين. وما دام عندنا حديثان صحيحان في أن المتمتع يطوف ويسعى مرتين، فإن حديث جابر رضي الله عنه يتعين أن يحمل على الذين لم يحلوا. وما ذهب إليه جماعة من أهل العلم رحمهم الله ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية في أن المتمتع يكفيه سعي واحد قول ضعيف ويتبين لنا أن الإنسان مهما بلغ من العلم والفهم، فإنه لا يسلم من الخطأ، لأنه لا معصوم إلا من عصم الله عز وجل والإنسان يخطئ ويصيب.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الحج/باب قوله تعالى: (ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام (1572) ، ولفظه: (أهل المهاجرون والأنصار، وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في
حجة الوداع، وأهللنا، فلما قدمنا مكة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اجعلوا إحلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي، فطفنا بالبيت، وبالصفا والمروة، وأتينا النساء ولبسنا الثياب، وقال: من قلد الهدي فإنه لا يحل حتى يبلغ الهدي محله، ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج فإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة، وقد تم حجنا، وعلينا الهدي) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب الحج/باب طواف القارن (1638) ، ولفظه: (فطاف الذين أهلوا بالعمرة، ثم حلوا، ثم طافوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا من منى، وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة فإنما طافوا طوافاً واحداً) . وأخرجه مسلم في كتاب الحج/باب بيان وجوه الإحرام، وأنه يجوز إفراد الحج، والتمتع، والقران (1211) ، ولفظه: (فطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت، وبالصفا والمروة ثم حلوا ثم طافوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا إلى منى لحجهم. وأما الذين كانوا جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافاً واحداً) .(24/504)
وحديث ابن عباس وعائشة رضي الله عنهما كلاهما في البخاري، ومثل هذا لا يخفى على شيخ الإسلام ابن تيمية، لأنه - رحمه الله- من حفاظ الحديث، حتى قال بعضهم كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بصحيح، ولكن الإنسان بشر. فالصواب بلا شك أن المتمتع يلزمه طوافان وسعيان والقياس يقتضي ذلك؛ لأن العمرة انفردت، وفصل بينها وبين الحج حل كامل، وأحرم الإنسان بالحج إحراماً جديداً.
وقوله: "فصلى بمكة الظهر"، أي صلى الظهر يوم العيد بمكة، وهذا من البركة العظيمة في أعماله - صلى الله عليه وسلم - حيث دفع من مزدلفة حين أسفر جداً على الإبل، ودفع بسكينة إلا في بطن محسر، ورمى جمرة العقبة، وذبح الإبل، وحلق ولبس ونزل مكة، وصلى بها الظهر في هذه المدة الوجيزة؛ مع أن الذي يظهر- والله أعلم- أن حجه كان في زمن الربيع تساوي الليل والنهار.
وقوله: "فأتى بني عبد المطلب يسقون على زمزم فقال: انزعوا بني عبد المطلب فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم فناولوه دلواً فشرب منه "، أي: بعدما طاف للإفاضة أتى ماء
زمزم، فشرب منه. فالمشهور عند أهل العلم- رحمهم الله- أنه شرب من ماء زمزم تعبداً؛ ولهذا قالوا: يسن بعد طواف الإفاضة أن يشرب من ماء زمزم.
وقال بعض أهل العلم: إنه شرب منه لا للتعبد به وإنما هو لحاجة النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه.(24/505)
من فوائد هذا الحديث
1- أن حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت في السنة العاشرة من الهجرة، لقوله: "ثم أذن في الناس في العاشرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاج "؛ فإن قال قائل لماذا لم يحج النبي - صلى الله عليه وسلم - في السنة التاسعة، أو في السنة الثامنة، أو في السنة السابعة مثلاً؟ قلنا أما ما قبل الثامنة فلا يمكن أن يحج، لأنها قبل الفتح، وكانت مكة تحت سيطرة المشركين، وقد
ردوه عن العمرة، فكيف عن الحج؟!.
وأما في السنة الثامنة بعد الفتح، فكان مشتغلاً عليه الصلاة والسلام بالجهاد، فإنه لم يفرغ من ثقيف إلا في آخر ذي القعدة.
وأما في السنة التاسعة، فقيل إنه لم يحج لأن هذا العام عام الوفود. فإن العرب كانوا ينتظرون فتح مكة، ولما فتحت مكة انتظروا أيضاً القضاء على ثقيف، لأنهم أمة لهم قوة، فلما قضى عليهم عليه الصلاة والسلام أذعنت العرب، وصاروا يأتون أفواجاً إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المدينة، فكان في المدينة ليلتقي هؤلاء الوفود يعلمهم دينهم عليه الصلاة والسلام.
وسبب آخر هو أنه في السنة التاسعة حج المشركون مع المسلمين، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكون حجه خالصاً للمسلمين، ولهذا أذن في التاسعة ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. هذا إذا ما قلنا إن الحج فرض في التاسعة، وإن قلنا إنه فرض في العاشرة فلا إشكال.
2- أن ميقات أهل المدينة ذو الحليفة. لقوله: (فخرجنا(24/506)
معه حتى أتينا ذا الحليفة) .
3- أن الصحابة رضي الله عنهم من أحرص الناس على طلب العلم، ذكورهم وإناثهم، لقوله: (فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف أصنع) .
4- أن طلب العلم لا يختص بالرجال؛ فكما أن الرجل يشرع له طلب العلم، بل يتعين عليه، إذا كانت عبادته لا تقوم إلا به فإنه يتعين عليه فكذلك المرأة ولا فرق.
5- أنه يستحب الغسل للإحرام للرجال والنساء حتى من لا تصلي فإنها تغتسل، لقوله - صلى الله عليه وسلم - لأسماء بنت عميس: "اغتسلي" فأمرها أن تغتسل. وإذا كانت النفساء- وهي لا تصلي- تؤمر بالغسل، فكذلك من سواها.
فإذا لم يجد المحرم الماء، أو تعذر عليه استعماله لمرض أو غيره فهل يتيمم؟
المشهور عند أهل العلم- رحمهم الله- أنه يتيمم، قالوا لأن هذه طهارة مشروعة، فإذا تعذرت عدلنا إلى التيمم، كالاغتسال للواجب. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- لا يسن التيمم، لأن هذا اغتسال ليس عن جنابة حتى يحتاج الإنسان فيه إلى رفع الحدث، إنما هو اغتسال للتنظف والتنشط لهذا العمل، فإذا لم يجد الماء فإنه لا يتيمم. وعلى كل حال إن تيمم الإنسان فلا بأس، لأنه قال به من قال من أهل العلم.
6- أن الحيض أو النفاس لا يمنع انعقاد الإحرام، كما لا يمنع دوامه، بدليل قوله: "وأحرمي". وبناء على ذلك، فإن المرأة(24/507)
إذا وصلت إلى الميقات وهي حائض، أو أصابها حيض فلا تقل: لن أحرم حتى أطهر، بل نقول: أحرمي.
7- جواز الإحرام ممن عليه جنابة. وجه ذلك أنه أمر النفساء أن تحرم، والنفاس موجب للغسل.
8- أنه ينبغي التلبية إذا استوى على البيداء لقوله: (حتى إذا استوت به على البيداء أهل بالتوحيد) . وهذه المسألة اختلف فيها العلماء- رحمهم الله-، فمنهم من أخذ بحديث جابر رضي الله عنه
وقال لا يلبي إلا إذا استوت به على البيداء.
ومنهم من قال: يلبي إذا صلى قبل أن يركب (1) ، ومنهم من قال: بل يلبي إذا ركب كما دل عليه حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيح (2) .
وللعلماء في هذه المسألة ثلاثة أقوال سلكوا فيها مسلكين:
فمنهم من سلك مسلك الترجيح، ومنهم من سلك مسلك الجمع.
فالذين سلكوا مسلك الترجيح بعضهم رجح الإحرام من حين أن يصلي، وبعضهم رجح الإحرام إذا استوى على ناقته إذا ركب، وبعضهم قال: إذا استوت به على البيداء.
__________
(1) "لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهلَّ دبر الصلاة" أخرجه الإمام أحمد (1/285) ، والترمذي في الحج/ باب ما جاء متى أحرم النبي - صلى الله عليه وسلم - (819) ، والنسائي في الحج/باب العمل في الإهلال 5/162 عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الحج/باب من أهل حين استوت به راحلته قائمة (1552) ، ولفظه: (أهل النبي - صلى الله عليه وسلم - حين استوت به راحلته قائمة) ، وأخرجه مسلم في الحج/باب التلجية وصفتها ووقتها (1184) ، ولفظه: (ئم إذا استوت به الناقة قائمة عند مسجد الحليفة أهل
بهؤلاء الكلمات) .(24/508)
أما من سلك مسلك الجمع- وهو المروي عن عبد الله بن عباس- رضي الله عنهما كما رواه الحاكم وغيره فقال: إنه لا منافاة بين هذه الأمور الثلاثة، لأن من الناس من سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يلبي حين صلى فقال: إنه لبى حين صلى، ومنهم من سمعه يلبي حين ركب، فقال: لبى حين ركب، ومنهم من سمعه يلبي حين استوت به على البيداء، فقال: لبى حين استوت به على البيداء) (1) .
ولولا ما قيل في سند هذا الحديث لكان وجهه ظاهراً، لأنه يجمع بين الروايات.
ولكن الأحسن والأرفق بالناس ألا يلبي حتى يستوي على ناقته، لأنه قد يحتاج إلى شيء فقد يكون نسي أن يتطيب مثلاً، وقد يتأخر في الميقات بعد أن يصلي الركعتين (ركعتي الوضوء) ، أو
الصلاة المفروضة مثلاً، فالأرفق به أن تكون تلبيته إذا استوى على ناقته، وإن لبى قبل ذلك فلا حرج.
9- أن الإنسان لا ينقل إلا ما بلغه علمه؛ فإن جابراً رضي الله عنه لم ينقل ما نقله عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل حين استوى على ناقته، بل قال حتى إذا استوت به على البيداء وهذا بعد ما ذكره عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
10- مشروعية رفع الصوت بالتلبية، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال ". (2) فينبغي للرجل أن يرفع صوته امتثالاً لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (1/260) ، وأبو داود في المناسك/باب في وقت الإحرام (1770) ، وضعفه المنذري في تهذيب السنن (1696) .
(2) أخرجه أبو داود في المناسك/باب كيف التلبية (1814) ، والترمذي في الحج/باب ما=(24/509)
واتباعاً لسنته، وسنة أصحابه. فقد قال جابر رضي الله عنه كنا نصرخ بذلك صراخا" (1) . ولا يسمع صوت الملبي من حجر، ولا مدر، ولا شجر إلا شهد له يوم القيامة، فيقول: أشهد أن هذا حج ملبياً. ومع الأسف أن كثيراً من الحجاج لا يرفعون أصواتهم بالتلبية إلا نادراً، فإن قال قائل: أليس النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه وقد كبروا في سفر معه "أيها الناس اربعوا على أنفسكم- أي: هونوا عليها- فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته " (2) .
قلنا: لكن التلبية لها شأن خاص لأنها من شعائر الحج، فيصوت بها. أو يقال إن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يهونوا على أنفسهم لأنهم كانوا يرفعون رفعاً شديداً يشق عليهم. أما المرأة فتسر بها، لأن المرأة مأمورة بخفض الصوت في مجامع الرجال، فلا ترفع صوتها بذلك، كما أنها مأمورة إذا نابها شيء في الصلاة مع الرجال أن تصفق، لئلا يظهر صوتها، فصوت المرأة- وإن لم يكن عورة- لكن يخشى منه الفتنة. ولهذا نقول: المرأة تلبي سراً بقدر ما تسمع رفيقتها ولا تعلن.
__________
= جاء في رفع الصوت بالتلبية (829) ، والنسائي في المناسك/باب رفع الصوت بالإهلال (2753) ، وابن ماجه في المناسك/باب رفع الصوت بالتلبية (2922) .
(1) أخرجه مسلم في الحج/باب التقصير في العمرة (1248) عن جابر وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما ولفظه (قالا: قدمنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن نصرخ بالحج صراخا) .
(2) أخرجه البخاري في الجهاد/باب ما يكره من رفع الصوت في التكبير (2992) ، وأخرجه مسلم في الذكر والدعاء/باب استحباب خفض الصوت بالذكر (2704) عن أبي موسى =
رضي الله عنه- واللفظ لمسلم.(24/510)
وهذا من الأحكام التي تخالف فيها المرأة الرجال. وهي كثيرة، لأنها كما خالفته خلقة وفطرة خالفته حكماً، والله- عز وجل- حكيم، أحكامه الشرعية مناسبة لأحكامه القدرية.
اختلف العلماء- رحمهم الله- هل يلبي وهو ماكث، أو لا يلبي إلا وهو سائر؟
الجواب: من العلماء من قال إنه يلبي وهو سائر فقط. وأما إذا كان ماكثاً، أي: نازلاً في عرفات، أو مزدلفة، أو منى، فإنه لا يلبي؛ لأن التلبية معناها الإجابة، وهي لا تتناسب مع المكث، إذ إن المجيب ينبغي أن يتقدم إلى من يجيبه، لا أن يجيب وهو باق، وهذا الثاني هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- وأنه لا يلبي إلا في حال السير بين المشاعر، والقول الأول: يقول يلبي حتى يرمي
جمرة العقبة، سواءً كان ماكثاً أم سائراً.
11- مشروعية رفع الصوت بالتلبية من حين الإحرام.
اختلف أهل العلم- رحمهم الله- في التلبية ورفع الصوت بها.
فذهب جمهور العلماء إلى أنهما سنة. وقال بعض العلماء إنها أي التلبية واجبة، وهل يجب بتركها دم على قولين. وقال آخرون إنها ركن لا ينعقد الإحرام إلا بها، كتكبيرة الإحرام في الصلاة. وقال
شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- ينعقد بالنية مع التلبية، أو سوق الهدي، وهو قول الإمام أبي حنيفة، ورواية عن الإمام أحمد.
وقال ابن حزم: إن التلبية ورفع الصوت بها فرض، فمن لم يلب في شيء من حجه أو عمرته، أو لبى ولم يرفع صوته فلا حج له ولا عمرة.(24/511)
12- مشروعية تعيين النسك في التلبية. فإذا كان في العمرة يقول: لبيك اللهم عمرة، وفي الحج يقول: لبيك اللهم حجاً، وفي القِرَان يقول: لبيك اللهم عمرة وحجاً.
13- أنه ينبغي للإنسان أن يستحضر أنه في مجيئه إلى مكة وإحرامه أنه إنما يفعل ذلك تلبية لدعاء الله. قال الله تعالى: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)) . فالأذان بأمر الله يعتبر أذاناً من الله. فإذا كان الله هو الذي أذن فأنا أجيبه وأقول: لبيك اللهم لبيك ... إلخ.
14- أن التلبية توحيد خالص، لأن الإنسان يقول لبيك اللهم لبيك، ولبيك هذه جواب، جواب دعوة. ولهذا إذا دعي أحدنا فقيل يا فلان قال للداعي لبيك، وهي بصيغة التثنية، ولكن المراد التكرار، ومن ثم يقول النحويون إنها ملحقة بالمثنى لأن لفظها لفظ تثنية، ومعناها التكثير. والتلبية هي الإجابة؛ فكأنك تقول يا رب إجابة لك بعد إجابة. وتكرر توكيداً.
15- الثناء على الله عز وجل بالحمد والنعمة، فإنه هو المتفضل عز وجل بذلك (وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) (2) .
16- انفراد الله بالملك لقوله (لك والملك لا شريك لك) .
17- جواز الزيادة على تلبية النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يسمعهم يزيدون ولا ينكر عليهم. وممن زاد في التلبية عمر وابنه رضي الله عنهما لبيك وسعديك، والرغباء إليك والعمل، وكما قال أنس
__________
(1) سورة الحج، الآية: 27.
(2) سورة النحل، الآية: 53.(24/512)
رضي الله عنه منا المهل، ومنا المكبر، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسمعهم ولا يرد عليهم شيئاً. لكن لزوم تلبية النبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل وأتم في التأسي.
18- أن الناس كانوا لا يعرفون العمرة في أشهر الحج، بل إن العرب في الجاهلية يرونها من أفجر الفجور، ويقولون لا يمكن أن تأتي إلى مكة بعمرة وحج، بل لابد أن تأتي بعمرة في سفر، وحج
في سفر وهم ينظرون إلى ذلك من ناحية اقتصادية، حتى يكثر الزوار والحجاج، وتكون الأسواق أكثر اشتغالاً.
19- أنه ينبغي للإنسان الحاج أو المعتمر أن يبادر حين الوصول إلى مكة إلى الذهاب إلى المسجد ليطوف، لأن هذا هو المقصود ولا ينبغي أن يجعل غير المقصود، مقدماً بل المقصود ينبغي أن يكون مقدماً، على كل شيء.
20- حرص الصحابة رضي الله عنهم على العلم بأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - ليتبعوه فيها.
21- مشروعية البداءة في الطواف بالحجر الأسود فإن بدأ دونه مما يلي الباب لم يعتد بالشوط.
22- مشروعية استلام الحجر الأسود عند ابتداء الطواف، لقوله (حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن) .
23- مشروعة تقبيل الحجر الأسود في الطواف. وأما تقبيل غيره من الجمادات والأحجار فبدعة.
24- مشروعية استلام الحجر الأسود والركن اليماني في الطواف بالبيت. ولا يشرع استلام غيرهما من أركان الكعبة أو جدرانها سوى هذين الركنين.(24/513)
25- أن السنة كما تكون بالفعل تكون كذلك بالترك، فإذا وجد سبب الفعل في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يفعله دل هذا على أن السنة تركه.
26- مشروعية الاضطباع في جميع الطواف وهل يبقى مضطبعاً بعد الطواف أم لا؟ الصحيح أنه لا يبقى مضطبعاً. وأن الإنسان يستر منكبه من حين أن يفرغ من طوافه.
وقال بعض العلماء- رحمهم الله-: بل إنه يبقى مضطبعاً في السعي. ولكن الصحيح الأول.
27- مشروعية الرمل في الأشواط الثلاثة الأولى من طواف القدوم دون الأربعة الباقية.
فإن قلت: ما الحكمة من الرمل في الطواف في الأشواط الثلاثة الأولى دون الأربعة الباقية.
فالجواب: أن الحكمة في ذلك تذكير المؤمنين بأصل هذا الرمل، لأن أصله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاضى أهل مكة في غزوة الحديبية على أن يرجع من العام القادم معتمراً. وأهل مكة أعداء للرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، والعدو يحب الشماتة بعدوه، فلما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - للعمرة قال بعضهم لبعض دعونا نجلس هنا ننظر إلى هؤلاء القوم الذين وهنتهم حمى يثرب كيف يطوفون؛ لأن عندهم أن هؤلاء قوم أصابهم المرض، وأنهك قوامهم، يريدون بذلك الشماتة، وجلسوا في شمالي الكعبة من جهة الشمال، وهم ينظرون، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أن يرملوا، ليظهروا الجلد والقوة والنشاط ليغيظوا الكفار؛ وإغاظة الكفار أمر مقصود لله عز وجل، كما قال تعالى: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ(24/514)
اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) (1) . وقال تعالى: (وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ) (2) . أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - من قومه أن يغيظوا الكفار، لكنه أمرهم أن يرملوا من الحجر إلى الركن اليماني دون ما بين الركنين؛ لأنهم بين الركنين يختفون عن المشركين، وأراد الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يرفق بأصحابه؛ ولهذا جعل الرمل في الأشواط الثلاثة الأولى؛ لأن الثلاثة أقل من الأربعة، فاعتبر الأقل في جانب الصعوبة، ثم إن اختيار الثلاثة دون الأربعة فيه القطع على وتر والله سبحانه وتعالى إذا تأملنا مشروعاته وجدنا غالبها مقطوعاً على وتر. ففي كون الرمل خاصاً بالأشواط الثلاثة الأولى فائدتان:
الأولى: اعتبار الأخف في باب المشقة.
الثانية: القطع على وتر.
أما في حجة الوداع فقد رمل النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأشواط الثلاثة كلها من الحجر إلى الحجر، لأن العلة التي من أجلها شرع الحكم وهو إغاظة الكفار الذين كانوا يشاهدون قد انقطع، فصار الرمل من الحجر إلى الحجر عبادة محضة، ولم يكن القصد منه الإغاظة، لأن الإغاظة انتهت.
__________
(1) سورة الفتح، الآية: 29.
(2) سورة التوبة، الآية: 120.(24/515)
ولكن هل الطائف يذكر في هذه الحال حال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه حين قدموا في عمرة القضاء أو يذكر المعنى الأصلي المقصود، وهو إغاظة الكفار، أم الأمرين؟
إذا تذكر الأمرين فهو خير، يعني يتذكر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فعلوا ذلك فيقتدي بهم، لاسيما فعله في حجة الوداع، وأيضاً يذكر أن من شأن المسلم أن يفعل ما يغيظ الكفار.
28- مشروعية الرمل في الأشواط الثلاثة الأولى من الحجر إلى الحجر، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك وأن السنة المشي في الأربعة الباقية. فإن قال قائل: إذا دار الأمر بين أن أرمل مع البعد عن الكعبة، وبين أن أمشي مع القرب فأيهما أقدم؟
الجواب: قدم الأول، فارمل ولو بعدت عن الكعبة (لآن مراعاة الفضيلة المتعلقة بذات العبادة أولى من مراعاة الفضيلة المتعلقة بزمانها أو مكانها) ، وهذه القاعدة لها أمثلة:
مثال ذلك: لو أن رجلاً حين دخل عليه وقت الصلاة وهو حاقن أو بحضرة طعام، فهل الأولى أن يقضي حاجته ويأكل طعامه، ولو أدى ذلك إلى تأخير الصلاة عن أول وقتها؟ أو العكس؟
الجواب: الأول، فهنا راعينا نفس العبادة دون أول الوقت، لأنه إذا صلى فارغ القلب مقبلاً على صلاته كانت الصلاة أكمل.
مثال آخر: لو أن شخصاً أراد أن يصلي في الصف الأول، وحوله ضوضاء وتشويش أو حوله رجل منه رائحة كريهة تشغله، فهل الأولى أن يتجنب الضوضاء والرائحة الكريهة ولو أدى ذلك
إلى ترك الصف الأول؟ أو أن يصف في الصف الأول مع وجود(24/516)
التشويش أو الرائحة الكريهة؟
فالجواب: لاشك أن الأولى تجنب التشويش، وترك الصف الأول، لأن هذا يتعلق بذات العبادة.
29- أن الطواف بالبيت سبعة أشواط كاملة. فلو نقص خطوة واحدة من أوله أو آخره لم يصح. كما لو نقص شيئاً من الصلاة فإنها لا تصح.
30- أنه تسن الصلاة خلف المقام بعد الطواف، ومعلوم أن الركعتين خلف المقام قريباً منه أفضل من كونها بعيداً عنه أو ليست خلفه. لكن إذا لم يتيسر للإنسان أن يصلي خلف المقام قريباً منه فليصل خلف المقام بعيداً منه، فإن لم يتيسر فليصل في أي مكان من المسجد، لأن المطلوب منه شيئان:
الأول: الصلاة، والثاني: كونها خلف المقام.
فإن تعذر المكان بقيت مشروعية الصلاة، وليس من شرط الصلاة أن تكون خلف المقام، حتى نقول إذا تعذر خلف المقام سقطت الصلاة.
31- أنه ينبغي للإنسان بعد أن يصلي الركعتين أن يرجع إلى الحجر الأسود فيستلمه لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ولكن هل هذا مشروط بما إذا أراد السعي بعد الطواف؟
الجواب: نعم هذا في الطواف الذي يكون بعده سعي، ينبغي أن يتقدم إلى الركن بعد الركعتين فيستلمه. أما الطواف الذي ليس بعده سعي، كطواف الوداع مثلاً، وطواف الإفاضة لمن سعي بعد
طواف القدوم، فإنه لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه رجع إلى الركن(24/517)
فاستلمه.
32- أنه ينبغي المبادرة بالسعى بعد الطواف بدون تأخير، وهذا على سبيل الأفضلية وليس على سبل الوجوب. ولهذا قال العلماء- رحمهم الله-: إن الموالاة بين الطواف والسعي سنة وليست بشرط. فلو طاف في أول النهار وسعى في آخره فلا بأس، لكن الأفضل الموالاة.
33- أنه ينبغي أن يخرج من باب الصفا لأنه أيسر، وكان المسجد الحرام فيما سبق له أبواب دون المسعى يخرج منه الناس.
أما الآن فيتجه إلى جهة الصفا.
34- أنه يِنبغي إذا دنا من الصفا أن يتلو الآية (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) (1) اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليشعر نفسه أنه إنما سعى لأنه من شعائر الله وتعظيماً لشعائر الله عز وجل وحرماته.
35- أنه ينبغي أن يقول: أبدأ بما بدأ الله به ليتحقق بذلك الامتثال. ولا يقال هذا الذكر إلا إذا أقبل على الصفا من بعد الطواف، فلا يقال بعد ذلك لا عند المروة ولا عند الصفا في المرة
الثانية، لأنه ليس ذكراً يختص بالصعود، وإنما هو ذكر يبين أن ابتداء الإنسان من الصفا إنما هو لتقديم الله له.
36- أن ما بدأ الله به هو أولى بالتقديم، ولهذا بدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصفا، لأن الله بدأ به.
37- أنه ينبغي صعود الصفا حتى يرى البيت فيستقبله، وهو واضح من قوله: "فرقي الصفا حتى رأى البيت ".
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 158.(24/518)
38- أنه ينبغي في هذا الحال أن يوحد الله ويكبره، ويقول الذكر، ويدعو بين الأذكار التي يقولها ثلاث مرات. وقد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حينئذ رفع يديه دعاء، وليس رفع إشارة كما يفعل في الصلاة.
39- أن السنة أن يمشي ما بين الصفا إلى طرف الوادي الشرقي، ثم يسعى من طرف الوادي الشرقي إلى طرفه الشمالي، ثم يمشي إلى المروة.
40- أن الإسراع في كل المسعى ليس بمشروع.
41- أنه ينبغي الإسراع في بطن الوادي لفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبطن الوادي الآن جعل له علم منصوب (عمود أخضر) ، فإذا وصلته فابدأ بالإسراع.
42- أنه ينبغي لك وأنت تسعى أن تستشعر بأنك في ضرورة إلى رحمة الله عز وجل، كما كانت أم إسماعيل رضي الله عنها في ضرورة إلى رحمة الله سبحانه وتعالى، فكأنك تستغيث به تبارك وتعالى من آثار الذنوب وأوصابها.
43- أن الإسراع في السعي مشروع في كل الأشواط السبعة، لأن جابراً رضي الله عنه لم يستثن شيئاً منه، بخلاف الرمل في الطواف، فمشروع في الثلاثة الأولى.
وفرق آخر هو أن الإسراع في السعي في جزء منه والرمل في الطواف في جميع الأشواط الثلاثة فهذان فرقان.
الفرق الثالث: أن الإسراع في السعي أشد من الرمل في الطواف، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يسرع جداً بخلاف الطواف، فإنه(24/519)
يرمل، والرمل إسراع المشي دون الخبب يعني: دون الركض الشديد.
44- أن اختتام الأشواط السبعة يكون بالمروة. وعند الاختتام هل يقف ويدعو؟
الجواب: لا؛ لأن الدعاء والذكر إنما هو في ابتداء الشوط وليس في انتهائه. فإذا انتهى من المروة فلينصرف، ولا يقف للدعاء، كما قلنا في الطواف، فإن التكبير يكون عند ابتداء الشوط
لا عند انتهائه.
45- أن الأيدي لا ترفع حال الذكر والدعاء، لا في السعي ولا في الطواف، لأن الذين وصفوا طواف النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعاءه فيه "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار" لم يذكروا رفع اليدين، وكونهم يذكرون رفع اليدين على الصفا وعلى المروة يدل على أن ما عدا ذلك ليس فيه رفع.
46- جواز قول (لو) إذا كان لقصد الإخبار. لقوله: "لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت ".
47- حسن تعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعوته إلى الحق.
48- مشروعية فسخ نية الحج إلى عمرة ليصير متمتعاً، إلا أن يسوق الهدي.
49- أن من فسخ نية الحج إلى عمرة ليصير متمتعاً، فإنه يتحلل بالعمرة تحللاً كاملاً.
فإن قلت: هل يجوز أن يفسخ الإنسان الحج إلى عمرة ليتحلل منها وينصرف إلى أهله.(24/520)
فالجواب: لا؛ لأنه إنما أمر بفسخ الحج إلى عمرة ليصير متمتعاً. والتمتع أفضل، ولم يرخص له أن يفسخ الحج إلى عمرة، ليتحلل عن قرب، ويرجع إلى أهله.
50- أن الحج يمتاز عن غيره من العبادات بجواز تغيير النية فيه. فنجد الرجل يحرم بالحج، ثم يقلبه إلى عمرة ليصير متمتعاً ويصح، ويحرم بالعمرة أولاً ثم يضيق عليه الوقت فيدخل الحج عليها ليصير قارناً ويصح.
كما أن الحج يخالف غيره في النية في أنه لو نوى الخروج منه لم يخرج منه، بينما العبادات الأخرى يخرج منها. وإذا فعل محرماً في العبادات الأخرى تبطل العبادة، كما لو أكل أو شرب في الصلاة، أو تكلم فيها. لكن في الحج المحظورات فيه لا تبطله إلا الجماع قبل التحلل الأول يفسده، ويجب المضي فيه وقضاؤه من السنة الأخرى، بخلاف غيره من العبادات.
51- أن التمتع أفضل الأنساك، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر به من لم يسق الهدي، ولأنه أكثر عملاً، لأنه يأتي بأفعال العمرة كاملة، وأفعال الحج كاملة، ولأنه أيسر لمن قدم مكة في وقت مبكر حيث يتمتع بالحل فيما بين العمرة والحج. إلا لمن ساق الهدي، فالقران أفضل لتعذر التمتع في حقه. فالتمتع في حق من ساق الهدي لا يمكن، لأنه لا يمكن أن يحل.
ولكن هل الأفضل أن يسوق الهدي ويقرن أو الأفضل ألا يسوق الهدي ويتمتع؟
في هذا خلاف بين العلماء- رحمهم الله- فمنهم من قال(24/521)
الأفضل أن لا يسوق الهدي ويتمتع لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولأحللت معكم ".
ومنهم من قال إن سوق الهدي والقران أفضل، لأن هذا فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولأنه أظهر في إظهار الشعائر. لأن الإنسان يأتي بالهدي معه يسوقه، وهذا لاشك أن فيه من إظهار الشعائر ما ليس فيمن لم يسق الهدي. وأجابوا عن قوله: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت) أنه قال ذلك من أجل أن يطيب قلوب أصحابه، وكأنه يقول لو علمت بأن الأمر سيبلغ منكم ما بلغ حتى يشق عليكم هذه المشقة ما سقت الهدي، ولأحللت معكم. وكان رسول الله يترك الاختيار، مراعاة لأصحابه كما ترك الجهاد عليه الصلاة والسلام في كل سرية، مراعاة لأصحابه، الذين لا يستطيعون أن يصاحبوه في كل سرية وليس عنده ما يحملهم عليه. وكما ترك الصيام مراعاة لأصحابه، فقالوا إن قوله: لو استقبلت من أمري ما استدبرت لهذا المعنى.
وعندي أن الأقرب في هذا التفصيل، فإن كانت السنة في سوق الهدي مندثرة، فالقران أفضل، وإلا فالتمتع أفضل.
52- أن من ساق الهدي ليس له إلا القران.
53- أنه لا يشترط لسوق الهدي أن يكون من بلده.
54- أن التعليم يكون بالقول وبالفعل، لقوله: فشبك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصابعه واحدة في الأخرى، وقال: "دخلت العمرة في الحج "، وأخذ منه بعض المعاصرين التعليم على السبورة، لأن السبورة ترسم للإنسان العلم. والعلم إذا رسم للإنسان يكون أدعى(24/522)
لثباته في النفس إذ الإنسان لا يزال يستحضر هذه الصورة فتبقى في ذهنه.
55- أنه ينبغي للمحلين بمكة أن يدفعوا إلى منى في اليوم الثامن محرمين بالحج، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه دفعوا إليها، ولا ينبغي أن يدفع إليها قبل اليوم الثامن على طريق التنسك والعبادة، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لم يدفعوا قبل اليوم الثامن.
56- أن أعمال الحج تبتدىء من ضحى اليوم الثامن، ويتفرع على ذلك ثلاث فوائد:
57- أنه- فيما نرى- لا يشرع التمتع لمن قدم مكة بعد أوان أعمال الحج. فمثلاً لو جئت بعد الظهر في اليوم الثامن، فليس هناك تمتع، لأن الله يقول: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ) (1) . فمنتهى التمتع الحج، وأفعال الحج تبتدىء باليوم الثامن؛ إذاً فلا حاجة للتمتع. ونقول: إن شروعك في الحج ودخولك فيه في هذه الحال أفضل من العمرة، فإما أن تفرد وإما أن تقرن. أما التمتع فقد زال وقته الآن.
58- أنه لا يشرع لمن أراد الإحرام يوم التروية أن يذهب إلى البيت، أي المسجد الحرام ويحرم من المسجد، بدليل أن الصحابة رضي الله عنهم لم يفعلوا ذلك، والترك مع وجود السبب سنة، يعني إذا وجد سبب الشيء في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولم يفعل كانت السنة تركه وهذا سببه موجود، ولم يذهب واحد من الصحابة ليحرم من المسجد، فدل ذلك على أن السنة أن يحرموا من أماكنهم
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 196.(24/523)
التي هم نازلون فيها.
59- أنه ينبغي أن تكون صلاة الظهر يوم التروية في منى، هذا هو الأفضل، ويتفرع على ذلك ثلاث فوائد.
60- أنه يتبين حرمان قوم من الناس يريدون الحج ويبقون في أماكنهم، فإذا كان بعد العصر أحرموا بالحج، وخرجوا إلى منى نقول هذا وإن كان جائزاً لكن الإنسان حرم نفسه، لأن بقاءه في منى في ذلك اليوم أفضل من بقائه في المسجد الحرام وغيره.
ولهذا لما كان يوم التروية هذا العام يوم الجمعة صار كثير من الحجاج يتساءلون هل الأفضل أن نصلي الجمعة في المسجد الحرام، ثم نخرج إلى منى أو الأفضل أن نخرج إلى منى في الصباح في الضحى، ونصلي الظهر في منى؟
والجواب: الثاني أفضل، لأن بقاءك في منى عبادة، وأنت ما جئت من بلادك إلا لأجل هذه العبادة.
61- أن الصلاة في منى لا تجمع، لأن جابراً رضي الله عنه لم يذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع، فدل هذا على أنه صلاها على الأصل، أي بدون جمع.
وهل يستفاد من حديث جابر رضي الله عنه أن الصلاة في منى تقصر؟
الجواب: لا يستفاد، لكن نستفيده من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه (1) .
62- أنه ينبغي المكث في منى حتى تطلع الشمس، ولا
__________
(1) تقدم ص (477) .(24/524)
يسن الدفع قبل طلوع الشمس، لقوله: "ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس "، وهو كذلك، فإن دفع بعد صلاة الفجر قبل طلوع الشمس فلا إثم عليه، لكن الأفضل أن يتأخر.
63- قوة النبي - صلى الله عليه وسلم - في دين الله حيث لم يتبع قومه في الوقوف في مزدلفة، بل أجاز حتى أتى عرفة.
64- أن الدين شرع وتوقيف، وليس عادة. دليله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتبع العادة في ذلك، بل اتبع ما اقتضته شريعة الله سبحانه وتعالى.
65- أن نمرة من عرفة، بناء على أحد القولين ويتفرع على ذلك فائدتان:
66- أنه لو وقف أحد بنمرة بعد زوال الشمس، ولم يدفع إلا بعد الغروب أجزأه الحج، ولم أر من صرح به، مع أن هذا هو مقتضى هذا القول ولازمه. أما إذا قلنا إن نمرة ليست من عرفة،
وهو الصحيح كما قلنا (1) ، فالأمر فيها واضح أنه من وقف فيها لا يجزئه ولا حج له.
67- أنه ينبغي أن ينزل الحاج بنمرة قبل الوقوف بعرفة؛ والدليل فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - فلو قال قائل: أفلا يمكن أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - نزل بها من باب السهولة، لأنه أسمح لوقوفه حتى يستريح ويستعد للوقوف، كما قالت عائشة رضي الله عنها في نزوله في المحصب (2)
__________
(1) انظر ص (478) .
(2) المُحَصِّب: بالضم ثم الفتح وصاد مهملة مشددة. اسم مفعول من الحصباء أو الحصب، وهو الرمي بالحصى، وهي صغار الحصى وكباره: وهو موضع فيما بين مكة ومنى، وهو إلى منى أقرب. معجم البلدان (5/74) .(24/525)
بعد الحج؟
قلنا الأصل التعبد في جميع أفعال الحج، إلا ما قام الدليل على أنه ليس من باب التعبد، وأيضاً فيمكن أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يستريح إذا نزل في عرفة.
68- جواز استخدام الإنسان غيره لاسيما إذا كان كبيراً أو ذا سلطة، والدليل: "أمر بالقصواء فرحلت له " فإن قوله أمر ...
فرحلت يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - ما باشر ترحيلها، وإنما أمر فرحلت له، وهذا لا ينافي نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يسأل الناس شيئاً، لأن هناك فرقاً بين أن تسأل شخصاً شيئاً ويرى أن له منَّة عليك، وبين أن تسأل شخصاً شيئاً ويرى أن المنة منك عليه، وما يجري من النبي - صلى الله عليه وسلم - من هذا الباب، كل يفرح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمره، ثم هو زعيم أمته عليه الصلاة والسلام، فيأمر على وجه السلطة، وعلى وجه الإمرة.
69- إعلان الأحكام الشرعية عن طريق الخطابة.
والخطابة أحد المجالات التي بها تنشر الدعوة، فإن الدعوة تنشر بطرق متعددة، منها الخطابة، والكتابة، والمشافهة، وغير ذلك.
70- حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على تبليغ أمته، فإنه كان لا يخفي تبليغ الأحكام، بل يعلنها إعلاناً بواسطة الخطابة.
71- استحباب الخطبة يوم عرفة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب الناس، فيستحب أن يخطب الإمام أو نائبه الناس يوم عرفة، ويستحب أن يحرص على الأقوال التي قالها النبي - صلى الله عليه وسلم - في تلك الخطبة ليقتدي بالرسول - صلى الله عليه وسلم - في أصل الخطبة، وفي موضوعها وكلماتها.(24/526)
72- أن الخطبة يوم عرفة قبل الأذان لقوله: "ثم أذن ثم أقام ".
73- أن الربا موضوع كله، ولا يؤخذ مهما كان. فالربا الثابت في ذمم الناس يجب وضعه، ولا يجوز أخذه، حتى وإن عقد قبل إسلام العاقد، أو قبل جهله. أما ما قبض من قبل من ربا وأكل،
وأتى الإنسان موعظة من الله، فلا يلزمه تقويمه والتخلص منه، لكن ما بقي في ذمم الناس فإنه لا تتم التوبة منه إلا إذا تركه ولم يقبضه.
74- بيان عدل النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ظاهر من قوله: "وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضع ربانا ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع "، فأول ما قضى عليه من أمر الجاهلية ما كان يتصل بأقاربه؛ وهذا كما قال في الحديث الصحيح: "وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها" (1) . وهكذا يجب على الإنسان أن يكون قائماً لله بالعدل، لا يفرق بين قريب وبعيد، أو غني وفقير، أو قوي وضعيف. الناس في حكم الله واحد، لا يتميز أحد منهم بشيء
إلا بما ميزه الله به.
75- وفيه الإشارة إلى أن الذي يتولى طلب الرزق وحصول الكسوة هو الرجل، لقوله: (ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف) . أما المرأة فشأنها أن تبقى في بيتها لإصلاح حالها وحال زوجها، وحال أولادها، وهذا ما كان عليه السلف الصالح رضوان الله عليهم.
__________
(1) أخرجه البخاري في الحدود/باب كراهية الشفاعة في الحد إذا رفع (6788) ، ومسلم في الحدود/باب قطع يد السارق الشريف (1688) عن عائشة رضي الله عنها.(24/527)
76- أن القرآن عصمة؛ إذا اعتصم به الإنسان عصم من الضلال في الدنيا، والشقاء في الآخرة، كما قال تعالى: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى (123)) (1) ، أي لا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة.
77- وفيه الحث على الاعتصام بكتاب الله، والرجوع إليه، وأن به العصمة من كل سوء. فإن قال قائل: ما تقولون في السنة التي لم تكن موجودة في القرآن بعينها؟
قلنا: كل سنة سنها الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهي موجودة في القرآن. قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (2) وقال تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ) (3) . وقال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) (4) . وقال تعالى: (النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ) (5) . فكل سنة سنها الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهي من القرآن، لكن ليس من اللازم أن ينص عليها بعينها.
78- اعتراف الصحابة رضي الله عنهم بالجميل للنبي - صلى الله عليه وسلم - لقوله: "نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت " وهذه الشهادة التي شهدها الصحابة رضي الله عنهم يجب على كل مؤمن أن يشهدها فنحن نشهد أنه قد بلغ، وأدى، ونصح عليه الصلاة والسلام.
__________
(1) سورة طه، الآية 123.
(2) سورة الأحزاب، الآية: 21.
(3) سورة الحشر، الآية: 7.
(4) سورة آل عمران، الآية: 31.
(5) سورة الأعراف، الآية: 158.(24/528)
79- إشهاد الله تعالى على العباد بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بلغ.
85- إثبات علو الله عز وجل. وجه الدلالة الإشارة إلى السماء، وعلو الله الذاتي قد دل عليه الكتاب والسنة، والإجماع والعقل والفطرة.
81- جواز الإشارة إلى مكان الله عز وجل، وهو في السماء، ولكن هل هذا المكان محيط به؟
الجواب: لا. بل وسع كرسيه السماوات والأرض، فهو سبحانه وتعالى فوق سماواته، على عرشه، عليٌّ على خلقه بذاته وصفاته، لقوله تعالى: (وَهُوَ اَلعَلِىُّ اَلعَظِيمُ (255)) (1) .
82- إثبات علم الله عز وجل وسمعه وبصره حيث كان يرفع إصبع إلى السماء، ثم ينكتها إلى الناس.
83- تكرار الأمر الهام ثلاث مرات، حتى وإن كان المخاطب قد سمع، فإنه يكرر لا من أجل إفهام المخاطب، ولكن من أجل الاهتمام بهذا الشيء.
84- أنه لا يشرع للمسافر أن يصلي راتبة الظهر، لقوله: "لم يصل بينهما شيئاً".
85- أن الصلاتين المجموعتين المشروع فيهما أن تكونا متواليتين لقوله: "ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئاً". والموالاة بين المجموعتين إذا كان الجمع جمع تقديم شرط عند أكثر الفقهاء- رحمهم الله- إلا أنه لا بأس أن
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 255.(24/529)
يفصل بوضوء خفيف، أو استراحة قصيرة، ثم يستأنف الصلاة ثانية. أما إذا كان الجمع جمع تأخير، فالموالاة ليست بشرط.
وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية (1) - رحمه الله- إلى أن الموالاة بين المجموعتين ليست بشرط، لا في جمع التقديم، ولا في جمع التأخير، وقال: يجوز في جمع التقديم أن يصلي الظهر مثلاً، ثم يتوضأ، أو يستريح، أو يتغدى ونحوه، ثم يصلي العصر، وقال: إن الجمع هو من باب ضم الصلاة إلى الأخرى في الوقت لا في الفعل؛ فإذا جاز الجمع صار الوقتان إلى الأخرى واحداً، وليس معنى الجمع ضم إحدى الصلاتين إلى الأخرى بالفعل، بل ضمها إلى الأخرى بالوقت، وعلى هذا فلا تشترط الموالاة في جمع التقديم، كما لا تشترط في جمع التأخير، ولكن لاشك أن الموالاة بينهما مشروعة كما دل عليه هذا الحديث.
86- استحباب الوقوف للإمام في موقف النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف عند الصخرات خلف جبل عرفة لقوله: "ثم ركب حتى أتى الموقف ". وأما غير الإمام، فإنهم يقفون في أماكنهم، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -:" وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف " (2) . ولأن الأصل الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في كيفية العبادة وزمانها ومكانها. وجه ذلك أنه نبه على أن وقوفه في هذه الأماكن لا يسن فيه الأسوة أو لا تجب فيه الأسوة لقوله (وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف) ، وكذلك يقال في مزدلفة.
__________
(1) الفتاوى (24/45) .
(2) تقدم تخريجه ص 155.(24/530)
87- بيان تيسير النبي - صلى الله عليه وسلم - على أمته حيث لم يلزمهم، بل ولم يندبهم إلى أن يتحروا مكان وقوفه ونحوه، لا في عرفة ومزدلفة، ولا في منى.
88- أنه لا يشرع صعود الجبل، ولا الصلاة فيه، ولا الصلاة عنده، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفعل ذلك؛ والأصل في العبادات التوقيف، حتى يقوم دليل على مشروعيتها.
وبه نعرف ضلال كثير من الناس الذي يقصدون الجبل، ويصعدون عليه، ويصلون، وربما يضعون الحجارة بعضها على بعض لتكون علماً وربما يعلقون الخرق، ويكتبون الأوراق لإثبات أنهم بلغوا هذا المكان، وكل هذا من البدع. والواجب على طلبة العلم أن ينبهوا الناس على ذلك، وأن يبينوا أنهم إلى الوزر أقرب منهم إلى الأجر في مثل هذه الأعمال.
89- أن الركوب في الوقوف بعرفة أفضل، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف راكباً، وقال: "خذوا عني مناسككم " (1) .
وقال بعض العلماء- رحمهم الله-: بل الوقوف على غير الراحلة أفضل.
واختار شيخ الإسلام ابن تيمية (2) - رحمه الله- التفصيل في ذلك، وقال: إنه يختلف باختلاف الحاج، وما ذهب إليه هو الصحيح. فإذا كان الإنسان يحتاج إلى أن يكون راكباً ليراه الناس
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الحج/باب استحباب رمي جمرة العقبة (2/943) ، وأبو داود في كتاب المناسك/باب في رمي الجمار (1/456) ، والنسائي في المناسك/باب الركوب إلى الجمار (5/219) ، وابن ماجه في المناسك/باب الوقوف بجمع (2/1006) .
(2) انظر الفتاوى (26/132) .(24/531)
ويسألوه وينتفعوا بعلمه، وقف راكباً أفضل، وكذلك إن كان أخشع له وأحضر لقلبه، فيقف راكباً أفضل، وإذا كان الأمر بالعكس صار الحكم بالعكس أيضاً، فهو يختلف باختلاف أحوال الناس.
90- مشروعية استقبال القبلة حال الدعاء يوم عرفة، ورفع اليدين والإكثار من الدعاء، ومن الذكر، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء
قدير" (1) . وينبغي له أن يحرص على الأذكار والأدعية الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنها من أجمع الأدعية وأنفعها، فيقول:
اللهم لك الحمدُ كالذي نقولُ وخيراً مما نقولُ، اللهم لك صلاتي ونُسكي ومحياي ومماتي وإليك رب مآبي ولك رب تراثي.
اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ووسوسة الصدر وشتات الأمر.
اللهم إني أعوذ بك من شر ما تجيء به الريح. اللهم إنك تسمعُ كلامي، وترى مكاني، وتعلمُ سري
وعلانيتي، لا يخفى عليك شيء من أمري، أنا البائس الفقير، المستغيث المستجير، الوجل المشفق، المقر المعترف بذنوبي، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وأدعوك دعاء من خضعت لك رقبته وفاضت لك عيناه، وذل لك جسده، ورغم لك أنفه.
__________
(1) أخرجه الترمذي في الدعوات، باب في دعاء يوم عرفة (3585) عن عبد الله بن عمر رضي
الله عنهما، والإمام أحمد (2/210) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ولفظه: "كان دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم عرفة لا إله إلا الله ... " وقال الترمذي: حسن غريب من هذا الوجه.(24/532)
اللهم لا تجعلني بدعائك رب شقيا، وكن بي رؤوفاً رحيماً، يا خير المسؤولين، ويا خير المعطين.
اللهم اجعلْ في قلبي نوراً، وفي سمعي نوراً، وفي بصري نوراً.
اللهم اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، اللهم إني أعوذ بك من شر ما يلج في الليل، وشر ما يلج في النهار، وشر ما تهب به الرياح، وشر بوائق الدهر.
اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
اللهم إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم.
اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وضلع الدين، وغلبة الرجال، وأعوذ بك من أن أرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا.
اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم، ومن شر فتنة الغنى، وأعوذ بك من فتنة الفقر.
اللهم اغسل عني خطاياي بماء الثلج والبرد، ونق قلبي من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب.
فالدعاء يوم عرفة خير الدعاء.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "خير الدعاء يوم عرفة" (1) . كما في الحديث السابق. وإذا لم يحط بالأدعية الواردة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، دعا بما
__________
(1) تقدم تخريجه ص 532.(24/533)
يعرف من الأدعية المباحة.
فإن قال قائل: الوقت طويل، لا سيما في أيام الصيف، وربما يلحق الإنسان ملل، لأنه لو بقي يدعو من بعد صلاة الظهر والعصر المجموعة إليها إلى الغروب لحقه ملل؛ فهل اشتغاله بغير الدعاء والذكر مما هو مباح جائز؟
الجواب: نعم، وربما يكون مطلوباً إذا كان وسيلة للنشاط؛ والإنسان بشر يلحقه الملل، فلا حرج أن يستريح، إما بنوم، أو بقراءة قرآن، أو بمذاكرة مع إخوانه، أو بمدارسة القرآن، أو في أحاديث تتعلق بالرحمة والرجاء، والبعث والنشور، وأحوال الآخرة، حتى يلين ويرق قلبه؛ والإنسان طبيب نفسه في هذا المكان. لكن ينبغي أن يغتنم آخر النهار بالدعاء ويتفرغ له تفرغاً كاملاً.
91- وجوب الوقوف بعرفة حتى تغرب الشمس؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف حتى غربت الشمس وقال: "لتأخذوا عني مناسككم " (1) .
ولأن الدفع قبل غروب الشمس مخالفة لهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وموافقة لهدي المشركين، لأن المشركين كانوا ينتظرون، فإذا قربت الشمس إلى الغروب دفعوا من عرفة، فخالفهم النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولأن في ذلك نقصاً في الوقوف الذي هو الركن. ومعلوم أن الأركان أفضل من الواجبات، والواجبات أفضل من السنن؛ لأنه كلما تأكدت العبادة كانت أفضل. لقوله تعالى في الحديث القدسي: "وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته
__________
(1) تقدم تخريجه ص 531.(24/534)
عليه " (1) .
ويدل أيضاً على أن ذلك للوجوب تأخر النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى تغرب الشمس، لأنه لو دفع قبل أن تغرب لكان أيسر، فلما عدل عن ذلك إلى البقاء حتى غربت الشمس دل على أن الدفع قبل هذا محرم، ولو كان جائزاً لفعله النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأنه أيسر.
92- أنه ينبغي لإمام الناس أو من ينيبه أن يحث الناس على السكينة؛ فرجال المرور مثلاً ينوبون مناب الإمام في تدبير الناس، وتنظيم السير، والأمر بالسكينة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نظم السير في قوله: "السكينة السكينة"، فإن هذا نوع من تنظيم السير.
93- أنه ينبغي للإمام، بل يجب على الإمام أن يكون أول من يبادر إلى ما يأمر به. ودليله أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - دفع وقد شنق للقصواء الزمام، وما كان ليقول للناس السكينة السكينة وهو تاركها تمشي بسرعة، بل هو أول من يفعل ذلك عليه الصلاة والسلام؛ وهكذا
الإمام الذي يقتدى به سواء كان إماماً في التنفيذ، أو إماماً في العلم، فإنه يجب عليه أن يتحرى اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لأنه يقتدى به فأي فعل يفعله سوف يقتدي به الناس، والناس في هذا المقام بالنسبة إلى القدوة بين أمرين: بين محتج بفعله على ما يهواه، وبين محتج عليه بمخالفته، وبينهما فرق. فالإنسان الذي له هوى ولا يريد اتباع السنة يحتج بتقصير القدوة على تقصيره، فيقول مثلاً. هذا فلان لا يفعل هذا، وهذا فلان فعل هذا مثلاً، والإنسان الذي يريد من المقتدى به أن يتبع السنة يحتج بفعله وتهاونه بالسنة عليه، ولا
__________
(1) أخرجه البخاري في الرقائق، باب التواضع (6502) .(24/535)
يحتج بفعله على ما يفعله هذا المتكاسل، فهذا أمر ينبغي لطلبة العلم أن يتفطنوا إليه، لأن طالب العلم يقتدى به، ويؤخذ عليه ما لا يؤخذ على غيره، ليس كعامة الناس، ولهذا كثيراً ما تأمر الناس
بشيء ثم يقولون لك فلان يفعله من طلبة العلم يحتج بفعله حتى وإن كان هذا الرجل قد تبين له أن الحق بخلافه، لكن يريد أن يدافع عن نفسه ولو بالباطل، كما هو ظاهر.
94- حسن رعاية النبي - صلى الله عليه وسلم - لما استرعاه الله حتى في البهائم. وجه ذلك أنه كلما أتى حبلاً من الحبال أرخى لناقته قليلاً، فإن هذا من حسن رعايته لها ورأفته بها - صلى الله عليه وسلم -، فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن الرعاية في البشر حيث يقول السكينة السكينة، وأحسن الرعاية في البهيمة حيث يرخي لها قليلاً حتى تصعد إذا أتى حبلاً من الحبال.
95- أن المشروع للحاج ألا يصلي المغرب والعشاء إلا في مزدلفة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخر ذلك إلى مزدلفة، ووجه هذا: أن المشروع في حق المسافر إذا جد به السير ألا يقف فيقطع سيره.
ولهذا كان من هدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى العصر، وإن ارتحل بعد أن تزيغ الشمس قدم العصر إلى الظهر، حتى يكون سيره مستمرًّا متواصلاً.
نقول: هذا هو السنة، حتى لو تأخر الإنسان. إلا إذا تأخر حتى انتصف الليل، فإنه يجب عليه أن يصلي صلاة العشاء قبل منتصف الليل، وصلاة المغرب أيضاً، وذلك لأن منتهى صلاة العشاء نصف الليل، فلا يجوز أن يؤخرها إلى ما بعد نصف الليل.
فإن قال قائل: افرض أنني حبست في سير السيارات، ولم(24/536)
أستطع الرجوع، ولا التقدم، ولا الخروج يميناً أو شمالاً؟
نقول: من أمكنه أن ينزل من الركاب فلينزل، ويصلي يميناً أو شمالاً قبل أن يخرج الوقت، ومن لم يمكنه فليصل ولو على ظهر السيارة، ويأتي بما يستطيع من الواجبات على حسب حاله. ولا
يجوز أن يؤخر الصلاة إلى ما بعد نصف الليل؛ لأن القول الراجح أنه لا وقت للعشاء بعد منتصف الليل.
96- أن الجمع يكون جمع تأخير، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع جمع تأخير، ولكن هل هذا مراد؟ أو لأن سير النبي - صلى الله عليه وسلم - كان متواصلاً إلى أن دخل وقت العشاء؟
الذي يظهر الثاني؟ لأن هذا هو هدي النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبناء على ذلك لو أن الإنسان وقف في أثناء الطريق وصلى، فإن القول الذي عليه جمهور أهل العلم أن صلاته صحيحة خلافاً لبعض الظاهرية كابن حزم (1) - رحمه الله- حيث قال: لا تصح صلاة المغرب والعشاء في ليلة مزدلفة إلا بمزدلفة، واستدل بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأسامة رضي الله عنه، لما توضأ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يا رسول الله، الصلاة؟ قال: " الصلاة أمامك " (2) .
ولكن رأي الجمهور هو الصحيح.
فإن وصل في وقت صلاة المغرب فما المشروع في حقه؟
قيل: المشروع أن يؤخر أيضاً؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخر الصلاة. وقيل: المشروع أن يقدم الجمع بين الصلاتين؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) انظر المحلى (5/121) .
(2) تقدم تخريجه ص 290.(24/537)
صلى من حين وصل إلى مزدلفة، وكون الجمع يكون تأخيراً لأن هذا وقع اتفاقاً؛ لأن سير الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان بعيداً وبطيئاً، لأنه على الإبل. فأما إذا كان في السيارات وقد وصل في وقت المغرب فليصل متى وصل، ولو كان تقديماً، والحقيقة أن الدليلين متجاذبان.
فقد نقول: إن المشروع أن يبادر بالصلاة متى وصل؛ لأن هذا كالتحية لمزدلفة، كما قلنا في منى أن التحية لها الرمي.
وقد يقال: إن الإنسان يؤخر اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ولكن قد روى البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قدم مزدلفة عشاء أو قريباً من العشاء، فأذن وصلى المغرب، ثم دعا بعشائه فتعشى، ثم أذن فصلى العشاء (1) ؛ وهذا يدل على أنه رضي الله عنه لما وصل في هذا الوقت رأى ألا يجمع، وأن يصلي المغرب ويتعشى، ثم يصلي العشاء وحدها، والدليل على أنه صلى العشاء وحدها أنه أذن لها، ولو كانت مجموعة إلى الأولى لم
يؤذن. وبناء على هذا الذي ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه نقول: من وصل مبكراً فليصل المغرب، ثم لينتظر حتى يأتي العشاء، فيؤذن ويصلي العشاء؟
فإن قال الحاج: الأيسر لي والأسهل عليّ أن أصلي المغرب من حينما أصل وأصلي معها العشاء وأستريح، فهل تبيحون لي ذلك؟
فالجواب: نعم نبيح له ذلك لأنه مسافر. والصحيح أن
__________
(1) تقدم تخريجه ص 375.(24/538)
المسافر له الجمع، وإن كان نازلاً، فنقول: لك أن تجمع الآن إذا كان أيسر لك كما هو الغالب؛ لأن بعض الناس يكون محتاجاً إلى البول، فيحب أن يصلي المغرب والعشاء ويستريح، فإذا كان هذا
أريح له، أو أريح لأصحابه أيضاً، حتى لو فرضنا أنه هو بنفسه يحب أن يصلي المغرب وحدها، والعشاء وحدها في الوقت، ولكن رأى أن أصحابه أيسر لهم، فلا حرج أن يتبع أصحابه في الأيسر، اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث اتبع الأيسر لأصحابه في الصيام مع محبته للصيام.
97- أنه لا يشرع للمسافر أن يصلي راتبة المغرب؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصل راتبة المغرب في السفر، كما لم يصل للظهر، وكذلك للعشاء. أما راتبة الفجر فلم يكن يدعها، لا حضراً ولا سفراً.
98- أنه لا يشرع ليلة مزدلفة تهجد، ولا قراءة، ولا شيء من العبادات التي تمنع من النوم، إذ لو كان هذا مشروعاً لفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - تبليغاً للشرع، أو لأرشد الأمة إليه بقوله، فلما لم يحصل هذا ولا ذاك، علم بأنه ليس بمشروع.
فإن قال قائل: إذا لم يستطع الإنسان أن ينام في مزدلفة ليلة العيد بسبب إزعاج السيارات- مثلاً- هل له أن يشتغل بالذكر والدعاء والصلاة؟
نقول له: نعم اذكر الله، وأما الصلاة فإن كان لا يراه أحد فلا بأس، وإن كان يرى فلا، لأنه لو رآه أحد- وهي ليلة مباركة- اقتدى به، ولا يعلم أنه معذور، لاسيما إذا كان طالب علم ومحل
اقتداء.(24/539)
99- أنه لا تجوز صلاة الفجر ولا غيرها حتى يتبين دخول الوقت. لقوله: "صلى الفجر حين تبين له الصبح ".
100- أنه ينبغي المبادرة في صلاة الفجر ليلة المزدلفة، دليله "حتى تبين "، يعني من حين ما تبين صَلِّ، وهو دليل على أن المشروع في الفجر ليلة المزدلفة أن يبادر بها مبادرة غير المبادرة المعتادة المعروفة.
أما ما يفعله بعض الناس اليوم من كونهم يؤذنون إذا مضى ثلثا الليل، فهذا خطأ عظيم، والحكومة- وفقها الله- لم تقصر، كانت تطلق المدفع في تلك الليلة، فلا عذر لأحد. لكن هؤلاء المساكين
تجد الواحد منهم ينام قليلاً، ثم يمل من النوم ووقت الفجر عنده إذا قام من النوم، متى ما قام فهذا وقت الفجر، أو أنهم يحبون أن يتعجلوا ويمشوا إلى منى، وأياً كان فإن الواحد منا إذا سمع أحداً
يؤذن للفجر قبل الوقت يجب أن ينبهه حتى لا يصلي الفجر قبل وقتها فتفوت عليه فريضة من فرائض الصلوات، لكن الغالب على هؤلاء الجهل.
101- مشروعية الأذان والإقامة في الحضر وفي السفر، وهل هذه المشروعية على سبيل الوجوب؟
الجواب: نعم على سبيل الوجوب. فيجب الأذان في السفر والحضر، والإقامة في الحضر والسفر. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمالك بن الحويرث رضي الله عنه ومن معه: "إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم " (1) ، وهم وافدون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب الأذان للمسافرين (631) ، ومسلم في كتاب=(24/540)
مسافرون، فأمرهم بالأذان، مع أنهم مسافرون. فالمسافرون عليهم الأذان، كما على المقيمين.
وهل عليهم صلاة الجماعة؟
الجواب: نعم، ومن هنا نأخذ فائدة أيضاً:
102- مشروعية صلاة الجماعة في الحضر والسفر، وهي على الوجوب، فيجب على المسافر صلاة الجماعة، كما يجب على المقيم ولا فرق، بل قد أوجب الله صلاة الجماعة في حال القتال، وقتال الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان كله في السفر.
103- قصد المشعر الحرام (1) ، والوقوف عنده في صبيحة يوم العيد؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ركب وقصد المشعر الحرام، ولكن هل هذا على سبيل الوجوب؟
الجواب: لا؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "وقفت هاهنا وجمع كلها موقف " (2) فكل مزدلفة موقف، ولا يلزمك أن تشد الرحال إلى المشعر الحرام لتقف عنده.
104- أنه ينبغي التفرغ بعد صلاة الفجر يوم العيد للدعاء والتكبير، والتهليل، والذكر إلى أن يقرب طلوع الشمس.
والدليل: "فدعاه وكبره وهلله ولم يزل واقفاً حتى أسفر جداً". إذاً فيسن التفرغ للدعاء والذكر في هذه المدة إلى أن يسفر جداً.
105- تواضع النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث أردف الفضل بن عباس رضي
__________
= المساجد، باب من أحق بالإمامة (674) .
(1) المشعر الحرام: هو في قوله تعالى: (فاذكروا الله عند المشعر الحرام) ، وهو في مزدلفة وجمع يسمى بهما جميعا. معجم البلدان (5/156) .
(2) تقدم تخريجه ص 155.(24/541)
الله عنهما دون أشراف القوم، وأردف في دفعه من عرفة إلى مزدلفة أسامة بن زيد رضي الله عنه وهو مولى.
106- جواز الإرداف على الدابة؛ لأن الإرداف لو كان حراماً ما أردف النبي - صلى الله عليه وسلم - الفضل بن عباس، ولكن يشترط لذلك أن تكون الدابة قوية وقادرة على تحمل الرديف، فإن كانت هزيلة ضعيفة والإرداف يشق عليها، فإن ذلك لا يجوز؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء" (1) .
107- عدم جواز نظر الرجل إلى المرأة الأجنبية، كما استدل به النووي وغيره من أهل العلم- رحمهم الله-؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صرف وجه الفضل إلى الشق الآخر. ولكن إذا كان لشهوة فهو حرام بلا شك، وإذا كان لغير شهوة فإن الذي تدل عليه النصوص الأخرى
أنه لا يجوز له النظر إليها، وأنه يجب عليها أن تحتجب لئلا ينظر إليها.
108- مشروعية تغيير المنكر باليد لقوله: "فجعل النبي يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر".
109- جواز التغيير قبل الأمر؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - جعل يصرف وجهه دون أن يقول له التفت، أو اصرف وجهك، وعلى هذا فينظر الإنسان هل الأصلح أن يأمر أولا ثم يغير، أم أن يغير أولاً قبل أن يأمر، فيرجع ذلك إلى ما فيه المصلحة.
110- أنه ينبغي الإسراع في بطن محسر، وهو الوادي الذي
__________
(1) أخرجه مسلم في الصيد والذبائح باب الأمر بإحسان الذبح والقتل وتحديد الشفرة (1955)(24/542)
بين مزدلفة ومنى؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أسرع فيه. والأصل فيما فعله في هذه العبادة أنه من التعبد وليس من العادة، حتى يتبين أنه عادة.
والظاهر أنه لا يمكن الإسراع الآن؛ لأن الإنسان محبوس بالسيارات، فلا يمكن أن يتقدم أو يتأخر، وربما ينحبس في نفس المكان، فيعجز أن يمشي، ولكن نقول: هذا شيء بغير اختيار الإنسان، فينوي بقلبه أنه لو تيسر أن يسرع لأسرع، وإذا علم الله من نيته هذا فإنه قد يثيبه على ما فاته من الأجر والثواب.
111- أنه ينبغي للإنسان القادم إلى منى من مزدلفة أن يسلك أقرب الطرق إلى جمرة العقبة؟ لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهكذا ينبغي للإنسان في أسفاره أن يسلك أقرب الطرق إلى حصول مقصوده.
112- أنه ينبغي المبادرة برمي الجمرة بحيث لا يقدم عليها نسكاً، ولا تنزيل رحل، ولا نزولاً في مكان، بل يبادر بها أول ما يقدم، وهذا هو الأفضل.
113- أن من رخص له أن يدفع من مزدلفة في آخر الليل له أن يبدأ بالجمرة- جمرة العقبة- فيرميها حين وصوله؛ وأما ما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من النهي عن هذا في قوله: "أبني لا ترموا حتى تطلع الشمس " (1) فقد ضعفه كثير من أهل العلم- رحمهم الله-، وإن صح فإنه يحمل على الاستحباب لا على الوجوب. وإلا فكل من جاز له الدفع من مزدلفة جاز له الرمي، وإلا لما استفاد شيئاً، فكيف
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب المناسك باب التعجيل من جمع (1/450) ، والنسائي في كتاب المناسك، باب النهي عن رمي جمرة العقبة قبل طلوع الشمس (5/220) ، وابن ماجه في كتاب المناسك، باب من تقدم من جمع (2/1007) ، والإمام أحمد (1/234، 311) .(24/543)
يرخص له أن يدع نسكاً من المناسك التي نص القرآن عليها، ويبقى في منى ساكناً حتى طلوع الشمس.
114- أن غسل حصى رمي الجمار بدعة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يغسله، ولم يأمر به أصحابه.
115- أنه لا رمي في يوم العيد إلا لجمرة العقبة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرم سواها، فلو رمى الإنسان الثلاث لكان مبتدعاً، وإن رماها جهلاً فليس عليه شيء.
116- مشروعية الرمي راكباً ما لم يكن في ذلك أذية.
117- أنه يجب أن يرمي الجمار رمياً، فلا يجزئ الوضع، بل لابد من الرمي.
وهل يشترط أن يرفع يده حتى يرى بياض إبطه؟
الجواب: لا، ولكن يرمي قذفاً، فلو أخذ الحصاة ووضعها في الحوض وضعاً، فإن ذلك لا يجزئ.
118- أنه لابد من سبع حصيات لقوله: "فرماها بسبع حصيات "، فلو رمى بخمس، أو بثلاث، أو بأربع لم يجزئ.
ولكن رخص بعض أهل العلم- رحمهم الله (1) بجواز الرمي بخمس أو لست، قال: لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا ينصرفون من الرمي، فيقول بعضهم رميت بخمس، وبعضهم بست، وبعضهم بسبع، ولا ينكر أحد على أحد، ولكن لا شك أن الأحوط ألا يقتصر على ما دون السبع، لأن هذا هو هدي النبي - صلى الله عليه وسلم -.
119- أنه لا يجوز الزيادة على السبع لقوله: "فرماها بسبع،
__________
(1) انظر: المغني (5/330) .(24/544)
حصيات ".
120- أنه لابد أن تكون السبع متعاقبات، لقوله: "رماها بسبع " فإن ظاهره أن كل واحدة تكون مرمية، فلابد أن تكون متعاقبات ولهذا قال: "يكبر مع كل حصاة"، وهذا كالنص الصريح
على أنه لابد من التعاقب. فلو رماها دفعة واحدة، لم يجزئه إلا واحدة ولا يجزئه السبع؛ هذا ما لم يكن قصد التعبد، وهو يعلم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - رمى سبعاً متعاقبة، فإن نوى التعبد، مع علمه بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - رمى بسبع متعاقبة، فإن ذلك لا يجزئ، لأنه صريح بمخالفة السنة، فيكون عملاً ليس عليه أمر الله ورسوله، فيكون مردوداً، ولو رماها سبعاً من شدة الزحام دفعة واحدة تكون واحدة.
فإن قال قائل: ألستم في الحدود تقولون إن المريض إذا كان لا يحتمل أن يضرب ضرباً متعاقباً بالسوط فإنه يجمع ضغثاً من النخل، ويضرب به مرة واحدة؟
فالجواب: أن هذا قام عليه الدليل، وهو أيضاً من باب العقوبة، والعقوبة ينبغي فيها التخفيف إذا لم يستطع بخلاف هذا، فهو عبادة، ولهذا لا يجوز للمريض الذي يشق عليه أن يصلي أربعاً أن يصلي ركعتين.
121- أنه يستحب التكبير عند الرمي، وأن يكون مع كل حصاة.
122- أنه لا يستحب البسملة هنا، وإن كان بعض الناس يسمي، فيقول: بسم الله، والله أكبر.
123- أنه لا يسن أن يقول ما يقوله العامة اللهم رضا للرحمن(24/545)
وغضباً للشيطان؛ فإن هذا لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن باب أولى أنه لا يسن في هذا الحال سب الشيطان ولعنه وما أشبه ذلك من الكلمات التي يقولها جهال الناس.
124- ضلال من يرمي بالأحجار الكبيرة، أو بالنعال، أو بالمظلات، أو ما أشبه ذلك، مما يفعله الجهال، وكل هذا من اعتقادهم أنهم يرمون الشيطان.
125- أنه لا يجزئ الرمي بغير الحصى، فلو رمى بذهب لم يجزئه؛ لأن العبادات مبناها على التوقيف والاتباع، ولو رمى بمدر (وهو الطين المجفف) لم يجزئه، ولو رمى بقطعة من الإسمنت فإنه لا يجزئ، ولو رمى بجص أو بخشب، أو بأي مادة من المواد، أو معدن من المعادن سوى الحصى فإنه لا يجزئ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رمى بحصى.
126- أنه لا يجزئ الرمي بالحصاة الكبيرة، ولا الصغيرة جداً، أما الصغيرة التي دون حصى الخذف لكن ليست صغيرة جداً فإنها تجزئ، والكبيرة لا تجزئ لقوله: "كل حصاة منها مثل حصى الخذف ". فالنبي - صلى الله عليه وسلم - رمى بهذا وقال: "خذوا عني مناسككم " (1) بل رفع إليه ابن عباس رضي الله عنهما حصيات فأخذها بكفه وجعل يحركها ويقول: "بأمثال هؤلاء فارموا وإياكم
والغلو في الدين " (2) .
127- أنه يسن رمي جمرة العقبة من بطن الوادي لقوله:
__________
(1) تقدم تخريجه ص 531.
(2) تقدم تخريجه ص 498.(24/546)
"رمى من بطن الوادي ".
128- أنه يسن أستقبال جمرة العقبة لا القبلة عند الرمي، خلافاً لمن قال: إنه يستقبل القبلة، ويجعل الجمرة عن يمينه، ويرمي من اليمين، فإن هذا ليس بصحيح؛ لأنه خلاف موقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وجه، ومن وجه آخر أنه في زمننا هذا متعذر. فإن قال قائل: أليس الأصل في العبادات استقبال القبلة؟
فالجواب: إن سلمنا أن هذا هو الأصل فقد دل الدليل على عدمه في هذه المسألة.
129- أنه لا يشرع الوقوف للدعاء بعد رمي جمرة العقبة.
130- أن النحر بعد الرمي لقوله: "ثم انصرف إلى المنحر فنحر".
131- أنه ينبغي لذوي الأمر أن يرتبوا المكان للحجاج، بحيث يجعلوا للنحر مكان خاص لقوله: "ثم انصرف إلى المنحر" لأنه إذا جعل للنحر مكاناً خاصًّا سلم الناس من الروائح الكريهة والتلويث والأذى وغير ذلك، فإذا جعل للنحر منحر خاص، فذلك أسلم وأقرب إلى الإحاطة بهذا الأذى والقذر.
132- أنه ينبغي للإنسان أن ينحر هديه بيده لقوله: "فنحر" فإذا قال قائل: ألا يمكن أن يكون قوله: "فنحر"؛ أي أمر من ينحر؟
قلنا: هذا ممكن، ولكن الأصل في إضافة الفعل إلى فاعله أن يكون الفاعل مباشراً للفعل، ولهذا جاء التفصيل في حديث جابر رضي الله عنه المذكور أنه - صلى الله عليه وسلم - نحر ثلاثاً وستين بيده، وأعطى علياً رضي الله عنه فنحر الباقي، وهكذا ينبغي للإنسان أن ينحر هديه(24/547)
(أضحيته) بيده، لأن ذلك أتبع للسنة، وأشد طمأنينة للقلب أن تكون ذبحتها على الوجه المشروع، وأن هذا عبادة، فينبغي للإنسان أن يفعلها بنفسه ويتفرع منها:
133- خطأ الفكرة السائدة بين الناس اليوم وهي أن المقصود من الأضحية هو اللحم، ولهذا تجدهم يرسلون الدراهم إلى البلاد النائية البعيدة بدلاً عن الأضحية، ويقولون هم أحوج منا. نقول: ليس المقصود من الأضحية هو اللحم، المقصود هو التقرب إلى الله بالذبح، هذا أهم شيء في الأضحية أن تذبحها أنت بنفسك، تذللاً لله عز وجل، وتعظيماً له، وتقرباً إليه، فإن لم تستطع
فوكل من يذبح، كما وكل النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن عمه علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن يذبح ما بقي من هديه، ثم إذا ذبحت وتقربت إلى الله فإن شئت فكل، وإن شئت فتصدق بها كلها.
ولهذا لما نزلت بالمسلمين فاقة في إحدى السنوات لم يقل تصدقوا بالطعام، أو تصدقوا بالدراهم، بل قال: اذبحوا، لكن لا تدخروا فوق ثلاث. وفي العام الثاني لما زالت الفاقة قال: كلوا وادخروا ما شئتم.
فالمهم أنه يجب على طلبة العلم أن ينبهوا الناس على أن الذبح نفسه عبادة عظيمة؛ ولهذا قرنه الله بالصلاة في قوله: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)) (1) ، فلا ينبغي أن ترسل الشعائر تقام هناك،
وتترك الشعيرة هنا. ولهذا كان من حكمة الله أن البلاد غير مكة تقام فيها هذه الشعيرة، وهي التقرب إلى الله بالذبح، لكن في مكة هدي،
__________
(1) سورة الكوثر، الآية: 2.(24/548)
وفي غيرها أضاحٍ.
وإذا كان يحب أن ينفع إخوانه في الجهة الأخرى فليرسل إليهم دراهم صدقة، تطوعاً لله عز وجل. فهذه مسألة ينبغي أن يتنبه لها.
134- وفيه دليل على تأكد الأكل من الهدي؛ لأنه عليه الصلاة والسلام أمر من كل بدنة بقطعة، وكان يكفيه أن يأخذ من بدنة واحدة يأكل ما شاء، لكن تحقيقاً لقوله تعالى: (فكلوا منها) (1) .
135- أنه يجوز التوكيل في ذبح الهدي؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكل علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن ينحر الباقي، ولكن لا ينبغي التوكيل إلا إذا دعت الحاجة إليه، إما لكثرة الهدي، أو لكون الذبح يشغله عما هو أهم؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لا شك أن حاجات الناس تتعلق به في الاستفتاء وغيره، فلهذا لما نحر ثلاثاً وستين أعطى علياً رضي الله عنه، فنحر الباقي، وهو سبع وثلاثون بعيراً.
136- مشروعية إهداء الإبل؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهدى إبلاً مائة بعير، وأشرك علياً رضي الله عنه في هديه.
137- وفيه دليل على كرم النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث أهدى مائة بدنة عن سبعمائة شاة. وكثير من الناس اليوم يشق عليه إهداء شاة واحدة، حتى إنه يختار النسك المفضول على الفاضل تفادياً للهدي.
138- أنه ينبغي أن يفيض إلى مكة ليطوف ضحى يوم النحر؛
__________
(1) سورة الحج، الآية: 28.(24/549)
لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أفاض ضحى يوم النحر قبل أن يصلي الظهر، بعد أن أكل من لحم هديه، لأنه أمر من كل بدنة بقطعة، فجعلت في قدر فطبخت، فأكل من لحمها، وشرب من مرقها.
139- أنه ينبغي أن يصلي الظهر يوم العيد بمكة؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر بمكة، لكن قد ثبت في الصحيحين أنه صلاها بمنى (1) ، فاختلف العلماء- رحمهم الله- في هذا:
فمنهم من سلك طريق الترجيح، ومنهم من سلك طريق الجمع، والصحيح سلوك طريق الجمع، لأن الحديثين كلاهما صحيح بلا شك، وإذا صح الحديثان، وأمكن الجمع لم يعدل إلى الترجيح. والجمع بينهما ممكن بأن يقال: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر بمكة، ثم خرج إلى منى فوجد بعض أصحابه لم يصل فصلى بهم إماماً، ون صلاته في منى معادة، كما كان يفعل معاذ رضي
الله عنه مع قومه، يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء، ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة (2) .
140- أن الله تعالى قد ينزل البركة للإنسان في وقته، فيفعل في الوقت القصير ما لا يفعل في الوقت الكثير، وهذا شيء مشاهد، ومن أعظم ما يعينك على هذا أن تستعين بالله عز وجل في جميع
أفعالك، بأن تجعل أفعالك مقرونة بالاستعانة بالله، حتى لا توكل
__________
(1) أخرجه مسلم في الحج باب استحباب طواف الإفاضة يوم النحر (1308) عن ابن عمر رضي الله عنهما ولفظه: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفاض يوم النحر، ثم رجع فصلى الظهر بمنى".
(2) أخرجه البخاري في الأدب باب من لم ير إكفار من قال ذلك متأولاً أو جاهلاً (6106) ، وأخرجه مسلم في الصلاة باب القراءة في العشاء (465) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.(24/550)
إلى نفسك، لأنك إن وكلت إلى نفسك وكلت إلى ضعف وعجز، وإن أعانك الله فلا تسأل عما يحصل لك من العمل والبركة فيه.
141- أنه ينبغي الشرب من ماء زمزم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - شرب من ماء زمزم.
فإن قال قائل: هل يفعل شيئاً آخر غير الشرب كالرش على البدن، أو على الثوب أو أن يغسل به أثواباً يجعلها لكفنه، كما كان الناس يفعلون ذلك من قبل؟
فالجواب: لا. فنحن لا نتجاوز في التبرك ما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا لم ير عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا نتجاوز إليه، بل ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذنا به وإلا فلا.
142- أنه ينبغي على من شرب من ماء زمزم أن يتضلع منه، لأن هذا الماء خير، وقد ورد حديث في ذلك لكن فيه نظر وهو (أن آية ما بين أهل الإيمان والنفاق التضلع من ماء زمزم) (1) ، وذلك لأن ماء زمزم ليس عذباً حلواً، بل يميل إلى الملوحة، والإنسان المؤمن لا يشرب من هذا الماء الذي يميل إلى الملوحة إلا إيماناً بما فيه من البركة، فيكون التضلع منه دليلاً على الإيمان.
143- وفيه أن أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - أسوة؛ لقوله لبني عبد المطلب: "انزعوا بني عبد المطلب فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم "، لأنه لو نزع لكان سنة يأخذ بها الناس، وحينئذ يغلبونهم على السقاية.
144- وفيه تواضع النبي - صلى الله عليه وسلم - حين شرب من الدلو الذي
__________
(1) أخرجه ابن ماجه، كتاب المناسك، باب الشرب من ماء زمزم (1017) .(24/551)
يشرب منه الناس، ناولوه دلواً فشرب منه عليه الصلاة والسلام.
وظاهر الحال أنه شرب قائماً، فقيل شرب قائماً لضيق المكان، وقيل: إنه شرب قائماً، من أجل أن يتضلع منه، أي من ماء زمزم؛ لأن الإنسان. إذا شرب قائماً تضلع من الماء أكثر، والله أعلم.
المهم أن هذا الحديث من أطول الأحاديث في صفة حج النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا جعله الشيخ الألباني (1) - رحمه الله- أصلاً لصفة حج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبنى منسكه المعروف المشهور على هذا، وزاد فيه ما زاد.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
تم بحمد الله المجلد الرابع والعشرون
ويليه بمشيئة الله عز وجل
المجلد الخامس والعشرون
__________
(1) هو العلامة المحدث المحقق محمد بن ناصر الدين الألباني. ولد عام 1332 هـ في مدينة أشقودرة عاصمة ألبانيا آنذاك، ونشأ في أسرة فقيرة وفي بيت علم. كان- رحمه الله- حريصاً جداً على العمل بالسنة، ومحاربة البدعة، ودعوة الناس إلى منهج السلف الصالح.
توفي- رحمه الله- عصر يوم السبت، الثاني والعشرين من جمادى الآخرة لعام 1420 هـ.(24/552)
الهدي والأضحية(25/7)
س1: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: عن الفرق بين الهدي والأضحية والفدية؟
فأجاب- رحمه الله- بقوله: أما الأضحية فهي: ما يذبح في أيام عيد الأضحى تقربًا إلى الله عز وجل في عامة البلدان، في مكة وغيرها.
وأما الهدي فهو: ما يهدى إلى الحرم، من الإبل والبقر والغنم، بمعنى أن يبعث الإنسان بشيء من الإبل، أو البقر، أو الغنم تذبح في مكة، وتوزع على فقراء الحرم، أو يبعث بدراهم ويوكل من يشتري بها هديًا من إبل أو بقر أو غنم ويذبح في مكة ويوزع على الفقراء.
ومن الهدي- أيضًا- ما يقوم به المحرم المتمتع الذي أتى بالعمرة ثم بالحج فلزمه هدي، يكون تقربًا إلى الله عز وجل، وشكرًا لنعمه حيث يسر له العمرة والحج.
أما الفدية فهي: ما كانت عن ترك واجب أو فعل محظور.
مثال عن ترك الواجب: أن يترك الإنسان رمي الجمرات فيجب عليه فدية يذبحها في مكة ويوزعها على الفقراء.
ومثال فعل المحظور: أن يحلق رأسه وهو محرم، فعليه فدية من صيام، أو صدقة، أو نسك، هذا هو الفرق.(25/9)
س 2: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما حكم الأضحية؟ وما حكم إفراد الميت بالأضحية؟
فأجاب- رحمه الله- بقوله: الأضحية سنة مؤكدة للقادر عليها، فيضحي الإنسان عن نفسه وأهل بيته.
وأما إفراد الميت بالأضحية فليس بسنة، فإنه لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - - فيما أعلم- أنه ضحى عن أحد ميت أضحية منفردة، ولا عن أصحابه في حياته - صلى الله عليه وسلم -، ولكن يضحي الإنسان عنه وعن أهل بيته، وإذا نوى أن يكون الميت معهم فلا بأس.
س 3: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: عن حكم الأضحية؟ وما شروطها؟ وهل تشرع عن الأموات؟
فأجاب- رحمه الله- بقوله: الأضحية سنة مؤكدة، وقال بعض العلماء: إنها واجبة، ولكل قوم دليلٌ استدلوا به، والاحتياط ألا يدعها الغني الذي أغناه الله تبارك وتعالى، وأن يجعلها من نعمة الله
عليه، حيث يشارك الحجاج في شيء من النسك، فإن الحجاج في أيام العيد يذبحون هداياهم، وأهل الأمصار يذبحون ضحاياهم، فمن رحمة الله تبارك وتعالى أن شرع لأهل الأمصار أن يضحوا في أيام
الأضحية ليشاركوا الحجاج في شيء من النسك.(25/10)
ولهذا نقول: القادر عليها لا ينبغي أن يدعها.
ثم الأضحية ليست للأموات، الأضحية للأحياء، وليست بسنة للأموات، ودليل ذلك: أن الشرع إنما يأتي من عند الله عز وجل ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، والذي جاءت به السنة هي الأضحية عن الأحياء، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - مات له أقارب ولم يضحِّ عنهم، كل أولاده توفُّوا قبله عليه الصلاة والسلام، منهم الذي بلغ الحُلُم، ومنهم من لم يبلغ الحلم، فأبناؤه ماتوا قبل أن يبلغوا الحلم، وبناته مِتْنَ بعد أن بلَغْنَ الحُلُم، إلا فاطمة- رضي الله عنها-، فقد بقيت بعده، ومات له زوجتان: خديجة، وزينب بنت خزيمة- رضي الله عنهما-، ولم يضحِّ عنهما، واستشهد عمُّه حمزة بن عبد المطلب- رضي الله عنه- ولم يضحِّ عنه، فهو عليه الصلاة والسلام لم يشرع الأضحية عن الميت، ولم يدعُ أمَّته إلى ذلك.
وعلى هذا فنقول: ليس من السنة أن يُضحَّى عن الميت؟ لأن ذلك لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا علمته واردًا عن الصحابة أيضًا، نعم إذا أوصى الميت أن يضحَّى عنه فهنا تُتبع وصيته ويَضحى عنه، اتباعًا لوصيته، وكذلك إذا دخل الميت مع الأحياء ضمنًا كأن يضحي
الإنسان عنه وعن أهل بيته، وينوي بذلك الأحياء والأموات، وأما أن يُفردَ الميت بأضحية من عنده، فهذا ليس من السنة.(25/11)
أما الأضحية نفسها فلها شروط: منها ما يتعلق بالوقت.
ومنها ما يتعلق بنفس الأضحية.
أما الوقت: فإن الأضحية لها وقت محدد لا تشرع قبله ولا بعده.
ووقتها: من فراغ صلاة العيد إلى مغيب الشمس ليلة الثالث عشرة، فتكون الأيام أربعة: هي يوم العيد.
وثلاثة أيام بعده.
فمن ضحَّى في هذه المدة ليلاً أو نهارًا فأضحيته صحيحة، من حيث الوقت، ومن ضحى قبل الصلاة فشاته شاة لحم لا تجزئ عن الأضحية، وعليه أن يذبح بدلها، ومن ضحى بعد غروب الشمس في
اليوم الثالث عشر لم تجزِ عن الأضحية اللهم إلا أن يكون معذورًا.
وأما شروطها بنفسها، فيشترط فيها:
الشرط الأول: أن تكون من بهيمة الأنعام: وهي الإبل والبقر والغنم، ضأنها ومعزها، فمن ضحَّى بشيء غير بهيمة الأنعام لم تُقبل منه، مثل أن يُضحِّي الإنسان بفرس، أو بغزال، أو بنعامة، فإن ذلك لا يُقبل منه؟ لأن الأضحية إنما وردت في بهيمة الأنعام، والأضحية عبادة وشرع، لا يُشرع منها ولا يُتعبد لله بشيء منها إلا بما جاء به الشرع، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" (1) أي مردود.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة. (17) ، (1718) .(25/12)
الشرط الثاني: أن تبلغ السن المعتبر شرعًا:
وهي في الضأن: ستة أشهر.
وفي المعز: سنة.
وفي البقر: سنتان.
وفي الإبل: خمس سنوات.
فمن ضحى بما دون ذلك فلا أُضحية له، فلو ضحى بشيء من الضأن له خمسة أشهر لم تصح الأضحية به، أو بشيء من المعز له عشرة أشهر لم تصح الأضحية به، أو بشيء من البقر له سنة وعشرة أشهر لم تصح الأضحية به، أو بشيء من الإبل له أربع سنين وستة أشهر لم تصح به، فلابد أن يبلغ السن المعتبر، ودليل ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تذبحوا إلا مُسِنَّة- يعني ثنيّة- إلا أن تعْسُرَ عليكم فتذبحوا جَذَعة من الضأن " (1) .
الشرط الثالث: أن تكون سليمة من العيوب المانعة من الإجزاء:
وهي أربعة: أجاب بها النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث سُئل: ماذا يُتقى من الضحايا؟ فقال: "أربع: العوراء البيِّن عورها، والمريضة البيّن مرضها، والعرجاء البيِّن عرجها، والعجفاء التي لا تُنقي " (2) أي ليس
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الأضاحي، باب سن الأضحية. (1963) .
(2) أخرجه الإمام مالك في الموطأ، كتاب الضحايا. (1) .(25/13)
فيها مُخ، لهزالها وضعفها، وما كان مثل هذه العيوب أو أشد فهو بمعناها، له حكمها، فهذه ثلاثة شروط عائدة إلى ذات الأضحية، والشرط الرابع عائد إلى وقتها وسبق بيانه.
أما كيف توزع: فقد قال الله تعالى: "ليَشهَدُوا مَنافِعَ لَهُم وًيذكرُوا آسمَ اللهِ فِى أيامٍ معلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم من بَهِيمَةِ اَلأنعامِ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأطْعِمُوا آلْبَآئِسَ اَلفَقِيرَ " (1) وقال سبحانه: وَالبُدنَ
جَعَلْنَاهَا لَكْم مٍنّ شَعَائِرِ اللهِ لَكْمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاَذْكُرُوا اَسمَ اَللهِ عَلَيها صَوَآفَّ فَإذَا وَجَبَت جُنُوبُهَا فَكُلْواْ مِنْهَا وَأطعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعتَرَّ كَذَالِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكْمْ لَعَلَّكم تَشْكُرُونَ" (2) ، فيأكل الإنسان منها، ويتصدق منها على الفقراء، ويُهدي منها للأغنياء، تألُّفًا وتحبُّبًا، حتى يجتمع في الأضحية ثلاثة أمور مقصودة شرعية:
الأمر الأول: التمتع بنعمة الله، وذلك في الأكل منها.
الأمر الثاني: رجاء ثواب الله، وذلك بالصدقة منها.
الأمر الثالث: التودّد إلى عباد الله، وذلك بالهدية منها.
وهذه معانٍ جليلة مقصودة للشرع، ولهذا استحب بعض العلماء أن تكون أثلاثًا، فثُلثٌ يأكله، وثُلثٌ يتصدق به، وثُلث يهديه.
__________
(1) سورة الحج، الآية: 28.
(2) سورة الحج، الآية: 36.(25/14)
س4: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما القول الصحيح في حكم الأضحية؟
فأجاب بقوله: الذي يظهر لي أن الأضحية ليست بواجبة ولكنها سنة مؤكدة، يُكره للقادر تركها.
س5: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل يستحب الهدي في العمرة؟
فأجاب بقوله: نعم، والدليل أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في عمرة الحديبية معه الهدي (1) ، بل إن الهدي مشروع ولو بغير نسك، كما كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يبعث بالهدي من المدينة وهو في المدينة (2) .
س6: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما سبب سياق النبي - صلى الله عليه وسلم - الهدي في عمرة الحديبية مع أنه كان ذاهبًا للعمرة وليس للحج؟
فأجاب بقوله: الهدي نوعان:
النوع الأول: هدي واجب: وهذا لا يكون إلا في حق المتمتع أو
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد (2731) .
(2) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب فتل القلائد للبدن والبقر (1697) ، (1698) ، وباب إشعار البدن (1966) .(25/15)
القارن، لقوله تعالى:" فَمَن تَمَتَّعَ بِالّعُمْرَةِ إِلَى اَلْحَجِّ فَمَا اَسْتَيسَرَ مِنَ اَلهَدْىِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَهِ أَيَّامٍ فِى اَلحَجّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعُتم تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَهٌ ذَالِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أهلُهُ , حَاضِري اَلمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ" (1) .
النوع الثاني: هدي تطوع: وهذا يكون في حق المفرد في الحج، وفي حق المعتمر، وفي حق من لم يحج ومن لم يعتمر، فالمفرد له أن يهدي هديًا يتقرب به إلى الله، والمعتمر له أن يهدي هديًا يتقرب به إلى الله، ومن لم يحج ولم يعتمر وكان في بلد له أن يهدي هدياً يتقرب به إلى الله فيرسله إلى مكة، كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أرسل هدياً إلى مكة وهو مقيم في المدينة (2) ، وكما أهدى الهدي في عمرة الحديبية (3) ، فالهدي نفسه عبادة يتقرب به إلى الله، ولكن قد يكون واجباً وقد يكون مستحباً، فهو واجب على القارن والمتمتع، وسنة في حق المفرد في الحج، وفي العمرة، ومن لم يحج ولم يعتمر.
وهناك هدي واجب من نوع آخر وهو ما يكون بسبب الإتلاف كالهدي الواجب في قتل الصيد، قال الله تبارك وتعالى: (يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تَقتُلُوا اَلصَّيْدَ وَأنتُمْ حُرُم وَمَن قَتَلَهُ مِنكم مُّتَعَمِداً فَجَزاء مِثْلُ
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 196.
(2) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب فتل القلائد.
(3) أخرجه البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد (2731) .(25/16)
مَا قَتَلَ مِنَ اَلنعَمِ-يَحكُمُ بِهِ ذَوَا عَدلٍ مِنكُمْ هَدْيَا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أوْ كَّفارَةٌ طَعَامُ مَساَكِينَ أَوْ عَدلُ ذَالِكَ صيَاماً لِيَذُوقَ وَبَالَ أمِرهِ عَفَا اَللهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اَللهُ مِنهُ وَاَللهُ عَزيزٌ ذُو اَنتِقَام) (1) .
س7: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: رجل يتقرب إلى الله بذبيحة لكن في غير وقت الأضحية، فهل له أجر؟
فأجاب بقوله: من المعلوم أن التقرب إلى الله بذبيحة في غير وقت الأضحية لا يحصل فيها أجر الأضحية، لكن إن تصدق بلحمها فله أجر الصدقة. وأما يأخذ أجر الأضحية فلا، وحينئذٍ نقول له: لا تتقرب بالذبح إلا على نية أنك تريد أنت تتقرب بالصدقة بلحمها.
س 8: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما حكم الأضحية وهل يستدين الإنسان ليضحي؟
فأجاب بقوله: الأضحية سنة مؤكدة لمن كان قادراً عليها، حتى قال بعض أهل العلم: إنها واجبة، وممن قال بوجوبها أبو حنيفة وأصحابه- رحمهم الله- وهو رواية عن الإمام أحمد بن حنبل- رحمه
الله- واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله-، وعلى هذا فلا
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 95.(25/17)
ينبغي للقادر أن يدع الأضحية.
أما مَن ليس عنده فلوس فإنه لا ينبغي له أن يستدين ليضحي؛ لأنه سوف يشغل ذمته بالدين، ولا يدري أيقدر على وفائه أم لا، لكن من كان قادرًا فلا يدع الأضحية لأنها سنة، والأضحية في
الحقيقة إنما هي عن الرجل وأهل بيته هذه هي السنة كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد كان يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته، والإنسان إذا ضحى بالشاة عنه وعن أهل بيته كفاه عن الجميع الأحياء والأموات، ولا حاجة أن يخص الأموات بأضحية كما يفعل بعض الناس، حيث يخصون بعض الأموات بالأضحية، ويدعون أنفسهم لا يضحون عنهم ولا عن أهليهم، وأما الأضاحي عن الأموات في الوصايا التي أوصوا بها فلابد من تنفيذها، والله أعلم.
س9: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل ذبح الأضحية يوم العيد واجب أو سنة؟
فأجاب بقوله: كان الذي ينبغي أن يسأل عن الأضحية هل هي واجبة أم لا؟.
وقد اختلف العلماء في وجوبها.
فمنهم من قال: إنها واجبة كما هو مذهب أبي حنيفة، وإحدى(25/18)
الروايتين عن الإمام أحمد، وأحد القولين في مذهب مالك، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بها وواظب عليها.
ومن العلماء من يقول: إنها سنة مؤكدة يكره للقادر تركها.
س10: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: كيف يجمع الإنسان بين الأضحية والحج؟ وهل هذا مشروع؟
فأجاب بقوله: الحاج لا يضحي وإنما جهدي هديًا؟ ولهذا لم يضحِّ النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع وإنما أهدى، ولكن لو فرض أن الحاج حج وحده وأهله في بلده فهنا يدع لأهله من الدراهم ما يشترون به الأضحية ويضحون بها، ولكون هو جهدي، وهم يضحون؟ لأن الأضاحي إنما تشرع في الأمصار، أما في مكة فهو الهدي.
س11: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: كيف يجمع الإنسان بين الحج والأضحية؟ وماذا يصنع بالنسبة للأخذ من شعره وأظفاره؟
فأجاب بقوله: الحاج لا يضحي لكن من له أهل فإنه يجعل عندهم القيمة يضحون عنهم، وأما هو فله الهدي، وإذا قدِّر أنه قال لأهله: ضحوا عني وعنكم، فهو المضحي حقيقة، ولكن لا حرج أن يأخذ من شعره إذا تحلل من العمرة؟ لأن الإنسان المتمتع إذا قدم مكة وطاف(25/19)
وسعى فإنه يقصر وهذا التقصير لا يضر؟ لأنه نسك والذي ورد به النهي إنما هو الأخذ لغير النسك.
س12: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل على الحاج أضحية؟ وما الجواب عن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحى عن أزواجه بالبقر (1) ؟ وما جاء في حديث ثوبان رضي الله عنه قال: "ذبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضحيته" (2) وفي رواية أن ذلك في حجة الوداع (3) ؟
فأجاب بقوله: الأضحية للحاج إن كان يريد أن يضحي في أهله، بمعنى أنه حج وأهله مقيمون في بلده وأراد أن يعطيهم دراهم يشترون بها الأضحية يضحون بها فهذا لا بأس به.
وأما إذا كان يريد أن يضحي في منى فإنه لا يضحي في منى، ليس في الحج إلا الهدي.
وأما حديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحى عن أزواجه بالبقر فالمراد بـ (ضحى) ، أي: ذبحها عنهن في الضحى، فأهدى لهن بقرًا، لكن
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الأضاحي، باب بيان ما كان من النهي عن أكل الأضحية، (35) ، (975) .
(2) أخرجه مسلم، كتاب الأضاحي، باب بيان ما كان من النهي عن كل الأضحية، (35) ، (975) .
(3) أخرجه مسلم، كتاب الأضاحي، باب بيان ما كان من النهي عن كل الأضحية، (36) ، (975) .(25/20)
ذبحها في الضحى فأطلق عليها أنها أضحية، وكذلك ما جاء في حديث ثوبان- رضي الله عنه-، وكل ما أطلق عليه أنه أضحية في الحج فإنه هدي.
س13: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل على كل مسلم أن يضحي؟ وهل يجوز اشتراك خمسة أفراد في أضحية واحدة؟
فأجاب بقوله: الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
الأضحية هي الذبيحة التي يتقرب بها الإنسان إلى الله في عيد الأضحى والأيام الثلاثة بعده، وهي من أفضل العبادات؟ لأن الله سبحانه وتعالى قرنها في كتابه بالصلاة فقال جل وعلا: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) (1) ، قال تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لله رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (2) وضحى النبي - صلى الله عليه وسلم - بأضحيتين إحداهما عنه وعن أهل بيته، والثانية عمن آمن به من أمته (3) ، وحث
__________
(1) سورة الكوثر، الآيتان (1- 2) .
(2) سورة الأنعام، الآيتان (162- 163) .
(3) أخرجه الإمام أحمد (6/391) ، وابن ماجه كتاب الأضاحي، باب أضاحي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، (3122) .(25/21)
الناس عليها صلوات الله وسلامه عليه، ورغب فيها.
وقد اختلف العلماء- رحمهم الله- هل الأضحية واجبة، أو ليست بواجبة على قولين.
فمنهم من قال: إنها واجبة على كل قادر؟ للأمر بها في كتاب الله عز وجل في قوله: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) ولما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيمن ذبح قبل الصلاة أن يذبح بعد الصلاة (1) ، وفيما روي عنه: "من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا" (2) ، فلا ينبغي للإنسان أن يدع الأضحية ما دام قادراً عليها، فليضح بالواحدة عنه وعن أهل بيته، ولا يجزئ أن يشترك اثنان فأكثر اشتراك ملك في الأضحية الواحدة من الغنم ضأنخها أو معزها، أما الاشتراك في البقرة أو البعير فيجوز أن يشترك سبعة في الواحدة، هذا باعتبار الاشتراك في الملك، وأما التشريك بالثواب فلا حرج أن يضحي الإنسان بالشاة عنه وعن أهل بيته وإن كانوا كثيرين، بل له أن يضحي عن نفسه وعن علماء الأمة الإسلامية وما أشبه ذلك من العدد الكثير الذي لا يحصيه إلا الله.
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الأضاحي، باب من ذبح قبل الصلاة فليعد (5561) . ومسلم، كتاب الأضاحي، باب وقتها (1960) .
(2) أخرجه الأمام أحمد (20/321) ، وابن ماجه، كتاب الأضاحي، باب الأضاحي واجبة هي أم لا؟ (3123) -، والحاكم (2/389) وصححه.(25/22)
وهنا أنبه على أمر يفعله بعض العامة معتقدين: أن الأضحية إنما تكون عن الميت، حتى إنهم كانوا فيما سبق إذا قيل لأحدهم: هل ضحيت عن نفسك؟ يقول: أضحي وأنا حي؟! يستنكر هذا الأمر،
ولكن ينبغي أن يُعلم أن الأضحية إنما شرعت للحي، فهي من السنن المختصة بالأحياء، ولهذا لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ضحى عن أحد من الذين ماتوا من أقاربه، أو من زوجاته على وجه الانفراد، فلم يضح عن خديجة، وهي أول زوجاته- رضي الله عنها-، ولا عن
زوجته زينب بنت خزيمة- رضي الله عنها- التي ماتت بعد تزوجه إياها بمدة غير طويلة، ولم يضح عن عمه حمزة بن عبد المطلب- رضي الله عنه- الذي استشهد في أحد، وإنما كان يضحي عنه وعن
أهله بيته، وهذا يشمل الحي والميت، وهناك فرق بين الاستقلال والتبع، فيضحى عن الميت تبعًا بأن يضحي الإنسان عنه وعن آل بيته، وينوي بذلك الأحياء والأموات، وأما أن يضحي عن ميت
بخصوصه بعينه فهذا لا أساس له من السنة فيما أعلم، أما إذا كان الميت قد أوصى بأضحية فإنه يضحي عنه تبعًا لوصيته، وأرجو أن يكون هذا الأمر معلومًا، وهو أن الأضحية إنما تشرع في الأصل في حق الحي لا في حق الميت، فالأضحية عن الميت تكون بالتبع وتكون بوصية، أما تبرعًا من أحد فإنها وإن جازت، لكن الأفضل خلاف ذلك.(25/23)
س14: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل من السنة أن الإنسان إذا أهدى في الحج أن يضحي؟
فأجاب بقوله: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إنه لا أضحية للحاج؟ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يضح، وأهدى مئة بعير عن سبع مائة رأس من الغنم (1) ، لكن إذا كان الإنسان له عائلة لم يحجوا معه، وأوصاهم أن يضحوا عنه وعنهم فهذا طيب. فإذا كان له عائلة فمن
السنة أن يجعل لهم أضحية عنه وعنهم إذا لم يحجوا معه، وأما الحجاج فلا يضحون وإنما يهدون هديًا.
س15: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله- عن رجل يضحي مع عائلته، وله أبناء في مدينة أخرى ليسوا متزوجين، ولم يضحوا فماذا عليهم؟
فأجاب بقوله: إذا ضحوا فهو خير، وإن تركوا الأضحية فلا شيء عليهم، والأضحية لا تلزم أحدًا؟ لأن الأضحية سنة مؤكدة من الأصل.
س16: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: عن شخص له والدة متوفاة، ويريد أن يضحي عنها من ماله، فهل يشركها في الأضحية
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، (1218) .(25/24)
مع أهل بيته، أم يضحي عنها بأضحية خاصة؟
فأجاب بقوله: لا يشرع للميت أضحية خاصة تُخصُ به، وإن كان هذا جائزًا لكنه ليس بمشروعٍ، إذ لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن أصحابه- رضي الله عنهم- فيما أعلم- أنه ضحى عن أحد من الأموات أضحية مستقلة، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قد ماتت زوجته خديجة، وماتت زوجته زينب بنت خزيمة- رضي الله عنهما- ومتن بناته إلا فاطمة، ومات أبناؤه، ومات عمه حمزة- رضي الله عنهم- ولم يخص أحدًا منهم بأضحية، وإنما كان يقول - صلى الله عليه وسلم - عند تضحيته: "اللهم هذه عن محمد واس محمد" (1) ، فيشمل آل بيته الأحياء والأموات.
وإذا كان كذلك فإن الأفضل في حق السائل ألا يخص أمه بأضحية خاصة، وإنما يضحي بأضحية عنه وعن أهل بيته، وتشمل الأحياء والأموات هذه هي السنة، وإن بعض الناس يضحي بأضحية عن الميت أول سنة من موته يسمونها: أضحية الحفرة، أو أضحية الدفنة، وهذا من البدع؟ لأن تخصيص الميت بأضحية بهذا الاسم في أول سنة يموت لم يرد عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن أصحابه، فيكون من البدع التي ابتدعها الناس، وكل بدعة ضلالة كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (2) .
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (6/391) .
(2) أخرجه مسلم/ كتاب الجمعة/ باب تخفيف الصلاة والخطبة برقم (867) .(25/25)
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد الصالح العثيمين إلى الأخ المكرم ... حفظه الله تعالى- السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كتابكم المؤرخ 29 من الشهر الماضي وصل. سرنا صحتكم والحمد لله على ذلك.
أما سؤالكم عما كثر من أقوال العامة والخاصة ممن ينتسبون إلى العلم أنه ليس للموتى أضحية، وليس لهم صدقة إلا الصدقة الجارية فقط، وكذلك ما يصح لهم حج ولا غيره إلا الذي ما قضى فرضه فهو يحج عنه.
فجوابه: أما الأضحية عن الأموات فإنها تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
أحدها: أن يوصي بها الميت فيضحي عنه تنفيذا لوصيته؟ لأن الله تعالى لم يبح تغيير الوصية إلا إذا كانت جنفاً أو إثماً، قال الله تعالى: (فَمَنْ خَافَ مِن مُوصٍ جَنَفًا أوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَينَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)) (1) ، والأضحية ليست جنفاً ولا إثماً، بل هي عبادة مالية من أفضل العبادات والشعائر.
وقد روى الترمذي وأبو داود عن علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- أنه كان يضحي بكبشين أحدهما عن نفسه والآخر عن النبي
__________
(1) سورة البقرة الآية: 182.(25/26)
- صلى الله عليه وسلم - (1) ، وفي رواية أبي أنه قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوصاني أن أضحي عنه، فأنا أضحي عنه (2) ، وقد ترجم لذلك الترمذي وأبو داود فقال الترمذي: باب ما جاء في الأضحية عن الميت، وقال أبو داود: باب الأضحية عن الميت، ثم ساقا الحديث، لكن الحديث سنده ضعيف عند أهل العلم، وعلى كل حال فالعمدة على آية الوصية.
القسم الثاني: أن يضحي عن الميت تبعًا مثل أن يضحي الرجل عن نفسه وأهل بيته، وفيهم من هو ميت فهذا جائز ويحصل للميت به أجر، وقد جاءت بمثله السنة، فقد ضحى النبي - صلى الله عليه وسلم - بكبشين أحدهما عنه وعن آله، والثاني عن أمته (3) ، وهو شامل للحي والميت من آله وأمته.
القسم الثالث: أن يضحي عن الميت وحده بدون وصية منه مثل أن يضحي الإنسان عن أبيه أو أمه أو ابنه أو أخيه أو غيرهم من المسلمين، فلا أعلم لذلك أصلاً من السنة إلا ما جاء في بعض روايات مسلم لحديث البراء بن عازب في قصة أبي بردة بن نيار أنه
__________
(1) أخرجه أبو داود، كتاب الضحايا، باب الأضحية عن الميت، (279) والترمذي، كتاب الأضاحي، باب ما جاء في الأضحية عن الميت، (1495) .
(2) أخرجه أبو داود، كتاب الضحايا، باب الأضحية عن الميت، (279) والترمذى، كتاب الأضاحي، باب ما جاء في الأضحية عن الميت، (1495) .
(3) أخرجه الإمام أحمد (6/391) .(25/27)
قال: (يا رسول الله قد نسكت عن ابن لي) (1) ، فإن صحت هذه الزيادة فقد يتمسك بها من يثبت جواز الأضحية عن الميت وحده حيث لم يسأله النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ابنه أحيّ أم ميت، ولو كان الحكم يختلف بين الحي والميت لاستفصل منه النبي - صلى الله عليه وسلم -، لكن في هذا نظر؛ لأن المعهود أن الأضحية كانت في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الأحياء،
والأموات تبع لهم، ولا نعلم أنه ضحى عن الميت وحده في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك اعتمد من يجيزون الأضحية عن الميت وحده بدون وصية منه، على قياس الأضحية على الصدقة، حيث إن الكل عبادة مالية.
قال ابن العربي المالكي في شرح صحيح الترمذي (6/290) : اختلف أهل العلم هل يضحي عن الميت مع اتفاقهم على أنه يتصدق عنه والأضحية ضرب من الصدقة لأنها عبادة مالية وليست
كالصلاة والصيام. اهـ
والخلاصة: أن الأضحية عن الميت وحده بدون وصية منه لا أعلم فيها نصًّا صريحًا بعينها، لكن لو فعلت فأرجو ألا يكون بها بأس، إلا أن الأفضل والأحسن أن يجعل المضحي الأضحية عنه وعن أهل بيته الأحياء والأموات؟ اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وفضل الله
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الأضاحي، باب وقتها (6) ، (1961) .(25/28)
واسع، يكون الأجر بذلك للجميع إن شاء الله تعالى.
وأما قول بعض الذين ينتسبون للعلم عندكم: (إن الصدقة لا تصح للموتى إلا أن تكون صدقة جارية) . فهذا غير صحيح، فإن الصدقة للموتى تصح ويصل إليهم ثوابها إذا كانت خالصة لله تعالى
ومن مال طيب، سواء كان جارية أم منقطعة، فقد ثبت في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن أمي اقتلتت نفسها، أي: ماتت فجأة، وأظنها لو تكلمت تصدقت فهل لها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: "نعم" (1) ، وروى نحوه مسلم من
حديث أبي هريرة (2) .
ففي هذا الحديث دليل على جواز الصدقة عن الميت مطلقا، وأن له بذلك أجراً سواء كانت الصدقة الجارية أم منقطعة.
ولعل الذين توهموا أن الميت لا ينفعه إلا الصدقة الجارية فهموا ذلك من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" (3)
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الوصايا، باب ما يستحب لمن توفي فجأة، (2670) .
(2) أخرجه مسلم، كتاب الوصية، باب وصول ثواب الصدقات إلى الميت، (12) ، (1004) .
(3) أخرجه مسلم، كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، (14) ، (1631) .(25/29)
رواه مسلم. وليس في هذا الحديث دلالة على ما توهموه، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "انقطع عمله" ولم يقل: "انقطع العمل له"، ثم إن هذا الحديث الذي استندت إليه هؤلاء فيما فهموا منه، ليس على عمومه بالنص والإجماع، إذا لو كان على عمومه لكان الميت لا ينتفع بغير
دعاء ولده له، وقد دل الكتاب والسنة والإجماع على انتفاع الميت بدعاء غير ولده له، قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) (1) ، والذين سبقوهم بالإيمان في هذه الآيات هم المهاجرون والأنصار، والذين جاءوا من بعدهم شامل لمن بعدهم إلى يوم القيامة، فهم يدعون بالمغفرة لهم وإن لم يكونوا من أولادهم، وينفعهم ذلك، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
أنه أغمض أبا سلمة رضي الله عنه حين مات وقال: "اللهم اغفر لأبب سلمة، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه، وافسح له في قبره، ونوِّر له فيه" (2) .
وكان - صلى الله عليه وسلم - يصلي على أموات المسلمين ويدعو لهم، وصح عنه أنه قال: "ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا
__________
(1) سورة الحشر الآية: 10.
(2) أخرجه مسلم، كتاب الجنائز، باب في إغماض الميت والدعاء له (7) ، (925) .(25/30)
يشركون بالله شيئًا إلا شفَّعهم الله فيه " (1) ، وصح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان
يزور المقابر، ويدعو لأهلها، ويأمر أصحابه بذلك (2) .
فهذه دلالة الكتاب والسنة على انتفاع الإنسان بدعاء غير ولده له، وأما الإجماع فقد أجمع المسلمون على ذلك إجماعًا قطعيًّا، فما زالوا يصلون على موتاهم ويدعون لهم وإن لم يكونوا من آبائهم، وكذلك صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من سنَّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة" (3) ، وليس ذلك من الصدقة الجارية، ولا من العلم، ولا من دعوة الولد.
وكذلك صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه" (4) ، ووليه وارثه سواء كان ولدًا أم غيره، لقوله تعالى: (وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله) (5) ، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو لأولى رجل ذكر" (6) متفق عليه.
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الجنائز، باب من صلى عليه أربعون شفعوا فيه (59) ، (948) .
(2) أخرجه مسلم، كتاب الجنائز، باب ما يقال عند دخول المقابر، (974) .
(3) أخرجه مسلم، كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة (69) ، (1017) .
(4) أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب من مات وعليه صوم (1952) ومسلم كتاب الصيام، باب قضاء الصيام عن الميت، (153) ، (1147) .
(5) سورة الأحزاب الآية: 6.
(6) أخرجه البخاري، كتاب الفرائض، باب ميراث الولد من أبيه وأمه (6732) ، ومسلم كتاب الفرائض، باب: ألحقوا الفرائض بأهلها (2) ، (1615) .(25/31)
والصيام عبادة بدنية، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بصومه عن الميت وهو دليل
على أنه ينتفع به، وإلا لم يكن للأمر به فائدة.
والأمثلة أكثر من هذا ولا حاجة لاستيعابها إذ المؤمن يكفيه الدليل الواحد.
والمقصود أن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا مات الإنسان انقطع عمله" إلى آخر الحديث إنما يعني به عمل نفسه لا عمل غيره له؟ ولهذا قيد الصدقة بالجارية لتكون مستمرة له بعد الموت، وأما عمل غيره له فقد عرفت الأمثلة والأدلة على انتفاعه به سواء من الولد أو غيره،
ولكن مع ذلك لا ينبغي للإنسان أن يكثر من إهداء العمل الصالح لغيره؟ لأن ذلك لم يكن من عادة السلف وإنما يفعله أحيانًا.
وأما قول بعض المنتسبين للعلم عندكم: (إنه ما يصح الحج للميت إلا إذا كان ما قضى فرضه فهو يحج عنه) ، فهذا موضع خلاف بين العلماء، والمشهور من مذهب الإمام أحمد- رحمه الله- أنه يجوز أن يحج عن الميت الفرض والنفل؛ لحديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة، قال: "ومن شبرمة؟ " قال: أخ لي. أو قريب لي، قال: "أحججت عن نفسك؟ "
قال: لا، قال: "حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة" (1) ، قال في
__________
(1) أخرجه أبو داود، كتاب المناسك، باب الرجل يحج عن غيره، (1811) ، وابن ماجه، كتاب المناسك، باب الحج عن الميت، (2903) .(25/32)
الفروع (3/265) ط آل ثاني: إسناده جيد، احتج به أحمد في رواية صالح، قال البيهقي: إسناده صحيح. ومن العلماء من أعله بالوقف، لكن الرافع له ثقة وهو يدل بعمومه على جواز حج النفل عن الميت؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يم لم يستفصل هذا الرجل عن حجه عن شبرمة هل هو نفل أو فرض، وهل كان شبرمة حيًّا أو ميتًا، قالوا: وإذا جاز أن يحج عنه الفرض بالنص الصحيح الصريح ما المانع من النفل، فإن جواز حجة الفرض عنه دليل على أن الحج لا تمتنع فيه النيابة، وهذا لا فرق فيه بين الفرض والنفل إذا كان الذي يحج عنه ميتًا أو عاجزًا عجزًا لا
يرجى زواله، أما القادر أو العاجز عجزًا يرجى زواله فلا يوكل من يحج عنه.
هذا ما لزم، والله يحفظكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حرر في 1/15/1455هـ.(25/33)
س17: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: يختلف الجاموس عن البقر في كثير من الصفات كاختلاف الماعز عن الضأن، وقد فصل الله في سورة الأنعام بين الضأن والماعز، ولم يفصل بين الجاموس
والبقر، فهل يدخل في ضمن الأزواج الثمانية فيجوز الأضحية بها أم لا يجوز؟
فأجاب بقوله: الجاموس نوع من البقر، والله عز وجل ذكر في القرآن المعروف عند العرب الذين يحرّمون ما يريدون، ويبيحون ما يريدون، والجاموس ليس معروفًا عند العرب.
س18: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: أيهما أفضل في الأضحية الكبش أو البقر؟
فأجاب بقوله: ذكر الفقهاء رحمهم الله أنه إذا ضحى بالبهيمة كاملة فالأفضل الإبل، ثم البقر، ثم الغنم، والضان أفضل من الماعز، أما إذا ضحى بسبع من البدنة أو البقرة فإن الغنم أفضل والضان
أفضل من الماعز.
س19: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: أيهما أفضل في الأضحية كبيرة الحجم كثيرة الشحم واللحم أم غالية الثمن؟(25/34)
فأجاب بقوله: هذه مسألة هل الأفضل في الأضحية رفيعة القيمة أو السمينة الكبيرة؟ الغالب أنهما متلازمان وأن الكبيرة ذات اللحم الكثير تكون أفضل، لكن أحيانًا يكون بالعكس، فإذا نظرنا إلى منفعة الأضحية قلنا الكبيرة أفضل، وإن قلَّت قيمتها، وإن نظرنا إلى صدق التعبد لله عز
وجل قلنا كثيرة الثمن أفضل؟ لأن بذل الإنسان المال الكثير تعبدًا لله يدل على كمال عبادته وصدق عبادته، والجواب أن نقول: انظر ما هو أصلح لقلبك فافعله ما دام المصلحتان قد تعارضتا، فانظر ما هو أصلح لقلبك، فإن رأيت أن النفس يزداد إيمانها وذلها لله عز وجل ببذل الثمن فابذل
الثمن الكثير.
س20: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ورد في كلامكم في فضل الأضحية أنها كلما كانت أكمل كلما كانت أفضل مع أن الثنية من الضأن أفضل لحمًا وأقل ثمنًا عند الناس من التي أكبر منها فأيهما أفضل؟
فأجاب بقوله: الأفضل ما كانت أكثر لحمًا وأنفع للفقراء، وإن كان بعض العلماء يقول ما كانت أكثر ثمنًا، فالمسألة فيها خلاف بين العلماء إذا كان الأمر بين، أن تكون أكثر ثمنًا أو أكثر لحمًا وأنفع، فمن العلماء من يرجح ما كانت أكثر ثمنًا؟ لأن كون الإنسان يبذل المال(25/35)
الأكثر في مرضاة الله هذه درجة عالية، ومنهم من يقول: إذا كان القصد نفع الفقراء، ونفع الأهل والأكل فإن الأفضل ما كان أكثر لحمًا، فكل من العلماء نظر إلى ناحية، ولكن الذي يظهر أن الأفضل ما كان أنفع للفقراء وأكثر للحم لتكثر الهدية والصدقة والأكل، اللهم إلا أن يمتاز الأقل بفضل آخر أو بميزة أخرى، مثل أن يكون أطيب لحمًا وأشهى للناس، ويكون الناس في زمن الرفاهية لا يأكلون من اللحوم إلا ما كان غضًا طريًا فهنا يرجح.
س21: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: كيف أعرف الإبل التي تجوز الأضحية بها من جهة السن؟ لأن أصحاب الإبل يقولون إنها تضحي لكي يسوِّقون بضاعتهم، فما الحكم؟
فأجاب بقوله: لا تأخذ بقول البائع أنها بلغت السن الذي يجزئ إلا إذا كنت تعرفه شخصيًا أنه ثقة، وإلا فلا تأخذ بقوله؟ لأنه يريد أن يمشي سلعته، كذلك إذا كنت من يعرف الأسنان هل هي ثنية الآن أو جذعة.
س22: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل تجوز أضحية واحدة لأخوين شقيقين في بيت واحد مع أولادهم أكلهم وشر بهم واحد؟(25/36)
فأجاب بقوله: نعم، يجوز أن يقتصر أهل البيت الواحد ولو كانوا عائلتين على أضحية واحدة، ويتعدى بذلك فضيلة الأضحية.
س23: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: أهدى الرسول - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر، في حجة الوداع مئة من الإبل، فهل هذه المئة له خاصة أو له ولأزواجه؟
فأجاب بقوله: نعم، أهدى النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع مئة ناقة، ذبح ثلاثًا وستين بيده، والباقي أعطاه علي بن أبي طالب ليذبحه ويوزع لحمه، وأمر أن يؤخذ من كل بعير قطعة فجعلت في قدر وطبخت فأكل من لحمها وشرب من مرقها (1) ؟ تحقيقًا لقوله تعالى:
(فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) (2) ، وهذا عن نفسه فقط إلا أنه أشرك على بن أبي طالب في الهدي كما جاء هذا في صحيح مسلم في حديث جابر بن عبد الله (3) - رضي الله عنهما-، وأما نساؤه فقد أهدى عنهن بالبقر (4) .
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي-برقم (1218) .
(2) سورة الحج الآية: 28.
(3) مسلم (1218) .
(4) أخرجه مسلم، كتاب الأضاحي، باب بيان ما كان من النهي عن أكل الأضحية (35) .(25/37)
س24: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: عن أب يسكن معه في بيته ثلاثة أبناء متزوجون، ولكل واحد منهم جزء مستقل في البيت فهل تجزئ أضحية واحدة عنهم؟
فأجاب بقوله: الذي أرى أن على كل بيت أضحية؟ لأن لكل بيت مستقل.
س25: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: عمن يسكن مع والده، وهو متزوج وله مال، فهل يكتفي بأضحية والده؟
فأجاب بقوله: السنة أن الرجل يضحي عنه وعن أهل بيته صغاراً أو كباراً، أما إذا كان الإنسان منفصلاً عنه أبيه، هو في بيت، وأبوه في بيت، فلكل واحد منهما أضحية، فالأب يضحي عنه وعن أهل بيته، والابن يضحي عنه وعن أهل بيته، ولكن يجب أن يلاحظ أن هذا سنة، وليس معنى ذلك أنه يحرم على الابن إذا كان يسكن مع والده أن يضحي بأضحية مستقلة، لكن لا شك أن التمسك بالسنة خير من عدمه، وأضرب لذلك مثلاً: برجلين أحدهما قام يصلي سنة الفجر لكن يخففها، والثاني قام يصلي سنة الفجر لكن يطول فيها، أيهما الأوفق للسنة؟ الأول الذي يخفف، ولكن الثاني وإن كان يطول ويفعل خلاف السنة إلا أنه لا يأثم، فإذا قلنا أن السنة أن يجمع أهل(25/38)
البيت على أضحية واحدة فيقوم بها رب البيت فليس معنى ذلك أنهم لو ضحوا بأكثر من واحدة أنهم يأثمون، لا يأثمون، لكن المحافظة على السنة أفضل من كثرة العمل، قال الله تعالى: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) (1) ولهذا لما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلين في حاجة فلم يجدا الماء فتيمما وصليا، ثم وجدا الماء، أما أحدهما فتوضأ وأعاد الصلاة، وأما الآخر فلم يتوضأ ولم يعد الصلاة، فذُكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال للذي لم يعد الصلاة: "أصبت " وقال للثاني: "لك الأجر مرتين" (2) ، فالأفضل منهما الذي أصاب السنة وإنما أخذ الآخر الأجر
مرتين، لأنه عمل عملين، وله أجر عملين لكنه ليس كالذي أصاب السنة.
س26: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل يصح ذبح ذبحيتين: واحدة بنية الأضحية، والثانية بنية توزيع اللحم؟ وما حكم الأضحية بمقطوعة الأذن أو القرن؟
فأجاب بقوله: هذا سؤال طيب.
أما بالنسبة للمسألة الأولى فالسنة أن يضحي الإنسان بواحدة
__________
(1) سورة الملك الآية: 2.
(2) أخرجه أبو داود، كتاب الطهارة، باب المتيمم يجد الماء بعدما يصلي في الوقت، (338) .(25/39)
عنه وعن آل بيته، كما كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يفعل، ونحن نعلم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أكرم الخلق، ولكن اقتصر على واحدة، فالسنة خير، لكن لو زدت بهذا للغرض الذي ذكرت فلا بأس إن شاء الله.
وأما ما يتعلق بمقطوعة الأذن ومقطوعة القرن فالصحيح: أنها جائزة مجزئة لكنها مكروهة؛ لأنها ناقصة الخلقة، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نستشرف العين والأذن (1) ، أي أن نطلب شرفهما وكمالهما.
س27: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: إذا كان الأب له أولاد وبعض الأولاد متزوج، فهل تكفي أضحية الأب عن الأبناء مع أن لهم زوجات؟ وهل يذبح الوالد عن نفسه والولد عن نفسه
والزوجة عن نفسها، وكذلك كل من كان له مرتب؟
فأجاب بقوله: إذا كانوا عائلة في بيت واحد كفتهم أضحية واحدة؟ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحى بأضحية واحدة عنه وعن أهل بيته (2) ، وكان نساؤه اللاتي معه تسع نساء، ومع ذلك ضحى عنهم أضحية
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (1/149) والترمذي في كتاب الأضاحي، باب ما يكره من الأضاحي (1948) والنسائي (4462) وابن ماجه، كتاب الأضاحي، باب ما يكره أن يضحي به، (3142) ، (3143) .
(2) أخرجه الإمام أحمد (6/391) .(25/40)
واحدة، أما إذا كان هؤلاء الأبناء كل واحد في بيت منفردًا عن الآخر فإن على كل واحد منهم أضحية، ولا تكفي أضحية الوالد عنهم.
س28: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ثلاثة رجال كل واحد اشترى له هديًا فقالوا: شاة نهديها، وشاة نتصدق بها، وشاة نأكلها فبهذا نكون قد أكلنا الثلث، وتصدقنا الثلث، وأهدينا الثلث، فما
رأيك في هذا؟
فأجاب بقوله: رأيي أن هذا غلط؛ لأن الثلث لابد أن يكون مشاعًا، ولابد أن يتصدق الإنسان مما أهداه، وفي هذا المثال الذي ذكره السائل الشاة الثالثة ما أهدي منها بشيء، وما تصدق منها
بشيء، أكلت كلها، والطريق السليم أن تأخذ من هذه الشاة قليلاً، ومن هذه قليلاً، ومن هذه قليلاً، ثم تأكل.
س29: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: عن ثلاثة أخوة في بيت، لهم رواتب، وكلهم متزوج، فهل تجزئهم أضحية واحدة أم لكل واحد أضحية؟
فأجاب بقوله: إذا كان طعامهم واحدًا، وأكلهم واحدًا فإن(25/41)
الواحدة تكفيهم، يضحي الأكبر عنه وعمن في بيته، وأما إذا كان كل واحد له طعام خاص- يعني مطبخ خاص به- فهنا كل واحد منهم يضحي؛ لأنه لم يشارك الآخر في مأكله ومشربه.
س30: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: انتشر بين بعض العامة أنه لا يضحي الحاج إلا إذا كان قد توفي أحد والديه فهل هذا صحيح؟
فأجاب بقوله: هذا ليس بصحيح، الحاج إذا كان هو صاحب البيت فإنه يضحي، بمعنى أنه يقول لأهله اذبحوا الأضحية عني وعنكم، ويعطيهم القيمة، أما إذا كان يريد أن يضحي في مكة فلا؟
لأن الحاج المشروع في حقه هو الهدي وليس الأضحية؟ ولهذا لم يضح النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع مع أنه يضحي كل سنة، في حجة الوداع نحر هديًا مئة بعير، نحر منها ثلاثًا وستين بيده، والباقي أعطاه عليًّا - رضي الله عنه (1) -، وقال: انحره، ولم يضح، فعلى هذا نقول: إذا كان الحاج رب البيت فليوص أهله بأن يشتروا أضحية من ماله، ويضحوا بها عنه وعنهم، أما في مكة فالهدي.
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - (1218) .(25/42)
س31: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: رجل له أولاد، وله ابن كبير متزوج يسكن معه وموظف، وأكلهما وشربهما واحد، فهل في حقهما أضحية واحدة؟
فأجاب بقوله: أصحاب البيت الواحد أضحيتهم واحدة ولو تعددوا، فلو كانوا اخوة مأكلهم واحد، وبيتهم واحد فأضحيتهم واحدة، ولو كان لهم زوجات متعددة، وكذلك الأب مع أبنائه ولو
كان أحدهم متزوجًا فالأضحية واحدة.
س32: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: رجل متزوج بزوجتين الأولى عنده والأخرى عند أهلها هل يلزم أضحية أم أضحيتين؟
فأجاب بقوله: الأضحية في البيت الذي هو فيه تكفي عنها أيضًا؛ لأنها من أهله، وإن كانت هي عند أهلها، فإذا قال: هذا عني وعن أهل بيتي، شملها وإن كانت عند أهلها.
س33: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: عن ثلاثة إخوة يسكنون في سكن واحد، ويضحون بأضحية واحدة فهل تجزئ عنهم؟
فأجاب بقوله: الظاهر لي أن الحكم في هذا أن أضحيتهم هذه مجزئة؟ لأن مالهم بمنزلة الواحد، فتجزئ عنهم الأضحية الواحدة؛(25/43)
لأنهم في بيت واحد، وكان الصحابة رضي الله عنهم يضحون بالشاة عنهم وعن أهل بيتهم، بخلاف ما لو كان كل واحد منهم مختصَّا بماله فإن الأضحية الواحدة لا تجزئ عنهم، ولهذا لو اشترك ثلاثة
جيران في أضحية واحدة فإن ذلك لا يجزئ، ولا تكون الشاة هذه شاة أضحية بل هي شاة لحم؟ لأن من شروط الأضحية أن تكون على وفق الشرع ولم يرد في الشريعة اشتراك اثنين فأكثر في شاة واحدة، وإنما كان الاشتراك في الإبل والبقر، يشترك السبعة في بعير أو بقرة، ومن المعلوم أن من شروط العمل الصالح أن يكون على وفق الشريعة، فمن عمل عملاَ ليس عليه أمر الله ورسوله فهو مردود عليه، كما ثبت ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" (1) ، أما هؤلاء الجماعة فهم في بيت واحد، ومالهم واحد، فهم بمنزلة رجل واحد فتجزئ الشاة عنهم جميعَا.
س34: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: أشرك الرسول - صلى الله عليه وسلم - عليًّا رضي الله عنه معه في الهدي (2) ، ولم يقل: لك هذا القدر، فهل للإنسان أن يشرك غيره بغير تحديد؟
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة برقم (1718) .
(2) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - (1218) .(25/44)
فأجاب بقوله: نعم، لكن من المعلوم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يجب عليه في قرانه إلا هدي واحد، والباقي تقربَا، فكذلك ما أشرك به علي بن أبي طالب الذي يظهر أنه أشركه في مقدار ما يجب عليه فقط.
س35: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل يجوز للمقتدر أن يذبح أكثر من أضحية له، حيث ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحى بكبشين؟ وهل يمكن أن يشترك الرجل وزوجته في أضحية واحدة من هذا نصف ومن هذا نصف، وعلى أيهما يكون الإنسان؟
فأجاب بقوله: الأفضل ألاَّ يزيد الإنسان عن شاة واحدة عنه وعن أهل بيته؟ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته (1) ، ومعلوم أنه أكرم الخلق - صلى الله عليه وسلم -، وأنه - صلى الله عليه وسلم - أشد الناس حبَّا لعبادة الله وتعظيمه، أما كونه - صلى الله عليه وسلم - ضحى بكبشين، فالثاني ليس عن أهله وأهل بيته، ولكنه عن أمته، وعلى هذا فالأفضل الاقتصار على شاة واحدة للرجل وأهل بيته، ومن كان عنده فضل مال فليبذله دراهم، أو أطعمة أو ما أشبه ذلك في البلاد الأخرى المحتاجة، أو للمحتاجين
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (6/391) .(25/45)
في بلده؛ لأن البلاد لا تخلو من أناس محتاجين.
وأما إذا اشترك الإنسان وزوجته في قيمة شاة فإن هذا لا يصح؛ لأنه لا يشترك اثنان في القيمة في شاة واحدة، وإنما الاشتراك المتعدد في الإبل والبقر، يكون البعير عن سبعة، والبقرة عن سبعة،
أما الغنم فلا يمكن أن يشترك اثنان على الشيوع أبدًا، أما الثواب فليس له حصر، لا بأس أن يقول: اللهم هذا عني وعن زوجتي، أو عني وعن أهلي، وأما أن كل واحد منهما يبذل نصف - صلى الله عليه وسلم - القيمة ويشتري أضحية واحدة من الغنم فهذا لا يصح.
س36: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: رجل يقول: عمتي قد أوصت بأضحية وعشاء في رمضان، وعندي لها ما يقرب من عشرين ألف رلال، وهذا المبلغ لا أستطيع أن أشتري به عقارًا
أنفذ الوصية من رلعه، فهل يمكن أن أشتري به أسهَما من شركة الكهرباء مثلاً، وأنفذ الوصية من ربح هذه الأسهم؟
فأجاب بقوله: نعم يمكن ذلك؛ لأن فيه مصلحة. كتبه محمد الصالح العثيمين في 6/9/1408هـ.(25/46)
س37: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: إذا أوصى الميت بأضحية، ثم قال أحد الأقارب أو الأولاد أنا أضحي عن الميت من جيبي، فهل يجوز للوكيل مثلأ أن يقبل ولا يضحي من دراهم الميت، وإذا وقع ذلك فما الحكم؟
فأجاب بقوله: الواجمب على الوكيل أن ينفذ الوصية التي وكلت إليه، ومن أراد أن يضحي عن الميت فإنه لا يمنع، ولكن الوصية لابد من تنفيذها.
وأنا قلت كلمة (الوكيل) مجاراة للسؤال، وإلا فالصواب:
(الوصي) ؛ لأن المتولي لغيره إن كان الغير حيًّا فهو (وكيل) ، وإن كان ميتًا فهو (وصي) ، وإن كان على مال يتيم ونحوه فهو (ولي) ، وإن كان على وقف فهو (ناظر) .
قاله كاتبه: محمد الصالح العثيمين في 18/12/1390هـ.
س38: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: أيهما أفضل أن يدفع رب البيت قيمة الأضحية وحده، أم يضحي كلل مستطيع من أفراد الأسرة تطييباً لنفوسهم؟
فأجاب بقوله: الأفضل أن يقوم بها وحده، فقد كان الرجل في عهد النبي ع - صلى الله عليه وسلم - يضحي عنه وعن أهل بيته، وأما تطييب نفوسهم بان(25/47)
يقال لهم: السنة هي التي فيها طيب النفس، والناس إذا عودوا على الشيء اعتادوا عليه وسهل عليهم، ولاشك أن الناس الآن اعتادوا على أن كل واحد يضحي، ولكن إذا قيل لهم: إن السنة أن يضحي رب البيت، وإن كان لكم زيادة فتصدقوا جها، ومع ذلك لو أنكم ضحيتم ليس عليكم إثم، ولكن المحافظة على السنة وعلى ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم لا شك أنه أولى.
س39: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: إذا أوصى الرجل بأضحية، فهل الورثة مخيرون بين ذبح شاة، وبين الاشتراك في سبع بدنة أم لا؟
فأجاب بقوله: إذا أوصى الميت بأضحية فإن الواجب على الوصي أن يختار ما هو أفضبل وأكمل، فالشاة أفضل من سبع بدنة، لكن إذا كانمسا الوصية قليلة لا تكفي للواحدة من الضأن أو الماعز، وتكفي لسُبع من الإبل، أو البقرة، فحينئذٍ يشتري سُبع بدنة، أو بقرة.
س40: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما رأيكم في ذبح الهدي عن طريق البنك الاسلامي، وتوفيع لحمه خارج الحرم، خاصة إذا كان الحملة فيها عدد كبير من الناس، فهل الأفضل أن يذبحها(25/48)
الإنسان بنفسه مع المشقة ومظنة عدم الاستفادة منها؟ أو يدفعها لهذه الجهة حتى ولو لم تذبح إلا في اليوم الرابع؟
فأجاب بقوله: الأفضل أن يباشر الإنسان الذبح بنفسه أو بوكيل يكون حاضرًا عنده؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لخيم هو الذي باشر الذبح، ذبح هديه بيده - صلى الله عليه وسلم - لَخيرو فإنه أهدى مئة بدنة، ذبح منها ثلاثًا وستين بيده، وأعطى علي بن أبي طالب الباقي (1) فذبحه، وإن حصل لك المشقة احتسب الأجر، وبعض الناس ينزل إلى مكة في يوم العيد، أو في أي يوم من أيام التشريق، ويشتري الهدي ويذهب إلى المجزرة فيذبحه هناك، ويجد من يأخذها منه، فبإمكانك أن تنزل إلى مكة في يوم من أيام التشريق وتذبح هناك كما يفعله بعض الناس بدون مشقة وبدون تعب، وإذا كان عليك مشقة كما لو كانت الهدايا كثيرة وأنت رجل واحد فلك أن تعطي هذه الشركة لذبحها؛ لأن القائمين عليها حسب علمي أناس موثوقون، والتوكيل في الهدي جائز.
س41: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل يجوز ذبح الخميى في الأضحية؟
فأجاب بقوله: يجوز أن يذبح الخصي في الأضحية، حتى إن بعض
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - (1218) .(25/49)
أهل العلم قد فضَّله على الفحل، قال: لأن لحمه يكون أطيب، والصحيح: أن الفحل من ناحية أفضل لكمال أعضائه وأجزائه، وهذا أفضل بطيب لحمه، وعلى كل حال فإنه يجوز أن يضحي
الإنسان بالخصي، وقد جاء في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لخي - صلى الله عليه وسلم - ضحى بكبشين موجوءين (1) أي مخصيين.
س42: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل يجوز الأضحية بالمخصي؟
فأجاب بقوله: الصحيح أنه يجوز الأضحية بالمخميى؛ لأنه ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لَخيلى أنه ضحى بكبشين موجوأين، يعني مقطوير الخصيتين، ووجه ذلك أن الخصي يكون لحمه أطيب وألذ، فالخصاء لم يضره بشيء.
س43: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما العيوب التي تكون مانعة من الاجزاء في الأضحية؟ وما أول وقت الذبح وآخره؟
فأجاب بقوله: العيوب التي تمنع من الإجزاء بينها النبي كلم - صلى الله عليه وسلم - في
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (6/220) ، وابن ماجه، كتاب الأضاحي، باب أضاحي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، (3122) .(25/50)
حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال - صلى الله عليه وسلم -: "أربع لا تجوز في الأضاحي: المريضة البين مرضها، والعوراء البين عورها، والعرجاء البيّن ضلعها، والعجفاء التي لا تنقي" (1) ، هذه هي العيوب الأربعة التي تمنع من الإجزاء، وما كان بمعناه أو مثلها فهو مثلها في الحكم.
فالعوراء البين عورها هي: التي يتبين لمن رآها أخها عوراء بحيث تكون العين ناتئة، أو غائرة، أو عليها بياض بيِّن، يتبين لمن رآها بأخها عوراء.
أما المريضة البين مرضها فهي: التي يظهر عليها آثار المرض، وأعراض المرض بأن تكون غير نشيطة، ولا تأكل وما أشبه ذلك مما يستدل بها على مرضها.
والعرجاء البين ضلعها، قال أهل العلم: هي التي لا تستطيع المشي مع الصحيحة، وأما التي تستطيع المشي مع الصحيحة وتباريها وإن كانت تعرج فإنه لا بأس بها.
وأما العجفاء التي لا تنقى فهي: التي لا يكون في أعضائها مخ؟ لأخها تكون غالبًا غير طيبة اللحم، فلهذا ضهى عنها النبي - صلى الله عليه وسلم - لخي - صلى الله عليه وسلم -، ومثل العوراء العمياء فلا تجزئ في الأضحية، ومثل العرجاء البين ضلعها ما قطع أحد أعضائها، وكذلك لو كانت لا تمشي أبدًا فإخها لا تجزئ.
__________
(1) أخرجه مالك في الموطأ، كتاب الضحايا برقم (1) .(25/51)
ومثل المريضة البيِّن مرضها الحامل إذا أخذها الطلق، أي إذا كانت تتولد ولو علمها تحيا أو تموت فإنها لا تجزئ حتى تمشي، وقال أهل العلم: ومثل ذلك أيضًا التي بشمت من تمر أو غيره فإنها لا
تجزئ حتى تفرغ؛ لأنها معرضة للخطر.
س44: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما حكم الأضحية بشاة فيها نوع من المرض يسمى بالطلوع وهل يعتبر عيبًا؟
فأجاب بقوله:. الطلوع إذا كان ظاهرًا فإنه يسال أهل الخبرة هل هذا من الأمراض الخطيرة؟ إن قالوا: نعم. فهو مرض ظاهر لا يضحي بالشاة التي فيها طلع، وإن قالوا: ليس خطيرًا والشاة ليس
فيها ضعف من جهة الصحة والنشاط والاكل فإنه يضحي بها إلا إذا قرر البياطرة أن في أكل لحمها ضرر فهنا لا يضحي بها.
س45: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: في مسالة الأضحية الحديث الوارد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ك - صلى الله عليه وسلم - في الأضحية التي لا تجزئ أربعة أشياء، وقاس - صلى الله عليه وسلم - عليها العلماء بعض الأشياء التي إما أن تكون أولى أو تكون ظاهرة القياس للعلة بينها، قد يقول قائل: نحن نقيس على بعض أركلان الإسلام، فما هو الضابط فيها؟(25/52)
فأجاب بقوله: أولاً: العيوب التي نص عليها الشارع في الأضحية أربعة، لأنه سئل- عليه الصلاة والسلام- ماذا يتقى من الأضاحي؟ فقال: "أربعًا، وأشار بيده، العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البيِّن ضلعها، والعجفاء التي لا تنقي" (1) .
*فهذه أربعة، ونحن نعلم أن الشريعة مبنية على الحكمة فإذا نص الشارع على شيء، كان نصًّا عليه، وعلى ما في معناه، أو أولى منه.
*أما مسالة أركان الإسلام، لو أراد أحد أن يقيس عملاً صالحًا على ركن من الأركان منعناه:
أولاً: لأنه من باب فعل الأوامر، ليس من باب الأوصاف التي عُلقت بها الأحكام، ولا يمكن أن نثبت أمرًا إلا بإذن من الشرع.
ثانيًا: أننا نقول لكل من أراد أن يلحق شيئًا من غير أركان الإسلام بأركان الإسلام: من قال لك إن هذا الشيء الذي تريد إلحاقه يساوي عند الله ما يساويه الركن؟ فلهذا يمتنع القياس بالأوامر، فالأوامر لا يمكن أن تقيس عليها شيئًا.
*أما مسألة العيوب أو الأحكام المعلقة بأوصاف، فمتى وجدت هذه الأوصاف في شيء، أو ما هو أولى منها ثبت فيه الحكم، أرأيت
__________
(1) أخرجه مالك في الموطأ، كتاب الضحايا برقم (1) .(25/53)
قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "خمس من الدواب كلهن فواسق، يُقتلن في الحل والحرم: الغراب، والحدأة، والعقرب، والكلب العقور، والفأرة" (1) ، هل نقول: إن الأسد لا يقتل في الحرم؟ يُقتل، وهو أولى من الكلب العقور بالقتل، هل نقول: إن الحية لا تُقتل في الحرم؟ لا نقول هذا، بل نقول: تُقتل؛ لأنه إذا نُص على العقرب فالحية أشد ضررًا منها، فإذا نص على شيء ثبت الحكم فيما مثله أو أولى منه.
س46: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل تصح الأضحية بالأغنام الموسومة في أذنيها؟
فأجاب بقوله: الصحيح أن ذلك لا يضر، وأن مقطوعة الأذن ومقطوعة القرن ومقطوعة الذيل كلها تجزئ لكن لا ينبغي أن يضحي بها لنقصها، ودليل ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أربعًا لا تجوز في الأضاحي: العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البيِّن ضلعها، والعجفاء التي لا تنقي" (2) ، وفي رواية أنه سئل- عليه الصلاة والسلام-: "ماذا يتقى من الضحايا؟ فقال: أربعاً، وأشار
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب جزاء الصيد، باب ما يقتل المحرم من الدواب (1829) ، ومسلم، كتاب الحج، باب ما يندب المحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم، (67) ، (1198) .
(2) أخرجه مالك في الموطأ، كتاب الضحايا برقم (1) .(25/54)
بأصابعه وعدها" (1) ، وهذا يدل على أن ما سواها يجزئ، لكن ما فيه العيب لا شك أنه مكروه، وأنه ينبغي أن تكون الأضحية على أكمل ما تكون، وعلى هذا فإذا شقت الأذن للوسم وضحي بها فلا بأس.
س47: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما هي الكيفية الصحيحة لذبح الأضحية؟
فأجاب بقوله: الكيفية الصحيحة أن ينحر الإبل قائمة معقولة اليد اليسرى، فإن لم يتيسر نحرها قائمة جاز له نحرها باركة، أما إذا كانت الأضحية من الغنم (الضأن والماعز) فإنه يضجعها على الجانب
الأيسر ويضع رجله على رقبتها، ويمسك بيده اليسرى رأسها حتى يتبين الحلقوم، ثم يمر السكين على الحلقوم والودجين والمريء بقوة، فينهر الدم، ويقول عند الذبح: "بسم الله، الله أكبر، اللهم هذا منك ولك، اللهم هذه عني وعن أهل بيتي"، أما غير الأضحية فيفعل فيها هكذا لكنه يقول عند الذبح، قبل أن يذبح يقول: بسم الله، والله أكبر فقط.
__________
(1) أخرجه أبو داود برقم (2802) .(25/55)
س48: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما وقت التسمية في الأضحية؟ وما صفتها؟ وهل ما يفعله الناس من المسح على ظهر الأضحية عند تسميتها له أصل من السنة أو من كلام أهل العلم؟
فأجاب بقوله: وقت التسمية عند الذبح إذا أضجع الذبيحة وصفتها أن يقول: بسم الله، والله أكبر، اللهم هذا منك ولك، اللهم هذا عن فلان.
*أما ما يفعله الناس من المسح على الظهر فلا أعلم له أصلاً في السنة، ولا في كلام أهل العلم.
س49: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: من نسي التسمية عند ذبح الأضاحي فماذا يلزمه؟ وهل هناك فرق بين صاحب الأضحية المتبرع أو الوكيل؟
فأجاب بقوله: إذا نسي التسمية فليس عليه إثم لقول الله تعالى: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) (1) ، ولكن هل يحل لنا أن نأكل من هذه الذبيحة، ننظر، قال الله عز وجل: (وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ الله عَلَيْهِ) (2) ، فأمامنا الآن فعلان:
__________
(1) سورة البقرة الآية: 286.
(2) سورة الأنعام الآية: 121.(25/56)
فعل الذابح.
وفعل الآكل.
أما الذابح فمعفو عنه لأنه ناسي، وقد قال الله تعالى: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) (1) .
وأما الآكل فنقول: (وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ الله عَلَيْهِ) (2) ، ولأن التسمية عك الذبيحة شرط، والشرط لا يسقط بالسهو والجهل، نظير ذلك لو أن الإنسان صلى بغير وضوء ناسيًا فلا يأثم، لقوله تعالى: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) (3) ، لكن هل تبرأ ذمته؟
والجواب: لا تبرأ ذمته، ولا بد أن يتوضأ ويصلي، ونحن إذا قلنا بهذا القول- الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله- وهو ظاهر النصوص، إذا قلنا به فإن الناس لن ينسوا التسمية على
الذبيحة؟ ولهذا لما أورد بعض الناس قال: إذا قلنا بأن من ذبح ناسيًا التسمية فالذبيحة حرام ويجب جرها للكلاب، قال: أتلفتم أموال
__________
(1) سورة البقرة الآية: 286.
(2) سورة الأنعام الآية: 121.
(3) سورة البقرة الآية: 286.(25/57)
الناس؛ لأن النسيان كثير.
فنقول: بالعكس نحن حفظنا أموال الناس، لأننا لو قلنا لهذا الرجل الذي نسي التسمية: الذبيحة حرام، ولا يجوز الآكل منها فإنه لا يمكن أن ينسى في المستقبل.
ولا فرق بين متبرع وغير متبرع، الذبيحة لا تحل، لكن يبقى هل يضمن الذابح لصاحب البهيمة؛ لأنه هو الذي كان سببًا في عدم التسمية أو لا يضمن، قد يقال: إنه إذا كان محسنًا فلا ضمان عليه
لقول الله تبارك وتعالى: (مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) (1) ولأن النسيان يقع كثيرًا، وقد نقول: بالضمان ولو كان محسنًا؛ لأنه أتلف المال على صاحبه، وإتلاف المال على صاحبه مضمون على كل حال، حتى ولو كان الإنسان ناسيًا فإنه يضمن، لو أن الإنسان نسي وأكل طعام أخيه يضمنه، لكن الأول أصح وأرجح، أن المتبرع المحسن إذا نسي التسمية فلا ضمان عليه، لكن الذبيحة لا تحل.
س50: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل يصح مسح ظهر الأضحية قبل ذبحها؟ وما الذكر المشروع؟
__________
(1) سورة التوبة الآية: 91.(25/58)
فأجاب بقوله: رأينا أن مسح الظهر عند ذبح الأضحية من أجل تعيينها لا أصل له، وليس بمشروع، ومن فعله تقربًا إلى الله فقد ابتدع في دين الله ما ليس منه.
والمشروع في التسمية إذا أضجع الذبيحة، أو أراد أن ينحرها إذا كانت بعيرًا، أن يقول: "بسم الله، الله أكبر، اللهم هذا منك ولك، اللهم هذه عني وعن أهل بيتي"، أو عن فلان إذا كان أضحية موصى بها، أو ما أشبه ذلك، المهم أن تعيين من هي له إنما يكون عند الذبح بعد التسمية والتكبير.
س51: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل يشترط أن يذكر عند ذبح الأضحية أنها عن فلان؟
فأجاب بقوله: إن ذكر أنها عن فلان فهو أفضل، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "اللهم هذا منك ولك، اللهم هذا عن محمد وآل محمد" (1) ، وإن لم يذكره كفت النية، ولكن الأفضل الذكر، ثم إن تسمية المضحى عنه تكون عند الذبح يقول: بسم الله، الله أكبر، اللهم
هذا منك عن محمدٍ أو عن فلان وفلان ويسميه، وأما ما يفعله بعض العامة إذا كان ليلة العيد ذهب إلى المواشي ليسمي من هي له، وجعل
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (6/391) .(25/59)
يمسحها من مقدم الرأس إلى الذيل، ويكرر التسمية، فهذا، بدعة لا أصل لها عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
س52: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل يشترط أن يذبح الإنسان أضحيته بنفسه أو يحضر عند ذبح الوكيل للأضحية؟
فأجاب بقوله: الأفضل للإنسان أن يتولى ذبح الهدي بنفسه حتى يكون مطمئنًا عليه، ومستحضرًا؛ لأنه في عبادة يتقرب بها إلى الله، ولكن إذا شق عليه ذلك أو شق عليه توزيعه فإنه لا حرج عليه أن
يوكل ثقة يتولى ذبحه وتوزيعه، ولا يشترط مع ذلك أن يشاهد ذبحه، بل إذا وكله وانصرف وتولى هذا الثقة ذبحه وتوزيعه فإن ذلك جائز ولا حرج فيه، فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنه وكَّل علي بن أبي طالب أن يذبح ما تبقى من هديه وكان - صلى الله عليه وسلم - قد أهدى مئة من الإبل فنحر ثلاثًا وستين بيده، وأعطى عليًّا الباقي لينحره وأمره أن يتصدق بما يتصدق به منها (1) .
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - (1218) .(25/60)
رسالة
فضيلة الشيخ/محمد بن صالح العثيمين- حفظه الله-
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد
هذه الرسالة المرفقة وردتنا اليوم 6/11/1410هـ من لجنة الإغاثة في خارج المملكة بدون توضيح معها، والظاهر أنهم يريدون منا نشرها بين الناس لدعم مشروع الأضحية، أي جع الأموال باسم قيمة الأضاحي؛ لتؤمن وتذبح هناك وتوزع على المهاجرين من الأفغان، والسؤال هو: هل ترون فضيلتكم جواز هذا العمل ببعث قيمة الأضاحي إلى هذه اللجنة لتتولى شراء ذبائح الأضاحي وذبحها وتوزيعها على مخيمات المهاجرين من الأفغان؟ وفقكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
لا أرى جواز بعث قيمة الأضاحي إلى هذه اللجنة لتتولى شراء الأضاحي في بلد آخر، لأن هذا يؤدي إلى تعطيل شعيرة الأضاحي في البلاد الإسلامية، والشرع الحكيم له نظر في أن تنتشر شعائر
الإسلام في بلاد الإسلام، ولهذا شرع للحجاج الهدي، وشرع لغيرهم الأضاحي في بلادهم؟ ولأن إرسال قيمة الأضحية إلى بلاد(25/61)
أخرى؛ ليضحي بها يعطل قول الله عز وجل: (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) (1) وقد ذهب بعض العلماء إلى وجوب الآكل من الأضحية بنفسه، كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يذبح أضحيته بنفسه (2) .
وأما توكيله علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن يذبح بقية هديه في منى، فلأن الحاجة داعية إلى ذلك؛ لأن ما أهداه النبي - صلى الله عليه وسلم - مئة بعير، والناس في حاجة إلى تفرغ النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يؤخذ من كل بعير قطعة، فجعلت في قدر وطبخت، فأكل من لحمها وشرب من مرقها (3) ، وهذا يدل على تأكد أكل الإنسان مما تقرب إلى الله بذبحه، وهذا يفوت إذا أرسلت القيمة إلى بلد آخر؟ ولأن الأضاحي إذا كانت وصايا فإن الموصين يحبون أن يضحي بها ذريتهم ويذكروهم بها، وهذا يفوت بإرسال القيمة إلى بلاد أخرى.
وبناء على ما سبق فلا أرى نشر الدعاية لإرسال قيمة الأضحية إلى بلاد أخرى، والله الموفق.
*كتبه محمد الصالح العثيمين في 7/11/1410هـ.
__________
(1) سورة الحج الآية: 28.
(2) أخرجه البخاري، كتاب الأضاحي، باب من ذبح الأضاحي بيده، (558) .
(3) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - (1218) .(25/62)
س53: سئل فضيلة الشيخ-رحمه الله-: عن رجل خارج بلده للعمل لمدة ثلاث سنوات، ولم يقم بالأضحية، ولم يوكل، فهل عليه كفارة؟
فأجاب بقوله: الصحيح أن الأضحية ليست واجبة وأنها سنة، لكنه يكره للقادر أن يدعها، وهذا الأخ الغريب الذي ترك الأضحية لمدة ثلاث سنوات لا إثم عليه؛ لأنه لم يترك واجبًا، وإنما ترك أمرًا
مطلوبًا إن تيسر له فعله، وإن لم يتيسر فلا حرج عليه، لكن مثل هؤلاء الغرباء ينبغي لهم أن يوكلوا أهليهم بأن يقوموا بالأضحية في بلادهم حتى يحصل لهم الفرح والسرور بأضحيته في بلاده.
س 54: سئل فضيلة الشيخ-رحمه الله-: عن رجل أراد أن يضحي وهو ناو الحج فكيف يعمل؟
فأجاب بقوله: إذا كان أهل معه فالأفضل ألا يوكل أحدًا يضحي عنه، وأما إذا كان أهله في بلده فهنا ينبغي أن يوكل من يضحي عنه في أهله، وحينئذ لا يأخذ من شعره ولا من ظفره ولا من بشرته شيئًا إلا إذا أحرم بالعمرة فله أن يقصر؛ لأن التقصير صار نسكًا.
س55: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل يجوز للشخص(25/63)
الحاج توكيل أهله في الأضحية؟
فأجاب بقوله: يجوز للإنسان إذا حج أن يوكل أحدًا من أهله الباقين في البلد، فيضحي عنه وعن أهل بيته، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكَّل علياًّ بن أبي طالب في ذبح ما بقي من هديه - صلى الله عليه وسلم - (1) .
س56: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل يجزئ الهدي عن طريق التوكيل بواسطة البنك الإسلامي ومتى يحل المحرم من إحرامه؛ لأنه لا يعلم وقت ذبح الهدي؟
فأجاب بقوله: إعطاء الدراهم لهذه المؤسسة أو الجهة من أجل أن تتولى الذبح عنك وتوزيع اللحم مبرئ للذمة؛ لأن الظاهر الذي نعلمه أن هذه المؤسسة عليها أناس من قبل وزارة العدل، ومن قبل
رئاسة البحوث العلمية والإفتاء، ومن جهات موثوق بها، وبناءً على ذلك فإن تسليم الدراهم ليقوموا بذبح الهدي وتوزيعه جائز، والتوكيل في ذبح الهدي وتوزيعه قد جاءت به السنة، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهدى من الإبل مئة ذبح منها ثلاثًا وستين بيده، وأعطى عليَّا الباقي،
وأمره أن يتصدق من هذه الإبل (2) .
وأما قول السائل: لا أدري متى أحل؟ - صلى الله عليه وسلم - لا علاقة للحل
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - (1218) .
(2) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي جمع برقم (1218) .(25/64)
بالنحر، الإنسان يحل التحلل الأول وإن لم ينحر، بل ويحل التحلل الثاني وإن لم ينحر أيضًا، فالإنسان إذا رمى جمرة العقبة يوم العيد، وحلق أو قصر حل التحلل الأول، وحل جميع محظورات الإحرام إلا
النساء، فإذا طاف وسعى بالإضافة إلى الرمي والحلق أو التقصير حل له كل شيء حتى النساء، فهذا التحلل الأول والثاني ثابت وإن لم ينحر الإنسان، وحينئذٍ فلا إشكال في الموضوع بالنسبة للإحلال.
س57: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: من لم يستطع ذبح الهدي بنفسه ووكل جمعية، فهل يصح فعله؟
فأجاب بقوله: أولاً: نقول: إن الأفضل أن يذبح الهدي بنفسه أو يوكل مسلمًا ويحضر ذبحه لأجل أن يأخذ منه شيئًا يأكله؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين أهدى مئة بعير، أمر من كل بعير بقطعة فجعلت في قدر فطبخت، فأكل من لحمها وشرب من مرقها (1) ، وهذه مسألة
للأسف يغفل عنها الكثيرون.
وأما ما يتعلق بالإجابة على سؤال السائل، فإن الذبح يجزئ إذا وكل إنسانًا أو جمعية معتمدة وموثوقًا بها.
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - برقم (1218) .(25/65)
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
فضيلة الشيخ/محمد بن صالح العثيمين- حفظه الله تعالى-
* أرجو أن توضحوا لنا عما كثر الكلام فيه من إرسال قيمة الأضاحي إلى البلاد الإسلامية الفقيرة، ليشترى بها أضحية ويضحي بها هناك، نرجو إفتاءنا بما ترون مأجورين؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الجواب: وبالله التوفيق، ومنه نستمد الهداية والصواب:
كل! اعلم أن الأضاحي شأنها كبير، لأنها من شعائر الله تعالما، وقد قال الله تعالى: (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) (1) ، وقد قرن الله تعالما النحر له بالصلاة، فقال: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) (2) وقال تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لله رَبِّ الْعَالَمِينَ) (3) ، والنسك
الذبح على أحد أقوال أهل التفسير، كما قال تعالى: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ الله عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ) (4) .
__________
(1) سورة الحج، الآية: 32.
(2) سورة الكوثر، الآية: 2.
(3) سورة الأنعام، الآية: 163.
(4) سورة الحج، الآية: 34.(25/66)
ولهذا اختلف العلماء- رحمهم الله تعالى- في وجوبها بعد اتفاقهم على مشروعيتها، فذهب إلى وجوبها الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه، وهو قول الأوزاعي والليث ومذهب أبي حنيفة وأحد القولين في مذهب مالك، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والأظهر وجوبها، فإنها من أعظم شعائر الإسلام، وهي النسك العام في جميع الأمصار، والنسك مقرون بالصلاة، وهي من ملة إبراهيم الذي أمرنا باتباع ملته". ا. هـ.
وليس المقصود من الأضحية مجرد الانتفاع من اللحم؛ بل المقصود الأعظم منها التقرب إلى الله تعالى وتعظيمه بالذبح له؛ ولهذا خصت بالنوع والسن والوصف والزمن، فلا تجزئ إلا من بهيمة
الأنعام (الإبل والبقر والغنم) ولا تجزئ إلا بما كان جذعًا من الضأن أو ثنيًا مما سواه، ولا تجزئ إلا بما كان سليمًا من العيوب المانعة من الإجزاء، ولا تجزئ إلا في وقت معين من بعد صلاة عيد الأضحى إلى آخر أيام التشريق، ولهذا فرق النبي - صلى الله عليه وسلم - بين شاة اللحم وشاة
الأضحية، ففي صحيح البخاري عن البراء بن عازب- رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطبهم يوم النحر بعد الصلاة وقال: "من صلى صلاتنا، ونسك نسكنا فقد أصاب النسك، ومن نسك قبل الصلاة فتلك شاة لحم "، فقام أبو بردة ابن نيار فقال: يا رسول الله، والله لقد(25/67)
نسكت قبل أن أخرج إلى الصلاة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تلك شاة لحم" (1) ، وفي الصحيح أيضَا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى يوم النحر ثم ذبح وقال: "من ذبح قبل أن يصلي فليذبح أخرى مكانها" (2) .
ففرق النبي - صلى الله عليه وسلم - بين شاة النسك وشاة اللحم، ولو كان المقصود اللحم لم يكن هناك فرق، ولأجزأت من كل نوع من الحيوان المأكول، وبأي سن كان، وعلى أي وصف، وفي أي وقت، ولهذا لو تصدق الرجل بألف كيلو من اللحم لم يجزئ عن الأضحية بشاة تبلغ أربعين كيلو أو نحوها.
قال ابن القيم رحمه الله: "فإن نفس الذبح وإراقة الدم مقصود، فإنه عبادة مقرونة بالصلاة كما قال تعالى: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) (3) ، وقال: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لله رَبِّ الْعَالَمِينَ) (4) ، ثم قال: "ولهذا لو تصدق عن دم المتعة والقران بأضعاف أضعاف القيمة لم يقم مقامه وكذلك الأضحية" ا. هـ.
فإذا تبين ذلك فإن إرسال قيمة الأضاحي إلى بلاد أخرى من
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب العيدين، باب الأكل يوم النحر، (955) .
(2) أخرجه البخاري، كتاب الأضاحي، باب من ذبح قبل الصلاة أعاد (5562) .
(3) سورة الكوثر، الآية: 2.
(4) سورة الأنعام، الآية: 163.(25/68)
البلاد الإسلامية ليضحي بها هناك تفوت به مصالح كثيرة منها:
1- ظهور شعائر الله تعالى في البلاد الإسلامية، فإن الناس إذا أرسلوا قيمة ضحاياهم لبلاد أخرى خليت بلادهم من هذه الشعيرة وفات ظهورها في بلادهم، وتعميم ظهور شعائر الله تعالى في بلاد
الإسلام مقصود شرعي؛ ولهذا لما شرع الهدي للحجاج في مكة، شرع لغيرهم الأضاحي في البلاد الأخرى؛ لتظهر شعيرة الذبح في جميع البلاد الإسلامية.
2- مباشرة المضحي ذبح أضحيته بنفسه، فإن المشروع أن يباشر المضحي ذبح أضحيته بنفسه كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك (1) ، فإذا أرسلت القيمة إلى بلاد أخرى فاتت هذه السنة، وقد قال أهل العلم: إن المضحي إذا كان لا يحسن الذبح فالأفضل أن يحضر ذبحها.
3- التعبد لله تعالى بذكر اسمه على الذبيحة، وهذا عبادة أمر الله بها في قوله: (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ الله لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ الله عَلَيْهَا صَوَافَّ) (2) ، وجعله تعالى الغاية في هذه القربان حيث قال: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ الله عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ) (3) ، فإذا أرسلت القيمة ليضحي في بلاد أخرى فات
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - برقم (1218) .
(2) سورة الحج، الآية: 36.
(3) سورة الحج، الآية: 34.(25/69)
على المضحي أن يتعبد لله تعالى بذكر اسمه على أضحيته.
4- التعبد لله تعالى بالأكل من الأضحية، فإن الآكل من الأضحية عبادة أمر الله تعالى بها في قوله: (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) (1) ، وقال: (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) (2) ، وقد ذهب بعض العلماء إلى وجوب الآكل منها، فإذا أرسلت القيمة إلى بلاد أخرى ليضحي بها هناك
فات هذا التعبد ويكون المضحي آثماً على قول من يقول بوجوب الآكل، ولكن الصحيح: عدم وجوب الآكل، فلا يكون آثماً من لم يأكل، ولكن أكله أفضل.
فهذه المصالح الأربع كلها تفوت بإرسال قيمة الأضاحي إلى بلاد أخرى ليضحي بها هناك.
فإن قال قائل: أليس قد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث بالهدي إلى مكة فيذبح هناك والنبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة (3) ، وهذا يدل على جواز بعث النسيكة إلى بلد آخر.
الجواب: بلى قد كان ذلك، ولكن الهدي خاص بمكة فلابد من
__________
(1) سورة الحج، الآية: 28.
(2) سورة الحج، الآية: 36.
(3) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب فتل القلائد للبدن (1697) .(25/70)
البعث به إليها، بخلاف الأضحية فإنها في كل البلاد فلا حاجة إلى نقلها لبلد آخر بل نقلها يفوت به ما سبق من المصالح.
فإن قائل قائل: أليس قد وكل النبي - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب لينحر ما بقي من هديه في حجة الوداع مع حضور النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) ، وهذا يدل على جواز التوكيل في ذبح النسيكة؟
فالجواب: بلى، ولكن كان ذلك في البلد الذي كان فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والحاجة داعية إليه، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قد أهدى مئة بعير، ونحر منها ثلاثًا وستين، وأعطى عليّا الباقي لينحره، وكان قد أشركه في هديه، والناس في حاجة إلى تفرغ النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمورهم، وقد أمر النبي من كل بدنة ببضعه، فجعلت في قدر فطبخت، فأكل من لحمها وشرب من مرقها.
فإن قال قائل: إخواننا في البلاد الإسلامية أو بعضها في حاجة لمثل هذا اللحم؟
فالجواب: أنه بالإمكان أن تدفع حاجتهم بغير ذلك بإرسال الدراهم والثياب والأطعمة والفرش ونحوها، ويحصل جمها المقصود، ولا تفوت المصالح المترتبة على ذبح الضحايا في بلاد المضحين.
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - برقم (1218) .(25/71)
هذا ما يتعلق بالجواب وإنما بسطت القول فيه لكثرة السؤال عنه. والله أسأل أن يوفقنا وإخواننا المسلمين لما فيه رضاه ونفع عباده، إنه سميع مجيب الدعوات.
كتبه محمد الصالح العثيمين في 27/12/1411هـ.(25/72)
رسالة
فضيلة الشيخ/محمد بن صالح العثيمين- حفظه الله-
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إذا نوى فرد الحج فهل يمكنه أن يوكل هيئة الإغاثة الإسلامية العالمية أن تذبح أضحيته بالخارج أو يلزمه ذبحها في مكة، وجزاكم الله خيرًا، والسلام ورحمة الله وبركاته،
فأجاب: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، نقل الأضاحي إلى الخارج غلط ولو كان لهيئة الإغاثة، الأضاحي تضحي في نفس المكان في بيت الإنسان في بلده لا تنقل للخارج؛ لأن أهم شيء في الأضحية هو التقرب إلى الله تعالى بالذبح كما قال تعالى: (لَنْ يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ) (1) ، وإذا أعطى الإنسان دراهم لتذبح في أي مكان فلا ندري من الذي يذبحها، ولا ندري هل يسمي عليها، أو لا يسمي، ولا ندري كيف يوزعها، ثم يفوتنا ذكر اسم الله عليها، ويفوتنا التعبد لله تعالى بها، والتقرب إليه بأكل منها، حتى إن بعض العلماء قال: يجب
على المضحي أن يأكل من أضحيته لأن الله تعالى قال: (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) (2) ، فبدأ بالأكل قبل الإطعام، فكيف نخادع
__________
(1) سورة الحج، الآية: 37.
(2) سورة الحج، الآية: 36.(25/73)
أنفسنا ونذهب بأضاحينا إلى مكان آخر، والإنسان الذي يريد الخير يضحي في بيته يشاهد أهله هذه الأضحية، ويتقرب إلى الله تعالى بها، وإذا أراد أن يتبرع لأحد من المسلمين في الخارج فلا أحد يرده إذا كان على الوجه المشروع.
وأما الهدي في حج أو عمرة فمحله مكة، ولا يجوز أن ينقل عن مكة إلا أن تتولى الحكومة ذلك، فترى من المصلحة أن يتفرق لحمه هنا وهناك، فهذا شيء آخر؛ لأن الحكومة إذا قبضته بمكة فهي نائبة عن الفقراء، أما الإنسان فلابد أن يكون هديه- هدي القران والتمتع وترك الواجب- كله في مكة.(25/74)
س58: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: الحاج الذي عليه هدي أو فدية هل يوكل من يذبح عنه كشركة الراجحي؟
فأجاب بقوله: أقول: لا باس بمن عليه هدي التمتع، أو قران، أو عليه فدية محظور، أو ترك واجب: أن يوكل من يقوم به، لكن بشرط أن يكون الوكيل ثقة أمينَا، فإذا كان ثقة أمينَا فلا باس، وإلا فلا
توكل، على أنه لو كان ثقة أمينًا فالأفضل أن تباشر ذلك أنت بيدك، هذا هو الأفضل؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذبح هديه بيده - صلى الله عليه وسلم - وذبح أضحيته بيده (1) وإن كان قد أعطى علياًّ بن أبي طالب أن يتمم ذبح هداياه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشركه في هديه.
س59: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ذكرتم بأنه لا يدفع الإنسان أضحيته لمن في الخارج وأن عليه أن يذبحها بنفسه، فهل الهدي كذلك، فماذا تقولون لبعض الشركات التي تقبل الهدي
والأضحية فهل ندفع لهم ذلك؟
فأجاب بقوله: أما الأضحية فلا تدفعوها للشركات ضحوا في بلادكم، وأما الهدي فمعلوم أن الذين يذهبون إلى مكة إذا ذبحوا الهدي صعب عليهم أن يفرقوه على مستحقيه فإذا أعطوه من يقبل
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - برقم (1218) .(25/75)
ذلك فلا بأس، وهؤلاء الذين يتقبلونه بإذن من الحكومة، ويكون قبضهم للهدي كقبض الفقير فيكون الذي يسلمه إلى الحكومة كأنه سلمه إلى الفقير تمامَا ولا حرج فيه للحاجة، ومع ذلك نقول: إذا كنت قادرَا على أن تذبح هديك بنفسك، أو توكل عليه أحدَا في مكة، فلا تعطه الشركات، كلما صار لديك مندوحة عن إعطاء الشركات بالهدي فلا تعطهم.
أما الأضاحي فقد علمتم أنه لا يعطيها أحد إطلاقَا؛ لأن الأضاحي كل إنسان يمكنه أن يضحي في بيته، ويأكل من لحمها ويوزع على حسب الحال.
س60: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: عن رجل مسافر عن بلده إلى المملكة فهل يرسل ثمن الأضحية لبلده لأنهم أشد فقرًا؟
فأجاب بقوله: الذي أرى في هذه الحال أن يضحي هنا وهناك، فإن لم يتمكن فليضح هناك لأجل أن يتمتع أهل بيته بالأضحية في هذه الأيام المباركة.
س61: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: من كان مسافراً عن بلده فهل يرسل ثمن الأضحية لأهله ليضحوا في بيته؟(25/76)
فأجاب بقوله: إذا كان الإنسان في بلد وأهله في بلد آخر، فلا حرج عليه أن يوكل من يضحي عنه عند أهله، حتى يسر أهله بالأضحية ويتمتعوا بها، لأنه لو ضحى في بلد الغربة فمن الذي يأكل الأضحية، وربما لا يعرف أحدَا يتصدق عليه، فلذلك نرى أن من له أهل فليبعث بقيمة الأضحية إلى أهله ويضحوا هناك.(25/77)
رسالة
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.
فضيلة شيخنا ووالدنا محمد بن صالح العثيمين- حفظه الله ورعاه-
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
يسر مشروع (الهُدَى للهدي والأضاحي والصدقة والفدى)
التقدم لفضيلتكم بهذا السؤال الهام الذي ينبني على جوابه كل عملنا في هذا المشروع، لنكون على بصيرة شرعية من أمرنا معتبرين هذا العمل مساهمة جادة في تنظيم ذبح النسك، والاستفادة القصوى من لحومها لصالح الفقراء، وعدم تركها للمحارق تخلصًا منها، ولا حول ولا قوة إلا بالته والسؤال هو:
هل يجوز لنا أن نكون وكلاء عن الحاج في شراء وذبح نسكه، وذلك بثمن شامل ومعلوم للحاج، علمًا أننا نبين نوع الذبيحة- النسك- ونعينها لكل حاج باسمه قبل الذبح ويدخل في هذا الثمن
قيمة الذبح والسلخ والتنظيف وتوزيع اللحم على مستحقيه من فقراء الحرم، كما إنه يدخل في القيمة أتعابنا وأتعاب العاملين معنا في المشروع؟
أفتونا مأجورين، وجزاكم الله عنا وعن المسلمين خير الجزاء.(25/78)
بسم الله الرحمن الرحيم
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
نعم: يجوز لكم ذلك؛ لأنه ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنه وكَّل علياًّ بن أبي طالب- رضي الله عنه- أن ينحر ما بقي من هديه (1) ، وكان يبعث بالهدي من المدينة إلى - صلى الله عليه وسلم - ويذبح هناك (2) ، لكن الأضاحي دعوها لأهلها يضحون بها في بلادهم في دورهم؛ لأن هذا هو المشروع؛ ولهذا أرى أن يحذف من شعاركم اسم الأضاحي، وفق الله الجميع للهدى والصلاح.
كتبه محمد الصالح العثيمين في 22/11/1415هـ
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - برقم (1218) .
(2) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب فتل القلائد (1697) .(25/79)
س62: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما حكم ذبح الهدي في مكة عن طريق اللجنة وتوزيع لحمه خارج المملكة؟
فأجاب بقوله: مسألة ذبح الهدي، الحقيقة أنه فيه مشقة في منى، على العاجز، وأما الإنسان الحازم فلا مشقة عليه؛ لأن من الناس من يذبح، ومن حين ما يخرج من مكان الذبح، الناس يتلقفونه أعطونا أعطونا، لكن الناس إذا رأوا هذه اللحوم، وربما تكون في اليوم الثاني لها رائحة تكاسلوا، فأنت احرص على أن تذهب بنفسك وتأخذ هديًا وتذبحه في مزدلفة، أو في أي مكان آخر، لكن لا تذبح خارج الحرم؛ لأن ذبحها خارج الحرم عند كثير من العلماء لا يجزئ، فلابد أن تذبح داخل حدود الحرم.
س63: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: بعض المخيمات في الحج تجمع من الحجاج الأموال لذبح الهدي فيؤكل البعض كاملاً في المخيم، والبعض يتصدق به كاملاً كما لو كان المجموع مئة من
الغنم فيؤكل خمسين ويتصدق بخمسين؟
فأجاب- رحمه الله- بقوله: هذا غلط ولا يحل لهم هذا الفعل، لأن الخمسين التي أتوا بها إلى المخيم لم يؤدَّ ما يجب فيها من إطعام الفقير، وهذه مسألة ينبغي أن ينبه لها؛ لأن الأمر كما ذكر السائل عن(25/80)
حال بعض حملات الحج من أنهم بعد جمع المال من الحجاج يقومون بتوزيع خمسين من الهدي، والخمسين الأخرى يؤتى بها لمخيم الحملة لتؤكل، لكن يقال في هذه الحالة: الواجب أن يأخذ يداً أو رجلاً والباقي ينقل إلى رحالكم، وأما أن يُتصدق بنصفها كاملاً ونصفها الآخر لا يتصدق بشيء منه فهذا لا يجوز فيجب تنبيه الحملات على هذا، والفقهاء- رحمهم الله- يقولون: يضمن أقل ما يقع عليه اللحم فلكل شاة كيلو مثلاً، فيشتري خمسين كيلو ويتصدق بها على الفقراء هناك في مكة من جنس الغنم إذا كانت غنماً.
س64: سئل فضيلة الشيخ-رحمه الله-: هل يجوز أن تقوم المرأة بذبح الأضحية؟
فأجاب بقوله: نعم المرأة يجوز أن تذبح الأضحية وغيرها؛ لأن الأصل تشارك الرجال والنساء في العبادات وغيرها، إلا بدليل، على أنه قد ثبت في قصة الجارية التي كانت ترع غنمًا بسلع فأصاب الذئب منها شاة، فأخذت حجرًا فذبحتها، وذلك في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمرهم
النبي بأكلها (1) .
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الوكالة، باب إذا أبصر الراعي أو الوكيل شاة تموت، (2304) .(25/81)
س65: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل يجوز أن يذبح الإنسان الأضحية عن غيره؟
فأجاب بقوله: نعم، يجوز أن يوكل من يذبح إذا كان هذا الموكل يعرف أن يذبح، والأفضل في هذه الحال أن يحضر الذبح من هي له، والأفضل أن يباشر ذبحها هو بيده إذا كان يحسن، وأن يضجعها على الجنب الأيسر، إن كان يذبح بيمينه، فإن كان يذبح بيساره فإنه يضجعها على الجنب الأيمن، والمقصود بذلك راحة البهيمة، والإنسان الذي يذبح باليسرى لا ترتاح البهيمة إلا إذا كانت على
الجنب الأيمن، ثم إن الأفضل أن يضع رجله على عنقها حين الذبح، وأما يديها وأرجلها فإن الأفضل أن تبقى مطلقة غير ممسوكة فإن ذلك أريح لها؟ ولأن ذلك أبلغ في إخراج الدم منها، لأن الدم مع
الحركة يخرج فهذا أفضل.
س66: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: بعض الحجاج يدفع نقودًا لبعض المؤسسات التي تتولى دفع هديه في أماكن المجاعة في شرق الأرض وغربها، فما حكم هذا العمل أثابكم الله؟
فأجاب بقوله: هذا عمل خاطئ مخالف لشريعة الله، وتغرير بعباد الله عز وجل، وذلك أن الهدي محل ذبحه مكة؟ فإن الرسول(25/82)
- صلى الله عليه وسلم - إنما ذبح هديه بمكة، ولم يذبحه في المدينة، ولا في غيرها من البلاد الإسلامية، والعلماء نصوا على هذا وقالوا: إنه يجب أن يذبح هدي التمتع والقِران، والهدي الواجب لترك واجب، يجب أن يذبح في مكة، وقد نص الله على ذلك في جزاء الصيد، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ) (1) ، فما قيد في الشرع بأماكن معينة لا يجوز أن ينقل إلى غيرها، بل يجب أن يكون فيها، فيجب أن تكون الهدايا في مكة، وتوزع في مكة، وإن قُدر أنه لا يوجد أحد يقبلها في مكة، وهذا فرض قد يكون محُالاً، فإنه لا حرج أن تذبح في مكة، وتنقل لحومها إلى من يحتاجها من بلاد المسلمين، الأقرب فالأقرب، أو الأشد حاجة فالأشد، هذا بالنسبة للهدايا.
س67: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل يجوز للشخص الحاج توكيل أهله في الأضحية؟
فأجاب بقوله: يجوز للإنسان إذا حج أن يوكل أحدًا من أهله الباقين في البلد، فيضحي عنه، وعن أهل بيته، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكَّل علياّ بن أبي طالب في ذبح ما بقى من هديه (2) - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 95.
(2) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - برقم (1218) .(25/83)
بسم الله الرحمن الرحيم
فضيلة الشيخ/ محمد بن صالح العثيمين- حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد
ما حكم ما يفعله بعض الحجاج في الأضاحي، وهو نقل الأضاحي إلى خارج البلاد وذلك ببذل المال لشركة أو مؤسسة تقوم بشراء الأضحية وذبحها في بلاد أخرى؟ وجزاكم الله خيرَا.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ... وبعد:
فإن ما يفعله بعض الحجاج من نقل أضاحيهم إلى خارج البلاد لا شك أن هذا مخالف للسنة التي سنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل مخالف لأمر الله عز وجل كما سأبينه في هذه النقاط، فإن نقل الأضاحي إلى خارج البلاد يفوت به مصالح كثيرة:
المصلحة الأولى: إنه يفوت بذلك إظهار شعيرة من شعائر الله تعالى وهي الأضاحي، فإن الأضاحي شعيرة عظيمة من شعائر الله يتقرب الإنسان بها إلى ربه، فقد قرنها الله تعالى بالصلاة في كتابه،
فقال جل وعلا: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) ، وقال تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لله رَبِّ الْعَالَمِينَ) (1) ، والنسك عند كثير من
__________
(1) سورة الأنعام، الآية: 162.(25/84)
المفسرين هو: الذبيحة، ومنها الأضاحي، فإذا نقلت إلى خارج البلاد أصبحت معطلة من هذه الشعيرة، إما في بعض البيوت، وإما في كثير منها، وإما في أكثرها إذا توسع الناس في ذلك، وليعلم أن المقصود بالأضاحي هو التقرب إلى الله عز وجل، وليس المقصود منها مجرد الانتفاع من لحمها كما قال الله تعالى: (لَنْ يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ) بين الضحية واللحم
فقال: "من صلى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب النسك، ومن نسك قبل الصلاة فتلك شاة لحم" (1) .
فقال رجل: يا رسول الله، نسكت قبل أن أخرج إلى الصلاة؟
فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "تلك شاة لحم ".
وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين" (2) ، وهذا الحديث دليل واضح على أنه ليس المقصود من الأضاحي مجرد الانتفاع باللحم إذا لو كان الأمر كذلك لم يكن فرق بين المذبوح قبل الصلاة وبعدها، ويدل لهذا أيضًا أن
الأضحية خصما بنوع معين من البهائم، وهي: الإبل، والبقر والغنم، وقيدت بشروط معينة كبلوغ السن، والسلامة من العيوب،
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب العيدين، باب الأكل يوم النحر (955) .
(2) أخرجه البخاري، كتاب الأضاحي، باب من ذبح قبل الصلاة أعاد (5562) .(25/85)
وكوخها من أيام النحر، ولو كان المقصود مجرد الانتفاع باللحم لأجزأت بكل بهيمة كالدجاج، ولأجزأ بالصغير من الأنعام والكبير، ولأجزأت بالعضو من البهيمة وبالجميع، فالأضاحي لها شأن كبير في الإسلام، ولهذا جعل لها حرمات محيطة بها، فمن أراد أن يضحي فمانه لا يأخذ من شعره، ولا من ظفره، ولا من بشرته شيئًا حتى يضحي.
المصلحة الثانية التي تفوت بنقل الأضاحي إلى خارج البلاد: مباشرة المضحي ذبح أضحيته، فمن السنة أن يذبح المضحي أضحيته بنفسه؟ تقربَا إلى الله عز وجل، واقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث كان يذبح أضحيته بنفسه (1) وقال أهل العلم إذا كان المضحي لا يحسن
الذبح بنفسه فليحضر الذبح بنفسه.
المصلحة الثالثة التي تفوت بنقل الأضاحي إلى خارج البلاد: إنه يفوت بذلك شعور الإنسان بالتعبد لله بالذبح نفسه الذي قرنه الله بالصلاة في قوله: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) .
المصلحة الرابعة التي تفوت بنقل الأضاحي إلى خارج البلاد: إنه يفوت الإنسان ذكر اسم الله عليها وقد أمر الله تعالى بذلك فقال سبحانه: (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ الله لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ الله عَلَيْهَا صَوَافَّ)
__________
(1) أخرجه مسلم، كناب الحج، باب حجة الني - صلى الله عليه وسلم - (برقم 1218) .(25/86)
وقال تعالى: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ الله عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا) وفي هذا دليل على أن ذبح الأضحية وذكر اسم الله عليها عبادة مقصودة بذاتها وأنها من توحيد الله وتمام الاستسلام له وربما كان هذا المقصود أعظم بكثير من مجرد انتفاع الفقير بها، ومن المعلوم أن من نقلها خارج البلاد لم يحصل على هذه الفائدة العظيمة.
المصلحة الخامسة التي تفوت بنقل الأضاحي إلى خارج البلاد: الآكل من الأضحية، والأكل من الأضحية مشروع إما وجوبًا، وإما استحبابًا، فإن من العلماء من يقول: يجب على المضحي أن يأكل من أضحيته، فإن لم يأكل منها فهو عاص لله تعالى لأن الله تعالى أمر بالأكل منها بل قدمه على إطعام الفقير فقال سبحانه وتعالى: (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) وقال تعالى: (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) ، ومن المعلوم أن نقلها إلى خارج البلاد يؤدي إلى عدم الآكل منها، فيكون الناقل مخالفًا لأمر الله تعالى ويكون آثمًا- على قول من قال بوجوب الأكل منها من أهل العلم.
المصلحة السادسة: التي تفوت بنقل الأضاحي إلى خارج البلاد: إذا كانت الأضاحي وصايا فإن نقلها يفوت مقصود الموصين بها؛ لأن(25/87)
الموصين حينما أوصوا لم يكن في بالهم أن يضحي بها خارج البلاد، ولم يكن في بالهم إلا أن تتمتع ذرياتهم وأقاربهم في هذه الأضاحي، وأن يباشروا بأنفسهم تنفيذها، ولم يخطر ببالهم أبدًا أن أضاحيهم سوف تنقل إلى بلاد أخرى قريبة أو بعيدة، فيكون في نقل أضاحي الوصايا مخالفة لما يظهر في مقصود الموصين.
ومع فوات هذه المصالح بنقل الأضاحي إلى خارج البلاد فإن فيه مفسدة قد تكون كبيرة لدى الناظر المتأمل، إلا وهي: أن الناس ينظرون إلى الأضاحي إلى هذه العبادة العظيمة نظرة اقتصادية محضة،
أو نظرة تعبدية قاصرة، بحيث يشعر أنه استفاد منها بمجرد الإحسان إلى الغير، مع أن الفائدة الكبرى منها هي: التعبد لله تعالى بذبحها وابتغاء مرضاته.
وإني أحث إخواني على أن تكون أضحياتهم في بلادهم، وإذا أرادوا أن ينفعوا إخوانهم المتضررين في البلاد الأخرى، فإن أبواب الخير كثيرة، فلير سلوا إليهم أطعمة، لير سلوا لهم ألبسة، ليرسلوا لهم
دراهم، كل هذا نافع بإذن الله مع إبقاء الشعيرة العظيمة تحت تصرفهم وبين أهليهم وفي بلادهم.
أرجو الله أن يوفقنا لما فيه الخير والصلاح في ديننا ودنيانا وإن(25/88)
يرزقنا البصيرة في ديننا حتى نتصرف على وفق الشريعة التي جاء بها محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أملاه محمد الصالح العثيمين في 23/11/1413هـ والحمد لله رب العالمين.(25/89)
س68: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل يجوز ذبح الهدي للحاج قبل يوم العيد؛ لأن الحجاج في حاجة حتى يتمكنوا من أعمال يوم العيد؟
فأجاب بقوله: لا يجوز للإنسان أن يذبح هديه قبل يوم النحر، فيوم النحر هو المعد للنحر، وكذلك الأيام الثلاثة بعده، ولو كان ذبح الهدي جائزًا قبل يوم العيد لفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما أمر أصحابه أن يحلوا من العمرة من لم يكن معه هدي، وأما هو - صلى الله عليه وسلم - فقال: "قلدت هديي فلا أحل حتى أنحر" (1) ، فلو كان النحر قبل يوم العيد جائزًا لنحر النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك اليوم لأجل أن يطمئن أصحابه في التحلل من العمرة، ولأجل أن يتحلل هو أيضًا معهم لأنه قال: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي، ولا أحللت
معكم" (2) ، وامتناع الرسول - صلى الله عليه وسلم - من ذبح هديه قبل يوم النحر مع دعاء الحاجة إليه يدل على أنه لا يجوز، والذين يفتون بهذا يقيسونه على الصوم فيمن لم يجد الهدي، فإنه يجوز له أن يقدم صومه قبل يوم النحر، ولكن هذا ليس تشبهاً به؛ لأن الصوم كما قال الله عز وجل:
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب بيان أن القارن لا يتحلل إلا في وقت تحلل الحاج المفرد، (1229) .
(2) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - (1218) .(25/90)
(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ) (1) ، والمتمتع إذا شرع في العمرة فكأنما شرع في الحج لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "دخلت العمرة في الحج" (2) ، ولهذا يجوز للمتمتع الذي لا يجد الهدي أن يصوم ثلاثة أيام من حين إحرامه بالعمرة وإلى آخر أيام التشريق، ما عدا يوم النحر،
وعلى هذا فنقول: إن القياس هنا قياس في مقابلة النص، وهو أيضًا قياس مع الفارق، فلا تتم فيه أركان القياس.
والصواب بلا ريب: أنه لا يجوز أن يذبح الإنسان هديه إلا في يوم العيد والأيام الثلاثة بعده.
وأما قول الأخ: إن الناس أحوج قبل يوم العيد فنقول له: من الممكن أن تذبح الهدي في مكة إما في يوم العيد، أو الحادي عشر، أو في الثاني عشر، أو في الثالث عشر، وفي مكة تجد من يأخذه وينتفع به.
س69: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: من سافر ولم يترك أضحية عند أهله فهل يجوز له تأجيلها لليوم الثالث عشر أو يذبح عنهم في محل إقامته؟
فأجاب بقوله: يجوز للإنسان أن يؤخر ذبح أضحيته إلى اليوم
__________
(1) سورة البقرة الآية: 196.
(2) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب جواز العمرة في أشهر الحج، (1241) .(25/91)
الثالث عشر من ذي الحجة؛ وذلك لأن أيام الذبح أربعة: يوم العيد بعد صلاة العيد، واليوم الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر، وهذا أفضل من كونك تذبح الأضحية في منى، أي كونك تؤخرها إلى اليوم الثالث عشر، وتذبحها عند أهلك في الرياض، خير من كونك تذبحها في منى؛ لأن ذبحك في منى ذبح في غير مكان الأضحية، فإن الأضاحي مشروعة في غير حق الحجاج؟ ولأنك إذا
ذبحتها في منى لم يستفد منها أهلك، ولم يأكلوا منها، فالأفضل لمن أراد أن يضحي عن أهله وعنه أن يضحي في مكان إقامتهم جميعًا؛ ليأكلوا منها جميعًا.
س70: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل يغرم الوكيل إذا ذبح الأضحية قبل صلاة العيد ناسيًا أو جاهلاً؟
فأجاب بقوله: إذا ذبحت الأضحية قبل صلاة العيد فهي شاة لحم ولا تجزئ الأضحية، ولم أجد كلامًا للأصحاب في هذا، ولكن القياس يقتضي أن اللحم للموكل، ويضمن الوكيل ما نقص الشاة
- أي ما بين قيمتها مذبوحة وحية- والموكل يذبح بدل الأضحية.
س71: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: إذا نسي الوكيل(25/92)
ضحية ولم يذكر إلا بعد أيام التشريق فما الحكم؟
فأجاب بقوله: لا شيء عليه، وإذا أراد الموكل الأضحية فيضحي في العام المقبل.
س72: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: متى يبتدئ زمن ذبح هدي التمتع ومتى ينتهي؟ وهل هناك خلاف في تحديد الزمن؟
فأجاب بقوله: يبتدئ زمن الذبح لهدي التمتع إذا مضى قدر صلاة العيد من يوم العيد بعد ارتفاع الشمس قدر رمح، وينتهي بغروب الشمس من اليوم الثالث عشر من ذي الحجة.
وأما هل هناك خلاف؟ فنعم فيه خلاف في ابتدائه وانتهائه ولكن الراجح عندي ما ذكرناه، والله أعلم.
س73: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: في يوم العيد تكثر اللحوم في منى فهل يجوز تأخير ذبح الهدي لليوم الثالث عشر؟
فأجاب بقوله: ليس في هذا شيء، إذا أخر النحر عن أول يوم إلى اليوم الثاني، أو الثالث؛ لأنه أنفع وأجدر، فلا حرج عليه، بل قد يكون ذلك أفضل من ذبحها في أول يوم، ثم رميها بدون أن ينتفع بها
أحد، كذلك أيضًا لو ذبحها أول يوم بمكة وفرقها هناك على الفقراء(25/93)
فإنه لا باس بذلك، وأنا أنصح إخواننا الحجاج بأن يحملوا اللحوم معهم من المجازر فإذا خرجوا بها إلى الأسواق وإلى الطرقات وجدوا من يأخذها، لكن أكثر الناس يذبحها ويدعها لأنه يقول في هذا
مشقة عليَّ في حملها، وهذا قصور منه، فالمشقة وإن حصلت فإنها امتثال لأمر الله: (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا) وأنت الآن إذا ذبحتها وتركتها ما أكلت وما أطعمت والله يقول: (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا)
فأنت مأمور بأن تأكل وأن تطعم، وإذا لم يحصل ذلك إلا بحملها كان حملها من باب ما لا يتم المأمور إلا به.
س74: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: متى ينتهي وقت الأضحية؟
فأجاب بقوله: ينتهي بغياب الشمس لليوم الرابع، فلو ذبحتها قبل غروب الشمس بدقيقة فهي أضحية، ولو سلختها فيما بعد فلا
س75: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما حكم ذبح الأضحية في مصلى العيد؟
فأجاب بقوله: ذبح الأضاحي في مصلى العيد من السنة، لفعل(25/94)
النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) ، لكن االناس الآن اعتادوا أن يذبحوا في بيوتهم؟ لئلا تتلوث البقاع حول مصليات العيد.
س76: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: بالنسبة للقارن هل يستطيع أن يشتري الهدي من مكة؟
فأجاب بقوله: يجوز للقارن أن يشتري الهدي من منى، أو من مكة، ويذبحه في مكة أو في منى، قال الإمام أحمد- رحمه الله-: مكة ومنى واحد، فلينظر الإنسان أيها أنفع أن يشتري الهدي في منى
ويذبحه ويأكل منه ويتصدق، أو أن الأفضل والأنفع أن يذبحه في مكة ويأكل منه ويتصدق، ليتبع في ذلك ما هو أنفع، فإن تساوى الأمران فذبحه في منى أفضل؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذبح في منى (2) .
س77: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: إذا اشترى إنسان ذبيحتين يقصد إحداهما للأضحية والأخرى لحما فهل يشترط أن يعين التي سيضحي بها بعينها ولا يجوز له تبديلها بالأخرى؟
فأجاب بقوله: لا ليس بشرط، والذي ينبغي للإنسان ألاَّ يعين
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الأضاحي، باب الأضحى والنحر بالمصلى (5552) .
(2) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - برقم (1218) .(25/95)
الأضحية إلا عند ذبحها لأجل أن يكون حرَّا في تبديلها وتغييرها، فإذا أراد أن يذبحها يقول: هذه أضحية فلان، أضحية عني وعن أهل بيتي، أو عن فلان الذي أوصى بها أو ما أشبه بذلك. ماذا
تعينت فإنه يتعلق بها حكم الأضحية ويجب عليه تنفيذها، وقد ذكر بعض أهل العلم أنه إذا أبدلها بخير منها فلا حرج.(25/96)
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد الصالح العثيمين إلى الأخ المكرم/.... حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
كتابكم الكريم المؤرخ ... وصل، سرنا صحتكم، الحمد لله على ذلك، تهنئتكم إيانا بالحج، نشكركم عليها، ونرجو الله تعالى أن يتقبل من الجميع، وأن يجزيكم عنا خيرَا، ويغفر لنا ولكم.
سؤالكم عن مسألة الدين على الوصف الذي ذكرتم: فنحن لا نرى جوازه، ونرى أن الثالث شريك لهما في الإثم؛ لأنه معين لهما، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال: "هم سواء" (1) ، أما لو كانت المسألة على وجه صحيح فإن الإنسان إذا باع
شيئَا على شخص وتسلم ثمنه فلا بأس أن يشتريه سواء من السوق أو ممن اشتراه مباشرة، فإن لم يتسلم ثمنه فإن اشتراه بمثل الثمن أو أكثر منه فلا بأس أيضَا، وإن اشتراه بأقل منه، مثل أن يبيعه بمئة لم يتسلمها ثم يشتريه من المشتري بأقل فالمشهور من المذاهب أن ذلك لا يجوز، لأنه يشبه مسألة العينة فجعلوه منها. فإن باعه المشتري على ثالث فلا بأس على البائع الأول أن يشتريه من المشتري الثاني بأقل أو
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب البيوع، باب لعن آكل الربا وموكله، (1598) .(25/97)
أكثر على كل حال، مثل أن يبيع زيد على عمرو شيئًا بمئة ثم يبيعه عمرو على بكر بثمنه أو أقل أو أكثر فلا حرج على زيد أن يشتريه من بكر بمثل ثمنه أو أقل أو أكثر.
وسؤالك عن شراء الرجل البعير أو البقرة للأضحية ويجمع شركاءه فيها، فهل يجوز أم لابد من أن يتفقوا قبل ذلك؟
فاعلم أن الرجل إذا اشترى بعيرًا أو بقرة لقصد الأضحية ولم يرد الأضحية إلا بسبعه فلا بأس أن يشرك فيه من جاء من بعده حتى يكمل السبعة، أما إن اشتراه ونيته أن يضحي بجميعه وعينه لذلك،
فإنه لا يجوز أن يشرك فيه بعد ذلك أحدًا؛ لأنه لما نوى جميعه وتعيَّن صار واجبًا ذبحه جميعًا كما عينه. والهدي في ذلك كالأضحية.
هذا ما لزم، شرفونا بما يلزم، بلغوا سلامنا الأولاد والمشائخ والإخوان، كما منا الجميع بخير، والله يحفظكم، والسلام عليكم
ورحمة الله وبركاته. حرر في 23/12/1387هـ.(25/98)
س78: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: من اشترى الأضحية لتربيتها في الرعي، ثم مرضت أو انكسرت رجلها فهل يضحي بما؟
فأجاب بقوله: يقول العلماء- رحمهم الله- من عيّن الأضحية وقال: هذه أضحيتي صارت أضحية، فإذا أصابها مرض أو كسر فإن كنت أنت السبب فإنها لا تجزئ، ويجب عليك أن تشتري بدلها مثلها
أو أحسن منها، وإن لم تكن السبب فإنها تجزئ.
ولهذا نقول: الأولى أن الإنسان يصبر في تعيينها فيشتريها مبكرًا من أجل أن يغذيها بغذاء طيب، ولكن لا يعينها، فإذا كان عند الذبح عينها وقال: اللهم هذا منك ولك، هذا عني وعن أهل بيتي. وهو إذا لم يعين يستفيد فائدة مهمة وهي: لو طرأ أن يدعها ويشتري غيرها فله ذلك؛ لأنه لم يعينها.
س79: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما حكم تعليم الأضحية بالحناء وبالقلائد؟
فأجاب بقوله: الأضاحي لا حاجة لأن تعلم بالحناء ولا بقلائد؛ لأن الإنسان سيضحي بها في بيته، ويأكل منها هو وأهله، ويطعم الفقراء ويتصدق عليهم، ويطعم الأغنياء، وإنما التقليد يكون للهدي(25/99)
الذي يبعث به إلى مكة، حتى يعرف الفقراء أنه هدي فيتبعوه ليأكلوا منه.
س80: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل يستحب للمتمتع بعد أن يحل ويشتري هديه أن يقلده ليعلم أنه هدي؟
فأجاب بقوله: من ساق الهدي هو الذي يستحب أن يشعره ويقلده، أما من اشتراه من السوق ليذبحه فهذا لا يسن فيه الإشعار ولا التقليد.
س81: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: شخص نذر أن يذبح كبشًا معينًا فمات الكبش المعين دون تفريط منه فهل يلزمه إبداله؟
فأجاب بقوله: إذا عين الإنسان الأضحية، ثم ماتت بغير تفريط منه ولا تعدي فلا شيء عليه، إلا إذا كانت منذورة، يعني قد نذر الأضحية فعليه أن يوفي بنذره، أما إذا كانت لم تجب إلا بالتعيين ثم
ماتت بلا تفريط منه فلا شيء عليه.(25/100)
رسالة
فضيلة الشيخ/محمد بن صالح العثيمين- حفظه الله-
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد
ما السنة في سوق الهدي، وهل له وقت محدد أو عدد معين؟ وما هو التقليد والإشعار؟ وهل يُشترى الهدي من مكة؟ نرجو من سماحتكم الحث على إحياء تلك السنة المهجورة؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الجواب: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. سوق الهدي سنة في كل وقت، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبعث بالهدي من المدينة إلى مكة (1) ، وليس له وقت محدد ولا عدد معين، وإنما يبعث به الإنسان إلى مكة ليذبح هناك ويوزع على الفقراء، وأهمية سوق الهدي أن يحصل إعلان
سوق الهدي؛ لأنه إذا مر في الطرقات وقيل ما هذا؟ قيل: هدي إلى الكعبة واشتهر. وينبني على هذا تعظيم الكعبة، وأنه يُهدى إليها.
وأما التقليد فقال العلماء: إنه يقلد في الرقبة آذان القرب البالية والنعال البالية إشعارًا بان هذه للفقراء، وإما الإشعار فهو شق السنام حتى يسيل الدم ويرطب الشعر ليتبين أن هذا هدي.
ولا يعتبر سائقًا للهدي من اشتراه من مكة، لأنه هو يساق إلى
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب فتل القلائد للبدن برقم (1697) .(25/101)
مكة فكيف يساق من مكة. ولكن إذا اشترى من مكة وذبحه وتصدق بلحمه فحسن.
وهذه السنة ما هجرت رغبة عنها، ولكن الوضع تغير الآن فالناس يمشون على السيارات، كيف يسوق الهدي ومعه السيارة، وإذا قدر أنه جعل الهدي في السيارة (في الحوض) لم يُعلم هل هذا
للبيع أو هدي، ثم إن السيارة أيضا تكون عجلة ما يتأنى الناس ويشاهدونها، فالمسلمون ما تركوا هذه رغبة عنها لكن لتعذر أو تعسر العمل بها.
حرر في 23/8/1420هـ.(25/102)
س82: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل يلزم القارن أن يحمل الهدي معه من المكان الذي يحرم منه؟
فأجاب بقوله: لا، ليس بشرط، الهدي تشتريه من مكة أو من منى وتذبحه وتأكل منه وتتصدق وتطعم. وليس بشرط أن القارن لا يقرن إلا إذا ساق الهدي هذا القول غير صحيح، للقارن أن يقرن
وإن لم يسق الهدي.(25/103)
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
فضيلة الشيخ/محمد بن صالح العثيمين- حفظه الله- السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أرجو من فضيلتكم الإجابة على الأسئلة التالية وجزاكم الله خيرًا.
السؤال الأول: ما حكم من عين الأضحية ثم ماتت قبل العيد بثلاثة أيام، ثم أخذ بدل، وفي يوم عرفة انكسرت الأضحية، ولم يجد بدل؛ لأنه في عيد، فما الحكم إذا ضحى بها، وهل تجزئ الأضحية؟
السؤال الثاني: هل الأضحية سنة مؤكدة ولا يأثم تاركها وهو يستطيع؟ أم هي واجبة على المستطيع؟ وجزاكم الله خيرًا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الجواب: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. بسم الله الرحمن الرحيم، يذبح البدل وإن انكسرت قبل الذبح إلا أن يكون الانكسار بتفريط من المضحي وذلك لأنها بدل عن معينة فتتعين بمجرد الشراء مع النية، والأضحية إذا تعيبت بعد التعيين بدون تفريط من المالك أجزأت عنه.
جواب السؤال الثاني: الأضحية سنة مؤكدة لا ينبغي للقادر أن يتركها، وقيل: واجبة.
كتبه محمد الصالح العثيمين في 27/6/1418هـ.(25/104)
س83: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: عن رجل معه الهدي في سيارته فذهب لرمي جرة العقبة فلما رجع وجد هديه مذبوحًا ومأخوذًا إلا الرأس فاشترى هدئا آخر وذبحه، فما الحكم؟
فأجاب بقوله: نعم يجزئه؛ لأنه عينه على أنه هدي فذبح بعد التعيين، وذبح الغاصب على القول الراجح تحل به الذبيحة، وعلى هذا فيكون شراؤه للهدي بعد ذلك على سبيل التطوع وجزاه الله
خيرَا، فلو لم يذبح هديَا بدله أجزأه، لأنه ذبح، أما لو أخذ ولا يعلم أذبح أم لا؟ فلابد أن يذبح بدله.
س84: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل يلزم في سوق الهدي أن يكون الإنسان قارنًا؟ وهل يجوز للذي ساق الهدي أن يتمتع؟
فأجاب بقوله: سوق الهدي، مسنون وليس بواجب، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله ولم يأمر به (1) ، والأصل فيما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - تعبدًا دون أمر فإنه مسنون، ولا يجوز للذي ساق الهدي أن يتمتع ولا يلزم أن يكون قارنَا بل يمكن أن يكون مفردًا.
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب وجوه الإحرام برقم (1211) .(25/105)
س85: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: إذا دفع الإنسان النقود للبنك الإسلامي لشراء الهدي وذبحه عنه فهل هذا من سوق الهدي، حيث إن الإنسان يدفع الدراهم وهو في بلده؟
فأجاب بقوله: ليس هذا من سوق الهدي؛ لأنهم وكلاء لك يشترون لك، ويذبحون عنك فقط.(25/106)
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
من محبكم/محمد الصالح العثيمين إلى الأخ المكرم/ ... حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
كتابكم الكريم وصل، سرنا صحتكم، الحمد لله على ذلك، ونرجو المعذرة عن عدم المبادرة إلى رده، والعذرْ كرام الناس مقبول، وأنتم منهم- إن شاء الله- ولله الحمد، وفقكم الله لمكارم الأخلاق وأحاسن الأعمال.
سؤالكم هل يجوز جعل الضحايا وليمة للعرس. تعيينها؟
الجواب: لا يجوز ذلك؛ لأنه لما عينها للأضحية لها، فلا يجوز صرفها في غيرها، بل ولا إبدالها بغيرها،! أن يبدلها بخير منها. وكذلك لو لم يعين الأضحية وأراد أن يجمع في شاة واحدة أضحية ووليمة فلا يجوز ذلك، وإن كان قياس كلام ابن القيم جواز ذلك، حيث أجاز- رحمه الله- الجمع بين نية الأضحية والعقيقة في شاة واحدة، وفي كلامه نظر، لاختلاف الحكم بين الأضحية
والعقيقة، واختلاف السبب أيضا، فالصحيح عدم الجواز في الجمع بين نية الأضحية والعقيقة، وكذلك بين نية الأضحية والوليمة.
وهذا الكلام كله فيما إذا كان الأضحية من عنده، أما إذا كانت(25/107)
وصية فمعلوم أنه لا يجوز من باب أولى.
هذا ما لزم وشرفونا بما يلزم، بلغوا سلامنا كل عزيز لديكم، والله يحفظكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حرر في 18/10/1390هـ.(25/108)
س86: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: حاج سُرق منه مال الهدي فهل يقترض لشراء غيره؟
فأجاب بقوله: له أن يقترض إذا كان يجد وفاءً في بلده عن قرب، أما إذا كان معسرًا ولا يرجو الوفاء عن قرب فلا يقترض، بل يصوم ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع.
س87: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: من اشترى هديه وضاع منه بمنى فما عليه؟
فأجاب بقوله: هذا الهدي الذي هرب لا يجزئه، بل يجب عليه أن يشتري بدله، فإن لم يجد، فإنه كما قال الله تعالى: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ) (1) ، وإذا اشترى بدله ثم وجده بعد ذلك فهو ملكه يتصرف فيه بما شاء؛ لأنه ذبح بدله فحل البدل محله، ولا يجب عليه في هذه الحال أن يذبح الأول؛ لأن ذمته برئت.
س88: سئل فضيلة الشيخ-رحمه الله-: هل يشرع للفقير أن يستدين لكي يضحي؟
__________
(1) سورة البقرة الآية: 196.(25/109)
فأجاب بقوله: الفقير الذي ليس بيده شيء عند حلول عيد الأضحى لكنه يأمل أن يحصل، كإنسان له راتب شهري، أو أنه في يوم العيد ليس في يده شيء لكنه يستطيع أن يستقرض من صاحبه
ويوفي إذا جاء الراتب فهذا يمكن أن نقول له: لك أن تستقرض إذن وتضحي ثم توفي، ْ أما إذا كان لا يأمل الوفاء عن قريب فإننا لا نستحب له أن يستقرض ليضحي؛ لأن هذا يستلزم إشغال ذمته بالدين ومنّ الناس عليه، ولا يدري هل يستطيع الوفاء أو لا يستطيع.
س89: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل يجوز شراء الأضحية بالدين؟ وهل يُعطى الجزار أجرة منها أو يُهدى له منها؟
فأجاب بقوله: إذا كان الرجل ليس عنده قيمة الأضحية في وقت العيد لكنه يأمل أن سيحصل على قيمتها عن قُرب، كرجل موظف ليس بيده شيء في وقت العيد، لكن يعلم إذا تسَلَّم راتبه سهل عليه تسليم القيمة فإنه في هذه الحال لا حرج عليه أن يستدين، وأما من لا يأمل الحصول على قيمتها من قرب فلا ينبغي أن يستدين للأضحية.
وأما إعطاء الجزار أجرته منها فلا يجوز. وأما إعطاؤه هدية منها فلا بأس به.(25/110)
س90: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: بالنسبة للمتمتع والقارن لهما هدي، فهل هذه تعتبر أضحية؟
فأجاب بقوله: هذا الهدي الذي يكون على المتمتع والقارن يكفي عن الأضحية؛ لأنه يذبح يوم العيد فيكفي، كرجل دخل المسجد وصلى الراتبة فهذه تكفي عن الراتبة وعن تحية المسجد.
س91: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل الأضحية مشروعة عن الأموات؟
فأجاب بقوله: الذي نرى أن الأضحية مشروعة في حق الأحياء فقط؛ لأن هذا هو الوارد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فهي عن الأحياء فقط، إلا إذا أوصى بها الميت فإنها تفعل عنه، وذلك لأن الميت إذا أوصى بها فقد أوصى بها من ماله، وماله له أن يصرفه كما يشاء في غير معصية الله،
فتنفذ كما أوصى، وأما الحي فإنه يضحي عن نفسه ولكن لا مانع من أن يضحي ويقول: هذا عني وعن أهل بيتي، وينوي بهم الأحياء والأموات، فإن ظاهر فعل النبي عغغ حيث كان يقول: "هذا عن
محمد وآل محمد وعن أمة محمد" (1) ، ظاهره أنه يشمل الحي والميت.
__________
(1) أخرجه أحمد (6/391) .(25/111)
أما أن يضحي عن الميت خاصة فهذا لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ضحى عن أحد من أمواته بخصوصه، فلم يضح عن أولاده الذين ماتوا في حياته، وهن ثلاث بنات متزوجات، وثلاثة أبناء صغار، ولا عن زوجته خديجة- رضي الله عنها- وهي من أحب نسائه إليه، ولا عن عمه حمزة- رضي الله عنه- وهو من أعز أقاربه عنده، ولو كان هذا من الأمور المشروعة لكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يشرعه لأمته إما بقوله وإما بفعله، وإما بإقراره، ولما لم يكن شيء من ذلك عُلم أنه ليس بمشروع، ومع هذا لا نقول: إنه محرم أو بدعة، أو أنه لا يجوز؛ لأنه أشبه ما يكون بالصدقة كما قاس بعض أهل العلم الأضحية عن الميت بالصدقة عنه، والصدقة عن الميت قد ثبتت بها السنة (1) .
ونرى أيضًا من الخطأ: ما يفعله بعض الناس من التضحية عن الميت أول سنة يموت ويسمونها (أضحية الحفرة) ويعتقدون أنه لا يجوز أن يشرك معه في ثوابها أحد، أو يضحون عن أمواتهم تبرعًا، أو بمقتضى وصاياهم ولا يضحون عن أنفسهم وأهليهم، ولو علموا أن الرجل إذا ضحى من ماله عن نفسه وأهله شمل أهله الأحياء والأموات- كما سبق- لما عدلوا عنه إلى عملهم هذا، والله أعلم.
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الوصية، باب وصول ثواب الصدقات إلى الميت برقم (12) .(25/112)
س92: سئل فضيلة الشيخ-رحمه الله-: هل تشرع الأضحية للحاج أم يكفي الهدي؟
فأجاب بقوله: الإنسان الذي سيحج هو وأهله فإنه لا حاجة إلى الأضحية في حقهم؛ لأنهم سوف يهدون، والهدي في مكة أفضل من الأضحية، وأما من كان يريد أن يحج ببعض عائلته ويبقي البعض في البلد فهذا يشرع له أن يضحي لأهله الباقين أضحية عندهم، وحينئذ يثبت في حقه حكم المنع في الأخذ من الشعر والأظفار والبشرة إلا أنه إذا تمتع لابد أن يقصر من شعر رأسه ويسمح له في ذلك؛ لأن التقصير حينئذ نسك مأمور به من واجبات العمرة.
س93: سئل فضيلة الشيخ-رحمه الله-: هل يلزم الحاج المفرد أضحية في بلده؟
فأجاب بقوله: الأضحية في بلد الحاج سواء حاج متمتع، أو قارن، أو مفرد إذا كان له أولاد هناك وأراد أن يضحي لهم فهذا طيب سواء كان مفردًا أو متمتعًا أو قارنًا، أما إذا كان أهله معه وليس له في البلاد أهل فإنه يذبح الهدي للتمتع والقران ويكفيه، والمفرد إذا أحب أن يهدي هدي تطوع فعلى خير ويكون أضحية.(25/113)
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
فضيلة الشيخ/محمد بن صالح العثيمين- حفظه الله-
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد،
فقد بحثت مسالة الأضحية عن الأموات وقد اتضح لي من هذا البحث أن الأضحية المستقلة للميت لا تخرج عن حالين وكلاهما خطأ- فيما يظهر لي والله أعلم بالصواب-
لأن الشيء صان كان صحيحًا فإن وضعه في غير موضعه يجعله غير صحيح، فهي إما أن يقال: إنها أضحية أو صدقة.
فإن قيل: إنها أضحية فالأضحية المستقلة للميت ليس على مشروعيتها دليل صحيح صريح من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وليست من عمل السلف الصالح-رحمهم الله- وقياسها على الصدقة غير صحيح؛ لأن القياس في العبادة لا يجوز.
وإن قيل: إنها صدقة؟ فالصدقة لا يشترط فيها ما يشترط في الأضحية، فسواء ذبحت يوم العيد، أو قبله، وسواء كانت صغيرة أو معيبة لا يؤثر ذلك عليها شيئًا ما دام أنها صدقة، وتختلف الأضحية
عن الصدقة في أشياء كثيرة ذكرناها في ص 12، 13 من هذا البحث.
أيضًا فقد قالت اللجنة الدائمة للإفتاء: (إن تخصيص الصدقة(25/114)
للميت بزمن معين بدعة) ، [فتوى رقم 3668 في 6/7/1401هـ] ،
فإن قيل: نريد فضل عشر ذي الحجة. قلنا: الفضل يشمل العشر كلها وأنتم خصصتم منها يومًا واحدًا فقط، وهذا التخصيص مثل تخصيص بعض الناس العمرة في رمضان بليلة سبع وعشرين منه،
وهذا التخصيص بدعة، فإن قيل: نريد العمل بحديث: "ما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله من إهراقة دم" (1) ، قلنا: هذا حث للأحياء على الأضاحي المشروعة وأنها الأفضل لهم في ذلك اليوم من التصدق بثمنها، وليس فيه ما يدل على تخصيص الميت بأضحية، لأن القائل لهذا الكلام - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام الذين رووا هذا الحديث ونقلوه إلينا كان لهم أموات، وكانت الأموال متوفرة لديهم ومع علمهم بهذا الحديث وتوفر أسبابها لديهم لم يفعلوها وهم أحرص
الأمة على الخير واتباع السنة، أفيدونا بارك الله فيكم هل هذا صحيح أم خطأ؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الجواب: الأضحية عن الميت إن كانت بوصية منه مما أوصى به وجب تنفيذها؛ لأنها من عمله وليست جنفًا ولا إثمًا. وإن كانت بتبرع من الحي فليست من العمل المأثور عن السلف الصالح؛ لأن
__________
(1) أخرجه ابن ماجه، أبواب الأضاحي؟ باب ثواب الأضحية، (3126) .(25/115)
ذلك لم ينقل عنهم، وعدم النقل عنهم مع توافر الدواعي، وعدم المانع، دليل على أن ذلك ليس معروفًا بينهم، وقد أرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - حين ذكر انقطاع عمل ابن آدم بموته إلى الدعاء له (1) ، ولم يرشد إلى العمل له، مع أن سياق الحديث في ذكر الأعمال الجارية له بعد موته.
وقد قرأت ما كتبته أنت أعلاه فأعجبني ورأيته صحيحَا. وفق الله الجميع للعمل بما يرضيه.
لكن لا ننكر على من ضحى عن الميت، وإنما ننبه على ما كان يفعله غير من الناس سابقًا، فإن الواحد يضحي تبرعًا عن الأموات ولا يضحي عن نفسه وأهله، بل كان بعضهم لا يعرف أن الأضحية سنة إلا عن الأموات إما تبرعَا أو بوصية.
وهذا من الخطأ الذي يجب على أهل العلم بيانه.
كتبه محمد الصالح العثيمين حرر في 8/16/1419 هـ.
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، (1631) .(25/116)
رسالة
فضيلة الشيخ/محمد بن صالح العثيمين- حفظه الله تعالى-
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد:
هل أجر الأضحية يصل إلى الميت إذا لم تكن من ماله الخاص، مثلاً من مال ابنه، وجزاكم الله خيرًا؟
الجواب: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
الصحيح: أنه يصله أجرها، لكن مع ذلك ليس من السنة أن تضحي عن الميت وحده إلا بما أوصى به، أما إذا كنت تريد أن تضحي من مالك فضح عنك وعن أهل بيتك، وإذا نويت أن
الأموات يدخلون فلا حرج.(25/117)
س94: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: والدي متوفى ولم يوص بشيء، وله أولاد قصر، هل أضحي للأولاد القصر أم أضحي للوالد على حده؟
فأجاب بقوله: أولاً: يجب أن تعلم أن الأضحية ليست واجبة للأموات، وأصل الأضحية للأحياء، هذا هو الأصل، فإذا كان الميت لم يوص بها، فالأفضل ألاَّ يضحي عنه إلا تبعَا للأحياء، فيضحي
الإنسان بالشاة عنه وعن أهل بيته، وينوي بذلك الحي والميت، والدليل على أنه ليس من السنة أن يضحي عن الأموات إلا بوصية، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توفي له بنات وتوفي له عمه حمزة بن عبد المطلب، وتوفي له زوجات، توفيت له زوجته خديجة- رضي الله عنها- وزينب بنت
خزيمة- رضي الله عنها- ومع ذلك لم يضحِّ عن أحد منهم صلوات الله وسلامه عليه، ولو كان خيرَا لفعله النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما كان يضحي عنه وعن أهل بيته (1) ، يعني الأحياء، ولكن نقول: إذا ضحى الإنسان عن نفسه وأهل بيته، ونوى بذلك الأحياء والأموات، فليس في ذلك بأس
إن شاء الله، أما الوصايا فيجب أن تنفذ على ما هي عليه.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (6/391) .(25/118)
س95: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: عن أم تقوم بذبح ضحايا متعددة لأبيها وأمها وغيرهما، مما يكلفها مبالغ كبيرة، فهل يصح فعلها؟
فأجاب بقوله: أخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وليست هذه المرأة أكرم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا أعلم منه بما يرضي الله، ولا أحرص منه على مرضاة الله فلتقتدِ برسولها محمد - صلى الله عليه وسلم -، أما والداها وجدها وجدتها، وعمها وعمتها، وخالها، وخالتها، وأقاربها، وأصدقاؤها فلتدع الله لهم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" (1) ، فلم يقل: (يضحي له) مع أن الحديث في سياق الأعمال: "انقطع عمله إلا من ثلاث"، والأضحية عمل فلم يقل: (إلا ولد صالح يضحي له) ، وهذه المرأة تريد الخير لكن ليس كل مجتهد نصيب.
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثوابت بعد وفاته، (1631) .(25/119)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى:
لقد سألني المكرم/.... عن رجل عنده دراهم يريد أن يتصدق بها عن ميت من أقاربه، أو يضحي بها عن هذا الميت، فأيهما أفضل الصدقة بها عنه أو الأضحية؟
فأجبته بما يلي:
الصدقة بالدراهم عن الميت، أو وضعها في بناء مسجد، أو أعمال خيرية أفضل من الأضحية؟ وذلك لأن الأضحية عن الميت استقلالاً غير مشروعة؛ لأن ذلك لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا من قوله ولا من فعله ولا من إقراره، وقد مات للنبي - صلى الله عليه وسلم - أولاد سوى فاطمة، وماتت زوجتاه خديجة وزينب بنت خزيمة، ومات عمه حمزة- رضي الله عنهم- ولم يضح عن واحد منهم، ولم يعلم أن أحدًا من الصحابة ضحى في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أحد من الأموات قريب ولا بعيد، ولهذا ذهب كثير من أهل العلم إلى أن الميت لا ينتفع بالأضحية عنه، ولا يأتيه أجرها إلا أن يكون قد أوصى بها، ولكن الصحيح أنه ينتفع بها ويأتيه الأجر- إن شاء الله- إلا أن الصدقة عنه بالدراهم والطعام أفضل؟ وذلك لأن الصدقة عن الميت قد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقوعها في عهده، وإقراره عليها، بخلاف الأضحية، ففي الصحيحين من(25/120)
حديث عائشة- رضي الله عنها- أن رجلأ أتى النبي فقال: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن أمي افتلتت نفسها، وأظنها لو تكلمت تصدقت فهل لها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: "نعم" (1) .
والذين أجازوا الأضحية عن الميت استقلالاً إنما قاسوها على الصدقة عنه، ومن المعلوم أن ثبوت الحكم في المقيس عليه أقوى من ثبوته في المقيس، فتكون الصدقة عن الميت أولى من الأضحية عنه.
قال ذلك كاتبه محمد الصالح العثيمين في 7/1/1403هـ.
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الوصايا، باب ما يستحب لمن توفي فجأة، (2675) ، ومسلم كتاب الوصية، باب وصول ثواب الصدقات إلى الميت، (1004) .(25/121)
س96: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما حكم الأضحية عن الميت؟ وهل نعيب على من يفعل ذلك؟
فأجاب بقوله: الأضحية عن الميت إذا كان قد أوصى بها فإنه يضحي بها عنه، وإذا كان لم يوص بها فالدعاء له أفضل من أن يضحي بها. فالمشروع أن الأضحية عن الأحياء، فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته (1) ، وأنت إذا ضحيت بالشاة عنك وعن أهل بيتك، ونويت كل من كان من أهل بيتك وأقاربك الذين ماتوا، فلا بأس لأنهم يدخلون في العموم، وأما تخصيص الميت بأضحية تبرع من عندك، فإن هذا ليس من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ لم يضح النبي - صلى الله عليه وسلم - عن زوجته خديجة- رضي الله عنها- مع أنها من
أحب النساء إليه، ولم يضح عن عمه حمزة -رضي الله عنه- مع أنه من أحب الناس إليه. ولم يضح عمن مات - صلى الله عليه وسلم - أقاربه، وعمن مات من بناته، فدل ذلك على أن هذا ليس بمشروع، ولكن لو أن إنسانًا فعل فإننا لا نعيبه، بل نرشده إلى ما هو أفضل، وهو الدعاء للميت.
س97: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: يقوم البعض بذبح الذبائح عند دخول شهر ذي الحجة، ويقولون: اللهم اجعلها
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (6/391) .(25/122)
لأرواح موتانا فهل يصح فعلهم؟
فأجاب بقوله: هذا ليس بصحيح، بل. هو بدعة ولا يتقرب بالذبح لله إلا فيما وردت به السنة وهي ثلاثة أمور:
الأول: الأضاحي.
الثاني: الهدايا للبيت الحرام.
والثالث: العقيقة.
هذه هي الذبائح المشروعة، وأما ما عداها فليس بمشروع، ثم إن زعمهم أن هذا حج الأموات ليس بصحيح، فالأموات انقطعت أعمالهم، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" (1) ، وهذا ليس من الصدقة الجارية؛ لأن معنى الصدقة الجارية أن الإنسان يوقف شيئًا ينتفع الناس به بعد موته، والعلم الذي ينتفع به من بعده إذا علم أحدًا علمًا نافعًا فعملوا به بعد موته، أو علموه، انتفع به، والولد الصالح الذي يدعو له الذكر أو الأنثى من أولاده إذا دعا له انتفع به.
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته (1631) .(25/123)
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد الصالح العثيمين إلى الأخ المكرم.... حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
كتابكم الكريم المؤرخ 17 من الشهر الحالي وصل سرنا صحتكم الحمد لله غلى دْلك.
سؤالكم عما يقوم به بعض الناس من الصدقات عن أمواتهم صدقات مقطوعة أو دائمة هل لها أصل في الشرع إلى آخر ما ذكرتم؟
نفيدكم بان الصدقة عن الميت سواء كانت مقطوعة أم مستمرة لها أصل في الشرع فمن ذلك ما رواه البخاري عن عائشة- رضي الله عنها- أن رجلاً قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - إن أمي افتلتت نفسها، وأظنها لو تكلمت تصدقت فهل لها أجر إن تصدقت عنها قال (نعم) (1) .
وأما السعي في أعمال مشروعة من أجل تخليد ذكرى من جعلت له فاعلم أن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً له موافقاً لشرعه، وأن كل عمل لا يقصد به وجه الله فلا خير فيه، قال
الله تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الوصايا، باب ما يستحب لمن توفى فجأة (2670) .(25/124)
بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) (1) .
وأما السعي في أعمال مشروعة نافعة لعباد الله تقرباً إلى الله تعالى ورجاءً لوصول الثواب إلى من جعلت له فهو عمل طيب نافع للحي والميت إذا خلا من شوائب الغلو والإطراء.
وأما الحديث الذي أشرتم إليه في كتابكم وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له" فهو حديث صحيح رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (2) . والمراد بالصدقة الجارية كل ما ينفع المحتاجين بعد موته نفعاً مستمراً فيدخل فيه الصدقات التي توزع على الفقراء، والمياه التي يشرب منها، وكتب العلم النافع التي تطبع أو تشترى وتوزع على المحتاجين إليها وغير ذلك مما يقرب إلى الله تعالى وينفع العباد.
وهذا الحديث يراد به ما يتصدق به الميت في حياته أو يوصي به بعد موته، لكن لا يمنع أن يكون من غيره أيضاً كما في حديث عائشة- رضي الله عنها- السابق.
وأما الأعمال التطوعية التي ينتفع بها الميت سوى الصدقة فهي
__________
(1) سورة الكهف، الآية: 110.
(2) أخرجه مسلم، كتاب. الوصية، باب وصول ثواب الصدقات إلى الميت (1004) .(25/125)
كثيرة تشمل كل عمل صالح يتطوع به الولد ويجعل ثوابه لوالده أباً كان أم أماً، لكن ليس من هدي السلف فعل ذلك كثيراً، وإنما كانوا يدعون لموتاهم ويستغفرون لهم فلا ينبغي للمؤمن أن يخرج عن
طريقتهم. وفق الله الجميع لما فيه الخير والهدى والصلاح. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حرر في 25/7/1400هـ.(25/126)
س98: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما حكم الأضحية لمن كان عليه دين وهل لابد من استئذان صاحب الدين؟
فأجاب بقوله: أنا لا أرى أن يضحي الإنسان وعليه دين، إلا إذا كان الدين مؤجلاً، وهو يعلم من نفسه أنه إذا حل الدين يتمكن من وفائه فلا بأس أن يضحي، وإلا فليدخر الدراهم التي عنده للدين، والدين مهم فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قدم إليه رجل عليه دين ليصلي عليه ترك الصلاة عليه، حتى إنه في يوم من الأيام قدم إليه رجل من الأنصار ليصلي عليه فخطا خطوات ثم قال: "هل عليه دين؟ " قالوا: نعم، قال: "صلوا على صاحبكم" (1) ، ولم يصل عليه حتى قام أبو قتادة رضي الله عنه وقال: - صلى الله عليه وسلم - علي، فقال عليه الصلاة والسلام: "حق الغريم وبرئ منه الميت " قال: نعم يا رسول الله، فتقدم وصلى، ولما سئل عليه الصلاة والسلام
عن الشهادة في سبيل الله، وأنها تكفر كل شيء قال: "إلا الدين" (2) ، أي: أن الشهادة لا تكفر الدين، فالدين ليس بالأمر الهين، قد تصاب البلاد بمصيبة اقتصادية في المستقبل؛ لأن هؤلاء الذين
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الكفالة، باب من تكفل عن ميت دنيًا فليس له أن يرجع، (2295)
(2) أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب من قتل في سبيل الله، كفرت خطاياه إلا الدين، (1885) .(25/127)
يستدينون ويستهينون بالدين سيفلسون فيما بعد، ثم يفلس من ورائهم الذين أدانوهم، فالمسألة خطيرة للغاية، وما دام الله عز وجل يسر للعباد العبادات المالية ألاَّ يقوم بها الإنسان إلا إذا كان عن سعة فليحمد الله وليشكره.
س99: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: شخص توفيت والدته وهو في سن أقل من السابعة وبلغ رشده الآن، يسأل هل يجوز أن يضحي عنها علمًا بأن والدته لم توصه بذلك؟ وإذا أوصته فما
الحكم؟
فأجاب بقوله: أما إن أوصته فلابد من تنفيذ الوصية إذا خلَّفت مالاً يضحي به، وأما إذا لم يكن وصية فإن دعاءه لها أفضل من أضحيته عنها؛ لأنني لم أعلم إلى ساعتي هذه أن السلف الصالح
كانوا يضحون عن أمواتهم استقلالاً، ولذلك اختلف العلماء رحمهم الله هل تجوز التضحية عن الميت؟
فمنهم من قال: لا تجوز، ومنهم من قال: تجوز، وقاسها على الصدقة، لأن الصدقة قد ثبتت السنة في جوازها عن الميت، فالذي أنصح به هذا الرجل أن يكثر من الدعاء لوالدته، ووالده وكفى به
فضلاً؛ لأن ذلك هو الذي أرشد إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قال: "إذا مات(25/128)
الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" (1) ، حر رفي 23/1/1419هـ.
س100: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: عن رجل يضحي في كل سنة عن والديه فما قولكم؟
فأجاب بقوله: أوجه نصيحة لهما ولغير هما: فأقول: إن أكرم الخلق محمد - صلى الله عليه وسلم - لم يضح بأكثر من واحدة عنه وعن أهل بيته، ضحى بواحدة عنه وعن أهل بيته، وضحى بأخرى عن أمته (2) ، وهو أكرم الخلق - صلى الله عليه وسلم -؟ ولأن الإنسان إذا ضحى بأضحيتين في بيت واحد أدى ذلك إلى المباهاة والمفاخرة، وصارت البيوت كل واحد يقول: أنا ضحيما بثلاث، واَخر يقول: أنا ضحيت بأربع، والثالث يقول: أنا ضحيت بعشر وهكذا فتنقلب العبادة إلى هزل، والخضوع لله ينقلب إلى مفاخرة ومباهاة، فالذي ننصح به إخواننا أن نقول: يقتصر أهل
البيت على واحدة وإذا قبلها الله فما أعظمها، كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من تصدق بعدل تمرة من كسب طيبٍ ولا يقبل الله إلا الطيب، وأنّ الله يتقبلها بيمينه، ثم
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته (1631) .
(2) أخرجه أحمد (6/391) .(25/129)
يُربيها لصاحبه كلما يُربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل" (1) .
س101: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل تجزئ الأضحية عن الحي والميت إذا اشتركوا فيها؟
فأجاب بقوله: إذا كان المضحي واحدًا بمعنى أن رجلاً اشترى أضحية وجعلها لنفسه وأبيه الميت، أو أمه الميتة، أو أقاربه الميتين فلا حرج، وأما إذا اشترك إنسان حي مع وصية لميت مثل أن يشتري
أضحية بأربع مئة ريال، منها مئتان من الوصية، ومئتان من عنده، فإن هذا لا يجوز، لأن الاشتراك في الأضحية الواحدة ممنوع إلا في الإبل والبقر، فإنه يشترك سبعة في الإبل سبعة أنفار، وفي البقرة سبعة أنفار، وأما الغنم من ضأنها ومعزها فإنه لا يشترك فيها اثنان، أما التشريك في الثواب فلا بأس، لو جعل الإنسان هذا الأجر لعدة أناس فلا حرج، ولكن التشريك في الملك والاشتراك على الشيوع
هذا لا يجوز.
س102: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: يقول البعض بأن
__________
(1) أخرجه البخاري/ كتاب الزكاة/ باب الصدقة من كسب طيب برقم 1415.(25/130)
للميت سبع أضاحي فهل يصح؟
فأجاب بقوله: ليس بصحيح أنه يضحي عن الميت بسبع أضاحي، والأضحية عن الميت قد اختلف العلماء فيها إذا لم تكن وصية منه.
فمنهم من قال: إنها مشروعة.
ومنهم من قال: إنها ليست مشروعة.
ولا أعلم دليلاً من السنة يدل على الأضحية على الميت بخصوصه إذا لم تكن وصية، وإنما قاسها بعض العلماء على الصدقة عن الميت والصدقة عن الميت قد جاءت بها السنة (1) ، وأما كونه لا
يضحي عنه إلا بسبع فهذا لا أصل له بل إذا أراد أحد أن يضحي عنه ضحى عنه بواحدة، وكذلك عند بعض الناس يقول: إن الأضحية عن الميت أول سنة يموت واجبة وتسمى عند بعضهم (أضحية
الحفرة) وهذا أيضًا لا أصل له، والذي أراه في الأضحية عن الميت ألا يضحي عنه بخصوصه إلا بوصية منه، وأن الإنسان يضحي بأضحية واحدة عنه وعن أهل بيته، وينوي بذلك الحي والميت من
آل بيته وفي ذلك كفاية إن شاء الله.
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الوصية، باب وصول ثواب الصدقات إلى الميت برقم (12) .(25/131)
س103: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: جاعة يضحون جميعاً ثم جملون كامل أضاحيهم فهل يصح فعلهم؟
فأجاب بقوله: الصدقة بالثلث من الأضحية ليست بالواجب، لك أن تأكل كل الأضحية إلا شيئًا قليلاً تتصدق به والباقي لك أن تأكله، لكن الأفضل أن تتصدق وتهدي وتأكل، ثم إن الإهداء
والصدقة إنما يكون في اللحم النيء دون المطبوخ، وهذا سهل والحمد لله إذا كان يوم العيد وضحيت فأرسل إلى الفقراء ما تيسر، وأهدي إلى جيرانك وأصدقائك ما تيسر، وكل الباقي سواء أكلته في يوم العيد، أو أيام التشريق، أو ادخرته إلى أكثر من ذلك.
س104: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: من يقوم بطبخ كامل الأضاحي وجملها مع أقاربه بدون التصدق منها هل عملهم صحيح؟
فأجاب بقوله: هذا خطأ، لأن الله تعالى قال: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ الله فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) (1) ، وعلى هذا يلزمهم الآن أن
__________
(1) سورة الحج، الآية: 28.(25/132)
يضمنوا ما أكلوه عن كل شاة شيئًا من اللحم يشترونه ويتصدقون به. حرر في 23/1/1419هـ.
س105: سئل فضيلة الشيخ-رحمه الله-: هل يجوز للمضحي أن يعطي الكافر من لحم أضحيته؟ وهل للمضحي أن يفطر من أضحيته؟
فأجاب بقوله: يجوز للإنسان أن يُعطي الكافر من لحم أضحيته صدقة بشرط: ألا يكون هذا الكافر ممن يقتلون المسلمين، فإن كان ممن يقتلونهم فلا يعطي شيئًا؟ لقوله تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (1) .
أما إفطار الإنسان من أضحيته فنعم إذا صلى الإنسان العيد وذبح أضحيته وأكل منها قبل أن يأكل من غيرها فلا بأس، بل إن العلماء يقولون: هذا أفضل.
__________
(1) سورة الممتحنة، آيتان: 8، 9.(25/133)
س106: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: بعض الحجاج يذبح هديه، ثم يتركه ولا يوزعه، فما حكم فعله؟
فأجاب بقوله: الواجب على من ذبح الهدي أن يبلغه إلى أهله لقول الله تعالى: (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) (1) ، (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) (2) ، وكونه يذبحها ثم يلقيها تحرق، لا تبرأ به الذمة، فيجب عليه أن يضمن أقل ما يقع عليه اسم اللحم أي: كيلو أو ما شابهه، يتصدق به في مكة.
س107: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ورد في مسند الإمام أحمد رحمه الله عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يدخر أحدكم من أضحيته فوق ثلاثة أيام" (3) ، ما معنى هذا الحديث؟ وهل الآكل بعد ثلاثة أيام محرم أم لا؟
فأجاب بقوله: هذا الحديث له سبب وهو أن الناس أصابهم مجاعة فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدخروا لحوم الأضاحي فوق ثلاث، وفي
__________
(1) سورة الحج، الآية: 28.
(2) سورة الحج، الآية: 36.
(3) أخرجه مسلم، كتاب الأضاحي، باب بيان ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث في أول الإسلام، (1970) ، بلفظ "الا يأكل أحد من لحم أضحيته فوق ثلاثة"(25/134)
العام التالي زالت المجاعة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كنت نهيتكم عن الادخار فوق ثلاثة من أجل الدّافّة- يعني التي دفت بسبب الجوع- فادخروا ما شئتم وكلوا ما شئتم" (1) .
س108: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما الحكم فيمن ذبح الهدي ثم تركه، هل يجزئه ذلك أو لا؟
فأجاب بقوله: على من ذبح الهدي أن يوصله إلى مستحقيه، ولا يجوز أن يذبحه ويدعه، ولكن لو أخذ شيئًا قليلاً منه فأكل منه وتصدق أجزأه ذلك.
س109: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما حكم من ذبح هديه ثم ذهب، وتركه في المجزرة؟
فأجاب بقوله: إذا كان حينما ذبحه وعنده من يأخذه فإن هذا لا بأس به، وإذا لم يكن عنده من يأخذه فإما أن يكره له ذلك، وإما أن يحرم عليه لأمرين الأول: لما فيه من مخالفة أمر الله تبارك وتعالى حيث قال: (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) وهذا أي الآكل وإطعام
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الأضاحي، باب بيان ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث في أول الإسلام وبيان نسخه وإباحته إلى ما شاء، (1971) .(25/135)
البائس الفقير لا يتم إلا إذا حملها الإنسان، أو إذا شاهد من يأخذها. والثاني: لما فيه من إضاعة المال. وهذا الذي يفعله كثير من الناس هو الذي أوجب الإشكال والخوض والكلام الكثير في لحوم الهدي
الذي يكون في منى، ولو أن الناس سلكوا ما وجههم الله إليه من الآكل والإطعام ما حصل هذا الأمر وأشكل على الناس، فعلى كل حال تركها هكذا بدون أن ينتفع بها أحد إما مكروه أو محرم.
والأقرب عندي أنه: محرم؛ لأنه في الحقيقة مخالفة لأمر الله تبارك وتعالى بالأكل منها، والإهداء، وإطعام البائس الفقير وإضاعة المال.
ولو قال قائل: إذا لم يجد أحدًا أو لم يستطع أن يحملها فكيف يعمل؟ فالجواب: إذا لم يستطع فمن المعلوم أن الواجبات تسقط بعدم القدرة، ولكن يجب أن يحاول، فإذا لم يستطع مثل ألا يكون به قدرة على مزاحمة الناس وحملها، فإنه يحمل ما يستطيع منها ويدع ما لا يستطيع، لقوله سبحانه وتعالى: (لَا يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) (1) .
س110: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: يكون عمل بعض الناس في توزيع الأضاحي حسب المجاملات والمحاباة وإعطاء
__________
(1) سورة البقرة الآية: 286.(25/136)
من يعطيني، فما نصيحتكم؟ وهل يجمع لحم الأضاحي ثم يوزع على الفقراء ولو تأخر عن يوم العيد؟
فأجاب بقوله:
أما الشق الأول من السؤال وهي: أن لحوم الأضاحي صارت يحابى فيها ويجامل، وأعطني وأعطيك فلا شك أن هذا خلاف المشروع، هذا اللحم لحم تعبد بذبح البهيمة لله عز وجل، فينبغي أن
يكون على مراد الله يأكل الإنسان ما شاء، ويهدي ما شاء، ويتصدق بما شاء، واختار بعض العلماء أن يكون أثلاثا: يأكل ثلثًا، ويهدي ثلثا، ويتصدق بثلث (1) ، حتى ينفع نفسه بما يأكل، وينفع الفقراء بما يتصدق عليهم، ويجلب المودة بينه وبين الناس فيما أهداه إليهم هذا هو الأفضل، ومع ذلك ليس بلازم أن يكون التوزيع هكذا ثلثًا وثلثًا، وثلثًا، بل لو أكل النصف، وأهدى الباقي، أو أهدى وتصدق بالباقي فلا بأس، أو أكل النصف وتصدق بالباقي فلا بأس، إنما اختار أكثر العلماء أن يجعلها أثلاثًا.
أمما الشق الثماني وهو: أن تجمع لحوم الصدقة من الأضاحي ثم تعطي الفقراء على حسب حاجتهم فهذا لا بأس به، المهم أن تذبح في وقت الذبح أما أكل اللحم وتوزيعه فلا حد له.
__________
(1) انظر المغني لابن قدامة رحمه الله (13/379) .(25/137)
س111: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: من فرّق كامل الهدي على الفقراء ولم يهل منه، هل عليه شيء؟
فأجاب بقوله: ذكر بعض أهل العلم أن منْ ذبح الهدي وفرّقه كله أنه آثم، والجمهور من العلماء قالوا: لا يأثم بتوزيعه كامل الهدي.
وذلك أن العلماء اختلفوا في قوله تعالى: (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) فمنهم من قال: إن الأمر هنا للوجوب، فيكون الآكل واجبًا.
ومنهم من قال: إن الأمر للاستحباب، فيكون الآكل غير واجب وعلى هذا القول نقول للسائل: لا شيء عليك، وأخلف الله عليك ما أنفقت، ولكن انتبه للمستقبل فكل من الهدي، وتصدق منه على
الفقراء، وأهدي منه للأغنياء.
س112: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: عن قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا دخلت العشر، وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره أظفاره - صلى الله عليه وسلم - هل هو صحيح؟ وهل النهي للتحريم؟ والحكمة منه؟ وهل يعم التحريم جميع أهل البيت؟ وهل يستوي في ذلك المقيم والحاج؟(25/138)
فأجاب بقوله: هذا الحديث صحيح رواه مسلم من حديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم -قال: "إذا دخلت العشر، وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره" (1) ، وفي لفظ: "لا يأخذن من شعره وأظفاره شيئًا حتى يضحي" (2) ، وفي لفظ: "فلا
يمس من شعره ولا بشره شيئا" (3) ، والبشر الجلد يعني: أنه لا ينتف شيئًا من جلده، كما يفعله بعض الناس ينتف من عرقوبه ونحوه، فهذه الثلاثة هي محل النهي: الشعر، والظفر، والبشرة، والأصل في نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - ِ التحريم، حتى يرد دليل يصرفه إلى الكراهة أو غيرها، وعلى هذا فيحرم على من أراد أن يضحي أن يأخذ في العشر من شعره، أو ظفره، أو بشرته شيئَا، حتى يضحي، وهذا من نعمة الله سبحانه وتعالى على عباده؛ لأنه لما فات أهل المدن والقرى والأمصار الحج، والتعبد لله سبحانه وتعالى بترك الترفه، شرع لمن في الأمصار هذا الأمر، شرعه لهم ليشاركوا الحجاج في بعض ما يتعبدون لله تعالى بتركه.
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الأضاحي، باب نهي من دخل عليه عشر ذي الحجة وهو يريد التضحية أن يأخذ من شعره وأظفاره شيئَا. (41) ، (1977) .
(2) انظر الموضع السابق: (42) ، (1977) .
(3) انظر الموضع السابق: (39) ، (1977) .(25/139)
ويقال كذلك: أن المضحي لما شارك الحاج في بعض أعمال النسك وهو التقرب إلى الله بذبح القربان، شاركه في بعض خصائص الإحرام من الإمساك عن الشعر والظفر، وهذا الحكم خاص بمن
يضحي، أما من يضحي عنه فلا يتعلق به هذا الحكم، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "وأراد أحدكم أن يضحي" ولم يقل: "أو يضحي عنه"، فيقتصر على ما جاء به النص، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يضحي عن أهل بيته ولم ينقل عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه أمرهم بالإمساك عن ذلك، فدل هذا على أن هذا الحكم خاص بمن يريد أن يضحي فقط. ثم أن المراد بقوله: "أن أراد أن يضحي" عن نفسه، لا من أراد أن يضحي بوصية، فإن هذا ليس
مضحيًا في الحقيقة، ولكنه نائب عن غيره، فلا يتعلق به حكم الأضحية، ولهذا لا يثاب على هذه الأضحية ثواب المضحي، وإنما يثاب عليها ثواب المحسن الذي أحسن إلى أمواته، وقام بتنفيذ
وصاياهم.
ثم إنه نسمع من كثير من العامة: أن من أراد أن يضحي، وأحب أن يأخذ من شعره، أو من ظفره، أو من بشرته شيئًا يوكل غيره في التضحية وتسميه الأضحية، ويظن أن هذا يرفع عنه النهي، وهذا
خطأ فإن الإنسان الذي يريد أن يضحي ولو وكل غيره، لا يحل له أن يأخذ شيئًا من شعره، أو ظفره، أو بشرته.(25/140)
ثم إن بعض النساء في هذه الحال يسألن عمن طهرت في أثناء هذه المدة وهي تريد أن تضحي فماذا تصنع في رأسها؟
فنقول لها: تصنع في رأسها أنها تنقضه وتغسله وترويه، ولا حاجة إلى تسريحه وكدّه؛ لأنه لا ضرورة إلى ذلك، وإن احتاجت إلى تسريحه فإنها تسرحه برفق، فإن سقط منه شيء في هذه الحال لم يضر.
وأما قول السائل: هل يستوي في ذلك الحاج والمقيم؟
فنقول: إن الحاج إذا اعتمر فلابد له من التقصير، فيقصر ولو كان يريد أن يضحي في بلده؛ لأنه يجوز للإنسان إذا كان له عائلة لم تحج أن يوكل من يشتري لهم أضحية يضحي بها عنه وعن آل بيته، وفي هذه الحال إذا كان معتمرًا فلا حرج عليه أن يقصر من شعر رأسه؛ لأن التقصير في العمرة نسك. والله أعلم.
س113: سئل فضيلة الشيخ-رحمه الله-: هل من السنة ترك قص الشعر والأظافر في عشر ذي الحجة؟ وهل يشمل أسرة المضحي؟
فأجاب بقوله: ثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: "ذا دخل العشر- يعني عشر ذي الحجة- وأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذن من شعره، ولا من ظفره شيئًا" (1) ، وفي رواية:
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الأضاحي، باب نهي من دخل عليه عشر ذي الحجة وهو يريد التضحية أن يأخذ من شعره.(25/141)
"ولا من بشرته شيئا" (1) ، وهذا نهي، والأصل في النهي التحريم حتى يقوم دليل على أنه لغير التحريم، وعلى هذا فلا يجوز للإنسان الذي يريد أن يضحي إذا دخل شهر ذي الحجة أن يأخذ شيئًا من شعره، أو بشرته، أو ظفره حتى يضحي، والمخاطب بذلك المضحي دون المضحي عنه، وعلى هذا فالعائلة لا يحرم عليهم ذلك، لأن العائلة مضحى عنهم وليسوا مضحين.
فإن قال قائل: ما الحكمة من ترك الأخذ في العشر؟
قلنا الجواب على ذلك من وجهين:
الوجه الأول: أن الحكمة هو نهي الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا شك أن نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الشيء لحكمة وأن أمره بالشيء لحكمة، وهذا كاف لكل مؤمن، لقوله تعالى: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (2) .
وفي الحديث الصحيح عن عائشة- رضي الله عنها-: أن امرأة سألتها ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت: "كان يصيبنا ذلك على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة" (3) ، وهذا الوجه هو الوجه الأسد، وهو الوجه الحازم
__________
(1) أخرجه مسلم في الموضع السابق برقم (1977) .
(2) سورة النور، الآية: 51.
(3) أخرجه البخاري، كتاب الحيض، باب لا تقضي الحائض الصلاة، (321) ، ومسلم، كتاب الحيض، باب وجوب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة، (335) .(25/142)
الذي لا يمكن الاعتراض عليه، وهو أن يقال في الأحكام الشرعية الحكمة فيها: أن الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - أمر بها.
أما الوجه الثاني: في النهي عن أخذ الشعر أو الظفر أو البشرة في هذه الأيام العشر، فلعله والله أعلم من أجل أن يكون للناس في الأمصار نوع من المشاركة مع المحرمين بالحج والعمرة في هذه الأيام، لأن المحرم بحج أو عمرة يشرع له تجنب الأخذ من الشعر والظفر، والله أعلم.
س114: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما الحكمة في عدم حلق الشعر وقص الأظفار للمضحي؟
فأجاب بقوله: ذكر بعض العلماء أن من الحكمة أن يبقى كامل الأجزاء ليشمل العتق جميع بدنه.
والحكمة الحقيقية التي لا تنتقض هي: امتثال أمر الله تعالى، ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وكفى بها حكمة.
س115: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: إذا وكل من يريد أن يحج رجلاً ليذبح أضحيته فعند الميقات أراد أن يقلم أظفاره ويقص شعره فهل يجوز ذلك؟(25/143)
فأجاب بقوله: أولاً: هل يسن أن تؤخذ الأظافر والشعر عند الإحرام؟
والجواب: ليس في إزالة الشعر والأظفار دليل عند الإحرام، لكن بعض العلماء استحب ذلك؛ لأنهم كانوا فيما سبق يبقون على الإحرام عشرون يومًا أو نحوها فتطول هذه الفضلات، فقالوا: الأحسن أن الإنسان يزيلها عند الإحرام ولكن لا يوجد دليل، ولكن لو فرض أن الإنسان لما وصل الإحرام وجدها طويلة وأراد أن يقص، أو أن يحلق الشعر، أو أن ينتف الاَباط فلا يفعل وهو يريد الأضحية، فإذا كان في عمرة وطاف وسعى وقصر فلا بأس؛ لأن التقصير حينئذ واجب، ويجب أن نعرف أنه ليس من السنة إزالة هذه الأشياء عند الإحرام لذاته ما لم تكن طويلة.
س116: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: إذا كان الإنسان له أضحية عنه وأهل بيته فطرأ عليه الحج بعد دخول العشر، فهل يأخذ من شعره وأظفاره عند إحرامه وكيف يصنع بأضحيته؟ هل
يذبحها في مكة أم يوكل عليها؟
فأجاب بقوله: أما بالنسبة إلى أضحيته فإذا كان أهله لا يسافرون فيضحون في بلدهم، وهو يكفيه الهدي.(25/144)
وأما مسألة الأخذ من الشعر فالأخذ من الشعر والأظفار ليس بسنة عند الإحرام إلا إذا كان فيها طول، وإذا لم يكن سنة فلا يضر إذا تركها. وليس هناك سنة تدل على أن الإنسان عند الإحرام ينبغي أن يقلم أظفاره ويأخذ شعره إلا إذا كانت طويلة، والرسول - صلى الله عليه وسلم -
وقَّت في الأظفار، والعانة، والإبط، والشارب أن لا تترك فوق أربعين يومًا (1) .
س117: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل يدخل أهل المضحي في النهي عن قص الشعر والأظافر، ومن تعمد القص هل تجزئ أضحيته؟
فأجاب بقوله: هذا ينبني على الحديث، والحديث قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وأراد أحدكم أن يضحي" (2) ، ولم يقل: "أو يضحي عنه"، وعلى هذا إذا ضحى الرجل عنه وأهل بيته فإنه لا حرج على أهل بيته إذا أخذوا من شعرهم وأظفارهم وأبشارهم؛ لأن النبي صلى الله عليه
وعلى آله وسلم قال: "وأراد أحدكم أن يضحي" ولأنه لم ينقل أنه كان يقول عليه الصلاة والسلام لأهله: لا تأخذوا من أشعاركم
__________
(1) أخرجه مسلم/ كتاب الطهارة/ باب خصال الفطرة برقم 599.
(2) أخرجه مسلم، كتاب الأضاحي برقم (1977) .(25/145)
وأما إذا أخذ شيئًا من ذلك عمدًا فهو عاص لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لكن الأضحية مجزئة، لأنه لا علاقة بين الأضحية والأخذ من الشعر أو الظفر أو البشرة.
س118: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما حكم مشط الشعر في شهر ذي الحجة قبل ذبح الأضحية؟
فأجاب بقوله: إذا دخلت عشر ذي الحجة وكان الإنسان يريد أن يضحي فإنه ينهى أن يأخذ من شعره، أو ظفره، أو بشرته شيئًا، لكن إذا احتاجت المرأة إلى المشط في هذه الأيام وهي تريد أن تضحي فلا حرج عليها أن تمشط رأسها، ولكن تكده برفق فإن سقط شيء من الشعر بغير قصد فلا إثم عليها؛ لأنها لم تكد الشعر من أجل أن يتساقط، ولكن من أجل إصلاحه، والتساقط حصل بغير قصد.
س119: سئل فضيلة الشيخ-رحمه الله-: هل الزوجة تدخل في النهي عن قص الشعر أيام عشر ذي الحجة أم هو خاص بالزوج؟
فأجاب بقوله: إذا دخلت أيام عشر ذي الحجة، وأراد الإنسان أن يضحي، فإنه لا يأخذ من شعره ولا من بشرته ولا من ظفره شيئًا.(25/146)
وهل هذا الحكم يتناول أهل البيت كالزوجة فلا تأخذ من شعرها، وبشرتها، وظفرها شيئًا وكذلك بقية العائلة؟
والجواب: لا، فللمضحى عنه من الزوجات والأولاد: بنين وبنات، والأمهات، وكل من في البيت لمن يضحي عنهم قيِّم البيت لهم أن يأخذوا من شعورهم، وأظفارهم، وأبشارهم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "وأراد أحدكم أن يضحي" (1) ، ولم يقل أن يضحي عنه، ولأن
النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته (2) ، ولم يرد أنه يقول لهم امتنعوا من أخذ ذلك، ولو كان امتناعهم واجبًا لبينه الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
س120: سئل فضيلة الشيخ-رحمه الله-: هل يجوز قص الأظفار وحلق الشعر في العشر من ذي الحجة؟
فأجاب بقوله: يجوز ذلك لمن لا يريد الأضحية، أما من كان يريد أن يضحي فإنه إذا دخل العشر لا يأخذ من شعره، ولا من بشرته، ولا من أظفاره شيئًا حتى يضحي، لحديث أم سلمة رضي الله عنه.
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الأضاحي برقم (1977) .
(2) أخرجه أحمد (6/391) .(25/147)
س121: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: من يحلق لحيته هل تجزئ أضحيته؟
فأجاب بقوله: نصيحتي لهؤلاء أن يتقوا الله عز وجل سواء أرادوا الأضحية أو لا، فالواجب عليهم أن يتقوا الله وأن يمتثلوا أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: "خالفوا المشركين، وفروا اللحى، وحفوا الشارب" (1) ، وليعلموا أن إعفاء اللحية من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وحلقها من هدي المشركين، ولو سألنا من يؤمن بالله ورسوله أتقدم هدي
المشركين على هدي سيد المرسلين، لقال: لا.
فإذا كان يقول: لا أقدم هدى المشركين أبداً، فلماذا لا يكون عنده عزيمة ويتقي الله؟!
ولهذا كان من المؤسف جدًّا أنك تجد بعض الناس حريصًا على صلاة الجماعة أو الصيام- يصوم إما أيام البيض، أو يومًا بعد يوم، ويتصدق، وصاحب خير وخلق حسن، ومع ذلك ابتلي بحلق اللحية
فصار حلق اللحية نقصًا في أخلاقه وفي دينه أيضًا.
فالواجب تقوى الله عز وجل، ولعل امتناعه من حلق لحيته في العشر الأولى من ذي الحجة يكون سببًا في امتناعه من ذلك دائم
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب اللباس، باب تقليم الأظفار، (5892) . ومسلم، كتاب الطهارة، باب خصال الفطرة، (258) .(25/148)
الدهر؛ لأنه يعينه، إذ أن بقاء اللحية عشرة أيام لا تحلق سوف يكون لها أثر وتبين وتظهر، وحينئذ يسهل عليه أن يعفيها وألا يحلقها، لكن أقبح من ذلك أو بعض الناس يقول: لا أضحي، لأني لو نويت الأضحية امتنعت من حلق اللحية، فنعوذ بالله من هذا الفعل، يترك الخير من أجل فعل الشر، وهذا غلط عظيم، فنقول: ضح ولو عصيت الله بحلق اللحية، الأضحية شيء، وحلق اللحية شيء اَخر.
وكذلك أنبه إلى ما يظنه بعض الناس: أن المرأة إذا كدت رأسها في أيام العشر فلا أضحية لها، فهذا أيضًا غلط وليس بصحيح، المرأة إذا كانت تريد أن تضحي فلها أن تكد شعرها لكن برفق، وإذا سقط منه شيء بغير اختيار فلا شيء عليها، وإن كانت تخشى أنه لا يمكن كده إلا بسقوط شعر فلا تكده، ولكن تغسله بالماء وتعصره وتنظفه.
س122: سئل فضيلة الشيخ-رحمه الله-: كيف يعمل من أراد أن يضحي في بلده وهو حاج وما يترتب عليه؟
فأجاب بقوله: يفعل كل ما يفعله الناس إلا تقليم الأظفار ونتف الإبط وأخذ الشارب وحلق العانة فهذه يفعلها قبل أن يدخل شهر ذي الحجة ما دام قد عرف أنه سوف يضحي، وأما حلق الرأس أو
تقصيره في الحج أو في العمرة فهذا لا يضر حتى وإن كان يريد الحج(25/149)
فلا بأس، لأن هذا نسك فلابد من فعله.
س123: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: منْ لم ينو الأضحية إلا بعد دخول العشر وقد أخذ من شعره فهل تجزئ أضحيته؟
فأجاب بقوله: أقول إن الإنسان إذا لم يطرأ عليه الأضحية إلا في أثناء العشر، وكان قد أخذ من شعره وأظفاره قبل ذلك، فلا حرج عليه أن يضحي، ولا يكون آثمًا بأخذ ما أخذ من أظفاره وشعره، لأنه قبل أن ينوي، وكذلك لو كان قد نوى من أول الشهر ولكنه نسي فأخذ من شعره وأظفاره فإن ذلك لا يمنعه من الأضحية، ولا ارتباط بين أخذ الشعر والأظفار والأضحية، فلو أن الإنسان تعمد وأخذ من شعره وأظفاره وضحى، فإن الأضحية تجزئه لكن يكون
آثماً بكونه أخذ من شعره وأظفاره لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك (1) .
س124: سئل فضيلة الشيخ-رحمه الله-: امرأة لا تستطيع ترك شعرها بدون تسريح فهل إذا تساقط شيء من شعرها يؤثر على الأضحية؟
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الأضاحي (1977) .(25/150)
فأجاب بقوله: إذا كان يشق عليها أن تبقى بدون تسريح عشرة أيام فإن لها أن تسرحه، لكن برفق، فإذا سقط شيء من التسريح بدون قصد فلا شيء عليها، ولكن تأتي مسألة تعدد الضحايا في
البيت الواحد، هذه المرأة كيف تضحي إذا كان عندها قيّم البيت، لأن أضحية القيّم تجزئ عنه، لكن قد تكون هي القيمة في البيت، لأنه قد يكون ليس في البيت رجال، وحينئذٍ تكون أضحيتها في محلها ويلزمها أن تتجنب أخذ الشعر، والظفر، والبشرة، لكن لها أن تسرح شعرها إن كان يشق عليها تركه.
س125: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما حكم من حلق يوم عيد الأضحى قبل ذهابه إلى الصلاة علمًا أنه نصح عن ذلك ولكنه أصر على الحلق قبل الصلاة؟
فأجاب بقوله: حكمه أن عاص للرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذ من شعره، ولا بشرته، ولا من ظفره شيئا" (1) ، فعليه أن يتوب إلى الله تعالى مما صنع.
وأما بالنسبة للأضحية فإن هذا لا يؤثر عليها شيئًا، خلافًا لما
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الأضاحي (1977) .(25/151)
يعتقده بعض العامة أن الإنسان إذا أخذ شيئًا من شعره أو ظفره في العشر فإنها تبطل أضحيته، فإن هذا ليس بصحيح.
س126: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل يجوز للإنسان أن يمشط شعره في العشر من ذي الحجة؟ وأيهما أفضل في الأضحية الكبش أم البقرة؟
فأجاب بقوله: يجوز للإنسان أن يأخذ من شعره بعد أن يذبح أضحيته ولو في يوم العيد.
والكبش أفضل من سُبع البقرة أو سُبع البدنة، فإن ضحى ببدنة أو بقرة كاملة، فقد ذكر الفقهاء أنها أفضل من الواحدة من الضأن.
س127: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: إلى متى يمتد النهي عن الأخذ من الشعر والظفر والبشرة في عشر ذي الحجة؟
فأجاب بقوله: يمتد إلى أن يضحي، فإذ ضحى زال النهي.
س128: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: الزوجة إذا أرادت أن تضحي ووكلت، فهل يحل لها تقليم الأظافر وقص الشعر؟(25/152)
فأجاب بقوله: لا يجوز، لأن الحكم يتعلق بصاحب الأضحية، فإذا وكلت هذه المرأة زوجها مثلاً فإنه يحرم عليها أن تأخذ شيئًا من شعرها، أو ظفرها، أو بشرتها.
س129: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: إذا أخذ من أراد أن يضحي من شعره ناسيًا أو جهلاً، أو سقط الشعر بدون قصد فهل يمنعه ذلك من الأضحية؟
فأجاب- رحمه الله- بقوله: لا يمنعه من الأضحية أن يأخذ شيئًا من شعره أو بشرته أو ظفره أو يتساقط منه شيء من ذلك؛ لأن الأخذ شيء والأضحية شيء آخر، لكن إذا دخل العشر وقد أراد أن يُضحي فلا يأخذن من شعره، ولا من بشرته، ولا من ظفره شيئًا، وهذا من حكمة الله- عز وجل- بترك الأخذ من هذا، كما يتقرب المحرم في ترك حلق رأسه ونحو ذلك، وحتى لو فعل الإنسان هذا أي أخذ من شعره، أو ظفره، أو بشرته على وجه العمد فإنه لا يمنع من الأضحية، لكنه يكون عاصيًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أخذ هذا متعمدًا.
س130: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: المرأة إذا اغتسلت من الحيض أو النفاس لابد وأن يسقط شيء من شعرها، فما رأيكم لو(25/153)
اغتسلت في أيام العشر وهي تريد أن تضحي؟
فأجاب- رحمه الله- بقوله: إذا حرصت على ألا يسقط شيء فسقط بغير اختيارها فلا شيء عليها.
س131: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: من يريد أن يحج ويضحي ويذبح الهدي بمكة وأهله يضحون له، هل يمكن أن يقص من شعره قبل أن يحرم؟
فأجاب- رحمه الله- بقوله: أما من كان يريد الحج فإنه يجوز له أن يأخذ من شعره وظفره قبل أن يحرم، وإن كان يريد الهدي، وأما من أراد أن يضحي فإنه إذا دخل العشر الأول من ذي الحجة فإنه لا يحل له أن يأخذ من شعره، ولا من ظفره، ولا من بشرته شيئًا حتى يضحي، لحديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا دخل العشر، وأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذن من شعره ولا من بشرته ولا من ظفره" أو قال: "أظفاره شيئًا حتى يضحي" (1) .
وإذا كان الإنسان يريد أن يضحي ويريد أن يحج فإنه إذا دخل العشر لا يأخذ من شعره ولا من ظفره شيئًا، ولكنه إذا وصل إلى
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الأضاحي برقم (1977) .(25/154)
مكة وأدى العمرة فإنه يقصر من شعره؛ لأن هذا نسك ولا حرج عليه في هذه الحال، فإذا كان يوم العيد وغلب على ظنه أن أهله ذبحوا أضحيته فإنه في هذه الحال يأخذ مما شاء من ظفره وشعره
وبشرته.
س132: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل يلزم الوكيل ما يلزم الموكل (صاحب الأضحية) من تجنب الأخذ من الشعر والظفر والبشرة؟
فأجاب- رحمه الله- بقوله: أحكام الأضحية تتعلق بالموكِّل بمعنى أن الإنسان إذا وكل شخصا يذبح أضحيته فإن أحكام الضحية تكون متعلقة بالموكل لا بالوكيل، فلا يلزم الوكيل تجنب الأخذ من الشعر والظفر والبشرة.
س133: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: عن الأخطاء التي يقع فيها الحجاج بالنسبة للهدي؟
فأجاب بقوله: يرتكب بعض الحجاج أخطاءً في الهدي.
منها: أن بعض الحجاج يذبح هديًا لا يجزئ؛ كأن يذبح هديًا صغيرا لم يبلغ السن المعتبر شرعًا للإجزاء، وهو في الإبل خمس(25/155)
سنوات، وفي البقر سنتان، وفي المعز سنة، وفي الضأن ستة أشهر، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تذبحوا إلا مُسنَّة، إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن" (1) ، ومن العجب أن بعضهم يفعل ذلك مستدلاً بقوله تعالى: (فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) (2) ويقول: إن ما تيسر من الهدي فهو كاف.
فنقول له: إن الله قال: (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) و ((أل)) هذه لبيان الجنس، فيكون المراد بالهدي: الهدي المشروع ذبحه، وهو الذي بلغ السن المعتبر شرعًا، وسَلِمَ من العيوب المانعة من الإجزاء
شرعًا، ويكون معنى قوله: (فَمَا اسْتَيْسَرَ) أي: بالنسبة لوجود الإنسان ثمنه مثلاً، ولهذا قال: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ) (3) . فتجده يذبح الصغير الذي لم يبلغ السن،
ويقول: هذا ما استيسر من الهدي، ثم يرمي به، أو يأكله، أو يتصدق به، وهذا لا يجزئ، للحديث الذي أشرنا إليه.
ومن الأخطاء التي يرتكبها بعض الحجاج في الهدي: أنه يذبح هديًا مَعيبًا بعيب يمنع من الإجزاء، والعيوب المانعة من الإجزاء
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الأضاحي، باب سن الأضحية (1963) .
(2) سورة البقرة، الآية: 196.
(3) سورة البقرة، الآية: 196.(25/156)
ذكرها النبي عليه الصلاة والسلام حين تحدث عن الأضحية وسُئل: ماذا يُتقى من الضحايا؟ فقال: "أربع" وأشار بيده عليه الصلاة والسلام: "العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء
البيِّن ظلعها، والهزيل- أو العجفاء- التي لا تُنقى" (1) ، أي: التي ليس فيها نِقيٌ، أي: مخّ.
فهذه العيوب الأربعة مانعة من الإجزاء، فأي بهيمة يكون فيها شيء من هذه العيوب، أو ما كان مثلها أو أولى منها، فإنها لا تجزئ في الأضحية، ولا في الهدي الواجب؟ كهدي التمتع والقِران والجُبران.
ومن الأخطاء التي يرتكبها الحجاج في الهدي: أن بعضهم يذبح الهدي ثم يرمي به، ولا يقوم بالواجب الذي أوجب الله عليه في قوله: (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) (2) ، فقوله تعالى: (وَأَطْعِمُوا) أمر لابد من تنفيذه؛ لأنه حق للغير، أما قوله: (فَكُلُوا مِنْهَا) فالصحيح أن الأمر فيه ليس للوجوب، وأن للإنسان أن يأكل من هديه، وله ألا يأكل، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبعث بالهدي من المدينة إلى مكة (3) ولا يأكل منه، فيذبح في مكة ويوزع ولا يأكل منه؟ لكن
__________
(1) أخرجه مالك في الموطأ برقم (1) .
(2) سورة الحج، الآية: 28.
(3) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب فتل القلائد للبدن برقم (1697) .(25/157)
قوله: (وَأَطْعِمُوا) هذا أمر يتعلق به حق الغير، فلا بد من إيصال هذا الحق إلى مستحقه.
وبعض الناس- كما قلت يذبحه ويدعه؛ فيكون بذلك مخالفًا لأمر الله تبارك وتعالى، بالإضافة إلى أن ذبحه وتركه إضاعة للمال، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن إضاعة المال (1) ، وإضاعة المال من السفه؛ ولهذا قال الله تعالى: (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ الله لَكُمْ قِيَاماً) (2) .
وهذا الخطأ الذي يقع في هذه المسألة يتعلل بعض الناس بأنه لا يجد فقراء يعطيهم، وأنه يشق عليه حمله؟ لكثرة الناس والزحام والدماء واللحوم في المجازر، وهذا التعليل- وإن كان قد يصح في
زمن مضى- لكنه الآن قد تيسر؛ لأن المجازر هُذبتَ وأصُلحت، ولأن هناك مشروعًا افتتح في السنوات الخيرة، وهو أن الحاج يعطي اللجنة المكونة لاستقبال دراهم الحجاج، لتشتري لهم بذلك الهدي وتذبحه وتوزعه على مستحقه، فبإمكان الحاج أن يتصل بمكاتب
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الاستقراض، باب ما ينهى عن إضاعة المال (408) ، ومسلم، كتاب الأقضية، باب النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة، والنهي عن منع وهات ... (13) (593) .
(2) سورة النساء، الآية: 5.(25/158)
هذه اللجنة من أجل أن يسلم قيمة الهدي، ويوكلهم في ذبحه، وتفريق لحمه.
ومن الأخطاء أيضًا: أن بعض الحجاج يذبح الهدي قبل وقت الذبح، فيذبحه قبل يوم العيد، وهذا- وإن كان قال به بعض أهل العلم في هدي التمتع والقِران- فإنه قول ضعيف؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يذبح هديه قبل يوم العيد، مع أن الحاجة كانت داعية إلى ذبحه، فإنه حين أمر أصحابه- رضي الله عنهم- أن يحلوا من إحرامهم بالحج ليجعلوا عمرةً ويكونوا متمتعين، وحصل منهم شيء من التأخر، قال: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديتُ، ولولا أن معي
الهدي لأحللت" (1) ، فلو كان ذبح الهدي جائزًا قبل يوم النحر، لذبحه النبي عليه الصلاة والسلام، وحل من إحرامه معهم تطييبًا لقلوبهم، واطمئنانًا لهم في ذلك، فلما لم يكن هذا منه - صلى الله عليه وسلم -، عُلم أن ذبح الهدي قبل يوم العيد لا يصح ولا يجزئ.
ومن العجب: أنني سمعت من بعض المرافقين لبعض الحملات التي تأتي من بلاد نائية عن مكة أنه قيل لهم- أي لهذه الحملات-: لكم أن تذبحوا هديكم من حين أن تسافروا من بلدكم إلى يوم العيد، واقترح عليهم هذا أن يذبحوا من الهدي بقدر ما
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - برقم (1218) .(25/159)
يكفيهم من اللحم لكل يوم، وهذا جرأة عظيمة على شرع الله، وعلى حق عباد الله، وكأن هذا الذي أفتاهم بهذه الفتوى يريد أن يوفر على صاحب الحملة الذي تكفل بالقيام بهذه الحملة، أن يوفر عليه نفقات هذه الحملة؛ لأنمهم إذا ذبحوا لكل يوم ما يكفيهم من هداياهم وفروا عليه اللحم، فعلى المرء أن يتوب إلى الله عز وجل، وألا يتلاعب بأحكام الله، وأن يعلم أن هذه الأحكام أحكام شرعية، أراد الله تعالى من عباده أن يتقربوا بها إليه على الوجه الذي سنه لهم وشرعه لهم، فلا يحل لهم أن يتعدوه إلى ما تمليه عليه أهواؤهم.(25/160)
بسم الله الرحمن الرحيم
تنبيهات فيما يتعلق بالأضحية والمضحي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين:
1- يتوهم بعض العامة أن من أراد الأضحية ثم أخذ من شعره أو ظفره أو بشرته شيئًا في أيام العشر لم تقبل أضحيته، وهذا خطأ بيِّن فلا علاقة بين قبول الأضحية والأخذ مما ذكر، ولكن من أخذ بدون عذر فقد خالف أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإمساك، ووقع فيما نهى عنه من
الأخذ (1) ، فعليه أن يستغفر الله ويتوب إليه ولا يعود، وأما أضحيته فلا يمنع قبولها أخذه من ذلك.
2- من احتاج إلى أخذ الشعر والظفر والبشرة فأخذها فلا حرج عليه مثل أن يكون به جرح فيحتاج إلى قص الشعر عنه، أو ينكسر ظفره فيؤذيه فيقص ما يتأذى به، أو تتدلى قشرة من جلده فتؤذيه فيقصها فلا حرج عليه في ذلك كله.
3- أن نهي المضحي عن أخذ الشعر والظفر والبشرة يشمل ما إذا نوى الأضحية عن نفسه، أو تبرع بها عن غيره، وأما من ضحى عن غيره بوكالة أو وصية فلا يشمله النهي بلا ريب، وكذلك من يضحي
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الأضاحي برقم (1977) .(25/161)
عنه فلا يحرم عليه أخذ شيء من ذلك.
4- يذكر بعض الموصين في وصيته قدرًا معينًا للموصى به مثل أن يقول: يضحي عته ولو بلغت الأضحية ريالاً يقصد المغالاة في ثمنها؛ لأنها في وقت وصيته بربع ريال أو نحوه فيقوم بعض من لا
يخشى الله من الأوصياء فيعطل الوصية بحجة أن الريال لا يمكن أن يبلغ ثمن الأضحية الآن، وهذا حرام عليه، وهو آثم بذلك، ويجب عليه تنفيذ الوصية بالأضحية وإن بلغت الألف الريالات، ما دام المبلغ يكفي لذلك؛ لأن مقصود الموصي معلوم، وهو المبالغة في قيمة الأضحية مهما زادت، وذكره الريال على سبيل التمثيل لا على سبيل التحديد.
5- يحرم أن يبيع شيئَا من الأضحية من لحم، أو شحم، أو دهن أو جلد، أو غيره؛ لأنها مال أخرجه لله فلا يجوز الرجوع فيه كالصدقة، ولا يعطي الجازر منها في مقابلة أجرته، أو بعضها؛ لأن ذلك بمعنى البيع، فأما من أهدي له شيء منها أو تصدق به عليه فله أن يتصرف فيه بما شاء من بيع وغيره.
6- إذا ذبحها ونوى من هي له بدون تسميته أجزأت النية لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى" (1)
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1) ومسلم، كتاب الإمارة، باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال …" (1907) .(25/162)
والتسمية المشروعة أن يقول عند الذبح: بسم الله والله أكبر، اللهم هذا عني وعن أهلي ونحو ذلك، وأما ما يفعله بعض العامة من مسح ظهر الأضحية مرددين اسم من هي له، فلا أعلم لذلك أصلاً، ولا ينبغي فعله؛ لأن خير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -.
بسم الله الرحمن الرحيم، هذه التنبيهات الستة من كلامي، ولا مانع من نشرها، قاله كاتبه محمد الصالح العثيمين.
11/25/1412هـ.(25/163)
بسم الله الرحمن الرحيم
تنبيهات على أحكام الأضحية والذكاة
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى اَله وصحبه أجمعين.
* إذا أراد أحد أن يضحي ودخل شهر ذي الحجة فإنه يحرم عليه أن يأخذ شيئًا من شعره، وأظفاره، أو جلده حتى يذبح أضحيته، وإن أخذ شيئًا من ذلك ناسيًا، أو جاهلاَ، أو سقط الشعر
بلا قصد فلا إثم عليه، وإن احتاج إلى أخذه فله ذلك ولا شيء عليه، مثل: أن ينزل الشعر في عينيه فيزيله.
- صلى الله عليه وسلم - شروط الذكاة:
للذكاة شروط تسعة وهي:
1- أن يكون المذكي عاقلاً مميزًا.
2- أن يكون المذكي مسلمًا، أو كتابيًّا "وهو من ينتسب إلى دين اليهود أو النصارى".
3- أن يقصد التذكية.
4- ألا يذبح لغير الله.
5- ألا يسمى عليها غير اسم الله، مثل أن يقول: باسم النبي، أو غيره.(25/164)
6- أن يذكر اسم الله تعالى عليها فيقول عند الذبح: باسم الله.
7- أن تكون الذكاة بمحدد ينهر الدم.
8- إنهار الدم (إي إجراؤه بالتذكية) .
9- أن يكون المذكي مأذونا في ذكاته شرعًا.
*آداب الذكاة:
1- الإحسان في تذكيتها، بحيث تكون بآلة حادة.
2- أن تكون الذكاة في الإبل نحرًا، وفي غيرها ذبحًا، فينحر الإبل قائمة معقولة يدها اليسرى، فإن صعب عليه ذلك نحرها باركة، ويذبح غيرها على جنبها الأيسر.
3- قطع الحلقوم والمريء زيادة على الودجين.
4- أن يستر السكين عن البهيمة عند حدها فلا تراها إلا عند الذبح.
5- أن يكبر الله تعالى بعد التسمية.
6- أن يسمي عند ذبح الأضحية أو العقيقة من هي له بعد التسمية والتكبير ويسأل الله قبولها فيقول: بسم الله، الله أكبر، اللهم هذا منك ولك عني، اللهم تقبل مني (إن كانت له) أو عن فلان، اللهم تقبل من فلان (إن كانت لغيره) .(25/165)
*شروط الأضحية:
1- أن تبلغ السن المقدر شرعًا وهو ستة أشهر في الضأن، وسنة في المعز، وسنتان في البقر، وخمس سنين في الإبل.
2- أن تكون خالية من العيوب المانعة الإجزاء وهي: العور البين، والمرض البين، والعرج البين، والهزال المزيل للمخ.
وكذلك العمياء التي لا تبصر، والمبشومة حتى تثلط ويزول عنها الخطر، والمتولدة إذا تعسرت ولادتها حتى يزول عنها الخطر، والمصابة بما يميتها من خنق وغيره، والزمنى وهي العاجزة عن المشي
لعاهة، ومقطوعة إحدى اليدين أو الرجلين.(25/166)
بسم الله الرحمن الرحيم
مختصر في أحكام الأضحية والذكاة
*الأضحية
أولاً- تعريفها:
ما يذبح من بهيمة الأنعام أيام الأضحى بسبب العيد تقربًا إلى الله عز وجل.
ثانيًا- حكمها:
وهي من العبادات المشروعة في كتاب الله وسنة رسوله عغغ وإجماع المسلمين (وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى وجوبها) .
ثالثًا- وقتها:
أوله- من بعد صلاة عيد يوم النحر.
آخره- إلى غروب شمس اليوم الثالث عشر من ذي الحجة، ويذبح في النهار والليل علي القول الصحيح.
رابعًا- من يضحي عنه:
1- عن الأحياء (وهو الأصل) .
2- وتجوز عن الأموات:
أ- بسبب وصية.
ب- أو تبرع (ولم ير بعض العلماء أن يضحي أحد عن الميت إلا أن يوصي به) .(25/167)
خامسًا- ما يضحي به وشروطه:
1- يضحي ببهيمة الأنعام:
أ- الإبل: عن سبعة
ب- البقر: عن سبعة
ج- الغنم: عن واحد وله أن يشرك من شاء في الثواب.
2- شروط ما يضحي به:
أ- أن تكون ملكًا للمضحي.
ب- أن تكون في وقتها.
ج- أن تكون من الأجناس الثلاثة (الإبل والبقر والغنم ضأنًا أو معزاً) .
د- أن تبلغ السن المعتبرة:
1- الإبل: خمس سنين.
2- البقر: سنتان.
3- الغنم: (المعز: سنة، والضأن: نصف سنة) .
هـ- السلامة من العيوب.
1- عيوب مانعة من الإجزاء:
أ- العوراء البين عورها.
ب- المريضة مرضًا شديدًا.
ج- العرجاء البين ظلعها.
د- الضعيفة (الهزيلة) التي لا مخ فيها.
هـ- البتراء من الضان (ما قطعت أليتها) .(25/168)
2- عيوب مكروهة:
أ- مقطوعة القرن والأذن.
ب- مشقوقة الأذن.
ج- البتراء من الإبل والبقر والمعز.
د- ما قطع ذكره، وأما الخصي فيجوز.
سادسًا- ما يجتنبه من أراد أن يضحي:
يحرم على المضحي في العشر الأولى من شهر ذي الحجة:
1- إزالة الشعر.
2- إزالة البشرة أي الجلد.
3- تقليم الأظافر.
(إلا لضرورة) وأما من ضحى عن غيره بوكالة أو وصية فلا يلزمه ذلك.
سابعًا-آدابها:
1- أن يتولى ذبحها بنفسه سواء أكان ذكرًا أو أنثى.
2- أن يأكل الثلث وجهدي الثلث ويتصدق بالثلث.(25/169)
الذكاة وشروطها
أولاً- تعر يفها:
نحر الحيوان البري الحلال أو ذبحه أو جرحه في أي موضع من بدنه إذا لم يقدر عليه.
ثانيًا- أنواعها:
أ- النحر للإبل.
ب- الذبح لبقية بهيمة الأنعام.
ج- الجرح
(1- للصيد. 2- ما لم يقدر عليه) .
ثالثًا- شروطها:
أ- شروط الذابح:
1- أن يكون مسلمَا أو كتابيًّا.
2- أن يكون عاقلاً مميزًا ذكرًا أو أنثى.
3- أن يذكر اسم الله عليها.
4- ألا يذبحها لغير الله.
ب- شروط الآلة:
1- أن تكون آلة حادة تنهر الدم.
2- ألا تكون سنًا أو ظفرًا.
ج- شروط المذبوح:
1- أن يكون حلالاً.
2- أن يقطع منها ما يلي (الودجين وتمام ذلك قطع الحلقوم والمريء أيضًا) .(25/170)
رابعًا-آدبها:
1- استقبال القبلة.
2- الإحسان إلى الذبيحة (باَلة حادة، وإمرارها على محل الذكاة بقوة وسرعة) .
3- أن ينحر الإبل قائمة.
4- أن يذبح غير الإبل مضجعة على جنبها.
5- أن يواري عنها السكين.
6- استكمال قطع الودجين والحلقوم والمريء
7- زيادة التكبير بعد التسمية.
8- أن يسمي من هي له إن كانت أضحية.
9- أن يدعو عند الذبح بالقبول.
خامسَا- مكروهاتها:
1- أن يذبحها بآلة غير حادة.
2- أن يحد السكين والبهيمة تنظر.
3- أن يذكيها والأخرى تنظر.
4- أن يفعل ما يؤلمها قبل زهوق نفسها.
تم اختصار هذه المسائل من كتاب (أحكام الأضحية والذكاة) بإذن من المؤلف الشيخ العلامة/ محمد بن صالح العثيمين.(25/171)
بسم الله الرحمن الرحيم
فصل في أحكام الأضاحي
قال فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى:
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد، فهذا اليوم هو يوم الخميس الرابع من شهر ذي الحجة عام خمسة عشر وأربع مئة وألف، نتكلم فيه عن
الأضحية، فالأضحية مشروعة بإجماع المسلمين، قال الله تبارك وتعالى: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) (1) ، وقال تعالى: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ الله عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) (2) ، وقد قال بعض العلماء: إنها واجبة، وأن من كان قادرًا ولم يضح فهو آثم، وهذا مذهب أبي حنيفة - رحمه الله- واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله-.
والأضحية مشروعة عن الأحياء، إذ لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولا عن الصحابة- رضي الله عنهم- أنهم ضحوا عن الأموات استقلالاَ، وإنما كان الرجل يضحي عنه وعن
أهل بيته.
__________
(1) سورة الكوثر، الآية: 1.
(2) سورة الحج، الآية: 34.(25/172)
وهي تكون من: الإبل والبقر والغنم.
ولهذا نقول: إن شروط ما يضحي به أربعة:
الشرط الأول: أن يكون من الجنس الذي ثبت بالشرع أنه يضحي به وهو الإبل، والبقر، والغنم، فلو ضحى بفرس مثلاً فإنه لا يقبل منه؛ لأنه ليس من الجنس الذي يضحي به، حتى وإن كان أغلى من الإبل والبقر والغنم، ودليل هذا قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" (1) أي مردود عليه.
الشرط الثاني: أن يبلغ السن المعتبر شرعًا وهو في الضأن نصف سنة، وفي المعز سنة، وفي البقر سنتان، وفي الإبل خمس سنوات لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن تعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضان" (2) .
الشرط الثالث: السلامة من العيوب التي تمنع الإجزاء وهي المذكورة في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -:) (أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ضلعها، والعجفاء التي لا تنقى" (3) ومعنى العجفاء: أي الهزيلة.
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الأقضية برقم (1718) .
(2) أخرجه مسلم، كتاب الأضاحي، باب سن الأضحية برقم (1963) .
(3) أخرجه مالك في الموطأ، كتاب الضحايا برقم (1) .(25/173)
ومعنى: (ولا تنقى) أي: ليس فيها مخ.
فهذه العيوب الأربعة تمنع من الإجزاء، فلو ضحى الإنسان بشاة عوراء بيئ عورها فإنها لا تقبل، ولو ضحى بشاة عرجاء بيِّن ضلعها لم تقبل، ولو ضحى بشاة مريضة بيِّن مرضها لم تقبل، ولو
ضحى بهزيلة ليس فيها مخ فإنها لا تقبل، وكذلك ما كان في معنى هذه العيوب أو أولى منها، كالعمياء مثلاَ، فإنه لو ضحى بعمياء لم تقبل منها كما لو ضحى بعوراء بين عورها، وكذلك مقطوعة اليد أو الرجل؛ لأنه إذا كان لا تجزئ التضحية بالعرجاء، فمقطوعة اليد والرجل من باب أولى، ولا تجزئ التضحية بما أصابها سبب الموت كالتي في الطلق المتعسر حتى تنجو، وكذلك المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع، كل هذه لا تجزئ، لأنها أولى بعدم الإجزاء من المريضة.
وأما العيوب التي دون هذه فإنها تجزئ الأضحية ولو كان فيه شيءٌ من هذه العيوب - صلى الله عليه وسلم - لكن كلما كانت أكمل فهي أفضل. فالتي قطع من أذنها، أو من قرنها، أو من ذيلها شيء فإنها تجزئ، لكن الأكمل أولى، ولا فرق بين أن يكون القطع قليلاً أو كثيرًا حتى لو قطع القرن كله، أو الأذن كلها، أو الذيل كله، فإنها تجزئ، لكن كلما كانت أكمل فهي أفضل.(25/174)
الشرط الرابع: أن تكون الأضحية في الوقت الذي حدده النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهو من بعد صلاة العيد إلى آخر يوم من أيام التشريق.
فتكون أيام الذبح أربعة: يوم العيد، وثلاثة أيام بعده، فمن ذبح قبل الصلاة فإنه لا أضحية له، حتى وإن كان جاهلاً؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب الناس وأخبر أن من ذبح قبل الصلاة فلا نسك له، فقام رجل يقال له أبو بردة بن نيار، قال: إني نسكت قبل أن أصلي فقال: "شاتك شاة لحم" (1) وقال: "من ذبح قبل الصلاة فلا نسك له" وقال: "فليذبح مكانها أخرى"وكذلك من ضحى بعد انقضاء أيام التشريق فإنه لا أضحية له، وذلك لأنه ضحى خارج الوقت.
ثم إن السنة ألا يغالي في الأضاحي بكثرة العدد، لأن هذا من الإسراف، فالرجل يضحي عنه وعن أهل بيته بأضحية كما كان النبي عليه الصلاة والسلام يفعل ذلك، ولكن قد تأتي الزوجة فتقول:
أريد أن أضحي. وتأتي البنت فتقول: أريد أن أضحي، وتأتي الأخت فتقول: أريد أن أضحي، فيجتمع في البيت ضحايا متعددة، وهذا العمل مخالفٌ لها كان عليه السلف الصالح، فإن أكرم الخلق محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يضحّ إلا بواحدة عنه وعن أهل
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الأضاحي، باب من ذبح قبل الصلاة أعاد برقم (5562) .(25/175)
بيته (1) ، ومعلوم أن له - صلى الله عليه وسلم - تسع نساء يعني تسعة بيوت، ومع ذلك لم يضح إلا بواحدة عنه وعن أهل بيته، وضحى بأخرى عن أمته صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وكان الصحابة يضحون بالشاة الواحدة عنهم وعن أهل بيتهم، فما عليه عمل كثير من الناس اليوم فهو إسراف، ونقول لهؤلاء الذين يضحون بهذه الضحايا نقول: إذا كان عندكم فضل مال
فهناك أناس محتاجون إليه بالأرض من المسلمين كالبوسنة والهرسك، وكذلك في أفريقيا مدن كثيرة، وكذلك أيضًا في الجمهوريات الروسية التي تحررت من قبضة الشيوعية فيهم حاجة كبيرة.
ومما ينبغي التنبه له والتنبيه عليه ما شاع وذاع من هيئة الإغاثة بطلب الفلوس من الناس يضحي بها في أماكن أخرى، فإن هذا خلاف السنة، فالسنة أن الإنسان يضحي في بيته عنه وعن أهل بيته،
ويأكلون ويتمتعون، ويشكرون الله سبحانه وتعالى على هذه النعمة، ونقل الأضحية إلى أماكن أخرى يفوت به مصالح كثيرة منها:
*خفاء ظهور الشعيرة، فإنه إذا ضحيت في مكان أخرى خفيت الشعيرة في البلد، وربما مع طول الزمن لا يكون في البلد
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (6/391) .(25/176)
أضاحي إطلاقًا، فكلها تصرف إلى الخارج، لاسيما إذا قيل للناس أنها في الخارج أرخص منها هنا، وأنك إذا ضحيت هنا بأضحية واحدة تستطيع أن تضحي بثلاث ضحايا في البلد الأخرى، ولا شك أن خفاء الشعائر ضرر.
*ومن المصالح التي تفوت: أن الإنسان إذا ضحى في بلاد أخرى فإنه يفوته ذكر اسم الله عليها، وذكر اسم الله عليه من أفضل الأعمال، كما قال الله تعالى: (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ الله لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ الله عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (1) .
يهغ ومنها: أن يفوته أن يأكل منها، والأكل منها مؤكد، قدَّمه الله تعالى على الصدقة فقال سبحانه وتعالى: (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) (2) ولهذا لما أهدى النبي - صلى الله عليه وسلم - مائة بدنة أمر أن يؤخذ من كل مائة بدنة قطعة، فجعلت في قدر فطبخت، فأكل من لحمها، وشرب
من مرقها (3) ؟ تحقيقًا لقوله تعالى: (فَكُلُوا مِنْهَا) - صلى الله عليه وسلم - من المصالح التي تفوت بالتضحية خارج البلد: أن الإنسان
__________
(1) سورة الحج، الآية: 36.
(2) سورة الحج، الآية: 28.
(3) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - برقم (1218) .(25/177)
لا يطمئن كيف وزعت؟ وهل وزعت على وجه مشروع أو على وجه غير مشروع؟ وإذا كانت عنده اطمأن ووزعها بنفسه، أو بوكيله الذي يشاهده.
*ومنها أيضًا: إذا ضحيت في بلاد أخرى فلا يدري متى تذبح، قد تذبح قبل الوقت جهلاً من المضحي أو بعده، ثم إنه هو مرتبط بها لأنه لا يأخذ من شعره ولا من بدنه ولا من أظفاره شيئًا
حتى يضحي، ولا يدري متى تذبح هذه الأضحية، فيبقى معلقًا طول أيام العيد لا يأخذ من شعره، ولا من ظفره شيئًا؛ لأنه لا يدري هل ذبحت الأضحية أو لا، ولاسيما إذا كان في بلاد شرقية فإنهم
يتأخرون عنا في الغالب يومًا أو ربما يتأخرون يومين، فيبقى معلقًا من العيد إلى أيام التشريق الثلاثة إلى اليوم الرابع الزائد أو الخامس.
*ومن المصالح التي تفوت: التعيين فإنه أمر مهم، فإن الأضاحي هناك إذا جمعوا ألف رأس ثم أرادوا أن يذبحوها، لا يقولون: هذه عن فلان؛ لأن هذا يصعب عليهم فلا يعينها وهذا أمر خطير؛ لأنه قد يقال: بعدم الإجزاء في هذه الصورة إذا لم يعين من هي له، وليست الأضاحي طعام يجمع ويوزع، وكل ينال أجر صدقته، ولا دراهم أيضًا تجمع وتوزع، وكل له أجر صدقته، هذه قربات يتقرب بها الإنسان إلى الله بذبح أضحية معينة له، وهذا قطعًا(25/178)
لا يتسنى فيما إذا ضحى في بلد آخر.
ومن المحاذير التي تحصل: أنه إذا اجتمع مثلاً في المكان آلاف الضحايا فهل بإمكانهم أن يذبحوها في وقت الأضحية، قد لا يستطيعون، كما جرى هذا في المسالخ التي في منى، فإنهم في سنة من السنين عجزوا أن يقوموا بذبح الهدايا كلها في أيام التشريق، وحينئذٍ لا تذبح الأضحية إلا بعد فوات الوقت.
والحاصل: أن كل شيء يخل به في المشروع فإنه يترتب عليه محاذير، إذن المشروع أن تذبح الأضحية في البلد، والأفضل أن يذبحها الإنسان في بيته، ويشاهدها أهله وأولاده ويستبقي في قلوبهم
محبة هذه الشعيرة، وليعلم أنه ليس المقصود من الأضحية الفائدة المادية يعني الآكل أو الدراهم لقوله تعالى: (لَنْ يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ) (1) ، والدليل لذلك أن هذه
الأضحية جعل الله لها حرمات قبلها، واعتنى الشرع بها فإذا دخلت العشر من ذي الحجة والإنسان يريد أن يضحي حرم عليه أن يأخذ شيئًا من بشره، أو نجلده، أو ظفره.
ولهذا لو سألنا من أراد أن يتصدق يوم العيد بألف ريال هل يحرم عليه إذا دخل العشر أن يأخذ من شعره وبشرته وأظفاره شيئًا.
__________
(1) سورة الحج، الآية: 37.(25/179)
والجواب: لا يحرم عليه أخذ شيء من بشرته أو ظفره.
إذن الأضحية عبادة مستقلة لها كيانها، ولها أهميتها، وليس المقصود منها لحمًا يأكله الفقير أو ما أشبه ذلك.
وإنني بهذه المناسبة أود من إخواننا المسلمين ألا ينساقوا أمام العواطف، بل يجب عليهم أن يتحروا ما كان موافقًا للشرع، فنسأل الله تعالى أن يرزقنا وإياكم البصيرة في دينه، وأن يعيننا على العمل به
إنه على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(25/180)
بسم الله الرحمن الرحيم
فصل في الأضحية وأحكامها
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد خاتم النبيين وإمام المتقين، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإننا في يوم الخميس وهذا الخميس هو الخامس والعشرون من شهر ذي القعدة عام عشرين وأربع مئة وألف نتكلم فيه عن ما يناسب هذا الوقت وهو الأضحية.
فالأضحية هي: التقرب إلى الله تعالى بذبح الأضاحي أيام النحر، وهي أربعة: يوم العيد، وثلاثة أيام من بعده.
وهي: سنة مؤكدة، حتى إن بعض العلماء قال بوجوبها، وأن من تركها مع القدرة عليها فهو آثم، وهي من شعائر الدين التي شرعها الله عز وجل لعباده في الأقطار التي ليس فيها هدي، وذلك
أن المسلمين يتقربون إلى الله تعالى في هذه الأيام بالهدي إن كانوا حجاجًا وبالأضاحي إن لم يكونوا حجاجًا، فمن حكمة الله عز وجل أن تكون الأرض معمورة بالتقرب إلى الله بالذبح، إما هدايا وهذا
بالنسبة للحجاج، صياما ضحايا وهذا بالنسبة لغير الحجاج، فهي سنة مؤكدة، ولأنها قربة صار لابد فيها من شروط، إذ لو كان المراد مجرد(25/181)
اللحم لجازت بكل شيء، حتى بالدجاج، والظباء، والأرانب والصغار والكبار، لكن المراد التقرب إلى الله تعالى بالذبح الذي قرنه الله بالصلاة في قوله تعالى: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) ، وقوله تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لله رَبِّ الْعَالَمِينَ) (1) وبذلك نعرف قصور من ظنوا أن المراد بالأضحية الانتفاع بلحمها، فإن هذا ظن قاصر صادر عن جهل.
فالمراد بالأضاحي هو: التقرب إلى الله تعالى بالذبح قال الله تعالى: (لَنْ يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ) (2) وإنما نبهت على هذا لأن بعض إخواننا العطوفين الرؤوفين صار يرسل الدراهم إلى البلاد الفقيرة الإسلامية ليضحي بها هناك، وهذا من جهله وقصوره أيضًا؛ لأن الأضحية يقصد بها التقرب إلى الله بالذبح، وإذا ذبحتها فأهدها من شئت في بلادك أو خارج بلادك
أما قبل الذبح فلا تذبح إلا في بلدك، والأفضل في بيتك ليشاهد ذلك الأهل وتُعرف هذه الشعيرة العظيمة.
أما إرسال الدراهم ليضحي بها هناك ففيه تفويت المصالح وفيها تعرض للمخاطر.
__________
(1) سورة الأنعام، الآية: 162.
(2) سورة الحج، الآية: 37.(25/182)
أما المصالح التي تفوت فهي ظهور هذه الشعيرة العظيمة، لأنه ربما مع طول السنين تُنسى هذه الشعيرة وتكون دراهم تبعث إلى البلاد الإسلامية وكفى، وتبقى البلاد الإسلامية خالية من هذه
الشعيرة العظيمة.
ويفوت بها أيضًا: أن الإنسان مأمور أن يذبح بيده، ويذكر اسم الله عليها وهذا يفوت، قال العلماء: وإذا كان لا يحسن الذبح فليوكل وليشهد الذبح، ويسمي الذابح.
ويفوت من المصالح أيضًا: أن الإنسان لا يأكل منها، وقد أمر الله بالأكل منها وقدمه على إطعام الفقير، فقال: (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) (1) ، وقد قال كثير من العلماء: إن الأكل من الأضحية واجب، لأن الله أمر به وقدمه على إطعام الفقير، فكما أن إطعام الفقير واجب من الأضحية فالأكل منها واجب، وهذا قول له حظ من النظر.
أمما مما يخشى من المخاطر: فهو أن هذه الدراهم قد تقع بيد أناس لا يعرفون الشروط فيضحون بالصغير والكبير.
ومنها: أنه وربما تكثر الضحايا في المنطقة فلا توجد المواشي قد تكون مثلاً الدراهم التي أرسلت ليضحوا بها تبلغ خمسة آلاف أو
__________
(1) سورة الحج، الآية: 28.(25/183)
ستة آلاف، والقرية ليست فيها ستة آلاف أو خمسة آلاف من المواشي فتبقى متعطلة.
ومن المخاطر أنه قد يكون المنفذون للذبح قليلين والضحايا كثيرة فيعجزون عن التضحية في أيام الأضاحي فتخرج الأيام وهم لم يضحوا، فالمخاطر كثيرة.
لذلك نقول لإخواننا المسلمين عمومًا: إياكم أن ترسلوا الدراهم ليضحوا بها في أي بلاد كانت، ضحوا في بلادكم وكلوا وأرسلوا إن شئتم، ثم إخواننا هناك ماذا تغني عنهم قطعة لحم
يأكلونها يومًا أو يومين، ألا يكون الأفضل أن ترسل لهم الدراهم يشتر ون بها القمح والثياب والفراش وغيرها، أو يرسل إليهم أطعمة، أو خيامًا، أو تحفر لهم الآبار هذا هو الذي ينبغي، أما أن
يفسد هذا النسك العظيم ونخرجه من بلادنا إلى البلاد الأخرى فليس ذلك من المستحب، بل ينبغي التحذير عنه والحذر منه، ولما كانت الأضحية عبادة يتقرب بها إلى الله تعالى فإنه لابد فيها من شروط:
الشرط الأول: أن تكون بهيمة الأنعام.
وهي: الإبل والبقر والغنم أي الضان والماعز.
فلو ضحى بغيرها ولو كان أكثر منها قيمةٍ لم تقبل، لقول النبي(25/184)
- صلى الله عليه وسلم -: "من عمل عملاَ ليس عليه أمرنا فهو رد" (1) .
الشرط الثاني: أن تبلغ السن المعتبر شرعًا وهو في الإبل خمس سنوات، وفي البقر سنتان، وفي المعز سنة، وفي الضأن ستة أشهر، فما دون ذلك لا يضحي به، ولو ضحى به لم يقبل، ودليل ذلك قول
النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "لا تذبحوا إلا مسنة أي: (ثنية) إلا أن تعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن " والجذع من الضأن ما له ستة أشهر.
الشرط الثالث: أن تكون سليمة من العيوب المانعة من الإجزاء، وأصلها قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء البيِّن عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين
عرجها، والعجفاء التي لا مخ فيها" (2) هذه أصول العيوب التي تمنع من الإجزاء، وما عدا ذلك من العيوب إن كان مثل هذه العيوب أو أولى منها فإنها لا تجزئ التضحية بها، وإن كانت دون ذلك أجزأت لكن كلما كانت الضحية أكمل فهي أفضل، وعليه لو ضحى بمكسورة القرن كله، أو أكثره فالأضحية مجزئة، أو بمقطوعة الأذن فأضحية مجزئة، أو بعوراء لا تبصر بعينها لكن عورها ليس بيِّناَ أي
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الأقضية، باب رد محدثات الأمور برقم (1718) .
(2) أخرجه مالك في الموطأ، كتاب الأضاحي برقم (1) .(25/185)
من رآه لا يظن أنها عوراء، أو بعرجاء لكن ليس عرجها بيِّنًا، أو بهزيلة قليلة اللحم والشحم لكن فيها مخ أجزأت؛ لأنها ليست من العيوب المنصوص عليها.
الشرط الرابع: أن تكون في الوقت الذي يضحي به، فإن ضحى قبل دخول الوقت فهي شاة لحم، وإن ضحى بعد الوقت فهي شاة لحم، إلا لعذر كالنسيان وضياع البهيمة ولم يجدها إلا بعد فوات أيام النحر فإنه يضحي بعد فوات الأيام ولا بأس، والأيام التي يضحي فيها: يوم عيد الأضحى من بعد الصلاة، واليوم الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر، فالأيام الأربعة، كلها أيام للذبح
ليلها ونهارها سواء، وإن كان النهار أفضل؛ لأنه أتم للأضحية والتوزيع.
واسمع إلى حديث أبي بردة بن نيار رضي الله عنه حين ذبح أضحيته قبل الصلاة فلما خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من ذبح قبل الصلاة فلا نسك له " قال أبو بردة: يا رسول الله إني ذبحت قبل الصلاة، قال له: "شاتك شاة لحم" (1) يعني: ليست شاة أضحية ونسك، شاتك
شاة لحم فلا تجزئك مع أنه جاهل ومجتهد، وأحب أن يكون أول ما يؤكل في البيت أضحيته، ومع ذلك لم يعذره النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه أوقع
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الأضاحي، باب من ذبح قبل الصلاة برقم (5562) .(25/186)
العبادة قبل وقتها، كما لو صلى الظهر قبل الوقت ظانًّا أن الشمس قد زالت، فتبين أنها لم تزل، فإن صلاته باطلة لا تجزئه عن الظهر، بل تكون نفلاً، ويعيد صلاة الظهر بعد دخول الوقت، فلو ضحى في اليوم الرابع عشر فإنها لا تجزى لأنها في غير الوقت، بل تكون شاة لحم إلا إذا كان لعذر: كإنسان نسي أن يضحي بشاة وجعلها أضحية، لكن نسي ثم ذكر بعد تمام أيام التشريق فليذبحها وتكون أضحية، أو إنسان في بادية ولم يعلم عن دخول الشهر، وظن أن اليوم الرابع عشر هو الثالث عشر، ثم ذبح فلا بأس تجزئه؛ لأنه جاهل، أو إنسان عين شاة أضحية فهربت، ولم يعثر عليها إلا في اليوم الرابع عشر، فليذبحها ولا حرج، أو سرقت ثم لم يجدها إلا في اليوم الرابع فليذبحها ولا حرفي، لأنه معذور، وقد قال النبي صلى الله عليه وعلى اَله وسلم في الصلاة: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك" (1) .
ولكن كيف يكون أكل الأضحية نقول كما قال الله عز وجل: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ الله فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) (2) ، ولم يحدد الله
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب من نسي صلاة فليصل إذا ذكرها (597) ، ومسلم، كتاب المساجد، باب قضاء الصلاة الفائتة (684) .
(2) سورة الحج، الآية: 28.(25/187)
شيئًا من هذا فإن أكلت النصف وأطعمت النصف للفقير فلا بأس، أو تأكل الثلث وتطعم الثلث صدقة، والثلث الآخر هدية فلا بأس، المهم أن تعطي الفقير منها، والباقي أنت حر تصرفه كما شئت، إلا أنك لا تبيع شيئًا منها؛ لأنك أخرجتها لله، وما أخرج لله لا يمكن أن يعتاض الإنسان عنه شيئًا من الدنيا.
واعلم أنه إذا دخل عشر ذي الحجة وأنت تريد الأضحية فقد نهاك النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تأخذ شيئًا من شعرك، أو ظفرك، أو بشرتك (1) .
وبعض الناس يكون في أقدامه ولاسيما في أعقابه شقوق فيبدأ بقشرها فنقول له لا تفعل، أما لو انسلخ شيء من الجلد وآذاك فلا بأس أن تقص ما يؤذيك؛ لأن هذا لحاجة.
وهذا الحكم أعني النهي عن أخذ الشعر والظفر والبشرة خاص بمن يضحي فقط، أما من يضحي عنه فلا بأس أن يأخذ، وعلى هذا فإذا أراد الإنسان أن يضحي عنه وعن أهل بيته فالحكم يتعلق به نفسه هو، أما أهل البيت فلا حرج أن يأخذوا من ذلك شيئًا، خلافًا لمن قال من العلماء أن من يضحي عنه كمن يضحي أي يتجنب الأخذ من هذه الأشياء، فإن هذا القول ضعيف، لأن الحديث صريح "أراد أحدكم أن يضحي" ولم يقل: أو يضحي عنه،
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الأضاحي برقم (1977) .(25/188)
ثم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يضحي عنه وعن أهل بيته ولم ينهاهم عن ذلك. أخي المسلم: أنت مقبل على العشر الأول من شهر ذي الحجة، وهذه العشر حث فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - على الأعمال الصالحة، حتى قال عليه الصلاة والسلام: "ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه العشر، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء" (1) .
أي أنه قتل وسلب الكفار ماله.
فعليك أخي المسلم بكثرة الأعمال الصالحة في هذه الأيام العشر من قراءة القرآن والذكر والصدقة والصيام.
وأظنكم ترون ما أرى من غفلة الناس عن فضل هذه الأيام، حتى إنك ترى الناس تمر بهم هذه الأيام، ولا يحدثون شيئًا، بينما الناس في عشر رمضان يكثرون من الأعمال الصالحة، فالمساجد فيها
القارئ، وفيها الداعي، ويتهجدون بالليل، لكن الناس في غفلة عن عشر ذي الحجة.
فعلى طلبة العلم أن يبينوا فضلها للعامة، فالعامة يحبون الخير، ولكن قد غفل طلبة العلم عن تنبيههم، فتجدهم لا يختلف عملهم فيها عن عملهم فيما قبلها، فيُحثُ الناس على الأعمال الصالحة،
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب العيدين، باب فضل العمل أيام التشريق (969) .(25/189)
ولاسيما التكبير في هذه العشر: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، أو الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، يجهر بها الرجال في المساجد والأسواق والبيوت، وتُسرُ بها النساء.
أسأل الله تبارك وتعالى أن يرزقنا جميعًا اغتنام الأوقات بالأعمال الصالحات، ويجنبا وإياكم منكرات الأخلاق، والأعمال والأقوال إنه على كل شيء قدير.(25/190)
فصل في أحكام الأضحية
قال فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى:
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد خاتم النبيين وإمام المرسلين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فإننا نلتقي وإياكم في هذه الليلة ليلة الثلاثاء المتممة لشهر ذي القعدة عام 1459هـ وهذا اللقاء سيكون موضوعه الأضحية وما يتعلق بها، وربما نشير إلى شيء من فضائل عشر ذي الحجة فنقول: إن هذه الأيام العشر عشر ذي الحجة من أفضل الأيام عند الله عز وجل، فقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر". وفي رواية: "أفضل عند الله من هذه الأيام العشر. قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء" (1) . وعلى هذا ينبغي لنا أن ننتهز هذه الفرصة العظيمة وهذا البلد الحرام لنعمل فيه العمل الصالح لكونه أحب إلى الله عز وجل من أي عمل في أي يوم آخر، حتى إن العمل في هذه الأيام أيام عشر ذي الحجة الأولى أفضل وأحب إلى الله من العشر الأواخر من رمضان، وهذا شيء غفل عنه الناس وأهملوه، حتى إن
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب العيدين، باب فضل العمل أيام التشريق برقم (969) .(25/191)
عشر ذي الحجة تمر بالناس وكأنها أيام عادية ليس لها فضل وليس للعمل فيها مزية.
فلنكثر فيها من كل عمل صالح يقربنا إلى الله عز وجل، من الصلاة، والذكر، والصدقة، والصوم، وكذلك الإحسان إلى الخلق بالجاه والبدن وكل ما يقرب إلى الله سبحانه وتعالى.
ولكن هناك أعمال صالحة خصصت في أيام معينة كالاعتكاف مثلاً، فلا يشرع أن تخص هذه الأيام العشر بالاعتكاف، وأن تعتكف فيها كما يعتكف في العشر الأواخر من شهر رمضان، إنما كان
الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعتكف فيها تحريًا لليلة القدر، ولهذا اعتكف العشر الأولى، ثم الأوسط، ثم قيل له: إنها في العشر الأواخر فاعتكف العشر الأواخر.
ويكون الذكر في عشر ذي الحجة على حسب ما جاء عن السلف من قولهم: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، أو يكون التكبير ثلاثًا: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله
إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد، يجهر بذلك الرجال في المساجد والأسواق والبيوت والمكاتب وغيرها، وتجهر المرأة بقدر ما تسمع من إلى جانبها، من دخول شهر ذي الحجة إلى آخر يوم من أيام التشريق، فتكون الأيام ثلاثة عشر يوماً، عشرة أيام آخرها العيد، وثلاثة(25/192)
أيام وهي أيام التشريق.
أما موضوع الأضحية: فإن الأضحية من نعمة الله سبحانه وتعالى، ومن رحمته، ومن حكمته أن شرع لأهل الحل الذين لم يقدر الله لهم أن يحجوا، شرع لهم ما يشاركون به إخوانهم في الحج،
فشرع لهم الأضاحي، وشرع لهم في العشر الأول من ذي الحجة ألا يأخذوا شيئًا هن شعورهم، وأظفارهم، وأبشارهم يعني جلودهم، كما ثبت ذلك في صحيح مسلم هن حديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذ من شعره، أو بشره، أو ظفره شيئًا حتى يضحي" (1) . خطاب يوجه إلى المضحي وليس المضحى عنه، وعلى هذا فالعائلة الذين يضحي عنهم صاحب البيت لا يحرم عليهم أخذ شيء من شعورهم وأظفارهم وأبشارهم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - خاطب من يضحي، فدل هذا أن الحكم خاص بالمضحي.
أما قول بعض أهل العلم أن الحكم عامٌ لمن يضحي ومن يضحي عنه، فهذا لا دليل عليه.
والأضحية هي: هن أفضل العبادات ولذلك قرنها الله تعالى في كتابه بالصلاة فقال: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) وقال: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الأضاحي برقم (1977) .(25/193)
وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لله رَبِّ الْعَالَمِينَ) (1) وقد اتفق العلماء على مشروعيتها، ولكن اختلفوا هل هي واجبة يأثم الإنسان بتركها، أو سنة مؤكدة يكره له تركها ولا يأثم عليه.
والجواب: هما روايتان عن الإمام أحمد رحمه الله، ومذهب أبي حنيفة رحمه الله وأحمد في إحدى الروايتين عنه أن الأضحية واجبة، ومن كان قادرَا ولم يضح فهو آثم عاص لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -.
وذهب مالك والشافعي وأحمد رحمهم الله في إحدى الروايتين عنه إلى أنها سنة مؤكدة، لكن أصحاب الإمام أحمد- رحمه الله- صرحوا بأنه يكره للقادر أن يدع الأضحية، وقد مال شيخ الإسلام
ابن تيمية رحمه الله إلى القول بالوجوب، وقال: إن الظاهر وجوب الأضحية؛ لأنها من شعائر الإسلام الظاهرة.
ولهذا كان ذبح الأضحية أفضل من الصدقة بثمنها حتى إنك لو ملأت جلدها بالدراهم وتصدقت بهذه الدراهم لكان ذبحها أفضل من ذلك، وليس الحكمة من الأضحية حصول اللحم وأكل
اللحم، ولكن الحكمة التقرب إلى الله تعالى بذبحها، قال تعالى: (لَنْ يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا الله عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) (2) فظن بعض
__________
(1) سورة الأنعام، الآية 162.
(2) سورة الحج، الآية: 37.(25/194)
الناس أنه المقصود من ذلك الآكل، والانتفاع باللحم، وهذا فهم قاصر، فالأهم أن تتعبد لله عز وجل بذبحها.
ولهذا كان من الخطأ أن يصرف الإنسان دراهم الأضاحي إلى الجهاد في أفغانستان ويدع الأضحية في بلده؛ لأن هذا يعني ترك شعيرة من شعائر الإسلام. وهؤلاء الأفغانيون وغيرهم من المجاهدين في سبيل الله يمكن أن يرسل لهم الإنسان دراهم ويجعل هذه الشعيرة في بيته وفي بلده لتقام شعائر الله عز وجل في أرض الله عمومًا.
والأضحية مشروعة للأحياء وليس للأموات، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحى عنه وعن أهل بيته (1) ، والصحابة رضي الله عنهم كان الرجل يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته، ولم أعلم إلى ساعتي هذه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحى عن أحد من أمواته، فقد مات له أقارب من أعز الناس عليه، استشهد عمه حمزة -رضي الله عنه- في أحد، وماتت زوجته خديجة رضي
الله عنها، وماتت بناته وأولاده رضي الله عنهم، ما عدا فاطمة رضي الله عنها، ولم يضح عن واحد منهم أبدًا، ولم أعلم إلى ساعتي هذه أن أحدًا من الصحابة رضي الله عنهم ضحى عن أمواته، فلم يكن من هدي الرسول عليه الصلاة والسلام ولا من هدي الصحابة إفراد
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (6/391) ،(25/195)
الميت بالأضحية ومن وجد شيئًا من هذا فليخبرنا به.
ولهذا نقول: الأصل في مشروعية الأضحية أن تكون عن الأحياء لا عن الأموات.
وقد اختلف العلماء هل تشرع عن الميت أم لا تشرع:
والجواب: قال بعض العلماء: أنها ليست بمشروعة، وقال آخرون: بل هي كالصدقة فقاسوها قياسًا على الصدقة لأنه لم يجدوا لها أصلاً في السنة، ولا شك أن الصدقة جاءت السنة بجوازها، فقد
جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إن أمي افتلتت نفسها وإنها لو تكلمت لتصدقت، أفأتصدق عنها؟ قال: "أنعم" (1) ، واستأذنه أبو لبابة رضي الله عنه أن يتصدق بمخرافه أي بنخله لأمه وقد ماتت فأذن له. أما أن أحدًا من الصحابة ضحى عن أمه أو
استأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يضحي عن أمه فهذا لم يرد.
والأضحية عن الميت تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أضحية أوصى بها الميت، فهنا نعمل بها ونضحي للميت لوصيته، وهذه الأضحية لا إشكال فيها؛ لأنها تنفيذ أمر أوصى به الميت.
القسم الثاني: أن يضحي عن الميت تبعًا، مثل أن يضحي
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الوصايا، باب ما يستحب لمن توفي فجأة برقم (2670) .(25/196)
الإنسان عنه وعن أهل بيته وينوي كل أقاربه الأحياء منهم والأموات وهذا أيضًا جائز ويمكن أن يقال: إن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم هذا عن محمد واس محمد" (1) يشمل الحي والميت منه ولكن الميت هنا دخل تبعًا والشيء الذي يتبع ليس كالشيء الذي يستقل.
القسم الثالث: أن يضحي للميت استقلالاً بدون وصية، فهذا هو ما ذكرته بأنه لا دليل عليه لا عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا عن الخلفاء الراشدين- رضي الله عنهم- أنهم ضحوا لأحد من الأموات استقلالاً بدون وصية.
وإذا قلت: إن الأضحية للأحياء وليس للأموات إلا تبعًا فهل مطلوب من أهل الميت أن يضحي كل واحد منهم عن نفسه؟ الجواب: لا، السنة أن يضحي رب البيت عنه وعن أهله، لا كل واحد في البيت يضحي ودليل ذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضحى بشاة واحدة عنه وعن أهل بيته، وقال أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه: (كان الرجل على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته) (2) ولو كان يشرع لكل واحد من أهل البيت أن يضحي لكان
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (6/391) .
(2) أخرجه الترمذي، كتاب الأضاحي، باب ما جاء أن الشاة الواحدة تجزى عن أهل البيت (1505) .(25/197)
ذلك ثابتًا في السنة، ومعلوم أن زوجات الرسول عليه الصلاة والسلام لم تكن واحدة منهن تضحي طوال صحبة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
فإن قال قائل لعل ذلك لفقرهن.
فالجواب: إن هذا احتمال وراد لكنه غير متيقن، لكنه جاء في الآثار بأن من زوجات الرسول - صلى الله عليه وسلم - من كانت غنية، وها هي أم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها- جاءت إليها فقيرة عليها دين كتابة أمة اشترت نفسها من أسيادها بتسع أواق من الفضة، والأوقية
أربعون درهم، فتكون تسع أواق ثلاث مئة وستين درهماَ، فجاءت تستعين أم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها- تقول: أعينيني قالت عائشة لها: (إن أحب أهلك أن أعدها لهم، ويكون ولاؤك لي
فعلت) (1) يعني أن أنقدها لهم نقدَا، وهذا يدل على أنه كان عندها مال، أتدرون كم تحصل من الغنم بثلاث مئة وستين درهماً. الشاة الواحدة تساوي والله أعلم عشرة دراهم.
والدليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في مسالة الزكاة: أنه يعطي معها شاتين أو عشرين درهماً، وهذا يدل على أن الشاة في ذلك الوقت تساوي عشرة دراهم.
إذن الحصول على الأضحية في ذلك الوقت متيسر، ومع ذلك
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب البيوع، إذا اشترط في البيع شروط لا تحل (2168) .(25/198)
لم يكن كل واحد من أهل البيت يذبح أضحية.
وفئة منا الآن أيسر الله عليها فصار بعض أصحاب البيوت كل فرد بأضحية مستقلة، ولعلهم يظنون أن الأضحية تشبه زكاة الفطر مطلوبة من كل واحد، وليس كذلك.
فالأضحية يذبحها قيّم البيت عن جميع أهل بيته وهذه هي السنة.
ثم إن الأضحية كما أشرت إليه آنفاً، المقصود منها: التقرب إلى الله بالذبح، بدليل أن الإنسان لو اشترى لحم عشر من الإبل وضحى بشاة واحدة فالأضحية بشاة واحدة أفضل، مع أن ذبح عشر من الإبل وتوزيعها على الفقراء أنفع لهم، لكن المقصود هو التقرب إلى الله تعالى بالذبح وعلى هذا نقول: إذا كانت الأضحية عبادة مشروعة فإن هذه العبادة يجب أن يتمشى فيها الإنسان على ما تقتضيه الشريعة، والشريعة، جاءت بشروط معينة للأضاحي وهي:
الشرط الأول: أن تكون من بهيمة الأنعام.
الشرط الثاني: أن تبلغ السن المعتبرة شرعًا.
الشرط الثالث: أن تكون سليمة من العيوب المانعة.
الشرط الرابع: أن تكون في الوقت المحدد لها شرعًا.
هذه هي الأضاحي التي جاء ذكرها في القرآن والسنة وأجمع(25/199)
المسلمون على مشروعيتها، ولا ينبغي للإنسان أن يدعها.
فإذا قال قائل: هل يجزئ أن يشترك جماعة في أضحية واحدة؟
والجواب: إن كانت من الإبل أو البقر فنعم يشترك فيها سبعه، والسُّبع يقوم مقام الواحدة من الغنم، وعلى هذا فإنه يجوز أن يضحي بالسبع من الإبل أو البقر عنه وعن أهل بيته، لأن الشرك جاء على سبع، والسبع قائم مقام الشاة، لكن ظن بعض الناس أنه لا يجوز أن يجعل الإنسان السبع عنه وعن أهل بيته، فهذا ليس له أصل لا من السنة ولا من كلام أهل العلم، وإنما يجزئ السبع عما تجزئ عنه الشاة، فكما أن الإنسان يجوز أن يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته ولو كانوا مئة، يجوز أن يضحي بالسُّبع عنه وعن أهل بيته ولو كانوا مئة.
فإذا قال قائل: هل يجوز أن تجمع وصايا في وصية واحدة إذا كانت لا تكفي؟.
فالجواب: لا يجوز، لأن كل واحد من الموصين يريد أضحية مستقلة، هذا من جهة؛ ولأن الشرع لم يأت باشتراك أكثر من واحد في الواحدة من الضأن، أو الماعز، وإنما جاء الاشتراك في الإبل
والبقر، ولو جوزنا أن نجمع سبع وصايا لحكمنا أن الشاة الواحدة تجزئ عن سبعة، وهذا خلاف ما جاء في الشرع.(25/200)
قد يقول قائل: أليس المراد الصدقة ولو أنك تصدقت بعشرة دراهم عن عشرة رجال لكانت جائزة؟
والجواب: نقول: لا، المقصود بالأضحية التقرب إلى الله عز وجل بالذبح، وإذا كان كذلك فلا بد من أن يكون جارَيا على ما تقتضيه الشريعة.
فإذا قال قائل: لو كانت الوصية لواحد لكنها نقصت عن العدد الذي عينه مثل أن يوصي شخص بثلثه ويجعل فيه عدة ضحايا فأضحية لوالديه، وأضحية لأجداده، وأضحية لزوجته، فنقص الريع
عن هذه الأضاحي، هل يجوز أن نجمعها في واحدة؟
الجواب: نعم يجوز؛ لأن الموصي واحد، ونحن نعلم علم اليقين أنه لو كان حيًّا لأجاز ذلك، والاشتراك في الثواب ليس كالاشتراك في الملك، بمعنى أنه يجوز أن أشرك في الثواب من شئت
حتى في الشاة الواحدة، فيجوز أن أقول هذه عني وعن أهل بيتي ولو كانوا عشرة، ويجوز أن أقول هذه عني وعن جميع المسلمين وهي شاة واحدة، فالثواب لا حصر له، لكن الملك لا يشترك اثنان فأكثر في أضحية واحدة، إلا فيما ورد الشرع فيه بالتعدد كالإبل والبقر.
ولعلنا نتمم ذلك بالكلام على العقيقة وهي: التي تذبح للمولود، وقد ثبتت في السنة، ومن العلماء من قال بوجوبها، وأن من(25/201)
لم يعق عن ولده فهو آثم ولا شك أن العقيقة سنة مؤكدة، عن الذكر شاتان وعن الأنثى شاة واحدة، تذبح في اليوم السابع، لأن أيام الدهر تمر على هذا المولود فلما مرت عليه الأيام كلها صار أنسب ما يكون فيه التكرار، فإذا ولد المولود في يوم فإن العقيقة تكون في اليوم الذي قبله. إذا ولد يوم السبت فالعقيقة يوم الجمعة. وإذا ولد يوم الجمعة فالعقيقة يوم الخميس، المهم أن تكون العقيقة في اليوم الذي قبل يوم ولادته.
والعقيقة تؤكل، ويُطعم منها الجيران والفقراء، ويدعى إليها أيضَا، فهي جامعة نجين الدعوة إليها، والإطعام منها، والصدقة.
وأما الأضاحي فإنه يؤكل منها ويهدى ويتصدق.
والعقيقة إذا لم تكن في اليوم السابع فمتى تكون؟
والجواب: قال العلماء: تكون في اليوم الرابع عشر، وإذا فات تكون في اليوم الحادي والعشرين، وإذا فاتت لأسابيع فتذبحها في أي يوم، ولكن ينبغي للإنسان أن يحرص على أن تكون في اليوم السابع.
أما تسمية المولود: فإذا لم يكن الاسم قد أُعدّ فيؤجل إلى اليوم السابع، ليكون في اليوم الذي تكون فيه العقيقة، وإذا كان قد أُعدّ قبل فيسمى حين ولادته.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وأصحابه أجمعين.(25/202)
العقيقة
*السنة في العقيقة
*معنى "كلام غلام مرتهن بعقيقته".
*ذبح العقيقة إذا قدم ضيف.
*من لم يجد ثمن العقيقة.
*الحكمة من كون العقيقة في اليوم السابع.
*المولود الميت هل يعق عنه؟
*الاشتراك في البدنة للعقيقة.
*من لم يعق عنه هل يعق عن نفسه؟
*حلق شعر المولود.
*هل يحلق شعر البنت؟
*التسمية وما يتعلق بها.
*من نزل منزلاً أو نجح في اختبار فهل يذبح ذبيحة؟(25/203)
س134: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: عن معنى العقيقة، وما السنة في توزيعها.
فأجاب بقوله: الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فالعقيقة، سنة مؤكدة ينبغي للقادر عليها أن يقوم بها، وهي مشروعة في حق الأب خاصة، تذبح في اليوم السابع من ولادة الطفل.
فإذا ولد في يوم الخميس مثلاً فإنها تذبح في يوم الأربعاء، وإذا ولد في يوم الأربعاء تذبح في يوم الثلاثاء.
المهم أنها تذبح قبل يوم من اليوم الذي ولد فيه من الأسبوع الثاني، وإنما ذكرت ذلك؟ لئلا يتعب الإنسان في العد متى يكون السابع.
فنقول: السابع هو ما قبل يوم ولادته من الأسبوع الثاني، فإذا ولد كما مثلت في الخميس كان يوم الأربعاء، وإذا ولد يوم الأربعاء كان يوم الثلاثاء وهلم جرّا، وتكون عن الذكر شاتان متكافئتان- أي متقاربتان في الكبر والسن والوصف- وعن الجارية الأنثى شاةً واحدة، وإن اقتصر على شاة واحدة في الذكر حصلت بها السنة، لكن الأكمل شاتان تذبح في اليوم السابع، ولابد أن تبلغ السن المعتبر(25/205)
شرعًا وهو: ستة أشهر بالنسبة للضأن، وسنة للماعز لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن تعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضان" (1) ، وهذا عام في كل ما يذبح تقربًا إلى الله عز وجل كالعقيقة والهدي والأضحية، ولابد أن تكون سليمة من العيوب المانعة من
الإجزاء وهي أربعة بينها النبي - صلى الله عليه وسلم - حين سئل: ماذا يُتقى من الضحايا؟ فقال: "أربعًا، وأشار بيده، العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البيِّن عرجها، والعجفاء" (2) ، يعني الهزيلة التي تنقي أي ليس فيها مخ، وما كان مثل هذه العيوب فإنه بمنزلتها.
أما مقدار ما يؤكل ويوزع؟
فنقول: يؤكل منها ويهدى ويتصدق، وليس هنالك قدر لازم اتباعه في ذلك، فيأكل ما تيسر، وجهدي ما تيسر، ويتصدق بما تيسر، وإن شاء جمع عليها أقاربه وأصحابه، إما في البلد وإما خارج البلد، ولكن في هذه الحال لابد أن يعطي الفقير منها شيئًا، ولا حرج أن يطبخها ويوزع هذا المطبوخ، أو يوزعها وهي نية، والأمر في هذا
واسع.
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الأضاحي، باب سن الأضحية برقم (1963) .
(2) أخرجه مالك في الموطأ، كتاب الضحايا برقم (1) .(25/206)
إذا لم يتيسر أن تذبح في اليوم السابع، فإن العلماء يقولون: تذبح في اليوم الرابع عشر، فإذا لم يتيسر تذبح في اليوم الحادي والعشرين، ثم بعد ذلك لا تعتبر الأسابيع، هكذا قال أهل العلم، والأمر في هذا واسع، لو أنه مثلاً ذبح في الثامن، أو العاشر، أما ما أشبه ذلك أجزأه، لكن الأفضل أن يحافظ على اليوم السابع.
س135: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "كل غلام مرتهن بعقيقته؟
فأجاب- رحمه الله- بقوله: معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "كل غلام مرتهن بعقيقته" (1) أن الغلام محبوس عن الشفاعة لوالديه يوم القيامة إذا لم يعق عنه أبوه، هكذا فسره بعض أهل العلم، وقال بعض العلماء: (مرتهن بعقيقته) يعني: أن العقيقة من أسباب انطلاق الطفل في مصالح دينه ودنياه، وانشراح صدره عند ذلك، وأنه إذا لم يعق عنه فإن هذا قد يحدث له حالة نفسية توجب أن يكون كالمرتهن، وهذا القول أقرب، وأن العقيقة من أسباب صلاح الولد، وانشراح صدره، ومضيه في أعماله.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (5/7، 12، 17) وأبو داود، كتاب الضحايا باب العقيقة (2838) والترمذي، كتاب الأضاحي، باب مدة العقيقة (1522) .(25/207)
س136: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: عن العقيقة إذا ذبحها بمناسبة قدوم ضيف فهل تجزئ؟
فأجاب بقوله: لا تجزئ؛ لأن العبادة يجب أن تكون خالصة، ولأنه لو فتح هذا الباب لانسد باب العقيقة، وصار كل من حصل له مناسبة ذبح شيئًا ونواه عقيقة، وإذا لم يكن مناسبة أخر العقيقة حتى تحصل المناسبة، وهذا معناه سقوط ذبح العقيقة بنية العبادة؛ ولأن فعل هذا مقصود به إحياء ماله ووقايته، وقد ذكر الإمام أحمد رحمه الله في المزكي أنه لا يحابي في زكاته، ولا يدفع بها مذمة، ولا يحيي بها مسألة، ولا فرق بين أن يعينها عقيقة من قبل أن ينزل به الضيف، أو يشتري ذلك بعد نزوله به؛ لأن المعنى واحد، وإذا كان قد عينها من قبل فلينتظر وليشتر للضيف غيرها، نعم لو ذبحها قبل نزول الضيف به ثم صادف نزوله به بعد ذلك فهذا لا شك أنها تجزئ، أو نوى أن يذبحها في اليوم المعين فنزل به الضيف ذلك اليوم فالظاهر أنها تجزئ أيضًا.
س137: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: عن معنى العقيقة؟ وهل هي سنة مؤكدة أو مستحبة؟ ومن لم يفعلها هل هو آثم؟
فأجاب بقوله: العقيقة هي: الذبيحة عن المولود، وهي(25/208)
مأخوذة من العق وهو: القطع؛ لأن الذابح يقطع أوداجها وما يجب أن يقطع في حال الذبح.
وهي سنة للمولود الذكر اثنتان، وتجزئ واحدة، وللأنثى واحدة، والسنة أن يكون ذبحها في اليوم السابع من ولادته، قال العلماء: فإن فات ففي أربعة عشر، فإن فات ففي واحد وعشرين، فإن فات ففي أي يوم، ويأكل منها، ويهدي ويتصدق، وإن شاء جمع عليها أصحابه وأقاربه وجيرانه، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى وجوبها على القادر، والصحيح أنها ليست بواجبة على القادر، وإنما
يكره للقادر تركها.
س138: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما معنى عقيقة المولد؟ وهل هي فرض أم سنة؟
فأجاب بقوله: عقيقة المولود هي: الذبيحة التي تذبح تقربًا إلى الله عز وجل، وشكرًا له على نعمة المولود في اليوم السابع من ولادته.
وقد اختلف أهل العلم في كونها سنة، أو واجبة، وأكثر أهل العلم على أنها سنة مؤكدة، حتى إن الإمام أحمد- رحمه الله- قال: يقترض ويعق.(25/209)
يعني أن الذي ليس عنده مال يقترض ويعق، ويخلف الله عليه، لأنه يحي سنة، والمراد بقوله رحمه الله (يقترض) أي من يرجو الوفاء في المستقبل، وأما الذي لا يرجو الوفاء في المستقبل فلا ينبغي أن
يقترض ليعق؟ وهذا من الإمام أحمد رحمه الله دليل على أنها سنة مؤكدة وهو كذلك، فينبغي أن يعق الإنسان اثنتين عن الذكر، وعن الأنثى واحدة، وتكون في اليوم السابع يأكل منها، وجهدي ويتصدق، ولا حرج أن يتصدق منها، ويجمع عليها الأقارب والجيران يأكلونها مطبوخة مع الطعام.
س139: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: عن رجل لم يذبح العقيقة لكونه لا يجد المال فهل عليه شيء؟
فأجاب بقوله: ليس عليك شيء ما دمت لا تستطيع أن تقوم بهذا العمل؛ لأن الله تعالى يقول في كتابه: (فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُمْ) (1) ويقول: (لا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) (2) وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" (3) ، فإذا كان الإنسان فقيرَا عند
__________
(1) سورة التغابن، الآية: 16.
(2) سورة البقرة، الآية: 286.
(3) أخرجه مسلم، كتاب الفضائل، باب توقيره - صلى الله عليه وسلم - وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه أو لا يتعلق به تكليف وما لا يقع ونحو ذلك (1337) .(25/210)
ولادة أولاده فليس عليه عقيقة؛ لأنه عاجز والعبادات تسقط بالعجز عنها.
س140: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: الهدايا التي تقدم للأطفال حديثي الولادة هل للأم التصرف فيها بإهداء أو بيع أو نحوه؟
فأجاب- رحمه الله- بقوله: الهدايا التي يهدى للمولود أول ما يولد هي ملك له، والأم ليس لها ولاية على ولدها مع وجود أبيه، وعلى هذا فلا يحل لها أن تتصرف فيها إلا بإذن أبيه، فإذا أذن فلا
بأس، وسواء كان المولود بنتًا أو ابنًا الحق في المال للأب لا للأم.
س141: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل يستدين الإنسان لأجل العقيقة؟
فأجاب بقوله: الاستقراض من أجل العقيقة ينظر إذا كان يرجو الوفاء كرجل موظف لكن صادف وقت العقيقة أنه ليس عنده دراهم فاستقرض من أحد حتى يأتي الراتب، فهذا لا بأس به، وأما
إذا كان لا يرجو الوفاء ليس له مصدر يرجو الوفاء منه فهذا لا ينبغي له أن يستقرض.(25/211)
قال الإمام أحمد رحمه الله في العقيقة: يقترض يخلف الله عليه، لأنه أحيا سنة، لكن يُحمل كلامه على ما ذكرت على التفصيل، يعني شخصًا يستطيع أن يوفي، وإذا كان معسرًا في الطفل الأول وبعد أربعة أطفال أنعم الله عليه بالمال فإنه يبتدئ من الأخير الذي أنعم الله عليه حين ولادته، أما الأولون فقد سقطت عنه عقيقتهم؛ لأنه كان معسرًا.
س142: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: من لم يعق عن أحدٍ من أولاده فماذا عليه الآن؟
فأجاب- رحمه الله- بقوله: إذا عق عنهم الآن فهو حسن، إذا كان جاهلاً أو يقول: غدًا أعق، حتى تمادى به الوقت.
أما إذا كان فقيرًا حين مشروعية العقيقة فلا شيء عليه.
س143: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما الحكمة في أن العقيقة تسن في السابع؟
فأجاب- رحمه الله- بقوله: ذكر ابن القيم أن من الحكمة في ذلك أن اليوم السابع يصادف تمام مرور أيام الدهر عليه كلها، قال رحمه الله: وحكمة هذا والله أعلم أن الطفل حين يولد يكون أمره
متردداً فيه بين السلامة والعطب إلى أن تأتي عليه مدة يستدل بما(25/212)
يشاهد من أحواله فيها على سلامة بنيته، وصحة خلقته، وأنه قابل للحياة، وجعل مقدار تلك المدة أيام الأسبوع، فإنه دور يومي، وهذه الأيام أول مراتب العمر، فإذا استكملها المولود انتقل إلى المرتبة الثانية وهي الشهور، كانت ستة الأيام غاية تمام الخلق، وجعل فك رهانه في اليوم السابع، كما جعل الله اليوم السابع من الأسبوع عيدًا لهم، وفيه اجتماع الخليقة، وقد جرت حكمة الله بتغيير حال العبد في كل سبعة، والسبعة طور من أطواره وطبق من أطباقه. اهـ بمعناه.
س144: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما رأيك فيمن يؤخر العقيقة عن وقتها؟ وما معنى قول النبي ي: (كل غلام مرتهن بعقيقته) (1) ؟ حفظكم الله ورعاكم
فأجاب بقوله: الصحيح أن العقيقة ليست واجبة وأنها سنة مؤكدة ولا ينبغي للإنسان تركها حتى إن الإمام أحمد رحمه الله قال: (إذا لم يجد فليستقرض ويخلف الله عليه، إنه أحيا سنة) لكن قول
الإمام أحمد رحمه الله فليستقرض مقيد بما إذا كان يرجو الوفاء كإنسان حلت عليه العقيقة وليس عنده دراهم لكن يعرف في آخر الشهر سيأتيه الراتب، فهذا نقول له: استقرض واذبح العقيقة في
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (5/7) .(25/213)
وقتها في اليوم السابع، أما الإنسان الذي لا يرجو الوفاء فلا يستقرض؛ لأن العقيقة سنة، والدين واجب قضاؤه، أما من أخرها بلا عذر وكان من نيته أن يفعل لكنه تهاون فهذا- إن شاء الله-
يؤجر عليها، لكن أجرها أقل من ذبحها في وقتها وهو اليوم السابع من ولادته، فإذا ولد الإنسان في يوم الأربعاء فتكون العقيقة يوم الثلاثاء، وهذه قاعدة في اليوم الذي قبل ولادته تكون العقيقة، وإن
ولد يوم الأربعاء فالعقيقة يوم الثلاثاء، وإن ولد يوم الثلاثاء فالعقيقة يوم الاثنين، وإن ولد يوم الاثنين فالعقيقة يوم الأحد وهلم جرًّا.
وأما التوزيعْ فالأفضل: أن يوزعها ويدعو إليها، يوزع البعض على الفقراء وعلى الجيران ويدعو حتى يظهر السنة وتتبين السنة.
ومعنى الحديث: "كل غلام مرتهن بعقيقته" (1) قال بعض أهل العلم: إنه مرتهن لا يشفع لوالديه يوم القيامة، ولكن ابن القيم- رحمه الله- ضعف هذا القول، وقال: مرتهن أنه يكون منحبسًا
منقبضًا، قد يفوته الكثير من المصالح؛ لأن المرتهن الشيء المحبوس، كما لو رهنت مثلاً السيارة عند الدائن فقد انحبست عنك مصلحتها.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (5/7) .(25/214)
س145: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل هناك زمن محدد لذبح العقيقة؟ ومتى يحلق شعر المولود؟ وهل هو خاص بالذكر؟
فأجاب- رحمه الله- بقوله: شعر المولود يحلق في اليوم السابع إذا كان ذكرًا، وأما الأنثى فلا يحلق رأسها، وإذا حلق شعر الرأس فإنه يتصدق بوزنه فضة كما جاء في الحديث (1) ، فالأفضل أن تكون في اليوم السابع، قال العلماء: فإن فات اليوم السابع ففي اليوم الرابع عشر، فإن فات ففي اليوم الحادي والعشرين، فإن فات ففي أي وقت، على أنه لا حرج أن يذبح العقيقة في اليوم السادس، أو الخامس، أو العاشر، أو الثاني عشر، لكن الأوقات المفضلّة هي: فقط السابع، والرابع عشر، والحادي والعشرين.
س146: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل تشرع العقيقة للميت؟
فأجاب بقوله: الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين وبعد:
__________
(1) أخرجه الترمذي، كتاب الأضاحي، باب العقيقة بشاة (1519) .(25/215)
العقيقة لا تشرع للميت وإنما تشرع عند الولادة في اليوم السابع من ولادة الإنسان، فيشرع لأبيه أن يعق عن هذا الولد، سواء كان ذكرًا أم أنثى، لكن الذكر له عقيقتان، والأنثى لها عقيقة واحدة،
تذبح في اليوم السابع ويؤكل منها ويتصدق، ولا حرج على الإنسان إذا ذبحها في اليوم السابع أن يدعو إليها أقاربه وجير انه، وأن يتصدق منها بشيء، فيجمع بين هذا وهذا، وإذا كان الإنسان غير واسع اليد، وعق عن الذكر بواحدة أجزأ ذلك.
قال العلماء: وإذا لم يمكن في اليوم السابع ففي اليوم الرابع عشر، فإن لم يمكن ففي اليوم الحادي والعشرين فإن لم يمكن ففي أي يوم شاء.
وأما الميت فإنه لا يعق عنه، ولكن يدعى له بالرحمة والمغفرة، والدعاء له خير من غيره؟ ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له" (1) فقال عليه الصلاة والسلام: أو ولد صالح يدعو له، ولم يقل: (أو ولد صالح يصوم له، أو يصلي له، أو يتصدق عنه) أو ما أشبه هذا، فدل على أن الدعاء أفضل من العمل الذي يهدى إلى الميت، وإن أهدى الإنسان إلى الميت عملاً صالحًا كأن
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته (1631) .(25/216)
يتصدق بشيء ينويه للميت، أو يصلي ركعتين ينويها للميت، أو يقرأ قرآن يقرأه للميت فلا حرج في ذلك، ولكن الدعاء أفضل من هذا
كله؛ لأنه هو الذي أرشد إليه النبي - صلى الله عليه وسلم -.
س147: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: رجل له بنات ولم يعق لهن، وهن الآن متزوجات فما على والدهن؟
فأجاب بقوله: العقيقة سنة مؤكدة، للذكر اثنتان وللأنثى واحدة، وإذا اقتصر على واحدة للذكر فلا حرج، وهي سنة في حق الأب، فإذا جاء وقت العقيقة وهو فقير فليس عليه شيء، لقول الله
تعالى: (فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُمْ) (1) وإذا كان غنيًّا فهي باقية على الأب، وليس على الأم ولا على الأولاد شيء منها.
س148: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: رجل أجل عقيقة ولده حتى ترجع زوجته إلى بيته بعد الولادة؟ لكي يجمع عليها الأقارب، فهل يجوز أم لا؟
فأجاب بقوله: الظاهر الإجزاء إن شاء الله، إذا أظهر أنها هي عقيقة الولد.
__________
(1) سورة التغابن، الآية: 16.(25/217)
س149: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل يجوز أن يشترك سبعة من الرجال في جل، ولكنها ليس في أضحية وإنما في عقيقة قياسا على الأضحية؟
فأجاب بقوله: لا يصح الاشتراك في البقر أو الإبل في العقيقة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر في العقيقة أنها عن الغلام شاتان، وعن الجارية شاة (1) ، فلابد من نفس كاملة، ولو اشترك جماعة في بعير لم يكن كل واحد منهم أتى بنفس كاملة إنما أتى ببعض نفس، ولهذا قال العلماء:
إنه لا يجزئ في العقيقة اشتراك في بعير أو بقرة، بل قالوا: إن الشاة في باب العقيقة أفضل من البعير، فلو جاءنا إنسان وقال: أنا أحب أن أعق عن ولدي بقرة صغيرة هل هذا أفضل أو أن أعق بشاة؟ قلنا: الشاة أفضل؛ لأن هذا هو الذي وردت به السنة، ودع البقرة الصغيرة لك للأكل، أما العقيقة فاذبحها من الغنم كما جاء في الحديث.
س150: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: جماعة إذا ولد لهم مولود يوم الخميس قاموا بذبح خروف الخميس المقبل وتوزيعه لثلاثة أقسام، قسمان للأصهار وقسم للزوج، فهل يصح فعلهم،
وإذا لم يعط الأصهار سبب شقاق ونزاع؟
__________
(1) رواه أبو داود (برقم 2835) .(25/218)
فأجاب- رحمه الله- بقوله: ما ذكر عن عمل هؤلاء في العقيقة، فنقول: العقيقة سنة مؤكدة لا ينبغي للقادر عليها أن يدعها، وُيسن أن تذبح في اليوم السابع من الولادة، لا في اليوم الثامن كما قال السائل.
فإذا ولد في يوم الأربعاء مثلاً كانت العقيقة في يوم الثلاثاء، وإذا ولد في يوم الثلاثاء كانت العقيقة يوم الاثنين، وإذا ولد في يوم الاثنين كانت العقيقة في يوم الأحد، وإذا ولد في يوم الأحد كانت
العقيقة في يوم السبت، وهكذا.
ثم أن العقيقة لا تسن من غير الغنم لا تسن من البقر ولا من الإبل، وإنما السنة أن تكون من الغنم، عن الذكر شاتان وعن الأنثى شاة واحدة، ومع قلة ذات اليد تكفي شاة واحدة عن الذكر.
ثم إنه لا ينبغي أن يكون بين الزوج وأصهاره شيء من الشقاق والنزاع من أجل توزيع هذه العقيقة، بل توزع إما أثلاثًا، أو أنصافًا، يجعل للفقراء منها نصيب، وللأهل والجيران منها نصيب،
وللأصدقاء منها نصيب، وإن شاء صاحبها إذا أدى ما للفقراء منها أن يطبخها ويجمع عليها فلا بأس، والأمر في هذا واسع، قال العلماء: وإذا فات ذبحها في اليوم السابع فإنها تذبح في اليوم الرابع عشر، وإذا فات في اليوم الرابع عشر فإنها تذبح في اليوم الحادي والعشرين،(25/219)
وما بعد ذلك لا تعتبر الأسابيع، ولكن ليحرص على أن يكون ذبحها في اليوم السابع.
س151: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله- هل يجوز ذبح الماعز قي العقيقة أم لا يجوز؟ وهل يجوز ذبحها في العرس؟
فأجاب- رحمه الله بقوله-: أما سؤاله عن ذبح الماعز في العقيقة فيجوز؛ لأنه قد يظن الظان أنه لا يجزئ إلا الشاة من الضأن، وليس كذلك، فتجزئ الواحدة من الضأن أو الماعز، والأفضل من الضأن، وأن تكون سمينة كثيرة اللحم، وهي عن الغلام شاتان وعن الجارية الشاة تذبح في اليوم السابع.
قال أهل العلم: فإن فات ففي اليوم الرابع عشر، فإن فات ففي اليوم الحادي والعشرين ثم لا تعتبر الأسابيع بعد ذلك فبعد الحادي والعشرين يذبحها في أي يوم، والماعز تقوم مقام الشاة، والبعير والبقرة تقوم مقام الشاة، لكن لا شرك فيها، فلا يمكن أن يجمع سبع عقائق في بعير أو بقرة؛ لأنه لابد أن تكون نفسَا مستقلة.
وأما السؤال الثاني: عن ذبح الماعز في العرس فلا وجه له؛ لأن المقصود في العرس إقامة الوليمة سواء بالدجاج أو الماعز أو بالضأن أو بالبقر أو بالغنم.(25/220)
س152: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: من لم يعق عن أولاده ثم توفي فهل تسقط العقيقة، أو يعق الأولاد عن أنفسهم؟
فأجاب بقوله: العقيقة سنة مؤكدة على القادر وهي شاتان عن الذكر وشاة عن الأنثى، والأفضل ذبحها يوم السابع من الولادة، فإذا ولد في يوم الثلاثاء مثلاً فيوم عقيقته يوم الاثنين من الأسبوع
الثاني، وإذا ولد يوم الجمعة فيوم عقيقته يوم الخميس من الأسبوع الثاني وهكذا، فإن فات السابع ففي اليوم الرابع عشر، وإن فات الرابع عشر ففي اليوم الحادي والعشرين، فإن فات اليوم الحادي
والعشرين ففي أي يوم، هكذا قال الفقهاء رحمهم الله.
وإذا كان الإنسان وهو أبو الولد في ذلك الوقت غير موسر فإنها تسقط عنه العقيقة؛ لأنها إنما تشرع لمن كان موسرًا، أما الفقير فإنه لا يكلف بها وهو عاجز عنها لقول الله تعالى: (فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُمْ) (1) وقوله: (لا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) (2) فهذا الرجل الذي قد مات وعنده أبناء لم يعق عنهم ننظر إذا كان معسرًا لم يتمكن من العق عنهم فإنها لا تقضى عنه، لأنها ليست مشروعة في حقه، وإن كان موسرًا ولكن ترك ذلك تهاونًا فإن كان في الورثة قصر أي دون
__________
(1) سورة التغابن، الآية: 16.
(2) سورة البقرة، الآية: 286.(25/221)
البلوغ أو عندهم تخلف في العقل فإنه لا يؤخذ من نصيبهم شيء لهذه العقيقة، وإن كانوا أي الورثة مرشدين وأحبوا أن يعقوا من مال والدهم باتفاق الجميع فلا بأس، وإن لم يكن ذلك وأراد كل واحد منهم أن يعق عن نفسه نيابة عن أبيه، أو قضاء عن أبيه فلا بأس.
س153: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: من علم أن والده لم يعق عنه فهل يقوم بالعقيقة، ولو بلغ عمره أربعين سنة؟
فأجاب بقوله: يرى بعض أهل العلم أن الإنسان يجوز له أن يعق عن نفسه إذا كان أبوه لم يعق عنه.
ويرى آخرون أن العقيقة مختصة بالأب فهو المسئول عنها أولاً وآخراً، فإن عق فله الأجر وإن لم يعق فقد فاته الأجر.
س154: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: من لم يعق عن أولاده، وقد توفي بعضهم فماذا يلزمه؟
فأجاب رحمه الله- بقوله: إذا كان هؤلاء الذين ماتوا أو كبروا ولدوا في حال فقر لأبيهم وعدم القدرة على العقيقة فإنه لا شيء عليه؛ لأنه حين وجود السبب كان غير قادر على تنفيذ العقيقة فلا
شيء عليه.(25/222)
أما إذا كان حين ولادة هؤلاء وحلول عقيقتهم كان غنيًا ولكن طالت به الأيام فإنا نرى أنه ينبغي له أن يعق الآن عن الأحياء وعن الأموات.
س155: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل الإنسان إذا لم يعق عنه وهو صغير هل تشرع له وهو كبير؟
فأجاب بقوله: إن كان أبوه فقيرًا وقت مشروعية العقيقة فلا شيء عليه ولو اغتنى فيما بعد، كما أن الرجل لو كان فقيرًا لا زكاة عليه ولو اغتنى فيما بعد فتسقط العقيقة لعدم القدرة عليها، وأما إذا
كان غنيًّا وأخر العقيقة، فهذا يعق ولو كبر الولد.
أما الوقت الأفضل لذبح العقيقة ففي: اليوم السابع، ثم الرابع عشر، ثم الحادي والعشرين، ثم بعد ذلك لا تعتبر الأسابيع، وهي للذكر اثنتان وإن اقتصر على واحدة أجزأ، وللأنثى واحدة،
والأفضل ألا يزيد؛ لأنه إذا فتحت باب الزيادة صار الناس يتباهون في هذا، وربما تصل إلى عشرات، فيقال: اقتصره على السنة.
فإذا قال: لي أصحاب، ولي أقارب، ولي جيران، قلنا: وليكن إن كفت الواحدة للأنثى أو الاثنتان للذكر هذا المطلوب، وإن لم تكف فاشتر دجاجًا، أو لحمًا، ولا تذبح سوى ما جاءت به السنة.(25/223)
س156: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: من له مجموعة من الأولاد، ولم يعق إلا عن واحد منهم فماذا يلزمه؟
فأجاب بقوله: إذا كان هذا الأب الذي لم يعق عن جميع أولاده فقيرًا فلا شيء عليه؛ لأن العقيقة مثل الزكاة فكما أن الفقير لا زكاة عليه، فالفقير لا عقيقة عليه، وأما إذا كان غنيًّا ويقول اليوم، غدًا، بعد غد فهنا نقول: عق عن أولادك الذين لم تعق عنهم، فإذا أراد شخص أن يعق عن نفسه فليستأذن من أبيه ويقول: إني أريد أن أعق عن نفسي؛ لأن المخاطب بالعقيقة هو الأب.
س157: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: رجل لم يعق عن بناته حيث توفين وهن صغار فماذا يلزمه؟
فأجاب- رحمه الله- بقوله: إذا كان وقت مشروعية العقيقة فقيرًا فإنها تسقط عنه ولا شيء عليه، وإن كان قادراً لكنه يقول اليوم أعق، غدًا أعق، إلى يومنا هذا، فإنه يعق الآن ولا شيء عليه، وإن كان قد تعمد الترك فإنه لا ينفعه أن يعق الآن.
فالأحوال ثلاثة: إذا كان فقيرًا حين مشروعية العقيقة فلا شيء عليه، إن كان غنيًّا، ولكنه يقول اليوم، غدًا، بعد غد فيعق الآن.
وإن كان غنيًّا ولكن تعمد أن يتركها فإنه لا يعق.(25/224)
س158: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: عن مولود توفي بعد الولادة مباشرة هل تجب له العقيقة؟
فأجاب بقوله: إذا ولد المولود بعد تمام أربعة أشهر فإنه يعق عنه ويسمي؛ لأنه بعد أربعة أشهر تنفخ فيه الروح ويبعث يوم القيامة.
س159: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: السقط هل له عقيقة؟ وإذا مات بعد الولادة بيومين أو نفخت عليه شهر أو أكثر، فهل يعق عنه؟
فأجاب- رحمه الله بقوله: السقط إذا مات قبل أربعة أشهر فليس بآدمي، بل هو قطعة لحم يدفن في أي مكان كان، ولا يغسل، ولا يكفن، ولا يصلى عليه، ولا يبعث يوم القيامة.
وإذا كان بعد أربعة أشهر فقد نفخت فيه الروح وصار إنسانًا، فإذا سقط فإنه يغسل ويكفن ويصلى عليه، ويسمى ويعق عنه، لكن العقيقة عنه ليست كالعقيقة عمن ولد حيًّا، وبقي يومًا أو يومين،
والعقيقة عمن بقي يومًا أو يومين ليست كالعقيقة عمن أتم سبعة أيام، ولهذا بين النبي عليه الصلاة والسلام "أن العقيقة تذبح في اليوم السابع" (1) ، فمن العلماء من قال: إذا مات الطفل قبل اليوم
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (5/7) .(25/225)
السابع أو خرج ميتًا فإنه لا يعق عنه؛ لأنه لم يأت الوقت الذي تسن فيه العقيقة وهو اليوم السابع.
ولهذا قلنا: إن المسألة على الترتيب: من سقط من بطن أمه قبل أن يتم له أربعة أشهر، فهذا لا يعق عنه ولا يسمى، وليس له حكم الآدمي، فلا يغسل، ولا يكفن، ولا يصلى عليه، ويدفن في أي مكان من الأرض.
ومن سقط بعد أربعة أشهر ميتًا فإنه يغسل ويكفن ويصلى عليه، ويسمى ويعق عنه.
ومن سقط حيًّا وبقي يوم أو يومين ومات قبل السابع فهو كذلك أيضا يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن في المقابر مع الناس، ويعق عنه، وهذا هو الذي فيه خلاف، ومن بقي إلى اليوم السابع ثم
مات بعده فإنه يغسل ويكفن ويصلى عليه، ويدفن مع المسلمين، ويسمى ويعق عنه.
س160: سئل فضيلة الشيخ رحمه الله-: الطفل الذي يولد ميتًا، أو الذي لا يعيش إلا يومين هل يعق عنه؟ وهل يسمى؟
فأجاب- رحمه الله- بقوله-: إذا كان قد نفخت فيه الروح وهو الذي بلغ أربعة أشهر فإنه يسمى ويعق عنه، ويغسل، ويكفن،(25/226)
ويصلى عليه، ويدفن مع المسلمين ويبعث يوم القيامة، وإن كان قبل نفخ الروح فيه أي قبل أربعة أشهر فليس عنه عقيقة، ولا يسمى، ولا يغسل ولا يكفن، ولا يدفن في المقابر، وإنما يحفر له حفرة في مكان ما ولدفن.
س161: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: امرأة رزقت بستة أولاد ولم يعق زوجها إلا عن اثنين منهم، والباقي منهم ماتوا في أول أعمارهم، فهل تعق عنهم؟
فأجاب بقوله: ليس عليها شيء في ذلك؛ لأن المخاطب بالعقيقة هو الأب، وإذا جاء زمن العقيقة وهو غير قادر سقطت عنه؛ لأن الله عز وجل قال: (لا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) (1) ، فإذا كان الرجل الذي ليس عنده مال يسقط عنه الحج، وتسقط عنه الزكاة فهذا من باب أولى، فنقول: إن أباهم إذا كان حين ولادتهم غير قادر على العق عنهم فليس عليه شيء، وإذا كان غنيَا فقد ترك مستحبَا، وأما أنت أيتها المرأة وأولادك فلا شيء عليكم إطلاقَا؛ لأنكم غير مطالبين
بالعقيقة وإنما المخاطب هو الأب.
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 286.(25/227)
س162: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: عن طفل مات قبل اليوم السابع بيوم واحد، ولم يسم ولم يعق عنه، ولم يصل عليه، وقد مضى عليه ثلاث سنوات فماذا يلزم والده الآن؟
فأجاب بقوله: الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد خاتم النبيين، وإمام المتقين، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
الواجب في حق هذا الطفل أن يغسل ويكفن ويصلى عليه سواء كان أبوه حاضرًا أم غائبًا، والقضية المسؤول عنها أن هذا الطفل لم يصل عليه- ولا أدري إن غسل وكفن أم لا- لكن ما ذكر
في السؤال من أنه: لم يصل على الطفل، فإن كان أبوه يعلم مكان قبره فليذهب إلى قبره وليصل عليه ولو بعد ثلاث سنوات، فإن لم يعلم قبره صلى عليه صلاة الغائب، لتعذر حضوره بين يديه.
فإن قال قائل: لماذا لا تقولون يذهب إلى المقبرة ويجعل القبور كلها بين يديه ويصلي؟
قلنا الجواب: لا نقول هذا؛ لأنه حتى لو فعل هذا الفعل قد يكون محاذيًا لوسط القبور وابنه في الطرف اليمين أو الشمال فلا يتمكن من محاذاته، ولا سبيل إلى ذلك إلا أن يصلي عليه صلاة
الغائب.(25/228)
أما بالنسبة للتسمية: فليسمه الآن ولا حرج.
وأما بالنسبة للعقيقة: فليعق الآن؛ لأن كون العقيقة في اليوم السابع سنة فقط، ولو ذبحت في غير اليوم السابع أجزأت.
والعقيقة الأفضل أن تكون عن الذكر شاتين وعن الأنثى شاة واحدة، وإن اقتصر في الذكر على شاة واحدة أجزأت لكن الاثنتان أفضل.
س163: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل الولد الصغير الذي يسقط قبل أن يتم هل له عقيقة أم لا؟
فأجاب بقوله: ما سقط قبل تمام أربعة أشهر فهذا ليس له عقيقة، ولا يسمى ولا يصلى عليه، ويدفن في أي مكان من الأرض.
وأما بعد أربعة أشهر فهذا قد نفخت فيه الروح؟ فيسمى ويغسل، ويكفن، ويصلى عليه، ويدفن مع المسلمين، ويعق عنه على ما نراه، لكن بعض العلماء يقول: لا يعق عنه حتى يتم سبعة أيام حيًّا، لكن الصحيح أنه يعق عنه، لأنه سوف يبعث يوم القيامة، ويكون شافعً الوالديه.
س164: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: أم قد توفي بعض أطفالها قبل أن يُعق عنهم فهل تلزمها العقيقة بعد وفاتهم؟(25/229)
فأجاب بقوله: العقيقة وهي: الذبيحة التي تذبح للمولود في يوم سابعه.
وتكون اثنتين للذكر، وواحدة للأنثى، هي من شؤون الأب ومن مسؤوليات الأب، والأم ليس عليها عقيقة لأولادها، وإنما يخاطب بذلك الأب وحده، فإن كان موسرًا فإن الأفضل في حقه أن
يذبح للغلام شاتان وعن الجارية شاة، وإن كان معسرَا فلا يكلف الله نفسًا إلا ما آتاها، وليس عليه شيء.(25/230)
رسالة
فضيلة الشيخ/ محمد بن صالح العثيمين- حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هل يجوز لهيئة الإغاثة الإسلامية العالمية أن تأخذ المال الخاص بالعقيقة، لكي تنفذه خارج البلاد وتوزعه على الفقراء والمحتاجين في تلك البلاد وجزاكم الله خيرًا؟
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
الجواب: هذا كالأضحية تمامًا، فالعقيقة تعق عن الإنسان في بيته ليتبين أنها شكر لله على هذا الولد من ذكر أو أنثى، أما أن تصرف دراهم لمن كان بعيدًا فهذا لمس بصواب، وليس من كمال السنة،
ويجب على الإغاثة الإسلامية ألا يكون همها جمع المال سواء كان عن طريق فاضل، أو عن طريق مفضول، بل الواجب اتباع ما هو أفضل وأحب إلى الله عز وجل.
والتبرع له باب، والشعائر لها باب، فلذلك يجب أن تنتبه هيئة الإغاثة لذلك، ويجب أن ننبه الناس على هذا ونقول: زكاة الفطر، والأضحية والعقيقة والهدي كلها لا تخرج من البلاد تكون في البلاد، أما زكاة المال هل تخرج وفي البلد فقراء، أو لا تخرج؟ ففيها خلاف مشهور بين العلماء.(25/231)
س165: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: عن سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - عند ولادة المولود؟
فأجاب- رحمه الله بقوله: من السنة حين يولد المولود: أن يؤذن في أذنه اليمنى الأذان المعروف، قال أهل العلم: ليكون أول ما يسمعه هو الدعاء إلى الصلاة، والدعاء إلى الفلاح، مع تكبير الله
وتوحيده.
ومن السنن: أنه إذا كان اليوم السابع حلق رأس الذكر، وتصدق بوزنه فضة، وتذبح العقيقة في اليوم السابع، وهي شاتان عن الذكر، وشاة واحدة عن الأنثى، تذبح في اليوم السابع، ويؤكل
منها ويوزع منها هدية وصدقة.
وأما التسمية فإن كان الاسم قد أُعّد من قبل الولادة فلتكن التسمية عند الولادة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل على أهله ذات يوم وقال: "ولد لي الليلة ولد، وسميته إبراهيم " (1) وإن كانت التسمية لم تُعدّ فلتكن في اليوم السابع عند ذبح العقيقة، وينبغي للإنسان أن يُحسّن
اسم ابنه، واسم ابنته، وأحب الأسماء إلى الله من أسماء الذكور عبد الله وعبد الرحمن، وكذلك ما عبد لله عز وجل، مثل عبد الكريم، وعبدا لعزيز، وعبد الوهاب، وعبد المنان، وما أشبه ذلك، ثم أسماء
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الفضائل، باب رحمته غغع بالصبيان والعيال (2315) .(25/232)
الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مثل: محمد، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ويوسف، وما أشبه هذا، ثم الأسماء الأخرى التي يعتادها الناس ما لم يكن اسمًا لا يليق بالبشر أو كانت أسماء لأصنام، أو أسماء
لرؤساء كفرة وما أشبه ذلك فإنه لا يسمى بها، ويحرم أن يسمى مولود باسم يعبد لغير الله تعالى كعبد الكعبة، أو عبد النبي، أو عبد الرسول، أو عبد الحسين، وكذلك الأسماء التي تدل على تزكية فإنه لا يسمى بها ولهذا غير النبي - صلى الله عليه وسلم - اسم برة إلى اسم زينب (1) ، لأن برة
فيها تزكية.
س166: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما السنة التي تُفعل عندما يرزق المسلم بمولود؟
فأجاب بقوله: من السنة أولاً: أن يبادر بتسميته إذا كان قد هيئ الاسم، وأحب الأسماء إلى الله عبد الله، وعبد الرحمن وهذا أفضل ما يكون أن تسمي ابنك عبد الله أو عبد الرحمن، والظاهر لي:
- والله أعلم- أنه يلي هذا كل اسم مضاف إلى أسماء الله عز وجل مثل عبد الوهاب وعبد الكريم وعبد الحفيظ وعبد الولي وما أشبه
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الأداب، باب استحباب تغيير الاسم القبيح إلى حسن وتغيير اسم برقم (140) .(25/233)
ذلك، فاختر له من الأسماء أحسن الأسماء.
ثانيًا: إذا كان هناك شخص يحنكه فيمضغ تمرة ويمسحها بحنك الصبي، فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ولد للصحابة ولد أتوا به يحنكه (1) .
وهذا من العلماء من قال: إنه خاص بالرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأن ريقه بركة وغيره لا يساويه.
ومنهم من قال: إن الحكمة من ذلك: أنه يكون أول ما يصل إلى معدة هذا المولود طعم التمر؛ لأن التمر فيه خير كثير، فمريم بنت عمران عندما جاءها المخاض يسر الله لها نخلة فبقيت عند جذع
النخلة فقيل لها: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً) (2) ، والله أعلم هل هذا رطب من أصله، أو أن الله خلقه في الحال فالله أعلم لكن الآية تدل: على أنها امرأة أجاءها المخاض إلى جذع النخلة، والمرأة النفساء في العادة تكون ضعيفة ومع هذا قيل لها (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) (3) والمعنى: أسفلها والعادة أن أسفل
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب العقيقة، باب تسمية المولود، ومسلم، كتاب الأداب، باب استحباب تحنيك المولود (1689) .
(2) سورة مريم، الآية: 25.
(3) سورة مريم، الآية: 25.(25/234)
النخلة إذا هزه الإنسان لا يهتز أعلاه، ثم تدل الآية على أنه: إذا هزت جذعها وتساقط عليها وهو رطب جني فلا يفسدُ بسقوطه على الأرض، والعادة أن الرطب إذا سقط من فوق فسد وهذه من آيات الله عز وجل.
ثالثًا: ويشرع أيضًا العقيقة له يوم السابع فإذا ولد يوم الخميس فالسابع الأربعاء يعني أن السابع قبل ولادته بيوم، وإذا ولد يوم السبت فالسابع الجمعة.
ويسن للغلام شاتان متقاربتان في السن، وفي اللون، وفي الجسم، وللأنثى واحدة فإن لم يكن عند الإنسان إلا مال واحدة بالنسبة للذكر قلنا: تكفي الواحدة، وإذا لم يكن عنده شيء فتسقط
عنه العقيقة لقول الله تعالى: (فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُمْ) (1) .
رابعًا: من أهم ما يكون بالنسبة للأولاد مراعاة الأولاد ورعايتهم؛ لأن الإنسان مسؤول عنهم بالقرآن والسنة، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً) (2) ومعنى الآية:
أن الله عز وجل وكلنا بأولادنا، وقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: أالرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، (3) .
__________
(1) سورة التغابن، الآية: 16.
(2) سورة التحريم، الآية: 6.
(3) أخرجه البخاري، كتاب الجمعة، باب الجمعة في القرى والمدن (893) .(25/235)
فيجب على الإنسان أن يراعي أهله وأولاده أشد مما يراعي أمواله، وكثير من الناس اليوم يراعون الأموال أكثر من الأولاد، فتجده يبيت الليل ساهرًا على دفاتره، وتجارته، ولكن لا يبالي بولده
وهذا غلط عظيم. فالمال الذي أنت تبيت ساهرًا عليه لمن يكون؟ إما أن تنفقه في حياتك ويكون ماَله بيت الخلاء.
وإما أن تبقيه بعدك فيكون للورثة.
لكن ولدك إذا صلح على يدك فإنه يدعو لك في حياتك، وبعد موتك، وتسلم من المسؤولية.
فمن أهم ما يكون تربية الأولاد وليعلم الإنسان أنه مسؤول، أسأل الله أن يعينني وإياكم على تربية أولادنا وتوجيههم الوجهة الصحيحة.
س167: سئل فضيلة الشيخ رحمه الله-: ما حكم الأذان في أذن المولود والإقامة، وهل التحنيك خاص بالرسول عليه الصلاة والسلام وما كيفيته؟
فأجاب بقوله: الإقامة حديثها ضعيف (1) .
__________
(1) أخرجه ابن السني، عمل اليوم والليلة (623) ، والهيثمي، المجمع (4//59) وقال: (رواه- أبو يعلي وفيه مروان الغفاري، وهو متروك) وضعفه الألباني. سلسلة الأحاديث الضعيفة (321) .(25/236)
والأذان حديثه مقبول (1) .
وأما التحنيك: فإن كان لعلة أن يكون أول ما يصل إلى معدة الطفل التمر فهو مشروع لكل أحد.
وإن كان المقصود التبرك بالريق فهذا خاص بالرسول - صلى الله عليه وسلم - (2) ، وما دمنا في شك هل هي على سبيل السنة أو التبرك فإننا نتركها فلا نحنكه، وإن حنكناه فلا بأس.
وأما كيفية التحنيك: أن الإنسان يمضغ التمرة ويخرجها من فمه ويجعلها في فم الصبي.
س168: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: بالنسبة للأذان في أذن المولود اليمنى والإقامة في اليسرى هل هو من السنة وله أصل؟
فأجاب بقوله: أما الأذان فله أصل، وحديثه حسن ولا بأس به (3) ، ولكن يكون الأذان عند الولادة قبل أن يسمع أي شيء، ليكون أول ما يسمعه النداء إلى الصلاة والفلاح.
__________
(1) أخرجه الترمذي، كتاب الأضاحي، باب الأذان في أذن المولود (1514) وقال: حديث حسن صحيح.
(2) أخرجه البخاري، كتاب العقيقة، باب تسمية المولود غداة يولد لمن يعق عنه وتحنيكه (17) ومسلم كتاب الطهارة باب حكم بول الطفل الرضيع (286) .
(3) أخرجه الترمذي (1514) .(25/237)
أما الإقامة فحديثها ضعيف (1) .
س169: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل من السنة أن الرجل إذا أراد أن يسمي المولود أن يأخذه إلى رجل صالح وتقي ليحنكه ويسميه؟
فأجاب الشيخ- رحمه الله- بقوله: التحنيك يكون حين الولادة حتى يكون أول ما يطعم هذا الذي حنك إياه.
ولكن هل هذا مشروع لغير النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فيه خلاف، فمن العلماء من قال: التحنيك خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - للتبرك بريقه عليه الصلاة والسلام (2) ، ليكون أول ما ينفذ لمعدة هذا الطفل ريق النبي - صلى الله عليه وسلم - الممتزج بالتمر ولا يشرع هذا لغيره.
ومنهم من قال: بل يشرع لغيره؛ لأن المقصود أن يطعم التمر أول ما يطعم، فمن حنك مولودَا حين ولادته فلا حرج عليه، ومن لم محنك فلا حرج عليه.
__________
(1) ابن السني في عمل اليوم والليلة (623) ، والهيثمي (4/59) وضعفه الألباني "الضعيفة" (321) .
(2) أخرجه البخاري، كتاب العقيقة، باب تسمية المولود وتحنيكه (17) ، ومسلم، كتاب الطهارة، باب حكم بول الطفل الرضيع (286) .(25/238)
س170: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: من قال: إنه لا يجوز تسمية المولود إلا بعد أسبوع، فهل يصح قوله؟
فأجاب رحمه الله- بقوله: المولود إذا كان اسمه قد هيئ من قبل فالأفضل أن يسمى من حين الولادة، وإن كان لم يهيأ فالأفضل أن يكون يوم السابع، دليل ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال حين وُلد ولده إبراهيم قال لأهله: "ولد لي الليلة ولد فسميته إبراهيم" (1) فسماه حين
ولادته عليه الصلاة والسلام، أما في السابع فقال عليه الصلاة والسلام: "كل كلام مرتهن بعقيقته، فاذبحوا عنه يوم سابعه ويحلق ويسمى" (2) والجمع بين الحديثين هو ما ذكرنا إن كان اسمه قد هيئ
فيسمى من حين الولادة، وإن لم يهيا قبل الولادة ينتظر حتى يكون اليوم السابع.
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الفضائل، باب رحمته - صلى الله عليه وسلم - بالصبيان والعيال (2315) .
(2) أخرجه أحمد (5/17) .(25/239)
بسم الله الرحمن الرحيم
فصل في آداب المولود
قال فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى:
آداب المولود:
1- التأذين في أذن المولود دون الإقامة؟ لثبوت حديث الأذان (1) ، دون حديث الإقامة (2) ، ويؤذن في أذنه عند ولادته.
2- الدعاء له بالبركة وتحنيكه: والتحنيك هو تليين التمرة ووضعها في فم الصبي ودلك حنكه بها، قال النووي- رحمه الله- اتفق العلماء على استحباب تحنيك المولود عند ولادته.
3- يسمى المولود إما في يوم ولادته، أو يسمى في اليوم السابع. فقد جاءت التسمية يوم الولادة من فعله - صلى الله عليه وسلم - حين سمى ابنه إبراهيم (3) ، وجاء الأمر القولي منه - صلى الله عليه وسلم - بالتسمية يوم السابع (4) .
4- يحلق رأس المولود الذكر دون الأنثى في اليوم السابع ويتصدق بوزن شعره من الفضة (5) .
__________
(1) الترمذي (1514) .
(2) ابن السني (623) .
(3) مسلم (2315) .
(4) أخرجه أحمد (5/17) .
(5) الترمذي (1519) .(25/240)
5- يعق عنه في اليوم السابع، للغلام شاتان والجارية شاة؟ لحديث سمرة -رضي الله عنها- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كل غلام رهينة بعقيقته، تذبح عنه يوم سابعه، ويسمى فيه، ويحلق رأسه" (1) .
6- الختان: وهو واجب بالنسبة للذكور، سنة للإناث، ويستحب أن يكون في اليوم السابع فما بعده.
حرر في 30/3/1416هـ.
__________
(1) أخرجه أحمد (5/17) .(25/241)
س171: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل الأذان في أذن المولود والإقامة في أذنه الأخرى سنة أم لا؟
فأجاب- رحمه الله بقوله: أما أحاديث الإقامة فإنها ضعيفة (1) ، وأما حديث الأذان في أذنه اليمنى فلا بأس به، على أن فيه مقالاً أيضًا (2) ، ولكن هذا يكون حين الولادة مباشرة.
قال العلماء: والحكمة في ذلك أن يكون أول ما يسمعه الأذان، الذي هو النداء إلى الصلاة والفلاح، وفيه تعظيم الله وتوحيده، والشهادة لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة.
س172: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل يصح الأذان في ْأذن المولود والإقامة في الأخرى؟ وما الحكم إذا لم يؤذن في أذنه عند ولادته؟
فأجاب بقوله: الأذان عند ولادة المولود سنة، وأما الإقامة فحديثها ضعيف فليست بسنة، ولكن هذا الأذان يكون أول ما يسمع المولود.
وإذا فات وقت الولادة فهي سنة فات محلها فلا تقضى.
__________
(1) ابن السني في عمل اليوم والليلة برقم (623) .
(2) الترمذي (1514) .(25/242)
س173: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل ورد من أحكام المولود حلق شعره والتصدق بوزنه؟
فأجاب- رحمه الله بقوله: أما الأول وهو: حلق شعر الرأس والتصدق بوزنه فضة فالحديث صحيح (1) ، وهو خاص بالذكر لا بالأنثى، فالأنثى لا يحلق رأسها.
س174: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل من السنة حلق شعر رأس المولود؟
فأجاب بقوله: حلق رأس الغلام سُنة جاء به الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يحلق ويتصدق بوزنه (2) ورقًا أي (فضة) ، لكن بشرط أن يكون هناك حالق حاذق لا يجرح الرأس ولا يحصل فيه مضرة على الطفل، فإن لم يوجد فأرى ألا يحلق، وأن يتصدق بشيء يقارب وزن
شعره من الفضة.
س175: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل يُسن حلق شعر البنت عند ولادتها من أجل جال الشعر ووفرته؟
__________
(1) الترمذي (1519) .
(2) الترمذي (1519) .(25/243)
فأجاب بقوله: حلق شعرها لا يسن في اليوم السابع كما يسن في حلق رأس الذكر، وأما حلقه للمصلحة التي ذكرت إذا صحت فإن أهل العلم يقولون: إن حلق الأنثى رأسها مكروه، لكن قد
يقال: إنه إذا ثبت أن هذا مما يسبب نشاط الشعر ووفرته فإنه لا بأس به؛ لأن المعروف أن المكروه تزيله الحاجة، أو تزيل كراهته الحاجة.
س176: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل ورد بأنه يحلق شعر المولود في اليوم السابع، والتصدق بوزنه ذهباً؟
فأجاب- رحمه الله بقوله: ورد في هذا حديث في السنن (1) اعتمده أهل العلم أنه يحلق في اليوم السابع ويتصدق بوزنه ورقًا ولكنه خاص بالذكر فقط يتصدق بوزن الشعر ورقًا، أي فضة وليس
ذهبًا، وأما الأنثى فلا يحلق رأسها.
س177: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: يقوم بعض الناس عندما يرزق بمولود بالتأذين في أذنه اليمنى والإقامة في اليسرى فهل هذا ورد في السنة؟
__________
(1) الترمذي (1519) .(25/244)
فأجاب رحمه الله- بقوله: هو وارد في السنة لكن أحاديث الإقامة ضعيفة (1) ، أما الأذان فهي أقوى (2) ، فلهذا نقول: يؤذن في أذنه اليمنى أول ما يولد، وغالب الناس الآن أنهم لا يتمكنون من
هذا لأن الأولاد تولدهم الممرضات في المستشفى، لكن إذا كان الإنسان قد حضر الولادة فإنه ينبغي أن يؤذن في أذنه اليمنى، ولكن ليس بصوت مرتفع حتى لا تتأثر الأذن، قال العلماء: من أجل أن
يكون أول ما يطرق سمعه الأذان والدعوة إلى الصلاة.
س178: سئل فضيلة الشيخ رحمه الله-: عن حكم اختيار أسماء الأطفال مثل أفنان وآلاء من القرآن هل في ذلك حرج؟
فأجاب بقوله: الكلام على نفس الاسم، هل فيه محظور؟ فإنه لا يسمى به سواء كان مما جاء في القراَن أم لا، أما إذا لم يكن فيه محظور فلا بأس به، سواء مما جاء في القراَن أم مما لم يأت به.
س179: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما الجمع بين حديث:
__________
(1) ابن السني (623) .
(2) الترمذي (1514) .(25/245)
"تسموا باسمي ولا تكتنوا بكنيتي" (1) وبين حديث: "ما الذي أحل اسمي وحرم كنيتي" (2) ؟
فأجاب بقوله: الجمع بين هذين الحديثين اختلف فيه العلماء على النحو التالي:
أ- أن الحديث الثاني ناسخ للأول، وعلى هذا فالتسمي باسمه والتكني بكنيته جائز.
ب- أن حديث المنع إنما كان عن الجمع بينهما أي بين الاسم والكنية، أما إذا أفرد أحدهما فلا بأس، ويدل له ما رواه الترمذي عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من تسمى باسمي فلا يتكنى بكنيتي، ومن اكتنى بكنيتي فلا يتسمى باسمي" (3) ، وهذا الحديث قال فيه الترمذي: إنه حسن غريب.
ج- أن المنع إنما كان في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - فيحمل حديث المنع على
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "سموا باسمي ولا تكتنوا بكنيتي! (6187) ، ومسلم، كتاب الآداب، باب النهي عن التكني بابي القاسم وبيان ما يستحب من الأسماء (2131) .
(2) أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب في الرخصة بين الجمع بين الاسم والكنية (4967) .
(3) أخرجه الترمذي، كتاب الاستئذان والآداب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب ما جاء في كراهية الجمع بين اسم النص - صلى الله عليه وسلم - وكنيته (2842) .(25/246)
ذلك، وأما بعد وفاته فلا بأس به، ويدل له حديث علي، رضي الله عنه، أنه قال: قلت يا رسول الله، إن ولد لي ولد من بعدك أسميه باسمك وأكنيه بكنيتك قال: "نعم" (1) ، رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.
د- العمل بحديث المنع وأنه لا يجوز التكني بكنية النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعنى هذا أنه يرجح حديث المنع على حديث الجواز، وأن حديث الجواز لا يعارض حديث المنع؛ لأن حديث المنع أصح، وهذا هو ما رجحه ابن القيم في الهدي، فقال: إن التكني بكنيته ممنوع، والمنع في حياته أشد، والجمع بينهما ممنوع منه. ا. هـ.
س180: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: رجل سمى ابنه القاسم فما حكم تكنيته بذلك؟
فأجاب بقوله: التكني بأبي القاسم لا بأس به؛ لأن الصحيح أن النهي عنه إنما هو في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام حين كان الناس ينادونه، فيتوهم الإنسان أنه رسول الله، حتى أنه نادى رجل
رجلاَ بالبقيع: يا أبا القاسم. التفت إليه وسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال: يا
__________
(1) أخرجه الترمذي، كتاب الاستئذان والآداب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب ما جاء في كراهية الجمع بين اسم النبي- - صلى الله عليه وسلم - وكنيته (2843) .(25/247)
رسول الله، إني لم أَعْنِكَ إنما دعوت فلانًا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي" (1) .
ولهذا كان التكني بأبي القاسم في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام منهي عنه، أما بعد ذلك فلا بأس.
س181: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: عن شخص يلقب بأبي لهب؟
فأجاب بقوله: أرى أن أقل أحوال هذا اللقب أو هذه الكنية الكراهة.
لأن اللقب: ما أشعر بمدح أو ذم.
والكنية: ما صدر باب أو أم أو نحوهما.
وقد يكون هذا جامعًا بين اللقب والكنية، المهم أن أقل أحوال هذا اللقب أو هذه الكنية الكراهة؛ فقد قال الله عز وجل: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) (2) ولربما يتخيل الإنسان نفسه بمنزلة أبي لهب في
صلفه وكبريائه ويتأثر بهذا اللقب وقد قال الشاعر:
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الآداب، باب النهي عن التكني بابي القاسم، وبيان ما يستحب من الأسماء (2131) .
(2) سورة المسد، الآية: 1.(25/248)
وقل إن أبصرت عيناك ذا لقب إلا ومعناه إن فكرت في لقبه
س182: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما حكم تسمية الأسر بمثل: الناصر، العلي، الماجد، الخالد، وهل يسمى بحجة الإسلام؟ وهل تسمى الأحياء بمثل الرحمانية؟
فأجاب بقوله: أما الناصر والخالد وما أشبهها فلا بأس بها؛ لأن المراد بها آل ناصر آل خالد، لكن فيها شيئًا من الحذف للتسهيل. وأما حجة الإسلام: فلا يصح وصف أحد به؛ لأن كل ما عدا
الرسول عليه الصلاة والسلام فإن قوله ليس بحجة، إلا من أمرنا باتباعهم وهم الخلفاء الراشدون؛ لأن قولهم حجة ما لم يخالف نصًّا، ويخالف قول صحابي آخر، فإن خالف النص فالنص مقدم على قول كل أحد، وإن خالف قول صحابي آخر طلب الترجيح بإن القولين (1) .
فالمهم أن: حجة الإسلام لا تقال إلا لمن قوله حجة فقط.
وأما من ليس قوله حجة فإنه لا يقال له حجة، وكيف يكون حجة في الإسلام وهو غير معصوم من الخطأ.
__________
(1) وقد فصل شيخنا- رحمه الله- القول في مسالة حجية أقوال الصحابة- رضي الله عنهم- في كتاب (العلم) صن 205.(25/249)
أما الرحمانية التي يسمى بها بعض الأحياء فلا بأس بها.
س183: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: عن حكم التسمية ببعض الأسماء الموجودة في القرآن كأفنان وأمثال وبيان؟
فأجاب بقوله: لا حرج أن يسمي أبناءه أو بناته بكلمات يأخذها من القرآن إلا إذا كانت ممنوعة بعينها مثل أبرار، فإنه لا يسمى بها؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير اسم برة إلى زينب (1) ، وجويرية (2) .
وكذلك: بيان، فلا يسمى به؛ لأن البيان هو: القرآن كما قال تعالى: (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) (3) . ومن سمى بيان فليغيره.
س184: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله: ما حكم التسمية بمثل آلاء، وأنفال، وإسراء، ومعارج، وأبرار، وطه، ويس، ونسرين؟
فأجاب بقوله: على كل حال أحب الأسماء إلى الله: عبد الله
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الآداب، باب استحباب تغيير الاسم القبيح إلى حسن، وتغيير اسم برة إلى زينب، وجويريه ونحوهما (2142) .
(2) أخرجه مسلم في الموضع السابق (2140) .
(3) سورة آل عمران، الآية: 138.(25/250)
وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام، والأسماء والحمد لله كثيرة بدون إشكال، أما ما جاء في القرآن فما كان خاصًا بالقرآن فلا يسمى به مثل بيان، وموعظة، وما أشبه ذلك.
وما لم يكن خاصًا بالقرآن فإنه لا بأس بالتسمية به إذا لم يكن فيه تزكية، فأبرار مثلاً لا يسمى به لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير اسم برة (1) وهي واحدة فكيف بأبرار؟! لكن أفنان وأغصان وآلاء لا شيء فيها.
س185: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما حكم تسمية البنت بمهاد؟
فأجاب بقوله: لا بأس أن تسميها بمهاد؛ لأنه لا محذور فيه.
س186: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما حكم التسمي بهذه الأسماء شمس الدين، محيي الدين، قمر الدين وغير ذلك من الأسماء؟
فأجاب بقوله: هذه الأسماء كلها حادثة لم تكن معروفة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا في عهد أصحابه، إنما وجد سيف الله، أو أسد الله، أما
__________
(1) مسلم (2142) .(25/251)
الأوصاف التي تنم عن ديانة فهذه إنما حدثت أخيرًا، وقد تصدق على من تسمى بها، وقد لا تصدق، والذي أرى العدول عن هذه الألقاب، كما أن فيها مفسدة أخرى وهي أن الملقب قد يزهو بنفسه ويعجب بها، ويترفع بهذا اللقب على غيره.
س187: سئل فضيلة الشيخ رحمه الله-: ما خير الأسماء؟
فأجاب بقوله: خير الأسماء بل أحب الأسماء إلى الله عبد الله، وعبد الرحمن، وأما حديث (خير الأسماء ما حمد وعبد) (1) فهذا حديث ليس بصحيح، بل هو موضوع مكذوب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والذي صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "أحب الأسماء إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام" (2) .
س188: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: عن رجل عنده موظف اسمه عبد الرسول فقام بتعديل اسمه في سجلات
__________
(1) المقاصد الحسنة برقم (425) ..
(2) أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب في تغيير الأسماء (4950) وعند مسلم بلفظ: "إن أحب أسمائكم إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن". كتاب الآداب، باب النهي عن التكني باب القاسم، وبيان ما يستحب من الأسماء (2132) .(25/252)
العاملين إلى عبد رب الرسول فهل عمله صحيح؟
فأجاب بقوله: هذا العمل لا شك أنه صحيح من حيث الجملة؛ لأنه لا يجوز لأحد أن يعبد أحدًا لغير الله، كما نقل الإجماع على ذلك ابن حزم- رحمه الله- لمن قال: (اتفقوا على تحريم كلل
اسم معبد لغير الله حاشا عبد المطلب) ولكن تغيير الاسم الذي اشتهر به الشخص لا يمكن من حيث الوضع النظامي إلا بمراجعة الأحوال المدنية حتى يتبين الأمر ولا يحصل التباس، وعندي أنه لو
حصل التغيير فإن الأفضل أن نغير الاسم تمامًا فلا نقول: عبد رب الرسول، بل نقول: عبد الله، أو عبد الرحمن أو عبد الوهاب، أو عبد الحميد، أو عبد المجيد، وما أشبه ذلك.
أما عبد رب الرسول ففيه طول كما هو ظاهر. ثم إن كل من سمع هذا التعديل عرف أنه فيه شيئاً من التكلف، ثم إن من سمع هذا التغيير سينقدح في ذهنه أن أصل هذا الاسم عبد الرسول، وربما
يكون عنده عناد، ولاسيما إذا كان من أولئك الذين يعظمون الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما يعظمون الله أو أكثر، فيستمر في عناده فيبقى الاسم على أوله على: عبد الرسول، فإذا غير أصلاً واجتث هذا الاسم أعني: عبد الرسول إلى تعبيد الله عز وجل: كعبد الله، أو عبد الرحمن، أو عبد العليم، أو عبد الوهاب، وما أشبه ذلك كان أحسن وأفضل.(25/253)
س189: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: عن التسمي بالإمام؟
فأجاب بقوله: التسمي بالإمام أهون بكثير من التسمي بشيخ الإسلام لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -، سمى إمام المسجد إمامًا ولو لم يكن معه إلا واحد، لكن ينبغي ألا يتسامح في إطلاق كلمة "إمام" إلا على من كان قدوة وله أتباع كالإِمام أحمد وغيره ممن له أثر في الإِسلام، ووصف الإنسان بما لا يستحقه هضم للأمة، لأن الإِنسان إذا تصور أن هذا إمام لم يبلغ منزلة الإمامة هان الإمام الحق في عينه.
س190: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: عن حكم التسمي بإيمان؟
فأجاب بقوله: الذي أرى أن اسم إيمان فيه تزكية وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه غير اسم "برة" خوفًا من التزكية، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن زينب كان اسمها برة، فقيل تزكي نفسها، فسماها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زينب (10/575 فتح) ، وفي صحيح مسلم (3/1687) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كانت جويرية
اسمها برة فحول النبي - صلى الله عليه وسلم -، اسمها جويرية وكان يكره أن يقال: خرج من عند برة، وفيه أيضًا (1688) عن محمد بن عمرو ابن عطاء قال: سميت ابنتي برة فقالت لي زينب بنت أبي سلمة: إن(25/254)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، نهى عن هذا الاسم وسُمّيتُ برة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تزكوا أنفسكم، الله أعلم بأهل البر منكم" فقالوا: بم نسميها؟ قال: "سموها زينب" فبين النبي - صلى الله عليه وسلم -، وجه الكراهة للاسم الذي فيه التزكية وأنها من وجهين:
الأول: أنه يقال: خرج من عند برة، وكذلك يقال: خرج من برة.
والثاني: التزكية والله أعلم منا بمن هو أهل للتزكية.
وعلى هذا ينبغي تغيير اسم إيمان؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عما فيه تزكية، ولاسيما إذا كان اسمًا لامرأة لأنه للذكور أقرب منه للإناث لأن كلمة (إيمان) مذكر ة.
س191: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: عن التسمي بإيمان؟
فأجاب بقوله: اسم إيمان يحمل نوعًا من التزكية ولهذا لا ينبغي التسمية به لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - غيّر اسم برة لكونه دالاًّ على التزكية، والمخاطب في ذلك هم الأولياء الذين يسمون أولادهم بمثل هذه الأسماء التي تحمل التزكية لمن تسمى بها، أما ما كان علمًا مجردًا لا يفهم منه التزكية فهذا لا بأس به.
ولهذا نسمي بصالح وعلي وما أشبههما من الأعلام المجردة التي لا تحمل معنى التزكية.(25/255)
س192: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما حكم هذه الألقاب "حجة الله" "حجةْ الإسلام" "آية الله"؟
فأجاب بقوله: هذه الألقاب "حجة الله" "حجة الإسلام" ألقاب حادثة لا تنبغي؛ لأنه لا حجة لله على عباده إلا الرسل.
وأما "آية الله" فإن أريد المعنى الأعم فهو يدخل فيه كل شيء:
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
وإن أريد أنه آية خارقة فهذا لا يكون إلا على أيدي الرسل عليهم الصلاة والسلام، لكن يقال عالم، مفتي، قاضي، إمام لمن كان مستحقًّا لذلك.
س193: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: عن حكم التسمي بأسماء الله مثل كريم، وعزيز ونحوهما؟
فأجاب بقوله: التسمي بأسماء الله- عز وجل- يكون على وجهين:
الوجه الأول: وهو على قسمين:
القسم الأول: أن يحلى بـ "ال " ففي هذه الحال لا يسمى به غير الله- عز وجل- كما لو سَمّيْت أحد بالعزيز- والسيد- والحكيم- وما أشبه ذلك فإن هذا لا يسمى به غير الله، لأن "ال " هذه تدل على(25/256)
لمح الأصل وهو المعنى الذي تضمنه هذا الاسم.
القسم الثاني: إذا قصد بالاسم معنى الصفة وليس محلى بـ "ال " فإنه لا يسمى به ولهذا غيّر النبي - صلى الله عليه وسلم - كنية أبي الحكم التي تكنى بها؛ لأن أصحابه يتحاكمون إليه فقال النبي عليه الصلاة والسلام: "إن الله هو الحكم وإليه الحكم" (1) ثم كناه بأكبر أولاده شريح فدل ذلك على أنه إذا تسمى أحد باسم من أسماء الله ملاحظًا بذلك معنى الصفة التي تضمنها هذا الاسم فإنه يمنع؛ لأن هذه التسمية تكون مطابقة تمامًا لأسماء الله- سبحانه وتعالى- فإن أسماء الله- تعالى- أعلام وأوصاف لدلالتها على المعنى الذي تضمنه الاسم.
الوجه الثاني: أن يتسمى بالاسم غير محلى بـ "ال " وليس المقصود به معنى الصفة فهذا لا بأس به مثل حكيم، ومن أسماء بعض الصحابة حكيم بن حزام الذي قال له النبي عليه الصلاة والسلام: "لا تبع مما ليس عندك " (2) وهذا دليل على أنه إذا لم يقصد بالاسم معنى الصفة فإنه لا بأس به.
لكن في مثل "جبار" لا ينبغي أن يتسمى به، وإن كان لم يلاحظ الصفة؛ وذلك لأنه قد يؤثر في نفس المسمى فيكون معه جبروت
__________
(1) أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب تغيير الاسم القبيح.
(2) أخرجه أحمد (2/174) .(25/257)
وعلو واستكبار على الخلق فمثل هذه الأشياء التي قد تؤثر على صاحبها ينبغي للإنسان أن يتجنبها. والله أعلم.
س194: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما حكم التسمي بعزيز وشهيد؟
فأجاب بقوله: أما عزيز فكنت أرى أنه لا بأس به، لأن الذين يسمون (عزيز) لا يقصدون العزة، لكن اطلعت على حديث في النهي عن اسم عزيز (1) .
أما شهيد: فالشهيد مفرد شاهد، والله تعالى قد أثبت الشهادة للناس فقال سبحانه: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ) (2) لكن أخشى إذا سمي بشهيد أن ينصرف الذهن أول ما ينصرف إلى شهادة الله عز وجل، فإنه شهيد على عباده.
فتجنب هذين الاسمين لاشك أنه أولى، وفي الأسماء الخالية من المحاذير غنى، ومن أراد أن يعرف الأسماء فليرجع إلى كتاب (الإصابة في معرفة الصحابة) لابن حجر- رحمه الله-، ففيه أسماء
بالمئات، وتضييق الإنسان على نفسه حتى يأتي بمثل هذه الأشياء من المؤسف، والناس الآن يبحثون عن أي اسم شاذ فيسمون به، فتجد
__________
(1) سنن أبي داود/ كتاب الأدب/ باب تغيير الاسم القبيح.
(2) سورة البقرة، الآية 282.(25/258)
مثلاً من يسمي: بأفنان، وأظن أيضاً أغصان، وما أشبه ذلك، وذكر لي رجلاً سمى ولده: نكتل، وقال: هذا موجود في القرآن في قوله تعالى: (أَخَانَا نَكْتَلْ) (1) فظنوا أن (نكتل) بدل (من أخانا) ، و (نكتل) هذا: فعل مضارع مجزوم، لكنه الجهل.
فالحمد لله عندك الأسماء كثيرة: كعبد الله وعبد الرحمن وهي أحب الأسماء إلى الله، وأسماء الأنبياء: كمحمد وعيسى وموسى ويوسف وما أشبه ذلك.
س195: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: عن حكم التسمي بأسماء الله تعالى مثل الرحيم والحكيم؟
فأجاب بقوله: يجوز أن يسمي الإنسان بهذه الأسماء بشرط: ألا يلاحظ فيها المعنى الذي اشتقت منه.
وأن تكون مجرد علم فقط، ومن أسماء الصحابة الحكم، وحكيم ابن حزام، وكذلك اشتهر بين الناس اسم: عادل وليس بمنكر.
أما إذا لوحظ فيه المعنى الذي اشتقت منه هذه الأسماء فإن الظاهر أنه لا يجوز؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -، غيّر اسم أبي الحكم الذي تكنى
__________
(1) سورة يوسف، الآية 63.(25/259)
به؛ لكون قومه يتحاكمون إليه وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله هو الحكم وإليه الحكم" ثم كناه بأكبر أولاده شريح وقال له: "أنت أبو شريح" (1) .
وذلك أن هذه الكنية التي تكنى بها هذا الرجل لوحظ فيها معنى الاسم، فإن هذا مماثلاً لأسماء الله- سبحانه وتعالى- لأن أسماء الله- عز وجل- ليست مجرد أعلام، بل هي أعلام من حيث دلالتها
على ذات الله- سبحانه وتعالى- وأوصاف من حيث دلالتها على المعنى الذي تتضمنه، وأما أسماء غيره- سبحانه وتعالى- فإنها مجرد أعلام إلا أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنها أعلام وأوصاف، وكذلك أسماء كتب الله- عز وجل- فهي أعلام وأوصاف أيضًا.
س196: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما حكم التسمي بعبد الرسول، وعبد النبي، وعبد الرضى، وعبد المحمود، ورحمة الله، حبيب الله، ودفع الله، وجاد الله، والله جابو؟
فأجاب بقوله: قال ابن حزم، رحمه الله: (اتفق العلماء على تحريم كل اسم معبد لغير الله حاشا عبد المطلب) . فالعلماء مجمعون على أنه لا
__________
(1) أبو داود، كتاب الأدب، باب تغيير الاسم القبيح.(25/260)
يعبد الاسم لغير الله، فلا يقال: عبد الرسول، ولا عبد النبي، ولا عبد الحسين، ولا عبد الرضى، وما أشبه ذلك، فلا يعبد إلا بما كان من أسماء الله عز وجل، وأما "دفع الله"، و"عطاء الله"، و"هبة الله"، وما أشبه ذلك: فلا بأس بها.
وأما "جاد الله": فيعني أن هذا من جود الله، لكن "جاب الله" لا أدري ما معناها، فلا أصدر فيها حكماً. وعلى كل حال يرجع للمعنى، فإن كان صحيحاً فلا بأس.
فإذا قالوا: هذا "جاب الله" بمعنى: أنه كثير العطاء، فكأنهم يريدون أن يلحقوا عطاء هذا الرجل بعطاء الله عز وجل، وهذا لا يجوز؛ لأنه لا أحد يماثل الله في الكرم، فتغير هذه إلى معنى آخر وإلى
اسم آخر، والله أعلم.
س197: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: عن لقب "شيخ الإسلام" هل يجوز؟
فأجاب بقوله: لقب شيخ الإسلام عند الإطلاق لا يجوز، أي أن الشيخ المطلق الذي يرجع إليه الإسلام لا يجوز أن يوصف به شخص؛ لأنه لا يعصم أحد من الخطأ فيما يقول في الإسلام إلا
الرسل عليهم الصلاة والسلام.(25/261)
أما إذا قصد بشيخ الإسلام أنه شيخ كبير له قدم صدق في الإسلام فإنه لا بأس بوصف الشيخ به وتلقيبه به.
س198: وسئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: لماذا كان التسمي بعبد الحارث من الشرك مع أن الله هو الحارث؟
فأجاب بقوله: التسمي بعبد الحارث فيه نسبة العبودية لغير الله- عز وجل- فإن الحارث هو الإنسان كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كلكم حارث وكلكم همام" (1) فإذا أضاف الإنسان العبودية إلى المخلوق كان هذا نوعًا من الشرك، لكنه لا يصل إلى درجة الشرك الأكبر،
ولهذا لو سمي رجل بهذا الاسم لوجب أن يغيره فيضاف إلى اسم الله- سبحانه وتعالى- أو يسمى باسم آخر غير مضاف وقد ثبت عن النبي لمجييه أنه قال: "أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن" (2) وما اشتهر عند العامة من قولهم (خير الأسماء ما حُمِّد وما عُبِّد) ونسبتهم ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فليس ذلك بصحيح (3) أي ليس نسبته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - صحيحة فإنه لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا اللفظ وإنما
__________
(1) أخرجه أبو داود برقم (4955) .
(2) رواه مسلم، كتاب الأدب، باب النهي عن التكني بأبي القاسم برقم (2132) .
(3) المقاصد الحسنة برقم (425) .(25/262)
ورد "أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن".
أما قول السائل في سؤاله "مع أن الله هو الحارث" فلا أعلم اسمًا لله تعالى بهذا اللفظ، وإنما يوصف- عز وجل- بأنه الزارع ولا يسمى به كما في قوله- تعالى- (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) (1)
س199: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: عن حكم التسمي بقاضي القضاة؟
فأجاب بقوله: قاضي القضاة بهذا المعنى الشامل العام لا يصلح إلا لله- عز وجل- فمن تسمى بذلك فقد جعل نفسه شريكًا لله- عز وجل- فيما لا يستحقه إلا الله- عز وجل-، وهو القاضي
فوق كل قاضٍ.
وهو الحكم وإليه يرجع الحكم كله، وإن قيد بزمان أو مكان فهذا جائز، لكن الأفضل ألا يفعل، لأنه قد يؤدي إلى الإعجاب بالنفس والغرور حتى لا يقبل الحق إذا خالف قوله، وإنما جاز هذا
لأن قضاء الله لا يتقيد، فلا يكون فيه مشاركة لله- عز وجل- وذلك
__________
(1) سورة الواقعة، الآيتان 63-64.(25/263)
مثل قاضي قضاة العراق، أو قاضي قضاة الشام-، أو قاضي قضاة عصره.
وأما إن قيد بفن من الفنون فبمقتضى التقيد يكون جائزًا، لكن إن قيد بالفقه بأن قيل: عالم العلماء في الفقه سواء قلنا بأن الفقه يشمل أصول الدين وفروعه على حد قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من يرد الله به خيرًا يفقه في الدين" (1) أو قلنا بأن الفقه معرفة الأحكام الشرعية العملية كما هو
المعروف عند الأصوليين صار فيه عموم واسع مقتضاه أن مرجع الناس كلهم في الشرع إليه فأنا أشك في جوازه والأولى التنزه عنه.
وكذلك إن قيد بقبيلة فهو جائز، ولكن يجب مع الجواز مراعاة جانب الموصوف حتى لا يغتر ويعجب بنفسه ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -، للمادح: "قطعت عنق صاحبك" (2) .
س200: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: يكره بعض الناس اسم (علي) و (الحسين) ونحوه وينفر منها، وذلك لتعظيم الرافضة لتلك الأسماء، فما جوابكم حفظكم الله تعالى؟
__________
(1) البخاري، كتاب العلم، باب من يرد الله به خيراً برقم (65) ، ومسلم، كتاب الزكاة، باب النهي عن المسألة برقم (775) .
(2) البخاري، كتاب الأدب، باب ما يكره من التمادح برقم (4502) .(25/264)
فأجاب بقوله: جوابي على هذا أن البدعة لا تقابل ببدعة، فإذا كان طائفة من أهل البدعة يغلون في مثل هذه الأسماء، ويتبركون بها، فلا يجوز أن نقابلهم ببدعة فننفر من هذه الأسماء ونكرهها، بل نقول إن الأسماء لا تغير شيئاً عما كان عليه الإنسان، فكم من إنسان يسمى باسم طيب حسن، وهو- أعني المسمى به- من أسوأ الناس. كم من إنسان يسمى عبد الله وهو من أشد الناس استكباراً، وكم من إنسان يسمى محمداً، وهو من أعظم الناس ذماً، وكم من إنسان يسمى علياً
وهو نازل سافل، فالمهم أن الاسم لا يغير شيئاً، لكن لاشك أن تحسين الاسم من الأمور المطلوبة، كما قال النبي، عليه الصلاة والسلام: "أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها
حارث وهمام" (1) .
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (4/445) .(25/265)
بسم الله الرحمن الرحيم
فضيلة الشيخ/ محمد بن صالح العثيمين حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،، وبعد:
ما رأي فضيلتكم في بعض الأسماء التي يرغب أصحابها في إطلاقها على أبنائهم وبناتهم عند تسجيلها في قسم المواليد وهي:
أبرار، ملاك، إيمان، جبريل، خلود، أفنان، جنى؟
وذلك ليكون آباء المواليد على بينة من أمرهم،،،
وجزاكم الله خيراً،،،
بسم الله الرحمن الرحيم
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
لا يتسمى بأسماء أبرار وملاك وإيمان وجبريل. أما جنى فلا أدري معناها.
كتبه
محمد الصالح العثيمين
حرر في 24/3/1412هـ.(25/266)
س201: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما حكم التسمية بلينا أو رنا؟
فأجاب بقوله: لينة أو رنا وغيرها من الأسماء إذا كانت من أسماء غير المسلمين فإن ذلك حرام ولا يجوز للمسلمين ذكورهم وإناثهم أن يتسموا بأسماء غير المسلمين، لأن ذلك من التشبه بهم
ومن رفع شانهم ومن اتباعهم، والله سبحانه وتعالى خهى عن اتباع هؤلاء ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مشابهة المشركين، وقال خالفوهم وقال عليه الصلاة والسلام: "من تشبه بقوم فهو منهم" (1) . وأما إذا تسمى بأسماء إسلامية وإن كانت غير معروفة في بلده فلا حرج في ذلك،
ولكن لا ينبغي للإنسان أن يسمى نفسه أو أحداً من أولاده باسم يدل على التزكية مثل بره أو إيمان وما أشبه ذلك.
فإن الأولى تجنب هذه الأسماء؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام غير اسم بره إلى زينب (2) .
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (5/5) ، وأبو داود، كتاب اللباس، باب في لبس الشهرة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله-: إسناده حسن، الفتاوى (5/331) ، وحسنه ابن حجر في فتح الباري (6/97) ، وصححه أحمد شاكر برقم (5114) .
(2) مسلم (2142) .(25/267)
س202: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: عن رجل سمى ابنته (مارية) وقيل له: إن هذا الاسم مشتهر عند النصارى فهل يُغير اسم ابنته؟
فأجاب بقوله: لا يلزمه أن يُغيره؛ لأن أم إبراهيم ابن محمد - صلى الله عليه وسلم - اسمها مارية القبطية، ولم يغيرها النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا حرج أن يسمي الإنسان ابنته مارية؛ لأن له في ذلك سلفاً.(25/268)
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد الصالح العثيمين إلى الأخ المكرم ... حفظه الله تعالى
السلام ورحمة الله وبركاته وبعد:
تسمية المخلوق بما يختص بالخالق لا يجوز؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير كنية أبي الحكم إلى أبي شريح (1) ، حيث كان يكنى بالأول لكونه يحكم بين الناس، لكنه لم يغير اسم حكيم بن حزام، ونحوه لأن علم مجرد لم تلاحظ فيه الصفة.
وأما الخبر عن المخلوق بالصفات التي يوصف الله تعالى بها وليست ممنوعة على المخلوق فلا بأس به كما قال الله تعالى في وصف النبي - صلى الله عليه وسلم -: (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) (2) وقال تعالى عن نفسه: (وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) (3) .
ومن هذا قول قوم شعيب له: أإنَّكَ لانتَ الحَليم الرشِيد" (4) فهو خبر وليس تسمية، على أن هؤلاء لم يريدوا حقيقة وصفه بذلك، وإنما أرادوا التهكم به، كما قاله ابن عباس- رضي الله عنهما- وجماعة من المفسرين ولم يذكر ابن كثير غيره.
كتبه/ محمد الصالح العثيمين في 7/2/1416هـ.
__________
(1) أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب تغيير الاسم القبيح (1416) .
(2) سورة التوبة، الآية: 128.
(3) سورة الأحزاب، الآية: 43.
(4) سورة هود، الآية: 87.(25/269)
س203: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: عن حكم التسمي بعبد المنان أو عبد المنتقم؟
فأجاب بقوله: أما التسمي بعبد المنان فجائز؛ لأنه قد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت يا منان ... " (1) ، وأما عبد المنتقم فليس بصحيح؛ لأن المنتقم ليس من أسماء الله تعالى.
س204: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: عن التسمية بإسلام؟
فأجاب بقوله: الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، الجواب على هذا السؤال أن نقول: الذي ينبغي ألا يسمي الإنسان
ابنه أو ابنته باسم فيه تزكية؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير اسم برة إلى زينب (2) ،
لما في اسم برة من التزكية، ومثل ذلك اسم (أبرار) للأنثى فإنه لا ينبغي لما فيه من التزكية التي من أجلها غير النبي - صلى الله عليه وسلم - غير اسم برة، والذي يظهر أن إسلام من هذا النوع، وأنه ينبغي للإنسان ألا يسمى به، ولدينا أسماء أفضل من ذلك وأحسن وهي ما ذكره النبي عليه
__________
(1) أخرجه ابن ماجة، كتاب الدعاء، باب اسم الله الأعظم برقم (3858) .
(2) مسلم (2142) .(25/270)
الصلاة والسلام في قوله: (أحب الأسماء إلى الله: عبد الله، وعبد الرحمن) (1) ، فإذا اختار الإنسان لأبنائه اسماً من هذه الأسماء كان أحسن وأولى لما فيها من التعبيد لله عز وجل، ولاسيما التعبيد لله
أو للرحمن، ومثل ذلك عبد الرحيم، وعبد الوهاب، وعبد السميع، وعبد العزيز، وعبد الحكيم، وأمثال ذلك. لكن أحسنها ما ذكره النبي عليه الصلاة والسلام: (أحب الأسماء إلى الله: عبد الله، وعبد الرحمن) .
س205: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: امرأة اسمها موافق لإحدى أمهات المؤمنين -رضي الله عنهن- فيطلق عليها بعض الناس أم المؤمنين فما حكم ذلك؟ وهل يسمى بنوح؟
فأجاب بقوله: أما الأول وهو: إطلاق أم المؤمنين على المرأة فهو حرام؛ لأنه كذب فليست أم المؤمنين، وأمهات المؤمنين هن زوجات الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقط، ولأن هذا الذي قال هذه الكلمة كذب؛ لأنه يريد أن يلحق هذه المرأة بزوجات أشرف الخلق النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - وهي بلا شك زوجة لشخص لا يساوي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المرتبة.
وأعاد المسألة الثانية وهي: تسمية الرجل بنوح فلا بأس أن
__________
(1) رواه مسلم، كتاب الأدب، باب النهي عن التكني بأبا القاسم برقم (2132) .(25/271)
يسمى الرجل نوحاً، أو إسماعيل، أو إسحاق، أو يعقوب، أو هود، أو غيرهم من أسماء الأنبياء.
أما أن يكنى به واسمه الحقيقي غيره فإن هذا ينظر فيه، قد نقول بمنعه؛ لأنه كذب، وقد نقول بجوازه من باب التشريف، لكون هذا الرجل له عائلة كبيرة فكأنه يشبه نوحاً في كثرة الأولاد؛ لأن
نوحاً عليه الصلاة والسلام هو الأب الثاني للبشرية، كما قال الله تعالى: (وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ) (1) .
س206: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: عن إطلاق بعض الأزواج على زوجاتهم وصف أم المؤمنين؟
فأجاب بقوله: هذا حرام ولا يحل لأحد أن يسمى زوجته أم المؤمنين؛ لأن مقتضاه أن يكون هو نبي، لأن الذي يوصف بأمهات المؤمنين هن زوجات النبي عليه الصلاة والسلام، وهل هو يريد أن يتبوأ
مكان النبوة، وأن يدعو نفسه بعد بالنبي؟! بل الواجب على الإنسان أن يتجنب مثل هذه الكلمات، وأن يستغفر الله تعالى مما جرى منه.
س207: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ذكر بعض العلماء أن
__________
(1) سورة الصافات، الآية: 77.(25/272)
ذكر اسم الابن قبل اسم الأب مباشرة بدون لفظة (ابن) يكون فيه تشبه بفعل النصارى، فما رأيكم؟ وكذلك الأسماء التي تحمل لفظ الجلالة مثل عبد الرحمن، وعبد الله، ونحوها إذا جعلت علاماً على عائلة فيقال: فلان العبد الله أو فلان العبد الرحمن، أو فيه نوع من التزكية مثال يقال: فلان العبد الجبار، أو فلان العبد اللطيف؟
فأجاب بقوله: أما الأول وهو: أن الإنسان يحذف ابن عند النسبة فيقول مثلاً: محمد عبد الله، محمد صالح، محمد سليمان وما أشبه ذلك، فهذه لاشك أنها خلاف طريقة السلف، وما كنا نعرفها
من قبل، لكن دخلت علينا من الأمم التي استعمرها الكفار، وراجت عند الناس الآن مع الأسف.
والصواب أن يقال: ابن كما قال الله تعالى: (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا) (1) .
وأما قول السائل: وكذلك أسماء العوائل التي تحمل لفظ الجلالة مثل: محمد العبد الله.
فنقول: منْ تسمى جهذه الأسماء ف - صلى الله عليه وسلم - نه لا يريد بقوله: (العبد الله) يعني: أن الله عبد، أو العبد الجبار أن الجبار عبد، أبداً ولا يطرأ على بال أحد ذلك المعنى. لكن (أل) هنا بمعنى: آل، وتحولت إلى (أل)
__________
(1) سورة التحريم، الآية: 12.(25/273)
للتخفيف، لكونها دائماً على ألسنة الناس فتقول: (العبد الله) يعني: آل عبد الله، وهذه العبارة جرت على ألسنة علماء هذه البلاد منذ زمن ولم ينكروها، بل لم يبحثوا فيها، لكن الناس مع كثرة الأفكار صاروا يوردون الإشكالات!
لهذا نقول: إن قول القائل: (العبد الله) و (العبد الرحمن) معناها: آل فلان.
س208: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: عن التسمية بعبد النبي وعبد الرسول، مع أننا نعلم أن خير الأسماء ما عبد وحمد كما جاء في الحديث "أحب الأسماء الله ما عبد وحمد"؟
فأجاب بقوله: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى اَله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد: نقول:
أولاً: قول السائل- وفقه الله-: "نحن نعلم أن خير الأسماء ما حمد وعبد"، ثم استدل بما نسبه إلى الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "أن خير الأسماء ما حمد وعبد".
فنقول: هذه المعلومة غير صحيحة وليس خير الأسماء ما حمد وعبد.(25/274)
ثانياً: نسبة ذلك إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (خير الأسماء ما حمد وعبد) (1) خطأ عظيم؛ لأن هذا الحديث موضوع، لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا تجوز نسبته إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وإنما قال - صلى الله عليه وسلم -: "أحب الأسماء إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام" (2) . وعلى هذا فنقول ما أضيف إلى الله أو إلى الرحمن فهو أحب الأسماء إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن، ثم ما أضيف إلى أي
اسم من أسماء الله كعبد الرحيم، وعبد الوهاب، وعبد العزيز، وعبد اللطيف، وعبد الخبير، وعبد البصير، وما أشبهه.
وأما عبد النبي وعبد الرسول، وعبد جبريل، وعبد فلان أو فلان فهذا محرم، قال ابن حزم رحمه الله: (اتفقوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله حاشا عبد المطلب) ، وإنما استثني ذلك لأن بعض أهل
العلم قال: لا بأس بعبد المطلب؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب" (3) ولكن من العلماء من حرم عبد المطلب وقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك خبراً وليس إنشاء، فهو عبد المطلب لأن جده سمي بذلك، ولا يمكن تغييره فهو خبر لا إنشاء، وعلى هذا فلا
__________
(1) المقاصد الحسنة برقم (425) .
(2) رواه مسلم، كتاب الأدب، باب النهي عن التكني باسم القاسم برقم (12132) .
(3) أخرجه البخاري، كتاب الجهاد، باب من قاد دابة غيره في الجماد (2864) .(25/275)
يجوز أن يسمى أحد بعبد المطلب، وهذا وجه قوي لا إشكال في قوته، وعلى هذا فأقول: إذا أردت يا أخي أن تسمي ابنك فسمه بأحسن الأسماء وأحب الأسماء إلى الله ما وجدت إلى ذلك سبيلاً، عبد الله، عبد الرحمن، عبد الرحيم، عبد العزيز، عبد الو هاب، عبد السميع، عبد اللطيف، عبد البصير، عبد الحكيم، وهكذا.
س209: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: عن التسمية بمناف حيث إن رجلاَ سمى ابنه (مناف) وقيل له: إن هذا اسم إله في الجاهلية، فما رأيكم؟
فأجاب بقوله: الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
قبل الإجابة على هذا السؤال أود أن أوجه إخواني إلى اختيار الأسماء التي يسمون بها أبناءهم وبناتهم بحيث تكون أحب إلى الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - من غيرها، فلذلك في أسماء الرجال عبد الله وعبد الرحمن، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أحب الأسماء إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن" (1) ، وقريب من ذلك كل اسم أضيف إلى الله مثل عبد الوهاب،
__________
(1) أخرجه أحمد (4/445) .(25/276)
عبد العزيز، عبد الرحيم، عبد الجبار، عبد القهار وما أشبه ذلك، فكل اسم مضاف إلى الله فهو خير مما لم يضف إلى الله عز وجل وأشرف، وأفضله ما أضيف إلى الله أو إلى الرحمن بالحديث الذي ذكرته آنفاً، ثم ما كان من الأسماء أقرب إلى الصدق، قال النبي عليه الصلاة والسلام: "أصدق الأسماء حارث وهمام" (1) ، يعني ما يولد الإنسان إلا وهو حارث وهمام، فإذا سمي بحارث أو همام صار مطابقاً تماماً للواقع، وكذلك يختار أسماء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مثل محمد - صلى الله عليه وسلم -، إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وموسى، وعيسى، ونوح وما أشبهها وكذلك في أسماء النساء ينبغي أن نختار من الأسماء أحسنها وأطيبها وألذها على السمع كاسم فاطمة، فإن ذلك اسم
بنت محمد - صلى الله عليه وسلم - أو عائشة، أو زينب، أو أسماء، وما أشبهها من الأسماء الكثيرة، ويا حبذا لو أن أحداً تتبع (الإصابة في أسماء الصحابة) وانتقى من أسماء الصحابة أسماء مناسبة لهذا العصر، فإن في هذا خيراً كثيراً، وسداً لما يتخبط فيه الناس اليوم عند اختيار الأسماء العجيبة، فلو حصل أن أحداً يتسبب ويختار ما كان مناسباً للعصر من أسماء الصحابة والصحابيات ونشره بين الناس ليختاروا من هذه الأسماء التي تذكرنا بسلفنا الصالح لكان في هذا خير كثير، وسداً لهذا الباب
__________
(1) أخرجه أحمد (4/445) .(25/277)
الذي انفتح على الناس فصاروا يتخبطون فيه خبط عشواء.
أما بالنسبة: المناف (الذي وقع السؤال عنه، فأنا لا أعلم أنه اسم إله من آلهة الجاهلية؛ لأن أحد أجداد الرسول عليه الصلاة والسلام عبد مناف، أو أنه جاء مثل عبد المطلب، فعلى كل حال إن
ثبت أنه اسم لصنم فإنه يجب تجنبه، وإن لم يكن اسماً لصنم فهو كغيره من الأسماء لا حرج فيه.
س210: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: عن امرأة تريد أن تسمي بفريد وكريم؟
فأجاب بقوله: أشير على هذه المرأة إذا منَّ الله عليها بولد أن تسميه عبد الله، أو عبد الرحمن بعد الاتفاق مع أبيه لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أحب الأسماء إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن" (1) ، وكل مؤمن يحب ما يحبه الله عز وجل، فإذا كان هذا أحب الأسماء إلى الله فليكن اسم مولودها إن شاء الله تعالى، ولكن لابد من مراجعة الزواج؛ لأن الزوج هو الأصل في تسمية الولد، ولكن مع ذلك ينبغي أن يشاور
__________
(1) أخرجه أحمد (4/445) .(25/278)
أم الولد، حتى يتفق الرأي على التسمية المطلوبة إن شاء الله.
س211: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: عن حكم التسمي بجورج ونحوه من الأسماء الغربية؟
فأجاب بقوله: الأسماء المختصة بالكفار يحرم التسمي بها؛ لأن ذلك من التشبه بهم، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من تشبه بقوم فهو منهم" (1) . فالواجب على الأب أن يختار لابنه وابنته الاسم الحسن والاسم الذي لا يعيّر به، وأن يكون من الأسماء المألوفة عند الناس،
وليعلم أن أحسن الأسماء وأحبها إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن، ففي الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن" (2) .
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (5/5) ، وأبو داود، كتاب اللباس، باب في لبس الشهرة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله-: إسناده حسن، الفتاوى (5/331) ، وحسنه ابن حجر في فتح الباري (6/97) ، وصححه أحمد شاكر برقم (5114) .
(2) أخرجه أحمد (4/445) .(25/279)
س212: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما حكم تصغير الأسماء التي فيها تعبيد لله عز وجل مثل: عبود تصغير عبد الله؟
فأجاب بقوله: لا بأس أن يصغروها؛ لأنهم لا يقصون بذلك تصغير اسم الله عز وجل، إنما يقصدون بهذا تصغير المسمى (عبد الله) يسمونه عبيد الله فليس فيه شيء، وبعضهم يقول عبود، وعبد الرحمن
بعضهم يسمونه عبيد الرحمن وليس فيه شيء، وبعضهم يسمونه رحيم، وهذا أيضاً ليس فيه شيء، والتصغير يقصد به تصغير المسمى لا تصغير اسم الله الكريم.
س213: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما حكم التسمي بناجي ومعتق وناصر ونحوها مما فيه معنى التزكية من الأسماء؟
فأجاب بقوله: الأسماء التي تدل على التزكية تارة يتسمى بها الإنسان لمجرد كونها علماً فهذه لا بأس بها، وتارة يتسمى بها مراعياً المعنى الذي تدل عبيه، فهذا يؤمر بتغيير الاسم فمثل (ناصر) أكثر
الذين يسمون بناصر لا يريدون أنه ينصر الناس أبداً إنما يريدون أن تكون علماً محضاً فقط، والذي يسمى (خالد) هل يريد أن ولده يخلد إلى يوم القيامة؟ لا، والذي يسمى (صالح) هل أراد أنه سمي صالحاً لصلاحه، لكن إذا لوحظ في ذلك معنى التزكية فإنه يغير ولهذا غير(25/280)
النبي - صلى الله عليه وسلم - اسم برة إلى زينب (1) ، وامرأة اسمها برة غيرها إلى جويرية (2) ، فهذا هو الميزان: إذا لوحظ فيه معنى التزكية يغير، وإذا لم يلاحظ فيه معنى التزكية فإنه لا يغير.
س214: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما حكم التسمي باسم مَلاك بالفتح، أو مِلاك بالكسر للأنثى وما قولكم فيمن يقول: بأن هذا لا يجوز لأن هذه الكلمة مأخوذة من المَلك وهم
الملائكة ولا يجوز مشابهة اللائكة في ذلك؟ وهل ذلك من تسمية الملائكة تسمية الأنثى، كما ورد في القرآن وفقكم الله؟
فأجاب بقوله: أنا أكره أن يسمى الإنسان ابنته مِلاك أو مَلاك وأقول: هل ضاقت عليه الأسماء؟ الأسماء ألوف مؤلفة، وربما لا يكون عنده إلا هذه البنت، فالأسماء كثيرة يأخذ من أسماء نساء
الصحابة رضي الله عنهم، أو من أسماء نساء بلده، أما أن يأتي إلى أشياء أدنى ما نقول إن فيها شكاَ، فدع ما يربيك إلى ما لا يريبك، والأسماء والحمد لله واسعة، أما الأسماء التي فيها التزكية فإن
__________
(1) مسلم (2142) .
(2) أبو داود (2142) .(25/281)
الرسول - صلى الله عليه وسلم - غير اسم برة إلى جويرية (1) ، وامرأة أخرى اسمها برة (2) ،
إلى زينب ومثل ذلك أبرار لا يسمى به لأن أبرار جمع بر، وإذا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - غير اسم برة مع أنها اسم أنثى فيها تاء التأنيث فكيف لا نغير اسم أبرار التي هي جمع لبر، وبر اسم مذكر.
س215: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل يلزم من يعتنق الإسلام أن يغير اسمه القديم إلى اسم إسلامي جديد؟
فأجاب بقوله: لا يلزم ذلك إلا إذا كان الاسم مما لا يجوز إقراره شرعاً كالاسم المعبد لغير الله ونحوه فإنه يلزم تغييره، وكذلك لو كان الاسم خاصاً بالكفار لا يتسمى به غيرهم فيجب تغييره أيضاً؟
لئلا يكون متشبهاً بالكفار، ولئلا يحنّ إلى هذا الاسم الكافر الذي يختص بالكافرين، أو يتهم بأنه لم يسلم بعد.
س216: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: عن مولود سماه أهله باسم مطابق لأخ له توفي قبله، وذكر بعضهم بأنه لا يجوز؛ لأنه يأخذ من أجره؟
__________
(1) أبو داود (2142) .
(2) مسلم (2142) .(25/282)
فأجاب بقوله: هذا ليس بصحيح، ولا حرج من الاشتراك في الاسم في هذه الحال لكن الأولى ألا يكون هنالك اشتراك، حتى لا يشتبه أحدهما بالآخر، واتفاق الاسمين لا علاقة له بالثواب، والله
سبحانه وتعالى بكل شيء عليم يعلم ثواب هذا وثواب هذا.
س217: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: عدم تكسير عظام العقيقة هل هو مشروع؟
فأجاب بقوله: ذكر بعض العلماء أنه ينبغي في توزيع العقيقة أن تكون مفاصل، بمعنى أنه لا يكسر عظمها، لتكون العطية التي يعطيها جزلة؛ لأن ما بين المفصلين من العظام فيه لحم إلا ما كان
أسفل الأرجل فإنه عادة لا يكون فيه لحم لكنه من العادة أيضًا ألا يتصدق به وحده.
فمن الحكمة في عدم تكسير عظامها: أن العطاء يكون أجزل إذ أنه يكون عضوًا كاملاً.
وذكر بعض العلماء حكمة أخرى في النفس منها شيء وهي: أن يكون ذلك تفاؤلاً بألا تنكسر عظام المولود، لكن في النفس من هذا شيء.
والمعنى الأول وهو أنه من أجل جزالة العطية أظهر وأقرب،(25/283)
ولكن مع ذلك لو كسر العظام فلا بأس.
س218: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: العقيقة هل تأخذ حكم الأضحية بالنسبة للشروط؟
فأجاب بقوله: نعم كل الذبائح المشروعة حكمها حكم الأضحية لعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن تعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن" (1) كل الذبائح المشروعة العقيقة والفدية والهدي كالأضحية تمامًا.
س219: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما هي أحكام العقيقة، تسميتها، وقتها، وهل يعطى الأغنياء منها؟ وهل يجوز إعطاء الكافر منها؟ وهل الأفضل توزيعها أو عمل وليمة؟
فأجاب بقوله: العقيقة سنة مؤكدة، عن الغلام شاتان، وعن الجارية شاة تذبح في اليوم السابع، ويؤكل منها، ويوزع على الأغنياء هدية، وعلى الفقراء صدقة.
وهل يجوز أن يعطى الكافر منها؟
__________
(1) رواه مسلم، كتاب الأضاحي، باب سن الأضحية رقم (1963) .(25/284)
والجواب: نقول: الكافر يتصدق عليه منها، إذا كان لا ينال المسلمين منه ضرر، لا منه ولا من قومه، لقوله تعالى: (لا يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (1) . يعني: لا ينهاكم عن برهم والتصدق، عليهم، فليس هناك مانع أن تبروهم وتقسطوا إليهم، فالبر إحسان، والقسط عدل إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) .
س220: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل التسمية حق الزوج أو الزوجة؟
فأجاب بقوله: حق التسمية للأب هو الذي يسمي أولاده، فإذا تنازعت الأم والأب، الأم تريد اسمًا وهو يريد اسمًا آخر فالحكم للأب لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته" (2) وعلى كل حال الحق للأب، ولكن مع ذلك ينبغي للأب أن يكون مع
زوجته لينًا ويتشاور معها حتى يقنعها بما يريد من الأسماء.
وينبغي للإنسان أن يحسن اسم ابنه أو بنته؛ لأن الناس يدعون
__________
(1) سورة الممتحنة، الآية: 8.
(2) أخرجه البخاري، كتاب الجمعة، باب الجمعة في القرى (675) ، ومسلم، كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل برقم (1829) .(25/285)
يوم القيامة بأسمائهم، وأسماء آبائهم كما ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام (1) ، وأحب الأسماء إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن، وكل ما أضيف إلى الله فهو أفضل من غيره، يعني عبد الله، عبد الرحمن، عبد الرحيم، عبد العزيز، عبد الوهاب، عبد الكريم، عبد المنان، وما أشبه ذلك، كل ما أضيف إلى الله فهو أفضل، ويحرم أن يتسمى بأسماء الفراعنة مثل: فرعون.
أو بأسماء الشياطين: مثل إبليس.
قال العلماء: أو بأسماء القرآن فإنه لا يجوز أن يسمي ابنه فرقانًا، أو ما أشبه ذلك؛ لأن هذه خاصة بالقرآن الكريم، والقرآن أسماؤه محترمة فلا يسمى به أحد من البشر، حتى قال بعض العلماء:
يكره أيضًا أن يتسمى بأسماء الملائكة مثل: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل.
س221: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: عن تسمية الأولاد على الوالدين، خصوصًا إذا كان الوالد يرى أن ذلك من البر وأنه
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب ما يدعى الناس بآبائهم (6177) .
بلفظ: "هذه غدرة فلان بن فلان". وعند أبب داود بلفظ: "إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم، فأحسنوا الأسماء" كتاب الأدب، باب في تغيير الأسماء (4948) .(25/286)
إذا لم يفعل فإنه عاق لوالديه.
فأجاب بقوله: الأفضل أن يقول للأب الأسماء المحبوبة إلى الله أحب إلي وإليك، فما دام الله تعالى يحب الأسماء المضافة إليه مثل: عبد الله وعبد الرحمن، فأعطني يا والدي فرصة أسمي بذلك، فإن أصر
ورأيت أنه سوف يرى ذلك عقوقًا منك فلا بأس أن تسمي باسمه، إن كان مرجوحا، يعني لو فرضنا أن اسمه محمد وقال: سم ابنك محمدًا، فقلت: يا أبتي عبد الله أحسن وأفضل قال: لا، إن كنت تريد
أن تبر بي سمه محمدًا. فهذا لا بأس أن يسميه محمدًا؛ لأنه اسم مباح وطيب، وأسماء الرسل أفضل من غيرهم إلا ما كان أحب إلى الله فهو أفضل.
س 222: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: عن حكم الجمع بين الأضحية والعقيقة إذا وافق يوم الأضحى أن يكون يوم السابع للمولود؟
فأجاب بقوله: قال بعض أهل العلم إذا وافق يوم العيد اليوم السابع من ولادة الولد وذبح أضحية كفت عن العقيقة، كما أن الإنسان لو دخل المسجد وصلى فريضة كفت عن تحية المسجد، لأنهما
عبادتان من جنس واحد توافقتا في الوقت، فاكتفى بإحداهما عن(25/287)
الأخرى، لكن أرى إذا كان الله قد أغناه أن يجعل للأضحية شاة وللعقيقة شاة إن كان المولود أنثى، أو شاتين إن كان المولود ذكرًا.
س 223: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل يجزئ سبع البقرة في عقيقة البنت قياسًا على الأضحية؟
فأجاب بقوله: يقول العلماء: إنه لا تشريك في العقيقة التي نسميها (التميمة) . وذلك؛ لأن العقيقة فدية عن نفس، فلابد أن تكون نفسًا كاملة.
وبناءً على ذلك لا يجزئ الإنسان أن يذبح بدنة عن سبع عقائق، بل إن العلماء- رحمهم الله- قالوا: إن ذبح الشاة أفضل من ذبح البعير، يعني لو أردت أن تعق بشاة أو ببعير، قلنا لك: الأفضل
أن تعق بالشاة، لأنها هي التي وردت بها السنة.
س 224: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل يجوز لمن عليه فدية أن يذبحها في بلده إذا عاد إليه بعد الحج؛ ولتكون مناسبة لإظهار الفرح والسرور؟
فأجاب بقوله: يجوز أن يذبح الإنسان خروفًا إذا عاد إلى أهله إظهارًا للفرح والسرور، لكنه لا يكون فدية، لأن الفدية إنما تكون(25/288)
في مكة، وأما الذي يذبحه عند أهله فهو لحم لأهله وليس فدية، فلا يجوز للإنسان أن يذبح الفدية في بلده حتى لو فرض أن الرجل رجع إلى بلده وسأل العلماء هناك، وقال: فعلت كذا وكذا وقالوا: عليك فدية، فلا يجوز أن يذبحها هناك، بل يذبحها في مكة، فيوكل إنسانًا يذبح عنه، أو إذا رجع إلى مكة في أي يوم من الأيام يذبحها.
س 225: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: اعتاد بعض الناس إذا نزل منزلاً جديدًا أن يذبح شاة ويدعو من أحب فهل في ذلك شيء؟
فأجاب- رحمه الله بقوله: ليس فيه شيء، ولا تعتبر من البدع، وهذا مما جرت العادة به، فالناس يفعلون هذه النزالة فرحًا بالمنزل الجديد وإكرامًا لإخوانهم وليس فيها شيء (1) .
__________
(1) وجاء في الشرح الممتع لفضيلة الشيخ رحمه الله 503/7: "مسألة: ما يفعله بعض الناس إذا نزل منزلاً جديدًا ذبح ودعا الجيران والأقارب، وهذا لا بأس به ما لم يكن مصحوبًا بعقيدة فاسدة، كما يُفعل في بعض الأماكن إذا نزل منزلاً فإن أول ما يفعل أن يأتي بشاة ويذبحها على عتبة الباب حتى يسيل الدم عليه ويقول: إن هذا يمنع الجن من دخول البيت. فهذه عقيدة فاسدة ليس لها أصل. لكن من ذبح من أجل الفرح والسرور هذا لا بأس به.(25/289)
س 226: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: انتشر بين الناس أنه من نزل بيتًا جديدًا، أو اشترى سيارة جديدة أو توظف، أو ترقى في وظيفته أو نحو ذلك، فإنه يصنع وليمة ما حكم هذه الوليمة؟
فأجاب بقوله: هذه من الولائم المباحة، فيجوز للإنسان أن يصنع وليمة عند نزول البيت أو عند نجاحه مثلاً.
المهم إذا كان ذلك له مناسبة فلا بأس به.
أما النكاح فإنه سنة من أجل أن في ذلك إظهارًا له، وإعلانًا له، وكذلك من الولائم المباحة الوليمة على عقد الزواج.(25/290)
فضيلة الشيخ/محمد بن صالح العثيمين حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
يقوم البعض بذبح ذبيحة إذا خاف من الحسد، فمثلاً إذا سكن منزلاً جديداً، أو ربح في صفقه تجاريه، فهل هذا مشروع، وجزاكم الله خيراً.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الجواب: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وبعد:
هذا الفعل ليس بمشروع ولكن إذا نزل منزلاً جديداً وأراد أن يدعو جيرانه وأصدقائه وأقاربه، وعمل لذلك طعاماً فلا حرج فيه، وهذا ليس من باب العبادة ولكن من باب العادة.(25/291)
س 227: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: إذا نجح أحد الأبناء في الدراسة فهل يجوز لوالده أن يذبح ذبيحة احتفاء بنجاح الابن وشكراً لله عز وجل؟
فأجاب بقوله: لا بأس إذا نجح الأبناء أو أحدهم أن يصنع الوالد وليمة يدعو عليها أحبابه وأصحاب ابنه، فرحاً بنعمة الله تبارك وتعالى، وتشجيعاً للابن وتنشيطاً له.(25/292)
كتاب الجهاد(25/293)
س 1: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما حكم الجهاد في سبيل الله وما أقسامه؟
فأجاب بقوله: الجهاد في سبيل الله من أفضل الأعمال المقرِّبة إلى الله عز وجل، حيث قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " رأس الأمر الإسلام، وعمودُه الصلاةُ، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله " (1) وقد أمر الله تعالى بالجهاد في آيات كثيرة، وبيَّن فضله وأنه ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: جهاد بالمال.
القسم الثاني: جهاد بالنفس؛ قال الله تعالى: (إِنَّ الله اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ الله فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (2) ، ولا حاجة للكلام على هذه الآية وإلا فهي إذا تأملها الإنسان وجدها آية عظيمة، فالجهاد بلا شك من أفضل
الأعمال.
__________
(1) رواه الترمذي، كتاب الإيمان، باب ما جاء في حرمة الصلاة، برقم (2616) ، وابن ماجه،
كتاب الفتن، باب كف اللسان في الفتنة، برقم (3973) .
(2) سورة التوبة، الآية: 111.(25/297)
ويكون فرض عين في مواضع أربعة:
الموضع الأول: إذا حضر صف القتال صار فرض عين عليه لا يجوز له أن يتخلى عنه لقول الله تعالى: (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ الله وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (1) .
الموضع الثاني: إذا استنفره الإمام الذي أعطاه البيعة، وبايعه على السمع والطاعة على مقتضى كتاب الله عز وجل؛ إذا استنفره للجهاد وجب عليه أن ينفر لقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ الله اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَالله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (2) .
الموضع الثالث: إذا حصر بلدَه عدوٌّ - يعني طوقها وضيَّق الخناق عليها- فإنه يجب على المسلم أن يدافعَ حفاظًا على النفس والدين؛ لأن هذا العدو إذا حصر البلدَ ثم استولى عليه- عياذاَ بالله- فإنه قد يضيع معالمه حتى تصبح بلادُ الإسلام بلادَ كفرٍ وإلحاد، ففي هذه
__________
(1) سورة الأنفال، الآية: 16.
(2) سورة التوبة، الآيتان: 38-39.(25/298)
الحال يجب على المسلمين أن يدافعوا عن هذا البلد المحصور.
الموضع الرابع: إذا احتيج إليه بعينه؛ فإنه يكون الجهاد عليه فرض عين، وإن كان في حق غيره فرض كفاية، ومعنى احتيج إليه بعينه: أن يكون هذا الرجل حاذقًا في أمر لا يعرفه غيره مثل: أن يكون حاذقًا في إطلاق الصواريخ، أو في قيادة الطائرات وما أشبه ذلك من الفنون الحربية، ففي هذه الحال يكون فرض عين عليه، لأنَّ القاعدةَ في فرض الكفاية: أنه إذا لم يَقُم به أحد تعيَّن على القادر أن يقوم به.
فإذا عرفت هذه الأحوال الأربع التي يكون الجهاد فيها فرض عين، فَطِّبق حال المجاهدين عليها، فإن وافقت إحدى هذه الأحوال صار الجهادُ معهم فرض عين، وإلا فهو فرض كفاية.
ولكن هنا مسألة يجب أن تُلاحَظَ، أنه إذا دار الأمر بين بر الوالدين أو الجهاد، فيقدم بر الوالدين لقول ابن مسعود رضي الله عنه: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أيُّ العمل أحبُّ إلى الله؟ " قال: "الصلاةُ على وَقْتها" قلت: " ثم أيٌّ؟ " قال: "بِرُّ الوالدينِ ". قلت: "ثمَّ أيٌّ؟ " قال: "الجهادُ في سبيلِ الله " (1) .
__________
(1) رواه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل الصلاة لوقتها، برقم (527) ، وفي كتاب الجهاد، باب فضل الجهاد والسير، برقم (2782) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال، برقم (85) .(25/299)
فبيَّن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث أن بر الوالدين مقدَّمٌ على الجهاد في سبيل الله حتى الجهادُ الواجب برُّ الوالدين أوجب منه، وذلك أنَّ رجلاً استأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - للجهاد في سبيل الله، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أحيٌّ والداك؟ " قال: نعم، قال: "ففيهما فجاهِدْ" (1) متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
س 2: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما أقسام الجهاد عند الإطلاق؟
فأجاب بقوله: الجهاد ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: جهاد النفس على طاعة الله عزَّ وجل بامتثال الأمر واجتناب النهي وهذا كل أحد محتاج إليه.
القسم الثاني: جهاد المنافقين، وذلك بالعلم والبيان قال الله عزَّ وجل: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ) (2) .
ودليل كون جهاد المنافقين بالعلم والبيان لا بالرمح والسنان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - منع من قتلهم فقال: "لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل
__________
(1) رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب الجهاد بإذن الأبوين، برقم (3004) ، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب بر الوالدين وأنهما أحق به، برقم (2549) .
(2) سورة التحريم الآية: 9.(25/300)
أصحابه " رواه مسلم (1) .
القسم الثالث: جهاد الكفار المحاربين وأحكامه مفصلة في كتب الفقهاء رحمهم الله.
س 3: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل الجهاد لإعلاء كلمة الله يدخل ضمن أقسام الجهاد في سبيل الله؟
فأجاب بقوله: الجهاد ينقسم إلى قسمين:
1- جهاد الأعداء بالسلاح.
2- الجهاد لإعلاء كلمة الله بالبيان والعلم.
وجهاد الأعداء ينقسم إلى قسمين:
1- جهاد دفاع.
2- وجهاد طلب.
فمن غزى المسلمين من الكفار فجهاده جهاد دفاع.
ومن غزاه المسلمون من الكفار فجهاده طلب.
وجهاد المسلمين للكفار هل هو من أجل أن يسلموا، أو من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا وإن لم يسلموا؟
__________
(1) رواه مسلم، كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج برقم (1063) .(25/301)
والجواب أن نقول: الجهاد من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا وإن لم يسلموا.
والدليل على هذا الجواب: ما رواه مسلم من حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أمَّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه بتقوى الله عز وجل وبمن معه من المسلمين خيراً، ثم قال: "اغزوا على اسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر الله، اغزوا
ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثّلوا، ولا تقتلوا وليداً، وإذا لقيت عدوّك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال، فأيتهنّ أجابوك إليها فاقبل منهم وكُفّ عنهم: ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، فإن أبوا فأخبرهم بأنهم يكونون
كأعراب المسلمين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن أبوا فاسألهم الجزية فإن هم أجابوك فاقبل منهم، فإن هم أبوا فاستعن عليهم بالله تعالى وقاتلهم، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله، وذمة نبيه فلا تفعل، ولكن اجعل لهم ذمتك فإنكم أن تخفروا ذممكم أهون من أن تخفروا ذمة الله، وإذا أرادوك أن تُنزلهم على حكم الله فلا تفعل، بل على حكمك، فإنّك لا تدري أتصيب فيهم حُكم الله تعالى أم لا". رواه مسلم (1) .
__________
(1) رواه مسلم/كتاب الجهاد/باب تأمير الإمام الأمراء (3161) .(25/302)
فجهاد المسلمين للكفار ليس لأن يسلموا، قال سبحانه: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (1) لكن من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن تكون السيطرة لدين الإسلام، قال سبحانه: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) (2) .
والقسم الثاني: جهاد الدفاع وهو فرض عين؛ لأنه يجب الدفاع عن دين الإسلام، والدفاع عن النفس، والدفاع عن بلاد المسلمين.
والعلماء ذكروا الأمور التي يكون فيها الجهاد فرض عين وهي: 1- إذا حضر في صف القتال لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ) (3) . وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - التولي من الزحف من كبائر الذنوب.
2- إذا استنفر الإمام فإنه يجب على المسلمين أن يقاتلوا، لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ الله اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ) (4) .
3- إذا حصر العدو بلاده.
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 256.
(2) سورة التوبة، الآية: 33.
(3) سورة الأنفال، الآية: 15.
(4) سورة التوبة، الآية: 38.(25/303)
4- إذا كان محتاجاً إلى رجل بعينه ومثاله: إذا غنم المسلمون من العدو الآلات في الحرب، ولم يعرف المسلمون طريقة عملها ولكن وُجد من المسلمين رجلٌ قد علم طريقة عمل هذه الآلات، فهذا
الرجل يجب عليه بعينه أن يقاتل.
س 4: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل يعتبر التجنيد الإجباري داخلاً في إعداد القوة للجهاد؟
فأجاب بقوله: من الواجب أن يدرب الشباب على الأسلحة، ولولي الأمر أن يجبر الشباب على التجنيد.
س 5: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل يجب الجهاد على النساء؟
فأجاب بقوله: لا يجب الجهاد على النساء، بل لولي الأمر أن يمنع النساء من الجهاد؛ لأنهن لسن من ذوات العزائم والقوى والجَلَد والصبر.
وعلى هذا فلا تصلح النساء أن يكن من أهل الجهاد، بل ربما يكون وجودها ضرراً على المجاهدين.
س 6: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: قلتم في الفتوى السابقة: إن الجهاد لا يجب على المرأة، ولكن قد تكون المرأة قائدة لطائرة(25/304)
حربية، وهنا أليس يجب عليها الجهاد؟
فأجاب بقوله: لا يجب على المرأة الجهاد؛ لأنها وإن كانت قائدة لطائرة حربية، فإنها ربما تجبن عند اللقاء.
س 7: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل يجوز للمرأة أن تخرج مع المجاهدين في المعركة؟
فأجاب بقوله: إن خرجت من أجل القيام بمداوة الجرحى وما أشبه ذلك فلا بأس، كما فعلته نساء الصحابة رضي الله عنهن (1) .
وأما خروجها للقتال فإنها تمُنع؛ لأنها لا تستطيع المواجهة والمقاومة، وإذا وُجد امرأة نادرة تستطيع ذلك فالنادر لا حكم له.
س 8: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل طالب العلم يكون أعظم أجراً من الشهيد الذي قدم نفسه في سبيل الله عز وجل؟
فأجاب بقوله: المجاهد في سبيل الله- عز وجل- إذا قُتل فهو من الشهداء، وطالب العلم قد يدخل في الشهداء؛ لأن بعض العلماء ذكر أن قوله تعالى: (وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِم) (2) يشمل العلماء؛ لأنهم شهداء على
__________
(1) رواه البخاري/كتاب الجهاد/باب مداواة النساء الجرحى في الغزو برقم (2669) ، ولفظه: عن الربيع بنت معوذ قالت: " كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - نسقي ونداوي الجرحى".
(2) سورة الحديد، الآية: 19.(25/305)
الأمة، فالذي يشهد أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بلَّغ الرسالة هم أهل العلم. وهناك أمرٌ آخر وهو: أنه لا يلزم من كون الشهيد أعظم أجراً من طالب العلم في نيل الشهادة إذا قُتل في سبيل الله عز وجل، لا يلزم منه الفضل المطلق.
وهذه المسألة أشار إليها العلامة ابن القيم في (النونية) وهي: أن الإنسان إذا تميَّز بخصيصة لا يلزم منه أن يكون أفضل على الإطلاق.
مثاله: قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - في غزوة خيبر: " لأعطين الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه، يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، فلما أصبح أعطى الراية لعلي بن أبي طالب- رضي الله عنه- - صلى الله عليه وسلم - " (1) . فهنا إعطاؤه عليه الصلاة والسلام الراية لعلي بن أبي طالب- رضي الله عنه- هل يلزم منه أن يكون أفضل من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما؟
والجواب: لا يلزم.
والفضل منه مطلق ومنه مقيّد.
ومثاله أيضاً: ما جاء في حديث أبي ثعلبة- رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "بل تأمروا بالمعروف، وتنهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحّاً مُطاعاً، وهوىً مُتَّبعاً، ودنياً مؤثرة، وإعجاب كلّ ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك، ودع عنك العوام، فإن من ورائكم أيام الصبر،
__________
(1) رواه البخاري/كتاب الجهاد برقم (2724) .(25/306)
الصبر فيه مثل قبضٍ على الجمر، للعامل فيه مثل أجر خمسين منكم" (1) .
والشاهد هنا في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " أجر خمسين منكم ".
ولا يلزم من هذا الفضل أن يكون أفضل من الصحابة رضي الله عنهم، فيجب التفريق بين الفضل المطلق والفضل المقيَّد.
فالشهيد وإن تميَّز بالشهادة في سبيل الله عز وجل، لكن يكون على يد طالب العلم والعلماء من مصلحة الأمة ونشر الدعوة ما لا يكون في ديوان الشهيد.
أرأيتم إلى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ماذا نفعه للأمة؟ ولو نظرنا إلى عدد كبير من الشهداء ما حصل للأمة نفعٌ مثلما حصل من علم ابن تيمية رحمة الله على الجميع.
س 9: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: لماذا لا يقوم المسلمون بالجهاد ضد دول الكفر؟
فأجاب بقوله: الجهاد فرض كفاية، إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين، وإن لم يقم به من يكفي تعيّن عليهم.
ولكن كل واجب لا بد فيه من شرط القدرة.
والدليل على ذلك من القرآن والسنة ومن الواقع.
__________
(1) رواه أبو داود/كتاب الملاحم/باب الأمر والنهي برقم (3778) .(25/307)
أما القرآن: فقوله تعالى: (لَا يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) (1) .
وقوله تعالى: (فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُمْ) (2) .
وقوله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (3) .
فالجهاد إذا كان فيه حرج، فالحرج مرفوع في الشريعة، فإن كان هناك قدرة على الجهاد فهو سهل بإذن الله عز وجل، وإن لم يُقدر على الجهاد فهو حرج مرفوع.
أما الدليل من السنة: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم" (4) وهذا الحديث عام في كل أمر؛ لأن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "بأمر" نكرة في سياق الشرط فيكون للعموم.
أما الواقع: فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكة يدعو الناس إلى توحيد الله عز وجل وإلى الصلاة، وبقي على هذا الأمر ثلاث عشرة سنة، ولم يؤمر بالجهاد مع شدة الإيذاء له عليه الصلاة والسلام، ولأتباعه من المؤمنين (5) .
ولم يؤمر بالقتال؛ لأنهم لا يستطيعون، ولم يوجب الله عز وجل
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 286.
(2) سورة التغابن، الآية: 16.
(3) سورة الحج، الآية: 78.
(4) رواه البخاري/كتاب الاعتصام/باب الاقتداء بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (6744) .
(5) صحيح البخاري/كتاب الصلاة برقم (350) .(25/308)
القتال إلا بعد أن صار للأمة الإسلامية دولة وقوة، قال الله تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ الله عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) (1) .
وهكذا نقول في الواقع الآن: لعدم قدرة المسلمين على القتال ومواجهة الكفار.
والأسلحة التي ذهب عصرها عند الكفار هي التي بأيدي المسلمين، وأقوى ما عند المسلمين من سلاح لا يساوي ما عند الكفار من سلاح وليس بشيء.
ولهذا من الحمق أن يقول قائل: إنه يجب على المسلمين الآن أن يقاتلوا الكفار.
وهذا القول تأباه حكمة الله عز وجل، ويأباه شرعه. والواجب أن يقوم المسلمون بما أمر الله عز وجل، قال سبحانه وتعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) (2) . وأهم قوة نُعدها هو: الإيمان والتقوى؛ لأن المسلمين بالإيمان والتقوى سوف يقضون على الأهواء ومحبة الدنيا.
والصحابة- رضوان الله عليهم- حالهم بخلاف حال كثير من المسلمين اليوم، فالصحابة- رضي الله عنهم- يقاتلون لإعلاء كلمة
__________
(1) سورة الحج، الآية: 39.
(2) سورة الأنفال، الآية: 60.(25/309)
الله ويكرهون الحياة في الذل.
فالواجب على المسلمين أن يعدوا ما استطاعوا من قوة وأولها: الإيمان والتقوى.
ثم يلي قوة الإيمان والتقوى، أن يتسلح المسلمون ويتعلموا كما تعلّم غيرهم؛ لكن المسلمين لم يقوموا بما عليهم.
فالواجب في هذه الأزمنة الاستعداد بالإيمان والتقوى، وأن يُبذل الجهد، والشيء الذي لا يُقدر عليه فإننا غير مكلفين، ونستعين بالله - عز وجل- على هؤلاء الأعداء.
والله- عز وجل- قادر على هؤلاء الأعداء ولو شاء سبحانه لانتصر منهم كما قال تعالى: (وَلَوْ يَشَاءُ الله لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ الله فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ) (1) .
س 10: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما حكم الدفاع عن الوطن؟
فأجاب بقوله: الدفاع عن الوطن ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: دفاع عن الوطن من حيث إنه وطن، فهذا ليس في
__________
(1) سورة محمد، الآية: 4.(25/310)
سبيل الله عز وجل، ويستوي فيه الكافر والمؤمن، حتى الكافر يدافع عن وطنه.
القسم الثاني: أن يدافع عن وطنه؛ لأنه وطن إسلامي فحينئذٍ يكون دفاعه جهاداً في سبيل الله عز وجل؛ لأنه يقاتل دفاعاً عن الإسلام، وخوفاً من أن يستولي على البلاد أهل الكفر فيُغَيّر منهج
البلاد الإسلامية.
فمن قاتل من أجل إبقاء الإسلام الذي هو دين وطنه صار مجاهداً في سبيل الله عز وجل.
ودليل ذلك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الرجل يقاتل حميّة، ويقاتل شجاعة، فقال عليه الصلاة والسلام: "منْ قاتلَ لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله - صلى الله عليه وسلم - " (1) .
س 11: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: بعض الشباب يرغب في الجهاد مع إخوانه في الكويت ضد عدوان العراق فهل يعد جهاداً، وهل هذا الجهاد فرض عين أو فرض كفاية؟
__________
(1) رواه البخاري/كتاب العلم/باب من سأل وهو قائم برقم (120) .(25/311)
فأجاب بقوله: هذا سؤال مهم، والجواب عليه لا بد أن يكون من قبل عدة علماء عالمين بالشرع وعالمين بالواقع؛ لأن هذه المسألة مسألة مصيرية.
والذي أرى أن يوجه السائل هذا السؤال إلى هيئة كبار العلماء لأجل دراسته من كل جانب؛ لأن مسألة كهذه مسألة مصيرية لا بالنسبة للكويتين ولا بالنسبة لمن جاورهم من بلدان أخرى.
فلا بد من بحث هذه المسألة ودراستها ليتسنى الجواب على ذلك.
ويجب على الإنسان ألا ينظر إلى البدايات، بل ينظر إلى النهايات والغايات.
س 12: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: نجد أن الله- عزَّ وجل- في كثير من آيات الجهاد يقدم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس، فما الحكمة من ذلك؟
فأجاب بقوله: يظهر- والله أعلم-؛ لأن الجيش الإسلامي قد يحتاج إلى المال أكثر من حاجته إلى الرجال؛ ولأن الجهاد بالمال أيسر من الجهاد بالنفس، والله أعلم.(25/312)
س 13: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما حكمُ الجهاد في هذا الزمان؟
فأجاب فضيلته قائلاً: الأصل في الجهاد أنه فرض كفاية، إذا قام به من يكفي سَقط عن الباقين، ولكن قد يكون فرض عين في أحوال:
الأول: فيما إذا حضر الإنسان الصفَّ، فإنه لا يجوز أن يَنحرِفَ أو يتولَّى لقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ الله وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) . (1) هذا واحد.
والثاني: إذا حَصَرَ بلده العدوُّ؛ فإنه يجب عليه أن يقاتل دفاعًا؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأله رجل فقال: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: " لا تُعطِهِ مالّكَ "، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: " قاتِلْهُ "، قال: أرأيت إنْ قَتَلَني؟ قال: " فأنتَ شهيدٌ"، قال: أرأيت إن
قتلتُه؟ قال: "هو في النار" (2) . هذا وهو مسلمٌ إذا جاء لأخذ مالي وقاتلتُه على مالي فقتلتُه، فهو في النار وهو مسلم، فكيف إذا كان كافراً!.
__________
(1) سورة الأنفال، الآية: 16.
(2) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من قصد أخذ مال غيره بغير حق كان القاصد مهدر الدم في حقهِ، برقم (140) .(25/313)
ثالثًا: إذا استنفره وليُّ الأمر، واستنفره: يعني طلب منه أن يخرج في الجهاد، فالجهاد حينئذ يكون فرض عين، لقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ الله اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) (1) .
رابعًا: إذا احتيج إليه بأن يكون لديه اختصاص لا يعرفه أحد، فحينئذٍ يكون فرض عين. مثل: أن يكون شخصًا يعلم قيادة الطائرات القاذفات، وليس يوجد غيره ممن تقوم به الكفاية، فحينئذ
يكون فرض عين. هذه مواضع أربعة ذكر العلماء أن الجهاد يكون فيها فرض عين، والأصل أنه فرض كفاية.
س 14: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل يجوز الجهاد دون إذن إمام المسلمين؟ وهل هناك حالات يجوز فيها بدون إذن؟
فأجاب بقوله: لا يجوز الجهاد إلا بإذن الإمام؛ لأنه المخاطب بالجهاد، ولأن الخروج بدون إذنه افتيات عليه؛ ولأنه سبب للفوضى والمفاسد التي لا يعلمها إلا الله.
__________
(1) سورة التوبة، الآية: 38.(25/314)
وأما قول السائل: هل هناك حالات يجوز فيها بدون إذن الإمام؟ فنعم إذا هجم عليهم العدو فيتعين عليهم القتال.
س 15: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله- ما حكم الجهاد على المسلمين بعد سقوط الأندلس وكثيرٍ من الولايات الإسلامية، خاصَّةً وقد أخذ اليهودُ في وقتنا الحاضر بيت المقدس الذي هو
أول قبلة للمسلمين، ومن المساجد التي يُشَدُّ إليها الرِّحال؟ وهل يسقط الجهاد عن المسلمين لعدم الاستطاعة؟ وإذا سقط الجهاد هل يتعَّين عليهم الإعداد؛ لأن ما لا يتمُّ الواجبُ إلا به فهو
واجب؟
فأجاب بقوله: الجهاد كغيره من الواجبات يشترط فيه القُدْرة، فإذا لم يقدر المسلمون على غزو الكفار سقط عنهم؛ ولهذا لم يوجب الله الجهاد على المسلمين في مكة لعدم استطاعتهم، وأوجبه عليهم حينما كوَّنوا لهم دولة في المدينة. ولكن يجب على الأمة الإسلامية أن تستعد لعدوها لقوله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) (1) .
__________
(1) سورة الأنفال، الآية: 60.(25/315)
س 16: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما حكم الجهاد في زماننا هذا؟ وهل هو فرض كفاية أم فرض عين؟ وإذا كان الجهاد فرض كفاية فمتى يكون فرض عين على هذه الأمة؟
فأجاب بقوله: أولاً: يجب أن تعلم أن الجهاد لا يكون فرض عين على جميع المسلمين، هذا شيء مستحيل، قال الله تعالى: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ) ، (1) وبَّين سبحانه وتعالى الحكمة، فقال: (لِيَتَفَقَّهُوا) أي: القاعدون في المدينة (قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ) ؛ لأنهم لو انصرفوا كلهم إلى الجهاد لتعطلت بقية الشرائع والشعائر. لكن يكون فرض عين في مواضع:
الموضع الأول: إذا حضر الإنسان صفَّ القتال فإنه يجب عليه أن يواصل الجهاد، قال الله تبارك وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ الله وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (2) .
الموضع الثاني: إذا حاصر العدوُّ بلده، فهنا يجب عليه أن يقاتل دفاعًا عن نفسه، وبلده الإسلامي.
__________
(1) سورة التوبة، الآية: 122.
(2) سورة الأنفال، الآيتان: 15-16.(25/316)
الموضع الثالث: إذا استنفره الإمام؛ يجب عليه أن يخرج. فمثلاً: يقول الإمام لأهل البلد: هيا اخرجوا للجهاد، فيجب أن يخرجوا؛ لأن معصية ولاة الأمور محرَّمة، ولما وجه الخطاب لهؤلاء وجب
عليهم أن يقوموا بذلك.
الموضع الرابع: إذا احتيج إليه بأن يكون هذا الرجل يعلم من استعمال هذا النوع من السلاح وغيره ما لا يعمله غيره، فهنا يتعين عليه أن يباشر.
في غير هذه المواضع الأربع لا يكون الجهاد فرض عين، ثم إن الجهاد لابدَّ له من راية إمام، وإلا كانت عصابات. فلابد من إمام يقود الأمة الإسلامية، ولذلك تجد الذين قاموا بالجهاد من غير راية
إمام لا يستقيم لهم حالٌ، بل ربما يُبادُون عن آخرهم، وإذا قُدِّر لهم انتصار صار النزاع بينهم. فعلى كل حال نسأل الله أن يُعيننا على جهاد أنفسنا، فنحن الآن في حاجة إلى جهاد النفس، فالقلوب
مريضة، والجوارح مقصِّرة، والقلوب متنافرة، وهذا يحتاج إلى جهاد قبل كل شيء.
س 17: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: أرجو أن توضح مدى حاجة المجتمع الإسلامي للجهاد في سبيل الله.(25/317)
فأجاب بقوله: هذه الحاجة بيَّنها الله- عز وجل في كتابه فقال: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لله) (1) ، فالناس في حاجة إلى قتال الكفار الآن حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.
ولكن هل يجب القتال أو هل يجوز القتال مع عدم القدرة عليه؟
الجواب: لا يجب، بل ولا يجوز أن نقاتل ونحن غير مستعدين له.
والدليل على هذا: أن الله- عز وجل- لم يفرض على نبيه وهو في مكة أن يقاتل المشركين، وأن الله أذن لنبيه في صلح الحديبية أن يعاهد المشركين ذلك الجهد الذي إذا تلاه الإنسان ظن أن فيه خذلانًا
للمسلمين، وكلنا يعرف كيف كانت شروط صلح الحديبية، حتى قال عمر بن الخطاب- رضي الله عنه-: يا رسول الله، ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟! قال: "بلى". قال: فلم نرضي الدَّنِيَّةَ في ديننا؟ فظن هذا خِذلانًا، لكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لاشك أنه أفقه من عمر- رضي
الله عنه-، وأن الله تعالى أذن له في ذلك فقال - صلى الله عليه وسلم -: " إني رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري " (2) .
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 193.
(2) انظر: صحيح البخاري كتاب، الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحروب وكتابه الشروط، برقم (2731، 2732) وصحيح ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب صلح الحديبية برقم (1783، 1784، 1785، 1786) .(25/318)
انظر الثقة الكاملة في هذه الحال الضَّنْكة الحَرِجة، يعلن هذا لهم، يقول: "لست عاصيه وهو ناصري "، سيكون ناصرًا لي، وإن كان ظاهر الصلح أنه خِذلان للمسلمين، وهذا يدلنا على مسألة مهمة،
وهي: قوة ثقة المؤمن بربه، فهذا محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، في هذه الحال
الحرجة يقول: "وهو ناصري ".
وفي قصة موسى عليه السلام لما لحقه فرعون وجنوده وكان أمامهم البحر وخلفهم فرعون وجنوده، ماذا قال لأصحابه حين قالوا: إِنَّا لمُدرَكون؟ قال: كَلاَّ، ما يمكن أن نُدرَك، (إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) (1) . سيهديني لشيء يكون فيه الإنقاذ. وبالفعل حصل الإنقاذ لموسى- عليه السلام- وقومه، وحصل هلاك فرعون وقومه.
فالمهم أنه يجب على المسلمين الجهادُ حتى تكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كله لله، لكن الآن ليس بأيدي المسلمين ما يستطيعون به جهادَ الكفار، حتى ولا جهادَ مدافعةٍ في الواقع.
جهاد المهاجمة لا شك أنه الآن غير ممكن حتى يأتي الله- عز وجل - بأُمة واعيةٍ تستعد إيمانيًّا ونفسيًّا ثم عسكريًّا، أما ونحن على هذا الوضع، فلا يمكن أن نجاهد أعداءَنا.
ولذلك انظر إلى إخواننا في جمهورية البوسنة والهرسك ماذا يفعل
__________
(1) سورة الشعراء، الآية: 62.(25/319)
بهم النصارى؟! يمزقونهم أشلاءً، وينتهكون حرماتهم، وقيل لنا: إنهم يذبحون الطفل أمام أُمه ويجبرونها على أن تشرب دمه، نعوذ بالله. شيءٌ لا يَتَصوَّر الإنسان أنه يقع، ومع ذلك فإن الأمم النصرانية
تمُاطِلُ وتتماهل وتَعِدُ وتُخِلف، والأمة الإسلامية ليس منها إلا التنديد القولي دون الفعلي من بعضها لا من كلها، وإلا فلو أن الأمة الإسلامية فعلت شيئًا- ولو قليلاً- مما تقدر عليه لأثَّر ذلك في
الوضع القائم، لكن مع الأسف إننا نقف وكأننا متفرجون، ولاسيما بعض ولاة الأمور في الأمة الإسلامية، أمَّا الشعوب فمعها شعور، ومعها حركة قلبية، لكن لا يكفي هذا، والله! إن الإنسان كلما ذكر إخوانه هناك تألَّم لهم إلى شديدًا، لكن ماذا نعَمل؟ نشكو إلى الله عز وجل، ونسأل الله تعالى أن يُقِيمَ عَلَمَ الجهاد في الأمة الإسلامية؛ حتى نقاتل أعداءنا وأعداء الله لتكون كلمة الله هي العليا.
س 18: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل الإعداد للجهاد فرض عين أو فرض كفاية؟
فأجاب بقوله: الإعدادُ للجهاد ومباشرة الجهاد فرض كفاية، فلو وجدنا مثلاً أُمةً تستعدُّ للجهاد في سبيل الله، وعندها ما يكفي من الأفراد للقيام بهذا الفرض، لصار في حق الآخرين سُنَّة وليس(25/320)
بواجب، وإذا لم يوجد أحد أَثِمَ الجميعُ بعدم الإعداد وعدم الجهاد، لكن الأمر كما ترى في الوقت الحاضر، ليس هناك صدقٌ مع الله، لا بالنسبة للناس ولا بالنسبة لحكام الناس. فأمَّا الناس فتجد عامَّتهم وأكثرهم غافلين عن هذا إطلاقًا، وليس عندهم استعداد، فهم في غَفْلة، بل لا يحصل منهم حتى جهاد أنفسهم عن محارم الله.
وأَمَّا الحكام- فكما ترى فهم أيضًا- غافلون عن هذا، ولذلك أصبحت الأُمة الإسلامية الآن أمة مُمَّزقة متفرقة، وأصبح الكفار هم الذين لهم السيطرة على العالم، ولا يمكن أن يكون لنا سيطرةٌ على
العالم وعلى الكفار إلاّ بالرجوع إلى الدين الذي بُعِث به محمد - صلى الله عليه وسلم - وتطبيقه عقيدةً وقولاً وعملاً في عبادة الله وفي معاملة عباد الله، ولهذا لما قال أبو سفيان لهرقل ما يعلمه من صفات الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومعاملته، قال له: " إن كانَ ما تقولُ حَقًّا فسَيَملِكُ مَوضِعَ قَدَمَيَّ هاتَينِ " (1) ، فنحن الآن في حالٍ يرثى لها في الواقع. نسأل الله أن يعيد للأمة
الإسلامية مجدها.
س 19: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل الإنسان إذا توفرت له الفرصةُ للجهاد في بلد من البلدان، هل يصبحُ في حقه
__________
(1) رواه البخاري، كتاب بدء الوحي، باب (6) ، برقم (7) .(25/321)
فرض عين أن يذهب؟
فأجاب بقوله: هو فرض كفاية، لا يكون الجهاد فرض عين إلا في أحوال معَّينة، عيَّنها العلماءُ:
الأول: إذا حَضَرَ الصفَّ لقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ الله وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (1) . وأخبر النبي- - صلى الله عليه وسلم - - أن التولي يوم
الزحف من الموبقات (2) .
الثاني: إذا حاصر بلده العدو، فلابد أن يدافع لِفَكِ الحصار عن بلده، وفي هذا قال بعض العلماء: إنه يكون فرض عين؛ لأن هذا كتقابل الصفين.
الثالث: إذا استنفره الإِمام، لو قال: يا فلان اخرج؛ صار فرض عين، ولا يجوز أن يقول: مُر غيري، بل يجب أن يُطيع.
الرابع: إذا دعت الحاجة إليه بعينه، مثل أن يكون عارفًا بنوعٍ من السلاح ولا يستخدمه إلا مثله، فهنا يتعين عليه أن يُباشر القتال، بهذا السلاح الذي لا يعرفه إلا هو.
__________
(1) سورة الأنفال، الآيتان: 15-16.
(2) رواه البخاري/كتاب الوصايا/باب قوله تعالى: "إن الذين يأكلون أموال اليتامى" ومسلم/كتاب الإيمان/باب بيان الكبائر برقم (129) برقم (2560) .(25/322)
هذه هي الأحوال الأربع التي ذكر العلماء أن الجهاد يكون فيها فرض كفاية أو فرض عين، وما عدا ذلك فإنه فرض كفاية، والجهاد ولو كان فرض عين لابد له من شروط من أهمها القدرة: فإن لم يكن
لدى الإنسان قدرة، فإنه لا يلقي بنفسه إلى التهلكة وقد قال الله تعالى: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ الله وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (1) .
س 20: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل الجهاد ركن من أركان الإسلام؟
فأجاب بقوله: الجهاد في سبيل الله من أعظم واجبات الدين، وفيه من الفضل ما هو معلوم في الكتاب والسنة، ولكن ليس هو من أركان الإسلام، فإنَّ أركان الإسلام التي بُنِيَ عليها خمسةٌ معروفةٌ ليس منها الجهاد في سبيل الله، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "بُنِيَ الإسلام على خَمْسٍ: شَهَادةِ أَنْ لا إلهَ إلاَّ الله، وأَنَّ محمدًا رسولُ الله، وإقامِ الصلاة، وإيتاءِ الزكاةِ، وصومِ رمضانَ، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً" (2) .
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 195.
(2) رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب بني الإسلام على خمس، برقم (8) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أركان الإسلام، برقم (16) .(25/323)
س 21: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: عن حُكْم الإعداد للجهاد في سبيل الله، ومن يخاطب به؟
فأجاب بقوله: الإعدادُ للجهاد في سبيل الله فرض كفاية، والمخاطَبْ بذلك وُلاة الأمور، لقول الله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ الله يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ الله يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ) (1) . ويكونُ في أحسن موضع يتلقى فيه هذا الإعداد، ولكن كما ذكرنا: يخاطَب بذلك ولاةُ الأمور، أمَّا أفراد الناس فهم لا يستطيعون في الغالب.
س 22: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: عن قتال الفلسطينيين لليهود هل هو جهاد شرعي؟
فأجاب بقوله: لا يمكن أن نحكم على شخصٍ أو طائفة بأن جهاده شرعي أو غير شرعي، حتى يوزن ذلك بالميزان الذي جاء به الكتاب والسنة، وذلك بأن يكون الجهاد في محله بأن يكون المجاهَد
- بفتح الهاء- ممن أمر الله بجهاده، وأن تكون نية المجاهِد- بكسر الهاء- خالصةً لله تعالى، بحيث يريد بجهاده أن تكون كلمة الله هي العليا.
__________
(1) سورة الأنفال، الآية: 6.(25/324)
وقد سُئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يقاتلُ شجاعةً، ويقاتل حَمِيَّةً ويقاتل ليُرَى مكانُه، أيُّ ذلك في سبيل الله؟ فقال: " مَن قاتَلَ لِتكونَ كلمةُ الله هي العُلْيا، فهو في سبيلِ الله عزَّ وجل " (1) . فهذا هو الجهادُ الشرعي الذي جعل الله له نصيبًا من الزكاة في قوله تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ الله وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ الله وَالله عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (2) .
س 23: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله- عن مسألتين الأولى: حكم الجهاد في أفغانستان هل هو فرض عين؟ وهل يلزم رضا الوالدين؟
والثانية: نُسِبَ إلى شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- أنَّه يقول: " لا يُسأل في الجهاد إلاّ عالمٌ بالجهاد"، فعلى تقدير صحة هذه النسبة-
__________
(1) رواه البخاري، كتاب العلم، باب من سأل وهو قائم عالماً جالساً، برقم (123) . وفي كتاب الجهاد والسير، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، برقم (2810) . ومسلم، كتاب الإمارة، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، برقم (1904)
(2) سورة التوبة، الآية: 60.(25/325)
إن صحت- ما هو رأيكم في هذا، حيث إنه أثار شكًّا في نفوس كثير من الشباب في عدم قَبُول فتوى العلماء الذين لم يشاركوا في الجهاد "؟
فأجاب بقوله: أقول وبالله التوفيق أقول في الجواب، وأنا كاتبه محمد الصالح العثيمين مازلت متوقفًا في حكم الجهاد في أفغانستان هل هو فرض عين أو لا؟
ولكن لا شك أنه جهادٌ إسلامي، فيه قمعٌ للكفرة وأعوانهم، نسأل الله أن يُخِلصَ نية القائمين به وُيتِمَّ نصرهم (1) ، وأمَّا تقديم هذا الجهاد على رضا الوالدين، فلا يُقدَّم على رضا الوالدين، بل لابد من إذنهما فيه، فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث ابن مسعود رضي الله
عنه أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -: أَيُّ العمل أحبُّ إلى الله؟ قال: "الصلاةُ على وَقْتها " قلت: ثمَّ أيٌّ قال: "برُّ الوالدينِ " قلت: ثمَّ أيٌّ؟ قال: "الجهادُ في سبيلِ الله " (2) .
وفي "الصحيحين " من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما- أن رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستأذنه في الجهاد،
__________
(1) انظر: الفتوى رقم (27) ص 331.
(2) رواه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل الصلاة لوقتها، برقم (527) ، وفي كتاب الجهاد، باب فضل الجهاد والسير، برقم (2782) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال، برقم (85) .(25/326)
فقال: "أحيٌّ والداك؟ " قال: نعم، قال: "ففِيهِمَا فجَاهِدْ" (1) .
ثمَّ إنَّ الرجل إذا فاته الجهاد بنفسه تبعًا لرضا والديه لم يَفُتْهُ الجهاد بماله إن كان ذا مال، والجهادُ بالمال شقيقُ الجهاد بالنفس وقرينُه في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
أما بالنسبة للسؤال الثاني: ما نُسِبَ إلى شيخ الإسلام ابن تيمية لا أدري هل يصحُّ عنه بهذا اللفظ أو لا؟ وإن صح فمراده علم مُقتَضَيات الجهادِ وثمراته، وهل الحكمة في الإقدام عليه أو في إعداد
العُدُّة قبل ذلك؟ وليس مراده العلمَ بالحكم الشرير فيه؛ لأنَّ هذا لا يختص بالجهاد، بل كل شيءٍ لا يُسأل فيه إلاَّ من كان عالمًا به.
وأما الشك الذي أثاره هذا الكلام في نفوس كثير من الشباب، فلا وجه له، فإنَّ العلماءَ بالجهاد تُقَبل فتواهم فيه، سواء شاركوا فيه أم لم يشاركوا، فالحق ضالة المؤمن أينما وجده أخذه، والمؤمن كَيِّسٌ فَطِنٌ؛ لا يُقْدِمُ على شيءٍ إلا بعد معرفة نتائجه وثمراته، ولا يجعل الحكم في المقارنة بين الأشياء إلى العاطفة المَحْضة، بل يتروى في الأمور وينظر بعين الشرع والعقل والعاطفة، فبالشرع يعرف الحكم، وبالعقل يُقايَسُ بين الأمور، وبالعاطفة ينشط ويدع الخمول، والله الموفق، حرر في 9/9/1409 هـ.
__________
(1) رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب الجهاد بإذن الأبوين، برقم (3004) ، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب بر الوالدين وأنهما أحق به، برقم (2549) .(25/327)
س 24: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل الجهاد في أفغانستان جهادٌ في سبيل الله بحق؟ فالبعض يطعن فيه، نرجو من فضيلتكم بيان ذلك بيانًا وافيًا؟
فأجاب بقوله: الذي أرى أن هذا الجهاد جهادٌ إسلامي (1) ؛ لأنَّ المعروف عن قادته وزعمائه أنهم يريدون أن يحرِّروا بلادهم من الكفر وأتباعه لتُحررَ فيها كلمة الله- عز وجل- وتكون كلمةُ الله هي العليا، وهذه هي نيةُ الجهاد الإسلامي، هذا هو المعروف عنهم، وبناءً عليه فإن الجهاد في أفغانستان يُعتَبُر من الجهاد في سبيل الله، فمن جاهد فيه فقد جاهد في سبيل الله، ومن بذل المال فيه فقد بذله في سبيل الله، ولهذا يجوز أن تصرف الزكاة في معونتهم؛ لأن سبيل الله- عز وجل
- أحد الأصناف الثمانية التي جعلهم الله سبحانه وتعالى أهلاً لها فقال: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ الله وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ الله وَالله عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (2) . فقال: (وَفِي سَبِيلِ الله) ، وهو يشمل إعطاء المجاهدين أنفسهم من الزكاة وشراء الأسلحة لهم، فكل ذلك داخل في قوله تعالى: (وَفِي سَبِيلِ الله) .
__________
(1) انظر: فتوى رقم (27) ص 331.
(2) سورة التوبة، الآية: 60.(25/328)
وأما من زعم أنه ليس جهادًا إسلاميًا فليتحمَّل هذه الدعوى وهذه الفِرْيَة، أَخشى أن يكون ممن صَدَّ عن سبيل الله. وعلى المرء ألا يطلق مثل هذه العبارات في عباد الله الذين ظاهرهم الخير والحق،
فإن هذا خطر عظيم. ألم يبلغكم أنَّ أسامة بن زيد- وهو من أحب الرجال إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - لحق رجلاً من المشركين في إحدى الغزوات، فلما أدركه أسامة- رضي الله عنه- قال الرجل: لا إله إلا الله، فظن أسامةُ أنه قال ذلك تعوُّذًا وتخلصًا من القتل، فقتله- رضي
الله عنه-، ثم أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك فقال: "يا أسامة، أَقَتَلْته بعدَ ما قال: لا إله إلا الله؟ "، قلت: كان متعوذاً، فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم (1) .
مع أنه لو عاد الأمر ونظرنا في القرائن، لكُنَّا نظنُّ كما ظنَّ أسامة رضي الله عنه، لكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كرَّرَ ذلك إشارةً إلى أنه لم يرضَ بهذا العمل، وأنَّ كلّ من أبدى لنا خيرًا فإننا يجب أن نعامله بما أبدى لنا؛ لأن النية في القلب لا يعلمها إلا خالقُ القلب جل وعلا. وكوننا
نَتَّهم هؤلاء بسوء القصد لا يجوز، وأرى أنَّ من قال ذلك عليه أن
__________
(1) رواه البخاري، كتاب المغازي، باب بعث النبي صلى الله عليه وسلّم أسامة بن زيد إلى الحرقات من جهينة، برقم (4269) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال لا إله إلا الله، برقم (96) .(25/329)
يستغفر الله ويتوب، ولا يكون ممن يُثِّبط عن القتال في سبيل الله، أو عن المعاونة للمجاهدين في سبيل الله.
س 25: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: راية الجهاد في كشمير هل هي راية صحيحة؟
فأجاب بقوله: يحتاج الجهاد أولاً: إلى رايةٍ من خليفة أو إمام، وهذا مفقودٌ في الواقع.
ثانياً: الجهاد يحتاج إلى أن يذهب الإنسان ليجاهد ويكون فيه ندب وغنائم، ومعلوم أنه في الوقت الحاضر لا يحصل فيه ذلك، فالطائرات تأتي من فوق والذين تحتها تحت رحمة قوات الطائرات
وليس هناك، غُنْم، وكانت الحرب في الزمن الأول بريَّةً، والناس يحاربون بالسيف والرمح ويحصل فائدة الغُنْم.
ثالثًا: أنه يشترك في هذه الحروب أُناسٌ جاءوا لينفِّسوا عن أنفسهم؛ لأنَّهم في بلادهم مكبوتون، فيأتون لينفسوا عن أنفسهم، ثم يبثون السموم في الآخرين ويكرهون ولاتهم، فيرجع هؤلاء إلى بلادهم وهم قد مقَتُوا البلاد رَعيتَها ورُعاتَها، ويحصل بذلك مفاسد كثيرة، والأمثلة كثيرةٌ لا أحب أن أذكرها لكن تأملوها في عدة بلاد.
ثم إذا استتبَّ الأمن في البلاد ونجت من الغزو، وأراد أحدٌ من(25/330)
الدعاة أن يدعو على حسب منهجه وطريقته، فهناك مشيخة في البلاد معروفة معتمدة عندهم تمنع أي إنسان يدعو إلى خلاف ما هم عليه بمعنى أن الدعوة الصحيحة لا تقوم هناك، وهذا مُشكِل، لكن موقفنا مع إخواننا هؤلاء أن نسأل الله لهم النصر والتأييد، وهذا ما نقدر عليه، كذلك إذا أمكن بالمال فلنجاهد بالمال.
س 26: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: بلغنا أن لكم فتوى متداوَلَة بين المجاهدين في كشمير، أي إنكم تنصحون بالجهاد في كشمير وأنها رايةٌ صحيحة؟
فأجاب بقوله: هذا غير صحيح.
س 27: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: سبق لك وأن أفتيتَ بالذهاب إلى بعض الأماكن كأفغانستان، ثم الآن لا تفتون بذلك، فلماذا؟
فأجاب بقوله: لأنَّ الأمورَ تتغير باختلاف النتائج، ففي بداية ظهور الحرب في أفغانستان كُنَّا نؤيد الذهاب، ولكن صارت النتائج بخلاف ما نريد، فالراجعون من هناك معروفة حالهم إلا من سلَّمه الله- عز وجل-، والباقون هناك لا يخفى ما يقع بينهم من الحروب الطاحنة.(25/331)
س 28: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: عن واقع الجهاد في الشيشان؟
فأجاب بقوله: الواقع أن الجمهورية الشيشانية أُصيبت بهذا البلاء من الملاحدة الكفرة، وموقفنا أن ندعو لهم بين الأذان والإقامة، وفي صلاة الليل، وفي كل مناسبة.
أما مسألة القنوت فلا نَقنُت إلا بأمر ولي الأمر؛ لأننا نحن تابعون لولي الأمر، وسأخبركم عن رأي الفقهاء عن مسألة القنوت: عند النوازل.
فمن العلماء من يقول: لا يَقنُت في النوازل إلا الرئيس الأعلى في الدولة فقط، وغيره لا يقنت. وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة رحمهم الله، حيث قالوا: إلا أن تنزل بالمسلمين نازلةٌ فيقنت الإمامُ الأعظم في الفرائض.
وعلى هذا فلا يُسَنُّ للشعب أبدًا أن يقنت، وعَلَّلوا ذلك بأنه لم يقنت في النوازل إلا الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لكن هذا القول ضعيف؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - مُشرِّع.
ومن العلماء من قال: يقنت الإمامُ: إمام المسجد، كلٌّ في مسجده.
ومنهم من قال: يقنت كلُّ مصلٍّ، وهذا هو أرجح أن يقنت كل مصلٍّ، لكن الإمام في الجماعة لا يقنت إلا بعد موافقة ولاة الأمور، إن قالوا: اقنتوا، قَنَتْنا جهرًا، وإن سكتوا سكتنا، لكننا لا نسكت عن(25/332)
الدعاء لإخواننا في الشيشان، ولْيُعلم أن الشيشان جمهوريةٌ إسلاميةٌ، والروس أُمة ملحدةٌ، لكن لما رأوا أن الإسلام سيمتدُّ أرادوا أن يقضوا على الإسلام. وأولُ جمهوريةٍ إسلامية استقلت هي الشيشان فيما أعلم، فأرادوا أن يقضوا على؛ ولذلك الغربُ ساكتون ما قالوا شيئًا؛ لأن هذا مما يفرحون به، إذ إنَّ الغرب الكفرة يفرحون بكل ما فيه ذل للإسلام، وخذلانٌ للمسلمين، ولا شك في هذا عندي أنهم يودُّون هذا وإن أظهروا أنهم يساندون الإنسانية أو ما أشبه ذلك، فهُم كَذَبة؛ ولهذا هم ساكتون.
ولما بدأت جمهورية الشيشان تُضرَب بالقنابل، ويموت الناس في الأسواق تحركوا، ولكن تحرك سلحفاة، وإلا لو خنقوا الروس في الأمور الاقتصادية لعلمنا أن الروس سوف يستسلمون ويذلُّون، بل من أسباب هجوم الروس على الشيشان أنهم يريدون أن يشغلوا شعبهم بهذه الحرب عن العيب والعور والبلاء في اقتصادهم ومجتمعاتهم، والغرب ساكتون!
تيمور الشرقية مسألتها قليلةٌ أهون من هذا بكثير، لكن لما كان غالبها من النصارى ماذا فعل الغرب الأمة النصرانية الملحدة؟ ماذا فعلوا؟! جهزوا أسطولاً وطيارات ودبابات من أجل أن يفصلوا
تيمور الشرقية عن إندونيسيا؛ حتى يُضعِفوا المسلمين يأخذوهم شيئًا(25/333)
فشيئًا، دويلاتٍ دويلاتٍ، وقد عُلِم أن التفرق فيه الفشل كما قال- عز وجل-: (وَأَطِيعُوا الله وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ الله مَعَ الصَّابِرِينَ) (1) .
ونحن موقفنا أن نسأل الله- سبحانه وتعالى- النصر لإخواننا الشيشان في جمهوريتهم، وأن يُذِلَّ الروس إذلالاً يكون حديثًا لمن بعدهم، وكذلك كل من كاد للمسلمين؛ لأنه ليس بيننا وبين هؤلاء
نسب، بيننا وبينهم الدِّين، من كان عدوًّا للإسلام فهو عدونا إلى يوم القيامة، ومن كان ناصحًا للإسلام فعلى حسب نصحه نحبه ونفرح بانتصاره، ألم تروا أن الله قال: (الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لله الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ الله يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)) (2) . مع أنه نصر للروم وهم نصارى، على الفُرْس وهم مجوس- وكلهم كفار- لكن لا بأس أن يفرح المؤمن بانتصار
غير المسلمين، ولو كان كافرًا. اللهم انصر إخواننا المسلمين في الشيشان، اللهم انصرهم على عدوهم، اللهم فرِّج كُرُباتِهم ويسِّر أمورهم واخذل أعداءهم يا رَبَّ العالمين، اللهم صل على محمد.
__________
(1) سورة الأنفال، الآية: 46.
(2) سورة الروم، الآيات: 1-5.(25/334)
س 29: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما حُكم الذهاب للشيشان ويوغسلافيا للجهاد؟
فأجاب بقوله: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله عزَّ وجل " (1) .
وبالنسبة للشيشان هل طلبوا منا أن نأتي إليهم؟ لأنهم إذا لم يطلبوا منا هذا صار الناس عبئًا عليهم، لأنَّ كل واحد يحتاج إلى نفقة ويحتاج إلى سلاح ويحتاج إلى مكان، فنكون عبئًا عليهم.
ثانيًا: ربَّما يقع هذا المجاهد الذي ذهب من غير البلد (الشيشان) ربما يعثر عليه الجنود الروس فيقولون: إذن هذه الدولة أو الجمهورية تأوي أهلَ الإرهاب، فيكون في ذلك ضَرَرٌ، إنما حق إخواننا الشيشان علينا الآن أن ندعو الله- عز وجل- لهم في كل وقت؛ لأنَّ سقوط جمهورية إسلامية على يد ملَاحدةٍ كَفَرة طُرِدوا منها بالأمس فيأتون اليوم منتصرين، ليست هيِّنة. ثم إن انتصارها أيضًا نواة لانتصار الجمهوريات الأخرى التي قد استعمرها الروس الذين نسأل الله أن
يُنزِلَ في قلوبهم الرعب وأن يَخذُلهم ويرُدهم من حيث جاءوا.
__________
(1) رواه البخاري، كتاب العلم، باب من سأل وهو قائم عالماً جالساً، برقم (123) ، وفي كتاب الجهاد والسير، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، برقم (2810) ، ومسلم، كتاب الإمارة، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، برقم (1904) .(25/335)
مجموعة من الأسئلة عرضت على فضيلة الشيخ- أعلى الله درجته في المهديين- عن حركة الإسلامي الإرتري.
* السؤال الأول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم فضيلة الشيخ. سؤال عن حركة الجهاد الإسلامي الإرتري: هذه الحركة التي تأسست في عام 1409 هـ، وتوحدت فيها كل الجماعات والأحزاب الإسلامية بعد أن نُكِبَ المسلمون في
أعراضهم، حين سِيَقت الفتياتُ بالآلاف إلى معسكرات الرذيلة لتكون أرحامهن مصانع لأبناء الحرام، في أخطر غزو تعرَّض له المسلمون في أرتريا، ثم تفرقت الحركة بعد ذلك إلى أحزاب
متصارعةٍ، وأخذ كل أميرٍ حزبَه وجماعتَه، ثم قامت مجموعة سمت نفسها القيادة العسكرية الانتقالية وادعت المنهج السلفي في أول أمرها.
ثم ظهر أنَّها متأثرةٌ بفكر جماعة التكفير، وذلك كالآتي:
1- قيامها بتنفيذ الأحكام التي تراها في غير أراضيها باستئجارها البيوت لخطف الناس فيها، واعتقالهم وتعذيبهم وإجبارهم على التنازل عن كل حقوقهم، واستكتابهم الأوراقَ لإثبات الأموال على ذممهم ليُسدِّدُوها بعد إطلاق سراحهم، وإجبارهم على التوقيع على(25/336)
أوراق يتنازلون فيها عن المدارس ومراكز تحفيظ القرآن التي يشرفون عليها، والممتلكات والاستثمارات التي خُصِّصَت لنفقات تلك المدارس والمراكز؛ من أجل الاستحواذ على أموال المحسنينَ التي تُدفَعُ لهذه المدارس والأيتام والدعاة.
2- كتابة رسائل التهديد حتى للذين يتواجدون في خارج البلاد، ولدينا من ذلك نماذج توضح ذلك.
3- التنكيل والتعذيب والسَّجنُ للدعاة الذين يخالفونهم في آرائهم، وقد عُذِّبَ من هؤلاء عدد غير قليل. وأَنَّه لا فرق بين ما يحدث في الجزائر بين الجماعات الإسلامية من الاقتتال وبين ما يفعله
هؤلاء بإخوانهم الدعاة.
فأجاب بقوله: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
لي ملاحظةٌ قبل الإجابة على السؤال وهي: أن الأخ الذي قدَّم السؤال قدَّم قولَه: " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " وهذا ليس بمشروع؛ لأنَّ الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم إنما تكونُ عند
تلاوة القرآن، وأما ما سواه فإنه لا يُسَنُّ أن يستعيذ الإنسان بالله من الشيطان الرجيم عند قراءته، وإنْ كانت الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم مشروعةٌ في كل وقت، لكن تقييدها بغير ما قُيِّدَت به من(25/337)
الشرع لا ينبغي.
أمّا ما ذَكرتَ عن هؤلاء الطائفة فإن صحَّ ما ذكرت، فلا شكَّ أنَّ هذا محُرمٌ في دين الله- عز وجل-، وأنَّ استحلال أموال المسلمين وتعذيبهم من أجل أنهم خالفوهم في أمر لا يُعلَمُ مَن المصيب منهم
والمخطئ، فإن هذا بلا شك عدوانٌ وظلم، ولا يحل لهم ذلك.
والواجبُ على إخواننا في أرتريا أن يتقوا الله في أنفسهم، وأن يكونوا أمةً واحدةً لا نزاع بينهم ولا قتال ولا عدوان ولا ظلم، نسأل الله للجميع الهداية والتوفيق.
* السؤال الثاني: هذه الفِرَق كل أمير يدعي أن له الحق في السمع والطاعة على الناس، بل ويؤاخذون بذلك حتى قُتل من قُتل، وعُذِّب من عُذِّب، وسُجِن من سُجِن، ووُجِدَ فسادٌ عريض
بذلك. هذه الفرق تمارس هذه الأعمال في خارج أراضيها، تستبيحُ أراضي الدول المجاورة باستئجارها البيوت في مدن البلدان المجاورة لخطف وتعذيب وقتل بعض أفرادها فضلاً عن
أعدائها، فهل هذا العمل يعتبر عملاً مشروعًا؟
فأجاب بقوله: ليس هذا عملاً مشروعًا، ولا يحلُّ للإنسان أن(25/338)
يعتدي على أخيه المسلم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كُلُّ المسلِم على المسلمِ حَرام، دَمُه ومالُه وعِرضُه " (1) ، وأعلن - صلى الله عليه وسلم - في حِجَّةِ الوداع أنَّ دماءنا وأموالنا وأعراضنا حرامٌ علينا، وهذا أمر معلوم بالضرورة من الدين، ولا يحتاج إلى سؤال عن حكمه، بل المهم تطبيق هذا الأمر، وعدم الاعتداء على المسلمين وأن يكونوا إخوانا متآلفين ومتحابين في الله.
* السؤال الثالث: فضيلة الشيخ نريد البيان في مسألة أن كل أمير يدَّعي الحق في الطاعة لنفسه؟
فأجاب يقوله: إنَّ هذه مشكلة، هذه فتنة ولا بد من أن يتفق أهل البلد على أمير واحد يكون له السمعُ والطاعةُ على الجميع، أما كل فرقة تقول: أنا ليَ الإمارة، فليس هذا من الشرع، وفي هذه الحال نقول: إذا كان ولابد من التحزُّب، فكلُّ إنسان يكون مع قومه حتى يأذن الله- عز
وجل- بأن يتفقوا على واحد معَّين يكون أميرًا على الجميع.
* السؤال الرابع: ماذا يفعل الذين لا يتحيزون لهذا ولا لهذا؟ هل يتركون الدعوة حتى يصطلح هؤلاء، أم يتركون الجهاد حتى يصطلح هؤلاء؟
__________
(1) رواه مسلم، كتاب البر والصلة، باب تحريم ظلم المسلم وخذله، برقم (2564) .(25/339)
فأجاب بقوله: لابدَّ من الدعوة إلى الله- عز وجل- سواء اصطلح هؤلاء، أم لم يصطلحوا، وأما القتالُ فلا يجوز ولا يَحِلُّ إلا دفاعًا عن النفس فقط.
* السؤال الخامس: ما حُكم الذين يدفعون الأموال لهؤلاء مع علمهم وإخبارهم بحال هؤلاء وتبليغهم بتعذيب الدعاة والعلماء وقادة المجاهدين وأفراد المجتمع، بل وحضور المعذَّبين إليهم
وإعطائهم رسائل التهديد المكتوية بأيدي هؤلاء القادة؟
فأجاب بقوله:. إعانة هؤلاء على ظُلمِهم من باب التعاون على الإثم والعدوان، وقد قال الله- عز وجل- في كتابه: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (1) . فمن أعانهم بقوله أو فعله أو ماله، فهو شريكٌ لهم في الإثم.
س 30: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما حكم من يذهب ليجاهد في أفغانستان بغير رضا والديه، حيث إن والدته متأثرة بدنيًّا ونفسيًّا. نرجو إسداء النصح له وجزاكم الله خيرًا؟
فأجاب بقوله: حُكم ذهاب هذا- مع تأثُّر والدته- إلى الجهاد في
__________
(1) سورة المائدة، الآية: 2.(25/340)
أفغانستان، أنَّه آثمٌ في ذلك جاهلٌ بحكم الله ورسوله؛ لأنَّ بِرَّ الوالدين مُقدَّم على الجهاد في سبيل الله، ففي "الصحيحين " عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- قال: سألت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ العمل أحبُّ إلى الله؟ قال: " الصَّلاةُ على وَقْتها " قلت: ثمَّ أيٌّ؟ قال: " بِرُّ
الوالدينِ " قلت: ثمَّ أيٌّ؟ قال: "الجهادُ في سَبيلِ الله " (1) .
وفي "الصحيحين " عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: جاء رجلٌ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستأذنه في الجهاد فقال: "أحيٌّ والِداكَ؟ " قال: نعم، قال: "ففيهما فجاهِدْ " (2) ، وفي رواية لمسلم قال: أَقبَلَ رجلٌ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أُبايعُكَ على الهجرة والجهاد أَبتَغي الأجرَ من الله، قال: "فهل من والِدَيكَ أحَدٌ حيٌّ؟ " قال: نعم، بل كِلاهُما حي، قال: "فتَبْتَغي الأَجرَ من الله؟ " قال: نعم، قال: "فارجعْ إلى والدَيكَ فأحسِنْ صُحبَتَهُما " (3) ، وعن أبي سعيد الخُدْري- رضي الله عنه- أنَّ
__________
(1) رواه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل الصلاة لوقتها، برقم (527) ، وفي كتاب الجهاد، باب فضل الجهاد والسير، برقم (2782) ، ومسلم، كتاب الأيمان، باب بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال برقم (85) .
(2) رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب الجهاد بإذن الأبوين، برقم (3004) ، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب بر الوالدين وأنهما أحق به، برقم (2549) .
(3) رواه مسلم، كتاب البر والصلة، باب بر الوالدين وأنهما أحق به، برقم (2549) .(25/341)
رجلاً من أهل اليمن هاجر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "هل لك أحدٌ باليمنِ؟ " فقال: أبوايَ، فقال: "أَذِنَا لَكَ؟ " قال: لا، قال: "فارجعْ إليهما فاستأذِنْهُما، فإن أَذِنَا لك فجَاهِدْ وإلا فبرَّهُما " (1) .
ولا رَيْبَ أن من العقوق أن يدعَ الرجل أمَّه تموت بغَمِّها أو تمرض، أو يلحقها الوَسْواس المضرُّ ببدنها وتفكيرها ويؤثر على عباداتها، فتبقى كأنها في زجاجة لا يَقَرُّ لها قرار ولا يهدأ لها بال،
يَدَعُها في هذه الحال أو فيما دونها ثم يذهب ليجاهد.
والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يبلغ أمَّته أن برَّ الوالدين مقدَّمٌ على الجهاد في سبيل الله بدون تفصيل، وقد دلَّ الكتاب والسنَّة وإجماع المسلمين على أن برَّ الوالدين واجبٌ وجوب عين، وأن عقوقهما محُرَّم.
وأما الجهاد فإنما يجب في صور معيَّنة لا تنطبق على كلِّ جهاد. ثم إن الجهاد لا يمكن أن يجب وجوبَ عين على كل واحد، كوجوب الصلاة والزكاة والبر، لقول الله تعالى: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (2) وأما برُّ الوالدين فواجب على كل مولود أن يَبَرَّ والديه.
__________
(1) رواه أبو داود، كتاب الجهاد، باب الرجل يغزو وأبواه كارهان، برقم (2530) .
(2) سورة التوبة، الآية: 122.(25/342)
فنصيحتي لهذا الأخ أن يتقي الله تعالى في أمِّه ويرجعَ إليها إن كان يبتغي الأجر من الله كما أمر بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن ذلك هو عبادة الله على بصيرة، وهو خير له في دينه ودنياه. والله المستعان.
كتبه محمد الصالح العثيمين في 13/10/1408 هـ.
س 31: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: يواجهنا عند الهجوم على مراكز العدو، أن بعضَ أفراد العدو يُظهِر لنا أنه مسلم إما بأن ينطق بالشهادتين، أو يقول: إنه يصلي أو غير ذلك من شعائر
الإسلام، فهل يجوز لنا قتله، مع العلم أننا نتضرَّرُ بإبقائه بين أظهرنا على قيد الحياة كأن يغدر بنا؟ فما حُكم قتله إذا كان مسلمًا ثم ارتد بقتاله مع الكفار، أو كان كافرًا أو صليبيًا؟
فأجاب بقوله: إذا أظهر الأسيرُ أو المقاتل من الكفار أنه مسلم فإنه لا يجوز قتله، كما دلَّ على ذلك الحديث الصحيح في قصة أسامة بن زيد- رضي الله عنه- حين قتل المشرك الذي أدركه فقال: لا إله إلا الله، فبلغ ذلك النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا أسامةُ أقَتَلتَه بعدَ ما قال: لا إله
إلا الله؟ "، قلت: كان متعوذاً، فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمتُ قبلَ ذلك اليوم. (1)
__________
(1) رواه البخاري، كتاب المغازي، باب بعث النبي صلى الله عليه وسلّم أسامة بن زيد إلى الحرقات من جهينة، برقم (4269) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال لا إله إلا الله، برقم (96) .(25/343)
وأما الخوفُ من غدرِه فهو وارد ومحتمل، ولكن هل وقع ذلك من أحد وعرفتم كثرة الغدر ممن فعلوا ذلك؟ قد يكون هذا الرجل مسلمًا مجُبَرًا على أن يخرج في صُفوف العدو، وهو لا يريد الخروج، وقد يكون كافرًا أو مرتدًا لكن هداه الله- عز وجل- حينما رأى أنه قد أُدرِك، فالمهمُّ أننا إذا خفنا غدره، فإننا نأسره أسرًا لا يتمكن به من الغدر، ونبقيه على الحياة حتى يتبين لنا الأمر.
س 32: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: والدي يحتاجني في عمله وأهلي كذلك، وأخي الأكبر في مدينة أخرى يطلبُ العلم، وأنا أريد أن أذهب إلى الجهاد، ولم يرضَ أحدٌ من الوالدين، فهل
يَحِقُّ لي الذهاب مع العلم أن أخي يقدر أن يقوم مقامي بترك درا سته؟
فأجاب بقوله: لا يحلُّ لك أن تذهب إلى الجهاد وأهلك محتاجون إليك ومانعوك من السفر إلى الجهاد، بل حتى وإن لم يحتاجوا إليك، فإذا لم يَأذّنُوا لك فإنه لا يحل لك أن تذهب إلى الجهاد؛ لأنَّ برَّ
الوالدين أفضلُ من الجهاد في سبيل الله، كما ثبت ذلك في "الصحيحين " من حديث عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- قال: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أي العمل أحبُّ إلى الله؟ " قال: " الصَّلاةُ(25/344)
على وقتها". قلت: "ثمَّ أيٌّ؟ ". قال: "برُّ الوالدينِ ". قلت: "ثمَّ أيٌّ؟ ".
قال: "الجهادُ في سبيل الله " (1) فقدَّم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - برَّ الوالدين على الجهاد في سبيل الله.
وأمَّا أخوك، فإن خروجه لطلب العلم فيه خير كثير، وخروج عظيم، وطلبُ العلم كالجهاد في سبيل الله، لأنَّ الله تعالى جعله عَدِيلاً له في قوله: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (2) . فجعل الله التفقه في الدين معادِلاً للجهاد في سبيل الله، وغزو المسلمين ليس بالسلاح فقط، وإنما هو بالسلاح والفكر والخُلُق، والغزو بالفكر لا يُقاوَم إلا بالعلم، والأخلاق أيضًا لا تُقاوَم إلا بالعلم والاستقامة، وربما يكون غزو الأعداء من سنين غزوًا فكريًا، أعظم فتكًا بهم من السلاح المادي؛ لأن النوع الأول من الغزو غزو يدخل بدون استئذان، ويَحتلُّ بدون قتال، فهو أنكى وأعظم من الجهاد المسلَّح بالسلاح المادي، والمسلمون يجب عليهم
__________
(1) رواه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل الصلاة لوقتها، برقم (527) ، وفي كتاب الجهاد، باب فضل الجهاد والسير، برقم (2782) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال، برقم (85) .
(2) سورة التوبة، الآية: 122.(25/345)
هذا وهذا، ولهذا قال الله تعالى لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (1) ومعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يجاهد المنافقين بالسلاح المادي ولم يؤمر به، وإنما جاهد المنافقين بالسلاح العلمي والبيان والإرشاد، فخروج أخيك لطلب العلم وتغرُّبه لطلب العلم، لا شكَّ أنه خير كثير، أمَّا أنت فالخير لك أن تبقى عند أهلك، وأن تقوم ببِّر والديك، وإذا كان لديك مالٌ فجاهد بمالك، لأنَّ الجهاد بالمال كالجهاد بالنفس، بل هو قرينه في كتاب الله- عز وجل-.
س 33: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: لي قريبٌ ذهب إلى الجهاد في أرض أفغانستان من غير موافقة والده وبدون علمه، فما توجيهاتكم ونصيحتكم نحو الشباب الذين يفعلون ذلك علمًا
بأن والد الشاب لا يزال غاضبًا على ابنه؟
فأجاب بقوله: نصيحتي لإخواني الذين يذهبون للجهاد في أفغانستان أو في غيرها، ألا يذهبوا إلا بعد رضا والديهم؛ لأن حق الوالدين قُدُّم على الجهاد، ففي "الصحيحين " من حديث عبد الله بن
مسعود- رضي الله عنه- أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - "أيُّ العمل أحبُّ إلى
__________
(1) سورة التوبة، الآية: 73.(25/346)
الله؟ " قال: "الصَّلاةُ على وقتها"، قلت: "ثمَّ أيٌّ؟ ". قال: "برُّ الوالدينِ ". قلت: "ثمَّ أيٌّ؟ ". قال: "الجهادُ في سبيلِ الله ". فقال ابن مسعود: "ولو استَزَدتُ لزادني " (1) . فنصيحتي لهؤلاء الإخوة أن نقول لهم: أنتم إنما تذهبون إلى أفغانستان لطلب الخير وطلب الجهاد في سبيل الله، وطلب الاستشهاد في سبيل الله، ولكن يجب أن تقيِّدوا هذه العاطفة الجيَّاشة بما تقتضيه السنَّة، والسنَّة تقدِّم حق الوالدين على الجهاد في سبيل الله، فلا تذهبوا إلى الجهاد في أفغانستان أو في غيرها إلا بعد موافقة الوالدين، فإن لم يوافقا على ذلك فلا يجوز الخروجُ إلى الجهاد في سبيل الله.
س 34: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: أنا شابٌ أرغب الذهاب إلى الجهاد ولكن أبواي يمنعانني، فهل أذهب بدون أذنهما، علمًا بأنهما ليسا بحاجة لي، ولي عدد من الإخوان؟
فأجاب بقوله: لا تذهب إلا برضى الوالدين؛ لأن برَّ الوالدين مُقدَّم على الجهاد، ففي "الصحيحين " من حديث عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أيُّ العمل أحبُّ إلى الله؟ " قال: " الصَّلاةُ
__________
(1) رواه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل الصلاة لوقتها، برقم (527) ، وفي كتاب الجهاد، باب فضل الجهاد والسير، برقم (2782) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال، برقم (85) .(25/347)
على وقتها". قلت: "ثمَّ أيٌّ". قال: "برُّ الوالدين ". قلت: "ثمَّ أيٌّ؟ ".
قال: "الجهادُ في سبيل الله " (1) . فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - مرتبة البر قبل مرتبة الجهاد في سبيل الله.
س 35: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: سمعنا من مُحدِّث أن أهل الأعراف هم أناسٌ أو رجال خرجوا للجهاد في سبيل الله، ولم يستأذنوا أهلهم في الخروج للجهاد، ولكنهم خرجوا وقُتِلوا في
سبيل الله وماتوا شهداء ولم يدخلوا الجنة ولا النار، فهم على الأعراف حتى يقضي الله فيهم يوم القيامة، فهل هذا صحيح أم لا؟ ثم لو كان صحيحًا وأراد الإنسان الجهاد والهجرة في وقتنا
الحاضر، فهل يُعدُّ من أهل الأعراف إذا لم يستأذن والديه للخروج، لأنهما قد لا يأذنان له بذلك، فإذا كان الأمر كذلك، فإنا قد قرأنا في القرآن الحثَّ من الله- عز وجل- والترغيب في الجهاد
بقوله تعالى: (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) (2) ، وقوله تعالى: (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ
__________
(1) رواه البخاري برقم (527) ، ومسلم برقم (85) .
(2) سورة النساء، الآية: 74.(25/348)
ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) (1) ، وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حثِّه على الجهاد: " مَن مات ولم يغزُ ولم يحدِّث نفسَه بالغزو، مات على شُعبةٍ من نفاقٍ" (2) أو كما قال - صلى الله عليه وسلم -، فما قولكم في هذا؟
فأجاب بقوله: قولنا في هذا: أنَّ ما سمعتَ من أنَّ أهل الأعراف هم قوم خرجوا إلى الجهاد في سبيل الله بدون استئذان أهليهم، هذا ليس بصحيح، فإنَّ أهل الأعراف على ما قاله أهل العلم: هم قوم
تساوت حسناتهم وسيئاتهم، فلا هم الذين غلبت عليهم السيئات حتى أدخلوا في النار؛ ليطهروا من سيئاتهم ولا هم قوم غلبت حسناتهم حتى يدخلوا الجنة، ولكن تساوت حسناتهم وسيئاتهم
فكان من حكمة الله- عز وجل- وعدله أن يوقفوا في الأعراف وآخر أمرهم أن يدخلوا الجنة بفضل الله تعالى ورحمته. هؤلاء هم أهل الأعراف.
أما ما ذكرت من الجهاد في سبيل الله بدون استئذان الأبوين في ذلك فإذا كان الجهاد تطوعًا فإنك لا تخرج إلا باستئذان الأبوين، وإذا كان الجهاد واجبًا فإنه لا يحتاج إلى إذن الأبوين، بل لك أن تخرج وإن لم تستأذنهما وإن لم يرضيا بذلك؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية
__________
(1) سورة النساء، الآية: 100.
(2) رواه مسلم، كتاب الإمارة، باب ذم من مات ولم يغز، برقم (1910) .(25/349)
الخالق، اللهم إلا أن يكونا في ضرورة إلى بقائك فحينئذ تقدم دفع ضرورتهما على الجهاد وعلى هذا يحمل قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ففيهما فجاهد" حيث كانا يحتاجان بل يضطران إلى وجود ابنهما عندهما، وأما خروج الجهاد في سبيل الله والهجرة فإن هذا أمر معلوم بدلالة
الكتاب والسنَّة، والجهاد في سبيل الله ذَرْوة سَنَامِ الإسلام، ومن أهمِّ الأعمال الصالحة وأحبها إلى الله- عز وجل- قال تعالى: (وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) (1) ، وقال تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) (2) .
ولكن ليِعُلَم أنَّ الجهاد في سبيل الله ليس هو مجرَّدَ قتال الكفار، بل إنَّ الجهاد في سبيل الله تعالى هو الذي يقاتل فيه الإنسان لتكون كلمة الله هي العليا فقط، لأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الرجل يقاتل حَمِيَّةً، ويقاتل شجاعة، ويقاتل ليُرَى مكانه، أيُّ ذلك في سبيل الله؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: " من قاتل لِتكونَ كلمةُ الله هي العُلْيا، فهو في
__________
(1) سورة الحديد، الآية: 19.
(2) سورة آل عمران، الآيات: 169-171.(25/350)
سبيل الله عز وجل " (1) .
وهذا هو الميزان الحقيقي الصحيح الذي يُعرَف به كون الجهاد في سبيل الله، أو ليس في سبيل الله فمن قاتل دفاعًا عن الوطن لمجرد أنه وطن، فليس في سبيل الله، ومن جاهد عن وطنه؛ لأنه وطن إسلامي يحتمي به عن الكفار، فإنه في سبيل الله، فالميزان الذي ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - ميزان بَيِّن واضح. نعم من قاتل دون ماله، أو دون أهله، أو دون نفسه، وقُتِلَ فهو شهيد، كما ثبت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من قتل دون مالِه فهو شهيدٌ، ومن قُتِلَ دون أهلِه فهو شهيدٌ، أو دون دَمِهِ، أو دون دينهِ، فهو شهيد" (2) .
س 36: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ذكرتم في أول إجابتكم أن الجهاد إذا كان تطوعًا، فإنه يستلزم أن يستأذن والديه، وإذا كان واجبًا لم يلزمه ذلك هل لنا أن نعرف الحالات التي يكون
__________
(1) رواه البخاري، كتاب العلم، باب من سأل وهو قائم عالماً جالساً، برقم (123) ، وفي كتاب الجهاد والسير، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، برقم (2810) ، ومسلم، كتاب الإمارة، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، برقم (1904) .
(2) رواه أبو داود، كتاب السنة، باب قتل اللصوص، برقم (4772) ، والترمذي، كتاب الديات، باب ما جاء في من قتل دون ماله فهو شهيد، برقم (1421) ، والنسائي، كتاب تحريم الدم، باب من قاتل دون دينه، برقم (4095) .(25/351)
فيها الجهاد تطوعًا ويكون واجبًا؟
فأجاب بقوله: قال أهل العلم: إنه يجب الجهاد في أحوال:
أولاً: إذا استنفره الإمام بأن قال له: اخرج.
ثانيًا: إذا حاصره العدو أو حاصر بلده.
ثالثاً: إذا كان محتاجًا إليه في الجهاد، بحيث يكون المجاهدون مُفتقِرين إلى وجود هذا الشخص، لكونه يعرف أن يتصرف في الآلات المعيَّنة التي يقاتَلُ بها دون غيره.
رابعاً: إذا حضر الصفَّ، فإنه لا يجوز الفِرَار، فإنه من كبائر الذنوب لقول الله تعالى: (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (1) . وفيما ذلك يكون تطوعاً.
س 37: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: إنسان أجنبي في دولة إسلامية كان طالبًا أو عاملاً، ثم حصل استنفارٌ في هذه الدولة للجهاد، فهل على هذا العامل أو الطالب الأجنبي أن يستنفر دون
إذن والديه؟
فأجاب بقوله: إذا كان الجهاد واجباً، فإنه لا حاجة إلى إذن
__________
(1) سورة الأنفال، الآية: 16.(25/352)
الأبوين، لأنَّ الواجب لا يُستأذّنُ فيه البشر، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وكما أنك لا تَستأذِنُ والديك في الحج إذا وجب عليك، فلا تستأذِنْهما أيضًا بالجهاد إذا وجب عليك، أمَّا إذا كان الجهاد تطوعاً، فإنه لا يجوز أن تجاهد إلا بإذن الأبوين.
س 38: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما الحكم إذا أمر الأمير أن ينسحبوا من المعركة خَشيةَ الهلاك؛ لأنَّ العدو باغتهم بأسلحة وعدد ورجال لا قِبَلَ لهم بها، وانسحبوا إلى أماكن أكثر
تحصيناً مثل أماكن الجبال لمقاتلة العدو فيها، هل يعتبر هذا فرارًا من الزحف؟
فأجاب بقوله: هذا من التولِّي الجائز، لأنَّ الله استثنى، حيث قال: (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (1) . وهؤلاء متحيزون إلى أماكن آمنة، فلا "يعدون فيمن فَرُّوا من الزحف الفرارَ المحرَّم.
س 39: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما حُكم اقتحام المجاهد بمفرده على العدو ومعه سلاحُه بدون إذن أميره، وقد
__________
(1) سورة الأنفال، الآية: 16.(25/353)
يكون في ذلك مفاسد عظيمة عليه وعلى بقية المجاهدين، وإذا قُتِلَ في هذه الحالة هل يكون شهيدًا؟ نرجو التفصيل.
فأجاب بقوله: لا يجوز لأحد من أفراد الجيش أن يقاتل أو يتقَدَّم إلا بإذن الأمير، فإن فعل فهو عاصٍ، وكونه يكون شهيدًا أو لا يكون شهيدًا، هذا ينبني على فِعْله هذا، هل هو مُتأوِّلٌ يظن أن ذلك
جائز، أو غير متأول؟ إن كان متأولاً فنرجو أن تكتب له الشهادة إذا قُتل، وإن كان غير متأول لكنه مُستبِدٌّ فإن كتابة أجر الشهادة له بعيد، وإن قاتل من أجل الشهادة وحرصًا على قتل العدو فهي نية ناقصة، والكَمَالُ أن يقاتل لتكون كلمةُ الله هي العليا.
س 40: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: قام أحد الرجال في فلسطين بوضع متفجرات على نفسه، ودخل بين اليهود وقتل أكثر من عشرين يهوديًّا، وجرح قريباً من خمسين وبعضهم يعلل
ويقول: إن لم يقتل اليوم قتل غداً، فهل هذا الفعل منه يُعتبرَ انتحارًا، أو يعتبر جهادًا؟
فأجاب بقوله: هذا الذي وضع على نفسه هذا اللِّباس الذي يقتل، أول من يقتل نفس الرجل، لاشكَّ أنه هو الذي تَسبَّبَ لقتل(25/354)
نفسه، ولا يجوز مثل هذه الحال إلا إذا كان في ذلك مصلحةٌ كبيرة للإسلام، لا لقتل أفرادٍ من الناس لا يمثِّلون الرؤساء ولا يمثلون القادة لليهود، أما لو كان هناك نفعٌ عظيم للإسلام لكان ذلك جائزًا.
وقد نصَّ شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- على ذلك، وضرب لهذا مثلاً بقصة الغلام المؤمن الذي كان في أُمَّة يَحكُمُها رجل مشرك كافر، فأراد أن يقتله هذا الحاكم الشرك الكافر، فحاول عدَّة مرات:
مرة يلقي هذا الغلام من أعلى الجبل.
ومرَّة يلقيه في البحر، ولكنه كلما فعل ما يُهلِكُ به هذا الغلام نجا، فتعجب الملك الحاكم، فقال له الغلام يومًا من الأيام: أتريد أن تقتلني؟ قال: نعم، وما فعلتُ هذا إلا لقتلك، قال: اجمع الناسَ كلَّهم، ثم خذ سهمًا من كِنَانتي واجعله في القوس، ثم ارمني به، ولكن قل بِاسمِ رب هذا الغلام، باسم رب هذا الغلام، وكانوا إذا أرادوا أن يُسَمُّوا سمَّوا باسم الملك، لكن قال: قل: باسم رب هذا الغلام، فجمع الناس ثم أخذ سهمًا من كِنانته ووضعها في القوس وقال: باسمِ رب هذا الغلام، وأطلق القوسَ فضربه فهلك، فصاح الناس كلهم الرب رب الغلام، الرب رب الغلام (1) وأنكروا رُبوبيَّة هذا الحاكم
__________
(1) انظر: صحيح مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب قصة أصحاب الأخدود، برقم (3005) .(25/355)
المشرك، أنكروه لأنَّهم قالوا: هذا الرجل مشرك، فالحاكم فعل كل ما يمكن أن يهلك به هذا الغلام ولم يَهلِكْ ولما جاءت كلمة واحدة:
باسم رب هذا الغلام، هلك. إذن مدبِّر الكون هو هذا الرب، يقول شيخ الإسلام: هذا حصل فيه نفعٌ كبير للإسلام، وإلا من المعلوم أن هذا الغلام تسبب بقتل نفسه لا شك، لكنَّه حصل فيه نفع كبير، آمنت أمَّة كاملة. فإذا حصل مثلُ هذا فيقول الإنسان أنا أفدي ديني بنفسي ولا يهمُّني، أما مجرد أن يقتل عشرة أو عشرين أو ثلاثين، ثم ربما تأخذ اليهود بالثأر فتقتل مئات، ولولا ما يحاولون اليوم من عقد الصُّلح والسَّلام كما يقولون، لرأيتَ فِعالهم في الانتقام من الفلسطينيين بهذه الفَعْلة التي فعلها هذا الرجل.
س 41: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما رأي الشرع في الأعمال الانتحارية التي يؤمر بها الجندي في ميدان الحرب؟
فأجاب بقوله: أولاً: لا أحبُّ أن يوجه السؤال لشخص باسم ما رأي الإسلام؟ أو ما رأي الشرع؟ لسببين:
السبب الأول: أن الشرع لا يصح أن نقول: إنه رأي، بل الشرع شريعة ومنهاج من لدن حكيم عليم، شريعةٌ ومنهاج مبنيٌّ على عقيدة وإيمان بالله سبحانه وتعالى، وليس فكرًا أو رأيًّاً، ولهذا أرى أنه(25/356)
من الخطأ أن نعبِّر فنقول: الفكر الإسلامي، مثلاً، ولكن نقول: المفكر الإسلامي، لا بأس، فنجعل ذلك وصفًا للرجل المسلم، أما أن نجعل الفكر نفسه هو الإسلام فهذا خطأ.
السبب الثاني: أن كلمة " رأي الشرع ". معناها: أن هذا الموجَّه إليه هذا السؤال إذا تكلم وأجاب فإنما يجيب بالشرع، ولا شك أن هذا على خطر عظيم؛ لأن الإنسان قد يخطئ في حكمه، فإذا أخطأ في حكمه ونحن ننسب ما يقول إلى الشرع فمقتضاه أننا نخطِّئ الشرع.
لذلك أرجو أن يكون التعبير: ما حكم الشرع في نظركم مثلاً، أو ما ترى في كذا وكذا؟ حتى إذا أخطأ الإنسان كان خطؤه على نفسه، ليس على الشرع.
أما الجواب على صُلْب السؤال: فالذي أرى في المسألة ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- أنه إذا كان في هذا مصلحةٌ كبيرة للمسلمين، فإن ذلك لا باس به، كما لو كان فيه نصر للإسلام،
أما إذا كان هذا الانتحار يؤدِّي إلى قتل رجل أو رجلين أو عشرة من الأعداء، فإنِّه لا يجوز.
س 42: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: العمليات الانتحارية أفتى بعض العلماء بجوازها، فما رأي فضيلتكم؟(25/357)
فأجاب بقوله: نرى أن العمليات الانتحارية التي يتيقن الإنسان أنه يموت فيها حرامٌ، بل هي من كبائر الذنوب؛ لأن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر بأنَّ "من قتل نفسه بشيء في الدنيا عُذِّب به يوم القيامة" (1) ولم يستثنِ شيئًا بل هو عامٌّ؛ ولأنَّ الجهاد في سبيل الله المقصودُ به حماية الإسلام
والمسلمين، وهذا المنتَحر يُدمِّر نفسه وُيفقَد بانتحاره عضو من أعضاء المسلمين، ثمَّ إنَّه يتضمن ضررًا على الآخرين؛ لأنَّ العدو لن يقتصر على قتل واحد، بل يقتل به أُمماً إذا أمكن؛ ولأنه يحصل من التضييق على المسلمين بسبب هذا الانتحار الجزئي الذي قد يقتل عشرة أو عشرين أو ثلاثين، يحصل ضررٌ عظيم، كما هو الواقع الآن بالنسبة للفلسطينيين مع اليهود.
وقولُ من يقول عن هذا: جائز، ليس مبنيًّا على أصل، إنما هو مبني على رأي فاسد في الواقع؛ لأنَّ النتيجة السيئة أضعاف أضعاف ما يحصل بهذا، ولا حجَّة لهم في قصَّة البراء بن مالك- رضي الله عنه - في غزوة اليمامة حيث أَمر أصحابه أن يُلْقُوه من وراء الجدار ليفتح لهم الباب (2) ، فإن قصة البراء ليس فيها هلاكٌ محقق ولهذا نجا وفتح
__________
(1) رواه البخاري، كتاب الأدب، باب ما ينهى من السباب واللعن، برقم (6047) . ومسلك، كتاب الإيمان، باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه، برقم (110) .
(2) رواه البيهقي في سننه الكبرى (9/44) .(25/358)
الباب ودخل الناس، فليس فيها حُجَّة.
بقي أن يقال: ماذا نقول في هؤلاء المعينينَ الذين أقدموا على هذا الفعل؟ نقول: هؤلاء متأوُّلون أو مُقتَدون بهؤلاء الذين أَفتَوْهم بغير علم ولا يلحقهم العقاب الذي أشرنا إليه؛ لأنهم كما قلتُ لكم
متأوِّلون أو مهتدون بهذه الفتوى، والإثم في الفتوى المخالفة للشريعة على مَن أفتى.
س 43: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: استحلَّ بعضُ الناس جواز قتل النفس، أو ما يسمونه بالعمليات الانتحارية بحديث ذكره مسلم في "صحيحه " في قصة الغلام (1) ، فهل استدلالهم هذا
صحيح؟
فأجاب بقوله: هذا صحيحٌ في موضعه، يعني إذا وُجِدَ أنَّ قتل هذا الإنسان نفسه يحصل به إيمان أُمة من الناس، فلا بأس؛ لأن هذا الغلام لما قال للملك: خذ سهمًا من كِنانتي ثم قل: باسم رب هذا
الغلام، فإنك سوف تصيب، ففعل الملك، ماذا صار مقام الناس؟ آمنوا كلهم، هذا لا بأس.
__________
(1) انظر صحيح مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب قصة أصحاب الأخدود والساحر والراهب والغلام، برقم (3005) .(25/359)
لكن الانتحاريين اليوم لا يحصل من هذا شيء، بل ضد هذا، إذا قُدِّر أنه انتحر، أول من يقتل نفسه ثم قد يقتل واحدًا أو اثنين وقد لا يَقتُل، لكن ماذا يكون انتقام العدو؟ كم يقتل؟ يقتل الضِّعف، أو
أكثر، ولا يحصل لا إيمان ولا كفٌّ عن القتل، هذا هو الرد عليهم نقول: إذا وجد حالة مثل هذه الحالة، فإنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقصَّها علينا لنسمعها كأنها أساطير الأولين، وإنما قصَّها علينا لنعتبر، فإذا وجد مثل هذه الحالة فلا بأس.
وبعضهم يستدل بقصَّة البراء ابن مالك- رضي الله عنه- في غزوة اليمامة، حيث حاصروا حديقة مُسيِلمة والباب مغلق وعجزوا، فقال البراء: أَلقُوني من وراء السور وأفتح لكم، فألقوه
وفتح. (1) هذا ليس فيه دليل، لأنَّ موته غير مؤكد، ولهذا لم يقتل وفتح لهم الباب، لكن المنتحر الذي يربط نفسه بالرصاص والقنابل هل ينجو أم لا ينجو؟ قطعًا لا ينجو، ولولا حُسنُ نيتهم لقلنا: إنهم في النار، يُعذَّبون بما قتلوا به أنفسهم.
__________
(1) رواه البيهقي في سننه الكبرى (9/44) .(25/360)
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد الصالح العثيمين إلى الأخ المكرم....... حفظه الله
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
الأعمال الانتحارية التي يقوم بها بعض الناس، ليقتل منْ يقتل من العدو. ويكون هو أول من يموت بها، يعتبر القائم بها قاتلاً لنفسه معذباً في النار بما قتل به نفسه. ولقد نهى الله عباده أن يقتلوا
أنفسهم فقال تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) (1) وعدّ العلماء قتل النفس من كبائر الذنوب، لشدة الوعيد فيه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففي الصحيح عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم، خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بسم فسمه في يده يتحساه في نار جنهم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو مترد في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً" (2) . ولم يستثن الله ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم - من هذا أحدا.
وأما ما ورد عن بعض الصحابة: من خرق صفوف الكفار أو
__________
(1) سورة النساء الآية: 29.
(2) رواه مسلم/كتاب الإيمان/باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه برقم (109) .(25/361)
الدخول في حصنهم، فالقتل فيه غير مؤكد لاحتمال السلامة، ولذلك سلموا كما في قصة البراء بن مالك في وقعة اليمامة حين ألقوه في حصن مسليمة، ففتح الباب للمسلمين فدخلوا (1) .
لكن هؤلاء الانتحاريون في زمننا، يفعلون ذلك اجتهاداً منهم، وجهلاً بحكم الشرع، فيرجى أن يعفو الله عنهم؛ لأن لهم نوعاً من العذر، وإن كان قد حصل منهم تفريط حيث لم يسألوا العلماء
المحققين عن حكم هذا العمل قبل أن يقدموا عليه؛ لأن هذا عمل خطير فيه قتل الفاعل لنفسه، وربما يقتل من لا يحل قتله من النساء والصبيان، وربما يترتب على فعله أن يجازى هو وقومه بأعظم ضرراً
مما فعل.
وإني أنصح كل عامل ألا يقدم على أمر خطير كهذا حتى يسأل أهل العلم الذين هم أهله الذين يحكّمون الشرع والحكمة دون العاطفة المجردة.
وأسأل الله الهداية والتوفيق لما يحب ويرضى.
حرر في 7/5/1416 هـ
__________
(1) رواه البيهقي في سننه الكبرى (9/44) .(25/362)
س 44: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما رأي سماحتكم في قول من قال عن العمليات الانتحارية ما يلي: لا فرق مؤثر في الحكم بين أن يقتحم المجاهدُ صفَّ الأعداء بسلاحه وهو مقتول
حتمًا لكن بسلاح العدو، وبين أن يقتحم صفَّهم بالمتفجرات فهو مقتول حتمًا، لكن مع الإثخان الشديد في صفوف العدو؟
والخلاصة أنَّ العمليات هذه لا تُعَدُّ انتحارًا، لأن الانتحار هو إهلاك للنفس وهو محرَّم، أما هذه العمليات فهي إهلاك للنفس في سبيل الله وهو المرغَّب به؟
فأجاب بقوله: أرى أنَّ الأعمال الانتحارية حرام، لقوله تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) (1) ، وأن المنتحر قاتلٌ نفسَه مُستحِق لأن يعذب في جهنم بما قتل نفسه به كما جاءت به السنَّة، ولا يصحُّ قياس فعله على من انغمس في صفوف الكفار مع غَلَبة الظن أنه سيُقتَل، لأن هذا قد ينجو كما يقع كثيرًا، وأمَّا المنتحر فميتٌ لا محالة، ولأنه إن قُتل فقد قتل بسلاح غيره، والمنتحر قاتل نفسه بسلاحه.
ثم إن الغالب أن الضَّررَ الحاصل بهذه الأعمال الانتحارية أكثر من النفع، فالعدو ينتقمُ بأكثر، ويحصل على تعاطف دولي واسع،
__________
(1) سورة النساء الآية: 29.(25/363)
والمنتحر يشوِّه سمعة قومه ويُحدِثُ كراهية الشعوب لهم.
لكن ربما يقال بجواز الانتحار فيما ورد بمثله الحديثُ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد روى مسلم في "صحيحه " قصة الغلام الذي حاول الملك أن يقتله، فبعث به إلى جبل ليُطرَحَ منه، وإلى البحر ليُغرَقَ فيه، فأنجاه الله، وجاء إلى الملك وقال: إنَّك لستَ بقاتلي حتى تفعل ما آمُرُك به،
قال: وما هو؟ قال: تجمعُ الناسَ في صعيد واحد وتصلبني على جذع، ثم خذ سهمًا من كِنانتي وضعه في كَبِدِ القوس، ثم قل: باسمِ الله رب الغلام، ثم ارمني، فإنَّك إذا فعلتَ ذلك قتلتني، ففعل الملك ذلك فقتله، فقال الناس: آمنَّا برب الغلام، آمنَّا برب الغلام، آمنَّا برب الغلام، الحديث. (1)
فإذا كان في الانتحار نصرٌ كبير للإسلام، بحيث يؤدي إلى الدخول في الإسلام، فهذا قد يقال: إنه جائز، قياسًا على ما ورد في هذا الحديث.
كتبه محمد الصالح العثيمين في 19/1/1418 هـ.
__________
(1) انظر صحيح مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب قصة أصحاب الأخدود برقم (3005) .(25/364)
س 45: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما رأي سماحتكم في الإضراب عن الطعام فكثيرًا ما نسمع في الإذاعات ونقرأ في الصحف، أن أُناسًا يُضربون عن الطعام احتجاجًا على بعض
الأحكام، وهؤلاء غالبًا ما يكونون من المسجونين، فما حكم من تُوفِّىَ وهو مُضربٌ عن الطعام؟
فأجاب بقوله: حُكم من توفي وهو مضرب عن الطعام، أَنَّه قاتل نفسه وفاعل ما نهى عنه الله تعالى، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) (1) ، ومن المعلوم أن من امتنع عن الطعام والشراب لابدَّ أن يموت، وعلى هذا فيكون قاتلاً لنفسه، ولا يحلُّ لإنسان أن يُضرِبَ عن الطعام والشراب لمدة يموت فيها، أما إذا أضرب عن ذلك لمدة لا يموت فيها، وكان هذا السبب الوحيد لخلاص نفسه من الظلم، أو لاسترداد حقه فإنَّه لا بأس به إذا كان في بلد يكون فيه هذا العملُ للتخلص من الظلم، أو لحصول حقِّه، فإنَّه لا بأس به، أما أن يَصِلَ إلى حدِّ الموت فهذا لا يجوز بكل حال.
__________
(1) سورة النساء، الآية: 29.(25/365)
س 46: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل يجوز قتل الكافر إذا اشتدَّ القتال ونطق بالشهادتين؟
فأجاب بقوله: إذا نطق بالشهادتين فإنه لا يجوز قتلُه، اشتدَّ القتال أو لم يشتد؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنكر على أسامة بن زيد- رضي الله عنه- قَتْلَه مشركاً بعد أن قال: لا إله إلا الله، وجعل يردِّد على أسامة: "أقتلته بعدَ ما قال: لا إله إلا الله "؟ حتى قال: "إنَّما قالها تعوُّذًا "،
فأنكر عليه - صلى الله عليه وسلم -، وقال أسامه: تمنَّيت أني لم أكن أسلمت. (1) أما إذا قال: أشهد أنَّ لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله، وبقي في صف الكفار فاقتله، لكن إذا قال هذا وخرج فهذا يدلُّ على صدقه، فإن بقي فهو- وإن كان مسلمًا- فقد أعان الكفار على المسلمين، فيَحِلُّ قتله، وهو بنيته عند الله، وإن كان مشركًا وقالها بلسانه فقد استحق القتلَ.
س 47: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: أحيانًا إذا اقتحم المجاهد العدو وبينه وبينه ألغام فربما يهلك أو ينجو ويصل إلى العدو. وأحيانًا يأمر الأمير رجلاً بالتقدم نحو العدو، وأمامه ألغام مزروعة، فربما يطأُ على لغم فيقتل، ولكن يشق الطريق لبقية
__________
(1) رواه البخاري، كتاب المغازي، باب بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - أسامة بن زيد، برقم (4269) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال: لا إله إلا الله، برقم (96) .(25/366)
المجاهدين، وربما ينجو فما حُكْم ذلك في المسألتين، وهل يكون ألقى نفسه في التَّهلُكَة؟ وإن قُتِل هل يكون شهيدًا؟
فأجاب بقوله: إذا علم أن هذه الألغام مزروعة وأنها لابد أن تقتله، فإنه لا يحلُّ له أن يُقدِمَ؛ لأنَّ هذا يُقدِمُ على أنه ميت. وأمَّا إذا لم يكن عنده علم، فله أن يُقدِمَ، وإذا أَقدَم في الحالة التي لا يجوز له فيها
الإقدامُ فإنه لا يكون شهيدًا، وإذا كانوا جماعة فمن بابٍ أشدَّ، لأن قتل واحد ولا قتلْ جماعة، والمهم أنه متى علم أنه يموت فإنه لا يحلُّ الإقدام.
س 48: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما حُكم القول بجواز الجهاد دون إذن من أحد لعدم وجود الإمام أو تخاذُلِه أو تكاسله؟
فأجاب بقوله: هذا غير صحيح، الجهاد ماضٍ في هذه الأمة إلى يوم القيامة، ولكنَّ الجهاد يجب أن يكون مدبرًا من قِبَلِ وليِّ الأمر؛ لأنه إذا كان غير مُدَبَّر من ولي الأمر، صار فيه فوضى وصارت كل
طائفة تفتخر على الأخرى بأنها هي التي فعلت كذا، وفعلت كذا وفي التالي ربما لا تُحمَد العاقبة، كما جرى في أفغانستان مثلاً، فإن الناس- لا شك- ساعدوا الأفغانيين مساعدة عظيمة بالغة وكانت النتيجة ما تسمعون الآن.(25/367)
س 49: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: إمامٌ عندنا خطب يوم الجمعة، فقال: لا يشترط في الجهاد الآن إذن الإمام لعدم وجود إمام عام للمسلمين، ومن قال غير هذا فقد جانب الصواب.
فأجاب بقوله: لابدَّ من إمام، لكن الإمام العام بمعنى: أن يكون إمام على كل الأمة، هذا شيء مضى منذ مدة طويلة، لكن الإمام الخاص الذي ينتمي إليه هذا المجاهد، لا بدَّ أن يأذن له.
أما الجهادات التي تكون من فئات، فقد تبيِّن الآن أن نتيجتها ليست على المطلوب، ولا يُحتاج أن نُمثِّلها لكم؛ لأن الأمر واضح عندكم، وهذه تُشْبِه العصابات، ولهذا حصل منها الشر والفساد بعد
ذلك ما هو معلوم الآن، حتى صار الذين يقاتل من أجلهم صاروا هم بأنفسهم يقتتلون، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
س 50: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل تجوز الإغارة على العدو بدون سابق إنذار؟
فأجاب بقوله: هذه المسألة فيها تفصيل:
1- إن كان العدو قد بلغته الدعوة، فهذا تجوز الإغارة عليه بدون إنذار.
2- إذا لم تبلغه الدعوة فهنا يجب دعوته، فإن امتنع من قبول الدعوة(25/368)
فإنه يقاتل.
كما يدل عليه حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه: "إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال وذكر منها: ادعهم إلى الإسلام، فإن أبوا فاسألهم الجزية، فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم (1) .
س 51: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ثبت في الحديث عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مَن مَات وليس في عُنُقه بيعةٌ لأحد، مات ميتةً جاهليةً ". (2) ومعلومٌ أنه في أكثر بلاد المسلمين اليوم، لا يتحققُ هذا الأمر، وأنه ليس في عنقهم بيعة لأسباب كثيرة منها: الاضطرابات السياسية، والانقلابات، وغيرها، فكيف يخرج المسلمون في تلك البلاد من هذا الإثم وهذا الوعيد؟ جزاكم الله
خيراً.
فأجاب بقوله: المعروف عند أهل العلم أن البيعة لا يلزم منها رضا لواحد وأن من المعلوم أن في البلاد من لا يرضى أحدٌ من الناس أن يكون وليًّا عليه، لكن إذا قهر الولي وسيطر وسادت له
__________
(1) رواه مسلم/كتاب الجهاد برقم (3261) .
(2) رواه مسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن، برقم (1851) .(25/369)
السُلطة، فهذا هو تمَامُ البيعة لا يجوز الخروج عليه إلا في حال واحدة استثناها النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "إلا أن تَروا كُفرًا بَواحًا عِندَكُم فيه من الله برهانٌ ". (1)
أولاً: "إلا أن تروا ": والرؤية إما بالعين أو بالقلب، الرؤيا بالعين بصرَّية وبالقلب علمية، بمعنى أننا لا نعمل بالظن، أو بالتقديرات، أو بالاحتمالات، بل لابدَّ أن نعلمَ علمَ اليقين.
ثانياً: أن نرى كُفرًا لا فسوقاً فمثلاً: الحاكم لو كان أفسق عباد الله عنده شرب خمر وغيره من المحرمات وهو فاسق، لكن لم يخرج من الإسلام، فإنه لا يجوز الخروج عليه، وإن فُسِّقَ لأنَّ مفسدة الخروج عليه أعظمُ بكثير من مفسدة معصيته التي هي خاصة به.
ثالثاً: قال "بواحًا": البواح يعني: الصريح، والأرض البواح: هي الواسعة التي ليس فيها شجر ولا مدر ولا جبل، بل هي واضحة للرؤية، لابدَّ أن يكون الكفر بواحاً ظاهرًا لا يشك فيه أحد، مثل أن
يدعو إلى نَبذِ الشريعة، أو يدعو إلى ترك الصلاة وما أشبه ذلك من الكفر الواضح الذي لا يَحتَمِل التأويل، حتى إنه لا يجوز الخروج
__________
(1) رواه البخاري، كتاب الفتن، باب قول النبي سترون بعدي أموراً تنكرونها، برقم (7056) ، ومسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في كير معصية، بأثر الحديث (1840) (42) .(25/370)
عليه حتى وإن كُنا نرى نحن أنه كفر وبعض الناس يرى أنه ليس بكفر، فإنه لا نجيز الخروج عليه؛ لأن هذا ليس بواحًا.
رابعاً: "عندكم فيه من الله برهان "، أي دليلٌ واضح وليس مجرد اجتهاد أو قياس، بل هو بيّنٌ واضح أنه كفر، فحينئذ يجوز الخروج.
ولكن هل معنى جواز الخروج أنه جائز بكل حال، أو واجب على حال؟
لا، لابدَّ من قُدرة على مُنَابَذَةِ هذا الوالي الذي رأينا فيه الكفر البواح، لابدَّ من قُدرة، أما أن نخرج عليه بسكاكين المطبخ وعوامل البقر، ولديه دبابات وصواريخ، فهذا سَفهٌ في العقل وضلال في
الدين؛ لأن الله لم يُوجب الجهاد على المسلمين حين كانوا ضُعفاء في مكة، ولو شاؤا لاغتالوا كُبراءهم وقتلوهم، لكنه لم يأمرهم بهذا، ولم يأذن لهم به؛ لعدم القدرة، وإذا كانت الواجبات الشرعية التي لله- عز وجل- تسقط بالعجز، فكيف هذا الذي سيكون فيه دماء.
ليس إزالة الحاكم بالأمر الهين، مجرد ريشة تنفخها وتذهب، لابدَّ من قتال معه، وإذا قُتِل فله أعوان، والمسألة ليست بالأمر الهين حتى نقول بكل سهولة نزيل الحاكم أو نقضي عليه وينتهي كل شيء، فلابد من القدرة.
والقدرة الآن ليست بأيدي الشعوب فيما أعلم، والعلم عند الله(25/371)
عز وجل ليس بأيدي الشعوب قدرة على إزالة مثل هؤلاء القوم الذين نرى فيهم كفرًا بواحًا.
ثم إن القيود التي ذكرها النبي - صلى الله عليه وسلم - قيودٌ صعبة، من يتحقق من هذا الحاكم مثلاً علمنا أنه كافر علم اليقين، نراه كما نرى الشمس أمامنا ثم علمنا أن الكفر بواح، لا يحتمل التأويل وليس فيه أي أدنى لبس، ثم عندنا دليل من الله برهان قاطع، هذه قيود صعبة، أما مجرد أن يظن الإنسان أن الحاكم قد كفر، فهذا ليس بصحيح، لابدَّ من إقامة الحجة وما ضرَّ الأمَّةَ أول ما ضرَّها في عهد الخلفاء الراشدين- رضي الله عنهم-، إلا التأويل الفاسد والخروج على الإمام.
فالخوارج الذين خرجوا على علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- قالوا: لأنه حَكَّمَ غير القرآن، كانوا بالأول معه على جيش معاوية، ولما- رضي بالصلح والتحاكم بالقرآن قالوا: أنت الآن حكَّمت آراء الرجال ورضيت بالصلح فأنت كافر، نريد مقاتلتك، فانقلبوا عليه، بماذا؟
بالتأويل وليس كل ما رآه الإنسان يكون هو الحق، قد ترى أنت شيئًا محرمًا، أو شيئًا معصية، أو شيئًا كفرًا، وغيرك لا يراه كذلك.
ألسنا نرى نحن أنَّ تارك الصلاة كافر؟ نرى ذلك لا شك، لكن يأتي غيرنا يقول: ليس بكفر.(25/372)
والذي يقول ليس بكفر، هم علماء وليسوا أهل هوى، بل علماء لكن هذا هو اجتهادهم.
فإذا كان العلماء أهل الفقه قد يرون ما هو كفر في نظر الآخرين ليس بكفر، فما بالك بالحكام الذي قد يكون بعضهم عنده من الجهل ما عند عامة الناس.
فالمهمُّ إن هذه المسائل مسائل صعبة وخطيرة، ولا ينبغي للإنسان أن ينقاد وراء العاطفة أو التهييج، بل الواجب أن ينظر بنظر فاحص متأني مُتريث، وينظر ماذا يترتب على هذا الفعل، فليس المقصود أن الإنسان يبرِّدُ حرارة غَيْرَتِه فقط، بل المقصود إصلاح الخطأ، ولا شك أن الإنسان يلحقه أحيانًا غيرة ويمتلئ غيظًا مما وقع، أو يقع من بعض الولاة، لكن يرى أن من المصلحة أن يعالج المشكلة بطريقة أخرى غير التهييج، وكما أقول لكم: إن بعض الناس يظنُّ هذا سبباً يقتضي الضغط على ولي الأمر، حتى يفعل ما يرى هذا القائل أنه إصلاح، ولكن هذا غير مناسب في مثل بلادنا.
س 52: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما رأيكم فيمن يقول إن أحاديث السمع والطاعة لولاة الأمر تنصرفُ إلى القائد العام الذي يقود المسلمين جميعًا؟(25/373)
فأجاب بقوله: رأينا أن هذا ليس بصحيح، بل كلُّ وليٍ أُمِّر تجب طاعته، حتى الرجل في أهل بيته يجب على أهل البيت طاعته ما لم يأمرهم بمعصية الله، حتى القوم الثلاثة إذا سافروا وأَمَّروا أحدهم
وجب عليهم طاعته، لعموم الأدلَّة الدالَّة على وجوب طاعة الأمير، ثم إن الخليفة الواحد على سائر الأمَّة هذا قد انقضى زمنه منذ عهد بعيد، من حين انقرض الخلفاء الراشدون الأربعة رضي الله عنهم، تمزقت الأمة فبنو أُمَّية في الشام وما حوله، وعبد الله بن الزبير في الحجاز وما حوله، وآخر في المشرق وما حوله، وآخرون في اليمن، تمزقت الأمَّة، ومع ذلك فكلُّ العلماء الذين يتكلَّمون على وجوب السمع والطاعة. يتكلمون على وجوب السمع والطاعة في عهدهم مع تفرُّق الأمة، وكل إقليم أو ما أشبه، فيه أمير يختص به.
وعلى هذا الرأي الفاسد الباطل معناه الآن ليس لأُمتنا إمام، والأُمَّة الآن تعيش في أمرٍ جاهلي، ليس هناك إمام ولا مأموم ولا سلطان ولا مُسلَّط عليهم، ثم نقول لهؤلاء: إن كنتم صادقين أوجِدُوا لنا إمامًا عامًا للأمة، طبعاً لا يستطيعون، اللهم إلا إذا ظهر مهدي فهذا أمره إلى الله- عز وجل.(25/374)
س 53: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل يجوز وطئ المسبيَّة قبل تقسيم الغنيمة؟ وهل إذا وُطئَت المسبية قبل التقسيم هل يعتبر واقعًا في الزنا، وإن لم يكن كذلك، فما حُكمه؟ وما
الواجب على ولي الأمر تجاه من فعل ذلك؟
فأجاب بقوله: لا يجوز للإنسان أن يطأ المسبية حتى تقسم الغنائم ويتبين ما لكل واحد من الغانمين، فإن فُعِلَ فهو إثم ولكن ليس كالزنا الصريح؛ لأن له في ذلك شبهة حيث أنه شريك في هذه المسبية
وعلى القائم الذي يتولى شؤون الجيش أن يفعل ما يراه أنفع بالنسبة لهذا الرجل؛ لأنه قد يكون جاهلاً فلا يحتاج إلى تعزير، وأما الحد فلا يجب عليه بكل حال لأن له في هذه المسبية شبهة.
س 54: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما حُكم الغُلول من الغنائم قبل التقسيم، ولو عُرِفَ الغالُّ هل يُخَبرُ عنه أم لا؟ وإذا أُخبر عنه ربما تحصل مفسدة بذلك؟
فأجاب بقوله: الغلول من الغنيمة قبل قسمها من كبائر الذنوب، قال تعالى: (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ، (1) ويجب على من رأى
__________
(1) سورة آل عمران، الآية: 161.(25/375)
غالاً أن يُخبر عنه، والمفسدةُ التي تتوهم من الإخبار مغمورةٌ في جانب المصلحة؛ لأن الغانمين إذا تُرِكوا وغلولهم، فَسَدَ الجهاد وصار المجاهدون لا يجاهدون إلا من أجل الغلول فالواجب الإخبار عنه، ويجب على الأمير أن يُعامِلَ الغال بما تقتضيه الشريعة.
وقد ذكر العلماء أن الغال يحرق رَحْلُه كله إلا السلاح، وأنه إذا رأى الأمير أن يحرمه من الغنيمة، فله ذلك.
س 55: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما الحُكم إذا أخذ المجاهدون أخشاب البيوت المهجورة من السكان، والسكنى فيها، وقد يكون أهلها معروفين، ولكنهم هاجروا عنها بسبب الحروب علمًا بأنَّ المجاهدين يحتاجون إلى ذلك؟
فأجاب بقوله: أمَّا إذا كانت هذه البيوت بيوتًا للكفار، فإنها مغنومة، وللغانمين أن يتصرفوا فيها بما يرونه مصلحة أو لحاجة. وأما إذا كانت مساكن مسلمين، فإنه لا يجوز أن تُغنَم ما دام أهلها معروفين، فإن كانوا مجهولين فإنها تكون في بيت المال.(25/376)
س 56: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: نرجو الجواب بالتفصيل عن الغنائم وكيفية تقسيمها، مع الدليل إن أمكن.
فأجاب بقوله: هذا يرجع فيه إلى ما قاله الفقهاءُ في كتاب الجهاد وقسمة الغنائم، وهو يطول.
لكنَّه إجمالاً تقسم الغنائم، أولاً على خمسة أسهُم، أربعة أسهم منها للغانمين، وسهم يقسم على خمسة أسهم أيضًا مذكورة. في قوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لله خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) . (1) هذا إجمالاً، أما تفصيلاً فهي معروفة في كتب الفقهاء.
س 57: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما حُكم أخذ الشظايا، وهى عبارة عن قِطَع حديد تكون غالباً صغيرة، وتوجد في أرض المعركة يجمعها المجاهدون والفقراء وغيرهم من عامة الناس، ويبيعونها في السوق، ما حُكم أخذهم قطع الحديد وبيعها لأنفسهم؟ وما حكم جمعها، وأكل ثمنها لأصحاب المراكز التي رميت عليهم القذائف؟ علمًا أنَّ هذه القطع لا تُجمع مع الغنائم،
__________
(1) سورة الأنفال، الآية: 41.(25/377)
وإنما يأكلها الصدأ إذا لم يأخذها الفقراء، ولا تُجمع مع الغنائم لصعوبة جمعها، فهل يعتبر أخذها من الغلول؟
فأجاب بقوله: الظاهرُ لي أنَّ أخذها ليس من الغلول؛ لأنَّها شيء مزهودٌ فيه ولا يرفع به الرأس، فهو إن أخذ انتفع به وصار فيه مصلحة، وإن ترك أكله الصدأ.
س 58: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: أحيانًا عندما نرجع من عملية اقتحام ويكون معنا أسرى العدو، لا نأمن من الطريق من وجود ألغام فنُقدِّمُ الأسرى فربما يقتلون وينجو المجاهدون، فما حُكم
هذا العمل؟ وأحيانًا نُقدِّم المواشي في هذه الطرق فما الحكم؟
فأجاب بقوله: أما تقديمُ المواشي فلا بأس، وأما تقديم الأسرى فلا يجوز؛ لأنَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إذا قَتلتُم فَأَحسنُوا القِتْلَة، وإذا ذَبحتُم فأحسنوا الذَّبح ". (1) وتقديمهم ليس من الإحسان، ولأنه قد يستفاد من الأسرى، لكن إذا رأى قائد الجيش أن ذلك أنكى للعدو وأصلح للمسلمين، وأن في هذه الطريقة حماية المسلمين فلا بأس.
__________
(1) رواه مسلم، كتاب الصيد والذبائح، باب الأمر بإحسان الذبح والقتل، وتحديد الشفرة، برقم (1955) .(25/378)
س 59: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: المسبية، إذا كان معها أولادها وأسلمت، فما حكم أولادها بعد التقسيم؟
فأجاب بقوله: أولاد الكفار- أعني بذلك الذين لم يبلغوا- يكونوا أرقَّاء بمجرد السبي، فحُكمُهم حكم أُمهاتهم.
س 60: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل كل ما يوجد على الكافر المقتول في أرض المعركة يجوز سلبه، أم من الأموال التي توجد عليه ما يرد إلى الغنائم؟
فأجاب بقوله: لا ليس كل شيء يكون من السلب، إنَّما السلب ثيابه وسلاحه وما أشبه ذلك، أمَّا راحلته التي هو عليها فهذه تضاف إلى الغنيمة، مثل لو كان قائد دبابة أو قائد طائرة وما أشبه ذلك،
فهذه ترد إلى الغنيمة.
س 61: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل تُعد مثلاً الساعة والمحفظة التي فيها النقود من السلب؟
فأجاب بقوله: أما الساعة فهي من السلب، وأما النقود لا أُفتى فيها، لا أعلم الآن ماذا تكون.(25/379)
س 62: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما هي مصارف الخمس في الغنيمة؟
فأجاب بقوله: ذكرها الله تعالى في سورة الأنفال قال تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لله خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) (1) .
س 63: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: في زماننا الحالي كيف ينفق خمس الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم -؟
فأجاب بقوله: هذا يكون في المصالح العامة- مصالح المسلمين العامة- كبناء المساجد، وإصلاح الطرق، وتسبيل المياه، وغير ذلك، وكذلك أيضًا أرزاق المؤذنين وأرزاق الأئمة والمعلمين وطلبة العلم، المهُّم أنها في المصالح العامة.
س 64: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما هي آداب الإسلام مع الأسير؟ نرجو الإجابة بالتفصيل مع الأدلة إن أمكن.
فأجاب بقوله: العلماء يقولون: إن الإمام يخيَّر في الأسرى غير
__________
(1) سورة الأنفال، الآية: 41.(25/380)
النساء والذُرية، بين المنِّ والقتل والفداء والاسترقاق، على خلاف في الأخير ة.
فنحن نعامل الأسرى هذه المعاملة، فإذا كانت المصلحة في المنِّ عليهم مجانًا فعلنا ذلك، وإذا كانت المصلحة في قتلهم قتلناهم، وإذا كانت المصلحة في الفداء بالمال أو بأسير مسلم عندهم فاديناهم،
والمهمُّ أن وليَّ الأمر يجب عليه النظر إلى المصلحة، فما اقتضته المصلحة فليفعله، أما بالنسبة لمعاملته هو شخصيًا، فإنه لا يجوز أن يعامل بالقسوة بل يقرب إليه الطعام والشراب، ويجعل في منجاة من
الحر والبرد، وربما يكون في هذا سبب في هدايته للإسلام.
س 65: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: عن المقاتلين من العدو هل يقتلون مطلقاً أم يجوز أسرهم؟
فأجاب بقوله: قال الله تعالى: (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً) (1) .
وقوله تعالى: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) (2) . فإذا استطاع المسلمون من كسر شوكة العدو بقتال
__________
(1) سورة محمد، الآية: 4.
(2) سورة الأنفال، الآية: 67.(25/381)
المقاتلين فلهم أسر العدو ولا يكون الأسر ابتداءً؛ لأنه هوان على المسلمين وذل لهم، فالواجب أولاً: الإثخان بالقتل في العدو، ثم إذا استسلموا وذلوا فحينئذٍ يأتي دور الأسر.
س 66: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: عمن يجوز سبيه من العدو، ومتى يكون المأسور رقيقاً؟
فأجاب بقوله: من يجوز سبيه أصناف:
1- النساء.
2- الصغار.
3- ومنْ لا عقل له.
4- ومن لا رأي له.
5- ومن لا يستطيع المقاتلة.
فهؤلاء يسبون ولا يجوز قتلهم؛ لأنهم إذا سبوا صاروا غنيمة للمسلمين، وفي قتلهم تفويت لماليتهم على المسلمين.
أما قول السائل: متى يكون المأسور رقيقاً؟
فالجواب: فيه تفصيل:
الأول: من ذكرنا من الأصناف الخمسة فإنهم يكونون أرقاء بمجرد السبي.(25/382)
الثاني: المقاتلون فإنهم في حال جواز أسرهم فإن الإمام يُخير فيهم بين أمور أربعة:
الأولى: القتل.
الثانية: الفداء بأسير من المسلمين بحيث يكون لدى العدو أسرى مسلمين فيقال للعدو: أعطنا أسير بأسير.
الثالثة: الفداء بمال بحيث يقال للعدو: نعطيكم أسيركم بشرط: أن تدفعوا لنا مالاً مقداره كذا وكذا.
الرابعة: المنّ وهو: إطلاق مَن أسر المسلمون من العدو بلا شيء ويشترط فيه: أن يترجح لإمام المسلمين أن في المنّ مصلحة كبيرة.
مثاله: إذا أسر المسلمون من العدو رجلاً من زعماء العدو، فإذا منّ الإمام بهذا الرجل على العدو فإنه يحصل به كف شر العدو.
ولكن لو بقي أسيراً عند المسلمين فإنه قد يحصل من بقائه مفسدة كبيرة.
أما استرقاق المقاتلين من العدو ففيه خلاف بين العلماء:
فمنهم: من أجازه.
ومنهم: من قال: لا يجوز؛ لأنهم أحرار، ولم يذكر الله عز وجل في القرآن الكريم إلا (مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً) (1) . واسترقاقهم وهم أحرار
__________
(1) سورة محمد، الآية: 4.(25/383)
ومقاتلون لا يصح. والمشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله: أنه يجوز استرقاقهم.
س 67: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ماذا يفعل بالأسير من العدو؟
فأجاب بقوله: يجوز أخذ فدية عن قتل الأسرى من العدو. ويجوز أيضاً أن يفدى أسير كافر بأسير من المسلمين.
ويعامل الأسرى بأمور:
الأمر الأول: أن يقتلوا صبراً.
الأمر الثاني: أن يُؤخذ فدية من المشركين برجال مسلمين.
الأمر الثالث: أن يفدوا بمنفعة، كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - بأسرى بدر حيث أطلقهم عليه الصلاة والسلام على أن يعلِّموا أهل المدينة (1) .
الأمر الرابع: أن يفدوا بمال.
الأمر الخامس: أن يطلقوا وهو: المنّ بدليل قوله: (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ) .
وهذه الأمور التي ذكرنا للإمام أن يختار منها حسب المصلحة؛ لأن القاعدة الشرعية: أن منْ تصرَّف لغيره فإنه يجب عليه اتباع الأصلح في حق ذلك الغير. بخلاف من تصرف لنفسه فإنه مخيَّر تخيّر تشهّي.
__________
(1) رواه مسلم/كتاب الجهاد/برقم (3309) .(25/384)
مثل: خصال الكفارة في الأيمان فإنها على سبيل التشهي.
ومثل: فدية الأذى فإنها على سبيل التشهي فللمرء أن يفعل ما يشاء.
وعلى هذا نقول: إذا رأى الإمام أن يقتل الأسرى من أجل مصلحة تقوية المسلمين وإذلال الكفار فالواجب أن يقتل الأسرى، حتى لو أُعطي من المال الشيء الكثير، فإنه لا يجوز للإمام أن يقبل
الفدية.
وإذا رأى الإمام أن من المصلحة أن يأخذ مقابل الأسرى فدية مال، فإنه يأخذ فدية مالية.
وإذا رأى الإمام أن من المصلحة فداء رجال من المشركين بأسرى من المسلمين فإنه يجوز.
وإذا رأى الإمام أن من المصلحة أن يمنّ على الأسرى فلا بأس.
وهذه الأمور ترجع إلى كل قضية بعينها وتسمى مثل هذه المسألة عند أهل العلم: قضايا الأعيان، وليس لها حكم عام أو لفظ عام يستدل بعمومه، وقضايا الأعيان قد يكتنفها من الأشياء ما يجعل
حكمها هكذا، ولو اختلف الأمر لاختلف الحكم.
س 68: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما حُكم التمثيل بأسرى العدو، سواءً قبل قتلهم أو بعده؟ نرجو الإجابة بالتفصيل(25/385)
مع الدليل إن أمكن ذلك.
فأجاب بقوله: لقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التمثيل بأسرى العدو، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - إذا بعث سرية أوصاهم بتقوى الله- عز وجل- وأوصاهم بألا يمثّلوا (1) .
ولكن من العلماء من قال: إذا كانوا يمثلون بأسرانا فإننَّا نُمثِّل بأسراهم جزاءًا وفاقًا، لقوله تعالى: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) . (2) سواء قبل القتل أو بعده.
س 69: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: قال الله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ) . (3) إذا وجدت سلاحًا ولم أتدرب عليه، هل أكون بذلك مخالفًا لما أمر به سبحانه
وتعالى في هذه الآية؟
فأجاب بقوله: أمر الله بالإعداد للكفار بما نستطيع من قوَّة، وهذا يقتضي وجوب التدرب على الأسلحة الحديثة، لكن هذا من فروض الكفايات وليس من فروض الأعيان، فإذا قام به من يكفى من
__________
(1) رواه مسلم/كتاب الجهاد/باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث برقم (3261) .
(2) سورة البقرة، الآية: 196.
(3) سورة الأنفال، الآية: 60.(25/386)
الجيش الذي به حماية البلد وأهله وحماية الدين، فإنه يسقط عن الباقين.
س 70: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما حُكم الأكل من الطعام إذا دخلنا فاتحين مدينة من المدن؟
فأجاب بقوله: لا بأس أن نأكل من الطعام ما نحتاج إليه فقط؛ لأن هذا كان جاريًا في الفتوحات الإسلامية، لكننا لا نتخذ شيئًا لأنفسنا نُضيفه إلى رِحَالنا، بل نأكل ما نحتاج إليه فقط.
س 71: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل يجوز أن نقول فلانٌ شهيد، وإذا كان لا يجوز، فماذا نقول؟
فأجاب بقوله: لا يجوز أن نقول: فلان شهيد بعينه؛ لأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "والذي نفسي بيده، لا يكلم أحدٌ في سبيل الله- والله أعلم بمن يكلم في سبيله- إلا جاء يوم القيامة واللون لون الدم، والريح ريح المسك " (1) .
فجعل علم ذلك إلى الله، وإذا كان كذلك فإنه لا يجوز بأن نشهد
__________
(1) رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب من يجرح في سبيل الله عز وجل، برقم (2803) ،
ومسلم في كتاب، الإمارة، باب فضل الجهاد والخروج في سبيل الله، برقم (1876) .(25/387)
لشخص بأنَّه شهيد؛ لأنَّنا إذا شهدنا بأنَّه شهيد شهدنا له بالجنة، ومن أصول أهل السنَّة والجماعة ألا نشهد لأحد معين بالجنة، إلا من شهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعلى هذا نقول: فلان يُرجى أن يكون من الشهداء وهذا كاف؛ لأنه إذا كان في علم الله شهيدًا فهو شهيد سواء
قلنا أنه شهيد أو لم نقل، وإن لم يكن شهيدًا عند الله فلن يكون شهيدًا ولو قلنا بأنه شهيد.
س 72: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: إذا هُدِّدَ السجين بأن تفعل الفاحشة معه أو مع أحد أقاربه، فهل يجوز له الانتحار، وهل يجوز له الإضراب عن الطعام إذا ضُرِبَ ضَربًا شديدًا أو خشي
إفشاء أسرار المسلمين، وهل يُعدُّ منتحرًا إذا مات على هذه الحالة؟
فأجاب بقوله: لا يجوز أبدًا أن يقتل نفسه بأي حال من الأحوال، لأنَّ قتل النفس من كبائر الذنوب، ومن قتل نفسه بشيء فإنه يُعذَّبُ به في جهنم فليصبر على الابتلاء، فربما يُفرِّج الله عنه ما هُدِّدَ به.
س 73: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما حُكم قتل الجاسوس؟ وهل له توبة؟ وإذا تاب أيقتل أم لا؟ وإذا رأى الأمير المصلحة في عدم قتله، هل له أن يبقيه؟(25/388)
فأجاب بقوله: الصحيح أنه يجوز قتل الجاسوس الذي ينقل أخبار المسلمين إلى أعدائهم، ولو كان مسلمًا؛ لأنَّ جريمته عظيمة، وفعله هذا موالاة للكفار في الغالب، ودليلُ ذلك أن حاطب بن أبي
بلتعه لما أرسل كتابًا إلى قريش، وعلم به النبي - صلى الله عليه وسلم - وسأله ما هذا؟ فأخبره بعذره فقالوا: ألا نقتله يا رسول الله فمنع من قَتْلِه، وقال: "لعل الله اطلع على أهل بدرٍ، فقال: اعملوا ما شئتُم فقد غفرتُ لكم " (1) .
فهذا يدلُّ على أن قتل الجاسوس جائزٌ، وأنه لولا المانع في قصة حاطب لقتله، وأما توبته فإنه إذا تاب تاب الله عليه كغير الجاسوسية من الذنوب، لقول الله تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) . (2) فما من ذنبٍ يعمله العبد ثم يتوب منه، إلا تاب الله عليه بدون استثناء، ثم إن كانت توبته قبل أن يقبض عليه فإنها تمنعه من القتل، وإذا رأى الأمير المصلحة في عدم قتله فلا يقتله؛ لأنَّ قَتْلَه من أجل القضاء على مفسدته، فإذا كان في قتله مفسدة أعظم من إبقائه فلا يقتله، فالمقصود: حصول المصالح ودرء المفاسد.
__________
(1) رواه البخاري، كتاب المغازي، باب فضل من شهد بدراً، برقم (3983) . ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أهل بدر وقصة حاطب بن أبي بلتعة، برقم (2494) .
(2) سورة الزمر، الآية: 53.(25/389)
س 74: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما حُكم معاقبة جميع المعسكر، إذا أخطأ واحد ولم يُعْرَف؟
فأجاب بقوله: لا حَرَجَ من ذلك إذا كانوا قد أُعلِمُوا من قبل بأنه إذا أخطأ واحد منهم ولم يُعرَف فإنهم يؤدبون جميعًا؛ لأنَّ مثل هذا يقتضي انتباههم لمن يخطئ، حتى يُعلم بعينه ويكون التأديب عليه
وحده، أما إذا كانوا لم يعلموا من قبل فلا تزر وازرة وزر أخرى، إلاَّ إذا رأى الأمير أن في هذا استخراجًا للمعتدي المخطئ، فعلى نظره.
س 75: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما حُكم عمل غارة وهمية لأجل التدريب، ألا يدخل هذا في النهي عن إرهاب المسلم وحمل السلاح في وجهه؟
فأجاب بقوله: الغارة الوهمية التي يسمونها الغارات، لا بأس بها بشرط أن تُؤمَن العاقبة، وألا يكون فيها خطرٌ على الأرواح، فإن لم يتحقق هذا الشرط فإنها لا تجوز، ولكن هذا الشرط يمكن تحقيقه
بحيث تكون الغارة بعيدة عن رؤوس المتمرنين.(25/390)
س 76: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: بماذا تصير بلد الإسلام دار حرب، وهل الدول التي تحكم بالقانون الوضعي دار إسلام أم دار حرب، وما هو إظهار الدين في بلد الكفر؟
فأجاب بقوله: بسم الله الرحمن الرحيم.
دارُ الإسلام لا يمكن أن تكون دار حرب، إلا أن تكون حربًا على أعداء الله، ودار الإسلام هي التي تُعْلَن فيها شعائر الإسلام، كالأذان وصلاة الجماعة وصلاة الجمعة وما أشبه ذلك، ويكون أهلها
ينتمون إلى الإسلام مطبِّقون لشرائعه.
وأما الحكم بغير ما أنزل الله- عز وجل- فهذا قد يؤدى إلى الكفر، وقد يؤدى إلى ما دون الكفر، كما ذكر الله في سورة المائدة: الكافرون، والظالمون، والفاسقون، حسب ما تقتضيه حال هذا الذي حَكَمَ بغير ما أنزل الله، وإذا قدر أنه وصل إلى درجة الكفر فإنه لا يغير دار الإسلام ما دام أهلها مسلمون كارهين لما عليه هذا الحاكم.
وأما إظهار الدين في دار الكفر، فدار الكفر إذا كان الإنسان لا يستطيع إظهار دينه فيها فإنَّه يجب عليه الهجرة منها، وإن كان يستطيع فإنَّه ينبغي أن يخرج منها؛ لأنَّ بقاءه فيها على خطر، فإذا كان في بلد الكفر يصلِّي ويتصدق ويقيم الجماعة والجمعة ولا أحد يمنعه من ذلك، فهذا قادر على إظهار دينه، لكن مع ذلك لا نُحبُّ له أن يبقى في دار الكفر.(25/391)
س 77: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما حُكم لبس الصليب في الحالات التالية (1) ؟
أولاً: جاهلاً؟
فأجاب الشيخ- رحمه الله- بقوله: لا شيء عليه، ولكن متى عَلِمَ أزاله.
ثانيًا: مستهزئ بالذي نصحه؟
فأجاب الشيخ- رحمه الله بقوله-: الذي يستهزئ بالذي نصحه، على أن هذا الفعل- لبس الصليب- لا يناصح فيه، فهو على خطر عظيم، فعليه أن يتوب إلى الله مما صنع ويزيل الصليب.
ثالثًا: مُجاملة؟
فأجاب الشيخ- رحمه الله- بقوله: لا يجوزُ مجاملة الكفار أبدًا؛ فشعائرُ الكفار لا تجوز مجاملة ولا غير مجاملة.
رابعًا: عارفاً بالحكم مُعاندًا مستكبرًا؟
فأجاب الشيخ- رحمه الله- بقوله: كغيره من العصاة، ما لم يكن مؤمناً بدين المسيح كافراً بدين محمد - صلى الله عليه وسلم - فإنه يكون كافرًا.
خامسًا: خوفًا من حصول الضَّرَرِ إذا لم يلبسه؟
فأجاب الشيخ- رحمه الله- بقوله: لا يجوزُ ما لم يكره عليه، فقد يمسك- مثلاً- ويقال: البس وإلا قتلناك أو نحو ذلك.
سادسًا: إذا كان في ذلك مصلحةٌ للمسلمين، مثل أن يقال إذا لبست
__________
(1) صيغة السؤال وفتوى الشيخ- رحمه الله- جاءت على حسب الترتيب أعلاه.(25/392)
الصليب سوف نفك أسرى المسلمين، ونحو ذلك؟
فأجاب الشي- رحمه الله- بقوله: لا يجوز أبدًا، قال تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) . (1) وربما يلعب النصارى بعقله، يقولون هذا الكلام، فإذا لبسه لم يَفُكوا أسرى المسلمين.
س 78: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل يجوز معاقبة من أخطأ بالزحف على البطن؟
فأجاب بقوله: لا يجوز المعاقبة بالزحف على البطن، لما في ذلك من المشقة الشديدة التي لا تُحتَمَل، ولا يجوز أن يُعاقب الإنسان بما لا يحتمل.
س 79: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما حُكم إخافة الجندي في التدريب أثناء الإعداد، ويُعمَل هذا على سبيل الإعداد؟ ومثال ذلك: أنه عندما يكون أحد الجنود في الحراسة في الليل يأتي بعض الجند فيأخذُونَه ويوثَق على أسَاسِ أنّ الذي
__________
(1) سورة الطلاق، الآيتان: 2-3.(25/393)
يعمل ذلك العدو، مع أنه لا يوجد خطورة على الجند الذين يعملون ذلك، بحيث عُطِّلَ سلاحُ الحارس قبل القيام بهذا العمل، فما حُكم هذا؟
فأجاب بقوله: ترويع المسلم حرام، ولا يحل، ويمكن أن يُدَّربَ الإنسان على الانتباه واليقظة بغير هذه الطريقة.
س 80: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما حُكم تقليد الكفار في بعض نظام الجيش، كالمسير ولبس الخوذة والملابس الضيقة؟
فأجاب بقوله: التقليد للكفار عمومًا ينقسم إلى قسمين:
الأول: يتعلق بالنظام الحربي والعتاد، فهذا لا يعتبر تشبهاً بهم، بل يُعتَبر من الأخذ بما ينفع في ميدان الحرب، ولذلك لا يعدُّ من التشبه الاقتداء في ركوب الطائرة، وإطلاق القذائف وما أشبه ذلك.
الثاني: تقليدُ اللباس والزي من حيث هو زي فقط، فهذا لا يجوز على القول الراجح فيما يختص بهم، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من تشبَّه بقومٍ فهُوَ منهم" (1) فاللباس الضيق مثلاً، إذا كان لا يصلح للكرِّ والفرِّ إلا ما كان ضيقًا فلا بأس أن يلبسه الإنسان وهو ضيق، ولكن يجعل
__________
(1) رواه أبو داود، كتاب اللباس، باب لبس الشهرة، برقم (4031) .(25/394)
فرقًا بينه وبين لباس الكفار في شكل التفصيل مثلاً، ولهذا صام النبي - صلى الله عليه وسلم - عاشوراء واليهود يصومونه، ولكنه أمر أن يُجعل فارق بين صيام اليهود وصيام المسلمين بأن يصام يوم قبله أو يوم بعده، وأما ما يتعلق بالآلات المنفصلة عن الإنسان فمعلوم أنَّه إذا فعله أهل العلم
بها ولو كانوا كفارًا لا يعتبر محرمًا ولا مكروهًا.
س 81: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: إذا قُتل الإنسان في المعركة، فهل يوصف بأنَّه شهيد؟
فأجاب بقوله: أَوَدُّ أن أنبِّه إلى أنَّنَا في عصر أصبح وصف (الشهيد) رخيصًا عند الكثير من الناس، حتى كانوا يصفون به من ليس أهلاً للشهادة، وهذا أمرٌ محرم، فلا يجوز أن يشهد لشخص بشهادة إلا لمن شهد له النبي - صلى الله عليه وسلم -، وشهادة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشهادة تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أن يشهدَ لشخص معين بأنَّه شهيد، كما جاء في الصحيح: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - صعد أحدًا ومعه أبو بكر، وعمر، وعثمان رضي الله عنهم، فارتج الجبل بهم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أثبُت أُحد، فإنما عليك نبيٌّ وصدِّيقٌ وشَهيدان " (1) فمن شهِدَ له النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالشَّهادة
__________
(1) رواه البخاري، كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلّم: لو كنت متخذاً خليلاً، برقم (3675) .(25/395)
بعينه، شهدنا له بأنه شهيد، تصديقًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإتباعًا له في ذلك.
القسم الثاني: أن يشهد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشَّهادة على وجه العموم، كما في الحديث الذي رواه مسلم عن أبى هريرة- رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما تَعدُّون الشهيد فيكم! " قالوا: يا رسول الله من قُتل في سبيل الله فهو شهيدٌ. قال: "إن شهداء أمتي إذن لقليلٌ" قالوا: فمن هم يا رسول الله؟ قال: "من قُتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مَات في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات في البطن فهو شهيدٌ". (1)
وهذا القسم لا يجوز أن نُطبِّقه على شخص بعينه، وإنَّما نقول: من اتصف بكذا وكذا فهو شهيد، ولا نخص بذلك رجلاً بعينه؛ لأنَّ الشهادة بالوصف غير الشهادة بالعين.
وقد ترجم البخاري- رحمه الله- لهذه المسألة في "صحيحه ": فقال: باب (لا يقال فلان شهيد) ، واستدل له بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الله أَعلمُ بمن يُجاهِدُ في سبيله ". (2) وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الله أعلم بمن يُكْلَمُ
__________
(1) رواه مسلم، كتاب الإمارة، باب بيان الشهداء، برقم (1915) .
(2) رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب أفضل الناس مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله، برقم (2787) .(25/396)
في سبيله " (1) أي بمن يُجرح، وساق تحت هذا العنوان الحديث الطويل عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التقى هو والمشركون فاقتَتَلوا، فلما مَال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عسكره ومال الآخرون إلى عسكرهم، وفى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل لا يدع لهم شاذَّة ولا فاذَّة إلا أتبعها يضربها بسيفه، فقالوا: ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلان، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَمَا إنَّه من أهل النار" فقال رجل من القوم: أنا صاحبه، قال: فخرج معه كلما وقف وقف معه، وإذا أسرع أسرع معه، قال: فجرح الرجل جرحًا شديدًا فاستعجل الموت، فوضع نصل سيفه بالأرض وذُبابه بين ثدييه ثم تحامل على سيفه، فقتل نفسه، فخرج الرجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أشهد أنك رسول الله، قال: "وما ذاك؟ " قال الرجل الذي ذكرت آنفًا أنه من أهل النار، فأعظم الناس ذلك، فقلت: أنا لكم به، وذكر ما حصل، (2) ثمَّ ساق البخاري حديثاً آخر وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الرجل لَيعمل عمل أهل الجنَّة فيما يبدو للناس وهو من
__________
(1) رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب فضل من يجرح في سبيل الله، برقم (2803) ، ومسلم، كتاب الإمارة، باب فضل الجهاد والخروج في سبيل الله، برقم (1876) .
(2) رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب لا يقال فلان شهيد، برقم (2898) . ومسلم، كتاب الإيمان، باب تحريم قتل الإنسان نفسه، برقم (112) .(25/397)
أهل النَّار" (1) .
وهذا الاستدلال الذي استدل به البخاري- رحمه الله- على الترجمة استدلال واضح؛ لأنَّ قوله - صلى الله عليه وسلم -: " الله أعلم بمن يجاهد في سبيله، الله أعلم بمن يكلم في سبيله" يدل على أنَّ الظاهر قد يخالف الباطن، والأحكام الأخروية تجرى على الباطن لا على الظاهر، وقصَّة الرجل التي ساقها البخاري- رحمه الله- لهذا العنوان ظاهرة جداً، فنحن لا نحكم بالأحكام الأُخروية على الناس بظاهر حالهم، وإنما نأتي بالنصوص على عمومها، والله أعلمُ هل تنطبق على هذا الرجل الذي ظَاهِره لنا أنه مُتَّصفٌ بهذا الوصف الذي علق عليه الحكم.
وقد ذكر صاحب "فتح الباري " أن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- خطب فقال: "إنَّكم تقولون في مغازيكم فلان شهيد ومات فلان شهيدًا، ولعله قد أوقَر راحلته- أي أثقلها- من الغلول ألا لا
تقولوا ذلك، ولكن قولوا: كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "مَن مَاتَ في سبيلِ الله أو قُتِلَ فهُو شَهيد" (2) قال في "الفتح ": وهو حديث حسن، وعلى
__________
(1) هو جزء من حديث سهل بن سعد الساعدي السابق.
(2) رواه سعيد بن منصور في سننه، كتاب النكاح، باب ما جاء في الصداق، برقم (595) ، ورواه أحمد 383.1 (285) ، والنسائي، كتاب النكاح، باب القسط في الأصدقة، برقم (3349) ، ولفظه عندهما: "من مات أو قتل في سبيل الله فهو في الجنة(25/398)
هذا فنحن نَشهدُ بالشهادة على صفة ما جاء في النص، إن كان في شخص معين شهدنا بها للشخص المعين الذي عيَّنه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وإن كان على سبيل العموم شهدنا بها على سبيل العموم ولا نُطبِّقها على شخص بعينه؛ لأنَّ الأحكام الأُخرَوية تتعلق بالباطن لا بالظاهر.
نسأل الله أن يثبتنا بالقول الثابت وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا إنه سميع مجيب.(25/399)
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد الصالح العثيمين إلى المكرم:.... حفظه الله تعالى.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
سؤالكم: عن حُكم قول فلان شهيد؟
والجواب على ذلك: إنَّ الشَّهادَةَ لأحد بأنَّه شهيدٌ تكون على وجهين:
أحدهما: أن تقيَّد بوصف، مثل أن يقال: كل من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد، ومن مات بالطاعون فهو شهيد، ونحو ذلك فهذا جائز كما جاءت به النصوص؛ لأنَّك تشهد بما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونعنى بقولنا [جائز] ، أنه غير ممنوعٌ، وإن
كانت الشهادة بذلك واجبة تصديقا لخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الثاني: أن تقيَّد الشَّهادَةُ بشخص مُعيَّن، مثل أن تقول لشخص بعينه إنه شهيد، فهذا لا يجوز إلا لمن شهد له النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو اتفقت الأمَّة على الشهادة له بذلك، وقد ترجم البخاري رحمه الله لهذا بقوله: باب (لا يقال فلان شهيد) ، قال في الفتح [90/6] أي على سبيل القطع بذلك إلا إن كان بالوحي، وكأنَّه أشار إلى حديث عمر أنهُ خطب فقال: " تقولون في مَغازيكم فلان شهيد ومات فلان شهيدًا ولعلَّه قد يكون قد أوقر راحلته، ألا لا تقولوا ذلكم، ولكن قولوا كما قال(25/400)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من مات في سبيل الله أو قتل فهو شهيدً". (1) وهو
حديث حسن، أخرجه أحمد وسعيد بن منصور وغيرهما من طريق محمد بن سيرين عن أبى العجفاء عن عمر. أ. هـ كلامه.
ولأنَّ الشَّهادة بالشيء لا تكونُ إلا عن علم به، وشرط كون الإنسان شهيدًا، أن يقاتل لتكون كلمةُ الله هي العليا، وهى نِيَّة باطنة لا سبيل إلى العلم بها، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - مشيرًا إلى ذلك: "مثل المجاهد في سبيل الله- والله أعلم بمن يجاهد في سبيله " (2) وقال: "والذي نفسي بيده لا يُكْلمُ أحدٌ في سبيلِ الله- والله أعلمُ بمَن يُكْلمُ في سبيلهِ- إلا جاءَ يَومَ القيامةِ واللَّونُ لونُ الدَّمِ والرِّيحُ ريِحُ المسك ". (3)
رواهما البخاري من حديث أبى هريرة، ولكن من كان ظاهره الصلاح فإننا نرجو له ذلك، ولا نشهد له به ولا نسيء به الظن.
والرَّجاء مرتبة بين المرتبتين، ولكننا نُعامله في الدنيا بأحكام الشهداء،
__________
(1) رواه سعيد ابن منصور في سننه، كتاب النكاح، باب ما جاء في الصداق، برقم (595) .
(2) رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب أفضل الناس مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله، برقم (2787) .
(3) رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب من يجرح في سبيل الله عز وجل، برقم
(2803) . ومسلم، كتاب الإمارة، باب فضل الجهاد والخروج في سبيل الله، برقم
(1876) .(25/401)
فإذا كان مقتولاً في الجهاد في سبيل الله دُفِنَ بدمه في ثيابه من غير صلاة عليه، وإن كان من الشهداء الآخرين فإنه يُغسَّل ويكفَّن ويصلى عليه، ولأننَّا لو شهدنا لأحد بعينه أنَّه شهيد لزم من تلك الشهادة أن نشهد له بالجنة، وهذا خلاف ما كان عليه أهل السنة، فإنهم لا يشهدون بالجنة، إلا لمن شهد له النبي - صلى الله عليه وسلم - بالوصف أو بالشخص، وذهب آخرون منهم إلى جواز الشهادة بذلك لمن اتفقت الأمَّة على الثناء عليه، وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله تعالى-.
وبهذا يتبين أنه لا يجوز أن نشهد لشخص بعينه أنَّهُ شهيدٌ، إلاَّ بنص أو اتفاق، لكن من كان ظاهره الصلاح، فإننا نرجو له ذلك كما سبق، وهذا كاف في مَنقبَته، وعمله عند خالقه سبحانه وتعالى،
والحمد لله رب العالمين.(25/402)
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد الصالح العثيمين إلى الأخ المكرم:.... حفظه الله تعالى.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
وصلتني رسالتكم المؤرخة 8/10/1409 هـ والبالغة (16 ص) وقرأت جميعها وفهمت حرصَك على الجهاد في سبيل الله، وأسأل الله تعالى أن يجعلني وإيَّاكَ من المجاهدين في سبيله على بصيرة، المتبعين في ذلك ما كان أرضى لله وأنفع لعباد الله.
وما ذكرت من حال طلبة العلم اليوم، فلا شكَّ أنَّ هذا موجودٌ في كثير منهم، لكن لا يشمل الجميع، ففي كثير منهم الخير، وتولي القيادة العلمية والقضائية وغير ذلك من شؤون المسلمين، والسير بها على الوجه المطلوب بِحَسَب المُستَطاع، وقد أنتجوا ما حصل به سرور المتَّقين في هذه المجالات.
وما ذكرت من حال المجاهدين اليوم، فلا شكَّ أن هذا موجود في كثير منهم لكنه لا يشمل الجميع، فالمجاهدون على درجات، منهم من يريد الدنيا، ومنهم من يريد الآخرة، كما قال الله تعالى عن أشرف جيش جُنِّدَ على وجه الأرض، بقيادة خاتم النبيين وإمام المرسلين وقدوة المتقين محمد - صلى الله عليه وسلم -: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا(25/403)
تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِين) (1) فإذا كان هذا موجودًا في عصر الصحابة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فما بالك في هذا الوقت. وفى "صحيح البخاري " عن أبى هريرة- رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَثلُ المجاهد في سبيل الله- واللهُ أعلم بمن
يجاهد في سبيله- كمثل الصائم القائم " (2) ، وفيه أيضًا "والذي نَفسي بيده لا يُكْلَمُ أحدٌ في سبيل الله- والله أعلم بمن يكلم في سبيله- إلا جاء يوم القيامة واللون لون الدَّم والريح ريح المسك ". (3) فتأمل احتراز النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: "والله أعلم بمن يجاهد أو بمن يُكْلَم في سبيله " لِتعلم به أنَّ المجاهدين يختلفون وهو واضح، ولستُ أريد بذلك فئةٌ معينه أو طائفة معينة، بل هذا عام للجهاد في وقتنا وقبله وبعده إلى يوم القيامة،
وقد بوب البخاري- رحمه الله- على هذا الاحتراز قوله باب: "لا يقال فلان شهيد"،
__________
(1) سورة آل عمران، الآية: 152.
(2) رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب من يجرح في سبيل الله، برقم (2803) .
ومسلم، كتاب الإمارة، باب فضل الجهاد والخروج في سبيل الله، برقم (1876) .
(3) رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب من يجرح في سبيل الله، برقم (2803) .
ومسلم في كتاب، الإمارة، باب فضل الجهاد والخروج في سبيل الله، برقم (1876) .(25/404)
وذكر في "الفتح " على هذه الترجمة ما رواه أحمد وغيره عن عمر رضي الله عنه أنه خطب فقال: تقولوا في مغازيكم فلان شهيد ومات فلان شهيدًا ولعلَّه قد يكون قد أوقرَ راحلته، ألا لا تقولون ذلكم، ولكن قولوا كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من مات في سبيل الله أو قتل
فهو شهيد". (1) قال الحافظ: وهو حديث حسن.
وعلى هذا فلا ينبغي أن نُقلِّلَ من شأن طلب العلم، ولا من شأن الجهاد، ولا نُبرئ كل من كان في ساحتيهما مما قد يكن فيه من نقص، والعاقِلُ المنصِف يرى وينظر إلى الأشياء بعيني البصيرة في أحوال
الناس من جهة واقعهم، ومن جهة تطبيقه على الشريعة، وأن لا يحكم بعين العاطفة فقط؛ لأنَّ ذلك يخشى من الزَلل، ووفق الله الجميع، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
س 82: سئل فضيلة الشيخ- رحمة الله-: هل تُكفِّرُ الشهادة في سبيل الله الذنوب؟
فأجاب بقوله: الشهادة تُكفّر الذنوب إلاّ الدَّيْن، فإذا كان على الإنسان دين فإن الشهادة لا تكفره؛ لأنَّ دين الآدمي لابدَّ من وفائه،
__________
(1) رواه سعيد ابن منصور في سننه، كتاب النكاح، باب ما جاء في الصداق، برقم (595) .(25/405)
ولهذا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يكثر المال عنده ويفتح الله عليه؛ كان إذا قدم إليه الميت سأل: "أعليه دين "؟ فإن قالوا: لا، تقدَّمَ وصلَّى عليه، وإن قالوا: نعم، وليس عنده وفاء، لم يصلِّ عليه، وقال: "صلُّوا على صاحِبكم" (1) .
وهذا يدلُّ على أهمية الدَين وعِظَمِه، والناس الآن مع الأسف لا يهتمون به، تجد الإنسان يَستدين في أشياء تعتبر من كماليات الحياة لا من ضرورياتها، ولا من حاجياتها، بل من المكملات فيستدينُ، وربَّما يحل الدين ويستدين مرة أخرى، وهكذا حتى تتراكم عليه الديون وهو لا يبالي بذلك، كأنه لم يسمع قصة المرأة التي جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إني وهبت نفسي لك، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يَحلُّ له أن يتزوج بالهبة خالصة له دون المؤمنين، ولكنَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يرغب فيها، فقام رجل فقال: يا رسول الله إن لم يكن لك بها حاجة فَزوِّجنِيها، فطلب منه النبي - صلى الله عليه وسلم - الصداق قال: ما عِندي إلا إزاري، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن أعطيتَها إزارك جلست ولا إزار لك فالتمس شيئاً"
فالتَمَسَ فلم يجد شيئا، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "التمس ولو خاتمًا من حديد" فالتَمَسَ فلم يجد شيئا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " هل معك شيءٌ
__________
(1) انظر البخاري، كتاب الكفالة، باب من تكفل عن ميت ديناً فليس له أن يرجع، برقم (2295) ، ومسلم، كتاب الفرائض، باب من ترك مالاً فلورثته، برقم (1619) .(25/406)
من القرآن؟ " قال: نعم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " زَوَّجتكها بما معك من القرآن ". (1) ولم يقل: اذهب فاستقرض أو تَديَّن. وهذا يدلُّ على أنه لا ينبغي لنا أن نتهاون في مسألة الدين، فالشَّهيد إذا قُتِل في سبيل الله كفَّرت شهادته جميع ذنوبه إلا الدَين.
__________
(1) انظر البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب القراءة عن ظهر قلب، برقم (5030) ، ومسلم، كتاب النكاح، باب ندب النظر إلى وجه المرأة وكفيها لمن يريد تزوجها، برقم (1424) .(25/407)
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد الصالح العثيمين إلى إخواني في الجزائر الذين مازالوا يحملون السلاح في الجبال والرمال وفقهم الله لما فيه الخير والصلاح.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
فإنَّ الواجب عليَّ أن أُبدى النصيحة لكم؛ لأنَّ ذلك من الدِّين، كما جاء في الحديث الصحيح، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن "الدين النصيحة لله ولكتَابه وَلرسُولِه ولأئمَّة المسلمين وعَامَّتِهم ". (1)
فنصيحتي لكم أن تُلقوا السلاح وتحملوا السلام، وتُجيبوا ما دعت إليه الحكومة من المصالحة والسلام، ثم يجرى بين الجميع التفاهم وتَحكِيم الكتاب والسنة، وهذا سيكون فيه خيرٌ كثير
والخلاص من الفِتَنِ والقتال.
وهذا- أعنى- وضع السلاح وحمل السلام، واجبٌ على الجميع.
فالله الله أيَّها الأخوة بالمبادرة إلى المصالحَة والتفاهُم وأسال الله لنا ولكم التوفيق، وأن يجعلنا من دعاة الخير وأنصار الحق، إنه جوادٌ كريم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى
__________
(1) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة، برقم (55) .(25/408)
آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. كتبه الفقير إلى الله تعالى محمد بن صالح العثيمين في مكة المكرمة يوم الأربعاء السادس عشر من ذي الحجة عام 1420 هـ.(25/409)
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد الصالح العثيمين إلى الأخ المكرم:.... أمير الجماعة
المسلحة في منطقة الجزائر حفظه الله تعالى.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
فإن الله تعالى قال: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) . (1) وقال- عزَّ وجل-: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) . (2) وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كُونوا عباد الله إخوانًا" (3) وقال - صلى الله عليه وسلم - أيضاً: "المسلم أخو المسلم " (4) .
ولقد مَنَّ الله تعالى على كثير من إخواننا في الجزائر، فألقوا السلاح وأطفئوا الفتنة، وحصل لهم وللشعب الجزائري خيرٌ كثير، وإنَّا
__________
(1) سورة الأنفال، الآية: 1.
(2) سورة آل عمران، الآية: 103.
(3) رواه البخاري، كتاب الأدب، باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر، برقم (6065) .
ومسلم، كتاب البر والصلة، باب تحريم التحاسد والتباغض، برقم (2559) .
(4) رواه البخاري، كتاب المظالم، باب لا يظلم المسلم المسلم، برقم (2442) . ومسلم، كتاب البر والصلة، باب تحريم الظلم، برقم (2580) .(25/410)
لنرجو الله- عز وجل- أن تكونوا- أيها الأمير- مثلهم عن قريب، والأمور التي فيها اختلافٌ بينكم يمكن حلها بالطُرُقِ السلمية والتفاهم، وسيتمُّ ذلك إن شاء الله مع نية الإصلاح وسلوك الطريق الموصل إلى ذلك، قال الله تعالى في الحَكَمين في شِقَاق الزوجين (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا) . (1) آمل منكم أيُّها الأمير أن تُبادِروا بالإصلاح ووضح السلاح، وفقكم الله للخير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كتبه/محمد الصالح العثيمين يوم الجمعة 14 ربيع الأول سنة
1421 هـ عنيزة/الجامع الكبير.
__________
(1) سورة النساء، الآية: 35.(25/411)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نَبيِّنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
إلى فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين،
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فهذا ما يَسَّر الله- عز وجل- لنا نَقلِه مما سَجَّلنا من المكالمة الهاتفية، نرجو جزاكم الله خير الجزاء مراجعته وتعديل ما يحتاج إلى تعديل، ومن ثم إرساله لنا لنشره على الإخوة هنا (1) ، لعل الله جلَّ
وعلا أن ينفع بذلك عباده الصالحين.
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
* السؤال الأول: فإنه لما كَثُرَ الجَدَلُ بين المسلمين بسبب الأزمة الأخيرة التي أصيب بها المسلمون، واستفسار كثير منهم بما يتعلق بفتوى بعض العلماء بجواز دخول القوات الأجنبية إلى الأراضي
السعودية، ومن باب الحرص على إظهار الحق، وكشف الشبه
__________
(1) في أمريكا وقد عرضت على الشيخ- رحمه الله- في كتاب واحد مشتمل على عدد من الأسئلة.(25/412)
واللَّبس فقد سئل فضيلة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين عن طريق الهاتف بالسؤال التالي-: كثيرٌ من المسلمين يسألون عن شرعية الفتوى المتعلقة بالتواجد الأجنبي في الأراضي الإسلامية في الجزيرة
العربية؟ وعن اعتماد العلماء بفتواهم هذه؟
فأجاب بقوله: اعتماد العلماء بفتواهم هذه، على القاعدة المعروفة المشهورة لأهل العلم، والتي دلَّ عليها كتاب الله سبحانه وتعالى، وهو اتقاء أشد الضررين بأخفهما، فإن العلماء لما رَأوا ما حصل
للكويت، قالوا: إن هذا الذي حصل للكويت يخشى أن يحصل مثله على السعودية، فالضرر الحاصل به أعظم من الضرر الحاصل بالاستعانة بالكفار، ثم إن هناك تأكيدات نسأل الله أن تحقق، وهى
أن هؤلاء الكفار سيرحلون عن البلاد بمجرد ما يزول الخطر، فمن ثم قالوا: إننا ندفع أشدَّ الضررين بأخفهما، وليس هذا من باب الاستعانة التي تكلَّم عليها أهل العلم، بحيث يستعين الجيش المكوَّن
من عدد كثير برجل أو رجلين من الكفار؛ لأن الاستعانة- أعنى ما تكَّلم عليه أهل العلم-، قد لا تصل إلى الحد الذي وصلت إليه الحال فيما استند إليه العلماء بفتواهم.
أما أن هذه الفتوى حصل بها فتنة، وكل تكلم، فهذه هي سُنَّة الفِتَن أن كل واحد يتكلَّم، وأن الناس يكون عندهم هوى يَعصِفُ(25/413)
بالعقول، فينظرون إلى جهة بعين ويعمون عن الجهة الأخرى، فينظرون إلى الواقع بعين أعور، لا يرى إلا من جانب واحد.
وإلا فإن الواجب أن العاقل ينظر إلى الحدث من جميع جوانبه، ولا شك أن كل مؤمن بالله ورسوله، لا يحب أن يرى كافرًا في الجزيرة العربية ولو كان كنَّاسًا في البلدية، فكيف يرضى أن يكون
هذه الجيوش العظيمة بأسلحتها وعتَادها في الجزيرة العربية! ولكن كما يقول الأول:
إذا لم يكن إلا الأسنة مركبًا فما حيلة المضطر إلا ركوبها فالعلماء رأوا ما أسلفت من أن وجود هؤلاء من باب اتقاء أشَدِّ الضررين بأخفهما.
والله سبحانه وتعالى قال في كتابه (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ) (1) .
فنهى سبحانه عن سَبَّ آلهة المشركين، خوفًا من أن يحصل منهم سب لله- عز وجل-، مع أن سَبَّ آلهة المشركين لا شك أنه قربى ومأمور به، لكن لما كان يفضي إلى شر عظيم، كان السكوتُ عنه
أولى، وكذلك في الحديث الذي رواه البخاري، قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - لعائشة: "لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لهدمت الكعبة وبنيتها على
__________
(1) سورة الأنعام، الآية: 108.(25/414)
قواعد إبراهيم وجعلت لها بابين، بابًا يدخل منه الناس وبابًا يخرجون منه " (1) ، لكنه ترك هذا مع ما فيه من المصلحة، من أجل أن القوم حديثو عهد بكفر.
على كل حال نسأل الله أن يجلو هذه الغُمَّه، وأن يبعد الكفار عنَّا وعن بلادنا، وأن يرزقنا القوة الذاتية بإيماننا بالله وامتثالنا لأمره، وأن يجعل في شبابنا خيرًا.
* السؤال الثاني: يا شيخ أحسن الله إليكم-: هناك ضَرَران، الأول غزو العراق للسعودية، وحصول ما حصل في الكويت، ولَعَلَّ كثيرًا من المسلمين أدركوا ما حلَّ بكثير من النشاطات الإسلامية من جمود بعد هذا الغزو، وأن الكويت رغم ما فيه، إلا أننا لا ننسى مكانة الدعاة وأهل الخير فيها، ومناصرتهم لقضايا الإسلام والمسلمين في كل مكان، وحُرِّية قول الحق فيها، ولكن كل هذا توقف بسبب الغزو، ومثل ذلك كان سيحدث للسعودية، بل وأكثر من ذلك ما هو واقع الآن للعراق ومن قبل، والمُشَاهِدُ لواقع الدُّعاة والمسلمين في العراق يُدرك هذا، لكن يا شيخ- أحسن الله
إليكم- كثير من المسلمين يردِّدُ أن هذا ظن، ولم يكن سيقع، أقصد
__________
(1) رواه البخاري، كتاب العلم، باب من ترك بعض الاختيار، برقم (126) ، ومسلم، كتاب الحج، باب نقض الكعبة وبنائها، برقم (1333) (402) .(25/415)
غزو العراق للسعودية، فكيف نعالج ذلك الظن بالاستعانة بالمشركين، وخصوصًا قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إنا لا نستعين بمشرك (1) ؟
الجواب: كما أسلفت أن ذلك ليس من باب الاستعانة بالمشركين التي ذكرها العلماء، ولو أن هجوم العراق على السعودية كان ممتنعًا بالأدلِّة والبراهين المعقولة، لكان وجود الكفار على هذا حرامًا ولا
يجوز، ولكن لما كان الأمر- أي هجوم العراق على السعودية- يكاد يكون محققًا، والقول بأنه ظنٌّ غير صحيح والواقع يكذِّبه؛ لأنه ما الذي يمنعهم من هذا وقد فعلوه في الكويت من قبل.
فالحاصل أنَّ غالب الظنِّ أنَّهم كانوا ينوون الهجوم، وعلى ذلك كان اعتماد العلماء بفتواهم بجواز السماح للقوات بالدخول، وهذا من باب دفع أشد الضررين بأخفهما كما قلت لك، أما لو تيقنَّا أنه
ليس يهاجم السعودية فلا شكَّ أن دخولهم على هذا الوجه حرام، ولا يجوز أن يمكنوا من أرضنا لما في ذلك من الخطر على بلادنا وعلى ديننا، ولكن كما قلت لك إن العلماء نظروا بحسب ما بلغهم أن الأمر يغلب على الظنِّ أنه سيكون الهجوم.
__________
(1) رواه مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب كراهية الاستعانة في الغزو بكافر، برقم (1817) .(25/416)
* السؤال الثالث: لكن يا شيخ، كما ذكرت لك أن هناك من العلماء من يرى أن هجوم العراق ظن ولهذا لا تجوز الفتوى بالسماح، وأذكر أننا قمنا بالاتصال بالعلامة الشيخ ناصر الدين الألباني، فهو
يرى أن الهجوم لازال محل ظن ولم يكن واقعًا، فهل ترى أن عمدة هؤلاء العلماء في فتواهم بعدم السماح للقوات الأجنبية المشركة بالتواجد في السعودية هو أن هجوم العراق كان ظناً ولم يكن واقعًا؟
الجواب: أنا سمعت أشرطة للشيخ ناصر، وهو يقول: إنه لو حصل الهجوم فعلاً على السعودية عندها نقول: لا بأس بالاستعانة، ولكن الواقع أن ذلك غير متصور؛ لأنه إذا حصل الهجوم صعبت
جدًّا المقاومة والإخراج وعندها ستكون المصيبة أكبر والفتنه أعظم.
* السؤال الرابع: ألا يمكن أن نقول أن المسألة- وإن كانت ظناً-، فالواجب على المسلمين أن لا يدعوه للظن، وأن يحتاطوا للأمر وخصوصًا أن المسألة عظيمة كهذه والفتنة عظيمة بعد الوقوع؟
الجواب: هذا القول ممكن، بل هو الحزم؛ لأن دفع الشر قبل وقوعه أهْوَنُ من رفعه. فما ظنك لو استولى العراق على المملكة فماذا يحصل من الفتنة؟ أعظم من فتن هؤلاء.
* السؤال الخامس: ما رأيكم فيمن يرى فتنة العراق أقل ضررًا من الأمريكان؟(25/417)
الجواب: من رأى ذلك، فهل رآه عن تصور وتعقل أم لمجرد هوى؟ ثم كيف يقول بهذه الرؤية مع أن الواقع يكذبها؛ لأن الأمريكان لا يمكن أن يتمركزوا هنا لأسباب داخلية وخارجية، فإن السعوديين لا يمكن أن يبقوهم إذا انتهت الأزمة، ولكن لو استولت الحكومة العراقية لا أحد يقول لها: اخرجي؛ لأنها مثلاً دولة عربية من جنس العرب، وما أكثر القوميين وأصحاب الجهل في بلادنا
الإسلامية!! لذلك لا أحد يقاومها.
وعلى أية حال. وإن اختلفت الأنظار، وادعى مدعٍ أن وجود هؤلاء أشدُّ ضررًا من الحكومة العراقية فلننظر للواقع، إن الإنسان يجب عليه أن يتقي الله- عز وجل- وأن لا يتكلم إلا بكلمة يعلم أن لها جوابًا عند الله صحيحًا، فالواجبُ على المسلم أن ينظر إلى الأحداث من جميع الجوانب، فإذا أنكر وجود القوات الأجنبية في الجزيرة العربية فلينكر ما حصل على أهل الكويت من الظلم
والعدوان، وإخراجهم من ديارهم وأموالهم، وقتل من قتل منهم، وهلاك من هرب منهم من أطفال وكبار، أما التركيز على جانب أحد الأمرين دون الأخر، فهذا خطأ، وليس هذا من العدل، يقول
الله- عز وجل- في سورة النساء: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ) (1) .
__________
(1) سورة النساء، الآية: 135.(25/418)
ويقول في سورة المائدة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (1) .
نحن نبغض كل كافر، ولكن لا يمنعنا هذا البغض من أن نقول العدل، فالإخوة الذين يبغضون الكفار هم مُصيبون في هذا، لكن يجب مع كراهتهم لهم أن يقولوا العدل، فلا يقفون على جانب،
ويجعلوه المشكلة كلها وينسون الأصل والسبب، فنصيحتي للإخوة إذا طالبوا بإخراج القوات الأجنبية من بلاد السلمين، أن يطالبوا بِرَدِّ الحقوق إلى أهلها بالنسبة للكويتيين، ويطالبوا أيضًا دولة الكويت بالرجوع إلى تحكيم الكتاب والسنة، ويُبيّنوا لها أن ما أصابها فهو بسبب الذنوب والمعاصي وتعدي الحدود، وأن هذا مصير كل من لم يحكم شرع الله في بلاده.
والله عز وجل يقول: (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) (2) ويقول جل وعلا: في سورة آل عمران: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
__________
(1) سورة المائدة، الآية: 8.
(2) سورة الزخرف، الآية: 76.(25/419)
قَدِيرٌ) (1) .
والسعوديون يقولون: إنه بمجرد انتهاء الأزمة سوف يرحل الكفار عن البلاد. نسأل الله تعالى أق يحقق ذلك.
* السؤال السادس: يا شيخ أحسن الله إليكم، هنا في الصحافة الأمريكية تأكيدات بِنيَّة الهجوم على العراق لردعه وإخراجه من الكويت، فما رأيكم في هذا؟
فأجاب بقوله: أنا أرى أن هذا عظيم، عظيم جدًّا؛ لأن القضاء على قوة العراق والتي ليست ملكًا لصدام، فيه خسارة عظيمة من جهات متعددة، فالمسألة خطيرة جدًّا، لكن الواجب على العراق أن
يتقى الله- عز وجل-، وأن يَدفَعَ الشر والأذى بِرَدِّ الحقوق إلى أهلها، ولا شكَّ أن الكويتيين الآن لن ينظروا إلى الأمر كما كانوا ينظرون إليه من قبل.
* السؤال السابع: هل لكم يا شيخ أن تقدموا للإخوة المسلمين نصيحة، لَعلَّ الله ينفعهم بها؟
فأجاب بقوله: أنا أودُّ من الإخوة المسلمين أن لا يركزوا على مسألة القوات هنا فحسب، بل يركزوا عليها وعلى الظلم الذي وقع بأهل الكويت، ويجب أيضًا أن يبِّينُوا أنه يجب على الحكومات
__________
(1) سورة آل عمران، الآية: 165.(25/420)
الإسلامية ومن بينها حكومة الكويت والعراق وجميع البلاد الإسلامية أن يرجعوا حقيقةً إلى كتاب الله- عز وجل- وأن يُحكِّموا الشريعة في عباد الله، وأن يسعوا لتحقيق الخلافة الراشدة التي يتم
من خلالها توحيد البلاد الإسلامية على شريعة الله، وليس على غيرها من الشعارات البائدة والأحزاب البائسة. والله المستعان.(25/421)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلى وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبة ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فقد أعطاني الأخ (.....................) كتابًا موجهًا منه بتاريخ 27/1/1411 هـ إلى من يراه من علماء المسلمين يقول فيه:
أنه اطلع على ما وقَّعَ عليه العلماء الأفاضل منهم: الشيخ محمد بن عثيمين وابن باز وصالح الفوزان- حفظهم الله- وأن ما فعله إمام المسلمين من الاستعانة بالنصارى لحماية المسلمين وديارهم، وهذا قد علمناه منهم وتَعليمهم لنا أن الصُّلح مع الكفار والمشركين والنصارى
وغيرهم، شيءٌ يختلف عن الاستعانة بهم لحماية المسلمين وديارهم، وطلب تفصيلاً للأدلَّة التي استند عليها العلماء للاستعانة بالنصارى، وكيفية الجمع بينها وبين الآيات المحكمة في كتاب الله العظيم، منها قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ) (1) .
ومنها قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا) (2) . وهاتان الآيتان مدنيتان.
__________
(1) سورة الممتحنة، الآية: 1.
(2) سورة آل عمران، الآية: 118.(25/422)
والجواب: أن ههنا ثلاث حقائق يجب مَعرفَتُهَا:
الحقيقة الأولى: اتخاذ الكفار أولياء يتولاهم المسلم ويعينهم ويناصرهم، وهذه لا شكٌ في تحريمها، وأنهما من كبائر الذنوب، لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ) (1) .
ثم إن كانت الموالاة للكفار على المسلمين الذين هم مسلمون حقيقة، فهي رِدَّةٌ عن الإسلام، فيكون المُوَالي بها كافراً مرتدًّا؛ لأنه موالٍ للكافرين ظاهرًا وباطنًا محاربٌ لشريعة الله تعالى.
مثال ذلك: أن يحصل حرب بين أمة كافرة وأمة مسلمة، فيذهب مع الأمة الكافرة يعينها على الأمة المسلمة.
وإن كانت الموالاة لكفار على كفار فهذه حرام بلا شك لمناصرة الكفار وموالاتهم ظاهراً، وفى كونها ردة عن الإسلام نظر؛ لأنه ربما يناصر هؤلاء على هؤلاء لكون أولئك أهون شرًا على المسلمين؛ وأقل خطراً على دينهم لا لمحبته لظهورهم وانتصارهم على الإطلاق. وقد قال الله تعالى: (الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ
__________
(1) سورة المائدة، الآيتان: 51- 52.(25/423)
وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ) (1) .
مثال ذلك: أن يقتتل طائفتان من الكفار فيناصر أحداهما على الأخرى، وليس من موالاة الكفار أن يناصرونا على عدو لنا؛ لأننا لم نتخذهم أولياء بل هم الذين والوا ونصروا ولكن هذه من الحقيقة
الثانية.
الحقيقة الثانية: الاستعانة بالكفار على عدو لنا نقاتله قتال طلب، وهذه في الأصل حرام؛ لأن الكفار أعداء المسلمين كما هم أعداء الله تعالى، فلا يُؤمَنُ شرهم ولا يُطْمَأَنُّ إلى ظاهرهم، ولما رواه مسلم عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: " خَرَجَ النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل بدر، فلما كان
بِحرَّةِ الوَبَرَةِ أدركه رجل، قد كان يذكر منه جرأة ونجدةٌ، ففرح أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين رأوه فلما أدركه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: جِئتُ لأَتَّبِعكَ وأصيب معك، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " تُؤمنُ بِالله ورسُوله؟ " قال: لا، قال: " فارجعْ، فلن أستعين بمشرك ". قالت: ثم مضى حتى إذا كنا بالشجرة أدركه الرجل، قال له كما قال أول مرة.
قال: "فارجع فلن أستعين بمشرك ". قالت: ثم رجع فأدركه بالبيداء فقال له كما قال أول مرة: "تؤمن بالله ورسوله؟ " قال: نعم، فقال له
__________
(1) سورة الروم، الآيات: 1-5.(25/424)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " فانطَلِق " (1) ، فهذا الرجل رَدَّهُ النبي - صلى الله عليه وسلم - مرتين حين بقي على الشرك، وقَبِلَهُ في الثالثة حين قال: إنه يؤمن بالله واليوم الآخر.
ولكن إذا دعت الضرورة إلى الاستعانة به أي: (بالكافر) ، وكان مأمونًا فلا بأس بذلك، ودليل ذلك ما ثبت في صحيح البخاري عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: " واستأجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر رجلاً من بنى الديل هاديًا خِرِّيتا وهو على دين كفار قريش، فأمناهُ فدفعا إليه راحلتيهما، وواعدَاهُ غار ثورٍ بعد ثلاث ليالٍ " (2) ، واسم الرجل هذا عَبد الله بن أُرَيْقط، والخِرِّيت الماهرُ في الدلالة.
ووجه الدلالة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعان به على أن يدله الطريق لينجو من أعدائه قريش مع خطورة الموقف؛ لأن قريشاً كانت تطلبه وقد جعلت مئتي بعير لمن أتى به وأبا بكر.
واستدل ابن القيم- رحمه الله- بما جاء في قصة صلح الحديبية في شأن بُدَيل بن وَرْقاءَ الخُزاعيّ، (3) فقال في سِياقِ ما يستفاد من قصة الحديبية من الفوائد الفقهية (3/301) ، (ط مؤسسة الرسالة التي
__________
(1) رواه مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب كراهية الاستعانة في الغزو بكافر برقم (1817) .
(2) رواه البخاري، كتاب الإجازة، باب استئجار المشركين عند الضرورة، بر قم (2263) .
(3) انظر صحيح البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد، برقم (2732) .(25/425)
عليها تعليق الأرناؤوط) . ومنها أن الاستعانة بالمشرك المأمون في الجهاد جائزةٌ عند الحاجة، لأن عينه الخُزاعي كان كافرًا إذ ذاك، وفيه من المصلحة أنه أقرب إلى اختلاطه بالعدو وأخذه أخبارهم، ا. هـ.
وقد نصّ على ذلك أهل العلم في: " المُغني "؛ لابن قُدامة، (8/414) ، (ط دار المنار) : ولا يُستَعان بمشرك، وبهذا قال ابن المنذر والجوزجاني وجماعة من أهل العلم، وعن أحمد ما يدل على جواز
الاستعانة به، وكلام الخِرَقي يدل عليه أيضًا عند الحاجة، وهو مذهب الشافعي، لحديث الزهري الذي ذكرناه وخبر صفوان ابن أُميَّة: [خبر الزهري "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعان بناس من اليهود في حربه فأّسهَم لهم" (1) . رواه سعيد في سننه. وروي: "أنَّ صفوان بن أُميَّة
خرج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين وهو على شركه فأسهم له وأعطاه من سهم المؤلفة"] (2) .
هكذا ذكرهما المؤلف، قال: ويشترط أن يكون من يستعينُ به حسن الرأي في المسلمين، فإن كان غير مأمون عليهم لم تجز الاستعانة به، ا. هـ.
__________
(1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"، كتاب الجهاد، باب من غزا بالمشركين وأسهم لهم، (395، 12) .
(2) رواه البيهقي في سننه، كتاب الصدقات، باب من يعطى من المؤلفة قلوبهم من سهم المصالح، جاء أن يسلم، (7.18) .(25/426)
وفى " المهذَّب "؛ للشِّيرَازي (18/68) ، (ط المكتبة العالمية) .
"ولا نستعين بالكفار من غير حاجة، ثم استدلَّ له بحديث عائشة- رضي الله عنها- ثم قال: فإن احتاج أن يستعين بهم فإن لم يكن من يستعين به حسن الرأي في المسلمين لم نستعن به؛ لأنَّ ما
يُخاف من الضرر بحضورهم أكثر مما يرجى من المنفعة، وإن كان حسن الرأي في المسلمين جاز أن يستعين بهم؛ لأن صفوانُ بن أُمَّية شهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في شركه حرب هوازن، ثم قال: وإن احتاج إلى أن يستأجرهم جاز؛ لأنه لا يقع الجهاد له، وذكر في الشرح أنَّه إذ دَعَت إلى ذلك حاجة، كأن يكون في المسلمين قلَّة، ومن يستعين بهم من الكفار يعلم منه حسن نيته في المسلمين، جاز له أن يستعين به.
ثم استدل لذلك بما رواه ابن عبد البر في "الاستيعاب "، وابن سعد في "الطبقات "، ومالك في "الموطأ" عن ابن شهاب وابن إسحاق، عن أبي جعفر محمد بن على في قصة صفوان ورجوعه إلى
النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الفتح وشهوده حنينا، والطائف وهو كافر. وفى (ص 166) من الجزء المذكور، وإن حضر مشركٌ مع المسلمين في القتال بغير إذن الإمام، لم يُسهم له ولم يرضخ له؛ لأن ضرره أعظم من ضرر المخذل والمرجف بالمسلمين، وإن حضر بإذن الإمام رضخ له ولم يسهم له، وهو قول العلماء كافة إلا الأوزاعي فإنه قال: "يسهم له ". أ. هـ.(25/427)
الحقيقة الثالثة: الاستعانة بهم في الدفاع عن البلد إذا اضطر المسلمون إليهم، وهذا أولى بالجواز من الأول، بل قد يكون مطلوبًا على سبيل الوجوب أو على سبيل الاستحباب حسب خطر المهاجم
ولهذا قال أهل العلم: "إن الجهاد في هذه الحال فرض عين يجب حتى على النساء والشيوخ والصبيان القادرين ". وقد قال الله تعالى (وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ) (1) فأمر بقتل من قاتلنا في المسجد الحرام مع أن القتال عنده حرام، لكن الدفاع له شأن آخر.
ولكن متى قلنا بجواز الاستعانة بهم في حال الضرورة، فإن الواجب أن تَتَقَدَّر بقدرِها، وأن يرحلوا عن البلد من حين الاستغناء عنهم؛ لأن بقاءهم في الجيش، جيش السلمين، يؤدي يقينا أو ظنًا
غالبًا إلى فساد كبير، لاسيَّما مع كثرتهم وشعورهم، أو إعطائهم الشعور بأنهم المنقِذُون الحامون وأنهم أبطالُ المعركة، فإن هذا يؤدي إلى عُلوِّهم واستكبارهم واستعبادهم الجيش الإسلامي ومن وراءه، مع أن الواجب على الجيش الإسلامي أن يكون قويًّا بدينه، لا يلحقه
وهن ولا ضعف ولا ذل إلا لله تعالى وحده، قال الله تعالى: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (2) وقال الله تعالى: (فَلَا
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 191.
(2) سورة آل عمران، الآية: 139.(25/428)
تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) (1) .
وعلى الجيش الإسلامي أن يُعدَّ العُدَّةَ المعنوية الروحية والعدة الحسية المادية؛ لأن الله تعالى بيَّن أن فقدان العُدَّة المعنوية الروحية سبب للخِذلان والهزيمة، حيث كانت الهزيمة في أُحد حين وقعت
المعصية من الرماة، وكانت الهزيمة في حُنين حين أساء بعضهم الاعتماد على الله واعتمدوا على كثرتهم، وقالوا: لن نغلب اليوم عن قلة (2) . فهذا هو الإعداد الروحي المعنوي.
أما الحسي المادي فقد قال الله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) (3) . والقوة: الرمي.
أسأل الله تعالى أن يحمي دينه من أعدائه، وأن يُهيِّئ لنا من أمرنا رشدًا، وأن يهب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
كتبه الفقير إلى الله تعالى محمد الصالح العثيمين في 12/2/1411 هـ.
__________
(1) سورة محمد، الآية: 35.
(2) رواه أبو عوانة في مسنده، كتاب الجهاد، بيان محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلّم المشركين يوم حنين، برقم (6754) .
(3) سورة الأنفال، الآية: 60.(25/429)
بسم الله الرحمن الرحيم
كلمة حول التفجير الواقع بمدينة الرياض
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله
وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإننا في مساء أمس الأول، الاثنين العشرين من شهر جمادى الآخرة من عام 1416 هـ، سمعنا نبأ العدوان الآثم، الواقع هذا اليوم، ممن لا يخافون الله، ولا يرحمون عباد الله، حيث وضعوا
متفجرات، في أحد شوارع الرياض، مما أدى إلى قتل النفوس بغير حق، وجرح الأبرياء العزل، وإتلاف بعض الأموال، وهدم بعض البيوت، ولاشك أن هذا عدوان آثم، لا يقره دين ولا عقل، ولا عرف.
أما الدين: فإنه مناف لا جاءت به النصوص القرآنية والنبوية، من تحريم قتل النفس بغير حق، وإتلاف الأموال ظلماً وعدواناً قال الله تبارك تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ) (1) ، وقال تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا
__________
(1) سورة الأعراف الآية: 33.(25/430)
آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا) (1) ، وقال تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا) (2) .
أما السنة: فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أعلن في حجة الوداع في أكبر مجمع يجتمع فيه بالمسلمين فقال: "إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت، اللهم اشهد" (3) وقال - صلى الله عليه وسلم -: "أكبر الكبائر الشرك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس " (4) وقال - صلى الله عليه وسلم -: " لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً" (ْ) والأحاديث في هذا كثيرة.
أما العقل: فمخالفة هذه الجريمة له أمر معلوم، فما الذي أباح لهذا المعتدي الآثم، أن يعتدي على قوم آمنين، بهذا العدوان الشامل، الذي راح بسببه أنفس، ما بين قتيل، وجريح، وتهدم فيه بناء،
__________
(1) سورة الفرقان الآية: 68- 69.
(2) سورة الإسراء الآية: 33.
(3) رواه البخاري/كتاب العلم/باب يبلغ الشاهد الغائب برقم (105) .
(4) رواه البخاري/كتاب الشهادات برقم (2510) .
(5) رواه البخاري/كتاب الديات برقم (6469) .(25/431)
وضاعت فيه أموال، بأي كتاب، أم بأية سنة، أم بأي عقل، يحل له ذلك؟.
وأما مخالفة ذلك للعرف: فإن جميع المواطنين، ينكرون ذلك غاية الإنكار، ولا يقرونه، ولاسيما بهذا البلد الآمن، الذي هو محط أنظار الناس في التزامه، ومحافظته، والله يعلم أننا لا نعلم في العالم بلادًا
أقوى تمسكا منه في العقيدة السليمة، وإقامة شعائر الدين، وشرائعه، ولكن الأمر حصل بمقتضى حكمة الله، وسنته في خلقه ابتلاءاً وامتحاناً قال تبارك وتعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا) (1) وأننا واثقون بالله وعونه وتوفيقه، أن يرد كيد المجرمين في نحورهم، وأن يفسد عليهم أمرهم، وأن يجعلهم نكالاً لما بين أيديهم وما خلفهم، قال سبحانه
وتعالى: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ ولله عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) (2) ، كما أننا واثقون بأن الله لن يصلح أعمالهم هذه؛ لأنها من الفساد في الأرض، والله لا يحب الفساد، ولا يصلح عمل المفسدين، وقد قال الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: (فَاصْبِرْ إِنَّ
__________
(1) سورة الفرقان الآية: 31.
(2) سورة الحج الآية: 40.(25/432)
وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (1) .
أسال الله تعالى أن يقطع دابر المفسدين، ويجعل كيدهم في نحورهم، وتدميرهم في تدبيرهم، إنه ولى ذلك والقادر عليه، وحسبنا الله ونعم الوكيل، هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
__________
(1) سورة هود الآية: 49.(25/433)
س 83: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: لا يخفى عليكم حادث التفجير الذي سبق وأنه وقع في العليا وحدث فيه أزهاق للأرواح من المعاهدين وغير ذلك، والذي حدث من أحداث
الأسنان وسفهاء الأحلام، وأنكم تعلمون عظم هذا الفعل، وما فيه من مخالفة لأمر الله وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم -. وعدم الأخذ بالأدلة الشرعية، وتسفيه الآراء العلماء والراسخين في العلم، ومن مشاقة ومحاربة لولي الأمر، والآن وقد حدث تفجير جديد في الخبر.
فهل من كلمة لتبيين دين الله تعالى في ذلك. والتحذير من هذا المنزلق الخطير الذي سلكه فئة من الشباب- وهم قلة ولله الحمد- وهو مستمد من فعل الخوارج، وهم قد لا يعلمون أن فعلهم فعل
الخوارج، فهل من تبيين لدين الله سبحانه تعالى؟
فأجاب- رحمه الله- بقوله: لاشك أن هذا العمل عملٌ لا يرضاه أحد، كل عاقل- فضلاً عن المؤمن- لا يرضاه، لأنه خلاف الكتاب والسنة، ولأن فيه إساءة إلى الإسلام في الداخل والخارج؛ لأن كل الذين يسمعون بهذا الخبر لا يضيفونه إلا إلى المتمسكين بالإسلام، ثم يقولون: هؤلاء هم المسلمون؛ هذه أخلاق الإسلام. والإسلام منها بريء، فهؤلاء في الحقيقة أساؤا قبل كل شيء إلى الإسلام ونحن(25/434)
نسأل الله تعالى أن يجازيهم بعدله، بالنسبة لهذه الإساءة العظيمة.
ثانياً: أنهم أساؤا إلى إخوة لهم من المستقيمين؛ لأنه إذا تصور الناس حتى المسلمون، إذا تصوروا أن هذا يقع ممَّنْ يدعي أنه مسلم، وأنه يغار للإسلام؛ فسوف يكره من هذه أخلاقه، وسوف يظن أن
هذه أخلاق كل مستقيم.
ومن المعلوم أن هذا لا يمثل أحداً من المستقيمين إطلاقاً، لأن المستقيم حقيقة هو الذي استقام بكتاب الله، وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، ولا يخفى علينا جميعاً أن الله سبحانه وتعالى أمر
بوفاء العهود وأمر بوفاء العقود، قال تعالى: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً) (1) ولا يخفى علينا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وأوفوا بالعهد" (2) ولا يخفى علينا أيضاً أنه قال- عليه الصلاة والسلام-: "ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلمًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين " (3) .
ثالثاً: لو قدرنا على أسوأ تقدير أن الدولة التي ينتمي إليها هؤلاء الذين قتلوا دولة معادية للإسلام، فما ذنب هؤلاء؟ هؤلاء الذين
__________
(1) سورة الإسراء الآية: 34.
(2) رواه البخاري/كتاب الديات برقم (6516) .
(3) رواه البخاري/الحج برقم (1771) .(25/435)
جاؤا بأمر حكومتهم وقد يكون بعضهم جاء عن كره، ولا يريد الاعتداء.
ثم ما ذنب المسلمين الساكنين هناك؟
فقد أصيب من المسلمين من هذه البلاد عدة من أطفال وعجائز وشيوخ في مأمنهم، في ليلهم، عند الرقاد على فرشهم. ولهذا تعتبر هذه جريمة من أبشع الجرائم.
لكن بحول الله أنه لا يفلح الظالمون، سوف يُعثر عليهم ويأخذون جزاءهم.
لكن الواجب على طلاب العلم أن يبينوا أن هذا المنهج منهج خبيث، منهج الخوارج الذين استباحوا دماء المسلمين وكفوا عن دماء الكافرين.
وأن هؤلاء إما: جاهلون.
وإما سفهاء.
وإما حاقدون.
فهم جاهلون: لأنهم لا يعرفون الشرع، فالشرع يأمر بالوفاء بالعهد، وأوفى دين للعهد هو دين الإسلام والحمد لله.
وهم سفهاء أيضاً: لأنه سيترتب على هذه الحادثة من المفاسد ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، يعني ليست هذه وسيلة إصلاح حتى(25/436)
يقولوا: إنما نحن مصلحون، بل هم المفسدون في الواقع.
أو حاقدون على هذه البلاد وأهلها: لأننا لا نعلم- والحمد لله- بلاداً تنفذ من الإسلام مثل ما تنفذه هذه البلاد أبداً. الآن في بعض البلاد الإسلامية أليس فيها القبور تعبد من دون الله؟!
أليس فيها بيوت الدعارة؟! أليس فيها الخمر علناً في الأسواق؟!
أليس حكامها يصرحون أنهم يحكمون بالقوانين لا بالكتاب والسنة؟
فماذا يريد هؤلاء؟!.
ماذا يريدون من فعلهم هذا؟!
أيريدون الإصلاح؟ والله ما هم بمصلحين، إنهم مفسدون.
ولكن علينا أن نعرف كيف يذهب الطيش، والغيرة التي هي غُبرة، وليست غيرة إلى هذا الحد.
ولاشك أن هذا إساءة أيضاً- في المرتبة الرابعة أو الخامسة إلى هذه البلاد وأهلها وترويع الآمنين.
كل إنسان يتعجب كيف يقع هذا في هذا البلد الآمين.
ولكن نسأل الله سبحانه وتعالى أن يخزي هؤلاء وأن يطلع ولاة الأمور عليهم وعلى من خطط لهذه الجرائم حتى يحكموا فيهم بحكم الله عز وجل.(25/437)
س 84: سئل فضيلة الشيخ رحمه الله: يذكر أن بعض القادة في المعارك الإسلامية كانوا أشاعرة، فهل يثنى عليهم؟
فأجاب بقوله: من أصول أهل السنة والجماعة أن الإنسان قد يجتمع فيه سُنَّة وبدعة إذا لم تكن البِدعة مكفرة، ومن المعلوم أن بدعة الأشعرية ليست من البِدع المُخْرِجة عن الإسلام، ولا مَانِع من الثَّناء على من قام بما ينفع المسلمين من هذه الطائفة بما يستحق من الثناء؛ فهو محمودٌ على ما قام به من ذلك، وأمَّا ما حصل منه من بدعة، نعلم أو يغلب على ظننا أنه فيها مجتهد، فهو دائر بين الأجر والآجرين؛ لأن كل مجتهد من هذه الأمة في حكم يسوغ فيه الاجتهاد فلن يعدم الأجر أو الأجرين؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا حكم الحاكِمُ فاجتَهد ثم أصابَ فلَه أجرانِ، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فلهُ أجرٌ " (1) .
والحكمُ في الناس وبين الناس، إنما يكون إلى الله تعالى، كما قال تعالى: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ) (2) وقال: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِك
__________
(1) رواه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب اجر الحاكم إذا اجتهد، برقم (7352) ، ومسلم، كتاب الأقضية، باب بيان الحاكم إذا اجتهد، برقم (1716) .
(2) سورة الشورى، الآية: 10.(25/438)
خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (1) . وقد علمت قول النبي ع - صلى الله عليه وسلم - في المجتهد.
كتبه محمد الصالح العثيمين في 1/1/1417 هـ.
س 85: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: عن معنى الحديث عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا هجرةَ بعدَ الفتحِ، ولكنْ جهاد، ونيَّة وإذا استُنفِرتُم فانفِروا" (2) فأجاب بقوله: هذا الحديث قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن فتح مكة.
وكانت مكة قبل الفتح بلدُ شركٍ يهاجر منها المسلمون إلى المدينة إلى الله ورسوله، فلمَّا فُتحت، لم تكن الهجرة منها مشروعة؛ لأنها صارت بلاد إسلام فسقطت الهجرة من مكة إلى غيرها، وأما الهجرة من بلاد الشرك فإنها باقية إلى يوم القيامة، فالنفي هنا عائد على الهجرة من مكة فقط.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ولكن جهادٌ ونيَّة "، معناه: أن الذي بقي بعد فتح مكة على أهل مكة الجهاد إن أمكنهم ذلك، أو نية الجهاد إن لم يمكنهم الجهاد، فقال: "ولكن جهاد ونيَّة "أي: جهادٌ في سبيل الله
__________
(1) سورة النساء، الآية: 59.
(2) رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب الجهاد والسير، برقم (2783) ، ومسلم، كتاب الحج، باب تحريم مكة، برقم (1353) .(25/439)
ونية خالصة، بحيث يقصد الإنسان بجهاده أن تكون كلمة الله هي العليا.
أمَّا قوله: "وإذا استنفرتَم فانفِروا". فالمعنى: أنه إذا استنفركم ولي الأمر للجهاد في سبيل الله، وَجَبَ عليكم أن تَنفِروا لقوله الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (1) .
س 86: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل الذي يخرج من البيت وهو ليس بمريض وبعد لحظات يَحصُل له حادث ويُتَوفَّى في حادث سيارة؛ هل يُعتبر ذلك شهيدًا؟ وهل هذا يعتبر مثل مرض الطاعون؛ لأن صاحب مرض الطاعون شهيد؟ أرجو الإفادة.
فأجاب بقوله: الميِّتُ بحادثٍ يكون من الشهداء- إن شاء الله-؛ لأنه كالميت بهَدم أو غَرق أو نحو ذلك، ولكن لِيُعلم أننا لا نحكم
__________
(1) سورة التوبة، الآيتان: 38-39.(25/440)
على الشخص بعينه أنه شهيد حتى وإن عمل عمل الشهداء؛ لأن الشهادة للشخص بعينه لا تجوز، كما لا تجوز الشهادة للشخص بعينه بالجنة إن كان مؤمناً، أو بالنار إن كان كافرًا، ولكن نقول: إنّ مَنْ مات بحادث أو مات بهدم أو بغرق أو بحرق أو بطاعون، فإنه من الشهداء ولكن لا نَخصُّه بعينه، ومن عقيدة أهل السنة والجماعة أنْ لا نشهد لأحد بعينه بجنة ولا نار إلا من شهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن نرجو لهذا الرجل أن يكون من الشهداء.
فإن قال قائل: أليس السبب الذي يَستحقُّ أن يوصف به أنه شهيد قد وجد؟
قلنا: بلى، لكنه وجد ظاهرًا ولا ندرى فلعل هذا الرجل الذي مات يكون في قلبه من الموانع التي تمنع أن يلحق بالشهداء مالا نَعلمه نحن.
س 87: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل من مات خارج بلاده يكون شهيدًا؟ وهل يُحاسب؟ وكيف يحاسب في القبر فقد سمعت بأن الشهيد لا يحاسب؟
فأجاب بقوله: الميت خارج بلده ليسَ بشهيد؛ لأن القول بأن موت الغريب شهادة ليس له مستند من الشرع. والشهيد هو الذي(25/441)
يقتل في سبيل الله وهو الذي يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، وهذه نية- أعنى كونه يريد بقتاله أن تكون كلمةُ الله هي العليا- نيَّةٌ محلُّها القلب، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نَفسي بيدهِ، لا يُكْلَمُ أحدٌ في سبيل الله- والله أعلم بمن يُكْلَمُ في سبيله- إلا جاء يوم القيامة واللون لون الدَّمِ والريح ريحُ المسك " (1) فأشار النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "والله أعلم بمن
يكلم في سبيله ". إلى أن الشهادة لا تُنال إلا بِنَّية صادقة، والنيةُ الصادقة هي ما بينه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين سُئل عن الرجل يقاتل حَمِيِّةً، ويقاتل شجاعة، ويقاتل ليُرَى مكانه أيّ ذلك في سبيل الله؟ فقال: "من قاتل لتكون كلمةُ الله هي العُلْيا فهو في سبيل الله " (2) .
وعليه فإنه لا يجوز الجزمْ بأن من قُتِل في الجهاد يكون شهيدًا بعينه؛ لأن هذا أمر يحتاج إلى توقيف، وأما على سبيل العموم بحيث يقال: من قُتِل في سبيل الله فهو شهيد. فهذا جائز.
وقد روي عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- بسند حسن أنه
__________
(1) رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب فضل من يجرح في سبيل الله، برقم (2803) ، ومسلم، كتاب الإمارة، باب فضل الجهاد والخروج في سبيل الله، برقم (1876) .
(2) رواه البخاري، كتاب العلم، باب من سأل وهو قائم عالمًا جالسًا، برقم (123) ، وفي كتاب الجهاد والسير، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، برقم (2810) ، ومسلم، كتاب الإمارة، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، برقم (1904) .(25/442)
قال: "إنكم تقولون: فلان شهيد وفلان شهيد، ولعله يكون قد أوقر راحلته، ولكن قولوا: من مات أو قتل في سبيل الله فهو شهيد" (1) أي على سبيل العموم هذا بالنسبة للحكم عليه بالشهادة في الآخرة أما الحكم عليه بالشهادة في الدنيا فإن هذا هو الأصل أي أن نعامل هذا الذي يقاتل في قتال يظهر منه أنه لإعلاء كلمة الله هو أن نعامله معاملة الشهداء في أنه لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه وإنما يدفن في ثيابه على ما هو عليه مع المسلمين.
أما بالنسبة للسؤال في القبر: فإنه قد ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أن الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله لا يفتنون في قبورهم، وقال كفى ببارقة السيف على رأسه فتنه " (2) .
س 88: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل يدخل في الشهداء الغريق، والحريق، والمرأة التي ماتت في حالة الوضع؟ وما الدليل؟
فأجاب بقوله: نعم هؤلاء يدخلون في الشهداء؛ لأن السنة وردت بذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن شهادتهم لا تساوى شهادة المقتول
__________
(1) رواه سعيد بن منصور في سننه، كتاب النكاح، باب ما جاء في الصداق، برقم (595) .
(2) رواه النسائي، كتاب الجناثز، باب الشهيد، برقم (2053) .(25/443)
في سبيل الله فإن المقتول في سبيل الله لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه، وإنما يدفن في ثيابه التي قتل فيها بدون صلاة، ويبعث يوم القيامة وجرحه يثعب دماً، اللون لون الدم، والريح ريح المسك،
وهذا لا يحصل للشهداء الذين جاءت بهم السنة ولكنهم يحصلون على أجر عظيم، إلا أنهم لا يساوون الشهيد المقتول في سبيل الله من كل حال ومن كل وجه.
وإنني في هذه المناسبة أود أن أنبه على مسألة شاعت أخيرًا بين الناس، وهي أن كل إنسان يقتل في الجهاد يصفونه بأنه شهيد، حتى وإن كان قد قتل عصبية وحمية وهذا غلط، فإنه لا يجوز أن تشهد
لشخص بعينه أنه شهيد حتى وإن قتل في الجهاد في سبيل الله؛ لأن هذا أمر لا يدرك فقد يكون الإنسان مريدًا للدنيا وهو مع المجاهدين في سبيل الله ويدل لذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - "ما من مكلوم يكلم في سبيل الله والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب
دما اللون لون الدم والريح ريح المسك " (1) فقول - صلى الله عليه وسلم - "والله أعلم بمن
يكلم في سبيله" يدل على أننا نحن لا نعلم ذلك وقد بوب البخاري رحمه الله فقال (باب لا يقال فلان شهيد) .
__________
(1) رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب من يجرح في سبيل الله عز وجل، برقم (2803) ،
ومسلم في، كتاب الإمارة، باب فضل الجهاد والخروج في سبيل الله، برقم (1876) .(25/444)
وذكر صاحب الفتح عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- أنه قال:" إنكم تقولون فلان شهيد وفلان شهيد، ولعله قد أوقر راحلته- يعنى: قد غل في سبيل الله من المغانم، فلا تقولوا ذلك
ولكن قولوا من قتل في سبيل الله أو مات فهو شهيد" (1) .
وصدق- رضي الله عنه- فإن الشهادة للمقتول بأنه شهيد تكون على سبيل العموم، فيقال: "من قتل في سبيل الله فهو شهيد". وما أشبه ذلك من الكلمات العامة، أما الشهادة لشخص بعينه أنه شهيد فهذا لا يجوز إلا لمن شهد له النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - حين صعد على الجبل هو وأبو بكر وعمر وعثمان فارتج بهم فقال " اثبت أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان " (2) . وإذا كان من عقيدة أهل السنة والجماعة أنه لا يشهد لأحد معين بالجنة إلا لمن شهد له النبي - صلى الله عليه وسلم - فكذلك لا يشهد لأحد بعينه أنه شهيد؛ لأن من لازم الشهادة له بأنه شهيد أن يكون من أهل الجنة.
س 89: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله- قال - صلى الله عليه وسلم -: "يغفر الله
__________
(1) رواه النسائي، كتاب النكاح، باب القسط في الأصدقة، برقم (3349) ، وأحمد في مسنده (41) .
(2) رواه البخاري، كتاب المناقب، باب قول النبي لو كنت متخذاً خليلاً، برقم (3675) .(25/445)
للشهيد كل ذنب إلا الدين" (1) . ما المعنى لهذا الحديث؟
فأجاب بقوله: معنى هذا الحديث أن الله- عز وجل- يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين؛ لأن الدين حق للآدمي فلابد من وفائه، ولكن الدين إذا كان الإنسان أخذه يريد أداءه فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها
يريد إتلافها أتلفه الله " (2) . فإن كان هذا الشهيد الذي عليه الدين قد أخذ أموال الناس يريد أداءها فإن الله تعالى يؤدي عنه، إما بأن ييسر أحدًا في الدنيا يقضي عنه هذا الدين، وإما بأن يوفيه الله تعالى يوم القيامة فيزيد الدائن درجات أو يكفر عنه سيئات.
س 90: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: إذا كان المسلم لا يؤدى فريضة الصلاة ولا الصوم وقتل في الجهاد. هل يموت شهيداً؟
فأجاب بقوله: إذا كان هذا الذي قتل في الجهاد لا يصلي ولا يصوم فإنه يموت كافرًا ومأواه جهنم وبئس المصير؛ لأن الذي لا يصلي كافر مرتد على القول الراجح، والكافر لا ينفعه جهاد ولا
__________
(1) رواه مسلم، كتاب الإمارة، باب من قتل في سبيل الله كفرت خطاياه، برقم (1886) .
(2) رواه البخاري، كتاب الاستقراض، باب من أخذ أموال الناس يريد أداءها، برقم (2387) .(25/446)
صدقه ولا صيام ولا غير ذلك من الأعمال الصالحة؛ لأن الأعمال الصالحة لا تقبل إلا بشرط الإسلام قال الله تبارك تعالى: (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ) (1) . وقال- عز وجل-: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً) (2) وقال تعالى: (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (3) .
س 91: سئل الشيخ- رحمه الله-: من مات من رجال الدفاع المدني، حيث احترق بالنار وهو يحاول إطفاءها هل يعتبر من الشهداء؟
فأجاب بقوله: أولاً: نقول: كل من مات بحريق وهو مسلم فإنه من الشهداء؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الحريق شهيد" (4) . ولكن لا نقول
__________
(1) سورة التوبة، الآية: 54.
(2) سورة الفرقان، الآية: 23.
(3) سورة البقرة، الآية: 217.
(4) رواه أبو داود، كتاب الجنائز، باب فضل من مات بالطاعون، برقم (3111) ، والنسائي، كتاب الجنائز، باب النهي عن البكاء على الميت، برقم (1846) ، وابن ماجه، كتاب الجهاد، باب ما يرجى فيه الشهادة، برقم (2803) ، وأحمد في مسنده 163، 39 (23753) .(25/447)
فلان شهيد؛ لأنه مات بالحرق، لكن على سبيل العموم نقول: كل من مات بالحريق فإنه شهيد.
وإذا كان من رجال الإطفاء كان أعظم ثواباً أيضًا، لأن هذا الرجل الذي مات بالإطفاء جمع بين أمرين بين الحريق، وبين الدفاع عن إخوانه، فهو في الحقيقة اكتسب أجرين: أجر الدفاع عن إخوانه
المسلمين، وأجر شهادة الحريق.
لكن لاحِظ أننا لا نشهد لشخص بعينه، يعني مثلا: إنسان احترق أمامنا أحرقته النار أمامنا، نقول: الحريق شهيد، لكن لا نقول: هذا الرجل شهيد.
وقد ترجم البخاري- رحمه الله- في صحيحه لهذه المسألة وقال: (باب لا يقال فلان شهيد) ، ثم استدل لذلك بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما من مكلوم يكلم في سبيل الله، والله أعلم بمن يكلم في سبيله" (1) . فقال: (والله أعلم) إذا كان الله أعلم بمن يكلم في سبيله إذن لا نشهد على شيء لا نعلمه، لكن نقول على العموم: من قتل في سبيل الله فهو شهيد، فيفرق بين العموم وبين الخصوص.
__________
(1) رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب من يجرح في سبيل الله عز وجل، برقم (2803) ، ومسلم في، كتاب الإمارة، باب فضل الجهاد والخروج في سبيل الله، برقم (1876) .(25/448)
س 92: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما هي المواقف التي إذا مات فيها الشخص يكون شهيداً؟
فأجاب بقوله: الرسول - صلى الله عليه وسلم - ذكر أن المطعون والمبطون والحريق والغريق (1) وما أشبههم، هؤلاء كلهم من الشهداء، وكذلك المقتول ظلما فهو شهيد (2) ، لكن هؤلاء ليسوا كشهيد المعركة أي: ليسوا كالشهيد الذي قتل في سبيل الله؛ لأن الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله وصف الله تعالى ثوابهم بقوله: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) (3) ؛ ولهذا لا يصلى عليهم ولا يكفنون، بل يدفنون في ثيابهم التي استشهدوا فيها بدون
صلاة، لأن بارقة السيوف على رأسه، وعرض رقبته لعدوه وعدو الله كافية في الامتحان والشفاعة، لكن هؤلاء الشهداء المطعون والحريق والغريق والمبطون نطلق عليهم أنهم شهداء كما أطلق عليهم النبي
__________
(1) صحيح مسلم/كتاب الإمارة/باب بيان الشهداء.
(2) في صحيح البخاري/كتاب المظالم/باب من قاتل دون ماله: "من قتل دون ماله فهو شهيد".
(3) سورة آل عمران، الآيتان: 169-170.(25/449)
- صلى الله عليه وسلم - "من قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد" (1) ،
ولكن لا نلحقهم بالشهداء الذين قتلوا في سبيل الله؛ لأن هؤلاء أتوا إلى المعركة باختيارهم مع علمهم بشراسة العدو، وأما أولئك فإنهم قتلوا بغير اختيارٍ منهم، ولذلك تجدهم يدافعون عن أنفسهم.
س 93: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما هو جزاء الشهيد ومكانته عند الله؟ وهل يغفر الله- عز وجل- الكبائر التي اقترفها ذلك الشهيد قبل أن يتوب منها؟ وهل يعتبر الشهيد من الستة الذين يظلهم الله في ظله؟
فأجاب بقوله: جزاء الشهيد ومكانته عند الله ما ذكره الله تعالى في قوله: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (2) . وأرواح الشهداء في أجواف طير خضر معلقة تحت العرش (3) وهم- أعني الشهداء- يغفر لهم كل ذنب اقترفوه إلا
__________
(1) رواه الترمذي، كتاب الديات، باب ما جاء في من قتل دون ماله فهو شهيد، برقم (1421) ، والنسائي، كتاب تحريم الدم، باب من قاتل دون أهله، برقم (4094) ، وأبو داود، كتاب السنة، باب في قتال اللصوص، برقم (4772) .
(2) سورة آل عمران، الآية: 169.
(3) رواه مسلم/كتاب الإمارة/باب بيان أن أرواح الشهداء في الجنة برقم (3500) .(25/450)
الدين فإن الدين لصاحبه أن يطالب به يوم القيامة.
وأمما قول السائل: "هل هو من الستة الذين يظلهم الله في ظله "؟
فنقول: غلط في قوله "الستة"، لأنه ورد في الحديث "سبعة يظلهم الله".
س 94: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: لقد قرأت حديثا للصحابي الجليل أبى هريرة- رضي الله عنه- عن الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما تعدون الشهيد منكم" قالوا: يا رسول الله من قتل في سبيل الله فهو شهيد؟ قال: "إذاً شهداء أمتي لقليل". قالوا: فمن هم يا رسول الله؟ قال: "من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في
طاعون فهو شهيد، ومن مات بالطعن فهو شهيد، والغريق شهيد" (1) 0 السؤال: هل من مات غريقا وهو سكران تكتب له الشهادة علمًا بأن الغريق يعد شهيدًا حسب نص الحديث نرجو
من فضيلتكم الإفادة؟
فأجاب بقوله: قبل الإجابة عن هذا السؤال أود أن أنبه إلى أنه في عصرنا هذا أصبح الشهيد رخيصًا عند كثير من الناس، حتى كان
__________
(1) رواه مسلم، كتاب الإمارة، باب بيان الشهداء، برقم (1915) .(25/451)
يصفون به من ليس أهلاً بالشهادة وهذا أمر محرم فلا يجوز لأحد أن يشهد لشخص بشهادة إلا لمن شهد له النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشهادة. والشهادة تنقسم إلى قسمين:
أحدهما: أن يشهد لشخص معين بأنه شهيد كما في الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صعد أحدًا ومعه أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم فارتج الجبل بهم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اثبت أحُد، فإنما عليك نبيٌّ وصديق وشهيدان" (1) فمن شهد له النبي - صلى الله عليه وسلم - بعينه شهدنا له بأنه شهيد تصديقا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - واتباعاً له في ذلك.
والقسم الثاني: فيمن شهد له النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشهادة على وجه العموم كما في الحديث الذي أشار إليه السائل، فإن من قتل في سبيل الله فهو شهيد ومن مات في سبيل الله فهو شهيد والغريق شهيد إلى غير ذلك من الشهداء الذين ورد الحديث بالشهادة العامة من غير تخصيص
رجل بعينه.
وهذا القسم لا يجوز أن نطبقه على شخص بعينه، وإنما نقول: من اتصف بكذا وكذا فهو شهيد ولا نخص بذلك رجلاً بعينه، وقد ترجم البخاري- رحمه الله- لهذه المسألة فقال: (باب: لا يقال فلان
شهيد) .
__________
(1) رواه البخاري، كتاب المناقب، باب قول النبي: لو كنت متخذاً خليلاً، برقم (3675) .(25/452)
واستدل له بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "والله أعلم بمن يجاهد في سبيل الله " (1) . وقوله "بمن يكلم في سبيل الله" أي: بمن يجرح، وساق تحت هذا العنوان الحديث الصحيح المشهور في قصة الرجل الذي كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة وكان شجاعا مقداما لا يدع للعدو شاذة ولا فاذة إلا اتبعها بسيفه، فأمتدحه الصحابة أمام النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم ساق البخاري رحمة الله الحديث بطوله وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الرجل
ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يظن الناس وهو من أهل النار" (2) . وهذا الاستدلال الذي استدل به البخاري رحمه الله على الترجمة استدلال واضح؟ لأن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الله أعلم بمن جاهد في سبيله أو بمن يقتل في سبيله ". يدل على أن الظاهر قد يكون الباطن مخالفا له، والأحكام الأخروية تجرى على الباطن لا على الظاهر. وقصة الرجل الذي ساقها البخاري- رحمه الله- تحت هذا العنوان ظاهرة جداً فإن الصحابة- رضي الله عنهم- اثنوا على هذا الرجل بمقتضى ظاهر حاله، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لهم: "إنه من أهل النار" (3) . فاتبعه رجل
__________
(1) انظر صحيح البخاري، كتاب الجهاد، باب أفضل الناس مؤمن مجاهد بنفسه وماله في سبيل الله، برقم (2787) .
(2) رواه البخاري، كتاب الجهاد، باب لا يقال فلان شهيد، برقم (2898) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه، برقم (112) .
(3) رواه البخاري، كتاب الجهاد، باب لا يقول فلان شهيد، برقم (2898) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه، برقم (112) .(25/453)
من الصحابة- رضي الله عنهم- ولزمه فكان آخر عمل هذا الرجل أن قتل نفسه بسيفه.
فنحن لا نحكم بالأحكام الأخروية على الناس بظاهر حالهم، وإنما نأتي بالنصوص على عمومها، والله أعلم هل تنطبق على هذا الرجل الذي ظاهره لنا أنه متصف بهذا الوصف الذي علق عليه الحكم؟ وقد ذكر ابن حجر- رحمه الله- صاحب فتح الباري شرح صحيح البخاري ذكر أن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- خطب فقال: "إنكم تقولون في مغازيكم فلان شهيد ومات فلانا شهيداً
ولعله قد يكون قد أوقر راحلته، ألا لا تقولوا ذلك، ولكن قولوا: كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من مات في سبيل الله أو قتل فهو شهيد" (1) .
قال في الفتح: وهو حديث حسن. وعلى هذا فنحن نشهد بالشهادة على صفة ما جاء بها النص، إن كانت لشخص معين شهدنا بها لشخص معين الذي عينه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإن كانت على سبيل العموم شهدنا بها على سبيل العموم ولا نطبقها على شخص بعينه؛ لأن الأحكام الأخروية تتعلق بالباطن لا بالظاهر. ونسأل الله أن يثبتنا جميعا بالقول الثابت، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا.
__________
(1) رواه سعيد ابن منصور في سننه، كتاب النكاح، باب ما جاء في الصداق، برقم (595) .(25/454)
وبناء على هذا فإن قول السائل: لو غرق الإنسان وهو سكران فهل يكون من الشهداء؟
فإننا نقول: لا نشهد لهذا الغريق بعينه أنه شهيد سواء أنه كان قد شرب الخمر وسكر منه ثم غرق حال سكره، أم لم يشربها.
ثم إنه بمناسبة ذكر السكر يجب أن نعلم أن شرب الخمر من كبائر الذنوب وأن الواجب على كل مسلم عاقل أن يدعها وأن يجتنبها كما أمره بذلك ربه- عز وجل- فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (1) .
ومن شربها حتى سكر فإنه يعاقب بالجلد، فإن عاد يجلد مرة أخرى فإن عاد جلد مرة ثالثة فإن عاد في الرابعة، فإن من أهل العلم من قال: يقتل لحديث ورد بذلك (2) .
ومنهم من قال: إنه لا يقتل وإن الحديث منسوخ.
ومنهم من فصل: كشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقال: إنه يقتل إذا جلد ثلاثا ولم ينته بحيث انتشر شرب الخمر في الناس ولم
__________
(1) سورة المائدة، الآية: 90.
(2) في سنن الترمذي/كتاب الحدود برقم (1364) من حديث جابر "من شرب الخمر فاجلدوه، فمان عاد في الرابعة فاقتلوه".(25/455)
ينتهوا عنه بتكرر العقوبة عليهم، فإذا لم ينتهوا إلا بالقتل فإنه يقتل.
وعلى كل حال فإن الواجب على المؤمن اجتناب ذلك وأن نسعى جميعَا إلى الحيلولة دون انتشاره بكل وسيلة، والله الموفق.
س 95: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما جزاء من استشهد في سبيل الله، كمن قتل دفاعاً عن عرضه؟
فأجاب بقوله: الدفاع عن العرض لا شك أنه شهادة لكنه ليس كالشهادة في سبيل الله. بمعنى: لو أن الإنسان أراد أهلك مثلا يفعل بهم الفاحشة فلك أن تدافع حتى تموت، فإذا قتلت فأنت شهيد،
لكن الشهادة في سبيل الله هي أن يقتل الإنسان وهو مقاتل لتكون كلمة الله هي العليا. هذا هو الميزان (1) .
س 96: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما جزاء الشهيد في الآخرة؟
فأجاب- رحمه الله- بقوله: جزاؤه في الآخرة قال الله- عز وجل-: (وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ) (2) وقال- عز وجل-: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا
__________
(1) علق فضيلة الشيخ- رحمه الله- بعد ذلك على قول (فلان شهيد) وقد تقدَّم والله الموفق.
(2) سورة الحديد، الآية: 19.(25/456)
آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) (1) وقال- عز وجل-: (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ) (2) .
س 97: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل يصح أن يذهب الإنسان للجهاد وهو لم يحج بعد؟
فأجاب بقوله: لا يجوز أن يذهب إلى الجهاد وهو لم يحج إذا كان الذهاب إلى الجهاد يؤدي إلى ترك الحج، أما إذا كان لا يؤدي إلى ترك الحج، مثل: أن يذهب إلى الجهاد في وقت غير وقت الحج ويكون عنده مال يستطيع أن يحج به إذا رجع من الجهاد فإن هذا لا بأس به، لكن لو تزاحم الخروج إلى الجهاد والحج فالحج مقدم، لأن الحج ركن من أركان الإسلام، وواجب باتفاق المسلمين.
س 98: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هذه الأحداث وغزو العراق للكويت لها أسباب لعل من أهمها كثرة المعاصي بجميع أنواعها، ولكن ألم يفتن المسلمون في عهد عثمان بن عفان رضي الله
عنه فما الجواب عن ذلك؟
__________
(1) سورة آل عمران، الآيتان: 169-170.
(2) سورة البقرة، الآية: 154.(25/457)
فأجاب بقوله: لا شك أن المسلمين فتنوا في عهد عثمان رضي الله عنه؛ لأنه دخل في الإسلام من لم يرسخ الإيمان في قلوبهم فحصل منهم من المعاصي والشر، من جهة الأموال والقتل ما كان سببًا لهذه الفتنة.
س 99: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: يرفع بعض الجنود إصبعيه السبابة والوسطى على هيئة رقم سبعة رمزًا للانتصار. ما حكم ذلك؟ أليس من الأولى أن نرفع السبابة إشارة للواحد
القهار مع التكبير؟
فأجاب بقوله: هذا لا شك أنه الأولى. إننا نحمد الله سواء كان بالإصبع أو اليد كلها، نقول الحمد لله على الانتصار الحمد لله، لكن إذا كانت هذه معروفة بين الناس وبين الدول فلا أرى مانعًا من
الإشارة بها.
س 100: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: مما لاشك فيه أنه منذ قتل عثمان- رضي الله عنه- الخليفة الثالث بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقعت حروب كثيرة في الدول الإسلامية، ثم اتسعت هذه الحروب وتعددت ألوانها وأشكالها بتعدد الممالك العربية والإسلامية، ولا شك أنه إذا قامت الحرب بين دولتين عربيتين(25/458)
ومسلمتين فإن الذين يقاتلون في هذه المعارك جنود مسلمون، فنريد أن نعرف إذا تقاتل المسلمان في هذه الحالة هل يقع الإثم عليهما أو على الدول أو على الخلفاء أو رؤساء هذه الدول الذين
يشعلون نار هذه الحرب؟
فأجاب بقوله: نقول في هذا ما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار". قالوا: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: "لأنه كان حريصًا على قتل صاحبه " (1) .
وقال - صلى الله عليه وسلم -: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" (2) .
فلا يجوز للمسلمين أن يقتل بعضهم بعضًا أو يقاتل بعضهم بعضًا، ولكن من قوتل فله أن يدافع عن نفسه بأخف الضررين فإن لم يكن الدفاع إلا بالمقاتلة فله أن يقاتل، حينئذٍ يكون المقتول من
البغاة في النار، وأما المقتول من المدافعين عن أنفسهم الذين لم يجدوا دفاعًا غير القتل؛ يكون في الجنة وإن قتل من البغاة فليس عليه شيء.
والواجب على المسلمين إذا اقتتلت طائفتان أن يسعوا في الصلح بينهما قال تعالى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا
__________
(1) رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) ، برقم (31) ، ومسلم، كتاب الفتن، باب إذا تواجه المسلمان بسيفيهما، برقم (2888) .
(2) رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب خوف المؤمن أن يحبط عمله وهو لا يشعر، برقم (48) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان قول النبي سباب المسلم فسوق، برقم (64) .(25/459)
فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (1) . فتبين الآن أن لنا نظرين:
النظر الأول: في حكم الاقتتال بين المسلمين وهو حرام لا يجوز، لكن من بُغِيَ عليه فله أن يدافع عن نفسه بأقل ما يمكن فإن لم يكن الدفاع إلا بقتال فله ذلك.
النظر الثاني: بالنسبة لبقية المؤمنين فإذا كانت الطائفتان المقتتلتين من المؤمنين، فإنه يجب على بقية المؤمنين أن يصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى، ولم توافق على الصلح فإنه يجب على المؤمنين أن يقاتلوها حتى تفيء إلى أمر الله، فذا فاءت وجب الصلح بينها فيما حصل من إتلافات وغيرها.
س 101: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما ذنب الجندي في الطائفة الباغية إذا كان امتناعه عن الحرب يعتبر خروجًا عن
سلطانه؟
__________
(1) سورة الحجرات، الآية: 9-10.(25/460)
فأجاب بقوله: ليس خروجًا عن السلطان؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الطاعة في المعروف" (1) . وهذا ليس من المعروف أن يقاتل الرجل أخاه المسلم أو يقتله، بل يجب عليه أن يرفض هذا الأمر، ولا يخرج، وفى هذا الحال قد. يكون رفضه من أكبر الأسباب الداعية إلى عدم
البغي؛ لأنه إذا رفض هذا وهذا لم يكن بيد الباغي قوة يبغي بها على غيره.
س 102: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: بعض الناس يقول ليت اليهود يقتلون جميع المسلمين ويظلوا وحدهم في فلسطين! فأجاب بقوله: أعوذ بالله، لو نعلم منْ تقدم بهذا القول لاتهمناه
اتهاماً يخل بدينه، كيف يقول: ليت اليهود يقتلون..... الخ هل هو جهودي حتى يطلب أن اليهود ينتصرون؟!
أنا أقول للأخ إذا كان قوله هذا صادر عن قلبه فليتهم نفسه، وليتب إلى الله- عز وجل-، ونحن نسأل الله تعالى أن ينصر إخواننا المسلمين من الفلسطينيين على اليهود، وأن ينصرنا جميعًا على اليهود
والنصارى، هذا الذي نتمناه، وبحول الله إن راية الإسلام ستنتصر
__________
(1) رواه البخاري، كتاب الأحكام، باب السمع والطاعة لمام مالم تكن معصية، برقم (7145) ، ومسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، برقم (1840) .(25/461)
على كل عدو لها من ملحد ونصراني ويهودي وبوذي ومشرك وكل أحد، هذا الذي نتمناه- إن شاء الله تعالى. والله عز وجل يقول: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (1) لأن سبب الخذلان للأمة الإسلامية أنها هي التي خذلت نفسها لم تأتِ بأسباب النصر إطلاقًا نسأل الله أن يهدينا جميعًا.
س 103: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما الأشهر الحرم؟ وهل يجوز القتال فيها؟
فأجاب بقوله: الأشهر الحرم أربعة كما قال الله تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) (2) وهى ثلاثة متوالية: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، وواحد منفرد وهو. رجب، وهذه الأشهر الحرم لها مزيد عناية في تجنب الظلم سواء كان ظلما فيما بين الإنسان وبين ربه، أو ظلما فيما بينه وبين الخلق، ولهذا قال الله تعالى: (يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) (3) .
__________
(1) سورة التوبة، الآية: 33.
(2) سورة التوبة، الآية: 36.
(3) سورة البقرة، الآية: 217.(25/462)
واختلف العلماء- رحمهم الله- في القتال في هذه الأربعة الحرم، هل هو باقٍ تحريمه أم منسوخ؟
فجمهور أهل العلم على أنه منسوخ؟ لأن الله تعالى أمر بقتال المشركين كافة على سبيل العموم.
وذهب آخرون من أهل العلم إلى أن: تحريم القتال في هذه الأشهر باقٍ، وأنه لا يجوز لنا أن نبتدئ الكفار بالقتال فيها، لكن يجوز لنا الاستمرار في القتال وإن دخلت الأشهر الحرم، وكذلك يجوز لنا قتالهم إذا بدأونا هم بالقتال في هذه الأشهر، والأمر في هذا إلى ولاة الأمر الذين يدبرون أمور الحرب والجهاد.
س 104: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما هو واجبنا تجاه إخواننا المسلمين في يوغسلافيا؟
فأجاب بقوله: موقفنا من إخواننا المسلمين في يوغسلافيا: أن نبذل ما نقدر من الدعاء لهم بالنصر، وأن يكبت الله أعداءهم، وأن يهدي الله ولاة أمور المسلمين حتى يقاطعوا كل من أعان من يقاتلهم
على قتالهم، المسلمون لو قاطعوا كل أمة من النصارى تساعد الذين يحاربون إخواننا لكان له أثر كبير، ولعرف النصارى وغير النصارى(25/463)
أن المسلمين قوة وأنهم يد واحدة، فموقفنا نحن كشعب من الشعوب أن ندعو الله لهم بالنصر، وأن يذل أعداءهم، نسأل الله أن ينصرهم ويذل أعداءهم، وأن نبذل من أموالنا ما ينفعهم لكن
بشرط: أن نتأكد من وصولها إليهم؛ لأن هذه المشكلة هي التي تقف عقبة أمام الناس من يوصل هذه الأموال إليهم؟ وهل يمكن أن تصل إليهم؟
فإذا وجدنا يدًا أمينة توصل المال إليهم فإن بذل المال لهم سواء من الزكاة أو من غير الزكاة مطلوب؛ لأن نصرة المؤمنين في أي مكان من الأرض يعتبر نصرة للإسلام.
س 105: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار " (1) فما رأيكم بالحروب التي وقعت بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والحروب التي وقعت في زماننا الحاضر؟
فأجاب بقوله: ليس لنا في ذلك رأى غير ما يفيده الحديث إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار.
__________
(1) رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) ، برقم (31) ، ومسلم، كتاب الفتن، باب إذا تواجه المسلمان بسيفيهما، برقم (2888) .(25/464)
أما بالنسبة للصحابة- رضي الله عنهم-، فإن الواجب الإمساك عما جرى بينهم، وأن نكل أمرهم إلى ربهم تبارك وتعالى، فقد قدموا على ما قدموا- رضي الله عنهم- وعفا عنهم، والخوض في مثل هذا لا يستفيد منه الإنسان، بل ربما يتضرر منه، فهي دماء سلمنا من الاشتراك فيها فلنسلم من الكلام فيها (1) .
س 106: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل يلزم الكافر إذا أسلم في دار الكفر الانتقال إلى بلد الإسلام؟
فأجاب بقوله: نعم يلزمه الانتقال إلى بلد الإسلام إذا كان يخشى أن يمنع من الإسلام وأن يضيق عليه فيه كما هو الغالب فيمن أسلموا في بلد أهله كفار؛ لأن هذا يضيق عليه حتى من أهله بل
حتى من أمه وأبيه ويخشى عليه أن يرتد مع الضغط عليه، فهذا يجب عليه أن يهاجر حفاظًا على دينه، أما إذا كان لا يخشى من ذلك وأنه يستطيع أن يقوم بدينه على وجه واضح بين فإنه لا يجب عليه الهجرة لكن قد يجب عليه السفر من بلاده إلى بلاد الإسلام لأجل تعلم شرائع الإسلام؛ لأنه قد يكون في بلده لا يستطيع التعلم فيجب عليه أن يذهب من بلده ليتعلم.
__________
(1) انظر شرح فضيلة الشيخ رحمه الله للعقيدة الواسطية (ص 617) .(25/465)
باب عقد الذمة(25/467)
س 107: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما حكم المعاهدة مع الكفار؟
فأجاب بقوله: هذه المسائل يجب أن يتكلم فيها الإنسان بعلم، والرسول - صلى الله عليه وسلم - عاهد قريشا عشر سنوات حتى نقضوا العهد، ثم غزاهم ففتح مكة (1) .
والصلح مع غير المسلمين ذكر أهل العلم أنه يجوز عند العجز عن قتالهم لكن منهم من قيد بعشر سنوات.
ومنهم من قال: إنه يجوز غير مقيد، ثم إذا حصل للمسلمين القوة فحينئذٍ يغزون الكفار إلى أن يسلموا أو يؤدوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون، ومثل هذه الأشياء يجب أن يتكلم فيها الإنسان بعلم
لا بعاطفة وإلا فنحن نكره الكفار كلهم، ونود أن كلمة الله هي العليا في كل مكان، ولكن لا تتكلم بالعاطفة المبنية على جهل، فهذا لا يجوز قال الله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (2) . وانظروا إلى كلام العلماء السابقين في كتاب الجهاد في باب: (الهدنة) كيف فصلوا وكيف بينوا رحمهم الله تعالى.
__________
(1) رواه البخاري/كتاب الجهاد برقم (2766) .
(2) سورة الأعراف، الآية: 33.(25/469)
وأما من قال: (إن الصلح مع الكفار كفر) فهذا غلط، لكن لو أنكر إنسان فرض الجهاد ثم بيّنا له الأدلة الدالة على أن الجهاد فرض، ثم أنكر، فهذا هو الذي يقال بكفره.
س 108: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل أوجب الشارع كفارة للمعاهدة بين الآدميين وبين الإنسان؟ وما صيغة المعاهدة التي يلتزم بها الإمام؟
فأجاب بقوله: أما المعاهدة بين الآدميين فليس لها كفارة إلا الوفاء بها، فإن خاف غدراً من قبيله فلينبذ العهد بينه وبينه أي يلغه ويفسخه. قال تعالى: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ) (1) .
وأما المعاهدة بينه وبين ربه فهي على نوعين:
النوع الأول: عهد واجب بأصل الشرع فلا كفارة له إلا الوفاء به وهو العهد الذي أخذه على عباده أن يقوموا بطاعته بتنفيذ أوامره واجتناب نواهيه.
والنوع الثاني: عهد يوجبه الإنسان على نفسه وهو النذر، فهذا إن كان نذر طاعة وجب الوفاء به، وإن كان نذر معصية حرم الوفاء به، وإن
__________
(1) سورة الأنفال، الآية: 58.(25/470)
كان نذر مباح أو نذر يقصد به الحث أو المنع أو التصديق أو التكذيب فإنه يخير بين فعل المنذور وبين كفارة يمين.
وأما صيغة المعاهدة فليس لها صيغة معينة بل كل ما دل على الالتزام فهو عهد.
س 109: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: قال تعالى: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) (1) . وقال تعالى: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (2) هناك شيء اشتهر واستفاض الآن وهو ما يسمى بالسلام والتطبيع والصلح والاعتراف باليهود فيريد الإنسان أن يعرف حكم ذلك؛ لأن الأحكام قد تتعارض ويريد الإنسان أن يكون على بينة وألا يعتقد بشيء يدين الله سبحانه وتعالى به، ولا يتكلم بشيء إلا وهو شيء صحيح سمعه من أولى العلم.
فأجاب بقوله: قول الله تعالى: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) (3) المراد بالكتاب هنا: اللوح المحفوظ؛ لأن الله تعالى قال: (وَمَا مِن دَابّةٍ
__________
(1) سورة الأنعام، الآية: 38.
(2) سورة النساء، الآية: 83.
(3) سورة الأنعام، الآية: 38.(25/471)
فِي الأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بجِنَاحَيْهِ إلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَئٍ ثُمَّ إِلَى رَبِهِمْ يُحْشَرُونَ) (1) . ولكن الاستدلال على المعنى الذي تريده هو قوله تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) (2) فالقرآن مبين لكل شيء.
وأما قوله تعالى: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (3) . فهذا في قوم يذيعون ما يسمعون من خير أو شر أو خوف أو أمن كما قال تعالى: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (4) . وهذا يدل على أن الإنسان لا ينبغي له أن يكون مذيعًا، كل ما سمع عن خبر خوف أو أمن أذاعه، بل قد يكون من الخير أن يكتم هذا الخبر الذي حصل، وهذا من هدي الرسول
- صلى الله عليه وسلم - أنه إذا أراد غزوة ورَّى بغيرها حتى لا يعلم ما يريد.
وأما يتعلق بالصلح مع إسرائيل وما أشبه ذلك فالأمر ليس إلي ولا إليك. هذا أمر يتعلق بالحكومات، ولعله يأتي اليوم الذي فيه النصر على اليهود والنصارى، ثم ابشروا أيها المؤمنون سوف يكون بيننا
__________
(1) سورة الأنعام، الآية: 38.
(2) سورة النحل، الآية: 89.
(3) سورة النساء، الآية: 83.
(4) سورة النساء، الآية: 83.(25/472)
وبين اليهود مقتلة عظيمة يكون فيها الذل والعار على اليهود كما أخبر بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سيكون بيننا وبينهم مقتلة عظيمة حتى أن اليهودي يلوذ بالشجرة فتقول: يا عبد الله هذا يهودي تحتي فاقتله، إلا شجرة الغرقد فإنه من أشجارهم (1) فلا يخبر عنهم.
ونحن- إن شاء الله- تعالى نرتقب النصر الذي يكون للمسلمين على أعدائهم من اليهود والنصارى، ولا تنس فعل النصارى في بلاد أخرى كالبوسنة والهرسك، وكذلك أيضًا في أماكن كثيرة من غير
النصارى أيضًا من الوثنيين والمشركين كمثل كشمير وغيرها، فالمهم أن المسلمين الآن تكالبت عليهم الأعداء ولعل هذا إن شاء الله تعالى مفتاح للنصر والفرج، فانتظر.
أما ما يتعلق بالحكومات فأمره إلى الله- عز وجل- ونسأل الله تعالى أن يهديهم إلى الخير وما فيه الصلاح.
س 110: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: عن الهدنة؟
فأجاب بقوله: الهدنة هي: وضع الحرب بين المسلمين وبين العدو.
وفيها مشابهة للمصالحة من وجه: تحديد مدة معينة لوضع
__________
(1) رواه مسلم/كتاب الفتن برقم (5203) .(25/473)
الحرب مع العدو.
ولا تجوز الهدنة إلا إذا دعت الحاجة إليها.
والدليل: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ... " (1) إلخ.
وجه الاستدلال: أن كون النبي - صلى الله عليه وسلم - أُمر بقتال الناس؛ يدل على أنه لا هدنة.
وتجوز الهدنة في حالتين:
الأولى: في حال ضعف المسلمين إما ضعفاً عاماً، أو ضعفاً خاصاً أمام العدو المعيّن.
ومثال الضعف العام: حال المسلمين في هذه الأزمنة، فلا يمكن أن يتفقوا وهم على هذا الضعف العام على حرب قرية ولو صغيرة؛ لأن المسلمين بأنفسهم متنازعون. ولكن نرجو الله- عز وجل- أن يكون المستقبل لأمة الإسلام وأن يكون خيراً من حاضرها، والله على كل شيء قدير.
الثانية: أن تكون الأمة الإسلامية مجتمعة متكاتفة، ولكن عدوها قوي فتحتاج إلى هدنة؛ ليحصل لها الإعداد للقوة حتى يأذن الله لها بما يشاء وهو على كل شيء قدير.
__________
(1) رواه البخاري/كتاب الإيمان/برقم (24) .(25/474)
س 111: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل للهدنة مع العدو مدة محدَّدة؟
فأجاب بقوله: هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء، فالمشهور من مذهب الإمام أحمد- رحمه الله- أنها تجوز في حدود عشر سنوات، والدليل: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صالح قريشاً عشر سنوات (1) .
وقال شيخ الإسلام- رحمه الله-: تجوز الهدنة المطلقة بدون تحديد مدة سنوات معينة، بشرط: أن تكون حال المسلمين الضعف، فذا حصلت القوة- بإذن الله عز وجل- للمسلمين فإنه يقاتل
المسلمون العدو، وحينئذٍ ينتقض العهد مع العدو؛ لأنه عهد مطلق وليس عهداً مؤبداً.
واختيار شيخ الإسلام- رحمه الله- هو الصحيح؛ لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً إذ أن سبب الهدنة هو: ضعف المسلمين، فمع وجود الضعف فالهدنة قائمة، ومتى زال هذا الضعف فالهدنة لاغية.
س 112: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما حكم الهدنة مع الكفار مطلقًا؟
فأجاب بقوله: يرى بعض العلماء: أنه لا يجوز عقد الهدنة مع
__________
(1) رواه البخاري/كتاب الجهاد برقم (2766) .(25/475)
الكفار إلا مؤقتًا كعشر سنين مثلا؛ لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يزيد على ذلك؛ لأن الأصل وجوب الجهاد، ولكن أجزنا الهدنة والمعاهدة لمدة عشر سنين لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حيث عاهد قريشاً عشر سنين (1) .
ويرى آخرون: أنه لا بأس من عقد العهد المطلق وإذا قوى المسلمون بعد ذلك فلهم الحق في أن يطلبوا من هؤلاء المعاهدين الإسلام أو أن يرضخوا للجزية. وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية
رحمه الله، وهو الصحيح.
س 113: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: عن الجزية.
فأجاب بقوله: الجزية هي: مالٌ يضعه ولاة الأمر كل عام على كل كافر تحت ذمة المسلمين عوضاً عن حمايته وإقامته بدار الإسلام.
مثاله: لو فتح المسلمون بلداً للكفار واستولوا عليها فإنه يقال لمن فيها من الكفار: لكم البقاء مع دفع الجزية.
والدليل على الجزية: ما جاء في حديث بريدة- رضي الله عنه-: "فإن هم أبوا فاسألهم الجزية" (2) .
وعلى هذا فلا يختص أخذ الجزية باليهود والنصارى والمجوس،
__________
(1) رواه البخاري/كتاب الجهاد برقم (2766) .
(2) رواه مسلم/كتاب الجهاد برقم (3261) .(25/476)
وأخذ الجزية من غير اليهود والنصارى والمجوس للعلماء فيها أقوال: فاكثر أهل العلم: إنها لا تؤخذ إلا من اليهود والنصارى فقط.
والدليل قوله تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) (1) .
وقيل: إنه تؤخذ من اليهود والنصارى ومن المجوس أيضاً.
والدليل: أنه - صلى الله عليه وسلم - أخذ الجزية من مجوس هجر.
والصحيح: أنها تؤخذ من جميع أجناس الكفار، بدليل عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من كفر بالله" (2) .
س 114: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: لا يخفى على فضيلتكم أن في أخذ الجزية إقرار لليهودي والنصراني على دينه مع بقائه في جزيرة العرب، فكيف يجمع بين هذا وبين أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب؟
فأجاب بقوله: أمره - صلى الله عليه وسلم - بإخراج اليهود والنصارى كان في آخر حياته عليه الصلاة والسلام، كما في مسند الإمام أحمد من حديث أبي
__________
(1) سورة التوبة، الآية: 29.
(2) رواه مسلم/كتاب الجهاد/باب تأمير الإمام برقم (3261) .(25/477)
عبيدة بن الجراح قال: آخر ما تكلم به النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أخرجوا يهود أهل الحجاز، وأهل نجران من جزيرة العرب" (1) . وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلماً" (2) . وقال عليه الصلاة والسلام: "لا يجتمع دينان في جزيرة العرب" (3) .
س 115: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: عن مقدار مال الجزية؟
فأجاب بقوله: مقدار الجزية ينظر فيه الإمام للمصلحة، فإذا رأى الإمام أن من المصلحة أن يكون المال المدفوع في الجزية أكثر، لأن حماية من يدفعها من الذميين تقتضي نفقة كبيرة فله أن يلزم الذميين بجزية أكثر، وقد يكون الحال العكس، فإذا لم يقتضِ الحال حماية أكبر لهؤلاء الذميين فإن الجزية تكون أقل.
ولهذا ذكر العلماء: أن المرجع في تحديد الجزية إلى اجتهاد الإمام، ويختلف هذا في كل وقت بحسبه.
__________
(1) مسند الإمام أحمد (1/196) .
(2) رواه مسلم/كتاب الجهاد برقم (1767) .
(3) رواه مالك برقم (1388) .(25/478)
س 116: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما الحكمة في أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ الجزية من مجوس هجر، ولم يأخذها من بقية المشركين؟
فأجاب بقوله: أخذ الجزية من المجوس ليس خاصا بمجوس هجر بل عام لجميع المجوس، وقد علل أصحابنا- رحمهم الله- أخذ الجزية من المجوس دون غيرهم من المشركين بأن لهم شبهة كتاب، والشبهة تقوم مقام الحقيقة ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" (1) .
فهذه الشبهة منعت دماءهم وأموالهم بأخذ الجزية: ولكن لما كانت غير متيقنة لم تحل ذبائحهم ونساؤهم، هذا معنى كلام الأصحاب في تعليل ذلك، وأنت ترى أن من كان عنده كتاب فإن
عنده ثقافة وربما كان ذلك سببًا لإسلامه لاختلاطه بالمسلمين، وامتزاجه بهم، وعيشه تحت ظل الإسلام وحمايته.
ويرى بعض العلماء ومنهم ابن القيم- رحمه الله-: أنه لا يصح التعليل بأن لهم شبهة كتاب، ولا أن لهم كتابًا فرفع، ولكن تؤخذ الجزية من كل كافر من المجوس وغيرهم.
__________
(1) رواه مالك في الموطأ، كتاب الزكاة، باب جزية أهل الكتاب والمجوس، (278، 1) .(25/479)
س 117: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: لماذا عامل المسلمون المجوس معاملة أهل الكتاب مع أنهم وثنيون؟
فأجاب بقوله: لم يعامل المسلمون المجوس معاملة أهل الكتاب مطلقًا، وإنما عاملوهم معاملة أهل الكتاب في إقرارهم بالجزية فقط، مستدلين بما رواه البخاري عن عبد الرحمن بن عوف- رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ الجزية من مجوس هجر (1) .
أما بقية الأحكام فإنهم لا يشاركون أهل الكتاب فيها، فلا تحل نساؤهم ولا ذبائحهم ويرى بعض العلماء أن أخذ الجزية لا يختص بأهل الكتاب والمجوس بل يعم كل كافر، سواء كان من أهل الكتاب والمجوس أو غيرهم لعموم حديث بريدة رضي الله عنه.
س 118: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما حقوق الوالدين الكافرين على الأبناء المسلمين، وكذلك الأشقاء والأقارب من حيث الزيارات والنفقة والصلة؟ ومتى تكون النفقة واجبة؟
ومتى تكون مستحبة؟
فأجاب بقوله: الواجب على الولد المسلم تجاه والديه أن يبرهما حين يتعلق بأمور الدنيا لقول الله تبارك وتعالى: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ
__________
(1) رواه البخاري/كتاب الجزية/باب الجزية مع أهل الحرب برقم (2923) .(25/480)
الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) (1) .
فأمر الله تعالى أن نصاحب الوالدين الكافرين في الدنيا معروفًا فننفق عليهما ونكسوهما ونهدي إليهما، ومع ذلك ندعوهما إلى الإسلام ولعل الله أن يدخل في قلبيهما الإسلام حتى يسلما، وكذلك الأرحام الأقارب الذين ليسوا بمسلمين، لهم رحم لا بد من صلتها فتوصل، ويدعو هذا القريب الموصول إلى الإسلام لعل الله أن يفتح عليه.
س 119: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما حكم من يلقى عليه السلام في مجلس أو جماعة أو محلات تجارية ويرد السلام دون التأكد من ديانة الذي ألقى عليه السلام وبالعكس؟ ما حكم من
يلقي السلام على هذه الجماعات المختلفة الأديان من غير المسلمين؟ وما حكم هذه الألفاظ (مع السلامة) (تصبحون على خير) أو (تمسون على خير) (ودعتكم الله) أو (في أمان الله) ؟
فأجاب بقوله: أولاً: نقول: إذا ألقى إليك السلام أحد فرد عليه السلام، بقولك: عليكم السلام أو عليك السلام إن كان مؤمنا، ورد
__________
(1) سورة الإسراء، الآيتان: 23-24.(25/481)
عليه السلام بقولك وعليكم إن كان كافرا. إلا إذا صرح بالسلام مبينا حروفه وقال: السلام عليكم فلا حرج أن تقول عليكم السلام.
فإن كانوا قد قالوا السام فعليهم السام، وإن كان قد قالوا السلام فعليهم السلام، وهذا يدل على أنهم إذا سلَّموا علينا بلفظ صريح (السلام عليكم) فإننا نرد عليهم بذلك ونقول (عليكم السلام)
ويؤيد هذا قوله تعالى: (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا) (1) وهذا عام.
أما المسألة الثانية في سؤاله: فهو إلقاء السلام على جماعة أو على شخص لا يدرى عن إسلامه؟
والجواب على هذا أن نقول: ألق السلام على من يغلب على ظنك أنه مسلم ولاسيما إذا كنت في بلد أكثر أهلها مسلمين؛ لأن الحكم للأكثر.
أما إذا غلب على ظنك أنه ليس بمسلم أو أن هذه الجماعة غير مسلمين فإنه لا يشرع لك أن تسلم عليهم، وإن خفت من الفتنة فسلم عليهم على وجه التورية، فقل: السلام، ولا تقل: عليكم،
وأنت تنوى بالسلام على من أتبع الهدى.
أما المسألة الثالثة في سؤاله فهو: التوديع يعنى أن الإنسان إذا أراد أن ينصرف قال: (في أمان الله) (مع السلامة) أو (أودعك الله) وما أشبه
__________
(1) سورة النساء، الآية: 86.(25/482)
ذلك، فهذه الكلمات لا بأس بها، لكن ينبغي أن تكون مقرونة بالسلام فإن الإنسان مشروع له عند الانصراف أن يسلم كما أنه مشروع له عند اللقاء أن يسلم، فيقول مثلاً: إذا أراد أن ينصرف السلام عليكم في أمان الله وما أشبه ذلك، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ودع مسافراً يقول: "أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك " (1) .
س 120: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل يجوز للحاكم المسلم أن يسوى بين المسلم والكتابي يهوديًّا كان أو نصرانيًّا دون أن يأخذ منهم الجزية وكيف تكون معاملتنا معهم؟
فأجاب بقوله: الواجب على الحاكم المسلم أن يعدل بين المسلم والذمي، والعدل إعطاء كل منهما ما يستحق، فالمسلم له حقوق، والكافر له حقوق، والكافر أيضاً حقوقه تختلف، فالذمي له حقوق،
والمعاهد له حقوق، والمستأمن له حقوق، والحربي ليس له حقوق. والحاصل أنه يجب على الحاكم المسلم أن يعدل بين المسلمين وغير المسلمين فيما يجب من حقوقهم.
__________
(1) رواه أبو داود، كتاب الجهاد، باب الدعاء عند الوداع، برقم (2600) ، وابن ماجه، كتاب الجهاد، باب تشييع القراء ووداعهم، برقم (2826) ، والترمذي، كتاب الدعوات، باب ما يقول اذا ودَّع إنساناً، برقم (3442) .(25/483)
وأما بالنسبة للحاكم إن أراد بالحاكم: (القاضي) فإنه يجب عليه أن يعدل أيضاً بينهم بحيث لا يفضل المسلم على الكافر في دخوله عليه مثلا، أو في جلوسه معه، أو في تلقينه الحجة، أو ما أشبه ذلك بل
يجب عليه العدل في ذلك كله.
وقد أمر الله تبارك وتعالى بالعدل وأخبر عنه أنه من خصال المؤمنين قال تعالى: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)) (1) .
س 121: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل يجوز أكل أموال غير المسلمين أم هي حرام محرمة كحرمة أموال المسلمين؟
فأجاب بقوله: أموال غير المسلمين إذا كانوا معصومين فإنه لا يجوز للمسلم أن يخونهم في أموالهم وأعراضهم، والمعصوم من الكفار ثلاثة أصناف:
الذميون، والمعاهدون، والمستأمنون، فهؤلاء الثلاثة معصومون لا يجوز الاعتداء عليهم في أموالهم ودمائهم وأعراضهم، أما الكفار الذين ليس بيننا وبينهم عهد ولا أمان ولا ذمة وإنما هم حربيون
فهؤلاء ليسوا معصومين فأموالهم ودماؤهم أيضاً وذرياتهم
__________
(1) سورة الممتحنة، الآية: 8.(25/484)
ونساؤهم حلال للمسلمين، ولهذا هم يعلنون الحرب علينا ونحن نعلن الحرب عليهم.
ثم إن المعاهدات تتقسم إلى قسمين: معاهدات ثنائية، ومعاهدات جماعية عامة.
ويجب مراعاة شروط هذه حسبما يتفق عليه الطرفان.
س 122: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: أنا موظف في شركة ويرأسني شخص كافر وحين أذهب إلى العمل يكون قد وصل إلى العمل قبلي، فهل لي أن أسلم عليه وأبدأه بالسلام علما بأني إذا
لم أسلم عليه قد يحصل لي ضرر؟
فأجاب بقوله: الطريق إلى هذا إذا كان رئيسك كافراً وحضر قبلك، دخلت عليه أن تقول: صباح الخير فقط، وصباح الخير لمن؟ لنفسك وإخوانك المسلمين لا تنويها له أو تقول (السلام) بدون أن
تقول (عليكم) وتنوى السلام عليك أنت وعلى عباد الله الصالحين.
وبهذا يحصل المقصود إن شاء الله بدون ضرر.
س 123: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: اعتاد الناس أنهم يقولون لصاحب المحلات من العمالة الوافدة يا محمد، أعطني(25/485)
كذا، وربما يكون غير مسلم، فما رأي سماحتكم؟
فأجاب بقوله: خير من هذا أن يقولوا يا (عبد الله) لأن الكل عباد الله حتى الكافر عبد الله، فلو أنها غيرت إلى يا عبد الله لكان أحسن.
س 124: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: رجل متزوج ويعمل خارج بلده مع مجموعة من الأجانب النصارى ويكون بينه وبينهم الأكل والشرب هل يجوز معاملة هؤلاء؟
فأجاب بقوله: معاملة غير المسلمين على سبيل الموادة والمحبة والولاية محرمة لا تجوز قال الله تعالى: (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) (1) .
ولقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (2) .
ولقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ) (3) . فالواجب
__________
(1) سورة المجادلة، الآية: 22.
(2) سورة المائدة، الآية: 51.
(3) سورة الممتحنة، الآية: 1.(25/486)
على المسلم كراهة أعداء الله الذين هم أعداء له في الحقيقة وهم كل كافر أيًّا كان نوع كفره سواء كان يهوديًّا أم نصرانيًّا أم مجوسيًّا أم دهرياً لا يؤمن بشيء، فإن الواجب على المسلم بغضهم، وكلما ابتعد عنهم كان أسلم لدينه وأصلح لقلبه، لكن إذا ابتلى بهم بأن كانوا له شركاء في العمل فإنه لا حرج عليه أن يأكل معهم إذا لم يمكنه الانفراد، وفى هذه الحال ينبغي بل يجب عليه أن يدعوهم إلى الإسلام ويبين لهم محاسنه وما يدريك لعل الله يفتح على قلوبهم فيهديهم فإن الله- سبحانه وتعالى- على كل شيء قدير، وكم من شخص يستبعد حصول الهداية لهؤلاء، ولكن تأتي هدايتهم بأيسر ما يكون، وإذا أخلص الإنسان الدعوة إلى الله- سبحانه وتعالى- وسلك طريق الحكمة في ذلك فإنه يوشك أن يوفق، وأن يهدي الله على يديه خلقًا كثيرًا.
س 125: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما حكم مصافحة الكافر إذا كان هو البادئ بالمصافحة؟
فأجاب بقوله: إذا مد الكافر يده للمصافحة فمدها وصافحه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما نهى عن ابتدائه أن نبدأهم بالسلام (1) أما إذا بدؤا
__________
(1) رواه مسلم/كتاب السلام/باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام برقم (4206) .(25/487)
هم أو صافحونا ابتداءً نصافحهم لكن لا نمد أيدينا للمصافحة نحن، فصار الكافر إن سلم فرَّد عليه، وإن مد يده فمد يدك إليه، وإن لم يسلم فلا تسلم عليه، وإن لم يصافح فلا تصافح، وخذ هذه
الآية الكريمة: (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا) بل (إذا حييتم) أي واحد يحيينا ولو كان أكفر عباد الله فإننا نرد عليه مثل تحيته أو أحسن، لكن الأولى في غير المسلمين أن لا ترد عليه بأحسن، بل رد عليه مثل تحيته لأنك إذا رددت عليه أحسن زدته خيرًا ويفرح بهذا.
س 126: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: عندنا في المسجد برادة للماء للشرب ويأتي عمال كفار ويأخذون من هذا الماء، فهل يحق لنا أن نمنعهم؟ وأيضًا دورة المياه يأتون يستحمون يوميا في
هذه الدورات هل لنا أن نمنع هؤلاء الكفار؟
فأجاب بقوله: لا، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "في كل كبدٍ رطبة أجر" (2)
فلا تمنعهم ودعهم يشربون ولأن الله تعالى قال في القرآن: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ
__________
(1) سورة النساء، الآية: 86.
(2) رواه مسلم/كتاب السلام/باب فضل سقي البهائم (2244) .(25/488)
تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (1) .
س 127: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: نعمل في شركة وفيها نسبة من الكفار فهل يجوز الدعاء على أعيانهم؟
فأجاب بقوله: الكافر أدع الله له، لا تدع الله عليه قل: اللهم اهده؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو على أعيان قوم من المشركين، فنهي عن ذلك (2) .
فقل اللهم اهده والله قادر أن يهديه كما هو قادر على أن يعاقبه، وهدايته خير لنا من عدم هدايته، فادع الله له بالهداية لكن لا تدع الله له بالرحمة لو مات؛ لأنه يحرم على الإنسان أن يدعو لكافر بالرحمة أو بالمغفرة إذا مات بل من دعا لكافر مات على الكفر برحمة أو مغفرة فقد خالف في هذا سبيل النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين؛ لأن الله قال: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) (3) . ثم قال الله تعالى عن استغفار إبراهيم لأبيه: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا
__________
(1) سورة التوبة، الآية: 128.
(2) رواه البخاري/كتاب الدعوات/باب الدعاء على المشركين.
(3) سورة التوبة، الآية: 128.(25/489)
عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (1) .
س 128: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: ما حكم الدعاء على هؤلاء الكفار الذين يعملون معنا؟
فأجاب بقوله: لا يجوز الدعاء عليهم، إلا إذا بارزوا بالكفر وآذوا المسلمين فنعم، لكن تدعو عليهم في شيء يضرهم في الدنيا لا بشيء يضرهم في الآخرة، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - دعا على قريش حين أذوه فقال: "اللهم اجعلها سنين كسني يوسف فأصيبوا بالجدب والقحط" (2) .
س 129: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: شخص مسلم تداين من شخص كافر، وأكل حقه، فهل يصح للمسلم أكل مال كافر بغير حق أفيدونا في ذلك؟
فأجاب بقوله: لا يحل للمسلم أن يأكل مال الكافر بغير حق فإذا كان قد استدان منه فإنه لا ينبغي له أن يكافئ المعروف بالإساءة،
__________
(1) سورة التوبة، الآية: 114.
(2) رواه البخاري، كتاب الاستسقاء، باب دعاء النبي: اجعلها سنين كسني يوسف، برقم (1006) ، ومسلم، كتاب المساجد، باب استحباب القنوت، برقم (675) .(25/490)
ويماطل في حقه؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - اشترى شعيرًا لأهله من يهودي ورهنه درعه ومات - صلى الله عليه وسلم - ودرعه مرهون عند هذا اليهودي (1) وقضي دينه بلا شك.
وليعلم أن المعاملات الدنيوية ليست هي المعاملات الدينية فالكافر يعامل في المعاملات الدينية بما تقتضيه حاله؛ فيكره ويبغض ويعتقد فيه أنه عدو لله ولرسوله وللمؤمنين، ولكن هذا لا يسوغ أن
نخونه في ماله وأن نأكل ماله وأن نجحده، بل نعامله بما تقتضيه الشريعة الإسلامية من العدل في المعاملات.
س 130: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: في هذه الأيام ونتيجة للاحتكاك مع الغرب والشرق وغالبهم من الكفار على اختلاف مللهم ونحلهم. أراهم يؤدون تحية الإسلام علينا حينما نتقابل
معهم، فماذا يجب علينا تجاههم؟
فأجاب بقوله: إن هؤلاء الذين يأتوننا من الشرق ومن الغرب والذين هم ليسوا بمسلمين لا يحل لنا أن نبدأهم بالسلام؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تبدؤا اليهود ولا النصارى بالسلام" (2) . ولكن إذا
__________
(1) رواه البخاري/كتاب الجهاد/باب ما قبل في درع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحرب (2700) .
(2) رواه مسلم، كتاب السلام:، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام، برقم (2167) .(25/491)
سلموا علينا فإننا نرد عليهم بمثل ما سلموا علينا به لقوله تعالى: (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا) (1) .
وسلامهم علينا بالصيغة الإسلامية: (السلام عليكم) لا يخلو من حالين: فإما أن يقولوا: (السلام عليكم) . فلنا أن نقول: (عليكم السلام) .
ولنا أن نقول: (وعليكم) . أما إذا لم يفصحوا باللام وهو الحال الثانية مثل أن يقول: (السام عليكم) . فإننا نقول: (وعليكم) فقط؛ وذلك لأن اليهود كانوا يأتون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويسلمون عليه يقولون: السام عليكم. غير مفصحين باللام، والسام هو الموت.
يريدون الدعاء على النبي - صلى الله عليه وسلم - بالموت فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نقول لهم: "وعليكم" (2) . فإذا كانوا قالوا: السام عليكم. قلنا: وعليكم، يعني أنتم أيضاً عليكم السام، هذا هو ما دلت عليه السنة، وأما أن نبدأه نحن بالسلام فإن هذا نهانا عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -.
س 131: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: البعض يتأول في مسألة أهل الذمة بدعوى عدم وجود ولي الأمر العام أو الخلافة،
__________
(1) سورة النساء، الآية: 86.
(2) رواه البخاري/كتاب الأدب/باب الرفق في الأمر كله برقم (5565) ، ومسلم/كتاب السلام/باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام برقم (4026) .(25/492)
أو لعدم وجود أهل الذمة أصلا بدعاوى عديدة ولذلك لا يجدون غضاضة في دعوة الناس للاعتداء على غير المسلمين من المعاهدين؟
فأجاب بقوله: أنا أوافق على أنه ليس عندنا أهل ذمة؛ لأن أهل الذمة هم الذين يخضعون لأحكام الإسلام، ويؤدون الجزية، وهذا مفقود منذ زمن طويل، لكن لدينا معاهدون ومستأمنون ومعاهدون
معاهدة عامة، ومعاهدة خاصة، فمن قدم إلى بلادنا من الكفار لعملٍ أو تجارة وسمح له بذلك فهو: إما معاهد أو مستأمن فلا يجوز الاعتداء عليه وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أن من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة" (1) . فنحن مسلمون مستسلمون لأمر الله- عز وجل- محترمون لما اقتضى الإسلام احترامه من أهل العهد والأمان، فمن أخلَّ بذلك فقد أساء للإسلام وأظهره للناس بمظهر الإرهاب والغدر والخيانة، ومن التزم أحكام الإسلام واحترم العهود
والمواثيق، فهذا هو الذي يرجى خيره وفلاحه.
س 132: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: من يتجاوز هذه الضوابط يسمى مفتئتاً عند أهل العلم، لكن وجد في الحقيقة ممن
__________
(1) رواه البخاري، كتاب الجزية، باب إثم من قتل معاهداً، برقم (3166) .(25/493)
ينتسب إلى أهل العلم من يقول: أن من قتل كافراً من غير المسلمين أو من المسلمين وقد حكم بارتداده فلا ينبغي أن يقاد بهذا الكافر؟
فأجاب بقوله: لاشك أنه لا يقتل المسلم بالكافر صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلّم. (1) ولا يمكن أن نقتل مسلمًا بعدو من أعداء الله وأعداء المسلمين وهذا أمر مسلم به، لكن الكافر الذي
بيننا وبينه عهد أو أمان لا يجوز لنا أن نغدر به أو أن نخونه قال تعالى: (فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (2) .
س 133: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: كيف نخرج من القول الأول وهو النهى عن الاعتداء على الكافر المعاهد، ولو حدث وقتل كيف نجمع بينه وبين منع قود المسلم بكافر؟
فأجاب بقوله: نجمع بينهما بإعطاء الدية لأولياء المقتول من الكفار وإذا رأى الإمام أن يعاقب هذا القاتل بما يراه ردعا له ولأمثاله فليفعل، على أن من أهل العلم من قال: "إن قتل الغيلة أي: الغدر لا يشترط فيه المكافأة بل يقتل فيه المسلم بالكافر؛ لأن قتله من
__________
(1) رواه البخاري، كتاب العلم، باب كتابة العلم، برقم (111) .
(2) سورة التوبة، الآية: 7.(25/494)
باب دفع الصائل ومنع الفساد في الأرض". قال ابن رجب رحمه الله في شرح: "الأربعين": "وهذا مذهب مالك وأهل المدينة أن القتل غيلة لا تشترط له المكافأة فيقتل فيه المسلم بالكافر".
س 134: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: العلاقة الطيبة بين المبتعث وأستاذه (مشرفه الدراسي) ضرورة تقتضيها عدة أمور من بينها مصلحة الطالب نفسه، غير أن هناك بعضا من المبتعثين
يجدون حرجا في تقوية هذه العلاقة، وخاصة فيما يتعلق بالمناسبات الدينية كبعث بطاقات التهنئة بما يسمى الكريسمس أو عيد رأس السنة، فهل ترون غضاضة في أن يكتب الطالب تهنئة لأستاذه
خاصة إذا كانت من باب المجاملة المطلوبة في مثل هذا المجتمع؟
فأجاب بقوله: لا يحل للإنسان أن يجامل كافراً على حساب دينه ولو كان هذا الكافر قد أحسن إليه كثيرًا؛ لأن الدين مقدم على كل شيء، وبناءً على هذه القاعدة لا يحل للطالب أن يبعث إلى أستاذه
تهنئة بالشعائر الدينية كأعيادهم التي تكون على رأس السنة الميلادية، أو عيد الميلاد، فمن فعل ذلك فقد أتى إثمًا كبيرًا.
حتى قال بعض العلماء: إنه يخشى أن يكفر بذلك؛ لأنه رضى بالشعائر الدينية، والرضى بالكفر كفر، أما المجاملات الأخرى كالتهنئة(25/495)
بالولد مثلاً، أو بالقدوم من سفر، وما أشبه ذلك فهذه أهون.
س 135: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: كيف نعامل النصارى المشاركين لنا في العمل والمجاورين لنا في المنازل؟
فأجاب بقوله: تعاملوهم بمثل ما يعاملونكم، فإن هذا من العدل الذي أمر الله تعالى به، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى) (1) .
ولا بأس بالإحسان إليهم تأليفًا لهم على الإسلام لا توددًّا وتقربًّا إليهم لقول الله تعالى: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (2) .
وأما مودتهم وموالاتهم فلا يحل لنا ذلك لقوله تعالى: (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) (3) الآية.
وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ
__________
(1) سورة النحل، الآية: 90.
(2) سورة الممتحنة، الآية: 8.
(3) سورة المجادلة، الآية: 22.(25/496)
تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ) (1) .
وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ) (2) .
وأما تهنئتهم فن كانت لمناسبات دينية عندهم فهذا حرام بلا شك؛ لأنه يتضمن الرضا بما هم عليه من الكفر، وتثبيتهم عليه، وإدخال السرور عليهم به، وإن كانت لمناسبات غير دينية كحصول
مال أو ولد فلا بأس به إذا كانوا يفعلون ذلك بنا لما فيه من العدل والإنصاف، وإلا فلا تهنئهم به إلا أن يتضمن ترك ذلك إضرارًا بنا.
وأما تعزيتهم فنعزيهم إذا كانوا يعزوننا لما فيه من العدل والإنصاف، لكن ينبغي أن تكون تعزيتنا مفتاحًا لوعظهم ودعوتهم للإسلام.
نسأل الله أن ينصر عباده المؤمنين على أعدائه الكافرين.
حرر في 10/7/1417 هـ.
__________
(1) سورة الممتحنة، الآية: 1.
(2) سورة المائدة، الآية: 51.(25/497)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إلى الناس أجمعين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلّم تسليماً كثيراً أما بعد:
فقد بلغني أن بعض الناس ولا سيما النساء كانوا يدعون الله تعالى بالمغفرة والرحمة لامرأة نصرانية ماتت في هذا الشهر جمادى الأولى سنة 1418 هـ بحادث وربما يبكين على موتها.
والدعاء بالمغفرة والرحمة لغير أموات المسلمين حرام مخالف لسبيل النبي- صلى الله عليه وعلى آله وسلّم- والذين آمنوا لقوله تعالى: "مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ" (1) .
وكل من بلغته رسالة النبي- صلى الله عليه وعلى آله وسلّم- ولم يؤمن بها فهو من أصحاب الجحيم، سواء كان من المشركين الوثنيين أم من اليهود والنصارى أم من غيرهم؟ لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلّم: "والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه
__________
(1) سورة التوبة، الآية: 118.(25/498)
الأمة- يعنى: أمة الدعوة- يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار" (1) . أخرجه مسلم.
وإذا كان الله تعالى نهى نبيه- صلى الله عليه وعلى آله وسلّم- أن يستغفر لعمه أبى طالب مع أنه كان يدافع عن النبي- صلى الله عليه وعلى آله وسلّم- وينصره، فكيف بمن دونه وبمن لم يعرف منه نصر للمسلمين ولا دين الإسلام؟
فالواجب على المسلم ألا تحمله العاطفة على الوقوع فيما حرم الله عليه، وأن يتوب إلى الله تعالى مما وقع فيه من المخالفة، وأن يتولى الله ورسوله والذين آمنوا، وأن يتبرأ من أعداء الله تعالى كفعل إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام حين استغفر لأبيه قال الله تعالى: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (2) .
وليعلم أن من مات على غير الإسلام فإنه لا ينفعه ما عمل من خير عام أو خاص لقوله تعالى: (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ) (3) الآية.
__________
(1) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب وجود الإيمان برسالة نبينا محمد، برقم (153) .
(2) سورة التوبة، الآية: 114.
(3) سورة التوبة، الآية: 45.(25/499)
وقالت عائشة- رضي الله عنها- للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين فهل ذاك نافعه؟ قال: "لا ينفعه"؛ إنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين" (1) . رواه مسلم.
وعن سلمة بن يزيد الجعفي قال: انطلقت أنا وأخي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: قلنا: يا رسول الله! إن أمنا مليكة كانت تصل الرحم وتقري الضيف وتفعل وتفعل؛ هلكت في الجاهلين فهل ذلك نافعها شيئا؟ قال: "لا" (2) رواه الإمام الأحمد وقال الهيثمي: "رجاله رجال
الصحيح".
وإذا كان لا ينفعه عمله فعمل غيره من باب أولى، وعلى هذا فلا يحل الصدقة عنه ولا الأضحية ولا غيرهما من القربات. أسأل الله أن يوفقنا جميعاَ لما فيه رضاه واجتناب سخطه إنه سميع الدعاء.
كتبه محمد الصالح العثيمين في 15 جمادى الأولى سنة 1418 هـ.
__________
(1) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على كفره لا ينفعه عمله، برقم (214) .
(2) رواه أحمد 268 , 25 (15923) .(25/500)
بسم الله الرحمن الرحيم
الجهاد في سبيل الله عز وجل (1)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله، فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله بعثه الله بالهدى ودين الحق رحمة للعالمين، وقدوة
للسالكين، وحجة على المرسل إليهم أجمعين، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاد حتى أتاه اليقين، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ثم خلفه في أمته خلفاء راشدون قادة مهديون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، ومازال الخلفاء في هذه الأمة يأتي الخلف من بعد السلف حتى آل الأمر إلى ما نحن عليه اليوم في هذه البلاد مهبط الوحي ومنبع الرسالة، هذه البلاد التي منها بدأ الإسلام ويعود، أما بدأ الإسلام من هذه البلاد فأمر لا يحتاج إلى عبارة؛ لأنه معلوم مستقر لدى العامة والخاصة، وأما رجوع الإيمان على هذه البلاد فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وسلم أنه يرجع إلى المدينة كما ترجع الحية إلى جحرها (2) .
__________
(1) محاضرة ألقاها فضيلة شيخنا- رحمه الله- في الرياض أثناء حرب العراق والكويت عام 1411 هـ.
(2) رواه البخاري/كتاب الحج/باب الإيمان بارز إلى المدينة برقم (1743) ، ومسلم/ كتاب الإيمان/باب بيان أن الإسلام بدأ غريباً برقم (209) .(25/501)
وإذا كان الأمر هكذا فإن واجبنا نحن في هذه البلاد يفوق واجب غيرنا في البلاد الأخرى؛ ذلك لأنه يجب علينا أن نحمي حوزة ديننا وأن تكون نيتنا خالصة لله، تكون كما قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (1) .
يا أيها الأخوة لنقف قليلاً عند هذه الآية الكريمة، ولننظر: ما هي السلعة؟
وما هو الثمن؟
ومن العاقد؟
ومن المعقود معه؟ وما هي وثيقة العقد؟
فالمشترى هو: الله، والبائع هم: المؤمنون، والسلعة هي: الجهاد في سبيل الله، أنفسهم وأموالهم يبذلونها في سبيل الله- عز وجل- فالسلعة هي النفس والمال اللذان بذلا في الجهاد في سبيل الله. أما
العوض: وهو الثمن الذي يدفع من المشتري فهو الجنة (بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) . وأما الوثيقة: فالتوراة والإنجيل والقرآن، أعظم الكتب
__________
(1) سورة التوبة، الآية: 111.(25/502)
الإلهية المنزلة من عند الله تعالى فما أعظم العاقد وما أكبر هذه الصفقة! وما أجل المعقود معه في نيته وإخلاصه! وما أجل العوض!
وما أثمن الثمن عند باذله؛ لأنه النفس والمال.
أما النية التي قصد بها هذا العقد فهي موجودة في قوله تعالى: (يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ) (1) . ليست حركتهم حركة تمني وإدعاء، ولكنها حركة فعل وإقدام (يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ) (2) والمقاتلة لا بد
أن تكون مسبوقة بإعداد قوة يعتد بها الإنسان حتى يقاتل بها عدوه، أما أن ينزل إلى الميدان بدون عدة فإنه بلا شك حري بأن يخذل ويهزم، لكن هؤلاء المؤمنين لديهم من العدة ما استطاعوا أن ينزلوا به الميدان فيقاتلون في سبيل الله ولهذا قال تعالى: (يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) (3) .
فبدأ بكونهم يَقْتُلُون قبل أن يكونوا يُقْتَلُون، وهذا يدل على أن قتالهم قتال هجوم لا مدافعة، وهكذا يجب علينا- نحن المسلمين- أن نقاتل أعداءنا أعداء الله- عز وجل- قتال هجوم لا قتال دفاع؟
لأن الله يقول: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) وقال
__________
(1) سورة التوبة، الآية: 111.
(2) سورة التوبة، الآية: 111.
(3) سورة التوبة، الآية: 111.(25/503)
النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن
محمد رسول الله" (1) .
أيها الأخوة: وفى قوله تعالى: (فِي سَبِيلِ اَللَّهِ) (2) إشارة إلى أنه يجب أن يكون هذا القتال مبنيًا على الإخلاص لله- عز وجل- وعلى أتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال الله تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (3) .
ولقد سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يقاتل حميه ويقاتل شجاعة، ويقاتل ليرى مكانه، فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - كلمة جامعة مانعة قال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" (4) من قاتل لهذا الغرض الوحيد وهو أن تكون كلمة الله هي العليا، من قاتل لهذا، فهو في سبيل الله وهو الذي يستحق إذا قتل أن يكون شهيدًا داخلاً في قوله تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
__________
(1) رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب فإن تابوا وأقاموا الصلاة، برقم (25) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، برقم (22) .
(2) سورة التوبة، الآية: 111.
(3) سورة الأنعام، الآية: 153.
(4) رواه البخاري، كتاب العلم، باب من سأل وهو قائم، برقم (123) ، ومسلم، كتاب الإمارة، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، برقم (1904) .(25/504)
أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) (1) .
وقال- عز وجل-: (وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) (2) ولا يدخل في ذلك من قاتل للوطنية المحضة أو القومية، وانتبه لقولي الوطنية المحضة؛ لأن الإنسان إذا قاتل من أجل وطنه لكونه وطنا إسلاميًا؛ ولأجل أن تبقى كلمة الله تعالى فيه هي العليا، فإن ذلك لا ينافي صحة النية والعقيدة، وهو داخل في القتال في سبيل الله تعالى، أما من قاتل عن وطنه لأنه وطنه فقط فلا فرق بينه وبين قتال الكافر الذي يقاتل عن وطنه، لأنه وطنه وأرجو أيها الأخوة أن تكون نيتنا في القتال عن وطننا، لا لمجرد كونه وطنًا لنا ولكن من أجل أنه وطن الإسلام الذي أقول- وأشهد الله تعالى على ما أقول وأشهدكم أيضاً - إنني لا أعلم أن في الأرض اليوم من يطبق من شريعة الله ما يطبقه هذا الوطن أعني المملكة العربية السعودية، وهذا بلا شك من نعمة الله علينا فلنكن محافظين على ما نحن عليه اليوم، بل ولنكن
__________
(1) سورة آل عمران، الآيات: 169-171.
(2) سورة الحديد، الآية: 19.(25/505)
مستزيدين من شريعة الله- عز وجل- أكثر مما نحن عليه اليوم، لأنني لا أدّعي الكمال، وأننا في القمة بالنسبة لتطبيق شريعة الله لا شك أننا نخل بكثير منها، ولكننا خير والحمد لله مما نعلمه من البلاد الأخرى، ونحن إذا حافظنا على ما نحن عليه اليوم، ثم حاولنا الاستزادة من التمسك بدين الله- عز وجل- عقيدة ومنهاجًا فإن النصر يكون حليفنا ولو اجتمع علينا مَنْ بأقطارها، لأن الله- عز وجل- يقول وهو الذي بيده ملكوت السماوات والأرض: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) (1) .
فاقرأ الآيتين جميعًا ولا تكن ككثير من الناس يقرأ الآية الأولى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) فأقرا ما بعدها لأنها مهمة (وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) مهما عملوا من الأعمال فإنها في ضلال وهلاك ما داموا يقابلون الذين آمنوا ونصروا الله، فنحن إذا من الله علينا بالاتصاف بهذين الوصفين:
الإيمان.
ونصر الله- عز وجل-.
وذلك بنصر دينه فإن الذين كفروا مهما كانوا أمامنا حالهم ما ذكر
__________
(1) سورة محمد، الآيتان: 7، 8.(25/506)
الله (وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) .
لا تتهيب من عدوك ما دمت من أولياء الله الذين أمنوا وكانوا يتقون، الولاية لا تكون بكبر العمامة، ولا بسعة الكم، ولا بطول المسواك وبالتصنع أمام الناس، الولاية تكون بهذين الوصفين: (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) (1) .
فإذا آمنا بالله ونصرناه بنصر شريعته فإن النصر سيكون حليفنا مهما كان أعداؤنا، ونصرنا لله لا يكون بمجرد سلامة العقيدة.
فلا بد مع سلامة العقيدة من عمل صالح ولهذا جاء في الآية بيان أولياء الله الذين يستحقون نصر الله بأنهم (الَّذِينَ آَمَنُوا) وهذه هي العقيدة (وَكَانُوا يَتَّقُونَ) وهذا هو العمل.
وأعتقد أن بعضكم قد أخذ العبرة مما وقع للمسلمين وقائدهم، إمام المتقين وخاتم النبيين محمد - صلى الله عليه وسلم - في غزوة أُحد التي كانت بين حزب الله، وحزب الشيطان، بين محمد - صلى الله عليه وسلم - والذين آمنوا معه، وبين أبي سفيان وأتباعه وأبو سفيان أسلم بعد- أقول: إن هذه الغزوة التي وقعت بين حزب الله وحزب الشيطان كلنا لا نشك في سلامة العقيدة وحسن النية في الطرف الذين هم حزب الله، ولكن وقعت
__________
(1) سورة يونس، الآيتان: 62-63.(25/507)
منهم معصية قد تكون ناتجة عن تأويل فكان النصر في أول النهار لحزب الله، وكان العكس في آخر النهار كما هو معلوم، هذه المعصية التي وقعت هي أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - - وقد آتاه الله الحكمة- (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) (1) فقد رتب- عليه الصلاة والسلام- الجيش ونظمه أحسن نظام وجعل خمسين من الرماة على ثغر خلف الجيش حتى لا يؤتى المسلمون من خلفهم وقال لهم: "لا تبرحوا مكانكم سواء كان لنا أو علينا" (2) .
ولما رأى هؤلاء الرماة أن الكفار انهزموا وأن المسلمين بدؤا يجمعون الغنائم، انطلق منهم أناس وتركوا المكان اعتقادًا منهم أن الأمر قد انتهى، ولكن لما فرغ هذا الثغر، أو كاد يفرغ انطلق رجال
من فرسان قريش نحو الثغر فدخلوا منه واختلطوا بالمسلمين من خلفهم وكان ما قضاه الله بحكمته- عز وجل- (3) .
والمهم أن معصية واحدة أدت بهذا النصر الذي بزغ نجمه إلى الخذلان، فإذا كانت هذه المعصية في جند الله- عز وجل- وفيهم رسوله - صلى الله عليه وسلم - أثرت عليهم هذا التأثير قال الله تعالى: (حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 269.
(2) رواه البخاري/كتاب الجهاد/باب ما يكره من التنازع برقم (2818) .
(3) انظر صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب ما يكره من التنازع والاختلاف في الحرب، بر قم (3039) .(25/508)
وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ) (1) يعنى: فاتكم النصر.
ففي هذا عبرة بأن المعاصي لها تأثير في خذلان المرء أمام نفسه، وأمام عدوه. وما أكثر ما كانت المعصية تجر إلى معصية أخرى ثم إلى أخرى، ومن الصغائر إلى الكبائر، ومن الكبائر إلى الكفر.
ولهذا قال بعض العلماء: إن المعاصي بريد الكفر والبريد سيصل إلى غايته أقول: يجب علينا أولاً أن نصحح النية والعقيدة ويكون تصحيح النية والعقيدة بأن يكون قتالنا في سبيل الله لتكون كلمة الله
هي العليا أي: أن تقام شريعة الله تعالى في أرضه بتحكيم كتابه وسنة رسوله في العقيدة والعمل، وعلينا أن نقوم بطاعة الله بامتثال أمره واجتناب نهيه وأن نعلم علم اليقين أن للمعاصي تأثيرًا بالغًا في تأخر النصر، وأنها قد تحول بين الإنسان والنصر حتى يصل إلى الخذلان، والمعاصي أيها الأخوة قد تكون بفعل المحرم، وقد تكون بترك الواجب.
ونحن علينا لله- عز وجل- واجبات يومية، وأسبوعية، وواجبات شهرية، وواجبات حولية، بل وعمريه. علينا واجبات يومية لله- عز وجل- وأهم ما علينا من الواجبات اليومية الصلاة
التي قال الله عنها: (إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً) (2)
__________
(1) سورة آل عمران، الآية:
(2) سورة النساء، الآية: 103.(25/509)
كتابًا بمعنى: فرضاً. وموقوتاً: بمعنى ذا وقت.
وهنا مسألة لو أن الصلاة أتت والإنسان في الجو في تدريب عسكري، ولا يتمكن الآن من النزول فماذا يصنع هل يصلى وهو في الجو! أو ينتظر حتى ينزل، أو يفصل بين أن يتمكن من الصلاة قبل
خروج الوقت وبعده؟ أقول: إذا كان الإنسان لا يتمكن من النزول قبل خروج الوقت، فإنه إذا كان يمكنه أن يصلى في الطائرة صلاة تامة صلى ولا بأس، وإذا كان لا يمكنه فإن كان في صلاة يمكن أن يجمعها إلى ما بعدها ثم يصليها بعد النزول فإنه يؤخرها ليجمعها لما بعدها، مثل لو جاء هذا التمرين في وقت صلاة الظهر، ولا يتمكن من النزول إلا بعد دخول وقت العصر، ولا يتمكن من أداء الصلاة تامة في الطائرة فإنه يؤخر صلاة الظهر إلى صلاة العصر جمعًا؛ لأن الجمع جائز إذا لحق بتركه مشقة قال ابن عباس- رضي الله عنهما- "جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء في المدينة من غير خوف ولا مطر". قالوا: ما أراد؟ قال: "أراد أن لا يحرج أمته ". (1) أي: أن لا يلحقها الحرج.
__________
(1) رواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب الجمع في الصلاتين في الحضر، برقم (750) ، وأصله في البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب تأخير الظهر إلى العصر، برقم (543) ، دون قوله: أراد أن لا يحرج أمته.(25/510)
أما إذا كانت الصلاة لا تجمع إلى ما بعدها كما لو كانت صلاة العصر، أو صلاة العشاء، أو صلاة الفجر، فإنه لا يؤخرها عن الوقت بل يصليها على حسب حاله ويأتي بما يقدر عليه من أركانها
وواجباتها وشروطها لقوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم) (1) وقوله في نفس الصلاة: (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا) (2) أيها الأخوة: إنني أدعوكم إلى إخلاص النية، وإصلاح العمل بفعل ما أمر الله به وترك ما نهى عنه، والدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالحكمة، وليست الحكمة أن تسكتوا عن المنكر، أو تتغاضوا عن الواجب، ولكن الحكمة أن تآلفوا على دين الله ولا تتفرقوا فيه، وإياكم أن تأخذكم العزة بالإثم، أو الغيرة التي تدفعكم إلى العنف والشدة فإن ذلك لا يجدي شيئا، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق مالا يعطي على العنف " (3) .
هذه وصية أرجو أن تكون نصب أعينكم فإنه لا يخلو مجتمع كبير من أن يكون فيه شيء لا يرضى به بعض عن بعض، ولكن لابد أن
__________
(1) سورة التغابن، الآية: 16.
(2) سورة البقرة، الآية: 239.
(3) رواه مسلم، كتاب البر والصلة، باب فضل الرفق، برقم (2593) .(25/511)
نحل هذه الأمور بالتآلف والتآخي، وأن نشعر أننا شيء واحد فيما يواجهنا.
وإنني أشكر الله أننا في هذه البلاد ولله الحمد لم نسلك ما سلكه غيرنا من إلزام الطلبة ومن فوق الطلبة بما حرم الله- عز وجل- عليهم فإن من الناس السفهاء في غير هذه البلاد من لا يرضون أن
ينتسب جندي أو عسكري إلى الجندية أو العسكرية حتى يفعل ما حَرَّمَ الله عليه وحتى يفعل ما هو معصية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى إننا سمعنا أن بعضهم يلزمهم بان يحلقوا لحاهم؛ أي أن هذا المسكين ألزمهم بمعصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أدرى عن هذا المسكين السفيه هل هو يريد أن ينتصر بأسم الإسلام وهو يأمر بمعصية رسول الإسلام - صلى الله عليه وسلم -؟! أين الانتصار؟! كيف ننتصر على عدونا ونحن لم ننتصر على أنفسنا؟!
ولهذا لو أن أحدًا أمر شخصا بمثل هذا الأمر أو غيره من معصية الله فإن بإمكان المأمور بل يجب عليه أن يقول: لا سمعا ولا طاعة لأن الله- عز وجل- يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (1) .
تأمل: هذه ثلاثة أوامر: أمر الله، وأمر الرسول، وأمر أولي الأمر.
__________
(1) سورة النساء، الآية: 59.(25/512)
ولكن هناك فرق بين طاعة أمر الرسول وأمر أولي الأمر، فطاعة الرسول كرر فيها فعل الأمر (أَطِيعُوا الرَّسُولَ) إذن فطاعة الله مستقلة، وطاعة الرسول مستقلة؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يأمر بما يخالف أمر الله.
أما طاعة أولي الأمر فإن الله تعالى جعلها تبعًا فقال (وَأُولِي الْأَمْرِ) ولم يقل: وأطيعوا أولي الأمر، فمن ثم كانت طاعة ولاة الأمور تابعة لطاعة الله ورسوله، لأنهم ربما يأمرون بما يخالف أمر الله ورسوله،
فإن أمروا بما فيه مخالفة أمر الله ورسوله فإنهم لا يستحقون أن يطاع أمرهم؛ لأن الله تعالى جعل أمرهم تبعًا لأمر الله ورسوله، ولهذا لما بعث النبي عليه والصلاة والسلام رجلاً على سرية وأمرهم بطاعته فصار في نفسه شيء عليهم، فأمرهم أن يجمعوا حطبا ويوقدوا فيه النار وأن يلقوا أنفسهم في النار، ولكن بعضهم قال لبعض: كيف نلقي أنفسنا في النار ونحن لم نؤمن بالرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا خوفًا منها؟
وامتنعوا، فلما قدموا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبروه الخبر قال: "لو دخلوها ما خرجوا منها، إلى يوم القيامة، الطاعة في المعروف" (1) ولكن إذا أمرك من هو فوقك بأمر خلاف أمر الله ورسوله فهل من الحكمة أن تقول
__________
(1) رواه البخاري، كتاب المغازي، باب سرية عبد الله بن حذافة، برقم (4340) ، ومسلم، كتاب للإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، برقم (1840) .(25/513)
أمام الناس لا سمعًا ولا طاعة؟ أو من الحكمة أن تنتظر ولا تنفذ المعصية؟
ولكن تقول لهذا الذي فوقك فيما بعد إن هذا أمر مخالف لأمر الله ورسوله، لأنه قد يكون الآمر جاهلاً بأن ذلك مخالف لأمر الله ورسوله، أو يكون الآمر متأولاً لأمر الله ورسوله، فإن كان جاهلاً
فإنه يزول بالتعليم بإبلاغه حكم الله ورسوله، وإن كان متأولاً فإن داءه يزول بالمناقشة، لأن المتأول لنص من نصوص الشرع إذا كان تأويله خطأ فإنه يداوى بالمناقشة معه في هذا النص الذي أوله،
وحينئذ يكون من الحكمة ألا يقوم المأمور أمام من فوقه وأمام الناس فيقول: لا سمعًا ولا طاعة. إني أرى- وأستغفر الله إن كنت أخطأت- أن الأولى أن يسكت ولا ينفذ المعصية، ثم بعد ذلك
يتفاهم مع هذا الذي أمر، أما أن ينفذ شيئا يعتقد أنه معصية لله ورسوله فإن هذا لا يجوز، لأن هذا من تقديم أمر المخلوق على أمر الخالق، وأنت يوم القيامة، بل قبل يوم القيامة سوف تنفرد بعملك
ولا ينفعك الآمر ولا الترقية، ولا يضرك إذا خالفت الأمر في طاعة الله وحصل لك بعض العقوبات.
أيها الأخوة: إن علينا جميعًا أن نعتمد على الله وأن نأخذ بأسباب النصر ومنها:(25/514)
أولاً: إخلاص النية لله بأن ننوي بجهادنا إعلاء كلمة الله، وتثبيت شريعته، وتحكيم كتابه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
ثانيًا: أن نلتزم بالصبر والتقوى، فإن الله مع الصابرين، وإن الله مع المتقين.
علينا أن نصبر على الجهاد وأن نتقي الله تعالى بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، فإن مخالفة أمر الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - من أسباب الخذلان، فهؤلاء الصحابة رضي الله عنهم- كما تقدم- خالف بعضهم في أمر واحد من أوامر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة أحد فكانت الهزيمة عليهم بعد أن كان النصر لهم في أول الأمر، ولكن بعد ذلك تداركهم عفو الله فعفا الله عنهم.
ثالثًا: أن نعرف قدر أنفسنا وألا حول لنا ولا قوة إلا بالله فلا يأخذنا العجب بقوتنا وكثرتنا، فإن الإعجاب بالنفس والاعتزاز بها من دون الله سبب للخذلان، ولقد أعجب الصحابة رضي الله
عنهم، بكثرتهم يوم حُنين، فلم تغنِ عنهم شيئًا، ثم ولوا مدبرين، ولكن الله أنزل سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودًا من الملائكة فكانت العاقبة للمؤمنين.
رابعًا: أن نعد العدة للأعداء مستعملين في كل وقت وحال ما يناسب من الأسلحة والقوة؛ لنرد على سلاح العدو بالمثل، فإذا(25/515)
تحققت هذه الأمور الأربعة فإن الله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (1) ، (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) (2)
وكما أن للنصر أسباباً فكذلك للهزيمة أسباب منها:
أولاً: أن يكون الإنسان مسرفًا على نفسه، مقصرًا في حق ربه، مرتكبا لما حرمه الله عليه، تاركا لما أوجب الله، فتكون الهزيمة تأديبًا له وتكفيرًا لسيئاته.
ثانيًا: الإعجاب بالنفس والقوة، وكثرة العدد والعدة.
ثالثًا: التفرق واختلاف الكلمة قال الله تعالى: (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) (3) .
وقد بين الله في كتابه هذه الأسباب الثلاثة للهزيمة ليحذر الناس منها، ففي غزوة أحد حصل من بعض المسلمين مخالفة فيما أمروا أن يكونوا فيه، وتنازع واختلاف فحصلت الهزيمة قال الله تعالى: (وَمَا
__________
(1) سورة محمد، الآية: 7.
(2) سورة الحج، الآيتان: 40-41.
(3) سورة الأنفال، الآية: 46.(25/516)
أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ) (1) وذكر لذلك حكمًا عظيمة.
وفى حنين أعجب المسلمون بكثرتهم وكانوا اثني عشر ألفا فقال بعضهم: لن نغلب اليوم عن قلة (2) فقال الله تعالى مخبرا عن ذلك: (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (3) .
والحكمة في ذلك: أن يعلم العباد أن النصر من عند الله تعالى، وأن الأسباب ليست وحدها هي الكافية في الانتصار ودحر الأعداء، خصوصًا إذا افتخر العبد بها، ونسي أن الأمور كلها بإذن
الله، وأن العبد إذا وكل إلى قوته وكل إلى ضعف وعجز وعورة، فإذا كانت هذه الأمور الثلاثة:
التفريط في حق الله.
والإعجاب بالنفس.
__________
(1) سورة آل عمران، الآية: 166.
(2) رواه أحمد برقم (2583) .
(3) سورة التوبة، الآيات: 25-27.(25/517)
والتنازع والاختلاف من أسباب الهزيمة فإن الجنود المخلصين لابد أن يتأملوا الأسباب، ومن أين حصلت هزيمتهم؟ ثم يسعوا في القضاء على الداء فتكون النتيجة خيرًا، قال تعالى: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (1)
أيها الأخوة: يقول الله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ) . (2) فأَمَرَ الله تعالى أن نعد لأعداء الله ما استطعنا من قوة.
وكلمة (قوة) : نكرة كما هو ظاهر، وقد فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - المراد بها فقال: "ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي". (3) وقال - صلى الله عليه وسلم - "ارموا واركبوا وأن ترموا أحب إليّ من أن تركبوا". (4) أمر الله تعالى أن نعد ما استطعنا من القوة، وفسر النبي - صلى الله عليه وسلم - القوة بالرمي ثم قال: (وَمِن
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 216.
(2) سورة الأنفال، الآية: 60.
(3) رواه مسلم، كتاب الإمارة، باب فضل الرمي والحث عليه، برقم (1917) .
(4) رواه أبو داود، كتاب الجهاد، باب في الرمي، برقم (2513) ، والنسائي، كتاب الخيل، باب تأديب الرجل فرسه، برقم (3578) وأحمد 532، 28 (17300) .(25/518)
رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ) . (1) الذين لا نعلمهم ويعلمهم الله، قيل: إن المراد بهم من هو بعيد عن مشاهد المؤمنين في ذلك اليوم أي بعيد في مكانه.
وقيل: المراد بهم المنافقون قال الله تعالى: (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) (2) ، لأن المنافقين إذا رأوا عزة الإسلام فنهم سوف يرهبون ويخافون، ولهذا لم يحصل النفاق في الأمة إلا بعد غزوة بدر حين أعز الله المسلمين وأذلَّ المشركين، فالمراد بمن دونهم إما أنهم أناس لم يبلغهم قتال المؤمنين ولم يعلموا بهم، وإما أنهم المنافقون.
أيها الأخوة: إن المسلمين لم يخذلوا ويدعوا الجهاد إلا بسبب ركونهم إلى الدنيا وترفهم وعدم مبالاتهم، وإني لأحمى الروح الطيبة التي كانت من بعض الشباب فيما يتعلق بأفغانستان، فإن من
الشباب من لديه الجرأة والإِقدام العظيم، حتى إن بعضهم يقول أنا أريد أن تفتيني بأن الجهاد فرض عين حتى لا تحرمني الشهادة في سبيل الله، هذا وهو شاب في مقتبل العمر ومقتبل الشباب، وهذا
يدل على نية صادقة، وإني أبشر كل من تمنى أن يقتل شهيدًا في سبيل
__________
(1) سورة الأنفال، الآية: 60.
(2) سورة التوبة، الآية: 101.(25/519)
الله، ولكن لم يمنعه إلا مانع شرعي، أبشره بأنه يكتب له أجر الغازي في سبيل الله وإن مات على فراشه.
أيها الأخوة: لقد ألهم الله حكومتنا في هذه الأيام- وفقها الله تعالى- أن تفتح مكاتب للدفاع الوطني في كل بلد، وهذه أيها الأخوة فرصة أتيحت لكم وستكون بحول الله تعالى فاتحة خير لما بعدها، فيا أيها الشباب انتهزوا هذه الفرصة، انفعوا أنفسكم، انفعوا أمتكم، فأنتم أهل العزيمة، أنتم أهل الإقدام. مرنوا أنفسكم ما دمتم في طور التعلم والتمرن. لا تكونوا جاهلين بأبسط أنواع الدفاع، ترضون لأنفسكم بالتأخر، وأنتم الشباب الذين خلقكم الله وأنشأكم في هذا العصر؛ لتقوموا بما تتطلبه أمور هذا العصر من أساليب الدفاع عن دينكم وأمتكم، وإني لأرجو الله تعالى أن ترى
أمتكم منكم ما تقرُّ بهِ عينها وينشرح له صدرها، وأن يكون هذا عاما ليتكون من هذه البلاد شبابها وكهولها أمة حاملة للسلاح، تقوى على الدفاع عن دينها وحماية أوطانها.
كما نسأل الله تعالى أن يوفق المواطنين للتسارع والتنافس في هذا الميدان النافع، وأن يلهبوا شعور الأمة للتسابق إليه امتثالاً لأمر الله تعالى، وتمشيًا مع رغبة ولاة الأمور، ونسأل الله تعالى أن ينصر دينه، ويعلي كلمته، ويوفق ولاة أمورنا للقيام بما أوجب الله عليهم من(25/520)
رعاية من ولاهم الله عليهم، رعاية تامة يأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر، ويوجهونهم لما فيه صلاح دينهم ودنياهم، وأن يجعلنا جميعًا من المجاهدين في سبيله الناصرين لدينه، إنه جواد كريم،
كما أسأله سبحانه وتعالى أن ينصر إخواننا المجاهدين في كل مكان والحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(25/521)
أحداث حرب الخليج (1)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحق، فبلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وترك أمته على محاجة بيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الأخوة المؤمنون: فإننا نتحدث إليكم هذه الليلة حديث الصراحة، حديث الود، حديث الإيمان بأنكم على ثقة تامة مما أخبر الله به ورسوله فيما يكون من أسباب المصائب وأسباب الحوادث
المزعجة المذهلة في أسبابها ومجرياتها ونتائجها.
أيها الأخوة المؤمنون: إنني أعلم أنه قد سبقني إلى التحدث إليكم إخوة لنا مخلصون، بيَّنوا أكثر مما نبيّن، ولا نستطيع أن نتكلم بمثل ما تكلموا به لما أعطاهم الله- عز وجل- من البيان والفصاحة، ولكن
__________
(1) محاضرة لفضيلة شيخنا- رحمه الله- في جامع الراجحي بمدينة الرياض في 20/2/1411 هـ.(25/522)