رأسه من شدة الحر وما فينا صائم إلا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعبد الله بن رواحة» .
والمسافر على سفر من حين يخرج من بلده حتى يرجع إليها، ولو أقام في البلد التي سافر إليها مدة فهو على سفر مادام على نية أنه لن يقيم فيها بعد انتهاء غرضه الذي سافر إليها من أجله، فيترخص برخص السفر، ولو طالت مدة إقامته لأنه لم يرد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحديد مدة ينقطع بها السفر، والأصل بقاء السفر وثبوت أحكامه حتى يقوم دليل على انقطاعه وانتفاء أحكامه.
ولا فرق في السفر الذي يترخص فيه بين السفر العارض كحج وعمرة وزيارة قريب وتجارة ونحوه، وبين السفر المستمر كسفر أصحاب سيارات الأجرة (التاكسي) أو غيرها من السيارات الكبيرة فإنهم متى خرجوا من بلدهم فهم مسافرون يجوز لهم ما يجوز للمسافرين الآخرين من الفطر في رمضان وقصر الصلاة الرباعية إلى ركعتين، والجمع عند الحاجة إليه بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، والفطر أفضل لهم من الصيام، إذا كان أسهل لهم ويقضونه في أيام الشتاء؛ لأن أصحاب هذه السيارات لهم بلد ينتمون إليها، فمتى كانوا في بلدهم فهم مقيمون، لهم ما للمقيمين وعليهم ما عليهم، ومتى سافروا فهم مسافرون، لهم ما للمسافرين وعليهم ما على المسافرين.
الفصل الرابع: مفسدات الصوم وهي المفطرات
مفسدات الصوم سبعة:
الأول: الجماع، وهو إيلاج الذكر في الفرج، فمتى جامع الصائم فسد صومه، ثم إن كان في نهار رمضان والصوم واجب عليه لزمته الكفارة المغلظة لفحش فعله، وهي عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً، فإن كان الصوم غير واجب(20/107)
عليه كالمسافر يجامع زوجته وهو صائم فعليه القضاء دون الكفارة.
الثاني: إنزال المني بمباشرة، أو تقبيل، أو ضم، أو نحوه، فإن قبل ولم ينزل فلا شيء عليه.
الثالث: الأكل والشرب وهو إيصال الطعام أو الشراب إلى الجوف، سواء كان عن طريق الفم، أم عن طريق الأنف أيًّا كان نوع المطعوم أو المشروب، ولا يجوز للصائم أن يستنشق دخان البخور بحيث يصل إلى جوفه، لأن الدخان جرم، وأما شم الروائح الطيبة فلا بأس بها.
الرابع: ما كان بمعنى الأكل أو الشرب مثل الإبر المغذية التي يستغنى بها عن الأكل والشرب، فأما غير المغذية فلا تفطر؛ سواء كانت عن طريق العرق، أو العضل.
الخامس: إخراج الدم بالحجامة، وعلى قياسه إخراجه بالفصد ونحوه مما يؤثر على البدن كتأثير الحجامة، فأما إخراج الدم اليسير للفحص ونحوه فلا يفطر، لأنه لا يؤثر على البدن من الضعف تأثير الحجامة.
السادس: التقيؤ عمداً، وهو إخراج ما في المعدة من طعام، أو شراب.
السابع: خروج دم الحيض والنفاس.
وهذه المفسدات لا تفطر الصائم إلا بثلاثة شروط:
أحدها: أن يكون عالماً بالحكم، وعالماً بالوقت.
الثاني: أن يكون ذاكراً.
الثالث: أن يكون مختاراً، فلو احتجم يظن أن الحجامة لا تفطر فصومه صحيح، لأنه جاهل بالحكم، وقد قال الله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَاكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَّحِيماً} ، وقال الله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} فقال الله: قد فعلت، وفي الصحيحين عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه جعل عقالين أسود(20/108)
وأبيض تحت وسادته، فجعل يأكل وينظر إليهما، فلما تبين أحدهما من الآخر أمسك عن الأكل يظن أن ذلك معنى قوله تعالى: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّيْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذالِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّيْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذالِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} ثم أخبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنما ذلك بياض النهار وسواد الليل» ولم يأمره بالإعادة، ولو أكل يظن أن الفجر لم يطلع أو أن الشمس قد غربت، ثم تبين خلاف ظنه فصومه صحيح، لأنه جاهل بالوقت. وفي صحيح البخاري عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها
قالت: أفطرنا في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في يوم غيم ثم طلعت الشمس. ولو كان القضاء واجباً لبينه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأن الله أكمل به الدين، ولو بينه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لنقله الصحابة، لأن الله تكفل بحفظ الدين، فلما لم ينقله الصحابة علمنا أنه ليس بواجب، ولأنه مما توفر الدواعي على نقله لأهميته، فلا يمكن إغفاله، ولو أكل ناسياً أنه صائم لم يفطر، لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه» ، متفق عليه. ولو أكره على الأكل، أو تمضمض فتهرب الماء إلى بطنه أو قطر في عينه، فتهرب القطور إلى جوفه، أو احتلم فأنزل منياً فصومه صحيح في ذلك كله لأنه بغير اختياره.
ولا يفطر الصائم بالسواك بل هو سنة له ولغيره في كل وقت في أول النهار وآخره، ويجوز للصائم أن يفعل ما يخفف عنه شدة الحر والعطش كالتبرد بالماء ونحوه، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كان يصب الماء على رأسه وهو(20/109)
صائم من العطش» . وبلّ ابن عمر رضي الله عنهما ثوباً فألقاه على نفسه وهو صائم (1) ، وهذا من اليسر الذي كان الله يريده بنا ولله الحمد والمنة على نعمته وتيسيره.
الفصل الخامس: في التراويح
التراويح: قيام الليل جماعة في رمضان، ووقتها من بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، وقد رغب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قيام رمضان، حيث قال: «من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه» . وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام ذات ليلة في المسجد فصلى بصلاته ناس، ثم صلى من القابلة فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة، أو الرابعة فلم يخرج إليهم، فلما أصبح قال: «قد رأيت الذي صنعتم فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم وذلك في رمضان» .
والسنة أن يقتصر على إحدى عشرة ركعة، يسلم من كل ركعتين، لأن عائشة رضي الله عنها سئلت: كيف كانت صلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في رمضان؟ فقالت: «ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة» . متفق عليه. وفي الموطأ عن محمد بن يوسف (وهو ثقة ثبت) عن السائب بن يزيد (وهو صحابي) أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر(20/110)
أبي بن كعب وتميماً الداري أن يقوما للناس بإحدى عشر ركعة.
وإن زاد على إحدى عشرة ركعة فلا حرج، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن قيام الليل فقال: «مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة، توتر له ما قد صلى» أخرجاه في الصحيحين.
لكن المحافظة على العدد الذي جاءت به السنة مع التأني والتطويل الذي لا يشق على الناس أفضل وأكمل.
وأما ما يفعله بعض الناس من الإسراع المفرط فإنه خلاف المشروع، فإن أدى إلى الإخلال بواجب أو ركن كان مبطلاً للصلاة.
وكثير من الأئمة لا يتأنى في صلاة التراويح وهذا خطأ منهم، فإن الإمام لا يصلي لنفسه فقط، وإنما يصلي لنفسه ولغيره، فهو كالولي يجب عليه فعل الأصلح. وقد ذكر أهل العلم أنه يكره للإمام أن يسرع سرعة تمنع المأمومين فعل ما يسن، فكيف بمن يسرع سرعة تمنع المأمومين فعل ما يجب.
وينبغي للناس أن يحرصوا على إقامة هذه التراويح، وأن لا يضيعوها بالذهاب من مسجد إلى مسجد، فإن من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة وإن نام بعد على فراشه.
ولا بأس بحضور النساء صلاة التراويح إذا أمنت الفتنة بشرط أن يخرجن محتشمات غير متبرجات بزينة ولا متطيبات.
الفصل الثامن: زكاة الفطر
زكاة الفطر فريضة فرضها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند الفطر من رمضان. قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: «فرض رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زكاة الفطر من(20/111)
رمضان على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين» . متفق عليه. وهي صاع من طعام مما يقتاته الا"دميون. قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: «كنا نخرج يوم الفطر في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صاعاً من طعام، وكان طعامنا الشعير والزبيب والأقط والتمر» ، رواه البخاري، فلا تجزىء من الدراهم والفرش واللباس، وأقوات البهائم والأمتعة وغيرها، لأن ذلك خلاف ما أمر به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» أي مردود عليه.
ومقدار الصاع كيلوان وأربعون غراماً من البر الجيد، هذا هو مقدار الصاع النبوي الذي قدر به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الفطرة.
ويجب إخراج الفطرة قبل صلاة العيد، والأفضل إخراجها يوم العيد قبل الصلاة، وتجزىء قبله بيوم أو يومين فقط، ولا تجزىء بعد صلاة العيد لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: «فرض رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات» ، رواه أبو داود وابن ماجه، لكن لو لم يعلم بالعيد إلا بعد الصلاة، أو كان وقت إخراجها في بر، أو بلد ليس فيه مستحق أجزأ إخراجها بعد الصلاة عند تمكنه من إخراجها، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.(20/112)
فوائد تتعلق بالصيام
بسم الله الرحمن الرحيم
تعريف الصيام:
هو التعبد لله عز وجل بالإمساك من طلوع الفجر إلى غروب الشمس عن أشياء مخصوصة وهي المفطرات.
فرض صيام رمضان في السنة الثانية من الهجرة، فصام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسع رمضانات بالإجماع، وكان أول ما فرض الصيام أن الإنسان مخير: إن شاء صام، وإن شاء افتدى، لقوله تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} .
والشاهد على التخيير في بداية الأمر قوله تعالى: {فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} .
والحكمة في ذلك التخيير: أنه لما كان الصيام قد يشق على النفس، لكونه يتضمن ترك المحبوبات، صار الناس فيه أول الأمر مخيرين بين الصيام والإطعام، وهذا من حكمة الله عز وجل.
ثم وجب الصيام فيما بعد هذا التخيير في الآية التي تلت آية التخيير، وهي قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى" أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .(20/113)
شروط وجوب الصيام:
لا يجب أداء إلا على من جمع أوصافاً ستة هي:
1 الإسلام:
وضده الكفر، فلا يجب الصيام على الكافر، ولو صام فإنه لا يصح منه، ومعنى القول بعدم وجوب الصيام على الكافر هو أننا لا نلزمه بالصوم حال كفره، ولا نلزمه بقضائه بعد إسلامه، أما في الآخرة فيعذب على تركه الصيام وعلى جميع العبادات، حتى الأكل والشرب واللباس.
2 البلوغ:
فالصغير لا يجب عليه الصوم، ولكن إن كان يطيقه فقد قال أهل العلم: إن وليه يأمره ليعتاد.
ويحصل البلوغ بواحد من أمور ثلاثة وهي:
أتمام خمس عشرة سنة. ب إنزال المني. ج إنبات العانة.
وهذه الثلاثة تكون في الذكر والأنثى، وتزيد الأنثى بأمر رابع وهو الحيض، فإذا حاضت فقد بلغت، ولو لم يكن لها إلا عشر سنوات.
3 العقل:
ففاقد العقل لا صوم عليه، وليس عليه إطعام.
4 القدرة:
وضد القدرة العجز، وقد ذكر العلماء أن العجز عن الصيام ينقسم إلى قسمين:
1 عجز مستمر لا يرجى زواله، فهذا عليه الإطعام عن كل يوم مسكين، مثل الكبير الذي لا يستطيع الصوم.(20/114)
2 عجز عارض يرجى زواله، فهذا لا يلزمه الصوم أداء، ولكن يلزمه الصوم قضاء، كالمريض مرضاً طارئاً لقوله تعالى: {وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .
5 أن يكون مقيماً:
وضد المقيم المسافر، فالمسافر لا يلزمه أن يصوم، للدليل السابق.
6 الخلو من الموانع:
وهذا الشرط يختص بالإناث، والذي يمنع الصوم هو الحيض والنفاس، فالحائض والنفساء لا يجب عليهما الصوم ولا يصح منهما، وهناك أسباب أخرى مبيحة للفطر غير هذه: كفطر المرأة الحامل خوفاً على حملها، والمرضع خوفاً على رضيعها، ومن أفطر لإنقاذ معصوم من الهلكة حتى ينقذه وما أشبه ذلك.
مفطرات الصوم: (مفسدات الصوم)
1 الأكل. 2 الشرب. 3 الجماع.
ودليلها قوله تعالى: {فَالنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّيْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذالِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} .
4 التقيؤ عمداً: أي أن يقذف ما في بطنه عمداً؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «من ذرعه القيء فلا قضاء عليه، ومن استقاء عمداً(20/115)
فليقض» .
5 الحجامة: إذا ظهر الدم، لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أفطر الحاجم والمحجوم» .
6 ما كان بمعنى الأكل والشرب: مثل الحقن التي يحقن بها المريض ويستغنى بها عن الأكل والشرب.
7 إنزال المني بشهوة إلا أن يكون بغير فعل منه.
أما المذي فلا يفطر، لأن المذي دون المني، ولهذا لا يوجب الغسل، ولا يحرم به ما يحرم على الجنب.
8 خروج دم الحيض والنفاس: وهذا خاص بالمرأة، فمتى خرج من المرأة حيض أو نفاس في أثناء الصوم فسد صومها، ولكن لابد من الخروج، أما إذا أحست به ولم يخرج إلا بعد الغروب فإن صومها صحيح. والدليل على أن الحيض والنفاس مفطر قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم» .
والمفطرات التي تكون باختيار المرء وهي السبعة الأولى لا يفطر بها الإنسان إلا بشروط ثلاثة هي:
الشرط الأول: أن يكون عالماً، وضد العالم الجاهل.
فإذا أكل الإنسان وهو جاهل فإنه لا قضاء عليه، والجهل نوعان:
1 جهل بالحكم: مثل أن يتقيأ الإنسان متعمداً لكن لا(20/116)
يدري أن القيء مفسد للصوم، فهذا لا قضاء عليه لأنه جاهل، والدليل على أن الجاهل بالحكم لا يفطر ما ثبت في الصحيحين من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه جعل تحت وسادته عقالين أحدهما أسود، والثاني أبيض، والعقالان هما الحبلان اللذان تعقل بهما الإبل، فجعل ينظر إليهما، فلما تبين له الأبيض من الأسود، أمسك عن الأكل والشرب، فلما غدا إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبره بذلك فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن وسادك لعريض أن وسع الخيط الأبيض والأسود، إنما ذلك بياض النهار وسواد الليل» . ولم يأمره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالقضاء، لأنه كان جاهلاً بمعنى الآية الكريمة.
ب جهل بالوقت: مثل أن يأكل الإنسان يظن أن الفجر لم يطلع، فيتبين أنه قد طلع، فهذا لا قضاء عليه، ومثل أن يفطر في آخر النهار يظن أن الشمس قد غربت ثم يتبين أنها لم تغرب، وهذا أيضاً لا قضاء عليه، والدليل ما رواه البخاري عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنه قالت: «أفطرنا في يوم غيم على عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم طلعت الشمس» (1) .
ووجه الدلالة من هذا لو كان الصوم فاسداً لكان القضاء واجباً، ولو كان القضاء واجباً لأمرهم بذلك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولو أمرهم بذلك لنقل إلينا، لأن ذلك من حفظ الشريعة، فلما لم ينقل علم أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يأمرهم به، ولما لم يأمرهم به علم أن الصوم غير فاسد، فلا قضاء في هذه الحال، ولكن يجب على الإنسان متى علم أن يمسك عن الأكل والشرب، حتى لو كانت اللقمة في فمه وجب عليه لفظها.(20/117)
الشرط الثاني:
أن يكون ذاكراً، فإن كان ناسياً فلا قضاء عليه وصومه صحيح، لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه» .
ولكن متى ذكر وجب عليه الكف، ومن رأى الصائم يأكل أو يشرب فليذكره، لأنه من التعاون على البر والتقوى ولقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فإذا نسيت فذكروني» حين نسي في صلاته.
الشرط الثالث:
أن يكون مختاراً، فإن كان غير مختار لذلك، مثل أن يكره على الأكل والشرب، أو أن يتمضمض فينزل شيء من الماء إلى جوفه، فإنه لا قضاء عليه، ومثل ذلك لو أن الرجل أكره امرأته وهي صائمة على الجماع فجامعها، وهي لا تستطيع مدافعته فإنه لا قضاء عليها، لأنها مكرهة بغير اختيارها.
قاعدة هامة:
كل من أفطر لعذر يبيح الفطر فله أن يستمر على فطره إلى الليل ولا حرج عليه، ولو كان ذلك في نهار رمضان.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(20/118)
مسائل من كتاب الفروع
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد خاتم النبيين، وبعد، فهذه مسائل اخترناها من الفروع، وزدنا عليها ما شاء الله، وذلك أثناء قراءتنا كتاب الصيام في شعبان سنة 1931هـ نسأل الله التوفيق في الدنيا والآخرة.
المسألة الأولى:
إذا غم الهلال ليلة الثلاثين من شعبان ففي صيام يوم الإغماء أقوال:
القول الأول: وجوب صومه، اختاره الأصحاب وجعلوه المذهب عندهم، وقالوا: نصوص أحمد تدل عليه، قال المؤلف: كذا قالوا، ولم أجد عن أحمد أنه صرح بالوجوب، ولا أمر به، فلا تتوجه إضافته إليه، ثم رد جميع ما احتج به الأصحاب للوجوب.
القول الثاني: أن صومه مباح، وأنه لا يجب صيام رمضان إلا برؤية هلاله، أو إكمال شعبان ثلاثين يوماً، وهو رواية عن أحمد، اختارها شيخ الإسلام، وقال: هو مذهب أحمد المنصوص الصريح عنه.
القول الثالث: يستحب صومه.
القول الرابع: يكره صومه، ذكره ابن عقيل رواية.
القول الخامس: يحرم صومه، ونقله حنبل عن أحمد، وهو مذهب مالك والشافعي.(20/119)
القول السادس: الناس تبع للإمام إن صام صاموا، وإلا فلا، وهو رواية عن الإمام أحمد.
القول السابع: العمل بالعادة الغالبة: كمضي شهرين كاملين فيكون الثالث ناقصاً، عمل بذلك ابن عقيل في موضع من الفنون، وجعله معنى التقدير في قوله: «فإن غم عليكم فاقدروا له» .
وأصح الأقوال أن صومه محرم، لقول عمار بن ياسر: «من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . ذكره البخاري تعليقاً، ووصله الخمسة، وصححه ابن خزيمة وابن حبان، وهذا اختيار صاحب تصحيح الفروع، حيث قال: ظاهرالنهي التحريم، إلا أن يصرفه عن ذلك دليل اه.
المسألة الثانية:
إذا ثبت الهلال ببلد فهل يشمل الحكم جميع الناس في ذلك أقوال:
القول الأول: يشمل الحكم جميع الناس، فيلزمهم الصيام في هلال رمضان، والفطر في هلال شوال، وهو المشهور من المذهب، وكأن صاحب الفروع يميل إلى تضعيفه، حيث تعقب في معرض سياق أدلته جميع ما احتجوا به، وقال: دليل المسألة من العموم يقتضي التسوية. يعني بين اختلاف الأحكام بالغروب والطلوع والزوال، حيث كان لكل بلد حكمه وبين اختلافها في مطالع القمر.
القول الثاني: يشمل الحكم ما اتفقت مطالعه من البلاد دون(20/120)
ما اختلفت، وهو الأصح للشافعية، وذكره صاحب الفروع والاختيارات اختيار الشيخ تقي الدين، لكن نقل ابن القاسم في مجموع الفتاوى عن الشيخ (ص 501 ج 52) : أنه متى شهد شاهد ليلة الثلاثين من شعبان أنه رآه بمكان من الأمكنة قريب أو بعيد لزم الصوم. وفي (ص 701 من المجلد المذكور) : والضابط أن مدار هذا الأمر على البلوغ لقوله: «صوموا لرؤيته» ، فمن بلغه أنه رؤي ثبت في حقه من غير تحديد بمسافة أصلاً، وفي (ص 901 منه) : ولو قيل: إذا بلغهم الخبر في أثناء الشهر لم يبنوا إلا على رؤيتهم، بخلاف ما إذا بلغهم في اليوم الأول لكان له وجه. وفي (ص 111 منه) : فتلخص أن من بلغه رؤية الهلال في الوقت الذي يؤدى بتلك الرؤية الصوم، أو الفطر، أو النسك وجب اعتبار ذلك بلا شك. والنصوص وآثار السلف تدل على ذلك. ومن لم يبلغه إلا بعد الأداء وهو مما لا يقضى كالعيد المفعول، والنسك، فهذا لا تأثير له، وأما إذا بلغه في أثناء المدة فهل يؤثر في وجوب القضاء، وفي بناء الفطر عليه، وبقية الأحكام والقضاء؟ يظهر لي أنه لا يجب، وفي بناء الفطر عليه نظر. اه كلام الشيخ رحمه الله.
وهذا القول أعني القول بأن الحكم يختلف باختلاف المطالع هو الراجح أثراً ونظراً.
القول الثالث: يشمل الحكم من دون المسافة، فإن كان بين البلدين مسافة قصر لم يثبت لأحدهما حكم الآخر. اختاره في(20/121)
الرعاية، وذكره في شرح مسلم أنه الأصح للشافعية.
القول الرابع: إن كان الإقليم واحداً شمل الحكم الجميع وإلا فلا، اختاره بعض الشافعية.
القول الخامس: يشمل الحكم بلد الرؤية وما كان تابعاً له في العمل دون غيره، إلا أن يحمل الإمام الناس على ذلك.
القول السادس: يختص الحكم ببلد الرؤية فقط، حكاه النووي في المجموع نقلاً عن ابن المنذر عن عكرمة، والقاسم، وسالم، وإسحاق بن راهويه.
القول السابع: إنه إذا كان البلدان يشتركان في جزء من الليل اشتركا في حكم الهلال وإلا فلا. قاله محمد إسماعيل إبراهيم، ويتفرع على ذلك: ما لو سافر من بلد إلى بلد خالفه في ثبوت الشهر، فالمشهور من مذهب أحمد أنه يبنى على أسبق البلدين، لأنه متى ثبت بمكان شمل الحكم جميع الناس، فإذا سافر من بلد ثبت فيه الشهر ليلة الجمعة إلى بلد ثبت فيه ليلة السبت وتم شهر ولم ير الهلال لزمه الفطر. وإن سافر من بلد ثبت فيه ليلة السبت إلى بلد ثبت فيه ليلة الجمعة فأفطروا أفطر معهم وقضى يوماً.
وأما الشافعية فعندهم في ذلك وجهان:
أحدهما: اعتبار البلد المنتقل إليه فيفطر معهم وإن لم يكمل، ويقضي يوماً، وكذلك إن أكمل الثلاثين ولم يفطروا فيصوم معهم.
والثاني: اعتبار البلد المنتقل منه، فيلزمه الصوم في المسألة الأولى وإن كانوا مفطرين، والفطر في الثانية وإن كانوا صائمين.(20/122)
المسألة الثالثة:
إذا ثبتت الرؤية في أثناء النهار فماذا يلزم؟ في هذا خلاف على أقوال:
القول الأول: يلزمه الإمساك والقضاء، وهذا مذهب الأئمة الأربعة.
القول الثاني: يلزمه القضاء دون الإمساك، قاله عطاء، وحكاه أبو الخطاب رواية.
القول الثالث: يلزمه الإمساك دون القضاء، قاله الشيخ تقي الدين.
وهذا القول أرجح الأقوال، لأنه لا تكليف إلا بعد العلم، وقد أفطر الناس في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظانين غروب الشمس، ولم يأمرهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالقضاء فإذا لم يؤمروا بالقضاء في هذه الحال التي الأصل فيها بقاء اليوم وعدم الغروب، فكذلك إذا أكلوا في يوم الأصل فيه بقاء شعبان بل هذا أولى.
المسألة الرابعة:
إذا طرأ شرط التكليف والصوم في أثناء اليوم كإسلام كافر وبلوغ صبي، وإفاقة مجنون، ففي حكم ذلك اليوم أقوال:
القول الأول: وجوب الإمساك والقضاء وهو المشهور من مذهب أحمد.
القول الثاني: وجوب الإمساك دون القضاء، وهو مذهب أبي حنيفة. قال الزركشي: وحكاه أبو العباس رواية فيما أظن،(20/123)
واختارها اه وهذا هو القول الوسط وأقرب إلى الصحة.
القول الثالث: لا يجب الإمساك ولا القضاء، وهو مذهب الشافعي، ومالك، ورواية عن أحمد.
المسألة الخامسة:
إذا زال مانع الوجوب في أثناء اليوم وهو مفطر: كقدوم المسافر وطهارة الحائض وبرء المريض، ففي حكم ذلك قولان:
القول الأول: وجوب الإمساك والقضاء، وهو المشهور من المذهب ومذهب أبي حنيفة.
القول الثاني: وجوب القضاء دون الإمساك، وهو رواية عن أحمد، ومذهب مالك والشافعي، وهذا القول أصح، لأن الإمساك لا يستفيدون به شيئاً. ووقت الوجوب كانوا فيه غير أهل له، وعلى هذا فلو قدم المسافر مفطراً ووجد امرأته طاهراً من الحيض يوم قدومه فله وطؤها.
أما إذا زال مانع الوجوب وهو صائم كقدوم المسافر صائماً، وبرء المريض فيلزمهم الإتمام قولاً واحداً.
المسألة السادسة:
إذا طرأ مانع الوجوب أو الصحة في أثناء اليوم، وفي ذلك عدة مسائل:
1 إذا ارتد في أثناء اليوم بطل صومه ولزمه القضاء، وقال أبو حنيفة: لا يقضي، وقال صاحب المحرر: ينبني على الروايتين فيما إذا وجد الموجب في بعض اليوم، فإن قلنا: يجب وجب هنا، وإلا فلا اه. والأصح وجوب القضاء عليه، لأنه من أهل(20/124)
الوجوب حين تعين الإمساك.
2 إذا حاضت المرأة في أثناء اليوم فقال الإمام أحمد: تمسك، قال في الفروع: وظاهر كلامهم لا إمساك مع المانع، وهو أظهر. قلت: وهذا هو المذهب وهو المقطوع به، ويلزمها القضاء.
3 إذا جنّ في أثناء النهار فهل يلزمه القضاء؟ ينبني على الروايتين في إفاقته في أثناء النهار بجامع أنه أدرك جزءاً من الوقت، وسبق في المسألة الرابعة، والذي يظهر هنا أنه يقضي، لأنه كان حين تعين الإمساك من أهل الوجوب. هذا إذا قلنا بأن الجنون مبطل للصوم قليله وكثيره، كما هو اختيار المجد وابن البناء، ولكن قال في الفروع: الجنون كالإغماء، فعلى هذا القول لا يبطل الصوم بالجنون، وهو المذهب.
4 إذا سافر في أثناء النهار جاز له الفطر، والأفضل عدمه، وهذا هو المذهب، لكن لا يفطر قبل خروجه من البلد، خلافاً للحسن وإسحاق وعطاء، وعن أحمد رواية ثانية: لا يجوز له الفطر إذا سافر في أثناء النهار، فالأقوال ثلاثة.
5 إذا مرض في أثناء النهار، أو خاف المرض بعطش ونحوه فله الفطر بالإجماع، قاله في الفروع ص 12 ج 2.
المسألة السابعة في النية:
النية إما أن تكون في صوم واجب، أو في صوم تطوع.
فإن كانت في صوم واجب، ففيها أقوال:
الأول: أنها تجب من الليل، وفاقاً لمالك والشافعي.(20/125)
الثاني: إن كان الصوم في رمضان، أو نذر معين أجزأت قبل الزوال لا بعده. ومذهب أبي حنفية.
الثالث: أن النية تجزىء في كل صوم من الليل وفي النهار قبل الزوال أو بعده، قاله الأوزاعي، وحكي عن ابن المسيب.
ولا تصح نية صوم يوم قبل ليلته، فلا تصح في نهار يوم لصوم الغد وفاقاً للأئمة الثلاثة، وعن أحمد تصح. وعن أحمد أيضاً تصح في أول رمضان نية واحدة لجميعه، فإن أفطر منه يوماً لعذر أو غيره لم يصح صيام الباقي إلا بنية مجددة، وقيل: يصح.
وأما إن كانت النية في صوم تطوع فإنها تصح قبل الزوال وبعده، وعنه لا تصح بعده، ومذهب مالك وداود هو كالفرض تسوية بينهما.
واختلف القائلون بصحة النية في النهار هل يثاب على الصوم من النية، أو من أول النهار، على ثلاثة أقوال:
أحدها: من النية، اختاره الموفق وغيره، وهو أظهر.
الثاني: من أول النهار، اختاره صاحب المحرر.
الثالث: إن نوى قبل الزوال فالثواب من أول النهار، وإلا فمن النية.
المسألة الثامنة:
هل يشترط في النية التعيين، أو يكفي نية الصوم، في هذه المسألة ثلاثة أقوال:
الأول: اشتراط التعيين، وفاقاً لمالك والشافعي، وهو المشهور من المذهب.(20/126)
الثاني: لا يشترط التعيين في رمضان خاصة وفاقاً لأبي حنيفة، وعلى هذا يصح بنية مطلقة ونية نفل ونحوه، وبنية فرض تردد فيها بأن نوى ليلة الشك إن كان من رمضان فهو فرض وإلا فهو نفل، فيجزىء إن تبين منه، وهذه رواية عن أحمد، وعنه رواية ثالثة تصح نية فرض تردد فيها مع الغيم لا مع الصحو.
الثالث: لا يشترط التعيين إن كان جاهلاً، وإن كان عالماً فهو شرط، اختاره الشيخ تقي الدين.
المسألة التاسعة: المفطرات:
المفطرات هي:
1 الأكل والشرب بالإجماع، أي ما وصل إلى الجوف من طريق الفم، سواء كان يغذي أو لا. وقال الحسن بن صالح: لا يفطر فيما ليس بطعام ولا شراب مثل أن يستف تراباً. وقال بعض المالكية: لا يفطر فيما لا يغذي ولا يماع في الجوف كالحصاة ونحوها.
2 الاستعاط بدهن أو غيره إن وصل إلى حلقه أو دماغه، وقال مالك: لا يفطر فيما وصل إلى الدماغ، وقال في الكافي: يفطر بما وصل من ذلك إلى خياشيمه. وقال الحسن بن صالح وداود: لا يفطر بواصل من غير الفم؛ لأن النص إنما حرم الأكل والشرب والجماع. وقال الشيخ تقي الدين في رسالته «حقيقة الصيام» : ليس في الأدلة ما يقتضي أن المفطر الذي جعله الله ورسوله مفطراً هو ما كان واصلاً إلى دماغ، أو بدن، أو ما كان داخلاً من منفذ، أو واصلاً إلى الجوف،(20/127)
ونحو ذلك من المعاني التي يجعلها أصحاب هذه الأقاويل هي مناط الحكم عند الله وعند رسوله اه.
3 الاكتحال بكحل يعلم وصوله إلى حلقه، ومذهب مالك والشافعي: لا يفطر بذلك، واختاره الشيخ تقي الدين، وقال: فإن قيل: بل الكحل قد ينزل إلى الجوف ويستحيل دماً. قيل: هذا كما يقال في البخار الذي يصعد من الأنف إلى الدماغ فيستحيل دماً. وكالدهن الذي يشربه الجسم، والممنوع منه إنما هو ما يصل إلى المعدة فيستحيل دماً ويتوزع على البدن.
4 التقطير في الأذن إن دخل دماغه، وقال مالك: إن دخل حلقه أفطر وإلا فلا، وقال الأوزاعي، والليث، والحسن بن صالح وداود: لا يفطر إن وصل إلى دماغه.
5 الحقنة، وقاله الشافعي، وعن مالك خلاف، واختار الشيخ تقي الدين: أنه لا فطر بالحقنة، وقال به الحسن بن صالح وداود. قال الشيخ محمد رشيد رضا عن قول الشيخ تقي الدين: إن قوله حق، ولكن يوجد في هذا الزمان حقن أخر، وهو إيصال بعض المواد المغذية إلى الأمعاء، يقصد بها تغذية بعض المرضى، والأمعاء من الجهاز الهضمي كالمعدة، وقد تغني عنها، فهذا النوع من الحقن يفطر الصائم فهو لا يباح له إلا في المرض المبيح للفطر. اه
6 وصول الدواء إلى جوفه، أو دماغه من دواء جرح، أو جائفة، أو مأمومة. ومذهب مالك: لا فطر بذلك، وهو قول(20/128)
أبي يوسف ومحمد، واختاره الشيخ تقي الدين.
ومثل ذلك لو طعنه أحد بأمره، أو طعن نفسه بما يعلم وصوله إلى جوفه أو دماغه، إلا أن مالكاً لم يذكر عنه أنه خالف في ذلك.
7 الجماع بذكر أصلي في فرج أصلي.
8 الحجامة إن ظهر دم فيفطر الحاجم والمحجوم، وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة: لا فطر بذلك، وقال الشيخ تقي الدين: لا يفطر الحاجم إلا أن يمص القارورة. وقال ابن عقيل: يحصل الفطر بالحجامة وإن لم يخرج دم، وجزم به في المستوعب والرعاية.
ولا فطر بخروج الدم في غير الحجامة، سواء خرج بنفسه، أو بمحاولة، وقال الشيخ تقي الدين: يفطر من أخرج دمه برعاف أو غيره، وقاله الأوزاعي في الرعاف، وذكر في التلخيص وجهين في الفطر بالفصد، وأن أصحهما عدم الفطر، وقال في الرعاية: يحتمل التشريط وجهين. وقال: الأولى إفطار المفصود والمشروط، دون الفاصد والشارط. اه.
9 القيء إذا استقاء فقاء أي شيء كان. وقال به مالك والشافعي وعن أحمد: يفطر بملء الفم، وقال به أبو حنيفة، واختاره ابن عقيل، وقال القاضي: إن فحش أفطر. قال في الفروع: ويتوجه احتمال لا يفطر القيء، وذكره البخاري عن أبي هريرة، ويروى عن ابن مسعود، وابن عباس، وعكرمة،(20/129)
وقاله بعض المالكية. وقال ابن عقيل في مفرداته: إنه إذا قاء بنظره إلى ما يغثيه يفطر كالنظر والفكر.
01 الإمناء بالمباشرة ونحوها كالاستمناء، وقال به أبو حنيفة ومالك والشافعي، وقد نقض في الفروع ما احتج به على الفطر، ثم قال: ويتوجه احتمال لا يفطر بذلك. وقاله داود، وإن صح إجماع قبله كما قد ادعى تعين القول به. اه
11 الإمذاء بالمباشرة ونحوها كالاستمناء، وقاله مالك، ومذهب أبي حنيفة والشافعي: لا فطر به اختاره الا"جري، وأبو محمد الجوزي، والشيخ تقي الدين. قال في الفروع: وهو أظهر.
21 الإمناء بتكرار النظر خلافاً لأبي حنيفة والشافعي والا"جري وإن أمذى بذلك لم يفطر خلافاً لمالك. وإن لم يكرر النظر لم يفطر وفاقاً لمالك والشافعي. وقيل: يفطر وفاقاً لمالك، ونص أحمد يفطر بالمني دون المذي.
31 الإمناء بالتفكير وظاهر كلامه: لا يفطر، خلافاً لمالك، وابن عقيل، وأبي حفص البرمكي، وهو أشهر، لأنه دون المباشرة وتكرار النظر.
41 الموت فيطعم من تركته في نذر وكفارة، كذا في الفروع ولم يذكر خلافاً، والصواب: أنه لا يجب الإطعام، لأن هذا قام بالواجب ما استطاع.
51 المباشرة بتقبيل، أو نحوه لمن تحرك شهوته، حكاه ابن(20/130)
المنذر عن ابن مسعود، وحكاه الخطابي عنه وعن المسيب، وجمهور العلماء: لا يفطر، وحكاه ابن عبد البر إجماعاً.
شروط الفطر بما ذكر:
يشترط للفطر بهذه المفطرات شروط:
الأول: أن يكون ذاكراً، فلا يفطر الناسي، خلافاً لمالك، إلا في الجماع فيفطر، وعنه لا، وفاقاً لأبي حنيفة والشافعي، اختاره الا"جرى وأبو محمد الجوزي، والشيخ تقي الدين، وذكره في شرح مسلم قول جمهور العلماء، وقيل: يفطر الناسي بالوطء دون الفرج، والاستمناء ومقدمات الجماع، والحجامة.
الثاني: أن يكون مختاراً، فإن كان مكرهاً فلا فطر، خلافاً لأبي حنيفة ومالك، وسواء أكره على الفعل حتى فعل، أو فعل به بأن صب في حلقه الماء مكرهاً، وإن أوجر المغمى عليه معالجة لم يفطر، وقيل: يفطر لرضاه به ظاهراً، فكأنه قصده. وإن أكره الصائم على الوطء أفطر، فاعلاً كان أو مفعولاً به في ظاهر المذهب. وعن أحمد ما يدل على أنه لا فطر، حيث قال: كل أمر غلب عليه الصائم فليس عليه قضاء ولا كفارة، وقيل: يفطر من فعل، لا من فعل به.
ولا يشترط أن يكون عالماً فيفطر الجاهل بالتحريم وفاقاً للأئمة الثلاثة. وقيل: لا يفطر، لأنه لم يتعمد المفسد كالناسي، فلو أكل ناسياً فظن أنه أفطر بذلك فأكل عمداً، فيتوجه أنها مسألة الجاهل بالحكم فيها الخلاف، قاله في الفروع. وهذا هو الصواب.(20/131)
ويفطر الجاهل بالوقت فلو أكل يظن بقاء الليل، أو غروب الشمس، فتبين أنه في النهار لزمه القضاء وفاقاً للأئمة الثلاثة، وقيل: لا يلزمه القضاء، قاله الحسن، وإسحاق، والظاهرية، واختاره الشيخ تقي الدين.
وقيل: يلزمه في الثانية، وهي إذا ظن الغروب دون الأولى، وهي إذا ظن بقاء الليل، قاله مجاهد، وعطاء، واختاره صاحب الرعاية، وبعض الشافعية.
الموجب للكفارة من هذه المفطرات:
الموجب للكفارة من هذه المفطرات هو الجماع إذا كان في نهار رمضان وأفطر به بدون عذر، والمرأة المطاوعة كالرجل، وعنه لا كفارة عليها وفاقاً للشافعي، وعنه يلزمه كفارة واحدة عنهما، وأما المكرهة فلا كفارة عليها، وذكر القاضي رواية: تكفر، وعنه ترجع بها على الزوج، وكذا المعذورة بجهل أو نسيان، وعنه يكفر الواطىء عن المعذورة بإكراه، أو جهل، أو نسيان.
وجماع البهيمة كالا"دمية، وقيل: لا فطر ولا كفارة، وفاقاً لأبي حنيفة، ولا كفارة بغير الجماع المذكور وفاقاً للشافعي، وعن أحمد: يكفر للفطر بالحقنة، وبالاحتجام إن بلغه الخبر، وقيل عنه: يكفر للفطر بأكل، وشرب، واستمناء. ومذهب مالك: يكفر من أكل وشرب، ومذهب أبي حنيفة يكفر منهما إن كان مما يتغذى به، أو يتداوى به.(20/132)
ذكر أشياء في الفطر بها خلاف:
1 إذا أصبح في فيه طعام يمكنه لفظه بأن يتميز عن ريقه، وهو أقل من الحمصة أفطر، خلافاً لأبي حنيفة ومالك.
2 إذا زاد على الثلاث في مضمضة، أو استنشاق، أو بالغ فدخل الماء حلقه بلا قصد لم يفطر، وقيل: يفطر، واختار صاحب المحرر يفطر بالمبالغة للنهي الخاص وعدم ندرة الوصول فيها، بخلاف المجاوزة، وأنه ظاهر كلام أحمد في المجاوزة، يعني أنه يعيد.
3 إذا جمع ريقه فابتلعه لم يفطر، وفاقاً للأئمة الثلاثة، وقيل: يفطر.
4 إذا مضغ علكاً لا يتحلل منه أجزاء كره، وفاقاً للأئمة الثلاثة ويتوجه احتمال لا، لأنه روي عن عائشة، وعطاء، وعلى الأول لو وجد طعمه في حلقه فهل يفطر أم لا؟ على وجهين، وعلة عدم الفطر أن مجرد الطعم لا يفطر، كمن لطخ باطن قدمه بحنظل إجماعاً، بخلاف الكحل فإنه تصل أجزاؤه إلى الحلق.
5 الغيبة لا يفطر بها، قال أحمد: لو كانت الغيبة تفطر ما كان لنا صوم، قال في الفروع: وذكر شيخنا وجهاً في الفطر بغيبة ونميمة ونحوها، فيتوجه منه احتمال يفطر بكل محرم، ويتوجه احتمال تخريج من بطلان الأذان بكل محرم، واختار ابن حزم يفطر بكل معصية.(20/133)
بسم الله الرحمن الرحيم
الصيام
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أفضل المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
صيام رمضان هو أحد أركان الإسلام، وهو الركن الرابع من أركان الإسلام، وفرض صيامه في السنة الثانية من الهجرة، وكان أول ما فرض على التخيير، يخير الإنسان فيه بين أن يصوم أو يفدي، أي يطعم عن كل يوم مسكيناً، ثم تعين الصيام ولم يرخص لأحد في تركه إلا من عذره الله عز وجل، فيكون للصوم مرحلتان:
* المرحلة الأولى: التخيير بين الصيام والفدية.
* المرحلة الثانية: تعيين الصيام.
قال تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى" أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .
ثم إن الصيام ليس خاصًّا بهذه الأمة، بل هو عام لها(20/135)
ولغيرها، كما قال تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} . وفي قوله: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} فائدتان:
الفائدة الأولى: تسلية هذه الأمة، حيث لم يكلفهم الله عز وجل هذا الصيام إلا لأن غيرهم كلفوا به.
الفائدة الثانية: بيان فضل هذه الأمة، حيث استكملت من الفضائل ما كمُل لغيرها.
ثم اعلم أن الصيام كف الإنسان عن المحبوب، والزكاة بذل الإنسان للمحبوب، والصلاة والحج تكليف بدني وعمل وجهد بدني.
فاستكملت هذه الأركان الخمسة جميع أنواع التكليف:
جهد بدني. وبذل للمحبوب. وكف عن المحبوب.
والحكمة من الصيام ليس أن يمنع الإنسان نفسه عن الطعام والشراب والنكاح، ولكن الحكمة منه ما أشار إلله إليه في قوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وما أشار النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: «من لم يدع قول الزور، والعمل به، والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» . فمن لم يصنه صومه عن محارم الله فإن صومه ناقص، وقد فاته الحكمة منه.
قال: «من لم يدع قول الزور» فما هو قول الزور؟
كل قول محرم. «والعمل به» أي: بالزور يعني كل فعل محرم. والجهل يعني العدوان على الناس وعدم الحلم، كما قال الشاعر:(20/136)
ألا لا يجهلن أحدٌ علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا ثم اعلم أن صيام رمضان إنما يجب على الإنسان بشروط ستة:
1 الإسلام. 2 العقل. 3 البلوغ. 4 القدرة. 5 الإقامة.
6 الخلو من الموانع.
أولاً: الإسلام وضده الكفر: فإذا كان الإنسان كافراً فلا يلزمه الصوم بمعنى أننا لا نلزمه أن يصوم، لأنه ليس أهلاً للعبادات، فلو صام لم يقبل منه صومه، قال تعالى: {وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً} . وقال تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاّ" أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ} الآية.
ومن ذلك إذا كان الرجل لا يصلي فإن صومه لا يصح، وهو غير مقبول منه، لأن من لا يصلي كافر، والكافر لا يقبل الله منه العبادة.
ثانياً: العقل: وضده الجنون، فالمجنون لا يجب عليه الصوم، لأن من شرط صحة الصوم النية، والمجنون ليس أهلاً للنية، لأنه لا يعقل، وفي الحديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق» .
ومما يلحق بالجنون فقد العقل لكبر، فإن الإنسان إذا كبر ربما يفقد عقله حتى لا يميز بين الليل والنهار، والقريب والبعيد،(20/137)
ويكون أدنى حالاً من الصبي، فإذا وصل الإنسان إلى هذه الحال فإنه لا يلزمه الصوم كما لا تلزمه الصلاة والطهارة.
الثالث: البلوغ: وضده الصغر: ويكون البلوغ بواحد من ثلاثة بالنسبة للذكر، وبواحد من أمور أربعة بالنسبة للأنثى:
الأول: تمام خمس عشرة سنة.
والثاني: إنبات شعر العانة.
والثالث: إنزال المني بشهوة باحتلام، أو يقظة.
فإذا وجد واحد من هذه الأمور الثلاثة صار الإنسان بالغاً، سواء كان ذكراً أم أنثى، وتزيد الأنثى أمراً رابعاً وهو الحيض، فإذا حاضت فهي بالغة حتى لو حاضت لعشر سنوات فإنها بالغة يلزمها الصوم.
وهنا أقف لأنبه على هذه المسألة التي تخفى على كثير من الناس. فإن بعض الناس إذا بلغت المرأة وهي صغيرة يظن أنها لا تلزمها العبادات، لأنها صغيرة السن، وهذا خطأ، فلو حاضت وعمرها عشر سنين لزمها ما يلزم المرأة التي لها ثلاثون سنة، وبعض النساء تبلغ وهي صغيرة وتخفي الأمر عن أهلها حياء أو خجلاً، وتدع الصوم، أو تصوم في أيام الحيض؟
فهذه المرأة يلزمها قضاء ما تركت من الصوم، وكذلك يلزمها إعادة ما صامته في أيام الحيض.
الرابع: القدرة: وضدها العجز، والعجز عن الصيام ينقسم إلى قسمين:
1 عجز طارىء يرجى زواله كالمرض العادي.
2 عجز دائم مستمر لا يرجى زواله: كالأمراض التي لا يرجى(20/138)
زوالها كالسرطان، والكبر لأن الكبر لا يرجى زواله، هذا النوع من العجز لا يلزم العاجز فيه الصوم، لأنه غير قادر عليه، ولكن يطعم عن كل يوم مسكينا بعدد الأيام، فإذا كان الشهر تسعة وعشرين لزمه أن يطعم تسعة وعشرين مسكيناً، وإذا كان الشهر ثلاثين لزمه أن يطعم ثلاثين مسكيناً، وكيفية الإطعام على وجهين:
الوجه الأول: أن يدعو مساكين بعدد الأيام في آخر الشهر على الغداء إن كان بعد رمضان، أو على العشاء.
الوجه الثاني: أن يطعمهم حبًّا ولحماً يؤدم هذا الحب، ومقدار الحب الذي يجب أن يعطى كل مسكين ربع الصاع، لأن الصاع في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربعة أمداد. وقد حررت الصاع فبلغ «كيلوين وأربعين غراماً» . والصاع لأربعة سيكون مقدار إطعام كل مسكين «نصف كيلو وعشرة جرامات» وإذا زاد الإنسان احتياطاً فلا حرج عليه، لكن هذا هو المقدار الواجب.
أما النوع الثاني من العجز: فهو العجز الطارىء الذي يرجى زواله: كالمرض الطارىء كالزكام والحمى وما أشبهها، فالواجب على هذا المريض أن يقضي إذا أفطر ما أفطره، لقوله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} فهذا المريض الذي يرجى زواله نقول له: أفطر إذا كان الصوم يشق عليك واقض ما أفطرت.
الخامس: أن يكون مقيماً: وضد المقيم المسافر فلا يلزمه الصوم للدليل السابق.(20/139)
السادس: الخلو من الموانع: وهذا خاص بالأنثى بأن لا تكون حائضاً ولا نفساء، لأن الحيض والنفاس يمنع من صحة الصوم، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحائض: «أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم» ، وأجمع المسلمون على أن الصوم لا يصح من الحائض ولا يلزمها، بل يحرم عليها وكذلك النفساء.
ووقت الصيام من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، أي من حين أن يتبين الفجر إلى غروب الشمس، لقوله تعالى: {فَالنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّيْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذالِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} . ولقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم، فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر» ،ولقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا أقبل الليل من هاهنا وأشار إلى المشرق وأدبر النهار من هاهنا وأشار إلى المغرب وغربت الشمس فقد أفطر الصائم» . ففي هذه الآية وهذين الحديثين تحديد لوقت الصيام، وأنه من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
والمفطرات هي: 1 الأكل. 2 الشرب. 3 الجماع.
ودليل هذه الثلاثة في قوله تعالى: {فَالنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ(20/140)
الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّيْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذالِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّيْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذالِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} .
والأكل والشرب لا فرق بين أن يكون المأكول نافعاً، أم غير نافع، حلالاً أم حراماً.
وعلى هذا فلو قدر أن رجلاً ابتلع خرزة عمداً فإنه يفطر، لأن هذا أكل، ولو أن أحداً شرب دخاناً فإنه يفطر لأن هذا شرب.
ولا فرق أيضاً أن يصل هذا الطعام عن طريق الفم، أو عن طريق الأنف، لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث لقيط بن صبرة رضي الله عنه: «بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً» وهذا يدل على أن ما دخل من الأنف إلى الجوف كالذي دخل من الفم.
4 ما كان بمعنى الأكل والشرب.
مثل: الإبر المغذية التي يستغنى بها عن الأكل والشرب، فهذه مفطرة.
لكن قد يقول قائل: ما هو الدليل على أنها مفطرة، لأن كل إنسان يدعي أن هذا الشيء مفطر فإنه يلزم بالدليل، فإن أتى بدليل وإلا فقوله غير مقبول، لأن الأصل في العبادات الصحة حتى يقوم دليل على إفساده، وهذه قاعدة.
وأيضاً: كل ما ثبت بدليل فإنه لا يرتفع إلا بدليل، فقد ثبت هذا الصوم بمقتضى الدليل الشرعي، فلا يمكن أن يرتفع ويفسد إلا بدليل شرعي.(20/141)
فبناءً على هذه القاعدة بل القاعدتين أين الدليل على أن الإبر التي يستغنى بها عن الأكل والشرب تكون مفطرة؟
ج: نقول: الدليل على ذلك أن الله تعالى قال في القرآن: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ} . وقال تعالى: {اللهُ الَّذِى" أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} والميزان هو الذي توزن به الأشياء ويقارن بينها، ونحن إذا وازنا بين هذه الإبر التي يستغنى بها عن الأكل والشرب والأكل والشرب. تكون سواءً في الحكم.
فيكون القول بأنها مفطرة مبنيًّا على القياس، أي قياسها على الأكل والشرب.
فإن قال: هذا القياس غير تام، لأن بينها وبين الأكل والشرب فرقاً عظيماً. وهذا الفرق أن الأكل والشرب يحصل بهما من المنفعة أكثر مما يحصل بهذه الإبر المغذية.
ثانياً: أن الأكل والشرب يحصل به من التلذذ ما لا يحصل بهذه الإبر المغذية، ولهذا تجد الإنسان الذي يتغذى بهذه الإبر في أعظم ما يكون شوقاً إلى الأكل والشرب، أي ينتظر سماح الأطباء له بالأكل والشرب بفارغ الصبر. فما هو الجواب على هذه الشبهة؟
الجواب: أن قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث لقيط بن صبرة رضي الله عنه: «بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً» يدل على أنه لا يشترط أن يتلذذ الإنسان بما يكون مفطراً، فإن ما يصل إلى الجوف عن طريق الأنف لا يحصل به من التلذذ ما يحصل بما(20/142)
إذا وصل عن طريق الفم، وبهذا نعرف أن القياس تام، وأن الإبر التي يستغنى بها عن الطعام والشراب مفطرة، ولأن هذا من باب الاحتياط، وقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» .
ولأن الغالب أن الإنسان لا يحتاج إلى هذه الإبر إلا وهو مريض مرضاً يبيح له الفطر.
5 إنزال المني بشهوة بفعل من الصائم:
فإذا أنزل الصائم المني بشهوة بفعل منه فقد فسد صومه، والدليل أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين قال: «وفي بضع أحدكم صدقة» قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له بها أجر؟ قال: «أرأيتم لو وضعها في الحرام أكان عليه وزر؟» قالوا: نعم، قال: «فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر» . والذي يوضع من الشهوة هو المني، وقد قال الله تعالى في الحديث القدسي في الصائم: «يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي» . هذا هو ما ظهر لي من الدليل على أن المني مفطر.
مسألة: لو أنزل الصائم مذي، كما لو قبَّل زوجته فأمذى فهل يفسد صومه؟
ج: لا يفسد صومه، لأن المذي لا يصح قياسه على المني، لأنه دونه، ولهذا المني يوجب الغسل، والمذي لا يوجب الغسل.(20/143)
وبناء على ذلك نقول: إن المذي لا يفطر ولو بتعمد من الصائم.
قلنا عن المني بشهوة. فإن نزل بغير شهوة مثل أن يكون بالإنسان مرض ينزل معه المني فإنه لا يفطر.
وقلنا: بفعلٍ من الصائم أي باختيار منه. فإن لم يكن بفعل منه فإنه لا يفطر، كما لو فكَّر في الجماع فأنزل، فهذا الذي أنزل بالتفكير لكن ما حرك أي شيء لم يعبث بذكره، ولم يتمرغ على الأرض فقط فكر فأنزل فلا يفسد صومه، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل، أو تتكلم» . وهذا الرجل لم يعمل ولم يتكلم.
6 القيء عمداً:
فإذا تقيأ الإنسان عمداً بأن أخرج الطعام من معدته فإنه يفطر، وإن غلبه القيء بدون قصد فإنه لا يفطر، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من ذرعه القيء فلا قضاء، ومن استقاء عمداً فليقض» .
«من ذرعه القيء» يعني غلبه، هذا هو الدليل الأثري، وهناك دليل نظري وهو أن التقيؤ يضعف البدن، لأنه يخرج الطعام والشراب الذي في المعدة، وإذا خلت المعدة من الطعام والشراب فإن البدن يضعف بالصوم، فكان من مقتضى حكمة الله عز وجل أن يكون القيء مفطراً. فنقول للصائم: لا تتقيأ في صيام الفرض،(20/144)
فإن اضطررت إلى ذلك وصار لابد من التقيؤ فإنك في هذه الحال تفطر، ويجوز لك الأكل والشرب لتعيد للبدن ما فات من قوته.
7 الحجامة:
إذا احتجم الصائم وظهر منه الدم فإنه يفطر والدليل: حديث شداد بن أوس رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «أفطر الحاجم والمحجوم» . وهذا دليل أثري أي ثبت به الأثر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهناك أيضاً دليل نظري وهو ضعف المحجوم بالحجامة، لأن المحجوم يخرج منه الدم بكثرة، وإذا خرج منه الدم بكثرة فإن بدنه يضعف، ويكون الصوم مؤثراً في هذا البدن الذي أصابه الضعف في نزول الدم الكثير منه.
ولهذا نقول: من كان صومه واجباً فإنه لا يجوز أن يحتجم، فإن هاج به الدم واحتاج إلى الحجامة احتجم وأفطر، وله الأكل والشرب لأجل أن يعيد القوة لبدنه.
هل يقاس على الحجامة ما كان بمعناها؟
ج: نعم. يقاس عليها ما كان بمعناها، ومنه أن يسحب من الصائم دم كثير، وهذا يقع أحياناً إذا احتيج إلى دم الصائم ليحقن في إنسان آخر، فإنه يسحب منه دم كثير، ولهذا يضعف البدن، ويعطيه الأطباء شيئاً من السوائل ليرد عليه هذا الضعف الذي حصل بسحب الدم منه، أما ما كان دون الحجامة كسحب الدم للتحليل فهذا لا يضر أي لا يفطر حتى وإن كان عمداً، وكذلك لو رعف أنف الصائم فإنه لا يفطر ولو كثر الدم، لأنه بغير اختياره.(20/145)
8 خروج دم الحيض:
فإذا حاضت المرأة وهي صائمة فسد صومها.
مسألة: لو حاضت المرأة ولم يبق من النهار إلا خمس دقائق فإنه يفسد صومها.
مسألة: لو حاضت بعد غروب الشمس بخمس دقائق فإنه لا يفسد صومها.
والمعروف عند النساء أن المرأة إذا حاضت بعد الغروب وقبل صلاة المغرب فإن صومها يفسد، وهذا غير صحيح، ولهذا أنا أرجو أن تنبهوا النساء على هذه المسألة، فإن هذا يقع عنه السؤال كثيراً.
وبعضهن تقول: إذا حاضت قبل صلاة العشاء فإن صومها ذلك اليوم يكون فاسداً، وهذا خطأ وأشد خطأ من الأول.
مسألة: إذا انتقل وأحست بانتقاله ولكن لم يخرج إلا بعد غروب الشمس فهل صومها صحيح؟
ج: الصحيح أن صومها صحيح، وأنه لا عبرة بانتقاله حتى يخرج، ودليل ذلك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل هل عليها من غسل؟ فقال: «نعم إذا هي رأت الماء» .
وهذا يدل على أن الموجبات للغسل، أو المفسدات للصوم فيما يخرج لابد أن يخرج ويرى، وعليه: فلو أحست بانتقال(20/146)
الحيض قبل غروب الشمس بعشر دقائق، أو أقل ولكن لم يخرج الحيض إلا بعد غروب الشمس فإن صومها صحيح.
شروط المفطرات:
1 العلم. 2 الذكر. 3 الإرادة، أي الاختيار.
العلم ضده الجهل، فالجاهل لا يفطر ولو تناول هذه المفطرات، سواء كان جاهلاً بالحكم، أو جاهلاً بالحال.
الجاهل بالحكم أن يظن أن هذا الشيء لا يفطر، مثل أن يحتجم الصائم وهو لا يعلم أن الحجامة تفطر، فنقول: إن هذا الذي احتجم صيامه صحيح.
الجاهل بالحال أن يظن أن الوقت وقت أكل وشرب، فيأكل ويشرب ظانًّا أنه في وقت يباح له الأكل والشرب.
مثل أن يأكل يظن أن الفجر لم يطلع وقد طلع الفجر، فهذا جاهل بالحال «الوقت» .
وآخر سمع صوتاً في آخر النهار وهو لا يرى الشمس يقول: الله أكبر، فظنه المؤذن، فأفطر ظانًّا أن الشمس قد غربت، ثم تبين له أن النهار باقٍ وأن الشمس لم تغرب فلا يفسد صومه.
الذكر ضده النسيان: فلو أن الإنسان أكل، أو شرب، أو جامع زوجته ناسياً أنه صائم فصومه صحيح، والدليل على اشتراط العلم والذكر، وأن من كان جاهلاً أو ناسياً لم يفسد صومه نوعان:
عام وخاص، فالعام كقوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} والخطأ هو الجهل. وهذه الآية عامة في الصوم(20/147)
وغيره، وقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَاكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَّحِيماً} وهذه الآية عامة.
والخاص في النسيان قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما صح عنه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه» . متفق عليه. وهذا نص صريح بأن الصوم لا يفسد. وذَكر الأكل والشرب لا ينافي ما عداهما، لأنهما ذكرا على سبيل التمثيل.
ودليل الجهل بالحكم حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه حينما أراد أن يصوم، وكان في القرآن الكريم: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّيْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذالِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} فأخذ عقالين: أحدهما أبيض والآخر أسود، وجعلهما تحت وسادته، وجعل يأكل ويشرب وينظر إلى العقالين حتى تبين الأبيض من الأسود فأمسك، فلما أصبح أخبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن وسادك لعريض أن وسع الخيط الأبيض والأسود» ثم قال: «إنما ذلك بياض النهار وسواد الليل» . ومعنى قوله وسادك لعريض: أي يسع الأفق، لأن الخيط الأبيض والأسود، يكون مائلاً للأفق، لأن الخيط الأبيض الذي يحرم به الأكل والشرب على الصائم هو الفجر الصادق الذي يكون مستطيلاً من الشمال إلى الجنوب، ولم يأمره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالقضاء، لأنه كان جاهلاً بالحكم، يظن أن هذا هو معنى الآية الكريمة وليس كذلك.(20/148)
وأما الجهل بالحال:
فالدليل الخاص فيه حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما الذي أخرجه البخاري، قالت: «أفطرنا في يوم غيم على عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم طلعت الشمس» ، فيكون الصحابة رضي الله عنهم أفطروا قبل غروب الشمس لقولها: «ثم طلعت الشمس» وهذا الجهل بالحال لأنهم لم يعلموا أن الشمس باقية، ولم يأمرهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالقضاء، لأنه لو أمرهم بالقضاء لنقل إلينا، إذ أنه أي القضاء يكون من الشريعة، والشريعة لابد أن تنقل وتحفظ فلما لم ينقل أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرهم بالقضاء علم أنه لم يأمرهم به، وإذا لم يأمرهم به فليس بواجب، لأنه لو وجب لأمرهم به.
إذا حصلت هذه المفطرات بغير اختيار من الإنسان فإن صومه صحيح، لو أنه احتلم وهو صائم ونزل منه المني فإن صومه صحيح، لأن ذلك بغير اختياره، ولو توضأ الإنسان وتمضمض ثم نزل شيء من الماء إلى جوفه فصومه صحيح، لأنه لم يتعمد ذلك، ولو مرَّ الصائم بشارع فيه غبار وتطاير شيء من الغبار إلى أنفه فصومه صحيح، لأنه بغير اختياره.
والدليل على هذا الشرط الثالث قوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَاكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَّحِيماً} ، وهذا لم يتعمد، وقوله تعالى: {مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَاكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} . ووجه الدلالة من هذه الآية أنه إذا عذر الإنسان بالإكراه في الكفر فما دونه من باب أولى.(20/149)
هذه المفطرات إذا فعلها الإنسان وقد تمت الشروط الثلاثة، كما لو أكل عالماً، ذاكراً، مختاراً ترتب عليه:
أولاً: الإثم إذا كان الصوم واجباً.
ثانياً: فساد الصوم.
ثالثاً: وجوب الإمساك إن كان في رمضان.
رابعاً: القضاء، هذا إذا كان صومه واجباً.
أما إذا كان الصوم تطوعاً وأفسده فإنه لا يترتب عليه إلا شيء واحد وهو فساد الصوم، وليس عليه إثم ولا قضاء، لأنه تطوع.
ينفرد الجماع بأمر خامس وهو الكفارة، وعلى هذا فمن جامع في نهار رمضان والصوم واجب عليه ترتب على جماعه خمسة أمور:
1 الإثم. 2 فساد الصوم. 3 لزوم الإمساك. 4 وجوب القضاء. 5 وجوب الكفارة.
والكفارة: كفارة مغلظة وهي عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً.
الأدلة على ذلك:
أولاً: الإثم. الدليل فيه ظاهر، لأن هذا صوم واجب أفسده، وكل إنسان يفسد ما وجب فهو آثم.
ثانياً: لزوم الإمساك عقوبة له، لأن نهار رمضان لا يستباح فيه المفطرات إلا بعذر شرعي.
ثالثاً: أما القضاء فواضح، لأنه واجب، والواجب يجب قضاؤه.(20/150)
رابعاً: أما الكفارة بالنسبة لمن جامع في نهار رمضان والصوم واجب عليه فدليله حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، هلكت، فقال: «ما أهلكك؟» قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال: «هل تجد ما تعتق رقبة؟» قال: لا. قال: «فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟» قال: لا. قال: «فهل تجد ما تطعم ستين مسكيناً؟» قال: لا. فكل خصاص الكفارة تعذرت في حقه، ثم جلس الرجل فأتي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعرق فيه تمر، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تصدق بهذا» فقال: أعلى أفقر مني، فضحك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى بدت أنيابه ثم قال: «اذهب فأطعمه أهلك» .
مسألة: لو جامع الإنسان أهله في غير رمضان ولو في قضاء رمضان فهل عليه كفارة؟
ج: لا، ليس عليه كفارة.
مسألة: لو جامعها في نهار رمضان والصوم غير واجب عليه، مثل أن يكون هو وزوجته مسافرين وصائمين في السفر ثم جامعها في رمضان فليس عليه كفارة، لماذا؟
ج: لأنه يباح له الفطر.
مسألة: هل الكحل يفطر؟
ج: لا، لأنه ليس من المفطرات فالمفطرات، محصورة.
مسألة: هل التقطير في الأذن يفطر؟(20/151)
ج: لا، لأنه ليس من المفطرات.
مسألة: هل استنشاق الفيكس يفطر؟
ج: لا يفطر، لأن ليس فيه أجزاء تتصاعد حتى تنزل إلى الجوف، لكن فيه رائحة قوية لا تضر.
قطرة العين كذلك لا تفطر، استنشقاق البخور يفطر إذا وصل إلى الجوف، أما إذا لم يصل إلى الجوف، فإنه لا يفطر، لكن لا شك أن البُعد عنه أولى، لأن الإنسان لا يأمن أن يصل إلى جوفه، ولهذا قال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً» .
مسألة: هل السعوط يفطر أم لا؟
ج: نعم، يفطر إذا وصل إلى الجوف، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال للقيط بن صبرة: «بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً» .
واعلم يا أخي أنك إذا قلت هذا مفطر، والله لم يجعله مفطراً فكما لو قلت عن الشيء الذي جعله الله مفطراً: إن هذا غير مفطر؛ لأن تحليل الحرام كتحريم الحلال، وإيجاب ما لم يجب كإسقاط ما وجب، فالحكم واحد، لأن الشريعة إنما تتلقى من الكتاب والسنة، فالواجب أن نقتصر على ما دل عليه الكتاب والسنة.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(20/152)
باب الاعتكاف
* حكم الاعتكاف.
* حكم الاعتكاف بلا صوم.
* اعتكاف المرأة.
* تضعيف الصلاة في المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى.
* حكم خروج المعتكف.
* مستحبات الاعتكاف.(20/153)
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: عن الاعتكاف وحكمه؟
فأجاب فضيلته بقوله: الاعتكاف هو لزوم الإنسان مسجداً لطاعة الله سبحانه وتعالى، لينفرد به عن الناس، ويشتغل بطاعة الله، ويتفرغ لذلك، وهو في كل مسجد، سواء كان في مسجد تقام فيه الجمعة، أو في مسجد لا تقام فيه، ولكن الأفضل أن يكون في مسجد تقام فيه، حتى لا يضطر إلى الخروج لصلاة الجمعة.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل للاعتكاف أقسام؟
فأجاب فضيلته بقوله: الاعتكاف ليس إلا قسماً واحداً، وهو كما أسلفنا لزوم مسجد لطاعة الله عز وجل، لكن قد يكون أحياناً بصوم، وقد لا يكون بصوم، وقد اختلف أهل العلم: هل يصح الاعتكاف بدون صوم، أو لا يصح إلا بصوم، ولكن الاعتكاف المشروع إنما هو ما كان في ليالي العشر عشر من رمضان، لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يعتكف هذه العشر رجاءً لليلة القدر، ولم يعتكف في غيرها إلا سنة لم يعتكف في رمضان، فقضاه في شوال.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما حكم الاعتكاف؟ وهل يجوز للمعتكف الخروج لقضاء الحاجة(20/155)
والأكل وكذلك الخروج للتداوي؟ وما هي سنن الاعتكاف؟ وكيفية الاعتكاف الصحيح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
فأجاب فضيلته بقوله: الاعتكاف لزوم المساجد للتخلي لطاعة الله عز وجل، وهو مسنون لتحري ليلة القدر، وقد أشار الله تعالى إليه في القرآن بقوله تعالى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذالِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} ، وثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعتكف، واعتكف أصحابه معه، وبقي الاعتكاف مشروعاً لم ينسخ، ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل، ثم اعتكف أزواجه من بعده» . وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعتكف العشر الأول من رمضان، ثم اعتكف العشر الأوسط، ثم قال: «إني أعتكف العشر الأول ألتمس هذه الليلة (يعني ليلة القدر) ثم اعتكفت العشر الأوسط، ثم أتيت فقيل لي: إنها في العشر الأواخر، فمن أحب منكم أن يعتكف فليعتكف» . فاعتكف الناس معه. وقال الإمام أحمد رحمه الله: لا أعلم عن أحد من العلماء خلافاً أن الاعتكاف مسنون.(20/156)
وعلى هذا يكون الاعتكاف مسنوناً بالنص والإجماع.
ومحله المساجد التي تقام فيها الجماعة في أي بلد كان لعموم قوله تعالى: {وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذالِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} . والأفضل أن يكون في المسجد الذي تقام فيه الجمعة، لئلا يحتاج إلى الخروج إليها، فإن اعتكف في غيره فلا بأس أن يبكر إلى صلاة الجمعة.
وينبغي للمعتكف أن يشتغل بطاعة الله عز وجل من صلاة وقراءة قرآن، وذكر الله عز وجل، لأن هذا هو المقصود من الاعتكاف، ولا بأس أن يتحدث إلى أصحابه قليلاً، لاسيما إذا كان في ذلك فائدة.
ويحرم على المعتكف الجماع ومقدماته.
وأما خروجه من المسجد فقد قسمه الفقهاء إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: جائز، وهو الخروج لأمر لابد منه شرعاً، أو طبعاً، كالخروج لصلاة الجمعة، والأكل، والشرب إن لم يكن له من يأتيه بهما، والخروج للوضوء، والغسل الواجبين، ولقضاء حاجة البول والغائط.
القسم الثاني: الخروج لطاعة لا تجب عليه كعيادة المريض، وشهود الجنازة، فإن اشترطه في ابتداء اعتكافه جاز، وإلا فلا.
القسم الثالث: الخروج لأمر ينافي الاعتكاف كالخروج للبيع والشراء، وجماع أهله ونحو ذلك فهذا لا يجوز لا بشرط، ولا بغير شرط.(20/157)
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: عن حكم الاعتكاف في شهر رمضان؟
فأجاب فضيلته بقوله: الاعتكاف في رمضان سنة فعله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حياته، واعتكف أزواجه من بعده، وحكى أهل العلم إجماع العلماء على أنه مسنون، ولكن الاعتكاف ينبغي أن يكون على الوجه الذي من أجله شرع وهو أن يلزم الإنسان مسجداً لطاعة الله سبحانه وتعالى، بحيث يتفرغ من أعمال الدنيا إلى طاعة الله، بعيداً عن شؤون دنياه، ويقوم بأنواع الطاعة من صلاة وقرآن وذكر وغير ذلك، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعتكف ترقباً لليلة القدر، والمعتكف يبعد عن أعمال الدنيا فلا يبيع ولا يشتري، ولا يخرج من المسجد إلا لما لابد منه، ولا يتبع جنازة، ولا يعود مريضاً، وأما ما يفعله بعض الناس من كونهم يعتكفون ثم يأتي إليهم الزوار أثناء الليل وأطراف النهار، ويضيعون أوقاتهم بما لا فائدة فيه، وقد يتخلل ذلك أحاديث محرمة، فذلك مناف لمقصود الاعتكاف، ولكن إذا زاره أحد من أهله وتحدث عنده فذلك لا بأس به، فقد ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام أن زوجته صفية رضي الله عنها زارته وهو معتكف فتحدث معها، المهم أن يجعل الإنسان اعتكافه تقرباً إلى الله سبحانه وتعالى وينتهز فرصة خلوته في طاعة الله عز وجل.(20/158)
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما الحكم إذا لم يسمح الوالد لولده بالاعتكاف وبأسباب غير مقنعة؟
فأجاب فضيلته بقوله: الاعتكاف سنة، وبر الوالدين واجب، والسنة لا يسقط بها الواجب، ولا تعارض الواجب أصلاً، لأن الواجب مقدم عليها، وقد قال تعالى في الحديث القدسي: «ما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضت عليه» فإذا كان أبوك يأمرك بترك الاعتكاف ويذكر أشياء تقتضي أن لا تعتكف، لأنه محتاج إليك فيها، فإن ميزان ذلك عنده وليس عندك، لأنه قد يكون الميزان عندك غير مستقيم وغير عدل، لأنك تهوى الاعتكاف، فتظن أن هذه المبررات ليست مبرراً، وأبوك يرى أنها مبرر، فالذي أنصحك به أن لا تعتكف، لكن لو لم يذكر مبررات لذلك، فإنه لا يلزمك طاعته في هذه الحال؛ لأنه لا يلزمك أن تطيعه في أمر ليس فيه منفعة له، وفيه تفويت منفعة لك.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل يشرع الاعتكاف في غير رمضان؟
فأجاب فضيلته بقوله: المشروع أن يكون في رمضان فقط، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يعتكف في غير رمضان إلا ما كان منه في شوال حين ترك الاعتكاف عاماً في رمضان فاعتكف في شوال، ولكن(20/159)
لو اعتكف الإنسان في غير رمضان لكان هذا جائزاً، لأن عمر رضي الله عنه سأل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «إني نذرت أن أعتكف ليلة، أو يوماً في المسجد الحرام» فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: «أوف بنذرك» لكن لا يؤمر الإنسان ولا يطلب منه أن يعتكف في غير رمضان.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل يجوز الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة؟
فأجاب فضيلته بقوله: يجوز الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة، والمساجد الثلاثة هي: المسجد الحرام، ومسجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمسجد الأقصى، ودليل ذلك عموم قوله تعالى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذالِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} فإن هذه الآية خطاب لجميع المسلمين، ولو قلنا: إن المراد بها المساجد الثلاثة لكان أكثر المسلمين لا يخاطبون بهذه الآية، لأن أكثر المسلمين خارج مكة والمدينة والقدس، وعلى هذا فنقول: إن الاعتكاف جائز في جميع المساجد، وإذا صح الحديث أنه: «لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة» فإن المراد الاعتكاف الأكمل والأفضل، ولا شك أن الاعتكاف في المساجد الثلاثة أفضل من غيره، كما أن الصلاة في المساجد الثلاثة أفضل من غيرها، فالصلاة في المسجد(20/160)
الحرام بمئة ألف صلاة، والصلاة في مسجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خير من ألف صلاة فيما عداه إلا المسجد الحرام، والصلاة في المسجد الأقصى بخمسمائة صلاة.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: عن حكم الاعتكاف في المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى، وجزاكم الله خيراً؟
فأجاب فضيلته بقوله: الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة وهي المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى مشروع في وقته، ولا يختص بالمساجد الثلاثة، بل يكون فيها وفي غيرها من المساجد، هذا قول أئمة المسلمين أصحاب المذاهب المتبوعة كالإمام أحمد، ومالك، والشافعي، وأبي حنيفة وغيرهم رحمهم الله لقوله تعالى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذالِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} ولفظ المساجد عام لجميع المساجد في أقطار الأرض، وقد جاءت هذه الجملة في آخر آيات الصيام الشامل حكمها لجميع الأمة في جميع الأقطار، فهي خطاب لكل من خوطبوا بالصوم، ولهذا ختمت هذه الأحكام المتحدة في السياق والخطاب بقوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذالِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} . ومن البعيد جداً أن يخاطب الله الأمة بخطاب لا يشمل إلا أقل القليل منهم، أما حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: «لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة» فهذا إن سلم من القوادح فهو نفي للكمال،(20/161)
يعني أن الاعتكاف الأكمل ما كان في هذه المساجد الثلاثة، وذلك لشرفها وفضلها على غيرها. ومثل هذا التركيب كثير، أعني أن النفي قد يراد به نفي الكمال، لا نفي الحقيقة والصحة مثل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا صلاة بحضرة طعام» وغيره. ولا شك أن الأصل في النفي أنه نفي للحقيقة الشرعية أو الحسية، لكن إذا وجد دليل يمنع ذلك تعين الأخذ به، كما في حديث حذيفة. هذا على تقدير سلامته من القوادح، والله أعلم.
كتبه الفقير إلى الله محمد الصالح العثيمين في 11/9/ 1409 هـ.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: عن أركان الاعتكاف وشروطه، وهل يصح بلا صوم؟
فأجاب فضيلته بقوله: الاعتكاف ركنه كما أسلفت لزوم المسجد لطاعة الله عز وجل تعبداً له، وتقرباً إليه، وتفرغاً لعبادته، وأما شروطه فهي شروط بقية العبادات فمنها: الإسلام، والعقل، ويصح من غير البالغ، ويصح من الذكر، ومن الأثنى، ويصح بلا صوم، ويصح في كل مسجد.(20/162)
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: المرأة إذا أرادت الاعتكاف فأين تعتكف؟
فأجاب فضيلته بقوله: المرأة إذا أرادت الاعتكاف فإنما تعتكف في المسجد إذا لم يكن في ذلك محذور شرعي، وإن كان في ذلك محذور شرعي فلا تعتكف.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: تفضيل الصلاة في المسجد الحرام هل يشمل النفل والفريضة؟
فأجاب فضيلته بقوله: يشمل النفل والفريضة، فكل صلاة في المسجد الحرام خير من مئة ألف صلاة فيما عداه، فمثلاً تحية المسجد إذا دخلت المسجد الحرام خير من مئة ألف تحية فيما عداه.
وهنا مسألة: وهي هل تحية المسجد الحرام الطواف، أو تحية المسجد الحرام صلاة ركعتين؟
اشتهر عند كثير من الناس أن تحية المسجد الحرام الطواف، وليس كذلك، ولكن تحيته الطواف لمن أراد أن يطوف، فإذا دخل الإنسان المسجد الحرام يريد الطواف فإن طوافه يغني عن تحية المسجد، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل المسجد الحرام للطواف ولم يصل التحية. لكن إذا دخل المسجد الحرام بنية انتظار الصلاة، أو حضور مجلس العلم، أو ما أشبه ذلك فإن تحيته أن يصلي ركعتين كغيره من المساجد، لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين» وهذا يشمل المسجد الحرام.(20/163)
464 سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: من جاء للحج أو العمرة وصلى في مساجد مكة فهل يدرك من المضاعفة في تلك المساجد ما يدركه في المسجد الحرام؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يدرك من المضاعفة ما يدركه من المسجد الحرام، لأنه ثبت في صحيح مسلم عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا مسجد الكعبة» فخص ذلك بمسجد الكعبة.
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل تضعيف أجر الصلاة في المسجد الحرام خاص بالمسجد أو يعم سائر الحرم؟
فأجاب فضيلته بقوله: تضعيف الأجر في الصلاة في المسجد الحرام خاص بالمسجد الذي فيه الكعبة فقط، ولا يشمل ذلك جميع الحرم، لما رواه مسلم في صحيحه باب فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة عن ميمونة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «صلاة فيه أي المسجد النبوي أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا مسجد(20/164)
الكعبة» . هذا هو القول الراجح، وهو ظاهر كلام أصحابنا فقهاء الحنابلة، كما ذكر ذلك صاحب الفروع عنهم، قال في الفروع (ص 006 ج 1 ط آل ثاني) : وظاهر كلامهم في المسجد الحرام أنه نفس المسجد، ومع هذا فالحرم أفضل من الحل فالصلاة فيه أفضل. اه. وذلك لأن المسجد الحرام عند الإطلاق يختص بالمسجد الذي فيه الكعبة، لقوله تعالى: {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَالِكَ جَزَآءُ الْكَافِرِينَ} وقوله: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْءَامَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الأَْخِرِ وَجَاهَدَ فِى سَبِيلِ اللهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} وقوله: {فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَاذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} وقوله: {وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْىَ مَعْكُوفاً
أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ اللهُ فِى رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} ولم يصدوه عن الحرم، وكقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى» . فإن المرء لو شد الرحل إلى مسجد الشعب، أو مسجد الجودرية، أو مسجد الخيف، أو غيرهن من مساجد الحرم لم يكن له ذلك، فإذا كان شد الرحل خاصًّا بالمسجد الذي فيه الكعبة كان التضعيف خاصًّا به أيضاً، لأنه إنما جاز شد الرحل من أجل هذا التضعيف ليدركه من شد الرحل، ولكن لا شك أن الصلاة في الحرم أفضل من الصلاة في الحل، إلا أنه ليس فيها التضعيف الذي في المسجد الحرام. هذا هو القول الراجح.(20/165)
والقول الثاني: أن التضعيف يشمل جميع الحرم، واستدلوا بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَاذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ عَامِهِمْ هَاذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} وقوله سبحانه: {سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْءْايَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} وقد روي أنه أسري به من بيت أم هانىء. واستدلوا بأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان في الحديبية مقيماً في الحل ويصلي في الحرم. ولكن لا دلالة فيما ذكروا لقولهم، لأن الآية الأولى قال فيها سبحانه: {فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَاذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} لم يقل: فلا يدخلوا. وعليه فالمراد بالمسجد الحرام فيها مسجد الكعبة نهوا عن قربانه، وذلك بأن لا يدخلوا حدود الحرم، ولو كان المراد بالمسجد الحرام جميع الحرم لكان المشركون منهيين عن قربان الحرم، لا عن الدخول فيه، ولكان بين حدود الحرم والمكان المباح لهم مسافة تفصل بينهم وبين الحرم، بحيث لا يكونون قريبين منه.
وأما الآية الثانية فإن المراد بالمسجد الحرام فيها مسجد الكعبة أيضاً، وذلك لأن الرواية الصحيحة أنه أسري به من الحجر لا من بيت أم هانىء.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هناك بعض الناس يقدمون من مناطق مختلفة ليعتكفوا العشر الأواخر من رمضان في المسجد الحرام، ولكنهم يتركون السنن(20/166)
الرواتب أرجو التفصيل والله يحفظكم؟
فأجاب فضيلته بقوله: في الحقيقة أن الإنسان إذا منّ الله عليه أن يصل إلى هذا المسجد فإنه ينبغي له أن يكثر من الصلاة، سواء كانت من الصلاة المشروعة، أو من الصلوات الأخرى الجائزة، والإنسان الذي يكون في هذا المكان أمامه النوافل المطلقة يعني إذا قلنا: إن المسافر لا يصلي راتبة الظهر، ولا راتبة المغرب، ولا راتبة العشاء فليس معنى ذلك أن نقول: لا تصلي أبداً بل نقول: صلِّ وأكثر من الصلاة، والصلاة خير موضوع، وهي كما قال عز وجل: {إِنَّ الصلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} ، ولهذا نحن نحث إخواننا على أن يكثروا من النوافل والصلاة في هذا المسجد وإن كانوا مسافرين، لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يمنعه السفر من أن يتطوع بالصلاة، بل كان عليه الصلاة والسلام يدع سنة الظهر، وسنة العشاء، وسنة المغرب، وباقي النوافل باقية على استحبابها، وحينئذ لا يكون في المسألة إشكال.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل يضاعف أجر الصوم في مكة كما حصل في أجر الصلاة؟
فأجاب فضيلته بقوله: جوابنا على هذا السؤال أن نقول: الصلاة في مكة أفضل من الصلاة في غيرها بلا ريب، ولهذا ذكر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حينما كان مقيماً في الحديبية في غزوة الحديبية كان في الحل، ولكنه يصلي داخل أميال الحرم، وهذا يدل على أن(20/167)
الصلاة في الحرم أي داخل أميال الحرم أفضل من الصلاة في الحل، وذلك لفضل المكان، وقد أخذ العلماء من ذلك قاعدة قالوا فيها: «إن الحسنات تضاعف في كل مكان أو زمان فاضل» كما أن الحسنات تتضاعف باعتبار العامل كما ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» إذاً فالعبادات تتضاعف باعتبار العامل، وباعتبار الزمان والمكان، كما تختلف أيضاً في ثوابها باعتبار جنسها وهيئتها. وقد أخذ أهل العلم من ذلك أن الصيام يضاعف في مكة، ويكون أفضل من الصيام في غيرها، وذلك لشرف مكانه، على أن الصيام إمساك وليس بعمل يحتاج إلى زمان ومكان، سوى الزمان الذي شرع فيه وهو من طلوع الفجر الثاني إلى مغيب الشمس، وقد ورد في حديث عند ابن ماجه بسند ضعيف «أن من صام رمضان بمكة وقام ما تيسر منه كتب له أجر مئة ألف رمضان» وهذا إسناده ضعيف، ولكنه يستأنس به، ويدل على أن صوم رمضان في مكة أفضل من صومه في غيرها.
* * *(20/168)
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل تتضاعف السيئات في مكة وما كيفية مضاعفتها؟
فأجاب فضيلته بقوله: المضاعفة في مكة بالنسبة للسيئات ليست من ناحية الكمية، ولكنها تتضاعف من ناحية الكيفية، بمعنى أن العقوبة تكون أشد وأوجع، والدليل أنها لا تضاعف كمية قوله تعالى: {مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى" إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} ، وهذه الآية مكية، لأنها في سورة الأنعام، لكن كما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِى جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} يعني أن إيلام العقوبة في مكة أشد من إيلام العقوبة إذا فعلت هذه المعصية خارج مكة. وفي هذا التحذير الشديد من المعاصي في مكة.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: متى يبتدىء الاعتكاف؟ أفتونا مأجورين.
فأجاب فضيلته بقوله: جمهور أهل العلم على أن ابتداء الاعتكاف من ليلة إحدى وعشرين لا من فجر إحدى وعشرين، وإن كان بعض العلماء ذهب إلى أن ابتداء الاعتكاف من فجر إحدى وعشرين مستدلاًّ بحديث عائشة رضي الله عنها عند(20/169)
البخاري: «فلما صلى الصبح دخلمعتكفه» لكن أجاب الجمهور عن ذلك بأن الرسول عليه الصلاة والسلام انفرد من الصباح عن الناس، وأما نية الاعتكاف فهي من أول الليل، لأن العشر الأواخر تبتدىء من غروب الشمس يوم عشرين.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: متى يخرج المعتكف من اعتكافه أبعد غروب شمس ليلة العيد أم بعد فجر يوم العيد؟
فأجاب فضيلته بقوله: يخرج المعتكف من اعتكافه إذا انتهى رمضان، وينتهي رمضان بغروب الشمس ليلة العيد.
* * *(20/170)
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد الصالح العثيمين إلى الأخ المكرم.... حفظه الله تعالى
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كتابكم الكريم المؤرخ 12 من الشهر الحالي وصل، وإليكم جواب الأسئلة التي فيه، سائلين الله تعالى أن يلهمنا الصواب.
المسألة الأولى: دخول المعتكف للعشر الأواخر يكون دخوله عند غروب الشمس من ليلة إحدى وعشرين، وذلك لأن ذلك وقت دخول العشر الأواخر، وهذا لا يعارضه حديث عائشة ولا حديث أبي سعيد رضي الله عنه لأن ألفاظهما مختلفة، فيؤخذ بأقربها إلى المدلول اللغوي، وهو ما رواه البخاري من حديث عائشة أول حديث في (باب الاعتكاف في شوال) ص 382 ج 4 من الفتح) قالت: «كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعتكف في كل رمضان فإذا صلى الغداة دخل مكانه الذي اعتكف فيه» ، الحديث. وما رواه من حديث أبي سعيد (ثاني حديث في (باب تحري ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر) ص 952 منه) قال: «كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجاور في رمضان العشر التي في وسط الشهر، فإذا كان حين(20/171)
يمسي من عشرين ليلة تمضي ويستقبل إحدى وعشرين رجع إلى مسكنه، ورجع من كان يجاور معه، وأنه أقام في شهر جاور فيه الليلة التي كان يرجع فيها، فخطب الناس فأمرهم ما شاء الله، ثم قال: «كنت أجاور هذه العشر، ثم قد بدا لي أن أجاور هذه العشر الأواخر، فمن كان اعتكف معي فليثبت في معتكفه» ، قال: «وقد رأيتني أسجد في ماء وطين» ، فاستهلت السماء في تلك الليلة فأمطرت فوكف المسجد في مصلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة إحدى وعشرين فبصرت عيني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونظرت إليه انصرف من الصبح ووجهه ممتلىء طيناً وماء.
ففي حديث عائشة: «دخل مكانه الذي اعتكف فيه» وهو يقتضي أنه سبق مكثه دخوله، لأن قولها: «اعتكف» فعل ماض، والأصل استعماله في حقيقته.
وفي حديث أبي سعيد: «فإذا كان حين يمسي من عشرين ليلة تمضي ويستقبل إحدى وعشرين» والمساء آخر النهار وهو وقت استقبال الليلة التالية، وعلى هذا فتكون خطبته آخر نهار يوم العشرين، ويؤيده الرواية الثانية في حديثه وهو الحديث الثالث من (باب الاعتكاف في العشر الأواخر والاعتكاف في المساجد كلها) ص 172 منه، فاعتكف عاماً حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين قال: «من كان اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر، فقد أريت هذه الليلة ثم أنسيتها وقد رأيتني أسجد في ماء وطين من(20/172)
صبيحتها» ، قال: فمطرت السماء تلك الليلة فبصرت عيناي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على جبهته أثر الماء والطين من صبح إحدى وعشرين.(20/173)
174 سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: عن أقسام خروج المعتكف من معتكفه؟
فأجاب فضيلته بقوله: خروج المعتكف من معتكفه ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أن يكون خروجاً لما ينافي الاعتكاف كما لو خرج ليجامع أهله، أو خرج ليبيع ويشتري وما أشبه ذلك مما هو مضاد للاعتكاف ومنافٍ له، فهذا الخروج لا يجوز وهو مبطل للاعتكاف، سواء شرطه أم لم يشترطه، ومعنى قولنا: «لا يجوز» أنه إذا وقع في الاعتكاف أبطله، وعلى هذا فإذا كان الاعتكاف تطوعاً وليس بواجب بنذر فإنه إذا خرج لا يأثم، لأن قطع النفل ليس فيه إثم ولكنه يبطل اعتكافه فلا يبنى على ما سبق.
القسم الثاني: من خروج المعتكف: أن يخرج لأمر لابد له منه وهو أمر مستمر كالخروج للأكل إذا لم يكن له من يأتِ به، والخروج لقضاء الحاجة إذا لم يكن في المسجد ما يقضي به حاجته، وما أشبه ذلك من الأمور التي لابد منها وهي أمور مطردة مستمرة فهذا الخروج له أن يفعله، سواء اشترط ذلك أم لم يشترطه، لأنه وإن لم يشترط في اللفظ فهو مشترط في العادة، فإن كل أحدٍ يعرف أنه سيخرج لهذا الأمور.
القسم الثالث: ما لا ينافي الاعتكاف، ولكنه له منه بد، مثل الخروج لتشييع جنازة، أو لعيادة مريض، أو لزيارة قريب، أو ما أشبه ذلك مما هو طاعة، ولكنه له منه بد، فهذا يقول أهل العلم: إن اشترطه في ابتداء اعتكافه فإنه يفعله، وإن لم يشترطه، فإنه لا(20/174)
يفعله، فهذا هو ما يتعلق بخروج المعتكف من المسجد. والله أعلم.
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما مستحبات الاعتكاف؟
فأجاب فضيلته بقوله: مستحباته أن يشتغل الإنسان بطاعة الله عز وجل من قراءة القرآن والذكر والصلاة وغير ذلك، وأن لا يضيع وقته فيما لا فائدة فيه، كما يفعل بعض المعتكفين تجده يبقى في المسجد يأتيه الناس في كل وقت يتحدثون إليه ويقطع اعتكافه بلا فائدة، وأما التحدث أحياناً مع بعض الناس أو بعض الأهل فلا بأس به، لما ثبت في الصحيحين من فعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين كانت صفية رضي الله عنها تأتي إليه فتتحدث إليه ساعة ثم تنقلب إلى بيتها.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: عما ينبغي أن يفعله المعتكف؟
فأجاب فضيلته بقوله: المعتكف كما أسلفنا يلتزم المسجد للتفرغ لطاعة الله عز وجل وعبادته، فينبغي أن يكون أكثر همه اشتغاله بالقربات من الذكر وقراءة القرآن وغير ذلك، ولكن المعتكف أفعاله تنقسم إلى أقسام: قسم مباح، وقسم مشروع ومستحب، وقسم ممنوع.(20/175)
فأما المشروع: فهو أن يشتغل بطاعة الله وعبادته والتقرب إليه، لأن هذا لب الاعتكاف والمقصود منه، ولذلك قيد بالمساجد.
وقسم آخر وهو القسم الممنوع وهو ما ينافي الاعتكاف مثل أن يخرج الإنسان من المسجد بلا عذر، أو يبيع، أو يشتري، أو يجامع زوجته، ونحو ذلك من الأفعال التي تبطل الاعتكاف لمنافاتها لمقصوده.
وقسم ثالث جائز مباح، كالتحدث إلى الناس والسؤال عن أحوالهم وغير ذلك مما أباحه الله تعالى للمعتكف، ومنه خروجه لما لابد له منه كخروجه لإحضار الأكل والشرب إذا لم يكن له من يحضرهما، وخروجه إلى قضاء الحاجة من بول وغائط، وكذلك خروجه لأمر مشروع واجب، بل هذا واجب عليه كما لو خرج ليغتسل من الجنابة.
وأما خروجه لأمر مشروع غير واجب فإن اشترطه فلا بأس، وإن لم يشترطه فلا يخرج، وذلك كعيادة المريض وتشييع الجنازة وما أشبههما، فله أن يخرج لهذا إن اشترطه، وإذا لم يشترطه فليس له أن يخرج، ولكن إذا مات له قريب، أو صديق وخاف إن لم يخرج أن يكون هناك قطيعة رحم أو مفسدة، فإنه يخرج ولو بطل اعتكافه، لأن الاعتكاف المستحب لا يلزم المضي فيه.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل يجوز للمعتكف التنقل في أنحاء المسجد؟(20/176)
فأجاب فضيلته بقوله: يجوز للمعتكف أن يتنقل في أنحاء المسجد من كل جهة، لعموم قوله تعالى: {وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذالِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} وفي للظرفية فتشمل جميع أنحاء المسجد.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: أنا معتكفة في المسجد الحرام، وكنت أبحث عن أخت لي أحببتها في الله، وكنت أتمنى رؤيتها منذ سنوات، واليوم قدر الله لي أن رأيت أخواتها، وأرادوا أن يذهبوا بي إلى بيتها لرؤيتها، وإذا لم أرها اليوم ربما لا أستطيع رؤيتها بعد ذلك بسهولة، وهي لا تستطيع أن تأتي إلى المسجد بسبب الحيض فأرجو إجابتي الآن، وهل يعتبر خروجي من الاعتكاف لرؤيتها ضرورة؟
فأجاب فضيلته بقوله: أولاً: يجب أن نعلم أن الاعتكاف سنة، يعني لو أن الإنسان أبطله بدون عذر فلا إثم عليه، فالآن اعتكاف العشر الأواخر سنة لا شك فيه، ولكن لو أن الإنسان خرج من المسجد وأبطل الاعتكاف فلا شيء عليه، لأنه سنة، والسنة يجوز للإنسان أن يدعها ولو بلا عذر، لكنه لا ينبغي أن يدعها بلا عذر. وهذه المرأة التي تقول: إنها تحب أن تقابل أختاً لها في الله، ولكن ذلك لا يتيسر لها، إلا إذا خرجت من الاعتكاف، نقول لها: الأفضل أن تبقي في اعتكافك وإن خرجت فلا حرج عليك، ولكن الاعتكاف يبطل؛ لأن الخروج لغير(20/177)
ضرورة في الاعتكاف يبطل الاعتكاف.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل يجوز للمعتكف أن يذهب إلى منزله لتناول الطعام والاغتسال؟
فأجاب فضيلته بقوله: يجوز للمعتكف أن يذهب إلى منزله لتناول الطعام إذا لم يكن عنده من يحضر الطعام إليه، فإن كان عنده من يحضر الطعام إليه في المسجد فإنه لا يخرج، لأن المعتكف لا يخرج إلا لأمر لابد له منه.
وأما الاغتسال فإن كان من جنابة وجب عليه أن يخرج، لأنه لابد من الاغتسال، وإن كان عن غير جنابة للتبرد فلا يخرج، لأن هذا أمر له منه بد، وإن كان لإزالة رائحة يشق عليه بقاؤها فله الخروج، فصار الخروج للاغتسال ثلاثة أقسام: واجباً، وجائزاً، وممنوعاً.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: شخص عليه التزامات لأهله فهل الأفضل له أن يعتكف؟
فأجاب فضيلته بقوله: الاعتكاف سنة وليس بواجب، ومع ذلك إذا كان على الإنسان التزامات لأهله فإن كانت الالتزامات واجبة عليه وجب عليه القيام بها، وكان آثماً بالاعتكاف الذي يحول دونها، وإن كانت غير واجبة فإن قيامه بتلك الالتزامات قد يكون أفضل من الاعتكاف، فهذا عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: والله لأصومن النهار ولأقومن الليل ما(20/178)
عشت، فدعاه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: أنت قلت ذلك؟ قال: نعم، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صم وأفطر، ونم وقم، فإن لنفسك عليك حقًّا، ولربك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا» فكون الإنسان يدع التزاماته ليعتكف قصور منه في العلم، وقصور في الحكمة أيضاً، لأن قيام الإنسان بحاجة أهله أفضل من كونه يعتكف، أما الإنسان المتفرغ فالاعتكاف في حقه مشروع، فإذا كان عليه التزامات في أول العشر ولكنه يفرغ منها في أثنائها، وأراد أن يعتكف البقية فلا بأس، لأنه يدخل في قوله: {فَاتَّقُواْ اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنْفِقُواْ خَيْراً لأَِنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: متى يخرج المعتكف من معتكفه؟
فأجاب فضيلته بقوله: يخرج المعتكف إذا انتهى رمضان، ورمضان ينتهي بغروب الشمس ليلة العيد، فإذا غربت الشمس ليلة العيد انتهى وقت الاعتكاف، كما أنه يدخل المعتكف عند غروب الشمس ليلة العشرين من رمضان، فإن العشر الأواخر تبتدىء بغروب الشمس ليلة العشرين من رمضان وتنتهي بغروب الشمس ليلة العيد.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل يجوز للمعتكف الاتصال بالهاتف لقضاء حوائج بعض(20/179)
المسلمين؟
فأجاب فضيلته بقوله: يجوز للمعتكف أن يتصل بالهاتف لقضاء حوائج بعض المسلمين إذا كان الهاتف في المسجد الذي هو معتكف فيه، لأنه لم يخرج من المسجد، أما إذا كان خارج المسجد فلا يخرج لذلك، وقضاء حوائج المسلمين إذا كان هذا الرجل معنيًّا بها فلا يعتكف، لأن قضاء حوائج المسلمين أهم من الاعتكاف، لأن نفعها متعدٍّ، والنفع المتعدي أفضل من النفع القاصر، إلا إذا كان النفع القاصر من مهمات الإسلام وواجبات الإسلام.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل يجوز للمعتكف في المسجد الحرام أن يطوف حول الكعبة؟
فأجاب فضيلته بقوله: المعتكف له أن يذهب ويجيء مادام في المسجد الذي اعتكف فيه، فله أن ينتقل من جهة إلى جهة، وله أن يصلي في أي مكان من المسجد، وله إذا كان في المسجد الحرام أن يطوف، لأنه ليس معنى الاعتكاف أن الإنسان يبقى في نفس المكان لا يتعداه، ولكن معنى الاعتكاف أن يكون ملازماً للمسجد.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: إذا دعي المدرس المعتكف إلى اجتماع في المدرسة فما الحكم؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان هذا الاجتماع الذي قرر في(20/180)
المدرسة إذا كان معلوماً قبل دخول الاعتكاف واشترط الإنسان أن يخرج له فلا بأس، أما إذا لم يكن معلوماً فإن دعي الإنسان إلى حضور هذا الاجتماع فيخرج من الاعتكاف، لأن دعوة ولي الأمر مدير المدرسة في هذا تقتضي أن يحضر الإنسان ويكون له الأجر فيما سلف من الاعتكاف، وأصل الاعتكاف سنة وليس بواجب، فللإنسان أن يخرج من الاعتكاف بدون أي سبب، لأن جميع العبادات التي ليست بواجبة يجوز للإنسان أن يخرج منها بدون سبب إلا عبادة الحج والعمرة لقوله تعالى: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَالِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللهَ وَاعْلَمُو"اْ أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} لكن أهل العلم يقولون: يكره أن يخرج من التطوع إلا لغرض صحيح.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل للمعتكف في الحرم أن يخرج للأكل أو الشرب؟ وهل يجوز له الصعود إلى سطح المسجد لسماع الدروس؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم، يجوز للمعتكف في المسجد الحرام أو غيره أن يخرج للأكل والشرب، إن لم يكن في إمكانه أن يحضرهما إلى المسجد، لأن هذا أمر لابد منه، كما أنه سوف يخرج لقضاء الحاجة، وسوف يخرج للاغتسال من جنابة إذا كانت عليه الجنابة.
وأما الصعود إلى سطح المسجد فهو أيضاً لا يضر لأن الخروج من باب المسجد الأسفل إلى السطح ما هي إلا خطوات قليلة ويقصد بها الرجوع إلى المسجد أيضاً، فليس في هذا بأس.(20/181)
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما حكم التزام مكان معين في المسجد الحرام لغير المعتكف ليصلي فيه طيلة شهر رمضان مع وضعه للوسائد والفرش على الأعمدة في الحرم؟
فأجاب فضيلته بقوله: المسجد الحرام كغيره من المساجد يكون لمن سبق، ولا يحل لأحد خارج المسجد أن يتحجر مكاناً له في المسجد.
أما إذا كان في نفس المسجد، ولكنه أحب أن يبتعد عن ضوضاء الناس وجلس في مكان واسع فإذا قربت الصلاة جاء ليصلي في مكانه الذي احتجزه فهذا لا بأس به، لأن له الحق في أن يجلس في أي مكان في المسجد، ولكن إذا قدرنا أنه يضع شيئاً ثم ذهب ليصلي في مكان آخر أوسع له، ثم لحقته الصفوف فإنه يجب عليه أن يتقدم إلى مكانه، أو يتأخر لمكان واسع، لأنه إذا وصلته الصفوف وكان في مكانه هذا فقد اتخذ لنفسه مكاناً آخر من المسجد، والإنسان لا يملك أن يتخذ مكانين له.
وأما التزام مكان معين لا يصلي إلا فيه فإن هذا منهي عنه، بل ينبغي للإنسان أن يصلي حيث ما وجد المكان.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما حكم المبيت في المسجد عموماً وفي الاعتكاف خصوصاً؟
فأجاب فضيلته بقوله: المبيت في المسجد في الاعتكاف لابد منه، لأن المعتكف كما قال الله تعالى محله المسجد {وَلاَ(20/182)
تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذالِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذالِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} .
وأما غير المعتكف فإنه يجوز للإنسان أن ينام في المسجد أحياناً عند الحاجة، وأما اتخاذه مناماً دائماً فهذا ليست مما بنيت المساجد من أجله، المساجد بنيت لإقامة الصلاة، وقراءة القرآن والعلم، لكن لا بأس أن يتخذه الإنسان أحياناً مكاناً ينام فيه.
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: إذا ارتكب المعتكف شيئاً لا يجوز في الاعتكاف فهل يبطل اعتكافه؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم إذا ارتكب المعتكف شيئاً يبطل الاعتكاف فإن اعتكافه يبطل، ولا ينبني آخره على أوله، وليس كل شيء محرم يبطل الاعتكاف، بل هناك أشياء خاصة تبطل الاعتكاف، فالمعتكف مثلاً لو أنه اغتاب أحداً من الناس فقد فعل محرماً، ومع ذلك فإن اعتكافه لا يبطل، إلا أن أجره ينقص.
وخلاصة الجواب: أن الإنسان المعتكف إذا فعل ما يبطل الاعتكاف فمعناه أن آخر اعتكافه لا ينبني على أوله، ولا يكتب له أجر من اعتكف العشر الأواخر من رمضان، وذلك لأنه أبطل ما سبق. والله أعلم.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: من نوى اعتكاف العشر الأواخر من رمضان وأراد الخروج في الليلة الأخيرة فهل عليه حرج؟
فأجاب فضيلته بقوله: من المعلوم أن الاعتكاف في العشر(20/183)
الأواخر ليس بواجب إلا لمن نذره، فإنه يجب عليه أن يوفي بنذره، لأنه طاعة، وقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من نذر أن يطيع الله فليطعه» . وإذا لم يكن نذره وقطعه في آخر يوم أو قبله فلا إثم عليه، ولكن من أحب أن يكمله حتى يحصل على سنة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه لا يخرج من معتكفه حتى يثبت دخول شهر شوال، فإذا ثبت دخوله بإتمام رمضان ثلاثين يوماً، أو بشهادة يثبت بها دخول شوال، فقد انقضى زمن الاعتكاف، فليخرج الإنسان من معتكفه، ويكون بذلك قد أدى السنة التي جاءت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن بعض السلف استحب أن يبقى في معتكفه حتى يخرج لصلاة العيد، واستحب بعض العلماء أن لا يتجمل المعتكف ويصلي بثياب اعتكافه، ولكن هذا غير صحيح، فالمعتكف يتجمل للعيد كما يتجمل غيره من الناس، والله أعلم.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل يجب على الصائم ختم القرآن في رمضان؟
فأجاب فضيلته بقوله: ختم القرآن في رمضان للصائم ليس بأمر واجب، ولكن ينبغي للإنسان في رمضان أن يكثر من قراءة القرآن، كما كان ذلك سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد كان عليه الصلاة والسلام يدارسه جبريل القرآن كل رمضان.(20/184)
884 سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: قال بعض العلماء: ينبغي للإنسان إذا دخل المسجد أن ينوي الاعتكاف فهل لهذا القول دليل؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا القول لا دليل عليه؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يشرعه لأمته لا بقوله، ولا بفعله، وإنما كان عليه الصلاة والسلام يعتكف العشر الأواخر من رمضان تحرياً لليلة القدر.
* * *(20/185)
مجالس شهر رمضان
مقدمة(20/187)
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما.
أما بعد: فهذه مجالس لشهر رمضان المبارك تستوعب كثيرا من أحكام الصيام والقيام والزكاة، وما يناسب المقام في هذا الشهر الفاضل، رتبتُها على مجالس يومية أو ليلية، انتخبت كثيرا من خطبها من كتاب " قرة العيون المبصرة بتلخيص كتاب التبصرة " مع تعديل ما يحتاج إلى تعديله، وأكثرت فيها من ذكر الأحكام والآداب لحاجة الناس إلى ذلك. سميته (مجالس شهر رمضان) ، وقد سبق أن طبع عدة مرات، ثم بدا لي أن أعلق عليه بصفة مختصرة تخريج أحاديثه، وإضافة ما رأيته محتاجا إلى إضافة، وحذف ما رأيته مستغْنًى عنه، وهو يسير لا يخل بمقصود الكتاب. أسأل الله تعالى أن يجعل عملنا خالصا لله، وأن ينفع به، إنه جواد كريم.(20/189)
المجلس الأول: في فضل شهر رمضان
الحمد لله الذي أنشأ وبرا، وخلق الماء والثرى، وأبدع كل شيء وذرا، لا يغيب عن بصره صغير النمل في الليل إذا سرى، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} {اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه: 6 - 8] ، خلق آدم فابتلاه ثم اجتباه فتاب عليه وهدى، وبعث نوحا فصنع الفُلْك بأمر الله وجرى، وَنَجَّى الخليل من النار فصار حرها بردا وسلاما عليه، فاعتبِروا بما جرى، وآتى موسى تسع آيات فما ادَّكر فرعون وما ارعوى، وأيَّد عيسى بآيات تبهر الورى، وأنزل الكتاب على محمد فيه البيِّنات والهدى، أحمده على نعمه التي لا تزال تترى، وأصلي وأسلم على نبيه محمد المبعوث في أم القرى , صلى الله عليه وعلى صاحبه في الغار أبي بكر بلا مرا، وعلى عمر الملهَم في رأيه فهو بنور الله يرى , وعلى عثمان زوج ابنته ما كان حديثا يُفْتَرَى , وعلى ابن عمه علي بحر العلوم وأسد الشرى , وعلى بقية آله وأصحابه الذين انتشر فضلهم في
الورى , وسلم تسليما.
إخواني: لقد أظلنا شهر " كريم " وموسم " عظيم "، يعظم الله فيه الأجر ويجزل المواهب , ويفتح أبواب الخير فيه لكل راغب , شهر(20/191)
الخيرات والبركات , شهر المنح والهبات , {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} , شهر " محفوف " بالرحمة والمغفرة والعتق من النار, أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار، اشتهرت بفضله الأخبار، وتواترت فيه الآثار، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إذا جاء رمضان فُتِّحت أبواب الجنة وغُلِّقت أبواب النار وصُفِّدت الشياطين» (1) ، وإنما تفتح أبواب الجنة في هذا الشهر لكثرة الأعمال الصالحة وترغيبا للعاملين، وتغلق أبواب النار لقلة المعاصي من أهل الإيمان، وتصفد الشياطين فتُغَلُّ فلا يخلصون إلى ما يخلصون إليه في غيره.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «أُعْطِيَتْ أمتي خمس خصال في رمضان لم تُعْطَهُنَّ أمة من الأمم قبلها: خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك , وتستغفر لهم الملائكة حتى يفطروا , ويزين الله كل يوم جنته ويقول: يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المؤونة والأذى ويصيروا إليك , وتصفد فيه مَرَدَة الشياطين فلا يخلصون إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره , ويغفر لهم في آخر ليلة " , قيل: يا رسول الله أهي ليلة القدر؟ قال: " لا ولكن العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله» (2) .
إخواني: هذه الخصال الخمس ادخرها الله لكم وخصكم بها
__________
(1) متفق عليه.
(2) رواه أحمد والبزار والبيهقي وأبو الشيخ في كتاب الثواب، وإسناده ضعيف جدا لكن لبعضه شواهد.(20/192)
من بين سائر الأمم , ومنَّ بها عليكم ليتمم بها عليكم النعم , وكم لله من نعم وفضائل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ} [آل عمران: 110] .
* الخصلة الأولى: «أن خُلُوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك» (1) , والخلوف بضم الخاء أو فتحها تغير رائحة الفم عند خلو المعدة من الطعام , وهي رائحة مستكرهة عند الناس لكنها عند الله أطيب من رائحة المسك؛ لأنها ناشئة عن عبادة الله وطاعته , وكل ما نشأ عن عبادته وطاعته فهو محبوب عنده سبحانه يعوِّض عنه صاحبه ما هو خير وأفضل وأطيب , ألا ترون إلى الشهيد الذي قُتِل في سبيل الله يريد أن تكون كلمة الله هي العليا يأتي يوم القيامة وجرحه يثعب دما لونه لون الدم وريحه ريح المسك؟ وفي الحج يباهي الله الملائكة بأهل الموقف فيقول سبحانه: «انظروا إلى عبادي هؤلاء جاءوني شُعثا غُبرا» (2) ، وإنما كان الشَّعَث محبوبا إلى الله في هذا الموطن لأنه ناشئ عن طاعة الله باجتناب محظورات الإحرام وترك الترفه.
* الْخَصلة الثانية: «أن الملائكة تستغفر لهم حتى يفطروا» ، والملائكة عباد مكرَمون
__________
(1) رواه البخاري ومسلم بدون تخصيص بهذه الأمة.
(2) رواه أحمد وابن حبان في صحيحه وهو صحيح بشواهده.(20/193)
عند الله لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فهم جديرون بأن يستجيب الله دعاءهم للصائمين حيث أذن لهم به، وإنما أذن الله لهم بالاستغفار للصائمين من هذه الأمة تنويها بشأنهم، ورفعة لذكرهم، وبيانا لفضيلة صومهم , والاستغفار طلب المغفرة , وهي ستر الذنوب في الدنيا والآخرة والتجاوز عنها , وهي من أعلى المطالب وأسمى الغايات , فكل بني آدم خطاءون مسرفون على أنفسهم مضطرون إلى مغفرة الله عز وجل.
الخصلة الثالثة: «أن الله يزين كل يوم جنته ويقول: يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المؤونة والأذى ويصيروا إليك» فيزين الله تعالى جنته كل يوم تهيئة لعباده الصالحين وترغيبا في الوصول إليها , ويقول سبحانه: يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المؤونة والأذى , يعني مؤونة الدنيا وتعبها وأذاها، ويُشَمِّروا إلى الأعمال الصالحة التي فيها سعادتهم في الدنيا والآخرة، والوصول إلى دار السلام والكرامة.
* الخصلة الرابعة: «أن مردة الشياطين يُصَفَّدون» (1) «بالسلاسل والأغلال» ، فلا يصلون
__________
(1) رواه البخاري ومسلم بلفظ: صفدت الشياطين , وابن خزيمة بلفظ: الشياطين مردة الجن، وفي رواية للنسائي: مردة الشياطين. وكلهم من حديث أبي هريرة بدون تخصيص بهذه الأمة.(20/194)
إلى ما يريدون من عباد الله الصالحين من الإضلال عن الحق والتثبيط عن الخير , وهذا من معونة الله لهم أن حبس عنهم عدوهم الذي يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير , ولذلك تجد عند الصالحين من الرغبة في الخير والعزوف عن الشر في هذا الشهر أكثر من غيره.
* الخصلة الخامسة: «أن الله يغفر لأمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في آخر ليلة من هذا الشهر» (1) إذا قاموا بما ينبغي أن يقوموا به في هذا الشهر المبارك من الصيام والقيام تفضلا منه سبحانه بتوفية أجورهم عند انتهاء أعمالهم , فإن العامل يوفى أجره عند انتهاء عمله) .
وقد تفضل سبحانه على عباده بهذا الأجر من وجوه ثلاثة:
__________
(1) رواه البخاري ومسلم بلفظ: صفدت الشياطين , وابن خزيمة بلفظ: الشياطين مردة الجن، وفي رواية للنسائي: مردة الشياطين. وكلهم من حديث أبي هريرة بدون تخصيص بهذه الأمة.
(2) روى نحوه البيهقي من حديث جابر , قال المنذري: وإسناده مقارب أصلح مما قبله يعني حديث أبي هريرة الذي في الأصل.
* الوجه الأول: أنه شرع لهم من الأعمال الصالحة ما يكون سببا لمغفرة ذنوبهم ورفعة درجاتهم , ولولا أنه شرع ذلك ما كان لهم أن يتعبدوا لله بها؛ إذ العبادة لا تؤخذ إلا من وحي الله على رسله , ولذلك أنكر الله على من يُشَرِّعون من دونه، وجعل ذلك نوعا من الشرك فقال سبحانه: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى: 21] .
* الوجه الثاني: أنه وفَّقَهم للعمل الصالح وقد تركه كثير من الناس , ولولا معونة الله لهم وتوفيقه ما قاموا به , فلله الفضل والمنة بذلك.
__________
(1) روى نحوه البيهقي من حديث جابر , قال المنذري: وإسناده مقارب أصلح مما قبله يعني حديث أبي هريرة الذي في الأصل.(20/195)
{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17] .
* الوجه الثالث: أنه تفضل بالأجر الكثير , الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة , فالفضل من الله بالعمل والثواب عليه، والحمد لله رب العالمين.
إخواني: بلوغ رمضان نعمة كبيرة على من بلغه وقام بحقه بالرجوع إلى ربه من معصيته إلى طاعته , ومن الغفلة عنه إلى ذكره , ومن البعد عنه إلى الإنابة إليه.
يا ذا الذي ما كفاه الذنبُ في رجبٍ ... حتى عصى ربه في شهر شعبانِ
لقد أظلَّك شهر الصوم بعدهما ... فلا تُصَيِّرْهُ أيضا شهرَ عصيانِ
واتل القُرَان وسبح فيه مجتهدا ... فإنه شهر تسبيح وقرآنِ
كم كنت تعرف ممن صام في سَلَفٍ ... من بين أهل وجيران وإخوانِ
أفناهمُ الموت واستبقاك بعدهمو ... حَيًّا فما أقرب القاصي من الداني
اللهم أيقِظْنا من رقدات الغفلة , ووفقنا للتزود من التقوى قبل النُّقْلة , وارزقنا اغتنام الأوقات في ذي المهلة , واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(20/196)
المجلس الثاني: في فضل الصيام
الحمد لله اللطيف الرؤوف المنان , الغني القوي السلطان , الحليم الكريم، الرحيم الرحمن، الأول فلا شيء قبله والآخر فلا شيء بعده , والظاهر فلا شيء فوقه , الباطن فلا شيء دونه , المحيط علما بما يكون وما كان , يُعِز ويُذِل , ويُفْقِر ويُغْنِي , ويفعل ما يشاء بحكمته , كل يوم هو في شأن , أرسى الأرض بالجبال في نواحيها , وأرسل السحاب الثقال بماء يحييها , وقضى بالفناء على جميع ساكنيها , ليجزي الذين أساءوا بما عملوا، ويجزي المحسنين بالإحسان.
أحمده على الصفات الكاملة الْحِسان , وأشكره على نِعَمه السابغة وبالشكر يزيد العطاء والامتنان , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الديَّان، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث إلى الإنس والجان، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ما توالت الأزمان , وسلم تسليما.
إخواني: اعلموا أن الصوم من أفضل العبادات وأَجَلِّ الطاعات , جاءت بفضله الآثار , ونقلت فيه بين الناس الأخبار.
* فمن فضائل الصوم: أن الله كتبه على جميع الأمم وفرضه عليهم: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا(20/197)
كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] ، ولولا أنه عبادة عظيمة لا غنى للخلق عن التعبد بها لله وعما يترتب عليها من ثواب ما فرضه الله على جميع الأمم.
* ومن فضائل الصوم في رمضان: أنه سبب لمغفرة الذنوب وتكفير السيئات , فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من صام رمضان إيمانا واحتسابا غُفِر له ما تقدم من ذنبه» (1) ، يعني إيمانا بالله ورضا بفرضيَّة الصوم عليه واحتسابا لثوابه وأجره , ولم يكن كارها لفرضه ولا شاكًّا في ثوابه وأجره , فإن الله يغفر له ما تقدم من ذنبه.
* وعن أبي هريرة أيضا أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة مكَفِّرات لما بينهن إذا اجْتُنِبَت الكبائر» (2) .
ومن فضائل الصوم: أن ثوابه لا يتقيد بعدد معين بل يُعْطَى الصائم أجره بغير حساب , فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قال الله تعالى: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جُنَّة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابَّه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم , والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك , للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره , وإذا لقي ربه فرح بصومه» (3) ،
__________
(1) متفق عليه.
(2) رواه مسلم.
(3) متفق عليه.(20/198)
وفي رواية لمسلم: «كل عمل ابن آدم له يضاعَف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يَدَعُ شهوته وطعامه من أجلي» .
وهذا الحديث الجليل يدل على فضيلة الصوم من وجوه عديدة:
- الأول: أن الله اختص لنفسه الصوم من بين سائر الأعمال؛ وذلك لشرفه عنده ومحبته له وظهور الإخلاص له سبحانه فيه؛ لأنه سر بين العبد وبين ربه، لا يطَّلع عليه إلا الله , فإن الصائم يكون في الموضع الخالي من الناس متمكِّنا من تناول ما حرم الله عليه بالصيام فلا يتناوله؛ لأنه يعلم أن له ربا يطَّلِع عليه في خلوته , وقد حرم عليه ذلك فيتركه لله خوفا من عقابه ورغبة في ثوابه، فمن أجل ذلك شكر الله له هذا الإخلاص، واختص صيامه لنفسه من بين سائر أعماله؛ ولهذا قال: «يدع شهوته وطعامه من أجلي» ، وتظهر فائدة هذا الاختصاص يوم القيامة كما قال سفيان بن عُيَيْنة رحمه الله: إذا كان يوم القيامة يحاسب الله عبده، ويؤدي ما عليه من المظالم من سائر عمله حتى إذا لم يبقَ إلا الصوم يتحمل الله عنه ما بقي من المظالم، ويدخله الجنة بالصوم.
- الثاني: أن الله قال في الصوم: «وأنا أجزي به» , فأضاف الجزاء إلى نفسه الكريمة؛ لأن الأعمال الصالحة يضاعف أجرها بالعدد , الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة , أما الصوم فإن الله أضاف الجزاء عليه إلى نفسه من غير اعتبار عدد ,(20/199)
وهو سبحانه أكرم الأكرمين وأجود الأجودين.
والعطيَّة بقدر معطيها فيكون أجر الصائم عظيما كثيرا بلا حساب , والصيام صبر على طاعة الله، وصبر عن محارم الله , وصبر على أقدار الله المؤلمة من الجوع والعطش وضعف البدن والنفس , فقد اجتمعت فيه أنواع الصبر الثلاثة، وتحقَّقَ أن يكون الصائم من الصابرين , وقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] .
- الثالث: أن الصوم جُنَّة أي: وقاية وستر يقي الصائم من اللغو والرفث , ولذلك قال: «" فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب» ، ويقيه أيضا من النار , ولذلك رُوي عن جابر رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «الصيام جنة يَسْتَجِنُّ بها العبد من النار» (1) .
- الرابع: أن خَلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك؛ لأنها من آثار الصيام فكانت طيبة عند الله سبحانه ومحبوبة له , وهذا دليل على عظيم شأن الصيام عند الله حتى إن الشيء المكروه المستخْبَث عند الناس يكون محبوبا عند الله وطيبا لكونه نشأ عن طاعته بالصيام.
- الخامس: أن للصائم فرحتين: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه , أما فرحه عند فطره فيفرح بما أنعم الله عليه من القيام بعبادة الصيام الذي هو من أفضل الأعمال الصالحة , وكم من أناس حرموه فلم يصوموا , ويفرح بما أباح الله له من الطعام والشراب
__________
(1) رواه الإمام أحمد بإسناد حسن.(20/200)
والنكاح الذي كان مُحَرَّما عليه حال الصوم. وأما فرحه عند لقاء ربه فيفرح بصومه حين يجد جزاءه عند الله تعالى مُوَفَّرا كاملا في وقت هو أحوج ما يكون إليه حين يقال: أين الصائمون ليدخلوا الجنة من باب الريَّان الذي لا يدخله أحد غيرهم؟
وفي هذا الحديث إرشاد للصائم إذا سابَّه أحد أو قاتله أن لا يقابله بالمثل لئلا يزداد السباب والقتال , وأن لا يضعف أمامه بالسكوت، بل يخبره بأنه صائم إشارة إلى أنه لن يقابله بالمثل احتراما للصوم لا عجزا عن الأخذ بالثأر , وحينئذ ينقطع السباب والقتال: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 34 - 35] .
- ومن فضائل الصوم: أنه يشفع لصاحبه يوم القيامة , فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة , يقول الصيام: أي رب منعتُه الطعام والشهوة فَشَفِّعْنِي فيه , ويقول القرآن: منعتُه النوم بالليل فَشَفِّعْنِي فيه , قال: فيشفعان» (1) .
إخواني: فضائل الصوم لا تُدْرَك حتى يقوم الصائم بآدابه , فاجتهِدوا في إتقان صيامكم وحفظ حدوده، وتوبوا إلى ربكم من تقصيركم في ذلك،
__________
(1) رواه أحمد والطبراني والحاكم , وقال: صحيح على شرط مسلم , وقال المنذري: رجاله محتج بهم في الصحيح.(20/201)
اللهم احفظ صيامنا واجعله شافعا لنا , واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين , وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(20/202)
المجلس الثالث: في حكم صيام رمضان
الحمد لله الذي لا مانع لما وهب , ولا معطيَ لما سلب، طاعته للعالمين أفضل مكتسب , وتقواه للمتقين أعلى نسب، هيأ قلوب أوليائه للإيمان وكتب، وسهل لهم في جانب طاعته كل نَصَب , فلم يجدوا في سبيل خدمته أدنى تعب.
أحمده على ما منحنا من فضله ووهب , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هزم الأحزاب وغلب، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي اصطفاه الله وانتخب، صلى الله عليه وعلى صحبه أبي بكر الفائق في الفضائل والرتب , وعلى عمر الذي فر الشيطان منه وهرب , وعلى عثمان ذي النورين التقي النقي الحسب , وعلى علي صهره وابن عمه في النسب , وعلى بقية أصحابه الذين اكتسبوا في الدين أعلى فخر ومكتسَب , وعلى التابعين لهم بإحسان ما أشرق النجم وغرب , وسلم تسليما.
إخواني: إن صيام رمضان أحد أركان الإسلام ومبانيه العظام , قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ(20/203)
تَعْلَمُونَ} {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 183 - 185] .
وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُنِيَ الإسلامُ على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان» (1) ولمسلم: «وصوم رمضان وحج البيت» ، وأجمع المسلمون على فرضيَّة صوم رمضان إجماعا قطعيا معلوما بالضرورة من دين الإسلام , فمن أنكر وجوبه فقد كفر , فَيُسْتَتَاب فإن تاب وأقر بوجوبه وإلا قُتِلَ كافرا مُرْتَدًّا عن الإسلام، لا يُغَسَّل ولا يُكفَّن ولا يُصلَّى عليه ولا يُدْعَى له بالرحمة ويدفَن لئلا يؤذي الناس برائحته ويتأذى أهله بمشاهدته.
فُرِضَ صيام رمضان في السنة الثانية من الهجرة، فصام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسع سنين , وكان فرض الصيام على مرحلتين:
* المرحلة الأولى: التخيير بين الصيام والإطعام مع تفضيل الصيام عليه.
* المرحلة الثانية: تعيين الصيام بدون تخيير ,
__________
(1) متفق عليه.(20/204)
فعن سَلَمَةَ بن الأكوع رضي الله عنه قال: لما نزلت: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] كان من أراد أن يفطر ويفتدي (يعني فَعَلَ) حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها، يعني بها قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] ، فأوجب الله الصيام عَيْنًا بدون تخيير (1) ، ولا يجب الصوم حتى يثبت دخول الشهر، فلا يصوم قبل دخول الشهر لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يتقدمن أحدكم بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون رجلٌ كان يصوم صومه فليصم ذلك اليوم» (2) ، ويُحْكَم بدخول شهر رمضان بواحد من أمرين:
* الأول: رؤية هلاله لقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} , وقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا رأيتم الهلال فصوموا» (3) ، ولا يشترط أن يراه كل واحد بنفسه، بل إذا رآه من يثبت بشهادته دخول الشهر وجب الصوم على الجميع.
ويُشترط لقبول الشهادة بالرؤية أن يكون الشاهد بالغا عاقلا مسلما موثوقا بخبره لأمانته وبصره، فأما الصغير فلا يثبت الشهر بشهادته لأنه لا يُوثَق به وأَوْلَى منه المجنون، والكافر لا يثبت الشهر بشهادته أيضا لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: «جاء أعرابي إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إني رأيت الهلال - يعني رمضان -. فقال: " أتشهد أن لا إله إلا الله؟ " قال: نعم. قال: " أتشهد أن محمدا رسول الله؟ " قال: نعم. قال: " يا بلال أَذِّنْ في الناس فليصوموا غدا» (4) ،
__________
(1) متفق عليه.
(2) رواه البخاري.
(3) متفق عليه.
(4) أخرجه الخمسة إلا أحمد.(20/205)
ومن لا يُوثَق بخبره بكونه معروفا بالكذب أو بالتسرع أو كان ضعيف البصر بحيث لا يمكن أن يراه فلا يثبت الشهر بشهادته للشك في صدقه أو رجحان كذبه، ويثبت دخول شهر رمضان خاصة بشهادة رجل واحد «لقول ابن عمر رضي الله عنهما: تراءى الناس الهلال فأخبرتُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أني رأيته فصام وأمر الناس بصيامه» (1) ، ومن رآه متيقنا رؤيته وجب عليه إخبار ولاة الأمور بذلك , وكذلك من رأى هلال شوال وذي الحجة؛ لأنه يترتب على ذلك واجب الصوم والفطر والحج - وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب -، وإن رآه وحده في مكان بعيد لا يمكنه إخبار ولاة
الأمور فإنه يصوم ويسعى في إيصال الخبر إلى ولاة الأمور بقدر ما يستطيع.
وإذا أُعْلِن ثبوت الشهر من قِبَل الحكومة بالمذياع أو غيره وجب العمل بذلك في دخول الشهر وخروجه في رمضان أو غيره؛ لأن إعلانه من قِبَلِ الحكومة حجة شرعية يجب العمل بها، ولذلك أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلالا أن يؤذن في الناس معلنا ثبوت الشهر ليصوموا حين ثبت عنده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخوله، وجعل ذلك الإعلام ملزما لهم بالصيام.
وإذا ثبت دخول الشهر ثبوتا شرعيا فلا عبرة بمنازل القمر؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علَّق الحكم برؤية الهلال لا بمنازله فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا» (2) ، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن شهد شاهدان مسلمان فصوموا وأفطروا» (3) .
__________
(1) رواه أبو داود والحاكم وقال: على شرط مسلم.
(2) متفق عليه.
(3) رواه أحمد , وإسناده لا بأس به على اختلاف فيه , وله شاهد عند أبي داود والدارقطني وقال: هذا إسناد متصل صحيح.(20/206)
- الأمر الثاني: مما يُحْكَم فيه بدخول الشهر: إكمال الشهر السابق قبله ثلاثين يوما؛ لأن الشهر القمري لا يمكن أن يزيد على ثلاثين يوما، ولا ينقص عن تسعة وعشرين يوما , وربما يتوالى شهران أو ثلاثة إلى أربعة ثلاثين يوما , أو شهران أو ثلاثة إلى أربعة تسعة وعشرين يوما , لكن الغالب شهر أو شهران كاملة والثالث ناقص، فمتى تم الشهر السابق ثلاثين يوما حُكِمَ شرعا بدخول الشهر الذي يليه وإن لم يُرَ الهلال لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غُمِّيَ عليكم الشهر فعدوا ثلاثين» (1) ، وعند البخاري: «فإن غُبِّيَ عليكم فأكملوا عدَّة شعبان ثلاثين» ، وفي حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتحفظ من شعبان ما لا يتحفظ من غيره ثم يصوم لرؤية رمضان , فإن غمَّ أتم عليه ثلاثين يوما ثم صام» (2) .
وبهذه الأحاديث تبَيَّن أنه لا يصام رمضان قبل رؤية هلاله , فإن لم يُرَ الهلال أُكْمِلَ شعبانُ ثلاثين يوما، ولا يصام يوم الثلاثين منه سواء كانت الليلة صحوا أم غيما لقول عمار بن ياسر رضي الله عنه: «من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» (3) .
اللهم وَفِّقْنَا لاتباع الهدى، وجنِّبْنا أسباب الهلاك والشقاء، واجعل
__________
(1) رواه مسلم.
(2) أخرجه ابن خزيمة وأبو داود والدارقطني وصححه.
(3) رواه أبو داود والترمذي والنسائي، وذكره البخاري تعليقا.(20/207)
شهرنا هذا لنا شهر خير وبركة، وأعنا فيه على طاعتك، وجنِّبْنا طرق معصيتك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.(20/208)
المجلس الرابع: في حكم قيام رمضان
الحمد لله الذي أعان بفضله الأقدام السالكة، وأنقذ برحمته النفوس الهالكة، ويسَّر من شاء لليسرى فرغب في الآخرة، أحمده على الأمور اللذيذة والشائكة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ذو العزة والقهر فكل النفوس له ذليلة عانية، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله القائم بأمر ربه سرا وعلانية، صلى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكر الذي تُحَرِّض عليه الفرقة الآفكة، وعلى عمر الذي كانت نفسه لنفسه مالكة، وعلى عثمان منفق الأموال المتكاثرة، وعلى علي مفرِّق الأبطال في الجموع المتكاثفة، وعلى بقية الصحابة والتابعين لهم بإحسان ما قرعت الأقدام السالكة، وسلم تسليما.
إخواني: لقد شرع الله لعباده العبادات ونوَّعها لهم ليأخذوا من كل نوع منها بنصيب، ولئلا يملوا من النوع الواحد فيتركوا العمل فيشقى الواحد منهم ويخيب، وجعل منها فرائض لا يجوز النقص فيها ولا الإخلال، ومنها نوافل يحصل بها زيادة التقرب إلى الله والإكمال.
* فمن ذلك الصلاة: فرض الله منها على عباده خمس صلوات في اليوم والليلة خمسا في الفعل وخمسين في الميزان، وندب الله إلى(20/209)
زيادة التطوع من الصلوات تكميلا لهذه الفرائض وزيادة في القُربى إليه، فمن هذه النوافل الرواتب التابعة للصلوات المفروضة: ركعتان قبل صلاة الفجر، وأربع ركعات قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، ومنها صلاة الليل التي امتدح الله في كتابه القائمين بها فقال سبحانه: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان: 64] ، وقال: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 16، 17] ، وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل» (1) ، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصِلُوا الأرحام، وصَلُّوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام» (2) .
ومن صلاة الليل الوتر، أقله ركعة وأكثره إحدى عشرة ركعة، فيُوتِر بركعة مفردة لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من أحب أن يوتر بواحدة فليفعل» . " (3) ، فإن أحب سردها بسلام واحد لما روى الطحاوي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أوتر بثلاث ركعات لم يسلم إلا في آخرهن , وإن أحب صلى ركعتين وسلم ثم صلى الثالثة لما روى البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه كان يسلم بين الركعتين والركعة في الوتر حتى كان يأمر ببعض حاجته، ويوتر بخمس فيسردها جميعا لا يجلس ولا يسلم
__________
(1) رواه مسلم.
(2) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح وصححه الحاكم.
(3) رواه أبو داود والنسائي.(20/210)
إلا في آخرهن لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من أحب أن يوتر بخمس فليفعل» . " (1) وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة يوتر من ذلك بخمس لا يجلس في شيء منهن إلا في آخرهن» . (2) ، ويوتر بسبع فيسردها كالخمس لقول أم سلمة رضي الله عنها: «كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوتر بسبع وبخمس لا يفصل بينهن بسلام ولا كلام» (3) .
ويُوتِر بتسع فيسردها لا يجلس إلا في الثامنة، فيقرأ التشهد ويدعو ثم يقوم ولا يسلم فيصلي التاسعة ويتشهد ويدعو ويسلم لحديث عائشة رضي الله عنها في وِتر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت: «كان يصلي تسع ركعات لا يجلس فيها إلا في الثامنة فيذكر الله ويحمده ويدعوه ثم ينهض ولا يسلم، ثم يقوم فيصلي التاسعة ثم يقعد فيذكر الله ويحمده ويدعوه ثم يسلم تسليما يسمعنا» (4) ويصلي إحدى عشرة ركعة، فإن أحب سلَّم من كل ركعتين وأوتر بواحدة لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي ما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة يسلم بين كل ركعتين ويوتر بواحدة» (5) ، وإن أحب صلى أربعا ثم أربعا ثم ثلاثا لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي أربعا» (6) «فلا تسأل عن حسنهن
__________
(1) رواه أبو داود والنسائي.
(2) متفق عليه.
(3) رواه أحمد والنسائي وابن ماجه.
(4) رواه أحمد ومسلم.
(5) رواه الجماعة إلا الترمذي.
(6) يحتمل أن تكون الأربع بتسليم واحد وهو ظاهر اللفظ، ويحتمل أن تكون بتسليم من كل ركعتين، لكنه إذا صلى أربعا فصل، ثم صلى أربعا كذلك، وهذا هو الموافق لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صلاة الليل مثنى مثنى» .(20/211)
وطولهن، ثم يصلي أربعا، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثا» (1) وقال الفقهاء من الحنابلة والشافعية: يجوز في الوتر بإحدى عشرة أن يسردها بتشهد واحد أو بتشهدين في الأخيرة والتي قبلها.
وصلاة الليل في رمضان لها فضيلة ومزية على غيرها لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» . (2) ومعنى قوله: " إيمانا " أي: إيمانا بالله وبما أعَدَّه من الثواب للقائمين، ومعنى قوله: " احتسابا " أي: طلبا لثواب الله لم يحمله على ذلك رياء ولا سمعة ولا طلب مال ولا جاه، وقيام رمضان شامل للصلاة في أول الليل وآخره، وعلى هذا فالتراويح من قيام رمضان، فينبغي الحرص عليها والاعتناء بها واحتساب الأجر والثواب من الله عليها، وما هي إلا ليالٍ معدودة ينتهزها المؤمن العاقل قبل فواتها، وإنما سُمِّيَتْ تراويحَ لأن الناس كانوا يطيلونها جدا فكلما صلوا أربع ركعات استراحوا قليلا.
__________
(1) متفق عليه.
(2) متفق عليه.(20/212)
وكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أول من سَنَّ الجماعة في صلاة التراويح في المسجد، ثم تركها خوفا من أن تُفْرَض على أمته، فعن عائشة رضي الله عنها «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى في المسجد ذات ليلة وصلى بصلاته ناس ثم صلى من القابلة، وكثر الناس ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما أصبح قال: " قد رأيت الذي صنعتم فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تُفْرَض عليكم» (1) وذلك في رمضان. «وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: صمنا مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم يقم بنا حتى بقي سبع من الشهر، فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل، ثم لم يقم بنا في السادسة ثم قام بنا في الخامسة حتى ذهب شطر الليل أي: نصفه، فقلنا: يا رسول الله لو نَفَلْتَنَا بقية ليلتنا هذه؟ فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنه من قام مع الإمام حتى ينصرف كُتِبَ له قيام ليلة» (2) .
واختلف السلف الصالح في عدد الركعات في صلاة التروايح والوتر معها فقيل: إحدى وأربعون ركعة، وقيل: تسع وثلاثون، وقيل: تسع وعشرون، وقيل: ثلاث وعشرون، وقيل: تسع عشرة، وقيل: ثلاث عشرة، وقيل: إحدى عشرة، وقيل غير ذلك، وأرجح هذه الأقوال أنها إحدى عشرة أو ثلاث عشرة لِمَا رُوِيَ عن عائشة رضي الله عنها «أنها سُئِلَتْ: كيف كانت صلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في رمضان؟ فقالت: ما كان يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة» (3) ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كانت صلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاث عشرة ركعة يعني من الليل» (4)
__________
(1) متفق عليه.
(2) رواه أهل السنن بسند صحيح.
(3) متفق عليه.
(4) رواه البخاري.(20/213)
وعن السائب بن يزيد رضي الله عنه قال: أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أُبَيَّ بن كعب وتميما الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة (1) ، وكان السلف الصالح يطيلونها جدا، ففي حديث السائب بن يزيد رضي الله عنه قال: كان القارئ يقرأ بالمئين يعني بمئات الآيات حتى كنا نعتمد على العصي من طول القيام، وهذا خلاف ما عليه كثير من الناس اليوم حيث يصلون التراويح بسرعة عظيمة لا يأتون فيها بواجب الهدوء والطمأنينة التي هي ركن من أركان الصلاة لا تصح الصلاة بدونها، فيخلون بهذا
الركن ويتعبون من خلفهم من الضعفاء والمرضى وكبار السن، يجنون على أنفسهم ويجنون على غيرهم، وقد ذكر العلماء رحمهم الله أنه يُكْرَه للإمام أن يُسرع سرعة تمنع المأمومين فعل ما يسن، فكيف بسرعة تمنعهم فعل ما يجب؟ نسأل الله السلامة.
ولا ينبغي للرجل أن يتخلف عن صلاة التراويح لينال ثوابها وأجرها , ولا ينصرف حتى ينتهي الإمام منها ومن الوتر ليحصل له أجر قيام الليل كله، ويجوز للنساء حضور التراويح في المسجد إذا أمنت الفتنة منهن وبهن لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» . " (2) ، ولأن هذا من عمل السلف الصالح رضي الله عنهم، لكن يجب أن تأتي متسترة متحجبة غير متبرجة ولا متطيبة ولا رافعة صوتا ولا مبدية زينة لقوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [
__________
(1) رواه الإمام مالك في الموطأ.
(2) متفق عليه.(20/214)
النور: 31] ، أي: لكن ما ظهر منها فلا يمكن إخفاؤه وهو الجلباب والعباءة ونحوهما، ولأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لما أمر النساء بالخروج إلى الصلاة يوم العيد قالت أم عطية: يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب. قال: " لِتُلْبِسْهَا أختُها من جلبابها.» (1) والسنة للنساء أن يتأخرن عن الرجال ويبعدن عنهم، ويبدأن بالصف المؤخَّر فالمؤخر عكس الرجال، لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها» (2) ، وينصرفن من المسجد فور تسليم الإمام، ولا يتأخرن إلا لعذر «لحديث أم
سلمة رضي الله عنها قالت: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا سلم قام النساء حين يقضي تسليمه وهو يمكث في مقامه يسيرا قبل أن يقوم، قالت: نرى - والله أعلم - أن ذلك كان لكي ينصرف النساء قبل أن يدركهن الرجال» (3) .
اللهم وفقنا لما وفقت القوم إليه، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
__________
(1) متفق عليه.
(2) رواه مسلم.
(3) رواه البخاري.(20/215)
المجلس الخامس: في فضل تلاوة القرآن وأنواعها
الحمد لله الداعي إلى بابه، الموفق من شاء لصوابه، أنعم بإنزال كتابه، يشتمل على مُحْكَم ومتشابه، فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه، وأما الراسخون في العلم فيقولون آمنا به، أحمده على الهدى وتيسير أسبابه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أرجو بها النجاة من عقابه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أكمل الناس عملا في ذهابه وإيابه، صلى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكر أفضل أصحابه، وعلى عمر الذي أعز الله به الدين واستقامت الدنيا به، وعلى عثمان شهيد داره ومحرابه، وعلى علي المشهور بحل المشكِل من العلوم وكشف نقابه، وعلى آله وأصحابه ومن كان أولى به، وسلم تسليما.
إخواني: قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 29 - 30] .
تلاوة كتاب الله على نوعين: تلاوة حُكْميَّة وهي تصديق أخباره وتنفيذ أحكامه بفعل أوامره واجتناب نواهيه، وسيأتي الكلام عليها(20/217)
في مجلس آخر إن شاء الله.
والنوع الثاني
تلاوة لفظية
وهي قراءته وقد جاءت النصوص الكثيرة في فضلها إما في جميع القرآن، وإما في سور أو آيات معينة منه , فعن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه» (1) ، وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران» (2) .
والأجران أحدهما على التلاوة، والثاني على مشقتها على القارئ، وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «مَثَل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجَّة ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو» (3) ، وعن أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه» (4) .
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيتعلم أو فيقرأ آيتين من كتاب الله عز وجل خير له من ناقتين، وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع ومن أعدادهن من الإبل» (5) ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة،
__________
(1) رواه البخاري.
(2) متفق عليه.
(3) متفق عليه.
(4) رواه مسلم.
(5) رواه مسلم.(20/218)
وذكرهم الله فيمن عنده» (1) وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تعاهدوا القرآن فوالذي نفسي بيده لهو أشد تَفَلُّتًا من الإبل في عُقُلها» (2) ، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يقل أحدكم: نسيت آية كيت وكيت بل هو نُسِّيَ» (3) ؛ وذلك أن قوله: نَسِيت قد يُشْعِر بعدم المبالاة بما حفظ من القرآن حتى نسيه، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف» (4) وعنه رضي الله عنه أيضا أنه قال: «إن هذا القرآن مأدُبة الله فاقبلوا مأدبته ما استطعتم، إن هذا القرآن حبل الله المتين والنور
المبين، والشعاع النافع، عصمة لمن تمسك به ونجاة لمن اتبعه لا يزيغ فيُسْتَعْتَب ولا يعوج فيقوم ولا تنقضي عجائبه ولا يخْلَق من كثرة الترداد، اتلوه فإن الله يأجركم على تلاوته كل حرف عشر حسنات، أمَا إني لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف» (5) .
إخواني: هذه فضائل قراءة القرآن , وهذا أجره لمن احتسب الأجر من الله والرضوان، أجور كبيرة لأعمال يسيرة، فالمغبون من فرَّط فيه، والخاسر من فاته الربح حين لا يمكن تلافيه، وهذه الفضائل شاملة لجميع القرآن، وقد وردت السنة بفضائل سور معينة مخصصة.
* فمن تلك السور سورة الفاتحة، فعن أبي سعيد بن الْمُعلى رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: «لأعلمنك أعظم سورة في القرآن: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيتُه» (6)
__________
(1) رواه مسلم.
(2) متفق عليه.
(3) رواه مسلم.
(4) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه، وقد صححه بعض المتأخرين موقوفا على عبد الله.
(5) رواه الحاكم.
(6) رواه البخاري.(20/219)
، ومن أجل فضيلتها كانت قراءتها ركنا في الصلاة لا تصح الصلاة إلا بها، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» (1) ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من صلى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خِداج» يقولها ثلاثا , فقيل لأبي هريرة: إنا نكون وراء الإمام. فقال: اقرأ بها في نفسك (2) .
ومن السور المعينة سورة البقرة وآل عمران، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقرءوا الزهراوين: البقرة وآل عمران؛ فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان، أو كأنهما فِرْقان من طير صواف تُحَاجَّان عن أصحابهما، اقرءوا سورة البقرة فإن أَخْذها بركة وتركها حسرة، ولا تستطيعها البَطَلَة - يعني السَّحَرَة -» (3) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن البيت الذي تُقْرَأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان» (4) ؛ وذلك لأن فيها آية الكرسي، وقد صح عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أن من قرأها في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا قربه شيطان حتى يُصْبِح.
» «وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن جبريل قال وهو عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هذا باب قد فُتِحَ من السماء ما فُتِحَ قط، قال: فنزل منه مَلَك
__________
(1) متفق عليه.
(2) رواه مسلم.
(3) رواه مسلم.
(4) رواه مسلم.(20/220)
فأتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: أَبْشِرْ بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب وخواتيم البقرة، لن تقرأ بحرف منهما إلا أوتيته» (1) .
ومن السور المعينة في الفضيلة {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} ، فعن أبي سعيد الخدري أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال فيها: «والذي نفسي بيده إنها تعدل ثلث القرآن» (2) ، وليس معنى كونها تعدله في الفضيلة أنها تجزئ عنه، ولذلك لو قرأها في الصلاة ثلاث مرات لم تجزئه عن الفاتحة , ولا يلزم من كون الشيء معادلا لغيره في الفضيلة أن يجزئ، فعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الْمُلْك وله الحمد عشر مرات كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل» (3) ومع ذلك فلو كان عليه أربع رقاب كفارة فقال هذا الذكر لم يُجْزِئه عن هذه الرقاب وإن كان يعادلها في الفضيلة.
ومن السور المعينة في الفضيلة سورتا المعوذتين {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} : فعن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ألم تر آيات أُنْزِلت لم يُرَ مثلهن: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} » (4) ، وعنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أنه أمر عقبة أن يقرأ بهما ثم قال: " ما سأل سائل بمثلها ولا استعاذ مستعيذ بمثلها» (5)
__________
(1) رواه مسلم.
(2) رواه البخاري.
(3) متفق عليه.
(4) رواه مسلم.
(5) رواه النسائي.(20/221)
فاجتهدوا إخواني في كثرة قراءة القرآن المبارك لا سِيَّمَا في هذا الشهر الذي أنزل فيه، فإن لكثرة القراءة فيه مزية خاصة، وكان جبريل يعارض النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القرآن في رمضان كل سنة مرة، فلما كان العام الذي توفي فيه عارضه مرتين تأكيدا وتثبيتا، وكان السلف الصالح رضي الله عنهم يُكْثِرون من تلاوة القرآن في رمضان في الصلاة وغيرها، وكان الزهري رحمه الله إذا دخل رمضان يقول: إنما هو تلاوة القرآن وإطعام الطعام، وكان مالك رحمه الله إذا دخل رمضان ترك قراءة الحديث ومجالس العلم وأقبل على قراءة القرآن من المصحف، وكان قتادة رحمه الله يختم القرآن في كل سبع ليالٍ دائما وفي رمضان في كل ثلاث، وفي العشر الأخير منه في كل ليلة، وكان إبراهيم النخعي رحمه الله يختم القرآن في رمضان في كل ثلاث ليالٍ وفي العشر الأواخر في كل ليلتين، وكان الأسود رحمه الله يقرأ القرآن كله في ليلتين في جميع الشهر.
فاقتدوا رحمكم الله بهؤلاء الأخيار واتَّبِعوا طريقهم تلحقوا بالبَرَرَة الأطهار، واغتنموا ساعات الليل والنهار بما يُقَرِّبكم إلى العزيز الغفار، فإن الأعمار تُطْوَى سريعا والأوقات تمضي جميعا وكأنها ساعة من نهار.
اللهم ارزقنا تلاوة كتابك على الوجه الذي يرضيك عنا، واهدنا به سبل السلام، وأخرجنا به من الظلمات إلى النور، واجعله حجة لنا لا علينا يا رب العالمين.(20/222)
اللهم ارفع لنا به الدرجات، وأنقذنا به من الدركات، وكفر عنا به السيئات، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(20/223)
المجلس السادس: في أقسام الناس في الصيام
الحمد لله الذي أتقن بحكمته ما فطر وبَنَى، وشرع الشرائع رحمة وحكمة طريقا وسننا، وأمرنا بطاعته لا لحاجته بل لنا، يغفر الذنوب لكل من تاب إلى ربه ودنا، ويجزل العطايا لمن كان محسنا {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] . أحمده على فضائله سرا وعلنا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أرجو بها الفوز بدار النعيم والهنا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي رفعه فوق السماوات فدنا، صلى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكر القائم بالعبادة راضيا بالعنا، الذي شرفه الله بقوله: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] ، وعلى عمر الْمُجِدِّ في ظهور الإسلام فما ضعف ولا ونى، وعلى عثمان الذي رضي بالقدر وقد حل في الفِناء الفنا، وعلى علي القريب في النسب وقد نال المنى، وعلى سائر آله وأصحابه الكرام الأمناء، وسلم تسليما.
إخواني: سبق في المجلس الثالث أَنَّ فَرْضَ الصيامِ كان في أول الأمر على مرحلتين، ثم استقرت أحكام الصيام فكان الناس فيها أقساما عشرة:
* القسم الأول: المسلم البالغ العاقل المقيم القادر السالم من الموانع، فيجب(20/225)
عليه صوم رمضان أداء في وقته لدلالة الكتاب والسنة والإجماع على ذلك، قال الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] ، وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«إذا رأيتم الهلال فصوموا» (1) وأجمع المسلمون على وجوب الصيام أداء على مَنْ وصفنا.
فأما الكافر فلا يجب عليه الصيام ولا يصح منه لأنه ليس أهلا للعبادة، فإذا أسلم في أثناء شهر رمضان لم يلزمه قضاء الأيام الماضية , لقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] ، وإن أسلم في أثناء يوم منه لزمه إمساك بقية اليوم؛ لأنه صار من أهل الوجوب حين إسلامه، ولا يلزمه قضاؤه لأنه لم يكن من أهل الوجوب حين وقت وجوب الإمساك.
* القسم الثاني: الصغير فلا يجب عليه الصيام حتى يبلغ لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رُفِعَ القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يكبر، وعن المجنون حتى يفيق» (2) ، لكن يأمره وليه بالصوم إذا أطاقه تمرينا له على الطاعة ليألفها بعد بلوغه اقتداءً بالسلف الصالح رضي الله عنهم , فقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يُصَوِّمُون أولادهم وهم صغار، ويذهبون إلى المسجد فيجعلون لهم اللعبة من العِهْن (يعني الصوف أو نحوه)
__________
(1) متفق عليه.
(2) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وصححه الحاكم.(20/226)
فإذا بكوا من فقد الطعام أعطوهم اللعبة يَتَلَهَّوْنَ بها.
وكثير من الأولياء اليوم يغفلون عن هذا الأمر ولا يأمرون أولادهم بالصيام , بل إن بعضهم يمنع أولاده من الصيام مع رغبتهم فيه , يزعم أن ذلك رحمة بهم , والحقيقة أن رحمتهم هي القيام بواجب تربيتهم على شعائر الإسلام وتعاليمه القَيِّمة , فَمَنْ منعهم مِنْ ذلك أو فرط فيه كان ظالما لهم ولنفسه أيضا، نعم إن صاموا فرأى عليهم ضررا بالصيام فلا حرج عليه في منعهم منه حينئذ.
ويحصل بلوغ الذكر بواحد من أمور ثلاثة:
* أحدهما:
إنزال المني باحتلام أو غيره لقوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور: 59] ، وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «غسل الجمعة واجب على كل محتلم» (1) .
* الثاني: نبات شعر العانة وهو الشعر الخشن ينبت حول القبل , لقول عَطِيَّةَ القُرَظِيِّ رضي الله عنه: «عُرضنا على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم قُرَيْظَة فمن كان محتلما أو أنبت عانته قُتِلَ ومن لا تُرِكَ» (2) .
* الثالث:
بلوغ تمام خمس عشرة سنة لقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: «عُرِضْتُ على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يُجِزْني» (يعني للقتال) ، زاد البيهقي وابن حبان في صحيحه بسند صحيح: «ولم يرني بلغت، وعُرضت عليه يوم الخندق وأنا
__________
(1) متفق عليه.
(2) رواه أحمد والنسائي , وهو صحيح.(20/227)
ابن خمس عشرة سنة فأجازني» ، (زاد البيهقي وابن حبان في صحيحه بسند صحيح: ورآني بلغت) (1) ، قال نافع: فَقَدِمْتُ على عمر بن عبد العزيز وهو خليفة فحدثته الحديث فقال: إن هذا الحد بين الصغير والكبير وكتب لِعُمَّالِهِ أن يفرضوا (يعني من العطاء) لمن بلغ خمس عشرة سنة (2) .
ويحصل بلوغ الأنثى بما يحصل به بلوغ الذكر وزيادة أمر رابع وهو الحيض، فمتى حاضت الأنثى فقد بلغت، فيجري عليها قلم التكليف وإن لم تبلغ عشر سنين، وإذا حصل البلوغ أثناء نهار رمضان فإن كان من بلغ صائما أتم صومه ولا شيء عليه , وإن كان مفطرا لزمه إمساك يومه؛ لأنه صار من أهل الوجوب، ولا يلزمه قضاؤه لأنه لم يكن من أهل الوجوب حين وجوب الإمساك.
* القسم الثالث:
المجنون
وهو فاقد العقل فلا يجب عليه الصيام، لما سبق من قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رفع القلم عن ثلاثة» (الحديث) ، ولا يصح منه الصيام لأنه ليس له عقل يعقل به العبادة وينويها، والعبادة لا تصح إلا بنية لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» . . . "، فإن كان يُجَنُّ أحيانا ويفيق أحيانا لزمه الصيام في حال إفاقته دون حال جنونه، وإن جُنَّ في أثناء النهار لم يبطل صومه كما لو أُغْمِيَ عليه بمرض أو غيره؛ لأنه نوى الصوم وهو عاقل بنية صحيحة، ولا دليل على البطلان خصوصا إذا كان معلوما أن الجنون ينتابه في
__________
(1) رواه الجماعة.
(2) رواه البخاري.(20/228)
ساعات معينة، وعلى هذا فلا يلزم قضاء اليوم الذي حصل فيه الجنون، وإذا أفاق المجنون أثناء نهار رمضان لزمه إمساك بقية يومه؛ لأنه صار من أهل الوجوب، ولا يلزمه قضاؤه كالصبي إذا بلغ والكافر إذا أسلم.
* القسم الرابع: الْهَرِم الذي بلغ الهذيان وسقط تمييزه فلا يجب عليه الصيام ولا الإطعام عنه؛ لسقوط التكليف عنه بزوال تمييزه فَأَشْبَهَ الصبي قبل التمييز، فإن كان يميز أحيانا ويهذي أحيانا وجب عليه الصوم في حال تمييزه دون حال هذيانه , والصلاة كالصوم لا تلزمه حال هذيانه وتلزمه حال تمييزه.
* القسم الخامس: العاجز عن الصيام عجزا مستمرا لا يرجى زواله كالكبير والمريض مرضا لا يرجى برؤه كصاحب السرطان ونحوه , فلا يجب عليه الصيام لأنه لا يستطيعه وقد قال الله سبحانه: {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] ، وقال: {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] ، لكن يجب عليه أن يطعم بدل الصيام عن كل يوم مسكينا؛ لأن الله سبحانه جعل الإطعام معادلا للصيام حين كان التخيير بينهما أول ما فُرِضَ الصيام , فتعين أن يكون بدلا عن الصيام عند العجز عنه لأنه معادل له.(20/229)
ويُخَيَّر في الإطعام بين أن يفرقه حبا على المساكين لكل واحد مُدٌّ من البُّر ربع الصاع النبوي، ووزنه - أي: المد - نصف كيلو وعشرة غرامات بالبر الرزين الجيد، وبين أن يُصْلِح طعاما فيدعو إليه مساكين بقدر الأيام التي عليه، قال البخاري - رحمه الله -: وأما الشيخ الكبير إذا لم يُطِق الصيام فقد أطعم أنس بعدما كبر عاما أو عامين كل يوم مسكينا خبزا ولحما وأفطر، وقال ابن عباس رضي الله عنهما في الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكينا (1) .
إخواني: الشرع حكمة من الله تعالى ورحمة رحم الله بها عباده؛ لأنه شرع مبني على التسهيل والرحمة وعلى الإتقان والحكمة، أوجب الله به على كل واحد من المكلفين ما يناسب حاله ليقوم كل أحد بما عليه منشرحا به صدره ومطمئنة به نفسه، يرضى بالله ربا وبالإسلام دينا
__________
(1) رواه البخاري.(20/230)
وبمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبيا؛ فاحمدوا الله أيها المؤمنون على هذا الدين القيم، وعلى ما أنعم به عليكم من هدايتكم له وقد ضل عنه كثير من الناس، واسألوه أن يثبتكم عليه إلى الممات.
اللهم إنا نسألك بأنا نشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، يا ذا الجلال والإكرام يا منان يا بديع السماوات والأرض، يا حي يا قيوم، نسألك أن توفقنا لما تحب وترضى، وأن تجعلنا ممن رضي بك ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبيا، ونسألك أن تثبتنا على ذلك إلى الممات، وأن تغفر لنا الخطايا والسيئات، وأن تهب لنا منك رحمة إنك أنت الوهاب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وأتباعه إلى يوم الدين.(20/231)
المجلس السابع: في طائفة من أقسام الناس في الصيام
الحمد لله المتعالي عن الأنداد , المقدَّس عن النقائص والأضداد، المتنَزِّه عن الصاحبة والأولاد، رافع السبع الشداد , عالية بغير عماد، وواضع الأرض للمهاد , مُثَبَّتة بالراسيات الأطواد، المطَّلع على سر القلوب ومكنون الفؤاد، مقَدِّر ما كان وما يكون من الضلال والرشاد، في بحار لطفه تجري مراكب العباد، وفي ميدان حبه تجول خيل الزهَّاد، وعنده مبتغى الطالبين ومنتهى القصَّاد، وبعينه ما يتحمل المتحملون من أجله في الاجتهاد، يرى دبيب النمل الأسود في السواد، ويعلم ما توسوس به النفس في باطن الاعتقاد، جاد على السائلين فزادهم من الزاد، وأعطى الكثير للعاملين المخلصين في المراد، أحمده حمدا يفوق على الأعداد، وأشكره على نعمه وكلما شُكِرَ زاد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الرحيم بالعباد، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث إلى جميع الخلق في كل البلاد، صلى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكر الذي بذل من نفسه وماله وجاد، وعلى عمر الذي بالغ في نصر الإسلام وأجاد، وعلى عثمان الذي جَهَّزَ جيش العُسْرة فيا فخره يوم يقوم الأشهاد، وعلى علي المعروف بالشجاعة والجلاد، وعلى جميع الآل
والأصحاب والتابعين لهم بإحسان إلى يوم التناد، وسلم تسليما.(20/233)
إخواني: قدمنا الكلام عن خمسة أقسام من الناس في أحكام الصيام، ونتكلم في هذا المجلس عن طائفة أخرى من تلك الأقسام:
* فالقسم السادس:
المسافر إذا لم يقصد بسفره التَّحَيُّل على الفطر، فإن قصد ذلك فالفطر عليه حرام والصيام واجب عليه حينئذ، فإذا لم يقصد التحيل فهو مخير بين الصيام والفطر سواء طالت مدة سفره أم قصرت , وسواء كان سفره طارئا لغرض أم مستمرا كسائقي الطائرات وسيارات الأجرة لعموم قوله تعالى: {فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] ، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنا نسافر مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم يعب الصائمُ على المفطر ولا المفطر على الصائم (1) ، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: يرون أن من وجد قوة فصام فإن ذلك حسن، ويرون أن من وجد ضعفا فأفطر فإن ذلك حسن (2) ، «وعن حمزة بن عمرو الأسلمي أنه قال: يا رسول الله إني صاحب ظهر أعالجه أسافر عليه وأكريه، وإنه ربما صادفني هذا الشهر يعني رمضان وأنا أجد القوة وأنا شاب فأجد بأن الصوم يا رسول الله أهون علي من أن أؤخره فيكون دينا علي , أفأصوم يا رسول الله أعظم لأجري أم أفطر؟ قال: " أي ذلك شئت يا حمزة» (3) .
__________
(1) متفق عليه.
(2) رواه مسلم.
(3) رواه أبو داود وفي إسناده ضعف وله شواهد، وأصله في صحيح مسلم عن حمزة أنه قال: يا رسول الله أجد بي قوة على الصيام في السفر فهل علي جناح؟ فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هي رخصة من الله من أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه» .(20/234)
فإذا كان صاحب سيارة الأجرة يشق عليه الصوم في رمضان في السفر من أجل الحر مثلا فإنه يؤخره إلى وقت يبرد فيه الجو ويتيسر فيه الصيام عليه، والأفضل للمسافر فعل الأسهل عليه من الصيام والفطر، فإن تساويا فالصوم أفضل لأنه أسرع في إبراء ذمته وأنشط له إذا صام مع الناس، ولأنه فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال: «خرجنا مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في رمضان في حر شديد، حتى أن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعبد الله بن رواحة» (1) ، وأفطر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مراعاة لأصحابه حين بلغه أنهم شق عليهم الصيام، فعن جابر رضي الله عنه «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج إلى مكة عام الفتح فصام حتى بلغ كُرَاع الغميم، فصام الناس معه فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام، وإنهم ينظرون فيما فعلت، فدعا بقدح من ماء بعد العصر فشرب والناس ينظرون إليه» (2) ، وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتى على نهر من السماء والناس صيام في يوم صائف مشاة، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على بغلة له، فقال: "
اشربوا أيها الناس " فأبوا، فقال: " إني لست مثلكم، إني أيسركم، إني ركْبٌ، فأبوا، فثنى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فخذه فنزل فشرب وشرب الناس، وما كان يريد أن يشرب صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» (3) .
وإذا كان المسافر يشق عليه الصوم فإنه يفطر ولا يصوم في
__________
(1) رواه مسلم.
(2) رواه مسلم.
(3) رواه أحمد وسنده جيد قاله في الفتح الرباني.(20/235)
السفر، ففي حديث جابر السابق أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أفطر حين شق الصوم على الناس قيل له: إن بعض الناس قد صام، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أولئك العصاة، أولئك العصاة» (1) .
وعن جابر أيضا «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان في سفر، فرأى زحاما ورجلا قد ظُلِّل عليه، فقال: " ما هذا؟ " قالوا: صائم. فقال: " ليس من البر الصيام في السفر» (2) ، وإذا سافر الصائم في أثناء اليوم وشق عليه إكمال صومه جاز له الفطر إذا خرج من بلده؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صام وصام الناس معه حتى بلغ كراع الغميم، فلما بلغه أن الناس قد شق عليهم الصيام أفطر وأفطر الناس معه، وكراع الغميم جبل أسود في طرف الْحَرَّة يمتد إلى الوادي المسمى بالغميم بين عُسْفان ومَرِّ الظَّهْران.
وإذا قدم المسافر إلى بلده في نهار رمضان مفطرا لم يصح صومه ذلك اليوم؛ لأنه كان مفطرا في أول النهار، والصوم الواجب لا يصح إلا من طلوع الفجر، ولكن هل يلزمه الإمساك بقية اليوم؟ اختلف العلماء في ذلك فقال بعضهم: يجب عليه أن يمسك بقية اليوم احتراما للزمن، ويجب عليه القضاء أيضا لعدم صحة صوم ذلك اليوم، وهذا المشهور من مذهب أحمد رحمه الله، وقال بعض العلماء: لا يجب عليه أن يمسك بقيه ذلك اليوم؛ لأنه لا يستفيد من هذا الإمساك شيئا لوجوب القضاء عليه، وحرمة الزمن قد زالت بفطره المباح له أول النهار ظاهرا وباطنا، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:
__________
(1) رواه مسلم.
(2) متفق عليه.(20/236)
من أكل أول النهار فليأكل آخره، أي: من حل له الأكل أول النهار بعذر حل له الأكل آخره، وهذا مذهب مالك والشافعي ورواية عن الإمام أحمد، ولكن لا يُعلِن أكله ولا شربه لخفاء سبب الفطر فيُساء به الظن أو يُقتدَى به.
* القسم السابع: المريض الذي يرجى برء مرضه وله ثلاث حالات:
* إحداها: أن لا يشق عليه الصوم ولا يضره، فيجب عليه الصوم لأنه ليس له عذر يبيح الفطر.
* الثانية: أن يشق عليه الصوم ولا يضره فيفطر لقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] ، ويُكْرَه له الصوم مع المشقة لأنه خروج عن رخصة الله تعالى وتعذيب لنفسه , وفي الحديث: «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته» (1) * الحال الثالثة: أن يضره الصوم فيجب عليه الفطر ولا يجوز له الصوم لقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29] ، وقوله: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] ، ولقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن لنفسك عليك حقا» (2) ، ومن حقها أن لا تضرها مع وجود رخصة الله سبحانه، ولقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا ضرر ولا ضرار» (3) .
__________
(1) رواه أحمد وابن حبان وابن خزيمة في صحيحيهما وفي سنده شيء من الاضطراب لكن له شواهد من الحديث وأصول الشريعة.
(2) رواه البخاري.
(3) أخرجه ابن ماجه والحاكم، قال النووي: وله طرق يقوي بعضها بعضا.(20/237)
وإذا حدث له المرض في أثناء رمضان وهو صائم وشق عليه إتمامه جاز له الفطر لوجود المبيح للفطر , وإذا برئ في نهار رمضان وهو مفطر لم يصح أن يصوم ذلك اليوم لأنه كان مفطرا في أول النهار , والصوم لا يصح إلا من طلوع الفجر , ولكن هل يلزمه أن يمسك بقية يومه؟ فيه خلاف بين العلماء سبق ذكره في المسافر إذا قدم مفطرا.
وإذا ثبت بالطب أن الصوم يجلب المرض أو يؤخر برءه جاز له الفطر محافظة على صحته واتقاء للمرض , فإن كان يُرْجى زوال هذا الخطر انتظر حتى يزول ثم يقضي ما أفطر , وإن كان لا يرجى زواله فحكمه حكم القسم الخامس , يفطر ويطعم عن كل يوم مسكينا.
اللهم وفقنا للعمل بما يرضيك , وجنبنا أسباب سخطك ومعاصيك , واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين , وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(20/238)
المجلس الثامن: في بقية أقسام الناس في الصيام وأحكام القضاء
الحمد لله الواحد العظيم الجبار، القدير القوي القهار، المتعالي عن أن تدركه الخواطر والأبصار، وسم كل مخلوق بسمة الافتقار، وأظهر آثار قدرته بتصريف الليل والنهار، يسمع أنين المدنف يشكو ما به من الأضرار، ويبصر دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الغار، ويعلم خفي الضمائر ومكنون الأسرار، صفاته كذاته والمشبهة كفار، نُقِرُّ بما وصف به نفسه على ما جاء في القرآن والأخبار: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ} [التوبة: 109] . أحمده سبحانه على المسارِّ والمضارِّ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، المتفرد بالخلق والتدبير {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص: 68] ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل الأنبياء الأطهار، صلَّى الله عليه وعلى أبي بكر رفيقه في الغار، وعلى عمر قامع الكفار، وعلى عثمان شهيد الدار، وعلى علي القائم بالأسحار، وعلى آله وأصحابه خصوصا المهاجرين والأنصار، وسلم تسليما.
إخواني: قدمنا الكلام عن سبعة أقسام من أقسام الناس في الصيام وهذه بقية الأقسام:
*(20/239)
القسم الثامن: الحائض فيحرم عليها الصيام ولا يصح منها لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في النساء: «ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب لِلُبِّ الرجل الحازم من إحداكن ". قلن: وما نقصان عقلنا وديننا يا رسول الله؟ قال: " أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟ قلن: بلى. قال: " فذلك نقصان عقلها، أليس إذا حاضت لم تُصَلِّ ولم تصم؟ قلن: بلى. قال: " فذلك من نقصان دينها» (1) .
والحيض دم طبيعي يعتاد المرأة في أيام معلومة.
وإذا ظهر الحيض منها وهي صائمة ولو قبل الغروب بلحظة بطل صوم يومها ولزمها قضاؤه إلا أن يكون صومها تطوعا فقضاؤه تطوع لا واجب.
وإذا طهرت من الحيض في أثناء نهار رمضان لم يصح صومها بقية اليوم لوجود ما ينافي الصيام في حقها في أول النهار، وهل يلزمها الإمساك بقية اليوم؟ فيه خلاف بين العلماء سبق ذكره في المسافر إذا قدم مفطرا.
وإذا طهرت في الليل في رمضان ولو قبل الفجر بلحظة وجب عليها الصوم؛ لأنها من أهل الصيام وليس فيها ما يمنعه فوجب عليها الصيام، ويصح صومها حينئذ وإن لم تغتسل إلا بعد طلوع الفجر كالجنب إذا صام ولم يغتسل إلا بعد طلوع الفجر فإنه يصح صومه
__________
(1) متفق عليه.(20/240)
لقول عائشة رضي الله عنها: «كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصبح جنبا من جماع غير احتلام ثم يصوم في رمضان» (1) .
والنفساء كالحائض في جميع ما تقدم.
ويجب عليهما القضاء بعدد الأيام التي فاتتهما لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] ، وسئلت عائشة رضي الله عنها: «ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ قالت: كان يصيبنا ذلك فَنُؤْمَر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة» (2)
* القسم التاسع: المرأة إذا كانت مُرضعا أو حاملا وخافت على نفسها أو على الولد من الصوم فإنها تفطر لحديث أنس بن مالك الكعبي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة وعن المسافر والحامل والمرضع الصوم أو الصيام» (3) ، ويلزمها القضاء بعدد الأيام التي أفطرت حين يتيسر لها ذلك ويزول عنها الخوف كالمريض إذا برأ.
* القسم العاشر: من احتاج للفطر لدفع ضرورة غيره كإنقاذ معصوم المعصوم: الآدمي المحرم قتله. من غرق أو حريق أو هدم أو نحو ذلك، فإذا كان لا يمكنه إنقاذه إلا بالتَّقَوِّي
__________
(1) متفق عليه.
(2) رواه مسلم، وهو من أحاديث العمدة وعزاه في المنتقى للجماعة.
(3) أخرجه الخمسة وهذا لفظ ابن ماجه , وهو حسن.(20/241)
عليه بالأكل والشرب جاز له الفطر، بل وجب الفطر حينئذ لأن إنقاذ المعصوم من الهلكة واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ويلزمه قضاء ما أفطره.
ومثل ذلك من احتاج إلى المطر للتَّقَوِّي به على الجهاد في سبيل الله في قتاله العدو فإنه يفطر ويقضي ما أفطر سواء كان ذلك في السفر أم في بلده إذا حضره العدو؛ لأن في ذلك دفاعا عن المسلمين وإعلاء لكلمة الله عز وجل، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «سافرنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى مكة ونحن صيام فنزل منزلا فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم "، فكانت رخصة فَمِنَّا من صام ومنا من أفطر، ثم نزلنا منزلا آخر فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنكم مُصَبِّحو عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا "، وكانت عزمة فأفطرنا» (1) . ففي هذا الحديث إيماء إلى أن القوة على القتال سبب مستقل غير السفر؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعل علة الأمر بالفطر القوة على قتال العدو دون السفر، ولذلك لم يأمرهم بالفطر في المنزل الأول.
وكل من جاز له الفطر بسبب مما تقدم فإنه لا يُنكَر عليه إعلان فطره إذا كان سببه ظاهرا كالمريض والكبير الذي لا يستطع الصوم، وأما إن كان سبب فطره خفيا كالحائض ومن أنقذ معصوما من هلَكة فإنه يفطر سرا ولا يعلن فطره لئلا يجر التهمة إلى نفسه، ولئلا يغتر به الجاهل فيظن أن الفطر جائز بدون عذر.
__________
(1) رواه مسلم.(20/242)
وكل من لزمه القضاء من الأقسام السابقة فإنه يقضي بعدد الأيام التي أفطر لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] ، فإن أفطر جميع الشهر لزمه جميع أيامه، فإن كان الشهر ثلاثين يوما لزمه ثلاثون يوما، وإن كان تسعة وعشرين يوما لزمه تسعة وعشرون يوما فقط.
والْأَوْلَى المبادرة بالقضاء من حين زوال العذر لأنه أسبق إلى الخير وأسرع في إبراء الذمة.
ويجوز تأخيره إلى أن يكون بينه وبين رمضان الثاني بعدد الأيام التي عليه لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة 185] . ومن تمام اليسر جواز تأخير قضائها، فإذا كان عليه عشرة أيام من رمضان جاز تأخيرها إلى أن يكون بينه ويبن رمضان الثاني عشرة أيام.
ولا يجوز تأخير القضاء إلى رمضان الثاني بدون عذر لقول عائشة رضي الله عنها: كان يكون علي الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان (1) . ولأن تأخيره إلى رمضان الثاني يوجب أن يتراكم عليه الصوم، وربما يعجز عنه أو يموت، ولأن الصوم عبادة متكررة فلم يجز تأخير الْأُولَى إلى وقت الثانية كالصلاة، فإن استمر به العذر حتى مات فلا شيء عليه لأن الله سبحانه أوجب عليه عدة من أيام أخر، ولم يتمكن منها فسقطت عنه، كمن مات قبل دخول شهر رمضان لا يلزمه صومه، فإن تمكن من القضاء ففرط فيه حتى مات صام وليه عنه جميع الأيام التي تمكن من قضائها،
__________
(1) رواه البخاري.(20/243)
لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه» (1)
ووليه وارثه أو قريبه، ويجوز أن يصوم عنه جماعة بعدد الأيام التي عليه في يوم واحد، قال البخاري: قال الحسن: إن صام عنه ثلاثون رجلا يوما واحدا جاز، فإن لم يكن له ولي أو كان له ولي لا يريد الصوم عنه أُطْعِمَ من تركته عن كل يوم مسكينٌ بعدد الأيام التي تمكن من قضائها، لكل مسكين مُدّ بُرّ وزنه بالبر الجيد نصف كيلو وعشرة غرامات.
إخواني: هذه أقسام الناس في أحكام الصيام شرع الله فيها لكل قسم ما يناسب الحال والمقام فاعرفوا حكمة ربكم في هذه الشريعة، واشكروا نعمته عليكم في تسهيله وتيسيره، واسألوه الثبات على هذا الدين إلى الممات.
اللهم اغفر لنا ذنوبا حالت بيننا وبين ذكرك، واعف عن تقصيرنا في طاعتك وشكرك، وأدم علينا لزوم الطريق إليك، وهب لنا نورا نهتدي به إليك، اللهم أذقنا حلاوة مناجاتك، واسلك بنا سبيل أهل مرضاتك، اللهم أنقذنا من دركاتنا , وأيقظنا من غفلاتنا , وألهمنا رشدنا , وأحسن بكرمك قصدنا، اللهم احشرنا في زمرة المتقين، وألحقنا بعبادك الصالحين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
__________
(1) متفق عليه.(20/244)
المجلس التاسع: في حِكَم الصيام
الحمد لله مدبر الليالي والأيام، ومصرِّف الشهور والأعوام، الملك القدوس السلام، المتفرِّد بالعظمة والبقاء والدوام، الْمُتَنَزِّه عن النقائص ومشابهة الأنام، يرى ما في داخل العروق وبواطن العظام، ويسمع خفي الصوت ولطيف الكلام، إله رحيم كثير الإنعام، ورب قدير شديد الانتقام، قدَّر الأمور فأجراها على أحسن نظام، وشَرَع الشرائع فأحكمها أيما إحكام، بقدرته تهب الرياح ويسير الغمام، وبحكمته ورحمته تتعاقب الليالي والأيام، أحمده على جليل الصفات وجميل الإنعام، وأشكره شكر من طلب المزيد ورام، وأشهد أن لا إله إلا الله الذي لا تحيط به العقول والأوهام، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل الأنام، صلى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكر السابق إلى الإسلام، وعلى عمر الذي إذا رآه الشيطان هام، وعلى عثمان الذي جهز بماله جيش العسرة وأقام، وعلى علي البحر الخضم والأسد الضرغام، وعلى سائر آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان على الدوام، وسلم تسليما.
عباد الله: اعلموا رحمكم الله أن الله سبحانه له الحكم التام والحكمة البالغة فيما خَلَقَهُ وفيما شَرَعَهُ، فهو الحكيم في خَلْقِهِ وفي شَرْعِهِ، لم يخلق عباده لعبا، ولم يتركهم سُدًى، ولم يُشَرِّع لهم الشرائع(20/245)
عبثا، بل خلقهم لأمر عظيم، وهيَّأهم لخطب جسيم، وبيَّن لهم الصراط المستقيم، وشرع لهم الشرائع يزداد بها إيمانهم، وتكمل بها عبادتهم، فما من عبادة شرعها الله لعباده إلا لحكمة بالغة، عَلِمَها مَنْ عَلِمَها وجَهِلَها مَنْ جَهِلَها، وليس جهلنا بحكمة شيء من العبادات دليلا على أنه لا حكمة لها، بل هو دليل على عجزنا وقصورنا عن إدراك حكمة الله سبحانه {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85] .
وقد شرع الله العبادات ونظَّم المعاملات ابتلاء وامتحانا لعباده ليتبين بذلك من كان عابدا لمولاه ممن كان عابدا لهواه، فمن تقبَّل هذه الشرائع وتلك النظم بصدر منشرح ونفس مطمئنة فهو عابد لمولاه، راض بشريعته مقدِّم لطاعة ربه على هوى نفسه، ومن كان لا يقبل من العبادات، ولا يتبع من النظم إلا ما ناسب رغبته , ووافق مراده فهو عابد لهواه , ساخط لشريعة الله , معرض عن طاعة ربه، جعل هواه متبوعا لا تابعا، وأراد أن يكون شرع الله تابعا لرغبته مع قصور علمه وقلة حكمته: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 71] .
ومن حكمة الله سبحانه أن جعل العبادات متنوعة ليتحمص القبول والرضا {وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران: 141] ، فإن من الناس من قد يرضى بنوع من العبادات ويلتزم به، ويسخط نوعا آخر ويفرِّط فيه، فجعل(20/246)
الله من العبادات ما يتعلق بعمل البدن كالصلاة، ومنها ما يتعلق ببذل المال المحبوب إلى النفس كالزكاة، ومنها ما يتعلق بعمل البدن وبذل المال جميعا كالحج والجهاد، ومنها ما يتعلق بكف النفس عن محبوباتها ومشتَهَياتها كالصيام، فإذا قام العبد بهذه العبادات المتنوعة وأكملها على الوجه المطلوب منه دون سخط أو تفريط فتعب وعمل وبذل ما كان محبوبا إليه وكف عما تشتهيه نفسه طاعة لربه وامتثالا لأمره ورضا بشرعه كان ذلك دليلا على كمال عبوديته وتمام انقياده ومحبته لربه وتعظيمه له، فتحقَّق فيه وصف العبودية لله رب العالمين.
إذا تبين ذلك فإن للصيام حكما كثيرة استوجبت أن يكون فريضة من فرائض الإسلام وركنا من أركانه.
فمن حِكَم الصيام: أنه عبادة لله تعالى يتقرَّب العبد فيها إلى ربه بترك محبوباته ومشتَهَيَاته من طعام وشراب ونكاح، فيظهر بذلك صدق إيمانه وكمال عبوديته لله وقوة محبته له ورجائه ما عنده، فإن الإنسان لا يترك محبوبا له إلا لما هو أعظم عنده منه، ولما علم المؤمن أن رضا الله في الصيام بترك شهواته المجبول على محبتها قَدَّم رضا مولاه على هواه فتركها أشد ما يكون شوقا إليها؛ لأن لذته وراحة نفسه في ترك ذلك لله عز وجل، ولذلك كان كثير من المؤمنين لو ضُرِب أو حُبِس على أن يفطر يوما من رمضان بدون عذر لم يُفْطِر، وهذه الحكمة من أبلغ حكم الصيام وأعظمها.(20/247)
ومن حِكَم الصيام: أنه سبب للتقوى كما قال سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] ، فإن الصائم مأمور بفعل الطاعات واجتناب المعاصي كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» (1) . وإذا كان الصائم متلبِّسا بالصيام فإنه كلما هَمَّ بمعصية تذكر أنه صائم فامتنع عنها؛ ولهذا أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصائم أن يقول لمن سابَّه أو شاتمه: «إني امرؤ صائم» ، تنبيها له على أن الصائم مأمور بالإمساك عن السب والشتم، وتذكيرا لنفسه بأنه متلبس بالصيام فيمتنع عن المقابلة بالسب والشتم.
* ومن حكم الصيام: أن القلب يتخلى للفكر والذكر، لأن تناول الشهوات يستوجب الغفلة، وربما يُقَسِّي القلب ويُعْمِي عن الحق، ولذلك أرشد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى التخفيف من الطعام والشراب، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يُقِمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه» (2) ، وفي الحديث «أن حنظلة الأسيدي - وكان من كُتَّاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نافق حنظلةُ. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وما ذاك؟ " قال: يا رسول الله نكون عندك تذَكِّرنا بالنار والجنة حتى كأنا
__________
(1) رواه البخاري.
(2) رواه أحمد والنسائي وابن ماجه , وقال الترمذي: حديث حسن صحيح وصححه أيضا الحاكم.(20/248)
رأيُ عين فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيرا» (1) . وفيه: «ولكن يا حنظلة ساعة وساعة» ثلاث مرات، وقال أبو سليمان الدارني: إن النفس إذا جاعت وعطشت صفا القلب ورق، وإذا شبعت عَمِيَ القلب.
* ومن حكم الصيام: أن الغني يعرف به قدر نعمة الله عليه بالغنى حيث أنعم الله تعالى عليه بالطعام والشراب والنكاح، وقد حُرِمَها كثير من الخلق فيحمد الله على هذه النعمة ويشكره على هذا التيسير , ويذكر بذلك أخاه الفقير الذي ربما يبيت طاويا جائعا فيجود عليه بالصدقة يكسو بها عورته ويسد بها جوعته , ولذلك «كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيُدارِسه القرآن» .
ومن حكم الصيام: التَّمَرُّن على ضبط النفس , والسيطرة عليها , والقوة على الإمساك بزمامها حتى يتمكن من التحكم فيها ويقودها إلى ما فيه خيرها وسعادتها , فإن النفس أمارة بالسوء إلا ما رحم ربي , فإذا أطلق المرء لنفسه عنانها أوقعته في المهالك , وإذا ملك أمرها وسيطر عليها تمكن من قيادتها إلى أعلى المراتب وأسنى المطالب.
* ومن حكم الصيام: كسر النفس والحد من كبريائها حتى تخضع للحق وتلين للخلق، فإن الشبع والري ومباشرة النساء يحمل كل منها على الأشَر والبطر والعلو والتكبر على الخلق وعن الحق، وذلك أن النفس عند احتياجها لهذه الأمور تشتغل بتحصيلها، فإذا تمكَّنَت
__________
(1) رواه مسلم.(20/249)
منها رأت أنها ظفرت بمطلوبها فيحصل لها من الفرح المذموم والبطر ما يكون سببا لهلاكها، والمعصوم من عصمه الله تعالى.
* ومن حكم الصيام: أن مجاري الدم تضيق بسبب الجوع والعطش فتضيق مجارى الشيطان من البدن فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، كما ثبت ذلك في الصحيحين عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فتسكن بالصيام وساوس الشيطان، وتنكسر سَوْرَة الشهوة والغضب، ولذلك قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «" يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وِجاء» ، فجعل الصوم وجاء لشهوة النكاح وكسرا لحدتها.
* ومن حكم الصيام: ما يترتب عليه من الفوائد الصحية التي تحصل بتقليل الطعام وإراحة جهاز الهضم لمدة معينة ومنع ترسب بعض الرطوبات والفضلات الضارة بالجسم وغير ذلك.
فما أعظم حكمة الله وأبلغها وما أنفع شرائعه للخلق وأصلحها.
اللهم فَقِّهْنَا في دينك، وألهمنا معرفة أسرار شريعتك، وأصلح لنا شؤون ديننا ودنيانا، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(20/250)
المجلس العاشر: في آداب الصيام الواجبة
الحمد لله الذي أرشد الخلق إلى أكمل الآداب، وفتح لهم من خزائن رحمته وجوده كل باب، أنار بصائر المؤمنين فأدركوا الحقائق وطلبوا الثواب، وأعمى بصائر المعرضين عن طاعته فصار بينهم وبين نوره حجاب.
هدى أولئك بفضله ورحمته وأضل الآخرين بعدله وحكمته، إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك العزيز الوهاب، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث بأَجَلِّ العبادات وأكمل الآداب، صلى الله عليه وعلى جميع الآل والأصحاب، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم المآب، وسلم تسليما.
إخواني: اعلموا أن للصيام آدابا كثيرة لا يتم إلا بها ولا يكمل إلا بالقيام بها، وهي على قسمين: آداب واجبة لا بد للصائم من مراعاتها والمحافظة عليها، وآداب مستحبة ينبغي أن يراعيها ويحافظ عليها.
فمن الآداب الواجبة أن يقوم الصائم بما أوجب الله عليه من العبادات القولية والفعلية، ومن أهمها الصلاة المفروضة التي هي آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين، فتجب مراعاتها بالمحافظة(20/251)
عليها والقيام بأركانها وواجباتها وشروطها، فيؤديها في وقتها مع الجماعة في المساجد، فإن ذلك من التقوى التي من أجلها شُرِع الصيام وفُرِض على الأمة، وإضاعة الصلاة مُنَافٍ للتقوى وموجب للعقوبة، قال الله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} [مريم: 59 - 60] .
ومن الصائمين من يتهاون بصلاة الجماعة مع وجوبها عليه، وقد أمر الله بها في كتابه فقال: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا} (يعني أتموا صلاتهم) {فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102] .
فأمر الله بالصلاة مع الجماعة في حال القتال والخوف، ففي حال الطمأنينة والأمن أَوْلَى، وعن أبي هريرة رضي الله عنه «أن رجلا أعمى قال: يا رسول الله ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فرخص له، فلما وَلَّى دعاه وقال: " هل تسمع النداء بالصلاة؟ " قال: نعم. قال: " فأجب» (1) ، فلم يُرَخِّص له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ترك الجماعة مع أنه رجل أعمى وليس له قائد، وتارك الجماعة مع إضاعته الواجب قد حرم نفسه خيرا كثيرا من مضاعفة الحسنات , فإن صلاة الجماعة مضاعفة , كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة» (2) .
__________
(1) رواه مسلم.
(2) متفق عليه.(20/252)
وفوت المصالح الاجتماعية التي تحصل للمسلمين باجتماعهم على الصلاة من غرس المحبة والألفة وتعليم الجاهل ومساعدة المحتاج وغير ذلك.
وبترك الجماعة يعرض نفسه للعقوبة ومشابهة المنافقين، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «أثقل الصلوات على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حَبْوا , وقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلا فيصلي بالناس ثم أنطلق معي برجال معهم حِزَم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار» (1)
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: من سره أن يلقى الله غدا مسلما فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث يُنادَى بهن، فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى وإنهن من سنن الهدى، قال: ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يُهادَى بين الرجلين حتى يقام في الصف (2) .
ومن الصائمين من يتجاوز بالأمر فينام عن الصلاة في وقتها، وهذا من أعظم المنكرات وأشد الإضاعة للصلوات حتى قال كثير من العلماء: إن من أخر الصلاة عن وقتها بدون عذر شرعي لم يقبل وإن صلى مائة مرة لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» (3) . والصلاة بعد وقتها ليس عليها أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتكون مردودة غير مقبولة.
__________
(1) متفق عليه.
(2) رواه مسلم.
(3) رواه مسلم.(20/253)
* ومن الآداب الواجبة: أن يجتنب الصائم جميع ما حرم الله ورسوله من الأقوال والأفعال , فيجتنب الكذب وهو الإخبار بخلاف الواقع , وأعظمه الكذب على الله ورسوله , كأن ينسب إلى الله أو إلى رسوله تحليل حرام أو تحريم حلال , قال الله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} {مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل: 116 - 117] .
وعن أبي هريرة وغيره أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» (1) . وحذر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الكذب فقال: «إياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يُكْتَب عند الله كذابا» (2) .
* ويجتنب الغيبة , وهي ذكرك أخاك بما يكره في غيبته , سواء ذكرته بما يكره في خلقته كالأعرج والأعور والأعمى على سبيل العيب والذم، أو بما يكره في خُلُقه كالأحمق والسفيه والفاسق ونحوه، وسواء كان فيه ما تقول أم لم يكن؛ لأن «النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن الغيبة فقال: " هي ذكرك أخاك بما يكره " قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: " إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بَهَتَّهُ» (3) . ولقد نهى الله عن الغيبة في القرآن وشبَّهَهَا بأبشع صورة، شبَّهَهَا بالرجل يأكل لحم أخيه ميتا فقال تعالى: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ
__________
(1) متفق عليه.
(2) متفق عليه.
(3) رواه مسلم.(20/254)
مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12] ، «وأخبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه مر ليلة المعراج بقوم لهم أظافر من نُحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم فقال: " من هؤلاء يا جبريل؟ " قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم» رواه أبو داود.
* ويجتنب النميمة، وهي نقل كلام شخص في شخص إليه ليُفسد بينهما , وهي من كبائر الذنوب , قال فيها رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يدخل الجنة نمام» (1) ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مر بقبرين فقال: " إنهما لَيعذَّبان وما يعذَّبان في كبير (أي: في أمر شاق عليهما) أما أحدهما فكان لا يسْتَنْزه من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة» (2) ، والنميمة فساد للفرد والمجتمع وتفريق بين المسلمين، وإلقاء للعداوة بينهم {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم: 10 - 11] ، فمن نَمَّ إليك نَمَّ فيك فاحذره.
* ويجتنب الغش في جميع المعاملات من بيع وإجارة وصناعة ورهن وغيرها , وفي جميع المناصحات والمشورات؛ فإن الغش من كبائر الذنوب، وقد تبرأ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من فاعله فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من غشنا فليس منا» ، وفي لفظ: «من غش فليس مني» (3) ، والغش: خديعة وخيانة وضياع للأمانة وفقد للثقة بين الناس , وكل كسب من الغش فإنه كسب خبيث حرام لا يزيد صاحبَه إلا بعدا من الله.
* ويجتنب المعازف وهي آلات اللهو بجميع أنواعها كالعود والربابة
__________
(1) متفق عليه.
(2) متفق عليه.
(3) رواه مسلم.(20/255)
والقانون والكمنجة والبيانو والكمان وغيرها؛ فإن هذه حرام وتزداد تحريما وإثما إذا اقترنت بالغناء بأصوات جميلة وأغاني مثيرة , قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [لقمان: 6] , صح عن ابن مسعود أنه سئل عن هذه الآية فقال: والله الذي لا إله غيره هو الغناء، وصح أيضا عن ابن عباس وابن عمر , وذكره ابن كثير عن جابر وعكرمة وسعيد بن جُبَيْر ومجاهد، وقال الحسن: نزلت هذه الآية في الغناء والمزامير، وقد حذر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المعازف وقَرَنَهَا بالزنا فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ليكونن من أمتي أقوام يستحِلُّون الْحِر والحرير والخمر والمعازف» (1) .
فالحر: الفرج والمراد به الزنا، ومعنى يستحلون أي: يفعلونها فعل المستحل لها بدون مبالاة، وقد وقع هذا في زمننا فكان من الناس من يستعمل هذه المعازف أو يستمعها كأنها شيء حلال، وهذا مما نجح فيه أعداء الإسلام بكيدهم للمسلمين حتى صدّوهم عن ذكر الله ومهامِّ دينهم ودنياهم، وأصبح كثير منهم يستمعون إلى ذلك أكثر مما يستمعون إلى قراءة القرآن والأحاديث وكلام أهل العلم المتضمن لبيان أحكام الشريعة وحكمها، فاحذروا أيها المسلمون نواقض الصوم ونواقصه , وصُونوه عن قول الزور والعمل به، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» ، وقال جابر رضي الله عنه: إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع عنك أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة،
__________
(1) رواه البخاري.(20/256)
ولا يكن يوم صومك ويوم فطرك سواء.
اللهم احفظ علينا ديننا، وكف جوارحنا عما يغضبك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(20/257)
المجلس الحادي عشر: في آداب الصيام المستَحَبَّة
الحمد لله مبلِّغ الراجي فوق مأموله، ومعطي السائل زيادة على مسؤوله، أحمده على نيل الهدى وحصوله، وأقر بوحدانيته إقرار عارف بالدليل وأصوله، وأصلي وأسلم على نبينا محمد عبده ورسوله، وعلى صاحبه أبي بكر الملازم له في ترحاله وحلوله، وعلى عمر حامي الإسلام بعزم لا يخاف من فلوله، وعلى عثمان الصابر على البلاء حين نزوله، وعلى علي بن أبي طالب الذي أرهب الأعداء بشجاعته قبل نصوله، وعلى جميع آله وأصحابه الذين حازوا قصب السبق في فروع الدين وأصوله، ما تردد النسيم بين جَنوبه وشماله وغربه وقَبوله.
إخواني: هذا المجلس في بيان القسم الثاني من آداب الصوم، وهي الآداب المستحَبَّة، فمنها: السحور وهو الأكل في آخر الليل، سُمِّيَ بذلك لأنه يقع في السحر، فقد أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ به فقال: «تسَحَّروا فإن في السحور بركة» (1) ، وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكْلة السحر» (2) ، وأثنى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على سحور التمر فقال: «نِعْمَ سحور المؤمن التمر» (3) ،
__________
(1) متفق عليه.
(2) رواه مسلم.
(3) رواه أبو داود وإسناده حسن وله شواهد يصل بها إلى درجة الصحة.(20/259)
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «السحور كله بركة فلا تَدَعوه ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء فإن الله وملائكته يُصَلُّون على المتسحرين» (1) .
* وينبغي للمتسحر أن ينوي بسحوره امتثال أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , والاقتداء بفعله , ليكون سحوره عبادة , وأن ينوي به التَّقَوِّي على الصيام ليكون له به أجر، والسنة تأخير السحور ما لم يَخْشَ طلوعَ الفجر؛ لأنه فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فعن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه «أن نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وزيد بن ثابت تَسَحَّرَا , فلما فرغا من سحورهما قال نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إلى الصلاة " فصلى , قلنا لأنس: كم كان بين فراغهما من سحورهما ودخولهما في الصلاة؟ قال: قدر ما يقرأ الرجل خمسين آية» (2) ، وعن عائشة رضي الله عنها أن بلالا كان يؤذن بليل فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم، فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر» (3) ، وتأخير السحور أرفق بالصائم وأسلم من النوم عن صلاة الفجر، وللصائم أن يأكل ويشرب ولو بعد السحور ونية الصيام حتى يتيقن طلوع الفجر لقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] ، ويحكم بطلوع الفجر إما بمشاهدته في الأفق أو بخبر موثوق
به بأذان أو غيره، فإذا طلع الفجر أمسك وينوي بقلبه ولا يتلفظ بالنية لأن التلفظ بها بدعة.
*
__________
(1) رواه أحمد، وقال المنذري: إسناده قوي، والجملة الأولى منه لها شاهد في الصحيحين.
(2) رواه البخاري.
(3) رواه البخاري.(20/260)
ومن آداب الصيام المستحبة تعجيل الفطور إذا تحقق غروب الشمس بمشاهدتها أو غلب على ظنه الغروب بخبر موثوق به بأذان أو غيره، فعن سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لا يزال الناس بخير ما عَجَّلوا الفطر» (1) ، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يرويه عن ربه عز وجل: «إن أحب عبادي إلي أعجلهم فطرا» (2) ، والسنة أن يفطر على رطب، فإن عُدِم فتمر، فإن عدم فماء، لقول أنس رضي الله عنه: «كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفطر قبل أن يصلي على رطبات، فإن لم تكن رطبات فتمرات، فإن لم تكن تمرات حسا حسوات من ماء» (3) ، فإن لم يجد رطبا ولا تمرا ولا ماء أفطر على ما تيسَّر من طعام أو شراب حلال، فإن لم يجد شيئا نوى الإفطار بقلبه، ولا يمص إصبعه أو يجمع ريقه ويبلعه كما يفعل بعض العوام.
* وينبغي أن يدعو عند فطره بما أحب، فعن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «إن للصائم عند فطره دعوة ما تُرَدُّ» (4) ، وعن معاذ بن زهرة مرسلا مرفوعا: كان إذا أفطر يقول: «اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت» (5) ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا أفطر يقول: «
__________
(1) متفق عليه.
(2) رواه أحمد والترمذي , وإسناده ضعيف , وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
(3) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وإسناده حسن جدا.
(4) رواه ابن ماجه، وقال في الزوائد: إسناده صحيح وضعَّفه بعضهم، وسبب اختلافهم في صحته اختلافهم في تعيين أحد رواته، لكن له شواهد في إجابة دعوة الصائم مطلقا فالحديث بذلك حسن.
(5) رواه أبو داود، ومعاذ بن زهرة تابعي وَثَّقَهُ ابن حبان، فالحديث ضعيف لإرساله لكن له شاهد ربما يقوى به.(20/261)
ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله» (1) .
* ومن آداب الصيام المستحبة كثرة القراءة والذكر والدعاء والصلاة والصدقة، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثلاثة لا تُرَدُّ دعوتهم: الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام وتُفتَح لها أبواب السماء، ويقول الرب: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين» (2) ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن» (3) فلَرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة، وكان جوده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجمع أنواع الجود كلها من بذل العلم والنفس والمال لله عز وجل في إظهار دينه وهداية عباده وإيصال النفع إليهم بكل طريق , من تعليم جاهلهم وقضاء حوائجهم وإطعام جائعهم , وكان جوده يتضاعف في رمضان لشرف وقته ومضاعفة أجره وإعانة العابدين فيه على عبادتهم , والجمع بين الصيام وإطعام الطعام وهما من أسباب دخول الجنة، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من أصبح منكم صائما؟ " فقال أبو بكر: أنا. قال: " فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ " قال أبو بكر:
أنا. قال: " فمن أطعم منكم اليوم
__________
(1) رواه أبو داود وإسناده حسن.
(2) رواه أحمد والترمذي وابن خزيمة وابن حبان، وفي الحديث ضعف ولبعضه شواهد.
(3) متفق عليه.(20/262)
مسكينا؟ " قال أبو بكر: أنا. قال: " فمن عاد منكم اليوم مريضا؟ " قال أبو بكر: أنا. قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة» (1) .
ومن آداب الصيام المستحبة: أن يستحضر الصائم قدر نعمة الله عليه بالصيام حيث وفقه له ويسره عليه حتى أتم يومه وأكمل شهره، فإن كثيرا من الناس حُرِمُوا الصيام إما بموتهم قبل بلوغه أو بعجزهم عنه أو بضلالهم وإعراضهم عن القيام به، فليحمد الصائم ربه على نعمة الصيام التي هي سبب لمغفرة الذنوب وتكفير السيئات ورفعة الدرجات في دار النعيم بجوار الرب الكريم.
إخواني: تَأَدَّبُوا بآداب الصيام، وتخلوا عن أسباب الغضب والانتقام، وتحلوا بأوصاف السلف الكرام، فإنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها من الطاعة واجتناب الآثام.
قال ابن رجب رحمه الله: الصائمون على طبقتين:
* إحداهما: من ترك طعامه وشرابه وشهوته لله تعالى يرجو عنده عوض ذلك في الجنة، فهذا قد تاجر مع الله وعامله، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا ولا يخيب معه من عامله، بل يربح أعظم الربح، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لرجل: «إنك لن تدع شيئا اتقاء الله إلا آتاك الله خيرا منه» (2) ، فهذا الصائم يُعْطَى في الجنة ما شاء الله من طعام وشراب ونساء، قال الله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة: 24] ،
__________
(1) رواه مسلم.
(2) أخرجه الإمام أحمد وهو صحيح.(20/263)
قال مجاهد وغيره: نزلت في الصائمين، وفي حديث عبد الرحمن بن سمرة الذي رآه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في منامه قال: «ورأيت رجلا من أمتي يلهث عطشا كلما دنا من حوض مُنِعَ وطُرِدَ فجاءه صيام رمضان فسقاه وأرواه» (1) .
يا قوم ألا خاطِبٌ في هذا الشهر إلى الرحمن؟ ألا راغب فيما أعدَّ الله للطائعين في الجنان؟
مَنْ يُرِدْ مُلْكَ الْجِنَانِ ... فَلْيَدَعْ عَنْهُ التَّوَانِي
وَلْيُقِمْ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْـ ... ـلِ إِلَى نُورِ الْقُرَانِ
وَلْيَصِلْ صَوْمًا بِصَوْمٍ ... إِنَّ هَذَا الْعَيْشَ فَانِ
إِنَّمَا الْعَيْشُ جِوَارُ الْـ ... ـلَّهِ فِي دَارِ الْأَمَانِ
* الطبقة الثانية من الصائمين: من يصوم في الدنيا عما سوى الله فيحفظ الرأس وما حوى والبطن وما وعى , ويذكر الموت والبلى ويريد الآخرة فيترك زينة الدنيا، فهذا عيد فطره يوم لقاء ربه وفرحه برؤيته.
من صام بأمر الله عن شهواته في الدنيا أدركها غدا في الجنة، ومن صام عما سوى الله فعيده يوم لقائه {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [العنكبوت: 5] .
__________
(1) أخرجه الطبراني وهو ضعيف الإسناد، لكن قال ابن القيم بعد أن ساقه بتمامه في المسألة العاشرة من كتاب (الروح) : سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يعظم أمر هذا الحديث وقال - يعني شيخ الإسلام -: أصول السنة تشهد له وهو من أحسن الأحاديث اهـ.(20/264)
يا معشر التائبين صوموا اليوم عن شهوات الهوى لتدركوا عيد الفطر يوم اللقاء.
اللهم جَمِّل بواطننا بالإخلاص لك، وحَسِّن أعمالنا باتباع رسولك والتأدب بآدابه، اللهم أيقظنا من الغفلات، ونَجِّنَا من الدركات، وكفر عنا الذنوب والسيئات، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والأموات، برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(20/265)
المجلس الثاني عشر: في النوع الثاني من تلاوة القرآن
الحمد لله معطي الجزيل لمن أطاعه ورجاه، وشديد العقاب لمن أعرض عن ذكره وعصاه، اجتبى من شاء بفضله فقربه وأدناه، وأبعد من شاء بعدله فولاه ما تولاه، أنزل القرآن رحمة للعالمين ومنارا للسالكين، فمن تمسك به نال مناه، ومن تعدَّى حدوده وأضاع حقوقه خسر دينه ودنياه، أحمده على ما تفضل به من الإحسان وأعطاه، وأشكره على نعمه الدينية والدنيوية وما أجدر الشاكر بالمزيد وأَوْلَاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الكامل في صفاته، العالي عن النظراء والأشباه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي اختاره على الخلق واصطفاه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ما انشق الصبح وأشرق ضياه، وسلم تسليما.
إخواني: سبق في المجلس الخامس أن تلاوة القرآن على نوعين: تلاوة لفظه وهي قراءته، وتقدم الكلام عليها هناك.
والنوع الثاني: تلاوة حكمه بتصديق أخباره واتباع أحكامه فعلا للمأمورات وتركا للمنهيات.
وهذا النوع هو الغاية الكبرى من إنزال القرآن كما قال تعالى: {(20/267)
كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29] ، ولهذا درج السلف الصالح رضي الله عنهم على ذلك يتعلَّمون القرآن، ويصدِّقون به، ويطبِّقون أحكامه تطبيقا إيجابيا عن عقيدة راسخة , قال أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله: حدثنا الذين كانوا يُقْرِئُوننا القرآن: عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يتعلموها وما فيها من العلم والعمل , قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا.
وهذا النوع من التلاوة هو الذي عليه مدار السعادة والشقاوة , قال الله تعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} {وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه: 123 - 127] ، فبَيَّنَ الله في هذه الآيات الكريمة ثواب المتَّبِعين لهداه الذي أوحاه إلى رسله، وأعظمه هذا القرآن العظيم، وبيَّن عقاب المعرضين عنه.
أما ثواب المتبعين له فلا يضلون ولا يشقون، ونَفْيُ الضلال والشقاء عنهم يتضمن كمال الهداية والسعادة في الدنيا والآخرة.
وأما عقاب المعرضين عنه المتكبِّرين عن العمل به، فهو الشقاء والضلال في الدنيا والآخرة، فإن له معيشة ضنكا، فهو في دنياه في هم وقلق نفس، ليس له عقيدة صحيحة، ولا عمل صالح {أُولَئِكَ(20/268)
كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179] ، وهو في قبره في ضيق وضنك، قد ضُيِّق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه، وهو في حشره أعمى لا يبصر {وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء: 97] ، فهم لما عموا في الدنيا عن رؤية الحق وصموا عن سماعه وأمسكوا عن النطق به {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت: 5] ، جازاهم الله في الآخرة بمثل ما كانوا عليه في الدنيا، وأضاعهم كما أضاعوا شريعته {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ
بَصِيرًا} {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه: 125 - 126] ، {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ: 26] ، {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [القصص: 84] ، وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه: «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا صلى صلاة - وفي لفظ: صلاة الغداة - أقبل علينا بوجهه فقال: " من رأى منكم الليلة رؤية؟ " قال: فإن رأى أحد قَصَّها. فيقول: " ما شاء الله ". فسألنا يوما فقال: " هل رأى أحد منكم رؤية؟ " قلنا: لا. قال: " لكني رأيت الليلة رجلين أتياني " (فساق الحديث وفيه:) " فانطلقنا حتى أتينا على رجل مضطجع، وإذا آخر قائم عليه بصخرة وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه فيثلغ رأسه فيَتَدَهْدَه الحجر هاهنا فيتبع الحجر فيأخذه فلا يرجع إلى الرجل حتى يصبح رأسُه كما كان، ثم يعود عليه فيفعل به مثلما فعل به المرة الأولى، فقلت: سبحان الله! ما هذا؟ فقالا لي:(20/269)
انطلِق " (فذكر الحديث وفيه:) " أما الرجل الذي أتيت عليه
يُثْلغ رأسُه بالحجر فهو الرجل يأخذ القرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة» (1) .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطب الناس في حجة الوداع فقال: " إن الشيطان قد يئس أن يُعْبَد في أرضكم ولكن رضي أن يُطَاع فيما سوى ذلك مما تَحاقرون من أعمالكم فاحذروا، إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به فلن تضلوا أبدا: كتاب الله وسنة نبيه» (2) ، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُمَثَّل القرآن يوم القيامة رجلا فيُؤْتَى بالرجل قد حمله فخالف أمره فيُمَثَّل له خصما فيقول: يا رب حَمَّلته إياي فبئس الحامل تعدَّى حدودي، وضيع فرائضي , وركب معصيتي , وترك طاعتي , فما يزال يقذف عليه بالحجج حتى يقال: شأنك به , فيأخذه بيده فما يرسله حتى يكبه على منخره في النار» (3) ، وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «القرآن حجة لك أو عليك» (4) ، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: القرآن شافع مُشفَّع، فمن جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلف ظهره ساقه إلى النار (5) .
__________
(1) رواه البخاري.
(2) رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد، وقد روى الإمام أحمد نحو الجملة الأولى منه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) ضعيف ونقل عن الحافظ ابن حجر تحسينه، فإن ثبت أنه حسن فالممثل قراءة القارئ أو جزاؤها وهما مخلوقان، أو يقال: إن التمثيل يقتضي أن الممثل به غير الممثل فلا يستلزم أن يخلق القرآن.
(4) رواه مسلم.
(5) وقد رُوِيَ عنه مرفوعا إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(20/270)
فيا من كان القرآن خصمه كيف ترجو ممن جعلته خصمك الشفاعة؟ ويل لمن شفعاؤه خصماؤه يوم تربح البضاعة. عباد الله هذا كتاب الله يُتْلَى بين أيديكم ويُسمع، وهو القرآن الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعا يتصدع، ومع هذا فلا أذن تسمع، ولا عين تدمع، ولا قلب يخشع، ولا امتثال للقرآن فيُرْجَى به أن يَشْفَع، قلوب خلت من التقوى فهي خراب بلقع، وتراكمت عليها ظلمة الذنوب فهي لا تبصر ولا تسمع، كم تُتْلَى علينا آيات القرآن وقلوبنا كالحجارة أو أشد قسوة، وكم يتوالى علينا شهر رمضان وحالنا فيه كحال أهل الشقوة، لا الشباب منا ينتهي عن الصبوة، ولا الشيخ ينتهي عن القبيح فيلحق بأهل الصفوة، أين نحن من قوم إذا سمعوا داعي الله أجابوا الدعوة، وإذا تُلِيَتْ عليهم آياته وجلت قلوبهم وجَلتْها جَلْوَة؟ أولئك قوم أنعم الله عليهم فعرفوا حقه فاختاروا الصفوة.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: ينبغي لقارئ القرآن أن يُعْرَف بليله إذ الناس ينامون , وبنهاره إذ الناس يُفْطِرون , وببكائه إذ الناس يضحكون , وبورعه إذ الناس يخلطون، وبصمته إذ الناس يخوضون , وبخشوعه إذ الناس يختالون , وبحزنه إذ الناس يفرحون.
يا نفس فاز الصالحون بالتقى ... وأبصروا الحق وقلبي قد عَمِي
يا حسنهم والليل قد أَجَنَّهُمْ ... ونورهم يفوق نور الأنجمِ
تَرَنَّمُوا بالذكر في ليلهمو ... فعيشهم قد طاب بالتَّرَنُّمِ(20/271)
قلوبهم للذكر قد تفَرَّغَتْ ... دموعهم كلؤلؤ منتظمِ
أسحارهم بنورهم قد أشرقت ... وخِلَعُ الغفران خير القِسَمِ
قد حفظوا صيامهم من لغوهم ... وخشعوا في الليل في ذكرهِمِ
ويحكِ يا نفس ألا تَيَقَّظِي ... للنفع قبل أن تَزِلَّ قدمي
مضى الزمان في تَوَانٍ وهَوًى ... فاستدركي ما قد بَقِي واغتنمي
إخواني: احفظوا القرآن قبل فوات الإمكان، وحافظوا على حدوده من التفريط والعصيان، واعلموا أنه شاهد لكم أو عليكم عند الملك الديان.
ليس مِنْ شكر نعمة الله بإنزاله أن نتخذه وراءنا ظهريا، وليس من تعظيم حرمات الله أن تتخذ أحكامه سخريا، {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} {يَاوَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا} {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} {وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان: 27 - 31] .
اللهم ارزقنا تلاوة كتابك حق التلاوة، واجعلنا ممن نال به الفلاح والسعادة، اللهم ارزقنا إقامة لفظه ومعناه، وحفظ حدوده ورعاية حرمته، اللهم اجعلنا من الراسخين في العلم، المؤمنين بمحكمه ومتشابهه، تصديقا بأخباره وتنفيذا لأحكامه، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(20/272)
المجلس الثالث عشر: في آداب قراءة القرآن
الحمد لله الذي لشرعه يخضع من يعبد، ولعظمته يخشع من يركع ويسجد , ولطيب مناجاته يسهر المتهجد ولا يرقد، ولطلب ثوابه يبذل المجاهد نفسه ويجهد، يتكلم سبحانه بكلامٍ يَجِلُّ أن يُشابه كلام المخلوقين ويبعد، ومن كلامه كتابه المنزل على نبيه أحمد نقرؤه ليلا ونهارا ونردد، فلا يخلق عن كثرة الترداد ولا يُمَلُّ ولا يُفَنَّد، أحمده حمد من يرجو الوقوف على بابه غير مُشَرَّد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من أخلص لله وتعبَّد، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي قام بواجب العبادة وتَزَوَّد، صلى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكر الصديق الذي ملأ قلوب مبغضيه قرحات تنفد , وعلى عمر الذي لم يزل يُقَوِّي الإسلام ويعضد , وعلى عثمان الذي جاءته الشهادة فلم يتردد , وعلى علي الذي ينسف زرع الكفر بسيفه ويحصد , وعلى سائر آله وأصحابه صلاة مستمرة على الزمان المؤبَّد , وسلم تسليما.
إخواني: إن هذا القرآن الذي بين أيديكم تتلونه وتسمعونه وتحفظونه وتكتبونه، هو كلام ربكم رب العالمين، وإله الأولين والآخرين، وهو حبله المتين، وصراطه المستقيم، وهو الذكر المبارَك والنور المبين، تكلَّم الله به حقيقة على الوصف الذي يليق(20/273)
بجلاله وعظمته، وألقاه على جبريل الأمين أحد الملائكة الكرام المقربين، فنزل به على قلب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين، وصفه الله بأوصاف عظيمة لتعظموه وتحترموه فقال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185] ، {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 58] ، {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} [النساء: 174] ، {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} {يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} [المائدة: 15 - 16] ، {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللهِ
وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 37] ، {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57] .
{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1] ، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] ، {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} {لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 87 - 88] ، {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89] ، {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} {وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإسراء: 9 - 10] ، {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82] ، {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا
بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ(20/274)
كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88] ، {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} {إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} {تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا} [طه: 2 - 4] .
{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1] ، {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 192 - 197] ، {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ} {وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} [الشعراء: 210 - 211] ، {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت: 49] ، {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} [يس: 69 - 70] ، {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29] .
{قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ} [ص: 67] ، {اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ} [الزمر: 23] ، {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 41 - 42] ، {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52] ، {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف: 4] ، {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الجاثية: 20] ، {وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق: 1] ، {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} {
إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الواقعة: 75 - 80] ، {(20/275)
لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21] ، وقال تعالى عن الجن: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} [الجن: 1] ، وقال تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ} {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج: 21 - 22] .
فهذه الأوصاف العظيمة الكثيرة التي نقلناها وغيرها مما لم ننقله تدل كلها على عظمة هذا القرآن، ووجوب تعظيمه والتأدب عند تلاوته، والبعد حال قراءته عن الْهُزْء واللعب.
فمن آداب التلاوة إخلاص النية لله تعالى فيها؛ لأن تلاوة القرآن من العبادات الجليلة كما سبق بيان فضلها، وقد قال الله تعالى: {فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر: 14] ، وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: 5] ، وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقرءوا القرآن وابتغوا به وجه الله عز وجل من قبل أن يأتي قوم يقيمونه إقامة القدح يتعجلونه ولا يتأجلونه» (1) ، ومعنى يتعجلونه يطلبون به أجر الدنيا.
* ومن آدابها: أن يقرأ بقلب حاضر يتدبر ما يقرأ ويتفهم معانيه، ويخشع عند ذلك قلبه، ويستحضر بأن الله يخاطبه في هذا القرآن لأن القرآن كلام الله عز وجل.
*
__________
(1) رواه أحمد , وإسناده حسن.(20/276)
ومن آدابها: أن يقرأ القرآن على طهارة لأن هذا من تعظيم كلام الله عز وجل، ولا يقرأ القرآن وهو جنب حتى يغتسل إن قدر على الماء، أو يتيمم إن كان عاجزا عن استعمال الماء لمرض أو عدم، وللجنب أن يذكر الله ويدعوه بما يوافق القرآن إذا لم يقصد القرآن، مثل أن يقول: ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
* ومن آدابها: أن لا يقرأ القرآن في الأماكن المستقذرة، أو في مجمع لا يُنْصَت فيه لقراءته لأن قراءته في مثل ذلك إهانة له، ولا يجوز أن يقرأ القرآن في بيت الخلاء ونحوه مما أعد للتبول أو التغوط لأنه لا يليق بالقرآن الكريم.
* ومن آدابها: أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم عند إرادة القراءة لقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] ، ولئلا يصده الشيطان عن القراءة أو كمالها، وأما البسملة فإن كان ابتداء قراءته من أثناء السورة فلا يُبَسْمِل، وإن كان من أول السورة فليبسمل إلا في سورة التوبة فإنه ليس في أولها بسملة؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم أشكل عليهم حين كتابة المصحف هل هي سورة مستقلة أو بقية الأنفال؟ ففصلوا بينهما بدون بسملة , وهذا الاجتهاد هو المطابِق للواقع بلا ريب , إذ لو كانت البسملة قد نزلت في أولها لبقيت محفوظة بحفظ الله عز وجل , لقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] .(20/277)
* ومن آدابها: أن يُحَسِّن صوته بالقرآن ويَتَرَنَّمَ به , لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ما أذن الله لشيء (أي: ما استمع لشيء) كما أذن لنبي حسن الصوت يَتَغَنَّى بالقرآن يجهر به» (1) ، «وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في المغرب بالطور فما سمعت أحد أحسن صوتا أو قراءة منه» صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) ، لكن إن كان حول القارئ أحد يتأذى بجهره في قراءته كالنائم والمصلي ونحوهما فإنه لا يجهر جهرا يشوش عليه أو يؤذيه؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج على الناس وهم يصلون ويجهرون بالقراءة فقال: «إن المصلي يناجي ربه فلينظر بما يناجيه به ولا يجهر بعضكم على بعض في القرآن» (3) .
* ومن آدابها: أن يرتل القرآن ترتيلا , لقوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل: 4] ، فيقرأه بتمهل بدون سرعة؛ لأن ذلك أعون على تدبر معانيه وتقويم حروفه وألفاظه، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه «أنه سئل عن قراءة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: كانت مَدًّا , ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم , يمد بسم الله ويمد الرحمن ويمد الرحيم» (4) ، «وسئلت أم سلمة رضي الله عنها عن قراءة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: كان يُقَطِّع قراءته آية آية , {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} * {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} * {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} * {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} » (5) ، وقال ابن مسعود رضي
__________
(1) متفق عليه.
(2) متفق عليه.
(3) رواه مالك في الموطأ , قال ابن عبد البر: وهو حديث صحيح.
(4) رواه البخاري.
(5) رواه أحمد وأبو داود والترمذي.(20/278)
الله عنه: لا تنثروه نثر الرمل ولا تهذُّوه هَذَّ الشعر , قفوا عند عجائبه، وحرِّكوا به القلوب , ولا يكن هَمُّ أحدكم آخر السورة، ولا بأس بالسرعة التي ليس فيها إخلال باللفظ: بإسقاط بعض الحروف أو إدغام ما لا يصح إدغامه , فإن كان فيها إخلال باللفظ فهي حرام لأنها تغيير للقرآن.
* ومن آدابها: أن يسجد إذا مر بآية سجدة وهو على وضوء في أي وقت كان من ليل أو نهار , فيكبِّر للسجود ويقول: سبحان ربي الأعلى , ويدعو , ثم يرفع من السجود بدون تكبير ولا سلام , لأنه لم يرد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , إلا أن يكون السجود في أثناء الصلاة فإنه يكبر في الصلاة إذا سجد وإذا قام «لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يكبر كلما خفض ورفع، ويُحَدِّث أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يفعل ذلك» (1) ، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «رأيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكبر في كل رفع وخفض وقيام وقعود» (2) ، وهذا يعم سجود الصلاة وسجود التلاوة في الصلاة.
هذه بعض آداب القراءة فتأَدَّبوا بها واحرصوا عليها وابتغوا بها من فضل الله.
اللهم اجعلنا من المعظِّمين لحرمتك , الفائزين بهباتك , الوارثين لجناتك , واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين , وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) رواه مسلم.
(2) رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه.(20/279)
المجلس الرابع عشر: في مفطرات الصوم
الحمد لله المطَّلِع على ظاهر الأمر ومكنونه , العالم بسر العبد وجهره وظنونه , المتفرد بإنشاء العالم وإبداع فنونه , المدبِّر لكل منهم في حركته وسكونه، أحسن كلَّ شيء وخلق، وفتق الأسماع وشق الْحَدَق , وأحصى عدد ما في الشجر من ورق , في أعواده وغصونه، مد الأرض ووضعها، وأوسع السماء ورفعها , وسَيَّرَ النجوم وأطلعها , في حندس الليل ودجونه، أنزل القطر وبلا رذاذا , فأنقذ به البذور من اليبس إنقاذا {هَذَا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان: 11] ، أحمده على جوده وإحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ألوهيته وسلطانه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المؤيد ببرهانه، صلى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكر في جميع شأنه , وعلى عمر مقلق كسرى في إيوانه , وعلى عثمان ساهر ليله في قرآنه , وعلى علي قالع باب خيبر ومُزَلْزِل حصونه , وعلى آله وأصحابه المجتهدِ كُلٌّ منهم في طاعة ربه في حركته وسكونه , وسلم تسليما.
إخواني: قال الله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] . ذكر الله في هذه الآية الكريمة(20/281)
أصول مُفَطِّرات الصوم , وذكر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في السُّنَّة تمام ذلك.
والْمُفَطِّرات سبعة أنواع:
* الأول: الجماع وهو إيلاج الذكر في الفرج، وهو أعظمها وأكبرها إثما , فمتى جامع الصائم بطل صومه فرضا كان أو نفلا، ثم إن كان في نهار رمضان والصوم واجب عليه لزمه مع القضاء الكفّارة المغلّظة، وهي عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين لا يفطر بينهما إلا لعذر شرعي كأيام العيدين والتشريق , أو لعذر حسي كالمرض والسفر لغير قصد الفطر , فإن أفطر لغير عذر ولو يوما واحدا لزمه استئناف الصيام من جديد ليحصل التتابع، فإن لم يستطع صيام شهرين متتابعين فإطعام ستين مسكينا، لكل مسكين نصف كيلو وعشرة غرامات من البُرّ الجيد ويجزي الرز عن البر لكن تجب ملاحظة الوزن، فإن كان الرز أثقل زِيدَ في وزنه بقدره، وإن كان أخف نقص من وزنه بقدر. وفي الحديث: «أن رجلا وقع بامرأته في رمضان فاستفتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك فقال: " هل تجد رقبة؟ " قال: لا. قال: هل تستطيع صيام شهرين؟» (يعني متتابعين كما في الروايات الأخرى) ، «قال: لا. قال: " فأطعم ستين مسكينا» (1) ، وهو في الصحيحين مطَوَّلا.
* الثاني: إنزال المني باختياره بتقبيل أو لمس أو استمناء أو غير ذلك؛ لأن هذا من الشهوة التي لا يكون الصوم إلا باجتنابها كما جاء في الحديث القدسي: «يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي» (2) ،
__________
(1) رواه مسلم.
(2) رواه البخاري.(20/282)
فأما التقبيل والمس بدون إنزال فلا يفطِّر، لحديث عائشة رضي الله عنها: «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يُقَبِّل وهو صائم ويباشر وهو صائم ولكنه كان أَمْلَكَكُمْ لإربه» (1) ، وعن عمر بن أبي سلمة «أنه سأل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أيُقَبِّل الصائم؟ فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سل هذه " - يعني أم سلمة - , فأخبرته أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصنع ذلك، فقال: يا رسول الله قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر , فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أما والله إني لأتقاكم لله وأخشاكم له» (2) ، لكن إن كان الصائم يخشى على نفسه من الإنزال بالتقبيل ونحوه أو من التدرج بذلك إلى الجماع لعدم قوته على كبح شهوته، فإن التقبيل ونحوه يحرم حينئذ سدا للذريعة وصونا لصيامه عن الفساد , ولذلك أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المتوضئ بالمبالغة في الاستنشاق إلا أن يكون صائما خوفا من تسرب الماء إلى جوفه.
وأما الإنزال بالاحتلام أو بالتفكير المجرد عن العمل فلا يفطِّر؛ لأن الاحتلام بغير اختيار الصائم , وأما التفكير فمعفو عنه لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم» (3) .
الثالث: الأكل أو الشرب، وهو إيصال الطعام أو الشراب إلى الجوف من طريق الفم أو الأنف أيا كان نوع المأكول أو المشروب، لقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] ، والسَّعُوط في الأنف كالأكل والشرب لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث لقيط بن صبرة: «وبالغ
__________
(1) متفق عليه.
(2) رواه مسلم.
(3) متفق عليه.(20/283)
في الاستنشاق، إلا أن تكون صائما» (1) فأما شم الروائح فلا يفطِّر لأنه ليس للرائحة جرم يدخل إلى الجوف.
* الرابع: ما كان بمعنى الأكل والشراب وهو شيئان:
* أحدهما: حقن الدم في الصائم مثل أن يصاب بنزيف فيحقن به دم فيفطر بذلك؛ لأن الدم هو غاية الغذاء بالطعام والشراب، وقد حصل ذلك بحقن الدم فيه (2) .
الشيء الثاني: الإبر المغذِّية التي يُكْتَفَى بها عن الأكل والشرب فإذا تناولها أفطر؛ لأنه وإن لم تكن أكلا وشربا حقيقة , فإنها بمعناهما , فثبت لها حكمهما، فأما الإبر غير المغذية فإنها غير مفطرة سواء تناولها عن طريق العضلات أو عن طريق العروق , حتى ولو وجد حرارتها في حلقه فإنها لا تفطر؛ لأنها ليست أكلا ولا شربا ولا بمعناهما فلا يثبت لها حكمهما , ولا عبرة بوجود الطعم في الحلق في غير الأكل والشرب , ولذا قال فقهاؤنا: لو لطخ باطن قدمه بحنظل فوجد طعمه في حلقه لم يفطر، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رسالة (حقيقة الصيام) : ليس في الأدلة ما يقتضي أن المفطر الذي جعله الله ورسوله مفطرا هو ما كان واصلا إلى دماغ أو بدن , أو ما كان داخلا من مَنْفَذ , أو واصلا إلى جوف ونحو ذلك من المعاني
__________
(1) رواه الخمسة وصححه الترمذي.
(2) هذا ما كنت أراه من قبل ثم ظهر لي أن حقن الدم لا يفطر؛ لأنه ليس أكلا ولا شربا ولا بمعناهما، والأصل بقاء صحة الصوم حتى يتبين فساده؛ لأن من القواعد المقررة أن اليقين لا يزول بالشك.(20/284)
التي يجعلها أصحاب هذه الأقاويل هي مَنَاط الحكم عند الله ورسوله , قال: وإذا لم يكن دليل على تعليق الله ورسوله الحكم على هذا الوصف، كان قول القائل: إن الله ورسوله إنما جعلا هذا مفطرا لهذا قولا بلا علم. انتهى كلامه رحمه الله.
* النوع الخامس: إخراج الدم بالحجامة , لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفْطَرَ الحاجم والمحجوم» (1) ، وهذا مذهب الإمام أحمد وأكثر فقهاء الحديث، وفي معنى إخراج الدم بالحجامة إخراجه بالفصد ونحوه مما يُؤَثِّر على البدن كتأثير الحجامة , وعلى هذا فلا يجوز للصائم صوما واجبا أن يتبرع بإخراج دمه الكثير الذي يؤثر على البدن تأثير الحجامة إلا أن يوجد مضطر له لا تندفع ضرورته إلا به، ولا ضرر على الصائم بسحب الدم منه فيجوز للضرورة ويفطر ذلك اليوم ويقضي، وأما خروج الدم بالرعاف أو السعال أو الباسور أو قلع السن أو شق الجرح أو تحليل الدم أو غرز الإبرة ونحوها فلا يفطر لأنه ليس بحجامة ولا بمعناها إذ لا يؤثر في البدن كتأثير الحجامة.
* السادس: التقيؤ عمدا وهو إخراج ما في المعدة من طعام أو شراب عن طريق الفم، لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من ذرعه القيء فليس عليه قضاء ومن استقاء عمدا فليقض» (2) ، ومعنى ذرعه: غلبه، ويفطر إذا تعمد القيء إما بالفعل كعصر بطنه أو غمز حلقه، أو بالشم مثل أن بشم شيئا ليقيء به،
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود من حديث شداد بن أوس، قال البخاري: ليس في الباب أصح منه.
(2) رواه الخمسة إلا النسائي وصححه الحاكم.(20/285)
أو بالنظر كأن يتعمد النظر إلى شيء ليقيء به فيفطر بذلك كله، أما إذا حصل القيء بدون سبب منه فإنه لا يضر، وإذا راجت معدته لم يلزمه منع القيء لأن ذلك يضره , ولكن يتركه فلا يحاول القيء ولا منعه.
* السابع: خروج دم الحيض والنفاس، لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المرأة: «أليس إذا حاضت لم تُصَلِّ ولم تَصُمْ؟» ، فمتى رأت دم الحيض أو النفاس فسد صومها سواء في أول النهار أم في آخره ولو قبل الغروب بلحظة , وإن أحست بانتقال الدم ولم يبرز إلا بعد الغروب فصومها صحيح.
ويحرم على الصائم تناول هذه المفطرات إن كان صومه واجبا كصوم رمضان والكفارة والنذر إلا أن يكون له عذر يبيح الفطر كسفر ومرض ونحوهما؛ لأن من تلبس بواجب لزمه إتمامه إلا لعذر صحيح , ثم إن تناولها في نهار رمضان لغير عذر وجب عليه الإمساك بقية اليوم والقضاء , وإلا لزمه القضاء دون الإمساك، أما إن كان صومه تطوعا فإنه يجوز له الفطر ولو بدون عذر ولكن الْأَوْلَى الإتمام.
إخواني: حافظوا على الطاعات، وجانبوا المعاصي والمحرمات، وابتهلوا إلى فاطر الأرض والسماوات، وتعرضوا لنفحات جوده فإنه جزيل الهبات، واعلموا أنه ليس لكم من دنياكم إلا ما أمضيتموه في طاعة مولاكم، فالغنيمة الغنيمة قبل فوات الأوان، والمرابحة المرابحة قبل حلول الخسران.(20/286)
اللهم وفقنا لاغتنام الأوقات، واشغلنا بالأعمال الصالحات، اللهم جُدْ علينا بالفضل والإحسان، وعاملنا بالعفو والغفران، اللهم يسِّرْنا لليسرى، وجنبنا العسرى، واغفر لنا في الآخرة والْأُولَى، اللهم ارزقنا شفاعة نبينا وأوردنا حوضه، واسقنا منه شربة لا نظمأ بعدها أبدا يا رب العالمين.
اللهم صَلِّ وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.(20/287)
المجلس الخامس عشر: في شروط الفطر بالمفطِّرات وما لا يفطِّر وما يجوز للصائم
الحمد لله الحكيم الخالق، العظيم الحليم الصادق، الرحيم الكريم الرازق، رفع السبع الطرائق بدون عمد ولا علائق، وثبَّت الأرض بالجبال الشواهق، تعرَّف إلى خلقه بالبراهين والحقائق، وتكفَّل بأرزاق جميع الخلائق، خلق الإنسان من ماء دافق، وألزمه بالشرائع لوصل العلائق، وسامحه عن الخطأ والنسيان فيما لا يوافق، أحمده ما سكت ساكت ونطق ناطق، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة مخلص لا منافق، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي عمَّت دعوته النازل والشاهق، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى صاحبه أبي بكر القائم يوم الردة بالحزم اللائق، وعلى عمر مُدَوِّخ الكفار وفاتح المغالق، وعلى عثمان ما استحل حرمته إلا مارق، وعلى علي الذي كان لشجاعته يسلك المضايق، وعلى آله وأصحابه الذين كل منهم على من سواهم فائق، وسلم تسليما.
إخواني: إن المفطرات السابقة ما عدا الحيض والنفاس، وهي الجماع والإنزال بالمباشرة والأكل والشرب وما بمعناهما والحجامة(20/289)
والقيء، لا يُفَطِّر الصائم شيء منها إلا إذا تناولها عالما ذاكرا مختارا، فهذه ثلاثة شروط:
* الشرط الأول: أن يكون عالما، فإن كان جاهلا لم يفطر، لقوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] ، فقال الله: قد فَعَلْتُ (1) ، وقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 5] ، وسواء كان جاهلا بالحكم الشرعي مثل أن يظن أن هذا الشيء غير مفطر فيفعله، أو جاهلا بالحال أي بالوقت مثل أن يظن أن الفجر لم يطلع فيأكل وهو طالع , أو يظن أن الشمس قد غربت فيأكل وهي لم تغرب , فلا يفطر في ذلك كله , لما رُوِيَ عن عَدِي بن حاتم رضي الله عنه قال: «لما نزلت هذه الآية: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} [البقرة: 187] , عَمدْتُ إلى عقالين أحدهما أسود والآخر أبيض فجعلتهما تحت وسادتي وجعلت أنظر إليهما , فلما تبين لي الأبيض من الأسود أمسكت , فلما أصبحت غدوت إلى رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فأخبرته بالذي صنعت , فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن وسادك إذن لعريض إن كان الخيط الأبيض والأسود تحت وسادك، إنما
ذلك بياض النهار وسواد الليل» (2) ، فقد أكل عدي بعد طلوع الفجر ولم يمسك حتى تبين له الخَيْطان , ولم يأمره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالقضاء لأنه كان جاهلا بالحكم، وعن أسماء بنت أبي بكر
__________
(1) رواه مسلم.
(2) متفق عليه.(20/290)
رضي الله عنهما قالت: «أفطرنا في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم غيم ثم طلعت الشمس» (1) ، ولم تذكر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرهم بالقضاء؛ لأنهم كانوا جاهلين بالوقت , ولو أمرهم بالقضاء لَنُقِلَ لأنه مما تُوَفَّرُ الدواعي على نقله لأهميته , بل قال شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة (حقيقة الصيام) : إنه نقل هشام بن عروة أحد رواة الحديث عن أبيه عروة أنهم لم يؤمروا بالقضاء، لكن متى عُلِمَ ببقاء النهار وأن الشمس لم تغب أمسك حتى تغيب.
ومثل ذلك لو أكل بعد طلوع الفجر يظن أن الفجر لم يطلع فتبين له بعد ذلك أنه قد طلع , فصيامه صحيح ولا قضاء عليه لأنه كان جاهلا بالوقت , وقد أباح الله له الأكل والشرب حتى يتبين له الفجر، والمباح المأذون فيه لا يؤمر فاعله بالقضاء، لكن متى تبين له وهو يأكل أو يشرب أن الشمس لم تغرب أو أن الفجر قد طلع أمسك ولفظ ما في فمه إن كان فيه شيء لزوال عذره حينئذ.
* الشرط الثاني: أن يكون ذاكرا , فإن كان ناسيا فصيامه صحيح ولا قضاء عليه لما سبق في آية البقرة , ولما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه» (2) ، فَأَمْرُ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإتمامه دليل على صحته، ونسبة إطعام الناسي وسقيه إلى الله دليل على عدم المؤاخذة عليه، لكن متى ذَكَرَ أو ذُكِّرَ أمسك ولفظ ما في فمه إن كان فيه شيء لزوال عذره حينئذ , ويجب على
__________
(1) رواه البخاري.
(2) متفق عليه واللفظ لمسلم.(20/291)
من رأى صائما يأكل أو يشرب أن ينَبِّهه لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] .
* الشرط الثالث: أن يكون مختارا، أي: متناولا للمفطر باختياره وإرادته، فإن كان مكرها فصيامه صحيح ولا قضاء عليه؛ لأن الله سبحانه رفع الحكم عمن كفر مكرها وقلبه مطمئن بالإيمان فقال تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106] ، فإذا رفع الله حكم الكفر عمن أكره عليه فما دونه أولى، ولقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (1) ، فلو أكره الرجل زوجته على الوطء وهي صائمة فصيامها صحيح ولا قضاء عليها، ولا يحل له إكراهها على الوطء وهي صائمة إلا إن صامت تطوعا بغير إذنه وهو حاضر، ولو طار إلى جوف الصائم غبار أو دخل فيه شي من الماء بغير اختياره فصيامه صحيح ولا قضاء عليه.
ولا يُفْطِر الصائم بالكحل والدواء في عينه ولو وجد طعمه في حلقه؛ لأن ذلك ليس بأكل ولا شرب ولا بمعناهما، ولا يُفطر بتقطير دواء في أذنه أيضا ولا بوضع دواء في جرح ولو وجد طعم الدواء في حلقه؛ لأن ذلك ليس أكلا ولا شربا ولا بمعنى الأكل والشرب،
__________
(1) رواه ابن ماجه والبيهقي وحسَّنه النووي.(20/292)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة (حقيقة الصيام) : ونحن نعلم أنه ليس في الكتاب والسنة ما يدل على الإفطار بهذه الأشياء، فعلمنا أنها ليست مفطِّرة، قال: فإن الصيام من دين المسلمين الذي يحتاج إلى معرفته الخاص والعام، فلو كانت هذه الأمور مما حرمه الله ورسوله في الصيام ويفسد الصوم بها لكان هذا مما يجب على الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيانه، ولو ذكر ذلك لعلمه الصحابة وبلَّغوه الأمة كما بلَّغوا سائر شرعه، فلما لم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك لا حديثا صحيحا ولا ضعيفا ولا مسندا ولا مرسلا عُلِمَ أنه لم يذكر شيئا من ذلك، والحديث المروي في الكحل يعني «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بالإثمد الْمُرَوّح عند النوم وقال: " لِيَتَّقِهِ الصائم» (1) ، وقال شيخ الإسلام أيضا: والأحكام التي تحتاج الأمة إلى معرفتها لا بد أن يبَيِّنها
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيانا عاما، ولا بد أن تنقلها الأمة، فإذا انتفى هذا عُلِمَ أن هذا ليس من دينه. انتهى كلامه رحمه الله، وهو كلام رصين مبني على براهين واضحة وقواعد ثابتة.
ولا يُفْطِر بذوق الطعام إذا لم يبلعه، ولا بشم الطيب والبخور، لكن لا يستنشق دخان البخور لأن له أجزاء تصعد فربما وصل إلى المعدة شيء منه، ولا يفطر بالمضمضة والاستنشاق لكن لا يبالغ في ذلك لأنه ربما تهرَّب شيء من الماء إلى جوفه، وعن لقيط
__________
(1) ضعيف رواه أبو داود في السنن ولم يروه غيره، قال أبو داود: قال لي يحيى بن معين: هذا حديث منكر.(20/293)
بن صبرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «أسبغ الوضوء وخلل بين الأصابع وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما» (1)
ولا يُفْطِر بالتسوك , بل هو سنة له في أول النهار وآخره كالمفطرين لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة» (2) ، وهذا عام في الصائمين وغيرهم في جميع الأوقات , «وقال عامر بن ربيعة رضي الله عنه: رأيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما لا أحصي يتسوك وهو صائم» (3)
ولا ينبغي للصائم تطهير أسنانه بالمعجون لأن له نفوذا قويا ويُخْشَى أن يتسرب مع ريقه إلى جوفه، وفي السواك غُنْيَة عنه.
ويجوز للصائم أن يفعل ما يخفِّف عنه شدة الحر والعطش كالتبرُّد بالماء ونحوه , لما رُوِيَ عن بعض أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنهم قالوا: «رأيتُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالعُرَج (اسم موضع) يصب الماء على رأسه وهو صائم من العطش أو من الحر» (4) ، وبلَّ ابن عمر رضي الله عنهما ثوبا فألقاه على نفسه وهو صائم , وكان لأنس بن مالك رضي الله عنه حجر منقور يشبه الحوض إذا وجد الحر وهو صائم نزل فيه وكأنه والله أعلم مملوءٌ ماءً، وقال الحسن: لا بأس بالمضمضة والتبرد للصائم (5)
__________
(1) رواه أبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة.
(2) رواه الجماعة.
(3) رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وذكره البخاري معلقا بصيغة التمريض، وحسَّنه الترمذي، وقال الحافظ ابن حجر في موضع من التلخيص: إسناده حسن.
(4) حديث صحيح رواه مالك وأبو داود.
(5) ذكر هذه الآثار البخاري في صحيحه تعليقا.(20/294)
إخواني: تفقَّهوا في دين الله لتعبدوا الله على بصيرة فإنه لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون , ومن يُرِدِ الله به خيرا يُفَقِّهْهُ في الدين.
اللهم فَقِّهْنَا في ديننا، وارزقنا العمل به , وثَبِّتْنَا عليه وتَوَفَّنَا مؤمنين، وألحقنا بالصالحين، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله وسلَّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(20/295)
المجلس السادس عشر: في الزكاة
الحمد لله الذي يمحو الزَّلَل ويصفح , ويغفر الخَطَل ويسمح، كل من لاذ به أفلح , وكل من عامله يربح، رفع السماء بغير عمد فتأملْ والمح، وأنزل القطر فإذا الزرع في الماء يسبح، والمواشي بعد الجدب في الخصب تسرح، وأقام الوُرْق على الوُرْق تُسَبِّح، أغنى وأفقر وربما كان الفقر أصلح، فكم من غني طرحه الأشر والبطر أقبح مطرح، هذا قارون مَلَكَ الكثير لكنه بالقليل لم يسمح، نُبِّه فلم يستيقظ وَلِيمَ فلم ينفعه اللوم إذ قال له قومه: لا تفرح، أحمده ما أمسى النهار وما أصبح، وأشهد أن لا إله إلا الله الغني الجواد مَنَّ بالعطاء الواسع وأفسح , وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي جاد لله بنفسه وماله وأبان الحق وأوضح، صلى الله عليه وعلى أصحابه أبي بكر الذي لازمه حضرا وسفرا ولم يبرح , وعلى عمر الذي لم يزل في إعزاز الدين يكدح , وعلى عثمان الذي أنفق الكثير في سبيل الله وأصلح , وعلى علي ابن عمه وأبرأ ممن يغلو فيه أو يقدح , وعلى بقية الصحابة والتابعين لهم بإحسان , وسلم تسليما.
إخواني: قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5] ، وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا(20/297)
لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} [المزمل: 20] ، وقال تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم: 39] ، والآيات في وجوب الزكاة وفَرْضِيَّتها كثيرة، وأما الأحاديث فمنها ما رُوِيَ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «بُنِيَ الإسلام على خمس: على أن يُوَحَّدَ اللهُ , وإقام الصلاة , وإيتاء الزكاة , وصيام رمضان , والحج , فقال رجل: الحج وصيام رمضان؟ قال: لا. قال: صيام رمضان والحج» ، هكذا سمعته من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) . وفي رواية: «شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله» (الحديث بمعناه) .
فالزكاة أحد أركان الإسلام ومبانيه العظام , وهي قرينة الصلاة في مواضع كثيرة من كتاب الله عز وجل , وقد أجمع المسلمون على فرضيتها إجماعا قطعيا , فمن أنكر وجوبها مع علمه به فهو كافر خارج عن الإسلام , ومن بخل بها أو انتقص منها شيئا فهو من الظالمين المتعرضين للعقوبة والنكال، وتجب الزكاة في أربعة أشياء:
* الأول: الخارج من الأرض من الحبوب والثمار لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة 267] ، وقوله سبحانه: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] ، وأعظم حقوق المال الزكاة، وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فيما
__________
(1) رواه مسلم.(20/298)
سقت السماء أو كان عَثَريا العُشْر، وفيما سُقِيَ بالنضح نصف العشر» (1) ، ولا تجب الزكاة فيه حتى يبلغ نصابا وهو خمسة أوْسق , لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ليس في حَبٍّ ولا ثمر صدقة حتى يبلغ خمسة أوسق» (2) . والوَسَق ستون صاعا بصاع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي تبلغ زنته بالبر الجيد ألفين وأربعين جراما , أي: كيلوين وخمسيْ عُشر الكيلو , ولا زكاة فيما دونها , ومقدار الزكاة فيها العُشْر كاملا فيما سُقِيَ بدون كُلْفة ونصفه فيما سُقِيَ بكلفة, ولا تجب الزكاة في الفواكه والخضروات والبطيخ ونحوها , لقول عمر:
ليس في الخضروات صدقة، وقول علي: ليس في التفاح وما أشبه صدقة، ولأنها ليست بحب ولا ثمر، لكن إذا باعها بدراهم وحال الحول على ثمنها ففيه الزكاة.
* الثاني: بهيمة الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم ضأنا كانت أم معزا إذا كانت سائمة وأُعِدَّت للدَّر والنسل وبلغت نصابا، وأقل النصاب في الإبل خمسون، وفي البقر ثلاثون، وفي الغنم أربعون، والسائمة هي التي ترعى الكلأ النابت بدون بذر آدمي كل السنة أو أكثرها، فإن لم تكن سائمة فلا زكاة فيها، إلا أن تكون للتجارة، وإن أُعِدَّت للتكسب بالبيع والشراء والمناقلة فيها فهي عروضُ تجارةٍ تُزَكَّى زكاةَ تجارةٍ سواء كانت سائمة أو معلفة إذا بلغت نصاب التجارة بنفسها أو بضمها إلى تجارته.
__________
(1) رواه البخاري.
(2) رواه مسلم.(20/299)
* الثالث: الذهب والفضة على أي حال كانت لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 34 - 35] ، والمراد بكنزها عدم إنفاقها في سبيل الله، وأعظم الإنفاق في سبيل الله إنفاقها في الزكاة، وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صُفِّحَت له صفائح من نار فأُحْمِيَ عليها في نار جهنم، فيُكْوَى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يُقْضَى بين العباد» (1) .
والمراد بحقها زكاتها كما تفسره الرواية الثانية: «ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته» (الحديث) (2) .
وتجب الزكاة في الذهب والفضة سواء كانت نقودا أو تبرا أو حليا يُلْبَس أو يُعَار، أو غير ذلك، لعموم الأدلة الدالة على وجوب الزكاة فيهما بدون تفصيل، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما «أن امرأة أتت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعها ابنة لها وفي يد ابنتها مَسكَتَان غليظتان من ذهب (أي: سواران غليظان) ، فقال لها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أتعطين زكاة هذا؟ " قالت: لا. قال: " أيَسُرُّك أن يُسَوِّرَكِ الله بهما يوم القيامة سوارين
__________
(1) رواه مسلم.
(2) رواه مسلم.(20/300)
من نار؟ " قال: فخلعتهما فألقتهما إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقالت: هما لله ورسوله» (1) ، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «دخل علي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرأى في يدي فَتَخَات من وُرْق (تعني: من فضة) , فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما هذا؟ " فقلت: صنعتهن أتزين لك يا رسول الله. قال: " أتؤدين زكاتهن؟ " قالت: لا، أو ما شاء الله. قال: " هو حسبك من النار» (2) .
ولا تجب الزكاة في الذهب حتى يبلغ نصابا وهو عشرون دينارا؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال في الذهب: «ليس عليك شيء حتى يكون لك عشرون دينارا» (3) .
المراد الدينار الإسلامي الذي يبلغ وزنه مثقالا، وزنة المثقال أربعة غرامات وربع، فيكون نصاب الذهب خمسة وثمانين غراما يعادل أحد عشر جنيها سعوديا وثلاثة أسباع الجنيه.
ولا تجب الزكاة في الفضة حتى تبلغ نصابا وهو خمس أواقٍ،
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي.
(2) أخرجه أبو داود والبيهقي والحاكم وصححه وقال: على شرط الشيخين، وقال ابن حجر في التلخيص: على شرط الصحيح، وقال ابن دقيق: على شرط مسلم.
(3) رواه أبو داود وفي سنده ضعف، لكن له شواهد يرتقي بها إلى درجة الحسن فيكون حجة، وقد أخذ به عامة أهل العلم.(20/301)
لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ليس فيما دون خمس أواق صدقة» (1) ، والأوقيَّة أربعون درهما إسلاميا، والدرهم سبعة أعشار مثقال فيبلغ مائة وأربعين مثقالا وهي خمسمائة وخمسة وتسعون غراما تعادل ستة وخمسين ريالا عربيا من الفضة، ومقدار الزكاة في الذهب والفضة ربع العشر فقط.
وتجب الزكاة في الأوراق النقدية لأنها بدل عن الفضة فتقوم مقامها، فإذا بلغت نصاب الفضة وجبت فيها الزكاة، وتجب الزكاة في الذهب والفضة والأوراق النقدية سواء كانت حاضرة عنده أم في ذمم الناس، وعلى هذا فتجب الزكاة في الدَّيْن الثابت سواء كان قرضا أم ثمن مبيع أم أجرة أم غير ذلك، إذا كان على مليء باذل فيُزَكِّيهِ مع ماله كل سنة أو يؤخر زكاته حتى يقبضه ثم يزكيه لكل ما مضى من السنين , فإن كان على معسر أو مماطل يصعب استخراجه منه فلا زكاة عليه فيما قبلها من السنين.
ولا تجب الزكاة فيما سوى الذهب والفضة من المعادن وإن كان أغلى منهما إلا أن يكون للتجارة فيُزَكَّى زكاة تجارة.
* الرابع: مما تجب فيه الزكاة عروض التجارة , وهي كل ما أعده للتكسب والتجارة من عقار وحيوان وطعام وشراب وسيارات وغيرها من جميع أصناف المال , فيُقَوِّمها كل سنة بما تساوي عند رأس الحول ويخرج رُبْع عُشْر قيمتها سواء كانت قيمتها بقدر ثمنها
__________
(1) متفق عليه.(20/302)
الذي اشتراها به أم أقل أم أكثر، ويجب على أهل البقالات والآلات وقطع الغيارات وغيرها أن يحصوها إحصاء دقيقا شاملا للصغير والكبير ويخرجوا زكاتها، فإن شق عليهم ذلك احتاطوا وأخرجوا ما يكون به براءة ذمهم.
ولا زكاة فيما أعده الإنسان لحاجته من طعام وشراب وفرش ومسكن وحيوانات وسيارة ولباس سوى حلي الذهب والفضة لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة» (1)
ولا تجب الزكاة فيما أُعِدَّ للأجرة من عقارات وسيارات ونحوها، وإنما تجب في أجرتها إذا كانت نقودا وحال عليها الحول وبلغت نصابا بنفسها أو بضمها لما عنده من جنسها.
إخواني: أدوا زكاة أموالكم وطِيبُوا بها نفسا فإنها غُنْم لا غرم، وربح لا خسارة، وأَحْصُوا جميع ما يلزمكم زكاته، واسألوا الله القبول لما أنفقتم والبركة لكم فيما أبقيتم , والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) متفق عليه.(20/303)
المجلس السابع عشر: في أهل الزكاة
الحمد لله الذي لا رافع لما وضع، ولا واضع لما رفع، ولا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، ولا قاطع لما وصل، ولا واصل لما قطع، فسبحانه من مُدَبِّر عظيم، وإله حكيم رحيم، فبحكمته وقع الضرر وبرحمته نفع، أحمده على جميع أفعاله، وأشكره على واسع إقباله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أحكم ما شرع وأبدع ما صنع، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله والكفر قد علا وارتفع، وصال واجتمع، فأهبطه من عليائه وقمع، وفرَّق من شَرِّهِ ما اجتمع، صلى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكر الذي نَجَمَ نَجْمُ شجاعته يوم الردة وطلع، وعلى عمر الذي عز به الإسلام وامتنع، وعلى عثمان المقتول ظلما وما ابتدع، وعلى علي الذي دحض الكفر بجهاده وقمع، وعلى جميع آله وأصحابه ما سجد مُصَلٍّ وركع، وسلم تسليما.
إخواني: قال الله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60] .
في هذه الآية الكريمة بَيَّن الله تعالى مصارف الزكاة وأهلها المستحِقِّين(20/305)
لها بمقتضى علمه وحكمته وعدله ورحمته، وحصرها في هؤلاء الأصناف الثمانية، وبين أن صرفها فيهم فريضة لازمة، وأن هذه القسمة صادرة عن علم الله وحكمته، فلا يجوز تَعَدِّيها وصرف الزكاة في غيرها؛ لأن الله تعالى أعلم بمصالح خلقه وأحكم في وضع الشيء في موضعه {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50] .
* فالصنف الأول والثاني: الفقراء والمساكين وهم الذين لا يجدون كفايتهم، وكفاية عائلتهم لا من نقود حاضرة، ولا من رواتب ثابتة، ولا من صناعة قائمة، ولا من غلة كافية، ولا من نفقات على غيرهم واجبة، فهم في حاجة إلى مواساة ومعونة، قال العلماء: فيُعْطَوْن من الزكاة ما يكفيهم وعائلتهم لمدة سنة كاملة حتى يأتي حول الزكاة مرة ثانية، ويعطى الفقير لزواج يحتاج إليه ما يكفي لزواجه، وطالب العلم الفقير لشراء كتب يحتاجها، ويعطى من له راتب لا يكفيه وعائلته من الزكاة ما يُكَمِّل كفايتهم لأنه ذو حاجة، وأما من كان له كفاية فلا يجوز إعطاؤه من الزكاة وإن سألها، بل الواجب نصحه وتحذيره من سؤال ما لا يحل له، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله عز وجل وليس في وجهه مُزْعَة لحم» (1) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من سأل الناس أموالهم تَكَثُّرًا فإنما يسأل جمرا فليستقل أو ليستكثر» (2) .
__________
(1) متفق عليه.
(2) رواه مسلم.(20/306)
وعن حكيم بن حزام رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: «إن هذا المال خَضِرة حلوة فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى» (1)
وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لا يفتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر» (2) ، وإن سأل الزكاة شخص وعليه علامة الغنى عنها وهو مجهول الحال جاز إعطاؤه منها بعد إعلامه أنه لا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب؛ «لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتاه رجلان يسألانه فقَلَّب فيهما البصر فرآهما جلدين فقال: " إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب» (3) .
* الصنف الثالث من أهل الزكاة: العاملون عليها وهم الذين يُنَصِّبهم ولاة الأمور لجباية الزكاة من أهلها وحفظها وتصريفها، فيُعْطَوْن منها بقدر عملهم وإن كانوا أغنياء، وأما الوكلاء لفرد من الناس في توزيع زكاته فليسوا من العاملين عليها فلا يستحقون منها شيئا من أجل وكالتهم فيها، لكن إن تبرعوا في تفريقها على أهلها بأمانة واجتهاد كانوا شركاء في أجرها، فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «الخازن المسلم الأمين الذي يُنَفِّذ» ، أو قال: «يعطي ما أُمِرَ به كاملا موفَّرا طيبا به نفسه، فيدفعه
__________
(1) متفق عليه.
(2) رواه أحمد , وروى نحوه الترمذي من حديث أبي كبشة الأنماري وقال: حسن صحيح.
(3) رواه أحمد وأبو داود والنسائي، وقال أحمد: ما أجوده من حديث.(20/307)
إلى الذي أمر به أحد المتصدقين» (1) ، وإن لم يتبرعوا بتفريقها أعطاهم صاحب المال من ماله لا من الزكاة.
* الصنف الرابع: المؤَلَّفة قلوبهم وهم ضعفاء الإيمان أو من يُخْشَى شرُّهم، فيعطون من الزكاة ما يكون به تقوية إيمانهم أو دفع شرهم إذا لم يندفع إلا بإعطائهم.
* الصنف الخامس: الرقاب وهم الْأَرِقَّاء المكاتَبون الذين اشتروا أنفسهم من أسيادهم، فيعطون من الزكاة ما يوفون به أسيادهم ليحرِّروا بذلك أنفسهم، ويجوز أن يُشْتَرَى عبدٌ فيُعْتَق وأن يُفَك بها مسلم من الأسر لأن هذا داخل في عموم الرقاب.
* الصنف السادس: الغارمون الذين يتحملون غرامة وهم نوعان:
* أحدهما: من تحمل حمالة لإصلاح ذات البين وإطفاء الفتنة فيعطى من الزكاة بقدر حمالته تشجيعا له على هذا العمل النبيل الذي به تأليف المسلمين وإصلاح ذات بينهم وإطفاء الفتنة وإزالة الأحقاد والتنافر، عن قبيصة الهلالي قال: «تحملت حمالة فأتيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسأله فيها فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها ". ثم قال: " يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك» ، وذكر تمام الحديث (2) .
* الثاني: من تحمل حمالة في ذمته لنفسه وليس عنده وفاء فيُعْطَى من الزكاة ما يُوَفِّي به دينه وإن كثر أو يوفي طالبه وإن لم يسلَّم للمطلوب؛
__________
(1) رواه البخاري.
(2) رواه مسلم.(20/308)
لأن تسليمه للطالب يحصل به المقصود من تبرئة ذمة المطلوب.
* الصنف السابع: في سبيل الله وهو الجهاد في سبيل الله الذي يُقْصَد به أن تكون كلمة الله هي العليا لا لحمية ولا لعصبية، فيُعْطَى المجاهد بهذه النية ما يكفيه لجهاده من الزكاة، أو يُشْتَرَى بها سلاح وعتاد للمجاهدين في سبيل الله لحماية الإسلام والذود عنه وإعلاء كلمة الله سبحانه.
* الصنف الثامن: ابن السبيل وهو المسافر الذي انقطع به السفر ونفد ما في يده فيُعْطَى من الزكاة ما يوصله إلى بلده وإن كان غنيا فيها ووجد من يقرضه، لكن لا يجوز أن يستصحب معه نفقة قليلة لأجل أن يأخذ من الزكاة إذا نفدت لأنه حيلة على أخذ ما لا يستحق، ولا تُدْفَع الزكاة للكافر إلا أن يكون من المؤلَّفة قلوبهم، ولا تدفع لغني عنها بما يكفيه من تجارة أو صناعة أو حرفة أو راتب أو مَغَلٍّ أو نفقة واجبة إلا أن يكون من العاملين عليها، أو المجاهدين في سبيل الله، أو الغارمين لإصلاح ذات البين، ولا تدفع الزكاة في إسقاط واجب سواها، فلا تدفع للضيف بدلا عن ضيافته، ولا لمن تجب نفقته من زوجة أو قريب بدلا عن نفقتهما، ويجوز دفعها للزوجة والقريب فيما سوى النفقة الواجبة، فيجوز أن يقضي بها دينا عن زوجته لا تستطيع وفاءه، وأن يقضي بها عن والديه أو أحد من أقاربه دينا لا يستطع وفاءه، ويجوز أن يدفع الزكاة لأقاربه في سداد نفقتهم إذا لم تكن واجبة عليه لكون ماله لا يتحمل الإنفاق(20/309)
عليهم أو نحو ذلك، ويجوز دفع الزوجة زكاتها لزوجها في قضاء دين عليه ونحوه؛ وذلك لأن الله سبحانه علق استحقاق الزكاة بأوصاف عامة تشمل
من ذكرنا وغيرهم، فمن اتصف بها كان مستحقا، وعلى هذا فلا يخرج أحد منها إلا بنص أو إجماع، فعن زينب الثقفية امرأة عبد الله بن مسعود «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر النساء بالصدقة، فسألت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: يا رسول الله إنك أمرت بالصدقة وكان عندي حلي فأردت أن أتصدق به، فزعم ابن مسعود أنه وولده أحق مَنْ تصدَّقْتُ به عليهم، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " صدق ابن مسعود زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم» (1) . وعن سلمان بن عامر رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «الصدقة على الفقير صدقة وعلى ذوي الرحم صدقة وصلة» (2) ، وذوو الرحم هم القرابة قربوا أم بعدوا.
ولا يجوز أن يُسْقِط الدَّيْن عن الفقير وينويه عن الزكاة لأن الزكاة أخذ وإعطاء. قال الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] . وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فتُرَدُّ على فقرائهم» ، وإسقاط الدين عن الفقير ليس أخذا ولا ردا، ولأن ما في ذمة الفقير دين غائب لا يتصرف فيه فلا يُجْزِئ عن مال حاضر يتصرف فيه، ولأن الدين أقل في النفس من الحاضر وأدنى، فأداؤه عنه كأداء الرديء عن الجيد، وإذا اجتهد صاحب الزكاة
__________
(1) متفق عليه.
(2) رواه النسائي والترمذي وابن خزيمة والحاكم، وقال: صحيح الإسناد.(20/310)
فدفعها لمن يظن أنه من أهلها فتبين بخلافه فإنها تجزئه؛ لأنه اتقى الله ما استطاع ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «قال رجل: والله لَأَتَصَدَّقَنَّ (فذكر الحديث وفيه:) فوضع صدقته في يد غني، فأصبح الناس يتحدثون: تُصُدِّقَ على غني، فقال: الحمد لله على غني، فأتي فقيل: أما الغني فلعله يعتبر فينفق مما أعطاه الله» (1) ، وفي رواية لمسلم: «أما صدقتك فقد تُقُبِّلَتْ» ، وعن معن بن يزيد رضي الله عنه قال: «كان أبي يُخْرِج دنانير يتصدق بها فوضعها عند رجل في
المسجد، فجئت فأخذتها فأتيته بها، فقال: والله ما إياك أردت فخاصمتُه إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لك ما نويتَ يا يزيد، ولك ما أخذتَ يا معن» (2) .
إخواني: إن الزكاة لا تجزئ ولا تُقْبَل حتى توضع في المحل الذي وضعها الله فيه، فاجتهدوا رحمكم الله فيها واحرصوا على أن تقع موقعها وتحل محلها؛ لتُبْرِئوا ذممكم وتُطَهِّروا أموالكم، وتُنَفِّذوا أمر ربكم، وتُقْبَل صدقاتكم، والله الموفِّق، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
__________
(1) متفق عليه.
(2) رواه البخاري.(20/311)
المجلس الثامن عشر: في غزوة بدر
الحمد لله القوي المتين، القاهر الظاهر الملك الحق المبين، لا يخفى على سمعه خفيف الأنين، ولا يعزب عن بصره حركات الجنين، ذل لكبريائه جبابرة السلاطين، وقضى القضاء بحكمته وهو أحكم الحاكمين، أحمده حمد الشاكرين , وأسأله معونة الصابرين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى على العالمين , المنصور ببدر بالملائكة المنزلين , صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين , وسلم تسليما.
إخواني: في هذا الشهر المبارك نصر الله المسلمين في غزوة بدر الكبرى على أعدائهم المشركين، وسَمَّى ذلك اليوم يوم الفرقان؛ لأنه سبحانه فرق فيه بين الحق والباطل بنصر رسوله والمؤمنين وخذل الكفار المشركين , كان ذلك في شهر رمضان من السنة الثانية من الهجرة , وكان سبب هذه الغزوة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلغه أن أبا سفيان قد توجه من الشام إلى مكة بِعِيرِ قريش , فدعا أصحابه إلى الخروج إليه لأخذ العير؛ لأن قريشا حَرْبٌ لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وأصحابه ليس بينه وبينهم عهد , وقد أخرجوهم من ديارهم وأموالهم وقاموا ضد دعوتهم دعوة الحق , فكانوا مستحقين لما أراد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه(20/313)
بعيرهم , فخرج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا على فرسين وسبعين بعيرا يعتقبونها , منهم سبعون رجلا من المهاجرين , والباقون من الأنصار , يقصدون العير لا يريدون الحرب، ولكن الله جمع بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، ليقضي الله أمرا كان مفعولا ويتم ما أراد، فإن أبا سفيان علم بهم فبعث صارخا إلى قريش يستنجدهم ليحموا عيرهم وترك الطريق المعتادة وسلك ساحل البحر فنجا.
أما قريش فإنهم لما جاءهم الصارخ خرجوا بأشرافهم عن بكرة أبيهم في نحو ألف رجل معهم مائة فرس وسبعمائة بعير {بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [الأنفال: 47] ، ومعهم القيان يغنين بهجاء المسلمين، فلما علم أبو سفيان بخروجهم بعث إليهم يخبرهم بنجاته ويشير عليهم بالرجوع وعدم الحرب، فأبوا ذلك وقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نبلغ بدرا ونقيم فيه ثلاثا، ننحر الْجَزور، ونطعم الطعام , ونسقي الخمر , وتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا أبدا.
أما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه لما علم بخروج قريش جمع من معه من الصحابة فاستشارهم وقال: " إن الله قد وعدني إحدى الطائفتين: إما العير أو الجيش "، فقام المقداد بن الأسود وكان من المهاجرين وقال: يا رسول الله امض لما أمرك الله عز وجل فوالله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا(20/314)
قَاعِدُونَ} [المائدة: 24] ، ولكن نقاتل عن يمينك وعن شمالك ومن بين يديك ومن خلفك , وقام سعد بن معاذ الأنصاري سيد الأوس فقال: يا رسول الله لعلك تخشى أن تكون الأنصار ترى حقا عليها أن لا تنصرك إلا في ديارهم , وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم فاظعن حيث شئت، وصِلْ حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، وخذ من أموالهم ما شئت، وأعطنا منها ما شئت , وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت , وما أمرت فيه من أمر فأمرنا فيه تبع لأمرك , فوالله لئن سرت بنا حتى تبلغ البِرَك من غَمدان لنسيرن معك , ولئن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لنخوضنه معك , وما نكره أن تكون تلقى العدو بنا غدا , إننا لصبر عند الحرب، صُدْقٌ عند اللقاء، ولعل الله يُرِيكَ منا ما تقر به عينك.
فَسُرَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما سمع من كلام المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم، وقال: " سيروا وأبشروا فوالله لَكَأَنِّي أنظر إلى مصارع القوم "، فسار النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بجنود الرحمن حتى نزلوا أدنى ماء من مياه بدر، فقال له الحباب بن المنذر بن عمرو بن الجموح: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل؟ أمنزل أَنْزَلَكَهُ الله ليس لنا أن نتقدم عنه أو نتأخر؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بل هو الرأي والحرب والمكيدة " فقال: يا رسول الله إن هذا ليس بمنزل، فانهض بنا حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ونُغَوِّر ما وراءه من القُلُب ثم نبني عليه حوضا فنملأه فنشرب ولا يشربون، فاستحسن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا الرأي ونهض هذه القصة أعني نزولهم أدنى ماء من مياه بدر وإشارة الحباب ضعيفة جدا سندا ومتنا. فنزل بالعدوة(20/315)
الدنيا مما يلي المدينة وقريش بالعدوة القصوى مما يلي مكة، وأنزل الله تلك الليلة مطرا كان على المشركين وابلا شديدا ووحلا زلقا يمنعهم من التقدم، وكان على المسلمين طَلًّا طهرهم ووطَّأ لهم الأرض وشد الرمل ومهد المنزل وثبت الأقدام.
وبنى المسلمون لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عريشا على تل مُشْرِف على ميدان الحرب، ثم نزل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من العريش فسوى صفوف أصحابه، ومشى في موضع المعركة، وجعل يشير بيده إلى مصارع المشركين ومحلات قتلهم، يقول: " هذا مصرع فلان إن شاء الله، هذا مصرع فلان "، فما جاوز أحد منهم موضع إشارته، ثم نظر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أصحابه وإلى قريش فقال: " اللهم هذه قريش جاءت بفخرها وخيلائها وخيلها تُحَادُّك وتكذب رسولك، اللهم نصرك الذي وعدتني، اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تُعْبَد، اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تُعْبَد "، واستنصر المسلمون ربهم واستغاثوه فاستجاب لهم: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} {ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ
عَذَابَ النَّارِ} [الأنفال: 12 - 14] .
ثم تقابل الجمعان , وحَمِيَ الوطيس واستدارت رَحَي الحرب , ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في العريش، ومعه أبو بكر وسعد بن معاذ يحرسانه، فما زال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يناشد ربه ويستنصره ويستغيثه، فأغفى إغفاءة ثم خرج(20/316)
يقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45] ، وحَرَّضَ أصحابه على القتال وقال: " والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيُقْتَل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة "، فقام عمير بن الحمام الأنصاري وبيده تمرات يأكلهن فقال: يا رسول الله جنةً عرضها السماوات والأرض؟ قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نعم "، قال: بَخٍ بَخٍ يا رسول الله ما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء , لئن حَيِيتُ حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، ثم ألقى التمرات وقاتل حتى قُتِلَ رضي الله عنه.
وأخذ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كفا من تراب أو حصا فرمى بها القوم فأصابت أعينهم، فما منهم واحد إلا ملأت عينه وشُغِلوا بالتراب في أعينهم , آيةً من آيات الله عز وجل , فهُزِمَ جمعُ المشركين , وولوا الأدبار , واتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون فقتلوا سبعين رجلا وأسروا سبعين، أما القتلى فأُلْقِيَ منهم أربعة وعشرون رجلا من صناديدهم في قليب من قلبان بدر , منهم أبو جهل وشيبة بن ربيعة وأخوه عتبة وابنه الوليد بن عتبة , عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استقبل الكعبة فدعا على هؤلاء الأربعة قال: " فأشهد بالله لقد رأيتُهم صرعى قد غَيَّرتهم الشمسُ» (1) , وكان يوما حارا , وعن أبي طلحة رضي الله عنه أن نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش فقُذِفوا في طَويٍّ من أطواء
__________
(1) رواه البخاري.(20/317)
بدر خبيث مُخبث، وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعَرْصة ثلاث ليال، فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشُدَّ عليها ثم مشى واتبعه أصحابه حتى قام على شَفَة الرَّكِي فجعل يُناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: " يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان، أَيَسُرُّكم أنكم أطعتم الله
ورسوله , فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟ " قال عمر: يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟ قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ".
وأما الأسرى فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استشار الصحابة فيهم , وكان سعد بن معاذ قد ساءه أمرهم وقال: كانت أول وقعة أوقعها الله في المشركين وكان الإثخان في الحرب أحب إلي من استبقاء الرجال. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم، فتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه , وتمكنني من فلان - يعني قريبا له - فأضرب عنقه , فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها.
وقال أبو بكر رضي الله عنه: هم بنو العم والعشيرة وأرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوة على الكفار , فعسى الله أن يهديهم للإسلام، فأخذ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الفدية، فكان أكثرهم يفتدي بالمال من أربعة آلاف درهم إلى ألف درهم، ومنهم من افتدى بتعليم صبيان أهل المدينة الكتابة والقراءة، ومنهم من كان فداؤه إطلاق مأسور عند قريش من المسلمين , ومنهم من قتله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صبرا لشدة(20/318)
أذيته , ومنهم مَنْ مَنَّ عليه بدون فداء للمصلحة.
هذه غزوة بدر انتصرت فيها فئة قليلة عن فئة كثيرة {فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ} [آل عمران: 13] , انتصرت الفئة القليلة لأنها قائمة بدين الله تقاتل لإعلاء كلمته والدفاع عن دينه فنصرها الله عز وجل، فقوموا بدينكم أيها المسلمون لِتُنْصَروا على أعدائكم , واصبروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون.
اللهم انصرنا بالإسلام واجعلنا من أنصاره والدعاة إليه، وثبتنا عليه إلى أن نلقاك، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(20/319)
المجلس التاسع عشر: في غزوة فتح مكة شرَّفها الله عز وجل
الحمد لله خلق كل شيء فقدَّره، وعلم مورد كل مخلوق ومصدره، وأثبت في أم الكتاب ما أراده وسطَّره، فلا مُؤَخِّر لما قدَّمه ولا مُقَدِّم لما أخَّره، ولا ناصر لمن خذله ولا خاذل لمن نصره، تفرَّد بالملك والبقاء، والعزة والكبرياء، فمن نازعه ذلك أحقره، الواحد الأحد الرب الصمد، فلا شريك له فيما أبدعه وفطره، الحي القيوم فما أقومه بشؤون خلقه وأبصره، العليم الخبير فلا يخفى عليه ما أسرَّه العبد وأضمره، أحمده على ما أَوْلَى من فضله ويَسَّره.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قَبِلَ توبة العاصي فعفا عن ذنبه وغفره، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي أوضح به سبيل الهداية ونوَّره، وأزال به ظلمات الشرك وقَتَّرَه، وفتح عليه مكة فأزال الأصنام من البيت وطهَّره، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الكرام البررة، وعلى التابعين لهم بإحسان ما بلغ القمر بدره وسرره، وسلم تسليما.
إخواني: كما كان في هذا الشهر المبارك غزوة بدر التي انتصر فيها الإسلام وعلا مناره، كان فيه أيضا غزوة فتح مكة البلد الأمين(20/321)
في السنة الثامنة من الهجرة، فأنقذه الله بهذا الفتح العظيم من الشرك الأثيم، وصار بلدا إسلاميا حل فيه التوحيد عن الشرك، والإيمان عن الكفر، والإسلام عن الاستكبار، أُعْلِنَت فيه عبادة الواحد القهار، وكُسِرَت فيه أوثان الشرك فما لها بعد ذلك انجبار، وسبب هذا الفتح العظيم أنه لما تم الصلح بين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقريش في الحديبية في السنة السادسة، كان مَنْ أحب أن يدخل في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ، ومن أحب أن يدخل في عهد قريش فعل، فدخلت خُزَاعة في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودخلت بنو بكر في عهد قريش، وكان بين القبيلتين دماء في الجاهلية، فانتهزت بنو بكر هذه الهدنة فأغارت على خزاعة وهم آمنون، وأعانت قريش حلفاءها بني بكر بالرجال والسلاح سرا على خزاعة حلفاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقدم جماعة منهم إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبروه بما صنعت بنو بكر وإعانة قريش لها، أما قريش فسقط في أيديهم ورأوا أنهم بفعلهم هذا نقضوا عهدهم , فأرسلوا زعيمهم
أبا سفيان إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليشد العقد ويزيد في المدة، فكلم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك، فلم يَرُدَّ عليه، ثم كلم أبا بكر وعمر ليشفعا له إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم يُفلح، ثم كلم علي بن أبي طالب فلم يفلح أيضا، فقال له: ما ترى يا أبا الحسن؟ قال: ما أرى شيئا يغني عنك ولكنك سيد بني كنانة فقم فأَجِرْ بين الناس، قال: أترى ذلك مُغْنِيًا عني شيئا؟ قال: لا والله , ولكن ما أجد لك غيره. ففعل أبو سفيان , ثم رجع إلى مكة فقالت له قريش: ما وراءك؟ قال: أتيت محمدا فكلمته فوالله ما رَدَّ علي شيئا , ثم أتيت ابن أبي قحافة(20/322)
وابن الخطاب فلم أجد خيرا , ثم أتيت عليا فأشار علي بشيء صنعتُه أَجَرْتُ بين الناس , قالوا: فهل أجاز ذلك محمد؟ قال: لا. قالوا: ويحك , ما زاد الرجل (يعنون عليا) أن لعب بك.
وأما النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد أمر أصحابه بالتَّجَهُّز للقتال , وأخبرهم بما يريد , واستنفر مَنْ حوله من القبائل وقال: " اللهم خذ الأخبار والعيون عن قريش حتى نَبْغَتَها في بلادها " , ثم خرج من المدينة بنحو عشرة آلاف مقاتل , وولَّى على المدينة عبد الله بن أم مكتوم , ولما كان في أثناء الطريق لقيه في الْجُحْفَة عمه العباس بأهله وعياله مهاجرا مسلما , وفي مكان يسمى الأبواء لقيه ابن عمه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وابن عمته عبد الله بن أبي أمية , وكانا من أشد أعدائه فأسلما فقَبِلَ منهما , وقال في أبي سفيان: " أرجو أن يكون خَلَفا من حمزة ".
ولما بلغ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكانا يسمى مَرَّ الظَّهْرَان قريبا من مكة أمر الجيش فأوقدوا عشرة آلاف نار , وجعل على الحرس عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وركب العباس بغلة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلتمس أحدا يُبَلِّغ قريشا ليخرجوا إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيطلبوا الأمان منه ولا يحصل القتال في مكة البلد الأمين، فبينما هو يسير سمع كلام أبي سفيان يقول لبُديل بن ورقاء: ما رأيت كالليلة نيرانا قط، فقال بُديْل: هذه خزاعة، فقال أبو سفيان: خزاعة أقل من ذلك وأذل، فعرف العباس صوت أبي سفيان فناداه فقال: ما لك أبا الفضل؟ قال: هذا رسول(20/323)
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الناس، قال: فما الحيلة؟ قال العباس: اركب حتى آتي بك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأستأمنه لك، فأتى به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " ويحك يا أبا سفيان أما آن أن تعلم أن لا إله إلا الله؟ " فقال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! لقد علمت أن لو كان مع الله غيره لأغنى عني. قال: " أما آن لك أن تعلم أني رسول الله؟ " فتَلَكَّأ أبو سفيان، فقال له العباس: ويحك أَسْلِمْ فأَسْلَمَ وشهد شهادة الحق.
ثم أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العباس أن يوقف أبا سفيان بمضيق الوادي عند خطم الجبل حتى يمر به المسلمون، فمر به القبائل على راياتها ما تمر به قبيلة إلا سأل عنها العباس فيخبره فيقول: ما لي ولها؟ حتى أقبلت كتيبة لم يُرَ مثلها فقال: من هذه؟ قال العباس: هؤلاء الأنصار عليهم سعد بن عُبَادة معه الراية، فلما حاذاه سعد قال: أبا سفيان اليوم يوم الملحمة، اليوم تُستحَلُّ الكعبة، ثم جاءت كتيبة وهي أقل الكتائب وأجَلُّها فيهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه ورايته مع الزبير بن العوام، فلما مر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأبي سفيان أخبره بما قال سعد فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كذب سعد ولكن هذا يوم يُعَظِّم اللهُ فيه الكعبة ويوم تُكْسَى فيه الكعبة» (1) ، ثم أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تُؤْخَذَ الراية من سعد وتُدْفع إلى ابنه قيس , ورأى أنها لم تخرج عن سعد خروجا كاملا إذا صارت على ابنه.
ثم مضى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأمر أن تُرْكَز رايته بالحجون، ثم دخل مكة فاتحا
__________
(1) رواه البخاري من قوله: ثم أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العباس.(20/324)
مُؤَزَّرا منصورا قد طأطأ رأسه تواضعا لله عز وجل حتى إن جبهته تكاد تمس رحله وهو يقرأ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1] ، ويُرَجِّعها، وبعث صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على إحدى الْمُجَنِّبتين خالدَ بن الوليد وعلى الأخرى الزبيرَ بن العوام وقال: " من دخل المسجد فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل بيته وأغلق بابه فهو آمن "، ثم مضى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أتى المسجد الحرام فطاف به على راحلته، وكان حول البيت ستون وثلاثمائة صنم، فجعل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يطعنها بقوس معه ويقول: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81] ، {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ: 49] (1) ، والأصنام تتساقط على وجوهها، ثم دخل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الكعبة فإذا فيها صور فأمر بها فمُحِيَت ثم صلى فيها، فلما فرغ دار فيها وكبر في نواحيها ووحد الله عز وجل ثم وقف على باب الكعبة وقريش تحته ينتظرون ما يفعل، فأخذ بعِضادتي الباب
وقال: " لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وَتَعَظُّمَهَا بالآباء، الناس من آدم وآدم من تراب {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13] , يا معشر قريش ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيرا، أخ كريم، وابن أخ كريم، قال: " فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته: {لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم} [يوسف: 92] ,
__________
(1) رواه مسلم.(20/325)
اذهبوا فأنتم الطلقاء " (1) .
ولما كان اليوم الثاني من الفتح قام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطيبا في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «إن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن الله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب» (2) ، «وكانت الساعة التي أحلت فيها لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من طلوع الشمس إلى صلاة العصر يوم الفتح» (3) ، ثم «أقام صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسعة عشر يوما يقصر الصلاة ولم يصم بقية الشهر» (4) .؛ لأنه لم ينو قطع السفر، أقام ذلك لتوطيد التوحيد ودعائم الإسلام وتثبيت الإيمان ومبايعة الناس، وفي الصحيح: عن مجاشع قال: «أتيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأخي بعد الفتح ليبايعه على الهجرة فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ذهب أهل الهجرة بما فيها ولكن أبايعه على الإسلام والإيمان والجهاد» .
وبهذا الفتح المبين تم نصر الله ودخل الناس في دين الله أفواجا، وعاد بلد الله بلدا إسلاميا أعلن فيه بتوحيد الله وتصديق
__________
(1) هذه القصة من قوله: ثم وقف على باب الكعبة من زاد المعاد وغيره من كتب السيرة. وكلمة الطلقاء وردت في صحيح البخاري في غزوة الطائف، قال في فتح الباري: والمراد بالطلقاء - جمع طليق - من حصل من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المنَّ عليه يوم فتح مكة من قريش وأتباعهم.
(2) رواه البخاري.
(3) رواه أحمد.
(4) رواه البخاري مفرقا.(20/326)
رسوله وتحكيم كتابه , وصارت الدولة فيه للمسلمين واندحر الشرك وتبدد ظلامه , ولله الحمد، وذلك من فضل الله على عباده إلى يوم القيامة.
اللهم ارزقنا شكر هذه النعمة العظيمة، وحَقِّق النصر للأمة الإسلامية كل وقت في كل مكان، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(20/327)
المجلس العشرون: في أسباب النصر الحقيقية
الحمد لله العظيم في قَدْره، العزيز في قهره، العالم بحال العبد في سره وجهره، الجائد على المجاهد بنصره، وعلى المتواضع من أجله برفعه، يسمع صريف القلم عند خط سطره، ويرى النمل يدب في فيافي قفره، ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره، أحمده على القضاء حلوه ومره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقامةً لذكره، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث بالبر إلى الخلق في بره وبحره، صلى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكر السابق بما وقر من الإيمان في صدره، وعلى عمر معز الإسلام بحزمه وقهره، وعلى عثمان ذي النورين الصابر من أمره على مره، وعلى علي ابن عمه وصهره، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ما جاد السحاب بقطره، وسلم تسليما.
إخواني: لقد نصر الله المؤمنين في مواطن كثيرة في بدر والأحزاب والفتح وحنين وغيرها، نصرهم الله وفاء بوعده: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47] ، {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر: 51 - 52] ، نصرهم الله لأنهم قائمون بدينه وهو الظاهر على الأديان كلها، فمن تمسك به فهو ظاهر على(20/329)
الأمم كلها {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف: 9] , نصرَهم الله تعالى لأنهم قاموا بأسباب النصر الحقيقية المادية منها والمعنوية، فكان عندهم من العزم ما برزوا به على أعدائهم أخذا بتوجيه الله تعالى لهم وتمشيا مع هديه وتثبيته إياهم {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ
نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 139 - 140] ، {وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 104] ، {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35] .
فكانوا بهذه التقوية والتثبيت يسيرون بقوة وعزم وجد وأخذوا بكل نصيب من القوة امتثالا لقول ربهم سبحانه وتعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] ، من القوة النفسية الباطنة والقوة العسكرية الظاهرة نصرهم الله تعالى لأنهم قاموا بنصر دينه {وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 40 - 41] ، ففي هاتين الآيتين الكريمتين وعد الله بالنصر من ينصره وعدا مؤكدا بمؤكدات لفظية ومعنوية، أما المؤكدات اللفظية فهي القسم المقدَّر، لأن التقدير: والله لينصرن الله من ينصره، وكذلك اللام والنون في لينصرن كلاهما يفيد التوكيد، وأما التوكيد المعنوي ففي(20/330)
قوله: {إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40] ، فهو سبحانه قوي لا يضعف وعزيز لا يذل وكل قوة وعزة تُضَادُّه فستكون ذلا وضعفا , وفي قوله: {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 41] , تثبيت للمؤمن
عندما يستبعد النصر في نظره لبعد أسبابه عنده، فإن عواقب الأمور لله وحده يُغَيِّر سبحانه ما شاء حسب ما تقتضيه حكمته.
وفي هاتين الآيتين بيان الأوصاف التي يُسْتَحَقُّ بها النصر , وهي أوصاف يتحلى بها المؤمن بعد التمكين في الأرض، فلا يُغريه هذا التمكين بالأشَر والبطر والعلو والفساد، وإنما يزيده قوة في دين الله وتمسكا به.
* الوصف الأول: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ} [الحج: 41] ، والتمكين في الأرض لا يكون إلا بعد تحقيق عبادة الله وحده كما قال تعالى: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55] ، فإذا قام العبد بعبادة الله مخلصا له في أقواله وأفعاله لا يريد بها إلا وجه الله والدار الآخرة , ولا يريد بها جاها ولا ثناء من الناس ولا مالا ولا شيئا من الدنيا، واستمر على هذه العبادة المخلصة في السراء والضراء والشدة والرخاء مكَّنَ الله له في الأرض , وإذن فالتمكين في الأرض يستلزم وصفا سابقا عليه وهو عبادة الله وحده لا شريك له وبعد التمكين والإخلاص يكون.(20/331)
* الوصف الثاني: وهو إقامة الصلاة بأن يؤدي الصلاة على الوجه المطلوب منه قائما بشروطها وأركانها وواجباتها , وتمام ذلك القيام بمستحَبَّاتها , فيحسن الطهور , ويقيم الركوع والسجود والقيام والقعود , ويحافظ على الوقت وعلى الجمعة والجماعات , ويحافظ على الخشوع وهو حضور القلب وسكون الجوارح , فإن الخشوع روح الصلاة ولبها , والصلاة بدون خشوع كالجسم بدون روح، وعن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «إن الرجل لينصرف وما كُتِبَ له إلا عُشْر صلاته تُسعها ثُمنها سُبعها سُدسها خُمسها رُبعها ثُلثها نِصفها» (1) .
الوصف الثالث: إيتاء الزكاة وآتوا الزكاة بأن يعطوها إلى مستحِقِّيها طَيِّبَة بها نفوسهم كاملة بدون نقص يبتغون بذلك فضلا ورضوانا، فيزكون بذلك أنفسهم، ويطهرون أموالهم، وينفعون إخوانهم من الفقراء والمساكين وغيرهم من ذوي الحاجات , وقد سبق بيان مستحِقِّي الزكاة الواجبة في المجلس السابع عشر.
الوصف الرابع: الأمر بالمعروف وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ والمعروف: كل ما أمر الله به ورسوله من واجبات ومستحبات , يأمرون بذلك إحياء لشريعة الله وإصلاحا لعباده واستجلابا لرحمته ورضوانه , فالمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا , فكما أن المؤمن يحب لنفسه أن يكون قائما بطاعة ربه فكذلك يجب أن يحب لإخوانه من
__________
(1) رواه أبو داود والنسائي، وقال العراقي: إسناده صحيح.(20/332)
القيام بطاعة الله ما يحب لنفسه.
والأمر بالمعروف عن إيمان وتصديق أن يكون قائما بما أمر به عن إيمان واقتناع بفائدته وثمراته العاجلة والآجلة.
* الوصف الخامس: النهي عن المنكر {وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} , والمنكر كل ما نهى الله عنه ورسوله من كبائر الذنوب وصغائرها مما يتعلق بالعبادة أو الأخلاق أو المعاملة، ينهون عن ذلك كله صيانة لدين الله وحماية لعباده واتقاء لأسباب الفساد والعقوبة.
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعامتان قويتان لبقاء الأمة وعزتها ووحدتها حتى لا تتفرق بها الأهواء وتتشتت بها المسالك , ولذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فرائض الدين على كل مسلم ومسلمة مع القدرة {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 104 - 105] ، فلولا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتفَرَّق الناس شِيَعًا، وتمزقوا كل ممزق كل حزب بما لديهم فرحون، وبه فُضِّلت هذه الأمة على غيرها {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ} [آل عمران: 110] ، وبتركه {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ
لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 78 - 79] ،(20/333)
فهذه الأوصاف الخمسة متى تحققت مع القيام بما أرشد الله إليه من الحزم والعزيمة وإعداد القوة الحسية حصل النصر بإذن لله {وَعْدَ اللهِ لَا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 6 - 7] , فيحصل للأمة من نصر الله ما لم يخطر لهم على بال , وإن المؤمن الواثق بوعد الله ليعلم أن الأسباب المادية مهما قويت فليست بشيء بالنسبة إلى قوة الله الذي خلقها وأوجدها، افتخرت عاد بقوتها وقالوا: من أشد منا قوة؟ فقال الله تعالى: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا
يُنْصَرُونَ} [فصلت: 15 - 16] ، وافتخر فرعون بِمُلْك مصر وأنهاره التي تجري من تحته فأغرقه الله بالماء الذي كان يفتخر بمثله، وأورث ملكه موسى وقومه وهو الذي في نظر فرعون مهين ولا يكاد يُبِين.
وافتخرت قريش بعظمتها وجبروتها فخرجوا من ديارهم برؤسائهم وزعمائهم بطرا ورئاء الناس يقولون: لا نرجع حتى نقدم بدرا فننحر فيها الجزور ونسقي الخمور وتعزف علينا القيان وتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا أبدا، فهُزِموا على يد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه شر هزيمة وسحبت جثثهم جِيَفًا في قليب بدر، وصاروا حديث الناس في هذا العصر.
لو أخذنا بأسباب النصر وقمنا بواجب ديننا وكنا قدوة لا مقتدين ومتبوعين لا أتباعا لغيرنا، وأخذنا بوسائل الحرب العصرية بصدق وإخلاص(20/334)
لنصرنا الله على أعدائنا كما نصر أسلافنا , صدق الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده {سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 62] .
اللهم هيئ لنا من أسباب النصر ما به نصرنا وعزتنا وكرامتنا ورفعة الإسلام وذل الكفر والعصيان، إنك جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(20/335)
المجلس الحادي والعشرون: في فضل العشر الأخير من رمضان
الحمد لله المتفرد بالجلال والبقاء، والعظمة والكبرياء، والعز الذي لا يرام، الرب الصمد، الملك الذي لا يحتاج إلى أحد، العلي عن مداناة الأوهام، الجليل العظيم الذي لا تدركه العقول والأفهام، الغني بذاته عن جميع مخلوقاته، فكل من سواه مفتقر إليه على الدوام، وفق من شاء فآمن به واستقام، ثم وجد لذة مناجاة مولاه فهجر لذيذ المنام، وصحب رفقة تتجافى جنوبهم عن المضاجع رغبة في المقام، فلو رأيتهم وقد سارت قوافلهم في حندس الظلام، فواحد يسأل العفو عن زلته، وآخر يشكو ما يجد من لوعته، وآخر شغله ذكره عن مسألته، فسبحان من أيقظهم والناس نيام , وتبارك الذي غفر وعفا , وستر وكفى , وأسبل على الكافة جميع الإنعام، أحمده على نِعَمِهِ الجسام، وأشكره وأسأله حفظ نعمة الإسلام.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، عز من اعتز به فلا يضام، وذل من تكبر عن طاعته ولقي الآثام، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي بَيَّنَ الحلال والحرام، صلى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكر الصديق، الذي هو في الغار خير رفيق، وعلى عمر بن الخطاب، الذي وُفِّقَ للصواب، وعلى عثمان مصابر البَلا، ومن نال الشهادة العظمى من أيدي العدا، وعلى ابن عمه علي بن أبي طالب وعلى(20/337)
جميع الصحبة والتابعين لهم بإحسان ما غاب في الأفق غارب، وسلم تسليما.
إخواني: لقد نزل بكم عشر رمضان الأخيرة فيها الخيرات والأجور الكثيرة، فيها الفضائل المشهورة والخصائص العظيمة:
* فمن خصائصها أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يجتهد بالعمل فيها أكثر من غيرها، فعن عائشة رضي الله عنها «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره» (1) ، وعنها: قالت: «كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا دخل العَشرُ شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله» (2) ، وعنها قالت: «كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخلط العشرين بصلاة ونوم، فإذا كان العشر شمر وشد المئزر» (3) .
ففي هذه الأحاديث دليل على فضيلة هذه العشر؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يجتهد فيه أكثر مما يجتهد في غيره، وهذا شامل للاجتهاد في جميع أنواع العبادة من صلاة وقرآن وذكر وصدقة وغيرها، ولأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يحيي ليله بالقيام والقراءة والذكر بقلبه ولسانه وجوارحه لشرف هذه الليالي وطلبا لليلة القدر التي من قامها إيمانا واحتسابا غفر الله له ما تقدم من ذنبه، وظاهر هذا الحديث أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحيي الليل كله في عبادة ربه من الذكر والقراءة والصلاة والاستعداد لذلك والسحور وغيرها، وبهذا يحصل الجمع بينه وبين ما في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما أعلمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام ليلة
__________
(1) رواه مسلم.
(2) متفق عليه.
(3) رواه الإمام أحمد.(20/338)
حتى الصباح؛ لأن إحياء الليل الثابت في العشر يكون بالقيام وغيره من أنواع العبادة، والذي نفته إحياء الليل بالقيام فقط، والله أعلم.
ومما يدل على فضيلة العشر من هذه الأحاديث أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يوقظ أهله فيه للصلاة والذكر حرصا على اغتنام هذه الليالي المباركة بما هي جديرة به من العبادة، فإنها فرصة العمر وغنيمة لمن وفقه الله عز وجل، فلا ينبغي للمؤمن العاقل أن يفوت هذه الفرصة الثمينة على نفسه وأهله، فما هي إلا ليال معدودة ربما يدرك الإنسان فيها نفحة من نفحات المولى فتكون سعادة له في الدنيا والآخرة، وإنه لمن الحرمان العظيم والخسارة الفادحة أن ترى كثيرا من المسلمين يُمْضُون هذه الأوقات الثمينة فيما لا ينفعهم، يسهرون معظم الليل في اللهو الباطل , فإذا جاء وقت القيام ناموا عنه وفوَّتوا على أنفسهم خيرا كثيرا لعلهم لا يدركونه بعد عامهم هذا أبدا، وهذا من تلاعب الشيطان بهم ومكره بهم وصده إياهم عن سبيل الله وإغوائه لهم، قال الله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42] ، والعاقل لا يتخذ الشيطان وليا من دون الله مع علمه بعداوته له؛ فإن ذلك مناف للعقل والإيمان قال الله تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي
وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف: 50] , وقال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6] .
* ومن خصائص هذه العشر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يعتكف فيها، والاعتكاف:(20/339)
لزوم المسجد للتفرغ لطاعة الله عز وجل، وهو من السنن الثابتة بكتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال الله عز وجل: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] ، واعتكف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واعتكف أصحابه معه وبعده، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعتكف العشر الأول من رمضان، ثم اعتكف العشر الأوسط، ثم قال: " إني أعتكف العشر الأول ألتمس هذه الليلة ثم أعتكف العشر الأوسط "، ثم أتيت فقيل لي: " إنها في العشر الأواخر فمن أحب منكم أن يعتكف فليعتكف» (1) .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفَّاه الله عز وجل ثم اعتكف أزواجه من بعده» (2) ، وعنها أيضا قالت: «كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي قُبِضَ فيه اعتكف عشرين يوما» (3) ، وعن أنس رضي الله عنه قال: «كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعتكف العشر الأواخر من رمضان فلم يعتكف عاما، فلما كان العام المقبل اعتكف عشرين» (4) ، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه فاستأذنته عائشة فأذن لها فضربت لها خِبَاء، وسألت حفصةُ عائشةَ أن تستأذن لها ففعلت فضربت خباء، فلما رأت ذلك زينب أمرت بخباء، فضُرِبَ لها، فلما رأى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأخبية قال: " ما هذا؟ " قالوا: بناء عائشة وحفصة وزينب. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " آلْبِرَّ أردن بهذا؟ انزعوها فلا أراها "،
__________
(1) رواه مسلم.
(2) متفق عليه.
(3) رواه البخاري.
(4) رواه أحمد والترمذي وصححه.(20/340)
فنُزِعَتْ وترك الاعتكاف في رمضان حتى اعتكف في العشر الأول من شوال» (1) ، وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: لا أعلم عن أحد من العلماء خلافا أن الاعتكاف مسنون.
والمقصود بالاعتكاف: انقطاع الإنسان عن الناس ليتفرغ لطاعة الله في مسجد من مساجده طلبا لفضله وثوابه وإدراك ليلة القدر، ولذلك ينبغي للمعتكف أن يشتغل بالذكر والقراءة والصلاة والعبادة، وأن يتجنب ما لا يَعنيه من حديث الدنيا، ولا بأس أن يتحدث قليلا بحديث مباح مع أهله أو غيرهم لمصلحة، لحديث صفية أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: «كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معتكفا فأتيته أزوره ليلا فحدثته ثم قمت لأنقلب (أي: لأنصرف إلى بيتي) فقام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معي» (الحديث) (2) .
ويحرم على المعتكف الجماع ومقدِّماته من التقبيل واللمس لشهوة لقوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] ، وأما خروجه من المسجد فإن كان ببعض بدنه فلا بأس به لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْرِج رأسه من المسجد وهو معتكف فأغسله وأنا حائض» (3) ، وفي رواية: «كانت ترجِّل رأس النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهي حائض وهو معتكف في المسجد وهي في حجرتها يناولها رأسه» ، وإن كان خروجه بجميع بدنه فهو ثلاثة أقسام:
__________
(1) من البخاري ومسلم في روايات.
(2) متفق عليه.
(3) رواه البخاري.(20/341)
* الأول: الخروج لأمر لا بد منه طبعا أو شرعا كقضاء حاجة البول والغائط والوضوء الواجب والغسل الواجب لجنابة أو غيرها والأكل والشرب، فهذا جائز إذا لم يمكن فعله في المسجد، فإن أمكن فعله في المسجد فلا، مثل أن يكون في المسجد حمام يمكنه أن يقضي حاجته فيه وأن يغتسل فيه، أو يكون له من يأتيه بالأكل والشرب فلا يخرج حينئذ لعدم الحاجة إليه.
* الثاني: الخروج لأمر طاعة لا تجب عليه كعيادة مريض وشهود جنازة ونحو ذلك، فلا يفعله إلا أن يشترط ذلك في ابتداء اعتكافه، مثل أن يكون عنده مريض يحب أن يعوده أو يخشى من موته، فيشترط في ابتداء اعتكافه خروجه لذلك فلا بأس به.
* الثالث: الخروج لأمر ينافي الاعتكاف كالخروج للبيع والشراء وجماع أهله ومباشرتهم ونحو ذلك، فلا يفعله لا بشرط ولا بغير شرط؛ لأنه يناقض الاعتكاف وينافي المقصود منه.
* ومن خصائص هذه العشر أن فيها ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، فاعرفوا رحمكم الله لهذه العشر فضلها , ولا تضيِّعوها فوقتها ثمين وخيرها ظاهر مبين.
اللهم وفِّقْنا لما فيه صلاح ديننا ودنيانا، وأحسن عاقبتنا وأكرم مثوانا، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(20/342)
المجلس الثاني والعشرون: في الاجتهاد في العشر الأواخر وليلة القدر
الحمد لله عالم السر والجهر، وقاصم الجبابرة بالعز والقهر، مُحْصي قطرات الماء وهو يجري في النهر، وباعث ظلام الليل ينسخه نور الفجر، موفِّر الثواب للعابدين ومكمِّل الأجر، العالم بخائنة الأعين وخافية الصدر، شمل برزقه جميع خلقه فلم يترك النمل في الرمل ولا الفرخ في الوكر، أغنى وأفقر وبحكمته وقوع الغنى والفقر، وفضَّل بعض المخلوقات على بعض حتى أوقات الدهر، ليلة القدر خير من ألف شهر، أحمده حمدا لا منتهى لعدده، وأشكره شكرا يستجلب المزيد من مدده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة مخلص في معتقده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي نبع الماء من بين أصابع يده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلى أبي بكر صاحبه في رخائه وشدائده، وعلى عمر بن الخطاب كهف الإسلام وعَضُده، وعلى عثمان جامع كتاب الله وموحِّده، وعلى علي كافي الحروب وشجعانها بمفرده، وعلى آله وأصحابه المحسن كل منهم في عمله ومقصده، وسلم تسليما.
إخواني: في هذه العشر المباركة ليلة القدر التي شرَّفها الله على غيرها ومَنَّ على هذه الأمة بجزيل فضلها وخيرها، أشاد الله بفضلها في كتابه المبين فقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} {(20/343)
فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} {أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} [الدخان: 3 - 8] ، وصفها الله سبحانه بأنها مباركة لكثرة خيرها وبركتها وفضلها، ومن بركتها أن هذا القرآن المبارك أُنْزِل فيها، ووصفها سبحانه بأنه يفرق فيها كل أمر حكيم، يعني يفصل من اللوح المحفوظ إلى الكَتَبَة ما هو كائن من أمر الله سبحانه في تلك السنة من الأرزاق والآجال والخير والشر وغير ذلك من كل أمر حكيم من أوامر الله المحكمة المتقنة، التي ليس فيها خلل ولا نقص ولا سفه ولا باطل ذلك تقدير العزيز العليم.
وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [سورة القدر: 1 - 5] . القدر بمعنى الشرف والتعظيم، أو بمعنى التقدير والقضاء؛ لأن ليلة القدر شريفة عظيمة يقدِّر الله فيها ما يكون في السنة ويقضيه من أموره الحكيمة، {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} يعني في الفضل والشرف وكثرة الثواب والأجر، ولذلك كان مَنْ قامها إيمانا واحتسابا غُفِر له ما تقدم من ذنبه، {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} الملائكة عباد من عباد الله قائمون بعبادته ليلا ونهارا {لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ} {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 19 - 20] ، يتنزلون في ليلة القدر إلى الأرض بالخير والبركة والرحمة، (والروح) هو جبريل عليه السلام خصه بالذكر لشرفه وفضله. {سَلَامٌ هِيَ} يعني أن ليلة القدر(20/344)
ليلة
سلام للمؤمنين من كل مخوف لكثرة من يُعتق فيها من النار، ويسلم من عذابها، {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} يعني أن ليلة القدر تنتهي بطلوع الفجر لانتهاء عمل الليل به.
وفي هذه السورة الكريمة فضائل متعددة لليلة القدر:
* الفضيلة الأولى: أن الله أنزل فيها القرآن الذي به هداية البشر وسعادتهم في الدنيا والآخرة.
* الفضيلة الثانية: ما يدل عليه الاستفهام من التفخيم والتعظيم في قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} .
* الفضيلة الثالثة: أنها خير من ألف شهر.
* الفضيلة الرابعة: أن الملائكة تتنزل فيها وهم لا ينزلون إلا بالخير والبركة والرحمة.
* الفضيلة الخامسة: أنها سلام لكثرة السلامة فيها من العقاب والعذاب بما يقوم به العبد من طاعة الله عز وجل.
* الفضيلة السادسة: أن الله أنزل في فضلها سورة كاملة تُتْلَى إلى يوم القيامة.
* ومن فضائل ليلة القدر ما ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه» (1) ، فقوله: (إيمانا واحتسابا) يعني إيمانا بالله وبما أعد الله من الثواب للقائمين فيها، واحتسابا للأجر وطلب الثواب، وهذا حاصل لمن علم بها ومن لم يعلم؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يشترط العلم بها في حصول هذا الأجر.
__________
(1) متفق عليه.(20/345)
وليلة القدر في رمضان؛ لأن الله أنزل القرآن فيها، وقد أخبر أن إنزاله في شهر رمضان، قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} ، وقال: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185] ، فبهذا تعيَّن أن تكون ليلة القدر في رمضان، وهي موجودة في الأمم وفي هذه الأمة إلى يوم القيامة لما رُوِيَ «عن أبي ذَرٍّ رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله أخبرني عن ليلة القدر أهي في رمضان أم في غيره؟ قال: " بل هي في رمضان ". قال: تكون مع الأنبياء ما كانوا، فإذا قُبِضُوا رُفِعَت أم هي إلى يوم القيامة؟ قال: " بل هي إلى يوم القيامة» (الحديث) (1) ، لكنْ فضلها وأجرها يختص والله أعلم بهذه الأمة كما اختصت هذه الأمة بفضيلة يوم الجمعة وغيرها من الفضائل، ولله الحمد.
وليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَحَرَّوْا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان» (2) ، وهي في الأوتار أقرب من الأشفاع لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان» (3) ، وهي في السبع الأواخر أقرب؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما «أن رجالا
__________
(1) رواه أحمد والنسائي والحاكم، وقال: حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه , ونقل عن الذهبي أنه أقره، والله أعلم.
(2) متفق عليه.
(3) رواه البخاري.(20/346)
من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أرى رؤياكم قد تواطأت (يعني اتفقت) في السبع الأواخر، فمن كان مُتَحَرِّيهَا فَلْيَتَحَرَّهَا في السبع الأواخر» (1) ، ولمسلم عنه: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «التمسوها في العشر الأواخر (يعني ليلة القدر) ، فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يُغْلَبَنَّ على السبع البواقي، وأقرب أوتار السبع الأواخر ليلة سبع وعشرين لحديث أُبَيِّ بن كعب رضي الله عنه أنه قال: والله إني لأعلم أي ليلة هي، هي الليلة التي أمرنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقيامها، هي ليلة سبع وعشرين» (2) ، ولا تختص ليلة القدر بليلة معينة في جميع الأعوام، بل تتنقل فتكون في عام ليلة سبع وعشرين مثلا، وفي عام آخر
ليلة خمس وعشرين تبعا لمشيئة الله وحكمته , ويدل على ذلك قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «التمسوها في تاسعة تبقى في سابعة تبقى في خامسة تبقى» (3) ، قال في فتح الباري: أرجح الأقوال أنها في وتر من العشر الأخير، وأنها تنتقل اهـ.
وقد أخفى سبحانه علمها على العباد رحمة بهم؛ ليكثر عملهم في طلبها في تلك الليالي الفاضلة بالصلاة والذكر والدعاء فيزدادوا قربة من الله وثوابا، وأخفاها اختبارا لهم أيضا ليتبين بذلك من كان جادا في طلبها حريصا عليها ممن كان كسلان متهاونا، فإن من حرص على شيء جد في طلبه وهان عليه التعب في سبيل الوصول إليه والظفر به , وربما يُظْهِر الله علمها لبعض العباد بأمارات وعلامات يراها كما رأى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علامتها أنه يسجد في صبيحتها في ماء وطين، فنزل المطر في تلك الليلة فسجد في صلاة الصبح في ماء وطين.
__________
(1) متفق عليه.
(2) رواه مسلم.
(3) رواه البخاري.(20/347)
إخواني: ليلة القدر يُفْتَح فيها الباب , ويُقَرَّب فيها الأحباب , ويُسْمَع الخطاب , ويرد الجواب، ويكتب للعاملين فيها عظيم الأجر، ليلة القدر خير من ألف شهر، فاجتهدوا رحمكم الله في طلبها فهذا أوان الطلب، واحذروا من الغفلة ففي الغفلة العطب.
تولَّى العمر في سهوٍ ... وفي لهو وفي خسرِ
فيا ضيعةَ ما أنفقْـ ... ـتُ في الأيام من عمري
وما لي في الذي ضَيَّعْـ ... ـتُ من عمري من عذرِ
فما أغفلنا عن وا ... جبات الحمد والشكرِ
أمَا قد خصنا اللـ ... ـه بشهر أيما شهرِ
بشهر أنزل الرحمـ ... ـن فيه أشرف الذكرِ
وهل يشبهه شهرٌ ... وفيه ليلة القدرِ
فكم من خبر صحَّ ... بما فيها من الخيرِ
رَوَيْنَا عن ثقاتٍ ... أنها تُطْلَب في الوِترِ
فطُوبى لامرئ يطلبها ... في هذه العشرِ
ففيها تنزل الأملا ... ك حتى مطلع الذُّخْرِ
وقد قال سلام هِـ ... ـيَ حتى مطلع الفجرِ
ألا فادَّخِروها إنَّـ ... ـها من أنْفَسِ الذُّخْرِ
فكم من معتَقٍ فيها ... من النار ولا يدري
اللهم اجعلنا ممن صام الشهر، وأدرك ليلة القدر، وفاز بالثواب الجزيل والأجر.(20/348)
اللهم اجعلنا من السابقين إلى الخيرات، الهاربين عن المنكرات، الآمنين في الغرفات، مع الذين أنعمت عليهم ووقيتهم السيئات، اللهم أعذنا من مُضِلَّات الفتن، وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
اللهم ارزقنا شكر نعمتك وحسن عبادتك، واجعلنا من أهل طاعتك وولايتك، وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(20/349)
المجلس الثالث والعشرون: في وصف الجنة جعلنا الله من أهلها
الحمد لله مبلِّغ الراجي فوق مأموله، ومعطي السائل زيادة على سُؤْله، المنان على التائب بصفحه وقبوله، خلق الإنسان وأنشأ دارا لحلوله، وجعل الدنيا مرحلة لنزوله، فتوطنها من لم يعرف شرف الأخرى لخموله، فأخذ منها كارها قبل بلوغ مأموله، ولم يُغْنه ما كسبه من مال وولد حتى انهزم في فلوله , أوما ترى غربان البين تنوح على طلوله، أما الموفَّق فعرف غرورها فلم ينخدع بمثوله، وسابق إلى مغفرة من الله وجنة عرضها السماوات والأرض أُعِدَّت للذين آمنوا بالله ورسوله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة عارف بالدليل وأصوله، وأشهد أن محمدا عنده ورسوله، ما تردد النسيم بين شماله وجنوبه ودبوره وقبوله، صلى الله عليه وعلى أبي بكر صاحبه في سفره وحلوله، وعلى عمر حامي الإسلام بسيف لا يخاف من فلوله، وعلى عثمان الصابر على البلاء حين نزوله، وعلى علي الماضي بشجاعته قبل أن يصول بنصوله، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ما امتد الدهر بطوله وسلم تسليما.
إخواني: سارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، قال الله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ(20/351)
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} [الرعد: 35] ، وقال تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} [محمد: 15] ، وقال تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 25] ، وقال تعالى: {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا
} {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ} {قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا} {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا} {عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا} {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} {إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا} {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} [الإنسان: 14 - 20] .
وقال تعالى: {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} {لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً} {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ} {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ} {وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ} {وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ} {وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} [الغاشية: 10 - 16] ، وقال تعالى: {إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج: 23] ، وقال تعالى: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا} [الإنسان: 13] ، وقال تعالى: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21] ، وقال تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} [الرحمن: 76] ، وقال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} {يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ} {كَذَلِكَ
وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ} [الدخان: 51 - 55] ، وقال تعالى: {ادْخُلُوا(20/352)
الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} [الزخرف: 70] .
وقال تعالى: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 56 - 58] ، وقال تعالى: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن: 70 - 72] ، وقال تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17] ، وقال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس: 26] ، فالحسنى هي الجنة لأنه لا دار أحسن منها , والزيادة هي النظر إلى وجه الله الكريم، رزقنا الله ذلك بِمَنِّهِ وكرمه، والآيات في وصف الجنة ونعيمها وسرورها وأنسها وحبورها كثيرة جدا.
وأما الأحاديث: فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قلنا: يا رسول الله حدثنا عن الجنة ما بناؤها؟ قال: " لَبِنَة ذهب ولبنة فضة، ومِلاطها المسك، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران، من يدخلها ينعم ولا يبأس ويخلد ولا يموت، لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه» (1) ، وعن عتبة بن غزوان رضي الله عنه أنه خطب فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإن الدنيا قد آذنت بصرم وولت حَذَّاء ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء يصطبُّها صاحبها،
__________
(1) رواه أحمد والترمذي.(20/353)
وإنكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها فانتقلوا بخير ما يحضرنكم , ولقد ذُكِرَ لنا أن مصراعين من مصاريع الجنة بينهما مسيرة أربعين سنة , وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام " (1) ، وعن سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «في الجنة ثمانية أبواب فيها باب يسمى الريان لا يدخله إلا الصائمون» (2) ، وعن أسامة بن زيد رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ألا هل مُشَمِّر إلى الجنة، فإن الجنة لا خطر لها» (3) ، «هي ورب الكعبة نور يتلألأ، وريحانة تهتز، وقصر مشيد، ونهر مطرد، وثمرة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، وحلل كثيرة، ومقام في أبد في دار
وفاكهة وخضرة وحبرة ونعمة في مَحَلَّة عليه بهية " , قالوا: يا رسول الله نحن المشمرون لها. قال: " قولوا: إن شاء الله "، فقال القوم: إن شاء الله» (4) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة وفوقه عرش الرحمن» (5) ، وعن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن أهل الجنة يتراءَوْن أهل الغُرَف فوقهم كما تتراءَوْن الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم ". قالوا:
__________
(1) رواه مسلم.
(2) متفق عليه.
(3) أي: لا مثل لها ولا عديل.
(4) رواه ابن ماجه والبيهقي وابن حبان في صحيحه، وإسناده ضعيف.
(5) رواه البخاري.(20/354)
يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم. قال: " بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدَّقوا المرسلين» (1) ، وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن في الجنة غرفا يُرَى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها، أعدها الله لمن أطعم الطعام وأدام الصيام وصلى بالليل والناس نيام» (2) .
وعن أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوّفة، طولها في السماء ستون ميلا، للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم فلا يرى بعضهم بعضا» (3) ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر , ثم الذين يلونهم على أشد نجم في السماء إضاءة , ثم هم بعد ذلك منازل لا يتغوَّطون , ولا يبولون , ولا يمتخِطون , ولا يبصُقون , أمشاطهم الذهب , ومجامرهم الألُوَّة , ورشحهم المسك , أخلاقهم على خَلْق رجل واحد على طول أبيهم آدم ستون ذراعا» (4) ، وفي رواية: «لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلب واحد، يسبِّحون الله بكرة وعشيا» ، وفي رواية: «وأزواجهم الحور العين» .
وعن جابر رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ولا يتفُلون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون "
__________
(1) رواه البخاري.
(2) أخرجه الطبراني , رواه أحمد بزيادة: «وألان الكلام» .
(3) متفق عليه.
(4) رواه مسلم.(20/355)
قالوا: فما بال الطعام؟ قال: " جُشَاءٌ ورَشْحٌ كرشح المسك، يُلْهَمُون التسبيح والتحميد كما يُلْهَمُون النَّفَس» (1) ، وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «والذي نفس محمد بيده إن أحدهم (يعني أهل الجنة) لَيُعْطَى قوة مائة رجل في الأكل والشرب والجماع والشهوة، تكون حاجة أحدهم رشحا يفيض من جلودهم كرشح المسك فَيَضْمُرُ بطنه» (2) . وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لَقَابُ قوسِ أحدِكم أو موضع قدم في الجنة خير من الدنيا وما فيها، ولو أن امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت إلى الأرض لأضاءت ما بينهما ولملأت ما بينهما ريحا وَلَنَصِيفُهَا (يعني الخمار) خير من الدنيا وما فيها» (3) ، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن في الجنة لسُوقا يأتونها كل جمعة فتهب رياح الشمال فتحثوا في وجوههم وثيابهم، فيزدادون حسنا وجمالا فيرجعون إلى أهليهم فيقولون لهم: والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا ,
فيقولون: وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا» (4) ، وعن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إذا دخل أهلُ الجنةِ الجنةَ ينادي مناد: إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا، وإن لكم أن تَحْيَوْا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تَشِبُّوا فلا تهرموا أبدا، وإن لكم أن تنعموا فلا تيأسوا أبدا، وذلك قول الله عز وجل: {وَنُودُوا أَنْ
__________
(1) رواه مسلم.
(2) أخرجه أحمد والنسائي، وقال المنذري في الترغيب والترهيب: رواته محتج بهم في الصحيح، ورواه الطبراني بإسناد صحيح وابن حبان في صحيحه والحاكم.
(3) رواه البخاري.
(4) رواه مسلم.(20/356)
تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} » [الأعراف: 43] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «قال الله عز وجل: أَعْدَدْتُ لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، واقرؤوا إن شئتم: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} » [السجدة: 17] (1) . وعن صهيب رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إذا دخل أهل الجنةِ الجنةَ نادى مناد: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن يُنْجِزَكُمُوهُ، فيقولون: ما هو؟ ألم يُثَقِّلْ موازيننا ويبيِّض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويزحزحنا عن النار؟ فيكشف لهم الحجاب فينظرون إليه , فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إليه، ولا أقر لأعينهم منه» (2) ، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه «أن الله يقول لأهل الجنة: " أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا» (3) .
اللهم ارزقنا الخلد في جنانك , وأحِل علينا فيها رضوانك , وارزقنا لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك من غير ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ ولا فتنة مُضِلَّة.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
__________
(1) الحديث متفق عليه.
(2) رواه مسلم.
(3) رواه مسلم.(20/357)
المجلس الرابع والعشرون: في أوصاف أهل الجنة جعلنا الله منهم بمنه وكرمه
الحمد لله الذي كوَّن الأشياء وأحكمها خلقا، وفتق فأسعد وأشقى , وجعل للسعادة أسبابا فسلكها من كان أتقى , فنظر بعين البصيرة إلى العواقب فاختار ما كان أبقى، أحمده وما أقضي له بالحمد حقا، وأشكره ولم يزل للشكر مستحقا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، مالك الرقاب كلها رقا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أكمل البشر خُلُقًا وخَلْقًا، صلى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكر الصديق الحائز فضائل الأتباع سبقا، وعلى عمر العادل فما يحابي خلقا، وعلى عثمان الذي استسلم للشهادة وما تَوَقَّى، وعلى علي بائع ما يفنى ومشتري ما يبقى، وعلى آله وأصحابه الناصرين لدين الله حقا، وسلم تسليما.
إخواني: سمعتم أوصاف الحنة ونعيمها وما فيها من السرور والفرح والحبور، فوالله إنها لجديرة بأن يعمل لها العاملون ويتنافس فيها المتنافسون، ويُفني الإنسان عمره في طلبها زاهدا في الدون، فإن سألتم عن العمل لها والطريق الموصل إليها فقد بيَّنه الله فيما أنزله من وحيه على أشرف خلقه. قال الله عز وجل: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} {(20/359)
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 133 - 135] ، فهذه أوصاف في أهل الجنة:
* الوصف الأول: (المتقين) وهم الذين اتقوا ربهم باتخاذ الوقاية من عذابه بفعل ما أمرهم به طاعة له ورجاء لثوابه، وترك ما نهاهم عنه طاعة له وخوفا من عقابه.
* الوصف الثاني: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ} فهم ينفقون ما أُمِروا بإنفاقه على الوجه المطلوب منهم من الزكاة والصدقات والنفقات على من له حق عليهم، والنفقات في الجهاد وغيره من سبل الخير ينفقون ذلك في السراء والضراء، لا تحملهم السراء والرخاء على حب المال والشح فيه طمعا في زيادته، ولا تحملهم الشدة والضراء على إمساك المال خوفا من الحاجة إليه.
الوصف الثالث: الكاظمين الغيظ وهم الحابسون لغضبهم إذا غضبوا، فلا يعتدون ولا يحقدون على غيرهم بسببه.
* الوصف الرابع: العافين عن الناس يعفون عمن ظلمهم واعتدى عليهم، فلا ينتقمون لأنفسهم مع قدرتهم على ذلك. وفي قوله تعالى: والله يحب المحسنين إشارة إلى أن العفو لا يُمْدَح إلا(20/360)
إذا كان من الإحسان، وذلك بأن يقع موقعه ويكون إصلاحا، فأما العفو الذي تزداد به جريمة المعتدي فليس بمحمود ولا مأجور عليه، قال الله تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ} [الشورى: 40] .
* الوصف الخامس: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} ، الفاحشة: ما يُسْتَفْحَش من الذنوب وهي الكبائر كقتل النفس الْمُحَرَّمة بغير حق، وعقوق الوالدين، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتَّوَلِّي يوم الزحف، والزنا، والسرقة، ونحوها من الكبائر، وأما ظلم النفس فهو أعم، فيشمل الصغائر والكبائر، فهم إذا فعلوا شيئا من ذلك ذكروا عظمة من عَصَوْهُ فخافوا منه، وذكروا مغفرته ورحمته فسعوا في أسباب ذلك، فاستغفروا لذنوبهم بطلب سترها والتجاوز عن العقوبة عليها. وفي قوله: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ} إشارة إلى أنهم لا يطلبون المغفرة من غير الله لأنه لا يغفر الذنوب سواه.
الوصف السادس: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أي: لم يستمروا على فعل الذنب وهم يعلمون أنه ذنب، ويعلمون عظمة من عصوه، ويعلمون قرب مغفرته , بل يبادرون إلى الإقلاع عنه والتوبة منه، فالإصرار على الذنوب مع هذا العلم يجعل الصغائر كبائر ويتدرج بالفاعل إلى أمور خطيرة صعبة.
وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ(20/361)
أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 1 - 11] ، فهذه الآيات الكريمة جمعت عدة أوصاف من أوصاف أهل الجنة.
* الوصف الأول: (المؤمنون) الذين آمنوا بالله وبكل ما يجب الإيمان به من ملائكة الله وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره , آمَنوا بذلك إيمانا يستلزم القبول والانقياد بالقول والعمل.
* الوصف الثاني: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} حاضرة قلوبهم، ساكنة جوارحهم، يستحضرون أنهم قائمون في صلاتهم بين يدي الله عز وجل يخاطبونه بكلامه ويتقربون إليه بذكره ويلجؤون إليه بدعائه , فهم خاشعون بظواهرهم وبواطنهم.
* الوصف الثالث: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} ، واللغو كل ما لا فائدة فيه ولا خير من قول أو فعل , فهم معرضون عنه لقوة عزيمتهم وشدة حزمهم، لا يمضون أوقاتهم الثمينة إلا فيما فيه فائدة , فكما حفظوا صلاتهم بالخشوع حفظوا أوقاتهم عن الضياع , وإذا كان من وصفهم الإعراض عن اللغو وهو ما لا فائدة فيه فإعراضهم عما فيه مضرة من باب أولى.
* الوصف الرابع: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} يحتمل أن المراد بالزكاة القسط الواجب دفعه من المال الواجب زكاته , ويحتمل أن(20/362)
المراد بها كل ما تزكو به نفوسهم من قول أو عمل.
* الوصف الخامس: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} فهم حافظون لفروجهم عن الزنا واللواط لما فيهما من معصية الله والانحطاط الْخُلُقي والاجتماعي , ولعل حفظ الفرج يشمل ما هو أعم من ذلك فيشمل حفظه عن النظر واللمس أيضا، وفي قوله: {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} إشارة إلى أن الأصل لوم الإنسان على هذا الفعل إلا على الزوجة والمملوكة لما في ذلك من الحاجة إليه؛ لدفع مقتضى الطبيعة وتحصيل النسل وغيره من المصالح , وفي عموم قوله: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} دليل على تحريم الاستمناء الذي يسمى [العادة السرية] لأنه عملية في غير الزوجات والمملوكات.
* الوصف السادس: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} الأمانة ما يُؤْتَمَنُ عليه من قول أو فعل أو عين , فمن حدثك بسر فقد ائتمنك , ومن فعل عندك ما لا يحب الاطلاع عليه فقد ائتمنك , ومن سلَّمك شيئا من ماله لحفظه فقد ائتمنك، والعهد ما يلتزم به الإنسان لغيره كالنذر لله والعهود الجارية بين الناس، فأهل الجنة قائمون برعاية الأمانات والعهد فيما بينهم وبين الله وفيما بينهم وبين الخلق، ويدخل في ذلك الوفاء بالعقود والشروط المباحة فيها.
* الوصف السابع: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} يلازمون على حفظها من الإضاعة والتفريط، وذلك بأدائها في وقتها على الوجه(20/363)
الأكمل بشروطها وأركانها وواجباتها.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى أوصافا كثيرة في القرآن لأهل الجنة سوى ما نقلناه هنا، ذكر ذلك سبحانه ليتصف به من أراد الوصول إليها، وفي الأحاديث عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ذلك شيء كثير: فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سَهَّلَ الله له به طريقا إلى الجنة» (1) . وعنه أيضا أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ " قالوا: بلى يا رسول الله. قال: " إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الْخُطَا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة» (2) . وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إلا فُتِحَت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء» (3) ، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أيضا «فيمن تابع المؤذن من قلبه دخل الجنة» (4) .
وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من بنى مسجدا يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتا في الجنة» (5) ، وعن عُبَادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «خمس صلوات كتبهن الله على العباد، فمن جاء بهن ولم يضيع منهن شيئا استخفافا بحقهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة» (6) ،
__________
(1) رواه مسلم.
(2) رواه مسلم.
(3) رواه مسلم.
(4) رواه مسلم.
(5) متفق عليه.
(6) رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي , وله طرق يُقَوِّي بعضها بعضا.(20/364)
وعن ثوبان رضي الله عنه أنه «سأل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن عمل يدخله الله به الجنة فقال: " عليك بكثرة السجود فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة» (1) ، وعن أم حبيبة رضي الله عنها أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ما من عبد مسلم يصلي لله تعالى في كل يوم ثنتي عشرة ركعة تطوعا غير فريضة إلا بنى الله له بيتا في الجنة» (2) . وهن أربع قبل الظهر وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل صلاة الصبح.
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار قال: " لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه: تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت» (3) ، وعن سهل بن سعد رضي الله عنه «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن في الجنة بابا يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة لا يدخل منه أحد غيرهم» متفق عليه. وعن أبى هريرة رضي الله عنه «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» (4) .
وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من كان له ثلاث بنات يؤويهن ويرحمهن ويكفلهن وجبت له الجنة البتة ". قيل: يا رسول الله فإن كانتا اثنتين؟ قال:
__________
(1) رواه مسلم.
(2) رواه مسلم.
(3) رواه أحمد والترمذي وصححه.
(4) متفق عليه.(20/365)
فرأى بعض القوم أن لو قال: واحدة لقال واحدة رواه أحمد وإسناده ضعيف، لكن له شواهد صحيحة منها قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من ابْتُلِيَ من البنات بشيء فأحسنَ إليهم كُنَّ له سترا من النار» (1) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن أكثر ما يُدْخِل الناس الجنة؟ فقال: " تقوى الله وحسن الخلق» (2) ، وعن عياض بن حمار المجاشعي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مُقْسِط متصدِّق موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى، ومسلم عفيف متعفِّف ذو عيال» (3) .
فهذه أيها الإخوان طائفة من أحاديث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تبين شيئا كثيرا من أعمال أهل الجنة لمن أراد الوصول إليها. أسأل الله أن ييسر لنا ولكم سلوكها ويثبتنا عليها إنه جواد كريم , وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
__________
(1) رواه مسلم.
(2) رواه الترمذي وابن حبان في صحيحه، وإسناده ليس بذلك لكن متنه صحيح.
(3) رواه مسلم في حديث طويل.(20/366)
المجلس الخامس والعشرون: في وصف النار أعاذنا الله منها
الحمد لله الحي القيوم، الباقي وغيره لا يدوم، رفع السماء وزيَّنها بالنجوم، وأمسك الأرض بجبال في التخوم، صوَّر بقدرته هذه الجسوم، ثم أماتها ومحا الرسوم، ثم ينفخ في الصُّور فإذا الميت يقوم , ففريق إلى دار النعيم وفريق إلى نار السَّموم , تفتح أبوابها في وجوههم لكل باب منهم جزء مقسوم , وتوصد عليهم في عَمَد ممددة فيها للهموم والغموم، يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم فما منهم مرحوم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من للنجاة يروم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله , الذي فتح الله بدينه الفرس والروم. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان ما هَطَلت الغيوم , وسلم تسليما.
إخواني: لقد حذرنا الله تعالى في كتابه من النار وأخبرنا عن أنواع عذابها بما تتفطَّر منه الأكباد وتتفجر منه القلوب، حذرنا منها وأخبرنا عن أنواع عذابها رحمة بنا لنزداد حذرا وخوفا، فاسمعوا ما جاء في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أنواع عذابها لعلكم تذكرون، وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب(20/367)
ثم لا تُنْصَرُون، قال تعالى: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 131] ، وقال تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا} [الإنسان: 4] ، وقال تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف: 29] ، وقال تعالى مخاطبا إبليس: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} [الحجر: 42 - 44] ، وقال تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ
أَبْوَابُهَا} [الزمر: 71] ، وقال تعالى: {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ} {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} [الملك: 6 - 8] ، وقال تعالى: {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [العنكبوت: 55] ، وقال تعالى: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبَادَهُ يَاعِبَادِ فَاتَّقُونِ} [الزمر: 16] .
وقال تعالى: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ} {فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ} {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ} {لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ} [الواقعة: 41 - 44] ، وقال تعالى: {وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا} [التوبة: 81] ، وقال تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ} {نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة: 10 - 11] ، وقال تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ} {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [القمر: 47 - 48] ، وقال تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ} {لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ} {لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ} [المدثر: 27 - 29] ، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] ، وقال تعالى: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} {كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ} [المرسلات: 32 - 33] ، وقال
تعالى: {(20/368)
وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ} {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} [إبراهيم: 49 - 50] ، وقال تعالى: {إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ} [غافر: 71] .
وقال تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} [الحج: 19] ، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 56] ، وقال تعالى: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ} {طَعَامُ الْأَثِيمِ} {كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ} {كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [الدخان: 43 - 46] ، وقال في تلك الشجرة: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات: 64 - 65] .
وقال تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ} {لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ} {فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ} {فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ} {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} [الواقعة: 51 - 55] ، وقال تعالى: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف: 29] ، وقال تعالى: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد: 15] ، وقال تعالى: {وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ} {يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم: 16 - 17] ، وقال تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} {لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} {وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ(20/369)
عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف: 74 - 77] ، وقال تعالى: {مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ
كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء: 97] ، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا} {إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا} [النساء: 168 - 169] ، وقال تعالى: {إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا} [الأحزاب: 64] ، وقال تعالى: {إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن: 23] ، وقال تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ} {نَارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ} {الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ} {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ} {فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} [الهمزة: 5 - 9] .
والآيات في وصف النار وأنواع عذابها الأليم الدائم كثيرة.
أما الأحاديث فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «يؤتى بالنار يوم القيامة لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف مَلَك يجرونها» (1) ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ناركم هذه ما يُوقد بنو آدم جزء واحد من سبعين جزءا من نار جهنم "، قالوا: يا رسول الله إنها لكافية؟ قال: " إنها فُضِّلَت عليها بتسعة وستين جزءا كلهن مثل حرها» (2) ، وعنه رضي الله عنه قال: «كنا عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسمعنا وَجْبَة فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أتدرون ما هذا؟ " قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: " هذا حجر أرسله الله في جهنم منذ سبعين خريفا (يعني سبعين سنة) فالآن حين انتهى إلى قعرها» (3) .
__________
(1) رواه مسلم.
(2) متفق عليه.
(3) رواه مسلم.(20/370)
وقال عُتْبَة بن غزوان رضي الله عنه وهو يخطب: لقد ذُكِرَ لنا أن الحجر يُلْقَى من شفير جهنم فيهوي فيها سبعين عاما ما يدرك لها قعرا والله لَتُمْلأن أَفَعَجِبْتُم؟ (1) . وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لو أن قطرة من الزقوم قَطَرَت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم» (2) .
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن أهون أهل النار عذابا من له نعلان وشِراكان من نار يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل ما يرى أن أحدا أشد منه عذابا، وإنه لأهونهم عذابا» (3) .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «يُؤْتَى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار فيُصْبَغ في النار صبغة ثم يقال: يا بن آدم هل رأيت خيرا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا ربِّ، ويُؤْتَى بأشد الناس بؤسا في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ صبغة في الجنة فيقال: يا بن آدم هل رأيت بؤسا قط؟ هل مر بك من شدة قط؟ فيقول: لا والله يا ربِّ ما رأيت بؤسا ولا مر بي من شدة قط» (4) ، يعني أن أهل النار ينسون كل نعيم مر بهم في الدنيا، وأهل الجنة ينسون كل بؤس مر بهم في الدنيا، وعنه رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت تفتدي
__________
(1) رواه مسلم.
(2) رواه النسائي والترمذي وابن ماجه، وأخرجه الحاكم وقال: صحيح على شرطهما.
(3) رواه مسلم وللبخاري نحوه.
(4) رواه مسلم.(20/371)
به؟ قال: فيقول: نعم. قال: فيقول: قد أردت منك ما هو أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئا، فأبيت إلا أن تشرك بي» (1) .
وروى ابن مَرْدَوَيْهِ عن يَعْلَى ابن مُنْيَة وهو ابن أمية ومنية أمه أنه قال: يُنْشِئ الله لأهل النار سحابة فإذا أشرفت عليهم ناداهم: يا أهل النار أيُّ شيء تطلبون؟ وما الذي تسألون؟ فيذكرون بها سحائب الدنيا والماء الذي كان ينزل عليهم، فيقولون: نسأل يا رب الشراب، فيمطرهم أغلالا تزيد في أغلالهم وسلاسل تزيد في سلاسلهم، وجمرا يُلْهِب النار عليهم، وعن أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن خمر وقاطع رحم ومصدِّق بالسحر، ومن مات مدمن الخمر سقاه الله من نهر الغوْطة ". قيل: وما نهر الغوطة؟ قال: " نهر يجري من فروج المومسات يؤذي أهل النار ريح فروجهن» (2) ، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن على الله عهدا لمن شرب الْمُسْكِرات لَيَسْقِيه من طينة الخبال ". قالوا: يا رسول الله وما طينة الخبال؟ قال: " عَرق أهل النار أو عصارة أهل النار» (3) . وعن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «يقال لليهود والنصارى: ماذا تبغون؟ فيقولون: عطِشنا ربَّنا فاسْقِنَا. فيُشار إليهم: ألا تَرِدُون؟ فيُحْشَرون إلى جهنم
كأنها سراب يحطم بعضها
__________
(1) رواه أحمد ورواه البخاري ومسلم بنحوه.
(2) رواه أحمد وصححه الحاكم وأقره الذهبي.
(3) رواه مسلم.(20/372)
بعضا فيتساقطون في النار» (1) قال الحسن: ما ظنك بقوم قاموا على أقدامهم خمسين ألف سنة لم يأكلوا فيها أكلة، ولم يشربوا فيها شَرْبة حتى انقطعت أعناقهم عطشا، واحترقت أجوافهم جوعا، ثم انصرف بهم إلى النار فيُسْقَون من عين آنية قد آن حرها واشتد نضجها.
وقال ابن الجوزي رحمه الله في وصف النار: دار قد خُصَّ أهلها بالبعاد، وحُرِموا لذة المنى والإسعاد، بُدِّلَت وضاءة وجوههم بالسواد، وضُرِبُوا بمقامع أقوى من الأطواد، عليها ملائكة غلاط شداد، لو رأيتهم في الحميم يسرحون، وعلى الزمهرير يُطْرَحون، فحزنهم دائم فما يفرحون، مُقَامهم محتوم فما يبرحون أبد الآباد، عليها ملائكة غلاط شداد، توبيخهم أعظم من العذاب، تأسُّفهم أقوى من الْمُصاب، يبكون على تضييع أوقات الشباب، وكلما جاد البكاء زاد، عليها ملائكة غلاظ شداد، يا حسرتهم لغضب الخالق، يا محنتهم لعِظَم البوائق، يا فضيحتهم بين الخلائق، على رؤوس الأشهاد، أين كسبهم للحُطام؟ أين سعيهم في الآثام؟ كأنه كان أضغاث أحلام، ثم أُحْرِقت تلك الأجسام، وكلما أُحْرِقت تُعَاد، عليها ملائكة غلاظ شداد.
اللهم نَجِّنا من النار، وأَعِذْنَا من دار الخزي والبوار، وأسْكِنَّا برحمتك دار المتقين الأبرار، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) متفق عليه.(20/373)
المجلس السادس والعشرون: في أسباب دخول النار
الحمد لله القوي المتين، الظاهر القاهر المبين، لا يعزب عن سمعه أقل الأنين، ولا يخفى على بصره حركات الجنين، ذل لكبريائه جبابرة السلاطين، وبطل أمام قدرته كيد الكائدين، قضى قضاءه كما شاء على الخاطئين، وسبق اختيارُه مَنِ اختاره من العالمين، فهؤلاء أهل الشِّمال وهؤلاء أهل اليمين، جرى القدر بذلك قبل عمل العاملين، ولولا هذا التقسيم لبطل جهاد المجاهدين , وما عُرِفَ أهل الإيمان من الكافرين , ولا أهل الشك من أهل اليقين، ولولا هذا التقسيم ما امتلأت النار من المجرمين، {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13] . تلك يا أخي حكمة الله وهو أحكم الحاكمين، أحمده سبحانه حمد الشاكرين، وأسأله معونة الصابرين، وأستجير به من العذاب المهين، وأشهد أن لا إله إلا الله، الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى الأمين، صلى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكر أول تابع من الرجال على الدين، وعلى عمر القوي في أمر الله فلا يلين، وعلى عثمان زوج ابنتي الرسول ونِعْمَ القرين،
وعلى علي بحر العلوم الأنزع البطين، وعلى جميع آل بيت الرسول الطاهرين، وعلى سائر أصحابه الطيبين،(20/375)
وعلى أتباعه في دينه إلى يوم الدين، وسلم تسليما.
إخواني: اعلموا أن لدخول النار أسبابا بيَّنها الله في كتابه وعلى لسان رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليحذر الناس منها ويجتنبوها، وهذه الأسباب على نوعين:
* النوع الأول: أسباب مُكَفِّرة تُخْرِج فاعلها من الإيمان إلى الكفر، وتوجب له الخلود في النار.
* النوع الثاني: أسباب مُفَسِّقة تُخْرِج فاعلها من العدالة إلى الفسق، ويستحق بها دخول النار دون الخلود فيها.
فأما النوع الأول فنذكر منه أسبابا:
* السبب الأول: الشرك بالله بأن يجعل لله شريكا في الربوبية أو الألوهية أو الصفات , فمن اعتقد أن مع الله خالقا مشاركا أو منفردا , أو اعتقد أن مع الله إلها يستحق أن يعبد , أو عبد مع الله غيره فصرف شيئا من أنواع العبادة إليه , أو اعتقد أن لأحد من العلم والقدرة والعظمة ونحوها مثل ما لله عز وجل , فقد أشرك بالله شركا أكبر واستحق الخلود في النار , قال الله عز وجل: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72] .
* السبب الثاني: الكفر بالله عز وجل أو بملائكته أو كتبه أو رسله أو اليوم الآخر أو قضاء الله وقدره , فمن أنكر شيئا من ذلك تكذيبا أو جحدا أو شك فيه فهو كافر مخلد في النار , قال الله تعالى: {إِنَّ(20/376)
الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء: 150 - 151]
وقال تعالى: {إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا} {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ} {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ} {رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} {يَا أَيُّهَا} [64 - 69] .
* السبب الثالث: إنكار فرض شيء من أركان الإسلام الخمسة , فَمَنْ أنكر فرضِيَّة توحيد الله أو الشهادة لرسوله بالرسالة أو عمومها لجميع الناس أو فريضة الصلوات الخمس أو الزكاة أو صوم رمضان أو الحج، فهو كافر لأنه مكذِّب لله ورسوله وإجماع المسلمين، وكذلك من أنكر تحريم الشرك أو قتل النفس التي حرم الله أو تحريم الزنا أو اللواط أو الخمر أو نحوها مما تحريمه ظاهر صريح في كتاب الله أو سنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنه مكذِّب لله ورسوله، لكن إن كان قريب عهد بإسلام فأنكر ذلك جهلا لم يَكْفُر حتى يُعَلَّم فينكر بعد علمه.
* السبب الرابع: الاستهزاء بالله سبحانه أو بدينه أو رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65 - 66] ، والاستهزاء هو السخرية، وهو من أعظم الاستهانة بالله(20/377)
ودينه ورسوله , وأعظم الاحتقار والازدراء , تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
* السبب الخامس: سب الله تعالى أو دينه أو رسوله، وهو القدْح والعيب وذكرهم بما يقتضي الاستخفاف والانتقاص كاللعن والتقبيح ونحو ذلك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: من سبَّ الله أو رسوله فهو كافر ظاهرا وباطنا سواء كان يعتقد أن ذلك محرم، أو كان مستحِلًّا له، أو كان ذاهلا عن اعتقاد. وقال أصحابنا: يكفر من سب الله سواء كان مازحا أو جادا، وهذا هو الصواب المقطوع به، ونقل عن إسحاق بن راهويه: أن المسلمين أجمعوا على أن من سب الله أو سب رسوله أو دفع شيئا مما أنزل الله فهو كافر وإن كان مقرا بما أنزل الله. وقال الشيخ أيضا: والْحُكْم في سب سائر الأنبياء كالحكم في سب نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمن سبَّ نبيا مسمّى باسمه من الأنبياء المعروفين المذكورين في القرآن أو موصوفا بالنبوة بأن يذكر في الحديث أن نبيا فعل أو قال كذا فيسب ذلك الفاعل أو القائل مع علمه أنه نبي فحكمه كما تقدم. اهـ.
وأما سبُّ غير الأنبياء فإن كان الغرض منه سب النبي مثل أن يسب أصحابه يقصد به سب النبي لأن المقارِن يقتدي بمن قارنه , ومثل أن يقذف واحدة من زوجات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالزنا ونحوه فإنه يكفر؛ لأن ذلك قدح في النبي وسب له، قال الله تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} [النور: 26] .
*(20/378)
السبب السادس: الحكم بغير ما أنزل الله معتقدا أنه أقرب إلى الحق وأصلح للخلق، أو أنه مساو لحكم الله، أو أنه يجوز الحكم به , فمن حكم بغير ما أنزل الله معتقدا ذلك فهو كافر لقول الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] ، وكذا لو اعتقد أن حكم غير الله خير من حكم الله أو مساو له أو أنه يجوز الحكم به، فهو كافر وإن لم يحكم به؛ لأنه مكذِّب لقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50] ، ولما يقتضيه قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} .
* السبب السابع: النفاق وهو أن يكون كافرا بقلبه ويظهر للناس أنه مسلم إما بقوله أو بفعله، قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء: 145] ، وهذا الصنف أعظم مما قبله، ولذلك كانت عقوبة أصحابه أشد، فهم في الدرك الأسفل من النار وذلك لأن كفرهم جامع بين الكفر والخداع والاستهزاء بالله وآياته ورسوله، قال الله تعالى عنهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} {يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا
يَعْلَمُونَ} {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} {اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ(20/379)
وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 8 - 15] .
وللنفاق علامات كثيرة:
* منها الشك فيما أنزل الله وإن كان يُظْهِر للناس أنه مؤمن، قال الله عز وجل: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} [التوبة: 45] ، ومنها كراهة حكم الله ورسوله , قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء: 60 - 61] .
* ومنها كراهة ظهور الإسلام وانتصار أهله والفرح بخذلانهم، قال الله تعالى: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ} [التوبة: 50] ، {هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران: 119 - 120] .
* ومنها طلب الفتنة بين المسلمين والتفريق بينهم ومحبة ذلك , قال الله تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة: 47] .
* ومنها محبة أعداء الإسلام وأئمة الكفر ومدحهم ونشر آرائهم(20/380)
المخالفة للإسلام , قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [المجادلة: 14] .
* ومنها لمز المؤمنين وعيبهم في عبادتهم , قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 79] ، فيعيبون المجتهدين في العبادة بالرياء ويعيبون العاجزين بالتقصير.
ومنها الاستكبار عن دعاء المؤمنين احتقارا وشكا، قال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [المنافقون: 5] .
* ومنها ثقل الصلاة والتكاسل عنها , قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 142] ، وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر» (1) .
* ومنها أذية الله ورسوله والمؤمنين , قال الله تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 61] ، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 57 - 58] .
__________
(1) متفق عليه.(20/381)
فهذه طائفة من علامات المنافقين ذكرناها للتحذير منها وتطهير النفس من سلوكها.
اللهم أَعِذْنَا من النفاق، وارزقنا تحقيق الإيمان على الوجه الذي يرضيك عنا , واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين يا رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(20/382)
المجلس السابع والعشرون: في النوع الثاني من أسباب دخول النار
الحمد لله الذي أنشأ الخلائق بقدرته، وأظهر فيهم عجائب حكمته، ودلَّ بآياته على ثبوت وحدانيته، قضى على العاصي بالعقوبة لمخالفته، ثم دعا إلى التوبة ومَنَّ عليه بقبول توبته، فأجيبوا داعي الله وسابقوا إلى جنته، يغفر لكم ذنوبكم ويؤتكم كفلين من رحمته، أحمده على جلال نعوته وكمال صفته، وأشكره على توفيقه وسوابغ نعمته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ألوهيته وربوبيته، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث إلى جميع بَرِيَّته، بشيرا للمؤمنين بجنته، ونذيرا للكافرين بناره وسطوته، صلى الله عليه وعلى أبي بكر خليفته في أمته، وعلى عمر المشهور بقوته على الكافرين وشدته، وعلى عثمان القاضي نحبه في محنته، وعلى علي ابن عمه وزوج ابنته، وعلى سائر آله وأصحابه ومن تبعه في سنته، وسلم تسليما.
إخواني: سبق في الدرس الماضي ذكر عدة أسباب من النوع الأول من أسباب دخول النار الموجبة للخلود فيها. وها نحن في هذا الدرس نذكر بمعونة الله عدة أسباب من النوع الثاني، وهي الأسباب التي يستحق فاعلها دخول النار دون الخلود فيها.
* السبب الأول: عقوق الوالدين وهما الأم والأب , وعقوقهما أن(20/383)
يقطع ما يجب لهما من بر وصلة، أو يسيء إليهما بالقول أو الفعل , قال الله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 23 - 24] ، وقال تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: 14] ، وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثلاثة قد حرم الله عليهم الجنة: مدمن الخمر والعاق لوالديه والدَّيُّوث الذي يقر الخبث في أهله» (1) .
* السبب الثاني: قطيعة الرحم وهي أن يقاطع الرجل قرابته فيمنع ما يجب لهم من حقوق بدنية أو مالية، فعن جبير بن مطعم أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لا يدخل الجنة قاطع» (2) . قال سفيان: يعني قاطع رحم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن الرحم قامت فقالت لله عز وجل: هذا مقام العائذ بك من القطيعة. قال: نعم أما ترضين أن أَصِلَ من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى. قال: فذلك لك "، ثم قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اقرؤوا إن شئتم {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} » [محمد: 22 - 23] (3) .
ومن المؤسف أن كثيرا من المسلمين اليوم غفلوا عن القيام بحق الوالدين والأرحام وقطعوا حبل الوصل، وحجة بعضهم أن أقاربه
__________
(1) رواه أحمد والنسائي وله طرق يقوى بها.
(2) متفق عليه.
(3) الحديث متفق عليه.(20/384)
لا يصلونه، وهذه الحجة لا تنفع لأنه لو كان لا يصل إلا من وصله لم يكن صلته لله، وإنما هي مكافأة كما ورد عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قُطِعَت رحمه وصلها» (1) ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا قال: «يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عليهم ويجهلون علي. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن كنت كما قلت فكأنما تُسِفُّهم الملَّ» (2) ، «ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك» (3) .
وإذا وصل رحمه وهم يقطعونه فإن له العاقبة الحميدة، وسيعودون فيصلونه كما وصلهم إن أراد الله بهم خيرا.
* السبب الثالث: أكل الربا، قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} {وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 130 - 132] ، وقد توعد الله تعالى مَنْ عَادَ إلى الربا بعد أن بلغته موعظة الله وتحذيره , توعده بالخلود في النار فقال سبحانه: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 275] .
__________
(1) رواه البخاري.
(2) تسفهم: تدخل في أفواههم، والمل: الرماد الحار.
(3) رواه مسلم.(20/385)
* السبب الرابع: أكل مال اليتامى ذكورا كانوا أم إناثا والتلاعب به , قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10] ، واليتيم هو الذي مات أبوه قبل أن يبلغ.
* السبب الخامس: شهادة الزور، فقد روى ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «لن تزول قدم شاهد الزور حتى يوجب الله له النار» (1) ، وشهادة الزور أن يشهد بما لا يعلم أو يشهد بما يعلم أن الواقع خلافه؛ لأن الشهادة لا تجوز إلا بما علمه الشاهد، وفي الحديث قال لرجل: «تَرَى الشمس؟ " قال: نعم. قال: " على مثلها فاشهد أو دع» .
* السبب السادس: الرشوة في الحكم، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «الراشي والمرتشي في النار» (2) . قال في النهاية: الراشي من يُعْطِي الذي يعينه على الباطل، والمرتشي الآخذ، فأما ما يُعْطَى توصلا إلى أخذ حق أو دفع ظلم فغير داخل فيه اهـ.
* السبب السابع: اليمين الغموس، فعن الحارث بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحج بين الجمرتين وهو يقول: «من
__________
(1) رواه ابن ماجه والحاكم وقال: صحيح الإسناد، وهذا تساهل منه رحمه الله، والصواب أنه ضعيف الإسناد جدا، لكن روى الإمام أحمد ما يؤيده بسند رواته ثقات غير أن تابعيه لم يسم.
(2) رواه الطبراني ورواته ثقات معروفون، قاله في الترغيب والترهيب.(20/386)
اقتطع مال أخيه بيمين فاجرة فليتبوأ مقعده من النار لِيُبَلِّغْ شاهدُكم غائبَكم " مرتين أو ثلاثا» (1) ، وسميت غموسا لأنها تَغْمِس الحالف بها في الإثم ثم تغمسه في النار، ولا فرق بين أن يحلف كاذبا على ما ادعاه فيُحْكَم له به أو يحلف كاذبا على ما أنكره فيُحْكَم ببراءته منه.
* السبب التاسع: القضاء بين الناس بغير علم أو بجور وميل، لحديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «القضاة ثلاثة: واحد في الجنة واثنان في النار، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق وقضى به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار» (2) .
* السبب التاسع: الغش للرعية وعدم النصح لهم بحيث يتصرف تصرفا ليس في مصلحتهم ولا مصلحة العمل، لحديث معقل بن يسار رضي الله عنه قال: سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «ما من عبد يسترعيه الله على رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة» (3) ، وهذا يعم رعاية الرجل في أهله والسلطان في سلطانه وغيرهم لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «كلكم راع ومسؤول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في
__________
(1) رواه أحمد والحاكم وصححه.
(2) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه , وقال في بلوغ المرام: أخرجه الأربعة وصححه الحاكم.
(3) متفق عليه.(20/387)
بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته، وكلكم راع ومسؤول عن رعيته» (1) .
* السبب العاشر: تصوير ما فيه روح من إنسان أو حيوان، فعن ابن عباس رضي الله عنهما: سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «كل مُصَوِّر في النار يجعل له بكل صورة صورها نفسا فتعذبه في جهنم» (2) ، وفي رواية للبخاري: «من صور صورة فإن الله مُعَذِّبُه حتى ينفخ فيها الروح وليس بنافخ فيها أبدا» . فأما تصوير الأشجار والنبات والثمرات ونحوها مما يخلقه الله من الأجسام النامية فلا بأس به على قول جمهور العلماء، ومنهم من منع ذلك لما رُوِيَ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «قال الله عز وجل: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة أو شعيرة» (3) .
* السبب الحادي عشر: ما ثبت عن حارثة بن وهب أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عُتُلٍّ جَوَّاظ مستكبر» (4) ، فالعتل: الشديد الغليظ الذي لا يلين للحق ولا للخلق، والجواظ: الشحيح البخيل فهو جَمَّاع مَنَّاع، والمستكبر هو الذي يَرُدُّ الحق ولا يتواضع للخلق، فهو يرى نفسه أعلى من الناس، ويرى رأيه أصوب من الحق.
* السبب الثاني عشر: استعمال أواني الذهب والفضة في الأكل والشرب للرجال والنساء، فعن أم سلمة
__________
(1) متفق عليه.
(2) رواه مسلم.
(3) رواه البخاري.
(4) متفق عليه.(20/388)
رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «الذي يشرب في آنية الفضة إنما تُجَرْجِر في بطنه نارَ جهنم» (1) ، وفي رواية لمسلم: «إن الذي يأكل أو يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم» .
فاحذروا إخواني أسباب دخول النار، واعملوا الأسباب التي تبعدكم عنها لتفوزوا في دار القرار. واعلموا أن الدنيا متاع قليل سريعة الزوال والانهيار. واسألوا ربكم الثبات على الحق إلى الممات، وأن يحشركم مع الذين أنعم الله عليهم من المؤمنين والمؤمنات.
اللهم ثبتنا على الحق وتوَفَّنا عليه، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) متفق عليه.(20/389)
المجلس الثامن والعشرون: في زكاة الفطر
الحمد لله العليم الحكيم، العلي العظيم، خلق كل شيء فقدره تقديرا، وأحكم شرائعه ببالغ حكمته بيانا للخلق وتبصيرا، أحمده على صفاته الكاملة، وأشكره على آلائه السابغة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله البشير النذير، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم المآب والمصير، وسلم تسليما.
إخواني: إن شهركم الكريم قد عزم على الرحيل ولم يبق منه إلا الزمن القليل، فمن كان منكم محسنا فليحمد الله على ذلك وليسأله القبول، ومن كان منكم مهملا فليتب إلى الله وليعتذر من تقصيره، فالعذر قبل الموت مقبول.
إخواني: إن الله شرع لكم في ختام شهركم هذا أن تؤدوا زكاة الفطر قبل صلاة العيد، وسنتكلم في هذا المجلس عن حُكْمها وحكمتها وجنسها ومقدارها ووقت وجوبها ودفعها ومكانها.
فأما حكمها فإنها فريضة فرضها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على المسلمين، وما فرضه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو أمر به فله حكم ما فرضه الله تعالى أو(20/391)
أمر به، قال الله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء: 80] ، وقال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115] ، وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] . وهى فريضة على الكبير والصغير والذكر والأنثى والحر والعبد من المسلمين، قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: «فرض رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زكاة الفطر من رمضان صاعا من تمر أو صاعا من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين» (1) .
ولا تجب عن الحمل الذي في البطن إلا أن يتطوع بها فلا بأس، فقد كان أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه يخرجها عن الحمل، ويجب إخراجها عن نفسه وكذلك عمن تلزمه مؤونته من زوجة أو قريب إذا لم يستطيعوا إخراجها عن أنفسهم، فإن استطاعوا فالأولى أن يخرجوها عن أنفسهم؛ لأنهم المخاطبون بها أصلا، ولا تجب إلا على من وجدها فاضلة زائدة عما يحتاجه من نفقة يوم العيد وليلته، فإن لم يجد إلا أقل من صاع أخرجه لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] ، وقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» (2) .
وأما حكمتها فظاهرة جدا، ففيها إحسان إلى الفقراء وكف لهم عن السؤال في أيام العيد؛ ليشاركوا الأغنياء في فرحهم وسرورهم به
__________
(1) متفق عليه.
(2) متفق عليه.(20/392)
ويكون عيدا للجميع، وفيها الاتصاف بخلق الكرم وحب المواساة، وفيها تطهير الصائم مما يحصل في صيامه من نقص ولغو وإثم، وفيها إظهار شكر نعمة الله بإتمام صيام شهر رمضان وقيامه وفعل ما تَيَسَّر من الأعمال الصالحة فيه.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «فرض رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زكاة الفطر طُهْرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين، فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة , ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات» (1) .
وأما جنس الواجب في الفطرة فهو طعام الآدميين من تمر أو بُرٍّ أو رز أو زبيب أو أقط أو غيرهما من طعام بني آدم , فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «فرض رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زكاة الفطر من رمضان صاعا من تمر أو صاعا من شعير» (2) ، وكان الشعير يومذاك من طعامهم كما قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: «كنا نُخْرِج يوم الفطر في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صاعا من طعام وكان طعامنا الشعير والزبيب والأقط والتمر» (3) .
فلا يجزئ إخراج طعام البهائم لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرضها طعمة للمساكين لا للبهائم.
ولا يجزئ إخراجها من الثياب والفرش والأواني والأمتعة وغيرها مما سوى طعام الآدميين؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرضها من الطعام فلا تتعدى
__________
(1) رواه أبو داود وابن ماجه، وأخرجه أيضا الدارقطني والحاكم وصححه.
(2) متفق عليه.
(3) رواه البخاري.(20/393)
ما عيَّنه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولا يجزئ إخراج قيمة الطعام؛ لأن ذلك خلاف ما أمر به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد ثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ» ، وفي رواية: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» (1) ، ومعنى رَدّ: مردود، ولأن إخراج القيمة مخالف لعمل الصحابة رضي الله عنهم، حيث كانوا يخرجونها صاعا من طعام، وقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي» (2) ، ولأن زكاة الفطر عبادة من جنس معين فلا يجزئ إخراجها من غير الجنس، كما لا يجزئ إخراجها في غير الوقت المعين، ولأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عينها من أجناس مختلفة وأقيامها مختلفة غالبا، فلو كانت القيمة معتبرة لكان الواجب صاعا من جنس وما يقابل قيمته من الأجناس الأخرى، ولأن إخراج القيمة يُخْرِج الفطرة عن كونها شعيرة ظاهرة إلى كونها صدقة خفية، فإن إخراجها صاعا من طعام يجعلها ظاهرة بين المسلمين معلومة للصغير والكبير يشاهدون كَيْلها وتوزيعها ويتعارفونها بينهم بخلاف ما لو كانت دراهم يُخْرِجها الإنسان خفية بينه وبين الآخذ.
وأما مقدار الفطرة فهو صاع بصاع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي يبلغ وزنه بالمثاقيل أربعمائة وثمانين مثقالا من البر الجيد , وبالغرامات كيلوين اثنين وخُمُسَيْ عُشْر كيلو من البر الجيد , وذلك لأن زنة المثقال أربعة
__________
(1) رواه مسلم وأصله في الصحيحين.
(2) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه، والترمذي وقال: حسن صحيح، وقال أبو نعيم: حديث جيد من صحيح حديث الشاميين.(20/394)
غرامات وربع، فيكون مبلغ أربعمائة وثمانين مثقالا ألفي غرام وأربعين غراما، فإذا أراد أن يعرف الصاع النبوي فليزن كيلوين وأربعين غراما من البر ويضعها في إناء بقدرها بحيث تملؤه ثم يكيل به.
وأما وقت وجوب الفطرة فهو غروب الشمس ليلة العيد، فمن كان من أهل الوجوب حينذاك وجبت عليه وإلا فلا، وعلى هذا فإذا مات قبل الغروب ولو بدقائق لم تجب الفطرة، وإن مات بعده ولو بدقائق وجب إخراج فطرته، ولو وُلِدَ شخص بعد الغروب ولو بدقائق لم تجب فطرته، لكن لا بأس بإخراجها كما سبق، وإن وُلِدَ قبل الغروب ولو بدقائق وجب إخراج الفطرة عنه.
وإنما كان وقت وجوبها غروب الشمس من ليلة العيد لأنه الوقت الذي يكون به الفطر من رمضان، وهي مضافة إلى ذلك فإنه يقال: زكاة الفطر من رمضان، فكان مناط الحكم ذلك الوقت.
وأما زمن دفعها فله وقتان: وقت فضيلة ووقت جواز.
فأما وقت الفضيلة: فهو صباح العيد قبل الصلاة لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «كنا نُخْرِج في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الفطر صاعا من طعام» (1) ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة» (2) .
ولذلك كان من الأفضل تأخير صلاة العيد يوم الفطر ليتسع الوقت لإخراج الفطرة.
وأما وقت الجواز فهو قبل العيد بيوم أو يومين ,
__________
(1) رواه البخاري.
(2) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.(20/395)
فعن نافع قال: كان ابن عمر يعطي عن الصغير والكبير حتى إن كان يعطي عن بنِيَّ، وكان يعطيها الذين يقبلونها، وكانوا يُعْطَوْن قبل الفطر بيوم أو يومين (1) .
ولا يجوز تأخيرها عن صلاة العيد , فإن أخَّرها عن صلاة العيد بلا عذر لم تُقْبَل منه لأنه خلاف ما أمر به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وقد سبق من حديث ابن عباس رضي الله عنهما «أن من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات.
» أما إن أخرها لعذر فلا بأس , مثل أن يصادفه العيد في البَر ليس عنده ما يدفع منه أو ليس عنده من يدفع إليه، أو يأتي خبر ثبوت العيد مفاجئا بحيث لا يتمكن من إخراجها قبل الصلاة , أو يكون معتمدا على شخص في إخراجها فينسى أن يُخْرِجها فلا بأس أن يخرجها ولو بعد العيد لأنه معذور في ذلك.
والواجب أن تصل إلى مستحقها أو وكيله في وقتها قبل الصلاة , فلو نواها لشخص ولم يصادفه ولا وكيله وقت الإخراج فإنه يدفعها إلى مستحق آخر ولا يؤخرها عن وقتها.
وأما مكان دفعها فتدفع إلى فقراء المكان الذي هو فيه وقت الإخراج سواء كان محل إقامته أو غيره من بلاد المسلمين , لا سيما إن كان مكانا فاضلا كمكة والمدينة , أو كان فقراؤه أشد حاجة، فإن كان في بلد ليس فيها من يدفع إليه، أو كان لا يعرف المستحقين فيه وَكَّلَ من يدفعها عنه في مكان مستحِقٍّ.
__________
(1) رواه البخاري.(20/396)
والمستحقون لزكاة الفطر هم الفقراء، ومن عليهم ديون لا يستطيعون وفاءها فيُعْطَوْن منها بقدر حاجتهم، ويجوز توزيع الفطرة على أكثر من فقير، ويجوز دفع علب من الفِطر إلى مسكين واحد؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَّر الواجب ولم يقدر من يُدْفَع إليه، وعلى هذا لو جمع جماعة فطرهم في وعاء واحد بعد كيلها وصاروا يدفعون منه بلا كيل ثانٍ أجزأهم ذلك، ولكن ينبغي إخبار الفقير بأنهم لا يعلمون مقدار ما يدفعون إليه لئلا يغتر به فيدفعه عن نفسه وهو لا يدري عن كيله، ويجوز للفقير إذا أخذ الفطرة من شخص أن يدفعها عن نفسه أو أحد من عائلته إذا كالها أو أخبره دافعها أنها كاملة ووثق بقوله.
اللهم وفقنا للقيام بطاعتك على الوجه الذي يرضيك عنا، وزَكِّ نفوسنا وأقوالنا وأفعالنا وطهِّرنا من سوء العقيدة والقول والعمل، إنك جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(20/397)
المجلس التاسع والعشرون: في التوبة
الحمد لله الذي نصب من كل كائن على وحدانيته برهانا، وتصرف في خليقته كما شاء عزا وسلطانا، واختار المتقين فوهب لهم أمنا وإيمانا، وعم المذنبين بحلمه ورحمته عفوا وغفرانا، ولم يقطع أرزاق أهل معصيته جودا وامتنانا، روَّح أهل الإخلاص بنسيم قربه، وحذر يوم الحساب بجسيم كربه، وحفظ السالك نحو رضاه في سربه، وأكرم المؤمن إذ كتب الإيمان في قلبه، حكم في بَرِّيته فأمر ونهى، وأقام بمعونته ما ضعف ووهى، وأيقظ بموعظته من غفل وسها، ودعا المذنب إلى التوبة لغفران ذنبه، ربٌّ عظيم لا يشبه الأنام، وغني كريم لا يحتاج إلى الشراب والطعام، الخلق مفتقرون إليه على الدوام، ومضطرون إلى رحمته في الليالي والأيام.
أحمده حمد عابد لربه، معتذر إليه من تقصيره وذنبه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة مخلص من قلبه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى من حزبه، صلى الله عليه وعلى أبي بكر خير صحبه، وعلى عمر الذي لا يسير الشيطان في سربه، وعلى عثمان الشهيد لا في صفِّ حَرْبِهِ، وعلى علي معينه في حربه، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، وسلم تسليما.
إخواني: اختموا شهر رمضان بالتوبة إلى الله من معاصيه، والإنابة(20/399)
إليه بفعل ما يُرْضِيه، فإن الإنسان لا يخلو من الخطأ والتقصير، وكل بني آدم خَطَّاء، وخير الخطائين التوابون، وقد حث الله في كتابه وحث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خطابه على استغفار الله تعالى والتوبة إليه فقال سبحانه: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} [هود: 3] ، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} [فصلت: 6] ، وقال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31] ، وقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [
التحريم: 8] ، وقال تعالى: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] ، والآيات في ذكر التوبة عديدة.
وأما الأحاديث فمنها عن الْأَغَرِّ بن يَسَار الْمُزنِيِّ رضي الله عنه قال: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب في اليوم مائة مرة» (1) ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» (2) ، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَلَّهُ أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فَأَيِسَ منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها وقد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده فأخذ بِخِطامها
__________
(1) رواه مسلم.
(2) رواه البخاري.(20/400)
ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح» (1) ، وإنما يفرح سبحانه بتوبة عبده لمحبته للتوبة والعفو ورجوع عبده إليه بعد هربه منه , وعن أنس وابن عباس رضي الله عنهم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لو أن لابن آدم واديا من ذهب أحب أن يكون له واديان، ولن يملأ فاه إلا التراب، ويتوب الله على من تاب» (2) .
فالتوبة هي الرجوع من معصية الله إلى طاعته؛ لأنه سبحانه هو المعبود حقا، وحقيقة العبودية هي التذلل والخضوع للمعبود محبة وتعظيما، فإذا حصل من العبد شرود عن طاعة ربه فتوبته أن يرجع إليه ويقف ببابه موقف الفقير الذليل الخائف المنكسر بين يديه.
والتوبة واجبة على الفور لا يجوز تأخيرها ولا التسويف بها؛ لأن الله أمر بها ورسوله، وأوامر الله ورسوله كلها على الفور والمبادرة لأن العبد لا يدري ماذا يحصل له بالتأخير، فلعله أن يَفْجَأَهُ الموت فلا يستطيع التوبة , ولأن الإصرار على المعصية يوجب قسوة القلب وبعده عن الله عز وجل وضعف إيمانه، فإن الإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالعصيان، ولأن الإصرار على المعصية يوجب إلفها والتشبث بها، فإن النفس إذا اعتادت على شيء صَعُبَ عليها فراقه، وحينئذ يعسر عليه التخلص من معصيته، ويفتح عليه الشيطان باب معاصٍ أخرى أكبر وأعظم مما كان عليه؛ ولذلك قال أهل العلم وأرباب السلوك: إن المعاصي بريد الكفر ينتقل الإنسان فيها مرحلة مرحلة
__________
(1) رواه مسلم.
(2) متفق عليه.(20/401)
حتى يزيغ عن دينه كله، نسأل الله العافية والسلامة.
والتوبة التي أمر الله بها هي التوبة النصوح التي تشتمل على شرائط التوبة وهي خمسة:
* الأول: أن تكون خالصة لله عز وجل بأن يكون الباعث لها حب الله وتعظيمه ورجاء ثوابه والخوف من عقابه، فلا يريد بها شيئا من الدنيا ولا تزلفا عند مخلوق، فإن أراد هذا لم تقبل توبته لأنه لم يتب إلى الله، وإنما تاب إلى الغرض الذي قصده.
* الثاني: أن يكون نادما حَزِنًا على ما سلف من ذنبه يتمنى أنه لم يحصل منه؛ لأجل أن يُحْدِث له ذلك الندمُ إنابة إلى الله وانكسارا بين يديه ومقتا لنفسه التي أمرته بالسوء، فتكون توبته عن عقيدة وبصيرة.
* الثالث: أن يُقْلِع عن المعصية فورا، فإن كانت المعصية بفعل محرم تركه في الحال , وإن كانت المعصية بترك واجب فعله في الحال إن كان مما يمكن قضاؤه كالزكاة والحج , فلا تصح التوبة مع الإصرار على المعصية , فلو قال: إنه تاب من الربا مثلا وهو مستمر على التعامل به لم تصح توبته , ولم تكن توبته هذه إلا نوعَ استهزاء بالله وآياته لا تزيده من الله إلا بعدا , ولو تاب من ترك الصلاة مع الجماعة وهو مستمر على تركها لم تصح توبته، وإذا كانت المعصية فيما يتعلق بحقوق الخلق لم تصح التوبة منها حتى يتخلص من تلك الحقوق , فإذا كانت معصيته بأخذ مالٍ(20/402)
للغير أو جحده لم تصح توبته حتى يؤدي المال إلى صاحبه إن كان حيا , أو إلى ورثته إن كان ميتا , فإن لم يكن له ورثة أَدَّاهُ إلى بيت المال , وإن كان لا يدري من صاحب المال تصدق به والله سبحانه يعلم به , وإن كانت معصيته بغيبة مسلم وجب أن يستحله من ذلك إن كان قد علم بغيبته إياه أو خاف أن يعلم بها , وإلا استغفر له وأثنى عليه بصفاته المحمودة في المجلس الذي اغتابه فيه , فإن الحسنات يذهبن السيئات.
وتصح التوبة من ذنب مع الإصرار على غيره , لأن الأعمال تتبعض والإيمان يتفاضل , لكن لا يستحق الوصف المطلق للتوبة وما يستحقه التائبون على الإطلاق من الأوصاف الحميدة والمنازل العالية حتى يتوب إلى الله من جميع الذنوب.
الشرط الرابع: أن يعزم على أن لا يعود في المستقبل إلى المعصية؛ لأن هذه ثمرة التوبة ودليل صدق صاحبها، فإن قال: إنه تائب وهو عازم أو متردِّد في فعل المعصية يوما ما لم تصح توبته؛ لأن هذه توبة مؤقتة يَتَحَيَّنُ فيها صاحبها الفرص المناسبة، ولا تدل على كراهيته للمعصية وفراره منها إلى طاعة الله عز وجل.
* الشرط الخامس: أن لا تكون بعد انتهاء وقت قبول التوبة , فإن كانت بعد انتهاء وقت القبول لم تقبل، وانتهاء وقت القبول نوعان: عام لكل أحد، وخاص لكل شخص بنفسه.
فأما العام فهو طلوع الشمس من مغربها , فإذا طلعت الشمس(20/403)
من مغربها لم تنفع التوبة , قال الله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158] ، والمراد ببعض الآيات طلوع الشمس من مغربها، فسرها بذلك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لا تزال التوبة تقبل حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت طُبِعَ على كل قلب بما فيه وكفي الناسَ العملُ» (1) ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه» (2) .
وأما الخاص فهو عند حضور الأجل , فمتى حضر أجل الإنسان وعاين الموت لم تنفعه التوبة ولم تقبل منه , قال الله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} [النساء: 18] ، وعن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» (3) يعني بروحه.
ومتى صحت التوبة باجتماع شروطها وقُبِلَت محا الله بها ذلك الذنب الذي تاب منه وإن عَظُمَ، قال الله تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53] .
وهذه الآية في التائبين المنيبين إلى ربهم المسلمين له , قال الله
__________
(1) قال ابن كثير: حسن الإسناد.
(2) رواه مسلم.
(3) رواه أحمد والترمذي وقال: حديث حسن.(20/404)
تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110] .
فبادروا رحمكم الله أعمارَكم بالتوبة النصوح إلى ربكم قبل أن يفجأكم الموت فلا تستطيعون الخلاص.
اللهم وفقنا للتوبة النصوح التي تمحو لهها ما سلف من ذنوبنا، ويسِّرنا لليسرى , وجنِّبنا العسرى، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين في الآخرة والأولى , برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(20/405)
المجلس الثلاثون: في ختام الشهر
الحمد لله الواسع العظيم، الجواد البر الرحيم، خلق كل شيء فقدَّره، وأنزل الشرع فيسَّره وهو الحكيم العليم، بدأ الخلق وأنهاه، وسيَّر الفَلَك وأجراه، {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 38 - 40] .
أحمده على ما أَوْلَى وهدى، وأشكره على ما وهب وأعطى، وأشهد أنه لا إله إلا هو الملك العلي الأعلى، الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، والظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء، وهو بكل شيء عليم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى على العالمين، صلى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكر أفضل الصِّدِّيقين , وعلى عمر المعروف بالقوة في الدين، وعلى عثمان المقتول ظلما بأيدي المجرمين، وعلى علي أقربهم نسبا على اليقين، وعلى جميع آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما.
إخواني: إن شهر رمضان قرب رحيله وأزف تحويله، وإنه شاهد لكم أو عليكم بما أودعتموه من الأعمال، فمن أودعه عملا صالحا(20/407)
فليحمد الله على ذلك وليبْشِر بحسن الثواب، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا، ومن أودعه عملا سيئا فليتب إلى ربه توبة نصوحا، فإن الله يتوب على من تاب، ولقد شرع الله لكم في ختام شهركم عبادات تزيدكم من الله قربا، وتزيد في إيمانكم قوة، وفي سجل أعمالكم حسنات، فشرع الله لكم زكاة الفطر وتقدم الكلام عليها مفصلا، وشرع لكم التكبير عند إكمال العدة من غروب الشمس ليلة العيد إلى صلاة العيد، قال الله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185] ، وصفته أن يقول: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، ويُسَنُّ جهر الرجال به في المساجد والأسواق والبيوت إعلانا بتعظيم الله وإظهارا لعبادته وشكره، ويُسِرُّ به النساء لأنهن مأمورات بالتستر والإسرار بالصوت.
ما أجمل حال الناس وهم يكبِّرون الله تعظيما وإجلالا في كل مكان عند انتهاء شهر صومهم , يملؤون الآفاق تكبيرا وتحميدا وتهليلا , يرجون رحمة الله ويخافون عذابه.
وشرع الله سبحانه لعباده صلاة العيد يوم العيد، وهى من تمام ذكر الله عز وجل، أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بها أمته رجالا ونساء، وأمره مطاع لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] ، وقد أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النساء أن يخرجن إلى صلاة العيد، مع أن البيوت خير لهن فيما عدا هذه الصلاة، وهذا دليل على تأكيدها، قالت أم عطية رضي الله عنها: «أمرنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نُخْرِجهن في الفطر والأضحى، العَوَاتِق والْحُيَّض(20/408)
وذوات الخدور , فأما الْحُيَّض فيعتزلن الْمُصَلَّى ويشهدن الخير ودعوة المسلمين. قلت: يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب , قال: " لِتُلْبِسْها أختها من جلبابها» (1) ، والجلباب: لباس تلتحف فيه المرأة بمنزلة العباءة.
ومن السنة أن يأكل قبل الخروج إلى الصلاة في عيد الفطر تمرات وترا ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك , يقطعها على وتر لقول أنس بن مالك رضي الله عنه: «كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات ويأكلهن وترا» (2) .
ويخرج ماشيا لا راكبا إلا من عذر كعجز وبُعْدٍ لقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: من السنة أن يخرج إلى العيد ماشيا (3) ، ويسن للرجل أن يتجَمَّل ويلبس أحسن ثيابه لما رُوِيَ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: «أخذ عمر جبة من إستبرق - أي: حرير - تباع في السوق، فأتى بها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول ابْتَعْ هذه (يعني اشْتَرِها) تجمَّل بها للعيد والوفود، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنما هذه لباس من لا خلاق له» ، وإنما قال ذلك لكونها حريرا، ولا يجوز للرجل أن يلبس شيئا من الحرير أو شيئا من الذهب؛ لأنهما حرام على الذكور من أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأما المرأة فتخرج إلى العيد غير متجمِّلة ولا متطيِّبة ولا متبرجة ولا سافرة لأنها مأمورة بالتستر مَنْهِيَّة عن التبرج بالزينة وعن التطيب حال الخروج.
__________
(1) متفق عليه.
(2) رواه أحمد والبخاري.
(3) رواه الترمذي وقال: حديث حسن، وفيه الحارث الأعور وأكثر الحفاظ على توهينه ووثقه بعضهم.(20/409)
ويؤدي الصلاة بخشوع وحضور قلب، ويكثر من ذكر الله ودعائه ويرجو رحمته ويخاف عذابه، ويتذكر باجتماع الناس في الصلاة على صعيد المسجد اجتماع الناس في المقام الأعظم يبن يدي الله عز وجل في العيد يوم القيامة، ويرى إلى تفاضلهم في هذا المجتمع فيتذكر به التفاضل الأكبر في الآخرة، قال الله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [الإسراء: 21] ، وليكن فرحا بنعمة الله عليه بإدراك رمضان وعمل ما تيسر فيه من الصلاة والصيام والقراءة والصدقة وغير ذلك من الطاعات؛ فإن ذلك خير من الدنيا وما فيها {قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58] ، فإن صيام رمضان وقيامه إيمانا واحتسابا من أسباب مغفرة الذنوب والتخلص من الآثام، فالمؤمن يفرح بإكمال الصوم والقيام، لِتَخَلُّصِهِ به من الآثام، وضعيف الإيمان يفرح بإكماله لتخلصه من الصيام الذي كان ثقيلا عليه ضائقا به صدره، والفرق بين الفريقين عظيم.
إخواني: إنه وإن انقضى شهر رمضان فإن عمل المؤمن لا ينقضي قبل الموت، قال الله عز وجل: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99] ، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] ، وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا مات العبد انقطع عمله» ، فلم يجعل لانقطاع العمل غاية إلا الموت، فلئن انقضى صيام شهر رمضان فإن المؤمن لن ينقطع من عبادة الصيام بذلك، فالصيام لا يزال مشروعا ولله الحمد في العام كله،(20/410)
فعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر» (1) .
وصيام ثلاثة أيام من كل شهر قال فيها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثلاث من كل شهر ورمضان إلى رمضان فهذا صيام الدهر كله» (2) ، وقال أبو هريرة رضي الله عنه: «أوصاني خليلي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بثلاث، وذكر منها صيام ثلاثة أيام من كل شهر، والْأَوْلَى أن تكون أيام البيض، وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر» ، لحديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «يا أبا ذر إذا صمت من الشهر ثلاثة فصم ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة» (3) ، وعن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه سئل عن صوم يوم عرفة فقال: «يكفر السنة الماضية والباقية» (4) ، وسئل عن صيام عاشوراء فقال: «يُكَفِّر السنة الماضية» ، وسئل عن صوم يوم الاثنين فقال: «ذاك يومٌ وُلِدْتُ فيه ويومٌ بُعِثْتُ فيه أو أُنْزِلَ علي فيه» ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل: أي الصيام أفضل بعد شهر رمضان؟ قال: " أفضل الصيام بعد شهر رمضان صيام شهر الله المحرم» (5) ، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «ما رأيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استكمل شهرا قط إلا شهر رمضان، وما رأيته في شهر أكثر صياما منه في شعبان، وفي لفظ: كان
يصومه إلا قليلا» (6) ، وعنها رضي
__________
(1) رواه أحمد ومسلم.
(2) رواه أحمد ومسلم.
(3) رواه أحمد والنسائي وابن حبان وصححه وله شواهد يتقوى بها.
(4) رواه مسلم.
(5) رواه مسلم.
(6) متفق عليه.(20/411)
الله عنها قالت: «كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتحرَّى صيام الاثنين والخميس» (1) ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «تُعْرَض الأعمال يوم الاثنين والخميس فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم» (2) .
ولئن انقضى قيام شهر رمضان فإن القيام لا يزال مشروعا ولله الحمد في كل ليلة من ليالي السنة ثابتا من فعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقوله، فعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: «إن كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليقوم أو ليصلي حتى ترم قدماه، فيقال له فيقول: " أفلا أكون عبدا شكورا؟» (3) ، وعن عبد الله بن سلام رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصِلُوا الأرحام وصَلُّوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام» (4) ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل» (5) ، وصلاة الليل تشمل التطوع كله والوتر فيصلي مثنى مثنى، فإذا خشي الصبح صلى واحدة فأوتَرتْ ما صلى، وإن شاء صلى على صفة ما سبق في المجلس الرابع.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث
__________
(1) رواه الخمسة إلا أبا داود فهو له من حديث أسامة بن زيد.
(2) رواه الترمذي وهو ضعيف لكن له شاهد يعضده , وقد ثبت في صحيح مسلم أن الأعمال تعرض كل يوم اثنين وخميس.
(3) رواه البخاري.
(4) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح , ورواه الإمام أحمد أيضا وله شواهد يرتقي بها إلى الصحة.
(5) رواه مسلم.(20/412)
الليل الآخِر فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟» (1) والرواتب التابعة للفرائض اثنتا عشرة ركعة، أربع قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل صلاة الفجر، فعن أم حبيبة رضي الله عنها قالت: سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «ما من عبد مسلم يصلي لله تعالى كل يوم ثنتي عشرة ركعة تطوعا غير فريضة إلا بنى الله له بيتا في الجنة "، وفي لفظ: " من صلى ثنتي عشرة ركعة في يوم وليلة بُنِيَ له بهن بيتٌ في الجنة» (2) .
والذكر أدبار الصلوات الخمس أمر الله به في كتابه وحث عليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , قال الله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] ، «وكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا سلم استغفر ثلاثا وقال: " اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام "، وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من سبَّح الله في دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين، وحمد الله ثلاثا وثلاثين، وكبَّر الله ثلاثا وثلاثين فتلك تسعة وتسعون، ثم قال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير غُفِرَت خطاياه وإن كانت مثل زَبَدِ البحر» (3) .
فاجتَهِدوا إخواني في فعل الطاعات، واجتنِبُوا الخطايا والسيئات لتفوزوا بالحياة الطيبة في الدنيا، والأجر الكبير بعد الممات، قال الله
__________
(1) متفق عليه.
(2) رواه مسلم.
(3) رواه مسلم.(20/413)
عز وجل: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97] .
اللهم ثبِّتْنَا على الإيمان والعمل الصالح، وأحْيِنا حياة طيبة، وألحقنا بالصالحين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وإلى هنا انتهى ما أردنا كتابته في هذا، نسأل الله أن يجعل عملنا خالصا لوجهه ومقربا إليه ونافعا لعباده، وأن يتولانا في الدنيا والآخرة، ويهدينا لما اخْتُلِف فيه من الحق بإذنه إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
وكان الفراغ منه يوم الجمعة الموافق 29 محرم من عام ست وتسعين وثلاثمائة وألف على يد مؤلفه الفقير إلى مولاه محمد بن صالح بن عثيمين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(20/414)
ختام شهر رمضان المبارك
بسم الله الرحمن الرحيم
ختام شهر رمضان المبارك (1)
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد
وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
فإن هذه الليلة هي الليلة الموفية للثلاثين من شهر رمضان
المبارك عام واحد وعشرين وأربعمائة وألف، والله أعلم أنه يكون
هو آخر اللقاء في هذا الشهر المبارك في المسجد الحرام.
أيها الأخوة الكرام: لقد منَّ الله على عباده باستكمال هذا
الشهر المبارك، وبما تيسَّر من الأعمال الصالحة المقرِّبة إلى الله
- عز وجل- وأسأل الله أن يجعلها وديعة لنا عنده، ومغفرة
للذنوب، وتكفيراً للسيئات، ورفعة للدرجات.
السنة الهجرية ليس فيها إلا ثلاثة أعياد فقط:
العيد الأول: عيد الفطر من رمضان.
العيد الثاني: عيد النحر.
العيد الثالث: عيد الأسبوع، وهو يوم الجمعة.
هذه الأعياد لها مناسبات عظيمة، فعيد الفطر مناسبته واضحة
وهو أنه ختام لاستكمال ركن من أركان الإسلام وهو الصيام، وحق
للمسلمين أن يفرحوا باستكمال هذا الركن؟ لأن الإنسان إذا
__________
(1) آخر درس ألقاه فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته إنه سميع قريب.(20/415)
استكمله ومنَّ الله عليه بالقبول فإنه يغفر له ما تقدم من ذنبه كما جاء
عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم (1) ، وهذه مناسبة عظيمة،
وللصائم عند فطره من رمضان، بل وعند فطره من كل يوم فرحتان:
الفرحة الأولى: فرحة بإكمال يومه، أو شهره، وهذه الفرحة فرحة
بما منَّ الله به عليه من استكمال الشهر أو اليوم، وبما منَّ الله به عليه
من الثواب الجزيل على هذا اليوم.
وأما الأضحى فهو عيد عظيم يجتمع فيه المسلمون من كل
وجه على صعيد واحد على، عرفة، ويرتدون لباساً واحداً، لا يمتاز
به أحدهم عن الآخر، ويدعون الله- عز وجل- بما ييسر لهم من
الدعاء، فهو يوم عظيم يجتمع فيه المسلمون على عبادة واحدة
يدعون ربهم، فحق لهم أن يضعوا لهذه المناسبة عيداً يفرحون به.
وأما يوم الجمعة فهو عيد الأسبوع، وحق له أن يكون عيداً،
لأن فيه صلاة الجمعة التي ميَّزها الله- عز وجل- بميزات عظيمة لا
تكون لغيرها، فمنها:
ا- وجوب الغسل لها، كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله
وسلم: "غسل الجمعة واجب على كل مسلم " (2) ، أي على كل
بالغ.
2- ومنها أنها صلاة منفردة لا يشاركها غيرها، فلا يجوز
جمع صلاة العصر إليها؟ لأن الجمع إنما ورد بين الظهر والعصر، لا
__________
(1) تقدم تخريجه ص (70) .
(2) أخرجه البخاري، كتاب الجمعة، باب فضل الغسل ... (879) ومسلم، كتاب
الجمعة، باب وجوب غسل الجمعة (846) .(20/416)
بين الجمعة والعصر، وعلى هذا لو كنت تصلي في مكة صلاة
الجمعة، وأنت تريد أن تسافر بعد الصلاة فلا تصلِّ العصر جمعاً إلى
الجمعة؟ لأن الجمعة صلاة منفردة لا يجمع إليها غيرها، بل سافر
فإذا جاء وقت صلاة العصر فصل العصر، هذا هو الواجب.
اللهم اختم لنا شهر رمضان بغفرانك، وجُدْ علينا بفضلك
وامتنانك، واجعل مآلنا إلى جنانك، وأعد علينا شهر رمضان
والأمة الإسلامية ترفل بالعز والكرامة والسلامة، إنك على كل شيء
قدير.
وإلى الأسئلة، أسأل الله أن يوفقني لصواب الجواب.
الأسئلة:
السؤال الأول: ما المشروع للمسلم فعله في يوم العيد (1) .
السؤال الثاني: من صام قبل المملكة بيوم وتم الشهر في
المملكة فهل يصوم (2) ؟
السؤال الثالث: هل يجوز صرف الزكاة لحلقات تحفيظ
القرآن الكريم (3) ؟
السؤال الرابع: من أحرمت وهي حائض ثم رأت الطهر وبعد
العمرة رأت كدرة فما الحكم (4) ؟
__________
(1) أجاب فضيلة الشيخ رحمه الله على السؤال وتقدم نظيره في المجلد السادس عشر ص (216) .
(2) تقدم نظيره في المجلد التاسع عشر ص (69) .
(3) تقدم نظيره في المجلد السابع عشر.
(4) تقدم نظيره في المجلد الحادي عشر ص (281) .(20/417)
السؤال الخامس: ما حكم صلاة العيد للمرأة (1) ؟
السؤال السادس: هل يجب الطواف كلما دخل الإنسان
المسجد الحرام (2) ؟
السؤال السابع: هل يشترط التتابع في صيام الست من
شوال (3) ؟
السؤال الثامن: توفي والدي وفي ذمته نذر لا أستطيع الوفاء
به، فما الحكم؟
الجواب: لابد أن أعرف التفصيل في هذا، وكيف كان النذر؟
وكيف كان العجز عن قضائه؟
السؤال التاسع: متى يجوز للمعتكف الخروج من
المسجد (4) ؟
السؤال العاشر: متى ينتهي وقت الاعتكاف؟
السؤال الحادي عشر: من عليه قضاء من رمضان هل يجوز أن
يصوم الست قبل الفراغ من القضاء (6) ؟
السؤال الثاني عشر: ما أصح ما جاء في التكبير ليلة العيد
ويومه (7) ؟
__________
(1) تقدم نظيره في المجلد السادس عشر ص (215) .
(2) تقدم نظيره في المجلد الرابع عشر ص (284) .
(3) تقدم نظيره ص (17) .
(4) تقدم نظيره ص (174) .
(5) تقدم نظيره ص (170) .
(6) تقدم نظيره ص (18) .
(7) تقدم نظيره في المجلد السادس عشر ص (259) .(20/418)
السؤال الثالث عشر: لي أقارب لديهم معاصٍ كثيرة
ونصحتهم فلم يستجيبوا فهل أصِلَهم؟
الجواب: يجب عليك أن تصلهم، وأن تنصحهم وتكرر
لهم، وأن تبين لهم فضل طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأن تحذرهم من
مخالفة الله ورسوله، ولا تيأس ربما لا يستجيبون في أول مرة
ويستجيبون في المرات الأخرى.
السؤال الرابع عشر: هل يجوز تقديم طواف الوداع على صلاة
العشاء ثم السفر بعد انقضاء الصلاة؟
الجواب: إذا كان حين طاف للوداع أقيمت الصلاة وصلى
ودفع فلا بأس.
وإلى هنا ينتهي هذا اللقاء المبارك، أسأل الله أن يعيدني
وإياكم معاد الخير، وأن يتوفانا على الإسلام، وأن يجعلنا من دعاة
الخير، وأنصار الحق، إنه على كل شيء قدير.
تم بحمد الله تعالى
المجلد العشرون
ويليه بمشيئة الله عز وجل
المجلد الحادي والعشرون(20/419)
كتاب المناسك(21/7)
س 1: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: نأمل أن تحدثونا عن مكانة الحج في الإسلام، وشروط وجوبه؟
فأجاب فضيلته بقوله-: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن الحج إلى بيت الله الحرام أحد أركان الإسلام، ومبانيه العظام، لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام
الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام " (1) وهو فرض بكتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وإجماع المسلمين: قال الله تعالىِ: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ
الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97)) .
وقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "إن الله فرض عليكم الحج فحجوا" (3) ، وأجمع المسلمون على ذلك، وهو من المعلوم من الدين بالضرورة، فمن جحد وجوبه وهو ممن عاش
بين المسلمين فإنه يكون كافراً، وأما من تركه تهاوناً فإنه على خطر عظيم؛ لأن من العلماء من قال: إنه يكفر. وهذا القول رواية عن الإمام أحمد- رحمه الله-، ولكن القول الراجح: أنه لا يكفر
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الإيمان باب (دعاؤكم) إيمانكم لقوله عز وجل: (قل ما يعبأ بكم ربي) (رقم 8) ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أركان الإسلام (رقم 16)
(2) سورة آل عمران، الآية: 97.
(3) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر (رقم 1337)(21/9)
بترك الأعمال إلا الصلاة فقط، قال عبد الله بن شقيق- رحمه الله- وهو من التابعين-: (ما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة) فمن تهاون
بالحج حتى مات فإنه لا يكفر على القول الراجح، ولكنه على خطر.
فعلى المسلم أن يتقي الله، وأن يبادر بأداء الحج إذا تمت شروط الوجوب في حقه، لأن جميع الواجبات تجب المبادرة بها إلا بدليل، فكيف تطيب نفس المسلم أن يترك الحج إلى بيت الله
الحرام مع قدرته عليه، وسهولة الوصول إليه؟! وكيف يؤخره وهو لا يدري لعله لا يستطيع الوصول إليه بعد عامه؟! فقد يكون عاجزاً بعد القدرة، وقد يكون فقيراً بعد الغنى، وقد يموت وقد
وجب عليه الحج، ثم يفرط الورثة في قضائه عنه.
أما شروط الوجوب فخمسة:
الشرط الأول: الإسلام، وضده الكفر، فالكافر لا يجب عليه الحج، بل لو حج الكافر لم يقبل منه.
الشرط الثاني: البلوغ، فمن لم يبلغ فلا حج عليه، ولو حج صح حجه تطوعاً وله أجره، فإذا بلغ أدى الفريضة، لأن حجه قبل البلوغ لا يسقط به الفرض.
الشرط الثالث: العقل، وضده الجنون، فالمجنون لا يجب عليه الحج، ولا يحج عنه.
الشرط الرابع: الحرية، فالرقيق المملوك لا يجب عليه الحج، ولو حج صح حجه تطوعاً، وإذا عتق وجب عليه أن يؤدي(21/10)
الفريضة، لأن حجه قبل أن يتحرر لا يجزىء عن الفرض.
وقال بعض العلماء: إذا حج الرقيق بإذن سيده أجزأه عن الفريضة، وهذا القول هو الراجح.
الشرط الخامس: الاستطاعة بالمال والبدن، ومن الاستطاعة أن يكون للمرأة محرم، فإن لم يكن لها محرم فلا حج عليها.
س 2: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما هو النسك؟ وما حكم الحج والعمرة؟
فأجاب فضيلته بقوله-: النسك يطلق ثلاثة إطلاقات؛ فتارةً يراد به العبادة عموماً. وتارةً يراد به التقرب إلى الله تعالى بالذبح، وتارةً يراد به أفعال الحج وأقواله.
فالأول كقولهم: فلان ناسك، أي عابد لله عز وجل.
والثاني كقوله تعالي (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)) (1) ويمكن أن يراد بالنسك هنا: التعبد، فيكون من المعنى الأول. والثالث كقوله تعالى: (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا (2) هذا هو معنى النسك، وهذا الأخير هو الذي يخص شعائر الحج، والنسك المراد به الحج،
نوعان: نسك العمرة، ونسك الحج.
أما نسك العمرة: فهو ما اشتمل على هيئتها، من الأركان
__________
(1) سورة الأنعام، الآيتان 162، 163.
(2) سورة البقرة، الآية: 200.(21/11)
والواجبات، والمستحبات؛ بأن يحرم من الميقات، ويطوف بالبيت، ويسعى بين الصفا والمروة، ويحلق أو يقصر.
أما الحج: فهو أن يحرم من الميقات، أو من مكة إن كان بمكة، ويخرج إلى منى ثم إلى عرفة، ثم إلى مزدلفة، ثم إلى منى مرة ثانية، ويطوف ويسعى، ويكمل أفعال الحج على ما سيذكر إن شاء الله تعالى تفصيلاً.
والحج فرض بالكتاب، والسنة، وإجماع المسلمين، وهو أحد أركان الإسلام، لقوله تعالىِ: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)) (1) وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله فرض عليكم الحج فحجوا" (2) وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام " (3) فمن أنكر فريضة الحج فهو كافر مرتد عن الإسلام، إلا أن يكون جاهلاً بذلك، وهو ممن يمكن جهله به، كحديث عهد بإسلام، وناشىء في بادية بعيدة، لا يعرف من أحكام الإسلام شيئاً، فهذا يعذر بجهله، ويُعَرّف، ويبين له الحكم، فإن أصرّ على إنكاره حكم بردته.
وأما من تركه- أي الحج- متهاوناً مع اعترافه بشرعيته، فهذا لا يكفر، ولكنه على خطر عظيم، وقد قال بعض أهل العلم بكفره.
__________
(1) سورة آل عمران، الآية: 97.
(2) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر (رقم 1337) .
(3) تقدم أخرجه البخاري، (رقم 8) ومسلم، (رقم 16) .(21/12)
أما العمرة فقد اختلف العلماء في وجوبها، فمنهم من قال: إنها واجبة، ومنهم من قال: إنها سنةٌ، ومنهم من فرق بين المكي وغيره، فقال: واجبة على غير المكي، غير واجبةٍ على المكي،
والراجح عندي: أنها واجبة على المكي وغيره، لكن وجوبها أصغر من وجوب الحج. لأن وجوب الحج فرض مؤكد، لأن الحج أحد أركان الإسلام بخلاف العمرة.
س 3: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل وجوب الحج على الفور أم على التراخي؟
فأجاب فضيلته بقوله-: الصحيح أنه واجب على الفور، وأنه لا يجوز للإنسان الذي استطاع أن يحج بيت الله الحرام أن يؤخره، وهكذا جميع الواجبات الشرعية، إذا لم تُقيّد بزمن أو
سبب، فإنها واجبة على الفور.
س 4: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما شروط وجوب الحج والعمرة؟
فأجاب فضيلته بقوله-: شروط وجوب الحج والعمرة خمسة: مجموعة في قول الناظم:
الحجُّ والعمرةُ واجبان في العمر مرة بلا توان بشرط إسلام كذا حرية عقل بلوغ قدرة جلية(21/13)
فيشترط للوجوب:
أولاً: الإسلام، فغير المسلم لا يجب عليه الحج، بل ولا يصح لو حج، بل ولا يجوز دخوله مكة، لقوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا) (1) فلا يحل لمن كان كافراً بأي سبب كان سفره، لا يحل له دخول حرم مكة. ولكن يحاسب الكافر على ترك الحج وغيره، من فروع الإسلام على القول الراجح من أقوال أهل العلم، لقول الله تعالى:
(إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47)) (2)
الشرط الثاني: العقل، فالمجنون لا يجب عليه الحج، فلو كان الإنسان مجنوناً من قبل أن يبلغ حتى مات، فإنه لا يجب عليه الحج ولو كان غنيًّا.
الشرط الثالث: البلوغ، فمن دون البلوغ فإن الحج لا يجب عليه، ولكن لو حج، فحجه صحيح، إلا أنه لا يجزئه عن فريضة الإسلام، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - للمرأة التي رفعت إليه صبيًّا وقالت: ألهذا حج؟ قال: "نعم ولك أجر" (3) لكنه لا يجزئه عن فريضة الإسلام، لأنه لم يوجه إليه الأمر بها حتى يجزيه عنه. إذ لا يتوجه الأمر إليه إلا بعد بلوغه.
__________
(1) سورة التوبة، الآية 28.
(2) سورة المدثر، الآيات: 39-47.
(3) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب صحة حج الصبي (1336) (409) .(21/14)
وبهذه المناسبة أحب أن أقول: إنه في مثل المواسم التي يكثر فيها الزحام، ويشق فيها الإحرام على الصغار، ومراعاة إتمام مناسكهم، فالأولى ألا يحرموا لا بحج لا بعمرة، أعني هؤلاء الصغار، لأنه يكون فيه مشقة عليهم وعلى أولياء أمورهم، وربما شغلوهم عن إتمام نسكهم، أي ربما شغل الأولاد آباءهم، أو أمهاتهم عن إتمام نسكهم، فبقوا في حرج، وما دام الحج لم يجب عليهم، فإنهم في سعة من أمرهم.
الشرط الرابع: الحرية، فالرقيق المملوك لا يجب عليه الحج، لأنه مملوك مشغولٌ بسيده، فهو معذور بترك الحج، لا يستطيع السبيل إليه.
الشرط الخامس: القدرة على الحج بالمال والبدن، فإن كان الإنسان قادراً بماله دون بدنه، فإنه ينيب من يحج عنه، لحديث ابن عباس- رضي الله عنهما- أن امرأة خثعمية سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، إن أبي أدركته فريضة الله على عباده في الحج، شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة، أفأحجُّ عنه؟ قال: "نعم " (1) وذلك في حجة الوداع، ففي قولها: أدركته فريضة الله
على عباده في الحج، وإقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك، دليل على أن من كان قادراً بماله دون بدنه، فإنه يجب عليه أن يقيم من يحج عنه، أما إن كان قادراً ببدنه دون ماله، ولا يستطيع الوصول إلى مكة ببدنه، فإن الحج لا يجب عليه.
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب وجوب الحج وفضله (رقم 1513) ، ومسلم، كتاب الحج، باب الحج عن العاجز (رقم 1334) .(21/15)
ومن القدرة: أن تجد المرأة محرماً لها، فإن لم تجد محرماً، فإن الحج لا يجب عليها، لكن اختلف العلماء: هل يجب عليها في هذه الحال أن تقيم من يحج عنها أو يعتمر، أو لا يجب، على قولين لأهل العلم، بناء على أن وجود المحرم هل هو شرط لوجوب الأداء، أو أن المحرم شرطٌ للوجوب، وأن المرأة التي لا تجد محرماً ليس عليها حج، ولا يلزمها أن تقيم من يحج عنها.
فهذه شروط خمسة لوجوب الحج، وعليها فأقول: هي الإسلام، والعقل، والبلوغ، والحرية، والاستطاعة. وهذه الشروط تشمل الحج والعمرة معاً.
س 5: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما شروط الإجزاء في أداء الحج والعمرة؟
فأجاب فضيلته بقوله-: شروط الإجزاء: الإسلام، والبلوغ، والعقل، والحرية، عند بعض أهل العلم. والصواب أن الحرية ليست شرطاً للإجزاء، وأن الرقيق لو حج فإن حجه يجزئه إذا كان سيده قد أذن له، لأن سقوط الوجوب عن العبد ليس لمعنى فيه، ولكن لوجود مانع، وهو انشغاله بخدمة سيده، فإذا أذن له سيده بذلك، صار الحج واجباً عليه ومجزءاً عنه.
س 6: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما آداب السفر للحج؟(21/16)
فأجاب فضيلته بقوله-: آداب سفر الحج تنقسم إلى قسمين: آداب واجبة، وآداب مستحبة. فأما الآداب الواجبة: فهي أن يقوم الإنسان بواجبات الحج وأركانه، وأن يتجنب محظورات الإحرام الخاصة، والمحظورات العامة، الممنوعة في الإحرام وفي غير الإحرام. لقوله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) (1) .
وأما الآداب المستحبة في سفر الحج: إن يقوم الإنسان بكل ما ينبغي له أن يقوم به؟ من الكرم بالنفس والمال والجاه، وخدمة إخوانه وتحمل أذاهم، والكفّ عن مساوئهم، والإحسان إليهم،
سواء كان ذلك بعد تلبسه بالإحرام، أو قبل تلبسه بالإحرام، لأن هذه الآداب عالية فاضلة، تطلب من كل مؤمن في كل زمان ومكان، وكذلك الآداب المستحبة في نفس فعل العبادة، كأن يأتي
الإنسان بالحج على الوجه الأكمل، فيحرص على تكميله بالآداب القولية والفعلية، التي ربما يتسنى لنا الكلام عليها إن شاء الله تعالى في أسئلة أخرى.
س 7: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: كيف يستعد المسلم للحج والعمرة؟
فأجاب فضيلته بقوله-: الذي ينبغي أن يستعد به المسلم في حجه وعمرته، أن يتزود بكل ما يمكن أن يحتاج إليه في سفره، من المال، والثياب، والعتاد وغير ذلك، لأنه ربما يحتاج إليه في
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 197.(21/17)
نفسه أو يحتاجه أحد من رفقائه، وأن يتزود كذلك بالتقوى وهي اتخاذ الوقاية من عذاب الله، بفعل أوامر الله تعالى واجتناب نواهيه، لقول الله تعالى: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)) (1) فالتقوى استعداد معنوي يستعد بها الإنسان في قرارة نفسه للقاء الله تعالى واليوم الآخر، فيحرص على أن يقوم بما أوجب الله عليه، ويدع ما حرم الله عليه.
وما أكثر ما نجد من الحاجة في الأسفار، حيث يحتاج الإنسان إلى أشياء يظنها هينة فلا يستصحبها معه في سفره، فإذا به يحتاج إليها، أو يحتاج إليها أحد من رفقائه، فليكن الإنسان حازماً شهماً مستعداً لما يتوقع أن يكون وإن كان بعيدًا.
س 8: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: الحج عبادة عظيمة مبناها على الإخلاص، فيجب إخلاصها لله تعالى، فما توجيه فضيلتكم لمن أراد الحج؟
فأجاب فضيلته بقوله-: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد خاتم النبيين وإمام المتقين، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين: الإخلاص شرط في جمِيع العبادات، فلا تصح العبادة مع الإشراك بالله تبارك وتعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)) (2) وقال الله تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 197.
(2) سورة الكهف، 110(21/18)
مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) (1) وقال الله تعالى: (فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) (2) وفي الحديث القدسي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه " (3) والإخلاص لله في العبادة معناه: ألا يحمل العبد إلى العبادة إلا حب الله تعالى وتعظيمه ورجاء ثوابه ورضوانه، ولهذا قال الله تعالى عن محمد رسول الله صلى الله عليه وعلى اَله وسلم: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا) (4) فلا تقبل العبادة حجاً كانت أم غيره إذا كان الإنسان يرائي بها عباد الله، أي يقوم بها من أجل أن يراه الناس فيقولون: ما أتقى فلاناً ما أعبد فلاناً لله. وما أشبه هذا. ولا تقبل العبادة إذا كان الحامل عليها رؤية الأماكن، أو رؤية الناس،
أو ما أشبه ذلك مما ينافي الإخلاص، ولهذا يجب على الحجاج الذين يؤمون البيت الحرام أن يخلصوا نيتهم لله- عز وجل-، وألا يكون غرضهم أن يشاهدوا العالم الإسلامي، أو أن يتجروا، أو أن
يقال: فلان يحج كل سنة وما أشبه ذلك.
ولا حرج على الإنسان أن يبتغي فضلاً من الله بالتجارة وهو قاصد البيت الحرام، لقول الله تبارك وتعالى: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ
__________
(1) سورة البينة: 5.
(2) سورة الزمر: 2، 3.
(3) أخرجه مسلم، كتاب الزهد، باب تحريم الرياء (2985) (46) .
(4) سورة الفتح: 29.(21/19)
جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) (1) وإنما الذي يخل بالإخلاص ألا يكون له قصد إلا الاتجار والتكسب، فهذا يكون ممن أراد الدنيا بعمل الآخرة، وهذا يوجب بطلان العمل، أو نقصانه نقصاً شديداً: قال الله تعالى (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)) (2) .
س 9: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما هي الأمور التي تنبغي أن يعملها المسلم ليكون حجه مقبولاً إن شاء الله؟
فأجاب فضيلته بقوله-: الأمور التي ينبغي أن يعملها ليكون حجه مقبولاً: أن ينوي بالحج وجه الله عز وجل وهذا هو الإخلاص. وأن يكون متبعاً في حجه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا هو المتابعة، وكل عمل صالح فإنه لا يقبل إلا بهذين الشرطين الأساسيين: الإخلاص، والمتابعة للنبي - صلى الله عليه وسلم -. لقول الله تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)) (3) ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرىء ما نوى" (4) ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: (من عمل
__________
(1) سورة البقرة، الأية: 198.
(2) سورة الشورى، الآية: 25.
(3) سورة البينة، الآية: 5.
(4) أخرجه البخاري، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي (رقم1) ، ومسلم، كتاب الإمارة، باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات " (رقم 1907) .(21/20)
عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" (1) (فهذا أهم ما يجب على الحاج أن يعتمد عليه: الإخلاص والمتابعة للنبي - صلى الله عليه وسلم -. وكان النبي عليه الصلاة والسلام يقول في حجته "لتأخذوا عني مناسككم " (2) .
ومنها أن يكون الحج بمال حلال، فإن الحج بمال حرام محرم، لا يجوز، بل قد قال بعض أهل العلم: إن الحج لا يصح في هذه الحالة، ويقول بعضهم:
إذا حججت بمال أصله سحت فما حججت ولكن حجّت العير
يعني حجت الإبل.
ومنها أن يتجنب ما نهى الله عنه، لقوله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) (3) . فيتجنب ما حرم الله عليه تحريماً عاماً في الحج وغيره
من الفسوق والعصيان، والأقوال المحرمة، والأفعال المحرمة والاستماع إلى آلات اللهو ونحو ذلك، ويجتنب ما حرم الله عليه تحريماً خاصًّا في الحج: كالرفث وهو إتيان النساء، وحلق الرأس. واجتناب ما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن لبسه في الإحرام. وبعبارة أعم: يجتنب جميع محظورات الإحرام، وينبغي أيضاً للحاج أن يكون ليناً سهلاً كريماً في ماله وعمله، وأن يحسن إلى إخوانه
بقدر ما يستطيع، ويجب عليه أن يجتنب إيذاء المسلمين، سواء
__________
(1) أخرجه البخاري معلقاً، كتاب البيوع، باب النجش، ومن قال: لا يجوز ذلك البيع (ص 403) ط بيت الأفكار، ومسلم مرفوعاً، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة (رقم 1718/18) .
(2) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - (رقم 1218) .
(3) سورة البقرة، الآية: 197.(21/21)
كان ذلك في المشاعر، أو في الأسواق، فيجتنب الإيذاء عند الازدحام في المطاف، وعند الازدحام في المسعى، وعند الازدحام في الجمرات، وغير ذلك. فهذه الأمور التي ينبغي على الحاج، أو يجب للحاج أن يقوم بها، ومن أقرب ما يحقق ذلك: أن يصحب الإنسان رجلاً من أهل العلم حتى يذكره بدينه، وإذا لم يتيسر ذلك فليقرأ من كتب أهل العلم ما كان موثوقاً قبل أن يذهب إلى الحج، حتى يعبد الله على بصيرة.
س 10: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما معنى قوله عليه الصلاة والسلام: "من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه " (1) ؟
فأجاب فضيلته بقوله-: معناه أن الإنسان إذا حج واجتنب ما حرم الله عليه من الرفث وهو إتيان النساء، والفسوق وهو مخالفته الطاعة، فلا يترك ما أوجب الله عليه ولا يفعل أيضاً ما حرم الله عليه، فإن خالف فهذا هو الفسوق. فإذا حج الإنسان ولم يفسق ولم يرفث فإنه يخرج من ذلك نقيًّا من الذنوب، كما أن الإنسان إذا خرج من بطن أمه فإنه لا ذنب عليه، فكذلك هذا
الرجل إذا حج بهذا الشرط فإنه يكون نقيًّا من ذنوبه.
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب فضل الحج المبرور (رقم 1521) ومسلم، كتاب الحج، باب في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة (رقم 1350) .(21/22)
س 11: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من استطاع الحج ولم يحج فليمت إن شاء يهوديًّا أو نصرانيًّا" (1) ما معنى ذلك؟ جزاكم الله خيراً
فأجاب فضيلته بقوله-: هذا الحديث في صحته نظر، والمعنى (إن صح الحديث) أنه إذا مات فإنه يخشى أن يكون كافراً إما مع اليهود، وإما مع النصارى.
س 12: سئل فضيلة الشيخِ- رحمه الله تعالى-: ما معنى قول الله تعالى: (وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غِنىُّ عَنِ اَلْعَالَمِينَ (97)) (2) ؟
فأجاب فضيلته بقوله-: عبَّر الله تعالى بقوله: (وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غِنىُّ عَنِ اَلْعَالَمِينَ (97)) لأنه لم يلتزم بأركان الإسلام. والكفر يطلق على ما دون الشرك، حتى إن الرسول عليه الصلاة والسلام
قال: "اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب والنياحة على الميت " (3) وبالاتفاق أن هذا لا يخرج من الدين، والذي جعلنا نرجح هذا أن عبد الله بن شقيق رحمه الله وهو من كبار التابعين المعروفين قال: ما كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة (4) .
__________
(1) أخرجه بنحوه الترمذي، كتاب الحج، باب ما جاء في التغليظ في ترك الحج (رقم 812) وقال: هذا حديث غريب، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (رقم 5860) .
(2) سورة آل عمران، الآية: 97.
(3) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب إطلاق اسم الكفر على الطعن في النسب والنياحة (رقم 67) .
(4) أخرجه الترمذي، كتاب الإيمان، باب ما جاء في ترك الصلاة (رقم 2622) .(21/23)
س 13: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما السر في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو قلت نعم لوجبت " (1) لماذا لم يقل: لا بل مرة في العمر؟
فأجاب فضيلته بقوله-: السر- والله أعلم- كف مثل هذا السؤال، يعنى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لو قال: نعم. لوجبت ولما استطعتم، فكأنه يقول: دعوني ما تركتكم، ولا تسألوا عن شيء فتجابوا بشيء لا تستطيعوه.
س 14: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما الأمور التي تجعل المسلم ملزماً بالحج وجوباً من غير الفريضة؟
فأجاب فضيلته بقوله-: من الأمور التي تجعل الحج واجبًا من غير الفريضة النذر، فلو نذر الإنسان أن يحج نذر تبرر وجب عليه أن يحج، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من نذر أن يطيع الله فليطعه " (2) والحج طاعة لله ورسوله، فإذا نذر أن يحج وجب عليه أن يحج، وقوله: نذر تبرر احترازاً مما لو كان نذر لجاج أو غضب، وهو الذي يقصد به المنع، أو الحث، أو التصديق، أو التكذيب، ويظهر بالمثال، مثل أن قال: إن شفى الله مريضي فلله عليَّ أن أحج هذا العام. أو أن يحج ويطلق النذر، فهذا نذر في مقابلة نعمة، فيكون شكراً، وأما لو قال: إن كلمت فلانًا فلله عليَّ نذر
أن أحج كل عام. فهذا لا يلزمه الوفاء به، لأنه لم يقصد بذلك
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر (رقم 1337) .
(2) أخرجه البخاري، كتاب الأيمان والنذور، باب النذر في الطاعة (رقم 6696) .(21/24)
التقرب إلى الله بالحج، وإنما قصد بذلك أن يثقل على نفسه حتى يمتنع مما نذر عليه.
فالمهم أن الحج يكون واجباً بالنذر، كذلك أيضاً يكون واجباً إذا شرع فيه ولو كان نفلاً، لقول الله تعالى: (وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمرَةَ لِلَّهِ) (1) وهذه الآية نزلت قبل فرض الحج، لأنها نزلت في الحديبية عام ستة للهجرة، وفرض الحج إنما كان في السنة التاسعة، وعلى هذا فيجب الحج بأمرين: بالشروع فيه، وبالنذر.
وأما الفريضة فظاهر.
س 15: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يستفاد من قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ما من أيام العمل الصالح " إلى أن قال: "ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل ... " (2) ، أن الحج أفضل من الجهاد في سبيل الله؟
فأجاب فضيلته بقوله-: أما بعمومه "ما من أيام العمل الصالح " فهو يقتضي هذا، لكن إذا كان الجهاد في هذه الأيام صار أفضل من غيره، فقوله: "ولا الجهاد في سبيل الله " يعني في غير
هذه الأيام، وحينئذ يكون الجهاد في سبيل الله في هذه الأيام أفضل من غيره،
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 196.
(2) أخرجه البخاري، كتاب العيدين، باب فضل العمل في أيام التشريق (رقم 969) والترمذي كتاب الصوم، باب ما جاء في العمل في أيام العشر (رقم 757) .(21/25)
س 16: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل تستحب الاستخارة في الحج، وما هي الأشياء التي تستحب فيها الاستخارة؟
فأجاب فضيلته بقوله-: الاستخارة مشروعة في كل أمر يتردد فيه الإنسان، فمثلاً إذا تردد: هل يحج هذا العام أم لا يحج؟ فله أن يستخير. إذا قلنا: إن الحج ليس واجباً على الفور، أما إذا قلنا: إنه واجب على الفور. فالواجب عليه أن يحج بدون استخارة، كذلك أيضاً الأمور التي لا تحتاج إلى استخارة، مثل إذا هم الإنسان أن يصلي أو إذا أراد أن يتغدى فلا يصلي استخارة، وإنما الاستخارة فيما إذا كان الإنسان في تردد، ولهذا يقول في دعاء الاستخارة: اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي فاقدره لي ويسره لي.
س 17: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل تشرع صلاة الاستخارة لمن أراد أن يحج؟
فأجاب فضيلته بقوله-: أما إذا كان واجباً فلا يجوز أن يصلي صلاة الاستخارة، لأنه لابد أن يحج إذ إن أداء الفريضة على الفور، وأما إذا كان نافلة فله أن يستخير، يعني: هل يحج هذا العام أو الذي بعده؟ وأما الواجب فلا يستخير فيه، لأن الله قد حكم به وأوجبه.(21/26)
س 18: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ورد عن الصحابة - رضي الله عنهم- أنهم قالوا: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا الاستخارة في كل أمر من أمورنا، كما يعلمنا السورة من القرآن (1) ، فهل الاستخارة في الأمور الدنيوية فقط، أو حتى في الأمور التعبدية
أيضاً، فمثلاً أستخير الله عندما أريد الذهاب إلى الحج أو الجهاد، وإذا كان الجواب بالإيجاب فكيف أوفق بينه وبين ما ورد في دعاء الاستخارة: اللهم إن كنت تعلم أن في سفري- إلى الحج أو
الذهاب مثلاً- خيراً لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاقدره لي، وإن كنت تعلم أن في هذا الأمر شرًّا لي في ديني الخ ... فكيف يكون في الحج وهو فرض شر لي في ديني، وكيف يكون في
الذهاب إلى الجهاد شر وهو فرض عين، أرجو توضيح ذلك جزاكم الله خيراً.
فأجاب فضيلته بقوله-: الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله، وأصحابه أجمعين؟ الحديث الوارد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الاستخارة شامل عام في كل أمر يهم به الإنسان، ولا يدري الخيرة في فعله أم في تركه، فيستخير الله تعالى، ولكنه لا يتناول الأمور المفروضة على المرء، لأن فعل الأمور المطلوبة على المرء خير بلا تردد، وعلى هذا فإذا وجب
الحج على الإنسان وتمت شروط الوجوب فإن عليه أن يحج بدودن استخارة، كما أنه إذا أذن لصلاة الظهر مثلاً، فإنه يجب عليه أن يصلي بدون استخارة، وكذلك إذا وجب عليه الجهاد فصار فرض
__________
(1) أخرجه البخاري، أبواب التهجد، باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى (رقم 1162) .(21/27)
عين عليه، فإنه يجب عليه أن يجاهد بدون استخارة، ولكن إذا كان الشيء مشروعاً وليس بواجب عليه فإنه يمكن أن تدخل فيه الاستخارة، بمعنى أن المشروعات بعضها أفضل من بعض، فقد
يريد الإنسان أن يعتمر عمرة تطوع، أو يحج حج تطوع، ولكن لا يدري: الحج أفضل أم بقاؤه في بلده للدعوة إلى الله والإرشاد وتوجيه المسلمين، والقيام بمصالح أهل بيته أفضل؟ فيستخير الله
سبحانه وتعالى، لا لأنه قد شك في فضل العصرة، ولكن لأنه قد شك هل الذهاب للعمرة أفضل أم البقاء في بلده أفضل؟ وهذا أمر وارد، ويمكن فيه الاستخارة، فمن تأمل حديث الاستخارة، وهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - علم أنها لا تشرع إلا في الأمر الذي يتردد فيه الإنسان. أما الأمر الذي ليس فيه تردد فإنه لا استخارة فيه، وكما أسلفت: أن الأمور الواجبة لا تحتمل التردد والشك في فعلها، لوجوب القيام بها على من توفرت فيه شروط الوجوب.
س 19: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: إذا حج الإنسان عدة مرات فهل الأفضل أن يترك الحج ويتصدق بنفقات الحج؟
فأجاب فضيلته بقوله-: هذا حسب ما تدعو الحاجة إليه، فإذا كان الناس في حاجة إلى الصدقة، فالصدقة أفضل، وإذا لم يكونوا في حاجة فالحج أفضل.
س20: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: تتوق النفس للحج ولكن نسمع كلمات من الناس لا ندري أهي صحيحة أم لا؟(21/28)
يقولون: من حج فليترك المجال لغيره، مع أننا نعلم أن الله عز وجل أمرنا بالتزود، فهل قول الناس بأن من حج يترك المجال لغيره، صحيح؟ وإذا كان الإنسان إذا ذهب إلى الحج ربما نفع الله به عدداً كبيراً، سواء ممن يقدم إلى هذه البلاد أو من يصاحبهم من بلاده هو، فما تقولون وفقكم الله؟
فأجاب فضيلته بقوله-: هذا القول ليس بصحيح، أعني القول بأن من حج فرضه فليترك المجال لغيره، لأن النصوص دالة على فضيلة الحج، وقد روي محن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "تابعوا بين الحج والعمرة: فإنهما ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة" (1) والإنسان العاقل يمكن أن يذهب إلى الحج ولا يؤذي ولا يتأذى إذا كان يعامل الناس بالرفق فإذا وجد مجالاً فسيحاً فعل ما يقدر عليه من الطاعة، وإذا كان المكان ضيقاً عامل نفسه وغيره بما يقتضيه هذا الضيق، ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - حين دفع من عرفة يأمر الناس بالسكينة، وشنق لناقته الزمام يعنى جذبه حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله من شدة
جذبه للزمام، لكنه إذا وجد فجوة نصّ (2) . قال العلماء: يعني إذا وجد متسعًا أسرع، فدل هذا على أن الحاج ينبغي له أن يتعامل مع الحالة التي هو عليها، فإذا وجد الضيق فليتأن في مشيه وليرفق
بالناس وبهذا لا يتأذى ولا يؤذي، فهذا الذي نراه في هذه
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (1/387) والترمذي، كتاب الحج، باب ما جاء في ثواب الحج والعمرة (رقم 810) وقال: حديث حسن غريب صحيح.
(2) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب السير إذا دفع من عرفة (رقم 1666) ومسلم، كتاب الحج، باب الإفاضة من عرفات إلى مزدلفة ... (رقم 1286) (283) .(21/29)
المسألة، يحج ويستعين الله تعالى على الحج، ويقوم بما يلزمه من واجبات، ويحرص على أن لا يؤذي أحداً، ولا يتأذى بقدر المستطاع.
ولو فرض أن هناك مصلحة أنفع من الحج مثل أن يكون بعض المسلمين محتاجاً إلى الدراهم للجهاد في سبيل الله، فالجهاد في سبيل الله أفضل من الحج النافلة، وحينئذ يصرف هذه الدراهم إلى المجاهدين، أو كان هناك مسغبة يعني جوعاً شديداً على المسلمين، فهنا صرف الدراهم في إزالة المسغبة أفضل من الحج بها.
س 21: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه حدَّث عن ربه أنه قال: "إن عبداً أصححت له جسمه، ووسعت عليه يمضي عليه خمسة أعوام لا يفد إليَّ لمحروم " (1) هل هذا الحديث ثابت، وهل يشمل الحج والعمرة؟
فأجاب فضيلته بقوله-: لا أدري عن صحته ولا يمكن أن يثبت هذا إذا كان مراده الحج والعمرة، لا يثبت أبداً؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم صح عنه أنه لما ذكر الحج قال له الأقرع بن حابس: أفي كل عام يا رسول الله؟ قال: "لو قلت نعم لوجبت، الحج مرة فما زاد فهو تطوع " (2) ولو صح هذا الحديث لكان ما زاد فيه التطوع وفيه الواجب، فأظن هذا الحديث لا يصح.
__________
(1) مسند أبي يعلى (1031) والمطالب العالية لابن حجر (1161) قال البوصيري (4/296) رواه أبو بكر بن أبي شيبة وقال القرطبي في تفسيره: حديث باطل لا يصح.
(2) أخرجه الإمام أحمد (1/290) ، وأبو داود، كتاب المناسك، باب فرض الحج (رقم 1721) والنسائي، كتاب المناسك، باب وجوب الحج (5/111) وابن ماجه، كتاب المناسك، باب فرض الحج (رقم 2886) .(21/30)
س 22: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ذكرتم في أحد دروسكم أنه يشرع في أيام العشر الرحيل إلى بيت الله الحرام لأداء العمرة، أليس في ذلك مشقة ومضايقة لمن أتى مكة لأداء العمرة
والحج؟
فأجاب فضيلته بقوله-: نحن نريد لأداء العمرة والحج، ونريد أيضاً لأداء العمرة، لأن العمرة مشروعة في أشهر الحج التي أولها شوال وآخرها ذو الحجة، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعتمر إلا في أشهر الحج، حتى إن بعض العلماء تردد: هل العمرة في أشهر الحج أفضل، أو العمرة في رمضان أفضل؟ لأن عُمُرَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - كلها في أشهر الحج: عمرة الحديبية في ذي الحجة في أشهر الحج، وعمرة القضاء في ذي القعدة في أشهر الحج، عمرة الجعرانة في ذي القعدة في أشهر الحج، وعمرة حجته في ذي الحجة أيضاً في أشهر الحج. فلو أن الإنسان تيسر له أن يأتي بالعمرة في أشهر الحج في ذي القعدة أو في شوال يكون طيباً، لكن كلامنا حيث قلنا: يرتحل الناس إلى مكة لأداء العمرة والحج، أو لأداء العمرة وحدها. نريد الأمرين جميعاً.
وأما مسألة التضييق فقد قال بعض المعاصرين: ينبغي للإنسان إذا أدى الفريضة أن لا يحج لأنه يضيق على الناس، ولكننا لا نرى هذا الرأي، نقول: الحج رغب فيه الشرع وحث عليه، لكن بعد القدرة. والزحام والمشقة لا تكون إلا من سوء التصرف، ولو أن الناس عملوا بهدوء وطمأنينة وخشوع، ما
حصلت هذه الأذية، ولهذا نرى أن الناس إذا كانوا يؤدون(21/31)
المناسك بهدوء وخشوع، وتعبد لله لا يحصل لهم أذية أبداً، لأنه كل ماشي على درجة الأذية تحصل من الجدال والمخاصمة والمغالبة لا من الكثرة.
س 23: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما قولكم بمقالة العامة: من حج فرضه فليقعد بأرضه. كذلك النساء هل يمنع الولي زوجته أو أبنته أو أخته من الحجِ بحجة الزحام وهي تريد
التطوع؟ أم أن الأفضل التزود خصوصاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سماه جهاداً، والجهاد يرغب فيه، ويتزود منه، وما رأيكم بمن يقول: (لا تزاحموا الناس) أرجو التفصيل.
فأجاب فضيلته بقوله-: هذا السؤال سبق الجواب عنه، قلنا: الأفضل أن يحج، ولكن يحرص على أن لا يتأذى ولا يؤذي بالمزاحمة، وأن غالب المشقة التي تحصل إنما هي من سوء التصرف فيما بين الناس.
س24: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: امرأة تقول: يحصل لي الحج في كل عام- ولله الحمد- وقد قال لي بعض الناس بأن عملي هذا فيه أذية للمسلمين، حيث إني أضيق عليهم رغم أني أفيد من يذهب معنا من النساء بالتوجيه والإرشاد، فما رأي فضيلتكم وتوجيهكم لي جزاكم الله خيرًا؟
فأجاب فضيلته بقوله-: أرى أن هذه المرأة التي يستفيد منها النساء بالتوجيه والإرشاد أن تحج، ومسألة التضييق إذا لم تضيق(21/32)
هي ضيق غيرها، فإذا كانت في حملة توجه النساء وترشدهن فلا شك أن حجها أفضل من بقائها. أما إذا كانت من عامة النساء فإننا نقول: إعانة من أرادت الحج فريضة بالمال الذي تحج به أفضل،
لأن الإنسان إذا أعان أخاه في عبادة فكأنه فعلها، كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "من أعان غازياً فقد غزا، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا" (1) .
س 25: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: بعض الناس ينصح من حج أن لا يحج مرة ثانية وثالثة بحجة أن يفسح لغيره المجال، ما رأيك في هذا القول؟
فأجاب فضيلته بقوله-: أنا أتوقف في هذا. فتارة أقول: إذا رأينا الزحام الشديد وأن الإنسان يتعب بنفسه في أمر قد يكون بقاؤه في بلده أخشع وأتقى لله، لأنه في بلده سوف يقيم على ذكر،
وتكبير وقراءة قرآن وصيام، وصدقة، وإحسان، ويؤدي العبادات مطمئناً فيه، فتارةً: أقول هذا أفضل. وتارةً إذا رأيت الأدلة على الحث على الحج وبيان فضله أقول: إن الحج أفضل، ثم إذا رأيت
أيضاً أن الحجاج بعضهم يحج فريضة وبعضهم نافلة، ولا شك أن أمكنة المناسك والمشاعر لمن يؤدي الفريضة أولى، لأنهم أحق بها، ممن يحج متطوعاً، وأنا متردد في هذا، أخشى أن قلت: لا تحجوا والنصوص جاءت بالحث على الحج أن يكون في هذا إثم
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الجهاد، باب فضل من جهز غازياً (رقم 2843) ، ومسلم، كتاب الإمارة، باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله وغيره (رقم 1895) .(21/33)
عظيم. وإذا نظرت إلى المفاسد وتخفيف الضرر على الناس قلت: عدم الحج أفضل، ومن عنده فضل مال فأبواب الخير كثيرة.
س 26: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: أنا شاب سبق لي أداء الحج أكثر من مرة ولله الحمد والمنة، فما هو الأفضل في حقي الآن: أحج لنفسي أم أتبرع بتكاليف الحج لمسلم لم يؤدِ الفريضة
فأدفع ذلك المال إلى مكتب الجاليات أو غيره؟
فأجاب فضيلته بقوله: الأفضل أن تعطيه من يستعين به على أداء الفريضة، ولعله يكتب لك إن شاء الله أجره، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من جهز غازياً فقد غزى، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزى" (1) .
س 27: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل المتوكل بالحج عن شخص آخر يناله ما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه " (2) .
فأجاب فضيلته بقوله-: يتوقف الجواب على هذا السؤال: هل هذا الرجل حج عن نفسه أو عن غيره؟ الجواب: أنه إنما حج عن غيره، ولم يحج لنفسه، فلا يدرك الأجر الذي قاله النبي - صلى الله عليه وسلم -: لأنه إنما قام بالحج عن غيره، لكنه إن شاء الله إذا قصد نفع أخيه، وقضاء حاجته فإن الله تعالى يثيبه.
__________
(1) تقدم ص 33.
(2) تقدم ص 22.(21/34)
س 28: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل ورد شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في فضل كون الحج يوم الجمعة؟
فأجاب فضيلته بقوله-: لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في فضل الجمعة إذا صادف يوم عرفة، لكن العلماء يقولون: إن مصادفته ليوم الجمعة فيها خير: أولا: لتكون الحجة كحجة النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - صادف وقوفه بعرفة يوم الجمعة.
وثانياً: أن في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئاً إلا أعطاه الله إياه. فيكون ذلك أقرب إلى الإجابة.
وثالثاً: أن يوم عرفة عيد ويوم الجمعة عيد، فإذا اتفق العيدان كان في ذلك خير. وأما ما اشتهر من أن حجة الجمعة تعادل سبعين حجة فهذا غير صحيح.
س 29: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: يعتقد بعض الناس أن العمرة أمر واجب على كل مسلم في رمضان، فهل هذا صحيح؟
فأجاب فضيلته بقوله-: هذا غير صحيح، والعمرة واجبة مرة واحدة في العمر، ولا تجب أكثر من ذلك، والعمرة في رمضان مندوب إليها؟ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "عمرة في رمضان تعدل حجة" (1) .
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب جزاء الصيد، باب حج النساء (رقم 1863) ، ومسلم، كتاب=(21/35)
نسأل الله تعالى أن يوفقنا وإخواننا المسلمين لما يحب ويرضى، إنه جواد كريم.
س 30: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: حج جماعة وأدوا جميع مناسك الحج، وعندما أرادوا أخذ العمرة بعد إتمام المناسك، قال لهم أحد الحجاج الذين معهم: لا داعي لأخذ العمرة فحجكم تام. فلم يعتمروا علما بأنهم مفردين، ولأول مرة يؤدوا الفريضة، فهل حجهم تام أم لا؟ وإذا لم يكن تامًا فماذا عليهم في ذلك، وفقكم الله لخدمة الإسلام والمسلمين.
فأجاب فضيلته بقول-: حجهم تام ما دام أنهم أتوا فيه على الأمر المشروع، وليس من شرط تمام الحج أداء العمرة، لكن العمرة ما داموا لم يعتمروا من قبل واجبة عليهم إن استطاعوا إليها سبيلا، فمتى تهيأ لهم السفر إلى مكة ليؤدوا العمرة في أي زمن وجب عليهم أداؤها.
س 31: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما حكم عمرة المكي وهل هي بدعة كلما قيل؟
فأجاب فضيلته بقوله-: هذا القول الذي ذكره السائل ذهب إليه بعض العلماء، وقالوا: إن المكي لا عمرة له. ولكن ظاهر الأدلة على خلافه، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - حين وقت المواقيت "هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن، ممن أراد الحج أو العمرة، ومن
__________
= الحج، باب فضل العمرة في رمضان (رقم 1256) (222) .(21/36)
كان دون ذلك فمن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة" (1) فهذا يدل على أن العمرة قد تكون لأهل مكة، لكن إذا أرادوا العمرة فلا بد أن يخرجوا إلى التنعيم أو غيره من الحل، ليحرموا منه. والله أعلم.
س32: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: يقول السائل بعد أيام نستقبل عشرة ذي الحجة فما نصيحتك للجميع، ونرجو بيان فضلها والأعمال التي تسن فيها؟
فأجاب فضيلته بقوله-: عشرة ذي الحجة تبتدىء من دخول شهر ذي الحجة، وتنتهي بيوم عيد النحر، والعمل فيها قال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر" قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء" (2) وعلى هذا فإني أحث إخواني المسلمين على اغتنام هذه الفرصة العظيمة، وأن يكثروا في عشر ذي الحجة من الأعمال الصالحة، كقراءة القرآن والذكر بأنواعه: تكبير، وتهليل، وتحميد، وتسبيح، والصدقة والصيام، وكل الأعمال الصالحة.
والعجب أن الناس غافلون عن هذه العشر تجدهم في عشر رمضان يجتهدون في العمل لكن في عشر ذي الحجة لا تكاد تجد أحداً
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب مهل أهل الشام (رقم 1526) ومسلم، كتاب الحج، باب مواقيت الحج والعمرة (رقم 1181) .
(2) تقدم ص 52.(21/37)
فرق بينها وبين غيرها، ولكن إذا قام الإنسان بالعمل الصالح في هذا الأيام العشرة إحياء لما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الأعمال الصالحة. فإنه على خير عظيم. هذه العشرة
إذا دخلت والإنسان يريد أن يضحي فإنه لا يأخذ من شعره، ولا من ظفره، ولا من بشرته شيئاً، كل هذه لا يأخذ منها إذا كان يريد أن يضحي. فأما الذي يضحى عنه فلا حرج عليه، وعلى هذا فإذا أراد الإنسان أن يضحي عنه وعن أهل بيته بأضحية واحدة كما هي السنة، فإن أهل البيت لا يلزمهم أن يمسكوا عن الشعر، وعن الظفر، وعن البشرة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "فإذا أراد أحدكمِ أن يضحي فلا يأخذن من شعره ولا من بشرته ولا من ظفره شيئاً" (1) فوجه الخطاب لمن يريد أن يضحي.
ولكن لو قال قائل: إذا كان هذا الذي يريد أن يضحي سافر للحج فسوف يؤدي العمرة ويقصر مع أنه أوصى أهله أن يضحوا؟
نقول: هذا لا يضر، لأن التقصير في العمرة نسك لابد من فعله، وكذلك التقصير في الحج والحلق لا بأس به.
س 33: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما هي الفضائل في شهر ذي الحجة؟
فأجاب فضيلته بقوله-: شهر ذي الحجة المراد العشر ينبغي للإنسان في هذا الشهر أن يكثر من الأعمال الصالحة من
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الأضاحي، باب نهي من دخل عليه عشر ذي الحجة وهو مريد التضحية أن يأخذ من شعره وأظفاره شيئاً (رقم 1977) .(21/38)
الصلاة، والصدقة والصيام أيضاً، لأنه سوف يصوم الأيام التسعة، وكذلك كل عمل صالح، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر" قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء" (1) .
س 34: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: إذا كان الإنسان عليه ذنوب من كبائر، ثم حج فهل يمحو الله عنه هذه الذنوب بعد التوبة، أرشدني جزاك الله خيراً؟
فأجاب فضيلته بقوله-: إذا تاب الإنسان من الذنوب وإن لم يحج، وكانت التوبة نصوحًا، فإن الله يمحوها عن آخرها، قال الله تبارك تعالى: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ) هو أي يشرك بالله، أو يقتل النفس، أو يزني (يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) (2) فأنت إذا تبت إلى الله توبة نصوحًا وإن لم تحج فإن الله تبارك وتعالى يمحو سيئاتك.
__________
(1) تقدم ص 25.
(2) سورة الفرقان، الآيات: 68- 70.(21/39)
س 35: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: قلنا عن الحج: إنه يكفر الذنوب، ويعود الحاج كيوم ولدته أمه. فالحديث الذي قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه للصحابي الذي اشترط أن يغفر له ما سبق قال: "ألم تعلم أن الإسلام يهدم ما قبله، وأن الحج يهدم ما قبله " (1) أفي هذا
دليل على أن كبائر الذنوب كذلك تغفر بالحج؟
فأجاب فضيلته بقوله-: ظاهر الحديث "من حج فلم يرفث ولم يفسق " إذا أتى بهذا القيد "رجع كيوم ولدته أمه " (2) وكذلك حديث عمرو بن العاص الذي أشرت إليه هو: "أن الحج يهدم ما قبله " ظاهره العموم فهو يهدم كل شيء ما عدا الكفر، فلابد فيه من توبة.
س 36: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى: قال بعض علماء الحديث إن كبائر الذنوب لا تغفر إلا بالتوبة؟
فأجاب فضيلته بقوله-: يقال هذا ظاهر الحديث، وليس لنا أن نعدو الظاهر إلا بدليل، وهذا الذي ذكره السائل ذكره بعض العلماء، قالوا: إذا كانت الصلوات الخمس لا تكفر إلا إذا اجتنبت الكبائر، وهي أعظم من الحج وأحب إلى الله، فالحج من باب أولى، لكن نقول: هذا ظاهر الحديث: ولله تعالى في حكمه شئون، والثواب ليس فيه قياس، والحمد لله أنت احتسب على ربك هذا فلعل الله عز وجل أن يؤتيك إياه.
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة والحج (رقم 121) .
(2) تقدم ص 22.(21/40)
س 37: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى: هل الكبائر يكفرها الحج؟
فأجاب فضيلته بقوله-: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله، وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين: ظاهر قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه " (1) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة" أن الحج المبرور يكفر الكبائر، ويؤيد هذا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة" (2) فإن تكفير العمرة إلى العمرة لما بينهما مشروط باجتناب الكبائر، ولكن يبقى النظر: هل يتيقن
الإنسان أن حجه كان مبروراً؟ هذا أمر صعب، لأن الحج المبرور ما كان مبروراً في القصد والعمل، أما في القصد فأن يكون قصده بحجه التقرب إلى الله تعالى والتعبد له بأداء المناسك بنية خالصة
لا يشوبها رياء، ولا سمعة، ولا حاجة من حوائج الدنيا، إلا ما رخص فيه في قوله تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) (3) وكذلك المبرور في العمل بأن يكون متبعاً رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أداء المناسك، مجتنباً فيه ما يحرم على المحرم في العمل بخصوصه وما يحرم على عامة الناس، وهذا أمر صعب، لا سيما في عصرنا هذا، فإنه لا يكاد يسلم الحج من
__________
(1) تقدم ص 22.
(2) أخرجه البخاري، كتاب العمرة، باب وجوب العمرة وفضلها (رقم 1773) ، ومسلم، كتاب الحج، باب في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة (رقم 1349) .
(3) سورة البقرة، الآية: 198.(21/41)
تقصير وتفريط، أو إفراط ومجاوزة، أو عمل سيىء، أو نقص في الإخلاص؛ وعلى هذا فلا ينبغي للإنسان أن يعتمد على الحج، ثم يذهب يفعل الكبائر، ويقول: الكبائر يكفرها الحج. بل عليه أن
يتوب إلى الله سبحانه وتعالى من فعل الكبائر. وأن يقلع عنها ولا يعود، ويكون الحج نافلة أي زيادة خير في الأعمال الصالحة.
ومن الكبائر ما يكون لبعض الناس اليوم، بل لكثير من الناس من الغيبة، وهي أن يذكر أخاه غائباً بما يكره، فإن الغيبة من كبائر الذنوب، كما نص على ذلك الإمام أحمد رحمه الله، وقد صورها
الله عز وجل بأبشع صورة، فقال تعالى: (وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ) (1) ومن المعلوم أن الإنسان لا يحب أن يأكل لحم أخيه لا حياً ولا ميتاً، وكراهته
لأكل لحمه ميتاً أشد، فكيف يرضى أن يأكل لحم أخيه بغيبته في حال غيبته، والغيبة من كبائر الذنوب مطلقاً، وتتضاعف إثماً وعقوبة كلما ترتب عليها سوءً أكثر، فغيبة القريب ليست كغيبة
البعيد؛ لأن غيبة القريب غيبة وقطع رحم، وغيبة الجار ليست كغيبة بعيد الدار؛ لأن غيبة الجار منافية لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره " (2) ووقوع في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن: من لا يأمن جاره بوائقه " (3) فإن غيبة الجار من البوائق، وغيبة العلماء ليست كغيبة عامة
__________
(1) سورة الحجرات، الآية: 12.
(2) أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره (رقم 6018) ومسلم، كتاب الإيمان، باب الحث على إكرام الجار والضيف (رقم 47) .
(3) أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب إثم من لا يأمن جاره بوائقه (رقم 6016) .(21/42)
الناس، لأن العلماء لهم من الفضل والتقدير والاحترام ما يليق بحالهم، ولأن غيبة العلماء تؤدي إلى احتقارهم وسقوطهم من أعين الناس، وبالتالي إلى احتقار ما يقولون من شريعة الله، وعدم اعتبارها، وحينئذ تضيع الشريعة بسبب غيبة العلماء، ويلجأ الناس إلى جهالٍ يفتون بغير علم، وكذلك غيبة الأمراء وولاة الأمور الذين جعل الله لهم الولاية على الخلق، فإن غيبتهم تتضاعف، لأن غيبتهم توجب احتقارهم عند الناس وسقوط هيبتهم، وإذا سقطت هيبة السلطان فسدت البلدان، وحلت
الفوضى والفتن، والشر والفساد، ولو كان هذا الذي يغتاب ولاة الأمور، يقصد الإصلاح، فإن ما يفسد أكثر مما يصلح، وما يترتب على غيبة ولاة الأمور أعظم من الذنب الذي ارتكبوه، لأنه
كلما هان شأن السلطان في قلوب الناس تمردوا عليه ولم يعبئوا بمخالفته ولا بمنابذته، وهذا بلا شك ليس إصلاحاً، بل هو إفساد وزعزعة للأمن ونشر للفوضى، والواجب مناصحة ولاة الأمور
من العلماء والأمراء على وجه تزول به المفسدة، وتحل به المصلحة، بأن يكون سرًّا وبأدب واحترام، لأن هذا أدعى للقبول وأقرب إلى الرجوع عن التمادي في الباطل، وربما يكون الحق فيما انتقده عليه منتقد، لأنه بالمناقشة يتبين الأمر، وكم من عالم أغتيب وذكر بما يكره، فإذا نوقش هذا العالم تبين أنه لم يقل ما نسب إليه، وأن ما نسب إليه كذب باطل، يقصد به التشويه والتشويش والحسد، وربما يكون ما نسب إليه حقاً، ولكن له وجهة نظر تخفى على كثير من الناس، فإذا نوقش وبين وجهة نظره(21/43)
ارتفع المحظور. أما كون الإنسان بمجرد ما يؤتى له عن ولي الأمر من أمير، أو عالم يذهب فيشيع السوء ويخفي الصالح، فهذا ليس من العدل وليس من العقل، وهو ظلم واضح، قال الله تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا) يعني لا يحملكم بغضهم على ترك العدل، (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)) (1) فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يجنبنا أسباب الشر والفساد وأن يؤلف بين قلوبنا، وأن يجعلنا من المحتابين فيه، المتعاونين على البر والتقوى، إنه على كل شيء قدير.
س 38: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى: كليف يكون الحج مبروراً؟ وكيف تكون العمرة صحيحة وهل لها طواف وداع؟
فأجاب فضيلته بقوله-: الحج المبرور هو ما جمع الإخلاص والمتابعة لرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأن يكون من كسب طيب، وأن يتجنب فيه الرفث والفسوق والجدال، وأن يحرص على العلم
بصفة حج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليطبقها.
وأما العمرة فإنها حج أصغر، فيها طواف وسعي وتقصير، ولها طواف وداع كالحج، إلا إذا سافر من حين انتهائها، مثل أن يطوف ويسعى ويقصر، ثم يمشي راجعاً إلى بلده، فهنا لا يحتاج إلى طواف وداع اكتفاءً بالطواف الأول، لأنه لم يفصل بينه وبين
__________
(1) سورة المائدة، الآية: 8.(21/44)
السفر إلا السعي والتقصير، وهما تابعان للطواف.
س 39: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى: إذا حج من لا يصلي ولا يصوم فما حكم حجه وهو على تلك الحال؟ وهل يقضي ما ترك من العبادات إذا تاب إلى الله عز وجل؟
فأجاب فضيلته بقوله-: ترك الصلاة كفر مخرج عن الملة، موجب للخلود في النار، كما دل على ذلك الكتاب، والسنة، وقول السلف- رحمهم الله- وعلى هذا فهذا الرجل الذي لا يصلي
لا يحل له أن يدخل مكة، لقوله تعالي: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا) (1) .
وحجه وهو لا يصلي غير مجزىء ولا مقبول، وذلك لأنه وقع من كافر، والكافر لا تصح منه العبادات، لقوله تعالى: (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ) (2) .
وأما بالنسبة لما ترك من الأعمال السابقة فلا يجب عليه قضاؤها، لقوله تعالى: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) (3) فعلى من وقع في ذلك أن يتوب إلى الله توبة نصوحاً، ويستمر في فعل الطاعات والتقرب إلى الله عز وجل بكئرة الأعمال الصالحة، ويكثر من الاستغفار والتوبة، وقد قال
__________
(1) سورة التوبة، الآية: 28.
(2) سورة التوبة، الآية: 54.
(3) سورة الأنفال، الآية: 38(21/45)
الله تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)) (1) . وهذه الآية نزلت في التائبين، فكل ذنب يتوب العبد منه ولو كان شركاً بالله عز وجل فإن الله يتوب عليه.
س 40: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى: أرى كثيراً من الناس يؤدون فريضة الحج ويصومون شهر رمضان مع أنهم لا يصلون، فما حكم ذلك؟ أفيدونا بارك الله فيكم؟
فأجاب فضيلته بقوله-: هذه المسألة مسألة عظيمة وخطيرة، يقع فيها بعض الناس، بأن يكونوا يصومون، ويحجون، ويعتمرون، ويتصدقون، ولكنهم لا يصلون: فهل أعمالهم الصالحة هذه مقبولة عند الله عز وجل أم مردودة؟ هذا ينبني على الخلاف في تكفير تارك الصلاة، فمن قال: إنه لا يكفر. قال: إن هذه الإعمال مقبولة. ومن قال: إنه يكفر. قال: إن هذه الأعمال غير مقبولة. ومرجع خلاف العلماء ونزاعهم إلى كتاب الله تعالى وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لقوله تعالى: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ) (2) وقوله: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) (3)
ونحن إذا رددنا نزاع العلماء في هذه المسألة إلى كتاب الله تعالى
__________
(1) سورة الزمر، الآية: 53.
(2) سورة الشورى، الآية: 10.
(3) سورة النساء، الآية: 59.(21/46)
وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وجدنا أن كتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - يدلان على أن تارك الصلاة كافر، وأن كفره أكبر مخرج عن الملة، فمن ذلك قوله تعالى في المشركين: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) (1) فإن هذه الجملة الشرطية تدل على أنه لا تتم الإخوة لهؤلاء إلا بهذه الأمور الثلاثة: التوبة من الشرك، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة. وإذا كانت هذه الجملة الشرطية فإن مفهومها أنه إذا تخلف واحد منها لم تثبت الأخوة الدينية بيننا وبينهم، ولا تنتفي الأخوة الدينية بين المؤمن وغيره إلا بانتفاء الدين كله، ولا تنتفي بالمعاصي وأن عظمت، لأن أعظم المعاصي قتل المؤمن، وقال الله تعالى فيه: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)) (2) فمع ذلك قال الله تعالى في آية القصاص: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ) (3) فجعل الله تعالى القتيل أخاً للقاتل، مع أن القاتل قتله وهو مؤمن، وقتل المؤمن من أعظم كبائر الذنوب بعد
الشرك، وهذا دليل على أن المعاصي وإن عظمت لا تنتفي بها الأخوة الدينية. أما الكفر فتنتفي به الأخوة الدينية، فإن قلت: هل تقول بكفر من منع الزكاة بخلاً؟ قلت: لولا الدليل لقلت به، بناء
__________
(1) سورة التوبة، الآية: 11.
(2) سورة النساء، الآية: 93.
(3) سورة البقرة، الآية: 178.(21/47)
على هذه الآية، ولكن هناك دليل رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- في مانع الزكاة حيثما ذكر عقابه، ثم قال بعد ذلك: "ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار" (1) وكونه يرى سبيله إلى الجنة دليل على أنه لم يخرج من الإيمان، وإلا ما كان له طريق إلى الجنة. وأما من السنة فمثل قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه جابر- رضي الله عنه- "بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة" (2) أخرجه مسلم في صحيحه، وقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما
رواه بريدة وأخرجه أهل السنن: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر" (3) هذا هو الكفر المخرج عن الملة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل بين إسلام هذا الرجل وكفره فاصلاً وهو ترك الصلاة، والحد الفاصل يمنع من دخول المحدودين بعضهما ببعض، فهو إذا خرج من هذا دخل في هذا، ولم يكن له حظ من الذي خرج منه، وهو دليل واضح على أن المراد بالكفر هنا الكفر المخرج عن الملة، وليس هذا مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: () اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت " (4) لأنه قال: (هما بهم كفر) أي أن هذين العملين من أعمال الكفر،
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الزكاة، باب إثم مانع الزكاة (رقم 987) .
(2) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان إطلاق اسم الكفر على ترك الصلاة (رقم 82) .
(3) أخرجه الإمام أحمد (5/346) والترمذي، كتاب الإيمان، باب ما جاء في ترك الصلاة (رقم 2621) وقال: حسن صحيح غريب. والحاكم (1/6) وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الجامع (رقم 4143) .
(4) تقدم ص 23.(21/48)
وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام في: "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر" (1) فجعل الكفر منكراً عائداً على القتال، أي أن القتال كفر بالأخوة الإيمانية ومن أعمال الكافرين، لأنهم هم الذين
يقتلون المؤمنين، وقد جاء في الآثار عن الصحابة- رضي الله عنهم- كفر تارك الصلاة. فقال عبد الله بن شقيق وهو من التابعين الثقاة: "كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة" ونقل إجماع الصحابة على أن تارك الصلاة كافر كفرًا مخرجًا عن الملة. إسحاق بن راهويه الإمام المشهور، والمعنى يقتضي ذلك فإن كل إنسان في قلبه إيمان يعلم ما للصلاة من أهمية، وما فيها من ثواب، وما في تركها من عقاب، من يعلم ذلك لا يمكن أن يدعها، خصوصاً إذا كان قد بلغه أن تركها كفر بمقتضى دلالة الكتاب والسنة، فإنه لا يمكن أن يدعها ليكون من الكافرين، وبهذا علمنا أن دلالة الكتاب والسنة، وآثار الصحابة، والاعتبار الصحيح كلها تدل على أن من ترك الصلاة فهو كافر كفرًا مخرجًا عن الملة. وقد تأملت ذلك كثيراً، ورجعت ما أمكن مراجعة من كتب في هذه المسألة، وبحثت مع من شاء الله ممن تكلمت معه في هذا الأمر، ويتبين لي أن القول الراجح أن تارك الصلاة كافر كفرًا مخرجّاً عن الملة. وتأملت الأدلة التي استدل بها من يرون أنه ليس بكافر، فرأيتها لا تخلو من أربع حالات: إما أن
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر (رقم 48) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: سباب المسلم فسوق وقتاله
كفر (رقم 64) .(21/49)
لا يكون فيها دليل أصلاً، وإما أن تكون مقيدة بوصف يمتنع معه ترك الصلاة، أو مقيدة بحال يعذر فيها من ترك الصلاة، لكون معالم الدين قد اندثرت، وإما لأنها عامة مخصصة بأحاديث أو بنصوص كفر تارك الصلاة، ومن المعلوم عند أهل العلم أن النصوص العامة تخصص بالنصوص الخاصة، ولا يخفى ذلك على طالب علم، وبناء على ذلك فإنني أوجه التحذير لإخواني المسلمين من التهاون بالصلاة وعدم القيام بما يجب فيها، وبناء على هذا القول الصحيح الراجح، وهو أن تارك الصلاة كافر كفرًا مخرجاً عن الملة، فإن ما يعمله تارك الصلاة من صدقة، وصيام، وحج لا يكون مقبولاً منه، لأن من شرط قبول الأعمال الصالحة أن يكون العامل مسلماً، وقد قال الله تعالى في كتابه الكريم: (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ) (1) فدل ذلك على أن الكفر مانع من قبول الصدقة، مع أن الصدقة عمل نافع متعدي النفع للغير، فالعمل القاصر من باب
أولى أن لا يكون مقبولاً، وحينئذ الطريق إلى قبول أعمالهم الصالحة أن يتوبوا إلى الله عز وجل مما حصل منهم من ترك الصلاة، وإذا تابوا لا يطالبون بقضاء ما تركوا بل يكثرون من
الأعمال الصالحة، ومن تاب تاب الله عليه، كما قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا
__________
(1) سورة التوبة: 54.(21/50)
فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)) (1) أسال الله أن يهدينا جميعا الصراط المستقيم، وأن يمن علينا بالتوبة النصوح التي يمحو بها ما قد سلف من ذنوبنا، إنه جواد كريم.
س 41: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى: سائل يقول: أنا متزوج من امرأة ولي منها أربع بنات، ولكنها لا تصلي علماً أنها تصوم رمضان، وحينما طلبت منها أن تصلي أفادت بأنها لا تعرف
الصلاة ولا تعرف القراءة، فكيف يكون موقفي معها؟ فأنا أنوي إحضارها لتأدية فريضة الحج فهل يصح ذلك أم لا؟ وماذا عليّ أن أفعله نحوها؟
فأجاب فضيلته بقوله-: ذكر السائل أن زوجته لا تصلي ولكنها تصوم، وأنه إذا أمرها بالصلاة تقول: إنها لا تعرف القراءة، فالواجب عليه حينئذ أن يعلمها القراءة إذا لم يقم أحد بتعليمها، ثم يعلمها كيف تصلي، وما دام عذرها الجهل فإن من كان عذره الجهل يزول بالتعلم، فليعلمها ليرشدها إلى ذلك، ثم إن أصرت على ترك الصلاة بعد العلم فإنها تكون كافرة- والعياذ بالله- وينفسخ نكاحها، ولا يحل لها أن تأتي إلى مكة، ولكن عليها أن تصلي، إن لم تحسن القراءة فإنها تذكر الله وتسبحه وتكبره، ثم تستمر في صلاتها، ويكون هذا الذكر بدلاً عن القراءة حتى تتعلم ما يجب منها. وما مضى من أيام ليس عليها قضاء في
__________
(1) سورة الفرقان، الآيات: 68- 71.(21/51)
ذلك، ولكن يجب على زوجها أن يبادر بإصلاح حالها.
س 42: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى: ما حكم حج من لا يصلي؟ وما حكم إدخاله الحرم؟
فأجاب فضيلته بقوله-: الكافر لا يصح حجه، ولا يجوز أن يدخل حدود الحرم، لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا) (1) فهذا الذي لا يصلي لا يحل له أن يدخل حدود الحرم.
فإذا كان معه رفقة يعرفون أنه لا يصلي، فالواجب عليهم إذا أقبل على حدود الحرم أن ينزلوه، فإن أبى كلموا السلطات عنه لأنه كافر، والكافر لا يجوز أن يدخل مكة وحرمها، ولا يصح إحرامه بالحج، ولا حجه، ولا صيامه، حتى يعود إلى الإسلام ويصلي.
س 43: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى: عن امرأة كانت لا تصلي لمدة أربعين سنة والآن تريد أن تصلي وتحج فهل يشترط أن تشهد الشهادتين، لأن تارك الصلاة قد كفر؟
فأجاب فضيلته بقوله-: صلاتها توبة، فإذا صلت فقد تابت وصارت مسلمة، فنسأل الله تعالى أن يثبتها على ما تريد وأن يعينها على ذلك، وهي إذا تابت إلى الله وأنابت إليه وقامت بالصلاة
والزكاة والصيام والحج كفّر الله عنها، لقول الله تبارك وتعالى:
__________
(1) سورة التوبة، الآية: 28.(21/52)
(وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)) (1) وقال
جل وعلا: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)) (2) وأبشرها إذا صدقت في توبتها مع الله أنها على خير، فقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الرجل يعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها (3) .
س 44: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى: عن طفل بلغ منذ سبعة أعوام ولم يصل صلاة واحدة إلى الآن وهو يريد الحج فهل على الناس منعه من الحج لكونه كافراً أو أنه لا يمنع؟
فأجاب فضيلته بقوله-: الواجب على هذا الذي بلغ منذ سبعة أعوام أن يصلي، والواجب على وليه أن يأمره بالصلاة، ولا أعتقد أن طفلاً بهذا السن يمتنع عن الصلاة، الذي يخشى عليه الامتناع عن الصلاة الكبير. أما هذا بمجرد ما يقول له أبوه: صل، ويلزمه بها فيصلي، وعلى هذا فسنلزمه بأن يصلي، ولا أظن أن
__________
(1) سورة الفرقان، الآيات: 68- 70.
(2) سورة الزمر، الآية: 53.
(3) أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب خلق آدم وذريته (رقم 3332) ، ومسلم، كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه (رقم 2643) .(21/53)
من له سبعة أعوام بالغ، وربما يكون بلغ قبل خمس عشرة سنة لا أظن أنه يمتنع عن أبيه.
س 45: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى: امرأة نذرت إن رزقها الله بمولود أن تحج ورزقها الله به فهل عليها الحج للنذر، علماً بأنها لم تحج الفرض؟
فأجاب فضيلته بقول-: يجب أن يعلم أن النذر منهي عنه، نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: "إنه لا يأتي بخير ولا يرد القضاء" (1) ولهذا ذهب بعض العلماء إلى أن النذر حرام. فلماذا تنذر؟ ولماذا تكلف نفسك؟ وهل الله عز وجل لا يمن عليك بالشفاء أو على قريبك بالشفاء إلا إذا اشترط له شرطاً؟ سبحان الله لا تنذر بل اسأل الله الشفاء والعافية، فإن كان الله أراد أن يشفي شفى سواء نذرت أم لم تنذر، فإذا فعلت ونذرت فإن كان نذر طاعة وجب عليك الوفاء به، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من نذر أن يطيع الله فليطعه " (2) وبناء على هذا نقول لهذه المرأة المذكورة: يجب أن تحج. لكن تبدأ بحج الفريضة، ثم تأتي بحج النذر وجوبًا فإن لم تفعل فقد عرضت نفسها لعقوبة عظيمة، ذكرها الله في قوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76)) (3) عاهدوا الله إن الله
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب النذر، باب النهي عن النذر (رقم 1639) (4، 6) .
(2) تقدم ص 24.
(3) سورة التوبة، الآيتان: 75-76.(21/54)
أغناهم أن يتصدقوا، وأن يكونوا من الصالحين أعطاهم الله ذلك، ولكنهم بخلوا بالمال وأعرضوا عن الصلاح (فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ) "إلى متى" (إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ) "إلى الموت " (بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77)) . والخلاصة احذروا النذر، لا تنذروا فأنتم في عافية، ولا تلزموا أنفسكم ما لم يلزمكم الله به إلا بفعلكم فمن كان عنده مريض فليقل: اللهم اشفه. ومن
كان يريد الاختبار فليقل: اللهم نجحني، لأن بعض الطلبة إذا كانت الدروس صعبة وخاف من السقوط يقول: لله عليَّ نذر إن نجحت لأفعل كذا وكذا. من الطاعات، ثم إذا نجح أخذ يسأل
ويجيء للعالم الفلاني يقول: خلصوني خلصوني، ولكن لا مفر لابد من الوفاء بالنذر.
س 46: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى: عن امرأة كبيرة السن وعندها أخت أكبر منها، وهذه المرأة تقوم بالعناية بأختها الكبيرة، حيث تغسلها وتلبسها وتطعمها وتسقيها، وهذه الأخت ما
فرضت الحج إلى الآن، فهل يجوز لها أن تحج مع العلم أنه لا يوجد أحد يقوم بالعناية بأختها؟
فأجاب فضيلته بقوله-: إذا كان الأخت الكبيرة في ضرورة فليس عليها حج، وأما إذا كانت مجرد أنها أحسن رعاية، ويمكن أن يقوم أحد بالواجب، فإنه إذا استطاعت السبيل بأن وجدت
النفقة، والمحرم فيجب عليها أن تحج.
__________
(1) سورة التوبة، الآية: 77.(21/55)
س 47: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى: عن رجل عنده عمال يريدون أن يؤدوا فريضة الحج فهل يسمح لهم مع العلم أنهم لا يشهدون صلاة الفجر؟
فأجاب فضيلته بقوله-: أقول: إذا أذنت لهم في الحج فجزاك الله خيراً، وأبشر بالخلف العاجل، وأن ما تفقده من الأعمال في زمان حجهم سيعوضك الله تعالى خيراً منه، وأما كونهم لا يصلون صلاة الفجر فانصحهم وهددهم بأنهم إذا لم يحافظوا على الصلوات ترجعهم إلى بلادهم، وهو حق أن ترجع من لا يقيم الصلاة إلى بلده، فلا خير في إنسان لا يصلي، وأما الإذن لهم بالحج فهذا معروف منك، ونرجو الله لك الإثابة.
س 48: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى: بعض الكفلاء يمنعون مكفوليهم من السفر لأداء فريضة الحج فهل يأثمون بذلك وما توجيهكم لهؤلاء الكفلاء؟
فأجاب فضيلته بقوله-: بالنسبة للكفلاء الذين يمنعون مكفوليهم من حج الفريضة إن كان مشروطًا عليهم في العقد أن يمكنوا العامل من الفريضة وجب عليهم أن يأذنوا له، وإن لم يكن مشروطاً فلهم الحق في هذا، لأن الأجير لا يملك أن يذهب عن من استأجره ليؤدي الحج، أو غيره، ثم نقول لهذا الرجل المكفول: إنه ليس عليك حج في هذه الحال، لأنك لا تستطيع.
ولكن أنصح إخواننا الكفلاء أن يحسنوا إلى هؤلاء المكفولين بأن يمكنوهم من الحج، وربما يكون هذا سبباً في بركة(21/56)
إنتاجهم، لأن هؤلاء العمال ربما لا يحصل لهم المجيء إلى هذه البلاد مرة أخرى، فنصيحتي أن يحسن هؤلاء الكفلاء إلى مكفوليهم، ثم أبشرهم أنهم إذا أعانوا هؤلاء على الحج صار لهمِ مثل ما لهم من الحج في الأجر، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - "من جهز غازياً فقد غزى" (1) وكذلك من جهز حاجاً فإن له مثل أجره.
س 49: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى: ما حكم من أدى العمرة فقط ولم يؤد فريضة الحج؟ وما صحة ما اشتهر عند بعض الناس من أن من أتى بالعمرة قبل الحج فإنه لا عمرة له؟
فأجاب فضيلته بقوله: حكمه أن أداءه للعمرة واقع موقعه، وقد برئت ذمته من العمرة إذا أدى الواجب عليه فيها، ولكن بقيت عليه فريضة الحج التي هي فرض بالنص والإجماع، فعليه إذا
أدرك وقت الحج أن يحج البيت إذا كان مستطيعاً، قال الله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) (2) .
وأما ظن بعض الناس أن من أتى بالعمرة قبل الحج فإنه لا عمرة له. فهذا لا أصل له، بل إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اعتمر بعد هجرته قبل أن يحج.
__________
(1) تقدم ص 33.
(2) سورة آل عمران، الآية: 97.(21/57)
س 50: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى: إذا خرجت المرأة حاجة وبعد وصولها إلى جدة سمعت بوفاة زوجها فهل لها أن تتم الحج أو أن تجلس للحداد؟
فأجاب فضيلته بقوله-: تتم الحج، لأنها إن رجعت سترجع بسفر، وإن بقيت بقيت بسفر مستمر، فتتم الحج لا سيما إذا كان فريضة، ثم ترجع، وحتى لو كان نافلة فإنها تتمه.
س 51: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: عن رجل من أهل مكة نوى الحج مفرداً، فهل يلزمه أن يعتمر عمرة الإسلام؟
فأجاب فضيلته بقوله-: أهل مكة يجب عليهم الحج، والسائل ذكر أنه أحرم بالحج مفرداً، وعلى هذا فإذا أداه فقد أسقط الواجب عنه، وأما العمرة فإنه يمكنه أن يؤديها في وقت آخر غير موسم الحج، فيخرج إلى التنعيم أو إلى غيره من الحل فيحرم من هناك- أي من الحل- ثم يدخل إلى مكة ويطوف ويسعى ويحلق أو يقصر، وبذلك تمت عمرته.
س 52: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل موظف إذا أتى موسم الحج ذهب إلى مكة لعمل مكلف به في موسم الحج، ولم يؤد فريضة الحج بعد وهو مستطيع، فهل عليه شيء؟
فأجاب فضيلته بقوله-: إذا كان لا يستطيع أن يحج بناءً على وظيفته فإنه لا شيء عليه، لأنه لم يستطع إليه سبيلا، لكن أنا أسمع كثيراً ما يذهب الإخوان من أفراد الجنود أو غيرهم إلى مكة(21/58)
مندوبين، وإذا دخل وقت الحج أذنوا لهم بالحج، فإذا أذنوا لك فحج ولا شيء عليك. أما إذا لم يأذنوا فأنت غير مستطيع ولا حج عليك (1) .
س 53: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: شخص يعمل في الأمن العام وحاول الحصول على إجازة لأداء فريضة الحج، فلم يسمح له مرجعه بذلك، فتغيب عن العمل وذهب لأداء الفريضة
بدون إذن من مرجعه. وحيث إنه لم يسبق له أن حج فهل حجه صحيح أم لا؟ وهل عليه ذنب، علماً بأن مدة التغيب هذه لم يستلم مقابلها راتب..؟ أفيدونا جزاكم الله خيراً.
فأجاب فضيلته بقوله-: هذا السؤال جوابه من شقين: الأول: كون هذا الرجل يذهب إلى الحج مع منع مرجعه من ذلك أمر لا يحل ولا يجوز، لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (2) وطاعة ولاة الأمور في غير معصية الله تعالى أمر واجب، أوجبه الله على عباده في هذه الآية الكريمة، وذلك لأن مخالفة ولاة الأمور يترتب عليها فساد وشر
وفوضى، لأنه لو وكل كل إنسان إلى رأيه لم يكن هناك فائدة في الحكم والسلطة.
وولاة الأمور عليهم أن يرتبوا الحج بين الجنود، حتى يهيئوا لمن لم يؤدّ الفريضة أن يؤديها بالطرق التي يرون أنها
__________
(1) انظر الفتاوى التالية.
(2) سورة النساء، الآية: 59.(21/59)
كفيلة، مع تمكين هؤلاء الأفراد من أداء فريضة الحج، وهم فاعلون إن شاء الله تعالى.
أما الشق الثاني: فهو إبراء ذمتك بهذا الحج، فإنها قد برئت وقد أديت الفريضة، ولكنك عاص لله تعالى بمخالفة أوامر رئيسك، فعليك أن تتوب إلى الله تعالى، وأن لا تعود لمثلها، وليس لك الحق في أن تأخذ الراتب المقابل للأيام التي تغيبتها عن العمل، والله الموفق.
س54: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: موظف يعمل في تنظيم الحج ولم يحج حيث لم يسمح له بذلك: فهل يحج بدون إذن من مرجعه؟
فأجاب فضيلته بقوله-: لا يجوز الحج إلا بإذن مرجعك فإن الإنسان الموظف ملتزم بأداء وظيفته حسبما يوجه إليه، وقد قال الله تعالى: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34)) (1) وقال
تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (2) فالعقد الذي جرى بين الموظف وموظفه عهد يجب الوفاء به حسبما يقتضي العقد. أما أن يتغيب الموظف ويؤدي الفريضة وهو مطالب بالعمل ليس عنده إجازة، فإن هذا محرم.
__________
(1) سورة الإسراء، الآية: 34.
(2) سورة المائدة، الآية: 1.(21/60)
س 55: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: عن رجل يقول: أنا أعمل بقوة الحج والمواسم في مكة المكرمة ولا يسمح لنا في عملنا بإجازة لأداء فريضة الحج، فهل يحق لي أن أغيب بدون إذن
وأؤدي فريضة الحج مع العلم بأني لم أحج حجة الفريضة، وقد سألت بعض العلماء فقالوا لي: إنه لا يجوز لي الحج بدون إذن من مرجعي، فهل هذا صحيح أم لا؟
فأجاب فضيلته بقوله-: نعم هذا صحيح، فيمن كان موظفًا ملتزمًا بأداء وظيفته حسبما يوجه إليه، وقد قال الله تعالى: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34)) وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) فالعقد الذي جرى بينك وبين الدولة عهد يجب أن توفي به على حسب ما يوجهونك به، ولكني أرجو أن يكون للمسئولين في هذه الأمور نظر، بحيث يوزعون هؤلاء الجنود: جنود المرور، وجنود الأمن، وجنود المطافىء، وغيرهم ينظمونهم بحيث يتمكنون من الحج، وأما أن تختفي
وتؤدي الفريضة وأنت مطالب بالعمل وليس عندك إجازة، فإن هذا محرم عليك.
س 56: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل يقول: زوجتي لم تؤد فريضة الحج إلى الآن، ولدينا طفل عمره أربعة أشهر، وهو يرضع من أمه، فهل تحج أم تبقى عند طفلها؟ أفيدونا
وفقكم الله؟
فأجاب فضيلته بقوله-: إذا كان الطفل لا يتأثر ولا يتضرر(21/61)
في سفرها عنه بأن يكون يرضع من اللبن غير لبن أمه، وعنده من يحضنه حضانة تامة، فلا حرج عليها أن تحج، خصوصاً إذا كانت فريضة. أما إذا كان يخشى على الطفل فإنه لا يحل لها أن تحج،
ولو كانت الحجة فريضة، لأن المرضع يباح لها أن تدع صيام الفرض إذا خافت على ولدها، فكيف لا تدع المبادرة بالحج إذا خافت على الولد، فإذا خافت على الولد فإن الواجب أن تبقى، وإذا كبر في العام القادم حجت، ولا حرج عليها إذا بقيت وتركت الحج، لأن الحج في هذه الحال لا يجب عليها على الفور.
س 57: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: يقول السائل: فضيلة الشيخ لم أحضر إلى هذه البلاد إلا من أجل الحج، وأخشى أن لا يوافق من أقوم بالعمل عنده بأدائي لهذه الفريضة، وأنا الآن
في السعودية وعلى بعد مسافة قليلة من مناسك الحج، وأتمنى أن يهدي الله كفيلي وأن يوافق على حجي، ولكن إذا لم يوافق على الحج فهل أكون بنيتي قد أديت الفريضة أم لا، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرىء ما نوى" (1) وهل هذا يعتبر من الاستطاعة أرجو التوضيح، وحث أخواننا الكفلاء على تمكين من عندهم من حج بيت الله الحرام؟
فأجاب فضيلته بقوله-: نحن نتمنى لكل إخواننا الكفلاء أن يهديهم الله عز وجل وأن يرخصوا لإخوانهم الذين يعملون عندهم بأداء فريضة الحج، لأن هذا من باب التعاون على البر
__________
(1) تقدم ص 20.(21/62)
والتقوى، وقد أمر الله بذلك، فقال تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)) (1) ولأن هذا قد يكون سبباً للبركة في أعمالهم
وأرزاقهم، لأن هذه الأيام العشرة إذا تعطل العمل عنده فإن الله قد ينزل له البركة فيما بقي من العمل، ويحصل على خير كثير، فإن تيسر هذا فهو المطلوب، وهو الذي نرجوه من إخواننا الكفلاء،
وإن لم يتيسر فإن هذا العامل لا يعتبر مستطيعاً، فيسقط عنه الحج، لأن الله تعالى قال: (مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) (2) وهذا لم يستطع.
وأما قول السائل: هل يكون كالذي حج؟ فالجواب: لا.
لكنه يسقط عنه الحج حتى يستطيع، وهو لو مات قبل أن يتمكن من الحج فإنه يموت غير عاص لله، لأنه لا يجب الحج إلا بالاستطاعة.
س 58: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: فضيلة الشيخ من المعلوم أن الامتحانات بعد الحج مباشرة فسبّب ذلك إحجام كثير من الشباب والفتيات عن الفريضة المفروضة عليهم مع استطاعتهم
لها وقدرتهم عليها، فهل يأثمون بذلك؟ وهل الحج واجب على الفور؟ وهل الامتحان سببٌ شرعي يبيح لهم تأخير الفريضة؟
__________
(1) سورة المائدة، الآية: 2.
(2) سورة آل عمران، الآية: 97.(21/63)
فأجاب فضيلته بقوله-: القول الراجح من أقوال أهل العلم: أن الحج واجب على الفور، وأنه لا يجوز للإنسان أن يؤخره إلا بعذر شرعي، ودليل ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما تأخر
الصحابة- رضي الله عنهم- عن التحلل في غزوة الحديبية غضب. ودليل آخر أن الإنسان لا يدري ما يعرض له فقد يؤخر الحج هذه السنة ثم يموت ويبقى معلقاً، ولكن إذا كان حجه يؤثر عليه في الامتحان فله أن يؤخره إلى السنة القادمة، ولكني أشير عليه أن يأخذ دروسه معه ويحج، هذا إن كان يسافر إلى الحج مبكراً، أما إذا كان يتأخر بالحج فإني لا أظنه يضره، ومعلوم أن بإمكان الإنسان أن تكون أيام الحج التي يستغرقها أربعة أيام، يذهب يوم عرفة تاسع، والعاشر، والحادي عشر، والثاني عشر، ويكون متعجلاً فإذا رمى في اليوم الثاني عشر بعد الزوال يخرج ويطوف الوداع ويمشي لأهله، وأربعة أيام لا أظن أنها تضره شيئاً، فالإنسان الحريص يمكنه أن يحج، ولا يؤثر ذلك عليه شيئاً، كما أن الإنسان إذا اعتمد على الله وتوكل عليه، وأتى بالحج واثقاً بالله عز وجل فإن الله سييسر له الأمر.
س 59: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: يقول: أنا عمري ثلاثون سنة هل يجوز لي أن أؤخر الحج إلى السنة القادمة، وأنا مستطيع الحج الآن؟
فأجاب فضيلته بقوله-: لا يجوز، فمن وجب عليه الحج(21/64)
وجبت عليه المبادرة، لأن الإنسان لا يدري ما يعرض له، ربما يفقد هذا المال، وربما يمرض في المستقبل، ربما يموت، فمن وجما عليه الحج وجبت عليه المبادرة، ولا يحل له أن يؤخره.
س 60: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: شاب يقول أنا أريد الحج ووالدتي ترفض ذلك بحجة الخوف عليَّ؟
فأجاب فضيلته بقوله-: إذا كنت قادرًا بمالك فحج ولو أنها منعتك، إلا أن تعرف أن أمك من النساء الرقيقات اللاتي لو ذهبت لم تنم الليل ولم تهنأ بعيش فهنا أجلس ولا تحج وأنو أنك جالس
من أجلها، وأنك في العام القادم تحج. أما إذا كانت تقول: لا تحج وأنت تعرف أنك لو عزمت وحججت فإنها لن تبالي فحج.
س 61: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: عن رجل بذل المال لفقراء حتى يحجوا فهل يلزمهم الحج؟
فأجاب فضيلته بقوله-: إذا كان هؤلاء الفقراء ليس عندهم مال فلا حج عليهم، حتى لو قال. خذوا من المال ما شئتم وحجوا فلا يلزمهم، لأنه لا يجب عليهم الحج حتى يدركوا بأنفسهم. هل
يجب على الفقير الذي ليس عنه مال أن يزكي؟ لا يجب؟ فهذا مثله بالضبط، ولا فرق. ولهذا ذكر العلماء ضابطاً، فقالوا: إن الرجل لا يكون مستطيعاً ببذل غيره له.(21/65)
س 62: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: سائلة تقول: أريد أداء فريضة الحج لأول مرة وأنا متزوجة ولي أولاد صغار، أصغرهم تبلغ من العمر خمسة أشهر، وأقوم برضاعة طبيعية، ولكن باستطاعتها أن تتناول وجبة أخرى بجانب الحليب، وقد منعني زوجي من الحج بحجة الرضاعة الطبيعية، وأنا لا أريد اصطحابها معي خوفاً عليها من الأمراض وتغير الجو.
وأيضاً لأنها سوف تشغلني في وقتي، مع العلم أن موافقة زوجي متوقفة على إفتاء فضيلتكم، فهل هذا من الأمور التي تسمح لي بترك الحج هذا العام؟
فأجاب فضيلته بقوله-: لا حرج على هذه المرأة التي هذه حالها أن تؤخر الحج إلى سنة قادمة: أولاً لأن كثيراً من العلماء يقولون: إن الحج ليس واجباً على الفور، وإنه يجوز للإنسان أن يؤخر مع قدرته، وثانياً أن هذه محتاجة للبقاء من أجل رعاية أولادها، ورعاية أولادها من الخير العظيم، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "المرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها" (1) فأقول: تنتظر إلى العام القادم، ونسأل الله أن ييسر لها أمرها، ويقدر لها ما فيه الخير.
س 63: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يجب استئذان الوالدين في الذهاب إلى الحج، سواءً كان فرضاً أم تطوعاً؟
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الجمعة، باب الجمعة في القرى والمدن (رقم 893) ، ومسلم، كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل (رقم 1829) .(21/66)
فأجاب فضيلته بقوله-: أما إذا كان فرضاً فإنه لا يشترط رضاهما ولا إذنهما، بل لو منعاه من الحج وهو فرض وجب عليه أن يحج ولا يطيعهما، لموِل الله: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) (1) ، ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق " (2) ، أما إذا كان نفلاً فلينظر إلى المصلحة: إن كان أبوه وأمه لا يستطيعان الصبر عنه، ولا أن يغيب عنهما فبقاؤه عندهما أولى، لأن رجلاً استأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجهاد، فقال له: "أحي والداك؟ " قال: نعم. قال: "ففيهما فجاهد" (3) ففي الفريضة لا يطاعان، والنافلة ينظر ما هو الأصلح.
س64: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: بعض الناس له أكثر من خمسين سنة وعنده أملاك ومزارع وأراضي وبيوت وعليه دين، وهو لم يؤد فريضة الحج، فإذا نصح بالحج تعذر بالدين مع
قدرته على سداد دينه ببيع بعض أملاكه، فهل له أن يوثق دينه بالرهن ثم يحج أم أن ذلك الدين عذر له؟
فأجاب فضيلته بقوله-: أرى أنه يبيع من هذه الأملاك التي لا يحتاجها ويقضي دينه ويحج، لأن الرجل غني، والغنى ليس هو
__________
(1) سورة لقمان، الآية: 15.
(2) أخرجه الإمام أحمد (1/131) ، والحاكم (2/314) ، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (7520) .
(3) أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب الجهاد بإذن الأبوين (رقم 3004) ، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب بر الوالدين وأنهما أحق به (رقم 2549) .(21/67)
كثرة النقود، الغنى كثرة الأموال التي تزيد على حاجة الإنسان، وإذا كان عنده عقارات كثيرة يمكن أن يبيع واحدًا من عشرة منها ويحج، وجب عليه أن يبيع ويحج، هذا الواجب عليه، ولا يدري
هذا الرجل ربما يصبح ولا يمسي، أو يمسي ولا يصبح، فتبقى هذه الأملاك لغيره يتنعمون بها، وعليهِ وبالها.
س 65: سئل فضيلة الشيخ. - رحمه الله تعالى-: امرأة توفي عنها زوجها وأدركها حج الفريضة، وهي في الحداد وهي مستطيعة وقادرة وعندها محرم هل تحج أو لا؟
فأجاب فضيلته بقوله-: لا تحج، بل تبقى في بيتها، وفي هذه الحال لا يجب عليها الحج، لقول الله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) (1) وهذه المرأة لا تستطيع شرعاً،
وإن كان معها محرم وتؤجل إلى السنة الثانية، أو الثالثة حسب استطاعتها.
س 66: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: امرأة من خارج هذه البلاد توفي زوجها وهم في السعودية وهي الآن محادة على زوجها وتريد الحج هذا العام فهل تحج وهي في العدة علماً أنها
بعد انتهاء العدة سوف تعود إلى بلادها ويصعب عليها الرجوع إلى السعودية مرة أخرى فماذا تعمل؟ نرجو إرشادها جزاكم الله خيراً.
فأجاب فضيلته بقوله-: هذه المرأة إذا لم تنتهي عدتها قبل
__________
(1) سورة آل عمران، الآية: 97.(21/68)
الحج، فإن الحج ليس واجباً عليها، لقول الله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) والمرأة المحادة يلزمها البقاء في المسكن الذي مات زوجها وهي ساكنة فيه، لكن هذه
المرأة إذا كانت لا تستطيع البقاء في بيتها فلها أن تسافر إلى بلدها، لأنها إما في البلد الذي مات زوجها وهي فيها، وإما في بلدها الأصلى إذا كان يشق عليها البقاء. وأما الحج فليس واجباً
عليها في هذه الحال، لأنها لا يمكن أن تحج إلا بمحرم وليس لها محرم.
س 67: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يجوز للمرأة أن تؤدي فريضة الحج وهي في العدة بعد زوجها للوفاة أو الطلاق؟
فأجاب فضيلته بقوله-: أما بالنسبة للمتوفى عنها فإنه لا
يجوز لها أن تخرج من بيتها وتسافر للحج حتى تقضي العدة، لأنها في هذه الحال غير مستطيعة، إذ إنه يجب عليها أن تتربص في البيت، لقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) (1) فلا بد أن تنتظر في بيتها حتى تنتهي العدة.
وأما المعتدة من غير الوفاة فإن الرجعية حكمها حكم الزوجة، فلا تسافر إلا بإذن زوجها، ولكن لا حرج عليه إذا رأى من المصلحة أن يأذن لها في الحج وتحج مع محرم لها.
وأما المبانة فإن المشروع أن تبقى في بيتها أيضاً، ولكن لها
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 234.(21/69)
أن تحج إذا وافق الزوج على ذلك، لأن له الحق في هذه العدة، فإذا أذن لها أن تحج فلا حرج عليه، فالحاصل أن المتوفى عنها يجب أن تبقى في البيت ولا تخرج. وأما المطلقة الرجعية فهي في
حكم الزوجات فأمرها إلى زوجها. وأما المبانة فإنها لها حرية أكثر من الرجعية، ولكن مع ذلك لزوجها أن يمنعها صيانة لعدته.
س 68: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: كثيراً ما نلاحظ بعضاً من المسلمين وخاصة من الشباب من يتساهلون في أداء فريضة الحج ويسوّف في ذلك، وأحياناً يتعذر بمشاغل فما حكم
ذلك؟ وبماذا تنصحون هذا؟
وأحياناً نلاحظ بعضاً من الآباء يمنعون أبناءهم من أداء فريضة الحج بحجة الخوف عليهم، أو أنهم صغار، مع أن شروط الحج متوفرة فيهم فما حكم فعل الآباء هذا؟ وما حكم طاعة الأبناء
لآبائهم في ذلك؟ جزاكم الله خيرا ووفقكم لما فيه خير الدنيا والآخرة.
فأجاب فضيلته بقوله-: من المعلوم أن الحج أحد أركان الإسلام ومبانيه العظام، وأنه لا يتم إسلام الشخص حتى يحج إذا تمت في حقه شروط الوجوب.
ولا يحل لمن تمت شروط الوجوب في حقه أن يؤخر الحج، لأن أوامر الله تعالى ورسوله على الفور، ولأن الإنسان لا يدري ما يعرض له، فربما يفتقر، أو يمرض، أو يموت.
ولا يحل للآباء والأمهات أن يمنعوا أبناءهم من الحج إذا(21/70)
تمت شروط الوجب في حقهم، وكانوا مع رفقة مؤتمنين في دينهم وأخلاقهم، ولا يجوز للأبناء أن يطيعوا آباءهم، أو أمهاتهم في ترك الحج مع وجوبه، لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق،
اللهم إلا أن يذكر الآباء والأمهات مبرراً شرعياً لمنعهم، فحينئذ يلزم الأبناء تأخير الحج إلى أن يزول هذا المبرر للتأخير.
أسأل الله تعالى أن يوفق الجميع لما فيه الخير والصلاح.
س 69: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: عن الرجل في التاسعة والعشرين لم يتزوج بعد وينوي الزواج عن قريب إن شاء الله ولكن لم يود فريضة الحج فهل فريضة الحج مقدمة على
الزواج، لأن المبلغ الذي بحوزته لا يمكنه من الحج والزواج معاً في الوقت الحاضر.
فأجاب فضيلته بقوله-: إذا كان الإنسان محتاجًا إلى الزواج ويشق عليه تركه فإنه يقدم على الحج، لأن النكاح في هذه الحال يكون من الضروريات، وقد قال الله عز وجل: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) (1) والإنسان الذي يكون محتاجاً إلى الزواج، ويشق عليه تركه، وليس عنده من النفقة إلا ما يكفي للزواج أو الحج، ليس مستطيعاً إلى البيت سبيلا، فيكون
الحج غير واجب عليه، فيقدم النكاح أي الزواج على الحج، وهذا من تيسير الله سبحانه وتعالى على عباده، أنه لا يكلفهم من العبادة ما يشق عليهم، حتى وإن كان من أركان الإسلام كالحج،
__________
(1) سورة آل عمران، الآية: 97.(21/71)
ولهذا إذا عجز الإنسان عن الصوم عجزاً مستمراً كالمريض الذي لا يرجى برؤه، والكبير، فإنه يطعم عن كل يوم مسكيناً. وفي الصلاة فيصلي قائماً، فإن لم يستطع فقاعداً، فإن لم يستطع فعلى
جنب، فإن تمكن من الحركة أومأ بالركوع والسجود وإن لم يتمكن صلى بقلبه.
س 70: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل يريد أن يحج ولم يتزوج فأيهما يقدم؟
فأجاب فضيلته بقوله-: يقدم النكاح إذا كان يخشى المشقة في تأخيره، مثل أن يكون شاباً شديد الشهوة، ويخشى على نفسه المشقة فيما لو تأخر زواجه، فهنا نقدم النكاح على الحج، أما إذا
كان عادياً ولا يشق عليه الصبر فإنه يقدم الحج، هذا إذا كان حج فريضة، أما إذا كان حج تطوع فإنه يقدم النكاح بكل حال، ما دام عنده شهوة وإن كان لا يشق عليه تأجيله، وذلك لأن النكاح مع الشهوة أفضل من نوافل العبادة، كما صرح بذلك أهل العلم.
س 71: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: عن شاب له من العمر اثنتان وعشرون سنة، ويقول: هل يجوز أن أحج بيت الله قبل الزواج وليس عندي رغبة في الزواج، ومن الناس من يقول: هذا لا يجوز وليس حجاً مقبولا؟
فأجاب فضيلته بقوله-: ليس من شرط صحة الحج أن يتزوج المرء، بل يصح الحج وإن لم يتزوج، ولكن إذا كان(21/72)
الإنسان محتاجاً إلى الزواج، ويلحقه بتركه المشقة، وعنده دراهم إن حج بها لا يتمكن من الزواج، وإن تزوج لم يتمكن من الحج، فإن في هذه الحال يقدم الزواج، لأن الزواج في حقه حينئذ صار
من ضروريات حياته، والحج إنما يجب على من استطاع إليه سبيلا.
وما سمعه من العامة من أن الإنسان لا يحج حتى يتزوج فليس بصحيح.
س 72: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يجوز تأجيل الحج إلى ما بعد الزواج للمستطيع، وذلك لما يقابل الشباب في هذا الزمن من المغريات والفتن، صغيرة كانت أم كبيرة؟
فأجاب فضيلته بقوله-: لا شك أن الزواج مع الشهوة والإلحاح أولى من الحج، لأن الإنسان إذا كانت لديه شهوة ملحّة فإن تزوجه حينئذ من ضروريات حياته، فهو مثل الأكل والشرب، ولهذا يجوز لمن احتاج إلى الزواج، وليس عنده مال أن يدفع إليه من الزكاة ما يزوج به، كما يعطى الفقير ما يقتات به وما يلبسه ويستر به عورته من الزكاة.
وعلى هذا نقول: إنه إذا كان محتاجاً إلى النكاح فإنه يقدم النكاح على الحج، لأن الله سبحانه تعالى اشترط في وجوب الحج الاستطاعة فقال: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) (1) أما من كان شاباً ولا يهمه أن يتزوج هذا العام، أو الذي
__________
(1) سورة آل عمران، الآية: 97.(21/73)
بعده فإنه يقدم الحج، لأنه حينئذ ليس في ضرورة إلى تقديم النكاح. والله الموفق.
س 73: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يجوز للفتى الشاب أن يحج إلى بيت الله الحرام قبل الزواج أم لابد من زواجه ثم بعد ذلك الحج، وما هي الشروط الواجبة عليه وفقكم الله؟
فأجاب فضيلته بقوله-: يجوز للشاب أن يحج قبل أن يتزوج ولا حرج عليه في ذلك، ولكن إذا كان محتاجاً إلى الزواج ويخاف العنت والمشقة في تركه فإنه يقدمه على الحج، لأن الله تبارك وتعالى اشترط في وجوب الحج أن يكون الإنسان مستطيعاً، وكفاية الإنسان نفسه بالزواج من الأمور الضرورية، فإذا كان الرجل أو الشاب لا يهمه إذا حج وأخر الزواج فإنه يحج ويتزوج بعد، وأما إذا كان يشق عليه تأخير الزواج فإنه يقدم الزواج على الحج.
س74: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه " (1) ولقد
هاجرت إلى المملكة العربية السعودية طلباً للرزق وأكملت مدة سنة فهل يصح لي أن أحج، أو أنا من الذين ينطبق عليهم هذا
__________
(1) تقدم ص 25.(21/74)
الحديث وأنهم هاجروا إلى الدنيا؟
فأجاب فضيلته بقوله-: إن المهاجر المسلم هو الذي خرج من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام لا يخلو من حالين: إما أن يكون غرضه بذلك إقامة دينه على الوجه الذي يرضي الله ورسوله، فهذا مهاجر إلى الله ورسوله، وله ما نوى.
وإما أن يكون مهاجراً إلى أمور دنيوية امرأة يتزوجها، أو دار يسكنها، أو مال يحصله، أو ما أشبه ذلك، فهذا هجرته إلى ما هاجر إليه. وأما أنت فإنك لم تهاجر الهجرة الشرعية المرادة في هذا الحديث، لأنك قدمت من بلد إسلامي إلى بلد إسلامي، وغاية ما هنالك أن يقال: إنك سافرت لطلب الرزق والسفر لطلب الرزق، لا يسمى هجرة، قال الله تعالى: (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) (1) أنت من القسم الثاني في هذه الآية من الذين يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله، وعلى هذا فليس عليك شيء فيما كسبت، ويجوز لك أن تحج وأن تتصدق منه، وأن تبنى منه مساجد وتشتري به كتباً نافعة تنفع المسلمين بها.
س 75: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: الكثير من الأخوة الذين يقدمون للعمل في المملكة يقولون بأن قدومهم أصلاً ليس للحج، وإنما قدموا لطلب الرزق، فهل يجوز أن يعزموا النية
للحج من هذا البلد؟
__________
(1) سورة المزمل، الآية: 20.(21/75)
فأجاب فضيلته بقوله-: نعم يجوز أن يعزموا النية للحج من هذا البلد، ويكون سفرهم من بلادهم إلى هنا في طلب الرزق، وطلب الرزق المباح الذي يقوم به الإنسان على الأرامل والمساكين من أبنائه وعياله، هذا لا شك أنه من الخير، وفي الحديث عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الساعي على الأرملة والمساكين كالمجاهد في سبيل الله " وأحسبه قال: "كالصائم لا يفطر والقائم لا يفتر" (1) فهم إذا أتوا لطلب الرزق الذي يسعون به على أنفسهم وأولادهم الذين لا يمكنهم التكسب هم من المساكين بلا شك، فإنهم في هذا يكونون كالمجاهدين في سبيل الله أو
كالصائم الذي لا يفطر والقائم الذي لا يفتر، ولهم أن ينشئوا نية الحج من هنا من المملكة العربية السعودية حتى لو كانوا في مكة مثلاً فلهم ذلك.
س 76: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل متزوج وله أربعة أطفال وقد غاب عنهم منذ ستة عشر شهراً ويريد أن يؤدي فريضة الحج، فهل يجوز له أن يؤدي فريضة الحج قبل أن يزور
أولاده في بلده؟
فأجاب فضيلته بقوله-: نعم يجوز له أن يؤدي فريضة الحج قبل أن يزور أهله في بلدهم، ولكن إن تيسر أن يزورهم ويعرف شئونهم وما هم عليه فإنه أولى، ثم يحج، وإذا صعب
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب النفقات، باب فضل النفقة على الأهل (رقم 5353) ، ومسلم، كتاب الزهد، باب الإحسان إلى الأرملة والمسكين (رقم 2982) .(21/76)
عليه هذا أو تعسر فليؤد الحج أولاً ثم يذهب إليهم بعد ذلك.
س 77: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: امرأة لم تحج وأرادت أن تبعث بمال لمن يحج عن أخيها الذي توفي وكان عمره سبعة عشر وهو كان من العاشرة إلى السابعة عشرة كان مشلولاً
فهل يجوز لها ذلك أم لا يجوز؟
فأجاب فضيلته بقوله-: تبدأ بنفسها أما إذا كان لا يجب عليها بحيث لا يكون عندها محرم يحج معها فلا بأس أن تحج عن أخيها.
س 78: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل نذر نذراً فهل يجوز له أن يؤدي فريضة الحج قبل الوفاء بالنذر، حيث إن الوفاء بهذا النذر غير ممكن إلا في بلده وهو الآن موجود في المملكة العربية السعودية ولا يستطيع الوفاء بالنذر لظروف عمله؟
فأجاب فضيلته بقوله-: لا حرج عليه في مثل هذه الحال أن يحج قبل الوفاء بالنذر، إذا كان الوفاء بالنذر أمراً متيسراً بعد الحج، وأنه قبل الحج لا يمكن لأنه في بلدك وأنت الآن في بلد آخر، ولا يمكنك أن تذهب إلى بلدك قبل حلول موسم الحج.
ولكن ليت السائل بين لنا: لماذا لا يكون وفاء النذر إلا في بلده: هل هو لأنه نذره لأحد من أقاربه يوجد في البلد، أو ما الذي جعله يكون متعيناً في بلده، لأنه إذا كان المقصود المكان فقط فإن
وفاء النذر في مكة مثلاً أفضل من وفائه في أي بلد آخر، ويجوز(21/77)
للإنسان أن ينقل النذر من المكان المفضول إلى المكان الفاضل، ودليل ذلك أن رجلاً جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني نذرت إن فتح الله عليك أن أصلي في المسجد الأقصى، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - "صل هاهنا" يعني في مكة فأعاد عليه، فقال "صل هاهنا" فأعاد عليه فقال له: "شأنك إذن " (1) وهذا يدل على أن نقل النذر من المكان المفضول إلى المكان الفاضل لا بأس به، لأن أصل النذر إنما يقصد به وجه الله، فكلما كان أشد تقرباً إلى الله كان أولى أن يوفى به النذر.
س 79: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: إذا حج الصبي قبل أن يبلغ ثم بلغ هل يلزمه أن يحج مرة أخرى؟
فأجاب فضيلته بقوله-: لا تجزئه الحجة الأولى، بل لابد أن يحج مرة ثانية، لأن الحجة التي وقعت منه أولاً وقعت على أنها نفل، لا على أنها فرض، وحج الإسلام حج فرض، فيجب عليه أن يعيد الحجة مرة ثانية، والأولى تكون تطوعاً.
س 80: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: نويت الحج في هذا العام ولي ابن صغير عمره عامان نريد أن يحج معنا، فهل يجوز أن ينوي له والده ويحمله أثناء الطواف والسعي أم يطوف والده ويسعى ثم يطوف ويسعى عن الابن؟
__________
(1) أخرجه أبو داود، كتاب الأيمان والنذور، باب من نذر أن يصلي في بيت المقدس (رقم 3305) .(21/78)
فأجاب فضيلته بقوله-: الذي أرى أنه في هذا العصر لكثرة الحجاج ومشقة الزحام ألا يعقد الإحرام للصغار، لأن هذا الحج الذي يحجونه ليس مجزياً عنهم، فإنهم إذا بلغوا وجب عليهم أن
يعيدوه وهو سنة، يعنى فيه أجر لولي الصبي، ولكن هذا الأجر الذي يرتقبوه قد يفوتون به أشياء كثيرة أهم، لأنه سيبقى مشغولاً بهذا الطفل في الطواف وفي السعي، ولا سيما إذا كان هذا الطفل
لا يميز فإنه لا يجوز له أن يحمله في طوافه ناوياً الطواف عن نفسه وعن هذا الصبي، لأن القول الراجح في مسأله حمل الأطفال في أثناء الطواف والسعي: أنهم إذا كانوا يعقلون النية وقال لهم
وليهم: أنوا الطواف. أنوا السعي. فلا بأس أن يحملهم حال طوافه وسعيه، وأما إذا كانوا لا يعقلون النية فإنه لا يجزئه أن يطوف بهم وهو يطوف عن نفسه، أو يسعى بهم وهو يسعى عن نفسه، لأن الفعل الواحد لا يحتمل نيتين لشخصين.
س 81: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما الحكم في حل إحرام الطفل بدون أن يقضي النسك؟
فأجاب فضيلته بقوله-: هذه المسألة فيها اختلاف بين العلماء، فمذهب أبي حنيفة- رحمه الله- أنه يجوز للصغير أن يتحلل من الإحرام بدون أي سبب، وعلل ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام: "الصغير حتى يبلغ " وعلى هذا المذهب لا يلزم أهله شيء، ولكن المشهور من مذهب الحنابلة أن إحرام الصغير كإحرام الكبير، وأنه إذا أحرم به وليه صار الإحرام لازماً في حقه،(21/79)
وبناء على هذا فإنه يجب على أهله أن يخلعوا عنه اللباس، وأن يلبسوه ثياب الإحرام، وأن يذهبوا به فيطوفوا به ويسعوا به، ويقصروا من رأسه حتى تتم عمرته، فإن لم يفعلوا ذلك فهم آثمون.
س 82: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل اصطحب ابنه معه لأداء العمرة ولبس هذا الطفل ثياب الإحرام، وفي أثناء العمرة خلع الطفل إحرامه ولم يكمل هذه المناسك، فما عليه؟
فأجاب فضيلته بقوله-: ليس عليه شيء؛ لأن الصحيح.
أن الذين لم يبلغوا إذا أحرموا بحج أو بعمرة فما جاء منهم فاقبل، وما لم يأت فلا تطلب، لأنهم غير مكلفين.
س 83: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: كيف يحرم الصبي؟
فأجاب فضيلته بقوله: عند الإحرام نقول: انوِ الإحرام، ونأمره بالاغتسال والتجرد من المخيط إن كان ذكراً ونقول: انوِ الإحرام لأنه مميز يعرف. ويلزمه الطواف والسعي إلا إذا عجز فإنه يحمل وإن كان الصغير غير مميز: فإن وليه ينوب عنه في تعيين النسك فيقول: لبيك لفلان. لبيك لفلان: الصبي. مثلاً يذكر اسمه عبد الله: لبيك لعبد الله، ولا يقول عن عبد الله لأن لبيك عن فلان أنك أنت تحج عنه، لكن لبيك له يعني أن هذه التلبية لفلان يتلبس بها بالنسك. فيقول: لبيك لفلان، فإذا قال: لبيك(21/80)
لعبد الله أو لهذا الصبي صار محرماً ويطوف به ويسعى به. لكن يطوف به وحده ويسعى به وحده؛ لأنه لا يعقل النية ولا يمكن لوليه أن يأتي بنيتين لفعل واحد، يعني فعل الوالد، والصبي ليس
منه فعل ولا نية، فلا ينوي عن نفسه وعن الصبي إذا كان الصبي لا يعقل النية.
فإذا قال قائل: هل أفضل أن يحج الصبيان ويعتمرون؟ أو الأفضل ألا نفعل؟
فالجواب: إن كان الحج بهم يؤدي إلى التشويش عليه وإلى المشقة التي تحول بينك وبين إتمام نسكك، فالأفضل ألا يحرموا وهذا حاصل في أيام المواسم: كالعمرة في رمضان وكأيام الحج، ولهذا نقول: الأفضل ألا تحججهم أو تعتمر بهم في هذه المواسم؛ لأن ذلك مشقة عليهم ويحول بينك وبين إتمام نسكك على الوجه الأكمل.
أما إذا كان في الأمر سعة، فإن الإنسان يحب الأجر، فالإنسان يعتمر بهم، وكذلك لو فرض أن الحج صار سعة فإنه يحج بهم، والمهم ألا تحج بهم فتفعل سنة لغيرك على وجهٍ يضر بك فيمنعك من إتمام النسك.
س 84: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: من عليه دين هل يلزمه الحج؟
فأجاب فضيلته بقوله-: إذا كان على الإنسان دين يستغرق ما عنده من المال فإنه لا يجب عليه الحج، لأن الله تعالى إنما(21/81)
أوجب الحج على المستطيع، قال الله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) (1) ومن عليه دين يستغرق ما عنده لم يكن مستطيعاً للحج، وعلى هذا فيوفي الدين ثم إذا تيسر له بعد
ذلك فليحج. أما إذا كان الدين أقل مما عنده بحيث يتوفر لديه ما يحج به بعد أداء الدين فإنه يقضي دينه ثم يحج حينئذ، سواء كان فرضا أم تطوعاً، لكن الفريضة يجب عليه أن يبادر بها، وغير الفريضة هو بالخيار إن شاء تطوع وإن شاء أن لا يتطوع فلا إثم عليه. والله الموفق.
س 85: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما حكم الحج من مال لم يخرج منه زكاة؟
فأجاب فضيلته بقوله: الحج من مال لم تؤخذ منه زكاة صحيح، ولكن: عجباً لهذا الرجل، كيف يحج ويدع الزكاة؟ مع أن الزكاة أوكد من الحج بإجماع المسلمين، لهذا أوجبها الله كل عام، ولم يوجب الحج إلا مرة واحدة في العمر، وأعجب من ذلك وأغرب: رجل لا يصلي ثم يحج، وهذا الذي لا يصلي أقول: لا يحل له أن يدخل مكة ولا يقبل منه حج ولا صدقة ولا جهاد ولا أي عمل صالح، لأن ترك الصلاة كفر مخرج عن الملة، والكافر المرتد خارج عن ملة الإسلام، لا يقبل الله أي عمل صالح، فأنا أعجب من بعض المسلمين الذين إن شئت قلت إن إسلامهم عاطفياً أكثر من عقلياً واستسلاما تجدهم مثلا يحرصون
__________
(1) سورة آل عمران، الآية: 97.(21/82)
على الصوم وهم لا يقيمون الصلاة في وقتها، يصوم فيتسحر في آخر الليل ينامٍ ولا يصلي الفجر إلا مع الظهر أين الصيام؟ أو ربما لا يصلي أبداً، وفي الحج أيضاً: يحرص الإنسان غاية الحرص حتى إنه يحرص على أن يحج مع عدم وجوب الحج عليه وهو مضيع لكثير من الواجبات.
الواجب أن يكون إسلام الإنسان استسلاما لله إسلاماً عقليًّا يحكم الإنسان فيه العقل على العاطفة، وينظر ما قدمه الله ورسوله فيقدمه دون أن يقدم ما تهواه نفسه ويدع ما لا تهواه، ولهذا قال العلماء: إن العبادة هي التذلل لله عز وجل بحيث يتبع الإنسان ما أمر الله دون ما نفسه تهواه.
س 86: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يصح حج من عليه دين وخصوصاً إذا كان الدين كثيراً، أي لا يستطيع القضاء إلا بعد فترة زمنية طويلة ولا يستطيع تحديدها؟
فأجاب فضيلته بقوله-: حج من عليه دين صحيح، ولكنه آثم إذا حج وعليه دين، لأن الدين يجب قضاؤه، والحج ليس واجباً عليه فيما إذا كان عليه دين، لأن الله تعالى اشترط في الحج
الاستطاعة فقال: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) (1) ومن عليه دين فإنه لا يستطيع أن يحج إذا كان حجه يحتاج إلى مال، أما إذا كان حجه لا يحتاج إلى مال كرجل في مكة
يستطيع أن يحج على قدميه بدون أن يخسر من المال، ففي هذا
__________
(1) سورة آل عمران، الآية: 97.(21/83)
الحال يجب عليه الحج وليس آثماً فيه، لأن ذلك لا يضر غرماءه شيئاً، فيفرق بين رجل يحج بلا نفق لكونه من أهل مكة وحج على قدميه، وشخص آخر لا يستطيع فلا يلزمه الحج ولا يحل له أن
يحج وعليه دين، لأن الدين قضاء واجب، والحج في حال ثبوت الدين على الإنسان ليس بواجب.
س 87: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى: من حج وعليه دين ما الحكم؟
فأجاب فضيلته بقوله-: حج من عليه دين صحيح، ولكن لا يجب الحج على من عليه دين حتى يؤدي دينه، لأن الله تعالى يقول: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) (1) والمدين
الذي ليس عنده مال لا يستطيع الوصول إلى البيت، فيبدأ أولاً بقضاء الدين ثم يحج، والعجب أن بعض الناس،- نسأل الله لنا ولهم الهداية- يذهبون إلى العمرة، أو إلى الحج تطوعاً من غير فريضة، وهم مدينون وفي ذمتهم ديون، وإذا سألتهم لِمَ تأتون بالعمرة، أو الحج وأنتم مدينون؟ قالوا: لأن الدين كثير، وهذا جواب غير سديد، لأن القليل مع القليل يكون كثيراً، وإذا قدر أنك تعتمر بخمسمائة ريال فهذه الخمسمائة أبقها عندك لتوفي بها شيئاً من دينك، ومعلوم أن من أوفى من المليون ريالاً واحداً فإنه يسقط عنه، ويكون عليه مليون إلا ريالاً. وهذه فائدة يستفيد بها، فنصيحتي لإخواني الذين عليهم ديون أن لا يأتوا لتطوع حج أو
__________
(1) سورة آل عمران، الآية: 97.(21/84)
عمرة، لأن قضاء الواجب أهم من فعل مستحب، بل حتى من لم يؤد الفريضة من حج وعمرة لا يجب أن يؤدي الفريضة، وعليه دين؟ لأن الدين سابق ولا يجب الحج أو العمرة إلا بعد قضاء الديون.
س 88: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل سأل رجلاً غنياً ميسور الحال أن يعطيه مالا ليبلغ به الحج إلى بيت الله الحرام لأداء فريضة الحج فأعطاه مالا فهل حج الرجل صحيح؟
فأجاب فضيلته بقوله-: حجه صحيح، لكن سؤاله الناس من أجل الحج غلط، ولا يحل له أن يسأل الناس مالا يحج به ولو كانت الفريضة، لأن هذا سؤال بلا حاجة، إذ إن العاجز ليس عليه فريضة، وسؤال الناس بلا حاجة أخشى أن يقع السائل للناس بلا حاجة في هذا الوعيد الشديد "أن الرجل لا يزال يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم " (1) والعياذ بالله، لأنه
قشر وجهه بسؤال الناس فكانت العقوبة أن قشر وجهه من أجل هذا السؤال، وليتق الله المؤمن في نفسه، فلا يسأل إلا عند الضرورة التي لو لم يسأل لهلك أو تضرر.
س 89: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يجوز للإنسان أن يعطي شيئاً من زكاته لمن أراد أن يحج؟
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب من سأل الناس تكثراً (رقم 1474) ومسلم، كتاب الزكاة، باب كراهة المسألة للناس (رقم 1040) (104) .(21/85)
فأجاب فضيلته بقوله-: أما إذا كان الحج نفلاً فلا يجوز أن يعطى من الزكاة، وأما إذا كان فريضة فذهب بعض أهل العلم إلى جواز ذلك، وأن تعطيه ليحج الفريضة، وفي نفسي من هذا شيء،
لأنه لا فريضة عليه ما دام معسراً، وإذا كان لا فريضة عليه فلا يجوز أن يعطى من الزكاة.
س 90: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ثلاثة أخوة يعملون في المملكة ولكل واحد منهم رزقه وظروفه، وقد اتفقوا على المساهمة في نفقات الحج لوالدتهم، وذات يوم أرسلت أمهم
برسالة تطلب فيها أن يشتروا لها جنيهًا ذهبيًّا فأرسل إليها ابنها بالرد إنني أفضل شراء قطعة ذهب مكتوب عليها لفظ الجلالة سبحانه وتعالى، بدلاً من الجنيه، لأنه مرسوم عليه صورة جورج، فأرسلت له: بأنها ترغب الجنيه الذهب وإضافة بسلسلة، وبذلك أصبحت التكلفة مرتفعة بخلاف تصميمها على شراء الجنيه الذهب، فأرسل إليها بأن قيمة الذهب سوف أدفعها لك لكي تؤدي فريضة الحج بمساهمة من أشقائي ورفضت مبدأ شراء الذهب، علماً بأن قيمة تكلفة مساهمتي في الحج أكثر من شراء الذهب ولم يأت الرد منها ومضى على ذلك حوالي شهرين، وأشعر الآن بضيق نفسي شديد لعدم إرسالها لي أي خطاب، سؤالي هل بتصرفي معها أصبحت عاقّاً لأمي وماذا أفعل؟
فأجاب فضيلته بقوله-: إن فعلك هذا فعل حسن، وهو خير لأمك، ولكن مع ذلك لو أنك اشتريت لها ذهباً ليس عليه(21/86)
رسم إنسان، ولا كتب عليه اسم الله عز وجل، لكان ذلك أحسن، لأن الذهب الذي كتب عليه اسم الله قد يكون ممتهناً من لابسه وهذا لا يليق بما كتب عليه اسم الله عز وجل، والذي رسم عليه
الصورة لا يحل لبسه، لأن لبس ما فيه الصورة سواء كان حلياً أو ثياباً محرم لا يجوز، لما فيه استصحاب الصورة التي قاله فيها رسوله الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة" (1) وأنت لاتقلق على تأخر الجواب، ولكن تابع المسألة واكتب إليها مرة أخرى، وأشر عليها، وخذ رأيها بعد ذلك، لكن إن اختارت شيئاً ممنوعاً فلا تطعها، واقنعها بأن هذا ممنوع، وأن الشيء المباح منه ما يغني عنه، ويسلم به الفاعل من الإثم، ولا يجوز قدومها للحج بدون محرم؛ لأن المرأة لا تسافر إلا مع ذي محرم.
س 91: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يجب على الرجل القادر مادياً أن ينفق على زوجته لتأدية فريضة الحج وإذا لم يفعل فهل يأثم؟
فأجاب فضيلته بقوله-: لا يجب على الزوج ولو كان غنياً نفقة زوجته في الحج إلا إذا كان ذلك مشروطاً عليه في عقد النكاح، وذلك لأن حج المرأة ليس من الإنفاق عليها، حتى نقول
إنه يجب عليه أن ينفق عليها للحج، والزوجة في هذه الحال إذا لم
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب اللباس، باب من كره القعود على الصورة (رقم 5957، 5958) ، ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم تصوير صورة الحيوان (رقم 2106) (85) .(21/87)
يكن عندها مال تستطيع أن تحج به ليس عليها حج، لأن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه العظيم: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) (1) وكذلك جاء في الحديث الصحيح عن
النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لا بد من الاستطاعة، ومن ليس عنده مال لا يستطيع، فليستقر في ذهن أولئك الذين ليس عندهم مال يستطيعون الحج به بأنه ليس عليهم حج، كما أن الفقير ليس عليه زكاة، ومن المعلوم أن الفقير لا يندم لعدم وجوب الزكاة عليه، لأنه يعلم حاله أنه فقير، فكذلك ينبغي لمن لا يستطيع الحج أن لا يندم ولا يتأثر، لأنه ليس عليه حج أصلاً، ولقد رأيت كثيراً من الناس يتأثر كثيراً إذا لم يقدر على الحج، يظن أنه أهمل فرضاً عليه، فأقول: استقر واطمئن لا فرض عليك، وأنت ومن أدى الحج سواء عند الله عز وجل، لأنك أنت معذور ليس عليك جناح، والمستطيع مفروض عليه أن يحج فقام بالحج ومن عمل العبادة أفضل ممن لم يعملها وإن كان معذوراً.
س 92: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل عازم على الحج ولكن عليه دين لشخص آخر، وقد بحث عنه ولم يجده، يقول: ماذا أفعل؟ وهل لابد من موافقة صاحب الدين؟:
فأجاب فضيلته بقوله-: أولاً نقول: من كان عليه دين فلا حج عليه أصلاً حتى وإن لم يؤد الفريضة؛ لأنه لم يكن عليه الحج حتى يوفي الدين، فليشتغل بوفاء دينه، وإن أخر الحج سنة بعد
__________
(1) سورة آل عمران، الآية: 97.(21/88)
أخرى حتى يقضي الدين، وإني لأعجب من حرص الناس على أداء الحج مع الديون التي عليهم وهم يعلمون، أو لا يعلمون أن حق الله عز وجل مبني على المسامحة، وأن من عليه دين فلا حج
عليه، ومع ذلك يماطلون أصحاب الديون، أو لا يماطلون ولكن يحجون، وهذا غلط منهم بلا شك، نقول: اقض دينك ثم حج، وإذا كنت لا تعرف صاحب الدين فابحث عنه بقدر المستطاع، فإذا
لم تجده وكان عندك مال واسع تعلم أنك تحج ويبقى لديك فضل زائد على الدين فحينئذ لا بأس أن تحج.
س 93: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما رأيكم في الذي لم يحج وتوفرت لديه جميع السبل ولكن عليه دين، فهل يتم عزيمته على الحج أم يبطله؟
فأجاب فضيلته بقوله-: قضاء الدين أهم من الحج، والريال الذي يصرفه في قضاء الدين خير من عشرة ريالات يصرفها في الحج، نعم لو فرض أن تهيأ له أن يحج مجاناً مثل أن يخرج ليخدم الحجاج معه، أو أن أحداً من أصدقائه أراد أن يتبرع له بالحج فحينئذ لا بأس، لأن الحج هنا لا ينال الدين منه ضرر.
س 94: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما حكم الحج للرجل الذي عليه دين؟
فأجاب فضيلته بقوله-: إذا كان على الإنسان دين فالحج ليس واجباً عليه، وإذا لم يكن واجباً فإن الدِّين والعقل يقتضيان أن(21/89)
يقدم الواجب الذي هو الدَّين، فاقض دينك أولا ثم حج، وإذا متَّ في هذه الحال فليس عليك إثم.
س 95: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: وإذا كان على الإنسان دين ورغب الحج واستسمح صاحب الدين فهل يحج؟
فأجاب فضيلته بقوله-: إذا استسمح صاحب الدين فإن الحج ليس واجباً عليه، لأن صاحب الدين سوف يطالبه به، غاية ما هنالك أن صاحب الدين يسمح له أن يقدم الحج فقط، فنقول: حتى لو سمح لك: فالمسألة ليست تحريم المغادرة من أجل حق الدائن؟ المسألة إبراء الذمة قبل أن يحج.
س 96: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل الدين يمنع من الحج، وإذا كان مانعاً من الحج فما الحكم بالنسبة لديون البنوك الطويلة لا سيما بنك التسليف التي ربما تستغرق العمر كله ولا
نستطيع سدادها؟
فأجاب فضيلته بقوله-: الدين إذا كان حالاً فإنه مقدم على الحج، لسبقه وجوب الحج فيوفي الدين ويحج، وإذا لم يكن عنده شيء بعد وفاء الدين ينتظر حتى يغنيه الله، وإذا كان مؤجلاً نظامياً فإن كان الإنسان واثقاً من نفسه أنه إذا حل الأجل يسدده فإن الدين هنا لا يمنع وجوب الحج، سواءً أذن له الدائن أم لم يأذن، وإن كان لا يضمن القدرة على الوفاء فإنه ينتظر حتى يحل الأجل.
وبناءً على ذلك نقول: من عنده دين لصندوق التنمية العقارية إذا(21/90)
كان يعلم من نفسه أنه إذا حل الأجل أوفى يجب عليه الحج ولو كان عليه دين.
س 97: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: أنا رجل عليّ دين فهل يجوز لي أن أحج نيابة عن شخص مع العلم أني سآخذ مبلغاً على ذلك، وهل يجب عليَّ أن أستأذن من صاحب الدين الذي
علىَّ؟
فأجاب فضيلته بقوله-: لا بأس أن يحج الإنسان عن غيره إذا كان عليه دين، وذلك لأنه لا يضر أهل الدين شيئاً، بل قد يكون هذا من مصلحته أنه إذا أعطي مالا على هذا الحج قضى به من دينه، لكن إذا كان الدين حالاً فليستأذن من الدائن حتى لا يكون في قلبه شيء على هذا الدين.
س 98: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل راتبه أربعة آلاف وعليه إيجار ونفقة عيال، ويريد أن يسافر للحج مع حملة أو غير حملة، فهل للمحسنين أن يجمعوا له ما يجعله يستطيع
الذهاب إلى الحج لأداء الفريضة؟
فأجاب فضيلته بقوله-: الذي أرى أنه لا يجب عليه، لأن الجمع له إذلال له: أعطونا لفلان، أعطونا لفلان، هذا ذل، والله عز وجل لم يوجب عليه الحج ما دامت أربعة آلاف التي هي راتبه تذهب في إيجار البيت وفي النفقة على الأولاد، فمن فضل الله أن(21/91)
الله خفف عنه ولم يوجب عليه الحج، لأن الله قال: (مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا)
س 99: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: إذا حج الرجل بنفقة غيره وهو قادر على أن يحج بنفقته فهل يلزمه أن يحج حجة أخرى؟
فأجاب فضيلته بقوله-: إذا حج الإنسان بنفقة من غيره وهي الفريضة فإنها مجزئة ولا يلزمه شيء.
س 100: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل حج وعليه دين مقسط من غير أن يستأذن من صاحب الدين ومتأخر عن بعض الأقساط فما حكم حجه؟
فأجاب فضيلته بقوله-: إذا كان عنده مال ويعرف من نفسه أنه إذا جاء وقت القسط يوفي فهذا لا بأس، ولا يستأذن من صاحب الدين، إما إذا كان لا يثق من نفسه، أو كما قال السائل: عليه أقساط لم يؤدها فلا يحج، وإذا حج فهو آثم، لكن حجه صحيح إذ إن الله سبحانه وتعالى رخص له ولكنه كلف نفسه، أفلا يخشى أن يموت في طريقه إلى الحج، أو بعد رجوعه.
س 101: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى- هل يجوز لمن اشترك في الجمعية الشهرية أن يحج بالمال الذي أخذه منها، علماً بأنه أول من استلمها؟(21/92)
فأجاب فضيلته بقوله: الجمعية أن يتفق الموظفون على أن يخصم كل واحد منهم من راتبه ألف ريال مثلاً، وتعطى للأول، وفي الشهر الثاني للثاني، وفي الشهر الثالث للثالث، وهلم جرا.
فهذا جائز ولا بأس به، فإذا صار الإنسان أول من أخذ، فمعناه أنه لزمه دين بما أخذ، ولكن لا بأس بأن يحج بهذا المال، لأنه يمكن قضاء هذا الدين، ويعرف أنه متى حلَّ هذا الدين الذي أوفاه.
س 102: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: بعض من الناس يأخذ سلفيات من الشركة التي يعمل بها يتم خصمها من راتبه بالتقسيط ليذهب إلى الحج، فما رأيكم في هذا الأمر؟
فأجاب فضيلته بقوله: الذي أراه أنه لا يفعل؟ لأن الإنسان لا يجب عليه الحج إذا كان عليه في ين. فكيف إذا استدان ليحج؟ فلا أرى أن يستدين ليحج؛ لأن الحج في هذه الحال ليس واجباً عليه. والذي ينبغي له أن يقبل رخصة الله سبحانه وتعالى وسعة رحمته، ولا يكلف نفسه ديناً، لا يدري هل يقضيه أم لا؟ ربما يموت ولا يقضيه. فيبقى في ذمته.
س 103: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: أنا طالب قد بلغت وليس لي مال خاص بي- فهل أطلب من والدي المال لأحج الآن أم أنتظر لحين تخرجي وعملي لأحج بمالي الخاص مع أن ذلك
سيطول. فبماذا تنصحونني؟
فأجاب فضيلته بقوله: الحج لا يجب على الإنسان إذا لم(21/93)
يكن عنده مال، حتى وإن كان أبوه غنياً، ولا يلزمه أن يسأل أباه أن يعطيه ما يحج به، بل إن العلماء يقولون: لو أن أباك أعطاك مالاً لتحج به، لم يلزمك قبوله، ولك أن ترفضه وتقول: أنا لا أريد
الحج، والحج ليس واجباً عليّ. وبعض العلماء يقول: إذا أعطاك إنسان- الأب أو الأخ
الشقيق- مالاً لتحج به فإنه يجب عليك أن تأخذه وتحج به، أما لو أعطاك المال شخص آخر تخشى أن يمن به عليك يوماً من الدهر فإنه لا يلزمك أن تأخذه وتحج به، وهذا القول هو الصحيح.
س 104: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: إنسان أعطاه شخص مالاً ليؤدي به الفريضة، فهل يلزمه أن يقبل هذا المال ويؤدي به الفريضة؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يلزمه، وله أن يرده خشية المنة - أي يمن عليه الذي أعطاه مالاً يحج به- حيث لم يجب عليه الحج لعدم الاستطاعة.
أما إذا كان الذي أعطاه المال أباه أو أخاه الشقيق فهنا نقول: خذ المال وحج به؟ لأن أباك لا يمن عليك، والشقيق لا يمن عليك.
وعلى هذا نقول للأخ: انتظر حتى يغنيك الله- عز وجل- وتحج من مالك؟ ولست بآثم إذا تأخرت عن الحج.(21/94)
س 105: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: لزوجتي عندي مبلغ من المال وأريد أن أؤدي الحج منه فهل يجوز لي ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا أذنت لك في هذا أي زوجتك بأن تحج من مالها الذي عندك لها فلا حرج عليك في هذا، ولكن إن خفت أن يكون عليك في ذلك غضاضة، وأن تمن عليك به في المستقبل وأن ترى لنفسها مرتبة فوقك من أجل هذا فلا تفعل، فإنه لا ينبغي للإنسان أن يذل نفسه لأحد إلا لله عز وجل.
س 106: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: أن شخصاً اشترى بيتاً، أو أرضاً، أو سيارة تقسيطاً فهل يجوز له أداء الحج أو العمرة؟ علماً أنه بالإمكان تسديد الأقساط من راتبه دون أن يمتد
لسلف أو غيره؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا ينبغي أن يحج قبل قضاء الدين، وما يدريه فلعله لا يتمكن من أداء دينه في المستقبل لموت أو غيره؟ وأما الجواز فيجوز أن يحج إذا كان له ما يوفيه حاضراً بشرط أن يوثق المدين برهن يكفي، أو ضامن ملي.
س 107: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: إذا كان الرجل مكسبه حرام ثم حج بابنته أو ولده الفرض فهل يقبل منهما أم عليهما إعادة الحج؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا تيقن أن المال الذي حج به من المال المحرم، وكان عالماً بأن الحج بالمال المغصوب باطل ولم(21/95)
يكن ناسياً حين حج منه فالحج باطل على المشهور من المذهب، وإن اختل شرط من هذه الشروط فالحج صحيح، فلو كان المحجوج به لا يدري عن المال، أو لا يعلم أن الحج بالحرام باطل فحجه صحيح.
مع أن بعض العلماء يرى أن الحج صحيح حتى مع وجود الشروط المذكورة، والله أعلم.
س 108: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: عمن عليه قروض طويلة الأمد وهو يؤدي هذه القروض فهل له أن يتصدق وأن يحج؟
فأجاب فضيلته بقوله: من عليه قروض مؤجلة وهو واثق من نفسه إذا حل الأجل أوفى فلا بأس أن يتصدق، ولا بأس أن يحج أيضاً بما عنده من المال، لأنه لا ضرر على الغريم في هذه الحال، ولأنه لا ينتفع الغريم بما عنده من المال الآن.
س 109: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: إذا جمع شخص أموالاً كثيرة من تجارة في أشياء محرمة ثم تاب إلى الله، فهل يجوز له أن يحج من ذلك المال، أو يتصدق منه، أو يتزوج منه، أو يبني
منه مسجداً لله؟
فأجاب فضيلته بقوله: كل من كسب كسباً على وجه محرم فإن هذا الكسب لا يحل له، ويجب عليه التخلص منه، وذلك بأن يرده إلى أصحابه إن كان في أصله حلالاً ولكن أخذه بطريق محرم، فإن كان محرماً فإنه يتصدق منه أو يبني به مسجداً أو ما(21/96)
أشبه ذلك من طرق الخير، ولكن لا بنية التقرب إلى الله لأن ذلك لا يفيده، فإن من تقرب إلى الله بكسب محرم لم يقبله الله منه، لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً ولا تبرأ ذمته منه أيضاً، لأنه لم يرد
الخلاص بهذه الصدقة منه، ولكن على من اكتسب مالاً محرماً وتاب إلى الله عليه أن يبذله فيمن يرضى الله سبحانه وتعالى تخلصاً منه لا تقرباً به وبهذا تبرأ ذمته.
س 110: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: إدْا تبرع الكافر بدراهم لمسلم ليحج بها فهل للمسلم المحتاج أن يحج بها الفرض؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم له أن يحج بها الفرض والنفل، لأن الحج وقع ممن يصح منه.
س 111 سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: إنني أريد أن أحج لكن عليّ سلفة وعندي قطعة أرض أريد أن أبنيها بيتاً. هل أحج أم أعطي السلفة أم أبني البيت؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كنت قد أديت الفرض وكانت هذه الحجة تطوعاً فاقض الدين أولاً، فالدين واجب، وحج التطوع ليس بواجب، والواجب مقدم على غيره، وأما إذا كان الحج فرضاً
فإنه لا يجب عليك الحج أيضاً حتى تقضي دينك، لأن الله تعالى يقول: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) (1) وإذا
__________
(1) سورة آل عمران، الآية: 97.(21/97)
كان عليك دين فأنت غير مستطيع، لذلك فاقض دينك أولا ثم حج.
س 112: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: سائل يسكن مع أخيه منذ سبع سنوات، لم يجد منزلاً مع عائلته يستقل فيه، جاء إلى المملكة فأعطاه والد كفيله ألفي ريال ليحج فحج، ولكنه لم
يعمل بعد الحج ليرد السلف، وهو متضايق نفسياً، ويفكر في الخلاص من واقعه، ولكنه يخاف الله، ثم يخشى من جعل أولاده أيتاماً. أرجو من فضيلتكم حل مشكلتي وجزاكم الله خيراً؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يحل لك بأي حال من الأحوال أن تعدم نفسك وتقتلها، فإن هذا لا يزيدك إلا شراً ووبالاً، ومن قتل نفسه بشيء عذب به في نار جهنم خالداً فيها مخلداً- والعياذ بالله- وعليك أن تصبر على أقدار الله، وتحتسب الأجر من الله تبارك وتعالى، وتنتظر الفرج منه سبحانه، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً" (1) . واسأل الله تعالى دائماً التيسير، وأن يفرج همومك، وأن يرزقك ما توفي به هذا الرجل الذي أحسن إليك وأقرضك.
وإن كان الذي ينبغي لك ألا تقترض لتحج، لأن الإنسان لا يجب عليه الحج إذا لم يجد ما يحج به، ولا ينبغي له أن يستلف ليحج فيلزم نفسه دينًا وهو في غنى عنه، وعلى صاحبك الذي
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (1/307)(21/98)
أقرضك أن لا يطالبك ولا يطلبك إلا حيث يكون عندك مال تسدد به، وله في ذلك أجر عظيم. والله الموفق.
س 113: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: لقد أديت فريضة الحج في الموسم الفائت عام 1404 هـ، نيابة عن والدي المتوفى، ولكن النقود التي ذهبت بها لم تكن كلها مني، بل استلفت من أحد أصدقائي لأكمل مصاريف الحج، والسبب في ذلك أنني أعمل في مؤسسة، ولم أستطع الحصول على المبلغ الذي يكفيني، مع العلم أنه يوجد لدى المؤسسة مبلغ كبير لي فهل الحج جائز مع العلم أنني حججت عن نفسي سابقا؟
فأجاب فضيلته بقوله: الحج جائز فيما إذا استقرض الإنسان من أصحابه، إذا كان له وفاء، وهذا السائل يذكر أنه استقرض ما ينقصه من النفقة، حيث إنه له نقودًا في المؤسسة التي يعمل فيها،
وعلى هذا فعمله جائز ولا بأس به.
س 114: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: إذا أراد الإنسان الحج وعليه دين فهل يجوز له الحج قبل تسديده؟
فأجاب فضيلته بقوله: والإنسان الذي عليه دين ليس بمستطيع وإذا لم يكن مستطيعاً: فالحج ليس واجباً عليه، والدين واجب عليه. والإنسان العاقل: لا يأتي بالشيء الذي ليس بواجب ويدع الشيء الواجب. بل العاقل يبدأ أولاً بالواجب ثم يأتي بغير الواجب فنقول: الدين يجب عليك أداؤه، وأما الحج فليس(21/99)
بفريضة عليك الآن ما دمت مدينا لا تقر على الوفاء، فاحمد الله على العافية ولا تحج، الدرهم أو الريال الذي تجعله في الحج، اجعله في قضاء الدين، لو قدر عليك: خمسمائة ألف، وأنك ستحج بخمسمائة ريال، نقول أوف شيء من الدين بخمسمائة ريال ولا تحج، أنت إذا أعطيت خمسمائة ريال من له عليك خمسمائة ألف، صار له عليك خمسمائة ألف إلا خمسمائة ريال، فنقص الدين، وهذه فائدة، نعم لو فرض أن المدين وجد من يحمله مجاناً، مثل أن يأتى إليه إنسان ويقول: حج معنا ساعدنا ونحن نقوم بنفقتك، ففي هذه الحالة حج لأنه لا يضر غرماءه شيئاً، أما إذا كان يريد أن يبذل المال فإننا نقول له: لا تحج واقض دينك، فهذا هو الأفضل لك.
س 115: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يجوز للمرأة أن تسافر للحج من مال أخيها وزوجها موافق على سفرها؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم يجوز لها أن تحج بمال أخيها إذا وافق زوجها على السفر إلى الحج.
س 116: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل ينوي أن يحج حج الفريضة وعليه ديون كثيرة يغلب على الظن بأنه إذا استأذن من أصحابها سوف يأذنون له، هو الآن يستطيع أن يوفر
تكاليف الحج من مصاريف سفر ومأكل ومشرب وغير ذلك فهل يأثم إذا لم يستأذن من أصحاب الديون؟(21/100)
فأجاب فضيلته بقوله: المسألة ليست مسألة استئذان أو عدم استئذان، المسألة أن الإنسان إذا كان عليه ديون فإنه لا يجب عليه الحج أصلاً، ولا حرج عليه أن يدعه، ولا ينبغي أن يحج وتبقى
الديون عليه، حتى لو أذن له أهل الديون، وقالوا: حج وأنت منا في حل. فإننا نقول: لا تحج حتى تقضي الدين، احمد ربك أن الله عز وجل لم يوجب عليك الحج إلا بالاستطاعة التامة، والمدين ليس عنده استطاعة في الواقع، لأن ذمته مشغولة فلا يحج حتى يوفي الدين، سواء أذنوا له أو لا. وهو إذا لاقى ربه وهو لم يحج لأن عليه ديوناً فإنه لا يأثم بذلك، كما أن الفقير لا تجب عليه الزكاة ولا يأثم إذا لا قى ربه وهو لم يزك كذلك من لم يستطع الحج إذا لاقى ربه وهو لم يستطع فإنه يلقى ربه غير ملوم.
س 117: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل في إحدى المؤسسات وقد درجت المؤسسة على إيفاد بعض عامليها كل عام إلى الحج على نفقتها ويتم اختيار هذه المجموعة حسب كبر السن ومدة الخدمة في المؤسسة، فهل يصح هذا الحج أم لا يصح؟
فأجاب فضيلته بقوله: يصح هذا الحج، ويجوز للإنسان أن يقبل التبرع له بأداء فريضة الحج من هذا المال، ومثل هذه المسألة التي ذكرها السائل لا يكون فيها في الغالب منة، لأنه نظام الشركة يذهب فيه فلان وفلان، أما لو كان التبرع لشخص معين، فهنا قد نقول: لا ينبغي أن تقبل هذا، لأنه يخشى أن يمن به عليك يوما من الدهر، فيقول: أنا الذي أعطيتك ما تؤدي به فريضة الحج وما(21/101)
أشبه ذلك، وعلى كل حال فمن قبل من إنسان تبرعاً ليؤدي به الحج فلا بأس به، لكن كما قلت إذا كان من شخص معين فالأولى أن لا تقبل، وإذا كان من شركة على وجه العموم والنظام لها فلا
بأس.
س 118: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل يملك مبلغاً من المال ولم يؤد فريضة الحج وعنده ابن شاب ليس لديه مال ليتزوج به لأنه ما زال يدرس، وقد خاف الأب على ابنه الفتنة
والانحراف، ما هو الأفضل للأب أن يحج بهذا المال أم يزوج هذا الابن الشاب؟
فأجاب فضيلته بقوله: الواجب على الأب أن يحج بهذا المال، لأن الحج فريضة عليه، وحالة الابن ليست تتعلق بذات الأب، أما لو كان الأب نفسه يحتاج إلى نكاح ويخشى على نفسه إن لم يزوج وليس في يده إلا هذه الدراهم، فهو إما أن يحج بها وإما أن يتزوج فحينئذ نقول: قدم الزواج، لأن الزواج هنا يتعلق بنفس الرجل، ولا تعجب إذا قلت: إن الأب محتاج إلى الزواج وليس عنده هذه الدراهم، لأن هذا يقع كثيراً قد يكون الرجل قوي الشهوة لم تغنه المرأة الأولى، أو تكون المرأة الأولى قد ماتت أو طلقت فيحتاج إلى زوجة أخرى.
س 119: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: امرأة كانت في حاجة فدفع لها زكاة فهل لها أن تحج منها أم لا جزاكم الله خيراً؟(21/102)
فأجاب فضيلته بقوله: نعم يجوز الحج بمال الزكاة وبمال الصدقة، ويجوز لآخذ الزكاة أن يهديها إلى من لا تحل له الزكاة بشرط أن يكون حين أخذه للزكاة من أهل الزكاة أي مستحق لها، وما جاء في السؤال فهو كذلك، أي أن المرأة أخذت هذه الأموال من الزكاة والصدقات وهي أهل لذلك ثم إن الله تعالى أغناها وأرادت أن تحج بما عندها من أموال الزكاة والصدقات، فنقول: لا بأس بهذا، لأن الفقير إذا أخذ الصدقة وهو من أهلها، أو الزكاة وهو من أهلها فإنه يملكها ملكاً تاماً يتصرف فيها بما يشاء.
س 120: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يجوز لي أن أحج بمال والدي، علماً بأني لا أملك مالا؟
فأجاب فضيلته بقول: نعم يجوز للإنسان أن يحج بما يتبرع به أبوه، أو أخوه، أو ابنه، أو أحد من إخوانه الذين لا يلحقه منهم منة، فإن كان يخشى أن يلحقه منهم منة فإن الأولى أن لا يحج بشيء من ماله، لأن المنان يقطع عنق صاحبه بمنته عليه، كلما حصلت مناسبة قال: أنا الذي حججت بك. أنا الذي فعلت. فإذا أمن الإنسان من المنة عليه في المستقبل فلا حرج عليه أن يقبل من أحد من أقاربه، أو أصحابه أن يتبرع له بما يحج به.
س 121: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل يعمل في شركة بالمملكة وصاحب هذه الشركة يقيم مخيمات للحج كل عام ويحج هذا الرجل وزوجته على نفقة صاحب العمل رغم أن حالته(21/103)
المادية ميسرة فهل يجوز هذا الحج أم لابد أن يكون الحج على نفقتنا أرجو الإفادة؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا أذن صاحب الشركة فإنه جائز.
س 122: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: امرأة تقول: إني حائرة جذا أديت فريضة الحج والحمد لله، ولكن الذي يحيرني ويوسوس لي بنقصان حجي، أنني لم أدفع للحملة أي تكاليف مالية، حيث قام بدفع ذلك أحد المحسنين، لأن راتب زوجي كان قليلاً وكنت أملك قليلاً من الذهب، وأخشى أن تكون حجتي ناقصة، لأني لم أقم ببيع هذا الذهب ودفعه لتلك الحملة؟
فأجاب فضيلته بقوله: أقول: الحج إن شاء الله ليس بناقص، وأرجو الله أن يكودن مقبولاً، ولا يلزمها أدن تبيع ذهبها لتحج، فأقول لهذه المرأة: اطمئني حجك صحيح مبرىء للذمة، وقد سقط عنك.
س 123: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: عمن عليه دين غير حال ويريد الحج فهل يحج؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا حرج على الإنسان أن يحج وعليه دين إذا كان لم يحل، ولكننا نقول: الحج لا يجب عليك حتى تقضي الدين تيسيراً من الله عز وجل، فنقول للإنسان: أقض دينك أولاً،
ثم حج ثانياً. والإنسان لو مات في هذا الحال فإنه لا إثم عليه.(21/104)
س 124: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: أنا امرأة تزوجت قبل خمس عشرة سنة ولم أحج لظروف ويسر الله عز وجل لي في هذا السنة جاءتني صدقة مبلغ من المال وأنا لا أملك أجرة الحج،
وهذا المبلغ من رجل معروف بالربا، والناس يعرفون ذلك عنه، فله بنوك ربوية، السؤال يا فضيلة الشيخ: هل أحج علماً بأنني لا أعلم عن هذا المال الذي أخذته هل هو من الربا أم من الحلال؟
وماذا أعمل علماً بأن أخي سوف يكون محرماً لي؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا حرج على الإنسان إذا تصدق عليه أحد من المرابين أن يحج بما تصدق به عليه، ولا حرج عليه أن يقبل ما أهدي إليه، لأن ذنب الربا على صاحبه. أما الذي أخذه بطريق شرعي: بطريق الهبة، بطريق الصدقة. والدليل على هذا أن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم قبل الهدية من اليهود، وأكل طعام اليهود، واشترى من اليهود، مع أن اليهود معروفون بالربا وأكل السحت، نعم لو فرضنا أن شخصاً سرق شاة من غنم رجل، وجاء وأهداها إليه، فهنا تحرم لأنك تعرف أن هذه الشاة ليس ملكا له، أما إذا كان يتعامل بالربا فإثمه على نفسه، ومن أخذ منه بطريق شرعي فهو مباح له، فنقول لهذه المرأة: لا حرج عليك أن تحجي بالمال الذي أعطاك إياه من كان معروفًا بالربا.
س 125: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما صحة ما ينسب إليكم من أن الرجل إذا كان عليه دين فاستأذن من صاحب الدين في الحج فلا حرج عليه؟(21/105)
فأجاب فضيلته بقوله: هذا غير صحيح، والذي عليه الدين يجب أن يقضي الدين أولاً حتى لو أذن له الدائن أن يحج، فإنه لا يجب عليه الحج، لأنه إذا أذن له أن يحج هل يسقط الدين؟ لا يسقط إذا ليس في الإذن فائدة ولكن لو كان الإنسان عليه دين يسير، ويعلم أنه إذا جاء الراتب في نهاية شهر ذي الحجة فسوف يوفيه فحينئذ لا بأس، لأنه واثق من نفسه، أما الديون الكثيرة فمن الأولى أن يقضيها قبل أن يحج.
س 126: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: كنت مخصصاً مبلغًا من المال للحج وعليّ دين، ولكن هذا الدين مفتوح التسديد من قبل المدين، وفي هذا الشهر صرفت الفلوس على اعتبار أني
سأعوضها قبل الحج، ولكن لم يتيسر لي المبلغ الآن مع العلم بأني لم أفرط، فهل ما فعلته من التفريط، وهل هناك فرق بين الدين الذي للوالد أو الوالدة أو الأجنبي؟
فأجاب فضيلته بقوله: نقول للأخ: الحج ليس فرضاً عليك. وأي إنسان عليه دين فالحج ليس فرضاً عليه، وليطمئن ويسترح باله، وليعلم أنه لو واجه ربه فإنه لا يعاقب، لأن الدين وفاءه أهم من الحج، فعلى الإنسان أن يحمد وبه على الرخصة وعلى التوسعة، فمثلاً لو كان الإنسان عنده ألف ريال يمكن أن يحج بها، لكن عليه ألف ريال، فنقول له: أوفي بها وحج بعد، لأن الحج الآن ليس فرضاً عليك، لقول الله تعالى: (مَنِ اسْتَطَاعَ(21/106)
إِلَيْهِ سَبِيلًا) (1) والإنسان يريد أن يبرىء ذمته من الناس، فاقبل رخصة الله، والله تعالى أكرم من الدائن، فالدائن سيؤذيك ويقول: أعطيني، لكن الله رخص لك وأذن لك أن لا تحج، ولم يفرض
عليك الحج، فلماذا تذهب تحج وتدع الدين الذي عليك؟ إذا مات الإنسان والدين عليه من يوفيه، ليس عنده مال؟ ثم إذا كان عنده مال فإن بعض الورثة- والعياذ بالله- ظلمة لا يبالون ببقاء الدين في ذمة الميت؟ وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نفس المدين معلقة بدينه حتى يقضى عنه (2) فالمسألة خطيرة، ولهذا نقول لإخواننا الذين عليهم دين: إن الحج ليس فرضاً عليكم أصلاً، لأنكم لا تستطيعون، والله تعالى إنما فرض الحج على من استطاع إليه سبيلا، أرأيت الفقير هل عليه زكاة؟! ولو لاقى ربه على هذه الحال أيعاقب؟ لا، كذلك الذي عليه الدين فإنه ليس عليه الحج حتى يؤدي الدين، لكن لو فرض الإنسان أن عليه لكنه مؤجل ويحل مثلاً بعد شهرين، وهو موظف واثق أنه بعد الشهرين سوف يوفي، وبيده الآن مال، فيحج لأن هذا ليس عليه ضرر.
لو قال قائل: أنا عليَّ دين حال، وصاحب الدين أذن لي أن أحج، فهل يجب عليَّ أن أحج؟
فالجواب: لا يجب عليك الحج؟ لأنه وإن أذن لك فإنه لن يسقط شيئًا من دينك.
__________
(1) سورة آل عمران، الآية: 97.
(2) أخرجه النسائي، كتاب البيوع، باب التغليظ في الدين (7/314- 316 رقم 4681) .(21/107)
فإذا قال المدين: أنا أريد أن أصاحب رفقة مجاناً هل يلزمه الحج. لا يلزمه الحج، لأن هؤلاء الرفقة يمنون عليه في المستقبل، يقولون: نحن حججنا بك. هل هذا جزاؤنا مثلاً.
ثانيا: إذا قدر أن الرفقة من أهله ولا يمكن أن يمنوا عليه يوماً من الدهر، قلنا: ننظر إذا كان هذا المدين صاحب عمل ويحصل في أيام الحج، أجرة تنفع الدائنين، لكن لو ذهب يحج لم يحصل أجرة نقول له: تحج، فمثلاً لو قدرنا أن هذا الرجل يوميته ثلاثمائة ريال وهو سيحج في خلال عشرة أيام، فيفقد ثلاثة آلاف، وهذه تنفع الدائن، فنقول: لا تحج أما لو كان الرجل عاطلاً عن العمل ولو ذهب يحج لم يتعطل ولم يضر صاحب الدين، فحينئذ نقول: إذا وفق الله لك قوماً يحملونك مجاناً ولا
يخشى من منتهم في المستقبل فتوكل على الله.
ولا فرق بين الدين الذي للوالد، أو للوالدة، أو الأجنبي، فالذمة مشغولة.
س 127: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: من دفع نفقة شخص لم يؤد الحج وهي فريضة فهل له مثل أجره وهل هو أفضل من أن ينيب من يحج عنه.
فأجاب فضيلته بقوله: نعم إن شاء الله له مثل أجر حجه، يعنى أجر حج فريضة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من جهز غازياً فقد غزا" والحج نوع من الجهاد، وإعطاء هذا الفقير ليحج حج(21/108)
الفريضة أفضل من كونه يعطي الدراهم لشخص يحج عنه حجة نافلة، لأنه سيأتي أجر فريضة إلى أخيه لأداء ركن من أركان الإسلام عنه.
س 128: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل لديه أبناء ذكور وإناث مكلفون وليس لديهم الاستطاعة المالية، فهل يلزم والدهم أن ينفق عليهم ما يكفيهم لأداء الحج؟ أم ينتظرون حتى
يكون لديهم الاستطاعة بأنفسهم؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يلزم الوالد أن يحج بأولاده ولو كان عنده مال كثير، لأن هذا دين، فإن تحقق فيهم الشرط وهو الاستطاعة بأنفسهم وجب عليهم، لكن إن تطوع الأب وحج بهم فهذا طيب، وله أجر بلا شك، ولا يجب وربما نقول: يجب فيما لو حج ببعضهم وترك الآخرين. فنقول: يجب أن تحج بالآخرين، بناءً على وجوب العدل. فإذا سمح الآخرون وقالوا: يا والدنا إن شئت فحج بنا، وإن شئت فلا تحج. سقط عنه الوجوب.
س 129: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى: يطالبني البنك العقاري بأقساط كثيرة لم أسددها، وقد جاء تعميم جديد بأنه يمكن للشخص أن يسدد الأقساط الحاضرة، والباقي يؤجل إلى
آخر الأقساط فهل أسدد الحاضر وأحج؟
فأجاب فضيلته بقوله: جزاهم الله خيراً هذا طيب وهو نظام(21/109)
جيد، فأقول: سدد الآن ما تستطيع مما مضى، ولكن لا تستدن من أحد لتسدد، لأن هذا الذي يستدين يكون كالمستجير من الرمضاء بالنار، فأد ما عليك بما تقدر عليه، وأبق الباقي إلى أجله، وإن
كان في ظنك أنك ستوفي فحج ولا بأس، وإلا فلا تضيق على نفسك.
س 130: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يجوز للإنسان أن يحج وهو عليه دين، وذلك الدين عبارة عن صبرة في البيت ولم يجد صاحب الصبرة فماذا يعمل؟ وهل يحج وهذا الدين في ذمته؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا يحج لأن صاحب الدين مجهول، ولكني أرى للأخ أن يذهب للقاضي ويعرض عليه المسألة، ويقول: ماذا أفعل بهذه الصبرة؟ أأجعلها في بيت المال؟
أأتصدق بها على الفقراء؟ أأجعلها في المساجد؟ حتى يبرىء ذمته منها وهو حي ولايتهاون، فالأيام تمشي والأزمان تمضي، فلعل أجله قريب، فلينظر إلى نفسه قبل رمسه، وليذهب إلى القاضي
غدا قبل اليوم الذي يليه ليخلص نفسه.
س 131: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: من شروط الحج الاستطاعة. ونجد أن الكثير ممن يأتي من غير أهل هذه البلاد يأتون ولا استطاعة لهم، بل تجدهم يستدينون ويشق عليهم الحج أشد
المشقة، ولكنهم يخشون أن لا تتيسر لهم الفرصة فهل يمنعون من أداء الحج لهذا السبب أم يقال لهم إذا جاءتكم الفرصة فحجوا ثم(21/110)
ييسر الله لكم سداد ديونكم فيما بعد؟
فأجاب فضيلته بقوله: نقول لهم: إن الشرع والرأي يقتضي أن لا تحجوا، وعليكم الدين، وأن لا تستقرضوا للحج، نقول: اقبلوا رخصة الله حيث خفف عنكم، وأنتم إذا وافيتم الله، ولم تحجوا لعدم استطاعتكم فلا إثم عليكم.
س 132: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يفرق بين الدين الحال والدين الذي له أجل، حيث إن عليَّ دينًا لأحد أقاربي ولو استأذنته لأذن، ولكني أريد الزواج بعد سنة، وأريد أن أؤدي
الفريضة قبل الزواج هذا العام، فهل أحج مع وجود الدين عليّ أم ماذا أصنع.
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان هذا الدين مؤجلاً وأنت تعلم أنه إذا حل الأجل فسوف تكون قادراً على قضائه فلا حرج عليك أن تحج. أما إذا كان الدين حالاً فنقول لك: أد الدين أولاً ثم حج
ثانياً، فإذا كان مالك لا يتسع لقضاء الدين والحج فالدين أهم، والحج في هذه الحال غير واجب عليك، فاحمد الله على النعمة وعلى التيسير، واقض دينك الذي ثبت قبل وجوب الحج عليك.
س 133: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: أنا عامل أتيت إلى هذه البلاد بمرتب قدره ثمانمائة ريال ولما قدمت قال لي كفيلي: ليس عندي مؤسسة، إن كنت تريد أن تعمل بالنسبة وإلا
سفرتك فاضطررت إلى الجلوس، لأن قدومي كلفني أكثر من(21/111)
خمسة آلاف ريال، فقلت: أقوم بتسديد الدين ثم أسافر، فلما أردت الحج، قال لي أحد الإخوة: لا يجوز لك أن تحج بهذا المال، لأن مالك حرام فسألته: لماذا؟ قال لأنك رضيت بالنسبة وخالفت النظام الذي أتيت عليه، والآن أنا أريد الحج وإنما أخذت ذلك المال لسداد ديني وقد سددته ولله الحمد، فهل يجوز لي أن أحج بذلك المال أم ماذا أصنع؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كنت جاهلاً لا تدري أن هذا العمل الذي اتفق مع كفيلك عليه محرم فلا شيء عليك، لقول الله تبارك وتعالى: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) (1) فحج بهذا المال وهو حلال لاك، لأن الله تعالى قال: (فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ) (2) .
س 134: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: بعض الناس عليه ديون ولم يحج حجة الإسلام، لكن الحج بالنسبة له لا يكلفه، لأنهم يأخذون معهم خيمة ومعهم طعام من بيوتهم ولا يتكلفون إلا
سعر البنزين، وإذا فرق على المجموعة لن يدفع إلا ما يقارب عشرين ريالاً هل يجب عليه الحج ويحجوا مفردين لأنه ليس عليه في هذه الحالة هدي؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يجب عليهم الحج ما دام باقي
__________
(1) سورة الأحزاب، الآية: 5.
(2) سورة البقرة، الآية: 275،(21/112)
عليهم دين، فإن الحج لا يجب عليهم وإن كانت تكاليفه يسيرة، اللهم إلا رجل يذهب مع الحجاج ويخدمهم ويعطونه أجرة على هذه الخدمة، فهذا قد نقول: اكتسب مالاً يستطيع أن يوفي به دينه
من هذا الحج. فهذا نقول: لا بأس أن يحج. وأما شخص يأخذ من الحج ولو شيئاً يسيراً فليحمد الله على العافية وليقضي دينه قبل حجه.
س 135: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل حج لله تبارك وتعالى حجة الفريضة بمبلغ من المال حصل عليه عن طريق أنه كان يريد الزواج ولا يستطيع لأنه فقير فساعده بعض أهل العلم
بمبلغ من المال ثم أخذ من المال وحج الفريضة وهو لم يتزوج حتى الآن فما حكم حجه جزاك الله خيراً؟
فأجاب فضيلته بقوله: أما حجه فصحيح، وأما عمله فخطأ، ولكن عليه الآن أن يذهب إلى الرجل الذي أعانه على الزواج، ويخبره بالواقع ويقول: إني حججت ببعض المال الذي أعطيتني، وأرجو من الأخ الذي ساعده أن يسامحه، حتى يحصل أجرين: أجر الإعانة على الحج، وأجر الإعانة على الزواج.
س 136: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: بعض الناس أراد أن يحج على الإبل مع أن المسافة ألف وثلاثمائة كيلو مع توفر السيارة عنده هل يعتبر هذا من التنطع في الدين؟
فأجاب فضيلته بقوله: أرى أن لا يفعل، وأن الله تعالى لما(21/113)
يسر الأمر فليتيسر، قال الله تعالى: (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12)) (1) فبدأ بالفلك، والسيارات فلك البر والطيارات فلك الجو، والسفن فلك البحر، فليحمد الله على العافية، وأخشى أن يقع في قلوبهم أحد أمرين: إما ما يعرف بالآثار وإحياء الآثار وما أشبه ذلك، وإما أن يكون هناك رياء، وكلاهما شر، لذلك أنصح إخواننا بأن لا يشقوا على أنفسهم، وعليهم بالتيسير حيث يسر الله عليهم، وأن يحجوا بما يحج الناس عليه.
س 137: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: لي زوجة ولم تحج فهل يلزمني أن أحج بها؟ وهل تلزمني نفقتها في الحج؟ وإذا لم يجب عليَّ فهل يسقط عنها؟
فأجاب فضيلته بقوله: إن كانت الزوجة قد اشترطت عليه في العقد أن يحج بها وجب عليه أن يوفي بهذا الشرط وأن يحج بها، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج " (2) وقد قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (3) وقال: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا) (4) أما إذا لم تشترط عليه ذلك، فإنه لا يلزمه أن يحج بها، ولكني أشير عليه أن يحج بها لأمور:
__________
(1) سورة الزخرف، الآية: 12.
(2) أخرجه البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في المهر عند عقدة النكاح (رقم 2721) ، ومسلم، كتاب النكاح، باب الوفاء بالشروط في النكاح (رقم 1418) .
(3) سورة المائدة، الآية: 1.
(4) سورة الإسراء، الآية: 34.(21/114)
أولاً: طلباً للأجر، لأنه يكتب له من الأجر مثل ما كتب لها، وهي قد أدت فريضة.
ثانياً: أن ذلك سبب للألفة بينهما، وكل شيء يوجب الألفة بين الزوجين فإنه مأمور به.
ثالثاً: أنه يمدح ويثنى عليه بهذا العمل، ويقتدى به، فليستعن بالله ويحج بزوجته. سواء شرطت عليه أم لم تشترط. وأما إذا اشترطت فيجب عليه أن يوفي به.
س 138: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: إذا منع الزوج زوجته فهل يأثم؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم يأثم إذا منع زوجته من الحج الذي تمت شروطه، فهو آثم يعنى لو قالت: هذا محرم هذا أخي يحج بي وأنا عندي نفقة، ولا أريد منك قرشاً. وهي لم تؤد الفريضة فيجب أن يأذن لها، فإن لم يفعل حجت ولو لم يأذن، إلا أن تخاف أن يطلقها فتكون حينئذ معذورة.
س 139: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: أنا طالب فهل لي أن أحج وآخذ من والدي أم أنتظر حتى أتوظف، فيكون عندي ما يمكنني من الحج، أيهما الأفضل لي؟
فأجاب فضيلته بقوله: من المعلوم أن الطالب الذي ليس عنده مال لا يلزمه أن يسأل والده ويقول: أعطني ما أحج به. لأنه لم حما عليه الحج، لكن إن رأى أبوه أن يعطيه ما يحج به إحساناً(21/115)
إليه لا وجوباً على الأب، فهذا لا حرج، وهذا من الإعانة على البر والتقوى، ومن صلة الرحم أيضاً، فأشير على جميع الآباء الذين عندهم قدرة أن يساعدوا أبناءهم في أداء فريضة الحج، وإن كان
غير مفروض عليهم، لأن هذا من الإحسان ومن صلة الرحم.
س 140: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يجوز لي أن أحج نيابة وأنا مستأجر من قبل حملة حج للعمل، وقد أذنوا لي بالحج، ومن المعلوم أني لن أدفع من المال شيئًا، بل ربما أقبض مالاً من تلك الحملة، فما حكم ذلك المال الذي دفع لي؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا علم بذلك الذي دفع المال وأذن فلا بأس، لكن إذا لم يعلم وأعطاه الدراهم وحج هذا الرجل مجاناً: إما لكونه عاملا في الحملة، أو لغير ذلك، وحج مجاناً لابد أن يستأذن منه بعد الحج، ويقول: هل رخصت لي؟ إن قال: لم أرخص لك فيرد عليه ما أخذه والحج للموكل. مثال ذلك: زيد أعطى عمراً دراهم ليحج بها. فحج عمرو بالسيارات التي تبرع بها
أهلها، أو صار عاملاً في حملة ولم يسلم شيئاً، فهنا نقول: يجب عليك أن تخبر من أعطاك المال، فإن أذن لك وقال: ما أتاك من المال فهو لك، والحج الحمد لله ثبت لي فله ذلك. وإن قال: لا، أنت الآن حججت عني مجاناً، فإنه يكون الحج عن نفس الذي أخذ الدراهم، ويرد الدراهم إلى صاحبها.(21/116)
س 141: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل للإنسان أن يستدين ليحج وعليه دين حال؟ وهل يصح حجه، سواء سمح له صاحب الدين أو لا؟
فأجاب فضيلته بقوله: أولاً: يجب أن نشكر الله عز وجل، ونثني عليه أنه لم يوجب الحج على من عليه دين رأفة بالناس، فإذا كان عليك دين فلا تحج، لأن الحج لم يجب عليك أصلاً، ولو لقيت ربك لقيته وأنت غير مفرط، لأنه لم يجب عليك الحج، فاحمد الله أن الله يسر لك، واعلم أن حق الآدمي مبني على المشاحة. والآدمي لا يسقط شيئًا من حقه، وحق الله مبني على المسامحة، أترد فضل الله عليك؟ وتقول: أحج وعليّ دين؟ ويبقى الدين عالق في ذمتك، مع أن الحج ليس واجب عليك،
فالحج لا يجب على من عليه دين أبداً. إلا إذا كان الدين مؤجلاً وكان الإنسان واثقاً أنه إذا حل القسط فإنه يوفي، وكان بيديه دراهم يمكن أن يحج بها، فهنا نقول: حج لأنك قادر بلا ضرر،
وعلى هذا فالذي عليه دين للبنك العقاري وهو واثق من نفسه أنه إذا حل القسط أوفاه، وبيده الآن دراهم يمكن أن يحج بها فليحج، وأما إذا كان لا يثق أنه يوفي الدين إذا حل القسط فلا يحج
ويبقى الدراهم عنده حتى إذا حل القسط أدى ما عليه.
س 142: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: يوجد عندي ولدان أنوي أن أسافر بهما لأداء فريضة الحج، ولكن عند مراجعة إحدى الحملات طلبوا مبالغ كثيرة قد تصل تكاليفها إلى قرابة(21/117)
عشرين ألف ريال وأنا دخلي محدود، فهل تسقط عنهما فريضة الحج حتى يدركا هذا المبلغ؟
فأجاب فضيلته بقوله: أقول إذا كان مفهوم النظام أن الإنسان يجب أن يعقد مع الحملة من بلده حتى يرجع وهذا يكلفه مالاً لا يستطيعه فإنه لا يجب عليه الحج، لأنه غير مستطيع.
س 143: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: لقد صدر تنظيم الحج عن طريق الحملات وهذا مكلف مادياً لمن عنده أربع بنات، حيث يكلف ذلك حوالي خمسة عشر ألف ريال على أقل تقدير،
فهل يسقط الحج عنهن وفي سؤالهم الآخر يقول: إن هذه السنة نويت الحج وأنا وبعض من أقاربنا على سيارتنا؟
فأجاب فضيلته بقوله: من المعلوم أن الحكومة وفقها الله سنت سنتين: السنة الأولى: أنه لا يحج أحد إلا بعد خمس سنوات، وهذا التنظيم في محله، وذلك من أجل التخفيف على الحاج الذي حج تطوعاً وعلى الآخرين، والحكومة- وفقها الله- لم تمنع الحج، لم تقل: لا تحجوا الفريضة. وفرق بين المنع
والتنظيم، ونقول للأخوة: لا تحزنوا على هذا النظام، لأن أسباب المغفرة- والحمد لله- لا تنحصر في الحج، فالإنسان إذا أسبغ الوضوء وصلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر الله له ما تقدم
من ذنبه (1) . وإذا قال: "سبحان الله وبحمده مائة مرة، حطت
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب الوضوء ثلاثاً (رقم 159) ومسلم، كتاب الطهارة، باب صفة الوضوء وكماله (رقم 226) (4) .(21/118)
خطاياه، ولو كانت مثل زبد البحر" (1) وإذا قال: "سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ثلاثاً وثلاثين وأتم المائة بلا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء
قدير، غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر" (2) وإذا صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، وكذلك إذا قام ليلة القدر (3) ، فأسباب المغفرة والحمد لله كثيرة، فلا تحزن يا
أخي، وساعد الحكومة على النظام الذي فيه الخير، وإذا كنت ولابد فانظر لأخيك الذي لم يفرض، وساعده على فرضه وأعطه النفقة تحز أجر فريضة الحج.
وأما بالنسبة للنظام الثاني، وهو أنه لابد أن يكون الناس يحجون مع الحملات، فالذي أرى أن الناس فهموه على غير المراد، وذلك أن الخيام الآن في منى أخذتها الحملات، فما بقي مكان للخيمة التي تذهب بها العائلة وينصبونها هناك، فرأوا حفظاً للنظام وعدم الفوضى أن يكون الإنسان في أيام الحج خاصة مع حملة، لأنه إذا وصل إلى منى ووجد أن الخيام قد وزعت فأين يذهب، فظني أن النظام هذا يريد أن يكون الإنسان في أيام الحج
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الدعوات، باب فضل التسبيح (رقم 6405) ومسلم، كتاب الذكر والدعاء باب فضل التهليل والتسبيح (رقم 2691) .
(2) أخرجه مسلم، كتاب المساجد، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته (رقم 597) .
(3) أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب من صام رمضان إيماناً واحتساباً (رقم 1901) ، ومسلم كتاب صلاة المسافرين، باب الترغيب في قيام رمضان وصلاة التراويح (رقم 760) .(21/119)
خاصة مع حملة، أما الوسيلة التي تنقله إلى مكة فلا أظن أنه لابد أن يكون مع الحملة فله أن يذهب على سيارته.
س 144: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل يريد أن يحج وعليه أقساط سيارة؟
فأجاب فضيلته بقوله: الرجل الذي يريد الحج وعليه أقساط سيارة نقول: إن كانت الأقساط حالة فليوفها أولاً ثم يحج، لأن وفاء الدين واجب، والحج ليس بواجب حتى لو كان حج فريضة، فإنه لا يجب عليك حتى تقضي دينك. وأما إذا كانت الأقساط لم تحل فينظر هل له ما يقضي به الدين إذا حل فحينئذ يحج، وإن كان ليس عنده إلا هذا المال الذي يريد الآن أن يحج به فلا يحج، ويدخره ويبقيه ليوفي به دينه.
س 145: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: أرجو النصيحة لي: لقد عرض عليّ الحج بتكلفة لا تذكر، لأنها يسيرة جداً وتبرع بها فاعل خير لي، كلما عرض عليّ الحج عن غيري مقابل مبلغ من
المال مع العلم أني قد أديت الفريضة منذ سنوات، وأنا الآن عليَّ دين وهذا المبلغ الذي سوف أتقاضاه مقابل قيامي بالحج عن غيري سوف يسدد أكثر ديني إن لم يكن كله، فما الأفضل في حقي الحج تطوعاً طلباً للمغفرة وخصوصاً أن ذنوبي كثيرة، وأيضاً أنا مشتاق للحج، أم أن الأفضل الحج عن غيري حتى أسدد ديني؟
فأجاب فضيلته بقوله: أرى أن تحج بالمال اليسير لنفسك،(21/120)
وأن تدع هذا، ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، فأنت بتركك الوكالة التي فيها مال، هذا لا شك أنك تركته لله، وإذا تركته لله فسوف يعوضك الله سبحانه وتعالى خيراً منه، فالذي أشير به على الأخ السائل أن يحج لنفسه بالمال الذي تبرع به فاعل الخير إذا لم يكن عليه منة، وأن يسأل الله عز وجل أن يقضي دينه، وأن يقول: "اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك
شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقضِ عني الدين وأغنني من الفقر" (1) .
س 146: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما رأيكم في إنسان يأخذ حجة عن غيره وهو عليه دين وسينفعه ذلك المبلغ المتبقي في سداد دينه أو في معيشته؟
فأجاب فضيلته قوه: هذا من حيث إنه لا يضر بأهل الدين قد نقول: إنه جائز، لأن هذا الذي أخذ دراهم ليحج بها سينتفع بها في قضاء الدين، لكن يشكل على هذا مسألة وهي النية، فإن هذا الرجل حج من أجل المال، ولم يأخذ المال من أجل الحج، فإذا حج الإنسان من أجل المال فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله-: من حج ليأخذ المال فليس له في الآخرة من خلاق. يعني ما له نصيب في الآخرة، لأن الله قال في كتابه: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الذكر والدعاء، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع (رقم 2713) .(21/121)
يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16) (1) فالمشكلة هنا أن هذا الحاج حجِ ليأخذ المال، فصارت نيته بعمل الآخرة الدنيا، فجعل عمل الآخرة وسيلة للدنيا، والعكس هو الصحيح: أن يجعل الدنيا وسيلة لعمل الآخرة، إذن نقول لهذا الأخ: لا تحج لتأخذ المال وتقضي دينك في هذه الحال، فأنت إنما أردت المال فجعلت
الحج كأنه تجارة وكأنه سلعة تريد أن تتكسب بها.
س 147: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: إذا كان عند الإنسان مال وكان في حاجة إلى النكاح ويخاف على نفسه فماذا يقدم الحج أو النكاح؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان عند الإنسان مال وكان في حاجة إلى النكاح ويخاف المشقة بعدم النكاح، أو يخاف الزنا على نفسه إن لم يتزوج فهنا يقدم النكاح على الحج، لأن حاجة الإنسان إلى النكاح كحاجته إلى الأكل والشرب، وفي بعض الأحيان يكون أشد، لذلك قال العلماء: إنه يقدم النكاح على الحج إذا خاف المشقة بتركه.
س 148: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل ذهب للعمل في مكة في موسم الحج فنوى الحج، فقال له بعض زملاء العمل: لا يصح حجك، لأنك حججت بنية العمل، مع العلم بأنه
__________
(1) سورة هود، الآيتان: 15، 16.(21/122)
نوى الحج منذ زمن؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا بأس للعامل الذي يصطحبه صاحب العمل إلى مكة أن ينوي بذلك الحج أو العمرة، لأن الله تعالى قال في الحج: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) (1) ومن المعلوم أنه لا يلزم من اتباع صاحبه أن يعتمر ويحج، فهو بإرادته، فإذا أراد الحج مع الإتيان بالعمل الواجب لصاحبه، فإن له أجراً في ذلك بلا شك، والحج يجزىء عنه، ويسقط به الواجب. وكذلك العمرة.
وأما قول أصحابه: إنه ليس لك حج. هذا قول صادر عن جهل، وبهذه المناسبة أقول إنه ينبغي للإنسان أن لا يعتمد قول العامة وأن يسأل أهل العلم، لأن هذا هو الذي أمر الله به، فقال
تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7)) (2) ، كما أنصح من ليس عنده علم أن لا يتكلم بما لا يعلم، وأقول: إن القول بما لا يعلمِ محرم، وقال الله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)) (3) وقوله تعالى: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)) (4) .
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 198.
(2) سورة الأنبياء، الآية: 7.
(3) سورة الأعراف، الآية: 33.
(4) سورة الإسراء، الآية: 36.(21/123)
س 149: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: عندما حججت أعطاني أخي نفقة الحج وكانت ثلاثمائة ريال عماني، فهل حجي صحيح، أرجو منكم الإفادة؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا حرج على الإنسان أن يقبل هدية من أخيه، يستعين بها على أداء الحج، إذا علم أن ذلك عن طيب نفس منه، فإن الهدية توجب المودة والمحبة، وتبعد سخيمة النفوس، وفيها شرح الصدر للمهدي، وقضاء حاجة ومدونة للمهدى إليه، وهذا لا ينقص شيئاً، لأن هذا كسب طيب، والكسب الطيب لا يؤثر في العبادات.
س 150: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: إذا كان الإنسان قادراً ببدنه عاجزاً بماله فهل يجب عليه الحج؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان قادراً ببدنه مثل من كان من أهل جدة قادر على أن يمشي من جدة إلى مكة، أو من أهل مكة نفسها وقادر على أن يخرج إلي المشاعر فيجب عليه، لأن الله تعالى قال: (مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) فأطلق ولم يقيد.
س 151: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: عامل لم يحج أبداً ويريد الحج، وأنا أريد أن أتكفل بكامل حجه، فهل أدفع قيمة الفدية أم أن عليه دفعها، وما هو الأجر الذي سأحصل عليه؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا الرجل تكفل بالعامل في جميع مؤنته إلا الهدي، فنمْول: يا أخي جزاك الله خيرًا كمّل الهدي،(21/124)
حتى يتم الأجر لك، فإن لم تفعل وكان العامل فقيراً، فالله تعالى قد يسر عليه فيصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع، وزال الإشكال، لكنْ أنا أشير على هذا الكفيل- جزأه الله خيراً- أن يكمل إحسانه، وأن تكون جميع مؤن الحج عليه من نفقة الحج، والهدي، والإحرام وغير ذلك.
وأما الأجر الذي يحصل عليه إن شاء الله ما بينه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "من جهز غازياً فقد غزا" (1) ونقول نحن إن شاء الله بدون تأل على الله: إن جهز حاجاً فقد حج، لأن الحج في سبيل الله، حتى إن بعض العلماء يقولون: إن الفقير إذا كان عاجزاً ولم يؤد الفريضة يعطى من الزكاة؛ لدخوله في قوله تعالى (وفي سبيل الله) وعائشة- رضي الله عنها- قالت: يا رسول الله هل على النساء جهاد؟ قال. "عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة" (2) فنرجو أن يكون لهذا الذي تكفل بحج العامل مثل أجر العامل.
س 152: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: حججت وعليَّ دين فقمت بسداده بعد الحج فهل هذا الحج صحيح؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم الحج صحيح ومقبول- إن شاء الله- وتبرأ به الذمة، لكن من نعمة الله وتيسيره أن الإنسان إذا كان عليه دين فإنه يوفى الدين قبل أن يحج، لأن الدين سابق، ولأن
__________
(1) تقدم ص 33.
(2) أخرجه الإمام أحمد (6/71، 165) وابن ماجه، كتاب المناسك، باب الحج جهاد النساء (رقم 2901) وابن خزيمة (رقم 3074) والبيهقي في سننه الكبرى (4/350) وصححه الألباني.(21/125)
الحج إنما يجب على المستطيع، ومن عليه دين وليس عنده مال إلا بقدر الدين الذي عليه فإنه لا يستطيع الحج، لو خالف وحج فحجه صحيح.
س 153: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: من حج وعليه دين فهل حجه مقبول؟ ومن حج لزوجته بعد موتها فهل حجه مقبول لها؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم من حج وعليه دين فحجه مقبول، لأنه ليس من شروط صحة الحج خلو الذمة من الدين، ولكننا نقول: من عليه دين حال فليوفه قبل أن يحج لسبق وجوب قضاء الدين على قضاء وجوب الحج: وإن كان مؤجلاً وله وفاء، فله أن يحج أيضاً ولا حرج عليه، لأنه قادر على وفائه في المستقبل.
أما حجه عن زوجته فهو أيضاً مقبول إذا حج عنها، ويقول عند إحرامه: لبيك عن زوجتي فلانة. وإذا لم يعينها باسمها كفته النية.
س 154: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: أشرتم إلى الدين ووقوع الناس في التساهل فيه أرجو التعليق فهناك عدد من الشباب يقنتي الآن سيارات بغالي الأثمان ديناً وهو لم يحج ويأخذها
بالأقساط، ويستطيع أن يبيعها ويسدد هذه الأقساط ويحج، ولكنه يجعل ذلك عذراً له ومانعاً عن الحج، وهو لا يدري لعلها تكون(21/126)
قبراً له، فما حكم عمله هذا؟
فأجاب فضيلته بقوله: أرى أن الواجب على الإنسان العاقل إذا كان عنده مال يمكنه أن يشتري به سيارة، أن يشتري سيارة ينتفع بها ويحج بالباقي، فإنه يجب عليه أن يفعل ذلك، ولا يجوز أن يشتري شيئاً بثمن رفيع ويدع الحج؛ لأنه غني يستطيع أن يحج، فالسيارة التي يشتريها بخمسين ألف مثلاً يغني عنها سيارة بعشرين ألف، ويحج بثلاثين، وربما تكون البقية تكفيه للزواج فيحصل له سيارة يركبها ويقضي حاجته ويحج، ويتزوج، وهذه نعمة.
س 155: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يجوز للإنسان الحج وعليه دين، لأن من شروط الحج الاستطاعة؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان على الإنسان دين فلا يجب عليه الحج، لقوله تعالى: (مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) ولا استطاعة لمن عليه دين، لأن إبراء الذمة واجب، لكن إذا كان الدين موثقًا برهن، وكان عنده فضل مال فإنه يجب عليه الحج في هذه الحال، مثل أن يكون الإنسان مديناً لصندوق التنمية العقارية ولم يحل عليه قسط من الأقساط، بل كان قد أوفى جميع أقساطه الحالة، وكان عنده مال فإنه في هذه الحال يجب عليه الحج لأنه بقية دين لصندوق قد وثق بالرهن. وأما القرض الذي هو السلف فإنه دين عند أهل العلم، فأهل العلم يرون أن الدين كل ما وجب في ذمة الإنسان، أو كل ما ثبت في ذمة الإنسان من غرض أو ثمن مبيع أو(21/127)
غير ذلك، فعلى هذا فإنه لا فرقا بين السلف وغيره في اصطلاح الشرع، فكله يسمى ديناً، لأن الدين شرعاً كل ما ثبت في الذمة للغير من مال.
س 156: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل عليه ديون هل الأفضل أن يقضي ديونه ثم يحج هو وزوجته؟
فأجاب فضيلته بقوله: يجب على الإنسان الذي يريد الحج أن يقضي ديونه أولاً ثم يحج. اللهم إذا كان هذا الدين موثق برهن يكفيه وعنده مال يمكنه أن يحج به، في هذه الحال يجب عليه الحج، كما لو كان الإنسان مديناً لصندوق التنمية العقارية وقد رهن بيته لهم، وعنده مال يمكنه، ففي هذه الحال يجب عليه الحج، وإما إذا كان عليه دين، ليس له مقابل، يوفي به فإن الواجب عليه البراءة بقضاء دينه، وفي هذه الحال لا يكون الحج واجباً عليه، دلو قُدِّر، ومات قبل أن يحج فإنه لا إثم عليه، لأن الله اشترط في وجوب الحج أن يكون مستطيعّاً لقوله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) (1) فنقول للسائل: لا يحج إلا بعد أن يقضي الدين الذي عليه.
س 157: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: إنني أعمل في أحد الدوائر الحكومية فإذا شملتني إجازة العيد هل يصح لي الحج دون إذن الجهة المختصة، أو لابد من الإذن؟
__________
(1) سورة آل عمران، الآية: 97.(21/128)
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان هذا الموظف لا يستدعي سفره للحج استئذاناً من الجهة المسؤولة عنه فإن له أن يسافر للحج بدون إذن الجهة، أما إذا كان من الموظفين الذين لا يمكنهم السفر إلى الحج إلا بإذن تلك الجهة فليستأذن، وذلك لأن الموظف بمجرد عقد الوظيفة ملزم بما يقتضيه نظام تلك الوظيفة لقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (1) و (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34)) (2) .
س 158: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يجوز أن أستدين للحج؟
فأجاب فضيلته بقوله: أشير عليه أن لا يفعل، لأن في الاستدانة إشغال لذمته، ولا يدري هل يتمكن من الوفاء فيما بعد أو لا يتمكن، وإذا كان الحج لا يجب على من كان عليه دين فكيف يستدين الإنسان ليحج؟ وعلى كل حال فإذا كان الرجل ليمس عنده مال يمكن منه الحج فإنه لا حج عليه أصلاً، وإذا مات في هذه الحال لا يعد عاصياً، لأنه لا يجب عليه الحج.
س 159: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: أنا شخص لم أؤد فريضة الحج، وعلىّ ديون تقدر بعشرين ألف ريال، وقال أخ لي في الله: حج وأنا أتحمل دينك، وأنا في شوق إلى الحج فهل لي أن أحج؟
__________
(1) سورة المائدة، الآية: 1.
(2) سورة الإسراء، الآية: 34.(21/129)
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان هذا الأخ في الله يريد أن يتحمل نفقة الحج بحيث لا يضرك الذهاب معه فلا بأس أن تذهب، ولا يجب عليك أيضاً، ولكن نقول: لا بأس. لأن فيه منة عليك يخشى يوماّ من الأيام أن لا يكون أخاً لك في الله، ثم بعد ذلك يمنّ عليك، ويقول: هذا جزائي حججت بك في العام الفلاني، والآن تفعل فيّ ما تفعل، أما إذا قدر أنه يخدمهم في القهوة والشاي وما أشبه ذلك فليس لهم عليه منة، إذ إنه هو الذي له المنة عليهم لأنه يخدمهم.
س 160: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يجوز لي أن أدفع تكاليف الحج كاملة لوالدتي، مع العلم أن والدتي تملك تكاليف الحج، لأنني كنت وعدتها بذلك إن وفقني الله إلى ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: يجوز لك أن تعطي والدتك نفقة الحج، ولو كانت غنية تستطيع أن تحج من مالها، وهذا من البر والوفاء بالوعد الذي وعدتها من قبل. والله الموفق.
س 161: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: أنا عندي زوجتان فهل حجهما واجب عليَّ؟
فأجاب فضيلته بقوله: حج الزوجة ليس واجباً على زوجها، إلا إذا كان مشروطاً عليه في عقد النكاح.(21/130)
س 162: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: عامل عليه دين عشرة آلاف، ويعمل في حرفة ويكسب كل يوم مثلاً خمسمائة ريال، فإذا ذهب يحج يبقى على الأقل عشرة أيام، بدون عمل
فيفوته خمسة آلاف، وتبرع رجل بنفقة الحج فهل له أن يحج؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان هذا الرجل عاطلاً ويقول: سافرت إلى الحج أو بقيت فأنا لم أكسب شيئاً فهذا نقول: لا مانع، خذ من صاحبك، وحج به بشرط ألا يخشى فيما بعد أن هذا الذي تبرع له بالمال يمن عليه، وأما إذا كان يمكنه العمل أيام الحج لسداد دينه فلا يحج حتى يقضي دينه.
س 163: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل عليه دين هل يجوز له أن يستأذن من دائنه بالحج؟
فأجاب فضيلته بقوله: لو أذن الدائن في الحج فهل إذنه هذا إسقاط للدين؟ الجواب: لا، ليس إسقاطاً للدين، فليست العلة في عدم حج المدين أن دائنه يأذن أو لا يأذن، العلة أن ذمته مشغولة بالدين، فإذاً سواء أذن أو لم يأذن نقول: لا تحج حتى تقضي دينك، لأن الحج لم يجب عليك، والريال الذي تصرفه في الحج اصرفه في الدين.
س 164: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: من عليه دين ويجد من يحج معهم على نفقتهم بدون منة قلتم بأنه يحج أفلا يسقط عنه الحج إذا أراد أن يعمل في أيام الحج في سداد دينه؟(21/131)
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان يمكنه أن يعمل في أيام الحج لسداد دينه فهنا نقول: لا تحج، وليس عليك حج، لأنك سوف تستغل هذه الأيام بما تقضي به الدين.
س 165: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل عليه دين وهو يريد الحج، وفي الحج يشهد منافع ويعمل ويكتسب ولا يصرف من جيبه شيئاً بل يكتسب ويحج، هل يحج أم لا؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم يحج، لأن هذا لن يخسر في حجه شيئاً، وكما قال عن نفسه إنه يستفيد، فيكون في الحج فائدتان: الفائدة الأولى: أنه يسقط الفريضة عن نفسه. والفائدة الثانية: أنه يكتسب مالاً يستعين به على قضاء دينه.
س 166: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل أراد الحج وعليه دين، ولكنه متفق مع صاحب الدين على أنه إذا مات قبل السداد فلا شيء عليه؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا على كل حال دين هين، والدائن - جزاه الله خيرًا- على هذه الأريحية والنفسية الطيبة، أنه يقول للأخ: إذا مت وأنت لم توف فإنني أسقط عنك الدين. ولكن يشكل علينا مسألة، ربما يموت الدائن قبله. ويطالب بالدين الورثة، فيقع في المشكلة، ولهذا نرى أن لا يتهاون الإنسان بالدين أبداً، فالدين هم في الليل وذل في النهار.(21/132)
س 167: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل يقول لي أمٌّ لم تحج وهي تريد الحج في هذا العام وطلبت مني أن أحضر إليها وأحج بها وأنا في القصيم بعيداً عنها، كذلك علىّ دين، وهذا
الدين معي وأستطيع رده الآن: وأنا أريد أن أحج وحدي من هنا، فما رأيك في هذا الأمر وفقك الله؟
فأجاب فضيلته بقوله: السائل يقول: إنه قادر على وفاء الدين. فنقول لهذا الأخ: أوف الدين، لأن الذي ينبغي للإنسان أن يبادر بوفاء الدين قبل أن يموت، ثم يلعب الورثة في ماله ولا يوفون دينه. فأوف الدين، وحج بأمك، وهذا من تمام البر أن تحج بها، ولقد شاهدت أنا بعيني أناساً قد حملوا أمهاتهم على ظهورهم في الحج من عرفة إلى مزدلفة، ومن مزدلفة إلى منى مع شدة الزحام، ومشقة السير، والله رأيتهم يحملون أمهاتهم على ظهورهم، الأم حقها كبير، وعظيم، سهرها ليلة من الليالي من أجل أن ترتاح وتنام تساوي الدنيا كلها، ألم تعلم أن الأم تسهر بالليل من أجل أن تنام أنت، ثم تنام بعدك، تعبها في الحمل، تعبها في الولادة شيء لا يطاق، فلها حق عظيم عليك، فإذا أمرتك أن تأتي إليها من القصيم إلى بلدها ولو كانت في أمريكا وأنت قادر فاذهب إليها وحج بها، وستجد من الله عز وجل كل خير، لأن البر شأنه كبير وأمره عظيم، ومن بر بوالديه بر به أولاده.(21/133)
س 168: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل عليه ديون كثيرة وأمه تطلب منه أن يحج بها فماذا يفعل؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا نرى أن يحج بأمه وعليه الدين إلا إذا قالت أمه: أنا أتحمل جميع نفقات الحج، فحينئذ نقول: حج معها، لأنك في هذه الحال لن تضر أصحاب الدين شيئاً، وتبر أمك.
س 169: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل يقول: قد حججت والحمد لله ولكن والدي ماتا ولم يحجا وأنا أريد أن أحج، فهل أبدأ بأمي؟ وإن حججت عن أحدهما فأنا أريد أن أتدين
للآخر بالتوكيل عنه ليتم فريضة الحج أفتونا مأجورين؟
فأجاب فضيلته بقوله: نقول حج عن أمك أولاً، لأن الأم أحق بالبر عن الأب، وهذا في الفريضة، أما لو كان حج الأم نفلاً والأب فريضة فتبدأ بالفريضة للأب، لكن ولا تتدين لتنيب من يحج عن أبيك، فإذا كان العام القادم وأنت قادر فحج عن أبيك، وكونك الذي تؤدي الحج خير من كونك تنيب غيرك، لأن إخلاصك لأبيك أكبر من إخلاص غيرك لأبيك، لهذا نقول: لا يجوز لك أن تتدين من أجل أن تنيب من يحج عن أبيك، بل حج عن أمك هذا العام ما دمت قادراً، وفي العام القادم إن كنت قادراً فحج عن أبيك.(21/134)
س 170: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: حججت من زكاة أحد المحسنين، وهذه الزكاة كانت بعض مؤونة فهل يجزىء حجي أم أحج حجاً آخر؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كانت الحجة فريضة، فقد قال بعض العلماء: إن الزكاة تصرف في حج الفريضة. أما إذا كانت نافلة فإنه لا يحل لك أن تأخذ من الزكاة لتحج، مع أن القول الراجح أن الزكاة لا تصرف لحج الفقير الفريضة والنافلة، وذلك لأن الفقير لم يجب عليه الحج فليس فريضة في حقه، حتى إن كان أول مرة يحج، فهذا الذي أخذ الزكاة بناءً على أنه يحتاجها ثم حج وصرف منها نقول له: حجك صحيح وليس عليك إثم، لأنك أخذتها باعتبار أنك فقير، وأدخلتها مع مالك الذي تنفقه على نفسك وحججت بها.
س 171: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: أنا امرأة لم آتِ بفريضة الحج حتى الآن. وزوجي لديه في هذه السنة مال يمكن أن نحج به، ولكن هذا المال هو رصيدنا كله فإذا حججنا به فأننا
سوف نضطر ويكون علينا قصور في النفقة فما الحكم؟
فأجاب فضيلته بقوله: أقول لها انتظري للعام القادم لعل الله أن يفتح لكم برزق يمكنكم الحج به، أما الآن ما دام هذا المال الذي عندكم لو أنكم حججتم به لصار عليكم قصور في النفقة والحاجات فإن الحج لا يلزمكم.(21/135)
س 172: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما حكم الاستنابة في الحج أو العمرة؟
فأجاب فضيلته بقوله: توكيل الإنسان من يحج عنه لا يخلو من حالين:
الحال الأولى: أن يكون ذلك في فريضة.
والحال الثانية: أن يكون ذلك في نافلة، فإن كان ذلك في فريضة فإنه لا يجوز أن يوكل غيره ليحج عنه ويعتمر، إلا إذا كان في حال لا يتمكن بنفسه من الوصول إلى البيت لمرض مستمر لا يرجى
زواله، أو لكبر ونحو ذلك، فإن كان يرجى زوال هذا المرض فإنه ينتظر حتى يعافيه الله ويؤدي الحج بنفسه، وإن لم يكن لديه مانع من الحج بل كان قادراً على أن يحج بنفسه فإنه لا يحل له أن يوكل
غيره في أداء النسك عنه، لأنه هو المطالب به شخصيّاً. قال الله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) (1) فالعبادات يقصد بها أن يقوم الإنسان بنفسه فيها، ليتم له التعبد والتذلل لله سبحانه وتعالى، ومن المعلوم أن من وكل غيره فإنه لا يحصل على هذا المعنى العظيم الذي من أجله شرعت العبادات.
وأما إذا كان الموكل قد أدى الفريضة وأراد أن يوكل عنه من يحج أو يعتمر فإن في ذلك خلافاً بين أهل العلم: فمنهم من أجازه، ومنهم من منعه، والأقرب عندي: المنع، وأنه لا يجوز لأحد أن يوكل أحداً يحج عنه، أو يعتمر إذا كان ذلك نافلة، لأن الأصل في العبادات أن يقوم بها الإنسان بنفسه، وكما أنه لا يوكل
__________
(1) سورة آل عمران، الآية: 97.(21/136)
أحداً يصوم عنه، مع أنه لو مات وعليه صيام فرض صام عن وليه، فكذلك في الحج، والحج عبادة يقوم فيها الإنسان ببدنه، وليست عبادة مالية يقصد بها نفع الغير، وإذا كان عبادة بدنية يقوم الإنسان فيها ببدنه فإنها لا تصح من غيره عنه، إلا فيما وردت به السنة، ولم ترد السنة في حج الإنسان عن غيره حج نفل، وهذه إحدى الروايتين، وعن الإمام أحمد- رحمه الله- أعني أن الإنسان لا يصح أن يوكل غيره في نفل حج أو عمرة سواءً كان قادراً أو غير قادر.
ونحن إذا قلنا بهذا القول صار في ذلك حث للأغنياء القادرين على الحج بأنفسهم، لأن بعض الناس تمضي عليه السنوات الكثيرة ما ذهب إلى مكة، اعتماداً على أنه يوكل من يحج عنه كل عام، فيفوته المعنى الذي من أجله شرع الحج، بناء على أنه يوكل من يحج عنه. والله أعلم.
س 173: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يلزم أن يكون من يحج عنه ميتًا أو عاجزًا؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يجوز أن يستنيب القادر من يؤدي عنه فريضة الحج، إما إذا كان نافلة فقال بعض أهل العلم: إنه يجوز إذا جازت الاستنابة في الفريضة. يعنى بأن يكون عاجزاً لا يستطيع. وأما القادر فلا. وقال بعض العلماء: النفل ليس فيه استنابة لا في حق العاجز ولا في حق القادر، لأن هذه عبادات مطلوبة من الإنسان نفسه، إن كان قادراً فذلك المطلوب، وإن لم(21/137)
يكن قادراً فإما أن تسقط عنه، وإما أن ينيب غيره إذا كان ممن تصح له النيابة، وهذا في نظري أقرب إلى الصواب، لأننا لو فتحنا الباب صار كل إنسان إذا كان ولا سيما الغني إذا جاء وقت الحج نام على سريره وأعطى الناس يحجون عنه، فنقول: هذه عبادة إما أن تقوم بها أنت وإلا فاتركها، وخير من ذلك أن يعين من احتاج إلى حج الفريضة، أو في النافلة فهو أفضل من أن يقول: يا فلان حج عني.
س 174: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: عرض رجل مبلغًا من المال مقابل حجة عن الغير فهل يجوز له أخذ المبلغ، علماً أنه لولا هذا المبلغ لا ينوي الحج لوجود ظروف مانعة؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا أعطى الإنسان مالاً يحج به فلا بأس، لا سيما إذا قصد الإنسان بهذا خيراً، يقصد أولاً: قضاء حاجة أخيه، لأن كثيراً من الناس يتمنى أن يجد من يحج عنه، أو عن ميته مثلاً. ثانياً: أن ينوي بذلك التقوي بهذا المال على الوصول إلى المشاعر، لعله يصاب برحمه الله عز وجل في ذلك المكان. ثالثاً: إذا كان طالب علم ينوي بذلك أن يذهب إلى تلك المشاعر ليهدي الله على يده من شاء من عباده، وبهذه النيات الثلاث كلها نيات طيبة لا تضر.
أما من حج من أجل المال فهذا هو الخاسر، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله-: من أخذ المال ليحج به فلا حرج، ومن حج ليأخذ المال فما له في الآخرة من خلاق. يعني:(21/138)
ما له نصيب من الآخرة، فالذي ينبغي لمن أخذ مالاً ليحج به عن الغير أن ينوي ما ذكرت.
س 175: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: صاحب سيارة من عادته يأخذ ركاب ويحج، فهل له أن يأخذ نيابة عند عرضها عليه؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا بأس؛ لأن هذا الرجل حاج على كل حال.
س 176: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل تجوز العمرة عن الرجل الحي أو الميت؟
فأجاب فضيلته بقوله: العمرة والحج عن الحي إن كان فريضة والحي لا يستطيع أن يأتي بنفسه إلى مكة فلا بأس؛ لحديث ابن عباس- رضي الله عنهما- أن امرأة أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً، لا يقدر على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: "نعم" (1) وأما إذا كان نفلاً وكان من حججت عنه عاجزاً، فالظاهر إن شاء الله أنه جائز، وإن كان قادراً ففيها خلاف بين العلماء، فمن العلماء من يقول: لا يصح أن يحج عن القادر لا فريضة ولا نفلاً، لأن الفريضة يلزم الإنسان أن يحج بنفسه، والنفل لا ينفع أن تقول
لواحد؛ اعبد الله عني. وهذا عندي أقرب من القول بالجواز، لكن
__________
(1) تقدم ص 15.(21/139)
عمل الناس الآن أن الإنسان يحج عن غيره ولو كان الغير قادراً في النافلة.
س 177: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: توسع الناس في الاستنابة في الحج فما هي الطريقة السليمة، أرجو بيان ذلك بوضوح وجزاك الله خيراً؟
فأجاب فضيلته بقوله: توسع الناس في الاستنابة في الحج أمر يؤسف له في الواقع، وقد يكون غير صحيح شرعاً، وذلك لأن الاستنابة في النفل في جوازها روايتان عن الإمام أحمد - رحمه الله- رواية: أن الإنسان لا يجوز أن ينيب عنه أحداً في النفل ليحج عنه أو يعتمر عنه، سواء كان مريضاً، أو صحيحاً، وما أجدر هذه الرواية بالصحة والقوة، لأن العبادات يطلب من المكلف أن يقوم بها بنفسه، حتى يحصل له من العبادة والتذلل لله ما يحصل، وأنت ترى الفرق بين الإنسان يحج بنفسه، وإنسان يعطي دراهم ليحج عنه. الثاني ليس له فضل من العبادة في إصلاح قلبه وتذللا لله عز وجل، وكأنه عقد صفقة بيع، وكَّل فيها من يشترى له أو يبيع له، وإذا كان مريضاً وأراد أن يستنيب في النفل، فيقال: هذا لم تأتِ به السنة، وإنما جاءت السنة في الاستنابة في الفرض فقط، والفرق بين الفرض والنفل أن الفرض أمر لازم على الإنسان، فإذا لم يستطعه وكَّل من يحج عنه ويعتمر، لكن النفل ليس بواجب، فيقال: ما دمت مريضاً وأديت الفريضة فاحمد الله على ذلك، وأبذل المال الذي تريد أن تعطيه من يحج عنك أو(21/140)
يعتمر، في مصارف أخرى، أعن إنساناً فقيراً لم يحج الفرض بهذا المال، فهو خير لك من أن تقول: خذ هذا حج عني، ولو كنت مريضاً. أما الفرض فالناس والحمد لله لم يتهاونوا فيه، لا تكاد
تجد أحداً يوكل عنه من يحج فريضة إلا وهو غير قادر، وهذا جاءت به السنة، كما في حديث ابن عباس- رضي الله عنهما- أن امرأة أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله إن فريضة الله على عباده بالحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: "نعم ".
والخلاصة أن الاستنابة في النفل فيها روايتان عن الإمام أحمد: إحداهما أنها لا تصح الاستنابة. والرواية الثانية: أنها تصح الاستنابة من القادر وغير القادر. والأقرب للصواب بلا شك عندي أن الاستنابة في النفل لا تصح لا للعاجز ولا للقادر. وأما الفريضة للعاجز الذي لا يرجو زوال عجزه فقد جاءت بها السنة.
س 178: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: كثرت في الآونة الأخيرة النيابة عن الغير في الحج، فهل تكرمت يا فضيلة الشيخ ببيان النيابة المشروعة في الفرض والنفل وما صفتها؟
فأجاب فضيلته بقوله: الأصل في العبادات أن تكون من الفاعل المخاطب بها، لأن المقصود بها إصلاح القلب، والتقرب إلى الله عز وجل، وإذا أناب الإنسان غيره فيها، فإنه لا يستفيد هذه
الفائدة العظيمة، فمثلاً: إذا استناب الإنسان شخصاً في الحج، تجده محرمًا متجنباً للمحظورات، وتجد المنيب على كل ما يريد(21/141)
من الشهوات، وربما يكون على المعاصي، فأين العبادة، ولذلك نقول: الاستنابة في الحج إن كانت عن فريضة والمنيب لا يستطيع أن يقوم بها على وجه لا يرجي زواله، فهذا لا بأس به، لأن امرأة
سألت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن أبيها وكان شيخاً كبيراً أدركته فريضة الحج، فقالت: يا رسول الله أفأحج عنه؟ قال: "نعم " وهذا واضح لعجزه، وكذلك لو كان ميتاً ولم يحج
وأراد أحد أن يحج عنه فلا بأس، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سألته امرأة فقالت: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت قال: "حجي عنها" (1) .
أما الاستنابة في النفل ففي ذلك روايتان عن الإمام أحمد: - رحمه الله- إحداهما: أن ذلك جائز، والثانية: أن ذلك ليس بجائز، وفرق بينها وبين الفريضة، بأن الفريضة لابد من فعلها: إما بنفس الإنسان أو بنائبه. وأما النافلة فلا، فتهاون الناس الآن في النيابة في الحج أمر ليس من عادة السلف، ولا كانوا يتجاسرون على هذه النيابة على هذا الوجه، ثم إن بعض الناس ينوب في بعض أفعال الحج مثل بعض الناس يوكل من يرمي عنه وهو قادر على الرمي، تجده جالساً في الخيمة مع أصحابه يتحدث وكأنه في نزهة، ويقول: يا فلان خذ حصاي وارمي عني. أين العبادة؟ فالحج عبادة، ليمس مجرد أفعال تفعل، عبادة يتقرب بها الإنسان إلى ربه عز وجل، ولذلك كان الحج المبرور ليمس له جزاء إلا الجنة، فلا ينبغي الإكثار من الاستنابات، ولكن خير من ذلك
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب جزاء الصيد، باب الحج والنذور عن الميت (رقم 1852) .(21/142)
إذا كان الإنسان قد أدى الفريضة أن يرى رجلاً لا يستطيع أن يؤدي الفريضة فيعطيه دراهم ليحج بها، فيكون قد أعان على حج واجب، وله مثل أجر الفاعل، يعني له أجر الفريضة لقول النبي
- صلى الله عليه وسلم - "من جهز غازياً فقد غزا".
س 179: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: يوجد عندنا رجل من أقاربنا له والد كبير في السن لا يقدر على أداء الحج، وفي السنة الماضية حج هذا الابن عن والده، ولكن ابنه لم يحج عن
نفسه، فلما علمت بذلك قلت له: إن هذه الحجة التي حججتها عن أبيك ليست مقبولة، لأنك حججت عنه قبل أن تحج عن نفسك، فقال: أنا متأكد أنها مقبولة عند الله، فحاولت أن أقنعه أنه
لا يجوز للمسلم أن يحج عن غيره قبل أن يحج عن نفسه، كما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة" (1) . ولكنه رفض ذلك، وحاول أن يضربني بسبب قولي هذا له. فهل قولي صحيح؟ إنه لا يجوز أن يحج عن غيره قبل أن يحج عن نفسه؟ وهل حجته عن والده صحيحة؟ وهل يلحقني شيء من ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان هذا الذي حج عن أبيه لم يكن حج عن نفسه فإن الحجة تكون له، هكذا قال أهل العلم، وعلى هذا فإن عليه أن يحج عن أبيه مرة أخرى، هذا إذا كان قد
__________
(1) أخرجه أبو داود، كتاب المناسك، باب الرجل يحج عن غيره (رقم 1811) وابن ماجه، كتاب المناسك، باب الرجل يحج عن غيره (رقم 2903) والبيهقي في سننه الكبرى (3/155) وقال: إسناده صحيح، ليس في الباب أصح منه. وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (3128) .(21/143)
حج عن أبيه من ماله أي مال نفسه.
أما إذا كان الابن فقيراً ولا يستطيع أن يحج، ولكن أباه أعطاه ما يحج به عنه فإن هذا لا بأس به، وتكون الحجة لوالده؛ لأنه في هذه الحالة لا يلزمه الحج عن نفسه لكونه غير مستطيع، وقد قال الله تعالي: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)) (1) .
أما كونه يغضب من نصيحتك حتى كاد يضربك فإن هذا لا ينبغي، فالمسلم إذا نصحه أخوه فإنه ينبغي أن يشكر له، وأن يدعو له، وأن يمتثل نصيحته، إذا كان صاحب علم وفقه، وإذا لم يكن
كذلك فإنه يظهر له الشكر والاتعاظ وعدم الغضب، ثم بعد ذلك يسأل أهل العلم عما نصحه فيه أخوه، حتى يكون من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. والله الموفق.
س 180: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما حكم من حج عن غيره قبل أن يحج عن نفسه، ولمن تكون حجه؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا حج الإنسان عن غيره وقد وجبت عليه الفريضة بأن كان مستطيعاً، ولكنه لم يحج ثم حج عن غيره فإن ذلك غير صحيح، قال أهل العلم: وتكون الحجة لنفسه، لا
لمن نواها له، وإذا كان قد أخذ شيئاً ممن نوى الحج عنه فإنه يرده إليه.
أما إذا كان لم يحج عن نفسه لعدم استطاعته وحج عن غيره
__________
(1) سورة آل عمران، الآية: 97.(21/144)
فإن هذا لا بأس به، وذلك لأنه إذا لم يكن مستطيعاً فالحج في حقه غير فريضة، فيكون قد أدى عن غيره حجاً في محله فيجزىء عنه.
س 181: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: امرأة تقول: والدتي كبيرة السن وفقيرة وعندها مشاكل تمنعها من السفر لأداء فريضة الحج أو العمرة، وقد عرضت عليها أن تسافر على نفقتي،
ولكن بسبب المشاكل رفضت وأجلت الحج، فهل يصح لي أن أحج أو أعتمر لكلا والديّ؟ علما بأن وادي متوفى أفيدونا جزاكم الله خيراً؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يجوز أن تحجي عن أمك ما دامت قادرة، لأن هذه فريضة لا بد أن يباشرها الإنسان بنفسه، فالواجب على أمك إذا كانت تستطيع أداء الحج بنفسها وعندها مال تقدر أن تحج به ولديها محرم أن تباشر الحج بنفسها، أما إذا لم يكن لها مال فليس الحج بواجب عليها، ولكن إذا بذلت لها المال فإنه يجب عليها أن تقوم بأداء الفريضة، لأن بذل الولد لوالديه ليس فيه
منة.
وأما والدك الذي توفي فلا حرج أن تحجي عنه، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سألته امرأة فقالت: يا رسول إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - "نعم " (1) ، وعلى ذلك فلا حرج أن تحجي عن أبيك الميت. والله أعلم.
__________
(1) تقدم ص 142.(21/145)
س 182: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل موجود في المملكة وإخوانه خارج المملكة ولا يستطيعون أن يعتمروا أو يحجوا وذلك للغلاء فهل يصح أن يعتمر عنهم؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان فريضة فإنه لا يصح أن يعتمر عنهم، لأنهم إن كانوا قادرين فلا بد أن يأتوا إلى العمرة، أو الحج، وإن كانوا غير قادرين فلم تجب عليهم العمرة ولا الحج، لقوله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) (1) أما إذا كانوا قد حجوا من قبل واعتمروا وتريد أن تأتي لهم بعمرة نافلة، فإن هذا لا بأس به عند كثير من أهل العلم، ويرى آخرون أن ذلك لا يصح، ويعللون هذا بأن الاستنابة في الحج إنما جاءت في الفريضة ولم تأت في النافلة، وجاءت في الفريضة للضرورة، لأنها واجبة ولا يتمكن من فرضت عليه من أدائها فجازت الاستنابة فيها للضرورة. وأما التطوع فليس هناك ضرورة تدعو إلى أن يستنيب الإنسان غيره فيه، وعلى هذا فالذي أرى أن لا تعتمر عنهم أيضاً حتى وإن كان نافلة: إن تيسر لهم الوصول إلى البيت فهذا من فضل الله عز وجل، وإن لم يتيسر فالله سبحانه وتعالى حكيم بما يفعل.
س 183: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: من المكلف بالحج عن الأب والأم إذا كانوا موجدين، ولكن لا يستطيعون الحج؟
__________
(1) سورة آل عمران، الآية: 97.(21/146)
فأجاب فضيلته بقوله: ليس أحد من الناس مكلفاً عن غيره لأن العبادات تجب على المكلف ولا تجب على غيره. ولو وجبت عبادة شخص على غيره لزم أن يكون آثماً بتركها، وقد قال الله تعالى: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (1) والوالدان إذا لم يستطيعا الحج فإن كانا لا يستطيعان ببدنيهما مع وجود المال لديهما فإنه يحج عنهما أحد أولادهما، وإذا كانا يستطيعان الحج بأبدانهما فإنه لا يجوز لأحد أن يحج عنهما فريضة الإسلام.
س 184: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما حكم النيابة في الحج، حيث اشترط عليَّ هذا النائب مبلغاً كبيراً من المال هل أعطيه؟
فأجاب فضيلته بقوله: النيابة في الحج إنما تكون لشخص لم يؤد الفريضة وهو عاجز ببدنه أن يذهب إلى مكة عجزاً لا يرجى زواله، أما من كان صحيحًا فلا يستنيب غيره: لا في فريضة ولا في نافلة. وكذلك من كان مريضاً يرجو أن يشفيه الله من مرضه فإنه لا ينيب غيره حتى يشفيه الله من مرضه، فيؤدي الفريضة بنفسه.
س 185: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: الاستنابة في الحج عن الحي هل تجوز؟
__________
(1) سورة الإسراء، الآية: 15.(21/147)
فأجاب فضيلته بقوله: الاستنابة في الفرض عن العاجز عجزاً لا يرجى زواله لا بأس بها، لأنها جاءت بها السنة، وكذلك عن الميت الذي لم يؤد فريضته جاءت بها السنة، أما عن الحي في النفل فأرى أنه لا تصح الاستنابة لا للعاجز ولا للقادر، لأنها إنما جاءت في الفريضة للضرورة بالنسبة للعاجز، والنافلة لا ضرورة فيها، ولهذا أجاز بعض العلماء أن يصرف من الزكاة في حج الفقير، ولا يصرف في نفله، لأن الحج فريضة، والصرف فيه ضرورة بخلاف النفل، فلا أرى الاستنابة في النفل، لأن الحج عبادة أما أن يفعلها الإنسان بنفسه حتى يتأثر بها قلبه ويشعر بأنه متعبد لله، فإن حصل ذلك وإلا فلا حاجة إذا كان لديه مال فليصرفه لمن لم يحج فريضة، فهو أفضل، لأنه أعان في فرض.
س 186: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: شخص يرغب أن يحج نافلة ولكنه لا يستطيع لكبر سنه: فهل الأفضل أن ينيب عنه، أو أن يتصدق بالقيمة جزاك الله خيرًا.
فأجاب فضيلته بقوله: الأفضل أن يعين من يؤدي الفريضة بهذه الدراهم، ولا يوكل أحدًا يحج عنه، لأن التوكيل في الحج إنما جاء في الفريضة دون النافلة، وإذا لم يجد أحداً يحتاج إلى أداء الفريضة فليصرف هذه الدراهم: إما في بناء مسجد يساهم فيه، أو في أعمال صالحة أخرى، أو يتصدق به على فقير، أو قريب.(21/148)
س 187: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: الذي ينوب عن العاجز لمرض أو وفاة في أداء المناسك، ما هي صفة ما يقوم به هذا النائب؟ وهل يلزمه أن يختار حج التمتع أو الإفراد؟
فأجاب فضيلته بقوله: النائب يقول: (لبيك عن فلان) ويجب على النائب أن يتمتع، لأن التمتع هو أفضل الأنساك، وكل إنسان وُكِّلَ في شيء فالواجب عليه اتباع الأفضل، إلا إذا اختار
موكله خلاف ذلك، لأن الوكيل مؤتمن، ويجب عليه فعل الأصلح.
س 188: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: لديَّ قريب يبلغ من العمر سبع عشرة سنة وهو مشلول لا يستطيع المشي، فهل أحج عنه؟ رغم أن عليه بعض الملاحظات مثل تأخير الصلاة أحيانًا عن وقتها؟ أم أأخر الحج إلى الأعوام القادمة بعد أن يكبر؟
فأجاب فضيلته بقول: لا بأس أن تحج عن هذا المشلول الذي أيس من قدرته على الحج في
المستقبل، ولكن الأولى أن تستأذن منه لتكون نائباً عنه قائماً مقامه في هذا النسك، وإن لم تفعل، فلا حرج لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستفصل المرأة التي قالت: إن أباها أدركته فريضة الله عباده في الحج لا يستطيع الركوب على الراحلة (1) ، لم يقل: هل استأذنت منه؟ فدل هذا على أنه يجوز للإنسان أن ينوب عن غيره في أداء النسك، وإن لم يستأذن منه.
لكن الأفضل أن يستأذن، أما كون هذا الرجل المشلول مقصراً في
__________
(1) تقدم تخريجه ص (15) .(21/149)
بعض الطاعات فإنه ربما إذا رأى أن هذا الرجل حج عنه: ربما يكون ذلك سبباً في هدايته على يده.
س 189: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل لي أن أحج أو أعتمر نافلة عن جد لي متوفى مع العلم أن له أبناء؟
فأجاب فضيلته بقوله: الأموات إذا ماتوا انقطعت أعمالهم إلا على حسب ما جاءت به الشريعة، ودليل ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" (1) وانتبه إلى كلمة (يدعو له) مع أن الحديث في الأعمال، وجريان الأعمال بعد الموت يقول: ينقطع إلا من ثلاثة: صدقة جارية، يعني هو يضعها، أو علم ينتفع به يكون عالماً معلماً للخلق ينتفع الناس بعلمه، الثالث أو ولد صالح يدعو له، فلماذا عدل النبي عليه الصلاة والسلام عن العمل للميت- والحديث في سياق العمل- إلى الدعاء؟ لأنه يريد من الأمة أن تكون أعمالهم الصالحة لهم أنفسهم، فهم سوف يحتاجون إلى الأعمال، كما احتاج إليه هذا الميت، فاجعل العمل الصالح لنفسك، واهتدِ بنبيك محمد - صلى الله عليه وسلم -: ادع لجدك، في الحج والعمرة، وهو أفضل من الحج والعمرة، لكن ما جاءت به السنة لا بأس به مثل الصدقة عن الميت، فإن سعد بن عبادة- رضي الله عنه- أراد أن يجعل بستاناً له صدقة لأمه، فأذن له الرسول
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته (رقم 1631) .(21/150)
(1) ، وكذلك الرجل الذي قال: يا رسول الله إن أمي افتلتت نفسها يعني ماتت بغتة، وأظن أنها لو تكلمت لتصدقت، أفأتصدق عنها؟ قال: "نعم " (2) كذلك ورد حج الفريضة عن الميت، كما في
الصحيحين عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أن امرأة أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: "نعم " (3) فما جاءت به السنة، بالنسبة للعمل للأموات فافعل، وما لم تأت به السنة فاعدل عنه إلى ما وجهك إليه الرسول
عليه الصلاة والسلام، وهو الدعاء فأوصيك أن تجعل العمرة لنفسك والحج لنفسك، وأن تدعو لجدك، ولأبيك، وأمك أيضاً في المواقف التي يرجى فيها إجابة الدعاء كعرفة، وصبيحة ليلة مزدلفة، وكذلك عند رمي الجمرات وفي الطواف وفي السعي، فهذا خير لك وللميت.
س 190: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما حكم النيابة بعوض في الحج وهل تنوب المرأة عن الرجل؟
فأجاب فضيلته بقوله: النيابة في الحج جاءت بها السنة، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام سألته امرأة قالت: إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يثبت على الراحلة
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الوصايا، باب إذا قال: أرضي أو بستاني صدقة لله (رقم 2756) .
(2) أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب موت الفجأة البغتة (رقم 1388) ومسلم، كتاب الزكاة، باب وصول ثواب الصدقة عن الميت (رقم 1004) .
(3) تقدم ص 142.(21/151)
أفأحج عنه؟ قال: "نعم " والاستنابة في الحج بعوض إن كان الإنسان قصده العوض فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله-: من حج ليأخذ فليس له في الآخرة من خلاق يعني ليس له نصيب من الآخرة. وأما من أخذ ليحج فلا بأس، فينبغي لمن أخذ مالاً ليحج به نيابة أن ينوي الاستعانة بهذا الذي أخذه على الحج، وأن ينوي أيضاً قضاء غرض صاحبه، لأن الذي استنابه محتاج ويفرح إذا وجد أحداً يقوم مقامه، فينوي بذلك إحسانا إليه بقضائه وتكون نيته طيبة.
س 191: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما هو الضابط لمن يحج عنه، خاصة أننا نجد كثيراً من المحسنين يخص جزءاً من ماله لبعض الناس لكي يحج به، وبعضهم يكون عليه دين فهل لآخذ المال أن يسدد الدين من هذا المال أم يجب عليه أن يحج به كله؟
فأجاب فضيلته بقوله: أما الإنسان الذي يحج عنه، فإن السنة إنما جاءت في حج الفريضة فيمن لا يستطيع أن يحج بنفسه، ولم تأت في حج النافلة أبداً، غاية ما هنالك ما جاء في حديث عبد الله بن عباس- رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة فقال: "من شبرمة؟ قال: أخ لي أو قريب لي قال: "أحججت عن نفسك؟ " قال: لا. قال: "حج نفسك ثم حج عن شبرمة" (1)
__________
(1) تقدم ص 143.(21/152)
قد يتمسك بعض الناس بهذا الحديث، فيقول: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يسأل: هل حج عن شبرمة فريضة أم نافلة؟ فيقال: الحج محتمل، لكن قوله: (حج عن نفسك ثم عن شبرمة) يدل على أن هذا الحج فريضة فالاستنابة بالفريضة عند العجز جاءت بها السنة، والاستنابة في النافلة لم ترد بها السنة إطلاقاً، لكن بعض العلماء قاسها على الفريضة. ثم إن بعض العلماء توسع في هذا، وقال: يجوز للقادر أن يوكل من يحج عنه نفلاً، أما الفرض فإنه لا يجوز، أما أنا فلا أحب أن يتوسع الناس في هذا، ونقول لمن عنده فضل مال يريد أن يعطيه لمن يحج عنه: أعطه لمن يحج فريضة،
وتكون أنت قد ساعدت شخصاً في أداء فرض فيكتب لك مثل أجره، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من جهز غازياً فقد غزا" (1) ، وكذلك من جهز حاجاً فإنه يرجى أن يكون كالذي جهز غازياً، أي يكتب له أجر الحج، وهذا أفضل من أن تقول: خذ هذه الدراهم حج عني، وأنت قادر على أن تحج بنفسك، أرأيت لو قلت لإنسان: أنا اليوم متعب قد أديت الفريضة في صلاة الظهر ولا أستطيع أداء النافلة، فخذ هذه الدراهم وصلّ عني الراتبة؟! فلا شك أن هذا لا يجزىء، فلذلك ينبغي ألا نتوسع في هذه المسألة، وإنما نقول لمن كان عنده فضل مال: الأفضل أن تعين من يحج أو يعتمر، ثم يكون لك أجر إن شاء الله تعالى.
وأما من أخذ للحج وعليه دين وقضى به شيئاً من دينه، فلا بأس إذا أدى الحج على الوجه الذي ينبغي.
__________
(1) تقدم ص 33.(21/153)
س 192: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يجوز لي أن أؤدي العمرة عن أمي التي توفيت، وما هي الشروط في ذلك إن وجدت؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم يجوز أن تؤدي العمرة عن أمك التي توفيت، سواء كانت هذه العمرة واجبة أو غير واجبة.
وأما الشروط فإنه لا بد أن يكون الذي يريد أن يؤدي الحج أو العمرة عن والديه أو أحدهما قد أدى الواجب عليه، ودليل ذلك حديث عبد الله بن عباس- رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة فقال: "من شبرمة؟ " قال: أخ لي أو قريب لي. قال: "أحججت عن نفسك؟ " قال: لا. قال: "حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة" (1) .
س 193: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: عمن وكل شخصاً ليحج عن أمه، ثم علم بعد ذلك أن هذا الشخص قد أخذ وكلات عديدة، فما الحكم حينئذ أفتونا مغفوراً لكم؟
فأجاب فضيلته بقوله: الذي ينبغي للإنسان أن يكون حازماً في تصرفه، وأن لا يكل الأمر إلا إلى شخص يطمئن إليه في دينه، بأن يكون أميناً عالماً بما يحتاج إليه في مثل ذلك العمل الذي وكل
إليه، فإذا أردت أن تعطي شخصاً ليحج عن أبيك المتوفى أو أمك، فعليك أن تختار من الناس من تثق به في علمه وفي دينه؛ وذلك لأن كثيراً من الناس عندهم جهل عظيم في أحكام الحج،
__________
(1) تقدم ص 143.(21/154)
فلا يؤدون الحج على ما ينبغي، وإن كانوا هم في أنفسهم أمناء، لكنهم يظنون أن هذا هو الواجب عليهم، وهم يخطئون كثيراً، ومثل هؤلاء لا ينبغي أن يعطوا إنابة في الحج لقصور علمهم، ومن الناس من يكون عنده علم لكن ليس لديه أمانة فتجده لا يهتم بما يقوله أو يفعله في مناسك الحج، لضعف أمانته ودينه، ومثل هذا أيضا لا ينبغي أن يعطى، أو أن يوكل إليه أداء الحج، فعلى من
أراد أن ينيب شخصاً في الحج عنه أن يختار أفضل من يجده علماً وأمانة، حتى يؤدي ما طلب منه على الوجه الأكمل.
وهذا الرجل الذي ذكر السائل أنه أعطاه ليحج عن والدته، وسمع فيما بعد أنه أخذ حجات أخرى لغيره، ينظر: فلعل هذا الرجل أخذ هذه الحجات عن غيره وأقام أناساً يؤدونها وقام هو بأداء الحج عن الذي استنابه، ولكن هل يجوز للإنسان أن يفعل هذا الفعل؟ أي هل يجوز للإنسان أن يتوكل عن أشخاص متعددين في الحج، أو في العمرة ثم لا يباشر هو بنفسه ذلك، بل يكلها إلى ناس آخرين؟
فنقول في الجواب: إن ذلك لا يجوز ولا يحل: وهو من أكل المال بالباطل، فإن كثيراً من الناس يتاجرون في هذا الأمر، تجدهم يأخذون عدة حجج، وعدة عمر، على أنهم هم الذين سيقومون بها، ولكنه يكلها إلى فلان وفلان من الناس بأقل مما أخذ هو، فيكسب أموالاً بالباطل، ويعطي أشخاصا قد لا يرضونهم من أعطوه هذه الحجج أو العمر، فعلى المرء أن يتقي الله عز وجل في إخوانه وفي نفسه، لأنه إذا أخذ مثل هذا المال فقد(21/155)
أخذه بغير حق، ولأنه إذا اؤتمن من قبل إخوانه على أنه هو الذي يؤدي الحج أو العمرة فإنه لا يجوز له أن يكل ذلك إلى غيره، لأن هذا الغير قد لا يرضاه من أعطاه هذه الحجج أو هذه العمر.
س 194: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: لقد أنعم الله عليَّ وأديت فريضة الحج واعتمرت وأريد أن أؤدي عمرة عن والدتي مع العلم بأنها على قيد الحياة ولكنها كبيرة في السن ولا تستطيع القيام بذلك، ولي أخ يحتاج إلى هذا المبلغ الذي سوف أنفقه في العمرة فهل أؤدي العمرة أو أعطي أخي هذا المبلغ؟
فأجاب فضيلته بقوله: الأفضل أن تعطي أخاك هذا المبلغ، لأن ذلك من صلة الرحم الواجبة. وأما العمرة عن أمك فإذا كانت عاجزة لا تستطيع فتؤدي عنها العمرة في وقت آخر إن شاء الله.
س 195: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل حج العام الماضي ولله الحمد ويريد هذا العام أن يحج عن والدته مع العلم أنها على قيد الحياة ولكن لا تستطيع أن تحج هي لكبر سنها
ولأسباب أخرى مرضية، هل يجوز أن يحج عنها أفيدونا أفادكم الله؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم يجوز أن يحج عنها إذا كان قد حج عن نفسه، وذلك لما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس - رضي الله عنهما- أن امرأة جاءت إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله إن أبي أدركته فريضة الله على عباده في الحج، أفأحج(21/156)
عنه؟ قال: "نعم حجي عنه " (1) وسمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة. قال: "من شبرمة؟ " فقال: أخ لي أو قريب لي. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أحججت عن نفسك؟ " قال: لا. قال: "حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة" (2) فهذا يدل على جواز الحج عن الغير إذا كان لا يستطيع الوصول إلى مكة، ولكن بشرط أن يكون الحاج قد أد الفريضة عن نفسه.
س 196: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما هي شروط النائب؟
فأجاب فضيلته بقوله: النائب يشترط أن يكون قد أدى الفريضة عن نفسه إن كان قد لزمه الحج، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة. فقال: "من شبرمة؟ " فقال الرجل: أخ لي أو قريب لي. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أحججت عن نفسك؟ " قال:
لا. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "حج عن نفسك، ثم حج عن شبرمة". ولأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "ابدأ بنفسك "، ولأنه ليس من النظر الصحيح أن يؤدي الإنسان الحج عن غيره مع وجوبه عليه.
قال أهل العلم: ولو حج عن غيره مع وجوب الحج عليه فإن الحج يقع عن نفسه، أى عن نفس النائب، ويرد للمستنيب ما
__________
(1) تقدم ص 15.
(2) تقدم ص 143.(21/157)
أخذه من الدراهم والنفقة. أما بقية الشروط فمعروفة مثل الإسلام والتمييز.
س 197: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما حكم من أخذ نقودًا ليحج أو من أخذها لمجرد النقود أو حج لمجرد النقود؟
فأجاب فضيلته بقوله: يقول العلماء: إن الإنسان إذا حج للدنيا لأخذ الدراهم فإن هذا حرام عليه، ولا يحل له أن ينوي بعمل الآخرة شيئاً من الدنيا؛ لقوله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)) (1) قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "من حج ليأخذ فليس له في الآخرة من خلاق " وأما إذا أخذ ليحج ليستعين به على الحج فإن ذلك لا بأس به ولا حرج عليه، وهنا يجب على الإنسان أن يحذر من أن يأخذ الدراهم للغرض الأول، فإنه يخشى أن لا يقبل منه، وأن لا يجزىء الحج عمن أخذه عنه، وحينئذ يلزمه أن يعيد النفقة والدراهم إلى صاحبها، إذا قلنا: إن الحج لم يصح ولم يقع عن المستنيب، ولكن يأخذ الإنسان الدراهم والنفقة
ليحج بها عن غيره ليستعين بها على الحج، ويجعل نيته في ذلك أن يقضي غرض صاحبه، وأن يتقرب إلى الله تعالى بما يتعبد به في المشاعر وعند بيت الله.
__________
(1) سورة هود، الآيتان: 15، 16.(21/158)
س 198: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل من الممكن أن تكون بعض الأعمال للنائب؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم لأن النائب لا يلزمه إلا أن يقوم بالأركان والواجبات، وكذلك المستحبات بالنسبة للنسك، وأما ما يحصل من ذكر دعاء فما كان متعلقاً بالنسك فإنه لصاحب
النسك المستنيب، وما كان خارجاً عن ذلك فإنه لصاحبه النائب.
س 199: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما هي النيابة الجزئية في الحج؟
فأجاب فضيلته بقوله: النيابة الجزئية في الحج معناها أن يوكل الإنسان من يقوم ببعض أفعال الحج، مثل: أن يوكل من يطوف عنه، أو يسعى عنه، أو يقف عنه، أو يبيت عنه، أو يرمي عنه، أو ما أشبه ذلك من جزئيات الحج، والراجح أنه لا يجوز للإنسان أن يستنيب من يقوم عنه بشيء من أجزاء الحج، أو العمرة، سواءً كان ذلك فرضاً أو نفلاً" وذلك لأن من خصائص الحج والعمرة أن الإنسان إذا أحرم بهما صار فرضاً ولم كان الحج أو العمرة نفلاً لقوله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) وهذه الآية نزلت قبل فرض الحج أي قبل قوله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) وهذا يدل على أن تلبس الإنسان بالحج أو العمرة يجعله فرضاً عليه، وكذلك يدل على أنه فرض إذا شرع فيه لقوله تعالى: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ(21/159)
وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)) وهذا يدل على أن الشروع في الحج يجعله كالمنذور، وبناء على ذلك فإنه لا يجوز لأحد أن يوكل أحدًا في شيء من جزئيات الحج، ولا أعلم في السنة أن الاستنابة في شيء من أجزاء الحج قد وقعت إلا فيما يروى من كون الصحابة- رضي الله عنهم- يرمون عن الصبيان، ويدل لهذا أن أم سلمة- رضي الله عنها- لما أرادت الخروج قالت: يا رسول الله إني أريد الخروج وأجدني شاكية، فقال: "طوفي من وراء الناس وأنتِ راكبة" (1) وهذا يدل على أنه لا يجوز التوكيل في جزئيات الحج.
س 200: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يجوز إعطاء المال لشخص يحج عني وأنا مستطيع؟
فأجاب فضيلته بقوله: أما إذا كان الحج فريضة، فإنه لا يجوز أن تعطي من يحج عنك وأنت مستطيع، لأن الفرض مطالب به الإنسان أن يقوم به بنفسه وأما إذا كان نفلاً، فقد اختلف العلماء
في ذلك، فمنهم من قال: إنه لا استنابة في النفل، لأن الاستنابة إنما وردت في الفرض، والفرض أمر ملزم به الإنسان فإذا تعذر القيام به فلينيب عنه من يقوم به، أما النفل فليس هناك ضرورة إلى
أن تنيب عنك من يحج عنك أو يعتمر، وعلى هذا لا يجوز أن تنيب من يحج عنك أو يعتمر نفلا وأنت قادر على ذلك، وهذا القول هو الصحيح، لأن الشرع حكمه وهدفه في أن يقوم الإنسان
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب المريض يطوف راكباً (رقم 1633) ومسلم، كتاب الحج، باب جواز الطواف على بعير وغيره (رقم 1276) ..(21/160)
بنفسه بعبادة الله عز وجل، وكما أنه لا يجوز أن تقول لإنسان: صلّ عني تطوعاً بدراهم أو صم عني بدراهم. فكذلك لا يجوز أن تقول: حج عني تطوعاً بدراهم وأنت قادر على أن تحج، أما إذا
كنت عاجزاً عن الحج ولا يمكنك أن تحج، لا حاضراً ولا مستقبلاً فهو أيضاً محل نظر، هل يجوز أن تقيم من يحج ويعتمر عنك أو لا يجوز، وذلك أنه قد يقول قائل: إنه لا يجوز، لأن الاستنابة إنما
وردت في حج الفرض دون الحج النفل، وليس هناك ضرورة في أن تقيم من يحج عنك حج نفل، وقد يقول قائل: إذا كانت الاستنابة قد جازت في حج الفرض وهو أوكد للعاجز فجوازها في
حق النفل الذي هو أخف من باب أولى. والذي أرى أنه للاحتياط لا يوكل من يحج عنه حج النفل ولو كان غير قادر، وإذا أحب أن يكون له أجر الحج، فليعن عليه، أي فليدفع دراهم لإنسان يحج
بها لنفسه، فإن من جهز غازيا فقد غزا، وكذلك من جهز حاجاً فقد حج، لأن الحج نوع من الجهاد في سبيل الله عز وجل.
س 201: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: والدي في السودان كبير السن لكنه يستطيع الحركة قريباً مثل أن يذهب إلى المسجد ويذهب إلى البيوت القريبة، لكنه لا يستطيع العمل لكبر
سنه وبه مرض يلازمه سنين طويلة، وإذا استطاع المجيء إلى الحج فيمكن أن يؤدي الطواف والسعي، ولكن ليس له مال وأنا من هنا لا أستطيع أن أرسل له المبلغ الذي يأتي به وهو يكلف ما يقارب من ثمانية عشر ألف جنيه سوداني فهل يجوز لي أن أحج وأضحي عنه(21/161)
أفتوني بذلك مأجورين؟
فأجاب فضيلته بقوله: إن والدك إذا كان على الحالة التي وصفت ليس عنده مال فإنه لا يلزمه الحج، ولو مات مات غير عاص لله وهو قد كمل دينه، لأن الله تعالى اشترط في وجوب
الحج الاستطاعة، فقال تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) ومن ليس عنده مال فإنه لا يستطيع الحج، وإذا لم يستطع الحج فلا حج عليه فاطمئن على والدك ولا تخف عليه،
ولا تقلق من عدم حجه، لأن الحج ليس واجباً في حقه.
والتضحية للميت جائزة كالصدقة عنه، لكن الأفضل أن يتصدق، فالصدقة عن الميت أفضل من الأضحية، لأن الصدقة عن الميت أذن بها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأما الأضحية فلم يرد عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه ضحى عن أحد من أقاربه، ولهذا من أجاز الأضحية عن الميت إنما أجازها قياساً على الصدقة.
س 202: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل يرغب أن يحج عن مطلقته حج الفريضة لأنها مريضة رداً للفضل الذي بينه وبينها فهل هذا جائز؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كانت قادرة أن تحج بنفسها فلا، وإذا كانت عاجزة لا تستطيع فلا بأس أن يحج عنها حج الفريضة، ولكن يخبرها قبل أن يحج من أجل أن توكله.(21/162)
س 203: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: والدتي قد تجاوزت سن الخامسة والستين وقد انتحل جسمها وضعف، إلا أنها والحمد لله تتمتع ببصر جيد وقدرة على المشي أيضاً، وأرغب
في أداء فريضة الحج نيابة عنها إن شاء الله، خاصة أنها لا تقوى على الزحام والمشي لمسافات طويلة وشفقة مني عليها وحباً في عمل الخيرات والتقرب للمولى عز وجل بطاعة الوالدين أرغب في
تأدية هذه الفريضة نيابة عنها، وأفيدكم أنني وفقت ولله الحمد في أداء الحجة المفروضة؟
فأجاب فضيلته بقوله: الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد خاتم النبيين، وإمام المتقين، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، إذا كانت أمك بهذه المثابة لا تستطيع الوصول إلى مكة والقيام بمناسك الحج إلا بمشقة شديدة فلا بأس أن تؤدي عنها الفريضة، لما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أن النبي سألته امرأة فقالت: إن أبي شيخاً وقد أدركته فريضة الله على عباده في الحج شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: "نعم " وذلك في حجة الوداع، فلا حرج أن تقضي فريضة الحج عن أمك.
س 204: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: عن رجل في دولة إسلامية يريد أن يؤكل من يحج عنه وهو قادر على الحج، ولكن دولته لا تسمح له بالذهاب إلى الحج، لأنه لم يصل إلى سن الحاج(21/163)
الذي حددته الدولة فهل يصح أن أحج عنه أم ماذا؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يصح أن تحج عنه، لأن هذا المانع يرجى زواله إذا بلغ السن النظامي عندهم، فإذا كان يرجى زواله فإنه لا يجوز لمن وجب عليه الحج أن ينيب غيره، ولهذا نقول: إذا جاء وقت الحج والإنسان مريض مرضاً عاديا يرجى أن يشفى منه فليس له أن يوكل، لكن لو كان مريضاً مرضاً مستمراً لا يرجى الشفاء منه فله أن يوكل. وليخبر صاحبه بأنه لا حج عليه لأنه عاجز، وأنه لا يجوز أن يوكل؛ لأنه يرجى زوال عجزه.
س 205: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: عندي ولد مشلول، وأفكر في حجه لأنه لو حج بنفسه فأخاف أن يأتيه الضرر فهل يجوز أن أحج عنه؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان الولد مشلولاً- كما قلت- فإنه يجوز أن تحج عنه الفريضة إذا كنت حججت عن نفسك.
س 206: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: شخص مرض قبل سنة ونصف بمرض حاد، وذلك بسبب ضربة الشمس وهو لم يحج، وهو يخشى من أشعة الشمس الحارة، فهل يجوز له أن
يوكل شخصاً ليحج عنه مع أنه الآن في عافية، ولكن الأطباء يقولون له: إحذر من الشمس؟
فأجاب فضيلته بقوله: يجب عليه أن يحج بنفسه ولا يجوز أن يوكل ما دام فريضة، ولكن يذهب ويحرم من الميقات ويغطي(21/164)
رأسه لقوله تعالى: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) (1) فيذهب ويحرم ويغطي رأسه بالغترة والطاقية، ويطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، أو يصوم ثلاثة أيام، أو يذبح شاة يوزعها على الفقراء في مكة، فالأمر سهل، والحمد لله.
س207: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-. رجل أقعده المرض عن أداء فريضة الحج، وليس له أولاد، وحالته المادية صعبة جداً ما حكم هذا؟
فأجاب فضيلته بقوله: الحج لا يجب إلا على من استطاع إليه سبيلا، كما قال الله سبحانه وتعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) (2) فإذا كنت لا تستطيع السبيل إلى الحج لقلة المال فإنه لا حج عليك، ولو مت في هذه الحال فإنه لا إثم عليك، لأن الواجب يسقط بالعجز.
س 208: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: والدتي كبيرة في السن ولا تستطيع المشي إلا بصعوبة بالغة بسبب مرض في مفاصلها، فهل عليها الحج أم نحج عنها مأجورين؟
فأجاب فضيلته بقوله: حجوا عنها ما دامت لا تستطيع،
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 196.
(2) سورة آل عمران، الآية: 97.(21/165)
وهذا مرض لا يرجى زواله فيحج عنها، لحديث ابن عباس - رضي الله عنهما- أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقالت: يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: "نعم حجي عنه ".
س 209: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: امرأة تريد الحج ولكنها إذا رأت الزحام تصرع فهل ينوب عنها في الحج، علماً بأنها لم تؤد الفريضة؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان هذا مؤكداً أنها إذا رأت كثرة الناس انصرعت فهنا نقول: لا تحجي، ولكن إذا كان عندها مال تستطيع أن تدفعه ليحج عنها وجب عليها أن تنيب من يحج عنها،
فإن لم يكن عندها مال فليس عليها شيء.
س 210: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما وصيتكم لمن يقوم بالحج عن غيره؟
فأجاب فضيلته بقوله: نوصيه بتقوى الله عز وجل، وأن يشعر أنه مسئول سؤال أمانة عن هذا النسك، وأنه يجب عليه أن يأتي به على أكمل الوجوه بقدر المستطاع، لأن الذي يحج عن غيره ليس كالذي يحج عن نفسه، والذي يحج عن غيره يجب عليه أن يعتني بالواجبات والسنن: كل الواجبات، وأما الذي يحج عن نفسه فله أن يقتصر على الواجب.(21/166)
س 211: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: لي والدة في مصر مريضة بالقلب ولا تستطيع أن تأتي بالحج هل أحج عنها وكيف يكون توكيلها بالحج؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كنت تجما عن نفسك فحج عن والدتك، لأنها في هذه الحال لا يرجى أن تقدر على الحج، ومن كانت هذه حاله يوكل من يحج ويعتمر عنه، ولكن بشرط أن يكون الحاج النائب، أو المعتمر النائب قد أدى الواجب من الحج والعمرة.
س 212: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: شاب مريض بالفشل الكلوي حيث يعمل له غسيل ثلاث مرات في الأسبوع، وكذلك فهو ضعيف البنية، فهل عليه الحج بنفسه، أو ينيب غيره، أو ينتظر؟
فأجاب فضيلته بقوله: الظاهر أن مثل هذا المرض عافاه الله منه- وعافانا- الظاهر أنه لا يبرأ، وعلى هذا إذا كان عنده مال وجب عليه أن يوكل من يحج عنه بالمال الذي عنده.
س 213: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل مريض بمرض الصرع منذ ثلاث عشرة سنة ويستعمل دواءً يمنع بقدرة الله تعالى حودث نوبة الصرع، ولكن إذا تعب واجهد حدث له الصرع
فهل يجوز له أن يوكل أحدًا يحج عنه أم يحج ويتحمل؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان هذا لا يرجى أن يزول(21/167)
فليوكل من يحج ويعتمر عنه إن كان عنده مال، وإن لم يكن عنده مال فالحج غير واجب عليه. أما إذا كان يرجى زواله باستمرار الدواء فلينتظر حتى يشفيه الله، وأسأل الله تبارك وتعالى أن يشفيه
ويعافيه ويرفع عنه ما يجد.
س 214: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: امرأة بالغة حصل عليها حادث، وأصبح بها حالة نفسية فهي تخاف من السيارة وأصواتها، وصار في عقلها شيء من التخلف، فهل يحج عنها أم
لا؟
فأجاب فضيلته بقوله: نسأل: هل عندها مال فيحج عنها أم ليس عندها مال فلا يجب أن يحج عنها إذا كان ليس عندها مال، لأنها غير قادرة. وأما إذا كان عندها مال فالظاهر أن مثل هذا المرض لا يزول، فنسأل الله لها الشفاء والعافية، وأن يعينها ويقدرها على أداء الحج.
س 215: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: حججت حجة الإسلام ولله الحمد، ونويت أن أحج لأمي هذا العام، لأنها مسنة مريضة بالقلب والسكر والضغط، فاتصلت بها هاتفياً طمعاً في
توكيلها لي بالحج عنها، لكنها رفضت وقالت: لي أريد أن أحج بنفسي، وأموت في مكة، فهل أساعدها على المجيء والحج وهذه هي حالتها ونيتها أرجو توجيهي في أمري؟
فأجاب فضيلته بقوله: التوجيه أن نقول: إذا كنت لا تخشى(21/168)
عليها أن تموت فإنها إذا رضيت بالمشقة لا بأس دها تحضر وتؤدي المناسك بنفسها. أما إذا كنت تخشى أن تموت إذا سافرت، لأنها لن تتحمل السفر فلا تطعها، وفي هذه الحال لا تكون عاصياً ولا عاقاً، لأنك إنما تريد مصلحتها.
س 216: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: لي والدة مقعدة لا تستطيع القيام بأعمال الحج، هل أحج عنها مع العلم أن السفر يشق عليها للحج محمولة؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان فريضة، وعندها مال فإنك تحج عنها، لأنه إذا كان الإنسان لا يستطيع أن يؤدي الفريضة وعنده مال فإنه يقيم من يحج عنه ويعتمر.
س 217: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: شخص يريد الحج وقد حج فرضه وتنفل، فهل يجوز له أن يشرك معه في حجته وعمرته أحداً من أقاربه كوالديه؟ وهل الأفضل الحج للوالدين
والعمرة لهما أم الأفضل أن يحج عن نفسه ويدعو لهما؟
فأجاب فضيلته بقوله: أما إشراك أحد في حج أو عمرة فهذا لا يصح ولا يمكن أن تقع العمرة لشخصين، أو الحج لشخصين.
وأما كونه يحج عن أمه وأبيه، أو يحج عن نفسه ويدعو لأمه وأبيه، فحجه عن نفسه ودعاؤه لأمه وأبيه أفضل وأحسن، وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو(21/169)
له " (1) ولم يذكر الحج، ولا الصوم، ولا الصلاة، مع أن سياق الحديث في العمل، فدل هذا على أن الدعاء للوالد أفضل من أن يصلي الإنسان له، أو يعتمر أو أن يحج، فمشورتي لهذا الأخ
السائل أن يحج عن نفسه ويدعو لوالديه.
س 218: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل لم يحج الفريضة طيلة السنوات الماضية، حيث إن جهة عمله لم تسمح له بذلك، والآن أحيل للتقاعد ولكنه أصيب بمرض يشق معه الحج
فماذا عليه أفتونا جزاكم الله خيراً؟
فأجاب فضيلته بقوله: ليس عليه شيء حتى يستطيع، لقول الله تعالى: (مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) (2) لكن إن كان هذا المرض لا يرجى زواله وعنده مال وجب عليه أن يوكل من يحج عنه، وإن
كان يرجى زواله فإنه ينتظر حتى يزول.
س 219: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: إذا اعتمر الابن عن أبيه فهل يجوز له أن يدعو لنفسه؟
فأجاب فضيلته بقوله: يجوز أن يدعو لنفسه في هذه العمرة، ولأبيه، ولمن شاء من المسلمين، لأن المقصود أن يأتي بأفعال العمرة لمن أرادها له. أما مسألة الدعاء فإنه ليس بركن ولا
__________
(1) تقدم ص 150.
(2) سورة آل عمران، الآية: 97.(21/170)
بشرط في العمرة، فيجوز أن يدعو لنفسه، ولمن كانت له هذه العمرة ولجميع المسلمين.
س 220: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: شخص حج عن آخر ولكنه يدعو لنفسه فقط؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا حرج في هذا، يعني لو أن الإنسان حج عن غيره، ولكنه عند الميقات قال: لبيك عن فلان ونوى أن هذا النسك عن فلان، وفي طوافه وسعيه ووقوفه: ويدعو لنفسه فحجه صحيح، لأن الدعاء ليس شرطاً في صحة الحج، ولكننا نرى أن الأولى أن يدعو لنفسه ولأخيه، ولأن أخاه هو الذي تكفل بمؤنة الحج فلا يحرمه من الدعاء، وأما النسك فقد تم بدون دعاء.
س 221: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: إذا توكل الإنسان عن آخر في الحج فهل يجعل الدعاء له ويدعو له بضمير الغائب أو باسمه؟
فأجاب فضيلته بقوله: الذي أخذ نيابة في الحج فجمع ما يتعلق بالنسك ثوابه وأجره لصاحبه، والنائب له أجر فيه، وأما الدعاء فللنائب أن يدعو لنفسه، لكن الأفضل أن يشرك صاحبه الذي استنابه، ويقول: رب اغفر لي ولأخي الذي أعطاني النيابة.
وما أشبه ذلك، لكن لو دعا لنفسه فقط فلا حرج عليه.(21/171)
س 222: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل ملتحى يأخذ أموالاً ليحج عن الناس ولا يصلي أبداً هل يصح الحج؟
فأجاب فضيلته بقوله: الرجل الذي لا يصلي أبداً لا في المسجد ولا في البيت، هذا كافر مرتد يجب أن يدعى للصلاة فإن صلى وإلا قتل كافراً لأنه مرتد، ولا يصح حجه حتى لو حج لغيره، فإنه لا يصح، لأنه كافر، وقد قال الله تعالى (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ) (1) مع أن النفقات نفعها متعدٍ ومع ذلك لا تقبل منهم لكفرهم، وعلى من علم أن هذا الرجل كافر عليه أن يغرمه ما أعطاه من الأموال، وأن يحج بدل هذه الحجة إذا كانت فرضاً، وإن كان تطوعاً فلا ليس عليه شيء يعني إن شاء أقام من يحج عنه إن شاء حج بنفسه، وإن شاء لم يحج.
س 223: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: إذا حج الإنسان عن غيره بأجرة فبقي منها شيء فهل يأخذه؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا أخذ دراهم ليحج بها وزادت هذه الدراهم عن نفقة الحج فإنه لا يلزمه أن يردها إلى من أعطاه هذه الدراهم، إلا إذا كان الذي أعطاه قال له: حج منها، ولم يقل: حج بها، فإذا قال: حج منها: فإنه إذا زاد شيء عن النفقة يلزمه أن يرده إلى صاحبه، فإن شاء عفا عنه، وإن شاء أخذه. وإما إذا قال: حج بها، فإنه لا يلزمه أن يرد شيئاً إذا بقي، اللهم إلا أن يكون
__________
(1) سورة التوبة، الآية: 54.(21/172)
الذي أعطاه رجلاً لا يدري عن أمور الحج، ويظن أن الحج يتكلف مصاريف كثيرة، فأعطاه بناء على غرته وعدم معرفته، فحينئذ يجب عليه أن يبين له وأن يقول: إني حججت بكذا وكذا، وأن
الذي أعطيتني أكثر مما استحق، وحينئذ إذا رخص له فيه وسمح له فلا حرج. والله أعلم.
س 224: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: إذا أخذ رجل مالاً ليحج عن الغير وزاد هذا المال عن نفقة الحج، فما حكم هذا المبلغ الزائد؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا قلت لرجل: حج بهذا الألف. وقلت لآخر: حج من هذا الألف، فالأول له الألف كله ولو حج بنصفه، والثاني لا يزيد على ما أنفق؟ لأنه قال له حج من هذا الألف.
س 225: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: شخص أعطاني مبلغًا من المال لأبحث له عن شخص يؤدي فريضة الحج، ويسر الله لي شاباً لكن المبلغ فقد وأنا في الطريق لا أدري: أسرق من
الحقيبة؟ والشاب حج ولله الحمد، ودفعت عنه الهدي واستمحت من حججت عنه وأخبرته بالقصة، فقال: لا حرج، ولكن حيث إن حجة هذا الشاب لم تكلف إلا نصف المبلغ فهل أضمن من المبلغ
ما أتصدق به أم أعيده أم أحجج به شخصاً آخر، أرجو إنقاذي أنقذك الله ووالديك من النار؟(21/173)
فأجاب فضيلته بقوله: ما دام هذا الرجل لم يفرط في حفظ الدراهم، ووضعها في مكان أمين، وضعها أيضاً في جيبه الذي على صدره لا في جيبه الذي على جنبه، لأن الجيب الذي على الجنب
في الزحام ليس حرزًا في الواقع، لأن كل واحد عند الزحام يمكن أن يدخل يده فيها ويخرج ما شاء، لكن يكون الجيب في الصدر، فأقول: إذا لم يفرط فلا بأس، وأما إذا كان مفرطاً فإن عليه أن
يضمن هذه الدراهم، ويرد ما زاد إلى صاحبه الذي أعطاه إياه.
س 226: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: من أعطي دراهم ليحج عن غيره هل يجوز أن ينوب عنه إنساناً آخر؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يجوز للإنسان إذا أعطى حجاً أن يقيم غيره مقامه إلا بعد مراجعة صاحبه، أو إذا قيل له خذ هذه الدراهم أعطها من تراه صالحاً. أما إذا عقد معه على أنه هو الذي سيحج، فإنه لا يجوز أن يعطيها غيره؛ لأن هذا ربما يختار رجلاً لا يحسن أداء المناسك.
س 227: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: شخص وكَّل آخر في الحج ودفع له النفقة فهل لهذا النائب أن يقيم غيره؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا استأذن من الدافع وقال: أنا لست بحاج وسأقيم غيري يحج عنك، وأذن فلا بأس، وإما بدون إذنه وعلمه فلا يجوز.(21/174)
س 228: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما حكم من أخذ نقوداً من أجل أن يحج عن غيره، وكان مقصده التكسب من هذه الحجة وقصر في النفقة في الحج واقتصد وعاد بأكثر من نصف المبلغ الذي أُعطي إياه؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا حج الإنسان عن غيره من أجل الفلوس فأخشى أن لا يقبل الله منه، لقول الله تبارك وتعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ) (1) نعوذ بالله، وقال تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)) (2) فإذا علمت من نفسك إنك تأخذ الدراهم لتحج عن غيرك من أجل الدراهم فلا تفعل، لا تخيب نفسك وتخيب أخاك، أتركها، أما إذا أردت أن تحج عن الغير إحسانًا لأنه يرغب هذا، واستعانة بما يعطيك على أداء النسك، فهذا لا بأس به، وإذا أعطاك شيئاً وبقي مما أعطاك فهو لك، إلا إذا قال ما زاد عن النفقة فرده عليَّ فيجب عليك أن ترده.
س 229: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: أنا رجل أعطيت حجة قبل سنتين وقبل الذهاب إلى الحج حصل عليَّ حادث أدى إلى كسور في رجلي وإحدى يدي منعني من الحج فبقيت الحجة
__________
(1) سورة هود، الآيتان: 15، 16.
(2) سورة الشورى، الآية: 20.(21/175)
عندي خلال سنتين لأن صاحبي رفض آخذها فأمتنع عني السنتين كلها، وهذه السنة إن شاء الله أنوي الحج فيها. وبقي بعض أثر الحادث فهل يجوز لي أن أوكل في رمي الجمرة لشدة الزحام وهل
المال الذي بقي عندي السنتين فيه زكاة؟
فأجاب فضيلته بقوله: تحج هذا العام ولا إشكال، وأما الرمي فإن الزحام ليس مستمرا أربعًا وعشرين ساعة، فالزحام غالباً ما يكون في النهار في أيام التشريق الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر. إن تأخرت، أما في الليل ولا سيما بعد منتصف الليل يخف الزحام، ولا يحل لإنسان أن يوكل على رمي الجمرات وهو قادر على المزاحمة، أو عاجز ويمكنه أن يري في الليل، أما إذا كنت لا تستطيع أن ترمي لا في الليل ولا في النهار لمرض أو نحوه فهذا لا بأس، أن توكل من يرمي عنك.
والزكاة على صاحبها، لأنه ملك له فلو شاء أخذها منك وتصرف فيها.
س 230: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: أعزم على أن أحج في هذه السنة لشخص من أقاربي تبرعاً فما وصيتكم أن أفعل في هذا الحج من ناحيتين: أولاً: هل لي أن آخذ أجرة على هذه
الحجة؟ ثانياً: ماذا أفعل إذا أردت أن أنوي الحج؟ وهل يكون الدعاء لي أو لصاحب الحجة؟
فأجاب فضيلته بقوله: نقول ممن تأخذ الأجرة إذا كنت تريد أن تتبرع لأحد أقاربك بالحج والعمرة فمن الذي يعطيك المال؟!(21/176)
فهذه الفقرة من السؤال غير واردة، لأن من أراد أن يتبرع لا يأخذ عن تبرعه شيئاً.
وعند التلبية تقول: لبيك عن فلان وتسميه، فإن أحببت أن لا يشعر أحد بأنك تحج عن غيرك فقل: لبيك اللهم لبيك. وأضمر في نفسك أنك تريد التلبية عن الشخص المعين.
أما الدعاء فهو لنفسه، ولكن من الأحسن أن يشرك غيره وخاصة الذي حج عنه، أو اعتمر بالدعاء، فيقول: اللهم اغفر لي ولمن كانت له هذه الحجة. أو كانت له هذه العمرة، اللهم اغفر له ولي وارحمنا. ويدعو بالدعاء الذي يشمل نفسه ومن أعطاه المال ليحج به، أما بقية الأعمال كالطواف، والسعي، والوقوف بعرفة، والمبيت بمزدلفة، ورمي الجمرات، والمبيت بمنى، وطواف الوداع فكل هذا للذي حج عنه وليس له منه شيء.
س 231: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل كبير في السن لا يستطيع أن يؤدي فريضة الحج لعجزه عن ذلك فطلب من أحد أقاربه أن حج له وأعطاه المال اللازم للحج، ولكن هذا
الشخص الموكل في حجه ارتكب بعض الذنوب والمعاصي، فما حكم هذا الحج بالنسبة للرجل كبير السن: هل هو صحيح أم أن تلك الذنوب والمعاصي يلحقه شيء منها؟
فأجاب فضيلته بقوله: الحج صحيح مادام لم يف محذوراً يفسده، وأما المعاصي التي فعلها هذا الحاج فإن إثمها عليه، وليس على الكبير الذي حج عنه شيء من إثمها، لأنه لم يفعلها(21/177)
وبالتأكيد لا يرضى بها، فيكون إثمها على من فعلها، وإن الواجب على من أخذ نيابة عن غيره أن يتقي الله عز وجل، وأن يؤدي الأمانة على ما ينبغي، فإن الله تعالى يقول: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)) (1) .
س 232: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل عاجز ببدنه أناب غيره ليحج عنه، ولكن هذا النائب توفي في الحريق الذي حصل بمنى، فمن الذي يأخذ أجر شهيد الحريق؟
وهل يعتبر الحج قضي عن صاحبه، علماً بأنه توفي بعد الوقوف بعرفة؟
فأجاب فضيلته بقوله: شهيد الحريق هو المحترق، والحج انتهى ولا يقضى عنه.
س 233: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: إذا حجت المرأة بدون محرم فهل حجها صحيح؟ وهل الصبي المميز يعتبر محرماً؟ وما الذي يشترط في المحرم؟
فأجاب فضيلته بقوله: حجها صحيح، لكن فعلها وسفرها بدون مَحْرَم مُحَرَّمٌ ومعصية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنه عليه الصلاة والسلام قال: "لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم " (2) والصغير الذي
__________
(1) سورة النساء، الآية: 58.
(2) أخرجه البخاري، كتاب جزاء الصيد، باب حج النساء (رقم 1862) ، ومسلم، كتاب=(21/178)
لم يبلغ ليس بمحرم، لأنه هو نفسه يحتاج إلى ولاية وإلى نظر، ومن كان كذلك فلا يمكن أن يكون ناظراً أو ولياً لغيره.
والذي يشترط في المحرم أن يكون مسلماً، ذكراً، بالغاً، عاقلاً، فإذا لم يكن كذلك فإنه ليس بمحرم.
وهاهنا أمر نأسف له كثيراً وهو تهاون بعض النساء في السفر بالطائرة بدون محرم، فإنهن يتهاون بذلك، تجد المرأة تسافر في الطائرة وحدها وتعليلهم لهذا الأمر يقولون: إن محرمها يشيعها في المطار الذي أقلعت منه الطائرة، والمحرم الآخر يستقبلها في المطار الذي تهبط فيه الطائرة، وهي في الطائرة آمنة، وهذه العلة عليلة في الواقع، فإن محرمها الذي شيعها ليس يدخلها في الطائرة، وإنما يدخلها في صالة الانتظار، وربما تتأخر الطائرة عن الإقلاع فتبقى هذه المرأة ضائعة.
وربما تطير الطائرة ولا تتمكن من الهبوط في المطار الذي تقصده لسبب من الأسباب وتهبط في مكان آخر، فتضيع هذه المرأة، وربما تهبط في المطار الذي قصدته، ولكن لا يأتي محرمها الذي يستقبلها لسبب من الأسباب لمرض، أو نوم، أو حادث في سيارته منعه من الوصول أو غير ذلك، وإذا انتفت هذه الموانع كلها ووصلت الطائرة في وقت وصولها، ووجد المحرم الذي يستقبلها فإنه من الذي يكون إلى جانبها في الطائرة؟ قد يكون إلى جانبها رجل لا يخشى الله تعالى، ولا يرحم عباد الله، فيغريها وتغتر به، ويحصل بذلك الفتنة والمحظور كما هو معلوم.
__________
= الحج، باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره (رقم 1341) .(21/179)
فالواجب على المرأة أن تتقي الله عز وجل، وأن لا تسافر إلا مع ذي محرم، والواجب أيضاً على أولياء النساء من الرجال الذين جعلهم الله قوامين على النساء أن يتقوا الله عز وجل، وأن لا
يفرطوا في محارمهم وأن لا تذهب غيرتهم ودينهم، فإن الإنسان مسؤول عن أهله، لأن الله تعالى جعلهم أمانة عنده، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)) (1) .
س 234: سئل فضيلة الشيخ- رحمه اله تعالى-: هل العمرة للمرأة من دون محرم جائزة أم لا، وهل العمرة للمرأة مع نساء أخريات مع ذي محرم جائزة أم لا؟
فأجاب فضيلته بقوله: سفر المرأة بدون مَحرم مُحرم لا يجوز لا للعمرة ولا للحج ولا لغيرهما، ودليلنا على ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب يقول: "لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم، ولا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم " (2) وأرجو أن تتأملوا كلمة (تسافر) وكلمة (امرأة) امرأة نكرة في سياق النهي، والنكرة في سياق النهي تفيد العموم، كما قرر ذلك في أصول الفقه، وهذا أمر معروف في اللغة العربية، وكلمة (لا تسافر) نهي عن مطلق السفر، لأن الفعل يدل على الإطلاق كما هو معروف. قال - صلى الله عليه وسلم -:
__________
(1) سورة التحريم، الآية: 6.
(2) تقدم ص 178.(21/180)
"لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم " فقال رجل: يا رسول الله أن امرأتي خرجت حاجة وإني أكتتبت في غزوة كذا وكذا، فقال: "انطلق فحج مع امرأتك " (1) فنعه النبي - صلى الله عليه وسلم - من الغزو بعد- أن كتب في الغزو، وقال: "انطلق فحج مع امرأتك ". ولم يسأله النبي - صلى الله عليه وسلم - هل هي مع رفقة مأمونة أم لا؟ هل هي عجوز أم شابة؟ هل هي قبيحة أم جميلة؟ هل آمنة أم خائفة؟ كل هذه لم يسأل عنها رسول الله، ولو كان الحكم يختلف بها لسأله النبي - صلى الله عليه وسلم - لكي لا يفوت عليه أجر الغزوة، ولما لم يستفصل أنصح الخلق، وأعلم الخلق،
عُلم أن الأمر عام وأنه لا يحل لامرأة أن تسافر لا لحج، ولا لعمرة، ولا للزيارة، ولا للعلاج، ولا لأى سبب إلا مع ذي محرم، حتى لو كان معها نساء ومعهن محرمهن، فإنه لا يجوز لها أن تسافر إلا مع ذي محرم، هذا ما أطلقه النبي - صلى الله عليه وسلم - ويجب علينا أن نأخذ بإطلاقه وعمومه.
ولقد قال بعض الناس: إنه يجوز للمرأة أن تسافر في الطائرة بدون محرم إذا كان محرمها يوصلها إلى المطار الذي تقوم منه الطائرة، ومحرمها الثاني يستقبلها في المطار الذي تهبط فيه الطائرة، ونقول لهم: من أين أخرجتم هذه الصورة عن عموم حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -؟! الحديث عام ليس فيه تخصيص، والسفر على الطائرة يسمى سفراً لغة وعرفاً، والمرأة المسافرة على الطائرة تسمى امرأة لغة وعرفاً، فما الذي يخرج هذا السفر من قوله: "لا تسافر "، وما الذي يخرج هذه المرأة من قوله: "امرأة"،
__________
(1) تقدم ص 178.(21/181)
إذا قالوا: السفر قصير نصف ساعة من القصيم إلى الرياض، وساعة من القصيم إلى جدة، وساعة وربع من جدة إلى الرياض؟ قلنا؟ هذه الساعة، أو النصف ساعة كلها تسمى سفراً، والنبي عليه الصلاة والسلام لم يفصّل في السفر، ثم نقول: إن الإنسان يوصل امرأته إلى المطار، وتأخذ بطاقة دخول الطائرة وتذهب إلى الطائرة، وينصرف المحرم، ثم لا تقوم الطائرة لسبب، ثم ينزل الركاب إلى المطار قبل أن تقلع الطائرة، فمع من تكون هذه المرأة؟
ثانياً: لو فرضنا أن الطائرة أقلعت أليس من الممكن أن ترجع لخلل فني، ثم تهبط في المطار الذي طارت منه، وحينئذ تضيع المرأة.
ثالثاً: لو فرضنا أن الطائرة استمرت في السفر ووصلت إلى المطار الذي تقصده وهبطت، فنزلت المرأة من سيصحبها من الطائرة إلى صالة المطار، ثم إذا وصلت إلى صالة المطار: هل نحن نضمن أن المحرم الذي يريد استقبالها يكون في المطار؟ لو تأخر في السير بسبب الزحام بقيت المرأة لا تدري أين تذهب في هذه الصالة، وربما تخدع ويحملها شخص يقول لها: أنا أوصلك إلى بيتك. ثم يضرب بها المهالك، والإنسان يجب أن يكون لديه غيرة على محارمه، ثم بعد هذا أيضاً نقول: لو زالت كل هذه
الأسباب، أو هذه الفتن، فمن الذي يكون إلى جنبها في الطائرة؟ قد يكون إلى جنبها في الطائرة رجل من أفسق الناس، فيغرر بها وحينئذ تحصل الهلكة يأخذ منها رقم الهاتف ويعطيها رقم هاتفه،(21/182)
ويضحك إليها وتضحك إليه، ويحصل بذلك البلاء ومهما كان يجب علينا معشر المسلمين أن نقول: إذا سمعنا الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نقول: سمعنا وأطعنا. ولا ندع امرأة منا تسافر بدون محرم، سواء كان معها نساء أم لا، وسواء كانت آمنة أم لا، وسواء كانت شابة أم عجوزاً، وسواء كانت جميلة أم قبيحة.
س 235: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: امرأة تريد السفر إلى جدة للعمرة، وودعها محرم لها من الرياض، وركبت الطائرة واستقبلها في جدة محرم آخر هل يجوز ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان الأمر قد وقع فقد انتهى، ومع ذلك فإن هذا حرام عليها، لأنها داخلة في عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم " (1) وهذه امرأة سافرت بدون محرم، فصدق عليها الوقوع فيما نهى عنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد تقول: إن محرمها إذا شيعها إلى المطار واستقبلها المحرم الآخر زال المحذور، والرسول عليه الصلاة والسلام ما نهى عن ذلك إلا خوف المحذور فلا بأس، فالجواب أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أطلق النهي قال: " لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم " فقال رجل: يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجة، وإني أكتتبت في غزوة كذا وكذا، فقال: "انطلق فحج مع امرأتك " (2) فأمره الرسول عليه الصلاة والسلام أن يلغي الغزوة وأن يذهب مع امرأته. وهل استفصل النبي - صلى الله عليه وسلم - من
__________
(1) تقدم ص 178.
(2) تقدم ص 178.(21/183)
هذا الرجل، وقال: هل امرأتك آمنة أو غير آمنة؟ هل قال: معها نساء أو لا؟ هل قال: هي عجوز أو شابة؟ لم يقل ذلك، فالأصل بقاء اللفظ على عمومه، لا سيما أن قصة هذا الرجل وقعت مؤيدة
للعموم، وأما كون محرمها يشيعها للمطار، فأرجو أن تكونوا معي في هذه المسألة إن كنت أخطأت فصححوا خطئي، وإن كنت أصبت فوافقوني على هذا وحذروا الناس، هذا الذي ذهب معها
إلى المطار من العادة أن الصالة التي للمسافرين لا يدخلها إلا المسافر وحده وهو سيشيعها إلى هذه الصالة ويرجع هذا الغالب، وإذا رجع هل من المؤكد مئة في المئة أن الطائرة ستقلع في الوقت المحدد؟ فقد تتأخر، ثم إذا أقلعت في الوقت المحدد وسارت في الجو هل من المضمون بالتأكيد أنه سيبقى الجو ملائماً، أو قد تحدث حالات توجب رجوع الطائرة؟ الجواب: قد تحدث مثل هذه الحالات. ثم لو فرض أنها استمرت ووصلت إلى البلد الذي فيه الهبوط، فقد لا يتسنى ذلك فتذهب إلى مكان آخر، فمن يقابلها في المطار الثاني؟ وإذا قدر أنها هبطت في المطار الذي تريد الهبوط فيه، فهل المحرم الذي كان من المقرر أن يقابلها هل مقابلته إياها مضمونة، وفي نفس الوقت هي غير مضمونة، فقد
يعتريه مرض وقد يضيع، وقد تكون السيارات مزدحمة، فينحبس بازدحام السيارات كل هذا وارد، ولو سلمنا أن كل هذه الموانع فقدت وجاءت المسألة على ما يرام، ولكن من الذي يجلس إلى
جانبها في الطائرة؟ وقد يجلس إلى جانبها رجل عفيف وغيور على محارم المسلمين فيحميها، وقد يكون أحسن من محرمها، وقد(21/184)
يجلس إلى جانبها فاجر ماكر مخادع يغرها ويغريها، وما دامت المسألة خطيرة، والشارع له تشوف بالغ لحفظ الأعراض حتى قال الله عز وجل: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا) (1) ولم يقل: ولا تزنوا حتى نبتعد
عن كل ما قد يكون سبباً للوصول إلى الزنا، فإن الواجب على المؤمن الخائف من الله عز وجل الغيور على محارمه أن لا يمكن أحداً من محارمه من السفر إلا بمحرم، وما أيسر الأمر اذهب معها
وأوصلها وارجع والحمد لله أنت مثاب على ذلك.
س 236: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: امرأ تقول: أنا أنوي أن أؤدي العمرة في رمضان ولكن برفقة أختي وزوجها ووالدتي، فهل يجوز لي أن أذهب للعمرة معهم؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يجوز لك أن تذهبي للعمرة معهم، لأن زوج أختك ليس محرماً لك وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: سمعتما النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب يقول: "لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم، ولا تسافر
امرأة إلا مع ذي محرم " فقال رجل: يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجة، وأني أكتتبت في غزوة كذا وكذا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "انطلق فحج مع امرأتك" (2) ولم يستفصل النبي - صلى الله عليه وسلم - هل مع هذه المرأة نساء، وهل كانت شابة أم عجوزاً؟ وهل كانت آمنة أم غير آمنة؟ وهذه السائلة إذا تخلفت عن العمرة من أجل أنه لا محرم لها فإنه
__________
(1) سورة الإسراء، الآية: 32.
(2) تقدم ص 178.(21/185)
لا إثم عليها، حتى ولو كانت لم تعتمر من قبل، لأن من شروط وجوب العمرة والحج أن يكون للمرأة محرم.
س 237: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: سائلة تقول: أنا أخت مستقيمة على دين الله ومتحجبة، وأريد الحج إلى بيت الله الحرام، وأعرف أنه لا يجوز لي الحج بدون محرم، وأنا لا يوجد
معي محرم، فهل أذهب إلى الحج وحدي فأنا متشوقة إلى مكة المكرمة ومسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم -؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يجوز للمرأة أن تسافر بلا محرم لا للحج ولا غير الحج، وهي إذا تخلفت عن الحج لعدم وجود محرم لها فليس عليها إثم، ويدل لهذا أنه ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب يقول: "لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم " فقال رجل: يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجة، وأني أكتتبت في غزوة كذا وكذا؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "انطلق فحج مع امرأتك " مع أن هذه المرأة
خرجت للحج، ومع ذلك أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - زوجها أن يحج معها، وأنت لا تتعبي نفسك وضميرك، أنك إذا بقيت من أجل عدم المحرم فقد تركت الحج بأمر الله عز وجل، لأن السفر بدون محرم قد نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فالإقامة من أجل عدم المحرم تكون
استجابة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -.(21/186)
س 238: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: والدتي في المغرب وأنا أعمل في السعودية، وأنا أريد أن أرسل لها حتى تحضر لتقوم بأداء فريضة الحج وليس معها محرم، لأن والدي متوفى وإخواني وأخوالي ليس عندهم القدرة على الذهاب إلى فريضة الحج، هل يجوز أن تحضر لوحدها وتحج لوحدها؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يجوز أن تأتي إلى الحج وحدها، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم " قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب الناس فقال رجل: يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجة، وأني أكتتبت في غزوة كذا وكذا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "انطلق فحج مع امرأتك " فإذا لم يكن لها محرم فإن الحج لا يجب عليها، إما أن الفريضة سقطت عنها لعدم القدرة على الوصول إلى البيت، وعدم القدرة هنا عجز شرعي، وإما أنه لا حما عليها أداءها بمعنى أنها لو ماتت حج عنها من تركتها، وعلى كل حال إني أقول لهذا السائل: لا تضيق المرأة ذرعاً بعدم قدرتها على الحج، لعدم وجود المحرم، فإن ذلك لا يضرها، ولا يلحقها إثم إذا ماتت وهي لم تحج، لأنها معذورة شرعاً لأنها غير مستطيعة شرعاً، وقد قال الله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) (1) .
س 239: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: من هم المحارم للمرأة؟
__________
(1) سورة آل عمران، الآية: 79.(21/187)
فأجاب فضيلته بقوله: المحارم للمرأة زوجها وكل رجل تحرم عليه تحريماً مؤبداً بقرابة، أو رضاع، أو مصاهرة فهؤلاء هم المحارم، فأما من تحرم عليه تحريما غير مؤبد فليس بمحرم لها، مثل: أخت الزوجة، وعمتها، وخالتها، فإن أخت الزوجة، وعمتها، وخالتها يحرمنّ على الرجل ما دامت الزوجة في عصمته تحريماً غير مؤبد، فلا يكن محارم له، وعلى هذا فلا يجوز للإنسان أن ينظر إلى أخت زوجته ولا إلى عمة زوجته، ولا إلى خالة زوجته، لأنهنّ من غير المحارم وقوله بنسب أي بقرابة،
والمحرمات بالقرابة سبع مذكورات في قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ) (1) والمحرمات بالرضاعة كالمحرمات
بالنسب سواء بسواء، لقوله تعالى: (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ) وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب " (2) فيحرم على الرجل أمه من
الرضاع، وبنته من الرضاع، وأخته من الرضاع، وعمته من الرضاع، وخالته من الرضاع، وبنت أخيه من الرضاع، وبنت أخته من الرضاع.
وأما المحرمات بالمصاهرة فإنهنّ أربع: أم الزوجة، وبنتها، وزوجة الابن، وزوجة الأب، فأما زوجة الأب، وزوجة
__________
(1) سورة النساء، الآية: 23.
(2) أخرجه البخاري، كتاب الشهادات، باب الشهادة على الأنساب (رقم 2654) ، ومسلم، كتاب الرضاع، باب تحريم ابنة الأخ من الرضاعة (رقم 1446) (13) .(21/188)
الابن، وأم الزوجة فيكنّ محارم بمجرد العقد، وأما بنات الزوجة فلا يكن محارم إلا بعد الدخول بالزوجة أي بعد وطئها، وبناء على ذلك فلو أن رجلاً تزوج امرأة ثم طلقها قبل أن يجامعها، وكان لها بنت من غيره فله أن يتزوج هذه البنت بعد أن تنتهي عدة أمها التي طلقها، ولو كان لهذه الزوجة أم لم يحل له أن يتزوج أمها بل هي من محارمه، لأن أم الزوجة لا يشترط لكونها محرمة أن يدخل
بالزوجة بخلاف بنت الزوجة.
س 240: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما حكم سفر المرأة مع غير محرم لها، وهذا الرجل معه أخته مسافة ثلاثمائة كيلومتر؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يجوز أن تسافر المرأة إلا مع محرم، لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى عن ذك، فقال: "لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم " فسأله رجل وقال: يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجة، وإني أكتتبت في غزوة كذا وكذا. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " انطلق فحج مع امرأتك "
س 241: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: أنا أعمل بالمملكة وأريد أن أحضر الوالدة لكي تحج معي، وهي تبلغ من العمر الخامسة والخمسين ولا يوجد محرم لها يحضرها من مصر أريد بهذا العمل أن أبرها فما حكم هذا العمل؟
فأجاب فضيلته بقوله: حكم هذا أن أمه ليس عليها فريضة(21/189)
ما دامت لا تجد محرماً، ولا يحرج لا يضيق صدره، فإن الله تعالى قد يسر العبادة، ولهذا نص الله تبارك وتعالى على شرط الاستطاعة في الحج فقال: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) (1) والمرأة إذا لم يكن لها محرم فإنها لا تستطيع الحج، إذن أنه لا يجوز لها أن تسافر إلا مع ذي محرم، فإن تيسر له أن يذهب إلى مصر وأن يأتي بها، أو أن تأتي أمه مع محرم لها من هناك ويتلقاهم فهذا خير، وإن لم يتيسر فلا حرج على الجميع.
س 242: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: إذا حجت المرأة بدون محرم فهل عليها الحج مرة أخرى؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا حجّت المرأة بلا محرم فهي عاصية لله ورسوله، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم " فقام رجل فقال: يا رسول الله، إن امرأتي خرجت حاجة، وإني أكتتبت في غزوة كذا وكذا قال: "انطلق فحج مع امرأتك " (2) لكن الحج مجزىء، يعني لا يلزمها أن تعيده مرة أخرى، بل عليها أن تتوب إلى الله وتستغفر مما حصل منها.
س 243: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل المرأة محرم لامرأة أخرى مع رجل أجنبي؟
فأجاب فضيلته بقوله: الحمد لله رب العالمين، وأصلي
__________
(1) سورة آل عمران، الآية: 97.
(2) تقدم ص 178.(21/190)
وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، المرأة لا تكون محرماً للمرأة، لكن تزول بها الخلوة، وعلى هذا فإذا سافرت امرأة مع رجل ليس من محارمها ومعها امرأة، فإن ذلك حرام على المرأتين جميعاً، إلا إذا كان الرجل محرماً لإحداهما، فإنه لا يحرم على المرأة التي كان محرماً لها أن تسافر معه، لكنه حرام على المرأة الأخرى، هذا بالنسبة للسفر، لأنه لا يجوز لامرأة أن تسافر إلا مع ذي محرم. وتهاون بعض الناس في هذه المسألة اليوم مما يؤسف له، فإن بعض
الناس صار يتهاون فتسافر المرأة بلا محرم، ولا سيما في الطائرات (1) ، فالمسألة هذه خطيرة خطيرة جداً، والخلاصة أن أي امرأة تريد سفراً فيجب أن يكون معها محرم بالغ عاقل. أما الخلوة في البلد فلا يجوز للمرأة أن تخلو بالسائق في السيارة، ولو إلى مدى قصير، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم " (2) ولكن إذا كان مع المرأة امرأة أخرى وكان السائق أميناً فهنا لا خلوة فلا حرج أن تركب في السيارة هي والمرأة ما دام أن ركوبها ليس سفراً، وحينئذ نقول: زالت الخلوة بالمرأة المصاحبة ولا نقول: إن المرأة المصاحبة تعتبر محرماً، بل نقول: إن الممنوع في البلد أن يخلو الرجل بالمرأة، في خلاف السفر، فالسفر الممنوع أن تسافر المرأة بلا محرم، وبين المسألتين فرق واضح.
__________
(1) تقدم تعليق فضيلة الشيخ -رحمه الله- على سفر المرأة بالطائرة بدون محرم.
(2) تقدم ص 178.(21/191)
س 244: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما حكم السفر بالطائرة بدون محرم علماً بأن محرمي ودعني في المطار الأول، ثم أستقبلني المحرم الثاني، في المطار الثاني، وذلك بأن سفري كان
ضروريا؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا أري جواز سفر المرأة بلا محرم، لا في الطائرة، ولا في السيارة، لعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم "
فإن قال قائل: إن الطائرة لم تكن معروفة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قلنا: نعم إنها غير معروفة، لكنها معلومة عند الله عز وجل، ولو كان الحكم يختلف لبينه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بيانا شافياً: إما تصريحاً أو إشارة، فلما لم يصدر فيه شيء من ذلك علمنا بأن سفر المرأة بلا محرم محرّم في الطائرة وغيرها.
وأما قول بعضهم: إن الطائرة بمنزلة السوق بالنسبة للأسواق التي يجتمع فيها الرجال والنساء بدون محرم، فجوابه أن يقال: السوق ليس بسفر، والحكم الشرعي معلق بالسفر، فما دام ركوب الطائرة من بلد إلى بلد يسمى سفراً فهي مسافرة، وأما تعلل بعضهم بأنها في الطائرة آمنة لكون محرمها يشيعا حتى تركب، والآخر يستقبلها إذا وصلت. فهذا ليس بصحيح، أي ليس تعللا صحيحاً، أولاً: أن المحرم يشيع والغالب أنه لا يصل معها إلى ذات الطائر وأنها تبقى في صالة الانتظار ثم تركب مع الناس.
ثانياً: أنه على فرض أنه أوصلها إلى باب الطائرة وركبت أمام عينه، فإن الطائرة قد يعتريها ما يمنعها من الاقلاع إما لخلل فني،(21/192)
أو لتغير جوي، أو لأي سبب، وهذا يقع، فإذا قيل للركاب: تفرقوا فمن الذي يؤويها، وإذا قدر أنها أقلعت في الوقت المحدد فهل استمرار سيرها مضمون إلى المطار الذي قصدته؟ غير مضمون، قد يحدث في الجو في أثناء طيرانها ما يمنع هبوطها في المطار الذي قصدته، وقد يكون فيها خلل فني مما يجعلها تذهب يميناً أو شمالا إلى مطارات أخرى، فإذا ذهبت إلى مطارات أخرى، وهبطت في المطار فمن الذي ينتظرها هناك، ثم إذا سلمنا وفرضنا أنها وصلت إلى المطار المقصود بسلام، فمحرمها الذي يقابلها هل نحن نضمن أن يأتي في الوقت المحدد؟ لا، لا نضمن ذلك قد يعتريه نوم، أو مرض، أو خلل في سيارته، أو زحام في الطريق، أو ما أشبه ذلك من الموانع، دلا يأتي في الوقت المحدد، وتبقى إذا نزلت المطار أين تذهب فيحصل بذلك شر، وهذه المسائل وإن كانت نادرة وبالألف مرة واحدة، أو بعشرة آلاف مرة واحدة، لكن ما الذي يمنعنا أن نقول: لا تركب الطائرة إلا بمحرم امتثالا لأمر الرسول عليه الصلاة والسلام حيث قال: "لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم " ونسلم من هذه التقديرات كلها.
فنصيحتي لأخواتي ولإخواني المسلمين أن يتقوا الله عز وجل وأدن يمنعوا نساءهم من السفر إلا بمحرم، والحمد لله الأمر متيسر حتى وإن كان المحرم عنده شغل يمكنه أن يركب بهذه الطائرة ويوصلها إلى أهلها، أو إلى المكان الذي تريده ثم يرجع بطائرة أخرى، أو يكون المحرم الثاني مستقبلاً لها يأخذها معه ويرجع بطائرته. والله الموفق.(21/193)
س 245: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: امرأة عزمت على أداء فريضة الحج وقطعت تذكرة الطائرة ثم مات زوجها فهل يجوز لها أن تذهب إلى الحج في أثناء عدتها وليس لها محرم؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يحق لها أن تذهب إلى الحج في أثناء عدتها، بل يجب عليها أن تبقى في البيت الذي مات زوجها وهي ساكنة فيه، ثم تحج في العام القادم. أما لو مات في أثناء الطريق فلا حرج عليها أن تكمل المشوار وتكمل حجها، ثم تعود إلى بلدها فور انتهاء الحج لتقضي العدة في بيتها.
س 246: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يجوز للزوج أن يمنع زوجته من أداء فريضة الحج؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يجوز للرجل أن يمنع زوجته من فريضة الحج، لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فإذا كانت الزوجة عندها مال ولها محرم ومستعد بأن يحج بها، وهي لم تؤد الفريضة، فغلط من زوجها أن يمنعها ولها أن تحج مع غيره من محارمها، لكن إن خافت أن يطلقها فإن لها أن تتأخر، لأن طلاقها ضرر عليها، وقد قال الله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) (1) .
س 247: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: إذا كانت المرأة لا يوجد لها محرم ولم تؤد فريضة الحج، ويوجد نساء يردن الحج
__________
(1) سورة آل عمران الآية: 97.(21/194)
فهل تحج معهن وهن ملتزمات وموثوقات جداً جداً أم يسقط عنها الحج في هذه الحالة، أرجو الإجابة مأجورين؟
فأجاب فضيلته بقوله: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، الحج لا يجب على هذه المرأة التي لم تجد محرماً، لقول الله تبارك وتعالى (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) وهذه المرأة وإن كانت مستطيعة استطاعة حسية فإنها غير مستطيعة استطاعة شرعية، وذلك أنه لا يحل للمرأة أن تسافر إلا مع ذي محرم، لقول ابن عباس- رضي الله عنهما- سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب يقول: "لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم " فقام رجل قال: يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجة، وإني أكتتبت في غزوة كذا وكذا؟ فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "انطلق فحج مع امرأتك " (1) فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدع الغزوة، وأن ينطلق فيحج مع امرأته، ولم يستفصل النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الحال: هل المرأة معها نساء ملتزمات؟ وهل هي آمنة أو غير آمنة؟ هل هي شابة أو عجوز؟ فلما لم يستفصل، بل أمر هذا الرجل أن يدع الغزوة ويذهب ليحج مع امرأته. دل ذلك على العموم، وأنه لا يحل لامرأة أن تسافر للحج ولا لغيره إلا مع ذي محرم، حتى وإن كانت آمنة على نفسها، وإن كانت مع نساء، وفي هذه الحال هي غير مستطيعة شرعاً، فلو توفيت ولاقت الله عز وجل فإنها لا تكون مسئولة عن هذا الحج، لأنها معذورة، لكن من العلماء من قال:
__________
(1) تقدم ص 178.(21/195)
إن المحرم ليس شرط لوجوب الحج. وعلى هذا فلا يلزمها أن تستنيب من يحج عنها إذا كانت قادرة بمالها، لأن شرط الوجوب إذا انتفى يسقط مثل ما يسقط بانتفاء الوجوب، ومن العلماء من قال: إن المحرم شرط لوجوب الأداء، أي للزوم حجها بنفسها، وبناء على هذا يلزمها أن تستنيب من يحج عنها إذا كان عندها مال، وإذا توفيت فإنه يجب إخراج الحج عنها من تركتها.
فنقول لهذه السائلة: اطمئني فأنت الآن لست آثمة إذا لم تحجي، بل إذا حججتي فأنت آثمة، وإذا مت ليس في ذمتك شيء، لأنك غير مستطيعة شرعاً، وكثير من الناس يكون مشتاقاً إلى الحج ومحباً للحج، فيرتكب بعض المحرمات من أجل تحقيق رغبته وإرادته ومحبته، وهذا غير صحيح، بل الصحيح أن تتبع ما جاء به الشرع في هذه الأمور وفي غيرها، فإذا كان الله تعالى لم يلزمك بالحج فلا ينبغي أن تلزم نفسك بما لا يلزمك، ومثال ذلك: أن بعض الناس يكون في ذمته دين لأحد فتجده يذهب للحج وذمته مشغولة بهذا الدين، مع أن الحج، في هذه الحال لا يجب عليه، بل هو بمنزلة الفقير لا تجب عليه الزكاة، فكذلك هذا الذي عليه الدين لا يجب عليه الحج، ولا يكون آثماً بتركه، ولا مستحقاً للعقاب إذا لاقى الله عزّ وجلّ، لأنه معذور، فوفاء الدين واجب، والحج مع الدين ليس بواجب، والعاقل لا يقوم بما ليس بواجب ويدع ما هو واجب، لذلك نصيحتي لإخواني
الذين عليهم ديون ولم يحجوا من قبل نصيحتي لهم أن يدعو الحج حتى يغنيهم الله عزّ وجلّ، ويقضوا ديونهم ثم يحجوا.(21/196)
لكن لو كان الدين مؤجلاً، وكان عند الإنسان مال وافر بحيث يضمن لنفسه أنه كل ما حل قسط من هذا الدين فإنه يقضيه، فإنه يحج به ولا بأس بذلك.
س 248: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: يتعلل بعض الناس في سفر المرأة لوحدها في الطائرة أن هذه الطائرة موجود فيها كثير من النساء وكثير من الرجال، فيقول: إن الفتنة
مأمونة فما تعليقكم على ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: التعليق على ذلك ليس المقصود الأمن وعدم الأمن، بدليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستفصل في الحديث الذي ذكرناه آنفاً، ولو كان المدار على الأمن لاستفصل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذا، ثم إن الأمن ليس مأموناً في سفر الطائرة: أولاً لأن
الطائرة ربما تقلع في الموعد المقرر وربما تتأخر لأسباب فنية أو جوية، فتبقى المرأة في المطار هائمة تائهة، لأن محرمها قد رجع إلى بيته، بناء على أنها دخلت الصالة، أو أذن لهم بركوب الطائرة، ثم تأخرت الطائرة، وإذا قدر أن هذا المحظور زال وأن الطائرة أقلعت متجهة إلى محل هبوطها، فغير المأمون أن تهبط في المكان الذي حدد فيه الهبوط، لأنه يجوز أنه تغير الجو فلا يمكنها الهبوط في المكان المقرر، ثم تذهب الطائرة لمكان آخر لتهبط فيه، وحينئذٍ تبقى هذه المرأة هائمة تائهة، أو تتعلق بمن لا
يؤمن من فتنته، وإذا قدرنا أنها وصلت إلى المطار التي قرر هبوطها فيه، فإن محرمها الذي سيستقبلها قد يعيقه عائق عن(21/197)
وصوله للمطار: إما زحام في السيارات، وإما عطل في سيارته وإما نوم، وإما غير ذلك. فلا يأتي في موعد هبوط الطائرة، وتبقى هذه المرأة هائمة تائهة، وإذا كان الحج ليس واجب لمن ليس عندها محرم فالأمر والحمد لله واسع، وليس فيه إثم، ولا ينبغي للمرأة أن تتعب نفسياً من أجل هذا، لأنها في هذه الحال غير مكلفة به، فإذا كان الفقير العادم للمال ليس عليه زكاة وقلبه مطمئن بكونه لا يزكي، فكذلك هذه المرأة التي ليس عندها محرم ينبغي أن يكون قلبها مطمئناً لعدم حجها.
س 249: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما الحكم في سفر المرأة علماً بأنه سوف يكون معها محرم حتى المطار الذي تسافر منه، ثم ينتظرها محرم في المطار الذي سوف تصل إليه، فهل يحل لها السفر أم لا؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يحل للمرأة أن تسافر بدون محرم لا في الطائرة، ولا في السيارة، ولا في السفينة، لعموم قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الثابت في الصحيحين من حديث ابن عباس- رضي الله عنهما-: "لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم " أو "إلا ومعها ذي محرم " وهذا النهي للتحريم، لأن ذلك هو الأصل فيما نهى الله عنه ورسوله - صلى الله عليه وسلم -.
س 250: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل متزوج وله بنت من غير زوجته فهل والد زوجته محرم لابنته بالنسب(21/198)
والمصاهرة أم لا؟
فأجاب فضيلته بقوله: والد الزوجة ليس محرماً لبنت زوج ابنته، لأنه لا علاقة بينه وبينها، بل لو شاء أن يتزوجها فله ذلك، نعم ليس بينهما نسب ولا مصاهرة. فالمصاهرة تنحصر في أصول الزوج وفروعه، وأصول الزوجة وفروعها فقط، فأصول الزوج وفروعه حرام على الزوجة، وأصول الزوجة وفروعها حرام على الزوج، وهذا الأربعة يثبت فيها التحريم بمجرد العقد، إلا بنات
الزوج، فلا بد من الدخول لقوله تعالى: (وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ) إلى قوله تعالى: (وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ) (1)
فأنت إذا أردت أن ييسر عليك الأمر فانظر هل من أصول الزوجة وفروعها، أو من أصول الزوج
وفروعه فإذا لم يكن كذلك فلا تحريم.
س 251: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: يوجد لدينا خادمة في المنزل بدون محرم، وسوف أقوم بأداء فريضة الحج في العام القادم إن شاء الله، وأود أن اصطحب الخادمة مع عائلتي لأداء
الفريضة متكفلاً بجميع لوازمها، فهل يجوز اصطحابها حيث إن الحج قد لا يتوفر لها أداؤه إلا معنا، أفيدونا وجزاكم الله خيراً؟
فأجاب فضيلته بقوله: قبل الرد على هذا السؤال أحذر إخواننا الذين أنعم الله عليهم في هذه البلاد بوفرة المال والخيرات
__________
(1) سورة النساء، الآية: 23.(21/199)
من الانهماك في جلب الخادمات، لأن هذا من الترف، بل من الإسراف، حتى إننا نسمع أن بعض الناس لا يكون إلا هو وزوجته في البيت مع تمكن المرأة من القيام بجميع شؤون المنزل، ومع
ذلك يجلب خادمة لهما، فأنا أحذر إخواني من هذا الأمر الجارف الذي أصبح لدينا أمراً يتسابق الناس إليه، تقول زوجته: أريد خادمة. فيذهب ويأتي لها بخادمة. لذا أنصح ألاّ يأتي أحد بخادمة
إلا للضرورة التي لابد منها.
ثم الذي أرى أنه إذا كان هناك ضرورة فلا يجلب الإنسان إلا خادمة مسلمة، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، وإذا أتى بخادمة، فالذي أراه ألّا تكون شابة جميلة، لأنها محل فتنة لا سيما إذا كان عنده شباب، لأن الشيطان يجر من ابن آدم مجرى الدم (1) ، وألا يجلب الخادمة إلا ومعها محرم، لأنه - صلى الله عليه وسلم -: نهى أن تسافر المرأة بلا محرم.
وإذا كانت بمحرم فلا يرد الإشكال الذي سأل عنه، فمحرمها سوف يحج معها، أما إذا لم يكن معها محرم بأن أتى بها المحرم ثم عاد فلا يحجون بها، بل تبقى عند من يثقون به، فإن لم يكن هناك من يثقون به فتحج معهم للضرورة، وحجها صحيح. والله الموفق.
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب التكبير والتسبيح عند التعجب (رقم 6219) ، ومسلم، كتاب السلام، باب بيان أنه يستحب لمن رؤي خالياً بامرأة وكانت زوجته أو محرما له أن يقول: هذه فلانة (رقم 2174، 2175) .(21/200)
س 252: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى: ابتلينا بالخادمات في البيوت فإذا جاءت الخادمة كان من الشروط أن تؤدي فريضة الحج، فماذا يصنع من كان كفيلاً لها هل يقوم بتنفيذ هذا الشرط ولو كان مخالفًا لأوامر الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - أم يطلب منها إحضار محرماً
لها ليحج بها، أم يدفع لها مالاً مقابل عدم الوفاء بهذا الشرط.
فأجاب فضيلته بقوله: نعم هذه ثلاثة أمور بينها السائل لكن هناك أمر رابع لم يبينه، وهو الواجب من الأصل: الواجب أن الخادم إذا اشترطت أن يحج بها يقول: نعم أنا ألتزم بهذا بشرط المحرم، أما إذا لم يكن معك محرم فإنه لا يجوز أن تحجي أنت، ولا يجوز أن أسمح لك أنا ما دام الأمر في يدي، ثم إن هؤلاء مسكينات، الحج عندهن أغلى من كل شيء، فلو أنها أيست منه من الأول وقيل ليس هناك حج إلا بمحرم، لدخلت على بصيرة، ثم نقنع هذه المسكينة نقول لها: إن الحج فريضة، لكنه فريضة على من؟ على المستطيع، وأنت لا تستطيعين الآن بدون محرم، فليس عليك حج واطمئني ليس عليك إثم، وإذا لقيت ربك فإنك تلقينه بدون أن تكون عاصية أو آثمة، ونهون عليك الأمر فإن أبت إلا الوفاء قلنا: لا يمكن هذا، لكن اختاري إما أن ننتظر حتى يقدم لك أحد من محارمك، وإما أن نعطيك عوضاً عن الحج الذي اشترطي علينا.
لكن هنا مسألة: لو كان الأهل سيحجون جميعاً وعندهم خادم ليس لها محرم فهنا لا بأس أن تحج معهم، لأن وجودها في البيت كوجودها معهم في السفر ولا فرق، ولأنها إذا بقيت في(21/201)
البيت فهو أخطر عليها مما إذا ذهبت معهم بلا شك، والواجب دفع أعلى المفسدتين بأدناهما.
س 253: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: بينتم في السؤال السابق في سؤال الخادمة أنها يمكنها أن تحج معهم إذا كانوا سيؤدون فريضة الحج، فهل يأثمون بذلك؟ وهي هل عليها إثم؟
فأجاب فضيلته بقوله: نحن ذكرنا أن هذا من باب الضرورة، لأن ذهابها معهم أسلم من بقائها في البيت، وعللنا ذلك بأنه من باب دفع أعلى المفسدتين، بأدناهما وأقلهما، لكن كما قيل: إذا لم يكن إلا الأسنة مركبة فما حيلة المضطر إلا ركوبها.
س 254: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: لدينا خادمة في البيت فإذا أردنا أن نحج أو نعتمر أو نسافر إلى أي بلد فهل يجوز أن نأخذها وليس لها محرم أفيدونا جزاكم الله خيرا؟
فأجاب فضيلته بقوله: أليست هذه الخادمة امرأة؟ بلى امرأة إذن ما الذي يخرجها عن قول الرسول: "لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم " (1) نعم لو فرض أن خادمة لا يمكن أن تبقى بعدهم في
البيت لأن ليس في البلد من يحميها ففي هذه الحال تذهب معهم للضرورة.
__________
(1) تقدم ص 178.(21/202)
س 255: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما حكم سفر الخادمة مع الرجل الذي ليس محرماً لها، وما رأيك بمن يستعمل حملة خاصة بالخادمات فيحج بهن، وهو ليس من محارمهن وليس
معها لا كفيل ولا محرم فما رأيك بهذا؟
فأجاب فضيلته بقوله: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم " (1) . وليس لنا أن نخرج عن قول الله وقول رسوله - صلى الله عليه وسلم - مهما كان الأمر، لكن الخادمة إذا كانت في البيت وليس معها محرم واضطر الناس للسفر بها لأنه لم يبق في البيت أحد، فحينئذ يسمح لها أن تسافر معهم، لأن هذا ضرورة، وبقاءها في البيت وحدها أشد ضرراً مما إذا سافرت معهم وأشد خطرا.
فإذا قال قائل: لماذا لا نقول له: أعطها أقاربك، أو أصدقائك، حتى ترجع؟ نقول: نفس الشيء أيضا ربما إذا أعطيتها أقاربي، أو أصدقائي ربما يكون قلبي مشوشاً ماذا حصل على هذه المرأة، فيبقى الإنسان غير مطمئن، فهذه المسألة تجوز في حالة واحدة، وهي: إذا كان الناس معهم خادمة ولا يمكن أن يبقوها وحدها في البيت فهنا تسافر معهم، ولا إثم فيه- إن شاء الله تعالى- على أني أقول هذا، وأنا أستغفر الله أتوب إليه.
والحملة من باب أولى لا تجوز، لكن مع الأسف أن الناس تهاونوا في هذا الأمر، وصاروا يودعون هؤلاء النساء كأنهن غنم مع راعي لا يدرون عنها، نسأل الله السلامة.
__________
(1) تقدم ص 178.(21/203)
س 256: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: يقول رجل وامرأة مسنين عندهما خادمة تريد الذهاب إلى الحج، وقد أصرت عليهما مع أنه ليس لها محرم، وقد حجز لها في إحدى حملات هذا البلد، ويسألان هل عليهما إثم في ذلك، مع أنها جاءت إليهم بدون محرم، ويصعب عليها أن تأتي مرة أخرى مع محرم لأداء فريضة الحج أفتنا جزاك الله خيراً؟
فأجاب فضيلته بقوله: أرى أن لا يجوز أن تذهب الخادمة بدون محرم حتى مع نساء، وإن كان بعض العلماء يقول: إذا كانت المرأة مع نساء آمنة فلا بأس أن تحج، لكن إذا نظرنا إلى الحديث الصحيح، وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب وقال: "لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم " فقام رجل فقال: يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجة، وإني أكتتبت في غزوة كذا كذا؟ فقال: "انطلق
فحج مع امرأتك " فأمره أن يدع الغزو ويحج مع امرأته، ولم يقل الرسول عليه الصلاة والسلام: هل معها نساء؟ هل هي شابة؟ هل هي عجوز؟ هل هي جميلة؟ هل هي قبيحة؟ لم يستفسر. ومن
قواعد العلماء: (أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال) لذلك أرى أن لا يسمح لها بالذهاب إلى الحج، ثانيا: أرى أن عليهما أن يطمئناها ويقول لها: إن الحج غير واجب عليها، وأنت في حل، وإذا لقيتي ربك فإنك تلقينه غير ناقصة ركن من أركان الإسلام، وانتظري حتى يأذن الله تعالى بتيسيره أمرك مع محرم. وأما الاعتذار أنها جاءت بلا محرم فهذا عجيب أن يعتذر عن الداء بداء مثله أو أشد، كونها جاءت بلا(21/204)
محرم لا يبرر أن تحج بلا محرم لأن مجيئها بلا محرم غلط، وكم من بلية حصلت لكون الخادمة ليس لها محرم في البيت، نسأل الله السلامة والعافية.
س 257: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما حكم الحج والعمرة بالخادمة إذا لم يكن معها محرم: وما حكم استقدام الخادمة بدون محرم أو نقل كفالتها ممن استقدمها مسبقاً؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذان سؤالان: الأول إذا حج أهل البيت وعندهم خادمة وليس معها محرم فليحجوا بها. وذلك لأن حجهم بها أحفظ لها من أن تبقى في البيت وحدها، أو يعيروها لأحد من الناس، فنرى أن تذهب معهم، لأنها باقية معهم في البيت بلا محرم.
وأما النسبة لاستقدام النساء بلا محرم فكنت بالأول أتساهل فيه بعض الشيء، وأقول: إذا جاء بها محرمها ثم رجع، فالأمر سهل، لكن حصلت وقائع من بعض ضعيفي الإيمان، وأوجبت لي أن أقول: لا يجوز أن تستقدم خادمة إلا بمحرمها الذي يبقى معها.
س 258: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما حكم استقدام الخادمة من الخارج بغير محرم إذا كانت مسلمة، حيث إن هذا الأمر حاصل عند كثير من الناس حتى ممن يعتبرون من طلاب العلم. ويحتجون بأنهم مضطرون إلى ذلك. وبعضهم يحتج بأن(21/205)
إثم سفرها بغير محرم عليها هي. أو على مكتب الاستقدام. أرجو تبيين ذلك والله يحفظكم ويجزيكم خيراً؟
فأجاب فضيلته بقوله: استقدام الخادمة بدون محرم معصية للرسول - صلى الله عليه وسلم -، فإنه صح عنه أنه قال: "لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم " (1) ولأن قدومها بلا محرم قد يكون سبباً للفتنة منها وبها، وأسباب الفتنة ممنوعة، فإن ما أفضى إلى المحرم محرم.
وأما تساهل بعض الناس في ذلك فإنه من المصائب، ولا حجة لهم في قولهم: إنه ضرورة، لأننا لو قدرنا الضرورة للخادمة فليس من الضرورة أن تأتي بلا محرم.
كما أنه لا حجة لقول بعضهم: إن إثم سفرها بلا محرم عليها هي، أو على مكتب الاستقدام. لأن من فتح الباب لفاعل المحرم كان شريكاً له في الإثم لإعانته عليه، وقد أمر الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. واستقدام الخادمة بلا محرم إقرار للمنكر لا إنكار له. وأسأل الله تعالى أن يهدينا جميعاً صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين إنه سميع قريب.
س 259: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: نحن مجموعة من الشابات المسلمات من جنسيات مختلفة، نعمل بإحدى الدول الخليجية معلمات وطبيبات، والدولة توفر لنا سكن جماعي للمعلمات العازبات، علما بأن السفر من وإلى الدولة هذه
__________
(1) تقدم ص 178.(21/206)
بالطائرة، فهل نعتبر مخالفات لحديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بأنه: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفراً فوق ثلاث ليال من غير ذي محرم؟ وهل المال الذي نجمعه يعتبر مالا حراماً؟ وما حكم سفرنا وإقامتنا من غير محرم لمدة عام في جماعة من النسوة المسلمات؟ نرجوا منكم التوجيه جزاكم الله خيراً.
فأجاب فضيلته بقوله: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، من المعلوم أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من حديث عبد الله بن عباس- رضي الله عنهما- قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب ويقول: "لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم " ولم يقيده بثلاث، والتقييد اختلف مقداره، فبعضه يوم وليلة، وبعضهم ثلاثة أيام، ولهذا اعتبر العلماء- رحمهم الله- أن السفر مطلق، فكل ما يسمى سفراً فإنه لا يجوز للمرأة أن تقوم به إلا مع ذي محرم، لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم، وفي حديث ابن
عباس الذي ذكرته قال فقال رجل: يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجة، وإني أكتتبت في غزوة كذا وكذا؟ فقال: "انطلق فحج مع امرأتك " فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدع الغزو، وأن يخرج مع امرأته يحج معها، وهذا دليل على تأكد المحرم، وفي هذا الحديث لم يستفصل النبي، هل مع زوجتك نساء؟ هل هي آمنة؟ أو هل هي شابة أم عجوز؟ كل ذلك لم يكن، فدل على أن الأمر عام، وأن الحكم لا يختص بحال دون حال، وأنه لا يجوز للمرأة أن
تسافر إلا مع ذي محرم.(21/207)
أما ما ذكر في السؤال من أنهن نساء من أجناس شتى حضرن إلى بعض الدول الخليجية للتعليم والطب وغير ذلك فإن هذا الأمر كما قلنا: في صدر السؤال إنهن حائرات، فأنا أيضاً حائر فيه، ولا أفتي فيه بشيء، والله أعلم.
س 260: سئل فضيلة الشيخ -رحمه الله تعالى-: هل يجب على الرجل أن يحج بزوجته فيكون محرما لها، وهل هو مطالب بنفقة زوجته أيام الحج؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يجب على الزوج أن يحج بزوجته إلا أن يكون مشروطاً عليه حال عقد الزواج، فيجب عليه الوفاء به، وليس مطالباً بنفقة زوجته، إلا أن يكون الحج فريضة، ويأذن
لها فيه، فإنه يلزمه الإنفاق عليها بقدر نفقة الحضر فقط.
س 261: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: أيها أكثر تقربا لله عز وجل الحج نافلة أم الحج عن الآخرين؟
فأجاب فضيلته بقوله: الحج نافلة أكثر تقربًا لله عز وجل، والحج عن الآخرين ليس فيه فضل إلا الإحسان الذي حججت عنه، أما أجر الحج فليس لك منه شيء، لأنك رغبت عنه وأهديته
لهذا الشخص فليس لك إلا الإحسان، فلو أن الإنسان حج عن شخص فإنه ليس له أجر الحج، لأن هذا الرجل رغب عن ثواب هذا الحج وجعله لآخر، لكن له أجر الإحسان إلى الغير، كما لو
أحسن إليه بهديه، ولذلك نعلم أن من السفه في العقل والضلال(21/208)
في الدين ما يفعله بعض الناس يصلي ركعتين أو يصوم يومين ويقول: إنهما عن محمد - صلى الله عليه وسلم - يعني يهدي الطاعات إلى رسول الله صلى الله عليه واَله وسلم نقول: هذا ضلال في الدين وسفه في العقل. أما كونه سفها في العقل لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يحتاج إلى
هديتك كل عمل خير تفعله فللنبي - صلى الله عليه وسلم - مثل أجره، فلا يحتاج أن تهدي إليه طاعة، وأما كونه ضلالاً في الدين فإنا نقول لهذا الرجل المبتدع أنت أشد حباً للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم من أبي بكر؟ إن قال نعم. قل له: كذبت، وإن قال: لا أبو بكر أشد حبًا للرسول - صلى الله عليه وسلم - مني وكذلك بقية الخلفاء وكذلك بقية الصحابة - رضي الله عنهم- فقل: هل أهدوا القرب والطاعات للرسول عليه الصلاة والسلام؟ لا. ولهذا فأنت ضال في دينك لأنك ابتدعت ما لم يفعله السلف الصالح.
س 262: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: المرأة إذا لم يوجد لها محرم وهي لم تؤد فرضها فأيهما أفضل لها أن توكل أو تحج مع خالتها أو عمتها؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا لم تجد المرأة محرماً لها، فإن الحج غير واجب عليها، لأنها لا تستطيعه شرعاً والحج لا يجب إلا على المستطيع، ولا يجوز لها أن تحج بلا محرم مع خالتها، أو عمتها.(21/209)
س 263: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: امرأة ليس لها محرم إلا أخوها من الرضاع، وهي تحتجب منه حياءً فهل يجوز لها أن تحج معه أم لا؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم لها أن تحج معه، لأنه محرم لها شرعاً وكونها تحتجب منه لا يمنع ذلك.
س 264: سئل فضيلة الشيخ -رحمه الله تعالى-: تزوجت والدتي من رجل بعد وفاة والدي، وكان والدي قد حجج أمي، أما الرجل الذي تزوجها فوعدها بالحج فتجهزت له، ولما دخل شهر ذي
الحجة طلبت منه فرفض، بحجة أنه سوف يقوم بالحج مع أحد أصدقائه، فاقتنعت أمي، ولكنه لم يحج إنما قصد أن لا يحجج أمي، ومر بها أهلها وهم في طريقهم إلى مكة فسافرت معهم دون علم منه، أو رضاه، وذلك من اثنتي عشرة سنة، وقد طلقها منذ خمس سنوات، فهل هذا الحج صحيح؟ أم ماذا عليها؟
فأجاب فضيلته بقوله: قبل الإجابة أود أن أبين أنه لا يجوز للمرأة أن تخرج بدون رضا زوجها، حتى ولو كان في البلد، فكيف تحج بدون رضاه، فهذا حرام، ولا يجوز لها، ويجب على الزوج الذي وعد زوجته بالحج أن يوفي بوعده، فيحج بها، لا سيما إن كان هذا مشروطاً عليه في العقد، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن أحق الشروط أن توفوا به، ما استحللتم به الفروج " (1) .
وإذا كان هذا الوعد بعد العقد، فإن العلماء اختلفوا في
__________
(1) تقدم ص 114.(21/210)
الوفاء به، والصواب: وجوب الوفاء به إذا لم يكن على الواعد ضرر، وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل إخلاف الوعد من صفات المنافقين (1) تحذيراً من إخلافه، أما بالنسبة لما وقع من أمك من الحج فإنه صحيح تبرأ به الذمة، ولكن عليها أن تتوب إلى الله وتستغفره.
س 265: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: امرأة تقول: قد حججت حجتين؟ الأولى: مع أختي وأمي بواسطة زوج أختي، وقد أحرمت مع أمي وأختي فهل حجي هذا صحيح؟ والحج الثاني مع رجل قد عقد عليّ أبوه عقداً لا غير، وقد طلقني قبل الدخول، لأن زوجي لم تحصل له رخصة لكي يحججني، وقد أوصى الرجل الذي عقد عليّ أبوه لكي يحججني وكان معه زوجته وخالته فهل حجي هذا صحيح؟
فأجاب فضيلته بقوله: الجواب الأول: أن المرأة لا تكون محرماً للمرأة، فكونك حججت مع زوج أختك بمصاحبة أمك فهذا لا يجوز؟ لأن زوج أختك ليس محرماً لك، ولكنه محرم لزوجته ولأمك؟ لأنها أم زوجته، ولكن عليك أن تتوبي إلى الله، وأن تستغفري من ذنبك، وأما الحج فهو صحيح.
الشق الثاني من السؤال: إن حجك صحيح؛ لأن ابن الرجل الذي عقد عليك ولم يحصل منه دخول يكون محرماً لك؛ لأن
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب علامة المنافق (رقم 33) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق (رقم 59) .(21/211)
الرجل إذا عقد على المرأة عقداً صحيحاً يكون أبوه محرماً لها، وصار آباؤه محارم لها، وأبناؤه أيضاً محارم لها، وكذلك تكون أم الزوجة وجداتها محرماً للزوج، وهذه الأطراف الثلاثة تثبت فيهم
المحرمية بمجرد العقد.
وأما بنات الزوجة، وبنات أولادها، وبنات بناتها فإنهن لا يكن محارم للزوج إلا إذا كان قد دخل بالأم، أي قد جامعها، فلو عقد إنسان على المرأة ولها بنات من غيره ثم طلقها قبل الدخول بها، فإنه يجوز له أن يتزوج من بناتها، لأنه لم يدخل بها، وكذلك لو جاءها بنات من بعده من زوج آخر فإنه يجوز له أن يتزوج بهؤلاء البنات اللاتي لم يدخل بأمهن، أما لو دخل بالأم فإنه يحرم عليه بناتها من غيره، سواء من زوج سابق، أو زوج لاحق. والله الموفق.
س 266: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يجوز للمرأة أن تترك زوجها وأولادها الصغار وتذهب للعمل في دولة أخرى بعيدة عنهم؟ وما هي المدة التي يسمح بها الإسلام في بعد الزوجة
عن بعلها؟ وهل هناك ضرر من ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يحل للمرأة أن تسافر إلا بإذن زوجها، ولا يحل لها أن تسافر إلا بمحرم، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تصوم المرأة وزوجها شاهد إلا بإذنه، فكيف بسفرها ومغادرتها وترك أولادها عند الزوج يتعب فيهم، وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى أن
تسافر المرأة بدون محرم، وللزوج أن يمنع زوجته من السفر،(21/212)
سواء كان سفرها للعمل أو لغير العمل، لأن الزوج مالك، بل قد قال الله تعالى: (وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ) (1) سيدها يعني زوجها، فله السيادة عليها، وله أن يمنعها من السفر، بل له أن يمنعها من
مزاولة العمل حتى في البلد إلا إذا كان مشروطاً عليه عند العقد، فإن المسلمين على شروطهم، وعلى هذه المرأة أن تتقي الله عز وجل، وأن تكون مطيعة لزوجها غير مغضبة له، حتى يكون الله
عليها راضياً، وبهذا يتبين الجواب عن قولها. وكم مدة تبقى بعيدة عن زوجها فإنه ليس هناك مدة، بل لابد أن تبقى مع زوجها، فإن أذن لها في وقت من الأوقات وسافرت مع محرم وأمنت الفتنة،
بالخيار بيده يأذن لها ما شاء.
س 267: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: بعض النساء من داخل مكة يذهبن إلى الحج بدون محرم مع جماعات من النساء عن طريق النقل الجماعي فهل هذا جائز؟
فأجاب فضيلته بقوله: الصحيح أنه لا يجوز للمرأة أن تحج إلا بمحرم، حتى وإن كانت من أهل مكة، لأن ما بين مكة وعرفات سفر على القول الراجح؛ ولهذا كان أهل مكة يقصرون مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في المشاعر.
س 268: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: المتوفى عنها هل يجوز لها الحج وهي في العدة؟ وكذلك المعتدة من غير الوفاة؟
__________
(1) سورة يوسف، الآية: 25.(21/213)
فأجاب فضيلته بقوله: بالنسبة للمتوفى عنها فإنه لا يجوز لها أن تخرج من بيتها وتسافر للحج، حتى تقضي العدة، لأنها في هذه الحال غير مستطيعة، لأنه يجب عليها أن تتربص في البيت، لقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) (1) فلابد أن تنتظر حتى تنتهي العدة.
وأما المعتدة من غير الوفاة فإن الرجعية حكمها حكم الزوجة فلا تسافر إلا بإذن زوجها، ولكن لا حرج عليه إذا رأى أن من المصلحة أن يأذن لها في الحج، وتحج مع محرم لها.
وأما المبانة فإن المشروع في حقها أن تبقى في بيتها أيضاً، ولكن لها أن تحج إذا وافق الزوج على ذلك، لأن له الحق في هذه العدة، فإذا أذن لها أن تحج فلا حرج عليه.
س 269: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: الرجل عندما يمر بحادث سيارة هل يتقدم لينقذ المصابين في الحادث، وإذا كان من بينهم نساء هل يجوز حمل هؤلاء النساء في سيارته مع عدم وجود
محرم لهن أم ماذا يفعل؟ فربما لو تركهن لتضاعف الألم وربما تحدث نتائج غير طيبة؟
فأجاب فضيلته بقوله: نقول إنه يجب على المرء المسلم إذا رأى أخاه المسلم في أمر يخشى منه الهلاك يجب عليه أن يسعى لإنقاذه بكل وسيلة، حتى إنه لو كان صائماً صيام الفرض في رمضان وحصل شيء يخشى منه الهلاك على أخيه المسلم واضطر
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 234.(21/214)
إلى أن يفطر لإنقاذه فإنه يفطر لإنقاذه، وعلى هذا فإذا مررت بحادث سيارة ورأيت الناس في حال يخشى عليهم من التلف، أو من تضاعف الضرر فإنه يجب عليك إنقاذهم بقدر ما تستطيع، وفي هذه الحال لا بأس أن تحمل النساء، وإن لم يكن معهن محارم لأن هذه ضرورة.
س 270: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما حكم ركوب المرأة مع السائق وحدها؟
فأجاب فضيلته بقوله: ركوب المرأة مع السائق وحدها محرم، لأنه لا يجوز للمرأة أن تخلو برجل في السيارة غير محرم لها، لقول النبي: "لا يخلون رجل بامرأة" (1) وهذا النهي عام.
أما السفر فلا تسافر المرأة بلا محرم ولو كان معها غيرها، فهنا أمران: خلوة، وهذه حرام في الحضر والسفر، وسفر بلا خلوة، وهذا حرام أيضاً لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -:"لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم "
والحاصل أن ما يفعله بعض الناس من ركوب المرأة وحدها حرام، ولا يحل، لأنها في خلوة مع رجل، ويقول بعض الناس: إن هذا ليس بخلوة لأنها تمشي في السوق، فنقول: بل هو خلوة من أشد الخلوات خطراً، لأن غالب السيارات الآن تغلق الزجاجات فلو تكلم معها بكل كلام لم يسمعه أحد، ولأنه في
__________
(1) تقدم ص 178.(21/215)
الواقع خال بها، لأن السيارة بمنزلة الغرفة، ولأننا نسأل كثيراً عن مسائل يحدث فيها حوادث خطيرة جداً، فلا يستريب عاقل بأن ركوب المرأة مع السائق وحدها حرام لدخوله في الخلوة، ولأنه
يفضي إلى مفاسد، وفتن كثيرة.
س 271: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: تضطر المرأة أحياناً للسفر وحدها في الطائرة كأن يرسلها زوجها لزيارة أهلها، حيث لا يستطيع الذهاب معها.. فما حكم الشرع في ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: الضرورة تحتاج إلى بيانها وتقديرها. وأما إرسالها للزيارة، فإننا نقول لك: لا ترسلها إلى زيارة أهلها بدون محرم ولو بالطائرة، والناس يتهاونون في مسألة الطائرة وهذا خطأ (1)
س 272: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: إذا سافر الزوج مع زوجته في الحج أو غيره، هل يجب عليه أن يركب معها في نفس السيارة التي هي فيها، إذا كان هناك أكثر من سيارة في هذا
السفرة فقد جرت عادة بعض الناس أن تركب النساء في سيارة والرجال في سيارة؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا شك أن ركوب الإنسان مع محرمه من زوجة أو قريبة في نفس السيارة أحسن وأحوط، ولكن إذا كانت القافلة سيارات تمشي جميعاً، تنزل منزلاً واحدًا، وتيسير
__________
(1) تقدم تفصيل ذلك.(21/216)
سيرا واحداً، فلا بأس أن يجعل النساء في سيارة، وأن يكون الرجال في السيارة الأخرى، ولكن لابد أن يحرص قائد السيارة على أن لا يغيب عن السيارة التي فيها الرجال المحارم، حتى يكون المحرم مراقباً للسيارة التي فيها محرمه.
س 273: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: امرأة في بلاد بعيدة لا يتوفر لها المحرم، ولكن يتوفر لها الرقة المأمونة فمن الصعب أنها تجد محرمًا يحرم معها، ولكن تجد ابن عمها ويكون في سن كبير وهي كبيرة أيضاً، ففي هذه الحال هل عليها حج مع قدرتها؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كانت المرأة قادرة على الحج بمالها لكنها لم تجد محرماً فإن الحج ساقط عنها، وليس عليها إثم لتركها، لأن الله تعالى يقول: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) (1) وهذه المرأة لا تستطيع إليه سبيلا بحكم الشرع، إذ لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم، ويقال لها: اطمئني بأنه لا شيء عليك وإن وجدت الرفقة وإن كانوا أمناء.
س 274: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل قادر على الحج ووالدته تقيم خارج المملكة فطلبت أمه أن يؤجل الحج إلى السنة القادمة لأنه إذا حج هذه السنة لم يسمح له بالحج إلا بعد
خمس سنوات فهل يجوز له أن يؤخر الحج مع قدرته عليه علماً بأن
__________
(1) سورة آل عمران، الآية: 97.(21/217)
أمه على طريقة صوفية تدعو فيها الرسول - صلى الله عليه وسلم -؟
فأجاب فضيلته بقوله: أما عن سؤاله ينتظر أمه ليحج معها في السنة القادمة بناءً على طلب أمه وإشارته إلى أن والدته على طريقة غير مرضية من الطرق التي يدعو فيها صاحبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو غيره من المخلوقين فإني أشير بل أنصح لهذه المرأة ومن أمثالها أن يتوبوا إلى الله عما هم عليه، وذلك لأن دعاء غير الله شرك وضلال وكفر. كما قال الله تعالى: (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117)) وقال الله تعالى: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5)) فدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن دونه من الخلق شرك وضلال؛ لأن هؤلاء لا يستطيعون أن يستجيبوا له، والواجب على المرء أن يتوب إلى الله من هذا الشرك، وألا يدعو إلا الله، وكلنا نعلم أن رسول الله نفسه كان لا يملك نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله، وقد أمره الله تعالى أن يعلن ذلك لأمته، فقال الله له: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)) (1) وقال الله تعالى له آمراً أياه (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحي إلي) وكان الرسول نفسه يدعو الله سبحانه بنفسه بالمغفرة
والرحمة، ويدعو لأصحابه كذلك، ولو كان قادراً على أن يغفر لأحد أو يرحمه ما احتاج إلى دعاء الله سبحانه في هذا، فكل
__________
(1) سورة الأعراف، الآية: 188.(21/218)
الخلق مفتقرون إلى الله، والله هو الغني الحميد، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)) (1) ولولا أن الشيطان تلاعب بعقول هؤلاء وأفكارهم لعلموا أن
الرسول - صلى الله عليه وسلم - وغيره لا يملكون لأحد نفعاً ولا ضراً ولا دعوا الله سبحانه وحده لا شريك له: (أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ) (2) فإذا تابت هذه المرأة من هذا الشرك وأصلحت العمل فلتتجه إلى مكة لتؤدي
فريضة الحج إن كانت لم تؤدها قبل.
س 275: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: امرأة تقول: إنني مقيمة في المملكة بحكم عملي بها، وقد ذهبت للحج العام الماضي 1404 هـ وكان معي اثنتان من زميلاتي وليس معنا محرم.
فما حكم فعلنا وهل حجنا صحيح؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا العمل وهو الحج بدون مَحْرَمٍ مُحَرَّمٌ، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول وهو يخطب: "لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم "، فقام رجل فقال: يا رسول الله إن امرأتي
خرجت حاجة، وإني قد أكتتبت في غزوة كذا وكذا؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:"انطلق فحج مع امرأتك " (3) .
__________
(1) سورة فاطر، الآية: 15.
(2) سورة النمل، الآية: 62.
(3) تقدم ص 178.(21/219)
فلا يجوز للمرأة السفر بدون محرم، والمحرم من تحرم عليه على التأبيد بنسب، أو سبب مباح، ويشترط أن يكون بالغاً عاقلاً، وأما الصغير فلا يكون محرماً، وغير العاقل لا يكون محرماً أيضاً، والحكمة من وجود المحرم مع المرأة: حفظها وصيانتها، حتى لا تعبث بها أهواء من لا يخافون الله عز وجل، ولا يرحمون عباد الله.
ولا فرق بين أن يكون معها نساء أو لا، أو تكون آمنة أو غير آمنة، حتى ولو ذهبت مع نساء من أهل بيتها وهي آمنة غاية الأمن، فإنه لا يجوز لها أن تسافر بدون محرم، وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أمر الرجل بالحج مع امرأته لم يسأله ما إذا كان معها نساء أم لا، وهل هي آمنة أم لا؟ فلما لم يستفصل عن ذلك، دل على أنه لا فرق، وهذا هو الصحيح.
وقد تساهل بعض الناس في وقتنا الحاضر، فسوغ أن تذهب المرأة في الطائرة بدون محرم، وهذا لا شك أنه خلاف النصوص العامة الظاهرة، والسفر في الطائرة كغيره تعتريه الأخطار (1) .
والحاصل أن المرأة عليها أن تخشى الله وتخافه، فلا تسافر لا إلى الحج ولا إلى غيره إلا مع محرم يكون بالغاً عاقلاً. والله المستعان.
س 276: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يشترط في المحرم أن يكون بالغاً، فهناك رجل يعمل في الخارج ومعه زوجته وابنه الذي يبلغ التاسعة من العمر، فأرادت الزوجة أن تحضر
__________
(1) تقدم الكلام على ذلك.(21/220)
زواجاً لأخيها فأرسلها زوجها عن طريق الطائرة مع هذا الابن واتصل على أهلها لاستقبالها في مطار المملكة فهل له ذلك وهل يكفي هذا الصبي في المحرمية جزاك الله خيراً؟
فأجاب فضيلته بقوله: المحرم ذكر العلماء أنه لابد فيه من شرطين: البلوغ، والعقل، وأن من دون البلوغ لا يصح أن يكون محرماً، ومن ليس بعاقل لا يصح أن يكون محرماً، لأن المقصود بالمحرم هو صيانة الزوجة وحمايتها ومنع الاعتداء عليها، والصغار لا يقومون بهذا، فأقول الآن: المرأة حسب السؤال وصلت البلد فلا ترجع إلى زوجها إلا مع أحد محارمها الدْين بلغوا وعقلوا، أو يأتي زوجها ويأخذها معه أما الصغير الذي في التاسعة من عمره فإنه لا يكفي أن يكون محرماً.
س 277: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: متى يكن الابن محرما لأمه هل هو بالبلوغ أم بالتمييز؟
فأجاب فضيلته بقوله: يكون محرماً إذا كان بالغاً عاقلاً، فمن لم يبلغ فليس بمحرم، ومن كان في عقله خلل فليس بمحرم.
س 278: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما حكم سفر المرأة من مدينة إلى مدينة بدون محرم، وإذا كانت في طلب العلم؟
فأجاب فضيلته بقول: لا يحل للمرأة أن تسافر بلا محرم لا للعلم، ولا للحج، ولا للعمرة، ولا للزيارة، ولا لغير ذلك،(21/221)
لعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم " لكن قد يظن بعض الناس أن هذا سفر، وليس بسفر مثل بعض النساء الآن يذهبن من بلدهن إلى بلد قريب للتعلم أو للتعليم فيرجعن بيومهن فهذا ليس بسفر، فإذا ذهبت امرأة من عنيزة إلى بريدة للتعلم، أو التعليم ومعها نساء ويرجعن بعد انتهاء الدرس إلى بيوتهن، فهذا ليس بسفر لكن لا يجوز لها أن تخلو بالسائق إذا لم يكن محرماً لها.
س 279: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: امرأة متزوجة منذ ما يقارب من سنة هي عند أهلها لمرضها وقامت بأداء العمرة في شهر رمضان والحج في العام الماضي ولم تأخذ إذن الزوج ولم
تستمح منه مع العلم بأنها حاولت أن تخبره لكنه لم يكن موجوداً ولم تعرف مكانه فهل تأثم بذلك، وهل العمرة والحج صحيحان مع العلم بأنه لا يوجد بينها وبين زوجها خلاف، ولكنه أخبرت
والده وأهله بذهابها مع والديها؟
فأجاب -رحمه الله- بقوله: أما الحج والعمرة فصحيحان، لأنهما فرض، والفرض لا يملك الزوج أن يمنع زوجته منه إذا تمت الشروط، وأما كونها آثمة أو غير آثمة فإذا علمت أن زوجها يرضى بذلك فلا إثم عليها.
س 280: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يجب على الزوجة الغنية التي ليس لها محرم يحج بها أن تتزوج ولو كانت عجوزاً لغرض الحج؟(21/222)
فأجاب فضيلته بقوله: لا يجب عليها لأن القاعدة عند العلماء (أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وما لا يتم الوجوب إلا به فليس بواجب) فهذه المرأة لا يجب عليها الحج لكن لو تزوجت وصار محرماً وجب عليها الحج، فلا يجب عليها أن تحصل على محرم كما نقول: لا يجب على الرجل أن يتجر من أجل أن تجب عليه الزكاة، ولا يجب عليه أيضاً أن يتجر من أجل أن يجب عليه الحج، فهنا فرق بين ما لا يتم الواجب إلا به، وما لا يتم الوجوب إلا به، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وما لا يتم الوجوب إلا به فليس بواجب، وعليه فنقول هذه المرأة: لا يجب عليها أن تطلب الزوج من أجل أن يكون لها محرم فتحج.
س 281: سئل فضيلة الشيخ -رحمه الله تعالى-: امرأة توفيت قبل أن تؤدي فريضة الحج، ولقد رزقت والحمد لله بأولاد ويريدون الحج لوالدتهم المتوفية، ولكنهم لم يؤدوا فريضة الحج، فهل
يجوز أن يوكلوا من يحج عن والدتهم وإعطائه جميع مصاريف الحج أم يجوز لهم الحج عن والدتهم قبل أن يؤدوا الفريضة هم؟
فأجاب فضيلته بقوله: أولاً يجب تصحيح العبارة، فالصواب أن يقال: المتوفاة. لأن الله يتوفى الأنفس، وليست الأنفس متوفية وإن كان لها وجه في اللغة العربية، لكن الأفصح المتوفاة، فيقال: فلان متوفى، وفلانة متوفاة.
أما بالنسبة للإجابة على السؤال، فإن أمهم إن كانت لم تستطع الحج في حياتها فليس عليها حج، لأن الله اشترط لوجوب(21/223)
الحج الاستطاعة، فقال: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا (1)) والغالب على الناس فيما مضى هو الفقر وعدم الاستطاعة، وحين إذن يكون حجهم عن أمهم نفلاً لا فريضة،
وأما إذا كان قد وجب عليها الحج، ولكنها أخرت وفرطت فهنا يؤدون عنها الحج على أنه فريضة، ولكن لا يحجون بأنفسهم عنها حتى يحجوا عن أنفسهم، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلاً يلبي يقول: لبيك عن شبرمة فقال: "من شبرمة؟ " قال: أخ لي أو قريب لي قال: "أحججت عن نفسك؟ " قال: لا. قال: "هذه عنك ثم حج عن شبرمة" أما إذا أرادوا أن يعطوا غيرهم يحج عنها، وهم لم يؤدوا الحج عن أنفسهم فإن كانت الدراهم التي يعطونها غيرهم ليحج عن أمهم تكفيهم لو حجوا هم عن أنفسهم، وليس عندهم غيرها، وجب عليهم أن يحجوا عن أنفسهم، ولا يجوز أن يعطوا أحداً يحج عن أمهم، فإن كان عندهم مال واسع لكنهم لم يحصل لهم أن يحجوا هذا العام وأعطوا أحداً يحج عن أمهم فلا حرج في ذلك.
س 282: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: امرأة طلقها زوجها بعد ما تلبست بالإحرام وهو محرم هل تتم نسكها أم تعود وتعتبر حصرة؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا تعود، لأنه إذا طلق الإنسان زوجته الطلقة الأولى أو الثانية فهو محرم لها، يجوز أن تتجمل له وأن تتزين له وأن تفعل المغريات التي توجب أن يراجعها، ولهذا
__________
(1) سورة آل عمران، الآية: 97.(21/224)
قال الله عز وجل في الرجعيات: (لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) (1) .
كثير من الناس اليوم مع الأسف إذا طلق زوجته طردها من البيت، وهذا حرام عليه إلا أن تأتي بفاحشة مبينة. وكثير من النساء إذا طلقت ذهبت إلى أهلها، وهذا حرام عليها، (لَا تُخْرِجُوهُنَّ) . ثم قال في الآخر: (لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) . إذن المطلقة الرجعية تبقى في بيت زوجا تتجمل له وتتطيب وتفعل جميع المغريات لرجوعها إلى زوجها. وبالنسبة لهذه المرأة التي طلقها زوجها وهو محرمها نقول: إذا كان الطلاق الأول أو الثاني هو محرم لها. وإذا كان الثالث فليس بمحرم ولكن تمضي في حجها معه للضرورة.
س 283: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى- امرأة لها ولد يبلغ من العمر الخامسة والعشرين مات في حادث سيارة تريد أن تحج له وتتصدق عنه وتضحى عنه هل هذه الصدقات والحج تذهب إليه وتفيده في مماته؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان هذا الابن لم يحج الفريضة فلا بأس بالحج عنه، لأن امرأة سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أمها أنها نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت، فأذن لها صلى الله عليه وسلم أن
__________
(1) سورة الطلاق، الآية: 1.(21/225)
تحج عن أمها (1) . أما إذا كان قد حج الفريضة فإن الدعاء له أفضل من الحج عنه، وأفضل من الصدقة عنه، وأفضل من الأضحية عنه، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو
له " (2) فأرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الدعاء، ولم يرشد إلى غيره مما يفعله الناس اليوم من صدقة، وأضحية، وصوم، وصلاة، ولكن لو فعلت هذا فلا بأس، ولا حرج عليها أن تتصدق عن ابنها، أو أن تحج عنه. أما الأضحية فالأفضل أن تكون أضحية واحدة عن أهل البيت جميعاً الأحياء والأموات، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحى بشاة واحدة عنه، وعن أهل بيته (3) .
س 284: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: من مات ولم يحج وهو في الأربعين وكان مقتدراً على الحج مع أنه محافظ على الصلوات الخمس، وكان في كل سنة يقول: سوف أحج هذه
السنة، ومات وله ورثة هل يحج عنه وهل عليه شيء؟
فأجاب فضيلته بقوله: اختلف العلماء في هذا، فمنهم من قال: إنه يحج عنه وأن ذلك ينفعه، ويكون كمن حج لنفسه،
__________
(1) تقدم ص 142.
(2) تقدم ص 150.
(3) عن أنس رضي الله عنه قال: ضحى النبي - صلى الله عليه وسلم - بكبشين أملحين، فرأتيه واضعاً قدمه على صفاحهما يسمِّي ويكبر فذبحهما بيده.
أخرجه البخاري، كتاب الأضاحي، باب من ذبح الأضاحي بيده (رقم 5558) ومسلم، كتاب الأضاحي، باب استحباب الضحية وذبحها مباشرة بلا توكيل (رقم 1966) .(21/226)
ومنهم من قال: لا يحج عنه، وأنه لو حج عنه ألف مرة لم تقبل.
يعني لم تبرأ بها ذمته، وهذا القول هو الحق، لأن هذا الرجل ترك عبادة واجبة عليه مفروضة على الفور بدون عذر، فكيف يذهب عنها، ثم نلزمها إياها بعد الموت، ثم التركة الآن تعلق بها حق
الورثة، كيف نحرمهم من ثمن هذه الحجة وهي لا تجزىء عن صاحبها، وهذا هو ما ذكره ابن القيم- رحمه الله- في تهذيب السنن، وبه أقول: إن من ترك الحج تهاوناً مع قدرته عليه لا يجزىء عنه الحج أبداً، لو حج عنه الناس ألف مرة، أما الزكاة فمن العلماء من قال: إذا مات وأديت الزكاة عنه أبرأت الذمة، ولكن القاعدة التي ذكرتها تقتضي ألا تبرأ ذمته من الزكاة، لكني أرى أن تخرج الزكاة من التركة، لأنه تعلق بها حق الفقراء والمستحقين للزكاة، بخلاف الحج، فلا يؤخذ من التركة، لأنه لا يتعلق به حق إنسان، والزكاة يتعلق بها حق الإنسان، فتخرج الزكاة لمستحقيها، ولكنها لا تجزىء عن صاحبها، سوف يعذب بها عذاب من لم يزك، نسأل الله العافية، كذلك الصوم إذا علم أن
هذا الرجل ترك الصيام وتهاون في قضائه، فإنه لا يقضى عنه، لأنه تهاون وترك هذه العبادة، التي هي ركن من أركان الإسلام بدون عذر، فلو قضي عنه لم ينفعه، وأما، قوله - صلى الله عليه وسلم -: " من مات وعليه صيام صام عنه وليه " (1) فهذا فيمن لم يفرط، وأن من ترك القضاء جهراً وجهاراً بدون عذر شرعي فما الفائدة أن نقضي عنه.
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب من مات وعليه صوم (رقم 1952) ، ومسلم، كتاب الصيام، باب قضاء الصيام عن الميت (رقم 1147) .(21/227)
س 285: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: إذا مات الإنسان وهو قادر على الحج ولم يحج فهل يحج عنه بعد موته من ماله أو لا؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا. لأن هذا الرجل لو حججنا عنه لم يقبل إذ إنه أخر الحج بدون عذر، لو حججنا عنه ألف مرة لن يقبل، ومثل ذلك إذا كان على الإنسان صوم قضاء من رمضان وقدر على القضاء ولكنه فرط حتى مات هل يقضى عنه؟ الجواب: لا، لأنه لا ينفعه، الرجل مصمم على أنه لن يصوم، ومثل ذلك إذا كان على الإنسان زكاة، زكاة مال ومات ولم يؤدها هل تؤدى من تركته؟ نقول: تؤدى من تركته لكنه لم ينتفع بذلك، وإنما تؤدى من تركته لأن الزكاة هي حق للغير، فيعطى أهل الزكاة حقهم، فأما هذا الرجل فلن تبرأ ذمته أمام الله عز وجل، وفي هذا دليل أنه يجب على الإنسان أن يبادر بأداء الواجب لأنه لا يدري متى يفاجئه الموت، فكم إنسان سقط وهو يمشي فمات، وكم إنسان مات وهو يأكل كم إنسان مات على فراشه وكم إنسان مات وبيده القلم، فبادر يا أخي، بادر بأداء الواجبات قبل أن يأتي يوم لا تتمكن فيه من أداء الواجب.
س 286: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى- إذا لم يحج الشخص وهو قادر ولكنه مات ولم يحج فهل يحج عنه وإذا مات هل يحكم بأنه من أهل النار أم لا؟
فأجاب فضيلته بقوله: يرى بعض أهل العلم أن ترك الحج(21/228)
كفر، ويستدل بقول الله تبارك وتعالي: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (1) قال: (وَمَن كَفَرَ) يعنى فلم يحج، وهذا رواية عن الإمام أحمد- رحمه الله- ويروى عنّ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- أنه قال: لقد هممت أن أبعث إلى هذه الأمصار فمن وجدوه ذا سعة، ولم يحج فليضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم
بمسلمين وإن كان هذا الأثر فيه شيء من الضعف، ولكن إذا فرط ومات فهل يحج عنه أم لا؟ الإنسان يتوقف في هذا هل يحج عنه أو لا، لأنه قد يقول قائل: إذا حج عنه فإنه لا ينفعه، لأن الرجل تارك مفرط، بخلاف من مات ولم يؤد الزكاة، فهذا يجب أن تؤدى الزكاة إن كان له مال، لأن الزكاة حق الفقراء بخلاف الحج، فعلى كل حال هو على خطر عظيم إذا وجد سعة ولم يحج، هو على خطر عظيم.
س 287: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل يسر الله له كافة سبل الحج وعنده مال، ولكنه متساهل بهذا مع كبر سنه فما حكم صلاته وزواجه وغير ذلك، وهل هو آثم بهذا التأخير؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم هو آثم بهذا التأخير، وإذا مات، فمن العلماء من قال: إنه يموت كافراً، وإن كان يصلي نسأل الله العافية، ولكن القول الراجح أنه لا يكفر بترك الحج، إذ ليس شيء
__________
(1) سورة آل عمران، الآية: 97(21/229)
من الأعمال يكفر بتركه إلا واحدة وهي الصلاة، فإذا تهاون بالحج ومات فهو آثم وعاص ومستحق للعقاب، لكنه ليس بكافر.
واختلف العلماء: هل يقضى عنه الحج بعد موته في هذه الحال، أو لا يقضى؟ فجمهور العلماء على أنه يقضى عنه، وقال ابن القيم- رحمه الله- إنه لا يقضى عنه، لأنه رجل عازم على الترك متهاون، كيف نقضي عنه؟! وماذا ينفع عند الله، والحج عبادة إن لم يقم بها بنفسه فلا فائدة من ذلك، فعلى كل حال الأمر خطير، والواجب على هذا الذي أغناه الله وأعطاه القدرة على الحج أن يحج قبل أن يموت، فليتب إلى الله وليبادر.
س 288: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: أخ تعرض لحادث توفي بعده هل يجوز لنا أن نضحي له، أو نحج عنه إلى بيت الله الحرام نرجو الإفادة؟
فأجاب فضيلته بقوله: القول الراجح من أقوال أهل العلم أنه يجوز للإنسان أن يتعبد لله عز وجل بطاعة بنية أنها لميت من أموات المسلمين، سواء كان هذا الميت من أقاربه، أو من ليس من أقاربه، هذا هو القول الراجح، سواء في الصدقة، أو في الحج، أو في الصوم، أو في الصلاة، أو في غير ذلك، فيجوز للإنسان أن يتبرع بالعمل الصالح لشخص ميت من المسلمين، ولكن هذا ليس من الأمور المطلوبة الفاضلة، بل الأفضل أن يدعو له بدلا من أن يتصدق عنه، أو أن يضحي عنه، أو أن يحج عنه، لأن الدعاء له هو الذي أرشد إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه ثبت عنه أنه(21/230)
قال: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له " فذكر الولد الصالح الذي يدعو له، ولم يقل: أو ولد صالح يتصدق له، أو يصلي له، أو يحج له، أو يصوم له، أو ما أشبه ذلك من الأعمال الصالحة، مع أن الحديث في سياق العمل، فلما عدل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذكر العمل للميت بالدعاء، علم أن الدعاء هو المختار وهو الأفضل، ولهذا فإني أنصح إخواني المسلمين أن يحرصوا على الدعاء لأمواتهم، بدلا عن إهداء القربة لهم، وأن يجعلوا القربة لأنفسهم، لأن الحي محتاج إلى العمل الصالح، فإنه ما من ميت يموت إلا ندم، إن كان محسناً أن لا يكون ازداد، ِ وإن كان مسيئاً ندم ألا يكون استغفر قال الله تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ) (1) وقال الله عز وجل: (وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)) (2) فأنت أيها الحي محتاج إلى العمل الصالح، فاجعل العمل لنفسك وادع لأمواتك من
الآباء، والأمهات، والأخوان، والأخوات، وغيرهم من المسلمين، هذا هو الذي تدل عليه سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولكن مع هذا لو أن الإنسان تصدق عن ميت، أو صام عنه، أو صلى، وقصد بأن يكون الثواب للميت فلا بأس بذلك إذا تبرع به.
__________
(1) سورة المؤمنون، الآيتان: 99، 155.
(2) سورة المنافقون، الآيتان: 10، 11.(21/231)
س 289: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل نوى الحج وعندما أراد الذهاب وافته المنية وقد كان قد باع ما عنده من أجل الحج فما حكم هذا وهل يكتب له حج؟
فأجاب فضيلته بقوله: الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبيه محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، هذا الرجل الذي عزم على الحج فباع ما عنده ليحج به فوافته المنية قبل أن يقوم بالحج، نرجو الله عز وجل أن يكتب له أجر الحاج، لأنه نوى العمل الصالح، وفعل ما قدر عليه من أسبابه، ومن نوى للعمل وفعل ما قدر عليه من أسبابه فإنه يكتب له، قال الله تبارك تعالى: (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ (100)) (1) وإذا كان هذا الرجل الذي باع ماله ليحج، لأن الحج فريضة الإسلام فإنه يحج عنه بعد موته بهذه الدراهم التي هيأها ليحج بها عنه. إما أن يحج عنه أحد من أوليائه أو أحد من غيرهم، ففي حديث ابن عباس- رضي الله عنهما- أن امرأة جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت فأحج عنها؟ قال: "نعم " وكان ذلك في حجة الوداع.
س 290: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يجوز لي أن أحج وأعتمر عن قريبي الذي مات وهو لا يصلي تهاوناً منه، علما بأنني قد أديت فريضة الحج واعتمرت أكثر من مرة عن نفسي؟
__________
(1) سورة النساء، الآية: 100.(21/232)
فأجاب فضيلته بقوله: لا يجوز أن يحج ولا يعتمر عنه، لأن ذلك لا ينفعه.
س 291: سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى-: نشأت من صغري وأبي يصلي ويتلو القرآن ولكن قبل وفاته بحوالي خمس سنوات قطع الصلاة نهائيا وهو قادر، وأنا أريد الآن أن أحج عنه هل
يجوز؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا ينظر في سبب قطعه للصلاة، لأن الظاهر من حال هذا الرجل الذي كان يقرأ القرآن ويصلي، ويصوم، الظاهر أنه لم يدع الصلاة إلا لسبب، فقد يكون هذا الرجل اختل عقله وصار لا يطيق الصلاة ولا يحس، وفي هذه الحال لا تجب عليه الصلاة إذا كان قد اختل عقله، ولا يشعر ولا يدري، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - "رفع القلم عن ثلاثة" وذكر منهم "المجنون حتى يفيق " (1) إما إذا كان ترك الصلاة ومعه تمييزه وعقله فإنه حينئذ يكون كافراً والعياذ بالله، وإذا كان كافرا فإنه لا يجوز الحج عنه، ولا الدعاء له لقول الله تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)) (2) . فإن قال قائل: هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء، أعني مسألة ترك الصلاة: هل يكفر الإنسان
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (1/140) والحاكم (4/389) وصححه ووافقه الذهبي وصححه الألباني في صحيح الجامع (رقم 3512) .
(2) سورة التوبة، الآية: 113.(21/233)
بذلك أو لا؟ فجوابه أن نقول: نعم هذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم: هل يكفر تارك الصلاة أو لا؟ ولكن الميزان كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، لقول الله تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)) (1)
ولقوله تعالى: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ) (2) وإذا رددنا هذه المسألة- أعني مسألة تكفير تارك الصلاة- إلى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ونحن لا نعتقد لا قول هؤلاء ولا قول هؤلاء، وإنما ننظر إلى مقتضى الدليل، فإن كتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأقوال الصحابة- رضي الله عنهم- والنظر الصحيح كل هذه الأربعة تدل على أن تارك الصلاة كافر.
أما القراَن: فقال الله تعالى في المشركين: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) (3) فاشترط للأخوة في الدين ثلاثة شروط: التوبة من الشرك، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، ومن المعلوم أن الحكم المشروط بشيء لا يتم إلا باجتماع شروطه، فلا تتم الإخوة في الدين إلا بهذه الثلاثة، التوبة من الشرك، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، فإن بقوا مشركين فليسوا إخوة لنا في الدين، وإن أسلموا ولكن تركوا الصلاة فليسوا إخوة لنا في الدين، وإن أسلموا وأقاموا الصلاة ولم يؤتوا الزكاة فليسوا إخوة لنا في الدين، ولا تنتفي الأخوة في الدين إلا بالكفر، لأن
__________
(1) سورة النساء، الآية: 59.
(2) سورة الشورى، الآية: 10.
(3) سورة التوبة، الآية: 11.(21/234)
المعاصي مهما عظمت لا تخرج الإنسان من أخوة الدين، كما قال الله تعالى في القتل العمد، وهو من أعظم الذنوب: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ) (1) فقال: (فمن عفي له من أخيه شيء) والقاتل فاعل كبيرة عظيمة، ومع هذا لم يخرج من الأخوة الإيمانية، وقال الله تعالى في الطائفتين المقتتلتين: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) (2) والقتال بين المؤمنين من أعظم الكبائر، حتى قال النبي عليه الصلاة والسلام: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار" قالوا: يا رسول الله هذا هو القاتل، فما بال المقتول؟ قال: "لأنه كان حريصاً على قتل صاحبه " (3) وقال عليه الصلاة والسلام: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" (4) وقال - صلى الله عليه وسلم - "لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض " (5) ومع كونه من أعظم الذنوب وأطلق عليه الشارع
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 178.
(2) سورة الحجرات، الآيتان: 9، 10.
(3) أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) (رقم 31) ومسلم، كتاب الفتن، باب إذا تواجه المسلمان بسيفيهما (رقم 2888) .
(4) أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله (رقم 48) ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: سباب المسلم فسوق (رقم 64) .
(5) أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب الإنصات للعلماء (رقم 121) ومسلم، كتاب=(21/235)
الكفر فإنه لا يخرج من الدائرة الإيمانية، لقول الله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) وترك الصلاة وترك إيتاء الزكاة كما في آية التوبة التي صدرنا بها الجواب مخرج عن الدائرة
الإيمانية، لأن الله اشترط الأخوة، هذه الشروط الثلاثة: (إن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة) فإن قال قائل: هل تقول بتكفير مانع الزكاة؟ فالجواب قد قيل بذلك أي أن مانع الزكاة بخلا يكفر،
وقيل: ولا يكفر وهو رواية عن الإمام أحمد- رحمه الله- لكن القول الراجح، أنه لا يكفر، لحديث أبي هريرة- رضي الله عنه- الذي رواه مسلم في صحيحه قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح
من نار، فيحمى عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى
النار" (1) وكونه يرى سبيلا إلى الجنة يدل على أنه ليس بكافر، فيقال: إن إيتاء الزكاة دلت السنة على أنه إن لم يقم به فليس بكافر، والسنة كما هو معلوم لأهل العلم تخصص القرآن،
وتقيده، وتفسره وتبينه.
أما الدليل من السنة على أن تارك الصلاة كافر فيما رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك
__________
= الإيمان، باب بيان معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا ترجعوا بعدي كفاراً ... " (رقم 65) .
(1) أخرجه مسلم، كتاب الزكاة، باب إثم مانع الزكاة (رقم 987) .(21/236)
الصلاة" (1) وما رواه بريدة بن حصين- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر" (2) أخرجه أهل السنن، هذان الحديثان يدلان على كفر تارك الصلاة، ووجه ذلك لفظ البينية الدالة على الانفصال: انفصال
الشرك من الإيمان، وأن هذا هو الحد الفاصل، فمن أقام الصلاة فهو في جانب الإيمان، ومن تركها فهو في جانب الكفر والشرك، ومن أقام الصلاة فهو من المسلمين، ومن لم يقمها فهو من الكافرين. "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر" وأما أقوال الصحابة- رضي الله عنهم- فقد قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه-: لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة (3) . حظ أي نصيب، وهو منفي بلا النافية للجنس الدالة على العموم، وإذا انتفى الحظ القليل والكثير في الإسلام لم يبق إلا الكفر، وقد قال عبد الله بن شقيق- رحمه الله- وهو من التابعين: (كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة) .
وأما النظر الصحيح وهو الدليل الرابع، فإنه يقال: كيف نقول لشخص محافظ على ترك الصلاة لا يصلي، وهو يسمع النداء، ويرى المسلمين يقومون بالصلاة وهو غير مبالٍ بها، ولا مكترث بها؟ كيف نقول لمن هذا حالة: إنه مسلم، هذا من أبعد ما
__________
(1) تقدم ص 48.
(2) تقدم ص 48.
(3) أخرجه مالك، كتاب الطهارة، باب العمل فيمن غلبه الدم من جرح أو رعاف (رقم 51) وقال الهيثمي في المجمع (1/300) : رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح.(21/237)
يكون، فالنظر الصحيح يدل على كفر هذا الرجل، وإن قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله. وليس كل من قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، يكون مسلماً، فلو قال أحد: لا إله إلا الله، وكفر بآية
من القرآن، أو بحكم من أحكام الله عز وجل، وهو يعلم أنه من أحكام الله فهو كافر.
فإن قال قائل: أفلا يمكن حمل الحديث "بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة" على أن المراد بذلك كفر النعمة؟ فالجواب: هذا لا يصح لما أشرنا إليه من قبل، وهو كلمة البينية فإن كلمة (بين) تعتبر حداً فاصلا، لا يمكن أن يختلط هذا بهذا إطلاقاً، والبينية المطلقة تدل على التباين المطلق فترك الصلاة مباين للإسلام، لا يمكن أن يكون الإنسان مسلما وهو تارك لصلاته.
فإن قال قائل: أفلا يمكن أن نحمل النصوص الدالة على الكفر على أن المراد من تركها جاحداً لها؟ فجوابه: أن هذا لا يمكن، لأن مجرد جحد الصلاة كفر، سواء فعلها أم لم يفعلها، فلو أن أحداً كان يحافظ على الصلاة ويأتي بها مع الجماعة، ولكنه يعتقد أنها ليست بفرض، وأن الإنسان مخير فيها إن شاء فعلها، وإن شاء لم يفعل فإنه كافر، ومع ذلك فهو لم يتركها.
وحمل النصوص على أن المراد به الجحد لا يصح من وجهين: الوجه الأول: إننا ألغينا الوصف الذي قيد الشارع الحكم به وهو الترك.
الوجه الثاني: أننا أثبتنا وصفاً لم يعتبره الشرع وهو الجحد.(21/238)
وهناك وجه ثالث أنه لا ينطبق على الحديث، لأنه كما قلنا آنفاً: لو صلى وداوم على الصلاة وهو جاحد كان كافراً مع أنه لم يترك، فتبين بهذا أن تارك الصلاة كافر، وأن تأويل نصوص الكفر
على أن المراد به كفر النعمة لا يصح، وتأويلها على أن المراد به الجحود لا يصح أيضاً، وينبغي أن يعلم طالب العلم أنه مسئول أمام الله عز وجل يوم القيامة عن الحكم بما تقتضيه ظواهر الكتاب
والسنة، ويعلم أيضاً أن الحكم على الناس، وعلى أقوالهم، وأفعالهم، ومعتقداتهم ليس إلى أحد إلا إلى الله ورسوله، فما بالنا نتهيب أن نحكم على شخص بكفر دل الكتاب والسنة على أنه وصفه، وأنه مستحق له، إن التهيب من هذا مع دلالة النصوص كالتهيب من تحريم شيء دل الشارع على تحريمه مع وضوح أدلته، ولسنا نحن الذين نحكم على عباد الله، وعلى أفعال عباد الله، وإنما الذي يحكم هو الله عز وجل، سواء في كتابه، أو فيما جاء عن نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وعلى هذا فالواجب على الإنسان أن ينظر إلى النصوص على أنها متبوعة، لا على أنها تابعة، حتى يسلم من
التأويل، سواء أكان هذا التأويل قريباً أم بعيداً، إذا لم يدل عليه دليل من الكتاب والسنة، وبناء على هذا فإننا نقول: هذا الرجل الذي سألت عنه المرأة إذا كان ترك الصلاة لمدة خمس سنوات قبل وفاته مع سلامة بدنه وصحته وعقله فإنه يكون كافراً ميتاً على الكفر، إلا إذا علم أنه في آخر حياته تاب وصلى، وإذا قدر أنه مات على ترك الصلاة فإنه لا يجوز لها أن تحج عنه ولا أن تدعو له. فعليها أن تتحرى في أمرين:(21/239)
الأمر الأول: هل كان حين ترك الصلاة عاقلاً، معه عقله وشعوره، لأني أستبعد أن يدع الصلاة ومعه عقله وشعوره، مع أنه كان في الأول محافظاً عليها وعلى بقية العبادات.
وثانياً: هل رجع قبل موته أو لم يرجع، لأنه يمكن أن يكون رجع قبل أن يموت، كما يوجد في كثير من الناس، يحصل منهم تفريط وتهاون، ثم يوقظهم الله عز وجل في آخر حياتهم، قال عبد
الله بن مسعود- رضي الله عنه- حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق فقال: "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون نطفة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فيؤمر بأربع لمات بكتب رزقه وعمله وشقي أم سعيد فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة فلم يبق بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى لم يبق بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها" (1) فالإنسان قد ييسر الله له اليقظة في آخر حياته، وتكون خاتمته خاتمة خير وسعادة، وليعلم أن قوله في الحديث (ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يكون بينه وبينها إلا ذراع) لقرب أجله، ثم بعد ذلك يغلب عليه ما في قلبه من السيئات الخبيثة- أعوذ
بالله- حتى يعمل بعمل أهل النار فيدخلها.
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة (رقم 3208) ومسلم، كتاب القدر، باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه ... (رقم 2643) .(21/240)
س 292: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: توفي والدي منذ ما يقارب من عشرين عاما ولم يؤد فريضة الحج، وأخي يريد أن يحج عنه مع إن الإمكانيات المادية عنده ضعيفة جداً ولديه بيت
وزوجة وأولاد، وقلت له: لا يجب عليك أن تحج عنه، لأنك غير قادر، فهل كلامي هذا صحيح؟ علما بأنني أنوي أن أحج عنه عندما تتحسن ظروفي المادية؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان أبوك في حياته لا يستطيع الحج لكون المال الذي في يده لا يكفيه، أو لا يزيد على مئونته وقضاء ديونه، فإن الحج لا يجب عليه، وذمته بريئة منه، قال الله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) .
وأما إذا كان أبوك يمكنه أن يحج في حال حياته لأن عنده دراهم فاضلة وزائدة عن حاجاته وقضاء ديونه، فإن الواجب عليكم أن تحجوا عنه من تركته، لأن الحج يكون ديناً في ذمته مقدماً على الوصية والإرث، لقول الله تعالى في آية المواريث: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) (1) وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قضى بالدين قبل الوصية، وأما إذا أراد أحد منكم أن يحج عنه تطوعاً لكن لا يكون هذا على حساب نفقته ونفقة أولاده، فإذا كان المال الذي بيده قليلاً لا يزيد عن حاجاته فإنه لا ينبغي له أن يحج عن والده، لأنه لو كان هو نفسه لم يحج لم يجب عليه حج،
فكيف يحج عن غيره، ويمكنكم إذا أردتم لأبيكم الخير أن
__________
(1) سورة النساء، الآية: 11.(21/241)
تستغفروا له، وأن تدعوا له بالرحمة والرضوان، فإن ذلك ينفعه إذا تقبل الله منكم.
س 293: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل يقول: لي والدة توفيت وكان عندها مال وليس لها أولاد غيري وليس لها ورثة غيري، وقصدي لها حجة، هل تجوز الحجة من مالها الخاص، أو
أحج لها من مالي؟
فأجاب فضيلته بقوله: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، هذا المال الذي ورثته من أمك وليس لها وارث سواك هو مالك، ورثك الله إياه، ولك أن تفعل فيه ما تفعل في مالك، ولكن إن كانت أمك قد وجبت عليها حجة الإسلام في حياتها، ولم تحج وجب عليك أن تحج عنها. وأما إن كانت قد أدت الفريضة، أو لم تجب عليها في حياتها لكون هذا المال الذي ورثته منها ثمناً لحوائجها الأصلية التي بعتها بعد موتها، فإن الحج لا يجب عليك، ولكن إن حججت عنها فنرجوا أن يكون في ذلك خير، وسواء حججت عنها من مالك الخاص، أو من هذا المال الذي ورثته منها، لأن المال الذي ورثته منها بمجرد موتها صار داخلاً في ملكك، فلا فرق بينه وبين الذي كان عندك سابقاً.
س 294: سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى-: قد أجرت إنسانًا لكي يحج عن والدتي التي قد توفيت منذ أمد بعيد، لكن اختصار(21/242)
برقيتي يقول: إنني قد أجرت له وإنني قد سمعت أن الإنسان لا يجوز له أن يؤجر من أجل الحج عن الآخر فما حكم الحج عن والدتي وهذه الحالة؟
فأجاب فضيلته بقوله: نقول ينبغي لك إذا أردت الحج عن والدتك أن تحج بنفسك، أو تتفق مع شخص بدون عقد الإجارة على أن يحج لك، وهذا الحاج عنك، أو عن أمك إذا كانت نيته بحجه قضاء حاجتك وحل مشكلتك، وكان يريد مع ذلك أيضاً أن يتزود من الأعمال الصالحة من مشاعر الحج فإن هذه نية طيبة ولا حرج عليه فيها، أما إذا كان حج عنك، أو عن والدتك من أجل الدراهم فقط، فإن هذا حرام عليه ولا يجوز، لأنه لا يجوز للإنسان أن يريد بعمل الآخرة شيئاً من أمور الدنيا، فهنا الكلام في مقامين:
أولا: بالنسبة لمن أعطى غيره أن يحج عنه، أو عن ميت من أمواته. فنقول: إذا أعطيت غيرك شيئاً يحج به عن ميتك، فإنه لا حرج عليك في هذا، وأما إذا أعطيته يحج عنك، فهذا إن كان فريضة فلا يجوز لك أن تنيب من يحج عنك إلا إذا كنت عاجزاً عنها عجزاً لا يمكن زواله، وإن كانت نافلة فقد اختلف العلماء في جوازها، والذي يظهر لي أنه لا يجوز للإنسان أن ينيب غيره يحج عنه نافلة، لأن الأصل في العبادات أن يؤديها الإنسان بنفسه حتى يحصل له التعبد والتذلل لله سبحانه وتعالى، وإنما أجزنا ذلك في الفريضة لورود الحديث به، وإلا الأصل المنع.
ثانيًا: بالنسبة للحاج عن غيره، فإن أراد بذلك الدنيا وما(21/243)
يأخذ من أجر فهو حرام عليه، وإن أراد بذلك قضاء حاجة أخيه، وما يحصل له بالانتفاع بالدعاء في تلك المشاعر فإنه لا حرج عليه في ذلك.
س 295: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: يقول خرجت حاجاً من بلدي، وأرسل معي أخ قيمة حجتين عن شخصين وأعطيت المبلغ لشخصين من أهل المدينة، وأنا لا أعرف الأشخاص معرفة جيدة، وقلت لصاحب المال لا أعرف أحداً.
فقال: أعطي أي شخص على ذمتي، وذمتك بريئة، أرجو التوضيح وفقكم الله؟
فأجاب فضيلته بقوله: تصرف الوكيل بحسب ما أذن له موكله فيه إذا لم يكن ما يخالف الشرع نافذ، ولا حرج عليه، ولا ضمان عليه، ولا تبع إذا لم يتعد ما وكل فيه، فالسائل ليس عليه
تبعة، ولكن قد تكون التبعة على هذا الذي قال مثل هذا الكلام المطلق إذا كانت الحجتان وصية لميت أو لحي وكل موكل السائل بذلك، ولهذا ينبغي للإنسان إذا كان يريد أن يعطي من يحج عنه
فلتيحر في أمانة الآخذ ودينه، فإن بعض الناس قد لا يكون عنده تقوى لله عز وجل ولا رحمة لخلقه، فيأخذ هذه الدراهم ليحج بها، ولكنه لا يحج بها ويصرفها فيما يريد من متاع الدنيا، فيكون
بذلك خائناً لله وخائناً لأمانته وواقعاً في الإثم.(21/244)
س 296: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل يستطيع الحج ولم يحج، ودفع دراهم في حجه لوالده الميت فهل يصح مع أنه لم يحج عن نفسه؟
فأجاب فضيلته بقوله: إن المشروع في حق هذا الرجل أن يبدأ بنفسه لحديث "ابدأ بنفسك " (1) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة" (2) .
وأما الصحة فإن كان هذا الرجل يستطيع أن يحج ببدنه، أي يقدر أن يصل إلى مكة بنفسه فتحجيجه لوالده صحيح، وإن كان لا يستطيع الوصول إلى مكة بنفسه فتحجيجه لوالده غير صحيح، وتكون الحجة له هو لا لوالده، والفرق بينهما أنه إذا كان يقدر على الوصول بنفسه ففرضه أن يصل بنفسه، فإذا أناب عن غيره فإنه لم يزاحم فرض نفسه، أما إذا كان لا يستطيع الوصول بنفسه فإن فرضه أن ينيب عن نفسه، فإذا أناب عن غيره قبل نفسه، فقد زاحم فرض نفسه، فيقع الحج عن فرض نفسه.
س 297: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: توفي والدي - رحمه الله- وكان قد أوصى في حياته أن يؤدي عنه الحج وخصص قطعة أرض من أملاكه لمن يحج عنه، وبعد أن بلغنا سن
الرشد أنا وأخي قدمنا إلى المملكة للعمل واتفقنا مع شخص أن يحج عن والدنا مقابل مبلغ من المال ولم ندفع إليه قطعة الأرض
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الزكاة، باب الابتداء في النفقة بالنفس ثم أهله.. (رقم 997) .
(2) تقدم ص 143.(21/245)
التي جعلها والدي لمن يحج عنه. فهل الحج صحيح، وهل علينا شيء في ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا الأب الذي أوصى بهذه القطعة للحج بها عنه يجب صرفها جميعاً في الحج إذا كانت من الثلث فأقل، وإن كانت أكثر من الثلث فما زاد عن الثلث فأنتم فيه بالخيار، لكن إذا علمتم أن مقصود والدكم هو الحج فقط، أي أن المقصود أن يؤتى له بحجة وأنه عين هذه الأرض من أجل التوثق، فإنه لا حرج عليكم أن تعطوا دراهم يحج بها، وتبقى هذه الأرض لكم، فالمهم أن هذا يرجع إلى ما تعلمونه من نية أبيكم، فإن كنتم تعلمون أن من نية أبيكم أن تصرف هذه الأرض كلها بالحج عنه فتنفق كلها في الحج عنه، ولو كانت عدة حجات إذا كانت لا تزيد عن الثلث، وما زاد على الثلث فأنتم فيه بالخيار، وإذا كنتم تعلمون أن والدكم يريد الحج ولو مرة، لكن عين هذه الأرض من أجل التوثقة فإنه لا حرج عليكم أن تقيموا من يحج عنه بدراهم وأن تبقوا هذه الأرض لكم.
والحج الذي أدي صحيح بكل حال، لكن يبقى إن كان الوالد يريد أن تصرف كل الأرض في الحج عنه فإذا كان ما بذلوه أقل من قيمة الأرض فحجة أخرى، ثم أخرى حتى تستكمل قيمة الأرض.
س 298: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يجوز للبنت أن تحج عن أبيها المتوفى بعد أن حجت لنفسها، وماذا يشترط لذلك؟(21/246)
فأجاب فضيلته بقوله: نعم يجوز للبنت أن تحج عن أبيها المتوفى، وكذلك للابن أن يحج عن أبيه، وكذلك للأخ أن يحج عن أخيه، ولا حرج في ذلك، إذا كان هذا الحاج قد أدى فريضة الحج عن نفسه، وفي الصحيحين من حديث ابن عباس- رضي الله عنهما- أن امرأة سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أمها نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت، فأذن لها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تحج عن أمها (1) .
س 299: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يجوز للمرأة أن تحج عن والدها ولو كان لها أخوة ذكور بالغون؟
فأجاب فضيلته بقوله: يجوز للمرأة أن تحج عن والدها ولو كان لها أخوة ذكور بالغون، والنيابة يقوم بها الرجال والنساء، ولهذا سألت امرأة من خثعم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إن أبي أدركته فريضة الله على عباده في الحج شيخاً لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: "نعم " فأذن لها أن تحج، وهي امرأة عن رجل.
ولكن لابد من المحرم في كل سفر، سواء سفر الحج أو غيره، وسواء سافرت المرأة لحجها عن نفسها، أو لحجها عن غيرها.
س 300: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: في العام الماضي 1417 هـ وفقني الله عز وجل إلى حج بيته الحرام وأديت الفريضة متمتعاً عن نفسي، وإذا رغبت في الحج عن والدي المتوفى حج
مفرد وليس متمتعاً فهل يجوز ذلك أفيدوني مأجورين؟
__________
(1) تقدم ص 142.(21/247)
فأجاب فضيلته بقوله: لا حرج على الإنسان إذا أدى واجب النسك من حج وعمرة أن يحج عن غيره، أو يعتمر عن غيره، ودليل ذلك حديث ابن عباس- رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع رجل يقول: لبيك عن شبرمة. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من
شبرمة؟ " قال: أخ لي أو قريب لي. قال: "أحججت عن نفسك؟ " قال: لا. قال: "حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة" (1) واختلف هذا الحديث في ألفاظه، وهذا يدل على أن الإنسان إذا حج عن
نفسه جاز أن يحج عن غيره، وإذا اعتمر عن نفسه جاز أن يعتمر عن غيره.
س 301: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: توفي أحد الأشخاص وهو أحد أقارب والدتي، وليس له ابن ولا بنت، وكان في حياته غير عاقل أي مختل العقل ولا يعامل معاملة العاقل، علما بأنه كان يصوم ويصلي، وسؤالنا هو: نحن لا ندري هل هو أدى فريضة الحج أم لا فماذا نفعل تجاهه؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا الرجل لا فريضة عليه، لأنه مجنون، إلا أن يكون جنونه حدث بعد أن وجب عليه الحج، أما إذا كان قد جن- والعياذ بالله- قبل وجوب الحج عليه فإنه لا حج عليه، وحينئذ لا يلزمكم أن تحجوا عنه، أو أن تأخذوا من تركته ليحج عنه.(21/248)
س 302: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يجوز للرجل أن يحج أو يعتمر عن أخيه بعد وفاته؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا حرج على الإنسان أن يحج ويعتمر عن أخيه بعد وفاته، وإن لم يوصه بذلك، لأن ابن عباس - رضي الله عنهما- ذكر أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من شبرمة" قال: أخ لي، أو قريب لي فقال: "أحججت عن نفسك؟ " قال: لا. قال: "حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة" ولم يقل له: هل أوصاك بذلك، أو أذن لك بهذا، ولو كان هذا شرطاً لبينه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
س 303: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: توفي والدي ووالدتي وأنا صغير، ولا أعرف هل أديا فريضة الحج أم لا، مع أن حالتهما كما ذكر لي كانت فقيرة جداً فماذا أعمل؟
فأجاب فضيلته بقوله: نفيدك بأن والديك ليس عليهما حج في هذه الحال، وليس في دينهما نقص يلامان عليه، وذلك أن الحج لا حما إلا على المستطيع، لقول الله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) فلا تقلق ولا تغتم من أجل عدم حجهما ما داما فقيرين، لكن إن أردت أن تحج وتعتمر عنهما فتبدأ أولاً بالأم، ثم ثانياً بالأب، بعد أن تكون أديت الفريضة عن نفسك فهذا حسن.(21/249)
س 304: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: بعض الناس يتوفى والده ووالدته فيريد أن يقدم لهما عملاً صالحاً، فأول ما يتبادر إلى ذهنه أن يحج وهما قد حجا فهل الأفضل في هذه الحال أن يدعو لهما ويكثر الدعاء في الأماكن الطيبة والأزمنة الطيبة أو أنه يحج ويعتمر عنهما؟
فأجاب فضيلته بقوله: الأفضل أن يدعو لهما، ويجعل الحج والعمرة لنفسه، ودليل هذا أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" ولم يقل يحج عنه ولا يعتمر عنه، ولا شك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يدع الأفضل ويذكر المفضول أبداً بل لا يذكر للأمة إلا الأفضل لأننا نعلم أنه أنصح الخلق للخلق، وأنت أيها الإنسان محتاج إلى العمل الصالح، سيأتيك يوم تتمنى أن في ميزانك حسنة واحدة فاجعل العمل الصالح لك، وادع لميتك.
س 305: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: بعض الناس يدفع مبلغاً من المال يقول: حج عن أبي أو أمي أو خالي المتوفى نافلة فما حكم هذا وما هو الأفضل؟
فأجاب فضيلته بقوله: الأفضل أن لا يفعل والفلوس التي يعطيها هذا الرجل ويحج عن أبيه وأمه يعطيها إنساناً لم يؤد الفريضة ليؤد الفريضة أفضل بكثير، لأنه إذا أعطى هذه الدراهم لشخص لم يؤد الفريضة صار له مثل هذا الذي أدى الفريضة.(21/250)
س 306: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: امرأة أرادت أن تحج عن والدتها وهي متوفاة ووالدتها قد أفرضت فما هو الأفضل أن تحج أو تدعو لها؟
فأجاب فضيلته بقوله: الأفضل أن تحج لنفسها وأن تدعو إلى أمها، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما قال: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له " (1) ، لم يقل ولد صالح يحج عنه، أو يصوم عنه، أو يتصدق عنه، أو يصلي عنه، فإذا سألنا سائل: أيهما أفضل أن أصلي وأجعل الثواب لأبي، أو أتصدق وأجعل الثواب لأبي، أو أن أدعو لأبى؟ قلنا: الأفضل أن تدعو إلى أبيك، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أعلم منا، وأنصح منا، وأفصح منا، ولم يقل: أو ولد صالح يعمل له، بل قال: ولد صالح يدعو له. هذا ما أرشد إليه النبي - صلى الله عليه وسلم -.
س 307: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: شخص أراد أن يحج عن ميت أو ميتة وأخذ مبلغاً من المال اتفقوا عليه، فما حكم ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا بأس أن تتفق مع شخص أن يحج عنك، أو عن الميت بدراهم. أما عن الميت فواضح لا يمكن أن يحج بنفسه، أما أنت فنقول: تحج بنفسك النافلة إن كنت قادراً، وإن لم تكن قادراً، لا فأعطي أحداً لم يؤد الفريضة وهو عاجز،
__________
(1) تقدم ص 150.(21/251)
فتساعده أنت بمالك في أداء الفريضة، ومساعدتك أنت بمالك في أداء الفريضة أفضل.
س 308: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: صبي عمره أربعة عشر عاماً وتوفي فهل يحج عنه؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يحج عنه، لأنه صغير لم يبلغ، إلا إذا كان قد بلغ بإنبات العانة، أو بالاحتلام، فحينئذ يكون من أهل الوجوب إن كان قادراً، فإن لم يكن له مال فليس بواجب عليه.
س 309سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل جاء من بلده للحج ثم تحطمت الطائرة قبل أن يصل هل يعتبر حاجاً؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا هلك من سافر للحج قبل أن يحرم فليس بحاج، لكن الله عز وجل يثيبه على عمله، أما إذا أحرم وهلك فهو حاج، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الرجل الذي وقصته ناقته وهو واقف بعرفة فقال: "اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تحنطوه، ولا تخمروا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً" (1) ولم يأمرهم بقضاء حجه، وهذا يدل على أنه يكون
حاجاً.
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب جزاء الصيد، باب سنة المحرم إذا مات (رقم 1851) ومسلم، كتاب الحج، باب ما يفعل بالمحرم إذا مات (رقم 1206) .(21/252)
س 310: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: شخص زوج ابنته شخصا آخر واشترط عليه أن يحج بها، وبعد ذلك توفيت هذه البنت وزوجها لم يحج بها، فأخ الأب مالا من الزوج ليحج عنها
وبعد فترة توفي الأب ولم يحج كذلك، فالاَن ابنه يسأل يقول هل أحج عن أبي حتى أبرىء ذمته أم ماذا أفعل؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا واجب في تركة أبيه ودين على أبيه فإن تبرع وحج من نفسه ووفر المال للورثة فلا بأس.
س 311: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: شخص توفي ولم يؤد العمرة هل يؤخذ من ماله لأداء العمرة، وقد سبق أن حج مفرداً؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان ماله لتسع للعمرة أخذ من ماله، لأن القول الراجح أن العمرة واجبة، وأنه إذا لم يؤدها في حياته مع قدرته تؤخذ من تركته بعد وفاته.
س 312: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يُقضى الصوم والحج عن المتوفى؟
فأجاب فضيلته بقوله: الصوم يقضى عنه إذا فرط فيه، بحيث يكون قد قدر على أن يصومه ولكنه لم يصم حتى مات، وهذا يقع كثيراً، مثل: أن يكون الإنسان مسافراً في رمضان فيفطر، ثم ينتهي رمضان ويتمكن من القضاء ولكنه يموت قبل القضاء، فهذا يقضى عنه فعن عائشة- رضي الله عنها- أن رسول(21/253)
الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه " (1) فإن لم يصم عنه وليه فلا إثم عليه، ولكن يكفر عن الميت عن كل يوم بإطعام مسكين " وأما الحج فيقضى عنه أيضاً إذا كان قد فرط في أدائه، مثل أن يكون مستطيعاً على الحج، ولكنه فرط فلم يحج فإنه يقضى عنه.
س 313: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل توفي والده وهو صغير ولا يعلم هل والده حج الفريضة أم لا، فطلب من أحد أبنائه أن يحج عنه وابنه هذا له ابن فأوصى أن يحج وقد حج هذا الابن عن نفسه؟
فأجاب فضيلته بقوله: ينوي تنفيذا لوصية والده، ولكن أعلم أن الإنسان إذا حج عن شخص نافلة وهو لم يفرض صارت فريضة حتى لو ما نوى الحج، لأن من خصائص الحج أن الإنسان إذا لم يؤد الفريضة فما حجه فهو الفريضة حتى لو حججت عن غيرك وأنت لم تؤد الفريضة صارت فريضتك أنت، والإنابة هذه لا شيء فيها ما دام الإنسان يعلم أن قصد والده أن يحج عنه فقط، أما إذا كان يعلم أن والده يقصده هو بنفسه، لأنه طالب علم فلا يوصي بها أحداً.
س 314: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل توفي ولم يحج، ولكنه اعتمر فهل تجب عليه حجة الإسلام؟
__________
(1) تقدم ص 227.(21/254)
فأجاب فضيلته بقوله: حجة الإسلام لا تجب إلا على من استطاع إليه سبيلا فمن لم يكن عنده مال فإنه لا يستطيع إليه، فهذا الأخ الذي مات إذا لم يكن له مال فليس عليه حج، لأنه لا يمكن أن يصل إلى البيت ماشياً، وإذا لم يكن عنده مال فلا حج عليه، وعلى هذا فاطمئنوا ولا تقلقوا من كونه لم يحج، لأنه لا حج عليه، ونظير ذلك الرجل الفقير ليس عليه زكاة، إذا مات وهو لم يزك، فإننا لا نقلق من أجل ذلك، فالذي ليس عنده مال فلا زكاة عليه، ويلقى ربه وهو غير آثم، ومن لم يستطع أن يصل البيت لعدم المال فلا حج عليه، فيلقى ربه وهو غير آثم، لكن إذا أراد أحد منكم أن يتطوع ويحج عن هذا الميت فلا حرج، لأن امرأة جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله إن أمي نذرت أن تحج ولم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ قالِ "نعم " (1) .
س 315: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما حكم الحج عن المتوفى إذا كان جداً للإنسان؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا حرج أن يحج الإنسان عن جده الذي لم يحج، لأن ذلك قد جاءت به السنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
س 316: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يجوز الاعتمار عن الميت؟
فأجاب فضيلته بقوله: يجوز الاعتمار عن الميت، كما
__________
(1) تقدم ص 142.(21/255)
يجوز الحج عنه، وكذلك الطواف عنه يجوز، وكذلك جميع الأعمال الصالحة تجوز عن الميت، قال الإمام أحمد - رحمه الله-: كل قربة فعلها وجعل ثوابها لحي أو ميت مسلم نفعه.
ولكن الدعاء للميت أفضل من إهداء الثواب له، والدليل على هذا قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له " (1) ووجه الدلالة من الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل: (أو ولد صالح يتعبد له، أو يقرأ، أو يصلي، أو يعتمر، أو يصوم، أو ما أشبه ذلك مع أن الحديث في سياق العمل) فهو يتحدث عن العمل الذي ينقطع بالموت، فلو كان المطلوب من الإنسان أن يعمل لأبيه أو لأمه، لقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أو ولد صالح يعمل له. ولكن لو عمل الإنسان عملاً صالحاً، وأهدى ثوابه لأحد من المسلمين فإن ذلك جائز.
س 317: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: والدتي توفيت قبل ثلاث سنوات ولم تؤد فريضة الحج، وأريد أن أؤدي فريضة الحج عنها، وأنا لم أتزوج ولم أحج عن نفسي، فهل يصح أن أحج
لها والأمر كذلك، أفتونا بذلك جزاكم الله خيراً؟
فأجاب فضيلته بقوله: أولا: لا بد أن نسأل عن هذه الوالدة هل الحج فريضة عليها أم لا؟ لأنه ليس كل من لم يحج يكون الحج فريضة عليه. إذ إن من شرط الحج أن يتوفر عند الإنسان مال يستطيع به أن يحج بعد قضاء الواجبات، والنفقات الأصلية،
__________
(1) تقدم ص 150.(21/256)
فنسأل: هل أمك كان عندها مال يمكنها أن تحج به، إذا لم يكن عندها مال يمكنها أن تحج به فليس عليها حج، فالذي ليس عنده مال يحج به ليس عليه حج، كالفقير الذي ليس عنده مال، ليس
عليه زكاة، وقد ظن بعض الناس أن الحج فريضة على كل حال، ورأوا أن الإنسان إذا مات ولم يحج أن الحج باق في ذمته فريضة، وهذا ظن خطأ. فالفقير لا حج عليه ولو ما لا نقول: إنه مات
وترك فريضة، كما أن الفقير لو مات لا نقول: إنه مات ولم يزك.
بل نقول: من ليس عنده مال فلا زكاة عليه، فنحن نسأل أولا: هل أمك كانت قادرة على الحج ولم تحج حتى ماتت، أو أنها عاجزة ليس عندها مال، فالحج ليس فريضة عليها، وحينئذ لا تكن في قلق، ولا تكن منزعجاً من ذلك، لأنها ماتت، وكأنها حجت ما دامت لا تستطيع الحج.
وعلى الاحتمال الأول أن عندها مالاً تستطيع أن تحج به، ولكنها لم تحج فيحج عنها من تركتها، لأن ذلك دين عليها، وإذا لم يمكن كما هو ظاهر السؤال فإنه لا يحل لك أن تحج عنها حتى تحج عن نفسك، لحديث ابن عباس- رضي الله عنهما- أن رجلاً كان يقول: لبيك عن شبرمة. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من شبرمة؟ " قال: أخ لي، أو قريب لي، قال له: "أحججت عن نفسك؟ " قال: لا.
قال: "حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة" ولأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "ابدأ بنفسك " فلا يحل أن تحج عن أمك حتى تؤدي الفريضة عن نفسك، تم إذا أديت الفريضة عن نفسك، فإن كنت في حاجة شديدة إلى النكاح فقدم النكاح، لأن النكاح(21/257)
من الضروريات أحياناً، ثم إن تيسر لك أن تحج عن أمك بعد ذلك فحج.
س 318: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: والدي توفي من مدة طويلة، وأعلم أنه كان لا يصلي، وقد حضرت إلى السعودية وقمت بأداء فريضة الحج ثلاث مرات، وقد نويت في المرة
الأخيرة أن تكون لوالدي المتوفى ولكنني سمعت منكم عن حكم من لم يصل أنه في حكم الشرع كافر، وقد حزنت كثيراً عندما فكرت في موقف والدي، وسؤالي: هل تجوز له هذه الحجة؟
وهل تكفر عنه هذا التقصير في الصلاة؟
فأجاب فضيلته بقوله: إن هذه السائلة ذكرت في سؤالها أنها قد أدت فريضة الحج ثلاث مرات، والصحيح أن فريضة الحج مرة واحدة في العمر، لما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الحج مرة فما زاد فهو تطوع " (1) وكونها عبرت بهذا التعبير (ثلاث مرات) فهذا خطأ.
وأما كونك قد حججت لوالدك وهو لا يصلي، فالكفار لا ينتفعون بالأعمال الصالحة، ولا يجوز الاستغفار لهم، لقول الله تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)) (2) ولكن نظراً لأن والدك قد يصلي في بعض الأحيان، أو يُشك في
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (1/290) وأبو داود، كتاب المناسك، باب فرض الحج (رقم 1721) وابن ماجه، كتاب المناسك، باب فرض الجج (رقم 2886) ، والحاكم (1/441) وصححه ووافقه الذهبي.
(2) سورة التوبة، الآية: 113.(21/258)
كفره، فإنه لا حرج أن تفعلي شيئاً وتقولي: اللهم اجعل أجر ذلك لوالدي إن كان مؤمناً، وتعلقي ذلك بكون أبيك مؤمنا، فمثل ذلك لا حرج فيه، فإن تعليق الأمر جائز في العبادات وفي الدعاء.
أما في العبادات فلقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لضباعة بنت الزبير- رضي الله عنهما-، وقد أرادت أن تحج وهي مريضة قال لها - صلى الله عليه وسلم -: "حجي واشترطي، فإن لك على ربك ما استثنيت " (1) ، وأما في الدعاء فلقوله تعالى في آية اللعان: (وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7)) (2) وتقول المرأة: (وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)) (3) والله الموفق.
س 319: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل ماتت أمه وأراد أن يحج عنها فتوفر ذلك فما الشروط التي لا بد أن تكون في الرجل الذي سوف يحج عنها؟
فأجاب فضيلته بقوله: الشروط أنه لابد أن يكون قد حج عن نفسه، الثاني أنه يجب عليه أن يتقي الله عز وجل ما استطاع في أداء النسك على الوجه المطلوب.
س 320: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: من مات في حريق منى هذه السنة وهذه حجة الإسلام فهل يحج عنه؟
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب جواز اشتراط المحرم التحليل بعذر المرض (رقم 1207) .
(2) سورة النور، الآية: 7.
(3) سورة النور، الآية: 9.(21/259)
فأجاب فضيلته بقوله: نعم من مات في الحريق بعد إحرامه فإنه لا يحج عنه، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الرجل الذي مات يوم عرفة: "اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تخمروا رأسه ولا تحنطوه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا" (1) وقال الله تعالى: (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) (2) وعلى هذا إذا كان قد أحرم فلا يحج عنه، وتكون ذمته قد
برئت ولا ينبغي أن يكمل عنه النسك، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر أن يكمل عن الرجل الذي مات في عرفة نسكه، ولأنه إذا أتمه فمقتضى إتمام النسك عن الميت لو قيل بذلك لكان ذلك جناية على الميت في الواقع.
أما إذا كان احترق قبل أن يحرم فينظر إذا كان فيما مضى من السنوات قادرًا على الحج، ولكنه أخره لهذا العام فإنه يقضي عنه من تركته، وأما إذا كان لم يقدر على الحج إلا سنته هذه، فإنه لا
يقضي عنه لأنه لم يتمكن منه.
س 321: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: من أكثر المسائل التي يسأل عنها مسألة الحج عن الميت، هل هناك فرق بين من أوصى أن يحج عنه، أو لم يوص، أرجو الجواب بالتفصيل؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا أوصى أن يحج عنه وكان المال
__________
(1) تقدم ص 252.
(2) سورة النساء، الآية: 100.(21/260)
وصية فإنه يحج عنه، لأن الحج بر، وقد قال الله تبارك وتعالى: (فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)) (1) بعد قوله: (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)) (2) فيجب أن تنفذ وصيته لأنه أوصى
بها، أما إذا لم يوص بها فلا بأس أن يحج عنه بعد موته، ولكن الدعاء له أفضل من الحج عنه، ولهذا نقول لمن أراد أن يحج عن أبيه نافلة، اجعلها عن نفسك، وادع لأبيك في الطواف والسعي وفي الوقوف بعرفة والوقوف في مزدلفة، فذلك خير لك، لأن نبيك محمدًا صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد
صالح يدعو له " (3) ، لم يقل (يعمل له) ومعلوم أن سياق الحديث في العمل، فلما عدل - صلى الله عليه وسلم - عن العمل إلى الدعاء علمنا أن الدعاء له أفضل.
س 322: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل توفيت زوجته ولم تحج وزوجها الآن قادر على الحج ويريد دفع قيمة الحج، لمن يقوم بأداء الحج عنها، فهل يؤجر على ذلك، وهل الأفضل أن يقوم هو بالحج عنها أم يوكل؟
فأجاب فضيلته بقوله: الأفضل أن يقوم هو بالحج عنها من
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 182.
(2) سورة البقرة، الآية: 181.
(3) تقدم ص 150.(21/261)
أجل أن يأتي بالنسك على الوجه الأكمل الذي يحبه، ولكن إذا كان لا يرغب في ذلك، ووكل من يحج عنها فهو على خير، فقد أحسن إليها، وليس بغريب أن يحسن الإنسان إلى زوجته التي كانت قرينته في الحياة، وشريكته في الأولاد، أما الوجوب فلا يجب عليه.
س 323: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: أنا ولي على أيتامٍ قصر ولهم مال عندي، فهل يحق لي أن أحج لأبيهم من ماله، علماً أنهم يرغبون في ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يحل أن يحج من مال الأيتام لأبيهم تطوعًا لأنه لا يجوز أن يبذل مال الأيتام إلا في شيء واحد وهو الأضحية إذا كان ترك الأضحية يكسر قلوبهم، فهذا لا بأس أن يشتري لهم أضحية ويضحي لهم.
أما إذا كان لم يحج الفرض فليس لهم ولا لغيرهم من الميراث شيء حتى تؤدى عنه الفريضة، لأن الفريضة دين، والدين مقدم على الميراث.
س 324: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: مات شخص تارك الصلاة ورأى ابنه في المنام أنه يحج عنه فهل يحج عنه؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يحج عنه، ولا يحل أن يحج عنه، ولا أن يقول: اللهم اغفر لأبي وارحمه، لأن من مات وهو لا يصلي مات كافرًا والعياذ بالله، ويحشر يوم القيامة مع فرعون،(21/262)
وهامان، وقارون، وأبي بن خلف، وإذا مات على الكفر فقد قال الله عز وجل: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)) (1) إذا لا يحج عنه، ولا يتصدق عنه، ولا يعتمر عنه، ولا يدعو له بالمغفرة، ولا بالرحمة، لأنه مات كافراً والعياذ بالله..
س 325: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: أيهما الأفضل الحج للميت، أو صدقة بتكاليف الحج على المحتاجين؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان الميت لم يؤد الفريضة فلا شك أنه إذا وكل من يحج عنه أفضل، لأنه يؤدي فريضة، أما إذا كانت نافلة فهنا ينظر للمصالح، إذا كان الناس في حاجة شديدة ومسغبة فالصدقة أفضل، وإلا فالحج عنه أفضل.
س 326: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل وصل الميقات يريد الحج فسأل المشايخ في الميقات وقال: إن أمي تستطيع الحج ولكن أريد أن أقضي عنها فرضها فقالوا له: لا يصح الحج عنها ما دامت قادرة، فنوى الحج عن أبيه المتوفى نافلة حيث أدى الحج فهل هذا جائز؟
فأجاب فضيلته بقوله: ما قيل لك: من أن المرأة المستطيعة لا يصح الحج عنها فصواب: وحجك نافلة عن أبيك جائز، ولكن
__________
(1) سورة التوبة، الآية: 113.(21/263)
لو جعلت الحج لك ودعوت لأبيك وأمك ولمن شئت لكان الدعاء أفضل، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرشد إليه، فقال: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له " (1) فقال: (أو ولد صالح يدعو له) ولم يقل: أو ولد صالح يعمل له. مع أن السياق في سياق العمل، فعدل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الدعاء.
س 327: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل حج عن آخر بمبلغ وقدره خمسة آلاف ريال وهو ما حج إلا من أجل هذا المال، فهل هذا المال حلال له؟ وهل الحج يصل للمحجوج عنه
وهو ميت إذا كانت هذه نية الحاج، نأمل الإجابة على هذا السؤال بالتفصيل، وذلك لشدة الحاجة إلى هذه الإجابة، لأن أحد الخطباء في إحدى المدن خطب حول هذا الموضوع وعارضه بعض العوام
بعد الصلاة، فكتبت هذا السؤال لفضيلتكم لتجيبوا عنه بالتفصيل لأرسله إليه؟
فأجاب فضيلته بقوله: لم يذكر السائل ماذا قال هذا الخطيب، وعلى كل حال لنفرض أن الخطيب قال: لا يجوز، وأن الذي عارضه قال: هذا يجوز: لنفرض هذا، ونحن لا ندري ماذا قال كل واحد، يقول العلماء رحمهم الله: من حج ليأخذ المال فليس له نصيب في الآخرة، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- فمن حج ليأخذ المال فليس له نصيب في الآخرة لقول الله
__________
(1) تقدم ص 150.(21/264)
تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)) (1) .
وأما من أخذ ليحج ويقضي حاجة أخيه، وينتفع هو بالدراهم، أو بما زاد منها فلا بأس بذلك، فالإنسان ونيته، فأنت إذا أخذت دراهم لتحج بها عن غيرك فاجعل نيتك إنك تريد قضاء حاجة أخيك، وتريد أيضاً أن تنتفع أنت بالأعمال الصالحة في المشاعر وتستغل الوقت بالدعاء، ولكن إذا دعوت فاجعل لمن وكلك نصيباً من الدعاء.
س 328: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل طاعة الوالدين مطلقة إذا أمراني بترك النافلة كصيام تطوع أو صلاة النافلة فهل طاعتهم واجبة؟ فقد عزمت على أن أحج عن جدتي لأمي
فرفض والدي وقال: أولادها أحق بها فهل تلزمني طاعته في هذا الأمر؟
فأجاب فضيلته بقوله: طاعة الوالدين تجب في كل ما فيه منفعة لهما ولا ضرر عليك فيه، فأما إذا أمراك بترك النوافل نظرنا إذا كانا يحتاجان إلى عمل لا تقوم به إذا كنت مشتغلاً بهذه النافلة فأطعهما
مثل أن يقول لك أبوك: يا فلان انتظر الضيوف ولا تصل النافلة، فهنا يجب عليك أن تطيعه لأن هذا لغرض له، وأما إذا قال: لا تصل الضحى. لأنه يكره مثل هذه الأمور، يكره النوافل رجل ما
__________
(1) سورة هود، الآيتان: 15، 16.(21/265)
عنده إيمان قوي فلا تطعه، ولكن داره ما استطعت، بمعنى أن تخفي عنه ما تفعله من الخير.
فنقول للسائل: حج عنها. وإذا قال: لا تحج، فقل: لا بأس. وحج، وليس في هذا كذب إذا كنت تستطيع التأويل، والتأويل معناه: أن تقول له: لا أحج، يعني العام القادم، لأن هذا الأب يأمر بقطيعة الرحم، أو هو جاهل: فأقول: قل: نعم لا أحج عنها إرضاء لك، وتنوي لا أحج عنها في العام القادم. لأنك سوف تحج هذا العام، ومثل ذلك بعض الأمهات إذا رأت العلاقة بين ابنها وزوجته طيبة، قالت: يا ولدي إما أنا وإلا هي، ليطلقها، كذلك الأب ربما يكون معه سوء تفاهم من الزوجة يقول طلقها.
فلا يطلقها. وسأل رجل الإمام أحمد بن حنبل- رحمه الله- فقال: إن أبي أمرني أن أطلق امرأتي وأنا أحبها. قال: لا تطلقها. فقال السائل: إن ابن عمر لما أمره أبوه عمر- رضي الله عنه- أن يطلق
زوجته وسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: طلق زوجتك، فأمر عبد الله بن عمر أن يطيع والده في تطليق زوجته، فقال له الإمام أحمد قولاً سديدًا، (وهل أبوك عمر؟) وهذه الكلمة لها معنى، لأن عمر - رضي الله عنه- لم يأمر ابنه أن يطلق زوجته إلا أنه رأى سببًا شرعياً يقتضي ذلك، لكن أباك لعله لحاجة شخصية بينه وبين المرأة.
س 329: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: عن رجل مصاب بالسرطان وتوفي وعمره تسع عشرة سنة ولم يؤد فريضة الحج،(21/266)
علما أنه أصيب بهذا المرض منذ خمس سنوات فهل يحج عنه وهل هناك كفارة؟
فأجاب فضيلته بقوله: لابد أن نسأل هل هذا الشاب عنده مال يستطيع أن يحج به إن كان الأمر كذلك فلابد أن يحج عنه، وإذا لم يكن عنده مال فالحج ليس بواجب عليه وقد مات بريئاً من
الفريضة، لكن إن أرادوا أن يطوعوا ويِحجوا فلا حرج.
س 330: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: عن امرأة كبيرة في السن وفقيرة مات والدها ولم يحج وتريد أن توكل شخصاً ليحج عنه من المال الذي تتحصل عليه من الصدقات والزكاة من أهل
الخير فهل يجوز لها ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يجوز أن تجمع الصدقات من شخص، أو من الناس عمومًا من أجل أن تحج بها عن شخص آخر؛ لأن الحج ليس من الأمور الضرورية التي يسأل الإنسان الناس فيها إلحافاً، وإذا كان كذلك فإن الواجب على هذه المرأة أن تكف عن أخذ الصدقة، أما بالنسبة لوالدها فإنها تدعو له، والدعاء يغني عن ذلك.
س 331: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل الأفضل لمن أراد أن يبر بوالديه بعد موتهما أن يحج عنهما بنفسه وماله أو أحد أبنائه أو يضحي عنهما، وكلل ذلك تطوعًا وليس بوصية، أو يصرف ذلك في بناء المساجد والجهاد في سبيل الله؟(21/267)
فأجاب فضيلته بقوله: أحسن ما يبر به الوالدان ما أرشد إليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو الدعاء لهما، والاستغفار لهما وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا صلة لك فيها إلا بهما. هذه هي التي نص عليها الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين سأله السائل: فقال يا رسول الله: هل عليَّ من بر أبوي شيء بعد موتهما؟ فأجابه بذلك، وأما الحج عنهما والأضحية عنهما والصدقة عنهما فهي جائزة لاشك، ولا نقول: إنها حرام، لكنها مفضولة، إذ إن الدعاء لهما أفضل من هذا،
واجعل هذه الأعمال التي تريد أن تجعلها لوالديك اجعلها لنفسك، حج أنت بنفسك، تصدق لنفسك، ضحِّ لنفسك وأهلك، ابذل في المساجد والجهاد في سبيل الله لنفسك، لأنك سوف تكون محتاجاً إلى العمل الصالح كما احتاج إليه الوالدان، والوالدان قد أرشدك النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ما هو أنفع وأفضل. هل تظنون أن الرسول عليه الصلاة والسلام غاب عنه أن الأفضل أن تحج وتتصدق؟
أبدًا لا نعتقد أن الرسول غاب عنه ذلك، فلنعلم أن الرسول اختار هذه الأشياء الأربعة: الدعاء، والاستغفار، وإكرام الصديق، وصلة الرحم، لأنها هي البر حقيقة، ولهذا صح عنه أنه قال: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له " (1) لم يقل: أو ولد صالح يتصدق عنه، أو يضحي عنه، أو يحج عنه، أو يصوم عنه، مع أن الحديث عن الأعمال، فعدل النبي عليه الصلاة
__________
(1) تقدم ص 150.(21/268)
والسلام عن جعل الأعمال للميت إلى الدعاء، ونحن نشهد الله ونعلم علم اليقين أن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم لن يعدل إلى شيء مفضول ويدع الشيء الفاضل أبدًا، لأنه صلوات
الله وسلامه عليه أعلم الخلق وأنصح الخلق، فلو كانت الصدقة أو الأضحية، أو الصلاة، أو الحج، لو كانت مشروعة لأرشد إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنا أقول: إنه ينبغي لطلبة العلم في مثل هذه الأمور التي يكون فيها العامة سائرين على الطريق المفضول ينبغي لطالب العلم أن يبين وأن يوضح، وأن يقول هذه الأصول ايتوني بنص واحد يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتطوع الإنسان لوالديه بصوم أو صدقة، أبدًا لا يوجد، لكن قال: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه " (1) فأمر النبي عليه الصلاة والسلام بأن نصوم الفرض عن الميت، ولكن التطوع أبدًا، قلّب في السنة كلها من أولها إلى آخرها هل تجد أن الرسول عليه الصلاة والسلام أمر أن يتصدق الإنسان عن والديه، أو يصوم تطوعاً عن والديه، أو يحج تطوعاً عن والديه، أو يبذل دراهم في المصالح العامة لوالديه؟ أبدًا، لا يوجد، غاية ما هنالك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أقرّ هذا الشيء، وإقرار الشيء لا يعني أنه مشروع، فقد أقرّ سعد بن عبادة حين استأذن منه أن يجعل مخرافه يعنى بستانه الذي هو مخرافه صدقة لأمه، قال: (نعم) ، وكذلك أقرّ عليه الصلاة والسلام الرجل الذي قال: إن أمي افتلتت نفسها وأظنها لو تكلمت لتصدقت، أفأتصدق عنها؟ قال: "نعم " (2) ،
__________
(1) تقدم ص 227.
(2) تقدم ص 151.(21/269)
لكن هل أمر أمته أن يتطوعوا لله ويجعلوها للأموات؟ هذا لا يوجد، ومن عثر على شيء من ذلك فليتحفنا به، إلا بالشيء الواجب، فالواجب لابد منه.(21/270)
س 332: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى- ما هي مواقيت الحج المكانية؟
فأجاب فضيلته بقوله: المواقيت المكانية خمسة وهي: ذو الحليفة، والجحفة، ويلملم، وقرن المنازل، وذات عرق، أما ذو الحليفة فهي المكان المسمى الآن بأبيار علي، وهي قريبة من المدينة، وتبعد عن مكة بنحو عشر مراحل، وهي أبعد المواقيت عن مكة، هي لأهل المدينة ولمن مر به من غير أهل المدينة، وأما الجحفة فهي قرية قديمة في طريق أهل الشام إلى مكة وبينها وبين مكة نحو ثلاث مراحل، وقد خربت القرية وصار الناس يحرمون بدلا منها من رابغ، وأما يلملم فهو جبل أو مكان في طريق أهل اليمن إلى مكة، ويسمى اليوم السعدية، وبينه وبين مكة نحو مرحلتين، وأما قرن المنازل فهو جبل في طريق أهل نجد إلى مكة ويسمى الآن السيل الكبير، وبينه وبين مكة نحو مرحلتين، وأما
ذات عرق فهي مكان في طريق أهل العراق إلى مكة وبينه وبين مكة نحو مرحلتين أيضاً.
أما الأربعة الأولى وهي ذو الحليفة والجحفة، ويلملم، وقرن المنازل، فقد وقتها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأما ذات عرق فقد وقتها النبي - صلى الله عليه وسلم - كما رواه أهل السنن عن عائشة- رضي الله عنها- (1) وصح عن عمر- رضي الله عنه- أنه وقتها لأهل الكوفة والبصرة
__________
(1) أخرجه أبو داود، كتاب المناسك، باب في المواقيت (رقم 1739) وعند مسلم من حديث جابر: "ومهل أهل العراق من ذات عرق". أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب مواقيت الحج والعمرة (رقم 1183) .(21/273)
حين جاءوا إليه فقالوا: يا أمير المؤمنين إن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقت لأهل نجد قرن وإنها جور عن طريقنا. فقال عمر- رضي الله عنه-: انظروا إلى حذوها من طريقكم (1) . وعلى كل حال فإن ثبت ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فالأمر ظاهر، وإن لم يثبت فإن ذلك ثبت بسنة عمر- رضي الله عنه- وهو أحد الخلفاء الراشدين المهديين الذين أمرنا باتباعهم، والذي جرت موافقاته لحكم الله عز وجل في عدة مواضع ومنها هذا إذا صح عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه وقتها، وهو أيضاً مقتضى القياس فإن من أراد الحج أو العمرة إذا مر بميقات لزمه الإحرام منه فإذا حاذاه صار كالمار به، وفي أثر عمر- رضي الله عنه- فائدة عظيمة في وقتنا هذا وأنه إن كان الإنسان قادمًا إلى مكة بالطائرة يريد الحج أو العمرة فإنه يلزمه إذا حاذى الميقات من فوقه أن يحرم منه عند محاذاته، ولا يحل له تأخير الإحرام إلى أن يصل إلى جدة كما يفعل كثير من الناس، فإن المحاذاة لا فرق بين أن تكون في البر، أو في الجو، أو في البحر، ولهذا يحرم أهل البواخر التي تمر من طريق البحر فتحاذي يلملم أو رابغ.
س 333: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "هن لهن ولمن مر عليهنّ من غير أهلهن " (2) ما معنى الحديث؟
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب ذات عرق للعراق (رقم 1531) .
(2) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب مهل أهل الشام (رقم 1526) ومسلم، كتاب الحج، باب المواقيت (رقم 1181) .(21/274)
فأجاب فضيلته بقوله: معنى هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقت مواقيت الحج والعمرة المكانية، فوقت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل اليمن يلملم، ولأهل نجد قرن المنازل، وقال: "هنّ لهنّ " أي هذه المواقيت لأهل هذه البلاد، "ولمن مر عليهنّ من غير أهلهنَّ " فأهل المدينة يحرمون من ذي الحليفة إذا أرادوا الحج أو العمرة، وإذا مر أحد من أهل نجد عن طريق
المدينة أحرم من ذي الحليفة؛ لأنه مر بالميقات، وكذلك إذا مرَّ أحد من أهل الشام عن طريق المدينة فإنه يحرم من ذي الحليفة لأنه مر بها، وكذلك لو أن أحداً من أهل المدينة جاء من قبل نجد ومر
بقرن المنازل فإنه يحرم منه، هذا معنى قوله: "ولمن مر عليهن من غير أهلهن " ومن تأمل هذه المواقيت تبين له فيها فائدتان: الفائدة الأولى: رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده حيثما جعل لكل ناحية ميقات عن طريقهم حتى لا يصعب عليهم أن يجتمع الناس من كل ناحية في ميقات واحد.
والفائدة الثانية: أن تعيين هذه المواقيت من قبل أن تفتح هذه البلاد فيه آية للنبي - صلى الله عليه وسلم - حيث إن ذلك يستلزم أن هذه البلاد ستفتح وأنها سيقدم منها قوم يأمون هذا البيت للحج والعمرة، ولهذا قال ابن عبد القوي في منظومته الدالية المشهورة: وتوقيتها من معجزات نبينا بتعيينها من قبل فتح معدد فصلوات الله وسلامه عليه.(21/275)
س 334: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: إذا كان الإنسان لا يمر بهذه المواقيت فمن أين يحرم؟ وإذا أحرم الحاج قبل الميقات فما حكم علمه؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان لا يمر بشيء من هذه المواقيت فإنه ينظر إلى حذو الميقات الأقرب إليه فإذا مر في طريق بين يلملم وقرن المنازل ينظر أيهما أقرب إليه فإذا حاذا أقربهما إليه أحرم من محاذاته، ويدل لذلك أن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- جاءه أهل العراق وقالوا: يا أمير المؤمنين إن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقت لأهل نجد قرنا، وإنها جور عن طريقنا- يعنى فيها ميول
وبعد عن طريقنا- فقال- رضي الله عنه-: انظروا إلى حذوها من طريقكم فأمرهم أن ينظروا إلى محاذاة قرن المنازل ويحرمون، هكذا جاء في صحيح البخاري (1) ، وفي حكم عمر- رضي الله
عنه- هذا فائدة جليلة وهي أن الذين يأتون عن طريق الطائرات وقد نووا الحج أو العمرة ويمرون بهذه المواقيت إما فوقها أو عن يمينها أو يسارها يجب عليهم أن يحرموا إذا حاذوا هذه المواقيت،
ولا يحل لهم أن يؤخروا الإحرام حتى ينزلوا في جدة كما يفعله كثير من الناس، فإن هذا خلاف ما حدده النبي عليه الصلاة والسلام، وقد قال الله تعالى: (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) (2) وقال الله تعالى: (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (3) فعلى الإنسان
__________
(1) تقدم وهو عند البخاري (رقم 531)
(2) سورة الطلاق، الآية: 1.
(3) سورة البقرة، الآية: 229.(21/276)
إذا جاء عن طريق الجو وهو يريد الحج أو العمرة أن يكون متهيئاً للإحرام في الطائرة، فإذا حاذا أول ميقات يمر به وجب عليه أن يحرم أي أن ينوي الدخول في النسك ولا يؤخر هذا حتى يدخل في
مطار جدة.(21/277)
رسالة
سماحة الوالد الشيخ محمد بن صالح العثيمين حفظه الله ورعاه السلام عليكم رحمة الله وبركاته، وبعد:
أعرض لسماحتكم موقع محافظة بدر بالمدينة النبوية، حيث اختلف الناس في تحديد ميقاتهم المكاني للإحرام، وقد ذكر بعضهم فتوى لسماحتكم تتضمن إحرامهم من منازلهم ببدر.
سماحة الشيخ:
إن محافظة بدر تقع في الجنوب الغربي من المدينة النبوية، وتبعد عن المدينة وعن ميقات أبيار على (150) كيلو متراً، وهذه المحافظة تقع على خط مكة المدينة القديم. وهذه المحافظة تبعد عن محافظة رابغ وعن ميقات الجحفة قرابة (120) كيلو متراً.
والترتيب المكاني من مكة إلى المدينة كالآتي:
نسير من مكة المكرمة إلى ميقات الجحفة ثم إلى مفترق طريق إلى ينبع وبلاد الشام، أو إلى بدر والمتجه إلى بدر يقطع 150 كليلو مترًا ثم إلى أبيار علي، ثم إلى المدينة النبوية، وبدر تقع على طريق أهل الشام ويمرون بجوار بدر ثم يسيرون مع أهل بدر في نفس الطريق حتى يصلون إلى ميقات الجحفة، علما أن بدرًا لا تحاذي أي ميقات من المواقيت بل تقع بعد ميقات أبيار علي من جهة مكة وقبل ميقات أهل الشام.
سماحة الوالد:
آمل الإحاطة بذلك والتوجيه بما ترون هل يكون ميقات بدر(21/279)
من ميقات أهل الشام (الجحفة) أم من منازلهم ليكون الناس على بصيرة من أمرهم ويبتعد الإشكال الحاصل لديهم حفظكم الله ورعاكم.
فأجاب فضيلته بقوله: بسم الله الرحمن الرحيم، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
الواجب على أهل بدر أن يحرموا من بدر إذا كان بدر بين الجحفة وأبيار علي.
أما إذا لم تكن كذلك وكانت- أعنى بدرًا- تقع شمالاً وهي إلى طريق أهل الشام أقرب من طريق أهل المدينة فيحرمون من الجحفة، وحينئذ نحتاج إلى خارطة تبين ذلك ويرجع إليها.
كتبه محمد الصالح العثيمين
في 10/2/1419 هـ(21/280)
رسالة
سماحة الشيخ محمد الصالح العثيمين حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
إلحاقاً لخطابي رقم 161 وتاريخ 1/2/1419 هـ وما تفضلتم به من الإجابة على ما جاء فيه، لذا فإنني أبعث لسماحتكم بطيه خطابي آنف الذكر وصورة من الخارطة الموضح عليها جميع المواقع المذكوره وميقاتي أبيار علي والجحفة، والطريق فيما بينهما.
آمل الاطلاع وإكمال ما ترونه لازماً شكر الله سعيكم وأجزل أجركم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فأجاب فضيلته بقوله: بسم الله الرحمن الرحيم
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
بعد الاطلاع على الخارطة الموفقة يتبين أن ميقات أهل بدر هي الجحفة لأنها أي بدراً مائلة عن طريق المدينة مكة فلا تكون بين ذي الحليفة ومكة.
بارك الله فيكم على التوضيح في الخريطة.
أخوكم:
محمد الصالح العثيمين
في 19/4/1419 هـ(21/281)
س 335: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى- عمن أتى من السودان لزيارة أهله في جدة فأحرم من جدة فما الحكم؟ وما هي المواقيت؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان أتى من السودان إلى جدة لزيارة ولما وصل إلى جدة أنشأ نية جديدة بالعمرة أي أنه لم يطرأ عليه إلا بعد أن وصل إلى جدة فإن إحرامه من جدة صحيح ولا شيء فيه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما وقت المواقيت قال: "ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ" (1) أما إذا كان قدم من السودان إلى جدة يريد العمرة لكنه أتى جدة مارا بها مرورا فإن الواجب عليه أن يحرم من الميقات- وسنذكر المواقيت إن شاء الله- ولكن في بعض الجهات السودانية إذا اتجهوا إلى الحجاز لا يحاذون المواقيت إلا بعد نزولهم في جدة بمعنى أنهم يدخلون إلى جدة قبل محاذاة
المواقيت مثل أهل سواكن فهؤلاء يحرمون من جدة كما قال ذلك أهل العلم، لكن الذي يأتي من جنوب السودان، أو من شمال السودان هؤلاء يمرون بالميقات قبل أن يصلوا إلى جدة فيلزمهم
الإحرام من الميقات الذي مروا به ما داموا يريدون العمرة أو الحج.
والمواقيت التي طلب السائل أن نبينها خمسة:
الأول: ذو الحليفة، وهو ميقات أهل المدينة ومن مر به من غيرهم ممن يريد الحج أو العمرة ويسمى الآن أبيار علي.
والثاني: رابغ، وهو ميقات أهل الشام، وكان الميقات أولا
__________
(1) تقدم وهو عند البخاري، (1526) ومسلم، (1181) .(21/282)
هو الجحفة لكنها خربت وصار الناس يحرمون من رابغ بدلاً عنها.
والثالث: يلملم، وهو ميقات أهل اليمن ومن مر بهم وغيرهم ممن يريد الحج أو العمرة، ويسمى الآن السعدية.
والرابع: قرن المنازل، وهو لأهل نجد ومن مرَّ به من غيرهم ممن يريد الحج أو العمرة.
والخامس: ذات عرق، وتسمى الضريبة وهو لأهل العراق ومن مر بها من غيرهم، هذه المواقيت الخمسة لا يجوز لأحد أن يتجاوزها وهو يريد الحج والعمرة حتى يحرم بالنسك الذي أراده، فإن تجاوزها بدون إحرام وأحرم من دونها، فقد قال أهل العلم: إنه يلزمه فدية، أي شاة يذبحها في مكة، ويوزعها على فقراء أهل مكة.
س 336: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى- أين ميقات أهل أثيوبيا والصومال؟ وما حكم من أتى منهما للعمرة ولغيرها بدون إحرام ثم أحرم بعد أيام وذهب إلى مكة مباشرة؟
فأجاب فضيلته بقوله: ميقات أثيوبيا والصومال إذا جاءوا من جنوب فإنهم يحاذون يلملم التي وقتها النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل اليمن، وإن جاءوا من شمال جدة فميقاتهم الجحفة التي وقتها النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل الشام، وجعل الناس بدلاً منها رابغ، أما إذا جاءوا من بين
ذلك قصداً إلى جدة فإن ميقاتهم جدة؛ لأنهم يصلون إلى جدة قبل محاذات الميقاتين المذكورين، هذا إذا جاءوا للعمرة أو للحج.
أما من جاء للعمل وقد أدى فريضة العمرة والحج فإنه لا(21/283)
يجب أن يحرم؛ لأن الحج والعمرة لا يجبان إلا مرة واحدة في العمر فإذا أداهما الإنسان لم يجبا عليه مرة أخرى، اللهم إلا بنذر.
ومن قدم للحج أو للعمرة ولم يحرم إلا بعد أن جاوز الميقاتين وقد مر بأحدهما فإن أهل العلم يقولون: إن إحرامه صحيح، ولكن عليه دم يذبح في مكة ويوزع على الفقراء؛ لأنه ترك واجباً من
واجبات الإحرام وهو كونه من الميقات، فمن حصل له مثل ذلك فعليه ذبح الدم في مكة يوزع على الفقراء إن كان غنياً، وإن كان فقيراً فليس عليه شيء، لقول الله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (1) .
س 337: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما هو ميقات أهل السودان؟
فأجاب فضيلته بقوه: أهل السودان إذا جاءوا قصداً إلى جدة فميقاتهم جدة، وإن كانوا أتوا من الناحية الشمالية، أو الجنوبية فإن ميقاتهم قبل أن يصلوا إلى جدة: إن جاءوا من الناحية الشمالية فإن ميقاتهم إذا حاذوا الجحفة أو رابغاً، وإن جاءوا من الجهة الجنوبية فإن ميقاتهم إذا حاذوا يلملم وهو ميقات أهل اليمن، فيكون ميقات أهل السودان مختلف بحسب الطريق الذي جاءوا منه.
__________
(1) سورة التغابن، الآية: 16.(21/284)
س 338: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: من أراد الحج أو العمرة فمن أين يحرم؟
فأجاب فضيلته بقوله: يكون الإحرام من الميقات الذي وقته النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن جاء منه وهي: من جاء عن طريق المدينة فإن ميقاته أبيار علي، ومن جاء من طريق الطائف فإن ميقاته السيل الكبير، ومن جاء عن طريق اليمن فميقاته يلملم وهو السعدية.
ومن جاء عن طريق الشام فإن ميقاته الجحفة ويحرم الناس بدلاً عنها من رابغ، ومن جاء عن طريق العراق فإن ميقاته ذات عرق، ولا يجوز للإنسان الذي يريد حجاً أو عمرة أن يتجاوز الميقات
الذي مر به حتى يحرم.
س 339: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل تجاوز ميقاته ودخل مكة وسأل ماذا يصنع؟ فقيل له: ارجع إلى أقرب ميقات وأحرم منه وفعل فهل يجزىء هذا أم لابد من الرجوع إلى
ميقاته الذي في قدومه؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا مر الإنسان بالميقات ناوياً النسك إما حجاً أو عمرة فإنه لا يحل له مجاوزته حتى يحرم منه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما وقت المواقيت قال: "هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن يريد الحج أو العمرة" (1) وهذا المسألة التي ذكرها السائل أنه تجاوز الميقات بلا إحرام حتى وصل مكة ثم قيل له:
__________
(1) تقدم، البخاري (1526) ومسلم (1181) .(21/285)
ارجع إلى أقرب ميقات فأحرم منه، نقول له: إن هذه الفتوى ليست بصواب، وأن عليه أن يذهب إلى الميقات الذي مر به؛ لأنه الميقات الذي يجب الإحرام منه كما يدل على ذلك حديث عبد الله
ابن عباس- رضي الله عنهما- الذي أشرنا إليه آنفاً، ولكن إن كان الذي أفتاه من أهل العلم الموثوق بعلمهم واعتمد على ذلك فإنه لا شيء عليه؛ لأنه فعل ما يجب من سؤال أهل العلم، وخطأ
المفتي ليس عليه فيه شيء.
س 340: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: أنا أنوي السفر إلى بلدي ولكني أريد قبل أن أسافر أن أؤدي عمرة تطوعاً لله تعالى وقد أقمت بعض الأيام في جدة وأنا قادم من القصيم فهل يجوز أن أحرم بالعمرة من جدة أم ماذا يجب عليَّ أن أفعل؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كنت سافرت إلى جدة بدون نية العمرة ولكن طرأت لك العمرة وأنت في جدة فإنك تحرم منها ولا حرج عليك؛ لحديث ابن عباس- رضي الله عنهما- حين ذكر المواقيت قال: "ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ، فأهل مكة من مكة" (1) أما إذا كنت سافرت من القصيم بنية العمرة عازماً عليها فإنه يجب عليك أن تحرم من الميقات الذي مررت به، ولا يجوز
لك الإحرام من جدة؛ لأنها دون الميقات، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لما وقت المواقيت قال: "هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن يريد الحج أو العمرة" (1) فعليك إن كنت لم تفعل شيئاً
__________
(1) تقدم ص 36-37.(21/286)
الآن أن ترجع إلى الميقات الذي مررت به أولا وتحرم منه، ولا تحرم من جدة، وليس عليك شيء.
أما إذا كان عازماً على أن يحرم بالعمرة ولكنه تجاوز الميقات قبل الإحرام، ثم أحرم من جدة فإن عليه عند أهل العلم فدية دم يذبحه في مكة ويتصدق به على الفقراء، وعمرته صحيحة.
س 341: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما حكم من تجاوز الميقات بدون إحرام؟
فأجاب فضيلته بقوله: من تجاوز الميقات بدون إحرام فلا يخلو من حالين: إما أن يكون مريداً للحج أو العمرة فحينئذ يلزمه أن يرجع إليه ليحرم منه بما أراد من النسك الحج أو العمرة، فإن لم يفعل فقد ترك واجباً من واجبات النسك، وعليه عند أهل العلم فدية: دم يذبحه في مكة، ويوزعه على الفقراء هناك.
واما إذا تجاوزه وهو لا يريد الحج أو العمرة فإنه لا شيء عليه، سواء طالت مدة غيابه عن مكة أو قصرت؛ لأننا لو ألزمناه بالإحرام من الميقات بمروره هذا لكان الحج يجب عليه أكثر من مرة أو العمرة، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الحج لا يجب في العمر إلا مرة، أما ما زاد فهو تطوع (1) ، وهذا هو القول الراجح من أقوال أهل العلم فيمن تجاوز الميقات بغير إحرام، أي أنه إذا كان
__________
(1) أخرجه أبو داود، كتاب المناسك، باب فرض الحج (رقم 1721) وابن ماجه، كتاب المناسك، باب فرض الحج (رقم 2886) .(21/287)
لا يريد الحج ولا العمرة فليس عليه شيء ولا يلزمه الإحرام من الميقات.
س 342: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما الفرق بين الإحرام كواجب والإحرام كركن من أركان الحج؟
فأجاب فضيلته بقوله: الإحرام كواجب أن يقع الإحرام من الميقات. والإحرام كركن أن ينوي النسك، فمثلاً إذا نوى النسك بعد مجاوزة الميقات مع وجوب الإحرام منه، فهذا ترك واجبًا وأتى بالركن وهو الإحرام، وإذا أحرم من الميقات فقد أتى بالواجب والركن، لأن الركن هو نية الدخول في النسك. وأما الواجب فهو أن يكون الإحرام من الميقات.
س 343: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل أدى مناسك العمرة في النصف من شهر رمضان، وعاد لبلده ثم عاد إلى مكة في نفس الشهر من العام نفسه، وبمروره للميقات نوى أداء
العمرة عن والده المتوفى. ولكنه لم يحرم من الميقات.
فلما سئل وهو يطوف بملابسه العادية. قال: إن بعض الناس أفتاه بأن من أدى العمرة في شهر رمضان بالإحرام ثم كرر أداءها في نفس الشهر فلا يلزمه الإحرام، فأبلغه من سأله عن ذلك أن يعود للميقات ويحرم من هناك، وقال له أيضاً: يلزمك دم، ولكن اسأل لعلك تجد رخصة فيما عملته جهلاً، ولكن ذلك الرجل لم يسأل فماذا يلزمه أفيدونا جزاكم الله خيراً؟(21/288)
فأجاب فضيلته بقوله: قبل الجواب على السؤال أحب أن أبين أن الإنسان يجب أن يتحرى في السؤال عن دينه، وأن لا يسأل إلا من يثق منه أنه عالم وموثوق بعلمه وفتواه، لأن الدين شريعة
الله، وإذا تعبد الإنسان ربه بغير شريعته فإنه يكون على ضلال، وكونه يسأل عامة الناس فيعتمد على كلامهم هذا غلط وما أكثر الجهل من العامة الذين يقولون مالا يعلمون.
ثم إنه لما أخبره صاحبه وهو في المطاف بأن يذهب إلى الميقات كان عليه أن يبحث ويسأل عن صحة هذا القول، وعلى كل حال فعلى المرء أن يتأكد في السؤال عن دينه حتى يعبد ربه على علم وبصيرة موافقة لشريعة الله سبحانه وتعالى.
وأما الجواب على هذا السؤال حيث أحرم هذا الرجل عن والده بالعمرة ولم يتجرد من الثياب بناء على الفتوى الخاطئة التي أفتاه بعض الناس بها، وهي أن الإنسان إذا أتى بعمرة في رمضان ثم أتى بعمرة أخرى في نفس الشهر، فإنه لا يلبس ثياب الإحرام فهذه الفتوى خطأ، فإن الإنسان إذا أحرم فإنه قبل أن يغتسل يتجرد من ملابسه ويلبس ثياب الإحرام، وهذا الذي فعل ذلك ولما ينزع ثيابه ويلبس الإحرام عليه أن يتوب إلى الله ويستغفره، وأن لا يعود لمثلها، ويعلم أنه لا بد من لبس ملابس الإحرام وهي الإزار والرداء، وحيث إن هذا الأمر وقع منه جهلاً فإنه لا شيء عليه ولكنه أخطأ بعدم سؤاله أهل العلم.
وأما عمرته فإنها صحيحة؟ لأن غاية ما فيها أنه ترك التجرد من الملابس.(21/289)
كما أن فتوى الأخ الذي طلب منه حين قابله في الطواف أن يخرج فيحرم من الميقات فهي فتوى غير صحيحة، لأن الرجل أحرم ولا يمكنه أن يرجع فيحرم مرة أخرى.
وإنما عليه لو كان عالماً بتحريم استمراره بثيابه فدية، وهي كما ذكره أهل العلم أنه مخير بين ثلاثة أمور: فإما أن يصوم ثلاثة أيام، أو يطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، أو يذبح شاة
يفرقها على الفقراء، فيكون عليه لهذا فدية لتغطية رأسه، وفدية للبس الثياب، ولكن حيث إنه كان جاهلاً فإنه يعفى عنه، وإن أخرجها احتياطاً لتفريطه بعدم السؤال فهو أحوط وأفضل. والله
الموفق.
س 344: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما كيفية إحرام القادم إلى مكة جواً؟
فأجاب فضيلته بقوله: الإحرام للقادم إلى مكة جواً هو كما أسلفنا من قبل يجب عليه إذا حاذى الميقات أن يحرم وعلى هذا فيتأهب أولا بالاغتسال في بيته، ثم يلبس الإحرام قبل أن يصل إلى الميقات، ومن حين أن يصل إلى الميقات ينوي الدخول في النسك ولا يتأخر، لأن الطائرة مرورها سريع فالدقيقة ممكن أن تقطع فيها مسافات طويلة، وهذا أمر يغفل عنه بعض الناس فتجد
بعض الناس لا يتأهب، فإذا أعلن موظف الطائرة أنهم وصلوا الميقات ذهب يخلع ثيابه ويلبس ثياب الإحرام، وهذا تقصير جداً، على أن الموظفين في الطائرة- في ما يبدو- بدأوا ينبهون(21/290)
الناس قبل أن يصلوا إلى الميقات بربع ساعة أو نحوها، وهذا عمل يشكرون عليه؛ لأنهم إذا نبهوهم قبل هذه المدة جعلوا للناس فرصة في تغيير ثيابهم وتأهبهم، ولكن في هذه الحال يجب على من أراد الإحرام أن ينتبه للساعة فإذا أعلن الموظف بأنه قد بقي ربع ساعة فينظر إلى ساعته حتى إذا مضى هذا الجزء الذي، هو ربع الساعة أو قبله بدقيقتين أو ثلاث لبى بما يريده من النسك.
س 345: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى- عمن سافر من بلده إلى جدة ثم أراد العمرة فهل يحرم من جدة؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يخلو الأمر من حالين:
الحال الأولى: أن يكون الإنسان قد سافر إلى جدة بدون نية العمرة، ولكن طرأت له العمرة وهو في جدة، فإنه يحرم من جدة ولا حرج في ذلك، لحديث ابن عباس- رضي الله عنهما- حيث ذكر المواقيت قال: "ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة" (1) .
الحال الثانية: أن يكون سافر من بلده بنية العمرة عازماً عليها فإنه يجب في هذه الحالة أن يحرم من الميقات الذي يمر به، ولا يجوز الإحرام من جدة؛ لأنها دون الميقات، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه وقت المواقيت فقال: "هن لهن ولمن مر عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج أو العمرة".
فإن أحرم من جدة ونزل إلى مكة في هذه الحال فإن عليه
__________
(1) تقدم ص 36-37.(21/291)
عند أهل العلم فدية دماً يذبحه في مكة ويتصدق به على الفقراء وعمرته صحيحة.
فإن لم يحرم من جدة بعد وصوله إليها وهو ناوٍ العمرة قبل وصوله فإنه يرجع إلى الميقات ويحرم منه ولا شيء عليه. والله أعلم.
س 346: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: مجموعة من الحجاج عقدوا العزم على الحج بإذن الله وهم من الرياض وقد كلفوا للعمل في مطار جدة وبعضهم عقد نية الإفراد وبعضهم تمتع
والآخرون بالقران لكنهم تجاوزوا الميقات ولم يحرموا حيث أن هناك زمن طويلاً بين بداية عملهم وبين موسم الحج بما يقارب الشهر فهل عليهم دم كلهم أو بعضهم حسب النية؟
فأجاب فضيلته بقوله: أما من أراد منهم التمتع فإن عدم إحرامه من الميقات خطأ مخالف للحكمة؛ لأن الأولى به أن يحرم من الميقات ويأتي بالعمرة ويخرج إلى جدة، وأما من أراد القران والإفراد فصحيح أنه يشق عليه أن يجلس شهراً كاملاً في إحرامه، لكن نقول: إنه لا حرج عليهم في أن يبقوا في جدة بدون إحرام، وإذا جاء وقت الحج خرجوا إلى الميقات الذي تجاوزوه وأحرموا منه، فإن قدر أن تعذر هذا ولم يتمكنوا من الذهاب إلى الميقات فلهم أن يحرموا من جدة، وعليهم عند أهل العلم دم يذبح في مكة ويوزع على الفقراء، والمتمتع مثلهم ما دام إلى الآن لم يحرم فإذا(21/292)
أراد الإحرام بالعمرة فلا بد أن يذهب إلى السيل ويحرم منه ويطوف ويسعى ويقصر ويحل.
س 347: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل يريد الحج لكن يريد أن يذهب إلى مدينة جدة أولاً فهل يجوز أن يحرم من جدة؟
فأجاب فضيلته بقوله: كل من أراد الحج أو العمرة فإنه يجب عليه إذا مر بأول ميقات أن يحرم منه؟ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما وقت المواقيت قال: "هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن
ممن يريد الحج أو العمرة" (1) فلا يجوز لمن مر بميقات وهو يريد نسك الحج أو العمرة أن يتجاوز الميقات حتى يحرم، والأمر سهل إذا أحرم من الميقات ووصل إلى مكة فإنه في خلال ثلاث
ساعات أو أقل أو أكثر قليلاً ينهي عمرته ثم يذهب إلى جدة بعد أن أدى عمرته ويمكث فيها حتى وقت الحج فإذا جاء الحج أحرم من جدة.
س 348: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: من سافر بالطائرة من الرياض إلى جدة بنية العمرة لكنه لم يحرم ولما وصل المطار ذهب إلى السيل الكبير وأحرم منه هل عمله صحيح؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا سافر من الرياض إلى جدة بالطائرة فإن أقرب ميقات تمر به الطائرة هو السيل الكبير فيجب
__________
(1) تقدم ص 36-37.(21/293)
عليه أن يحرم من السيل الكبير إذا حاذاه في الجو، وعلى هذا يكون متأهباً فيغتسل في بيته ويلبس ثياب الإحرام فإذا قارب الميقات بنحو خمس دقائق فليكن على أتم تأهب وليلب بالعمرة، فإن لم يفعل فمن الواجب عليه إذا هبط المطار في جدة أن يذهب إلى السيل الكبير ويحرم منه، وفي هذا الحال لا يكون عليه شيء لأنه أدى ما يجب عليه وهو الإحرام من الميقات.
س 349: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل قابل زوجته في مطار جدة وهي محرمة بالعمرة وهو مقيم بمكة فأحرم من المطار بجدة فما حكم هذا العمل؟
فأجاب فضيلته بقوله: أما المرأة فهي محرمة كما ذكر السائل والظاهر أنها قد أحرمت من الميقات فيكون إحرامها صحيحًا ولا شيء فيه، وأما الرجل فإحرامه أيضاً صحيح؛ لأنه إذا كان مقيماً بمكة وأحرم من جدة فقد أحرم من الحل فيكون إحرامه صحيحاً ولا حرج عليه.
س 350: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل يقول: تلقيت خطاب من بلدي بأن زوجتي ستحضر من مصر لأداء فريضة الحج وذهبت إلى جدة واستقبلتها في المطار على أمل أننا سنذهب
إلى المدينة لزيارة المسجد النبوي لكن المسئول عن ترتيب البعثة قال: إن المدينة المنورة زيارتها بعد أداء مناسك الحج فأحرمنا من مكة وطفنا وسعينا وأدينا شعائر الحج فهل حجنا صحيح وما حكم(21/294)
عدم إحرامنا من الميقات؟
فأجاب فضيلته بقوله: أما بالنسبة للحج فهو صحيح لأن الإنسان أتى بأركانه، وأما بالنسبة لعدم الإحرام من الميقات فإنه إساءة ومحرم، ولكنه لا يبطل به الحج، ويجبر بفدية تذبح في مكة وتوزع على الفقراء هناك، ولو أن هذا الرجل لما قدمت زوجته جدة وقدم هو أيضاً جدة وأراد أن يذهب إلى المدينة ليحرما من ذي الحليفة من أبيار علي ثم لم يحصل ذلك، لو أحرم من جدة لكان هذا هو الواجب عليه، لكنه أساء إن كان ما ذكر في السؤال صحيحاً وهو أنه أحرم من مكة، وإن كان المقصود أنه أحرم من جدة فإنه ليس عليه شيء؛ لأنه أحرم من حيث أنشأ، وقد ذكر الأخ السائل أن امرأته أتت من مصر إلى الحج وظاهر كلامه أنه ليس معها محرم وهذا حرامٌ عليها ولا يحل لها لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب الناس "لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم " فقال رجل: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن امرأتي خرجت حاجة وإني أكتتبت في غزوة
كذا وكذا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "انطلق فحج مع امرأتك " (1) فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدع الغزوة التي اكتتب فيه، وأن يذهب مع زوجته ولم يستفصل هل كانت الزوجة آمنة، أو غير آمنة وهل هي جميلة يخشى الفتنة منها أو بها أم لم تكن، وهل معها نساء، وهذا دليل على العموم وأنه لا يجوز للمرأة أن تسافر لا لحج ولا لغيره إلا بمحرم، وإذا لم تجد المرأة محرماً ليهيأ لها السلامة فإنه لا يجب
__________
(1) تقدم ص 178.(21/295)
عليها الحج حينئذ لقول الله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) (1) وهي إذا لم تجد محرماً لا تستطيع الوصول إلى البيت لأنها ممنوعة شرعاً من السفر بدون محرم وحينئذ تكون
معذورة في عدم الحج وليس عليها إثم.
س 351: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل يعمل في مدينة الرياض وسافر إلى مدينة جدة يوم الخميس مساءً ثم في صباح يوم الجمعة أحرم من جدة وذهب إلى مكة وقام بأداء مناسك
العمرة مع العلم بأنه كان في نيته العمرة قبل خروجه من الرياض فماذا يلزمه؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان الإنسان قاصداً مكة يريد العمرة أو الحج فإن الواجب عليه أن لا يتجاوز الميقات حتى يحوم لحديث ابن عمر- رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يهل أهل المدينة من ذي الحليفة، ويهل أهل اليمن من يلملم " (2) وذكر الحديث وهذا خبر بمعنى الأمر، وعلى هذا ما فعله هذا الرجل من ترك الإحرام من الميقات ولم يحرم إلا من جدة فعل غير صحيح، والواجب عليه عند أهل العلم أن يذبح فدية في مكة، ويوزعها على الفقراء.
أما لو كان مسافراً إلى جدة وليس من نيته أن يعتمر ولكن بعد أن وصل إلى جدة طرأ عليه أن يعتمر فهنا يحوم من المكان
__________
(1) سورة آل عمران، الآية: 97.
(2) تقدم ص 36-37.(21/296)
الذي نوي فيه العمرة، لحديث ابن عباس- رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال حين وقت المواقيت "ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة".
ولكن كيف يكون الإحرام في الطائرة؟ الإحرام في الطائرة أن يغتسل الإنسان في بيته ويلبس ثياب الإحرام، وإذا حاذى الميقات وهو في الجو لبى وأحرم أي دخل في النسك، وإذا كان يحب أن لا يلبس ثياب الإحرام إلا بعد الدخول في الطائرة فلا حرج، المهم أن لا تحاذي الطائرة الميقات إلا وقد تهيأ واستتم ولم يبق عليه إلا النية، والمعروف أن قائد الطائرة إذا قارب الميقات ينبه الركاب بأنه بقي على الميقات كذا وكذا ليكونوا متهيئين.
س 352: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: من أراد زيارة مدينة جدة مع أسرته، ثم يأخذ بعد يوم أو يومين عمرة، فهل يحرم من الميقات الذي مر به أو يحرم من جدة؟ وما الأولى له أن يذهب
بقصد زيارة أهله في جدة وينوي العمرة بعد ذلك، أو ينوي العمرة من خروجه من بلده؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان عازماً على العمرة فإنه لا يجوز أن يتجاوز الميقات إلا بإحرام، وأرغب أن ينوي العمرة من حين أن يركب من بيته لينال أجر السعي للعمرة ولا ينو جدة، إنما
ينوي أن سفره للعمرة، وإذا وصل إلى الميقات أحرم منه وقضى عمرته، ثم انصرف إلى شغله في جدة لينال أجر العمرة وأجر السعي إليها من بلده.(21/297)
س 353: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ذهبنا من جدة إلى الطائف لزيارة أحد الأقارب وفي أثناء ذهابنا مررنا على مكة وفي نيتنا أن نأخذ عمرة عند الرجوع، وفي أثناء رجوعنا من
الطائف إلى مكة مررنا بالميقات وأحرمنا من السيل فهل عمرتنا صحيحة؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا مر الإنسان بالميقات وهو لا يريد العمرة، يريد الطائف مثلاً، ودخل مكة وخرج إلى الطائف وفي نيته أن يأتي بالعمرة بالرجوع من الطائف فلا حرج عليه، يحرم من السيل، وعمرته تامة.
س 354: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل مشى إلى مكة المكرمة ناوياً العمرة ثم مرض في الطريق قبل أن يصل الميقات فذهب إلى المستشفى بجدة بدون إحرام فأخذ يومين في المستشفى ثم أتى مكة وهو غير محرم فما الحكم في ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: ما دام عدل عن النية قبل أن يبدأ بالإحرام فلا بأس، أما إذا أحرم ثم جاءه المرض فهذا يبقى على إحرامه حتى يشفى إلا أن يتوقع طول المرض فيكون حينئذ محصراً على القول الراجح فيتحلل وعليه دم ويحلق أو يقصر، إلا إن كان قد اشترط عند إحرامه فإنه يحل ولا شيء عليه.(21/298)
س 355: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل يقول: قدمت من خارج المملكة قاصداً العمرة، وقبل وصولي إلى مطار جدة غيرت ملابسي للإحرام في الطائرة، وكان في الطائرة شيخ
أعرفه يعتمد عليه في العلم، ولما سألته قال لي: بإمكاننا الإحرام من مطار جدة فتمسكت برأيه وأحرمت من المطار، وبعدما قضيت العمرة ذهبت للمدينة المنورة حيث مكثت هناك شهري شوال وذي القعدة، وسألت بعض من أثق بعلمهم من أصدقائي هل أنا متمتع بهذه الحالة حيث قد وافق إحرامي بالعمرة الأول من شوال، وهل يلزمني دم، إذ قد سمعت وتأكدت من أفواه العلماء أن مطار جدة لا يصح أن يكون ميقاتاً لمن يمر عليه، وأفتاني بأن التمتع قد زال بمغادرة الحرم المكي. مع أنني لم أقصد التمتع عندما أحرمت بالعمرة، وأنه يمكنني الآن أن أحرم بالحج كما يحرم المقيم بالمدينة
المنورة فأحرمت بالحج مفرداً، وأما تجاوز الميقات فقال لي: ليس عليك شيء لأنك جاهل وقد اقتديت برأي هذا الشيخ واطمأننت بذلك، وأديت مناسك حجي، ولكن بعض زملائي لا يزالون
يشككونني ويناقشوني بأنه كان يلزمني الدم بأحد الأمرين أرجو أن تزيلوا عني هذا الشك بإجابة شافية ونصيحة كافية جزاكم الله خيراً.
فأجاب فضيلته بقوله: الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين وبعد: هذا السؤال يتضمن شيئين:
الشيء الأول: أنك لم تحرم وأنت في الطائرة حتى وصلت إلى جدة.(21/299)
والشيء الثاني: أنك عندما أحرمت بالعمرة تذكر أنك لم تنو التمتع وأنك سافرت إلى المدينة وأحرمت من ذي الحليفة بالحج.
فأما الأول فاعلم أن من كان في الطائرة وهو يريد الحج أو العمرة فإنه يجب عليه أن يحرم إذا حاذى الميقات ودليل ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "هن لهن ولمن مر عليهن من غير أهلهن ممن يريد الحج أو العمرة" (1) وقال: عمر- رضي الله عنه- وقد جاءه أهل العراق يقولون له: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقت لأهل نجد قرناً، وإنها جور عن طريقتنا يا أمير المؤمنين. فقال:- رضى الله عنه- "انظروا إلى حذوها من طريقكم " فقوله- رضي الله عنه- (انظروا إلى حذوها) يدل على أن المحاذاة معتبرة سواء كنت في الأرض وحاذيت الميقات عن يمينك أو شمالك، أو كنت من فوق فحاذيته من فوقه، وتأخيرك الإحرام إلى جدة معناه أنك تجاوزت الميقات بدون إحرام وأنت تريد عمرة، وقد ذكر أهل العلم أن هذا موجب للفدية وهي دم تذبحه في مكة وتوزعه على الفقراء، ولكن ما دمت قد سألت هذا الشيخ، وقد ذكرت أنه قدوة، وأنه ذو علم، وأفتاك بأنه يجوز الإحرام من مطار جدة وغلب على ظنك رجحان قوله على ما تقرر عندك من قبل بأنه يجب عليك الإحرام إذا حاذيت الميقات فإنه لا شيء عليك؟ لأنك أديت ما أوجلا الله عليك في قوله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (2) ومن سأل من يظنه أهلاً للفتوى فأفتاه فأخطأ فإنما إثمه على من
__________
(1) تقدم ص 36-37.
(2) سورة النحل، الآية 43(21/300)
أفتاه، أما هو فلا يلزمه شيء؛ لأنه أتى بما أوجب الله عليه.
وأما الثاني وهو أنك ذكرت أنك لم تنو التمتع وسافرت إلى المدينة وأحرمت بالحج من ذي الحليفة أي من أبيار علي فإنه يجب أن تعلم أن من قدم إلى مكة في أشهر الحج وهو يريد أن يحج فأتى بالعمرة قبل الحج فإنه متمتع؛ لأن هذا هو معنى التمتع فإن الله تعالى يقول: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) (1) ومعنى ذلك أن الإنسان إذا قدم مكة في أشهر الحج وكان يريده
فإن المفروض أن يحرم بالحج ويبقى على إحرامه إلى يوم العيد، فإذا أتى بعمرة وتحلل منها صدق عليه أنه تمتع بها- أي بسببها أي العمرة- إلى الحج أي إلى أن أتى وقت الحج، ومعنى تمتع بها أنه
تمتع بما أحل الله له، حيث تحلل من عمرته فأصبح حلالاً الحل كله يتمتع بكل محظورات الإحرام وهذا من نعمة الله سبحانه وتعالى أنه خفف عن العبد حتى أباح له أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ليتحلل منها، ويتمتع بما أحل الله له إلى أن يأتي وقت الحج، وعلى هذا فما دمت قادما من بلادك وأنت تريد الحج وأحرمت بالعمرة في أشهر الحج فأنت متمتع سواء نويت أنك متمتع أم لم تنوه؛ لأن هذا الذي فعلته هو التمتع.
بقي أن يقال: هل سفرك إلى المدينة مسقط للهدي عنك أم لا؟ هذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم، فمن العلماء من يرى أن الإنسان إذا سافر بين العمرة والحج مسافة قصر انقطع تمتعه
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 196.(21/301)
وسقط عنه دم التمتع، ولكن هذا القول قول ضعيف؛ لأن هذا الشرط لم يذكره الله تعالى في القرآن، ولم ترد به سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا يسقط الدم إذا سافر المتمتع بين العمرة والحج إلا إذا رجع إلى بلده، فإنه إذا رجع إلى بلده انقطع سفره برجوعه إلى بلده وصار
منشئاً للحج سفراً جديداً غير سفره الأول، وحينئذ يسقط عنه هدي التمتع لأنه في الواقع أتى بالحج في سفر جديد غير السفر الأول، فهذه الصورة فقط هي التي يسقط بها هدي التمتع؛ لأنه لا
يصدق عليه أنه تمتع بالعمرة إلى الحج حيث إنه انقطع حكم السفر في حقه وأنشأ سفراً جديداً لحجه.
س 356: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: من نسي الإحرام أو انشغل عنه في الطائرة حتى تجاوز الميقات فلم يحرم وأراد الرجوع بالسيارة إلى الميقات الذي تجاوزه فهل يجوز له ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله-: نعم يجوز والقاعدة إذا تجاوز الإنسان الميقات وقد أراد الحج أو العمرة ولم يحرم منه فإن أحرم من مكانه الذي دون الميقات لزمه الدم، وإذا رجع إلى الميقات وأحرم منه فلا شيء عليه، وبناءً على ذلك لو فرضنا أنه ركب طائرة من مطار القصيم وهو يريد العمرة ثم نزل إلى جدة قبل أن يحرم نقول له: إما تذهب إلى ذي الحليفة وتحرم منه، وإن أحرمت من جدة فعليك دم.(21/302)
س 357: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: إنني أعمل في حفر الباطن ومقر سكن الأهل في جدة وقد نويت وأنا في حفر الباطن أن أخذ عمرة وحين ذهبت إجازة أحرمت من منزل أهلي في
جدة وأخذت عمرة هل ينبغي علي أن أحرم من ميقات الطائف أم من المنزل أفيدونا جزاكم الله خير؟
فأجاب فضيلته بقوله-: إذا كان أصل ذهابك للأهل فاذهب إلى الأهل بدون إحرام، ومتى أردت أن تحرم أحرم من جدة، أما إذا كان ذهابك في هذا الوقت للعمرة ولكن تريد أن تمر في طريقك بأهلك في جدة فإنك تحرم من الميقات.
س 358: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: جماعة انطلقوا من الرياض لأداء العمرة ولكنهم ذهبوا إلى جدة وبقوا ثم أحرموا من جدة وبعد ذلك ذهبوا إلى مكة فما الحكم؟
فأجاب فضيلته بقوله-: هؤلاء أخطأوا والواجب عليهم أن يحرموا من الميقات ويؤدوا العمرة ثم يذهبوا إلى جدة، أو إذا انتهوا من جدة عادوا إلى أول ميقات مروا من عنده وأحرموا منه، فإذا كانوا أتوا من الرياض فالواجب عليهم أنه لما أرادوا الدخول في النسك أن يذهبوا إلى السيل وهو قرن المنازل ويحرموا منه، أما والأمر كما قال السائل أحرموا من جدة فإن العلماء يقولون:
إن من أحرم من غير الميقات يلزمه دم يذبح فدية في مكة ويوزعها على الفقراء هذا إن كان غنياً وإن كان فقيراً فعليه أن يتوب إلى الله ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.(21/303)
س 359: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل ذهب هو وزوجته من مطار القصيم إلى جدة بنية العمرة، ولكنه رغب أن يبقى في جدة فلم يحرم من الميقات ثم ذهب للطائف للنزهة وبعد
ذلك أحرما من السيل الكبير فماذا يلزمهما؟
فأجاب فضيلته بقوله-: لما سافر من القصيم وهو ناوٍ العمرة فإن ميقاته ميقات أهل المدينة ذو الحليفة، ولكنه لم يفعل وأحرم من السيل الكبير، فإن احتاط وذبح فدية في مكة عنه واحدة
وعن زوجته واحدة توزع على الفقراء فهذا طيب، إبراء للذمة، وإن لم يفعل فإن كان عاجزاً فلا حرج عليه.
س 360: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: أحد الناس تجاوز الميقات ثم أحرم من جدة وأفهم بأن عليه دماً ولكن زوجته بصحبته فهل على كل منهما دم أم يكفي أن يفدى بشاة واحدة عن الجميع؟
فأجاب فضيلته بقوله: على كل واحد منهما دم، لأن ترك الواجب كما قال العلماء يلزم فيه فدية يذبحها في مكة ويوزعها على الفقراء: إن ذبحها بنفسه فبنفسه ذبح وإلا يوكل من يثق به يذبحها ويفرقها على الفقراء في مكة، فعلى زوجته فدية وعليه فدية ولكن إذا قدر أنهم فقراء لا يملكان شيئاً فإنه لا شيء عليهما فكل فدية وجبت لترك واجب إذا لم يجد الإنسان هذه الفدية أو ثمنها فإنه لا شيء عليه، ومن قال من العلماء أنه يلزمه أن يصوم عشرة أيام فإنه قال قولا ليس عليه دليل.(21/304)
س 361: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى- مرت بالميقات وهي مريضة فلم تحرم، وقالت: إن شفيت اعتمرت وشفيت في مكة فمن أين تحرم؟
فأجاب فضيلته بقوله: ليس عليها شيء، وذلك أنها لما وصلت الميقات رأت نفسها مريضة لا تستطيع أن تؤدي العمرة، ثم بعد ذلك رأت نفسها نشيطة وأحبت أن تؤدي العمرة، فنقول: أحرمي من حيث كنت إلا إذا كنت في الحرم فاخرجي إلى التنعيم أو غيره من الحل فأحرمي منه.
س 362: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى- من جاء جوّاً إلى المدينة مباشرة وقد مر على ميقات بلده، فهل يجوز له تجاوز ميقاته دون إحرام ثم الإحرام من المدينة؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان قاصدًا المدينة لا مكة على نية أن يخرج من المدينة ويحرم من ميقاتها أي من ذي الحليفة فلا بأس حتى لو مر بالميقات، فمثلاً إذا قدرنا أنه من أهل مصر ومر بالميقات على السيارة أو على الطائرة يعني إذا كانت الطائرة سوف تنزل رأسا في المدينة أو نزلت في جدة وذهب بالسيارة إلى المدينة على نية أنه إذا رجع من المدينة أحرم، فهذا لا حرج عليه ولو تجاوز ميقاته، وإذا رجع من المدينة وجب عليه أن يحرم من ذي الحليفة أي من أبيار علي.(21/305)
س 363: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل نوى أداء العمرة من بلده ثم جاء إلى جدة من دون إحرام فنصحه أحد الناس بالإقامة في جدة ثلاثة أيام حتى لا يقع عليه فدية ثم يحرم من جدة
لأداء العمرة فهل هذه الفتوى التي أفتي بها صحيحة؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذه الفتوى غير صحيحة، والإنسان إذا مرَّ بالميقات وهو يريد الحج أو العمرة يجب أن يُحرم من الميقات؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يهل أهل المدينة من ذي الحليفة، وأهل اليمن من يلملم، وأهل نجد من قرن، وأهل الشام من الجحفة" فلا يجوز لمن مرَّ بهذه المواقيت وهو يريد الحج أو العمرة، إلا أن يحرم من الميقات، وإذا كان تجاوز الميقات ونزل في جدة وأراد أن يُحرم نقول: ارجع للميقات إن كنت أتيت من قبل المدينة فارجع إلى ذي الحليفة. (أبيار علي) وإن كنت جئت من طريق الشام فارجع إلى الجحفة، وإن كنت أتيت من طريق اليمن فارجع إلى يلملم وأحرم منه وجوباً، فإن شقّ عليه الرجوع أحرم من مكانه، وعليه عند العلماء دم يذبح في مكة ويوزع على الفقراء، لكن ذكر أهل العلم أن بعض بلاد السودان يحرمون من جدة، وهم الذين يقدمون من جهة سواكن؛ لأنهم إذا أتوا من قبل سواكن وصلوا إلى جدة قبل أن يحاذوا يلملم، وقبل أن يحاذوا الجحفة فيحرمون من جدة ولاشيء عليهم.
س 364: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل يقول: ذهبت إلى العمرة ولم أحرم حتى نزلت في مطار جدة فأحرمت(21/306)
وأتممت عمرتي، فقيل لي: عليك دم، لكني رجعت ولم أذبح وأردت هذه السنة أن أحج فمتى أذبح هذا الدم الذي وجب عليَّ بترك الإحرام في الميقات؟ هل يجوز لي ذبحه في يوم النحر من الهدي، وهل يجوز أن اشترك مع خمسة رجال في بدنة فيكون لي نصيبان من هذه البدنة نصيب للهدي ونصيب لما وجب علي من تجاوزي للميقات؟ ثم هل يجوز لي أن أوكل شخصاً غيري يذبح لي في الحرم. وأنا في بلدي؟ وهل المقصود بالدم هي الشاة فقط؟
فأجاب فضيلته بقوله-: نقول لهذا الذي ترك الإحرام من الميقات عليك عند جمهور العلماء دم تذبحه في مكة إما بنفسك أو بوكيلك، ويجوز أن تشارك غيرك في بدنة، وأن يكون لك منها سبعان وللآخرين خمسة أسباع؛ لأن سبعي البعير يجزئان عن شاتين والبعير الكامل يجزىء عن سبع أشياه، ولكني كما قلت سابقاً أحذر من ترك السؤال إلى مدة طويلة، وأنت إذا فعلت خطأ فبادر بتصحيحه؛ لأنك لا تدري ربما تموت قبل أن تبحث عن هذا الفعل فيلحقك في هذا إثم؛ لأنك مقصر.
س 365: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل خرج من بلده إلى جدة وكان عند خروجه يريد أخذ العمرة ولكن بعض النساء اللآتي معه كانت حائضًا فذهب إلى جدة ولم يحرم وجلس في جدة حتى طهرت تلك المرأة ولكن انتهت الدراهم التي كانت معه فلم يستطع الذهاب إلى مكة وأخذ العمرة فماذا عليه؟
فأجاب فضيلته بقوله-: لا حرج على الإنسان إذا نوى(21/307)
العمرة أو الحج أن يفسخ النية ما دام لم يتلبس بالإحرام، حتى لو عزم وسافر فإنه لا شيء عليه، لأن العمل لا يلزم إلا بالشروع فيه، لقوله تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) والإتمام إنما يؤمر به من تلبس بالشيء وأما قبل ذلك فلا حرج عليه، أما إذا كان الحج فريضة فالواجب عليهم أن يكملوها؛ لأن الفريضة فرض على الإنسان قبل أن يوجبها على نفسه بالسعي فيها.
س 366: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: عن رجل ركب الطائرة من الرياض لجدة بنية العمرة، ثم أعلن قائد الطائرة أنه بعد خمس وعشرين دقيقة سوف نمر فوق الميقات، ولكنه غفل عن
زمن المرور بالميقات بمقدار أربع أو خمس دقائق ثم أحرم بالعمرة فما الحكم؟
فأجاب فضيلته بقوله-: الحكم أنه على ما ذكره العلماء يلزمه هذا السائل أن يذبح شاة في مكة ويوزعها على الفقراء، وإن لم يجد فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، لكنني أنصح الأخوة أنه إذا
أعلن القائد أنه بقي خمس وعشرون دقيقة، أو خمس دقائق أن يحرموا؛ لأن بعض الناس ينام بعد هذا الإعلان ولا يشعر إلا وهو قريب من مطار جدة، وأنت إذا أحرمت قبل الميقات بخمس دقائق
أو عشر دقائق، أو ساعة، أو ساعتين فلا شيء عليك، إنما المحظور أن تأخر الإحرام حتى تتجاوز الميقات وخمس دقائق للطائرة تبلغ مسافة طويلة، فأقول للأخ السائل: اذبح فدية في مكة ووزعها للفقراء ولكن في المستقبل انتبه إذا أعلن قائد الطائرة(21/308)
فالأمر واسع أحرم حتى إذا نمت بعد ذلك لم يضرك.
س 367: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل سافر بالطائرة يريد العمرة وأعلن المضيف عن وقت الإحرام إلا أنه لم يسمعه لضعف الصوت ولم يحرم إلا بعد مجاوزة الميقات فماذا يلزمه؟
فأجاب فضيلته بقوله: من لم يسمع المضيف ولم يحرم إلا بعد تجاوز الميقات فعليه دم يذبح في مكة ويوزع على فقرائها، ولكنه ليس عليه إثم لأنه جاهل.
س 368: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: شخص ذهب للعمرة بالطائرة وأعلن قائد الطائرة أن محاذاة الميقات سيكون بعد ثلث ساعة ولكنه نام ولم يستيقظ إلا في المطار فذهب إلى السيل
وأحرم من هناك وأتى بعمرته فهل عليه شيء أم لا؟
فأجاب فضيلته بقوله-: إذا كان هذا من أهل الرياض وذهب إلى السيل وأحرم فلا شيء عليه؛ لأنه أحرم من ميقاته، وأما إذا كان جاء من المدينة فالواجب أن يذهب إلى ميقات أهل المدينة ويحرم منه، فإن أحرم من السيل فعليه فدية؟ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما وقت المواقيت قال: "هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن " (1) فتجاوز ميقات أهل المدينة لمن مر به من غيرهم، كتجاوز أهل نجد ميقات أهل نجد وهم لم يحرموا.
__________
(1) تقدم ص 36.(21/309)
س 369: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل ذهب للعمرة بالطائرة وأعلن المضيف أن المرور بالميقات سيكون في ساعة كذا وكذا فانشغل عن ذلك حتى مضى الوقت وكان بين إعلانه وبين الوقت خمس دقائق من الميعاد المحدد فلما وصل مكة ذهب إلى التنعيم ونوى مرة أخرى بالعمرة ثم أدى العمرة؟
فأجاب فضيلته بقوله-: الواجب على الإنسان أن يحتاط لدينه، فإذا قال المضيف: إنه بقي عشر دقائق على الميقات فلتحرم وتحتاط، لأنك إذا تقدمت قبل الميقات بخمس دقائق فلا ضرر عليك، لكن لو تأخرت بعد الميقات بدقيقة واحدة فاتك الإحرام من الميقات؛ لأن الطائرة سريعة، هذا هو الذي ينبغي لمن سافر بالطائرة أن يتأهب، ويلبس الإزار والرداء، وإذا أعلن المضيف بأنه بقي عشر دقائق فلا حرج عليه أن يحرم ولو قبل الوصول إلى الميقات، لئلا يقع في مثل هذا الخطأ الذي ذكره
السائل.
أما النسبة للجواب على سؤاله فنقول: إن الواجب عليك أن تذبح فدية في مكة وتوزعها على الفقراء، هكذا قال العلماء - رحمهم الله- إن من ترك واجباً من واجبات الحج أو العمرة وجب عليه فدية تذبح في مكة وتوزع على الفقراء، فإذا كنت تريد أن تذهب إلى العمرة هذا العام فتذبحها أنت بنفسك هناك وتوزعها على الفقراء، وإلا فلا حرج عليك أن توكل أحداً يقوم بالواجب
سواء ممن سافروا من بلدك، أو ممن كانوا في مكة.(21/310)
س 370: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل خرج يتنزه في جدة لمدة أسبوعين وقد نوى العمرة عند خروجه من بلده ولكنه لا يحرم من الميقات وإنما يحرم بعد ذلك من جدة ثم يأتي بعمرة
فهل يصح ذلك، فقد نقل عنكم أنكم تجيزون ذلك، وبالأخص من تزوج حديثاً؟
فأجاب فضيلته بقول-: ما نسب إلينا من جواز تجاوز الميقات لمن أراد أن يأتي بعمرة من أجل أن يبقى بجدة أياماً ثم يحرم من جدة فهذا كذب علينا، بل نقول ما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - حين وقت هذه المواقيت وقال: "هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن، ممن يريد الحج أو العمرة" (1) ونقول: سبحان الله كيف يستهوي الشيطان بني آدم حتى يوقعهم في هذا الشيء، فلو أحرم
للعمرة من الميقات وذهب إلى مكة وأدى العمرة خلال وقت قصير ثم ذهب إلى جدة وبقي فيها ما شاء، ويكون سفره من بيته إلى مكة سفر طاعة، لأنه أراد عمرة، ولكن الشيطان يغوي بني آدم
ويوقعهم في التهاون، فنقول: نرخص للإنسان إذا كان يريد العمرة أن يذهب إلى جدة ولو مر بالميقات ولا يحرم من الميقات لكن يجب إذا أراد أن يحرم أن يرجع إلى الميقات ويحرم منه، فإن كان الإنسان على استعداد لذلك فيفعل، أما أن يتجاوز الميقات وهو يريد عمرة ويبقى في جدة ما شاء الله ثم يحرم من جدة فهذا لا يجوز.
__________
(1) تقدم ص 36-37.(21/311)
س 371: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما ميقات أهل القصيم؟ وإذا سافر بالطائرة من القصيم ونام عن الإحرام ونزل مطار جدة فمن أين يحرم؟
فأجاب فضيلته بقول-: ميقات أهل القصيم إذا جاءوا من طريق الطائف هو السيل، وإذا جاءوا من طريق المدينة فهو ذو الحليفة المعروف بأبيار علي. والطائرة تمر بأبيار علي، فإذا نزل إلى جدة ولم يحرم وأراد أن يحرم فليرجع إلى أبيار علي ويحرم منها.
س 372: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى- هل يجوز للطالب الذي جاء من الرياض وله زملاء في جدة أن يزور زملاءه في جدة ثم يحرم معهم للحج من جدة؟
فأجاب فضيلته بقوله-: لا يجوز أن يؤخر الإحرام عن الميقات وهو قد ذهب إلى الحج، أما لو كان ذهب للزيارة وليس عنده نية أن يحج أو يعتمر ثم إن زملاءه دعوه إلى أن يحج معهم ونوى من مكانه فلا باس أن يحرم معهم، أما إن كان قاصداً أن يعتمر أو يحج فلا بد أن يحرم من الميقات، ونقول للأخ: الأمر سهل أحرم من الميقات متمتعاً بالعمرة إلى الحج ثم تحل منها وتحرم مع إخوانك بالحج، وإذا كان وقت الحج قريباً وأردت أن تحرم بقران أو بإفراد فلا بأس عليك.(21/312)
س 373: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى- رجل قدم من بلده بالطائرة يريد الحج ومر بالميقات، ولكنه يريد إذا نزل إلى جدة أن يذهب إلى المدينة أولاً فلم يحرم في الطائرة ولما نزلت الطائرة ذهب بالسيارة إلى المدينة ثم رجع من المدينة محرمًا فما حكم ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا بأس بهذا، فمن قدم من بلده قاصدًا المدينة أولاً ونزل في جدة ثم سافر من جدة إلى المدينة ثم رجع من المدينة محرمًا من ميقات أهل المدينة فلا بأس.
س 374: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: شخص سافر إلى جدة لقضاء شغل له وفي نيته أن يحرم للعمرة عندما ينتهي هذا العمل هل يجوز له الإحرام من جدة والحال هذه؟
فأجاب فضيلته بقوه-: لا يجوز له الإحرام من جدة ويجبا عليه إذا انتهى شغله أن يرجع إلى الميقات الذي مر به أولاً فيحرم منه، فمثلاً إذا كان جاء بالطائرة من القصيم وأنهى شغله في جدة يجب أن يرجع إلى المدينة ليحرم من ميقات أهل المدينة لأنه يكون حاذاه، وإذا كان جاء من الرياض فيجب عليه إذا أنهى شغله في جدة أن يرجع إلى السيل الذي هو قرن المنازل ويحرم منه، ولكني أقول: يا إخواني إن الشيطان يستهوي ابن آدم، لماذا لا يحرم من الميقات وإذا وصل جدة ذهب إلى مكة وخلال ثلاث ساعات وإذا هو راجع إلى جدة. قد يقول: إن شغلي من حين ما أصل يبدأ فنقول: الحمد لله قدم الرحلة قبل هذا الوقت حتى تتمكن من العمرة.(21/313)
س 375: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: إذا رغب رجل الحج أو العمرة عن طريق الجو بالطائرة من الرياض مثلاً، فهل هناك من حرج لو لبس ثياب الإحرام في بيته؟
فأجاب فضيلته بقوله-: ليس هناك حرج أن يلبس الإنسان ثياب الإحرام من بيته إذا كان ينوي السفر بالطائرة، ثم إذا قارب الميقات أحرم، ولا يقال: إن هذا الرجل أحرم قبل الميقات؛ لأنه لم يحرم، فليس الإحرام لبس الرداء والإزار وإنما الإحرام هو عقد النية، وهذا لم يعقد نيته، ولكن بعض الناس لا يحب أن يكون لابساً ثياب الإحرام في المطار وأمام الناس ويلبس ذلك داخل الطائرة وهذا لا حرج فيه.
س 376: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل يريد أن يذهب إلى جدة مع عائلته وذلك لزواج أحد أقاربه وعنده النية بعد الزواج أن يعتمر، فهل يجوز له أن يتجاوز الميقات ويحرم بعد
الزواج من جدة أم ماذا يفعل؟
فأجاب فضيلته بقوله-: لا يجوز له أن يؤخر الإحرام من الميقات ما دام عازماً على العمرة؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في المواقيت: "يهل أهل المدينة من ذي الحليفة، وأهل اليمن من يلملم، وأهل نجد من قرن، وأهل الشام من الجحفة" (1) فأمر بالإهلال من هذه المواقيت، أما من سافر لحاجة، وقال: إن تيسر لي أتيت بالعمرة
__________
(1) تقدم ص 36-37.(21/314)
وإلا فلا، فهذا نقول له: إن تيسر لك أن تأتي بالعمرة فأحرم من المكان الذي تيسر لك منه، وإن لم يتيسر فلا شيء عليك.
ولكن لو سألنا رجل قال: إنه قدم إلى جدة لحاجة وهو قد عزم على العمرة وهو الآن في جدة وانتهت حاجته فماذا يصنع أيحرم من جدة أم يلزمه أن يذهب إلى الميقات؟
قلنا: يلزمه أن يذهب إلى الميقات ويحرم منه وإذا ذهب إلى الميقات وأحرم منه سقط عنه الدم.
س 377: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: امرأة حجت منذ ثمانية وثلاثين عاما وكانت هي الحجة الأولى وكانت تسكن في المنطقة الشمالية عرعر واتجهت إلى جدة بالطائرة ولم تحرم وبذلك تكون تجاوزت الميقات وكانت جاهلة فماذا يلزمها وقد لا تستطيع الذهاب لمكة لأداء ما يجب؟
فأجاب فضيلته بقوله-: ذكر عن العلماء- رحمهم الله- أن من أحرم دون الميقات الذي مر به فعليه فدية، أي شاة يذبحها في مكة ويوزعها على الفقراء، وتكون عمرته صحيحة وحجه صحيحاً، وعلى هذا نقول للمرأة: عليك الفدية بأن تذبحي في مكة شاة وتوزعيها على الفقراء ولا يؤكل منها شيء، وإذا كانت لا تستطيع أن تفعل ذلك بنفسها فلا حرج عليها أن توكل من تثق به ليقوم بهذا العمل في مكة.(21/315)
س 378: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل يريد العمرة وسافر من القصيم في الطائرة ويحب أن يبقى في جدة أيامًا ثم يعود إلى ميقات السيل فيحرم منه، وينزل إلى مكة ويعتمر فهل
في ذلك من بأس؟
فأجاب فضيلته بقوله-: نعم في هذا من بأس، ولا يحل الإنسان الذي أراد العمرة أن يمر بميقات ويتجاوزه بلا إحرام سواء كان ميقاته أو ميقات غيره؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقت المواقيت وقال: "هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن يريد الحج أو العمرة" وإني أنصح إخواني المسلمين الذي ابتلوا بمثل هذا الحال إذا كانوا ذاهبين يريدون العمرة فلماذا لا يجعلون مرادهم الأصلي الذي هو قربة إلى الله عز وجل لماذا لا يجعلونه هو الأول فيحرمون بالعمرة من الميقات ويذهبون إلى مكة ويؤدون العمرة ويرجعون إلى جدة، والمسألة لا تستوعب ثلاث ساعات أو أربع
ساعات، لكن الشيطان يثبط الإنسان عن الخير، فهذا الذي ذهب من بيته إلى مكة يريد العمرة له أجر من حين أن ينطلق من بيته إلى أن يرجع، لكن الشيطان يحرمه ويجعل المراد الأول هو جدة للزيارة فيحرمه من أجر السعي إلى العمرة، ولا يكون له أجر العمرة إلا من الميقات الذي أحرم منه، لذلك أقول: أولاً: أنصح إخواني المسلمين الذين يكون لهم شغل في جدة وهم يريدون العمرة أن يبدؤا بالعمرة أولاً حتى يكون لهم الأجر من حين أن ينطلقوا من بيوتهم إلى أن يرجعوا.
ثانيا: لا يحل للإنسان أن يدع الإحرام من الميقات وهو(21/316)
يريد الحج أو العمرة، فإن قدر أنه تجاوز الميقات، قلنا له: ارجع إلى الميقات الذي تجاوزت وأحرم منه فإذا مر جماعة مثلا بميقات أهل المدينة وبقوا في جدة وأنهوا شغلهم، نقول: ارجعوا إلى ميقات أهل المدينة، ولا يحل لكم أن تحرموا من السيل، وإن كان السيل هو ميقات أهل نجد الأصلي لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل الميقات الفرعي إذا مر به الإنسان كالأصل يجب عليه أن يحرم منه، فإذا قدر أنهم ذهبوا إلى السيل وأحرموا منه، فقد ذكر العلماء رحمهم الله- أن من ترك واجباً من واجبات الحج أو العمرة لزمه فدية يذبحها في مكة ويوزعها على الفقراء.
س 379: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما حكم الإحرام من جدة للقادم لغرض الحج أو العمرة؟
فأجاب- رحمه الله بقوله-: إذا كان قادماً من بلد يصل إلى جدة قبل أن يحاذي المواقيت مثل الذي يأتي من السودان رأساً فهذا يحرم من جدة؛ لأنه يصل إلى جدة قبل أن يحاذي رابغاً، وقبل أن يحاذي يلملم، وأما الذي يأتي من الشمال، أو من الجنوب، فإنه يحرم إذا حاذى الميقات، وكذلك الذي يأتي من الشرق، فمثلاً الذي يأتي من الرياض يحرم إذا حاذى قرن المنازل في الطائف، والذي يأتي من القصيم يحرم إذا حاذى ذا الحليفة، فليس أحد يحرم من جدة إلا الذين يأتون من الغرب رأسًا، ومثل
العلماء لهم بأهل سواكن من السودان، وقالوا: هؤلاء يصلون إلى جدة قبل أن يحاذوا المواقيت.(21/317)
س 380: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل قدم من دمشق للعمرة ولم يكن يعرف مكان الإحرام فأحرم من مطار جدة فماذا يلزمه؟
فأجاب فضيلته بقول-: المسافر على الطائرة إلى مكة يريد العمرة يجب عليه أن يحرم عند أول ميقات يحاذيه من فوق، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقت المواقيت وقال: "هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن يريد الحج أو العمرة" (1) ولما سأل أهل العراق أمير المؤمنين عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- أن يجعل لهم ميقاتًا، قال: "انظروا إلى حذوها- يعني قرن المنازل- من طريقكم " فدل هذا الأثر عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- أن محاذاة الميقات كالوصول إلى الميقات بالفعل، وعلى هذا فمن حاذى الميقات من فوق بالطائرة فإنه يجب عليه الإحرام منه، ولا يحل له أن يؤخر الإحرام حتى يصل إلى جدة، فإن فعل فإن كان متعمداً فهو آثم وعليه الفدية: شاة يذبحها في مكة ويوزعها على الفقراء، وإن فعل ذلك جاهلاً كما يفيده السائل فإنه لا إثم عليه؛ لأنه معذور بجهله، لكن عليه الفدية جبراً لما نقص من إحرامه شاة يذبحها في مكة ويوزعها على الفقراء، وعلى هذا فنقول للسائل: يذبح فدية في مكة ويوزعها على الفقراء إما بنفسه إن ذهب، أو بوكيل ممن هو في مكة أو قريب منها يذبحها عنه ويوزعها على الفقراء، هذا إذا كان قادراً على ذلك قدرة مالية، أما
__________
(1) تقدم ص 36-37.(21/318)
إذا كان غير قادر فإنه لا شيء عليه لا إطعام، ولا صيام، وهذا الحكم في كل من ترك واجبًا من واجبات الحج أو العمرة فإن عليه الفدية كما قال أهل العلم يذبحها في مكة ويوزعها على الفقراء،
فإن لم يجد فلا شيء عليه لا إطعام ولا صيام.
س 381: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: قدمت لأداء فريضة الحج وذهبت بالطائرة ولم يكن معي إحرام في الطائرة وعند وصولي إلى مطار جدة أحرمت منه فما الحكم في ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله-: عليه أن يتوب إلى الله تعالى مما صنع لأنه فرط في أمر واجب عليه، فإن الواجب على من أراد أن يفعل عبادة أن يكون متأهباً لفعل ما يجب فيها، علماً واستعداداً،
فيجب عليك أن تعلم أنه لابد أن تحرم من الميقات إذا حاذيته في الطائرة، وأنه لابد أن يكون معك إحرام وأنت في الطائرة، فأنت الآن مفرط، فعليك أن تتوب إلى الله، وعليك أيضاً أن تذبح فدية
في مكة وتوزعها على الفقراء عوضاً عن عدم الإحرام من الميقات، ثم إن الحقيقة أنه يمكن للإنسان أن يحرم وهو في الطائرة بحيث يخلع قميصه ويبقى على سراويله؛ لأن السراويل يجوز لبسها في الإحرام إذا لم يكن معه إزار، ويجعل محل الرداء قميصه الذي عليه إذا خلعه لفه على صدره، وكان هذا بمنزلة الرداء وهذا أمر سهل، ويسير جدًا وليس بالصعب، لكن أكثر(21/319)
الناس يجهلون هذا، ويظنون أن الإحرام لابد أن يكون بالإزار والرداء المعروفين.
س 382: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: شخص جاء من الشام وهو ليس من أهلها وأراد الحج وعند قدومه إلى جدة لا يدري من أين يحرم هل له أن يحرم من ذي الحليفة أم يحرم من جدة لأنه من بلاد تحرم من جدة لكنه ذهب إلى بلاد الشام لطلب العلم؟
فأجاب فضيلته بقول-: أهل الشام لا يحرمون من ذي الحليفة بل أهل الشام وقت لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - الجحفة (1) ، وأظن طريق الطائرات إذا كان في الطائرات من عند الساحل، فيحاذون الجحفة وهم بعيدون عن ذي الحليفة، فيحرم كما يحرم أهل الشام تماماً، إلا إذا كان هذا الرجل من أهل جدة ورجع من الشام إلى جدة باعتبار أنه راجع إلى أهله لا أنه قاصد للحج، فحين إذن يرجع إلى أهله بلا إحرام، وإذا جاء وقت الحج أحرم. وإذا كان قاصداً الحج فلابد أن يحرم من ميقات أهل الشام.
س 383: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: قدم جماعة من أهل اليمن للعمرة والمفروض أن الميقات في يلملم بالطائرة، ولكنهم أحرموا في جدة وبعضهم أحرموا في التنعيم وقال: لأني
أبحث عن فندق فهل صحت العمرة؟
__________
(1) تقدم ص 36-37.(21/320)
فأجاب فضيلته بقوله-: إذا أحرم إنسان بحج أو عمرة من غير الميقات الذي عينه الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم فالإحرام لازم وصحيح، والحج والعمرة صحيح، لكن العلماء يقولون: إن إيقاع الإحرام من الميقات من واجبات الحج أو العمرة وأن من ترك واجباً من واجبات الحج أو العمرة فعليه فدية تذبح في مكة وتوزع على الفقراء ولا يأكل منه شيئاً، ثم إن كان لا يستطيع فبعضهم قال: يصوم عشرة أيام. وبعضهم قال: لا شيء عليه، والصحيح لا شيء عليه إذا لم يستطع؛ لأنه ليس هناك دليل صحيح على أن من عجز عن فدية ترك الواجب يصوم عشرة أيام.
س 384: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل يريد الفسحة في المنطقة الغربية، ويريد البقاء في جدة عدة أيام، ويحب أن يعتمر، وآخر قادم من الخارج من مصر وأهله في المملكة طريقه على جدة ويحب أن يعتمر، هل يعتمران من جدة أو يلزمهما الإحرام من الميقات؟ وجزاك الله خيراً؟
فأجاب فضيلته بقوله-: الميزان فيِ هذا هو الإرادة، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقَّت المواقيت وقال: "هُنَّ لهُنَّ وَلِمَنْ أتى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ مِمَّنْ أَرَاْدَ اَلْحَجَّ وَالعُمْرَةَ" (1) أي من غير أهل البلاد التي وقتت لهم ممن أراد الحج أو العمرة. فمن أراد العمرة فعليه أن يحرم إذا مر بالميقات، أو حاذاه، ثم إذا قضى عمرته أتى بغرضه الذي أراد، ولكن من كان أهله في جدة مثلاً وسافو من البلد التي
__________
(1) تقدم ص 36-37.(21/321)
سافر منها إلى جدة لأهله، ولكن في نيته أنه في يوم من الأيام يأتي بعمرة، فلا يلزمه الإحرام، لأن سفرته هذه في الواقع سفرة إلى أهله.
وأما من أراد العمرة ولكنه قال: أقضي شغلي أولاً ثم أحرم من المكان الذي قضيت به الشغل فلا يحل له ذلك، وعليه أن يرجع إلى الميقات الذي مر به ويحرم منه.
هذا بالنسبة لمن سافر من بلد في المملكة إلى المنطقة الغربية لشغل، وأما القادم من مصر إلى المملكة فإننا أيضاً نسأل عن إرادته، إذا كان يريد أن يقدم للعمل الذي هو يعمله في المملكة، ولكن في نيته أنه في يوم من الأيام يأتي بعمرة، فهذا لا يلزمه الإحرام، وأما إذا كانت نيته في هذه السفرة الاعتمار
والذهاب إلى الشغل فإنه يجب عليه أن يحرم من الميقات.
س 385: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: إذا أراد الإنسان أداء العمرة فذهب إلى جدة بالطائرة ثم جلس يوما في جدة وبعدها أحرم من جدة فماذا يلزمه؟
فأجاب فضيلته بقوله-: ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لما ذكر المواقيت قال: "هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن يريد الحج أو العمرة" (1) فإذا أردت الحج أو العمرة ومررت بأول ميقات فأحرم منه، فإن تجاوزته وأحرمت من دونه فإن أهل العلم
__________
(1) تقدم ص 36-37.(21/322)
يقولون: هذا ترك واجب، وفي ترك الواجب دم يذبح في مكة ويوزع على الفقراء هناك.
س 386: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما حكم من أتى من بلده بالطائرة ولم يحرم من الميقات وأحرم من جدة؟
فأجاب فضيلته بقوله-: إن كان عالماً فهو آثم وعليه الفدية يذبحها في مكة ويوزعها على الفقراء لتركه الواجب، وهو الإحرام من الميقات، وإن كان جاهلاً فليس بآثم، ولكن عليه الفدية يذبحها في مكة ويوزعها على الفقراء لتركه الواجب؛ لأن كل من أراد الحج والعمرة ومرّ بالمواقيت فإنه يجب عليه أن يحرم من أول ميقات يمرُّ به.
س 387: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجال سافروا من عنيزة في رمضان قاصدين العمرة فما رأيكم لو سافروا عن طريق المدينة ثم جدة ولم يحرموا من المدينة بل من جدة مع جلوسهم
بالمدينة وجدة على يومين، أو أكثر؟
فأجاب فضيلته بقوله-: لا يجوز لهم تأخير الإحرام إلى جدة؛ لأنهم إذا مروا بالمدينة قاصدين العمرة لم يكن لهم مجاوزتها بدون إحرام؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقت المواقيت وقال:
"هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن " فيجب عليهم الإحرام من ميقات أهل المدينة، وإن كانوا يريدون البقاء في جدة يومين أو أياما فيبقون في جدة على إحرامهم أو ينزلون إلى مكة ويقضون(21/323)
عمرتهم ويرجعون إلى جدة.
وإذا كان هذا الأمر قد وقع منهم وأخروا الإحرام إلى جدة فعلى كل واحد منهم، فدية تذبح بمكة، وتفرق على فقراء أهل مكة وتكون دم جبران لا يأكلون منها شيئاً. قال ذلك كاتبه محمد الصالح العثيمين في 10/10/1390 هـ.
س 388: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: شخصان قادمان للعمرة: أحدهما من مصر والآخر من أبو ظبي ولم يحرما إلا من جدة فهل عمرتهما صحيحة؟
فأجاب فضيلته بقوله-: هذا الذي حصل من هذين السائلين يحصل من كثير من الناس، يأتون من بلادهم بنية العمرة على الطائرة، ولكنهم لا يحرمون إلا من جدة، وهذا لا يجوز، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين وقت المواقيت قال: "هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن " (1) ، ولما شكا أهل العراق إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- أن قرن المنازل جور عن طريقهم، قال رضي الله عنه: "انظروا إلى حذوها من طريقكم " وهذا يدل على أن الإنسان إذا كان في الطائرة وجب عليه أن يحرم إذا حاذى الميقات، ولا يجوز له أن يؤخر الإحرام حتى ينزل إلى جدة، فإن فعل ولم يحرم ونزل في جدة فإننا نأمره أن يرجع إلى الميقات الذي مرَّ به فيحرم منه، فإذا كان مرَّ من طريق المدينة قلنا له:
__________
(1) تقدم 36-37.(21/324)
يجب أن ترجع إلى ذي الحليفة- أبيار علي- وتحرم منها، وإذا كان جاء عن طريق المغرب أو مصر قلنا له: يجب عليك أن ترجع إلى الجحفة، التي هي رابغ الآن وتحرم منها، ماذا كان جاء من أبي ظبي فالظاهر أنه يمر من قرن المنازل، فإذا كان يمر من قرن المنازل قلما: يجب أن تذهب إلى قرن المنازل فتحرم منه.
فإذا قال السائل: أنا لا أستطيع أن أرجع إلى هذه المواقيت.
قلنا له: إذن أحرم من جدة، وعليك عند جمهور أهل العلم فدية تذبحها في مكة وتوزعها على الفقراء.
بعد هذا فنقول لهذين الرجلين اللذين أحرما من جدة: إن العمرة صحيحة، ولكن على كل واحد منكما أن يذبح فدية ويوزعها على الفقراء في مكة. فإن قالا: ليس معنا نقود، نقول لهما: استغفرا الله وتوبا إليه، وليس عليكما سوى ذلك.
س 389: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: أحد الإخوة المقيمين في جدة انتقل إلى الرياض بطبيعة العمل العسكري ومكث ثلاث سنين، ويأتي إلى جدة يعتمر وقد اعتمر حوالي عشر مرات وحج حجتين، إلا أنه أحياناً كان يحرم من الميقات وأحياناً لا يحرم من الميقات، وأحياناً لم يكن ناوياً العمرة، فإذا وصل إلى جدة طرأت عليه النية فذهب واعتمر فما حكم ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله-: أما العمرات والحجتان فهي صحيحة، غاية ما هنالك أن العمرة التي أحرم فيها من غير الميقات، وقد تجاوز الميقات وهو ينوي العمرة فعليه فدية تذبح(21/325)
في مكة، وتوزع على الفقراء مع القدرة، وأما مع العجز فلا شيء عليه. وكذلك يقال في الحج إن كان لم يحرم من الميقات.
أما لو كان تجاوز الميقات وهو لا ينوي العمرة، أو كان متردداً هل يعتمر أم لا، ثم لما وصل إلى جدة أنشأ النية فهذا يحرم من جدة ولاشيء عليه.
س 390: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: إذا خرج المكي إلى جدة مثلاً ثم رجع إلى مكة في اليوم الخامس من ذي الحجة وهو يريد الحج من عامه فهل يلزمه الإحرام من جدة؟ وهل له أن
يحرم بعمرة ويكون متمتعاً؟
فأجاب فضيلته بقوله-: له أن يحرم بالعمرة ويكون متمتعاً، وإذا كان يريد الحج لم يلزمه؛ لأن أهله في مكة.
س 391: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: اعتمرنا في رمضان وقد أحرمنا بعد وصولنا مطار جدة وكنا جاهلين ولسنا متعمدين حيث أخذنا سائق سيارة الأجرة إلى مكان في جدة به مسجد صغير وأحرمنا من هناك فهل إحرامنا صحيح وإذا كان ليس بصحيح فهل يلزمنا شيء؟
فأجاب فضيلته بقوله-: إحرامكم صحيح ولازم، ولكنكم أخطأتم في عدم الإحرام من الميقات حيث أخرتم الإحرام إلى جدة، وبناء على كونكم جاهلين فإنه لا شيء عليكم ولا يلزمكم شيء من فدية ولا غيرها، ولكن عليكم أن لا تعودوا لمثل هذا،(21/326)
وأن تحرموا من محاذاة الميقات وأنتم في الطائرة.
س 392: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل من أهل جدة سكن في الجبيل ويريد الحج متمتعًا فمن أين يحرم للعمرة هل يحرم من الميقات أو من بيت أهله في جدة؟ وإذا كان اليوم
الثامن من ذي الحجة فمن أين يحرم بالحج وهل يلزمه أن يرجع للميقات فيحرم منه؟
فأجاب فضيلته بقوله-: إذا كان الإنسان من أهل جدة وكان يعمل في بلاد أخرى كالجبيل، أو الظهران، أو الرياض وغيرها فإنه إذا أراد الحج يحرم من أول ميقات يمر به يحرم بالعمرة فإذا وصل إلى مكة طاف وسعى وقصر، ثم خرج إلى أهله في جدة، فإذا كان في اليوم الثامن أحرم من جدة، ولا يلزمه أن يأتي إلى الميقات مرة أخرى؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقت المواقيت وقال: "من كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة" فيكون جواب هذا السؤال: أن السائل يجوز له إذا أحل من عمرته أن يذهب إلى أهله في جدة فإذا كان اليوم الثامن أحرم مع أهله أو أحرم بنفسه من جدة وخرج إلى منى.
س 393: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل من أهل جدة انتقل بسبب العمل فإذا أراد الحج متمتعاً فمن أين يحرم هل يحرم من بيت أهله إذا قدم إلى جدة أو يحرم من الميقات الذي مر
به؟ ومن أين يحرم للحج؟(21/327)
فأجاب فضيلته بقوله-: وقت النبي - صلى الله عليه وسلم - المواقيت ذو الحليفة لأهل المدينة، والجحفة لأهل الشام، ويلملم لأهل اليمن، وقرن المنازل لأهل نجد، وكذلك وقت ذات عرق لأهل
العراق، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - حين وقت هذه المواقيت "هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن " فنقول لهذا السائل: إذا أردت أن تذهب إلى مكة للعمرة أو للحج فإنه يجب عليك أن تحرم من أول ميقات تمر به فإن ذهبت عن طريق المدينة كان ميقاتك ذا الحليفة، وإن ذهبت من طريق الطائف كان ميقاتك قرن المنازل، ويسمى السيل الكبير، ولا يحل لك أن تؤجل الإحرام حتى تصل إلى جدة، ثم إذا أديت العمرة تخرج إلى أهلك في جدة، وإذا كان اليوم الثامن من ذي الحجة أحرمت من جدة وذهبت إلى منى، نسأل الله لنا ولكم القبول.
س 394: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل سافر من القصيم إلى جدة لزيارة أهله وهو من أهل جدة وقد نوى الاعتمار في هذا السفر فهل يجوز له أن يؤخر إحرامه حتى يصل إلى أهله؟
فأجاب فضيلته بقوله-: الرجل الذي أهله في جدة وأنشأ السفر لأجل زيارة أهله سواء اعتمر أم لم يعتمر، لكن يقول: سأعتمر إذا بقيت أسبوعاً، أو شهراً، أو ما أشبه ذلك، فهذا لا يجب عليه أن يحرم من الميقات، كما أن الرجل من أهل مكة لو سافر من القصيم إلى مكة، يريد أهله، وهو يريد أن يحج هذا العام فإننا لا نلزمه أن يحرم إذا مر بالميقات، لأن هذا الرجل ذاهب إلى(21/328)
أهله، وكذلك المسألة الأولى الذي ذهب إلى أهله في جدة.
أما الذي من أهل الرياض فهو في جدة مسافر غير مستوطن، فإذا ذهب إلى جدة لغرض شغل، أو زيارة، أو تجارة، أو وظيفة، وهو يريد أن يعتمر في هذا السفر، فهذا السفر كان للأمرين، فإذن نقول: لا تتجاوز الميقات حتى تحرم؛ لأنك مسافر حتى وأنت في جدة.
س 395: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل متزوج ويسكن مع زوجته وأولاده في الرياض وأمه وأبوه في جدة فما الحكم؟
فأجاب فضيلته بقوله-: هذا إذا جاء إلى جدة فهو مسافر، فهنا إذا أراد أن يذهب إلى أهله للزيارة، وهو مريد أن يعتمر نقول لابد أن تحرم من الميقات، لأن وطنك الرياض.
أما جدة في وطن أبيه وأمه. ولهذا لو كان في رمضان فله أن يفطر إذا سافر إلى مقر أبيه وأمه وهو ساكن في بلد آخر والله تعالى أعلم.
س 396: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل يعمل بالمنطقة الشرقية ويرغب قضاء الإجازة عند أهله في جدة ولكن في نفس الوقت يريد أن يحج فهل يحرم من جدة لأنه سوف يذهب إلى أهله في جدة قبل الحج؟
فأجاب فضيلته بقوله-: إذا كان مجيئه إلى أهله على أنه(21/329)
استوطن المكان الذي يقيم فيجب عليه أن يحرم من الميقات، أما إذا كان جلس في المنطقة الشرقية ويقول: أنا ما جلست في هذا البلد إلا للدراسة أو العمل وأهلي هم أهلي في جدة، وأنا سوف
أذهب إلى أهلي وإذا جاء الوقت أحرمت من جدة فلا بأس، ففرق بين إنسان انتقل من بلده جدة إلى الشرقية، وإنسان لم ينتقل ولم ير نفسه أنه استوطن الشرقية، فالذي يرى نفسه أنه استوطن
الشرقية فهذا لا يتجاوز الميقات، والذي يقول: أنا لم أستوطن الشرقية ولكن بقيت للعمل فقط، وإن حصل لي أن أرجع إلى أهلي اليوم لرجعت، وكان في رجوعه من الشرقية إلى جدة رجوعاً إلى أهله فهذا يحرم من جدة.
س 397: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل قدم من مصر إلى جدة ونوى أن يأخذ العمرة، ولكنه يقول: إن كفيلي سوف يكون في المطار، وهو يعرف أن هذا الكفيل شديد يقول:
فلا أنوي العمرة إلا إذا أذن لي، فلما نزل المطار أذن له وقد كان نوى أن يأخذ العمرة فأحرم من المطار، ومثل ذلك: بعض الناس يذهب إلى جدة لعمل، ويقول: إن بقي وقت فأنا آخذ عمرة، يعني
ينوي من جدة فما حكم هاتين المسألتين؟
فأجاب فضيلته بقوله-: العامل الذي قدم فقال: إن أذن لي كفيلي أتيت بعمرة وإلا فلا، نقول: إذا وصل إلى جدة وأذن له كفيله فليحرم من جدة ولا شيء عليه.
وكذلك الآخر الذي قدم إلى جدة لعمل، وقال: إن تيسر لي(21/330)
عمرة أتيت بها وإلا فلا، نقول: إن تيسر له فيحرم من جدة ولا شيء عليه، لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: "ومن كان دون ذلك- أي دون المواقيت- فمن حيث أنشأ" (1) .
س 398: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: كيف يحرم من كان في الطائرة؟
فأجاب فضيلته بقوله-: إذا سافر الإنسان بالطائرة فأولا يغتسل في بيته، ويلبس لباس الإحرام إما في بيته أو الطائرة، فإذا حاذى الميقات فإنه يجب عليه أن ينوي النسك الذي يريد أن يحرم به، إما عمرة أو حجاً، ولا يجوز له أن يؤخر الإحرام إلى جدة مع مروره بالمواقيت؟ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقت المواقيت وقال: "هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن يريد الحج والعمرة" (2) ولأن أهل الكوفة والبصرة جاءوا إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- فقالوا: "يا أمير المؤمنين إن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقت لأهل نجد قرن المنازل، وإنها جور عن طريقنا" أي بعيدة فقال- رضي الله عنه- "انظروا إلى حذوها من طريقكم " فدل هذا أن الإنسان إذا
حاذى الميقات سواء عن طريق البر، أو البحر، أو الجو فإنه يجب عليه أن يحرم عند محاذاته.
__________
(1) تقدم 36-37.
(2) تقدم 36-37.(21/331)
فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:-
نأمل من فضيلتكم التكرم بالإجابة على الأسئلة التالية:
1- كيفية الإحرام بالطائرة؟
2- متى تجب الصلاة بالطائرة؟
3- جمع وقصر الصلاة للمسافر بالطائرة؟
أثابكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
ج-1: المسافر بالطائرة من مطار القصيم إذا كان يريد الحج أو العمرة فإنه يغتسل في بيته ويبقى في ثيابه المعتادة إن شاء، فإذا قربت الطائرة من محاذاة المحرم (ذو الحليفة- أبيار علي) لبس ثياب الإحرام، وتحديد ذلك بالزمن خمس وعشرون دقيقة من إقلاع الطائرة تقريباً، فإذا حاذت الطائرة الميقات نوى الدخول في النسك فلبى بما يريده من الحج أو العمرة، وتحديد محاذاة الميقات بالزمن خمس وثلاثون دقيقة تقريباً من إقلاع الطائرة، وإن احتاط فأحرم قبل ذلك خوفاً من الغفلة، أو النسيان فلا حرج عليه.
ج- 2: تجب الصلاة في الطائرة إذا دخل وقتها، لكن إذا كان لا يتمكن من أداء الصلاة في الطائرة كما يؤديها في الأرض فلا يصلي(21/333)
الفريضة في الطائرة إذا كان يمكن هبوط الطائرة قبل خروج وقت الصلاة، أو خروج وقت التي بعدها مما يجمع إليها. فمثلاً: لو أقلعت الطائرة من جدة قبيل غروب الشمس وغابت الشمس وهو
في الجو فإنه لا يصلي المغرب حتى تهبط الطائرة في المطار وينزل منها، فإن خاف خروج وقتها نوى جمعها إلى العشاء جمع تأخير وصلاهما إذا نزل، فإن استمرت الطائرة حتى خاف أن يخرج وقت العشاء وذلك عند منتصف الليل فإنه يصليهما قبل أن يخرج الوقت في الطائرة، وكيفية صلاة الفريضة في الطائرة: أن يقوم مستقبل القبلة فيكبر ويقرأ الفاتحة وما تسن قراءته قبلها من الاستفتاح، أو بعدها من القرآن، ثم يركع، ثم يرفع من الركوع، ثم يسجد فإن لم يتمكن من السجود جلس وأومأ بالسجود جالساً، وهكذا يفعل حتى تنتهي الصلاة وهو في ذلك كله مستقبل القبلة.
أما كيفية صلاة النافلة على الطائرة فإنه يصليها قاعداً على مقعده في الطائرة، ويومىء بالركوع والسجود، ويجعل السجود أخفض.
ج- 3: القصر للمسافر في الطائرة وغيرها وكذلك الجمع، لكن الأفضل أن لا يجمع إلا إذا كان سائراً غير نازل. والله الموفق.
كتبه
محمد الصالح العثيمين
في 22/4/1409 هـ(21/334)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
كيف يصلي الإنسان في الطائرة؟
1- يصلي النافلة في الطائرة وهو جالس على مقعده، حيث كان اتجاه الطائرة، ويومىء بالركوع والسجود، ويجعل السجود أخفض.
2- لا يصلي الفريضة في الطائرة إلا إذا كان يتمكن من الاتجاه إلى القبلة في جميع الصلاة ويتمكن أيضاً من الركوع والسجود والقيام والقعود.
3- إذا كان لا يتمكن من ذلك فإنه يؤخر الصلاة حتى يهبط في المطار، فيصلي على الأرض، فإن خاف خروج الوقت قبل الهبوط أخرها إلى وقت الثانية إن كانت مما يجمع إليها كالظهر مع العصر، والمغرب مع العشاء. فإن خاف خروج وقت الثانية صلاهما في الطائرة قبل أدن يخرج الوقت، ويفعل ما يستطيع من شروط الصلاة وأركانها وواجباتها.
(مثلاً) لو أقلعت الطائرة قبيل غروب الشمس وغابت الشمس وهو في الجو فإنه لا يصلي المغرب حتى تهبط في المطار وينزل فيصلي على الأرض، فإن خاف خروج وقت المغرب أخرها إلى وقت العشاء فصلاهما جمع تأخير بعد نزوله، فإن خاف خروج وقت العشاء وذلك عند منتصف الليل صلاهما قبل(21/335)
أن يخرج الوقت في الطائرة.
4- وكيفية صلاة الفريضة في الطائرة أن يقف ويستقبل القبلة فيكبر ويقرأ الفاتحة وما تسن قراءته قبلها من الاستفتاح، أو بعدها من القرآن، ثم يركع، ثم يرفع من الركوع ويطمئن قائماً، ثم يسجد،
ثم يرفع من السجود ويطمئن جالساً، ثم يسجد الثانية، ثم يفعل كذلك في بقية صلاته، فإن لم يتمكن من السجود جلس وأومأ بالسجود جالساً، وإن لم يعرف القبلة، ولم يخبره أحد يثق به اجتهد وتحرى وصلى حيث كان اجتهاده.
5- تكون صلاة المسافر في الطائرة قصراً فيصلي الرباعية ركعتين كغيره من المسافرين.
كيف يحرم بالحج والعمرة من سافر في الطائرة؟
1- يغتسل في بيته ويبقى في ثيابه المعتادة، وإن شاء لبس ثياب الإحرام.
2- فإذا قربت الطائرة من محاذاة الميقات لبس ثياب الإحرام إن لم يكن لبسها من قبل.
3- فإذا حاذت الطائرة الميقات نوى الدخول في النسك، ولبى بما نواه من حج أو عمرة.
4- فإن أحرم قبل محاذاة الميقات احتياطاً خوفاً من الغفلة أو النسيان فلا بأس.
كتب ذلك محمد الصالح العثيمين في 2/5/1409 هـ.(21/336)
س 399 سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هناك أناس يأتون من بلادهم قاصدين المدينة فيمرون بالميقات، فهل يلزمهم الإحرام من الميقات ويذهبون إلى المدينة محرمين أو يذهبون إلى
المدينة دون إحرام ثم إذا رجعوا من المدينة إلى مكة أحرموا من ميقات أهل المدينة؟
فأجاب فضيلته بقوله-: يذهبون بلا إحرام إلى المدينة؛ لأن هؤلاء لم يقصدوا مكة، وإنما قصدوا المدينة، فيذهبون إلى المدينة، وإذا رجعوا من المدينة حينئذ يكونون قد توجهوا إلى مكة، فيحرمون من ميقات أهل المدينة، وهي "ذو الحليفة" التي تسمى الآن "أبيار علي "
س 400: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل جاء عن طريق البحر ماراً بجدة ولم يحرم وذهب للمدينة للزيارة ثم أحرم من ذي الحليفة وأدى العمرة وهو الآن يمكث في مكة لأداء الحج
فهل عليه فدية أم لا؟
فأجاب فضيلته بقوله-: ليس عليه شيء ما دام الرجل جاء قاصداً المدينة ثم تجاوز الميقات متجهاً إلى المدينة ثم عاد فأحرم من ميقات ذي الحليفة فليس عليه شيء، وما دام منتظرًا للحج فهو متمتع وقد قال الله تعالى: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) (1) فعليه الهدي إذا قدر على ذلك، وإن لم يقدر فإنه يصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع أي إذا انتهى من أعمال الحج،
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 196.(21/337)
وله أن يصوم الأيام الثلاثة من الآن ما دام يعرف نفسه أنه لن يستطيع الهدي أما السبعة فبعد الرجوع من الحج.
س 401: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: أتيت من الرياض في طريقي إلى المدينة ثم إلى مكة وهذه رحلة عمل حيث إنني أتوقف في كل بلدة أمر بها في طريقي حسب طبيعة عملي فأنا مندوب مبيعات ويصعب علي الإحرام وأداء العمل في نفس الوقت ونهاية رحلة العمل في الجنوب داخل حدود الميقات فإذا أردت أداء عمرة حيث أنويها من الآن فمن أين أحرم هل أعود بعد انتهاء
العمل إلى الميقات؟
فأجاب فضيلته بقوله-: إذا مر الإنسان بالميقات وهو صاحب عمل فإما أن لا ينوى العمرة فلا حرج عليه أن يدخل مكة بلا عمرة ويطوف إن شاء، أو لا يطوف، ما دام أدى العمرة الواجبة عمرة الإسلام، أما إذا مر بالميقات وهو يريد الأمرين: العمل والعمرة فلا بد أن يحرم من الميقات، ثم يكمل العمرة وينهي عمله، فإذا قال: هذا يشق علي؛ لأني سأبقى في جدة مثلا، وفي الجنوب قبل أن أصل إلى مكة. قلنا: لا تنوي العمرة في هذا السفر، اجعل العمرة في سفر آخر، والأمر ولله الحمد
واسع.
س 402: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل صعد الطائرة من مطار القصيم يريد الذهاب إلى أبها، والطائرة لابد أن(21/338)
تنزل في مطار الطائف، فلبس ملابس الإحرام في مطار القصيم، يريد أن يعتمر عند توقف الطائرة في الطائف ثم يعود للمطار ويواصل رحلته فلما نزل مطار الطائف قالوا: إن الطائرة سوف تقلع بعد نصف ساعة فخلع الملابس ولبس ملابسه العادية فماذا يلزمه علماً بأنه تزوج بعد ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله-: ما دام هذا الرجل لم يعقد النية وإنما تأهب، ويريد إذا نزل الطائف ذهب إلى مكة ومر بالميقات أحرم منه فالأمر في هذا سهل؛ لأنه لم يعقد النية، فإذا وصل إلى مطار الطائف وقد لبس ثياب الإحرام، وبدا له أن لا يأتي بعمرة فلا حرج عليه.
أما إذا كان قد تلبس بالإحرام أي عقد النية- ولا أظن أن هذا يقع كيف ينوى وهو لم يصل إلى الميقات- لكن إذا قدر أنه فعل ونوى فإنه يجب عليه الآن أن يكمل عمرته، فيخلع الثياب المعتادة، ويلبس ثياب الإحرام، ويكمل العمرة، فإذا كملها أعاد تجديد عقد النكاح؛ لأن العقد وقع عليه وهو في إحرام لم يحل من عمرته، وعقد المحرم النكاح باطل لا يصح، فهذه الطريقة الآن يذهب، يلبس ثياب الإحرام فوراً، ويذهب إلى مكة ويطوف ويسعى ويقصر وبهذا تتم عمرته، ثم يعيد عقد النكاح بعد التحلل من هذه العمرة؛ لأن عقده الإحرام وهو في عمرة عقد باطل لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا ينكح المحرم، ولا ينكح ولا يخطب " (1) .
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب النكاح، باب تحريم نكاح المحرم (رقم 1409) .(21/339)
س 403: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: شاب سافر يريد العمرة عن طريق المدينة ومعه زوجته كانت في عدة النفاس فقالت: إن طهرت أحرمت وإلا لم أحرم. ولم يحرم إلا من جدة
ومعه صبي صغير عمره ست سنوات لبس الإحرام ولم يؤد العمرة فماذا يلزمهم؟
فأجاب فضيلته بقوله-: أما بالنسبة للصبي فلا شيء عليه، لأن الصبي قد رفع عنه القلم، فلو أحرم ثم بعد ذلك سأم من الإحرام وتحلل فلا حرج.
وأما بالنسبة له هو فقد خالف أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإحرام من الميقات، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أن يحرم من أراد الحج والعمرة من الميقات، والرجل تجاوز الميقات ولم يحرم إلا في جدة، فعليه عند أهل العلم فدية تذبح في مكة وتوزع على الفقراء لأنه ترك واجباً.
أما بالنسبة للزوجة فلا شيء عليها ما دامت تخشى ألا تطهر إلا متأخرة وقالت: إن طهرت أحرمت وإلا لم أحرم، فلا حرج عليها أن تحرم حيث طهرت.
س 404: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى- أنا مقيم في مكة وأريد أن أزور المدينة فهل إذا رجعت من المدينة يلزمني أن أحرم؟ وهل تجوز زيارة المدينة في أشهر الحج؟
فأجاب فضيلته بقوله-: تجوز زيارة المدينة في أشهر الحج وغيرها، وإذا رجعت من المدينة إلى مكة فلا يلزمك أن تحرم.(21/340)
س 405: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل مقيم في المملكة وله زوجة سوف تحضر لأداء فريضة الحج في هذا العام من خارج المملكة وسوف يذهب إليها ويجلس معها بالمدينة لمدة
ثلاثة أيام أو أربعة فهل عليه شيء إذا جامعها خلال هذه المدة مع العلم بأنها سوف تكون محرمة وهو سوف يحرم في اليوم السابع من ذي الحجة؟
فأجاب فضيلته بقوله-: هي محرمة على حد قول السائل فلا يجوز أن تمكنه من نفسها، لكن الطريق، إذا جاءت المدينة وهي قاصدة المدينة أن لا تحرم لأنه يجوز للإنسان الذي يقدم مثلاً من مصر أو سورية أو غيرهما وهو يريد الحج ولكنه يريد أن يبدأ أولاً بالمدينة أن يؤجل الإحرام إلى أن يمر بذي الحليفة بعد انتهاء زيارة المدينة فيحرم منه، فنقول للأخ: اتصل بزوجتك وقل لا: لا تأتي محرمة بل تقصد المدينة رأساً، وإذا قابلها هناك فله أن يستمتع بها ثم يرجعان جميعاً إلى مكة ويحرمان من ذي الحليفة. وأنبه إلى أنه لابد للزوجة من محرم في قدوما من بلدها.
س 406: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: جماعة خرجوا من الدمام وفي نيتهم أن يؤدوا العمرة فمروا بالقصيم ثم المدينة ثم تجاوزوا الميقات ولم يحرموا، وذلك لأن في نيتهم البقاء في
الطائف لمدة خمسة أيام ثم بعدها يذهبون إلى الميقات وهو السيل ويحرمون منه فما حكم هذا العمل؟
فأجاب فضيلته بقوله-: نسأل هل نية هؤلاء الأخوة أن(21/341)
يذهبوا إلى الطائف، أو أن يذهبوا إلى العمرة؟ إذا كان نيتهم أن يذهبوا إلى الطائف فيعني ذلك أنهم مروا بالمدينة في طريقهم إلى الطائف لا إلى مكة فيحرمون من السيل، وأما إذا كانوا إنما أرادوا
العمرة فإنه يجب عليهم أن يحرموا من ذي الحليفة التي تسمى أبيار علي، وإذا أخروا الإحرام إلى الطائف فإن عليهم عند أهل العلم فدية على كل واحد بتركه واجب الإحرام إلا من لم يكن
قادراً فإن الله تعالى يقم ل: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا) (1) فمن ليس قادراً على ذبح الفدية فليس عليه شيء.
س 407: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: حاج متمتع أحرم من الميقات للعمرة، وبعد أداء العمرة قام بزيارة المسجد النبوي وفي العودة ما بين المدينة ومكة مر بالميقات وهو يريد الحج ولم
يحرم منه لكونه سيحرم من مكة لأنه متمتع فما الحكم في عدم إحرامه من ذي الحليفة؟
فأجاب فضيلته بقوله-: الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقت المواقيت وقال: "هن لهن ولمن مر عليهن من غير أهلهن ممن يريد الحج أو العمرة" (2) فإذا مررت بميقات وأنت تريد الحج أو العمرة فإن الواجب عليك أن تحرم منه، وأن لا تتجاوزه، وبناء على هذا فإن
__________
(1) سورة الطلاق، الآية: 7.
(2) تقدم ص 36-37.(21/342)
المشروع في حق هذا الرجل أن يحرم من ذي الحليفة حين رجع من المدينة؟ لأنه راجع بنية الحج فيكون مارًا بميقات وهو يريد الحج، فيلزمه الإحرام، فإذا لم يفعل، فالمعروف عند أهل العلم أنه من ترك واجباً من واجبات الحج فعليه فدية يذبحها في مكة ويوزعها على الفقراء.
والقول الثاني: أنه لا يلزمه أن يحرم من ذي الحليفة؟ لأنه مر بالميقات قاصدًا مكة التي هي محط رحله، والتي ينوي الإحرام منها لكونه متمتعًا بالعمرة إلى الحج فبناء على ذلك لا بأس بما عمله السائل والله أعلم.
س 408: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: لقد أديت فريضة الحج قبل سنوات مضت وكنت متمتعاً، فبعد أن أديت مناسك العمرة تحللت وخلعت ملابس الإحرام وذهبت إلى المدينة المنورة لزيارة قبر المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وعند الرجوع إلى مكة من المدينة لم أحرم
إلا يوم التروية بمكة فما حكم ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله-: قبل أن نجيب على سؤاله أود أن أنبه على ملاحظة قالها في سؤاله يقول: (إنه بعد أن أدى العمرة ذهب إلى المدينة ليزور قبر المصطفى - صلى الله عليه وسلم -) فأقول: الذي يذهب للمدينة ينبغي له أن ينوي شد الرحل إلى المسجد النبوي، لأن هذا هو المشروع، لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا،(21/343)
والمسجد الأقصى" (1) فالذي ينبغي لقاصد المدينة أن ينوي بشد الرحل للمسجد النبوي فيصلي فيه، فإن الصلاة فيه خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام يعنى مسجد الكعبة، هذه
ملاحظة ينبغي الاهتمام بها.
أما ما صنعه من كونه حج متمتعاً ثم أدى العمرة تامة، ثم خرج إلى المدينة بنية الرجوع إلى مكة للحج، ثم رجع إلى مكة ولم يحرم إلا يوم التروية مع الناس فلا أرى في ذلك بأسًا عليه؛ لأنه إنما مر بميقات أهل المدينة قاصداً مكة التي هي محط رحله، والتي لا ينوي الإحرام إلا منها لكونه متمتعاً بالعمرة إلى الحج.
ولكن هنا سؤال: هل يسقط عنه هدي التمتع لفصله بين العمرة والحج بسفر أو لا يسقط؟
في هذا خلاف ين أهل العلم- رحمهم الله- والراجح من أقوال أهل العلم أن دم الهدي لا يسقط عنه إذا لم يكن من أهل المدينة، فإن كان من أهل المدينة سقط عنه، لكنه إذا كان من أهل المدينة فلا يتجاوز الميقات حتى يحرم منه؛ لأنه أنشأ سمرًا جديداً للحج، وأما إذا لم يكن من أهل المدينة فإن التمتع لم ينقطع لكون السفر واحداً، ويبقى عليه الهدي كما لو لم يسافر إلى المدينة، وهذا هو المروي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- أن المتمتع إذا رجع إلى بلده ثم أنشأ سفراً جديداً للحج فإنه غير متمتع، وإن سافر إلى غير بلده فإنه لا يزال متمتعاً.
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة (رقم 1189) ومسلم، كتاب الحج، باب لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد (رقم 1397) .(21/344)
س 409: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل قدم للحج وميقاته يلملم ولكنه لم يحرم من الميقات ونزل بجدة وذهب إلى المدينة للزيارة ثم عاد إلى مكة وأحرم من ذي الحليفة فيهل عليه
شيء؟
فأجاب فضيلته بقوله-: هذا فيه تفصيل إن كان قصده المدينة من الأصل ثم يرجع فيحرم من ذي الحليفة فلا شيء عليه، وإن لم يقصد بأن كان يريد أن يذهب إلى مكة، لكن طرأ عليه في جدة أن يذهب إلى المدينة فهذا عليه دم لتركه الإحرام من الميقات الذي مر به وهو مريد للحج.
س 410: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل مقيم بالرياض يريد الحج ولكنه يرغب أن يهب إلى المدينة لزيارة بعض أقاربه فيهل يحرم من ميقات أهل نجد أو من ميقات أهل المدينة؟
فأجاب فضيلته بقوله-: لا ندري هل هو سيذهب إلى المدينة أولاً عن طريق المدينة إن كان كذلك فإنه يحرم من ميقات أهل المدينة من ذي الحليفة المسماة بأبيار علي، أما إذا كان يريد أن يذهب من طريق الرياض الطائف فليحرم من قرن المنازل ميقات أهل نجد، ثم يأتي بالعمرة، ثم يخرج إلى المدينة، هذا هو التفصيل في جواب سؤاله: أنه إن كان يريد الذهاب عن طريق المدينة إلى مكة أحرم من ذي الحليفة التي تسمى أبيار علي، وإن كان يريد الذهاب من الرياض إلى الطائف أو إلى مكة عن طريق(21/345)
الطائف فليحرم من قرن المنازل، المعروف بالسيل الكبير.
س 411: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما الحكم فيمن تجاوز الميقات بدون إحرام وهو يريد العمرة؟
فأجاب فضيلته بقوله-: الواجب على من أراد الحج أو العمرة ومرّ بالميقات أدن لا يتجاوز الميقات حتى يحرم منه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يهل أهل المدينة من ذي الحليفة" وكلمة "يهل " خبر بمعنى الأمر، وعلى هذا فيجب على من أراد الحج أو العمرة إذا مرّ بالميقات أن يهل منه ولا يتجاوزه، فإن فعل وتجاوز وجب عليه أن يرجع ليحرم منه، وإذا رجع وأحرم منه فلا فدية عليه، فإن أحرم من مكانه ولم يرجع فعليه عند أهل العلم فدية يذبحها ويوزعها على فقراء مكة.
س 412: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى- رجل دخل مكة غير محرم فهل عليه شيء في دخول مكة غير محرم؟
فأجاب فضيلته بقوله-: إذا كان قد أدى الفريضة فلا شيء عليه، وإن لم يؤد وجب عليه أن يؤدي العمرة.
س 413: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: امرأة حائض مرت بميقات المدينة في أواخر شهر رمضان ولجهلها ظنت أن الحائض لا يصح منها العمرة فلم تنوِ العمرة عند الميقات مع أنها(21/346)
كانت ناوية قبل أن يأتيها الحيض. فإذا طهرت هذه المرأة من الحيض في شهر شوال فمن أين تحرم؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا وصلت المرأة إلى الميقات وهي حائض ثم ألغت العمرة- يعنى فسخت نيتها- وقالت: ما دام جاءها الحيض فإنها تلغي العمرة، وتأتي بها في سفر آخر، فهذه إذا قدر أنها طهرت في وقت يمكنها تأتي بعمرة فإنها تحرم من المكان الذي نوت فيه العمرة، فمثلاً مرت بميقات أهل المدينة ذي الحليفة المسماة (بأبيار علي) وهي حائض، فقالت: ما دام أن الحيض قد أتاها فأنها ستفسخ النية، وتلغي العمرة فألغتها نهائيا ولما وصلت جدة طهرت، فقالت: ما دمت طهرت فإني سأعتمر، ففي هذه الحال تحرم من جدة، ولا حرج عليها، لأنها ألغت النية الأولى نهائيا. أما لو لم تلغِ النية الأولى، يعنى مرت بالميقات وهي حائض وظنت أن الحائض لا يصح منها التلبس بالإحرام
فقالت: سألغي التلبس بالإحرام الآن، فإذا طهرت أحرمت بالعمرة فإن هذه يجب عليها إذا طهرت أن ترجع إلى الميقات التي تجاوزته، وتحرم منه، ولا يحل لها أن تحرم من مكانها الذي طهرت فيه؛ لأن هذه لم تلغِ العمرة إنما ألغت الإحرام من الميقات، وفرق بين من ألغى النسك نهائيا، وبين من ألغى
الإحرام من الميقات، فالعمل الصحيح أنه إذا مرت المرأة وهي تنوي العمرة بالميقات وهي حائض أن تحرم وهي حائض، لأن إحرام الحائض صحيح، ولهذا لما ولدت أسماء بنت عميس - رضي الله عنها- أرسلت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كيف أصنع؟ فقال:(21/347)
"اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي " (1) فلم يجعل النبي عي النفاس مانعاً من الإحرام، بل قال: "اغتسلي واستثفرى بثوب وأحرمي " فنقول للمرأة التي مرت بالميقات وهي حائض تريد العمرة:
أحرمي بالعمرة، ولكن لا تطوفي بالبيت ولا بين الصفا والمروة حتى تطهري.
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب صفة حج النبي - صلى الله عليه وسلم - (رقم 1218) .(21/348)
رسالة
فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
هناك أسرة سافرت إلى مكة المكرمة، تريد العمرة، وعندما وصلت إلى الميقات كانت إحدى النساء قد حاضت فلم تحرم معتقدة أن الحائض لا تحرم، ثم عندما طهرت أحرمت من جدة واعتمرت، وأنا أعرف أن من تجاوز الميقات وهو يريد العمرة عليه دم، لكن لا أدري هل هذا مطرد في جميع الحالات حتى في حالة الجهل كمثل هذه الحالة. أرجو التكرم بالإجابة جزاكم الله خيراً.
بسم الله الرحمن الرحيم
نعم هو مطرد، لكن إن كان عالماً ذاكرًا فهو آثم مع الفدية، وإن كان معذوراً ففدية بلا إثم.
محمد الصالح العثيمين
22/7/1412 هـ(21/349)
س 414: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: امرأة ذهبت للعمرة ومرت بالميقات وهي حائض فلم تحرم وبقيت في مكة، حتى طهرت فأحرمت من مكة فهل هذا جائز؟
فأجاب فضيلته بقوله-: هذا العمل ليس بجائز، والمرأة التي تريد العمرة لا يجوز لها مجاوزة الميقات، بلا إحرام، حتى لو كانت حائضاً فإنها تحرم وهي حائض، وينعقد إحرامها ويصح. والدليل على ذلك أن أسماء بنت عميس زوجة أبي بكر - رضي الله عنهما- ولدت والنبي - صلى الله عليه وسلم - نازل في ذي الحليفة يريد حجة الوداع فأرسلت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كيف أصنع؟ قال: "اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي " (1) ودم الحيض كدم النفاس، فنقول للمرأة الحائض إذا مرت بالميقات وهي تريد العمرة أو الحج نقول لها: اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي، والاستفثار: معناه أنها تشد على فرجها خرقة وتربطها، ثم تحرم سواء بالحج أو بالعمرة، ولكنها إذا أحرمت ووصلت إلى مكة لا تأتي إلى البيت ولا تطوف به حتى تطهر ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة- رضي الله عنها- حين حاضت في أثناء العمرة، قال لها: "افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي في بالبيت حتى تطهري "، هذه رواية البخاري ومسلم (2) وفي صحيح البخاري أيضاً ذكرت عائشة
__________
(1) تقدم وهو عند مسلم (رقم 1218) .
(2) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف (رقم 1650) ومسلم، كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام وأنه يجوز إفراد الحج والتمتع والقران (رقم 1211) .(21/350)
- رضي الله عنها- "أنها لما طهرت طافت بالبيت وبالصفا والمروة" (1) فدل هذا على أن المرأة إذا أحرما بالحج، أو العمرة وهي حائض أو أتاها الحيض قبل الطواف فإنها لا تطوف ولا تسعى حتى تطهر وتغتسل، أما لو طافت وهي طاهر، وبعد أن انتهت من الطواف جاءها الحيض فإنها تستمر وتسعى ولو كان عليها الحيض، وتقص من رأسها وتنهي عمرتها؛ لأن السعي بين الصفا والمروة لا يشترط له الطهارة.
س 415: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: امرأة نوت العمرة وهي في بلدها في الجنوب قبل شهر رمضان بثلاثة أيام وبعد أن أحرمت ونوت العمرة غيرت نيتها على أن تفسخ النية وتعتمر في
رمضان وذلك قبل وصولها للميقات، ثم وصلت مكة ولم تعتمر إلا في رمضان وأحرمت من الشرائع، فهل هذا العمل صحيح؟ وهل يترتب على فسخها للنية شيء وما حكم ما فعلته من المحظورات؟
فأجاب فضيلته بقوله-: هذا العمل غير صحيح؛ لأن الإنسان إذ دخل في عمرة أو حج حرم عليه أن يفسخه إلا لسبب شرعي قال الله تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) (2) فعلى هذه المرأة أن تتوب إلى الله عز وجل مما صنعت.
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف (رقم 1651) .
(2) سورة البقرة، الآية: 196.(21/351)
وعمرتها صحيحة لأنها وإن فسخت العمرة فإنها لا تنفسخ العمرة، وهذا من خصائص الحج، والحج له خصائص عجيبة لا تكون في غيره، فالحج إذا نويت إبطاله لم يبطل، وغيره من العبادات إذا نويت إبطاله بطل، فلو أن الإنسان وهو صائم نوى إبطال صومه بطل صومه، ولو أن المتوضىء أثناء وضوئه نوى إبطال الوضوء بطل الوضوء.
لو أن المعتمر أثناء العمرة نوى إبطالها لم تبطل، أو نوى إبطال الحج أثناء تلبسه بالحج لم يبطل.
ولهذا قال العلماء: إن النسك لا يرتفض برفضه.
وعلى هذا نقول: إن هذه المرأة ما زالت محرمة منذ عقدت النية إلى أن أتمت العمرة، ويكون نيتها الفسخ غير مؤثرة فيه، بل هي باقية عليه.
وسؤالنا الآن: هل هذه المرأة أدركت عمرة في رمضان أم لم تدرك؟
الجواب: لم تدرك عمرة في رمضان لأن إحرامها كان قبل رمضان بثلاثة أيام، والمعتمر في رمضان لا بد أن تكون عمرته من ابتداء الإحرام إلى انتهائه في رمضان، وبناء على ذلك نأخذ مثالاً آخر:
لو أن رجلاً وصل إلى الميقات في آخر ساعة من شعبان وأحرم بالعمرة تم غربت الشمس ودخل رمضان بغروب الشمس، ثم قدم مكة وطاف وسعى وقصر هل يقال: إنه اعتمر في رمضان؟
الجواب: لا؛ لأنه ابتدأ العمرة قبل دخول شهر رمضان.
مثال ثالث: رجل أحرم بالعمرة قبل غروب الشمس من آخر(21/352)
يوم من رمضان وطاف وسعى للعمرة في ليلة العيد فهل يقال: إنه اعتمر في رمضان؟
الجواب: لا، لأنه لم يعتمر في رمضان؛ لأنه أخرج جزءاً من العمرة عن رمضان، والعمرة في رمضان من ابتداء الإحرام إلى انتهائه.
وخلاصة الجواب: بالنسبة للمرأة نقول: إن عمرتها صحيحة، ولكنها لم تدرك العمرة في رمضان، وإن عليها أن لا تعود لرفض الإحرام مرة ثانية، لأنها لو رفضت الإحرام لم تتخلص منه.
وأما ما فعلته من المحظورات ولنفرض أن زوجها جامعها، والجماع في النسك هو أعظم المحظورات فإنه لا شيء عليها؛ لأنها جاهلة، وكل إنسان يفعل محظورًا من محظورات الإحرام جاهلاً، أوناسياً، أومكرهاً فلا شيء عليه.
س 416: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: امرأة ذهبت إلى العمرة وهي حائض وبعد أن طهرت أحرمت من البيت فهل يجوز ذلك؟ وإذا كان لا يجوز فماذا عليها أن تفعل وما الكفارة؟ تقول مع العلم بأنني لا أعلم بحكم ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله-: لا يجوز الإحرام من البيت في مكة للعمرة لا لأهل مكة ولا لغيرهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما أرادت عائشة- رضي الله عنها- أن تأتي بعمرة من مكة أمر أخاها عبد الرحمن بن أبي بكر- رضي الله عنهما- أن(21/353)
يخرج معها إلى التنعيم وعلى هذا فهذه المرأة يجب عليها على ما ذكره أهل العلم دم، أي ذبح شاة بمكة توزع جميع لحمها على الفقراء، ولما كانت جاهلة لا تعلم سقط عنها الإثم، لكن الفدية لا تسقط، لأنها عمن ترك واجبًا، ثم إن المشروع في حقها أنها لما وصلت الميقات أحرمت ولو كانت حائضاً، فإن إحرام الحائض لا بأس به؛ لأن أسماء بنت عميس زوج أبي بكر- رضي الله عنهما-
ولدت في ذي الحليفة عام حجة الوداع فأرسلت إلى النبي كيف تصنع؟ قال لها: "اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي " (1) وعلى هذا إذا مرت المرأة بالميقات وهي حائض أو نفساء فإنها تغتسل وتحرم كسائر الناس إلا أنها لا تطوف بالبيت ولا تسعى بين الصفا والمروة حتى تطهر فتطوف ثم تسعى.
س 417: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل تجاوز الميقات بدون إحرام وهو مريد للحج ولكنه كان جاهلاً فماذا يلزمه؟
فأجاب فضيلته بقوله-: من ترك الإحرام من الميقات مع أنه مر به وهو يريد النسك فإن هذا لا يجوز؛ لأنه من تعدى حدود الله؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقت هذه المواقيت وقال: "هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن يريد الحج أو العمرة" (2) فمن جاوزها وهو يريد الحج والعمرة بدون إحرام فقد تعدى حدود
__________
(1) تقدم ص 350.
(2) تقدم ص 36-37.(21/354)
الله: (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) فعليه أن يتوب إلى الله مما صنع. وعلى ما تقتضيه قواعد أهل العلم يجب عليه أن يذبح فدية بمكة يوزعها على الفقراء، والفدية واحدة من الغنم، أو سبع
بدنة، أو سبع بقرة، وذلك لأن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: "من ترك شيئاً من نسك أو نسيه فليهرق دماً" (1) ولكن هذا السائل ذكر أنه كان جاهلاً بالحكم الشرعي وإذا كان جاهلاً فلا إثم عليه ولكن عليه الفدية التي ذكرناها من قبل.
س 418: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: أصبح الحج عن طريق الحملات، فهل يجوز لي إن لم أستطع دفع تكاليف الحملة وخاصة أن معي أهلي، أن أذهب إلى مكة وأحرم من هناك وما
الأمور التي تترتب على ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله-: إذا كان حجُّك فريضة وكان يمكنك أن تذهب إلى مكة فيجب عليك الذهاب، ولكن لابد أن تحرم من الميقات، لأنك تريد الحج والعمرة. ولا يحل لمن أراد الحج، أو
العمرة أن يتجاوز الميقات بلا إحرام. وإذا كان لا يستطيع دفع تكاليف الحملة فليس عليه حج، لأنه غير مستطيع.
__________
(1) أخرجه مالك في موطأ كتاب الحج، باب ما يفعل من نسي من نسكه شيئاً (1/383 رقم 977) والبيهقي في سننه الكبرى (5/152- 153) وقال في التعليق المغني "رواته كلهم ثقات".(21/355)
س 419: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: المقيمون في هذه البلاد لا يسمح لهم بالحج إلا بعد مضي خمس سنوات على آخر حجة فهل يجوز لنا أن نحج بالوصول إلى مكة من طريق ليس فيه
تفتيش، أو نمشي على الإقدام، وإن منعنا فهل نعتبر من المحصرين أم لا؟
فأجاب فضيلته بقوله-: الأولى لمن حج ولا ينطبق عليه الترخيص أن يقول عند الإحرام، إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني، حتى إذا منع تحلل ورجع بدون إحرام، أو تحلل وبقي في مكة، المهم أنه يحل بدون أن يكون عليه دم إحصار هذا هو الأولى حتى يسلم من الأمور التي قد تكون عاقبتها له غير حميدة، ثم نقول: إذا أدى الإنسان الفريضة فالباقي تطوع، ولا ينبغي للإنسان أن يعرض نفسه للخطر، أو أن يتخذ آيات الله هزوا فيحرم بثيابه المعتادة.
س 420: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: إذا دخل الأفاقي مكة بدون إحرام من أجل أن يتحايل على ولاة الأمر بعدم إرادة الحج، ثم أحرم من مكة فهل حجه صحيح؟ أفتونا جزاكم الله عنا وعن المسلمين خيرًا.
فأجاب فضيلته بقوله-: أما حجه فصحيح، وأما فعله فحرام، من وجهين:
أحدهما: تعدي حدود الله سبحانه وتعالى بترك الإحرام من الميقات.(21/356)
والثاني: مخالفة أمر ولاة الأمور الذين أمرنا بطاعتهم في غير معصية الله، وعلى هذا فيلزمه أن يتوب إلى الله ويستغفره مما وقع، وعليه فدية يذبحها في مكة ويوزعها على الفقراء، لتركه الإحرام من الميقات، على ما قاله أهل العلم من وجوب الفدية على من ترك واجباً من واجبات الحج أو العمرة.
س 421: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: أتيت إلى العمرة مرتين ولم أحرم من الميقات فما يلزمني؟
فأجاب فضيلته بقوله-: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله أصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين: لا يجوز للإنسان إذا مر بالميقات وهو يريد الحج أو العمرة أن يتجاوزه إلا بإحرام؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فرض هذه المواقيت فقال: "هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن يريد الحج أو العمرة" (1) فإن تجاوز الميقات بدون إحرام وأحرم من دونه، فإن أهل العلم يقولون: إن عليه فدية يذبحها في مكة، ويوزعها على الفقراء، ولا يأكل منهما شيئاً.
ثم إنني بهذه المناسبة أود أن أحذر إخواننا من التهاون بهذا الأمر؛ لأن بعض الناس يتهاون- ولا سيما الذين يقدمون مكة عن طريق الجو- فإن منهم من يتهاون ولا يحرم إلا من جدة، وهذا غلط؛ لأن محاذاة الميقات من فوق كالمرور به من تحت، ولهذا لما شكا أهل العراق إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب- رضي
__________
(1) تقدم ص 36-37.(21/357)
الله عنه- أن قرن المنازل جور عن طريقهم- أي بعيد عن طريقهم- قال: انظروا إلى حذوها من طريقكم فالواجب على من أراد الحج أو العمرة أن لا يتجاوز الميقات حتى يحرم سواء أكان ميقاته، أو ميقات البلد الذي مر به، فإذا قدر أن شخصاً أقلع من مطار القصيم يريد العمرة فإن الواجب عليه أن يحرم إذا حاذى ميقات أهل المدينة ولا يتجاوزه، وفيما إذا كان يخشى من أن لا يحرم من
الميقات فليحرم من قبل ولا يضره؛ لأن الإحرام من قبل الميقات لا يضره شيئاً، ولكن تأخير الإحرام بعد الميقات هو الذي يضر الإنسان، فينبغي للإنسان أن ينتبه لهذه الحال حتى لا يقع في الخطأ، وكذلك لو جاء عن طريق البر ماراً بالمدينة فإن الواجب عليه أن يحرم من ذي الحليفة، ولا يجوز أن يؤخر الإحرام إلى ما بعد الميقات.
س 422: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: اعتمرت في أول شوال ثم ذهبت إلى تبوك وقدمت إلى الحرم بدون إحرام لأنني أعتبر نفسي متمتعاً بالعمرة إلى الحج فما حكم تجاوزي للميقات
على هذه النية بدون إحرام؟
فأجاب فضيلته بقول-: مثل هذا نقول إذا كان اعتماره في شوال بنية الحج هذا العام فهو متمتع؟ لأنه تمتع بالعمرة إلى الحج وحينئذ إذا ذهب إلى تبوك لعذر أو لغرض وبنيته أن يرجع إلى مكة
سريعاً فلا حرج عليه أن يدخل إلى مكة، ويبقى إلى أن يأتي(21/358)
يوم الثامن من ذي الحجة فيحرم من مكانه، وإما إذا كان دخل مكة في شوال وليس نيته أن يحج هذا العام وإنما جاء معتمراً فقط، ثم رجع إلى تبوك فإنه إذا رجع إلى مكة لا يتجاوز الميقات إلا
محرماً، لأنه ليس من نيته الرجوع إلى مكة في هذا السفر. أما إذا ذهب إلى تبوك للعمل فإنه إذا رجع إلى مكة يحرم من الميقات.
س 423: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: نحن من موظفي الدولة كل سنة ننتدب من قبل الدولة إلى مكة المكرمة من أول شوال فإذا ذهبنا إلى مكة أخذنا العمرة ثم وزعتنا الدولة أو وزعنا
رؤساؤنا في الدولة فمنا من يذهب إلى جدة. ومنا من يذهب إلى الليث، والطائف، والمدينة، قبل اليوم الثامن بيومين أو ثلاثة نعود إلى مكة فهل يلزمنا الإحرام قبل الدخول إلى مكة أم نحرم من
أماكننا التي نعيش فيها؟
فأجاب فضيلته بقوله-: تحرمون في هذه الحال من الميقات، لأنكم حينما خرجتم من مكة خرجتم إلى أداء عمل فإذا رجعتم إلى مكة فقد مررتم بالميقات وأنتم تريدون الحج، فعليكم أن تحرموا من الميقات، فالذي في الطائف يحرمون من السيل، الذين في الجهة الأخرى يحرمون إذا مروا من مواقيتهم.
س 424: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: فرقتم في الجواب السابق والذي قبله بين من خرج لغرض ورجع سريعًا وبين(21/359)
من خرج للعمل فما هو الفرق؟
فأجاب فضيلته بقوله: الفرق بين الخروجين أنه إذا خرج إلى عمل فقد انفصل الدخول الأول والثاني، أما إذا خرج إلى غرض ورجع سريعاً فإنه لا يكون هذا السفر منقطعًا عن هذا السفر؛ لأنه في الحقيقة بمنزلة الباقي في مكة حكماً.
س 425: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى- الذي يأتي للعمل في مكة قبل الحج بأيام ثم يأتيه الحج هل له أن يحج مفرداً، وإن كان قد اعتمر في أشهر الحج ثم سافر؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا اعتمر في أشهر الحج ثم رجع إلى بلده ورجع من بلده مفرداً فهو مفرد، أما إذا اعتمر وذهب إلى بلد آخر، فهذا اختلف العلماء فيه إذا سافر بين العمرة والحج مسافة
قصر لغير بلده، فمنهم من يرى أنه إذا سافر إلى بلد مسافة قصر بين العمرة والحج إلى غير بلده أو إلى بلده فإن التمتع ينقطع، ويسقط عنه هدي المتمتع، ومنهم من يرى أن من سافر إلى بلده انقطع عنه التمتع؛ لأنه في الحقيقة انشأ سفراً جديداً، وأما إذا ذهب إلى غير بلده، لو فوق المسافة فإنه لا ينقطع؛ لأنه ما زال في سفر وهذا هو الراجح.
س 426: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: لقد قمنا بأداء فريضة الحج العام الماضي وكان من المفروض أن نحرم من أبيار علي ولكننا لم نتمكن من ذلك وأحرمنا من مكة فما الحكم في(21/360)
ذلك، علماً بأني أديت الفريضة مع زوجتي وأخي وزوجته فإذا كان هناك حكم فهل أأديه عن أخي أم هو يؤديه عن نفسه وعن زوجته علما بأنه غير موجود بالمملكة أفيدونا وجزاكم الله خيراً؟
فأجاب فضيلته بقوله-: الإحرام من الميقات لمن أراد الحج والعمرة واجب؟ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فيما صح عنه من حديث ابن عمر- رضي الله عنهما- قال: "يهل أهل المدينة من ذي الحليفة" (1) وذكر تمام الحديث، وهذا الخبر بمعنى الأمر، وفي الصحيحين من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: (وقت النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل المدينة ذي الحليفة) (2) الحديث وعلى هذا فلا يحل لمن أراد الحج أو العمرة أن يتجاوز الميقات بدون إحرام، فإن فعل وتجاوز الميقات بغير إحرام وأحرم من مكة، أو ما بين مكة والميقات فعليه على ما ذكر أهل العلم فدية يذبحها في مكة ويفرقها على المساكين، والفدية شاة أنثى من الضأن أو ذكر من الضأن، أو أنثى من الماعز، أو ذكر من الماعز، وعلى هذا فيجب على هذا السائل عن نفسه شاة، وعن زوجته شاة، وعلى أخيه شاة وعلى زوجة أخيه شاة، وإذا كان أخوه وزوجته خارج البلد فلا حرج أن يبلغهما بما يجب عليهما يوكلاه هو في أداء الواجب عليهما من الفدية، لأن التوكيل في مثل هذا جائز.
__________
(1) تقدم ص 36-37.
(2) تقدم ص 36-37.(21/361)
س 427: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: توجهنا من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة نريد العمرة فتجاوزنا الميقات لجهلنا بمكانه ولم ينبهنا الناس إلا على بعد مائة وخمسين كيلو مترًا ولكننا لم نعد وإنما توجهنا إلى الجعرانة وأحرمنا منها فهل عمرتنا صحيحة وإذا لم تكن كذلك فماذا يجب علينا فعله؟
فأجاب فضيلته بقوله-: الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين: جوابنا على هذا السؤال أن العمرة صحيحة، لأنكم أتيتم بأركانها تامة أتيتم بالإحرام والطواف والسعي، ولكن عليكم عند أهل العلم فدية وهي شاة تذبحونها في مكة وتوزعونها على الفقراء، وذلك لأنكم تركتم الإحرام من الميقات، والإحرام من الميقات من الواجبات لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقت هذه المواقيت وقال: "يهل أهل المدينة من ذي الحليفة" قال (يهل) وكلمة يهل خبرٌ بمعنى الأمر، والأصل في الأمر الوجوب، وعلى هذا فقد تركتم واجباً، لكن
نظراً لكونكم معذورين للجهل فيسقط عنكم الإثم، ولكن بدل هذا الواجب وهو الفدية شاة تذبحونها توزعونها بمكة لابد منه عند أهل العلم، فعلى هذا تكون العمرة صحيحة ويلزمكم الدم كما قال ذلك العلماء.
س 428: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: امرأة قصدت مكة عن طريق الطائرة بنية العمرة وعندما قرب المكان الذي يحرم الناس منه نادى أن أحرموا ولكن لم تنتبه لذلك إلا بعد فوات مكان(21/362)
الإحرام ثم بعد مدة نوت الإحرام وقضت العمرة فهل هذه العمرة صحيحة؟
فأجاب فضيلته بقوله-: نعم العمرة صحيحة وليس فيها شيء، إلا أنها تركت الواجب وهو الإحرام من الميقات فعليها عند أهل العلم فدية تذبح في مكة وتوزع على الفقراء، إن كانت قادرة وإن لم تكن قادرة فليس عليها شيء.
س 429: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ذهبت إلى مكة للعمرة فمررت بالميقات السيل الكبير فلم أحرم منه بل اتجهت إلى مكة مباشرة واستأجرت فيها ثم ذهبت من مكة إلى الميقات
السيل الكبير وأحرمت منه وأديت العمرة، وقد قال لي بعض الإخوان: عليك دم؛ لأنك لم تحرم من الميقات قبل دخول مكة فهل هذا صحيح؟
فأجاب فضيلته بقوله-: ليس عليك دم لأنك لم تحرم دون الميقات، بل رجعت إلى الميقات وأحرمت منه، وبهذا زال موجب الدم، أما لو أحرمت من مكة أو ما دون الميقات ولو خارج مكة، فإن عليك دماً تذبحه في مكة وتوزعه على الفقراء، لكن ما دمت رجعت إلى الميقات وأنت محل ثم أحرمت من الميقات فلا شيء عليك.
ونوجه إخواننا الذين يتسرعون في الفتوى ونقول لهم: إن الأمر خطير؛ لأن المفتي يعبر عن شريعة الله، فهل هو على استعداد إذا لاقي الله عز وجل وسأله عما أفتى به عباده من أين لك(21/363)
الدليل؟ إن المفتي بلا علم وليس عنده دليل حتى لو أصاب فقد أخطأ لقول الله تبارك وتعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)) (1) والقول على الله بلا علم يشمل
القول عليه في ذاته وأسمائه وصفاته وأحكامه، وقال الله تعالى: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)) (2) وقال تعالى: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ) (3) وفي الحديث: "أجرؤكم على الفتيا
أجرؤكم على النار" (4) وكان السلف- رحمهم الله- يتباعدون الفتيا حتى تصل إلى من يتعين عليه الإجابة، وإني أقول لهؤلاء الذين يريدون أن يسبقوا إلى السؤدد والإمامة أقول لهم: اصبروا
فإن كان الله قد أراد بكم خيراً ورفعة حصلتم ذلك بالعلم، وإن كانت الأخرى فإن جرأتكم على الفتيا بلا علم لا تزيدكم إلا ذلا بين العباد وخزيًا يوم المعاد، وإني لأعجب من بعض الأخوة الذين
أوتوا نصيباً قليلًا من العلم أن يتصدروا للإفتاء، وكأن الواحد منهم إمام من أئمة السلف، حتى قيل لي عن بعضهم حين أفتى بمسألة شاذة ضعيفة إن الإمام أحمد بن حنبل يقول سوى ذلك، فقال هذا المفتي لمن أورد عليه هذا الإيراد: (ومن أحمد بن
__________
(1) سورة الأعراف، الآية: 33.
(2) سورة الإسراء، الآية: 36.
(3) سورة الأنعام، الآية: 144.
(4) أخرجه الدارمي، في المقدم، باب الفتيا وما فيه من الشدة (رقم 159) وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (رقم 1814) وضعيف الجامع (رقم 147) .(21/364)
حنبل؟! أليس رجلاً؟! إنه رجل، ونحن رجال) . ولم يعلم الفرق بين رجولته التي ادعاها، ورجولة الإمام أحمد إمام أهل السنة - رحمه الله- وأنا لست أقول إن الإمام أحمد قوله حجة، لكن لا
شك أن قوله أقرب إلى الصواب من قول هذا المفتي الذي سلك بدايات الطريق والله أعلم بالنيات.
س 430: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل يقول: ذهبت لتأدية العمرة وتجاوزت ميقات الإحرام، ودخلت مكة المكرمة عند أذان الفجر، فدخلت المسجد الحرام وصليت الفجر
وأنا في هذا الوقت لا أعرف الميقات، وعندما خرجت من الحرم سألت عن مسجد الإحرام فدلني أحد الأشخاص على مسجد التنعيم، فذهبت إليه وأحرمت من هناك ورجعت وأديت مناسك
العمرة، وأنا في اعتقادي بأن هذا هو ميقات الإحرام، وعندما رجعت حيث أقيم قال لي أحد الأشخاص: إن عمرتك غير صحيحة، وقال آخر: عمرتك صحيحة وعليك فدية، أما الثالث فقال: يكفيك الإحرام من التنعيم فهل العمرة صحيحة أم علي فدية؟
فأجاب فضيلته بقوله-: العمرة صحيحة؛ ولأنك أتيت بأركانها أحرمت وطفت وسعيت وقمت بالتقصير أيضاً أو الحلق؛ لكن عليك فدية؛ لأنك تركت واجباً، وهو الإحرام من الميقات، فالواجب عليك حين قدمت أن تحرم من الميقات الذي تمر به فلتركك هذا الواجب أوجب العلماء عليك فدية تذبحها في مكة وتوزعها على الفقراء هناك.(21/365)
وتوجيهنا لمن يفتي بغير علم أنه يحرم على الإنسان أن يسارع في الفتيا بغير علم لقول الله تبارك وتعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)) (1) ولقول الله تبارك
وتعالى: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)) (2) ولقول الله تعالى: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)) (3) وربما يدخل هذا في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار" (4) وفي الأثر "أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار" (5) وكان السلف- رحمهم الله- يتدافعون الفتيا كل منهم يحيلها على الآخر، ولكن الذي يظهر لي أن هذا السائل لم يفته أحد من العلماء، لكنها فتوى مجالس من العامة، أي قاله كل واحد منهم أظن أن عليك كذا ومع ذلك فإننا لا نعذره؛ لأن الواجب عليه أن يسأل أهل العلم الذين هم أهل للإفتاء، لكنني أحذر صغار الطلبة الذين يسرعون في الإفتاء فتجد الواحد منهم يعرف دليلاً في مسألة وقد يكون هذا الدليل عاما مخصوصاً،
__________
(1) سورة الأعراف، الآية: 33.
(2) سورة الأنعام، الآية: 144.
(3) سورة الإسراء، الآية: 36.
(4) أخرجه الترمذي كتاب تفسير القرآن، باب ما جاء في الذي يفسر القرآن برأيه (رقم 2950، 2951) وقال: هذا حديث حسن.
(5) تقدم ص 364.(21/366)
أو مطلقاً مقيداً، أو منسوخاً غير محكم، فيتسرع في الفتيا على ضوئه دون أن يراجع بقية الأدلة، وهذا غلط محض يحصل به إضلال المسلمين عن دينهم، ويحصل به البلبلة والإشكال حتى فيما يقوله العلماء الذين يفتون عن علم؛ لأن هذا الإفتاء الذي حصل لهم بغير علم والذي فيه مخالفة الحق ربما يضعه الشيطان في قلوبهم موضع القبول، فيحصل بذلك عندهم التباس وشك، لهذا نقول لإخواننا: إياكم والتسرع في الفتيا واحمدوا ربكم أنه ألزمكم أن لا تقولوا بشيء إلا عن علم أو عن بحث تصلونا فيه على الأقل إلى غلبت في الظن، وكم من مفسدة حصلت بالإفتاء بغير علم، فربما يحصل بذلك إفطار في صوم، أو قضاء صوم غير واجب، أو ربما تصل إلى حد أبلغ وأكبر مما ذكر، ويرد علينا أمور كثيرة في هذا الباب والله المستعان.
س 431: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل منتدب لمكة للعمل في موسم الحج وقال: إن أذن لي مرجعي بالحج فسوف أحج. وأخذ معه ملابس الإحرام، والغالب على ظنه أن مرجعه سوف يأذن له، فإذا أذن مرجعه فمن أين يحرم؟ وهل يلزمه الرجوع للميقات الذي مر به؟
فأجاب فضيلته بقوله-: الرجل الذي في مهمة لا يدري أيؤذن له أو لا، لا يلزمه الإحرام من الميقات، فإن أذن له أحرم من المكان الذي فيه الإذن.(21/367)
س 432: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: جماعة ذهبوا للحج بالنقل الجماعي ولم ينتبه السائق للميقات إلا بعد أن تجاوزه بمائة كيلو فطالبه الركاب بالرجوع للميقات ليحرموا منه فرفض
العودة إليه وواصل الرحلة حتى وصلوا إلى جدة فماذا يلزمهم؟
فأجاب فضيلته بقوله-: الواجب على السائق أن يتوقف عند الميقات ليحرم الناس منه؛ فإن نسي ولم يذكر إلا بعد مائة كيلو كما قال السائل فإن الواجب عليه أن يرجع بالناس حتى يحرموا من الميقات، لأنه يعلم أن هؤلاء يريدون العمرة أو يريدون الحج فإذا لم يفعل وأحرموا من مكانهم أي بعد تجاوز الميقات بمائة كيلو فإن عليهم على كل واحد فدية يذبحها في مكة، ويوزعها على الفقراء لأنهم تركوا واجباً من واجبات النسك سواء في حج أو عمرة، وفي هذه الحال لو حاكموا هذا السائل لربما حكمت المحكمة عليه بغرم ما ضمنوه من هذه الفدية، لأنه هو الذي تسبب لهم في غرمها، وهذا يرجع إلى المحكمة إذا رأى القاضي أن من المصلحة أن يقول للسائق: عليك قيمة الفدا التي ذبحها هؤلاء؟ لأنك أنت الذي اعتديت عليهم والنسيان منك أنت فرطت أولا ثم اعتديت عليهم ثانيا بمنعهم من حق الرجوع.
س 433: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل لم يعقد نية الإحرام إلا بعد أن تجاوز الميقات جاهلاً، وكذلك لبس ثوبه قبل أن يحلق شعره ناسياً؟
فأجاب فضيلته بقوله-: أما المسألة الأولى: الذي لم يحرم(21/368)
من الميقات جاهلاً فلا إثم عليه، لكن عليه عند العلماء أن يذبح فدية في مكة توزع على الفقراء لأنه ترك واجباً. والثانية وهي كونه لبس قبل أن يقصر ناسياً فلا شيء عليه أيضًا.
س 434: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل يريد الذهاب إلى مكة في أول يوم من أيام الحج بدون أن يحرم فإذا جاء اليوم الثامن أحرم مفردا فهل يصح هذا الفعل ومن أين يحرم؟
لْأجاب فضيلته بقوله-: الواجب على من أراد الحج والعمرة إذا مر بالميقات أن يحرم منه، ولا يحل له أن يؤخر؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يهل أهل المدينة من ذي الحليفة، وأهل الشام
من الجحفة، وأهل اليمن من يلملم، وأهل نجد من قرن " (1) وفي لفظ "أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يهل أهل المدينة من ذي الحليفة" (2) إلى آخره، فلا يحل للإنسان إذا مر بالميقات وهو يريد الإحرام بالحج أو العمرة أن يتجاوز الميقات بلا إحرام، فإن فعل قلنا له: ارجع وأحرم من الميقات، فإن أحرم من غير الميقات لزمه عند العلماء دم يذبح في مكة ويوزع على الفقراء في مكة.
س 435: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى: رجل ترك الإحرام من الميقات للعمرة فما حكم ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله-: أولا: يجب أن نعلم أنه لا يحل
__________
(1) تقدم ص 36-37.
(2) تقدم ص 36-37.(21/369)
لإنسان أن يتجاوز الميقات وهو يريد الحج أو العمرة إلا أن يحرم منه، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقت المواقيت، وأمر بالإحرام منها لمن أتاها وهو يريد الحج أو العمرة.
ثانيا: إذا فعل الإنسان هذا- أي تجاوز الميقات بلا إحرام وهو يريد الحج أو العمرة- فإنه آثم عاص لله ورسوله، وعليه عند أهل العلم فدية يذبحها في مكة ويوزعها على الفقراء، ولا يأكل منها شيئاً، جبراً لما ترك من واجب الإحرام حيث ترك واجباً في الإحرام، وهو ألن يكون الإحرام من الميقات.
س 436: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: أديت فريضة الحج ولم أحرم بالحج من الميقات إلا بعد أن تجاوزت هذا الميقات، لأنني كنت أجهل مناسك الحج، وقرأت بأن الإحرام من أركان الحج، ومن ترك الإحرام فلا حج له، فماذا يلزمني هل أعيد الحج؟
فأجاب فضيلته بقوله: من المعلوم أن المواقيت التي وقتها الرسول عليه الصلاة والسلام يجب على كل من مر بها وهو يريد الحج أو العمرة أن يحرم منها؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أمر بذلك، فمن تجاوزها وهو يريد الحج أو العمرة ولم يحرم وأحرم من دونها فإن عليه عند أهل العلم فدية جبراً لما ترك من الواجب، يذبحها بمكة ويوزعها كلها على الفقراء، ولا يأكل منها شيئاً.
وأما قول العلماء: إن الإحرام ركن، فمرادهم بالإحرام نية(21/370)
النسك، لا أن يكون الإحرام من الميقات؛ لأن هناك فرقاً بين نية النسك وبين كون النية من الميقات، فمثلاً قد يتجاوز الإنسان الميقات ولا يحرم ثم يحرم بعد ذلك فيكون هنا أحرم وأتى بالركن، لكنه ترك واجباً وهو كون الإحرام من الميقات، والرجل حسب ما فهمنا من سؤاله قد أحرم بلا شك، لكنه لم يحرم من الميقات فيكون حجه صحيحاً، ولكن عليه فدية عند أهل العلم تذبح في مكة وتوزع على الفقراء، إن استطاع أن يذهب هو بنفسه وإلا فليوكل أحداً، وإن لم يجد من يوكله ولم يستطع أن يذهب فمتى وصل إلى مكة في يوم من الأيام أدى ما عليه.
وأوجه هؤلاء وغيرهم ممن يعبدون الله تعالى على غير علم فإن كثيراً من الناس يصلون ويخلون بالصلاة وهم لا يعلمون وإن كان هذا قليلاً؛ لأن الصلاة والحمد لله تتكرر في اليوم خمس مرات ولا نخفى على أحكامها الكلية العامة على أحد، لكن الحج هو الذي يقع فيه الخطأ كثيراً لا من العامة ولا من بعض طلبة العلم الذين يفتون بغير علم، لذلك أنصح إخواني المسلمين وأقول: إذا أردتم الحج فاقرأوا أحكام الحج على أهل العلم الموثوقين بعلمهم وأمانتهم، أو ادرسوا من مؤلفات هؤلاء العلماء ما تهتدون به إلى كيفية أداء الحج، وأما أن تذهبوا إلى الحج مع الناس ما فعل الناس فعلتموه، وربما أخللتم بشيء كثير من الواجب فهذا خطأ، وإني أضرب لهؤلاء الذين يعبدون الله تعالى على غير علم مثلاً برجل أراد أن يسافر إلى المدينة وهو لا يعرف الطريق فهل هو يسافر بدون أن يعرف الطريق؟ أبداً لا يمكن أن يسافر إلا إذا عرف(21/371)
الطريق، إما برجل يكون دليلاً له يصاحبه، وإما بوصف دقيق يوصف له المسير، وإما بخطوط مضروبة على الأرض ليسير الناس عليها، وإما أن يذهب هكذا يعوم في البر فإنه لا يمكن أن يذهب، وإذا كان هذا في الطريق الحسي فلماذا لا نستعمله في الطريق المعنوي الطريق الموصل إلى الله؟! فلا نسلك شيئاً مما يقرب إلى الله إلا ونحن نعرف أن الله تعالى قد شرعه لعباده، هذا هو الواجب على كل مسلم أن يتعلم قبل أن يعمل، ولهذا بوَّب البخاري- رحمه الله- في كتابه الصحيح فقال: (باب العلم قبل القول والعمل) ثم استدل على ذلك بقوله تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) (1) .
س 437: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل يريد العمرة ولكنه ذهب إلى قريب له في الشرائع ولم يحرم من الميقات يريد الراحة عند قريبه ثم يرجع إلى الميقات ويحرم منه فهل هذا جائز
وما الأفضل في حقه؟
فأجاب فضيلته بقوله: الأفضل أن لا يتجاوز الميقات حتى يحرم، ويمكنه أن يستريح عند أقاربه وهو محرم، والناس لا يرون في هذا بأسًا ولا خجلاً ولا حياءً، لكن لو فعل وقال: أستريح ثم
أرجع إلى الميقات وأحرم منه فلا حرج.
__________
(1) سورة محمد، الآية: 19.(21/372)
س 438: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل قدم مكة في أشهر الحج للعمل ولم يحرم ثم نوى الحج وهو بمكة فمن أين يحرم؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا قدم الإنسان إلى مكة لا يريد الحج ولا العمرة، وإنما يريد العمل أو التجارة أو زيارة قريب أو عيادة مريض، ثم بدا له أن يحج أو يعتمر فإنه يحرم من المكان الذي بدا له أن يحج أو يعتمر فيه، إلا أنه إذا نوى العمرة وهي في الحرم فإنه يخرج إلى الحل.
س 439: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى- رجل قدم للعمل وأحرم بالحج وهو عرفة يشتغل فهل يجوز؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا بأس أن يحرم الإنسان بالحج في عرفة ولا بأس أن يشتغل وهو محرم، سواء اشتغل لنفسه أو اشتغل لغيره بأجرة، لقول الله تبارك وتعالى: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) .
س 440: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: قدمت إلى مكة الكرمة من أجل العمل فيها وأديت فريضة الحج عن نفسي، وفي السنة الثانية أردت أن أحج عن والدتي المتوفاة وقد سألت بعض الناس عن كيفية الإحرام، فقالوا لي: اذهب إلى جدة وأحرم من هناك وفعلاً ذهبت إلى جدة وأحرمت من هناك، وأتممت مناسك الحج فهل حجتي هذه صحيحة أم يلزمني شيء آخر أفعله أفيدوني بارك الله فيكم؟(21/373)
فأجاب فضيلته بقوله-: إذا كنت في مكة فإن إحرامك بالحج يكون من مكانك الذي أنت فيه بمكة، ولا حاجة أن تخرج إلى جدة ولا إلى غيرها، ففي حديث ابن عباس- رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقّت المواقيت ثم قال: "ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة".
أما إذا كنت تريد أن تحرم بعمرة وأنت في مكة فإنه لابد أن تخرج لأدنى الحل- أي إلى خارج حدود الحرم- حتى تهلَّ بها، ولهذا لما طلبت عائشة- رضي الله عنها- من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تأتي بعمرة أمر أخاها عبد الرحمن بن أبي بكر- رضي الله عنهما- أن يخرج بها إلى التنعيم حتى تهلَّ منه (1) .
وعلى هذا الذي قال لك: لابد أن تخرج إلى جدة لا وجه لقوله، وحجك صحيح إن شاء الله تعالى ما دام متمشياً على منهاج الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويكون لأمك كما أردته.
س 441: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل يعمل بمكة المكرمة وينزل إلى مصر في إجازة سنوية فهل يلزمه الإحرام من الميقات إذا رجع إلى مكة؟
فأجاب فضيلته بقوله-: إذا رجع الإنسان من بلده إلى مكة وكان قد أدى فريضة العمرة فإنه لا يلزمه الإحرام بعمرة ثانية لأن العمرة لا تجب في العمر أكثر من مرة كالحج، ولكنه إذا شاء أن
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب قول الله تعالى (الحج أشهر معلومات) (1560) ، ومسلم، كتاب الحج، باب وجوه الإحرام (1211) (112) .(21/374)
يحرم فإنه يجب عليه أن يكون إحرامه من أول ميقات يمر به؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقت المواقيت وقال: "هن لهن ولا من أتى عليهن من غير أهلهن " فمثلاً إذا كان من أهل مصر وذهب في الإجازة إلى مصر، ثم رجع إلى مقر عمله في السعودية ففي هذه الحال يجب أن يحرم من الميقات إذا كان يريد العمرة، وإن كان لا يريد العمرة فلا بأس أن يدخل بدون إحرام إلا إذا كان لم يؤد العمرة أولاً فإنه يجب عليه أن يبادر ويحرم بالعمرة من الميقات.
س 442: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل لأهل مكة أن يحرموا من بيوتهم أم من مسجد التنعيم؟
فأجاب فضيلته بقوله-: لا يجوز لأحد أن يحرم من مكة لا أهل مكة ولا غيرهم إلا في الحج فقط، وأما العمرة فلا بد أن يخرجوا إلى التنعيم، أو إلى غيره من الحل، فمثلاً إذا كان في الرصيفة أو في غربي مكة ورأى أن الأسهل عليه أن يخرج عن طريق جدة ويحرم من الحديبية من جانبها الذي في الحل فلا بأس، أو كان في العوالي وأراد أن يخرج إلى عرفة ويحرم منها فلا بأس، لأن المقصود أن يحرم من الحل سواء من التنعيم أو من غيره.
س 443: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل يسكن في جدة وأهله في مكة وأحرم من بيت أهله في مكة ثم قضى حجه فما الواجب عليه وهل يجب عليه طواف الوداع؟(21/375)
فأجاب فضيلته بقوله-: إذا نوى أن يذهب إلى أهله ويحج معهم فليس عليه شيء ويحرم من مكة.
وإذا أراد أن يخرج إلى جدة فيجب عليه أن يطوف طواف الوداع.
س 444: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل منتدب للعمل في مكة ولما وصل مكة أذن له مرجعه بالحج فمن أين يحرم هل يلزمه الرجوع للميقات؟
فأجاب فضيلته بقوله-: يحرم من مكانه بالحج. فإن أذنوا له في منى أحرم من منى، وإن أذنوا له في عرفة أحرم من عرفة.
س 445: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل يريد مكة من أجل العمل ولكن يريد إذا دخل مكة أن يسمح له رؤساؤه أن يعتمر، فإذا تجاوز الميقات هل يدخل محرماً أو لابسًا ثوبه؟
فأجاب فضيلته بقوله-: إذا قصد الإنسان مكة للعمل فمر بالميقات وكان أدى من قبل فريضة الحج والعمرة فإنه لا يجب عليه الإحرام من الميقات لأن الحج والعمرة واجبان مرة واحدة في العمر، فإن كان قد أداهما ومر بالميقات وهو لم يرد الحج ولا العمرة فإنه لا يلزمه الإحرام؛ لأنه وجوب الإحرام من الميقات إنما يكون على من أراد الحج والعمرة، كما يدل على حديث ابن عباس- رضي الله عنهما- لما ذكر المواقيت فقال: "هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج أو(21/376)
العمرة" (1) أما الداخل لمكة للعمل وكان أدى الحج والعمرة ولكنه أراد الإحرام فيما بعد فإنه يحرم من مكة إن كان يريد الحج، وإن كان يريد العمرة فإنه لابد أن يخرج إلى الحل ويحرم من الحل، إما التنعيم، أو الجعرانة، أو الحديبية على طريق جدة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما طلبت عائشة- رضي الله عنها- منه أن تأتي بالعمرة أمر أخاه عبد الرحمن أن يخرج بها إلى التنعيم فتهل بالعمرة من هناك (2) .
س 446: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما حكم من خرج من الرياض إلى مكة ولم يقصد لا حجاً ولا عمرة ثم بعد وصوله مكة أراد الحج فأحرم من جدة قارناً فهل يجزئه الإحرام من جدة أم لابد من ذهابه إلى المواقيت المعلومة؟
فأجاب فضيلته بقوله-: إذا تجاوز الإنسان الميقات وهو لا يريد حجاً ولا عمرة فليس عليه شيء، وإذا تجددت له النية للحج بعد أن تجاوز المواقيت فإنه يحرم من المكان الذي تجددت له فيه
النية، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ" (1) .
س 447: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: سافرت إلى الحجاز ولم يكن عندي نية للعمرة وعندما وصلت إلى جدة ومكثت فيها أياما وجدت ما يشجعني على أداء العمرة فهل أعتمر
__________
(1) تقدم ص 36-37.
(2) تقدم ص 374.(21/377)
مع العلم أني لم أعتمر قبل ذلك أبداً؟
فأجاب فضيلته بقوله-: نقول في هذا الحال لك أن تحرم من جدة؛ لأنك في الأول لم ترد العمرة، ولكن يجب أن تعلم أن العمرة واجبة على الفور، وأن الواجب عليك أن تنوي العمرة حين مررت بالميقات ثم تؤدي العمرة وترجع إلى جدة، ولكن ما دام الأمر كما قال السائل: إنه قد ذهب إلى جدة وهناك وجد من يشجعه على العمرة فأحرم من هنالك وأدى العمرة نقول: لا حرج عليه، وليس عليه فدية، وعمرته هذه مجزئة عن عمرة الإسلام.
س 448: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: جماعة سافروا للحج ثم تعطلت السيارة دون الميقات وقطع الغيار لا توجد إلا في مكة فهل المرسل من قبل الجماعة لشراء قطع الغيار يجب عليه
الإحرام لكونه سيمر بالميقات وهو مريد للحج والعمرة وبعد خروجه من مكة وإصلاح السيارة يؤدي نسكاً مرة ثانية أم يبقى في إحرامه ويشتري قطع الغيار ويؤدي مع الجماعة؟
فأجاب فضيلته بقوله-: لا يجب عليه الإحرام حين دخوله لشراء قطع الغيار؛ لأنه مر بالميقات وهو لا يريد الحج ولا العمرة وإنما يريد شراء حاجته ثم يرجع، وإذا رجع مع أصحابه أحرم معهم.
س 449: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما هي مواقيت الحج الزمانية؟ وهل للعمرة ميقات زماني؟(21/378)
فأجاب فضيلته بقوله-: مواقيت الحج الزمانية تبتدىء بدخول شهر شوال، وتنتهي إما بعشر ذي الحجة أي بيوم العيد، أو بآخر يوم من شهر ذي الحجة وهو القول الراجح لقول الله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) وأشهر جمع، والأصل في الجمع أن يراد به حقيقته، ومعنى هذا الزمن أن الحج يقع في خلال هذه الأشهر الثلاثة، وليس يفعل في أي يوم منها، فإن الحج له أيام معلومة، إلا أن مثل الطواف والسعي- إذا قلنا بأن شهر ذي الحجة كله وقت للحج- فإنه يجوز للإنسان أن يؤخر طواف الإفاضة وسعي الحج لآخر يوم من شهر ذي الحجة، ولا يجوز له أن يؤخرهما عن ذلك، اللهم إلا لعذر، كما لو نفست المرأة قبل طواف الإفاضة وبقى النفاس عليها حتى خرج ذي الحجة فهي معذورة في تأخير طواف الإفاضة، هذه هي المواقيت الزمانية للحج.
أما العمرة فليس لها ميقات زمني، فتفعل في أي يوم من أيام السنة، لكنها في رمضان تعدل حجة، وفي أشهر الحج اعتمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فكل عمره عليه الصلاة والسلام في أشهر الحج، فعمرة الحديبية كانت في ذي القعدة، وعمرة القضاء كانت في ذي القعدة، وعمرة الجعرانة كانت في ذي القعدة، وعمرة الحج كانت مع الحج في ذي القعدة. وهذا يدل عن أن العمرة في أشهر الحج لها مزية وفضل لاختيار النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الأشهر لها.(21/379)
س 450: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما هي أشهر الحج؟.
فأجاب فضيلته بقوله-: أشهر الحج كما قال الله عز وجل: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) (1) وأشهر جمع شهر، والجمع أقله ثلاثة والثلاثة: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة.
س 451: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما حكم الإحرام قبل المواقيت المكانية؟
فأجاب فضيلته بقوله-: حكم الإحرام قبل المواقيت مكروه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقتها، وكون بعض الناس يحرم قبل أن يصلها فيه شيء من التقدم على حدود الله تعالى، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصيام: "لا تقدموا رمضان بصوم يوم، أو يومين، إلا رجل
كان يصوم صوما فليصمه " (2) وهذا يدل على أنه ينبغي لنا أن نتقيد بما وقته الشرع من الحدود الزمانية والمكانية، ولكنه إذا أحرم قبل أن يصل إليها فإن إحرامه ينعقد.
وهنا المسألة أحب أن أنبه إليها وهي: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما وقت هذه المواقيت قال: "هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن يريد الحج أو العمرة" (3) فمن كان من أهل نجد ومر بالمدينة
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 197.
(2) أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب لا يتقدم رمضان بصوم يوم ولا يومين (رقم 1914) ومسلم، كتاب الصيام، باب لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين (رقم 1082)
(3) تقدم ص 36-37.(21/380)
فإنه يحرم من ذي الحليفة، ومن كان من أهل الشام ومر بالدينة فإنه يحرم من ذي الحليفة، ولا يحل له أن ينتظر إلى أن يصل إلى ميقات أهل الشام الأصلي، هذا القول الراجح من أقوال أهل العلم.
س 452: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما حكم الإحرام بالحج قبل دخول المواقيت الزمانية؟
فأجاب فضيلته بقوله-: اختلف العلماء- رحمهم الله- في الإحرام بالحج قبل دخول أشهر الحج، فمنهم من قال: إن الإحرام بالحج قبل أشهره ينعقد ويبقى محرماً بالحج إلا أنه يكره أن يحرم بالحج قبل دخول أشهره.
ومن العلماء من قال: إنه إذا أحرم بالحج قبل أشهره فإنه لا ينعقد، ويكون عمرة- أي يتحول إلى عمرة- لأن العمرة كما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - "دخلت في الحج " وسماها الرسول - صلى الله عليه وسلم - الحج الأصغر كما في حديث عمرو بن حزم المرسل المشهور الذي تلقاه الناس بالقبول (1) .
س 453: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يصح الإحرام بالحج قبل أشهره؟
فأجاب فضيلته بقوله-: في هذا خلاف بين أهل العلم مع الاتفاق أنه لا يشرع أن يحرم بالحج قبل أشهره، وأشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، فإذا أحرم الإنسان بالحج في
__________
(1) انظر: إرواء الغليل (رقم 972)(21/381)
رمضان مثلاً فمن أهل العلم من يقول: إن إحرامه ينعقد ويكون متلبسا بالحج، لكنه يكره، ومنهم من يقول: إنه لا يصح الإحرام بالحج إلا في أشهر الحج، لقول الله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) . فجعل الله تعالى ترتب أحكام الإحرام على من فرضه في أشهر الحج فدل ذلك على أن أحكام الإحرام لا تترتب على من فرضه في غير أشهر الحج، وإذا لم تترتب الأحكام فمعنى ذلك أنه لم يصح الإحرام.
س 454: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: اعتمرنا في شهر رمضان وقد أحرمنا قبل وصول الطائرة مطار الملك عبد العزيز بجدة بنصف ساعة أو أكثر فما حكم هذا الإحرام وما هو ميقات
أهل الخليج العربي؟
فأجاب فضيلته بقوله-: الحمد لله رب العالمين وأصلى وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد: فإنه قبل الجواب على هذا السؤال نقدم مقدمة وهي: أنه ينبغي للإنسان إذا أراد أن يؤدي عبادة أن يفهم أحكامها أولاً قبل أن يتلبس بها، لئلا يقع في محظور منها، أو في ترك واجب؛ لأن هذا هو الذي أمر الله به (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) (1) فبدأ بالعلم قبل العمل (اعلم واستغفر) ثم إن هذا الطريق هو الواقع النظري العقلي أن يعرف الإنسان طريق البلد قبل أن يسير إليه، ولا يختص هنا بالحج والعمرة اللذين يجهل كثير من الناس
__________
(1) سورة محمد، الآية: 19.(21/382)
أحكامهما، بل يتناول جميع العبادات أن لا يدخل الإنسان فيها حتى يعرف ما يجب فيها، وما يمنع.
وأما بالنسبة لما ذكره السائل فإن الإحرام قبل الوصول إلى مطار الملك عبد العزيز الذي هو مطار جدة الجديد بنصف ساعة يبدو أنه إحرام صحيح، لأن المواقيت لا نظن أنها تتجاوز نصف ساعة بالطائرة من مطار جدة، فعلى هذا يكون إحرامهم بالعمرة قبل الوصول للمطار بنصف ساعة إحراماً صحيحاً ليس فيه شيء إن شاء الله.
وأما بالنسبة لميقات أهل الخليج فإن ميقات أهل الخليج هو ميقات غيرهم، وهي المواقيت الخمسة التي وقتها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمن أتى إلى مكة يريد الحج أو العمرة، وهي ذو الحليفة المسماة أبيار علي لأهل المدينة ولمن مر بها من غيرهم، والجحفة وهي لأهل الشام ولمن مر بها من غيرهم، وقد خربت الجحفة وصار الناس يحرمون بدلاً عنها من رابغ. وقرن المنازل لأهل نجد ومن مر به من غيرهم ويسمى الآن السيل الكبير، ويلملم لأهل اليمن ومن مر بها من غيرهم، وتسمى الآن السعدية، وذات عرق لأهل العراق (1) وقتها عمر- رضي الله- عنه وفي السنن عن النبي أنه وقتها وهي المسماة بالضريبة، هذه المواقيت لمن مر بها يريد الحج أو العمرة من أي قطر من أقطار الدنيا، فإذا مرَّ من طريق لا يمر بهذه المواقيت فإنه يحرم إذا حاذى هذه المواقيت؛ لأن عمر
- رضي الله عنه- أتاه أهل العراق وقالوا: يا أمير المؤمنين إن النبي
__________
(1) تقدم تخريجه ص 36.(21/383)
- صلى الله عليه وسلم - وقت لأهل نجد قرناً، وإنها جور عن طريقنا- يعني مائلة عن طريقنا- فقال أمير المؤمنين عمر: (انظروا إلى حذوها من طريقكم) فقوله رضي الله عنه (انظروا إلى حذوها) يدل على أنه من حاذى هذه المواقيت براً، أو بحراً، أو جواً أن يحرم، فإذا حاذى أقرب ميقات له وجب عليه الإحرام.
والظاهر لي أن طرق الخليج الجوية تمر من محاذاة قرن المنازل، وهو أقرب المواقيت إليها، وإذا لم يكن هذا صحيحاً فيسأل قائد الطائرة أين يكون طريقها، فإذا علم أنه حاذى أقرب ميقات إليه وجب عليه الإحرام منه، ولا يجوز لأهل الخليج ولا لغيرهم أن يؤخروا الإحرام حتى ينزلوا إلى جدة فإن هذا- وإن قال به من قال من الناس- قولٌ ضعيفٌ لا يعول عليه، وما ذكرناه عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- وهو أحد الخلفاء الراشدين الذين أمرنا باتباعهم يدل على بطلان هذا القول إلا من وصل إلى جدة قبل أن يحاذي ميقاتاً مثل أهل سواكن في السودان، فإن أهل العلم يقولون: إنهم يصلون إلى جدة قبل أن يحاذوا رابغاً، أو يلملم؛ لأن جدة في زاوية بالنسبة لهذين الميقاتين فعلى هذا فيحرم أهل سواكن ومن جاء من هذه الناحية من جدة.
س 455: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: كيف يحرم المسافر بالجو؟
فأجاب فضيلته بقوله-: يحرم المسافر بالجو كما ذكرنا قبلا(21/384)
أي إذا حاذى الميقات يحرم، ولكن كي يصنع قبل إحرامه نقول: ينبغي له أن يغتسل في بيته، وأن يلبس ثياب الإحرام سواءً في بيته أو في الطائرة حين تستقل به الطائرة، وإذا بقي عليه إلى مطار جدة
حوالي نصف الساعة فليحرم، أي فليلبي يقول. لبيك عمرة إن كان محرماً بعمرة، أو لبيك حجًّا إن كان محرماً بحج.
س 456: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: قلتم: إن أشهر الحج ثلاثة شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، فهل ينعقد الحج، أيام التشريق؟
فأجاب فضيلته بقوله-: أشهر الحج: يرى بعض العلماء أنها شهران وعشرة أيام، ويرى الآخرون أنها شهران وثلاثة عشر يوما تنتهي بآخر أيام التشريق، والظاهر أنها ثلاثة أشهر شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، ولا ينعقد الحج في أيام التشريق؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الحج عرفة" (1) . وقد فات يوم عرفة.
س 457: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يجوز للإنسان أن يحرم بالحج وقد فات يوم عرفة في أيام التشريق أو بعد انتهاء أيام التشويق للعام القادم لأنه في أشهر الحج؟
فأجاب فضيلته بقوله-: إذا أحرم للعام للقادم فقد أحرم
__________
(1) أخرجه أبو داود، كتاب المناسك باب من لم يدرك عرفة (رقم 1949) والترمذي، كتاب الحج، باب فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج (رقم 889) ، والنسائي، كتاب الحج، باب فيمن لم يدرك صلاة الصبح مع الإمام في مزدلفة (رقم 3047) ، وابن ماجه، كتاب الحج، باب من أتى عرفة قبل الفجر ليلة جمع (رقم 3015) ، والحاكم (1/464) وصححه ووافقه الذهبي.(21/385)
بالحج قبل أشهره، فينبني هذا على الخلاف: هل ينعقد الحج قبل أشهره؟ من العلماء من قال: ينعقد لكن مع الكراهة، ومنهم من قال: لا ينعقد، وعلى هذا يحول الإحرام إذا أحرم بالحج قبل أشهره
إلى العمرة ويطوف ويسعى ويقصر، وفي العام القادم يأتي بالحج.
س 458: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يجوز الإحرام قبل الميقات؟
فأجاب فضيلته بقوله-: لا ينبغي للإنسان أن يحرم بعمرة أو حج إلا من الميقات الذي وقت النبي - صلى الله عليه وسلم -. والمواقيت خمسة وهي: ذو الحليفة والمسماة أبيار علي وهي لأهل المدينة ولمن مر بها. والجحفة وهي قرية خربت وصار الناس يحرمون بدلاً عنها من رابغ وهي لأهل الشام ولمن مر بهم، ويلملم ويقال لها: السعدية فهي ميقات أهل اليمن لمن مر بها، وقرن المنازل وهو
السيل الكبير وهو لأهل نجد ولمن مر به، وأما ذات عرق فهي التي تسمى الضريبة وهي لأهل العراق ولمن مر بها من غيرهم، وهذه المواقيت من أراد الحج والعمرة لا يجوز أن يتجاوزها حتى
يحرم منها لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يهل أهل المدينة من ذي الحليفة، ويهل أهل الشام من الجحفة"، فقوله (يهل) خبر بمعنى الأمر، ولا ينبغي للإنسان أن يحرم قبل الوصول إلى هذه المواقيت، وقد نص أهل العلم على أن هذا مكروه.(21/386)
س 459: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يجوز للإنسان إذا سافر للعمرة أو الحج بالطائرة أن يحتاط ويحرم قبل الميقات بقليل؟
فأجاب فضيلته بقوله: الإحرام بالطائرة ينبغي للإنسان أن يحتاط فيه، وذلك لأن الطائرة سريعة المرور فلهذا ينبغي أن يحتاط ويحرم قبل خمس دقائق أو دقيقتين ونحو ذلك.
س 460: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: في بعض البلاد الأفريقية يحرمون في المطار قبل المغادرة إلى مكة لأن الطائرات في بلدانهم لا يعرفون شيئاً عن الميقات فلذلك يسيرون بهؤلاء ولا
يخبرونهم عن الميقات فهم يحرمون في المطار قبل المغادرة بهذا السبب فما حكم ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله-: هؤلاء الذين يأتون بالطائرة من بلادهم ولا يقوم أهل الطائرة بتبليغهم نقول: لا بأس أن تحرموا من المطار.
س 461: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: المسافر للحج أو العمرة بالطائرة إذا أخذ بالأحوط وذلك لسرعة الطائرة وأحرم قبل الوصول للميقات فما حكمه؟
فأجاب فضيلته بقوله: الذي يكون في الطائرة نرى أنه يحتاط أي يحرم قبل خمس دقائق؛ لأنه لو أخر حتى يحاذي الميقات فالطائرة في دقيقة واحدة تأخذ مسافة طويلة، لهذا نقول:(21/387)
احتاط، ومن ثم كان القائمون على الطائرة- جزاهم الله خيراً- يعلنون قبل الوصول إلى الميقات أولاً بنصف ساعة أو ثلث ساعة، ثم بعشر دقائق.
س 462: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: بعض الناس من باب الاحتياط وخوفاً من مرور الطائرة بالميقات بسرعة يحرمون عند صعود الطائرة مع أن قائد الطائرة يعلن بوقت كاف قبل
الوصول إلى محاذاة الميقات فما حكم هذا العمل؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا ليس بحسن، والعلماء قالوا: يكره أن يحرم قبل الميقات، ولا داعي للاحتياط هنا.
س 463: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: بعض سكان جدة إذا أرادوا العمرة يأتون مكة ويحرمون منها فما حكم ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا فيه تفصيل فإذا كان الإنسان ساكناً في جدة ونزل إلى مكة لغير العمرة لغرض من الأغراض ثم بدا له في مكة أن يحرم، نقول: أحرم من التنعيم، أو من عرفة، المهم من أدنى الحل، وأما الذي قصد أن يعتمر وهو من أهل جدة فيجب أن يحرم من جدة ولا يؤخر.
تم بحمد الله تعالى
المجلد الحادي والعشرون
ويليه بمشيئة الله عز وجل
المجلد الثاني والعشرون.(21/388)
باب الإحرام(22/7)
س 464: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما حكم الاغتسال للمحرم؟
فأجاب فضيلته بقوله: الاغتسال للمحرم سنة، لثبوت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - سواء اغتسل مرة أو مرتين، ولكنه يجب أن يغتسل إذا احتلم وهو محرم فيغتسل من الجنابة، وأما الاغتسال للإحرام فهو سنة.
س 465: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما حكم وضع الطيب قبل الإحرام؟
فأجاب فضيلته بقوله: التطيب عند الإحرام بعد الاغتسال سنة؟ وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تطيب لإحرامه، قالت عائشة رضي الله عنها: "كنت أطيب النبي - صلى الله عليه وسلم - لإحرامه قبل أن يحرم " (1) وكان يُرى وبيص المسك في مفارق رأسه - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم (2) .
س 466: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما حكم تطييب ثياب الإحرام؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يجوز؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تلبسوا ثوباً مسه الزعفران ولا الورس " (3) .
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب الطيب عند الإحرام (رقم 1539) ومسلم، كتاب الحج، باب الطيب للمحرم عند الإحرام (1189) (133) .
(2) أخرجه البخاري، كتاب اللباس، باب الطيب في الرأس واللحية (رقم 5923) ومسلم، كتاب الحج باب استحباب الطيب قبل الإحرام في البدن (رقم 1189) (35) .
(3) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب ما لا يلبس المحرم من الثياب (رقم 1542) ومسلم، كتاب الحج، باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة (رقم 1177) .(22/9)
س467: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يجب على الإنسان أن يغتسل في اليوم الذي ينوي فيه العمرة، أم أن له أن يغتسل قبلها بيوم؟
فأجاب فضيلته بقوله: الاغتسال عند الإحرام سنة، فإنه - صلى الله عليه وسلم - تجرد لإهلاله واغتسل (1) ، ولأن أسماء بنت عميس رضي الله عنها نفست فأمرها - صلى الله عليه وسلم - أن تغتسل وتحرم (2) ، ومن اغتسل قبل الإحرام بيوم لم ينفعه ذلك، ولكن الحج أو العمرة صحيح، لأن الاغتسال ليس بشرط في الحج أو العمرة، بل إنه سنة إن فعله الإنسان أثيب عليه، وإن تركه فلا إثم عليه. والله الموفق.
س 468: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما رأيكم فيمن يغتسل في بيته ويسافر للحج أو العمرة وينوي إذ! وصل إلى الميقات خصوصاً في الأيام الباردة؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا بأس أن يغتسل في بيته ويسافر إذا كان اغتساله عند السفر، ولكنه إن تمكن من أن يغتسل في الميقات فهو أفضل.
__________
(1) أخرجه الترمذي، كتاب الحج، باب ما جاء في الاغتسال عند الإحرام (830) وابن خزيمة (رقم 2595) والبيهقي في سننه الكبرى (5/32) وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
(2) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - (رقم 1218) .(22/10)
س 469: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: يوجد بعض المحرمين يحرم بإزار دون رداء. فما حكم عمرته؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان الإزار يستر عورته فإن نسكه صحيح، أما إذا كان الإزار لا يستر عورته فإن نسكه غير صحيح؛ لأن من شروط الطواف ستر العورة، كما جاء في الحديث الصحيح: "لا يطوف بالبيت عريان " (1) فإذا كان الإزار ساتراً للعورة فإنه يصح النسك، ولكن الأفضل أن يحرم بإزار ورداء.
س 470: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: إذا وقع على ثوب الإحرام دم قليل أو كثير فهل يصلى فيه وفيه الدم، وماذا يفعل المحرم في الطواف والسعي؟
فأجاب فضيلته بقوله: الدم إذا كان طاهراً فإنه لا يضر إذا وقع على الإحرام أو غيره من الثياب، والدم الطاهر من البهيمة هو الذي يبقى في اللحم والعروق بعد ذبحها: كدم القلب ودم الفخذ
ونحو ذلك، وأما إذا كان الدم نجساً فإنه يغسل سواءً في ثوب الإحرام أو غيره، وذلك الدم المسفوح، فلو ذبح شاة مثلاً وأصابه من دمها فإنه يجب عليه أن يغسل هذا الذي أصابه، سواءً وقع على ثوبه أو على ثوب الإحرام، أو على بدنه، إلا أن العلماء رحمهم الله قالوا: يعفى عن الدم اليسير لمشقة التحرز منه.
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب لا يطوف بالبيت عريان ولا يحج مشرك (رقم
1622) ومسلم، كتاب الحج، باب لا يحج البيت مشرك ولا يطوف بالبيت عريان (رقم
1347) .(22/11)
وأما قوله: "وماذا على المحرم في الطواف والسعي "، فعليه ما ذكره العلماء من أنه يطوف بالبيت ويجعل البيت عن يساره، ويبدأ بالحجر الأسود وينتهي عند الحجر الأسود، سبعة أشواط لا تنقص، وكذلك يسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط لا تنقص، يبدأ بالصفا وينتهي بالمروة، وما يفعله الحجاج معروف في المناسك فليرجع إليه هذا السائل.
س471: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما السنة في الإزار والرداء للمحرم وهل يشترط أن يكونا جديدين؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يشترط في الإزار والرداء أن يكونا جديدين، ولكن يستحب أن يحرم في ثوبين نظيفين أبيضين، وكلما كانا أنظف فهو أحسن، لأن الله تعالى جميل يحب الجمال.
س 472: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يجوز للمحرمة أن تغير الثياب التي أحرمت فيها؟ وهل للإحرام ثياب تخصه؟
فأجاب فضيلته بقوله: يجوز للمرأة المحرمة أن تغير ثيابها إلى ثياب أخرى، سواء كان ذلك لحاجة أم لغير حاجة، لكن بشرط أن تكون الثياب الأخرى ليست ثياب تبرج وجمال أمام الرجال، وعلى هذا فإذا أرادت أن تغير شيئاً من ثيابها التي أحرمت بها فلا حرج عليها.
وليس للإحرام ثياب تخصه بالنسبة للمرأة بل تلبس ما(22/12)
شاءت، إلا أنها لا تلبس النقاب ولا تلبس القفازين، والنقاب هو الذي يوضع على الوجه ويكون فيه نقب للعين، وأما القفازان فهما اللذان يلبسان في اليد، ويسميان شراب اليدين.
وأما الرجل فإن له لباساً خاصاً في الإحرام وهو الإزار والرداء، فلا يلبس القميص، ولا السراويل، ولا العمائم، ولا البرانس ولا الخفاف.
س 474 (*) : سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما حكم أداء السنة في مسجد الميقات وكم عددها؟
فأجاب فضيلته بقوله: ليس هناك سنة تختص بمسجد الميقات ولا بالإحرام، فلم يرد عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه كان إذا أراد أن يحرم صلى ركعتين، لكنه أهلّ بعد صلاة بمعنى أنه صلى الفريضة ثم أهل أي لبى، ولهذا كان القول الراجح ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- أنه ليس للإحرام صلاة تخصه، لكن ينبغي أن يجعل الإحرام بعد صلاة: فإن كان وقت فريضة انتظر حتى يصلي الفريضة ويحرم، وإن كان في وقت نافلة كصلاة الضحى مثلاً، أوصلاة ركعتين بعد الوضوء، أو صلاة تحية المسجد فليكن إحرامه بعد هذه الصلاة، أما أن ينوي صلاة خاصة للإحرام فإن هذا لا أعلم فيه سنة عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
__________
(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: هكذا الترقيم في المطبوع (ليس هناك س 473)(22/13)
س 475: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما حكم ركعتي الإحرام؟
فأجاب فضيلته بقوله: ركعتا الإحرام وهما الركعتان اللتان يصليهما من أراد الإحرام غير مشروعتين؟ لأنه لم يرد عن النبي عليه الصلاة والسلام أن للإحرام صلاة تخصه، وإذا لم يرد عن النبي عليه الصلاة والسلام مشروعيتهما فإنه لا يمكن القول بمشروعيتهما، إذ إن الشرائع إنما تتلقى من الشارع فقط، ولكنه إذا وصل إلي الميقات وكان قريباً من وقت إحدى الصلوات المفروضة فإنه
ينبغي أن يجعل عقد إحرامه بعد تلك الصلاة المفروضة؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أهل دبر الصلاة (1) ، كذلك لو أراد الإنسان أن يصلي سنة الوضوء بعد اغتسال الإحرام وكان من عادته أن يصلي سنة الوضوء فإنه يجعل الإحرام بعد هذه السنة.
س 476: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: قلتم يجعل الإحرام بعد سنة الوضوء إن كان من عادته أنه يصليها. فإذا لم يكن من عادته أنه يصليها فما الحكم؟
فأجاب فضيلته بقوله: أرى أنه لا بأس، فلا يلزم أن الإنسان إذا فعل شيئاً أن يفعله في كل حال، فما دام السنة في الوضوء مشروعة وأراد أن يصلي فهذا لا بأس به ولا حرج حتى لو كان من
عادته أنه لا يصليها.
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - (1218) .(22/14)
س 477: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: عندي كتاب لفضيلتكم قلتم فيه: عند نية الإحرام يصلي ركعتين الفريضة إذا كان وقت فريضة وإلا صلى ركعتين يقصد بها سنة الوضوء فما
معنى هذا الكلام؟
فأجاب فضيلته بقوله: معنى هذا الكلام أن الإنسان إذا اغتسل عند الميقات يريد الإحرام بحج أو عمرة فإن كان في وقت صلاة فريضة مثل أن يكون قد حان صلاة الظهر أو صلاة العصر صلى تلك الفريضة ثم أحرم بعدها، وإن لم يكن وقت فريضة كما لو كان وصوله إلى الميقات في وقت الضحى أو في الليل بعد صلاة العشاء فإنه في هذه الحال بعد أن يغتسل ويتوضأ يصلي ركعتين سنة الوضوء؛ لأنه يسن بعد كل وضوء أن يصلي الإنسان ركعتين، فإذا صلى هاتين الركعتين فإنه يحرم بعدهما وبه يعلم أنه ليس للإحرام صلاة تخصه، لأنه لم يرد عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى للإحرام صلاة تخصه، وعلى هذا فإذا لم يكن هذا وارداً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه يقتصر على ما جاءت به السنة، وهو أن يحرم عقب صلاة مشروعة بغير الإحرام: إما سنة الوضوء، أو ركعتي الضحى، أو صلاة الفريضة إن كان وقت فريضة.
س 478: سئل فضيلة الشيخ -رحمه الله تعالى-: هل للإحرام صلاة تخصه؟
فأجاب فضيلته بقوله: الصواب أنه ليس للإحرام صلاة تخصه، لكن إن كان وقت فريضة جعل إحرامه بعدها كما فعل(22/15)
النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) ، أما أن يتقصد للإحرام صلاة خاصة فلا. ولو أحرم بدون صلاة مفروضة كما لو صادف إحرامه ضحى ولم يصل فلا شيء عليه.
س 479: سئل فضيلة الشيخ -رحمه الله تعالى-: هل للإحرام صلاة تخصه؟
فأجاب فضيلته بقوله: ليس للإحرام صلاة تخصه لكن إذا وصل الإنسان إلى الميقات وهو قريب من وقت الفريضة فالأفضل أن يؤجل الإحرام حتى يصلي الفريضة ثم يحرم، أما إذا وصل إلى الميقات في غير وقت فريضة فإنه كما هو معلوم يغتسل كما يغتسل من الجنابة ويتطيب ويلبس ثياب الإحرام، ثم إن أراد أن يصلي صلاة الضحى فيما إذا كان في وقت الضحى، أو أن يصلي سنة الوضوء فيما إذا لم يكن في وقت الضحى وصلى سنة الوضوء وأحرم بعد ذلك فحسن، وأما أن يكون هناك صلاة خاصة للإحرام فإن ذلك لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
س 480: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل ورد نص عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الركعتين عند الإحرام ولم يوافق ذلك فريضة؟
فأجاب فضيلته بقوله: لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك صلاة خاصة للإحرام، ولهذا نقول إن كان في وقت فريضة أحرم بعد الفريضة، وإلا أحرم بدون صلاة، وإن صلى بنية الوضوء فهذا
__________
(1) تقدم وهو عند مسلم (رقم 1218) .(22/16)
حسن، أو كان في وقت الضحى وصلى بها سنة الضحى فهذا حسن أيضاً.
س 481: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل للإحرام صلاة تخصه؟
فأجاب فضيلته بقوله: اختلف أهل العلم رحمهم الله تعالى؛ فمنهم من قال: إن الإحرام له صلاة تخصه؛ لأن جبريل أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: صلِّ في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة وحجة، أو عمرة في حجة (1) .
ومنهم من قال: إنه ليس له صلاة تخصه، وأن جبريل قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: صلِّ في هذا الوادي المبارك؛ يعنى صلاة الفرض، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل دبر صلاة مفروضة.
ولكن إذا أراد الإنسان بعد اغتساله للإحرام، ووضوئه أن يصلي ركعتين سنة الوضوء فهذا خير ويكون الإحرام عقب سنة الوضوء.
ولكن هل يهل من حين أن يحرم؟ أم يهل إذا ركب؟
من العلماء من يقول: لا يهل إلا إذا ركب، ومنهم من قال: يهل عند إحرامه، ويهل إذا ركب، ويهل إذا علت به ناقته على البيداء، إذا كان محرماً من ميقات أهل المدينة.
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: العقيق واد مبارك (رقم 1534) .(22/17)
س 482: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يجوز التلفظ بالنية لأداء العمرة أو الحج أو الطواف والسعي بالبيت الحرام؟ ومتى يجوز التلفظ بها؟
فأجاب فضيلته بقوله: التلفظ بالنية لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، لا في الصلاة ولا في الطهارة ولا في الصيام ولا في أي شيء من عباداته - صلى الله عليه وسلم -، حتى في الحج أو العمرة. لم يكن صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم إني أريد كذا وكذا: ما ثبت عنه ذلك ولا أمر به
أحداً من أصحابه، غاية ما ورد في هذا الأمر أن ضباعة بنت الزبير - رضي الله عنها- شكت إليه أنها تريد الحج وهي شاكية (مريضة) فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: "حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني، فإن لك على ربك ما استثنيتى" (1) وإنما كان الكلام هنا باللسان لأن عقد الحج بمنزلة النذر، والنذر يكون باللسان. لأن الإنسان لو نوى أن ينذر في قلبه لم يكن ذلك نذراً ولا ينعقد النذر، ولما كان الحج مثل النذر في لزوم الوفاء عند الشروع فيه أمرها النبي عليه الصلاة والسلام أن تشترط بلسانها، وأن تقول: (إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني) . وأما ما ثبت به الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومنه قوله: "إن جبريل أتاني وقال: صل في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة أو عمرة وحجة" (2) ، فليس معنى ذلك أنه يتلفظ بالنية، ولكن معنى ذلك أنه يذكر نسكه في تلبيته،
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب جواز اشتراط المحرم التحلل بعذر المرض وغيره (رقم 1257) .
(2) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: العقيق واد مبارك (رقم 1534) .(22/18)
وإلا فالنبي عليه الصلاة والسلام ما تلفظ بالنية.
س 483: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: في شرحكم لرياض الصالحين قلتم: إن كل نية يتلفظ بها في كل عمل فهي بدعة، ومثلتم بالصلاة والصوم والحج، فهل التلفظ بنية الحج داخل في البدعة أم أن ذلك سهو؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا ليس بسهو، بل التلفظ بنية الحج كالتلفظ بنية الصوم والزكاة والصلاة، يعنى أنه لا يقول الإنسان: اللهم إني نويت الحج، لكن ينوي بقلبه ويعرب عما في قلبه بلسانه، فيقول: لبيك عمرة. وأما أن ينطق بالنية قبل أن يدخل في النسك فيقول: اللهم إني نويت كذا، فهذا بدعة؛ لأنه لم ينقل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال حين أراد الإحرام بالعمرة أو الحج: اللهم إني نويت العمرة، أو اللهم إني نويت الحج.
س 484: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: يشكل على بعض الناس النطق بالنية إذا قال الحاج لبيك عمرة مثلاً أو قول المضحي هذه عن فلان أي تسمية صاحب الأضحية عند الذبح فأرجو رفع الإشكال؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا إشكال في ذلك، لأن قول المضحي: هذه عني وعن أهل بيتي، إخبار عما في قلبه، لم يقل: اللهم إني أريد أن أضحي. كما يقوله من ينطق بالنية، بل أظهر ما(22/19)
في قلبه فقط، وإلا فإن النية سابقة من حين أن أتى بالأضحية وأضجعها وذبحها فقد نوى، وكذلك يقال في النسك: لبيك حجاً، لبيك عمرة، وليس هذا من باب ابتداء النية، لأنه قد نوى من قبل، ولهذا لا يشرع أن نقول: اللهم إني أريد العمرة، اللهم إني أريد الحج، بل انوِ بقلبك ولبِّ بلسانك، وأما التكلم بالنية في غير الحج والعمرة والأضحية فهذا أمر معلوم أنه ليس بمشروع، فلا يسن للإنسان إذا أراد أن يتوضأ أن يقول: اللهم إني أريد أن أتوضأ، اللهم إني نويت أن أتوضأ أو بالصلاة: اللهم إني أريد أن أصلي، اللهم إني نويت أن أصلي. كل هذا غير مشروع، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -.
س 485: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: عند الإحرام كانت نيتي عمرة متمتعة بها إلى الحج، ولكن لفظت حجاً متمتعة به إلى العمرة، والعمل كان بالنية لا باللفظ، فما هو الموقف من
هذا العمل وهذا الحج وهل هو صحيح بالنية أم باللفظ؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان الذي لفظت به سبقة لسان غير مقصود منك فلا أثر له، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرىء ما نوى" (1) . فإذا كانت نيتك أن تحرمي بالعمرة متمتعة بها إلى الحج ولكن غلطت وقلت: أحرمت بالحج متمتعة به إلى العمرة، أو ما أشبه ذلك، فهذا لا
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رقم (1) . ومسلم، كتاب الإمارة، باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: إنما الأعمال بالنية (رقم 1907) .(22/20)
يضر، لأن العبرة بما في القلب، وسبق اللسان بغير ما قصد الإنسان لا يضره شيئاً. والله الموفق.
س 486: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: امرأة تقول: قبل ثلاث سنوات ونصف نويت أداء فريضة الحج وقمت من منزلي بنية الحج، وذهبنا وأحرمت من الميقات وقلت: نويت نية العمرة،
وبعدها سألني زوجي فقال لي: ماذا نويت؟ فقلت له؟ نويت حجة. وهي حجة الفرض وبعدها ذهبت إلى منى وأديت جميع مناسك الحج، ووقفت بعرفة، وكانت كل أدعيتي في جميع المناسك أن يتقبل الله مني حجتي. فماذا تكون هذه حجة أم عمرة؟ وماذا عليّ أفيدونا جزاكم الله خيراً؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كنت أولاً نويت العمرة ثم نويت الحج فإنك تكونين قد أدخلت الحج على العمرة، فإذا فعلت ذلك فإنك تكونين قارنة وهذا كاف للحج والعمرة.
وما فعلتيه يكون أحد صفتي القران، لأن للقران صفتين:
الأولى: أن ينوي الإنسان العمرة والحج من أول إحرامه.
والثانية: أن ينوي العمرة أولاً ثم يدخل الحج عليها قبل الشروع في طوافها. والله الموفق.
س 487: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما الذي يجب على المسلم الذي ينوي الحج والعمرة في وقت واحد؟ وهل يقبل أن يحج لنفسه والعمرة يهديها للوالد؟(22/21)
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان الإنسان يريد الإحرام بالحج والعمرة جميعاً في آن واحد فإنه يقول عند الميقات: لبيك عمرة وحجة، ويبقى على إحرامه إلى يوم العيد، فإذا وصل إلى مكة أول ما يصل فإنه يطوف طواف القدوم، ويسعى بين الصفا والمروة للحج والعمرة جميعاً سعياً واحداً يكفيه لهما، ويبقى على إحرامه ويخرج مع الناس فيؤدي الحج، فإذا كان يوم العيد فرمى ونحر وحلق ذهب إلى مكة فطاف طواف الإفاضة ينوي به طواف العمرة والحج جميعاً هذا هو القارن، وعليه هدي يذبحه
يوم العيد أو في الأيام الثلاثة بعده، يأكل منه ويهدي ويتصدق منه، ويجوز الإنسان أن يجعل ثواب العمرة لأحد والديه، وثواب الحج له إذا كان قد أدى الفريضة من قبل، والأفضل للإنسان أن
يحرم أولاً بالعمرة ثم إذا انتهى منها حل وبقي حلالاً إلى اليوم الثامن ذي الحجة ثم يحرم بالحج، وهذا هو التمتع الذي أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه به، وعليه فإذا وصل إلى الميقات أحرم بالعمرة، ثم إذا وصل إلى مكة طاف وسعى بين الصفا والمروة وقصر ولبس ثيابه، فإذا كان اليوم الثامن من ذي الحجة أحرم بالحج.
س 488: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى: امرأة تسأل تقول أنها لا تعلم بأنساك الحج الثلاثة ولا تعلم النية فيها وتقول لها خمس حجج وهي تحج يوم التروية تذهب مع الناس إذا ذهبوا عرفة
ذهبت وكذلك مزدلفة وترمي الجمار ليس لها نية محددة من الأنساك الثلاثة فتسأل عن صحة حجها في هذه الأعوام؟(22/22)
فأجاب فضيلته بقوله: الظاهر أن حجها صحيح لأنها كأنها تقول: أحرمت بما الناس محرمون به، والإحرام بما أحرم به فلان جائز، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي بن أبي طالب في حجة الوداع وكان قد بعثه إلى اليمن مع أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما فقال له: "بم أهللت؟ " فقال: بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: فإن معي الهدي، فجعله قارناً، وأما أبو موسى الأشعري فقال: إنه أهل بما أهل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكن لما
لم يكن معه هدي أمره أن يجعلها عمرة، لأن التمتع أفضل من القران، فهذه المرأة لا شك مما يظهر لنا أنها أحرمت بما أحرم به الناس، وإنها تقول: دربي درب الناس، لكن الواجب على الإنسان إذا أراد العبادة سواء حجًّا أو صوماً أو صدقة أو غير ذلك الواجب أن يتعلم قبل أن يتقدم، أما بعد أن فعل يأتي ويقول: ما الحكم؟ هذا لا شك أنه خلاف الأولى.
س 489: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما حكم من حج مع الناس دون تحديد نسكه؟
فأجاب فضيلته بقوله: ماذا قال هذا الحاج عند الإحرام: لبيك. ماذا؟ لبيك مع الناس؟ لابد أن يعين حج أو عمرة أو ما أشبه ذلك، لكن لو قال: لبيك بمثل ما أحرم به فلان، يعني معه طالب علم مثلاً، فقال لبيك بمثل ما أحرم به فلان، فيكفي وينظر فلان ماذا لبى به، ودليل ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث أبا موسى الأشعري وعلى بن أبي طالب- رضي الله عنهما- إلى اليمن، وقدم عليه في(22/23)
مكة في حجة الوداع فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي بن أبي طالب "بم أهللت؟ " قال. قلت: أهللت بما أهل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن معي الهدي، فقال: فلا تحل؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أشرك علي بن أبي طالب في الهدي (1) فصار علي كأنه قد ساق الهدي ومن ساق الهدي فلا يمكن أن يحل إلا يوم العيد، أما أبو موسى فقال: أهللت بما أهل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: اجعلها عمرة. اجعلها عمرة (2) ؛ لأن أبا موسى لم يسق الهدي، والشاهد من هذا أنه يجوز أن يحرم الإنسان بما أحرم به فلان، ويسأل أنت
أحرمت بحج أو بعمرة ويمشي على ما هو عليه.
س 490: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: بعض العوام من الرجال والنساء حينما يأتون إلى المواقيت للعمرة يقولون: من أراد أن يدخل بشيء إلى مكة مثل شنطة أو بفلوس فليحرم بها معه،
فهل لهذا أصل وهل هو بدعة؟ وإذا نسي الإنسان أن يتطيب عند الإحرام فهل يتطيب بعد الإحرام؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا أصل لهذا إطلاقاً وهو غلط. ولا يسمى بدعة وإنما هو ناشىء عن الجهل، حتى لو فرضنا أن الإنسان أحرم بدون نعال ثم لبس النعال فلا شيء في ذلك.
أما قول بعض العوام: لا بد أن تحرم في نعالك ولا تفسخها
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب من أهل في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - كإهلال النبي - صلى الله عليه وسلم - (رقم
1558) ومسلم، كتاب الحج، باب إهلال النبي - صلى الله عليه وسلم - وهديه (رقم 1250) .
(2) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب من أهل في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - (رقم 1559) ومسلم،
كتاب الحج، باب في فسخ التحلل من الإحرام والأمر بالتمام (رقم 1221) .(22/24)
حتى تنتهي من الإحرام يعني ما تغيرها، فهذا غلط، وتغير ثياب الإحرام إلى ثياب أخرى فالإحرام بها جائز، وتغير النعال ولبس النعال وإن كنت حين الإحرام غير لابس جائز.
أما الطيب إذا لم تتطيب قبل الإحرام فلا تتطيب بعد الإحرام.
س 491: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما هو الاشتراط؟ وما حكمه؟
فأجاب فضيلته بقوله: صفة الاشتراط أن الإنسان إذا أراد الإحرام يقول: (إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني) يعنى فإنني أحل، فإذا حبسني حابس أى منعني مانع عن إكمال النسك،
وهذا يشمل أي مانع كان، لأن كلمة حابس نكره في سياق الشرط فتعم أي حابس كان، وفائدة هذا الشرط أنه لو حصل له حابس يمنعه من إتمام النسك فإنه يحل من نسكه ولا شيء عليه.
وقد اختلف أهل العلم في الاشتراط:
فمنهم من قال: إنه سنة مطلقاً، أي أن المحرم ينبغي له أن يشترط، سواء كان في حال خوف أو في حال أمن، لما يترتب عليه من الفائدة، والإنسان لا يدري ما يعرض له.
ومنهم من قال: إنه لايسن إلا عند الخوف، أما إذا كان الإنسان آمناً فإنه لا يشترط.
ومنهم من أنكر الاشتراط مطلقاً.
والصواب القول الوسط، وهو أنه إذا كان الإنسان خائفاً من(22/25)
عائق يمنعه من إتمام نسكه، سواء كان هذا العائق عامًّا أم خاصًّا فإنه يشترط، وإن لم يكن خائفاً فإنه لا يشترط، وبهذا تجتمع الأدلة، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحرم ولم يشترط، وأذن بل أرشد ضباعة بنت الزبير رضي الله عنها إلى أن تشترط حيث كانت شاكية (1) .
والشاكي أي المريض خائف من عدم إتمام نسكه، وعلى هذا فإننا نقول: إذا كان الإنسان خائفاً من طارىء يطرأ يمنعه من إتمام النسك فليشترط أخذا بإرشاد النبي - صلى الله عليه وسلم - ضباعة بنت الزبير، وإن لم يكن خائفاً فالأفضل أن لا يشترط اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث أحرم بدون شرط.
س 492: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يلزم المشترط أن يأتي بالصيغة التي وردت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أم يشترط بأي كلام هو يعبر به عن نفسه؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يلزمه أن يأتي بالصيغة الواردة، لأن هذا مما لا يتعبد بلفظه، والشيء الذي لا يتعبد بلفظه يكتفى فيه بالمعنى.
س 493: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما فائدة الاشتراط في الحج؟
فأجاب فضيلته بقوله: الاشتراط في الحج هو أن يشترط الإنسان عند عقد الإحرام إن حبسه حابس فمحله حيث حبس.
__________
(1) تقدم ص 18.(22/26)
وقد اختلف العلماء رحمهم الله في مشروعية الاشتراط، فمنهم من قال: إنه ليس بمشروع مطلقاً لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حج واعتمر ولم ينقل عنه أنه اشترط في حجه ولا في عمرته. ومن المعلوم أنه يكون معه المرضى ولم يرشد الناس إلى الاشتراط، فها هو كعب بن عجرة رضي الله عنه في عمرة الحديبية أتي به إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفيه مرض والقمل يتناثر على
وجهه من رأسه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "ما كنت أرى الوجع بلغ بك ما أرى" وأمره أن يحلق رأسه وأن يفدي، أو يصوم، أو يطعم، والقصة معروفة في الصحيحين وغيرهما (1) .
من العلماء من قال: إنه مشروع مطلقاً، وأن الإنسان يستحب له عند عقد الإحرام أن يشترط: إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني، وعللوا ذلك بأنه لا يأمن العوارض التي تحدث له في أثناء إحرامه وتوجب له التحلل، فإذا كان قد اشترط على الله سهل عليه التحلل.
ومن العلماء من قال: إن خاف من عائق اشترط وإلا فلا، والصحيح أن الاشتراط ليس بمشروع إلا أن يخاف الإنسان من عائق يحول دونه وإتمام نسكه، مثل أن يكون مريضاً ويشتد به المرض فلا يستطيع أن يتم نسكه فهنا يشترط، وأما إذا لم يكن خائفاً من عائق يمنعه، أو من عائق يحول بينه وبين إتمام نسكه فلا يشترط، وهذا القول تجتمع به الأدلة، ووجه ذلك أن النبي صلى
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب المحصر، باب الإطعام في الفدية نصف صاع (رقم 1816) ومسلم، كتاب الحج، باب جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى (رقم 1201) .(22/27)
الله عليه وعلى آله وسلم اعتمر وحج ولم يشترط، ولم يقل للناس على سبيل العموم اشترطوا عند الإحرام، ولكن لما أخبرته ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب- رضي الله عنها- أنها تريد الحج وهي
شاكية أي مريضة قال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: " حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني، فإن لك على ربك ما استثنيتي " (1) فمن كان في مثل حالها فإنه يشترط، ومن لم يكن فإنه لا يشترط.
أما فائدة الاشتراط فإن فائدته أن الإنسان إذا حصل له ما يمنع من إتمام نسكه تحلل بدون شيء، يعنى تحلل وليس عليه فدية ولا قضاء.
س 494: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: في حديث ضباعة بنت الزبير- رضي الله عنها- عندما قالت للرسول - صلى الله عليه وسلم -: أريد الحج وأنا شاكية. فقال لها: "حجي واشترطي " وما معناه؟ وبعض الناس يقول: إنه مشروع على كل حال في هذا الزمان لكثرة الحوادث فما رأيكم؟
فأجاب فضيلته بقوله: المعنى أنها تقول: إن حبسني حابس أي منعني مانع من إتمام النسك فإنني أحل وقت وجود ذلك المانع، وإنما أرشدها النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الاشتراط لأنها كانت تخاف أن لا تتم النسك من أجل المرض، فأرشدها النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أن تشترط، وأما من لم يكن خائفاً من إتمام النسك فإنه لا يشترط، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لم يكونوا اشترطوا عند الإحرام هذا
__________
(1) تقدم ص 18.(22/28)
الشرط، ولهذا كان القول الراجح أن الاشتراط ليس بمستحب ولا مشروع إلا لمن كان خائفاً من عدم إتمام نسكه، وهذا القول هو القول الذي يجمع بين الأدلة، وأما من نفى الاشتراط مطلقاً، أو
أثبت الاشتراط مطلقاً فإنه لابد أن يقع في مخالفة لبعض النصوص.
وأما قول بعض الناس: إننا في هذا الزمن خائفون بكل حال لكثرة حوادث السيارات.
فجوابنا عن هذا: أن حوادث السيارات بالنسبة لكثرتها ليست بشيء، فإن السيارات تكون عشرات الآلاف وإذا حصل من عشرات الآلاف حادثة أو حادثتان أو عشرة أو عشرون حادثة فليست بشيء والحوادث كائنة حتى في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فإنه صح من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رجل وقصته راحلته يوم عرفة فمات (1) وهذا حادث وجد في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فالمهم أن الحوادث محتملة حتى في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومع ذلك لم يرشد الأمة إلى الاشتراط إلا لمن كان خائفاً.
س 495: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: مع الحوادث التي تقع في الحج هل يستحسن أن نشترط عند الإحرام؟
فأجاب فضيلته بقوله: أرى أن لا يشترط الإنسان عند الإحرام لأن هذه الحوادث- والحمد لله- قليلة بالنسبة للحجاج
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب جزاء الصيد، باب سنة المحرم إذا مات (رقم 1851) ومسلم، كتاب الحج، باب ما يفعل بالمحرم إذا مات (رقم 1206) (99) .(22/29)
قليلة بالنسبة للسيارات أيضاً متى تحدث في أي سنة، وكذلك أيضاً بالنسبة للحجاج حوالي مليونين ما أصيب منهم أحد ولا مائة ألف فالمصائب قليلة والحوادث قليلة- والحمد لله- وكون الإنسان لا يشترط اتباعاً للسنة وتوكلاً على الله عز وجل واحتساباً للأجر فيما لو حدث حادث أفضل من كونه يشترط، لكننا لا نمنعه من الاشتراط نقول: الأفضل أن لا تشترط، وإن اشترطت فلا بأس.
س 496: إذا وصلت المرأة الميقات قاصدة العمرة ولكنها حائض فماذا تفعل؟
فأجاب فضيلته بقوله: العمل في هذه الحال أنه ينبغي للمرأة إذا وصلت إلى الميقات وهي حائض وخافت أن لا تطهر قبل أن يرجع أهلها فتحرم وتشترط وتقول: "اللهم إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني "، فإن كانت هذه المرأة قد اشترط فإنها ترجع مع أهلها ولا شيء عليها، وإن لم تكن اشترطت فإنها تبقى على إحرامها ويبقى معها محرم حتى تطهر ثم تقضي عمرتها.
س 497: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: بالنسبة للاشتراط في الحج هل هناك حالات معينة يشترط فيها الحاج ويقول: إن حبسني حابس؟
فأجاب فضيلته بقوله: الاشتراط في الحج أن يقول عند عقد(22/30)
الإحرام: إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني، وهذا الاشتراط لا يسنّ إلا إذا كان هناك خوف من مرض، أو امرأة تخاف من الحيض، أو إنسان متأخر يخشى أن يفوته الحج، ففي هذه الحال ينبغي أن يشترط، وإذا اشترط وحصل ما يمنع من إتمام النسك، فإنه يتحلل ولا شيء عليه، أما إذا كان الإنسان غير خائف، فالسنة ألا يشترط. فيعزم ويتوكل على الله ويحسن الظن بالله عز وجل.
س 498: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما هي الأنساك التي يمكن أن يحرم بها الذي يريد الحج أو العمرة؟ وما أفضلها؟ وكيف يحرم من كان في الطائرة؟
فأجاب فضيلته بقوله: الأنساك التي يخير فيها المحرم هي ثلاثة: التَّمتع، والإفْراد، والْقِران.
وصفة التمتع: أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويأتي بها كاملة ويحل منها، فإذا كان اليوم الثامن من ذي الحجة أحرم بالحج، وعليه فإذا وصل إلى الميقات اغتسل وتطيب ولبس ثياب الإحرام، ثم قال: لبيك عمرة، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، فإذا وصل إلى مكة طاف طواف العمرة، ثم سعى بين الصفا والمروة للعمرة أيضاً، ثم قصر من شعر رأسه وحل تحللاً كاملاً، فيباح له كل شيء كان محظوراً عليه في الإحرام من اللباس والطيب
والنساء، وغير ذلك.(22/31)
فإذا كان اليوم الثامن من ذي الحجة أحرم من مكانه الذي هو فيه، فاغتسل وتطيب، ولبس ثياب الإحرام ثم خرج إلى منى، فأدى بقية مناسك الحج.
وأما الإفراد فهو: أن يحرم بالحج مفرداً، فإذا وصل إلى الميقات أحرم قائلاً: لبيك حجاً فإذا وصل مكة طاف طواف القدوم، ثم سعى للحج بين الصفا والمروة واستمر في إحرامه حتى يوم العيد.
أما القران فهو: أن يحرم بالعمرة والحج جميعاً. فإذا وصل الميقات قال: لبيك عمرة وحجاً، فإذا دخل مكة طاف طواف القدوم ثم سعى للعمرة والحج واستمر في إحرامه إلى يوم العيد.
فالقارن والمفرد في الأفعال سواء لكنهما يختلفان من وجه آخر، فالقارن حصل له في نسكه عمرة وحج، ويجب عليه الهدي، كما يجب على المتمتع، وأما المتمتع فيختلف عنهما حيث إنه يفرد العمرة وحدها، ويفرد الحج وحده، وعليه الهدي وكذلك القارن.
والهدي شاة، أو سُبُع بدنة، أو سبع بقرة، يذبحها في أيام الذبح يأكل منها، ويهدي ويتصدق، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله.
وأفضل هذه الأنساك التمتع، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر به أصحابه وأكد عليهم، إلا إذا كان مع الإنسان هدي ساقه من الميقات فإن الأفضل أن يكون قارناً اقتداءً بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه وهو يأمرهم أن يجعلوا نسكهم تمتعاً: "لولا أن معي الهدي(22/32)
لأحللت معكم، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة" (1) .
وبالنسبة للإحرام في الطائرة، يغتسل الإنسان في بيته ويأخذ معه ثياب الإحرام، فإذا ركب لبسها، وإذا كان من مطار القصيم مثلاً، ومضى خمس وثلاثون دقيقة، أو أربعون دقيقة من إقلاع الطائرة أحرم، بمعنى لبى، فيكون متهيئاً لابساً ثياب الإحرام قبل هذه المدة.
فإذا مضت يبدأ بالتلبية: لبيك عمرة، على ما سبق، أما المطارات الأخرى إذا لم يكن إعلان عند وصول الميقات فإن الإنسان يسأل المسؤولين: متى يكون الإحرام؟ وإذا خاف فوات الميقات لسرعة الطائرة فلا حرج عليه أن يحتاط ويحرم قبله.
س 499: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما أفضل نسك بالنسبة للحاج الذي يريد أن يحج لأول مرة بالتفصيل بارك الله فيكم؟
فأجاب فضيلته بقوله: أفضل نسك للحاج أن يحرم بالعمرة أولاً من الميقات، ثم إذا وصل إلى مكة طاف وسعى للعمرة وقصر ثم لبس ثيابه وحل من إحرامه إحلالاً تاماً، فإذا كان اليوم الثامن من ذي الحجة أحرم بالحج من مكانه وخرج إلى منى وبات بها ليلة التاسع، فإذا كان يوم التاسع ذهب إلى عرفة ووقف بها إلى أن تغرب الشمس، ثم يدفع منها إلى مزدلفة فيبيت بها ويصلي
__________
(1) تقدم وهو عند مسلم (رقم 1218) .(22/33)
الفجر فإذا أسفر جداً دفع إلى منى فيرمى جمرة العقبة، ثم ينحر هديه، ثم يحلق رأسه، ثم ينزل إلى مكة فيطوف ويسعى، ثم يرجع إلى منى فيبيت بها ليلة الحادي عشر، وليلة الثاني عشر، ويرمي في هذين اليومين بعد الزوال الجمرات الثلاث كلها يبدأ بالأولى، ثم الوسطى، ثم جمرة العقبة، ثم إن شاء تعجل فخرج، وإن شاء بقي إلى اليوم الثالث عشر ورمى بعد الزوال، وإذا أراد أن يرجع إلى بلده فإنه لا يخرج حتى يطوف طواف الوداع، هذا أفضل الأنساك ويسمى عند أهل العلم التمتع؛ لأن الرجل تمتع فيما بين العمرة والحج حيث إنه أحل من إحرامه وتمتع بما أحل الله له بين العمرة والحج، فهذا هو أفضل الأنساك، فينبغي للحاج سواء كان حجه أول مرة أو فيما بعدها ينبغي له أن يحرم على
الوجه الذي ذكرناه وهو التمتع، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر من لم يسق الهدي من أصحابه به، وقال: "افعلوا ما أمرتكم به " (1) .
أما النوع الآخر من الأنساك فهو القران وهو: أن يحرم الإنسان بالحج والعمرة جميعاً من الميقات، فإذا وصل إلى مكة طاف للقدوم ثم سعى للحج وللعمرة وبقي على إحرامه لا يحل فإذا كان اليوم الثامن خرج إلى منى وفعل للحج كما ذكرنا أولاً لكنه ينوي بطوافه في طواف الإفاضة الذي يكون يوم العيد ينوي به أنه للحج والعمرة جميعاً كما ينوي بالسعي الذي سعاه بعد طواف القدوم أنه للحج والعمرة جميعاً، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة- رضي الله عنها- "طوافك بالبيت وبالصفا والمروة يسعك لعمرتك
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام (رقم 1216) (143) .(22/34)
وحجك " (1) .
أما الإفراد وهو النوع الثالث من أنواع النسك فهو: أن يحرم بالحج وحده من الميقات ويبقى على إحرامه، وصفة أعمال المفرد كصفة أعمال القارن، إلا أنه يحصل به نسك واحد، والثاني نسكان، ولهذا وجب على القارن الهدي ولم يجب على المفرد؛ لأن القارن حصل له نسكان عمرة وحج ولذا وجب الهدي، أما المفرد فلم يحصل له إلا نسك واحد فقط فلا يلزمه الهدي.
س 500: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما صفة الْقِران؟
فأجاب فضيلته بقوله: القران له صورتان:
الصورة الأولى: أن يحرم بالحج والعمرة جميعاً من الميقات ويقول: لبيك عمرة وحجاً.
والصورة الثانية: أن يحرم بالعمرة أولاً ثم يدخل الحج عليها قبل الشروع في طوافها.
وهناك صورة ثالثة موضع خلاف بين العلماء وهي: أن يحرم بالحج وحده ثم يدخل العمرة عليه قبل أن يفعل شيء من أفعال الحج كالطواف والسعي مثلاً.
والقارن يبقى على إحرامه فإذا قدم مكة يطوف للقدوم، ويسعى للحج والعمرة ويبقى على إحرامه إلى أن يتحلل منه يوم العيد، ويلزمه هدي كهدي المتمتع.
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام (رقم 1211) (132) .(22/35)
وأما المفرد فأن يحرم بالحج مفرداً من الميقات، فإذا قدم مكة طاف للقدوم وسعى للحج، ولم يحل إلا يوم العيد فيكون القارن والمفرد سواء في الأفعال لكنهما يختلفان في أن القارن يحصل له عمرة وحج ويلزمه هدي، وأما المفرد فلا يحصل له إلا الحج ولا يلزمه هدي.
س 501: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما حكم من ينتهي من الإفراد ثم يعتمر؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا العمل لا أصل له في السنة فلم يكن الصحابة- رضي الله عنهم- مع حرصهم على الخير، يأتون بهذه العمرة بعد الحج وهم خير القرون، وإنما جاء ذلك في قضية معينة في قصة عائشة أم المؤمنين- رضي الله عنها- حيث كانت محرمة بعمرة ثم حاضت قبل الوصول إلى مكة، فأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تحرم بالحج ليكون نسكها قِراناً، وقال لها: "طوافك بالبيت وبالصفا والمروة يسعك لحجك وعمرتك " (1) فلما انتهى الحج ألحت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تأتي بعمرة بدلاً من عمرتها التي حولتها إلى قران، فأذن لها وأمر أخاها عبد الرحمن بن أبي بكر أن يخرج بها من الحرم إلى الحل، فخرج بها وأتت بعمرة (2) . فإذا وجدت الصورة التي حصلت لعائشة- رضي الله عنها- وأرادت المرأة أن تأتي بعمرة فحينئذ نقول: لا حرج أن تأتي المرأة بعمرة،
__________
(1) تقدم وهو عند مسلم (رقم 1211) .
(2) تقدم وهو عند مسلم (رقم 1211) .(22/36)
كما فعلت أم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها- لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويدل على أن هذا أمر ليس بمشروع أن عبد الرحمن بن أبي بكر - رضي الله عنه- وهو مع أخته لم يحرم بالعمرة لا بتفقهٍ من عنده ولا بإذن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولو كان هذا من الأمور المشروعة لكان رضي الله عنه يأتي بالعمرة، لأن ذلك أمر سهل عليه من حيث إنه قد خرج مع أخته.
والمهم أن ما يفعله بعض الحجاج كما جاء في السؤال ليس له أصل من السنة. نعم لو فرض أن بعض الحجاج يصعب عليه أن يأتي إلى مكة بعد مجيئه هذا وهو قد أتى بحج مفرد فإنه في هذه
الحال في ضرورة بأن يأتي بعد الحج بالعمرة ليؤدي واجب العمرة، فإن العمرة واجبة على القول الراجح من أقوال أهل العلم، وحينئذ يخرج إلى التنعيم أو إلى غيره من الحل فيحرم
بعمرة منه ثم يطوف ويسعى ويحلق أو يقصر.
س 502: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما رأيكم فيمن استدل للأنساك الثلاثة بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - "لَيُهِلَّنَّ عيسى ابْنُ مَرْيَمَ من فجِّ الرَّوْحاءِ بالحج والعمرة، أو ليثنينهما جمعاً" رواه مسلم (1) وفي رواية "فيحج منها، أو يعتمر، أو يجمعهما".
فأجاب فضيلته بقوله: يحتاج إلى تأمل.
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب إهلال النبي - صلى الله عليه وسلم - وهديه (رقم 1252) .(22/37)
س 503: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: من اعتمر عن شخص وحج عن نفسه أيكون متمتعاً؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا اعتمر الإنسان عن شخص وحج عن نفسه فهو متمتع، فيجب عليه الهدي لقول الله تعالى: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) قال العلماء: ولا يعتبر وقوع النسكين عن واحد فيكون متمتعاً ولو كانت العمرة لشخص والحج لشخص آخر.
س504: سئل فضيلة الشيخ- رحمة الله تعالى-: من فسخ القران وجعله تمتعاً بعدما اعتمر بأربعة أيام، هل عليه شيء؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان الإنسان قدم إلى مكة قارناً أو مفرداً ولم يسق الهدي قلنا له افسخ الحج واجعله عمرة، امتثالاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قدم مكة وكان الناس على ثلاثة أقسام: قسم مفرد، وقسم قارن، وقسم متمتع، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - القارنين والمفردين أن يفسخوا نيتهم إلى نية العمرة إلا من ساق الهدي، وسوق الهدي في وقتنا هذا غير موجود، وعلى هذا فنقول: كل من قدم مكة مفرداً أو قارناً فالأفضل أن
يجعل إحرامه عمرة امتثالاً لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وإعطاء النفس شيئاً من الراحة، لأن الإنسان إذا تحلل لبس وتطيب وإذا كانت زوجته معه تمتع بها، لكن لو بقي محرماً لكان في ذلك مشقة ومخالفة للأفضل أيضاً، فإذا طاف وسعى وهو قارن أو مفرد قلنا: الحمد لله الآن ينوها عمرة وقصر وتحلل ولو كان بعد أربعة أيام فلا مانع،(22/38)
لكن من قدم إلى مكة في اليوم الثامن بعد أن خرج الناس إلى منى فهنا الأفضل أن يجعلها حجًّا مفرداً أو قارناً.
س 505: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: قام بعض الناس بعمرة من المدينة بعد زيارتهم لقبر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وفي الطريق أوقفهم المرور لوجود الضباب، فأشار أحدهم بجعل حجهم إفراداً لأنهم لا يعلمون متى وصولهم ففعلوا. هل هذا صحيح أم لا؟
فأجاب فضيلته بقوله: الذي يظهر لي من سؤال هذا الأخ أنهم كانوا أحرموا بالعمرة متمتعين، وخافوا أن لا يتمكنوا من أداء العمرة قبل الحج، فأحرموا بالحج، فهذا إن كان تغيير النية قبل
الإحرام فلا حرج في ذلك، وإن كان بعد الإحرام فإن حجهم كان قراناً، ولم يكن إفراداً، ومعنى أنه كان قراناً أنه لما أدخلوا الحج على العمرة صاروا قارنين، فإن القران له صورتان:
الأولى: أن يحرم بالحج والعمرة جميعاً من أول عقد الإحرام.
الثانية: أن يحرم بالعمرة أولاً ثم يدخل الحج عليها قبل الشروع في طوافها.
وعلى هذا ما دمتم أحرمتم بالعمرة أولاً ثم بدا لكم أن تجعلوها حجاً فإنكم تكونون قارنين، فإن كنتم قد ذبحتم هدياً في عيد الأضحى من حجكم ذلك العام فقد أتيتم بالواجب وتم لكم الحج والعمرة، فإن لم تكونوا قد ذبحتموه فإن عليكم أن تذبحوه الآن بمكة وتأكلوا منه وتتصدقوا. فمن لم يجد الهدي منكم -أي(22/39)
ما يشتري به الهدي- فإن عليه أن يصوم عشرة أيام الآن. وقول السائل: (إنهم زاروا قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم -) فلا ريب أن زيارة قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - من غير شد رحل إليه، من الأمور المشروعة، ولكن كيف يزور قبره - صلى الله عليه وسلم -؟ يقوم أمام قبره مستدبراً القبلة ووجهه إلى القبر فيقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وإن اقتصر على الأول وهو السلام كفى.
ثم يخطو خطوة عن يمينه ليكون تجاه أبي بكر رضي الله عنه، فيقول: السلام عليك يا خليفة رسول الله ورحمة الله وبركاته، ورضي الله عنك وجزاك عن أمة محمد خيراً، وإن اقتصر على السلام أجزأ.
ثم يخطو خطوة عن يمينه ليكون تجاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيقول: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، رضي الله عنك وجزاك عن أمة محمد خيراً، وإن اقتصر على السلام فلا حرج.
وإن تيسر له زيارة شهداء أحد فحسن، لأن فيهم سيد الشهداء حمزة رضي الله عنه، أسد الله وأسد رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ويدعو لهم هناك.
والقاصد إلى المدينة سواء من بلده أو من المملكة العربية السعودية يكون قصده من السفر هو السفر إلى مسجد رسول الله(22/40)
- صلى الله عليه وسلم -، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى" (1) .
س 506: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: شخص يحج حجاً متمتعاً هل يجوز أن يؤدي العمرة لنفسه والحج عن شخص آخر؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم يجوز ذلك، يجوز للمتمتع أن يجعل عمرته لنفسه والحج لشخص آخر، أو يجعل العمرة لشخص آخر والحج لنفسه، وهذا فيمن أدى الفريضة عن نفسه، أما من لم يؤدها فليحج عن نفسه ويعتمر عن نفسه أولاً ثم عن غيره ثانياً.
س 507: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يفرق في الفتوى السابقة بين من كان متبرعاً من نفسه ومن كان آخذاً حجاً عن غيره؟
فأجاب فضيلته بقوله: أما المتبرع لغيره بالعمرة أو بالحج فالأمر إليه، وأما من أخذ نيابة عن غيره فإن المعروف عندنا أن النائب يجب عليه أن يعتمر ويحج، وتكون العمرة والحجة لمن أعطاه المال، والعمل بالعرف واجب عند الإطلاق، فيرجع في ذلك إلى العرف، والعرف عندنا كما أن العمرة والحج كلتيهما
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب جزاء الصيد، باب حج النساء (رقم 1864) ، ومسلم كتاب الحج، باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره (رقم 827) (415) .(22/41)
لمن أعطاه المال، وبناء على ذلك لا يحل له أن يجعل العمرة لنفسه، بل تكون للذي أعطاه المال، والحج للذي أعطاه المال.
س 508: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: جئت في رمضان من أجل أداء العمرة وقد نويت البقاء للحج، وفي اليوم الرابع من شوال أديت عمرة عن أختي وهي متوفية علماً أني كنت لا أعلم أن من جاء بالعمرة في أشهر الحج يعتبر متمتعاً فهل عليَّ الآن هدي لأني قد صرت متمتعاً؟
فأجاب فضيلته بقوله: المتمتع هو الذي يحرم بالعمرة في أشهر الحج بعد دخول شهر شوال بنية الحج هذا العام ثم يحج، ويجب على المتمتع ما استيسر من الهدي شاة ماعز ضأن تم له ستة أشهر، وسَلِمَ من العيوب الواجبة من الإجزاء وإذا لم تجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعت تلك عشرة، ثلاثة أيام بالحج، تبتدىء من حين أن يحرم بالعمرة، يعني مثلاً الإنسان متمتع الآن وليس عنده فلوس، نقول: صم من الآن، صم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله وانتهى سفره، ولو قال: لا أستطيع أن أصوم تباعا؟
قلنا: يصوم يوماً ويفطر يوماً أو يومين، والدليل أن الله قال: (فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ) ولم يقل: متتابعة، ولو أراد الله منا أن نتابع لقال متتابعة، ولو قال: لا أستطيع أن أصوم عندي سكر وأحتاج إلى ماء ولا أستطيع أن أصوم ثلاثة أيام ولا يوماً واحداً فليس عليه شيء، والدليل: قال الله- عز وجل-: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ(22/42)
نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) هذه قاعدة عامة خذها معك في جميع العبادات (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) و (وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) ، فصار هدي التمتع سهلاً، فلماذا تفر من النسك الأكمل والأفضل إلى نسك مفضول خوفاً من الفدية أو الهدي؟ على الأصح هذا غلط وجهل، يا أخي إن كنت موسراً تستطيع أن تهدي بسهولة فهذا المطلوب، ثم اعلموا يا إخوان أنكم لن تنفقوا درهماً واحداً في طاعة الله إلا حصل لكم أمران عظيمان: الأول: الأجر العظيم مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ
سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261))
الأمر الثاني: الخلف العاجل، قال الله تعالى: (وَمَآ أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ) أي يأتي بخلفه (وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) .
س 509: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما أفضل المناسك؟
فأجاب فضيلته بقوله: أفضل المناسك التمتع، وهو أن يأتي الحاج بالعمرة أولاً ويتحلل منها، ثم يحرم بالحج في اليوم الثامن، ودليل ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أصحابه به وقال: "لو
استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولأحللت معكم " (1) ولأن التمتع يجمع بين نسكين مع تمام أفعالهما، فإن
__________
(1) تقدم وهو عند مسلم (رقم 1218) .(22/43)
المتمتع يأتي بالعمرة كاملة وبالحج كاملاً، ولهذا كان القول الراجح الذي عليه جمهور أهل العلم أن على المتمتع طوافاً وسعياً للعمرة وطوافاً وسعياً للحج، كما جاء ذلك في حديث ابن عباس وعائشة رضي الله عنهما (1) ، ولأن التمتع يحصل به متعة للحاج، لأنه بين العمرة والحج يتحلل تحللاً كاملاً ويتمتع بما أحل الله من محظورات الإحرام التي لو بقي على إحرامه لكان ممنوعاً منها، هذا إن لم يكن ساق الهدي، فإن كان الناسك قد ساق الهدي فإنه لا يأتي بالتمتع، وبل يكون قارناً كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذلك لأن من ساق الهدي لا يمكنه أن يحل حتى يبلغ الهدي محله، كما قال الله تعالى: (وَلَا تَحْلِقُواْ رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) (2) وكما قال عليه الصلاة والسلام: "إني سقت الهدي ولبدت رأسي فلا أحل حتى أنحر" (3) .
س 510: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ذكرتم يا فضيلة الشيخ أن أفضل الأنساك التمتع، وقلتم: إن أهل مكة لا تشرع لهم العمرة، فكيف يكون التمتع والعمرة لا تشرع لهم؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم ذهب أهل العلم أو أكثر أهل
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب التمتع والقران والإفراد بالحج (رقم 1561) ومسلم، كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام (رقم 1211) .
(2) سورة البقرة: 196.
(3) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب التمتع والقران والإفراد بالحج (رقم 1566) ومسلم، كتاب الحج، باب بيان أن القارن لا يتحلل إلا في وقت تحلل الحاج المفرد (رقم 1229)(22/44)
العلم إلى أن أهل مكة لا متعة لهم، وإنما المتعة للقادم إلى مكة حتى لو كان من أهل مكة، وعلى هذا لو كان الرجل من أهل مكة يعمل في الرياض وقدم من الرياض إلى مكة فله أن يأخذ عمرة من
الميقات ويكون متمتعاً لكنه لا هدي عليه، لقوله تعالى: (ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) (1) إلا إذا انتقل من مكة إلى البلد الآخر واستوطنها، فإنه إذا رجع متمتعاً بالعمرة يجب عليه هدي التمتع، لكن أهل مكة يمكن أن يقرنوا بين الحج والعمرة بمعنى أن الإنسان يحرم من مكانه من بيته للحج والعمرة جميعاً ويكون قارناً والقارن عليه هدي التمتع.
س 511: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل أحرم مفرداً ثم طاف طواف القدوم، ثم أراد أن يسعى سعي الحج وأخبروه بأن التمتع أفضل، فسعى بنية العمرة وقصر وتحلل، علماً بأنه في
الطواف نوى طواف القدوم فهل عمرته صحيحة؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم، حتى لو طاف وسعى وبعد السعي قيل له: الأفضل التمتع. فقصر وحل، فهذا هو الذي أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه- رضي الله عنهم- به إلا من ساق الهدي.
س 512: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل قدم للمملكة لأول مرة لأداء الحج فهل يجوز له أن يحج مفرداً مع أنه لم يسبق له أداء العمرة وذلك لأن له صحبة مفردين؟
__________
(1) سورة البقرة: 196.(22/45)
فأجاب فضيلته بقوله: لا بأس أن يحج مفرداً ولكن تبقى عليه العمرة، وقوله: (لأن له رفقة مفردين) لا يمنع أن يتمتع فينزل مع الرفقة ويطوفون جميعاً ويسعون جميعاً، وهم يبقون على إحرامهم، وهو يقصر ويحل، وإذا كان يوم ثمانية من ذي الحجة أحرم بالحج وخرج مع إخوانه ووقف معهم في عرفة ومزدلفة ومنى، وينزلون إلى مكة لطواف الإفاضة فيمتاز عنهم بشيء واحد وهو السعي هم لا سعي عليهم لأنهم سعوا عند القدوم وهو عليه السعي، لأنه سعى عند القدوم للعمرة، فيجب
أن يسعى للحج مع الطواف.
س 513: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: إذا أردنا التمتع هل ننوي الحج والعمرة معاً في ميقات أو ننوي العمرة فقط، ثم من أين ننوي الحج؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كنت تريد التمتع فتنوي العمرة فقط عند الميقات لأنك لو نويت العمرة والحج صرت قارناً. وتحرم بالحج من مكانك.
س 514: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ذكرتم أن الحج على ثلاثة أقسام وذكرتم فيه الإفراد هل هناك خلاف بين العلماء في الأفراد؟
فأجاب فضيلته بقوله: بعض العلماء يقول: إن التمتع واجب ولا يجوز القِران إلا مع سوق الهدي، ولا يجوز الإفراد إلا(22/46)
مع سوق الهدي، ولكن هذا القول ضعيف، والصواب أن الأنساك الثلاثة كلها جائزة، ولكنها تختلف في الأفضلية: فالتمتع أفضل والقِران أفضل لمن ساق الهدي، والإفراد هو آخرها.
س 515: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما الفرق بين التمتع والإفراد والقِران وأيها أفضل؟
فأجاب فضيلته بقوله: القِران والإفراد سواء في الأفعال، لكن يمتاز القارن بأنه حصل على نسكين: العمرة والحج، وأنه يجب عليه الهدي إن استطاع وإلا صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع، وأما المتمتع فالفرق بينه وبين القارن والمفرد أن المتمتع يأتي بعمرة تامة مستقلة بطوافها وسعيها وتقصيرها، وبحج تام بطوافه وسعيه وبقية أفعاله، لكنه يشارك القارن بأن عليه الهدي فإن لم يجد صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع.
وأما أيها أفضل فأفضلها التمتع؛ لأن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم أمر به أصحابه وحثهم عليهم، وغضب لما تباطئوا وراجعوه في هذا الأمر، فالممتع أفضل من القران ومن الإفراد.
س 516: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما الفرق بين التمتع والإفراد والقران؟
فأجاب فضيلته بقوله: الفرق بينها كما يلي:
أولاً: التمتع أن يهل بالعمرة في أشهر الحج فيطوف ويسعى ويقصر ويحل حلاً كاملاً، ثم يحرم بالحج من عامه فتكون عمرة(22/47)
منفصلة عن الحج.
وأما القران فهو أن يحرم بالعمرة والحج جميعاً فيقول عند ابتداء إحرامه: لبيك عمرة وحجًّا وفي هذه الحال تكون الأفعال للحج وتدخل العمرة في أفعال الحج.
وأما الإفراد فهو أن يحرم بالحج مفرداً ولا يأتي معه بعمرة، فيقول: لبيك اللهم حجاً. عند الإحرام من الميقات هذا فرق من حيث الأفعال.
ثانياً: من حيث وجوب الدم فإن الدم يجب على المتمتع وعلى القارن دون المفرد، وهذا الدم ليس دم جبران ولكنه دم شكران، ولهذا يأكل الإنسان منه ويهدي ويتصدق.
ثالثاً: أما من حيث الأفضلية فالأفضل التمتع إلا من ساق الهدي، فالأفضل له القِران ثم يلي التمتع القِران ثم الإفراد.
س 517: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: قدمت من بلدي السودان إلى المملكة العربية والسعودية وكان ذلك في شهر ذي القَعدة عام أربعة عشر وأربعمائة وألف من الهجرة ثم ذهبت إلى
المدينة حين مجيئي من السودان وقمت بزيارة المسجد النبوي الشريف وفي قدومي إلى مكة المكرمة أحرمت من الميقات آبار علي بنية الحج وكان ذلك في اليوم الثالث والعشرين من ذي القعدة وأتيت البيت الحرام فطفت وسعيت ثم حللت إحرامي حيث إنني لم أستطع البقاء على الإحرام وكانت المدة المتبقية على الصعود ليوم عرفة أربعة عشر يوما أرجو الإفادة؟(22/48)
فأجاب فضيلته بقوله: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين:
قبل الجواب على هذا السؤال أبين أنه يلحقني الأسف الشديد في مثل هذه القصة التي ذكرها السائل، وذلك أن الإنسان يفعل الشيء ثم بعد فعله إياه يسأل وهذا خطأ، بل الواجب على الإنسان ألا يدخل في شيء حتى يعرفه، فمن كان يريد الحج مثلاً فيدرس أحكام الحج قبل أن يأتي للحج، كما أن الإنسان لو أراد السفر إلى بلد فإنه يدرس طريق البلد، وهل هو آمن أو خائف، وهل هو مستقيم أو معوج، وهل يوصل إلى البلد أو لا يوصل، هذا في الطريق الحسي فكيف بالطريق المعنوي وهو الطريق إلى الله عز وجل؟ فأنا آسف لكثير من المسلمين أنهم على مثل هذا الحال التي ذكرها السائل عن نفسه، والذي فهمته من هذا السؤال أن الرجل أتى من بلده قاصداً المدينة النبوية وأنه أحرم من محرم المدينة النبوية وهو ذي الحليفة أي آبار علي لكنه أحرم قارناً بين الحج والعمرة والمحرم القارن بين الحج والعمرة يبقى على إحرامه إلى يوم العيد لكنه لما طاف وسعى وكان قد بقي على الحج أربعة عشر يوما تحلل، وهذا هو المشروع له أن يتحلل ولو كان نوى القران يتحلل إذا طاف وسعى قصر ثم حل ولبس ثيابه فإذا كان اليوم الثامن أحرم بالحج، والذي فهمته من السؤال أن الرجل تحلل ولكنه لم يقصر فيكون تاركاً لواجب من واجبات العمرة وهو التقصير ويلزمه على ما قاله أهل العلم في ترك(22/49)
الواجب دم يذبحه في مكة ويوزعه على الفقراء، ويكون حجه الذي حجه فيما مضى حجة صحيحة، وعليه فلا يلزمه في فعل ما سبق إلا هذا الدم الذي وجب عليه لتركه واجب التقصير، وما بقي من المناسك فإنه لم يسأل عنه، والظاهر جريانه على الصحة إن شاء الله.
س 518: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: من اعتمر في رمضان وجلس في مكة، ولكنه يريد أن يحج متمتعاً، فهل يشرع له أن يخرج إلى التنعيم ليعتمر في أشهر الحج ويجعل حجه تمتعاً؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا لا يمكن؟ لأن التمتع لابد أن يحرم الإنسان للعمرة من الميقات، ومن أحرم من أدنى الحل لم يكن متمتعاً، بل ولا يشرع له أن يخرج ليحرم من التنعيم، فنقول: هذا الرجل الذي أتى إلى مكة في رمضان وأحرم بالعمرة وانتظر إلى الحج نقول: إنه مفرد؛ لأنه أتى بالعمرة في غير أشهر الحج، وأتى للحج مفرداً، وفي هذه الحال يرى بعض العلماء أن هذا أفضل من التمتع؟ لأنه أتى بعمرة منفردة عن الحج، ولكن في النفس من هذا شيء، والصواب أن التمتع لا يعدله شيء؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أصحابه به إلا من ساق الهدي، فإن القِران في حقه
أفضل.
س 519: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: عن رجل لا يعرف مناسك الحج ولا يعرف معنى التمتع والإفراد والقران(22/50)
والهدي ويريد الحج فماذا يفعل؟
فأجاب فضيلته بقوله: جوابي على هذا أن الله سبحانه وتعالي قد أجابه في قوله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)) (1) والواجب على من أراد عبادة يجهلها أن يسأل أهل العلم عنها حتى يعبد الله على بصيرة، لأن من شروط العبادة الإخلاص لله عز وجل، ولمتابعته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا تمكن المتابعة إلا بمعرفة ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقوم به من أعمال العبادة القولية والفعلية، ولهذا أقول لهذا السائل: إذا أردت الحج وأنت لا تعرف أحكامه ولا تعرف المناسك فالواجب عليك أن تسأل أهل العلم بذلك، وإنني أؤكد على من أراد الحج أن يصحب أحداً من أهل العلم من طلبة العلم الذين عرفوا بمعرفة الأحكام التي تتعلق بالحج من أجل أن يكون مقتدياً فيما يرشدونه إليه.
س 520: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما هو الوقت الكافي للمتمتع، فأحياناً نحل من إحرامنا ضحى اليوم الثامن ثم نحرم بالحج في نفس اليوم فأرجو التوضيح؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا وصل الإنسان إلى مكة وهو متمتع فإن أمكنه أن يفصل بين الحج والعمرة فهو متمتع، وأما إذا دخل وقت الحج مثل أن يدخل مكة بعد ظهر اليوم الثامن فهذا انتهى وقت التمتع، لأنه دخل وقت الحج والله عز وجل يقول: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ) وهذا يدل على أن بينهما مسافة ووقتاً،
__________
(1) سورة النحل: 43.(22/51)
وهذا قد وصل إلى مكة والناس في منى محرمون بالحج فنقول: إذا قدمت متأخراً فانو الحج مفرداً، وإن كنت تحب أن يحصل لك حجاً وعمرة فانو قِراناً، تقول: لبيك عمرة وحجًّا.
س 521: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يصح التمتع بعد دخول زمن الحج أي بعد ظهر اليوم الثامن؟
فأجاب فضيلته بقوله: يقول الله عز وجل: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ) (1) وهذا يدل على أن العمرة تفعل قبل أن يأتي أوان الحج، فإذا قدمت مكة في اليوم الثامن فأمامك شيئان: الإفراد
والقران، أما التمتع فقد فات، والإنسان لا ينبغي له أن يتشاغل عن الخروج إلى منى، لأنه إذا جاء ضحى يوم الثامن فالمطلوب منه أن يكون في منى، فلو اعتمر لمضى وقت من أوقات الحج؛ لأن وقت الحج يدخل من ضحى يوم الثامن حيث إن الصحابة رضي الله عنهم أحرموا من ذلك الوقت، فإذا جئت متأخراً فالذي أختاره له أن يأتي بحج مفرد، أو بحج وعمرة مقرونين، أما التمتع فلا محل له في هذا الحال.
س 522: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: من حج متمتعاً ولم يصل إلا اليوم الثامن هل له أن يحل الإحرام أو يحرم للحج بعد العمرة أو يبقى على إحرام العمرة؟
فأجاب فضيلته بقوله: نحن نرى أن التمتع ينقطع إذا دخل
__________
(1) سورة البقرة: 196.(22/52)
وقت الحج، ووقت الحج يكون في ضحى اليوم الثامن فمن لم يصل إلى مكة إلا بعد خروج الناس إلى منى نقول: لا تأتي بعمرة انتهى وقت العمرة، لأن الله يقول: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ) فجعل عمرة وحجًّا، وجعل غاية بينهما مسافة، لقوله: (إلى الحج) .
فإذا وصل في هذا اليوم قلنا له: إما أن تحرم مفرداً وإما أن تحرم قارناً؟ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج بالمسلمين إلى منى وصلى بها الظهر يعني قبل الزوال بساعة أو ساعة ونصف أو ساعتين تقريباً.
س 523: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: إذا انتهى المتمتع من عمرته قبل الزوال بساعة وقد أراد الحج فهل يلزمه خلع ثياب الإحرام؟
فأجاب فضيلته بقوله: ليس بلازم أن يخلع ثياب الإحرام، بل يبقى على ثيابه ويعقد الحج بالنية.
س524: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: من وصل إلى الميقات في اليوم الثامن هل له أن يتمتع وإذا كان له ذلك هل الأفضل التمتع أم الْقِران؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا وصل إلى الميقات في اليوم الثامن قبيل الظهر فلا أرى أن يأتي بعمرة، لأن الله يقول: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ) فلابد أن يكودن هناك وقت يفصل بين العمرة وبين الحج، والإنسان إذا وصل إلى الميقات بعد أن دخل وقت الحج هو مأمور أن يخرج إلى منى وأن يسعى في الحج ويكمل الحج، وبناء على ذلك أرى أن الأفضل لمن مر بالميقات في(22/53)
الوقت الذي يخرج الناس فيه إلى منى أرى أن يأتي بقران وأن لا يأتي بتمتع، لأن التمتع في الحقيقة فات وقته، إذ إن الله يقول: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ) وهذا يدل على أن هناك وقتاً بين العمرة
والحج، والرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم خرجوا إلى منى في ضحى اليوم الثامن، ونقول: إذا كنت تريد أن يحصل لك حج وعمرة فاقرن، والقِران يحصل به الحج والعمرة، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة- رضي الله عنها-: "طوافك بالبيت وبالصفا والمروة يسعك لحجك وعمرتك " (1) .
س 525: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: أريد أن أحج متمتعاً إن شاء الله وأريد الذهاب في اليوم السابع أو الثامن هل يمكنني ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: المتمتع يأتي بالعمرة أولاً ويحل منها ويحرم بالحج، وقوله تبارك وتعالى: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ) يدل على أنه بينهما زمن، فإذا قدم الإنسان مكة يوم السابع فبينهما زمن
فيحل من العمرة وإذا كان اليوم الثامن أحرم بالحج، لكن إذا قدم بعد أن خرج الناس إلى منى يعنى في اليوم الثامن فهنا لا مكان للتمتع، لأن الزمن زمن حج، ومعنى أنه زمن الحج أنك لو كنت
في مكة محلاً قلنا لك: أحرم بالحج واخرج مع الناس، فمثل هذا إذا وصل في هذا الزمن إما أن يحرم مفرداً، وإما يحرم قارناً؛ لأن التمتع انتهى؛ لأنه دخل وقت الحج.
__________
(1) تقدم ص 34-35.(22/54)
س 526: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يصح التمتع لمن لم يصل إلى مكة إلا بعد الزوال من يوم التروية ولم يحرم للحج إلا مع غروب اليوم نفسه أم كان الواجب عليه القران؟
فأجاب فضيلته بقوله: الذي ينبغي لمن قدم مكة بعد خروج الناس إلى منى وهو ضحى اليوم الثامن أن يخرج إلى منى للحج إما قراناً وإما إفراداً؛ لأن اشتغاله بالحج في زمن الحج أولى من اشتغاله بعمرة، إذ إن العمرة يمكن أن يشتغل بها في وقت آخر أما زمن الحج فيفوت، لهذا نقول لمن قدم ضحى اليوم الثامن إلى مكة: الأفضل لك أن تحرم بحج وعمرة قراناً أو بحج إفراداً، لأنه لا مكان للعمرة الآن، الزمن الآن هو للحج.
فإن قال قائل: أليس يجوز للإنسان أن يتأخر ولا يخرج إلى منى إلا في الليل أو لا يأتي منى أصلاً ويذهب إلى عرفة.
فالجواب: بلى يجوز ذلك، لكن ليس معنى هذا أن الوقت الذي هو وقت الحج إذا أخر الإنسان إحرامه بالحج أو خروجه إلى المشاعر ليس معناه أن يفعل في هذا ما شاء، بل نقول: الأفضل
إذا دخل وقت الحج ألا يشتغل الإنسان بغيره.
س 527: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل لي أن أؤدي العمرة في اليوم الثامن من ذي الحجة وبعد أن أحل من العمرة أحرم مباشرة بالحج، ولو لم يكن هناك وقت طويل من التحلل بين
العمرة والإحرام بالحج؟
فأجاب فضيلته بقوله: الذي يظهر لي أن الإنسان إذا قدم(22/55)
مكة بعد أن خرج الناس إلى الحج فلا يعتمر، لأن الله تعالى قال: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ) فدل هذا أن هناك مسافة بين العمرة والحج يحصل بها التمتع، أما أن تقدم مكة في ضحى اليوم الثامن حين
يخرج الناس إلى الحج أو بعد ذلك ثم تأتي بعمرة، ففي نفسي من هذا شيء، وإن كان ظاهر كلام أهل العلم الجواز، لكني في نفسي من هذا شيء، لأن الآية: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ) وإذا لم يكن هناك مسافة يحصل بها التمتع لم يكن مشروعاً للإنسان أن يتمتع، وعلى هذا فنقول: إذا قدمت في هذا الوقت بعد أن خرج الناس إلى منى، فاجعل نسكك قِراناً لتحصل على العمرة والحج جميعاً.
س 528: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: إذا قدم الإنسان إلى مكة قبل أشهر الحج بنية الحج ثم اعتمر وبقي إلى الحج فهل حجه يعتبر تمتعاً أم إفراداً؟
فأجاب فضيلته بقوله: حجه يعتبر إفراداً، لأن التمتع هو أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويفرغ منها ثم يحرم بالحج من عامه، وأما من أحرم بالعمرة قبل أشهر الحج وبقي في مكة حتى حج فإنه يكون مفرداً، إلا إذا قرن بأن يحرم بالحج والعمرة جميعاً فيكون قارناً، وإنما اختص التمتع بمن أحرم بالعمرة في أشهر الحج لأنه لما دخلت أشهر الحج كان الإحرام بالحج فيها أخص من الإحرام بالعمرة، فخفف الله تعالى عن العباد وأذن لهم، بل أحب أن يجعلوه عمرة يتمتعوا بها إلى الحج، فيفعلوا ما كان حراماً عليهم بالإحرام.(22/56)
س 529: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل من أهل جدة اعتمر في شهر ذي القعدة ولم يكن في نيته أن يحج، ولكنه الآن يريد الحج فهل هو متمتع؟ وإذا لم يكن متمتعاً فبأي نسك
يحرم؟
فأجاب فضيلته بقوله: العمرة التي أداها السائل في أول هذا الشهر عمرة منفردة؛ لأنه لا ينوي بها التمتع إلى الحج، حيث لم يكن ناوياً الحج حينذاك، وعلى هذا فإنه إذا أراد أن يحج من جدة فإما أن يأتي بعمرة فيكون متمتعاً، وإما أن يحرم بالحج مفرداً من جدة في اليوم الثامن ويذهب إلى منى ويستمر مع الحجاج وحينئذ يكون حجه حجاً مفرداً.
س 530: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل اعتمر في رمضان عمرتين وعمرة في شوال ثم تيسر له الحج ويريد أن يحج مفرداً فهل يجوز ذلك؟ وما الفرق بين الإفراد والقِران؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا الرجل الذي اعتمر عمرتين في رمضان وعمرة في شوال وهو الآن يريد أن يحج حجاً مفرداً لا حرج عليه أن يحج حجاً مفرداً، وذلك لأن أنواع النسك ثلاثة: إفراد وقران وتمتع، والإنسان فيها يخير، ولكن الأفضل فيه التمتع إلا لمن ساق الهدي فالأفضل القران، والفرق بين القارن والمفرد أما من حيث العمل فهما سواء فإن كلا منهما يؤدي النسك على حد سواء، كل منهما يحرم من الميقات فإذا وصل إلى مكة طاف طواف القدوم وسعى بين الصفا والمروة وبقي على إحرامه إلى(22/57)
يوم العيد، ولكن الفرق بينهما من حيث الهدي فالمفرد ليس عليه هدي والقارن عليه الهدي، والمفرد لم يحصل له إلا الحج والقارن يحصل له الحج والعمرة جميعاً.
ولي ملاحظة على قول السائل: إنه اعتمر في رمضان عمرتين وهي أنه إذا كانت العمرة الثانية خرج بها من مكة أي أنه بعد أن أتى بالعمرة من الميقات أول ما قدم وحل منها خرج من مكة إلى التنعيم ليأتي بعمرة أخرى فإن هذا من العمل الذي ليس معروفا في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه- رضي الله عنهم- وهو غير مشروع، وأما إذا كان أتى بالعمرتين في رمضان يعني كل عمرة بسفرة كأن يكون اعتمر في أول الشهر وعاد إلى البلد الذي هو مقيم فيه ثم عاد آخر الشهر إلى مكة وأتى بعمرة فإن هذا لا بأس به.
س 531: سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى-: ما الأولى بالنسبة للحاج المفرد الذي يعرف أن الإتيان إلى مكة مرة أخرى يصعب عليه ولم يعتمر من قبل؟
فأجاب فضيلته بقوله: الأولى أن يأتي بالعمرة بعد الحج، لأن هذا ضرورة.
س 532: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل معه نساء كبيرات في السن فأيهما أفضل التمتع أم القِران؟ لأن القِران يسقط منه سعي، ويمكن أيضاً أن تجمع المرأة بين طواف الإفاضة(22/58)
وطواف الوداع فيكون ذلك أيسر على المرأة كبيرة السن وهل تنصحون كبيرات السن بالتمتع أم بالقران أجيبونا وفقكم الله؟ وهل يجوز القران بدون سوق الهدي؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا شك أنه في هذه الأزمنة يصعب على كثير من الحجاج إذا كانوا متمتعين أن يأتوا بطواف للعمرة وسعي للعمرة، ثم طواف للحج وسعي للحج، ثم طواف للوداع، فيرى بعض النساء أن يكن قارنات، فإذا وصلن إلى مكة طفن طواف القدوم وسعين سعي الحج والعمرة، ولا يعيدن السعي مرة ثانية، فيكون من هذه الناحية أسهل من التمتع، كذلك هو أسهل من التمتع من وجه آخر لأنه إذا كان قارناً فله أن يؤخر الطواف إلى ما بعد انقضاء الحج يعنى يجوز أن لا يطوف للقدوم وأن لا يسعى، بل يحرم بالحج والعمرة ثم يخرج إلى منى ويكمل الحج ثم بعد ذلك يطوف ويسعى متى تيسر له حتى إن كان بعد اليوم الثالث عشر، أو بعد اليوم الرابع عشر، أو بعد اليوم الخامس عشر، أو في آخر الشهر. فصار القران أيسر من التمتع من وجهين:
الوجه الأول: أنه ليس فيه إلا طواف واحد وسعي واحد.
الوجه الثاني: أنه يمكن للقارن أن لا يطوف بالبيت أول ما يصل ولا يسعى بل يخرج إلى منى ويكمل الحج ومتى تيسر له طاف وسعى.
وبناء على ذلك نقول: إذا كان هذا أيسر فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخير بين شيئين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن(22/59)
إثماً (1) . والقِران ليس بإثم، بل هو أحد مناسك الحج، وقد حصل على عمرة وحج وحصل أيضاً على هدي، لأن القارن يذبح الهدي كما يذبحه المتمتع.
وقول السائل: هل يجوز القران بدون سوق الهدي؟
نقول: نعم. يجوز القران بدون سوق الهدي؛ لأن الذين أحرموا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث عائشة منهم من أهل بحج، ومنهم من أهل بعمرة وحج، ومنهم من أهل بعمرة، ثم لما قدم مكة قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من لم يسق الهدي فليجعلها عمرة" (2) وهذا
يشمل القارن الذي أحرم عند الميقات بحجة وعمرة ولم يسق الهدي.
س 533: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: من أحرم بالعمرة في شوال وأتمها وهو لم يرد الحج ثم تيسر له الحج فهل يكون متمتعاً؟
فأجاب فضيلته بقول: ليس بمتمتع فلا يجب عليه هدي.
س 534: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: القارن هل يكفيه في الحج طواف واحد وسعى واحد بالحج والعمرة مثل المفرد، أم أنه لابد من طوافين وسعيين أفيدونا مأجورين؟
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الحدود، باب إقامة الحدود والانتقام لحرمات الله (رقم 6786) ومسلم، كتاب الفضائل، باب مباعدته - صلى الله عليه وسلم - للآثام واختياره من المباح أسهله (رقم 2327) .
(2) تقدم وهو عند مسلم (رقم 1218) .(22/60)
فأجاب فضيلته بقوله: الصحيح أن القارن ليس عليه إلا طواف واحد وسعي واحد، كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) ، ولكن القارن أول ما يقدم إلى مكة يطوف طواف القدوم ثم يسعى بين الصفا والمروة للحج والعمرة ويبقى على إحرامه، فإذا كان يوم العيد رمى جمرة العقبة ونحر وحلق ونزل إلى مكة فطاف طواف الإفاضة بنية العمرة والحج ثم عاد إلى منى لإكمال المناسك، فإذا أراد أن يسافر إلى بلده فلا يخرج حتى يطوف للوداع كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما كان كذلك؛ لأن العمرة في هذه الصورة دخلت في الحج، فهي كما لو نوى الجنب الغسل فإنه يكفيه الغسل عن الوضوء.
س 535: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: شخص نوى الحج في يوم عرفة، أيهما أفضل له: أن يقرن أم يفرد؟
فأجاب فضيلته بقوله: الذي يظهر لي أن القران أفضل، لأنه يحصل به نسكان عمرة وحج، فيقول: لبيك عمرة وحجاً.
س 536: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: إذا كنت أريد الحج وأنا عند أهل بلد لا يرون الإفراد، فهل الأفضل لي أن أفرد أم أتمتع؟
فأجاب فضيلته بقوله: الأفضل أن تتمتع ويجوز الإفراد، ومن منع الإفراد فقوله ضعيف مخالف لهدي الخلفاء الراشدين،
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب جواز التمتع (رقم 1224) .(22/61)
وليس أفقه من الخلفاء الراشدين- رضي الله عنهم-، ولا ابن عباس- رضي الله عنه- أفقه من أبي بكر وعمر- رضي الله عنهما-، وقد سئل أبو ذر رضي الله عنه: هل ما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم خاصة أم للناس عامة؟ فقال: لنا خاصة (1) .
والصواب ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- أن التمتع واجب على الصحابة الذين كلمهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - في ذلك اليوم حتى تثبت هذه الشعيرة وهي جواز العمرة في أشهر الحج لمن أراد الحج.
وأما من بعدهم، فالأمر في حقهم على سبيل الاستحباب، ولكن لو أفرد الإنسان فإن ذلك جائز، ثم على فرض، أن هؤلاء القوم يرون وجوب التمتع إلا على من ساق الهدي، فلهم رأيهم ولك رأيك، وأنت أفردت فقد فعلت جائزاً، لكن تركت مستحباً. فالأفضل لك التمتع على كل حال، أما أنه يحرم الإفراد فهذا ليس بصحيح.
س 537: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: قلتم إن أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالتمتع واجب على الصحابة فقط، فما دليل الصرف مع أن القاعدة العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؟
فأجاب فضيلته بقوله: الدليل حديث أبي ذر- رضي الله عنه- في صحيح مسلم كانت لنا خاصة (1) ، أنهم أعلم منا بمراد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأعلم من ابن عباس- رضي الله عنهما- بمراد
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب جواز التمتع (1224) (165) .(22/62)
الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأعلم ممن بعد ابن عباس إلى يومنا هذا، ولأن الصحابة- رضي الله عنهم- قدوة الأمة فلو امتنعوا عن التمتع حينئذٍ لكان امتناع غيرهم أولى فيبطل العمل بالتمتع.
س 538: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: لماذا عدل الخلفاء الراشدون. رضوان الله عليهم. عن التمتع إلى الإفراد وهم من أحرص الناس على الخير؟
فأجاب فضيلته بقوله: عدل الخلفاء الراشدون- رضي الله عنهم- إلى الأمر بالإفراد بالحج تأولاً منهم رضي الله عنهم حيث رأوا أن الناس إذا تمتعوا وأخذوا الحج والعمرة في سفر واحد بقي
البيت ليس له من يعمره بالطواف والسعي، لأن الأسفار في ذلك الوقت كانت شاقة، فيصعب على الإنسان أن يتردد إلى البيت، فإذا حصل لهم عمرة وحج في سفر واحد واقتصروا على ذلك بقي
البيت في بقية السنة مهجوراً، فرأوا أن الإفراد أفضل من أجل أن يبقى البيت معموراً طول السنة، وتأولوا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه من أجل أن تزول العقيدة الفاسدة التي كانت في الجاهلية، وهي أن أهل الجاهلية يقولون: لا يمكن العمرة في أشهر الحج، ويقولون: (إذ انسلخ صفر، وبرىء الدبر، وعفى الأثر، حلت العمرة لمن اعتمر) ، يعنى لا تعمر إلا بعد أن تمضي مدة بعد الحج، والقصد في ذلك أن يبقى البيت دائماً معموراً، ولهذا قال شيخ الإسلام - رحمه الله- في منسكه: (إذا أفرد في سفر؛ فإن الإفراد أفضل بلا خلاف) هكذا قال رحمه الله.(22/63)
ولعله أخذه من عمل الخلفاء الراشدين- رضي الله عنهم-، لكن في النفس من هذا شيء، فيقال: التمتع أفضل مطلقاً، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر به وحث عليه، ولم يقل إنه خاص بمن لم يأت من قبل، فلما لم يستثن علم أن التمتع أفضل، وأن ما ذهب إليه الخلفاء الراشدون- رضي الله عنهم- إنما هو على سبيل التأويل، ولكن الأخذ بعموم كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - أولى.
س 539: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: كيف يكون الجواب على من قال بوجوب التمتع؟
فأجاب فضيلته بقوله: الجواب يكون من وجهين:
الوجه الأول: في صحيح مسلم عن أبي ذر- رضي الله عنه- أنه سئل عن فسخ الحج مفرداً أو قارناً إلى العمرة ليصير متمتعاً، قيل له: ألكم خاصة أم للناس؟ فقال: بل لنا خاصة (1) .
الوجه الثاني: أن القائل بالوجوب ليس أعلم من أبي بكر وعمر- رضي الله عنهما-، ولا أفقه في دين الله منهما ولم يقولا بوجوب التمتع.
فإذا قال قائل: أما الأول، فإنه معارض بأن سراقة بن مالك بن جعشم لما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أحلوا واجعلوها عمرة" قال: ألعامنا هذا أم للأبد؟ قال: "بل لأبد الأبد" (2) . وهذا يدل على أنه ليس خاصاً بالصحابة. أجيب: بأن مراد أبي ذر- رضي الله عنه-:
__________
(1) تقدم ص 62.
(2) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام وأنه يجوز إفراد الحج والتمتع والقران (رقم 1216) .(22/64)
الوجوب للصحابة خاصة، وأما بقية الناس فللاستحباب. وبهذا تجمع بين قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأمره بالتمتع وبين قول الخلفاء الراشدين- رضي الله عنهم- بأن الوجوب في حق الصحابة لأنهم الذين وجهوا بالخطاب، ومعصيتهم للرسول - صلى الله عليه وسلم - تؤدي أن من
بعدهم يعصيه من باب أولى لأنهم أسوة، ثم إن الإشكال الذي يوجد عند الناس في ذلك الوقت، أنه لا يجمع بين العمرة والحج في سفر واحد قد زال بتحلل الصحابة رضي الله عنهم فزال سبب
الوجوب. هكذا الجواب.
س 540: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: وفقني الله لأداء فريضة الحج في العام الماضي علما بأنني قد أديت العمرة في الشهر الحرام فقال لي أحد الأخوة المسلمين إنك متمتع وأنه يجب عليك هدياً فذبحت هدياً بعد أن رميت الجمرة الأولى علما بأنني تحللت من الإحرام قبل أن أحلق أو أقصر أو آخذ شعيرات من رأسي وقبل الذبح كذلك جهلاً مني، فعلمت من أحد الحجاج يوم الجمرة الثالثة أن علي هدياً للمرة الثانية أو صيام عشرة أيام ثلاثة في الحج وسبعة بعد رجوعي علما بأن ثلاثة الأيام مضى منها يومان والمبلغ الذي معي لا يتجاوز الألف ريال وكما وضحت لكم سابقا
فقد ذبحت منه هدياً وما بقي منه في حدود مصاريفي أيام الحج.
فأرجو منكم أن توضحوا لي ما حكم حجي هذا أصحيحٌ هو أم لا وماذا أعمل في هذه الحالة وقد فات الأوان أفيدوني جزاكم الله خيراً؟(22/65)
فأجاب فضيلته بقوله: الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على نبينا محمد خاتم النبيين وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد: فإنه وقبل أن أجيب على سؤالك أحب أن أوجه إلى إخواننا عامة المسلمين التحذير من الفتوى بغير علم، فإن الفتوى بغير علم جناية كبيرة حرمها الله عز وجل وقرنها بالشرك في قوله: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (1) فإن قوله سبحانه: (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) يشمل القول على الله في أسمائه وصفاته وفي أفعاله وأحكامه، فالذي يفتي الناس بغير علم قد قال على الله ما لا يعلم ووقع فيما حرم الله عليه، فعليه أن يتوب إلى الله، وعليه أن يمتنع عن صد الناس عن سبيل الله، فإن المفتي بغير علم يعتمد المستفتي فتواه فإذا كانت خاطئة
فقد صده عن سبيل الله ومنعه من سؤال أهل العلم، لأنه يعتقد أعني هذا المستفتي يعتقد أن ما أجابه به هذا المفتي الخاطىء صواب فيقف عن سؤال غيره، وحينئذ يكون هذا المفتي الخاطىء صاداً للناس عن سبيل ربهم، وما أكثر الفتاوى التي نسمعها في الحج خاصة وهي فتاوى خاطئة بعيدة عن الصواب، بل ليس فيها شيء من الصواب، تكاد تقول عند كل عمود خيمة عالم يفتي الناس، وهذا من الخطورة بمكان، فالواجب على المرء أن يتقي ربه وأن لا يفتي إلا عن علم يأخذه من كتاب الله، أو من سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، أو من أقول أهل العلم الذين يوثق بأقوالهم، فهذا
__________
(1) سورة الأعراف، الآية: 33.(22/66)
الذي أفتاك بما فعلت بأن عليك هدياً أو صيام عشرة أيام أخطأ في ذلك، وعملك الذي عملته وهو بأنك تحللت بعد أن رميت جمرة العقبة ولبست ثيابك ظاناً أن ذلك جائز قبل الحلق لا شيء عليك
فيه، بل إن بعض أهل العلم يقول: إن من رمى جمرة العقبة يوم العيد قد حل من كل شيء إلا من النساء، ولكن الصواب أنه لا يحل حتى يرمي ويحلق أو يقصر، إلا أنك لما كنت جاهلاً في هذا الأمر فلا شيء عليك، ليس عليك هدي ولا صيام عشرة أيام، ثم إن فعل المحظور أيضاً إذا فعله الإنسان غير معذور فيه ليس هذه فديته، بل إن فعل المحظور- غير جزاء الصيد وفدية الجماع في الحج قبل التحلل الأول- كل المحظورات يخير فيها بين ثلاثة أشياء: إما أن يصوم ثلاثة أيام، أو يطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، أو يذبح فدية يوزعها على الفقراء، لقوله تعالى في حلق الرأس: (وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) (1) وبهذه المناسبة أود أيضاً أن أحذر كثيراً من الناس الذين كلما سئلوا عن محظور من محظورات الإحرام قالوا للسائل: عليك دم. عليك دم. عليك دم. مع أنه مما يخير فيه الإنسان بين هذه الثلاثة: بين صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، أو ذبح شاة، وحينئذ يلزم الناس بما لا يلزمهم والواجب على المفتي أن يراعي أحوال الناس وأن تكون فتواه مطابقة لما جاء في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 196.(22/67)
وخلاصة جوابي هذا هي في شيئين:
الشيء الأول: التحذير من التسرع في الفتوى التي لا تعتمد على كتاب الله ولا سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا أقوال أهل العلم الموثوق بهم عند تعذر أخذ الحكم من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
الشيء الثاني: أن ما فعلته أنت أيها الأخ حيث لبست حين رميت جمرة العقبة قبل أن تحلق جهلاً هذا لا شيء عليك فيه؛ لأنك جاهل والجاهل الذي لا يدري فلا شيء عليه فيه.
ثم إنه وقع في سؤالك قلت قبل أن أحلق أو أقصر أو آخذ شعيرات. وهذا يدل على أنك ترى أن أخذ شعيرات كاف عن التقصير، وهذا غير صحيح فإن أخذ شعيرات لا يجزىء بل لابد من تقصير يعم كل الرأس: إما حلق يعم جميع الرأس، وإما تقصير يعم الرأس أيضاً، أما أخذ شعيرات من جانب كما يفعله عامة الجهال فإن هذا لا يجزىء ولا يجوز الاقتصار عليه.
س 541: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يكون متمتعاً من نوى العمرة لشخص والحج لشخص آخر؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم يكون متمتعاً، فإن العلماء - رحمهم الله- نصّوا على أنه لا يعتبر في التمتع أن يكون النسكان لشخص واحد، بل يجوز أن تكون العمرة لشخص والحج لشخص آخر، أو تكون العمرة لنفسه، والحج لآخر، أو تكون العمرة لآخر والحج لنفسه، كل هذا يرونه جائزاً ولا يبطل التمتع.(22/68)
س 542: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يكون متمتعاً من اعتمر في أشهر الحج وفي نيته إن تيسر له حج ولا هو متيقن من هذا ثم تيسر له حج فحج؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يكون متمتعاً لأنه لم يتمتع بالعمرة إلى الحج، إذ إنه ليس عنده نية حج، لكن إذا كان يغلب على ظنه أنه سيحصل له الحج، فإنه يحتاط ويذبح الهدي (هدي التمتع) .
س 543: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: طالب يدرس خارج مكة وأهله بمكة وقدم إلى مكة وأدى العمرة في شهر ذي الحجة ولكن لم ينو التمتع وإنما نوى التقرب ثم أحرم بالحج مفرداً
فهل يعتبر مفرداً أو متمتعاً؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا أتى الإنسان بعمرة وهو لم ينوِ الحج ثم بدا له بعد ذلك أن يحج فليس بمتمتع، لأنه لم ينو الحج حين أتى بالعمرة بل يكون مفرداً، أما إذا نوى الحج حين أتى بالعمرة فهو متمتع، لكن أهل مكة ليس عليهم هدي؛ لقوله تعالى: (ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) .
فهذا السائل من أهل مكة؛ لأنه إنما غادر مكة للدراسة فقط لا للاستيطان، فهو من أهل مكة، وعليه فليس عليه هدي؛ لأن الله اشترط لوجوب الهدي أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام.
س 544: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: إنسان حج واعتمر، ونوى العمرة لغيره، والحج له، هل يكون متمتعاً؟(22/69)
فأجاب فضيلته بقوله: إذا اعتمر الإنسان لنفسه وأراد الحج لغيره في سنة واحدة فإنه يعتبر متمتعاً، لأن الفائدة واحدة، جمع بين العمرة والحج، ولكننا نسأل هل هو متبرع أم قد وكله غيره في الحج؟ إذا كان موكلاً ولم يكن متبرعاً فالمعروف عندنا في عرفنا أن الإنسان إذا وكلك بالحج وأعطاك نفقة المعروف أنه يريد العمرة والحج جميعاً.
س 545: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل من خارج مكة أناب شخصاً من أهل مكة للحج متمتعاً فهل في مثل هذه الحالة يلزم الهدي للتمتع أم لا؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا لا يلزم، وكيف يكون أهل مكة متمتعين؛ لأنهم لم يأتوا بالعمرة من الميقات إنما أحرموا من مكة بالحج، وعلى هذا فمن أراد أن ينيب من يمكنه التمتع فلينب من أهل الطائف أو من أهل جدة، أما أهل مكة فلا.
س 546: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: قال الله تعالى: (ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) (1) من هم حاضرو المسجد الحرام هل هم أهل مكة أم أهل الحرم؟ وما رأيكم فيمن قال: إن المكي لن يتمتع ولن يقرن بدون أهله؟
فأجاب فضيلته بقوله: الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين هذا الذي
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 196.(22/70)
ذكره السائل هو جزء من آية ذكرها الله سبحانه وتعالى فيمن تمتع فقال: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) (1) وقد اختلف العلماء رحمهم الله في المراد بحاضري المسجد الحرام.
فقيل: هم من كان داخل حدود الحرم، فمن كان خارج حدود الحرم فليسوا من حاضري المسجد الحرام.
وقيل: هم أهل المواقيت ومن دونهم.
وقيل: هم أهل مكة ومن بينه وبينها دون مسافة القصر.
والأقرب أن حاضري المسجد الحرام هم أهل الحرم.
فمن كان من حاضري المسجد الحرم فإنه إذا تمتع بالعمرة إلى الحج فليس عليه هدي مثل: لو سافر الرجل من أهل مكة إلى المدينة مثلاً في أشهر الحج ثم رجع من المدينة فأحرم من ذي الحليفة بالعمرة مع أنه قد نوى أن يحج هذا العام فإنه لا هدي عليه هنا؛ لأنه من حاضري المسجد الحرام، وكذلك أهل مكة يمكن أن يقرنوا ولكن لا هدي عليهم مثل: أن يكون أحد من أهل مكة في المدينة ثم يحرم من ذي الحليفة في أيام الحج بعمرة وحج قارناً بينهما فهذا قارن ولا هدي عليه أيضاً لأنه من حاضري المسجد الحرام.
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 196.(22/71)
س 547: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل له بيت في الطائف يسكن فيه هو وأهله في الصيف لمدة أربعة أشهر تقريباً وبيت آخر في مكة يسكن فيه بقية العام فإذا تمتع فهل عليه هدي؟
فأجاب فضيلته بقوله: ليس عليه هدي لأنه من حاضري المسجد الحرام، إذ إن أكثر إقامته بمكة.
س 548: سئل فضيلة الشيخ:- رحمه الله تعالى- رجل قدم مكة للدراسة وسكن مكة من أجل الدراسة فقط ومتى انتهت الدراسة رجع إلى وطنه وتمتع فهل عليه هدي؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم عليه الهدي لأن إقامته في مكة ليست إقامة استيطان، والذي يسقط عنه هدي التمتع هو المستوطن في مكة، قال الله تعالى: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) (1) .
س 549: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: من أحرم بالحج متمتعاً واعتمر ولم يتحلل من إحرامه إلى أن ذبح الهدي جاهلاً فماذا عليه؟ وهل حجه صحيح؟
فأجاب فضيلته بقوله: يجب أن يعرف أن الإنسان إذا أحرم متمتعاً فإنه إذا طاف وسعى قصر من شعره من جميع الرأس وحل من إحرامه هذا هو الواجب، فإذا استمر في إحرامه فإن كان قد
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 196.(22/72)
نوى الحج قبل أن يشرع في الطواف -أي طواف العمرة- فهذا لا حرج عليه؛ لأنه في هذه الحال يكون قارناً، ويكون ما أدى من الهدي عن القران.
وإن كان قد بقي على نية العمرة حتى طاف وسعى فإن كثيراً من أهل العلم يقولون: إن إحرامه بالحج غير صحيح؛ لأنه لا يصح إدخال الحج على العمرة بعد الشروع في طوافها.
ويرى بعض أهل العلم أنه لا بأس به، وحيث إنه جاهل فالذي أرى أنه لا شيء عليه، وأن حجه صحيح إن شاء الله. والله الموفق.
س 550: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل اعتمر في أشهر الحج فهل يلزمه هدي التمتع إذا حج؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان الرجل أتى بالعمرة في أشهر الحج وكان ناوياً أن يحج من عامه فإنه يكون متمتعاً، أما إذا كان أتى بها في أشهر الحج ولم يكن ينوي الحج ثم طرأ عليه من بعد
أن يحج فإنه لا يكون متمتعاً بالعمرة السابقة، لكن إن أتى بعمرة ثم يحج كان متمتعاً ولزمه الهدي، والأفضل أن يحرم متمتعاً من جديد، فيحرم بالعمرة ويحل إحلالاً كاملاً، فإذا كان اليوم الثامن
من ذي الحجة أحرم بالحج، ويلزمه هدي فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع.(22/73)
س 551: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: جماعة نووا الحج تمتعاً فلم يتيسر لهم الوصول إلى البيت الحرام بسبب عدم وجود حافلة من المطار، فذهبوا من المطار إلى منى مباشرة يوم الثامن
فحولوا النية إلى الإفراد فقيل لهم: لا يجوز تحويل نسككم إلى الإفراد وإنما إلى القران فحولوا النية إلى القران فماذا يكون حجهم؟
فأجاب فضيلته بقوله: لما نووا القرآن فهم مقرنين والحمد لله.
س 552: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل متمتع قدم إلى مكة صباح اليوم الثامن من ذي الحجة فطاف وسعى للعمرة وقصر من شعر رأسه ثم اغتسل ولبس ثياب إحرامه ولبى بالحج
فهل عليه شيء حيث لم يلبس ملابسه العادية بعد العمرة؟
فأجاب فضيلته بقوله: لاشيء عليه.(22/74)
رسالة
من محمد الصالح العثيمين إلى الأخ المكرم ... حفظه الله تعالى
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
كتابكم الكريم في 30/351/1401 هـ وصل وتأخر الرد عليه في وقته فنرجوكم المعذرة.
سؤالكم عمن قدم مكة متمتعاً ... الخ
من قدم مكة متمتعاً ثم سافر إلى مسافة القصر منها كالمدينة ثم رجع إلى مكة، فقد قيل: يحرم بالحج ويكون مفرداً لسقوط التمتع بالسفر بين العمرة والحج، وقيل: يحرم بعمرة أخرى لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن يريد الحج أو العمرة" (1) وهذا يريد الحج فيلزمه الإحرام به أو بالعمرة ليكون متمتعاً.
ولو قيل: لا يلزمه الإحرام بهما، وإنما يحرم بالحج من مكة يوم التروية؛ لأنه إنما نوى الحج حين مروره بالميقات على أساس أنه يحرم به يوم التروية لأنه متمتع، كما لو سافر مكي إلى المدينة وهو يريد الحج من عامه ثم رجع إلى مكة فإنه لا يلزمه الإحرام بالحج إلا حين نيته النسك؛ لأنه يفرق بين من أراد الحج بهذه السفرة التي مرفيها بالميقات؛ وبين من أراد الحج من عامه
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب مهل أهل مكة للحج والعمرة (رقم 1524) ومسلم كتاب الحج، باب مواقيت الحج والعمرة (رقم 1181) .(22/75)
ولم يرده في سفرته التي مر فيها بالميقات، وهذا القول تطمئن إليه نفسي إن لم يمنع منه إجماع من أهل العلم فحينئذ يحرم بالحج أو العمرة.(22/76)
س 553: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل أحرم متمتعاً ولما انتهى من عمرته ذهب خارج مكة إلى جدة أو الطائف فما الحكم؟ وهل هو متمتع؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا حرج على الإنسان إذا أتى بالعمرة وهو متمتع أن يخرج إلى بلد آخر فيما بين العمرة والحج ويبقى على تمتعه، إلا إذا رجع إلى بلده، فإذا عاد من بلده محرماً بالحج فمثلاً إذا كان الرجل من أهل جدة وأتى بعمرة في أشهر الحج على أنه سيحج هذا العام ثم رجع إلى جدة وفي اليوم الثامن من ذي الحجة أحرم بالحج فإن هذا لا يكون متمتعاً؛ لأنه عاد إلى بلده وقطع سفره الأول، والله عز وجل يقول: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ) فظاهر هذا أنه في سفر واحد، فإذا قطع السفر وأنشأ سفراً جديداً إلى الحج لم يكن متمتعاً بالعمرة إلى الحج، بل هو محرم بالحج رأساً، وهذا هو المروي عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- وأظنه أيضاً عن ابنه عبد الله- رضي الله عنه- وهو مقتضى النظر والقياس. والله الموفق.
س 554: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: أريد الذهاب إلى مكة في هذه الأيام للحج فإذا أخذت عمرة في الأسبوع الأول من ذي القعدة وسأعود إلى بلدي فهل أكون متمتعاً إلى الحج ومن أين أحرم أمن الميقات أو من داخل مكة؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا أتى بالعمرة في أشهر الحج ورجع إلى بلده ثم رجع إلى مكة فإن رجع إلى مكة بإحرام الحج(22/77)
فهو مفرد؛ لأن رجوعه إلى بلده حال بينه وبين التمتع حيث إنه أفرد العمرة بسفر وأفرد الحج بسفر وأما إذا أحرم بعد رجوعه بعمرة أخرى فإنه يكون متمتعاً بالعمرة الثانية لا بالعمرة الأولى.
وإذا قدر أنه لم يأت بالعمرة في السفر الثاني وأراد الحج وجب عليه أن يحرم من الميقات، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما وقت المواقيت قال: "هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن " أو قال:
"ولمن مر عليهن من غير أهلهن ممن يريد الحج أو العمرة" (1) .
س555: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: من أدى العمرة في أشهر الحج متمتعاً ثم زار المسجد النبوي بين العمرة والحج أو خرج إلى الطائف هل يلزمه الإحرام إذا رجع إلى مكة وهو متمتع؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يلزمه الإحرام، فإذا أدى المتمتع العمرة وخرج من مكة إلى الطائف، أو إلى جدة، أو إلى المدينة، ثم رجع، فإنه لا يلزمه الإحرام بالحج لأنه رجع إلى مقره، فإنه لما جاء حاجاً صار مقره مكة، فإذا سافر إلى المدينة ثم رجع فقد رجع إلى مقره؛ فيحرم بالحج يوم التروية من مكة، كما لو كان من أهل مكة وذهب إلى المدينة في أشهر الحج ثم رجع من المدينة وهو في نيته أن يحج في هذا العام، فإنه لا يلزمه الإحرام بالحج إلا من مكة.
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب مهل أهل الشام (رقم 1526) ، ومسلم، كتاب الحج، باب مواقيت الحج والعمرة (رقم 1181) .(22/78)
س 556: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: إذا أراد الإنسان التمتع فأتى بعمرة في أشهر الحج فهل يخرج من الحرم ثم يعود لمنى يوم التروية أم يبقى في الحرم ولا يخرج منه ولو خرج إلى جدة أو رجع إلى بلده ليأتي بأهله فهل الأفضل أن يحرم بالعمرة من جديد فينقطع تمتعه الأول؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا أحرم الإنسان بالتمتع ووصل إلى مكة فالواجب عليه أن يطوف ويسعى ويقصر وبذلك يحل من عمرته، وله بعد ذلك أن يخرج إلى جدة وإلى الطائف وإلى المدينة وإلى غيرها من البلاد، ولا ينقطع تمتعه بذلك حتى لو رجع محرماً بالحج فإن التمتع لا ينقطع، أما لو سافر إلى بلده ثم عاد من بلده محرماً بالحج فإن تمتعه ينقطع، فإن عاد محرماً بعمرة ثانية صار متمتعاً بالعمرة الثانية لا بالعمرة الأولى، لأن العمرة الأولى انقطعت عن الحج بكونه رجع إلى بلده، وخلاصة القول
إن من كان متمتعاً فله أن يسافر بين العمرة والحج إلى بلده وغيرها، لكن إن سافر إلى بلده ثم عاد محرماً بالحج فقد انقطع تمتعه ويكون مفرداً، وإن عاد إلى بلده ثم أحرم بعمرة جديدة فهو متمتع، وإن سافر إلى غير بلده ثم عاد محرماً بالحج فإنه لا يزال على تمتعه وعليه الهدي كما هو معروف.
س 557: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: من كان متلبساً بشي من أحكام الحج أو العمرة فهل يجوز له أن يخرج من مكة إلى جدة والطائف؟(22/79)
فأجاب فضيلته بقول: لا بأس إن كان محرماً وبقي على إحرامه وإن كان قد تحلل بالعمرة وخرج إلى الشرائع، أو إلى جدة، أو إلى الطائف فلا بأس وإذا رجع يحرم مع الناس في اليوم الثامن، فلو أنك
قدمت في اليوم الثالث من شهر ذي الحجة وأتيت بعمرة ثم خرجت إلى جدة وبقيت فيها فتحرم يوم الثامن من جدة ولا تطلع من جدة إلا وأنت محرم، ولكن لو أنك في هذه المدة ترددت على مكة إما لزيارة إخوانك، أو لغرض من أغراضك، فهل يلزمك أن تحرم قبل اليوم الثامن؟ لا، لا يلزمك أن تحرم إلا في اليوم الثامن.
س 558: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: من اعتمر في أشهر الحج ثم سافر إلى المدينة وأحرم بالحج من أبيار علي فهل يكون متمتعاً؟
فأجاب فضيلته بقول: ما دام هذا الرجل حين أتى بالعمرة في أشهر الحج قد عزم أن يحج من عامه فإنه يكون متمتعاً، لأن سفره بين العمرة والحج لا يبطل التمتع، إلا إذا رجع إلى بلده وأنشأ السفر من بلده إلى الحج فحينئذ ينقطع تمتعه؟ لأنه أفرد كل نسك بسفر مستقل، فهذا الرجل الذي ذهب إلى المدينة بعد أن أدى العمرة ثم أحرم بالحج من آبار علي يلزمه هدي التمتعِ لعموم قوله تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) (1)
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 196.(22/80)
س 559: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: من أراد أن يحج هذا العام وأخذ عمرة متمتعاً بها إلى الحج فهل يجوز أن يذهب إلى جدة والطائف قبل الحج وهل يكون متمتعاً، علماً بأن جدة
والطائف ليسا بلداً له؟
فأجاب فضيلته بقوله: يجوز للمتمتع أن يسافر إلى جدة والطائف بين عمرته وحجه، ولا ينقطع بذلك تمتعه.
س 560: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل اعتمر في أشهر الحج ثم رجع إلى بلده بعد العمرة، وبلده تبعد مسافة قصر، وهو يريد أن يحج في نفس العام. فهل يعد متمتعاً؟
فأجاب فضيلته بقوله: إن أتى بعمرة ثانية وحل منها ثم أحرم بالحج صار متمتعاً بالعمرة الثانية، أما إذا لم يأت بعمرة ثانية فإنه لا يكون متمتعاً بالعمرة الأولى؛ لأنه رجع إلى بلده، والمتمتع إذا رجع إلى بلده ثم عاد محرماً بالحج صار مفرداً؛ لأنه فصل بينهما بفاصل الإقامة في بلده، فأنشأ للحج سفراً جديداً.
س 561: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: من أحرم من ميقات أهل المدينة للحج وذهب إلى مكة واعتمر في الثالث من ذي الحجة وبعد انتهائه من العمرة ذهب إلى جدة حيث هناك أهله
ويعود في اليوم الثامن من ذي الحجة إلى مكة، هل يجوز سفره من مكة إلى جدة بعد انتهائه من العمرة؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا أحرم الإنسان متمتعاً بالعمرة إلى(22/81)
الحج وانتهى منها فله أن يسافر إلى بلده أو غيره، لكنه إذا سافر إلى بلده ثم عاد من بلده محرماً بالحج انقطع تمتعه وصار مفرداً، لأن سفره الأول انقطع برجوعه إلى بلده، فإذا أنشأ للحج سفراً
جديداً صار مفرداً، أما إذا كان سفره إلى بلد آخر غير بلده ثم رجع من هذا البلد محرماً بالحج فإنه لا يزال متمتعاً هذا هو القول الصحيح في هذه المسألة.
ومن العلماء من قال: إذا سافر بين العمرة والحج مسيرة قصر انقطع التمتع، سواء سافر إلى بلده أوإلى غير بلده.
ومن العلماء من قال: إذا سافر لم ينقطع تمتعه سواء سافر إلى بلده أو إلى غير بلده، ولكن القول الوسط هو الذي نختاره وهو التفريق بين رجوعه إلى بلده وبين رجوعه إلى بلد آخر، وهو المروي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- وهو الذي يقتضيه المعنى، لأن حقيقة الأمر أنه إذا رجع إلى بلده ثم عاد منه محرماً بالحج، حقيقة الأمر أنه لم يحصل له التمتع بين العمرة والحج في سفر واحد، بل هما سفران مستقلان، أي مستقل كل واحد منهما عن الآخر.
وفي مثالك الذي ذكرته: هو إذا ذهب إلى جدة، فلا بد إذا رجع إلى مكة أن يحرم بالحج من جدة.
س 562: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يشرع لمن اعتمر وأحل أن يسافر للحاجة إلى جدة أو المدينة ولربما إلى الرياض علما أنه متمتع وإذا رجع إلى بلده هل يبطل هذا التحلل؟(22/82)
فأجاب فضيلته بقوله: قوله هل يشرع يريد هل يجوز للإنسان المتمتع إذا أنهى عمرته أن يسافر إلى جدة، أو إلى الرياض أو إلى المنطقة الجنوبية مثلاً، أو إلى المدينة، والجواب: نعم له أن يسافر وإذا رجع فإنه يبقى على تمتعه، أما لو رجع إلى بلده ثم رجع من بلده محرماً بالحج فقد بطل التمتع وصار حجه إفراداً؛ لأنه برجوعه إلى بلده انقطع السفر وأنشأ للحج سفراً جديداً، إذن الخلاصة أن سفر المتمتع بين العمرة والحج لا يقطع التمتع إلا إذا رجع إلى بلده ورجع من بلده محرماً بالحج فإنه يبطل
تمتعه ويكون مفرداً.
س 563: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: اعتمر رجل من أفريقيا في أشهر الحج ثم ذهب إلى المدينة ينتظر فهل يعتبر متمتعاً؟
فأجاب فضيلته بقوله: إن رجع بعمرة صار متمتعاً بالعمرة الأخيرة، وإن رجع بحج يعني إن أحرم بالحج من ذي الحليفة، فقال بعض أهل العلم: إنه مفرد لأنه قطع بين الحج والعمرة بسفر، والصحيح أنه ليس بمفرد وأنه متمتع؛ لأن السفر الذي يقطع التمتع هو أن يسافر الإنسان إلى بلده، وأما إذا سافر إلى بلد آخر فإنه ليس متمتعاً ما زال في سفره الأول إذ إن الإنسان إذا سافر إلى مكة من بلده فهو مسافر حتى يرجع إلى بلده فسفره من مكة إلى المدينة ومن المدينة إلى مكة هو عبارة عن سفر واحد، والخلاصة أنه إذا كان من أهل أفريقيا وأدى العمرة في أشهر الحج(22/83)
وذهب إلى المدينة ورجع من المدينة محرماً بالحج، أو بعمرة جديدة فإنه لا يزال متمتعاً، وعليه هدي التمتع، فإن لم يجد صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله.
س 564: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: إذا رجع المتمتع إلى بلده ثم أنشأ سفراً للحج من بلده فهل يعتبر مفرداً؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم إذا رجع المتمتع إلى بلده ثم أنشأ سفراً للحج من بلده فهو مفرد، وذلك لانقطاع ما بين العمرة والحج برجوعه إلى أهله، فإنشاؤه السفر معناه أنه أنشأ سفراً جديداً للحج، وحينئذ يكون حجه إفراداً، فلا يجب عليه هدي التمتع حينئذ، لكن لو فعل ذلك تحيلاً على إسقاط الهدي فإنه لا يسقط عنه، لأن التحيل على إسقاط الواجب لا يقتضي إسقاطه، كما أن التحيل على المحرم لا يقتضي حله.
س 565: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل نوى الحج والعمرة في العام الماضي وعندما وصل الميقات أحرم ولبى بعمرة لأن الحج بقي عليه خمسة عشر يوماً وعندما سافر إلى جدة مكث
فيها حتى جاء الحج وأحرم للحج من هناك وأدى فريضة الحج ولكنه لم يهدِ عن التمتع وسأل عن ذلك فقيل له: إن سفرك من مكة إلى جدة يسقط عنك فدية التمتع فهل هذا صحيح أم لا؟
فأجاب فضيلته بقوله: المتمتع هو الذي يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويحل منها ثم يحرم بالحج من عامه ويلزمه هدي بنص(22/84)
القرآن لقوله تعالى: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) (1) واختلف أهل العلم هل يسقط هذا الهدي إذا سافر بين العمرة والحج مسافة قصر أو لا يسقط؟
والصحيح أنه لا يسقط لعدم وجود دليل صحيح يسقطه، والهدي قد ثبت بالتمتع بمقتضى الدليل الشرعي فلا يسقط إلا بمقتضى دليل شرعي آخر، ولكن إذا رجع الإنسان إلى بلده وليس غرضه إسقاط الهدي ثم رجع من بلده فأحرم بالحج فإن الصحيح أنه لا هدي عليه في هذه الحالة، لأنه أنشأ سفراً جديداً للحج من بلده مفرداً.
وأما بالنسبة لما جرى منك وقولك: إنه قيل لك: إن سفرك إلى جدة يسقط الهدي. فإن كان قال لك ذلك من أهل العلم الموثوق بعلمه ودينه فلا شيء عليك، لأن هذا قد قال به بعض أهل العلم، ولعل هذا المفتي ممن يرى ذلك والعامي فرضه أن يسأل أهل العلم، لقوله تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (2) فإذا سألهم وأفتوا فإن الفتوى إذا كانت خطئاً كانت على ما أفتاه، أما إذا كان الذي قال لك: إنه ليس عليك شيء من عامة الناس الذين لا يفهمون، فإنه لا يجوز لك الاعتماد على قولهم، والواجب عليك أن تسأل أهل العلم، وحينئذ أي في هذه الحال يلزمك الآن أن تذبح هدياً عن تمتعك في العام الماضي
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 196.
(2) سورة النحل، الآية: 43.(22/85)
تذبحه في مكة وتأكل منه وتهدي وتصدق.
س 566: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: فيمن صار متمتعاً وأتم أعمال العمرة ثم خرج إلى المدينة بنية الرجوع هل يلزمه الإحرام في هذا الحالة من آبار علي؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يلزمه الإحرام لأنه متمتع وبقي على حله وفي اليوم الثامن يحرم بالحج.
س 567: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: شخص أخذ عمرة في أشهر الحج ثم رجع إلى بلده وعزم على الحج فهل يلزمه حج التمتع نافلة أم غير ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يلزمه إن شاء حج وإن شاء لم يحج، وهو مخير بين الأنساك.
س 568: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل أدى العمرة في شوال ثم عاد بنية الحج مفرداً فهل يعتبر متمتعاً ويجب عليه الهدي أم لا أجيبونا مأجورين؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا أدى العمرة في شوال فقد أداها في أشهر الحج، لأن أشهر الحج: شوال، وذوالقعدة، وذوالحجة، فإذا أدى العمرة في شوال فقد أداها في أشهر الحج ثم إن بقي في مكة أو سافر إلى غير بلده وأتى بالحج فهو متمتع، وإن سافر إلى بلده ثم رجع من بلده مفرداً بالحج فليس بمتمتع،(22/86)
ووجه ذلك أنه أفرد العمرة بسفر وأفرد الحج بسفر آخر، فإن الإنسان إذا عاد إلى بلده انقطع سفره فيكون بذلك قد أنشأ للحج سفراً جديداً منفصلاً عن السفر الأول الذي أدى فيه العمرة، وهذا
هو آكد الأقوال في هذه المسألة.
والقول الثاني: أنه لا يزال متمتعاً ولو رجع إلى بلده ثم عاد مفرداً.
والقول الثالث: أنه إذا سافر من مكة مسافة القصر إلى بلده أو غير بلده فإنه يكون بذلك مفرداً وينقطع التمتع.
ولكن ما ذكرناه من التفصيل والتفريق بين حضوره من بلده وغيره هو الصحيح وهو المروي عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه-.
س 569: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل متمتع أدى العمرة ثم ذهب إلى جدة وفي اليوم الثامن أتى إلى مكة فطاف وسعى بقصد أن يسقط عنه السعي يوم العيد أيسقط عنه أم لا؟
فأجاب فضيلته بقوله: المتمتع من المعلوم أنه يحل بالعمرة يطوف ويسعى ويقصر ويحل، فإذا كان يوم الثامن أحرم بالحج وخرج إلى منى، ولا ينفعه إذا سعى قبل ذلك، لأن سعي الحج لا يجوز تقديمه على الوقوف بعرفة أو مزدلفة، إلا إذا كان قارناً أو مفرداً وسعى بعد طواف القدوم، وعلى هذا فهذا الرجل الذي فعل السعى قبل وقته أن يتجنب أهله إن كان عنده أهل، ويجب عليه أن يسافر إلى مكة ويأتي بالسعي؛ لأنه سعى في غير وقته، والأفضل(22/87)
أن يحرم بعمرة إذا وصل الميقات ويطوف ويسعى ويقصر ثم يأتي بسعي الحج.
س 570: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما حكم الانتقال من نسك إلى نسك آخر؟
فأجاب فضيلته بقوله: الانتقال من نسك إلى نسك آخر في القران من الممكن أن يحرم الإنسان أولاً بعمرة ثم يدخل الحج عليها قبل الشروع في الطواف، فيكون انتقل من العمرة إلى الجمع بينها وبين الحج، وكذلك يمكن أن ينتقل من الحج المفرد، أو من القران إلى عمرة ليصير متمتعاً، كما أمر بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه من لم يكن منهم ساق الهدي، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان قارناً وكان قد ساق الهدي وساقه معه أغنياء الصحابة رضي الله عنهم، فلما طاف وسعى أمر من لم يسق الهدي أن يجعلها عمرة (1) فانتقلوا من الحج المفرد أو المقرون بالعمرة إلى أن يجعلوا ذلك عمرة، ولكن هذا مشروط بما إذا تحول من حج أو قران إلى عمرة ليصير متمتعاً، أما من تحول من قِران أو إفراد إلى عمرة ليتخلص من الإحرام ويرجع إلى أهله فهذا لا يجوز
س 571: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يجوز أن يتحول من التمتع إلى الإفراد؟
فأجاب فضيلته بقوله: التحول من التمتع إلى الإفراد لا
__________
(1) تقدم ص 24.(22/88)
يجوز ولا يمكن، وإنما يجوز أن يتحول من الإفراد إلى التمتع، بمعنى أن يكون محرماً للحج مفرداً، ثم بعد ذلك يحول إحرامه بالحج إلى عمرة ليصير متمتعاً. وكذلك القارن يجوز أن يحول نيته من القران إلى العمرة ليصير متمتعاً إلا من ساق الهدي في الصورتين، فإنه لا يجوز له ذلك، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أصحابه الذين معه أن يجعلوا إحرامهم بالحج المفرد أو المقرون بالعمرة أن
يجعلوه عمرة ليصيروا متمتعين إلا من ساق الهدي.
س 572: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: من أحرم بالحج مفرداً فقيل له يفسخ حجه إلى العمرة ولم يفسخ هل يعد عاصياً؟
فأجاب فضيلته بقوله: الصحيح أن الأنساك ثلاثة، وهي: التمتع والإفراد والقران، وكلها جائزة، وأن الإنسان مخيَّرٌ فيها، لكن الأفضل التمتع إلا إذا ساق الهدي، فإنه يقرن لتعذر حله، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن معي الهدي فلا أحل حتى أنحر" (1) . فإذا قيل لهذا الرجل المفرد: افسخ نية الإفراد إلى تمتع أي اجعل حجك عمرة، وتحلل منه ثم أحرم بالحج في اليوم الثامن من ذي الحجة، ولكنه أبى إلا أن يبقى على إحرامه فلا بأس ولا يعد عاصياً.
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب التمتع والقران والإفراد بالحج (رقم 1566) ومسلم، كتاب الحج، باب بيان أن القارن لا يتحلل إلا في وقت تحلل الحاج المفرد (رقم 1229) .(22/89)
س 573: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ماذا تفعل المرأة إذا حاضت قبل الإحرام أو بعده أثناء المناسك؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا حاضت المرأة قبل الإحرام فإنها تحرم إذا وصلت الميقات ولو كانت حائضاً؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أسماء بنت عميس رضي الله عنها حين نفست في الميقات أن تغتسل وتستثفر بثوب وتحرم (1) ، وهذا دليل على أن النفاس لا يمنع من الإحرام وكذلك الحيض، وأما إذا حاضت بعد الإحرام ففيه تفصيل: فإذا كانت في العمرة فإن حاضت قبل الطواف انتظرت حتى تطهر ثم تطوف بعد ذلك وتسعى، وإن حاضت بعد الطواف سعت ولو كانت حائضاً وقصرت وتتم عمرتها.
وإن كان ذلك في الحج وحاضت بعدما أحرمت للحج فإن كان هذا بعد طواف الإفاضة أتمت حجها ولا شيء عليها، كأن يأتيها الحيض في يوم النحر بعد أن تطوف طواف الإفاضة فإنها تتم
حجها فتبيت في منى وترمي الجمرات ولو كانت حائضاَ، وإذا أرادت أن تخرج والحيض لا زال باقيا فهنا تخرج بلا وداع، وأما إن أتاها الحيض قبل طواف الإفاضة كأن أتاها في عرفة مثلاً فإنها تبقى على إحرامها وتقف بعرفة وتبيت بمزدلفة وترمي الجمرات لكنها لا تطوف بالبيت حتى تطهر، ودليل امتناع طواف الحائض أن صفية- رضي الله عنها- حاضت فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أحابستنا هي؟ " قالوا: إنها قد أفاضت (2) وهذا دليل على أن الحائض لا
__________
(1) تقدم ص 10.
(2) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب إذا حاضت المرأة بعد ما أفاضت (رقم 1757) .(22/90)
تطوف؛ لأنها لو كانت تطوف لم تكن لتحبس النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك حديث عائشة- رضي الله عنها- حين حاضت بسرف فدخل عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي تبكي فقال: "ما يبكيك لعلك نفست؟ " قالت: نعم. قال: "هذا شيء كتبه الله على بنات آدم " ثم أمرها أن تحرم للحج وأن تفعل ما يفعله الحاج غير أن لا تطوف بالبيت ولا بالصفا والمروة (1) وإنما تركت الطواف بالصفا والمروة لأنه يكون بعد الطواف بالبيت، وإلا فإن الطواف بالصفا والمروة لا يمتنع بسبب الحيض..
س574: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: المرأة الحائض إذا حاضت في الميقات فماذا تعمل؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كانت المرأة حائضاً ووصلت إلى الميقات فإنها تغتسل وتحرم، وتبقى حتى تطهر، وإذا طهرت طافت وسعت وقصرت، وإذا كانت تخشى أن يرجع أهلها قبل أن تطهر فلا تحرم فإن قدر أنهم بقوا حتى طهرت فإنها تخرج إلى التنعيم وتحرم منه.
س 575: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: امرأة استعملت مانعاً للحيض من أجل الحج ومع التعب نزل عليها شي مثل الكدرة فما حكمه؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا ليس بشي قالت أم عطية- رضي
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الحيض، باب الأمر بالنفساء إذا نفست (رقم 294) ومسلم، كتاب
الحج، باب بيان وجوه الإحرام وأنه يجوز إفراد الحج والتمتع والقران (رقم 1211) (119) .(22/91)
الله عنها- "كنا لا نعد الصفرة والكدرة شيئاً" (1) حتى وإن استمر ما دام لم يكن دماً خالصاً فليس بشي.
س 576: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يجوز للحائض أن تعتمر أو تحج؟ وما هي الأمور التي يجب عليها أثناء ذلك عندما تحرم من الميقات؟
فأجاب فضيلته بقوله: الحائض لها أن تحج وتعتمر وعند الميقات تفعل ما يفعله غيرها: تغتسل وتستثفر بثوب وتحرم كغيرها من الناس، وتفعل ما يفعله الناس سواء بسواء إلا الطواف بالبيت؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أسماء بنت عميس- رضي الله عنها- زوج أبي بكر رضي الله عنه حين ولدت في ذي الحليفة محمد بن أبي بكر أن تغتسل وتستثفر بثوب وتحرم (2) ، وقال لعائشة- رضي الله عنها- حين حاضت "افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت " (3) فلم تطف بالبيت ولا بالصفا والمروة، وبقية أفعال النسك تفعله الحائض والنفساء كغيرها وتقف في عرفة وفي مزدلفة وترمي الجمرات وتدعو في عرفة وفي مزدلفة وبين الجمرات كسائر الناس.
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الحيض، باب الصفرة والكدرة في غير أيام الحيض (رقم 326) .
(2) تقدم ص 10.
(3) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف (رقم 1650) ،
ومسلم، كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام وأنه يجوز إفراد الحج والتمتع والقران (رقم 1211) .(22/92)
س 577: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: لقد قدمت للعمرة أنا وأهلي ولكن حين وصولنا إلى جدة أصبحت زوجتي حائضاً ولكني أكملت العمرة بمفردي دون زوجتي فما الحكم
بالنسبة لزوجتي؟
فأجاب فضيلته بقوله: الحكم بالنسبة لزوجتك أن تبقى حتى تطهر ثم تقضي عمرتها، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما حاضت صفية رضي الله عنها قال: "أحابستنا هي؟ " قالوا: إنها قد أفاضت.
قال: "فلتنفر إذن " (1) فقوله - صلى الله عليه وسلم -: " أحابستنا هي؟ " دليل على أنه يجب على المرأة أن تبقى إذا حاضت قبل طواف الإفاضة حتى تطهر ثم تطوف، وكذلك طواف العمرة مثل طواف الإفاضة لأنه ركن من أركان العمرة، فإذا حاضت قبل الطواف انتظرت حتى
تطهر ثم تطوف.
س 578: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: امرأة ذهبت للعمرة ومرت بالميقات وهي حائض فلم تحرم وبقيت في مكة حتى طهرت فأحرمت من مكة فهل هذا العمل جائز؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا العمل ليس بجائز، والمرأة التي تريد العمرة لا يجوز لها مجاوزة الميقات إلا بإحرام حتى لو كانت حائضاً فإنها تحرم وهي حائض وينعقد إحرامها ويصح. والدليل على ذلك أن أسماء بنت عميس زوجة أبي بكر- رضي الله عنهما-
__________
(1) تقدم ص 90.(22/93)
ولدت والنبي - صلى الله عليه وسلم - نازل في ذي الحليفة يريد حجة الوداع فأرسلت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كيف أصنع؟ قال: "اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي "، ودم الحيض كدم النفاس فنقول للمرأة الحائض إذا مرت بالميقات وهي تريد العمرة أو الحج نقول لها: (اغتسلي
واستثفري بثوب وأحرمي) . والاستثفار معناه أنها تشد على فرجها خرقة وتربطها ثم تحرم سواء بالحج أو العمرة، ولكنها إذا أحرمت ووصلت إلى مكة لا تأتي إلى البيت ولا تطوف به حتى تطهر،
ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة- رضي الله عنها- حين حاضت في أثناء العمرة قال لها: "افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري " هذه رواية البخاري ومسلم (1) ، وفي صحيح البخاري أيضاً ذكرت عائشة رضي الله عنها أنها لما طهرت طافت بالبيت وبالصفا والمروة (2) فدل هذا على أن المرأة إذا أحرمت بالحج أو العمرة وهي حائض، أو أتاها الحيض قبل الطواف فإنها لا تطوف ولا تسعى حتى تطهر وتغتسل، أما لو طافت وهي طاهر وبعد أن انتهت من الطواف جاءها الحيض فإنها تستمر وتسعى ولو كان عليها الحيض، وتقصر من رأسا وتنهي عمرتها؛ لأن السعي بين الصفا والمروة لا يشترط له الطهارة.
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب تقضي الحائض المناسك كلها (رقم 1655) ومسلم، كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام وأنه يجوز إفراد الحج والتمتع والقران (رقم 1211) (119) .
(2) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف (رقم 1651) .(22/94)
س 579: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: إذا نوت المرأة العمرة أو الحج وكانت حائضاً أو نفساء ماذا تعمل؟ وما الحكم لو حاضت بعد إحرامها أو بعد نهاية طوافها؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا مرت المرأة بالميقات وهي تريد العمرة أو الحج وهي نفساء أو حائض، فإنها تفعل ما يفعله الطاهرات، أي تغتسل ولكنها تستثفر بثوب أي تتلجم به، وتحرم، فإذا طهرت طافت وسعت وقصَّرت وانتهت عمرتها، وأما إذا أتاها الحيض أو النفاس بعد الإحرام فإنها تبقى على
إحرامها حتى تطهر ثم تطوف وتسعى وتقصر. وأما إذا أتاها الحيض بعد الطواف فإنها تمضي في عمرتها ولا يضرها شيء، لأن ما بعد الطواف لا يشترط فيه الطهارة من الحدث ولا الطهارة
من الحيض.
س 580: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: قد يحمل المرأة حبها للخير أن تستعمل بعض الموانع لمنع الدورة الشهرية لأجل العمرة أو لأجل صلاة رمضان فما حكم ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: أما من أجل صلاة رمضان أو الصيام فلا تستعملها؛ لأن الأمر واسع- والحمد لله- وهذا شيء كتبه الله على بنات آدم، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) وهذه الحبوب بلغني من أطباء مخلصين صادقين أن فيها أضراراً عظيمة، وأما العمرة فهذه ربما يرخص فيها؛ لأن العمرة مشكلة تفوت لو جاء الحيض من
__________
(1) تقدم ص 91.(22/95)
حين الإحرام قبل الطواف ورجعوا قبل أن تطوف فهي مشكلة، فالعمرة ربما يرخص فيها، وأما من أجل الصيام والقيام وقراءَة القرآن فلا.
س 581: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما الحكم فيمن حاضت بعد وصولها لمكة وأهلها يريدون السفر من مكة فهل ينتظرون أم يسافرون سواء كانت مسافة قصر أم لا؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا حاضت قبل أن تطوف فإنها تبقى حتى تطهر ثم تطوف وتكمل العمرة إلا إذا كانت قد اشترطت عند الإحرام إن حبسني حابس فمحلي حيث حبسني، فإنها في هذه
الحال تتحلل وتخرج مع أهلها ولا حرج عليها.
س 582: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما صفة التلبية وهل تستحب على كل حال أم أن لها مواطن تستحب فيها؟ وما هو القول الراجح في وقتها؟
فأجاب فضيلته بقوله: صفة التلبية أن يقول الإنسان: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) ومعنى قول الإنسان: (لبيك) أي إجابة لك يا رب، لإرادة التكرار، وليس المعنى أن الإنسان يجيب ربه مرتين فحسب، بل المعنى أنه يجيبه مرة بعد أخرى، فالتثنية هنا مراد بها مجرد التكرار والتعدد، فمعناها إجابة الإنسان ربه وأقامته على طاعته، ثم أنه بعد هذه الإجابة يقول: "إن الحمد والنعمة لك(22/96)
والملك " الحمد هو وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم، فإذا كرر صار ثناء والنعمة هي ما يتفضل الله به على عباده من حصول المطلوب ودفع المكروه، فالله سبحانه وتعالى وحده هو المنعم كما قال الله تعالى: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ) (1) وقوله: (الملك) يعني والملك لك، فالله تبارك تعالى هو المالك وحده، كما يدل على هذا قوله تعالى: (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (2) وقوله: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) (3) .
وقوله: (لا شريك لك) أي لا أحد يشاركك بما يختص بالله عز وجل من صفاته الكاملة بما في ذلك انفراده بالملك والخلق والتدبير والألوهية، هذا موجز لمعنى التلبية التي يلبي بها كل مؤمن حاج أو معتمر، وهي مشروعة من ابتداء ارتداء الإحرام إلى رمي جمرة العقبة في الحج، وفي العمرة من ابتداء الإحرام إلى الشروع في الطواف.
س 583: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى- ما هي التلبية التي صحت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ ومتى تقطع التلبية؟
__________
(1) سورة النحل، الآية: 53.
(2) سورة آل عمران، الآية: 189.
(3) سورة سبأ، الآيتان: 22، 23.(22/97)
فأجاب فضيلته بقوله: التلبية التي صحت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك " (1) وروى الإمام أحمد زيادة "لبيك إله الحق " (2) . وإسناده حسن.
وتقطع التلبية في العمرة إذا شرع في الطواف، وفي الحج إذا شرع في رمي جمرة العقبة يوم العيد، لما روى الترمذي من حديث ابن عباس- رضي الله عنهما- يرفع الحديث: أنه كان يمسك عن التلبية في العمرة إذا استلم الحجر (3) . صححه الترمذي، لكن فيه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ضعفه الأكثرون، وعن ابن عباس- رضي الله عنهما- أن أسامة رضي الله عنه كان رديف النبي - صلى الله عليه وسلم - من عرفة إلى مزدلفة، ثم أردف الفضل - رضي الله عنه- من مزدلفة إلى منى فكلاهما قال: (لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة) أخرجاه في الصحيحين (4) وعند مالك
يقطع التلبية في العمرة إذا وصل الحرم، وقيل: إذا وصل البيت أو رآه.
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب التلبية (رقم 1549) ومسلم، كتاب الحج، باب التلبية وصفتها ووقتها (رقم 1184) .
(2) أخرجه الإمام أحمد (1/476) والحاكم (1/449) ، والبيهقي في السنن الكبرى (5/45) .
(3) أخرجه الترمذي، كتاب الحج، باب ما جاء متى تقطع التلبية في العمرة (رقم 919) وهو ضعيف مرفوعاً صحيح موقوفاً على عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.
(4) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب النزول بين عرفة وجمع (رقم 1675) ومسلم، كتاب الحج، باب استحباب إدامة الحاج التلبية حتي يشرع في رمي جمرة العقبة يوم النحر (رقم 1281) .(22/98)
ومعنى (لبيك) : إقامة على طاعتك وإجابة لدعوتك. ولفظه لفظ المثنى ومعناه الكثرة.
س 584: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: كيف تكون صفة الإحرام بالحج أو العمرة هل يحرم الإنسان وهو في المسجد أم وهو فى السيارة، وما حكم رفع اليدين واستقبال القبلة عند قوله
لبيك اللهم حجاً؟
فأجاب فضيلته بقوله: اختلف العلماء رحمهم الله من أين يبتدىء الإحرام.
فقال بعضهم: من حين أن يصلي في المسجد يعقد النية.
وقال بعضهم: إذا ركب السيارة.
وقال بعضهم: إذا كان محرماً من ذي الحليفة إذا علا البيداء، والأقرب أنه يلبي إذا ركب السيارة.
ولا يشرع له عند التلبية أن يتوجه إلى القبلة ويرفع يديه؛ لأن ذلك لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
س 585: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل الأفضل أن يلبي الإنسان نية النسك إذا ركب السيارة أو بعد الركعتين في الميقات وما هي صيغة التلبية إذا ركب السيارة؟
فأجاب فضيلته بقوله: الأظهر أنه يلبي إذا ركب السيارة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لبى حين ركب، وإن لبى قبل ذلك بعد الصلاة فلا(22/99)
حرج، لكن ما دام الأمر فيه سعة فإنه إذا أخر حتى يركب السيارة فيكون أفضل.
وصفة التلبية أن تقول: لبيك اللهم حجاً، إن كنت بحج أو لبيك عمرة، إن كنت بعمرة، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
س 586: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل نتلفظ بنية الدخول في النسك في التلبية؟ وهل يشرع أن يقول: اللهم إني أريد العمرة؟
فأجاب فضيلته بقوله: التلبية هي أن تقول لبيك عمرة إذا كانت عمرة، ولبيك حجاً إذا كانت حجّاً، وأما أن يقول: اللهم إني أريد العمرة: أو أريد الحج. فهذا لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
س 587: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ماذا يقول الإنسان في بداية الإحرام إذا كان الحاج وكيلاً عن غيره؟ وماذا يقول كذلك في يوم عرفة ويوم النحر وعند رمي الجمار وغير ذلك
من المواقف؟
فأجاب فضيلته بقوله: يقول: لبيك عن فلان، لحديث ابن عباس- رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة فقال: "من شبرمه؟ " قال: أخ لي أو قريب لي. فقال: "أحججت عن نفسك؟ " قال: لا. قال: "حج عن نفسك ثم حج(22/100)
عن شبرمة" (1) فتقول: لبيك عن فلان فإذا نسيت اسمه فقل لبيك عمن أعطاني وكالة في الحج أو ما أشبه هذا من العبارات، والله تعالى يعلمه، ولا يلزم أن تقول هذا عند الطواف، أو السعي، أو
الوقوف، أو المبيت بمزدلفة، أو رمي الجمار، فإذا نويته من أول الإحرام كفى، أو العمرة ما دام محرماً بحج أو عمرة.
س 588: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: بالنسبة لتلبية النساء ما مدى صحة حديث عائشة رضي الله عنها الذي قيل: إن عائشة سمع صوتها وهي تلبي فسأل: من هذه؟ فقالت عائشة هل ترفع المرأة صوتها في التلبية أم ليس لها تلبية؟
فأجاب فضيلته بقوله: التلبية سنة للرجال والنساء وهي: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. وينبغي أن يذكر نسكه إن كان محرماً بعمرة أو حج فيقول مع التلبية: لبيك عمرة إن كان محرماً بعمرة، أو لبيك بحجة إن كان محرماً للحج، أو لبيك عمرة وحجاً إن كان محرماً بالقران.
والرجل يرفع صوته بذلك، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم
__________
(1) أخرجه أبو داود، كتاب المناسك، باب الرجل يحج عن غيره (رقم 1811) ، وابن ماجه، كتاب المناسك، باب الرجل يحج عن غيره (رقم 2903) ، والبيهقي في سننه الكبرى (3/155) ، وقال: إسناده صحيح ليس في الباب أصح منه. وصححه الألباني في صحيح الجامع (رقم 3128) .(22/101)
بالإهلال " (1) أما المرأة فلا ترفع صوتها بذلك لما يخشى من رفع صوتها من الفتنة، وأما الحديث الذي ذكره السائل عن عائشة - رضي الله عنها- فلا أعلم عنه شيئاً.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (4/55، 56) وأبو داود في كتاب المناسك، باب كيف التلبية (رقم 1814) ، والترمذي، كتاب الحج، باب ما جاء في رفع الصوت بالتلبية (رقم 829) وقال: "هذا حديث حسن صحيح".(22/102)
باب محظورات الإحرام
* حلق الشعر.
* تقليم الأظافر.
* تغطية الرأس.
* لبس المخيط.
* الإزار المخيط.
* حكم من عجز عن لبس الإحرام.
* تغيير لباس الإحرام.
* الطيب.
* قتل الصيد.
* عقد النكاح.
* الجماع.
* المباشرة.
* إحرام المرأة.
* البرقع والنقاب.
* القفازات والشراب.
*تغطية الوجه ولبس الحلي.(22/103)
س 589: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما هي محظورات الإحرام؟
فأجاب فضيلته بقوله: محظورات الإحرام هي الممنوعات بسبب الإحرام، بمعنى المحرمات التي سببها الإحرام، وذلك أن المحرمات نوعان: محرمات في حال الإحرام وحال الحج، وإليها أشار الله تعالى بقوله: (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) (1) فكلمة (فسوق) عامة تشمل ما كان الفسق فيه بسبب الإحرام وغيره بمحرمات خاصة بسبب الإحرام إذا تلبس الإنسان بالإحرام فإنها تحرم عليه وتحل له في حال الحل.
فمن محظورات الإحرام: الجماع وهو أشد المحظورات إثماً وأعظمها أثراً، ودليله قوله تعالى: (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) فإن الرفث هو الجماع ومقدماته، وإذا وقع الجماع قبل التحلل الأول في الحج فإنه يترتب عليه أمور خمسة:
الأول: الإثم، والثاني: الفساد للنسك، والثالث: وجوب الاستمرار فيه، والرابع: وجوب فدية يذبحها ويفرقها على الفقراء. والخامس: وجوب القضاء من العام القادم.
وهذه آثار عظيمة تكفي المؤمن في الانزجار عنه، والبعد عنه.
ومن المحظورات أيضاً: المباشرة لشهوة والتقبيل والنظر
__________
(1) سورة البقرة: 197.(22/105)
بشهوة، وكل ما كان من مقدمات الجماع؛ لأن هذه المقدمات تفضي إلى الجماع.
ومن محظورات الإحرام: عقد النكاح؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا ينكح المحرم ولا يُنكح ولا يخطب " (1) .
ومن محظوراته: الخطبة فلا يجوز لإنسان أن يخطب امرأة وهو محرم لحج أو عمرة.
ومن محظورات الإحرام: قتل الصيد، لقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) (2) .
ومن محظوراته أيضاً: الطيب بعد عقد الإحرام سواء في البدن، أو الثوب، أو المأكول، أو المشروب، فلا يحل لمحرم استعمال الطيب على أي وجه كان بعد عقد إحرامه، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الرجل الذي وقصته ناقته في عرفة فمات: "لا تحنطوه " (3) والحنوط أطياب تجعل في الميت عند تكفينه، فأما أثر الطيب الذي تطيب به عند الإحرام فإنه لا بأس به ولا تجب إزالته، لقول
عائشة- رضي الله عنها-: "كنت أطيِّب النبي - صلى الله عليه وسلم - لإحرامه قبل أن يحرم ". وقالت: "كنت أنظر إلى وبيص المسك في مفارق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم " (4) .
ومن محظورات الإحرام لبس الرجل القميص والبرانس
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب النكاح، باب تحريم نكاح المحرم وكراهة خطبته (رقم 1409) .
(2) سورة المائدة، الآية: 95.
(3) أخرجه البخاري، كتاب جزاء الصيد، باب سنة المحرم إذا مات (رقم 1851) ، ومسلم، كتاب الحج، باب ما يفعل بالمحرم إذا مات (رقم 1206) .
(4) تقدم ص 9.(22/106)
والسراويل والعمائم والخفاف، هكذا أجاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - حينما سئل ماذا يلبس المحرم؟ فقال: "لا يلبس القميص، ولا السراويل، ولا البرانس، ولا العمائم، ولا الخفاف " (1) إلا من لا يجد إزاراً فليلبس السراويل، ومن لا يجد نعلين فليلبس الخفين، وما كان بمعنى هذه المحظورات فهو مثلها فالكوت والفانيلة والصدرية والغترة والطاقية والمشلح كل هذه بمعنى المنصوص عليه، فيكون لها حكم المنصوص عليه، وأما لبس الساعة والخاتم وسماعة الأذن، ونظارة العين، والكمر الذي تكون فيه النقود وما أشبهها فإن ذلك لا يدخل في المنهي عنه لا بالنص ولا
بالمعنى، وعلى هذا فيجوز للمحرم أن يلبس هذه الأشياء، وليعلم أن كثيراً من العامة فهموا من قول أهل العلم (إن المحرم لا يلبس المخيط) ، أن المراد بالمخيط ما فيه خياطة، ولهذا تجدهم كثيراً يسألون عن لبس الكمر المخيط، وعن لبس الإزار أو الرداء المرقع وعن لبس النعال المخروزة وما أشبه ذلك، ظنّاً منهم أن العلماء يريدون بلبس المخيط لبس ما كان فيه خياطة، والأمر ليس كذلك، وإنما مراد العلماء بذلك ما يلبس من الثياب المفصلة على الجسم على العادة المعروفة.
وتأمل قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: " لا يلبس القميص ولا السراويل " إلى آخره، يبين لك أن الإنسان لو تلفف بالقميص بدون لبس فإنه لا حرج عليه، فلو جعل القميص إزاراً لفه على ما بين سرته
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب اللباس، باب البرانس (رقم 5803) ، ومسلم، كتاب الحج، باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة وما لم يبح (رقم 1177) .(22/107)
وركبته فإنه لا حرج عليه في ذلك؛ لأن ذلك لا يعد لبساً للقميص.
ومن المحرمات في الإحرام: تغطية الرجل رأسه بملاصق معتاد كالطاقية والعمامة والغترة، فأما تظليل الرأس بالشمسية، أو سقف السيارة أو بثوب يرفعه بيديه على رأسه فهذا لا بأس به، لأن المحرم تغطية الرأس لا تظليله، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث لأم الحصين- رضي الله عنها- قالت: (رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - راكباً وأسامة وبلال أحدهما آخذ بخطام ناقته، والثاني رافع ثوبه) (1) .
أو قال: (ثوباً يظلله به من الحر حتى رمى جمرة العقبة) ، ولا يحرم على المحرم أن يحمل عفشه على رأسه، لأن ذلك لا يعد تغطية، وإنما المراد به الحمل.
ومن محظورات الإحرام: أن تنتقب المرأة أي تضع النقاب على وجهها؛ لأن النقاب لباس الوجه، وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المرأة أن تنتقب وهي محرمة (2) . فالمشروع للمرأة في حال الإحرام أن تكشف وجهها إلا إذا كان حولها رجال غير محارم لها فإنه يجب عليها أن تستر الوجه، وفي هذه الحال لا بأس أن يلاصق الساتر بشرتها ولا حرج عليها في ذلك.
ومن محظورات الإحرام: لبس القفازين وهما جوارب اليدين، وهذا يشمل الرجل والمرأة فلا تلبس المرأة القفازين في حال الإحرام، وكذلك الرجل لا يلبس القفازين لأنهما لباس كالخفين بالنسبة للرجل.
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر (رقم 1298) .
(2) أخرجه البخاري، كتاب جزاء الصيد، باب ما ينهى عن الطيب للمحرم والمحرمة (رقم 1838) .(22/108)
ومن محظورات الإحرام أيضاً: حلق الرأس.
وحكم هذه المحظورات: الصيد، بين الله سبحانه وتعالى ما يترتب عليه، فقال: (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا) (1) فإذا كان هذا الصيد مما له مثل من النعم أي من الإبل، أو البقر، أو الغنم فإنه يذبح مثله في مكة ويتصدق به على الفقراء، أو يجعل بدل المثل طعاماً يشترى ويوزع على الفقراء، أو يصوم عن إطعام كل مسكين يوماً. أما إذا لم يكن له مثل فإن العلماء يقولون: يخيَّر بين الإطعام والصيام فيقوَّم الصيد بدراهم ويطعم ما يقابل هذه الدراهم الفقراء في مكة، أو يصوم عن إطعام كل مسكين يوماً.
وفي حلق الرأس بيَّن الله- عز وجل- أن الواجب فدية من صيام، أو صدقة، أو نسك، وبيَّن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الصيام ثلاثة أيام، وأدت الصدقة إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، وأن النسك شاة يذبحها (2) ، وهذه الشاة توزع على الفقراء، وحلق الرأس حرام إلا لمن تأذى بالشعر كما سنتعرض له. وهذه الفدية لا يؤكل منها شيء، وتسمى عند أهل العلم فدية الأذى، لأن الله تعالى ذكرها في ذلك حين قال: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) (3) .
__________
(1) سورة المائدة، الآية: 95.
(2) أخرجه البخاري، كتاب المحصر، باب الإطعام في الفدية (1816) .
(3) سورة البقرة، الآية: 196.(22/109)
قال أهل العلم: فدية الأذى واجبة في كل محظور من محظورات الإحرام ما عدا الجماع قبل التحلل الأول في الحج وجزاء الصيد؛ لأن في الأول بدنة، وفي الثاني المثل، أو ما يقوم مقامه، فكل المحظورات عندهم ما عدا ما ذكرنا التي فيها فدية فديتها فدية الأذى، فدخل في ذلك لبس القميص، والسراويل، والبرانس وما أشبهها، وتغطية الرأس للرجل، وتغطية الوجه للمرأة، والطيب والمباشرة وما أشبه ذلك، هكذا قال أهل العلم في هذه المحظورات.
س 590: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل تشمل تغطية الرأس أن يضع الناس ورقة أو كرتوناً أو بطانية مثلاً على رأسه؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم، يشمل هذا، ولهذا إذا احتاج لتظليل رأسه فليرفع هذا عن رأسه قليلاً حتى لا يباشره.
س 591: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما هو الفرق بين النقاب وبين البرقع للمرأة؟ وهل يجوز لبس البرقع؟
فأجاب فضيلته بقوله: البرقع أخص من النقاب؛ لأن النقاب خمار معتاد يتدلى من رأسها ويفتح لعينيها، أما البرقع فإنه قد فصل للوجه خاصة، وغالباً يكون فيه من التجميل والنقوش ما لا يكون في النقاب ولا يجوز لها أن تلبسه أيضاً؛ لأنه إذا منعت من النقاب فالبرقع من باب أولى.(22/110)
س 592: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما حكم ارتكاب المحظورات ناسياً أو جاهلاً؟
فأجاب فضيلته بقوله: الجواب على هذا أن نقول: إن محظورات الإحرام تنقسم إلى أقسام: منها ما لا فدية فيه أصلاً، ومثَّل له العلماء: بعقد النكاح والخطبة قالوا: إن هذا ليس فيه فدية، ومنها ما فديته فدية الأذى، ومنها ما فديته بدنة، ومنه ما فديته جزاء، وكل شيء فيه فدية فإن فاعله لا يخلو من ثلاث حالات.
الأولي: أن يفعله عالماً ذاكراً مختاراً بلا عذر، وفي هذه الحال يترتب عليه الإثم، وما يجب فيه من الفدية.
الثانية: أن يفعله متعمداً عالماً مختاراً، لكن لعذر فهذا ليس عليه إثم، ولكن عليه فدية، مثل أن يحلق رأسه لأذى أو شبهه.
الثالثة: أن يفعل هذه المحظورات ناسياً، أو جاهلاً، أو مكرهاً فهذا ليس عليه شيء لا إثم ولا فدية أيّاً كان المحظور، لعموم قول الله تعالى: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) (1) .
وقوله تعالى: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) (2) . وقوله تعالى في جزاء الصيد: (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) (3) . فإذا اشترطت العمدية في
جزاء الصيد مع أن قتل الصيد إتلاف فما عداه من باب أولى،
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 286.
(2) سورة الأحزاب، الآية: 5.
(3) سورة المائدة، الآية: 95.(22/111)
وعلى هذا فنقول: إذا فعل أحد شيئاً من هذه المحظورات ناسياً، أو جاهلاً، أو مكرهاً فليس عليه شيء لا إثم ولا فدية، ولا يفسد نسكه، ولا يتعلق بذلك شيء أصلاً حتى ولو كان الجماع.
س 593: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: نرجو توضيح محظورات الإحرام التي يجب على الإنسان تجنبها خلال فترة الإحرام؟
فأجاب فضيلته بقوله: محظورات الإحرام هي الممنوعات التي يمنع منها الإنسان بسبب الإحرام، ومنها:
أولاً: حلق شعر الرأس، لقوله تعالى: (وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) ، وألحق العلماء بحلق الرأس حلق الشعر من جميع الجسم، وألحقوا به أيضاً تقليم الأظفار، وقصها.
ثانياً: استعمال الطيب بعد عقد الإحرام؛ سواء في ثوبه أو بدنه أو في أكله، أو في تغسيله، أو في أي شيء يكون. فاستعمال الطيب محرم في الإحرام، لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الرجل الذي وقصته ناقته: "اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تخمروا رأسه، ولا تحنطوه " (1) . والحنوط أخلاط من الطيب تجعل في الميت. ثالثاً: الجماع، لقوله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) (2) .
رابعاً: المباشرة لشهوة، لدخولها في عموم قوله: (فلا
__________
(1) تقدم ص 156.
(2) سورة البقرة، الآية: 197.(22/112)
رفث) ولأنه لا يجوز للمحرم أن يتزوج ولا أن يخطب، فلأن لا يجوز أن يباشر من باب أولى.
خامساً: قتل الصيد، لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ) (1) وأما قطع الشجر فليس بحرام على المحرم إلا ما كان داخل الأميال، سواء كان محرماً أم غير محرم، ولهذا يجوز في عرفة أن يقلع الأشجار ولو كان محرماً، ولا يجوز في مزدلفة
ومنى أن يقلعها ولو كان غير محرم، لأن قطع الشجر متعلق بالحرم لا بالإحرام.
سادساً: ومن المحظورات في الإحرام أيضاً، وهي خاصة بالرجل لبس القميص، والبرانس، والسراويل، والعمائم، والخفاف، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد سئل ما يلبس المحرم؟ فقال: "لا يلبس القميص ولا البرانس، ولا السراويل، ولا العمائم، ولا الخفاف " (2) إلا أنه - صلى الله عليه وسلم - استثنى من لم يجد إزاراً فليلبس السراويل، ومن لم يجد النعلين فليلبس الخفين.
وهذه الأشياء الخمسة صار العلماء يعبرون عنها بلبس المخيط، وقد توهم بعض العامة أن لبس المخيط هو لبس ما فيه خياطة، وليس الأمر كذلك، وإنما قصد أهل العلم بذلك أن يلبس
__________
(1) سورة المائدة، الآية: 95.
(2) تقدم ص 107.(22/113)
الإنسان ما فصل على البدن، أو على جزء منه كالقميص والسراويل، هذا هو مرادهم، ولهذا لو لبس الإنسان رداءً مرقعاً، أو إزاراً مرقعاً فلا حرج عليه، ولو لبس قميصاً منسوجاً بدون
خياطة كان حراماً.
سابعاً: ومن محظورات الإحرام وهو خاص بالمرأة النقاب، وهو أن تغطي وجهها، وتفتح لعينيها ما تنظر به، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عنه (1) ، ومثله البرقع، فالمرأة إذا أحرمت لا تلبس النقاب ولا البرقع، والمشروع أن تكشف وجهها إلا إذا مر الرجال غير المحارم بها، فالواجب عليها أن تستر وجهها ولا يضرها إذا مس وجهها هذا الغطاء.
وبالنسبة لمن فعل هذه المحظورات ناسياً، أو جاهلاً، أو مكرهاً فلا شيء عليه، لقول الله تعالى: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)) (2) ، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) (3) ، فهذه النصوص تدل على أن من فعل المحظورات ناسياً أوجاهلاً فلا شيء عليه.
وكذلك إذا كان مكرهاً لقوله تعالى: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)) فإذا
__________
(1) تقدم ص 108.
(2) سورة الأحزاب، الآية: 5.
(3) سورة المائدة، الآية: 95.(22/114)
كان هذا في الإكراه على الكفر، فما دونه أولى.
ولكن إذا ذكر من كان ناسياً وجب عليه التخلي عن المحظور، وإذا علم من كان جاهلاً وجب عليه التخلي عن المحظور، وإذا زال الإكراه عمن كان مكرهاً وجب عليه التخلي عن المحظور، مثال ذلك لو غطى المحرم رأسه ناسياً ثم ذكر فإنه يزيل الغطاء، ولو غسل يده بالطيب ثم ذكر وج عليه غسلها
حتى يزول أثر الطيب وهكذا.
س 594: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: حجت والدتي قبل أربع سنوات، ولكن قبل أدائها لفريضة الحج أي في يوم الخامس من ذي الحجة جاءتها العادة الشهرية وقد فكرت هذه الوالدة في تأجيل أداء الفريضة إلا أننا أصررنا على أن تؤديها لأننا كنا على أهبة الاستعداد حيث سمعنا بأنه يجوز للحائض أن تعتمر وتحج إلا أنها لا تطوف بالبيت حتى تطهر، وبناء على ذلك اتجهنا إلى مكة المكرمة ولكن الوالدة ارتكبت العديد من المحظورات وهي جاهلة في ذلك فقد قامت بتمشيط شعرها ولا شك بأنه سوف يتساقط الشعر أثناء التمشيط، كلما أنها تنقبت وبعد ذلك قامت بأداء جميع الأركان والواجبات إلا أنها وعندما حان وقت طواف الإفاضة اغتسلت وطافت بالبيت على اعتقادها أنها قد طهرت إلا أنها اكتشفت بأنها لم تطهر حيث عاد نزول الدم مرة أخرى، وعند
ذلك تركت طواف الوداع حيث كانت تعتقد بأنه غير واجب عليها، أفتونا مأجورين؟(22/115)
فأجاب فضيلته بقوله: كل ما فعلته والدة السائلة عن جهل من المحظورات فليس عليها إثم ولا فدية، فمشط رأسها لا يضرها، وانتقابها لا يضرها لأنها كانت في ذلك جاهلة وبقية أركان الحج وهي حائض لا يضرها الحيض شيئاً، ولم يبق عندنا إلا طواف الإفاضة وقد طافت كما في السؤال قبل أن تطهر من الحيض، وحينئذ يجب عليها الآن أن تسافر إلى مكة لأداء طواف الإفاضة، ولا يحل لزوجها أن يقربها حتى تطوف طواف الإفاضة ولكن ينبغي أن تحرم بالعمرة من الميقات وتطوف وتسعى وتقصر للعمرة، ثم بعد هذا تطوف طواف الإفاضة، وإنما قلنا ذلك: لأنها مرت بالميقات وهي تريد أن تكمل الحج، فالأفضل والأولى لها أن تحرم بالعمرة وتتم العمرة، ثم تطوف طواف الإفاضة، ثم
ترجع إلى بلدها، فإن رجعت من حين أن طافت طواف الإفاضة فهو كان عن الوداع إلا أن بقيت بعده في مكة فلا تخرج حتى تطوف للوداع.
والواجب على الإنسان ألا يقوم بعبادة ولا سيما الحج الذي لا يكون إلا نادراً في حياة الإنسان حتى يعرف ما يجب في هذه العبادة، وما يمتنع فيها، وينبغي أن يعرف أيضاً ما يسن فيها، وما يكره، وأما كونه يمشي بدون هدى فهذا على خطر عظيم، وإذا كان الإنسان لو أراد السفر إلى بلد من البلدان لن يسافر إلا وقد عرف الطريق، فكيف بالسفر إلى الآخرة كيف يخاطر ويمشي في طريق إلى الله؟ ثم إن من الناس من يبقى مدة بعد فعل العبادة ثم يسأل بعد ذلك، وهذا قد يكون معذوراً من جهة أنه لم يخطر بباله(22/116)
أنه أساء فيها ثم مع كلام الناس والمناقشات يتبين له أنه أخطأ فيسأل، ونضرب لهذا مثلاً: كثير من الناس يخفى عليه أن الإنسان إذا جامع زوجته وجب عليه الغسل وإن لم ينزل، فتجده قد عاشر
أهله مدة طويلة على هذا الوجه ولا يغتسل ثم بعد سنتين أو ثلاث يسأل، وهذا خطرعظيم؛ لأن هذه الصلاة آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين، ولهذا نقول:- وإن لم ترد في السؤال- إن الإنسان إذا أنزل المني بشهوة وجب عليه الغسل في جماع أو غير جماع، حتى بالتفكير وإذا جامع وجب عليه الغسل سواء أنزل أم لم ينزل، فلذلك ننصح إخواننا إذا أرادوا العبادة أن يتعلموها قبل أن يفعلوها، وإذا قدر أنهم فعلوها بدون سؤال ثم أساءوا فيها فليبادروا بالسؤال حتى تبرأ ذممهم، وحتى يلقوا الله- عز وجل- وهم لا يطالبون بشيء ما أوجب الله عليهم.
س 595: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: من فعل شيئاً من محظورات الإحرام بعد أن لبس إحرامه هل عليه شيء؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا فعل شيئاً من محظورات الإحرام بعد أن لبس إحرامه وهو لم يعقد النية بعد فلا شيء عليه؛ لأن العبرة بالنية لا بلبس الثوب، ولكن إذا كان قد نوى ودخل في النسك فإنه إذا فعل شيئاً من المحظورات ناسياً، أو جاهلاً فلا شيء عليه، ولكن يجب عليه مجرد ما يزول العذر، ويذكر إن كان ناسياً ويعلم إن كان جاهلاً يجب عليه أن يتخلى من ذلك المحظور، مثال هذا: لو أن رجلاً نسي فلبس ثوباً وهو محرم فلا(22/117)
شيء عليه ولكن من حين ما يذكر يجب عليه أن يخلع هذا الثوب، وكذلك لو نسي فأبقى سراويله عليه ثم ذكر بعد أن عقد النية ولبى فإنه يجب عليه أن يخلع سراويله فوراً ولا شيء عليه، وكذلك لو كان جاهلاً فإنه لا شيء عليه، مثل أن يلبس فنيلة ليس فيها خياطة بل منسوجة نسجاً يظن أن المحرم لبس ما فيه خياطة فإنه لا شيء عليه، ولكن إذا تبين له أن الفنيلة وإن لم يكن فيها توصيل فإنها
من اللباس الممنوع فإنه يجب عليه أن يخلعها.
والقاعدة العامة في هذا أن جميع محظورات الإحرام إذا فعلها الإنسان ناسياً، أو جاهلاً، أو مكرهاً فلا شيء عليه لقوله: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) (1) فقال الله تعالى: قد فعلت، لقوله تعالى: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) (2) . ولقوله تعالى في خصوص الصيد وهو من محظورات الإحرام: (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) (3) ولا فرق في ذلك بين أن يكون محظور الإحرام من اللباس والطيب ونحوهما، أو من قتل الصيد وحلق شعر الرأس ونحوها، وإن كان بعض العلماء فرق بين هذا وهذا، ولكن الصحيح عدم التفريق؛ لأن هذا من المحظور الذي يعرض الإنسان فيه للجهل والنسيان والإكراه، واعلم أن الفدية في حلق الرأس ذكرها الله تعالى في القرآن في قوله: (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 286.
(2) سورة الأحزاب، الآية: 5.
(3) سورة المائدة، الآية: 95.(22/118)
صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) الصيام ثلاثة أيام، والإطعام إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، والنسك شاة، أو سُبع بدنة، أو سُبع بقرة.
س 596: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما رأي فضيلتكم في رجل حج بنية القِران فلما طاف القدوم سعى وقصر حيث رأى الناس يقصرون وبقي على إحرامه حتى كمَّل الحجة؟
فأجاب فضيلته بقوله: رأينا أنه لا شيء عليه. فهذا الرجل الذي أحرم قارناً ثم طاف وسعى ورأى الناس يقصرون فقصَّر لا بنية التحلل واستمر على إحرامه، فليس عليه شيء، لأن غاية ما حصل منه أنه قص شعره جاهلاً؛ ففعل محظوراً من محظورات الإحرام جاهلاً، ومحظورات الإحرام إذا فعلها الإنسان ناسياً، أو جاهلاً، أومكرهاً فلاشيء عليه.
س 597: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: حاج قصر من بعض شعره جهلاً منه وتحلل فما يلزمه؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا الحاج الذي قصر من بعض شعره جاهلاً بذلك ثم تحلل لا شيء عليه في هذا التحلل لأنه جاهل ولكن يبقى عليه إتمام التقصير لشعر رأسه.
وإني بهذه المناسبة أنصح إخواني إذا أرادوا شيئاً من العبادات أن لا يدخلوا فيها حتى يعرفوا حدود الله- عز وجل- فيها، لئلا يتلبسوا بأمر يخل بهذه العبادة، لقوله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -:(22/119)
(قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)) . وقوله تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) . فكون الإنسان يعبد الله عز وجل على بصيرة عالماً بحدوده في هذه العبادة خير بكثير من كونه يعبد الله سبحانه وتعالى على جهل، بل مجرد تقليد لقوم يعلمون أو لا يعلمون.
س 598: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يجوز للمحرم تمشيط شعره؟
فأجاب فضيلته بقوله: تمشيط المحرم شعره لا ينبغي، لأن الذي ينبغي للمحرم أن يكون أشعث أغبر، ولا حرج عليه أن يغسله، وأما تمشيطه فإنه عرضة لتساقط الشعر، ولكن إذا سقط شعر من المحرم بدون قصد إما لحك رأسه أو لفركه وما أشبه ذلك فإنه لا حرج عليه في هذا؛ لأنه غير متعمد إزالته، وليعلم أن جميع محظورات الإحرام إذا لم يتعمدها الإنسان ووقعت منه على سبيل الخطأ، أو على سبيل النسيان فإنه لا حرج عليه فيها، لأن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)) (1) .
وقال سبحانه وتعالى: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) (2) فقال الله تعالى: قد فعلت.
وفي خصوص الصيد وهو من محظورات الإحرام قال الله
__________
(1) سورة الأحزاب، الآية: 5.
(2) سورة البقرة، الآية: 286.(22/120)
تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)) (1) وهذا القيد وهو قوله (متعمداً) يفيد أن من قتله غير متعمد فليس عليه جزاء، وهذا القيد قيد احترازي؛ لأنه قيد مناسب للحكم، وذلك أن المتعمد هو الذي يناسبه إيجاب الجزاء، وأما غير المتعمد فلا يناسبه إيجاب الجزاء لما علم من هذا الدين الإسلامي من أنه دين السماحة والسهولة واليسر، وعلى هذا فنقول: جميع محظورات الإحرام بدون استثناء إذا فعلها الإنسان جاهلاً، أو ناسياً، فإنه لا يترتب عليه شيء من أحكامها لا من وجوب الفدية، ولا من فساد النسك فيما يفسد النسك كالجماع ولا غير ذلك.
هذا هو الذي تقتضيه الأدلة الشرعية التي أشرنا إليها، والله الموفق.
س 599: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما حكم تقليم الأظافر في الحج والشخص متلبس بالإحرام؟
فأجاب فضيلته بقوله: المشهور عند أهل العلم أن تقليم الأظافر في حال الإحرام لا يجوز، قياساً على تحريم الترفه بحلق شعر الرأس، وعلى هذا القول وهو قول جمهور أهل العلم يجب أن نبتعد عن تقليم أظافر اليدين وأظافر الرجلين.
__________
(1) سورة المائدة، الآية: 95.(22/121)
س 600: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: قمت بتقليم أظافري في اليوم الثامن في منى وعلي إحرامي لأنني كنت أعتقد أن المحظور هو قص الشعر فقط وأن تقليم الأظافر لا شيء فيه، إلا
أن شخصاً نبهني على ذلك جزاه الله خيراً لكنه شدد علي تشديداً جداً لأنه قال: لابد من عودتك إلى الميقات أو إلى مكة المكرمة لتحرم من جديد هل هذا صحيح؟ وما الذي يلزمني؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يلزمك شيء في قص الأظافر؛ لأنك قصصتها وأنت تظن أن ذلك لا بأس به، ومن فعل شيئاً من محظورات الإحرام جاهلاً، أو ناسياً، أو غير مختار فلا شيء عليه، ولا فرق بين إزالة الشعر، وتقليم الأظافر والطيب واللبس وغيرها، كلها على حد سواء، إذا فعل الإنسان شيئاً من محظورات الإحرام جاهلاً، أو ناسياً، أو غير مختار له فلا شيء عليه، لقول الله تعالى: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) وهذا عام، ولقوله تعالى: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)) (1) . فهذا عام، ولقوله تعالى في المكره: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ) (2) فإذا كان المكره على الكفر وهو أعظم المحرمات لا شيء عليه، فما دونه من المحرمات من باب أولى، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم
__________
(1) سورة الأحزاب، الآية: 5.
(2) سورة النحل، الآية: 106.(22/122)
صومه " (1) . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ليس في النوم تفريط " (2) .
وقال تعالى في خصوص الصيد: (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) (3) وبهذه النصوص وغيرها من النصوص نستفيد أن فعل المحظور في العبادة أيّاً كانت إذا كان صادراً عن نسيان، أو جهل فإنه لا شيء فيه ولا يؤثر في العبادة شيئاً، فها هو معاوية بن الحكم- رضي الله عنه- تكلم في صلاته وهو جاهل ولم يأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بإعادة الصلاة، والحاصل أن هذا الذي قلم أظافره في اليوم الثامن بعد إحرامه لا شيء عليه إطلاقاً.
وأما من أفتاه بأنه يجب أن يرجع إلى الميقات، أو إلى مكة ليحرم منها، فإن هذه فتوى باطلة لا أصل لها، وأحذر هنا وفي كل المناسبات أحذر المسلمين من طلبة العلم وغيرهم أن لا يتكلموا في الفتوى إلا إذا كان لهم مستند شرعي؛ لأن المقام مقام خطير والمفتي معبر عن الله سبحانه وتعالى فيما أفتى به فليتق الله.
س 601: ما حكم تقليم الأظافر في الحج والشخص متلبس بالإحرام؟
فأجاب فضيلته بقوله: تقليم الأظافر في الحج لا ينبغي؛ لأن ذلك من الترفه والحج موضوعه أن يكون الإنسان أشعث أغبر، فلا ينبغي له أن يقلم أظافره، وقد ذهب كثير من أهل العلم
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب الصائم إذا أكل أو شرب ناسياً (رقم 1933) ومسلم، كتاب الصيام باب أكل الناسي وشربه وجماعه لا يفطر. (رقم 1155) .
(2) أخرجه مسلم، كتاب المساجد، باب قضاء الصلاة الفائتة (رقم 681) .
(3) سورة المائدة، الآية: 95.(22/123)
أو أكثرهم إلى أن تقليم الأظافر من محظورات الإحرام وأن ذلك حرام عليه، وأنه إذا قلم ثلاثة أظفار فأكثر وجب عليه إما فدية يذبحها ويتصدق بها على الفقراء، وإما إطعام ستة مساكين لكل
مسكين صاع، وإما صيام ثلاثة أيام، فعلى كل حال لا ينبغي للمرء أن يعرض نفسه لمثل هذه الأمور التي هي موضع خلاف بين أهل العلم، والتي أجمع العلماء على أنه ينبغي وأنه من المشروع أن يتجنبها.
س 602: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: أديت فريضة الحج في العام الماضي، وقبل أداء الفريضة يوم ستة من ذي الحجة وأنا محرم قمت بتقصير أظافري، فهل عليَّ كفارة؟ مع العلم بأنني
ليس عندي معرفة بذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: ليس عليك كفارة ولا فدية؛ لأنك جاهل لا تدري، وليعلم أن هناك قاعدة شرعية في كتاب الله- عز وجل- وهي رفع المؤاخذة بالذنب لمن كان جاهلاً أو ناسياً،
وذلك بقول الله- عز وجل-: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) ، فقال الله: " قد فعلت " أي رفع عنا المؤاخذة بالنسيان والخطأ.
وهذا عام في جميع محظورات الإحرام، وفي جميع محظورات الصلاة، وفي جميع محظورات الصيام. كل من فعل محظوراً في هذه العبادات عن نسيان أو جهل فإنه غير مؤاخذ به ولا إثم عليه ولا كفارة.(22/124)
فطبق هذه على جميع المحظورات، في العبادات، فلو تكلم الإنسان في الصلاة وهو جاهل فصلاته صحيحة، ولو أكل أو شرب وهو جاهل فصيامه صحيح، أو احتجم وهو صائم وهو يحسب أن الحجامة لا شيء فيها فصيامه صحيح، ولو أفطر الصائم قبل غروب الشمس يظنها غربت ولم تغرب فصيامه صحيح. فهذه القاعدة من الله سبحانه وتعالى وليست من قول البشر، قاعدة من الله عز وجل لعباده، (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) فقال الله: " قد فعلت ".
س 603: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: قمت بثقليم أظافري في اليوم الثامن وأنا جاهل، وأثناء تقليمي لها قال لي أحد الجالسين معي في الخيمة: إن هذا حرام وقد بطل إحرامك وعليك
أن تعود إلى مكانك في مكة وتحرم من جديد، ولما عرفت منه أن إحرامي بطل أكملت تقليم الأظافر ثم سألت شخصاً فقال لي: لم يفسد إحرامك وإنما عليك نسك وأنا لا أعرف النسك، وخجلت
أن أسأله فلم أسأله، أرجو إفادتي عما يأتي أولاً: حكم تقليم الأظافر. ثانياً: حكم المضي وتكميلها. ثالثاً: ما الذي يلزمني؟
فأجاب فضيلته بقول: تقليم الأظافر حال الإحرام ذكر أهل العلم أنه لا يجوز إلحاقاً بذلك في حلق الرأس لما في الجميع من الترفه وإزالة الأذى، وأما بالنسبة لما جرى منك فإنه لا شيء عليك وإحرامك صحيح لا شيء عليك؛ لأنك جاهل لا تدري أن التقليم في هذه الحالة حرام، وكل إنسان يفعل شيئاً من محظورات(22/125)
الإحرام وهو جاهل لا يدري، أو ناسي لا يذكر فإنه لا شيء عليه لا نسك، ولا صدقة، ولا صيام لقوله تعالى: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) (1) وقوله تعالي: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) (2) وقوله تعالى في خصوص الصيد: (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) (3) . فقوله (متعمداً) يدل على أن غير المتعمد لا جزاء عليه.
وأما بالنسبة للذي أفتاك بأن إحرامك فاسد ويجب عليك أن ترجع فتحرم من موضعك فهذه الفتوى خطأ، وإنني أوجه إلى هذا المفتي المتجرىء وإلى أمثاله ممن يتجرأون على الحكم والإفتاء
للناس بغير علم إنني أوجه لهم النصيحة بأن يخافوا الله عز وجل وأن يحذروا عقابه، فإن الله تعالى يقول في كتابه الكريم: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)) (4) فالقول
على الله بما لا يعلم منه القول في شريعته بما لا يعلم، فلا يحل لأحد أن يفتي أحداً في شيء إلا عن علم بأن هذا الشيء حكمه كذا وكذا، وأما أن يفتيه بجهل فإن ذلك حرام عليه فليتق الله هؤلاء
الجاهلون الذي يفتون الناس بغير علم فيضلوا ويضلوا، فالواجب على المسلم إذا أشكل عليه شيء أن يسأل أهل العلم الذين عرفوا بالعلم والورع والاستقامة، فإنه ليس أيضاً كل من عرف بأنه مفتي
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 286.
(2) سورة الأحزاب، الآية: 5.
(3) سورة المائدة، الآية: 95.
(4) سورة الأعراف، الآية: 33.(22/126)
يكون أهلاً للفتوى، فإننا نرى كثيراً من العوام يعتمدون في استفتاءاتهم على من ليس عندهم علم، وإنما هم تقدموا مثلاً في إمامة مسجد أو ما أشبه ذلك فظنوا أن عندهم علماً فصاروا يستفتونهم، وهؤلاء بحكم منصبه وإمامته صار الواحد منهم يستحي أن يقول: لا أعلم. وهذا لا شك أنه من جهلهم أيضاً، فإن الواجب على من سئل عن علم وهو لا يعلمه أن يقول: لا أعلم.
وقد ذكر بعض من تكلموا عن حياة الإمام مالك بن أنس- رحمه الله- إمام دار الهجرة، أن رجلاً أتاه من بلد بعيد في مسألة أرسله أهل البلد بها إلى الإمام مالك ليسأله فأقام عند مالك ما شاء الله،
ثم سأله عن هذه المسألة فقال له مالك: لا أعلم، فقال: إن أهل بلدي أرسلوني إليك، وكيف أقول لهم لا أعلم وأنت إمام دار الهجرة؟ قال: اذهب إليهم وقل: إني سألت مالك فقال: لا أعلم. هذا مع ما أعطاه الله من العلم والإمامة في الدين، فكيف بمن دونه؟!
النبي عليه الصلاة والسلام أحياناً يسأل عن الشيء ولا يجيب عليه، ويجيب الله عنه، وانظر إلى ما في القرآن كثيراً يسألونك فيجيب الله عنه (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) (1) . (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى) (2) (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ) (3) فإذا كان النبي عليه
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 189.
(2) سورة البقرة، الآية: 222.
(3) سورة المائدة، الآية: 4.(22/127)
الصلاة والسلام يتوقف عن الإجابة في ما لم يعلم فيه حكم الله فكيف بغيره من الناس؟!
على كل حال نصيحتي لإخواني المسلمين أن يتقوا الله سبحانه وتعالى وأن لا يتجرئوا على الفتوى من غير علم، فإن ذلك ضلال وإضلال، وأسأل الله تعالى أن يرزقنا جميعاً الثبات والاستقامة، وأن يجعلنا هداة مهتدين.
س 604: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يجوز للمحرم أن يغطي رأسه عند النوم؟
فأجاب فضيلته بقوله: إن كان أنثى فمعروف أنه يجوز أن تغطي رأسها، أما إذا كان رجلاً فلا يجوز لا عند النوم ولا في حال اليقظة، لكن لو أنه غطاه وهو نائم ثم استيقظ وجب عليه كشف رأسه ولا شيء عليه؛ لأن النائم مرفوع عنه القلم.
س 605: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يجوز للمحرم أن يغطي رأسه للبرد؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يجوز أن يغطيه لكن من خاف ضرراً فهو كالذي يكون به أذى من رأسه يغطيه ويفدي: إما بصيام ثلاثة أيام، وإما بإطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، وإما بذبح شاة.(22/128)
س 606: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما حكم تغطية المحرم لرجليه أثناء النوم؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا بأس بذلك، لأنه يجوز للمحرم أن يلتحف بما يغطي جميع بدنه إلا الرأس هذا بالنسبة للرجل، أما المرأة فلها أن تلتحف بكل ما يغطي بدنها ولا حرج عليها، إلا أنها منهية عن لبس النقاب.
س 607: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يجوز للمحرم أن يغتسل بدون جنابة؟ وهل يجوز له أن ينغمس في الماء وهل يدخل ذلك في حكم تغطية الرأس؟
فأجاب فضيلته بقوله: يجوز أن يغتسل المحرم وإن لم يكن عليه جنابة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يغتسل وهو محرم (1) .
ويجوز أن ينغمس في الماء ويغمس رأسه ولا حرج في ذلك ولو كان محرماً، لأن الأصل الحل، وليس هذا من تغطية الرأس وذلك أن الانغماس في الماء لا يعد ستراً للرأس والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: " لا تخمروا رأسه " (2) .
س 608: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: لقد منَّ الله عليَّ وأديت فريضة الحج وحين انتهيت من رمي جمرة العقبة فحلقت رأسي رأيت صديقاً لي وضع رداءه على رأسه فوضعت ردائي على
__________
(1) تقدم ص 10.
(2) تقدم ص 106.(22/129)
رأسي فهل عليَّ إثم في ذلك يا فضيلة الشيخ؟ وإذا حصل في العمرة بعد الطواف والسعي قبل الحلق أو التقصير؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا الذي صنعت وهو تغطية رأسك وكان ذلك في الحج وبعد أن رميت جمرة العقبة يوم العيد وحلقت رأسك فلا حرج عليك، لأن الرجل الحاج إذا رمى جمرة العقبة
يوم العيد وحلق أوقصر تحلل من كل شيء من محظورات الإحرام إلا من النساء، وكذلك لو كنت في يوم العيد رميت جمرة العقبة وذهبت إلى مكة وطفت وسعيت ثم وضعت رداءك على رأسك
فإنه لا حرج عليك؛ لأنك قد تحللت التحلل الأول.
أما إذا كان في العمرة وبعد الطواف والسعي غطى رأسه قبل الحلق أو التقصير جاهلاً فلا شيء عليه؛ لأن الجاهل بالمحظورات ليس عليه شيء، أما إذا تعمد ذلك عن علم فإن أهل العلم رحمهم الله يقولون: إن الإنسان إذا فعل محظوراً لا يفسد النسك ويوجب شاة فإنه في هذه الحال مخير بين أن يصوم ثلاثة أيام، أو يطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، أو يذبح شاة يفرقها على الفقراء.
س 609: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يجوز للمحرم لبس الكمامة؟
فأجاب فضيلته بقوله: الكمامة للمحرم للحاجة لا بأس بها مثل أن يكون في الإنسان حساسية في أنفه فيحتاج للكمام، أو يمر بدخان كثيف فيحتاج للكمام، أو يمر برائحة كريهة فيحتاج للكمام(22/130)
فلا بأس. أما مجرد رفاهية فإن التحرز هذا يضر البدن ويفقده المناعة بحيث يكون أدنى شيء يؤذيه، فإياك أن تتوهم فإن المرض إلى المتوهم أقرب من السيل إلى منتهاه.
س 610: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: أثناء السير نهاراً وأنا محرم وضعت طرف الإحرام على رأسي وحينما تيقظت لذلك رفعته من على رأسي ولم أعد لذلك مرة أخرى فهل عليَّ شيء؟
فأجاب فضيلته بقوله: ليس عليك شيء لأنك وضعته ناسياً، والإنسان إذا فعل شيئاً من محظورات الإحرام ناسياً فإنه لا شيء عليه، ولكن يجب عليه إذا ذكر أن يتخلى عن ذلك المحظور، والدليل على أنه لا شيء عليه قول الله تعالى: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) (1) فقال الله تعالى: (قد فعلت) وقوله تعالى: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) (2) .
س 611: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: عن تغطية الرجل المحرم رأسه؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يحل للرجل أن يغطي رأسه بملاصق وهو محرم، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الرجل الذي وقصته
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 286.
(2) سورة الأحزاب، الآية: 5.(22/131)
ناقته فمات، قال: "لا تخمروا رأسه "، فلا يجوز للمحرم أن يغطي رأسه بملاصق حال الإحرام لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك.
فإذا قال قائل: هذا في الميت، فإننا نقول: لا فرق بين الميت والحي، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً". فدل هذا أن من حالة التلبية يثبت له هذا الحكم، ولا يشترط أن يكون معتاداً، فلو وضع منديلاً على رأسه فإنه يحرم؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: "لا تخمروا رأسه " فلا فرق بين المعتاد: كالطاقية والغترة والعمامة، وغير المعتاد كالمنديل مثلاً، فإن كان غير ملاصق فهو جائز مثل الشمسية والخيمة ونحو ذلك، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما نهى عن تغطية الرأس لا عن تظليل الرأس، والشيء البائن عن الرأس المبتعد عنه لا يقال إنه غطى الرأس، بل ظلل الرأس، ولهذا قالت أم الحصين: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحى يوم العيد راكباً على ناقته ومعه بلال وأسامة وأحدهما يظلله بثوب من الحر حتى رمى جمرة العقبة. فدل هذا على أن التظليل ليس تغطية.
فإذا قال قائل: لو وضع الإنسان يده على رأسه هل يحرم؟ الجواب: لا؛ لأن هذا لا يعد ستراً في العادة ولا تغطية، فلو وضع إنسان يده على رأسه من شدة الحر مثلاً وهو محرم فلا بأس. ولو
وضع أو حمل عفشه على رأسه وهو محرم فإنه يجوز، لأن هذا لا يسمى ستراً في العادة ولا جرت العادة أن الإنسان إذا أراد أن يخمر رأسه ذهب يحمل المتاع، لكن بعض أهل العلم قال: إن أراد
بالحمل أي بحمل المتاع على رأسه إن أراد الستر فإن ذلك حرام؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرىء ما نوى"(22/132)
ولكن الظاهر أن ذلك لا يضر مطلقاً، لأن هذا يسمى حملاً ولا يسمى ستراً.
س 612: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل أخذ عمرة ثم نسي أن يحلق شعره فلبس المخيط وعندما تذكر حلق شعره؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا شيء عليه لأنه لبس المخيط قبل أن يحل من إحرامه وهو ناسي فلا شيء عليه.
س 613: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: سمعنا عنكم جواز لبس الإحرام الذي قد خيط عليه ربقة كالوزرة فهل هذا صحيح؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا صحيح، فالإزار جائز سواء كان مربوطاً بتكة- يعنى ربقة- كما يقول السائل: أو مخيوطاً أو فيه مخابىء أيضاً فيجوز أن يلبس الإنسان إزاراً فيه ربقة، وأيضاً مخيوطاً وأما توهم بعض العوام أن كل ما فيه خياطة فهو حرام فهذا غلط وليس بصحيح، ولذلك يسألون كثيراً عن الحذاء المخروزة هل يجوز لبسها أو لا؟ لأن فيها خياطة فيقال: الإزار جائز على أي صفة كان، والقميص حرام على الرجال على أي صفة كان.
س 614: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما حكم وضع لباس الإحرام على هيئة الوزرة؟(22/133)
فأجاب فضيلته بقوله: لا حرج فيه، فلو أن الإنسان خاط الإزار ولبسه فلا حرج في هذا، حتى لو جعل فيه تكة يعنى ربقة يشده بها، وذلك لأنه لم يخرج عن كونه إزاراً والمشروع للمحرم أن يحرم بإزار ورداء، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من لم يجد إزاراً فليلبس السراويل " ولم يقل: إزاراً لم يخط، أو ليس فيه خياطة فإذا خاط الإنسان إزاره ووضع فيه الربقة وشده على بطنه فلا حرج في هذا.
س 615: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: حججت في إزار مغلق من جميع النواحي غير مفتوح فكان الناس ينكرون ويقولون: هذا لايجوز فما حكمه؟
فأجاب فضيلته بقوله: الناس ينكرون ما لا يعرفون، وهل الإزار حينما أغلق خرج عن كونه إزاراً؟ أبداً فما دام إزاراً والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: "فمن لم يجد إزاراً فليلبس السراويل " فأباح الإزار على كل حال، ومن قال: لا يباح الإزار إذا كان كالوزرة فعليه الدليل، والحديث مطلق غير مقيد، ونظير هذا الشراب الذي فيه شقوق بعض الناس ينكر عليك أن تمسح عليه فنقول ما هو الدليل؟ ما دام يسمى جوربا، والشرع أطلق ولم يقيد- الحمد لله- والله تعالى يعلم كل شيء فلو كان هناك قيود يحتاج إليها المسلم في عباداته لبينها الله عز وجل: إما في الكتاب أو في السنة. ومن أنكر الإزار المسكر فيقال له، ما دليلك على أن الإزار المسكر حرام؟ والسنة جاءت بإباحة الإزار مطلقاً؟
وبعض الناس يتعلق بكلمة مخيط، وهذه ما جاءت في(22/134)
السنة أبداً، لما سأل الرسول - صلى الله عليه وسلم - ماذا يلبس المحرم؟ قال: "لا يلبس القميص ".
والقميص لو كان منسوجاً بدون أي خياطة فهو حرام، والإزار والرداء لو كله مرقع وكله خياطة حلال فكلمة المخيط هذه ما وردت في لسان الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا في لسان أبي بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا الصحابة- رضي الله عنهم- أول من نطق بها إبراهيم النخعي وهو من فقهاء التابعين- رحمه الله- وهي كلمة لا تصح بدليل أن الإزار المخيط والرداء المخيط المرقع يجوز وهو مخيط، وأن القميص المنسوج بدون خياطة حرام، وانظر إلى هذه الكلمة كيف أوجبت الإشكال بين الناس الآن يأتي الناس يستفتون يقولون: هل لبس النعل المخروزة والكمر هل يجوز لبسه لأنه مخيط؟ فلو أننا بقينا على ما جاءت به النصوص لسلمنا من الإشكالات.
س 616: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما حكم ما يفعله بعض الناس من مسك الإحرام بالدبابيس أو المشابك حتى يصل البعض أن يجعلها كالثياب؟
فأجاب فضيلته بقوله: الأولى ألا يشبك الإنسان رداءه، بل ينسفه على كتفيه، لكن إذا كان يعمل كالطباخ والقهوجي وما أشبه ذلك وأراد أن يزره بمشبك، فلا بأس بذلك، أما ما أشار إليه السؤال من أن بعض الناس يزرّه بمشابك من الرقبة إلى السرة، حتى يكون كأنه قميص، فأنا أشك في جواز هذا؛ لأنه حينذاك(22/135)
يشبه القميص، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال في المحرم: "لا يلبس القميص ".
س 617: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما الحكمة من تجرد المحرم من المخيط في الحج والعمرة؟
فأجاب فضيلته بقوله: أولاً: ما معنى غير المخيط، المخيط هو القميص، والسراويل، والبرانس، والعمائم والخفاف لأنها هي التي نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن لبسها، وليس المراد ما فيه خياطة.
والحكمة من التجرد من أجل أن يكمل ذل الإنسان لربه عز وجل ظاهراً وباطناً، لأن كون الإنسان يبقى في رداء وإزار ذل، تجد أغنى الناس الذي يستطيع أن يلبس أفخر اللباس تجده مثل أفقر الناس لكمال الذل، وأيضاً من أجل إظهار الوحدة بين المسلمين وأنهم أمة واحدة حتى في اللباس، ولهذا يطوفون على بناء واحد، ويقفون في مكان واحد، ويبيتون في مكان واحد، ويرمون في موضع واحد.
الفائدة الثالثة: أن الإنسان يتذكر أنه إذا خرج من الدنيا فلن يخرج إلا بمثل هذا، لن يخرج بفاخر اللباس وإنما سيخرج في كفن والله المستعان.
س 618: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل الجزمات التي تحت الكعبين تعتبر خفافاً؟
فأجاب فضيلته بقوله: الجزمات تحت الكعبين بعض(22/136)
العلماء يقول: لا بأس بها؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما "من لم يجد نعلين فليلبس خفين وليقطعهما أسفل من الكعبين " (1) قال: لأنهما لو قطعا من أسفل الكعبين صارا بمنزلة النعلين.
ولكن ظاهر السنة العموم (ولا الخفين) فالصواب أنه حرام وأنه لا يجوز للمحرم أن يلبس كنادر ولو كانت تحت الكعب.
س 619: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: إذا لم يجد نعلين وهو لابس الحذاء فماذا يفعل؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا لم يجد النعلين فإنه يلبس الخفين كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -. لكن في وقتنا- والحمد لله- سيجد نعالاً كثيرة عند الميقات، ولكن ربما لا يجد دراهماً يشتري بها.
س 620: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: مع شدة الحر وكثرة المشي يصاب بعض الرجال بالحرق الذي يكون بين الفخذين فهل يجوز للرجل إذا أصابه ذلك أن يلبس السراويل أو يلبس شيئاً
قريباً منه لكي يفصل بين لحمه ليقي نفسه لأننا نرى بعض الناس ربما يسيل دمه من ذلك الحرق وهو قد تأذى بذلك فما الحكم ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: يجوز للإنسان في هذه الحال أن يلف على فخذه لفافة ويربطها من فوق ويسلم من هذا الحرق، فإن لم يتمكن فله أن يلبس السراويل ولكن يطعم ستة مساكين لكل
__________
(1) تقدم ص 157.(22/137)
مسكين نصف صاع، أو يصوم ثلاثة أيام، أو يذبح شاة يوزعها على الفقراء، لقول الله تعالى: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) (1) وفي هذه الحال ليس عليه إثم لأنه فعل ذلك للعذر.
س 621: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل يرغب في أداء العمرة ولكن لا يستطيع لبس الإحرام لأنه معاق ومشلول: فهل يستطيع العمرة بثيابه وهل عليه كفارة؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم إذا كان الإنسان لا يستطيع أن يلبس ثياب الإحرام فإنه يلبس ما يناسبه من اللباس الآخر والجائز وعليه عند أهل العلم إما أن يذبح شاة يوزعها على الفقراء، أو يطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، أو يصوم ثلاثة أيام.
هكذا قال أهل العلم قياساً على ما جاء في حلق الرأس حيث قال الله تعالى: (وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) (2) وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الصيام صيام ثلاثة أيام، وأن الصدقة إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، وأن النسك ذبح. شاة. ويكون الذبح والإطعام في هذه المسألة بمكة احتياطاً، لأن انتهاك محظور اللبس سيستمر إلى التحلل.
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 196.
(2) سورة البقرة، الآية: 196.(22/138)
س 622: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يجوز للمعتمر أن يضع رباطاً على ركبته لأنه يشعر بألم فيها؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم يجوز للمعتمر وللحاج أيضاً أن يربط رجله بسير يشده عليها إن كانت تؤلمه، بل إن لم تؤلمه إذا كان له مصلحة في ذلك، والسير وشبهه لا يعد لباساً.
وبالمناسبة أود أن أنبه إلى أمر اغتر فيه كثير من العامة وهو أن بعض العوام يظنون أن المحرم لا يلبس شيئاً فيه خياطة يقول: لا تلبس شيئاً فيه خياطة، حتى إنهم يسألون عن النعل المخروزة يقولون: هل يجوز لبسها؛ لأن فيها خياطة؟ ويسألون عن الرداء أو الإزار إذا كان مرقعاً، هل يجوز لبسه لأن فيه خياطة، وهذا مبني على العبارة التي يعبر بها الفقهاء: أن من المحظور لبس المخيط، فظن بعض العامة أن معناها لبس ما فيه خياطة، بل مراد أهل العلم أن يلبس اللباس المعتاد الذي خيط على البدن
كالقميص والسراويل والفنيلة والكوت وما أشبه ذلك، ولو اقتصرنا على تعبير النبي - صلى الله عليه وسلم - ما حصل عندنا إشكال، فقد سئل ما يلبس المحرم- أي ما هو الذي يليه المحرم فقال: "لا يلبس القميص، ولا السراويل، ولا البرانس ولا العمائم، ولا
الخفاف " (1) .
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب اللباس، باب البرانس (رقم 5803) ومسلم، كتاب الحج، باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة وما لم يبح (رقم 1177) .(22/139)
س 623: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما حكم استخدام الحزام الطبي وذلك أثناء الطواف، فبعض الناس لا يمكنه التحرك والمشي بدونه وهذا الحزام مخيط، فهل يجوز له أن يستخدم ذلك الحزام في الحج؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم يجوز أن يستخدم الإنسان هذا الحزام في الحج وفي العمرة أيضاً ولو كان مخيطاً. ويجب أن نعلم أن قول العلماء- رحمهم الله-: يحرم على الرجل لبس المخيط. أن مرادهم لبس القميص والسراويل وما أشبهه، فلهذا يجب أن نفهم كلام العلماء على ما أرادوه، ثم هذه العبارة: "لبس المخيط " ليست مأثورة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد قيل: إن أول من قال بها أحد فقهاء التابعين إبراهيم النخعي،- رضي الله عنه- وأما النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يقل للأمة لا تلبسوا المخيط. بل سئل: ما يلبس المحرم؟ قال: " لا يلبس القميص، ولا السراويل، ولا العمائم ولا البرانس، ولا الخفاف " (1) ولم يذكر لفظ المخيط إطلاقاً، فيجب أن نفهم النصوص على ما أرادها المتكلم.
س 624: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: إذا دخل الأفاقي مكة بدون إحرام من أجل أن يتحايل على ولاة الأمر بعدم إرادة الحج، ثم أحرم من مكة فهل حجه صحيح؟
فأجاب فضيلته بقوله: أما حجه فصحيح وأما فعله فحرام من وجهين:
__________
(1) تقدم ص 107.(22/140)
أحدهما: تعدي حدود الله سبحانه وتعالى بترك الإحرام من الميقات.
والثاني: مخالفة أمر ولاة الأمور الذي أمرنا بطاعتهم في غير معصية الله.
وعلى هذا يلزمه أن يتوب إلى الله ويستغفره مما وقع، وعليه فدية يذبحها في مكة ويوزعها على الفقراء لتركه الإحرام من الميقات على ما قاله أهل العلم من وجوب الفدية على من ترك واجباً من واجبات الحج أو العمرة.
س 625: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يجوز تغيير لباس الإحرام وذلك لغسله؟
فأجاب فضيلته بقوله: يجوز للمحرم أن يغير لباسه إلى لباس آخر مما يجوز له لبسه، سواء كان ذلك لحاجة أو لغير حاجة؛ لأن الثوب لا يتعين بالإحرام فيه، أي أنه لو أحرم في ثوب فإنه لا يتعين أن يبقى عليه هذا الثوب حتى ينتهي نسكه، بل له أن يغير الثياب، ولا فرق في هذا بين الرجل والمرأة، وأما ما يظنه بعض الناس من أن الإنسان إذا أحرم بثوب لزمه أن يبقى فيه حتى ينتهي النسك فإن هذا لا أصل له في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا في أقوال الصحابة- رضي الله عنهم- بل ولا في كلام أهل العلم، فإذا اتسخ الثوب الذي أحرم فيه الإنسان فلبس غيره مما يجوز له لبسه وغسله أي غسل الثوب الأول فلا بأس.(22/141)
س 626: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: من لبس الإحرام وكان تحت الإحرام منشفة فهل عليه في ذلك شيء؟
فأجاب فضيلته بقوله: ليس عليه شيء؟ لأن المنشفة ليست من الثياب التي منعها الرسول عليه الصلاة والسلام، حيث سئل: ماذا يلبس المحرم؟ قال: "لا يلبس القميص ولا البرانس ولا العمائم ولا الخفاف " فهي ليست من الثياب التي منعها الرسول عليه الصلاة والسلام.
س 627: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يجوز للمحرم أن يلبس المشلح؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يجوز؛ لأنه يشبه البرنس.
س 628: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: حاج يشعر بشيء من البول بعد التبول لمدة ربع ساعة ويخشى على ملابس الإحرام، فهل يجوز له أن يرتدي سروالاً قصيراً ثم يخلعه لمدة ربع ساعة؟
فأجاب فضيلته بقوله: أولاً: قد يكون هذا من الوساوس، يعني قد يوسوس الشيطان للإنسان بأنه أحدث ولم يُحدث، وقد سُئل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقيل له: الرجل يخيل إليه يعني أنه أحدث، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً" (1) يعني
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب من لا يتوضأ من الشك حتى يستيقن (رقم 137) ومسلم، كتاب الحيض، باب الدليل على أن من تيقن الطهارة ثم شك في الحدث ... (رقم 361) .(22/142)
حتى يتيقن، قد تُحس بدبيب في ذكرك من داخل فتظن أنه بول نزل، ولكن لا تلتفت لهذا تلهَّى عنه، وأعرض عنه، إذا كنت تريد أن يعافيك الله منه لا تهتم به، استمر في عبادتك ولا تقل إنك
أحدثت، فإنك لم تحدث في الواقع، لكن إذا تيقنت يقيناً مثل الشمس أنه خرج منك شيء فلابد أن تغسل الملابس وتغسل ما أصابه البول من بدنك، وتعيد الوضوء، ولبس السراويل في الإحرام لا يمنع من هذا حتى ولو لبست فإنه لا يمنع أن ينزل البول مع السراويل أيضاً فأبق على الإزار ولا تلبس السراويل، وإذا قدّر أن الإزار تنجس فاخلعه واغسله؛ لأنه يجوز للإنسان أن يخلع
ثياب إحرامه ويعيدها مرة ثانية.
س 629: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما حكم استبدال المحرم لباس الإحرام؟
فأجاب فضيلته بقوله: تبديل المحرم لباس الإحرام بثوب يجوز لبسه في الإحرام لا بأس به، سواء فعله لحاجة أو لضرورة، أو لغير حاجة ولا ضرورة. فأما فعله للضرورة فمثل أن ينجس ثوب الإحرام وليس عنده ماء يغسله به فهنا يضطر إلى تبديله بثوب طاهر؛ لأنه لا تصح منه صلاة إلا بثياب طاهرة، ومثال الحاجة أن يتسخ ثوب الإحرام فيحتاج إلى غسل فهنا يخلعه ويلبس ثوباً آخر مما يجوز لبسه في الإحرام، ومثال ما لا حاجة ولا ضرورة أن يبدو للإنسان أن يغير لباس الإحرام بدون أي سبب فله ذلك ولا حرج إذا غيره بما يجوز لبسه.(22/143)
س 630: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يجوز للمحرم أن يغتسل من أجل النظافة؟ وهل يجوز أن يغير ثياب الإحرام؟
فأجاب فضيلته بقوله: المحرم يجوز له أن يغتسل من أجل النظافة، لأنه ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اغتسل وهو محرم (1) ، ويجوز للمحرم أن يغير ثياب الإحرام إلى ثياب أنظف منها أو أجدد ويجوز له أيضاً أن يترفه بالتكييف وغيرها من أسباب الراحة.
س 631: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يجوز للمحرم أن يغير ثوب الإحرام؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم يجوز أن يغيره، فيجوز أن يغير الرداء أو الإزار أو المرأة تغير ثيابها إلى لباس جائز ولا حرج في ذلك. لأن الأصل الحل والجواز حتى يقوم الدليل على المنع.
س 632: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل اتسخ رداؤه فأراد أن يخلعه ليغسله هل هذا جائز؟ وهل يجوز أن يجعل فيه طيباً قبل أن يلبسه ثانياً؟
فأجاب فضيلته بقوله: يجوز أن يخلع رداء ليغسله وإذا خلعه فلا يجوز أن يضع فيه طيباً؛ لأنه لا يجوز للمحرم أن يستعمل الطيب ابتداءً، فإذا خلع رداءه فلا يجوز أن يعيده مطيباً
__________
(1) تقدم ص 10.(22/144)
لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تلبسوا ثوباً مسه الزعفران ولا المسك " (1)
س 633: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: من محظورات الإحرام لبس المخيط فما حكم لبس النعال المخروزة؟
فأجاب فضيلته بقوله: أهل العلم عندما ذكروا من محظورات الإحرام لبس المخيط لم يريدوا بذلك لبس ما كان فيه خياطة، وإنما أرادوا بذلك ما يصنع على البدن من الملبوسات كالسراويل والقميص، وأما ما فيه خياطة فإنه جائز إذا كان يجوز لبسه في الإحرام مثل النعال التي فيها خرازة، ومثل الكمر الذي يجعل فيه النفقة، وكذلك إذا انشق الإزار وخاطه فإنه لا بأس في ذلك، وكثير من العامة يفهمون من لبس المخيط أنه لبس ما فيه خياطة وليس الأمر كذلك، وإنما لبس المخيط أن يلبس الإنسان ما يصنع على البدن من الملبوسات، أو على جزء منه كما مثلنا أولاً، وقد سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يلبس المحرم؟ قال: "لا يلبس القميص، ولا السراويل، ولا البرانس، ولا العمائم، ولا الخفاف ".
س 634: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: شخص أحرم بالعمرة ونسي أن يخلع السراويل فما حكمه؟
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب ما يلبس المحرم من الثياب (رقم 1542) ومسلم، كتاب الحج، باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة (رقم 1177) .(22/145)
فأجاب فضيلته بقوله: ليس عليه شيء، لقول الله تبارك وتعالى: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) وهنا قاعدة مفيدة (جميع المحرمات في العبادات وغير العبادات إذا فعلها الإنسان ناسياً، أو جاهلاً، أو مكرهاً فلا شيء عليه) فلو تكلم الإنسان وهو يصلي ناسياً فصلاته صحيحة، لو أكل وهو صائم ناسياً فصيامه صحيح، جميع المحرمات سواء كانت في العبادات أو خارج العبادات إذا فعلها الإنسان جاهلاً، أو ناسياً، أو مكرهاً فلا شيء عليه لقول الله تعالى: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) . فقال الله تعالى: قد فعلت.
س 635: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل في الحج يوم النحر ذهب ليرمي جمرة العقبة وقبل أن يرمي جمرة العقبة أصيب بحجر في رأسه وسال الدم ففسخ ملابس الإحرام ولبس المخيط جاهلاً فهل عليه شيء؟
فأجاب فضيلته بقوله: ليس عليه شيء أبداً، وكل محظورات الإحرام، ومحظورات الصيام، ومحظورات الصلاة كلها إذا فعلها الإنسان جاهلاً، أو ناسياً فلا شيء عليه، قال الله عز وجل: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) . وقال الله تعالى: (قد فعلت) .(22/146)
س 636: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل مصاب بشرخ في الشرج ويلبس السراويل ويضع القطن حتى لا يحصل التهاب فهل يجوز له إذا أحرم أن يلبس السراويل من أجل هذا العذر؟
فأجاب فضيلته بقوله: يجوز له أن يلبس السراويل في الحج من أجل هذا العذر، ولكن عليه أن يفدي: صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، أو أن يذبح شاة يوزعها على فقراء مكة، وذلك، لأن الله سبحانه تعالى يقول: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) وهذه نزلت في كعب بن عجرة- رضي الله عنه- عندما مرض وكثر الأذى في رأسه فأباح الله له ولأمثاله أن يحلق رأسه ويفدي بأحد هذه الأمور الثلاثة بالتخيير إن شاء الإنسان صام ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو ذبح شاة في مكة وتصدق بها على الفقراء.
س 637: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما حكم استعمال المظلة للمحرم؟ وكذلك الحزام مع العلم أن فيه خياطة؟
فأجاب فضيلته بقوله: حمل المظلة على الرأس وقاية من حر الشمس لا بأس به ولا حرج فيه، ولا يدخل هذا في نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن تغطية الرأس- رأس الرجل- لأن هذا ليس تغطية بل هو تظليل من الشمس والحر، وقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان معه أسامة بن زيد، وبلال أحدهما آخذ بخطام ناقة النبي - صلى الله عليه وسلم - والآخر رافع ثوباً يستره من الحر حتى رمى جمرة العقبة، وفي(22/147)
رواية (والآخر رافع ثوبه على رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الشمس) وهذا دليل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد استظل بهذا الثوب وهو محرم قبل أن يتحلل
أما وضع الحزام على إزاره فإنه لا بأس به ولا حرج فيه وقول السائل: مع أنه مخيط. هذا القول مبني على فهم خاطىء من بعض العامة حيث ظنوا أن معنى قول العلماء: "يحرم على المحرم لبس المخيط " ظنوا أن المراد به ما كان فيه خياطة، وليس كذلك بل مراد أهل العلم بلبس المخيط ما كان مصنوعاً على قدر العضو ولبس على هيئته المعتادة كالقميص والسراويل والفنيلة وما أشبه ذلك؛ وليس مراد أهل العلم ما كان به خياطة، ولهذا لو أن الإنسان أحرم برداء مرقع، أو بإزار مرقع لم يكن عليه في ذلك بأس، وإن كان قد خيط بعضه ببعض.
س 638: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: أحرمت بابني الصغير الذي يبلغ من العمر ثلاث سنوات وواجهته صعوبات فألبسته المخيط. فما العمل؟
فأجاب فضيلته بقوله: الإحرام بالصغار جائز، فقد رفعت امرأة صبيّاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: ألهذا الحج؟ قال: "نعم ولك أجر" (1) وإذا ثبت له الحج فالعمرة كذلك، لأن العمرة حج أصغر - كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال عليه الصلاة والسلام: "دخلت
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب صحة حج الصبي (رقم 1336) .(22/148)
العمرة في الحج " (1) وقال ليعلي بن أمية: "اصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك " (2) .
وإذا كان الصغير ذكراً فإنه يلبس إزاراً ورداءً، وإن كانت أنثى فتلبس ما تلبس الأنثى، وليس للمرأة ثوب معين للإحرام بخلاف الرجل.
وقد اختلف أهل العلم فيما يحدث من كثير من الأطفال، حيث يجدون المشقة في النسك فيمتنعون عن إكماله، فذهب بعضهم إلى أنه يلزم إتمامه، وبعضهم إلى أنه لا يلزم، فإذا طرأت مشقة أو تعب على وليه أو عليه جاز أن يتحلل، وهذا مذهب أبي حنيفة- رحمه الله-، وهو قول قوي جداً، ذلك لأن الصبي مرفوع عنه القلم، كما جاء في الحديث: "رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يبلغ ... " (3) .
س 639: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: يكثر سؤال بعض الركاب على الرحلات الجوية أنهم تركوا ملابس الإحرام في حقائب السفر، فكيف يحرمون؟
فأجاب فضيلته بقوله: يحرم هؤلاء الذين تركوا ملابس الإحرام في حقائب السفر في جوف الطائرة بخلع الثياب العليا
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب صفة حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - (رقم 1812) .
(2) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب غسل الخلوق ثلاث مرات (رقم 1536) ومسلم، كتاب الحج، باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة وما لا يباح ... (رقم 1180) .
(3) أخرجه الإمام أحمد (6/100) والحاكم (2/59) وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في إرواء الغليل (رقم 297) .(22/149)
وهي القميص ويبقون في السراويل، ويجعلون الثوب الأعلى بمنزلة الرداء، يعنى يلفه على بدنه، ويلبي؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الذي لم يجد الإزار: "فليلبس السراويل ".
فإذا نزلوا فليبادروا بلباس الإزار، وإذا كان عليه بنطلون فيخلع القميص بلازم أن يخلع الملابس الداخلية من السراويل.
س 640: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: قلتم في الفتوى السابقة: يخلع الثياب العليا ويبقى في السراويل لكنه يخشى إذا فعل ذلك أن يتهم في عقله مما يسبب له الإحراج أمام الناس فما
رأيكم؟
فأجاب فضيلته بقوله: رأيي أنه لا يتهم بأنه مصاب في عقله؛ لأنه سيقول: لبيك اللهم لبيك. وإذا قال هذا عرف حاله.
س 641: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما حكم لبس الساعة للمحرم في يده هل هو من محظورات الإحرام أم لا؟
فأجاب فضيلته بقوله: ليس من المحظورات لبس الساعة، لأن الأصل هو الحل، ونقول لمن قال: إنه من المحظورات هات الدليل فإذا جاء بالدليل وإلا فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يلبس القميص، والسراويل، ولا العمائم، ولا البرانس ولا الخفاف " (1) . ومعناه ما سوى ذلك حلال يلبس، ولا يجوز لأحد أن يضيق على عباد الله فيمنعهم مما لم يحرمه الله؛ لأن الله يقول:
__________
(1) تقدم ص 107.(22/150)
(وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ) والحاكم بين عباده هو الله تعالى، فليس لنا أن نقول هذا ممنوع إلا بدليل؛ لأن الله سوف يسألنا لماذا منعتم عبادي من كذا وأنتم لا تعلمون.
ونقول أيضاً لبس الخاتم أنتم تقولون إنه جائز، وأي فرق بين لبس الخاتم الذي يوضع على الإصبع محيطاً به، وبين وضع الساعة التي توضع على الذراع محيطة بها. هل هناك فرق كل منهما محيط.
ولو جاءنا رجل وقال: ما تقولون في لبس نظارة العين حلال أم حرام؟
فنقول: حلال، والدليل عدم الدليل، فإذا لم يكن هناك دليل على المنع فالأصل الحل، فإذا جاء رجل آخر وقال: إنه لا يسمع سمعاً قوياً وأنه يلبس سماعة في إذنه فهل يجوز؟ فنقول: نعم يجوز.
فإذا قال قائل: هذا ممنوع. قلنا: هات الدليل وإلا فالأصل الحل. وإذا جاءنا رجل وقال: أنا ما عندي أسنان أسناني ساقطة وقد اتخذت أسناناً مركبة صناعية فهل يجوز أن ألبسها وأنا محرم؟
نعم يجوز، فإذا قال قائل: ما الدليل نقول له الدليل عليك أنت، إذ قلت إنه ممنوع فعليك الدليل وإلا فالأصل هو الحل، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سئل ماذا يلبس المحرم؟ أجاب عما لا يلبس، فكأنه قال للسائل: البس كل شيء ما عدا هذه الأشياء، فإذا ادعى مدعٍ أن هذا ممنوع فإن كان من هذه الأشياء أو بمعنى هذه الأشياء قبلنا(22/151)
قوله بأنه ممنوع، وإلا رفضنا قوله إنه ممنوع. ولتعلم أن العطاء أحب إلى الله من المنع، وأن الحل أحب إلى الله من التحريم، وأن التيسير أحب إلى الله من التعسير. وهذه ثلاث قواعد أحب أن
تفهم؛ لأنها تفيد فائدة عظيمِة في كثير من مسائل الدين.
س 642: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: امرأة تطيبت وتكحلت بعد أن أحرمت ناسية فما الحكم في ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: ليس عليها شيء، لكن الطيب تزيله متى ذكرت، أما الكحل فلا يضر لأنه ليس محرماً في الإحرام، ثم إنني أقول إن جميع المحرمات في العبادات إذا فعلها الإنسان ناسياً، أو جاهلاً، أو مكرهاً فلا شيء عليه، سواء في الصلاة، أو في الصيام، أو في الحج، فلو قدر أن الإنسان في الحج جامع زوجته ليلة مزدلفة بناء على أنه لما وقف بعرفة انتهى الحج متوهماً معنى فاسداً من الحديث الصحيح "الحج عرفة" (1) قال وقفنا بعرفة وانتهى الحج وجامع زوجته ليلة مزدلفة فلا شيء عليه، لا فدية، ولا فساد حج، ولا قضاء حج، لأنه جاهل، هكذا نقول في جميع المحظورات فلو قتل صيداً وهو جاهل، فلا شيء عليه، ولو تكلم في الصلاة يظن أن الكلام لا بأس به، مثل نادته أمه وهو يصلي فظن أن جواب الأم واجب ولو في الفريضة فتكلم وهو لا يعتقد أنه
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (4/309، 335) وأبو داود، كتاب المناسك، باب من لم يدرك عرفة (رقم 1949) ، والترمذي، كتاب الحج، باب فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج (رقم 889) ، والحاكم (1/464) ، والبيهقي في سننه الكبرى (5/116) .(22/152)
يبطل الصلاة فصلاته صحيحة، وفي الصيام لو أكل يظن أن الشمس قد غربت ثم تبين أنها لم تغرب فصيامه صحيح، فهذه قاعدة (كل من فعل شيئاً محرماً في العبادة ناسياً، أو جاهلاً، أو مكرهاً فليس عليه شيء، لا إثم، ولا قضاء، ولا كفارة) لقول الله تعالى: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) فقال الله تعالى "قد فعلت "، ولقوله تعالي: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)) ولقوله تعالى: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) .
س 643: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: حججت هذا العام المنصرم وبعد ما نويت العمرة وأنا جالس في السيارة ركب أحد الركاب وطيب من بجواري ثم وضع على يدي الطيب وأنا
أعرف الحكم ولكني جاملته فقط وبعدما ما ذهب مسحته بقماش فما الحكم؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يجوز للإنسان أن يجامل أحداً في معصية الله عز وجل، فيعصي الله من أجل المجاملة، فالواجب عليك حين عرض عليك الطيب، أن تقول إنه لا يجوز للمحرم الطيب. وهذا الرجل قد يخفى عليه أن المحرم يحرم عليه استعمال الطيب، وربما ينسى فيطيبك، ففي هذه الحال يجب عليك أن تقول: يا أخي إن الطيب محرم على المحرم، وبناء على(22/153)
أنك لم تفعل هذا وجاملته في معصية الله فإنه يجب عليك أن تتوب إلى الله مما صنعت، والعلماء يقولون: يجب عليك واحد من أمور ثلاثة: إما ذبح شاة في مكة تتصدق بها على الفقراء، وإما إطعام
ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع بمكة أيضاً، وإما أن تصوم ثلاثة أيام ولو في بلدك، وقالوا أيضاً: يجوز أن يذبح الشاة وأن يطعم المساكين في مكة، ويجوز في المكان الذي فعل فيه المحظور.
س644: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: بعد ما لبست ملابس الإحرام ونويت وأنا في الميقات جاء أحد الأخوان وناولني الطيب فطيب رأسي ولحيتي وأنا جاهل فما الحكم؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا بأس أن يتطيب الإنسان بعد لبس الإحرام إذا كان لم يعقد النية، أما إذا عقد فإنه لا يتطيب.
أما في تلك المسألة فليس عليك شيء؟ لأن الله يقول: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) وأنت لم تتعمد أن تأخذ الطيب، وظننت أن هذا جائز فلا شيء عليك، لكن في المستقبل متى نويت فلا تطيب حتى ولو أنك في الميقات.
س 645: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما حكم استعمال المناديل المبللة بالطيب وكذلك معجون الأسنان والصابون؟
فأجاب فضيلته بقوله: المناديل المبللة بالطيب لا يجوز استعمالها، في حال الإحرام إلا إذا حل التحلل الأول بأن رمى جمرة العقبة وحلق أو قصر.(22/154)
وأما معجون الأسنان فلا بأس به لأن رائحته ليست رائحة طيب، ولكنها رائحة زكية ونكهة طيبة، وكذلك الصابون لا بأس باستعماله؛ لأنه ليس طيباً ولا مطيباً، ولكن فيه رائحة زكية طيبة
من أجل إزالة ما يعلق باليد منه من الرائحة التي قد تكون كريهة.
س 646: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما حكم استعمال المناديل المعطرة؟
فأجاب فضيلته بقوله: المناديل المعطرة إذا كانت رطبة وفيها طيب رطب يعلق باليد فلا يجوز للمحرم أن يستعملها، أما إذا كانت جافة وكانت مجرد رائحة تفوح كرائحة النعناع والتفاح
فلا بأس.
س 647: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: حاج مس الركن اليماني وكان مطيباً فهل عليه شيء؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان فيه طيب يعلق باليد فإنه لا يجوز للمحرم أن يمسحه بيده لأنه إذا مسحه علق الطيب بيده، والمحرم يحرم عليه استعمال الطيب، لكن لو فرض أن الرجل لم يعلم ومسحه ووجده عالقاً بيده فإنه يمسح يده بكسوة الكعبة.
س 648: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما حكم شرب المحرم للماء الذي وضع فيه ماء الورد أو النعناع؟
فأجاب فضيلته بقوله: أما ماء الورد فلا يجوز أن يشرب(22/155)
الإنسان من الماء الذي فيه ماء الورد متى كانت رائحته باقية وأما النعناع فلا بأس؛ لأنه رائحته ليست طيباً ولكنها رائحة نكهة طيبة فهي من جنس رائحة التفاح والاترنج وما أشبهها.
س 649: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: امرأة ذهبت مع أهلها لأداء العمرة فلم يتسنَّ لها القص بعد السعي فذهبت إلى جدة مع أهلها فأبدلت ملابسها وشكّت أنها تطيبت ثم قصَّت بعد ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذه المرأة ليس عليها شيء لأنها لم تفعل محظوراً من محظورات الإحرام، حيثما إنها تقول: شكَّت هل تطيبت أم لا؟ والأصل براءة الذمة وعدم التطيب، والتقصير والحلق ليس له مكان، يجوز في كل مكان سواء في مكة أوفي بلد آخر، ولكن إذا لم يحلق أو يقصر بقي عليه من محظورات الإحرام ما بقي والأولى المبادرة حتى لا ينسى
س 650: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: إذا تطيب الرجل قبل أن يلبس لباس الإحرام ولكن أثره لا يزال باقياً فما الحكم؟
فأجاب فضيلته بقوله: الإنسان إذا تطيب قبل الإحرام وبقي أثر الطيب عليه بعد الإحرام فلا بأس، قالت عائشة- رضي الله عنها- كأني أنظر إلى وبيص المسك في مفارق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم (1) .
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب اللباس، باب الطيب في الرأس واللحية (رقم 5923) ومسلم، كتاب الحج، باب استحباب الطيب قبل الإحرام في البدن (رقم 1189) .(22/156)
س 651: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يجوز وضع الطيب على ثياب الإحرام قبل الإحرام؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا تطيب ثياب الإحرام؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " لا يلبس المحرم ثوباً مسه الزعفران " (1) والزعفران نوع من الطيب، قال بعض أهل العلم: إنه يكره للإنسان أن يطيب ثياب الإحرام وهذا قبل عقد الإحرام، وقال بعض أهل العلم: إنه يحرم أن يطيب ثياب الإحرام قبل عقد الإحرام.
أما تطييب بدنه فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان إذا اغتسل للإحرام طيب رأسه ولحيته. وهذا سنة قالت عائشة- رضي الله عنها- "كنت أطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لإحرامه قبل أن يحرم، ولطوافه قبل أن يطوف بالبيت " وقالت: كأني أنظر إلى وبيص المسك في مفرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم.
والخلاصة أن ثياب الإحرام لا تطيب، وأما بدن المحرم فإنه يتطيب في رأسه ولحيته وهذا كله قبل عقد الإحرام، أما بعد عقد الإحرام، فلا يتطيب لا في بدنه ولا في ثيابه ولا يمس شيئاً فيه
طيب.
س 652: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: بعض الحلاقين عندما ينتهي المعتمر أو الحاج من العمرة والحج يضع نوعاً من الطيب فما حكم ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان جاهلاً فلا شيء عليه سواءً
__________
(1) تقدم ص 9.(22/157)
كان الجاهل هذا الحلاق أو المحلوق، أما إذا كان المحلوق عالماً بأن فيه طيباً فإنه يمنعه؛ لأنه لا يحل إلا إذا حلق أو قصر بعد السعي.
س 653: سئل فضيلة الشيخ -رحمه الله تعالى-: حاج بعد أن رمى جمرة العقبة يوم العيد وقبل الحلق والطواف وجد رجلاً يبيع طيباً فشمه بقصد الشراء فهل عليه شيء؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان الإنسان جاهلاً أو ناسياً فلا شيء عليه، ثم إن شم الطيب بعض العلماء يقول: إذا كان شم الطيب من أجل أن يعرف جودته وهل هو طيب أو رديء، فلا بأس
به، هذا إذا لم يقصد التمتع برائحته.
س 654: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: بعض الناس إذا انتهى من العمرة وأراد الحلق وقبل حلق رأسه يضع عليه الحلاقون شيئاً من العطر أو الصابون وله رائحة زكية فه يعتبر هذا من
محظورات الإحرام أو أنه في طريق الإزالة فيعفى عنه؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان طيباً فيمنعه منه، أما إذا كان مجرد رائحة زكية كرائحة النعناع وأشباه ذلك فلا بأس بها حتى لو كان في صلب الإحرام.
س 655: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يستعمل المحرم الصابون؟
فأجاب فضيلته بقوله: يجوز للمحرم أن يتنظف بالصابون(22/158)
بشرط أن لا يكون الصابون مطيباً، فإن كان الصابون مطيباً فإنه لا يجوز للمحرم (1) أن يتنظف به لا في يديه ولا في رأسه ولا في بقية جسده؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في المحرم الذي وقصته ناقته وهو واقف بعرفة فمات رضي الله عنه فجاؤا يسألون النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه فقال - صلى الله عليه وسلم -: " اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تخمروا رأسه "
وفي رواية " ولا وجهه ولا تحنطوه " وفي هذا الحديث أمران ونهيان، فالأمران: " اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه " والنهيان في قوله: "لا تخمروا رأسه ولا تحنطوه " وعلة ذلك بينها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً (2) " وهذا دليل على أن المحرم لا يجوز أن يستعمل الطيب، وفيه أيضاً دليل على مسألة مفيدة جداً وهي أن الحاج إذا مات محرماً فنكفنه بإزاره وردائه الذي هو محرم فيهما، ونبقي رأسه مكشوفاً كالمحرم سواء؛ لأن هذا الثوب مات فيه متلبساً بالعبادة، فهو كثياب الشهداء، فإن ثياب الشهداء لا تنزع، وإنما يكفن الشهيد في ثوبه كما أمر بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - في شهداء أحد، والمهم أن المحرم لا يتنظف بالصابون المطيب، ولا يستعمل طيباً، ولكن يشرع للمحرم أن يتطيب قبل إحرامه لقول عائشة
رضي الله عنها: "كنت أطيّب النبي - صلى الله عليه وسلم - لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت " متفق عليه (3) .
__________
(1) هذا ما كان يراه فضيلة شيخنا- رحمه الله-. وانظر الفتاوى التالية.
(2) أخرجه البخاري، كتاب جزاء الصيد، باب سنة المحرم إذا مات (رقم 1851) ومسلم، كتاب الحج، باب ما يفعل بالمحرم إذا مات (رقم 1206) .
(3) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب الطيب عند الإحرام (رقم 1539) ومسلم، كتاب الحج، باب الطيب للمحرم عند الإحرام (رقم 1189) .(22/159)
س 656: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما حكم التنظف للمحرم بصابون أو شامبو ذي الرائحة؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا بأس باغتسال المحرم فقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اغتسل وهو محرم (1) .
وأما الشامبو فالظاهر أن رائحته ليست عطرية، وإنما هي رائحة ونكهة محبوبة للنفس كما في النعناع وورق التفاح وما أشبه ذلك، والمهم أن ما كان طيباً لا يجوز استعماله للمحرم.
س 657: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما حكم الاغتسال بالصابون المعطر وقت الإحرام؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا بأس به؛ لأن هذه الرائحة ليست طيباً ولا تستعمل للطيب إنما هي لتطييب النكهة فقط.
س 658: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يجوز للمحرم أن يشرب القهوة التي بها زعفران؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كانت قد بقيت رائحة الزعفران فلا يجوز استعماله للمحرم؛ لأن الزعفران من الطيب، أما إذا كانت ذهبت رائحته بالطبخ فلا بأس به.
__________
(1) تقدم ص 10.(22/160)
س 659: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: كنا محرمين وفي طريقنا إلى مكة شربنا الشاي والقهوة وكان في القهوة زعفران فهل يلزمنا شيء؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان ذلك عن جهل منهم فإنه لا يلزمهم شيء، وإذا كان عندهم شك في هل هذا زعفران أو لا فلا يلزمهم شيء، وإن تيقنوا أنه زعفران وقد علموا أن المحرم لا يجوز أن يشرب القهوة التي فيها الزعفران فإنه إن كانت الرائحة موجودة فقد أساءوا، وإن كانت غير موجودة وليس فيه إلا مجرد اللون فلا حرج عليهم في هذا.
فإنني وبهذه المناسبة أود أن يعلم أن جميع محظورات الإحرام إذا فعلها الإنسان ناسياً، أو جاهلاً، أو مكرهاً فلا شيء عليه، لا إثم، ولا فدية، ولا جزاء. فلو أن أحداً قتل صيداً في الحرم، أو بعد إحرامه وهو لا يدري أنه حرام، أو يدري أن قتل الصيد حرام لكن لا يدري أن هذا الصيد مما يحرم صيده فإنه لا شيء عليه، كذلك لو أن رجلاً جامع زوجته قبل التحلل الأول يظن أن لا بأس به فلا شيء عليه، وهذا ربما يقع في ليلة مزدلفة بعد الانصراف من عرفة، فإن بعض العوام يظنون أن معنى
الحديث "الحج عرفة" (1) أنه إذا وقف الإنسان بعرفة فقد انتهى حجه وجاز له أن يجامع زوجته ليلة مزدلفة ظناً منه بأن الحج انتهى، فهذا ليس عليه شيء، لا فدية، ولا قضاء، ودليل هذا قوله
تبارك وتعالى: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) فقال الله
__________
(1) تقدم ص 152.(22/161)
تعالى: (قد فعلت) . وقوله تبارك وتعالى: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) وقوله تبارك وتعالى في الصيد: (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) وفي الصيام قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه " فهذه القاعدة العامة التي منّ الله بها على عباده تشمل كل المحرمات إذا فعلها الإنسان ناسياً، أو جاهلاً، أو مكرهاً فليس عليه إثم، وليس فيها فدية ولا كفارة.
س 660: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما حكم قتل الصيد حال الإحرام؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يجوز للمحرم أن يقتل الصيد سواء في داخل الحرم أو في خارج الحرم، لقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) أي محرمين، وعلى هذا فلو أنه رأى صيداً وهو واقف بعرفة وأراد أن يصطاده فإن هذا حرام، ولو رآه وهو في الحرم وأراد أن يصطاده قلنا: هذا حرام من وجهين:
الوجه الأول: أنك محرم.
الوجه الثاني: أنك في الحرم.
والصيد هو حيوان البر الحلال المتوحش أصلاً، فقولنا حيوان البر، يخرج به حيوان البحر، فلا يحرم على المحرم أن يصطاد السمك، فلو فُرض أن هذا الرجل أحرم في جده وذهب إلى البحر واصطاد سمكاً فإن ذلك جائز؛ لأن هذا ليس حيوان بر(22/162)
بل هو حيوان بحر، ولهذا قال الله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) . اشترطنا أن يكون حيوان، البر
الحلال، احتياطاً من الحرام، فلا يحرم على المحرم أن يقتل حيواناً حراماً كالذئاب والسباع وشبهها، لأنها ليست صيداً شرعاً.
واشترطنا أن يكون متوحشاً أصلاً والمتوحش الذي ليس بأليف، الذي ينفر من الناس ولا يألفهم ولا يركن إليهم بل يفر ويهرب مثل: الظباء والأرانب والحمام والوز وغير ذلك من الأشياء التي تعتبر متوحشة، وقولنا أصلاً دخل فيه ما لو استأنس الصيد وصار أليفاً فإنه لا يجوز صيده أو لا يجوز ذبحه، فلو استأنس الأرنب فلا جوز للمحرم أن يذبحه، لأن أصله صيد، ولهذا قلنا: المتوحش
أصلاً، فأصل هذا صيد، فلا يجوز للمحرم أن يذبحه، ولو توحش حيوان أليف مثل أن يهرب الكبش ويكون كالصيد يفر إذا رأى الناس فلا يعتبر صيداً يحرم قتله على المحرم، لأنه غير متوحش في أصله والتوحش طارىء عليه، فإذا ند البعير أو هرب الكبش وأدركه الإنسان وهو محرم فإنه يحل له أن يرميه ويكون حلالاً لأنه ليس بصيد، لأن كون الصيد والمتوحش أصلاً.
س 661: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يحرم على المحرم صيد البحر فمثلاً لو أحرم ومر بالبحر فصاد سمكاً فهل يحرم عليه؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يحرم على المحرم صيد البحر(22/163)
لقول الله عز وجل: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا) (1) .
س 662: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: هل يجوز للمحرم قتل النمل؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا آذى النمل فيجوز قتله سواء في عرفة أو في منى، أو في مزدلفة، أو في وسط الحرم أو في أي مكان، ولكن بدون سبب فلا تقتل؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى عن قتل النملة والنحلة والهدهد والصرد (2) .
س 663: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما حكم عقد النكاح للمحرم وإذا وقع فهل يصح العقد؟
فأجاب فضيلته بقوله: يحرم عقد النكاح سواء كان المحرم الولي، أو الزوج، أو الزوجة؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا ينكح المحرم ولا ينكح " (3) ولايصح العقد لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل لابد من عقد جديد، ولو قدر أنه دخل بالزوجة بعد الإحلال وأنجبت فيكون
وطؤه بشبهة وأولاده شرعيون.
__________
(1) سورة المائدة، الآية: 96.
(2) أخرجه ابن ماجه، كتاب الصيد، باب ما ينهى عن قتله (رقم 3223) وصححه الألباني في صحيح الجامع (رقم 6975) .
(3) أخرجه مسلم، كتاب النكاح، باب تحريم نكاح المحرم (رقم 1411) .(22/164)
س 664: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما حكم عقد النكاح للمحرم؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يجوز للمحرم أن يعقد النكاح لنفسه، ولا لغيره، ولا يجوز أن يُعقد عليه فلا يزوَّج الرجل ابنته وهو محرم، فإن ذلك حرام عليه والنكاح فاسد غير صحيح، ولو تزوج هو بنفسه، فإنه حرام عليه والنكاح فاسد، ولو عقد على ابنته المحرمة وهو محرم فالنكاح فاسد ولا يصح وهو آثم والنكاح غير صحيح. وكذلك الخطبة، فلا يحل لإنسان أن يخطب امرأة وهو محرم؛ لحديث عثمان بن عفان- رضي الله عنه-: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا ينكح محرم، ولا يُنكح، ولا يخطب، ولا يخطب عليه " (1) أيضاً فلا يجوز لإنسان محرم أن يخطب امرأة ولا يجوز
أن تخطب المرأة المحرمة فإن فعل وخطب امرأة وهو محرم، فليس له حق في هذه الخطبة، يعني فيجوز لإنسان آخر أن يخطب هذه المرأة، لأن خطبة هذا الرجل المحرم فاسدة غير مشروعة فلا حق له، مع أن الخطبة على خطبة أخيه في الأصل حرام، لكن لما كانت الخطبة خطبة المحرم خطبة فاسدة صار لا حق له في ذلك، وجاز لغيره أن يخطب هذه المرأة، يعني خطبة المحرم لها خطبة منهي عنها لا أثر لها ولا يترتب عليها أحكام الخطبة.
س 665: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: سمعنا أنك سئلت عن رجل رجع عن عمرته وهو لم يحلق إما ناسياً أو جاهلاً
__________
(1) تقدم ص 106.(22/165)
ثم عقد على امرأة فلما سئلت قلت: العقد باطل فهل هذه الفتوى صحيحة؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذه الفتوى غير صحيحة لكن من حج ورمى وحلق وطاف وسعى حل التحلل كله، وجاز أن يعقد على النساء، فأما إذا رمى وطاف وسعى ولم يحلق فإنه لم يحل التحلل الثاني، وحينئذ إذا عقد على امرأة كان عقده غير صحيح هذا هو المشهور من مذهب الحنابلة أنه إذا عقد على امرأة قبل أن يتحلل التحلل الثاني فالعقد غير صحيح فلابد من إعادته، لكنْ هناك قول يقول بالصحة، وأنه إذا حل التحلل الأول حرم عليه جماع النساء دون العقد عليهن، فعلى المذهب نقول: يجب عليك أن تجدد العقد، وعلى القول الثاني لا يجب، فمن جدد العقد احتياطاً فهو أحسن، ومن لم يجدده فأرجو أن لا يكون في نكاحه بأس.
س 666: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ورد في حديث ابن عباس- رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج ميمونة- رضي الله عنها- وهو محرم، ومن المعلوم أن المحرم يحرم عليه عقد النكاح فما الجواب عن هذا الحديث؟
فأجاب فضيلته بقوله: الراجح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج ميمونة - رضي الله عنها- وهو حلال، وذلك أن ميمونة نفسها أخبرت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوجها وهو حلال كما ثبت ذلك في صحيح مسلم (1)
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب النكاح، باب تحريم نكاح المحرم وكراهة خطبته (رقم 1411) .(22/166)
وأيضاً فإن أبا رافع- رضي الله عنه- السفير بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وميمونة رضي الله عنها أخبر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوجها وهو حلال، وصاحب القصة أدرى بها من غيره.
وأما حديث ابن عباس- رضي الله عنهما- فهو حديث صحيح ولكن ابن عباس- رضي الله عنهما- لم يعلم بالزواج إلا بعد إحرام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فظن أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - تزوجها وهو محرم.
س 667: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ماذا يجب على الرجل إذا واقع زوجته وهو محرم؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا واقع الرجل زوجته وهو محرم فإما أن يكون محرماً بعمرة أو محرماً بحج.
فإن كان محرماً بعمرة عليه شاة يذبحها ويتصدق بها على الفقراء، وإما أن يطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، وإما أن يصوم ثلاثة أيام، هو في ذلك على التخيير.
لكن إن كان مواقعته لامرأته قبل تمام سعي العمرة فإن عمرته تفسد، ويجب عليه قضاؤها؛ لأنها أصبحت فاسدة.
أما إذا كان الوطء في الحج قبل التحلل الأول فإنه يجب عليه بدنة يذبحها ويتصدق بها للفقراء، ويفسد نسكه أيضاً فيلزمه قضاؤه، مثل لو جامع زوجته في ليلة مزدلفة فإنه يكون قد جامعها قبل التحلل الأول، وحينئذ يفسد حجه، ويلزمه الاستمرار فيه حتى يكمله، ويلزمه أن يقضيه من العام القادم، ويلزمه ذبح بدنة(22/167)
يذبحها ويوزعها على أهل الحرم.
أما إذا كان مواقعته لزوجته في الحج بعد التحلل الأول وقبل التحلل الثاني مثل أن يجامعها بعد أن رمى جمرة العقبة يوم العيد وبعد أن حلق أو قصر فإنه لا يفسد حجه، ولكن الفقهاء - رحمهم الله- ذكروا أنه يفسد إحرامه أي ما بقي منه فيلزمه أن يخرج إلى الحل فيحرم ثم يطوف الإفاضة وهو محرم ويسعى سعي الحج.
وفي هذه الحال لا تلزمه بدنة، إنما يجب عليه شاة، أو صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع؛ لأن فقهاءنا- رحمهم الله- يقولون: كل ما أوجب شاة من مباشرة، أو وطء فإن حكمه كفدية الأذاء، أي أنه يخير فيه بين أن يصوم ثلاثة أيام، أو يطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، أو يذبح شاة يوزعها على الفقراء.
ثم إن كلامنا هذا فيما يجب على الفاعل. وليس معنى هذا أن الأمر سهل وهين بمعنى أنه إن شاء فعل هذا الشيء وقام بالتكفير والقضاء، وإن شاء لم يفعله، بل الأمر صعب ومحرم، بل هو من الأمور الكبيرة العظيمة؛ حيث يتجرأ على ما حرم عليه، فإن الله يقول: (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) (1) .
وفي هذه المناسبة أريد أن أنبه بها على مسألة يظن بعض الناس أن الإنسان فيها مخير، وهي ترك الواجب والفدية؛ يظن
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 197.(22/168)
بعض الناس أن العلماء لما قالوا: (في ترك الواجب دم) أن الإنسان مخير بين أن يفعل هذا الواجب، أو أن يذبح هذا الدم ويوزعه على الفقراء، مثال ذلك؛ يقول بعض الناس: إذا كان يوم العيد سوف أطوف وأسعى وأسافر إلى بلدي ويبقى عليّ المبيت في منى، ورمي الجمرات وهما واجبان من واجبات الحج. فأنا أفدي عن كل واحد منها بذبح شاة، يظن أن الإنسان مخير بين فعل واجب وبين ما يجب فيه من الفدية. والأمر ليس كذلك، ولكن إذا وقع وصدر من الإنسان ترك واجب فحينئذ تكون الفدية مكفرة له مع التوبة والاستغفار.
س 668: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل رمى جمرة العقبة يوم العيد وحلق وجامع زوجته قبل أن يطوف طواف الإفاضة فماذا يلزمه؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا الجماع حصل بعد التحلل الأول، فيكون بذلك آثماً ويفسد الإحرام بدون النسك، إذاً ماذا يفعل إذا فسد الإحرام؟ قال العلماء: يجدد إحرامه من الحل، يعني ذهب إلى التنعيم أو إلى عرفة ويحرم بإزار ورداء ثم يطوف طواف الإفاضة وعليه الإزار والرداء ويسعى كذلك.
س 669: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: إذا جامع وهو محرم بالعمرة؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا جامع الرجل زوجته وهو محرم(22/169)
بالعمرة فإن العمرة تفسد وعليه إعادتها، وعليه عند العلماء شاة يذبحها ويفرقها على الفقراء إما في مكة وإما في المكان الذي حصل فيه المحظور، أو صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين.
س 670: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: من احتلم وهو محرم هل يفسد حجه؟
فأجاب فضيلته بقوله: من احتلم وهو محرم فإن حجه لا يفسد؛ لأن النائم مرفوع عنه القلم، كما أنه لو احتلم وهو صائم فإن صومه لا يفسد، ولكن يجب على المحرم إذا احتلم أن يبادر بالاغتسال قبل أن يصلي، ولا يحل له أن يتيمم اللهم إلا أن لا يجد الماء، وذلك لقول الله تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا) (1) فاشترط الله سبحانه وتعالى للتيمم أن لا نجد ماء، وكثير من الناس يتهاون في الغسل من الجنابة إذا كان على سفر، فتجده يمكنه أن يغتسل لكن يستحي أن يغتسل أمام الناس، وهذا خطأ، فالواجب أن الإنسان يغتسل ما دام قد وجد الماء ولا يضره استعماله، ولا ضرر عليه إذا اغتسل عن احتلام؛ لأن الناس كلهم يقع منهم هذا الشيء، ثم على فرض أنه لا يقع
وهو أمر مفروض لا واقع فإن الله لا يستحي من الحق، فيأخذ الإنسان معه ماء ويبتعد عن الأنظار ويغتسل.
__________
(1) سورة المائدة، الآية: 6.(22/170)
س 671: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: عمن جامع وهو محرم بالحج جاهلاً تحريم الجماع؟
فأجاب فضيلته بقوله: من المعلوم أن الجماع من محظورات الإحرام، بل هو أعظم محظورات الإحرام قال الله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) (1) والرفث الجماع ومقدماته، فالجماع أعظم محظورات الإحرام، وإذا جامع الإنسان وهو
محرم بالحج فإما أن يكون قبل التحلل الأول، أو بعد التحلل الأول فإن كان قبل التحلل الأول ترقب على جماعه أمور:
أولاً: الإثم.
ثانيا: فساد النسك، بحيث لا يجزئه عن نافلة ولا عن فريضة.
ثالثاً: وجوب المضي فيه، أي أنه مع فساده يستمر ويكمله ويبقى هذا النسك الفاسد كالنسك الصحيح في جميع أحكامه.
رابعاً: وجوب القضاء من العام القادم سواءً كان ذلك الحج فريضة أم نافلة. إما إذا كان فريضة فوجوب القضاء ظاهر؛ لأن الحج الذي جامع فيه لم تبرأ به ذمته، وأما إذا كان نافلة فلأن نافلة الحج
يجب المضي فيها لقوله تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) (2) .
وقد سمى الله تعالى التلبس بالحج فرضاً فقال: (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) (3) ، فلهذا قلنا
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 197.
(2) سورة البقرة، الآية: 196.
(3) سورة البقرة، الآية: 197.(22/171)
إنه يجب عليه قضاء هذا الحج الفاسد سواء كان فرضاً أم نافلاً.
الأمر الخامس مما يترتب عليه: أنه يذبح بدنة كفارة عن فعله يوزعها على الفقراء، وإن ذبح عنها سبعاً من الغنم فلا بأس.
هذا حكم الجماع قبل التحلل الأول.
وأما إذا كان الجماع بعد التحلل الأول فإنه يرتب عليه الإثم وفساد الإحرام فقط، وعليه شاة يذبحها ويوزعها على الفقراء، أو يطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من البر أو غيره، أو
يصوم ثلاثة أيام فيخير بين هذه الثلاثة، ويجدد الإحرام فيذهب إلى أدنى الحل ويحرم منه؛ ليطوف طواف الإفاضة محرماً، هكذا قال فقهاؤنا.
فإن قيل: متى يحصل التحلل الأول؟
قلنا: التحلل الأول يكون برمي جمرة العقبة يوم العيد والحلق أو التقصير، فإذا رمى الإنسان جمرة العقبة يوم العيد وحلق أو قصر، فقد حل التحلل الأول، وحل من كل المحظورات إلا النساء قالت عائشة- رضي الله عنها-: "كنت أطيب النبي - صلى الله عليه وسلم - لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت " (1) وهذا الحديث دليل على أن الإحلال يليه الطواف بالبيت، وهو يقتضي أن يكون الحلق سابقاً على الإحلال كما قررناه آنفاً بأن التحلل الأول يكون برمي جمرة العقبة يوم العيد مع الحلق أو التقصير، فالجماع الذي قبل ذلك يترتب عليه الأمور الخمسة التي ذكرناها آنفاً، والذي بعد ذلك يترتب عليه ما ذكرناه
__________
(1) تقدم ص 9.(22/172)
من الإثم وفساد الإحرام دون النسك، ووجوب فدية، أو إطعام، أو صيام سواء في مكة أو في غيرها، وسواء كان متتابعاً أو متفرقاً.
وإذا كان هذا الإنسان جاهلاً بمعنى أنه لا يدري أن هذا الشيء حرام فإنه لا شيء عليه، سواء كان ذلك قبل التحلل الأول، أو بعده؛ لأن الله عز وجل يقول: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) (1) فقال الله: (قد فعلت) ، ويقول تعالى: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) (2) .
فإن قيل: إذا كان هذا الرجل عالماً بأن الجماع حرام في حال الإحرام، لكنه لم يظن أنه يترتب عليه كل هذه الأمور، ولو ظن أنه يترتب عليه كل هذه الأمور ما فعله فهل هذا عذر؟
فالجواب: أن هذا ليس بعذر؛ لأن العذر أن يكون الإنسان جاهلاً بالحكم لا يدري أن هذا الشيء حرام، وأما الجهل بما يترتب على الفعل فليس بعذر، ولذلك لو أن رجلاً محصناً يعلم أن الزنا حرام، وهو بالغ عاقل وقد تمت شروط الإحصان في حقه لوجب عليه الرجم، ولو قال: أنا لم أعلم أن الحد هو الرجم ولو علمت أن الحد هو الرجم ما فعلت، قلنا له: هذا ليس بعذر فعليك الرجم وإن كنت لا تدري ما عقوبة الزنى، ولهذا لما جاء الرجل الذي جامع في نهار رمضان يستفتي النبي - صلى الله عليه وسلم - ماذا يجب عليه ألزمه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالكفارة مع أنه كان حين جماعه جاهلاً بما
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 286.
(2) سورة الأحزاب، الآية: 5.(22/173)
يجب عليه، فدل ذلك على أن الإنسان إذا تجرأ على المعصية وانتهك حرمات الله عز وجل ترتب عليه آثار تلك. المعصية وإن كان لا يعلم بآثارها حين فعلها.
س 672: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: ما الحكم فيمن جامع زوجته في الحج يوم العيد؟
فأجاب فضيلته بقوله: جماع الزوجة في الحج يوم العيد إذا كان الإنسان قد رمى جمرة العقبة وحلق وطاف وسعى إذا فعل هذه الأربعة فإن زوجته تحل له؛ لأنه إذا رمى وحلق وطاف طواف الإفاضة وسعى بين الصفا والمروة حل له كل شيء.
س 673: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل حج وعندما رمي جمرة العقبة حلق رأسه وجامع زوجته ولم يكن يعلم أن الجماع حرام وكان يعتقد أنه إذا رمى وحلق حل له كل شيء
فهل حجه صحيح؟ وهل يلزمه شيء؟
فأجاب فضيلته بقوله: حجه صحيح، ولا شيء عليه مادام جاهلاً؟ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) ، وقال تعالى: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا َعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) ويقول سبحانه وتعالى في جزاء الصيد:
(وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) فكل هذه الآيات وكثير من النصوص سواها يدل على أن فاعل المحذور إذا كان(22/174)
جاهلاً أو ناسياً فلا شيء عليه، وعلى هذا نقول للرجل لا تعد لمثل مافعلت.
س 674: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل يقول جامعت زوجتي بعد أن تلبست بالإحرام للعمرة متمتعاً بها للحج فهل يبطل الحج أم تبطل العمرة فقط وأعود للميقات لأخذ عمرة
ثانية أما ماذا أعمل؟
فأجاب فضيلته بقوله: الحمد لله أما حجه فلا يبطل لأن هذه العمرة منفصلة عنه بإحرام مستقل وتحلل فحجه صحيح ولا شيء فيه، أما عمرته التي أفسدها فإن الواجب عليه قضاؤها، فإن كان
قد قضاها قبل الحج فأحرم من الميقات بدلا عن التي أفسدها فقد أدى ما عليه، وعليه في هذا الحال شاة يذبحها من أجل وطئه؛ لأن الوطء في العمرة- كما قال أهل العلم- يجب فيه شاة، أوإطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، أو صيام ثلاثة أيام، لأن القاعدة عندهم أن كل ما أوجب شاة بإجماع أو مباشرة فإنه يلحق به من فدية الأذى ويخير الإنسان فيها بين ثلاثة أشياء، كما قال الله عز وجل: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) وقد بين
النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الصيام ثلاثة أيام، وأن الصدقة إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، وأن النسك ذبح شاة.
فإن كان لم يقض العمرة التي أفسدها فعليه أن يفعلها الآن ويذبح الشاة التي هي دم جبران إن شاء، وإن شاء أطعم لكل مسكين نصف صاع، أو صام ثلاثة أيام.(22/175)
وبهذه المناسبة أنصح إخواني المسلمين أن يصبروا، فالمدة وجيزة ويسيرة وهم ما دخلوا في الحج والعمرة إلا وهم ملتزمون بأحكام الله تعالى فيهما، فعلى المرء أن يصبر ويحتسب، والحج نوع من الجهاد، أما كون الإنسان لا يحبس نفسه عما حرم الله عليه في هذه المدة الوجيزة فهذا نقص في عزمه، وعقله، ودينه، والواجب عليه أن يصبر ويحتسب الأجر من الله عز وجل.
س 675: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: رجل حج هو وزوجته وبعد التحلل الأول جامع زوجته وكانت هي غير موافقة بل منعته من ذلك فاستفتى ولكن من يفتي بغير علم قال: حجك باطل وعليك الإكمال والقضاء؟ فتكاسل لما سمع ببطلان حجه وقال: سأحج من العام المقبل وهو الآن يسأل ماذا عليه قبل أن يأتي وقت الحج علما أنهما لم يكملا السعي والطواف وهما من أهل الحرم؟
فأجاب فضيلته بقول: نعم الفتوى التي أفتى بها خطأ؛ لأن الذي أفتاه وقال: إن حجك فاسد مخطىء، والحج لا يفسد إذا كان الجماع بعد التحلل الأول ولكن الذي يفسد هو الإحرام، بمعنى أننا نقول: إذا جامع بعد التحلل الأول اذهب إلى الحل يعني إلى أدنى الحل إلى عرفة أو إلى مسجد التنعيم وأحرم منه وطف وأنت في إحرامك واسع وأنت في إحرامك، ولا شيء عليك سوى هذا، إلا أنك تذبح شاة توزعها على الفقراء، وإن شئت تصوم ثلاثة أيام، وإن شئت تطعم ستة مساكين، لكل
مسكين نصف صاع، وحجك صحيح.(22/176)
وإنني بهذه المناسبة أحذركم من شيئين:
الشيء الأول: أن تستفتوا من لا تعلموا أنه أهل للفتوى؛ لأنه مع الأسف صار كثير من الناس يكون معه نقطة من العلم ويرى أنه البحر العلامة الفهامة، فيفتي في كل شيء أتاه، مثل هذا الرجل أفتى بفساد الحج وهو لم يفسد، فاحذروا أمثال هؤلاء.
الأمر الثاني: أحذركم أن تحجوا دون أن تعرفوا أحكام الحج، أو إذا أخطأتم في الحج أن تسكتوا حتى إذا مضى سنوات جئتم تسألون، فهذا ليس بصواب، فإذا أردت أن تحج اعرف أحكام الحج أولاً، ثم إذا وقعت منك أخطاء، فلا تتأخر بالسؤال، بل بادر بالسؤال حتى يمكنك أن تتلافى الخطأ في وقت قصير، فهذان أمران أحذركما منهما.
الأمر الأول: استفتاء من لا تعلمونه أنه أهل للفتوى. والثاني: أن تبادروا إذا أخطأتم بالسؤال عن حكم هذا الخطأ، لكن قبل ذلك أن تتعلموا أحكام الحج والعمرة.
وقوله: (علما أنهما لم يكملا السعي والطواف) معناه أن الجماع حصل قبل الطواف والسعي، على كل حال هذا الذي فهمته من السؤال، والجواب على أنهما مضيا في إتمام النسك وطافا وسعيا، وأما إذا كانا لم يطوفا ولم يسعيا فالواجب عليهما الآن أن يذهبا إلى مكة فيحرما من الميقات للعمرة ويطوفا ويسعيا ويقصرا، ثم يطوفا طواف الإفاضة وسعي الحج، فيجب أن يذهبا الآن قبل أن يجامعها وقبل كل شيء ويطوف ويسعى لكن يتقدم الطواف والسعي عمرة.(22/177)
س 676: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: إنسان حج متمتعاً وطاف طوافاً ناقصاً أي أربعة أشواط ثم سعى وقصر وحل وحصل منه جماع وأكمل حجه ثم حج بعد هذه الحجة حجتين
ليست له والحجة الأولى هي الفرض هل يصح هذا؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا يصير قارناً لأنه أدخل الحج على العمرة قبل طوافها، لأن الطواف الأول لاغٍ وإدخال الحج على العمرة قبل الطواف يجعل النسك قراناً، ويبقى النظر الآن في كونه حل ولبس وجامع، لكنه جاهل فلا شيء عليه، وعلى هذا فيكون حجه تاماً، لكنه قارن وليس متمتعاً.
س 677: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله تعالى-: في العام الماضي أديت فريضة الحج ولكني بعد أن أحرمت من الميقات بتنا قبل دخول مكة المكرمة وجامعت زوجتي فما الذي يترتب عليّ بالتفصيل علماً بأني قد ذبحت شاة العام الماضي وحيث إني قد نويت الحج هذا العام أرجو أن أكون على بينة من أمري وفقكم الله؟
فأجاب فضيلته بقوله: الحمد لله لا أدري عن هذا الرجل حين أحرم من الميقات هل هو أحرم بالحج أو أحرم بالعمرة، وكلامنا مع هذا الرجل إذا كان هذا الرجل محرماً بالحج فإنه يكون قد أفسد
حجه، وعليه بدنة يذبحها هناك ويوزعها على الفقراء وعليه أيضاً أن يقضي ذلك الحج الفاسد في هذه السنة هو وزوجته إلا إذا كانت زوجته مكرهة، أو كانت جاهلة لا تعلم فليس عليها شيء.(22/178)