آخر مع العلم أنه كثير من الأحيان يتعذر علينا السؤال؟
س4:هاجرت من بلدي ورزقني الله بأطفال في هجرتي, ولم يرهم أهلي وكثيراً ما يلحون علي أن أبعث لهم صورهم الشخصية, ولأني أعرف أن التصوير حرام فلم أرسل لهم, ولكني علمت مؤخراً أن بعض المشايخ أفتوا بجواز التصوير بكاميرا الفيديو فهل أستطيع أن أبعث لهم شريط مصور أم هذا حرام أيضاً؟
س5:هل يجوز للأم أن تبيع ذهب طفلتها؟ وهل يجب عليها الزكاة فيه؟
س6:هل يجوز للمرأة أن تصبغ حاجبيها؟ وهل هو داخل في جواز صبغ الشعر؟
س7:أتسلى أحياناً بلعب الورق عبر شاشة الكمبيوتر بدون لعب أي شخص معي في أوقات فراغي, ولا تلهيني عن صلاتي أو عبادتي فما حكم ذلك؟ جزاكم الله خيراً, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم
فأجاب فضيلته بقوله: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
جـ 1:لك القصر حتى تغادر البلاد.
جـ 2:لا حرج أن تقصر على الفاتحة في ركعتي الفجر, لكن الأفضل أن تقرأ مع الفاتحة في الركعة الأولى: الكافرون, وفي الثانية (قل هو الله أحد) .
جـ 3:لا يجب عليك السؤال إذا كان اللحم من حيوان حلال(15/367)
والذابح من أهل الكتاب, وإذا كنت لا تدري فاجتنب ذلك إلى لحم الأسماك.
جـ 4:بعض العلماء يرخص في تصوير الفيديو.
جـ 5:المسئول عن أموال الأطفال أبوهم وليس للأم أن تتصرف بشيء من أموالهم إلا بأذن والدهم, والزكاة على ذهب الطفلة واجبة إن بلغ مجموعة نصاباً وهو خمسة وثمانون جراماً, ويتولى إخراجها أبوها أو أمها بإذن أبيها.
جـ 6:صبغ الحواجب كصبغ الرأس إذا كان بغير السواد وبدون تشبه بالكافرات فهو جائز.
جـ 7:لو تسليت بقراءة سيرة النبي صلي الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين كان خيراً لك.
وفقك الله للخير, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(15/368)
1116 سئل فضيلة الشيخ: عن حكم جمع صلاة العصر إلى صلاة الجمعة؟ وهل يجوز لمن كان خارج البلد الجمع؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا تجمع العصر إلى الجمعة لعدم ورود ذلك في السنة, ولا يصح قياس ذلك على جمعها إلى الظهر للفروق الكثيرة بين الجمعة والظهر.والأصل وجوب فعل كل صلاة في وقتها إلا بدليل يجيز جمعها إلى الأخرى.
ويجوز الجمع لمن كان خارج البلد يقيمون اليومين والثلاثة لأنهم مسافرون, أما إذا كانوا في ضواحي البلد القريبة بحيث لا يعدون مسافرين فلا يجوز لهم الجمع. والكلام هنا في الجمع بين الظهر والعصر, وبين المغرب والعشاء لا بين الجمعة والعصر فلا يجوز بل حال. 8/10/1417 هـ.
* * *
1117 وسئل فضيلة الشيخ - حفظه الله ورعاه -:يحصل من بعض الناس بل الكثير وهو على الطريق أن يجمع صلاة الجمعة مع صلاة العصر جمع تقديم معللاً ذلك بأنه يصلي ظهراً وليست نيته صلاة جمعة بل الظهر حيث أنه مسافر تسقط عنه الجمعة, ثم لو لم يصل الظهر بل أخرها مع صلاة العصر هل يصح فعله أم لا؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا حضر المسافر الجمعة وجب أن يصليها جمعة, لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُم(15/369)
تَعْلَمُون *فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْض) (الجمعة: الآيتان:9, 10) . الآية.
والمراد بالصلاة هنا صلاة الجمعة بلا ريب, والمسافر داخل في الخطاب فإنه من الذين آمنوا, ولا يصح أن ينوي بها الظهر ولا أن يؤخرها إلى العصر؛ لأنه مأمور بالحضور إلى الجمعة.
وأما قول السائل: إنه مسافر تسقط عنه الجمعة فصحيح أن المسافر ليس عليه جمعة ,بل ولا يصح منه الجمعة لو صلاها في السفر؛ لأن النبي صلي الله عليه وسلم كان لا يقيم الجمعة في السفر, فمن أقامها في السفر فقد خالف هدي النبي صلي الله عليه وسلم, فيكون عمله مردوداً بقول النبي صلي الله عليه وسلم (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) . أما إذا مر المسافر ببلد يوم الجمعة وأقام فيه حتى حان وقت صلاة الجمعة وسمع النداء الثاني الذي يكون إذا حضر الخطيب فعليه أن يصلي الجمعة مع المسلمين, ولا يجمع العصر إليها, بل ينتظر حتى يأتي وقت العصر فيصليها في وقتها متى دخل.
كتبه محمد الصالح العثيمين في 10/1/1418هـ.(15/370)
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد رب العالمين, والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, وبعد:
فقد كثر السؤال عن جمع صلاة العصر إلى صلاة الجمعة في الحال التي يجوز فيها جمع العصر إلى الظهر.
فأجيب مستعيناً بالله سائلاً منه الهداية والتوفيق:
لا يجوز جمع العصر إلى الجمعة في الحال التي يجوز فيها الجمع بين الظهر والعصر.
فلو مر المسافر ببلد وصلى معهم الجمعة لم يجز أن يجمع العصر إليها.
ولو نزل مطر يبيح الجمع - وقلنا بجواز الجمع بين الظهر والعصر للمطر - لم يجز جمع العصر إلى الجمعة ولو حضر المريض الذي يباح له الجمع إلى صلاة الجمعة فصلاها لم يجز أن يجمع إليها صلاة العصر.
ودليل ذلك قوله تعالى (إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً) (النساء: من الآية103) أي مفروضاً لوقت معين, وقد بين الله تعالى هذا الوقت إجمالاً في قوله تعالى: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً) (الإسراء:78) .
فدلوك الشمس زوالها, إلى غسق الليل اشتداد ظلمته, وهذا(15/371)
منتصف الليل, ويشمل هذا الوقت أربع الصلوات: الظهر, والعصر, والمغرب, والعشاء, جمعت في وقت واحد؛ لأنه لا فصل بين أوقاتها, فكلما خرج وقت صلاة كان دخول وقت الصلاة التي تليها وفصل صلاة الفجر؛ لأنها لا تتصل بها صلاة العشاء ولا تتصل بصلاة الظهر.
وقد بينت السنة هذه الأوقات بالتفصيل في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص, وجابر وغيرهما, وهو أن الظهر من زوال الشمس إلى أن يصير ظل كل شيء مثله, ووقت العصر من حين أن يصير ظل كل شيء مثله إلى غروب الشمس لكن ما بعد اصفرارها وقت ضرورة, ووقت المغرب من غروب الشمس إلى مغيب الشفق الأحمر, ووقت صلاة العشاء من غروب الشفق الأحمر إلى نصف الليل, ووقت الفجر من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس, وهذه حدود الله تعالى لأوقات الصلوات في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم.
فمن صلى صلاة قبل وقتها المحدد في كتاب الله تعالى وسنة رسوله فهو آثم وصلاته مردودة, لقوله تعالى: (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ,ولقوله صلي الله عليه وسلم (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) (1) . وكذلك من صلاها بعد الوقت لغير عذر شرعي.فمن صلى الظهر قبل زوال الشمس فصلاته باطلة مردودة وعليه قضاؤها.
ومن صلى العصر قبل أن يصير ظل كل شيء مثله فصلاته(15/372)
باطلة مردودة, عليه قضاؤها إلا أن يكون له عذر شرعي يبيح له جمعها تقديماً إلى الظهر.
ومن صلى المغرب قبل غروب الشمس فصلاته باطلة مردودة, وعليه قضاؤها.
ومن صلى العشاء قبل مغيب الشفق الأحمر فصلاته باطلة مردودة, وعليه قضاؤها إلا أن يكون له عذر شرع يبيح له جمعها تقديماً إلى المغرب.
ومن صلى الفجر قبل طلوع الفجر فصلاته مردودة, وعليه قضاؤها. هذا ما تقتضيه كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم.وعلى هذا فمن جمع صلاة العصر إلى صلاة الجمعة فقد صلاها قبل أن يدخل وقتها ,وهو أن يصير ظل كل شيء مثله فتكون باطلة مردودة. فإن قال قائل: أفلا يصح قياس جمع العصر إلى الجمعة على جمعها إلى الظهر؟
فالجواب: لا يصح ذلك لوجوه:
الأول: أنه قياس في العبادات.
الثاني: أن الجمعة صلاة مستقلة منفردة أحكامها تفترق مع الظهر بأكثر من عشرين حكماً, ومثل هذه الفروق تمنع أن تلحق إحدى الصلاتين بالأخرى.
الثالث: أن هذا القياس مخالف لظاهر السنة, فإن في صحيح مسلم عن عبد الله عباس - رضي الله عنهما – أن النبي صلي الله عليه وسلم جمع(15/373)
بين الظهر والعصر, وبين المغرب والعشاء في المدينة من غير خوف ولا مطر, فسئل عن ذلك, فقال: أراد أن لا يحرج أمته (1) .
وقد وقع المطر الذي فيه المشقة في عهد النبي صلي الله عليه وسلم ولم يجمع فيه بين العصر والجمعة كما في صحيح البخاري وغيره عن أنس بن مالك أن النبي صلي الله عليه وسلم استسقى يوم الجمعة وهو على المنبر, وفما نزل من المنبر إلا والمطر يتحادر من لحيته, ومثل هذا لا يقع إلا من مطر كثير يبيح الجمع لو كان جائزاً بين العصر والجمعة, قال: وفي الجمعة الأخرى دخل رجل فقال: يا رسول الله! غرق المال, وتهدم البناء, فادع الله يمسكها عنا (2) ,ومثل هذا يوجب أن يكون في الطرقات وحل يبيح الجمع لو كان جائزاً بين العصر والجمعة. فإن قال قائل: ما الدليل على منع جمع العصر والجمعة؟
فالجواب: أن هذا السؤال غير وارد؛ لأن الأصل في العبادات المنع إلا بدليل, فلا يطالب من منع التعبد لله تعالى بشيء من الأعمال الظاهرة أو الباطنة, وإنما يطالب بذلك من تعبد به لقوله تعالى منكراً على من تعبدوا الله بلا شرع: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّه) .وقال الله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً) وقال النبي صلي الله عليه وسلم (من عمل عملاً ليس فيه أمرنا فهو رد) . وعلى هذا:
فإذا قال قائل: ما الدليل على منع جمع العصر مع الجمعة؟ قلنا: ما الدليل على جوازه, فإن الأصل وجوب فعل صلاة العصر(15/374)
في وقتها خولف هذا الأصل في جمعها عند وجود سبب الجمع فبقي ما عداه على الأصل, وهو منع تقديمها على وقتها.
فإن قال قائل: أرأيتم لو نوى بصلاة الجمعة صلاة الظهر ليتم له الجمع؟ فالجواب: إن كان ذلك إمام الجمعة في أهل البلد أي أن أهل البلد نووا بالجمعة صلاة الظهر فلا شك في تحريمه وبطلان الصلاة؛ لأن الجمعة واجبة عليهم, فإذا عدلوا عنها إلى الظهر فقد عدلوا عما أمروا به إلى ما لم يؤمر به, فيكون عملهم باطلاً مردوداً لقول النبي صلي الله عليه وسلم (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) (1) . وأما إن كان الذي نوى بالجمعة الظهر كمسافر صلى الجمعة وراء من يصليها فنوى بها الظهر ليجمع إليها العصر فلا يصح أيضاً, لأنه لما حضر الجمعة لزمته, ومن لزمته الجمعة فصلى الظهر قبل سلام الإمام منها لم تصح ظهره. وعلى تقدير صحة ذلك فقد فوت على نفسه خيراً كثيراً وهو أجر صلاة الجمعة.
هذا, وقد نص صاحباً المنتهى والإقناع على أن الجمعة لا يصح جمع العصر إليها ذكراً ذلك في أول باب صلاة الجمعة.
وإنما أطلت في ذلك للحاجة إليه, والله أسأل أن يوفقنا للصواب, ونفع العباد, إنه جواد كريم. كتبه محمد الصالح العثيمين في 12/6/1419هـ.(15/375)
فصل
قال فضيلة الشيخ - جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء -:
الفروق بين صلاة الجمعة وصلاة الظهر
بسم الله الرحمن الرحيم
1- صلاة الجمعة لا تنعقد إلا بجمع على خلاف بين العلماء في عدده, وصلاة الظهر تصح من الواحد والجماعة.
2- صلاة الجمعة لا تقام إلا في القرى والأمصار, وصلاة الظهر في كل مكان.
3- صلاة الجمعة لا تقام في الأسفار, فلو مر جماعة مسافرون ببلد قد صلوا الجمعة لم يكن لهؤلاء الجماعة أن يقيموها, وصلاة الظهر تقام في السفر والحضر.
4- صلاة الجمعة لا تقام إلا في مسجد واحد في البلد إلا لحاجة, وصلاة الظهر تقام في كل مسجد.
5- صلاة الجمعة لا تقضي إذا فات وقتها, وإنما تصلي ظهراً؛ لأن من شرطها الوقت, وصلاة الظهر تقضى إذا فات وقتها لعذر.
6- صلاة الجمعة لا تلزم النساء, بل هي من خصائص الرجال, وصلاة الظهر تلزم الرجال والنساء.
7- صلاة الجمعة لا تلزم الأرقاء على خلاف في ذلك وتفصيل, وصلاة الظهر تلزم الأحرار والعبيد.
8- صلاة الجمعة تلزم من لم يستطيع الوصول إليها إلا راكباً,(15/376)
وصلاة الظهر لا تلزم من لا يستطيع الوصول إليها راكباً.
9. صلاة الجمعة لها شعائر قبلها, كالغسل, والطيب, ولبس أحسن الثياب ونحو ذلك, وصلاة الظهر ليست كذلك.
10.صلاة الجمعة إذا فاتت الواحد قضاها ظهراً لا جمعة, وصلاة الظهر إذا فاتت الواحد قضاها كما صلاها الإمام إلا من له القصر.
11. صلاة الجمعة يمكن فعلها قبل الزوال على قول كثير من العلماء, وصلاة الظهر لا يجوز فعلها قبل الزوال بالاتفاق.
12. صلاة الجمعة تسن القراءة فيها جهراً, وصلاة الظهر تسن القراءة فيها سراً. 13. صلاة الجمعة تسن القراءة فيها بسور معينة إما سبح والغاشية وإما الجمعة والمنافقون, وصلاة الظهر ليس لها سور معينة.
14.صلاة الجمعة ورد في فعلها من الثواب وفي تركها من العقاب ما هو معلوم, وصلاة الظهر لم يرد فيها مثل ذلك.
15. صلاة الجمعة ليس لها راتبه قبلها, وقد أمر النبي صلي الله عليه وسلم من صلاها أن يصلي بعدها أربعاً, وصلاة الظهر لها راتبه قبلها ولم يأت الأمر بصلاة بعدها.
16. صلاة الجمعة تسبقها خطبتان, وصلاة الظهر ليس لها خطبة.
17.صلاة الجمعة لا يصح البيع والشراء بعد ندائها الثاني ممن تلزمه, وصلاة الظهر يصح البيع والشراء بعد ندائها ممن تلزمه.
18. صلاة الجمعة إذا فاتت في مسجد لا تعاد فيه ولا غيره,(15/377)
وصلاة الظهر إذا فاتت في مسجد أعيدت فيه وفي غيره.
19. صلاة الجمعة يشترط لصحتها إذن الإمام على القول بعض أهل العلم, وصلاة الظهر لا يشترط لها ذلك بالاتفاق.
20. صلاة الجمعة رتب في السبق إليها ثواب خاص مختلف باختلاف السبق, والملائكة على أبواب المسجد يكتبون الأول فالأول, وصلاة الظهر لم يرد فيها مثل ذلك.
21. صلاة الجمعة لا إبراد فيها في شدة الحر, وصلاة الظهر يسن غيها الإبراد في شدة الحر
22. صلاة الجمعة لا يصح جمع العصر إليها في الحال التي يجوز فيها جمع العصر إلى الظهر, وصلاة الظهر يصح جمع العصر إليها حال وجود العذر المبيح.
هذا وقد عداها بعضهم إلى أكثر من ثلاثين حكماً, لكن بعضها أي الزائد عما ذكرنا فيه نظراً أو داخل في بعض ما ذكرناه.
كتبه محمد الصالح العثيمين وتم ذلك في 15/6/1419هـ.(15/378)
1118 سئل فضيلة الشيخ: عن حكم الجمع بين الظهر والعصر, وبين المغرب والعشاء في الحضر؟
فأجاب فضيلته بقوله: الجمع بين الظهر في العصر, أو بين المغرب والعشاء في الحضر جائز إذا كان في تركه مشقة, أو تفويت جماعة مثال الأول: المرض, ومثال الثاني: الجمع حال المطر لجماعة المسجد, فإن بإمكان كل واحد أن يصلي وحده في بيته في الوقت, لكن لما كان ذلك تفوت به الجماعة أباح الشرع الجمع كما في حديث ابن عباس – رضي الله عنهما - (أن النبي صلي الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء في المدينة من غير خوف ولا مطر) (1) .
* * *
1119 سئل فضيلة الشيخ: ركبت الطائرة من جيزان الساعة الثانية ظهراً, وأردت أن أجمع في الطائرة بين صلاتي الظهر والعصر فقيل لي لا بد أن تجمع في وقت أحدهما فانتظر دخول وقت العصر ونظراً لأني متوجه للقصيم من جدة فوجئت بإعلان الرحلة فصليت على متن الطائرة لأنها لن تصل القصيم إلا بعد غروب الشمس, فهل صلاتي صحيحة؟ وهل صحيح أنه لابد من الجمع في وقت أحد الصلاتين؟
فأجاب فضيلته بقوله: الإنسان إذا كان مسافراً فيسن له القصر(15/379)
بل هو الأفضل من الإتمام, كذلك الجمع إذا احتاج إليه, وما ذكرت عن نفسك فإنك محتاج إلى الجمع, وقول الذي أفتاك بوجوب الجمع في وقت أحدهما قول ليس بصحيح, فإذا جاز الجمع بين الصلاتين صار وقت الصلاتين وقت واحد, فيجوز لك أن تصلي في وقت الأولى, أو في وقت الثانية, أو في آخر الأولى وأول الثانية.
فأنت بالخيار ولو أنك أديت الصلاة في مطار جدة قبل ركوب الطائرة لكان هذا هو الواجب عليك, ولكن نظراً لأنك لم تتمكن من أدائهما بناء على فتوى الذي أفتاك ,وصليتهما في الطائرة فهذا منتهى مقدورك, ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها, وصلاتك صحيحة ولا إعادة عليك.
* * *(15/380)
رسالة
فضيلة الشيخ محمد صالح العثيمين
حفظه الله تعالى السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
نحن مجموعة مشاركين في مؤتمر. . . . والمنعقد في منطقة. . . . وقد قدمنا من خارج المنطقة وحددت مهمة البعض منا بخمسة أيام, والبعض الآخر بثلاثة أيام, ولا نعلم أحكام الصلاة في حال السفر هذا ,هل نصلي جمع وقصر أم قصر بدون جمع أم يلزمنا أداء الصلاة المساجد؟ أفيدونا أفادكم الله.
بسم الله الرحمن الرحيم
الجواب: الأصل أن الجماعة تلزمكم في المساجد مع الناس حيث كنتم في مكان تسمعون فيه النداء بدون مكبر صوت؛ لقربكم من المسجد. فإن كنتم في مكان بعيد لا تسمعون فيه النداء لولا مكبر الصوت, فصلوا جماعة في أماكنكم, وكذلك إذا كان في ذهابكم إلى المسجد إخلال بمهمتكم التي قدمتم من أجلها, فصلوا جماعة في أماكنكم.
ولكم قصر الصلاة الرباعية إلى ركعتين؛ لأنكم في سفر وقد ثبت عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قدم عام الفتح في مكة تسعة عشر يوماً يقصر(15/381)
الصلاة (1) ,وأقام في تبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة (2) وإقامتكم أنتم ذلك.
أما الجمع فالأفضل أن لا تجمعوا؛ إلا أن يشق عليكم ترك الجمع فاجمعوا, وإن جمعتم بدون مشقة فلا حرج لأنكم على سفر, وفقكم الله وبارك فيكم.
كتبه محمد الصالح العثيمين 18/4/1413هـ.(15/382)
1120 سئل فضيلة الشيخ: ما حكم الجمع بين الصلاتين في حال الحرب والخوف من العدو؟ وما هي سنة النبي صلي الله عليه وسلم في الجمع في حاله الحرب؟ وهل يجوز لنا الجمع ولو طالت المدة عدة سنوات؟
فأجاب فضيلته بقوله: الجمع له ميزان وهو المشقة, فإذا شق على الإنسان أن يفرد كل صلاة في وقتها فله الجمع لحديث ابن عباس – رضي الله عنهما – قال (جمع رسول الله صلي الله عليه وسلم بين الظهر والعصر, والمغرب والعشاء, بالمدينة في غير خوف ولا مطر) . قيل لابن عباس: ما أراد إلى ذلك؟ قال: أراد أن لا يخرج أمته (1) . فهذا يدل على أن مدار الجمع على الحرج والمشقة. ويجوز لهم الجمع ولو بقوا عدة سنوات, ولا أعلم في هذه سنة سوى حديث ابن عباس السابق, وهو قاعدة عامة وهي المشقة, فإنه يجوز الجمع سواءً في الحرب أو في السلم, وفي الحضر والسفر.
* * *
سئل فضيلة الشيخ: إذا غادر الإنسان بلده مسافراً فهل يجوز له الجمع والقصر مع أنه يشاهد بنيان البلد؟
فأجاب فضيلته بقوله: ذكر العلماء – رحمهم الله – أنه لا يشترط لفعل القصر والجمع – حيث أبيح فعلهما – أن يغيب الإنسان عن البلد, بل متى خرج من سور البلد جاز له ذلك, وإن كان يشاهدها, وكذلك الحال فيمن قدم إليها له أن يفعل رخص السفر(15/383)
حتى يدخل في سورها, ومتى ثبت هذا فإن للمسافر أن يقصر ويجمع ويفطر. والله أعلم.
* * *
1122 سئل فضيلة الشيخ: إذا سافر أناس ثم أراد الله فتعطلوا في الوادي فهل لهم أن يفطروا ويجمعوا ويقصروا على اعتبار أنهم مسافرون أو لا على اعتبار أن الوادي جزء من عنيزة؟
فأجاب فضيلته بقوله: جواب هذا السؤال يفهم مما سبق, فإنه وإن كان الوادي ينسب إلى عنيزة لا يمنتع أن يقصروا فيه من سافر من عنيزة, وله أن يفعل بقية رخص السفر ما دام عازماً على السفر, ولو بقي أكثر من يوم ,والله أعلم.
* * *
1123 سئل فضيلة الشيخ: إذا كنت سأسافر بعد أذان المغرب فهل أجمع المغرب والعشاء وأقصر؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كنت في بلدك لم تخرج وأردت أن تسافر بعد صلاة المغرب مباشرة فإنك لا تجمع, لأنه ليس لك سبباً يبيح للجمع إذ أنك لم تغادر بلدك, أما إذا كنت في بلد قد سافرت إليه مثل أن تكون قد أتيت إلى مكة للعمرة, ثم أردت أن تسافر بين المغرب والعشاء فإنه لا بأس إذا صلى الإمام المغرب أن تصلي بعده العشاء مقصورة إلى بلدك.
* * *(15/384)
1124 سئل فضيلة الشيخ: عن امرأة تعاني من مرض الربو وفي بعض الأحيان لا يستطيع أن تتوضأ ولا تتيمم لوصول الغبار لأنفها, فكيف تصلي؟ هل تجمع الصلاة بعد أن تأتي عليها الأزمة علماً بأن هذه الأزمة تستمر ليومين أو ثلاثة؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم يجوز لها وهي مريضة بهذا المرض الذي يلزم منه أن تتعب عند الوضوء لكل صلاة يجوز لها أن تجمع بين الظهر والعصر, وبين المغرب والعشاء وأنا أشير عليها ما دامت هذه حالها أن تجمع بين الظهر والعصر جمع تأخير وتتوضأ لهما وتجمع بين المغرب والعشاء جمع تقديم لتكون متطهرة بطهارة واحدة لجميع الصلوات الأربع, ويبقى عليها طهارة واحدة للفجر؛ لأن هذا أيسر, والله تبارك وتعالى يحب من عباده أن يفعلوا ما هو الأيسر كما قال الله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْر) (البقرة: من الآية185) وقال نبيه صلي الله عليه وسلم (إن الدين يسر) (1) وقال أبو برزة – رضي الله عنه - (لقد صحبت النبي صلي الله عليه وسلم ورأيت من تيسيره) (2) .يعني رأيت أنه يحب اليسر والتيسير على الأمة؛ لأن التيسير على الأمة فيه فائدتين عظيمتين:
أولاً: أنه هو الموافق لروح الدين الإسلامي.
الثاني: أن النفوس تقبل الدين بانشراح وسعة وقبول وإذ عان تام ,بخلاف ما إذا شدد عليها بدون بينة وبرهان.(15/385)
رسالة
فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين حفظه الله تعالى ورعاه.
السلام عليم ورحمة الله وبركاته.
لا حظنا كثرة الجمع في الأيام الماضية وتساهل الناس فيه فهل ترون مثل هذا البرد مبرراً للجمع أثابكم الله؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الجواب: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
لا يحل تساهل الناس في الجمع؛ لأن الله تعالى قال: (إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً) (النساء: من الآية103) . وقال تعالى: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً) (الإسراء:78) . فإذا كانت الصلاة مفروضة موقوتة، فإن الواجب أداء الفرض في وقته المحدد له، المجمل في قوله تعالى: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) إلى آخرها وبين النبي صلي الله عليه وسلم ذلك مفصلاً فقال: ((وقت الظهر إذا زالت الشمس وكان ظل الرجل طوله ما لم يحضر وقت العصر، ووقت العصر ما لم تصفر الشمس، ووقت المغرب ما لم يغب الشفق، ووقت العشاء إلى نصف الليل) (1) .
__________
(1) رواه مسلم في المساجد، باب: أوقات الصلوات الخمس ح 174 (612) .(15/386)
وإذا كان النبي صلي الله عليه وسلم حدد الأوقات تحديداً مفصلاً فإن إيقاع الصلاة في غير وقتها من تعدي حدود الله (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (البقرة: من الآية229) فمن صلى الصلاة قبل وقتها عالماً عامداً فهو آثم وعليه الإعادة، وإن لم يكن عالماً عامداً فليس بآثم لكن عليه الإعادة، وهذا حاصل بجمع التقديم بلا سبب شرعي فإن الصلاة المقدمة لا تصح وعليه إعادتها.
ومن أخر الصلاة عن وقتها عالماً عامداً بلا عذر فهو آثم ولا تقبل صلاته على القول الراجح وهذا حاصل بجمع التأخير بلا سبب شرعي، فإن الصلاة المؤخرة لا تقبل على القول الراجح.
فعلى المسلم أن يتقي الله تعالى ولا يتساهل في هذا الأمر العظيم الخطير.
وأما ما ثبت في صحيح مسلم عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: ((أن النبي صلي الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء في المدينة من غير خوف ولا مطر) فلا دليل فيه على التساهل في هذا الأمر، لأن ابن عباس -رضي الله عنهما- سئل: (ماذا أراد إلى ذلك؟ يعني النبي صلي الله عليه وسلم؟ قال: أراد أن لا يحرج أمته) (1) ، وهذا دليل على أن السبب المبيح للجمع هو الحرج في أداء كل صلاة في وقتها، فإذا لحق المسلم حرج في أداء ككل صلاة في وقتها جاز له الجمع أو سن له ذلك، وإن لم يكن عليه حرج وجب عليه أن يصلي كل صلاة في وقتها.
__________
(1) رواه مسلم، تقدم تخريجه ص 266.(15/387)
وبناء على ذلك فإن مجرد البرد لا يبيح الجمع إلا أن يكون مصحوباً بهواء يتأذى به الناس عند خروجهم إلى المساجد، أو مصحوباً بنزول يتأذى به الناس.
فنصيحتي لإخواني المسلمين ولا سيما الأئمة أن يتقوا الله في ذلك، وأن يستعينوا الله تعالى في أداء هذه الفريضة على الوجه الذي يرضاه. قاله كاتبه محمد الصالح العثيمين في 8/7/1413هـ.(15/388)
خطبة الجمعة 13/7/1412هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه، وعلى آله، وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً.
أما بعد:
أيها الناس اتقوا ربكم وصلوا خمسكم، وأطيعوا إذا أمركم، واعلموا أن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، ووصف من تعدى حدوده بأنه ظالم، ظلم نفسه وعصى ربه، فقال: (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (البقرة: من الآية229) . وقال: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ) (النساء:13، 14) .
أيها المسلمون: إن مما فرضه الله وأوجبه وبيّن حدوده وأظهره صلواتكم هذه التي هي ركن من أركان الإسلام، بل هي أعظم أركانه بعد شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فلا(15/389)
ركن أعظم وأوجب منها بعد دخول الإنسان في الإسلام، وقد أمر الله بالمحافظة عليها، وتوعد من أضاعها، فقال جل ذكره: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى) (البقرة: من الآية238) وقال (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً، إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً) (مريم:59،60) .
وإن مما حده لله لهذه الصلوات الوقت، حيث بيّن سبحانه أن فرضها فرض موقت غير مطلق، فقال تعالى: (إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً) (النساء: من الآية103) ولهذا كانت المحافظة على الوقت أوكد من المحافظة على غيره، فالمريض يصلي في الوقت على أي حال كان بقدر استطاعته ولا ينتظر البرء، وعدم الماء يصلي في الوقت بالتيمم ولا ينتظر وجود الماء، فإن لم يجد ما يتيمم به صلى على حاله ولا ينتظر وجود ما يتيمم به، ومن احترقت ثيابه ولم يجد ثوباً صلى عارياً ولا ينتظر الحصول على الثوب. وهذا وأمثاله يدل على أهمية وقوع الصلاة في وقتها. وقد بين الله تعالى أوقات الصلاة مجملة في كتابه في سنة رسوله صلي الله عليه وسلم، فقال تعالى: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً) (الإسراء:78) وفي مسند الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله –رضي الله عنه- (أن جبريل أتى النبي صلي الله عليه وسلم فقال: قم فصّلى، فصلى به الظهر حين زالت الشمس، ثم العصر حين صار ظل كل شيء مثله، ثم المغرب حين غابت الشمس، ثم العشاء حين غاب الشفق، ثم الفجر حين(15/390)
سطع الفجر، ثم جاءه في اليوم الثاني فصلى به الظهر حين صار ظلّ كل شيء مثله، ثم العصر حين صار ظلّ كل شيء مثليه، ثم المغرب وقتاً واحداً لم يزُلْ عنه، ثم العشاء حين ذهب نصف الليل، أو ثلث الليل، ثم الفجر حين أسفر جدًّا، ثم قال: ما بين هذين وقت) (1) ، قال البخاري: هو أصح شيء في المواقيت (2) .
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: ((وقت الظهر إذا زالت الشمس وكان ظل الرجل كطوله ما لم يحضر العصر، ووقت العصر ما لم تصفر الشمس، ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق، ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل الأوسط، ووقت صلاة الصبح من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس....) (3) فهذه أوقات الصلوات محددة معلومة لا يحل لمسلم أن يقدم صلاة على وقتها بإجماع المسلمين، فإن فعل ذلك متعمداً فهو آثم وصلاته باطلة، وإن فعل ذلك جاهلاً فليس بآثم ولكن عليه الإعادة وتكون صلاته قبل الوقت نافلة. ومن تقديم الصلاة على وقتها أن يجمع العصر إلى الظهر، أو العشاء إلى المغرب بدون عذر شرعي يبيح له الجمع، فإن ذلك من تعدي حدود الله تعالى والتعرض لعقوبته؛ لأنه إضاعة لفريضة من أركان الإسلام، ووقوع في كبيرة من كبائر الذنوب، فقد كتب
__________
(1) رواه الإمام أحمد في ((المسند)) 3/330 (14522)
(2) نيل الأوطار1/372.
(3) رواه مسلم، وتقدم ص386.(15/391)
عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إلى عامل له: (ثلاث من الكبائر: الجمع بين صلاتين إلا من عذر، والنهب، والفرار من الزحف) ، وقال شيخ الإسلام ابن تيميه بعد ذكر الجملة الأولى من هذا الأثر: رواه الترمذي (1) مرفوعاً، وقال: العمل عليه عند أهل العلم والأثر أهـ. (مختصر الفتاوى المصرية 164) .وقد تهاون بعض الناس في هذه المسألة فصاروا يجمعون بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء في أيام المطر بدون عذر، قال مسلم في صحيحه ((أن النبي صلي الله عليه وسلم جمع في المدينة بين الظهر والعصر, وبين المغرب والعشاء في غير خوف ولا مطر, فقيل له: ما راد إلى ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أمته) (2) . وهذا الحديث إذا تأمله المتأمل يتبين له أن مجرد نزول المطر ليس عذراً يبيح الجمع بين الصلاتين بل لا يكون عذراً حتى يكون في تركك الجمع مشقة وحرج. قال شيخ الإسلام ابن تيميه في حديث ابن عباس: هذا وإنما كان الجمع لرفع الحرج عن أمته, فإذا احتجوا إلى الجمع جمعوا. وقال أيضاً: فالأحاديث كلها تدل على أنه جمع في الوقت الواحد لرفع الحرج عن أمته, فيباح الجمع إذا كان في تركه حرج قد رفعه الله عن الأمة.وببيان عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - وكلام شيخ
__________
(1) أخرجه البيهقي في ((سننه)) 3/169.
(2) رواه مسلم، وتقدم تخريجه ص226.(15/392)
الإسلام ابن تيميه يتبين جلياً أنه لا يحل الجمع بين الصلاتين حتى يوجد الحرج في ترك الجمع.وقد بين أهل العلم - رحمهم الله - المطر الذي يبيح الجمع ويحصل به في ترك الجمع مشقة. فقال في المغني 2/375: والمطر الذي يبيح الجمع هو ما يبل الثياب وتلحق المشقة بالخروج فيه, فأما الطل والمطر الخفيف الذي لا يبل الثياب فلا يبيح, وأما الوحل بمجرده ففيه خلاف بين المذاهب, وبين أصحاب الإمام هل هو عذر أو لا؟ والصحيح: أنه عذر متى كانت المشقة.
وهنا سؤالان:
الأول: إذا كانت السماء غائمة ولم يكن مطر ولا وحل ولكن المطر متوقع فهل يجوز الجمع؟
الجواب: أنه لا يجوز الجمع في هذه الحال لأن المتوقع غير واقع, وكم من حال يتوقع الناس فيها المطر لكثافة السحاب ثم يتفرق ولا يمطر.
الثاني: إذا كان مطر ولكن شكنا هل هو مطر يبيح الجمع أو لا؟
والجواب: أنه لا يجوز الجمع في هذه الحال, لأن الأصل وجوب فعل الصلاة في وقتها فلا يعدل عن الأصل إلا بيقين العذر. فاتقوا الله عباد الله, والتزموا حدود الله ,ولا تتهاونوا في دينكم واسألوا العلماء قبل أن تقدموا على شيء تحملون به ذممكم مسؤولية عباد الله في عبادة الله, واعلموا أن الأمر خطير, وأن الصلاة في وقتها أمر واجب بإجماع المسلمين, وأما الجمع فرخصة(15/393)
حيث وجد السبب المبيح: إما مباح وفعله أفضل, أو مباح وتركه أفضل, وما علمت أحداً من العلماء قال: إنه واجب. فلا تعرضوا أمراً أجمع العلماء على وجوبه لأمر اختلف العلماء في أفضليته. اللهم وفقنا للعمل لما يرضيك عنا, اللهم اجعلنا هداة مهتدين, وصالحين مصلحين, إنك جواد كريم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(15/394)
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى جناب الوالد المكرم الفاضل الشيخ محمد بن صالح العثيمين حفظه الله بطاعته آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كتابك الشريف وصل ومن ضمنه الأجوبة وصلت أثاب الله الجنة وغفر ذنبك, وسلك بك طريق رشده وهاده آمين يا رب العالمين, وبعد:
بارك الله فيك إذا كان هناك جمع بين المغرب والعشاء للمطر وصلى الناس المغرب, وقام الإمام لصلاة العشاء المجموعة؛ وقام رجل لم يسلم من صلاة المغرب ولم يحرم لصلاة العشاء فهل تجزيه صلاته مع الإمام على هذه الصفة؟ أفتني أثابك الله الجنة بمنه وكرمه.
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد الصالح العثيمين إلى الأخ المكرم. . . . حفظه الله
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. . . . . وبعد:
الحمد لله على وصول الأجوبة ونسأل النفع بها. الرجل المذكور الذي قام مع الإمام في الجمع بدون سلام من صلاة المغرب, وبدون تكبيرة إحرام للعشاء هذا الرجل صلاته المغرب باطلة لأنه لم يسلم منها بل قرنها بصلاة أخرى, والسلام ركن, وقرن الصلاة أخرى بدون سلام من الأولى لا يجوز.(15/395)
وكذلك صلاته العشاء باطلة؛ لأنه لم يكبر لها تكبيرة الإحرام ووصلها بصلاة ثانية. وعلى هذا فيجب عليه إعادة الصلاتين صلاة المغرب, وصلاة العشاء مع التوبة إلى الله من هذا العمل.
هذا ما لزم والله يحفظكم والسلام ورحمة الله وبركاته.
حرر في 28/2/1394هـ.(15/396)
1125 سئل فضيلة الشيخ: ما قولكم فيمن يجمع الصلاة مريد للسفر لكنه لم يغادر بلده؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا وجه لجمع من أراد السفر قبل أن يغادر البلد, اللهم إلا أن يخشى من مشقة إذا نزل للصلاة أثناء سفره, ومن جمع لغير هذه الخشية واستدل بحديث ابن عباس - رضي الله عنهما - فقد أبعد النجعة؛ لأن ابن عباس حين سئل لم صنع رسول الله صلي الله عليه وسلم ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أمته (1) .
* * *
__________
(1) رواه مسلم، وتقدم تخريجه ص226.(15/397)
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
فضيلة الشيخ محمد صالح العثيمين حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته, وبعد:
فإننا نسكن في منطقة كثيرة الأمطار, والناس يختلفون كثيراً في الأسباب التي بسببها يجمع بين الصلاة المغرب والعشاء, فنرجو توضيح ذلك لنا, علماً أنه في أحد الأيام كانت هناك ظلمة شديدة والمطر ينزل من قبل صلاة المغرب إلى بعد العشاء, ولكنه كان خفيفاً والشوراع مضاءة معبدة, فمن المساجد من جمع, ومنها من لم يجمع, واختلف الناس وأعاد صلاة العشاء البعض حتى اختلف أئمة المساجد فيها بين مرخص ومشدد, ونظراً لتكرار هذا الأمر دائماً عندنا نرجو منكم إفادتنا, وجزاكم الله خيراً.
بسم الله الرحمن الرحيم
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
الأصل: وجوب فعل الصلاة في وقتها, فلا يحل تقديمها على وقتها, ولا تأخيرها عنه, لقول الله تعالى: (كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً) (النساء: من الآية103) ,وقد بين النبي صلي الله عليه وسلم أوقاتها بياناً كاملاً, لكن إذا كان هناك عذر يبل الثياب, أو وحل في الأسواق, أو نقع ماء يتأذى بها الناس فالجمع سنة, لقول(15/398)
ابن عباس - رضي الله عنهما -:جمع النبي صلي الله عليه وسلم في المدينة من غير خوف ولا مطر بين الظهر والعصر ,وبين المغرب والعشاء, فسألوه: لم فعل ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج على أمته (1) ,أي أن لا يلحقها حرجاً بترك الجمع. واختلاف الناس عندكم في الجمع إما لأن بعض الأسواق يكون فيها العذر المبيح للجمع, وبعضها لا يكون فيها ذلك, وإما لأن بعض الأئمة يرى قيام العذر فيجمع, وبعضهم لا يرى ذلك فلا يجمع. والأمر واسع في هذا الاختلاف.
ومتى شك الإنسان هل تحقق العذر أم لا, فلا يجمع, لأن الأصل وجوب فعل كل صلاة في وقتها ولكن يقول للناس: من شق عليه الحضور للمسجد فليصل في بيته, لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينادي مناديه في الليلة الباردة أو المطيرة فيقول: صلوا في رحالكم, وهذا من يسر الإسلام, وفق الله الجميع لما يحبه ويرضى.
كتبه محمد الصالح العثيمين في 25/7/1418هـ.(15/399)
1126 سئل فضيلة الشيخ: كنت إماماً وصليت المغرب والعشاء جمعاً وصليت العشاء ركعتين جهلاً مني, وكنت شاكاً في ذلك, وبعد خروجي من المسجد علمت أن الجمع والقصر للمسافر, أما المقيم فيجمع ولا يقصر أثناء المطر والريح الشديدة, فهل على ذنب أو كفارة؟ أفيدوني جزاكم الله خيراً.
فأجاب فضيلته بقوله: الواجب عليك في هذه الحالة أن تعيد صلاة العشاء, وأن تنبه الجماعة الذين صلوا معك ركعتين أن يعيدوها, وأن تبين لهم أنه لا تلازم بين القصر أبداً, وربما يجوز له الجمع إذا وجدت أسباب جوازه, وعلى كل حال فعليك أن تعيد أنت وجماعتك الصلاة التي صليتموها ركعتين. وإذا وجد الجماعة الذين صلوا معه لينبههم على ما حصل, ينبه من يجدهم, وهم بدورهم ينبهون من يرونه من المصلين. والله الموفق
* * *
1127 سئل فضيلة الشيخ: ما هي رخص السفر؟
فأجاب فضيلته بقوله: رخص السفر أربع:
1- صلاة الرباعية ركعتين.
2- الفطر في رمضان, ويقضيه عدة من أيام أخر.
3- المسح على الخفين ثلاثة أيام بلياليها ابتداء من أول مرة مسح.
4- سقوط المطالبة براتبه الظهر, والمغرب, والعشاء, أما راتبه(15/400)
الفجر وبقية النوافل على مشروعيتها واستحبابها. فيصلي المسافر صلاة الليل, وسنة الفجر, وركعتي الضحى وسنة الوضوء, وركعتي دخول المسجد, وركعتي القدوم من السفر, فإن من السنة إذا قدم الإنسان من سفر أن يبدأ قبل دخول بيته بدخول المسجد فيصلي فيه ركعتين (1) . وهكذا بقية التطوع بالصلاة فإنه لا يزال مشروعاً بالنسبة للمسافر ما عدا ما قلت سابقاً وهي:راتبه الظهر, وراتبه المغرب, وراتبه العشاء, لأن النبي صلي الله عليه وسلم كان لا يصلي هذه الرواتب الثلاث.
* * *
1128 سئل فضيلة الشيخ: ما هي أحكام السفر من حيث القصر في الصلاة والإفطار في الصيام؟
فأجاب فضيلته بقوله: السفر سبب مبيح لقصر الصلاة الرباعية إلى ركعتين, بل إنه أي السفر سبب يقتضي قصر الصلاة الرباعية إلى ركعتين, إما وجوباً وإما ندباً على خلاف في ذلك.
والصحيح أن القصر مندوب, وليس بواجب, وإن كان في النصوص ما ظاهره الوجوب, ولكن هناك نصوص أخرى تدل على أنه ليس بواجب.
والسفر الذي يبيح القصر, ويبيح الفطر, ويبيح مسح الخفين(15/401)
أو الجوربين ثلاثة أيام, قد اختلف العلماء فيه:
فمنهم من جعله مقروناً بالمسافة, وهي واحد وثمانين كيلو تقريباً, فإذا خرج الإنسان من بلده المسافة, أو عزم على قطع هذه المسافة من بلده, فإنه يكون مسافراً يباح له جميع رخص السفر
ومن العلماء من يقول: إن السفر لا يحد بالمسافة وإنما يحد بالعرف والعادة, لأن الشرع لم يرد بتحديده, وما لم يرد الشرع بتحديده فإنه يرجع فيه إلى العرف والعادة كما قال الناظم:
وكل ما أتى ولم يحدد بالشرع كالحرز فبالعرف أحدد وعلى كل حال فإذا ثبتت أحكام السفر, سواء قلنا إنه مقيد بالمسافة أو مقيد بالعرف, فإن أحكام السفر ينبغي للإنسان أن يفعلها, سواء كانت قصراً, أو أفطر في رمضان, أو مسحاً على الجوربين ثلاثة أيام, إلا أن الأفضل للمسافر هو الصيام ما لم يشق عليه فالفطر أفضل.
وبهذه المناسبة أود أن أذكر إخواننا المعتمرين الذين يقدمون إلى مكة لأداء العمرة ,إلى أن بعضهم يقضي عمرته في النهار, ويشق عليه الصوم مع ذلك مشقة عظيمة, حتى إن بعضهم يغمى عليه, وينقل, هذا خطأ عظيم جداً, لأن المشروع في حق هؤلاء أن يفطروا. فإذا قال قائل: هل الأفضل أن أفطر وأؤدي العمرة من حين أن أصل؟ أو الأفضل أن أمسك ولا أؤدي العمرة إلا في الليل؟
فالجواب: أن الأول أفضل, وهو أن يفطر ويؤدي العمرة في(15/402)
النهار, لأن النبي صلي الله عليه وسلم كان إذا أعتمر بادر بأداء العمرة, حتى إنه ((كان إذا قدم حاجاً أو معتمر لا ينيخ بعيره إلا عند باب المسجد) عليه الصلاة والسلام فيؤدي عمرته (1) .
وهذا يحصل من بعض الناس في هذا البلد أو في غيره من الصيام في رمضان مع المشقة, إنما يكون عن اجتهاد منهم, ولكن الشرع ليس بالهوى, وإنما هو بالهدى, فكون الإنسان يشق على نفسه وهو مريض فيصوم, أو يشق على نفسه وهو مسافر فيصوم, فإن ذلك خلاف السنة, وخلاف ما يحب الله عز وجل, كما في حديث ابن عمر 0 رضي الله عنهما - قال الرسول صلي الله عليه وسلم (إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته) (2) .
* * *(15/403)
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد الصالح العثيمين إلى الأخ المكرم مدير الشؤون الدينية. . . . حفظه الله تعالى وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته, وإليك الجواب على ما سألتم عنه:
الأول: سؤالكم عن جواز الجمع والقصر لكم.
وجوابه: أن القصر والجمع جائز لكم, لكن الأفضل ترك الجمع إلا لحاجة مثل أن يكون الماء قليلاً, وإن جمعتم بدون حاجة فلا بأس لأنكم مسافرون فإنكم انتدبتم لعمل موقت لا تنوون استيطاناً, ولا إقامة مطلقة, وإنما إقامتكم لحاجة متى انتهت رجعتم إلى بلادكم. وقد ثبت (أن النبي صلي الله عليه وسلم أقام في تبوك عشرين يوماً يصلي ركعتين) (1) وأقام عام الفتح في مكة تسعة عشر يوماً يقصر الصلاة (2) ,وما زال المسلمون يقيمون في الثغور الأشهر وربما السنة والسنتين (3) ويقصرون الصلاة, ولم يحد النبي صلي الله عليه وسلم لأمته حداً ينقطع به حكم السفر لمن كان مسافراً. هذا هو القول الصحيح.(15/404)
ويرى بعض العلماء أن من نوى إقامة أكثر من أربعة أيام لزمه أن يتم.
السؤال الثاني: عن صلاتكم الجمعة.
جوابه: أنه ليس من هدي النبي صلي الله عليه وسلم صلاة الجمعة في السفر, وبناء على ذلك فلا تشرع لكم صلاة الجمعة, وإنما تصلون ظهراً مقصورة. وقد كتب الشيخ محمد بن إبراهيم – رحمه الله – إلى الملك سعود – رحمه الله – كتاباً قال فيه (من خصوص أبا العلا والجنود الذين معه في البرود يصلون الجمعة, وهم ليس في حقهم جمعة, ولا يشرع لهم ذلك, فينبغي المبادرة في تنبيههم على ذلك ومنعهم من التجميع. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته) .
السؤال الثالث: هل نعتبر مسافرين وعلى ذلك نفطر؟
وجوابه: أنه متى جاز لكم قصر الصلاة جاز لكم الفطر, وقد سبق في الجواب الأول أن القول الصحيح جواز القصر في حقكم ولكن الصوم للمسافر أفضل إذا لم يشق عليه. السؤال الرابع: عن ضابط المشقة:
جوابه: أن المشقة هي أن يحصل للإنسان شيء من التكلف والتحمل, وأما موضوع التدخين فتعلمون – بارك الله فيكم – أن عمومات الكتاب والسنة تدل على تحريمه حيث ثبت ضرره, وعلى هذا فلا يجوز للإنسان شرب الدخان, وينبغي أن يستغل فرصه شهر رمضان للتخلص منه, فإن الصائم في النهار قد خماه منه بالصوم, فليتصبر في الليل عنه حتى يستعين بذلك على التخلص منه, بالإضافة إلى استعانته بالله ودعائه.(15/405)
السؤال الخامس: هل الأفضل بقاؤكم في عملكم أو استئذانكم للسفر إلى مكة؟
جوابه: أن الأفضل بقاؤكم في عملكم؛ لأنه عمل مهم, وقيام بواجب, وسفركم إلى مكة من قبيل التطوع والقيام بالواجب أفضل من القيام بالتطوع.
السؤال السادس: هل تصلون التراويح وأنتم تقصرون الصلاة؟
وجوابه: نعم, تصلون التراويح, وتقومون الليل, وتصلون صلاة الضحى وغيرها من النوافل, لكن لا تصلون راتبه الظهر أو المغرب أو العشاء.
السؤال السابع: عن التيمم لصلاة الفجر من الجناية إذا كان الجو بارداً.
جوابه: إذا وجب الغسل على أحدكم وكان الماء بارداً, ولم يكن عنده ما يسخن به الماء وخاف على نفسه من المرض فلا بأس أن يتيمم, فإذا تمكن من الغسل بعد دفء الجو والماء أو وجود ما يسخن به الماء وجب عليه أن يغتسل؛ لأن التيمم إنما يطهر حال وجود العذر, فإذا زال العذر عاد الحدث ووجب استعمال الماء.
كتب هذه الأجوبة السبعة محمد الصالح العثيمين في 30/8/1411 هـ.
***(15/406)
1137 سئل فضيلة الشيخ: عن صلاة المسافر؟ وهل يلزمه الإتمام إذا صلى خلف مقيم؟ وهل تلزمه الجماعة؟ وهل يتطوع بالنوافل؟ وهل يجمع؟ وهل يصوم؟
فأجاب فضيلته بقوله: صلاة المسافر ركعتان من حين أن يخرج من بلده إلى أن يرجع إليه, لقول عائشة – رضي الله عنها - صلي الله عليه وسلم (أول ما فرضت الصلاة فرضت ركعتين, فأقرت صلاة السفر وأتمت صلاة الحضر) . وفي رواية (وزيد في صلاة الحضر) (1) وقال أنس بن مالك – رضي الله عنه - (خرجنا مع النبي صلي الله عليه وسلم من المدينة إلي مكة فصلى ركعتين، ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة) (2) . لكن إذا صلى مع إمام يتم صلى أربعاً سواء أدرك الصلاة من أولها أم فاته شيء منها, لعموم قول النبي صلي الله عليه وسلم (إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم السكينة والوقار ولا تسرعوا, فما أدركتم فصلوا, وما فاتكم فأتموا) (3) . فعموم قوله (ما أدركتم فصلوا, وما فاتكم فأتموا) يشمل المسافرين الذين يصلون وراء الإمام الذي يصلي أربعاً وغيرهم.وسئل ابن عباس – رضي الله عنهما -:ما بال المسافر يصلي ركعتين إذا انفرد وأربعاً إذا ائتم بمقيم؟ فقال: ((تلك السنة) (4) .(15/407)
ولا تسقط صلاة الجماعة عن المسافر؛ لأن الله تعالى أمر بها في حال القتال فقال: (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ) الآية.
وعلى هذا فإذا كان المسافر في بلد غير بلده وجب عليه أن يحضر الجماعة في المسجد إذا سمع النداء, إلا أن يكون بعيداً, أو يخاف فوت رفقته لعموم الأدلة على وجوب صلاة الجماعة على من سمع النداء أو الإقامة. وأما التطوع بالنوافل فإن المسافر يصلي جميع النوافل سوى راتبه الظهر, والمغرب, والعشاء, فيصلي الوتر, وصلاة الليل, وصلاة الضحى, وراتبه الفجر وغير ذلك من النوافل غير الرواتب المستثناة. أما الجمع فإن كان سائراً فالأفضل له أن يجمع بين الظهر والعصر, وبين المغرب والعشاء, إما جمع تقديم, وإما جمع تأخير حسب الأيسر له, وكلما أيسر فهو أفضل.
وإن كان نازلاً فالأفضل أن لا يجمع, وإن جمع فلا بأس لصحة الأمرين عن رسول الله صلي الله عليه وسلم.وأما صوم المسافر في رمضان فالأفضل الصوم, وإن أفطر فلا بأس, ويقضي عدد الأيام التي أفطرها إلا أن يكون الفطر أسهل له, فالفطر أفضل لأن الله يحب أن تؤتي رخصه. والحمد لله رب العالمين. 5/12/1409هـ.
* * *(15/408)
1130 سئل فضيلة الشيخ: إذا جئت وقد فرغ الإمام من الجمع بين العشاءين فهل لي أن أجمع منفرداً؟
فأجاب فضيلته بقوله: إن كنت تظن أنك تجد مسجداً قريباً منك ولم يجمع فلا تجمع, وإن كنت لا تظن ذلك فإن حضر جماعة وصليتم جميعاً فلا بأس بالجمع, وإن لم يحضر جماعة فالأظهر عدم جواز ذلك؛ لأن الجمع حينئذ لا فائدة منه فإنك سوف ترجع إلى بيتك ولا تخرج منه, والجمع إنما أبيح للحاجة ,وفي مثل هذه الصورة لا حاجة, بخلاف ما لو حضر جماعة فإن في الجمع فائدة وهو حصول الجماعة, والله أعلم.
* * *
1131 سئل فضيلة الشيخ: في صلاة الخوف بعد أن يصلي الإمام بالطائفة الأولى ركعة يقوم ويثبت قائماً حتى يتموا لأنفسهم وفي أثناء ذلك يقرأ الإمام ولكن هل يعيد قرءاته إذا جاءت الطائفة لتصلي وراءه؟
فأجاب فضيلته بقوله: الظاهر أنه لا يعيد قراءته وإنما يقرءون هم لأنفسهم سورة الفاتحة فقط إن كان الإمام يجهر, ثم ينصتون لقراءته, وإن كانت الصلاة سرية قرءوا الفاتحة وسورة أخرى
* * *(15/409)
رسالة
جواب أسئلة الطيارين
قال فضيلة الشيخ - جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء -:
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإنني أشكر الله - سبحانه وتعالى - أن وفقني للقاء بإخواني الملاحين الجويين من الطيارين والمهندسين الجويين والمضيفين, والإجابة على استفساراتهم ,خاصة أننا نرى في إخواننا قواد الطائرات من على وجوههم سيما الخير, ونسمع أيضاً ما يسرنا نحو هم وإني أوصيهم بتقوى الله - عز وجل - والحرص التام على راحة الركاب وعلى ما فيه مصلحة الذين والدنيا؛من مراعاة الأمور الشرعية كأوقات الصلوات إذا حلت وهو في الأجواء, وكذلك أوقات الإحرام بالحج والعمرة بحيث ينبهوا الركاب قبل محاذاة الميقات بمدة يتمكنون بها من خلع الثياب العادية ولبس الثياب التي تلبس في الإحرام وليتوسعوا في ذلك, بمعنى إذا قدر أم الوقت الذي يكفي لهذا العمل عشر دقائق فلينبهوا على ذلك قبل هذا الوقت بخمس الدقائق أو أكثر, لأن من الناس من لا يستطيع أن يخلع ملابسه ويلبس ثياب الإحرام بسهولة ويحتاج إلى مدة أطول, ثم إني أقول(15/410)
الاحتياط في الإحرام قبل الميقات أهون من أن يتجاوز الميقات بدقيقة واحدة؛ لأن الدقيقة واحدة؛ بالنسبة لطائرة تبلغ مسافة كبيرة, كذلك أيضاً لو قدموا التنبيه على الدخول في النسك على الميقات لأنهم إذا لم ينبهوا الإنسان إلا الطائرة في حذاء الميقات لم يتمكن من عقد النية إلا بعد مجاوز الميقات بحكم سرعة الطائرة, ومن المعلوم أنه لا يضر تقدم الإحرام على الميقات ولكن الذي يضر التأخر ولو كان يسيراً, وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من قادة الخير والإصلاح إنه على كل شيء قدير.وإلى الأسئلة:-(15/411)
1132 سئل فضيلة الشيخ: إذ عدم الماء أو تجمد, أو حيل بين استعماله خشية تسربه ووقوع إضرار منه في الطائرة أو لم يكن كافياً, فكيف يكون الوضوء عدم وجود التراب؟
فأجاب فضيلته بقوله: الوضوء حسب ما ذكرت متعذر أو متعسر والله تعالى يقول: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) . فتيمم الراكب على فراش إن كان فيه غبار وإن لم يكن فيه غبار فإنه يصلي ولو غير طهارة للعجز عنها, وقدر الله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) . لكن إذا كان يمكن أن يهبط في المطار في آخر الوقت الثانية وهي مما يجمع إليها ما قبلها, فالعصر يجمع مع الظهر والعشاء يجمع مع المغرب, فليؤخر أي: فلينو جمع التأخير ويصل صلاتين إذا هبط في المطار, والسنة في حق من يجمع بين الصلاتين أن يؤذن لهما أذاناً واحداً وأن يقيم لكل لصلاة إقامة مستقلة بها إقتداء بالنبي صلى الله وسلم حين جمع بين الظهر والعصر يوم عرفة (1) ,أما إذا كان لا يمكن كما لو كان هذا هو وقت الثانية في المجموعتين أو كانت الصلاة لا تجمع إلى ما بعدها كصلاة العصر مع المغرب وصلاة العشاء مع الفجر مع الظهر فهذا يصلي على حسب حاله.
* * *(15/412)
1133 وسئل فضيلته: يحدث أثناء الرحلات الطويلة أن ينام بعض المسافرين على مقاعدهم فيحتلم أو يصعد إلى الطائرة وهو ناس جنابته أو أن تطهر المرأة من حيضها أو نفاسها مع دخول وقت الفجر, ووصول الطائرة إلى البلد الآخر لا يكون إلا بعد خروج الوقت مع العلم أن أنظمة السلامة في الطائرة تمنع الاغتسال في حمام الطائرة منعاً باتاً لعدم أهليتها لذلك, فما العمل؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان يمكن أن يتيمم على فراش الطائرة تيمم, وإذا لم يمكن بأن كان خالياً من الغبار فإنه يصلي ولو على غير طهر, فإذا قدر هذا الطهر تطهر.
* * *
1134 وسئل – جزاه الله خيراً -:جماعات الطائرة ضيقة وتكون في بعض الأحيان أرضيتها وجدرانها نجسة ظاهرة, وفي حالة الدخول لقضاء الحاجة أو للوضوء أشك في أن ملابسي نجست بالملامسة ولكني أصلي وعند وصولي إلى البلد المسافر إليه أصلي الصلاة مرة أخرى بعد تغيير ملابسي علماً بأن إعادتي للصلاة تكون بعد خروج وقتها ,فما الحكم؟
فأجاب فضيلته بقوله: أولاً: لا بد أن نتيقن أن جدران الحمام نجسة.
ثانياً: إذا تيقنا ذلك فإنها لا تنجس الثوب بمجرد الملامسة إلا إذا كان الثوب رطباً أو كانت الجدران رطبة بحيث تعلق النجاسة(15/413)
بالثوب, وإذا كانت النجاسة ظاهرة فبالإمكان إزالتها وتطهير المكان بالماء أو تجفيفه حتى لا تعلق النجاسة بالثوب.
ثالثاً: وإذا تيقنا فيصلي بالثوب النجس, وفي هذه الحالة يجب عليه أن يحول إزالة عين النجاسة عن الثوب يغسل البقعة المراد تطهيرها, وإذا لم يجد ثوباً طاهراً صلى ولا إعادة عليه, لقول الله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) .
* * *
1135 وسئل فضيلة الشيخ: ما حكم المسح على الجزمة والشراب؟ وما الفرق بين الخف والجزمة؟
فأجاب فضيلته بقوله: الجزمة هي الخف, لكن الجزمة لها ساق قصيرة والخف ساقة أطول, وأما الجوارب فهي الشراب ,فإذا مسح الإنسان على الجزمة تعلق الحكم بها بحيث لو خلعها بعد ذلك, فإنه لا بد أن يتوضأ وضوءاً كاملاً عند إرادة الصلاة, وبعد انتقاض وضوئه, بمعنى أن الإنسان لو مسح على الجزمة ثم صلى ثم خلعها بعد ذلك, فله أن يصلي ما دام على طهارته, لكن إذا انتقض وضوئه فلا بد من أن يخلع الجزمة ويغسل قدميه؛ لأن القاعدة التي ينبغي أن تفهم (أن كل ممسوح إذا نزع بعد مسحه فإنه لا يمكن إعادة المسح عليه إلا بعد الطهارة الكاملة) .
* * *
1136 وسئل – وفقه الله تعالى -:البعض يمسح على الجزمة ويخلعها ويصلي بالجورب فهل فعله صحيح؟ أم هل يجب(15/414)
المسح على الجورب؟ وما هو الفرق بين الخف والحذاء؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان من عادة الإنسان أن يخلع الخف, فإننا ننصحه أن يمسح على الجوارب من الأول حتى لا يؤثر عليه خلع الخف بعد ذلك, أما إذا مسح على الخف ثم نزعه فإنه يبقى على طهارته كما قلنا في الجواب السابق, فإذا انتقضت طهارته فلا بد من أن يخلع الخف والجوارب التي تحته ويتوضأ وضوءاً كاملاً, والفرق بين الخف والحذاء, أن الخف ساتر للقدم, بخلاف الحذاء.
* * *
1137 وسئل فضيلة الشيخ: هل يبطل الصلاة عدم تحري القبلة خلال السفر بالطائرة؟ وما المقصود بقوله تعالى: (وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) ؟
فأجاب فضيلته بقوله: يجب على الإنسان أن يتحرى القبلة ما أمكن ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها, ولا يجوز أن يصلي حيث ما بدا له بدون اجتهاد وقوله تعالى: (وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) يعني: في أي مكان كنتم, ولوا وجوهكم شطر المسجد الحرام؛ سواء كنتم في البر أو في البحر أو الجو أو في مكان , لكن القاعدة الشرعية أن جميع الواجبات إنما تجب مع القدرة عليها, ثم إن كثيراً من العبادات يكتفي فيها بغلبة الظن ولا يجب فيها اليقين إما لتعذره أو لتعسره وهذا مثل الاتجاه إلى القبلة في الطائرة, فيتحرى القبلة ويستقلها بقدر الإمكان(15/415)
1138 وسئل فضيلة الشيخ: يتغير اتجاه الطائرة حسب خطوط الملاحة الجوية وهذا التغير بغير اتجاه القبلة فما حكم الصلاة في الطائرة؟
فأجاب بقوله: حكم الصلاة فيما إذا تغير اتجاه الطائرة أن يستدير المصلي في أثناء صلاته إلى الاتجاه الصحيح, كما قال ذلك أهل العلم في السفينة في البحر , أنه إذا تغير اتجاهها فإنه يتجه إلى القبلة ولو أدى ذلك إلى الاستدارة عدة مرات, الواجب على قائد الطائرة إذا تغير اتجاه الطائرة أن يقول للناس قد تغير الاتجاه فانحرفوا إلى الاتجاه الصحيح, هذا في صلاة الفريضة, أما النافلة في السفر على راحلته أينما توجهت به, كما في حديث أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال (كان رسول الله صلي الله عليه وسلم إذا سافر فأراد أن يتطوع استقبل بناقته, القبلة فكبر ثم صلى حيث وجهه ركابه) (1) .
* * *
1139 وسئل فضيلته: إذا سأل الراكب في الطائرة عن اتجاه القبلة ثم ذهب إلى الوضوء وأثناء وضوئه تغير اتجاه القبلة بتغير اتجاه الطائرة فما حكم صلاة ذلك الراكب؟ معتمداً في ذلك على ما أخبر حين سؤاله؟
فأجاب فضيلته بقوله: الواجب على القائد الطائرة إذا تغير اتجاه القبلة أن يقول للناس: قد تغير اتجاه القبلة فانحرفوا إلى(15/416)
الاتجاه الصحيح أو من الممكن أن يخبر المضيفون الركاب بتغير اتجاه القبلة.
* * *
وسئل فضيلة الشيخ – جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيراً الجزاء – اجتهدت في معرفة القبلة وأنا على سفر صليت, عند الانتهاء أخبرت بأني صليت إلى غير القبلة فما حكم؟ فأجاب بقوله: إن كنت في البلد ليس محل اجتهاد؛لأنه بالإمكان أن تسأل من حولك, وأما في البر فإذا اجتهدت فأخطأت فصلاتك صحيحة ,ولا إعادة عليك.
* * *
1141 وسئل فضيلة الشيخ – حفظه الله تعالى -:إذا كنت في بلد المسافة بينه وبين مكة من جهة المشرق هي نفس المسافة بينه وبين مكة من جهة المغرب فعلى أي اتجاه أصلي؟ فأجاب فضيلته بقوله: الذي يظهر في هذه الحال أن يكون مخيراً بين أن يتجه شرقاً أو غرباً؛ لأن الكل سواء, فإذا كان بالإمكان قياس المسافة بينهما فإلى أي الجهتين أقرب يتجه, ولا أظن أن أحداً يحيط بذلك على وجه التحديد, وأنتم ربما مر عليكم قصة (1) الرجل الذي قتل تسعاً وتسعين نفساً ثم سأل عابداً هل لي من توبة فاستعظم العابد هذا الأمر وقال: ليس لك توبة, تقتل تسعاً وتسعين نفساً ثم تقول هل لي من توبة؟ فقتل العابد فأكمل به المائة, ثم سأل عالماً فقال له: ومن يحول بينك وبين التوبة ,ولكنك في أرض(15/417)
أهلها ظالمون اذهب إلى القرية الفلانية فإن أهلها صالحون, فذهب, وفي أثناء الطريق مات, فأنزل الله ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فتخاصموا أيهم يقبض روحه ,فبعث الله ملكاً يحكم بينهم فقال: قيسوا ما بين القريتين فإلى أيهما كان أقرب فهو من أهلها, فقاسموا بينهما فوجدوه أقرب إلى القرية الصالحة بنحو شبر, حتى قيل: إنه نأى بصدره عند الموت فلم يكن بينهما إلا هذا الفرق اليسير ,فقبضته ملائكة الرحمة, فدل ذلك على أن الفرق معتبر لما بين الشيئين فإلى أيهما أقرب أن به أولى.
* * *
1142 سئل فضيلة الشيخ – وفقه الله تعالى -:قبل كل رحلة جوية يكون هناك اجتماع بين قائد الطائرة والملاحين, وفي بعض الأحيان أثناء ذلك تقام الصلاة فهل يجوز لي تركك الجماعة حتى ينتهي الاجتماع؟ مع العلم أن هذا الاجتماع لا يحتمل التأخير؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان هذا الاجتماع مما تقتضيه الرحلة ولا بد, وأنه يفوت لو ذهبتم إلى المسجد فلا بأس أن تبقوا وتنهوا موضوعكم ثم تصلوا جماعة قي مكانكم.
* * *
1143 وسئل فضيلة الشيخ: نحن من سكان مدينة جدة, فهل يجوز لنا القصر في المطار؟ وماذا عن الصلاة في مطار الرياض؟
فأجاب فضيلته بقوله: المطار الداخلي أصبح من أحياء(15/418)
جدة, فلا يجوز القصر فيه وأنتم من أهل جدة, وأما المطار الحالي فلكم القصر فيه؛لأنه خارج البلد, وأما مطار الرياض فلكم القصر فيه سواء الجديد أو القديم لأنكم لستم من أهل الرياض
* * *
1144 سئل فضيلة الشيخ: هل من الواجب على في السفر إذا سمعت الأذان أن أصلي في المسجد جماعة أم أن صلاة الجماعة في المسجد تسقط عن المسافر؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان المسافر مقيماً في مكان فإنه يجب أن يصلي مع الناس في المسجد, أما إذا كان ماشياً وتوقف لحاجة؛ فلا تلزمه الجماعة في المسجد, بل يصليها مع أصحابه جماعة.
* * *
1145 وسئل فضيلة الشيخ: ما هو الأفضل للمسافر أن يصلي في مكان إقامته يجمع الظهر مع العصر مع المغرب مع العشاء أم يصلي كل صلاة في وقتها؟
فأجاب فضيلته بقوله: الأفضل أن يصلي كل صلاة في وقتها, فإن شق عليه, فله أن يجمع؛ لأن القول الراجح أن الجمع في السفر جائز وإن لم يكن سائراً.
* * *(15/419)
1146 وسئل فضيلته: أنا أحد ملاحي الخطوط السعودية وتدركني الصلاة وأنا أقوم بأداء عملي فهو يجوز لي أن أقطع عملي وأقوم بأداء الصلاة أم أكمل أداء مهام عملي في الطائرة ثم أصلي حتى وإن خرج الوقت؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا أوشك الوقت على الخروج فصل على أي حال كانت ,أما إذا كان في الأمر سعة, فلا بأس أن تشغل بما أنت ملزم به ثم تصلي قبل الخروج الوقت.
* * *
1147 وسئل فضيلته بقوله: كنت في سفر وصليت مع إمام مقيم, فهل أتم صلاتي معه أم أقصر الصلاة فأصل ركعتين معه ثم أخرج من الصلاة وأسلم؟
فأجاب فضيلته بقوله: يجب على من ائتم بمقيم وهو مسافر, أن يتم الصلاة, سواء أدرك الصلاة من أولها, أو أدرك الركعتين الأخيرتين, أو أدرك ركعة أو حتى لو أدرك التشهد الأخير يجب عليه أن يتم صلاته لعموم قول النبي صلي الله عليه وسلم (ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا) (1) .
* * *(15/420)
1148 وسئل فضيلة الشيخ – وفقه الله تعالى -:ما حكم من يصلي الصلوات في البلاد الكافرة على حساب توقيت الصلوات في المملكة؟ وما حكم الصلاة قبل دخول الوقت؟
فأجاب قائلاً: الذي يصلي الصلوات في البلاد الكافرة على حسب توقيت المملكة ,قد أخطأ خطأ كبيراً؛ إلا إذا كان من المملكة بحيث لا يخرج وقت الصلاة, إن كان شرقاً عن المملكة أو يكون قد دخل وقت الصلاة إن كان غرباً عن المملكة, أما إذا كان يخرج وقت الصلاة في المملكة قبل أن يدخل في البلد الآخر, فإنه إذا صلى فيها بالحال على حسب توقيت المملكة, يكون قد صلى قبل الوقت, وإذا صلى قبل الوقت فإنه لا صلاة له لقوله تعالى: (كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً) .وحدد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم هذا الوقت بقوله (وقت الظهر إذا زالت الشمس وكان ظل الرجل كطوله ما لم يحضر العصر, ووقت العصر إلى أن تصفر الشمس, ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق الأحمر, وقت صلاة العشاء إلى نصف الليل الأوسط, وقت صلاة الصبح من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس) (1) ,وكذلك من أخر الصلاة عن وقتها عمداً حتى يخرج وقتها بلا عذر فإنه لا صلاة له, لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) (2) .ومن المعلوم لكل أحد(15/421)
أن الصائمين في بلادهم لا يصومون على حساب توقيت المملكة وإنما يصومون على حسب طلوع الفجر وغروب الشمس في بلادهم, فكذلك الصلاة.
* * *
1149 وسئل فضيلة الشيخ – حفظه الله تعالى -:البعض يأخذ برخصه السفر في الجمع بين الصلاتين مثل الظهر والعصر فيجمعهما جمع تقديم وهو يعلم أن سيصل إلى مكان إقامته قبل صلاة العصر فهل هذا جائز؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم هذا جائز, لكن إن كان يعلم أو يغلب على ظنه أنه سيصل قبل صلاة العصر؛ فالأفضل أن لا يجمع لأنه ليس هناك حاجة للجمع.
* * *
1150 وسئل – حفظه الله ورعاه -:إذا كنت في سفر وسمعت النداء للصلاة فهل يجب علي أن أصلي في المسجد, ولو صليت في مكان إقامتي فهل في ذلك شيء؟ إذا كانت مدة السفر أكثر من أربعة أيام متواصلة فهل أقصر الصلاة أم أتمها؟
فأجاب قائلاً: إذا سمعت الأذان وأنت في محل الإقامة وجب عليك أن تحضر إلى المسجد, لأن النبي صلي الله عليه وسلم قال للرجل الذي استأذنه في ترك الجماعة (أتسمع النداء؟ قال:نعم، قال: فأجب) (1) .وقال عليه الصلاة والسلام (من(15/422)
سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له إلا من عذر) (2) .وليس هناك دليل يدل على تخصيص المسافر من هذا الحكم؛ إلا إذا كان في ذهابك للمسجد تفويت مصلحة لك في السفر, مثل: أن تكون محتاجاً إلى الراحة والنوم فتريد أن تصلي في مقر إقامتك من أجل أن تنام, أو كنت تخشى إذا ذهبت إلى المسجد أن يتأخر الإمام في الإقامة وأنت تريد أن تسافر وتخشى من فوات الرحلة عليك, وما أشبه ذلك.
وأما تحديد مدة الإقامة فلا حد لها على القول الراجح, بل مادمت مسافراً فأنت مسافر ولو بقيت خمسة أيام, أو عشرة أيام, أو أسبوعاً, أو شهراً, لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يحدد للأمة وقتاً معيناً ينقطع به حكم السفر, بل هو عليه الصلاة والسلام قد أقام عدة إقامات مختلفة وصار يقصر الصلاة, فيها فأقام في تبوك عشرين يوما يقصر الصلاة (3) ,وأقام في مكة تسعة عشر يوما يقصر الصلاة (4) وأقام في حجة الوداع عشرة أيام وهو يقصر الصلاة؛ أربعة أيام في مكة, والبقية في المشاعر (5) .
فالصحيح: أنه ليس في ذلك حد مادمت على سفر فأنت على سفر تترخص برخص السفر ولو طالت المدة.(15/423)
1151 وسئل فضيلة الشيخ – وفقه الله تعالى -:أغادر في بعض الأحيان من مطار جدة إلى الرياض عصراً فأصل إلى الرياض قبل الغروب ولا اصلي العصر في الطائرات بل أؤخر حتى أصل الفندق, فهل عملي هذا صحيح؟ وهل لي أن أجمع في بيتي قبل السفر بدون أن أقصر الصلاة إذا خشيت خروج وقت العصر؟
فأجاب قائلاً: عملك صحيح, مادمت تقوم من مطار جدة قبل دخول الوقت وتصل إلى المطار في أثناء الوقت, بل وحتى في آخر الوقت فلا حرج أن تؤخر الصلاة حتى يهبط في المطار, فإذا قدر أنك لن تصل إلى المطار الثاني إلا بعد خروج الوقت, فإنه لا بأس أن تجمع بين الظهر والعصر في بيتك, فتقدم صلاة العصر وإن كنت لم تبدأ الرحلة؛ لأن تأخير صلاة العصر في هذه الحالة فيه نوع من المشقة والخوف من خروج الوقت, وقد قال ابن عباس – رضي الله عنهما -:جمع النبي صلي الله عليه وسلم في المدينة بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء من غير خوف ولا مطر, فقالوا: ما أراد ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أمته (1)
* * *
1152 وسئل الشيخ – غفر الله له -:في الرحلات الطويلة التي قد يستمر قرابة اثنتي عشرة ساعة يجعل لها طاقمان من الطيارين(15/424)
فيقوم الأول بقيادة الطائرة إلى نصف المسافة تقريباً ويأخذ الطاقم الثاني قسطاً من الراحة بالنوم أثناء ذلك استعداداً لتكمله الرحلة بعد منتصف الوقت فيصادف في الشتاء أنه بعد إقلاع الطائرة بساعتين أو ثلاث تقريباً يحصل طلوع الشمس فيفوت على الطاقم الثاني وقت صلاة الفجر فما الحكم علماً بأنه إذا استيقظ هؤلاء من النوم قد لا يستطيعون النوم مرة أخرى بذلك لا يأخذون قسطاً كافياً من الراحة فما هو حل هذه المشكلة من وجهة الشرع؟
فأجاب قائلاً: ّإذا كانوا ينامون قبل دخول الوقت, ويمكن إيقاظهم عند دخول الوقت فلا أرى إشكالاً, وأرى لو أنه يحصل تنسيق إذا أمكن, بحيث يكون استيقاظ هؤلاء عند دخول الوقت, ولكن كما جاء السؤال, قد لا يكون الفرق إلا ساعتين فقط ,فأرى أن قولهم بأنه لا يمكن أن نستريح, لا يبرر لهم أن يؤخروا الصلاة عن وقتها؛فلا بد أن يصلوا في الوقت, وهم إذا فعلوا ذلك ابتغاء وجه الله أعانهم الله؛ لأن الله قال في كتابه: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) .
* * *
1153 وسئل فضيلة الشيخ – جزاه الله خيراً -:هل لقائد الطائرة أو مساعده أو المهندس الجوي رخصة في صلاة الفريضة على المقعد وإلى غير القبلة عند عدم تمكنهم من استقبالها, مع أن وجودهم على المقعد مطلوب لطبيعة عملهم ولأهمية تواجدهم(15/425)
طيلة وقت الرحلة داخل مقصورة القيادة لما يتعرضون له خلال سفرهم من حالات مفاجئة تلزم ذلك.منها على سبيل المثال المطبات الهوائية المفاجئة أو الأعطال الفنية الحادثة أو لكون توقيت بعض الرحلات مع وقت صلاة الفجر بحيث يتعذر القيام للصلاة مع انشغال ملاحي غرفة القيادة بتجهيز الطائرة للإقلاع, وخشية خروج وقت الصلاة, علماً أنهم يخرجون لقضاء الحاجة والطهارة؟
فأجاب قائلاً: الواجب أن يتقي الإنسان ربه ما استطاع في صلاة الفريضة في الطائرة, حتى في الحالات التي ذكرت, كالمطبات الهوائية, والخلل الفني, وما أشبه ذلك, التي هي في ظني لا تستدعي الضرورة إلى وجود القائد ومساعده في المقعد, وكما تعلمون أن الصلاة ركعتان لا تزيد فالمدة يسيرة, ثم إذا قلنا إنه يجب أن يصلي مستقبلاً القبلة, فلو قدر أنه حصل في أثناء الصلاة خلل, يخشى منه الخطر, فإنه لا بأس أن يصلحه وهو يصلي؛ لأن هذه الحركة للضرورة, والحركة للضرورة لا بأس بها, أي لا تبطل الصلاة, وفي مثل هذه الحوادث التي يتيقن أنه لا بد من بقاء الإنسان على الكرسي مربوطاً, فإنه يبقى مربوطاً ويصلي على حسب حاله, حتى لو فرض أنه ابتدأ الصلاة مستقبل القبلة وقائماً, ثم حصلت هذه الهزات ولم يتمكن إلا من الجلوس على المقعد فلا بأس, وكما يقال لكل حادث حديث, فنقول اتق الله ما استطعت, ومتى وجدت الاستطاعة, وجب القيام بالمأمور ,ومتى تعذرت الاستطاعة سقط الوجوب.(15/426)
1154 وسئل فضيلة الشيخ وفقه الله تعالى -:طاقم الطائرة مكون من قائد للطائرة ومساعد له ومهندس جوي لبعض الطائرات ولأهمية هؤلاء لا يغادرون غرفة القيادة طوال الرحلة؛ لأن ملاحي الطائرة تشتد أهميتهم في حالة حدوث الطارئ مفاجئ يهدد أمن وسلامة الركاب, كعطل فني, أو اختلال في الضغط الجوي والتوازن في داخل الطائرة, مما يتطلب منهم اتخاذ الإجراءات اللازمة في ثوان معدودة, وإلا تكون الطائرة قد تعرضت للخطر, فهل يصلي طاقم الطائرة واحداً تلو الآخر قياماً مستقبلي القبلة, وإذا كان هناك متسع في المكان في داخل غرفة القيادة, وإذا لم يكن هناك متسع فهل يصلون على مقاعدهم غير مستقبلي القبلة؛ علماً أنه بعض الأحيان تحدث مطبات هوائية مفاجئة قد تسقط القائم وقد يرتطم بالأجهزة التي من حوله مما يخشى أن يحدث أضراراً جسدية بالغة الخطورة وفقدان للوعي لا سمح الله فبقاؤه على كرسيه أسلم له؟
فأجاب قائلاً: إذا كان الأمر يقتضي أن يصلوا فرادى, كل واحد يصلي وحده من أجل أن يراقب الآخر أحوال الطائرة, فإن هذا عذر في ترك الجماعة؛ لأنه إذا كان حارس الغنم وحارس البستان يعذر في ترك الجماعة, فحارس أرواح الناس من باب أولى.
أما استقبال القبلة, فهو واجب ولا أظن ذلك يمنع من مراقبة الآخرين وكذلك الركوع والسجود إذا كان يمكن, وإذا لم يمكن الركوع ولا السجود, أومأ بالركوع قائماً وبالسجود قاعداً.(15/427)
1155 سئل فضيلة الشيخ: في بعض الأحيان أقوم بتأخير صلاة المغرب والعشاء بعد وصولي من الرحلة, فأصليها في منزلي, فهل أقصر الصلاة أم أتمها؟
فأجاب قائلاً: أنا سأعطيكم قاعدة: وهي: أن العبرة بفعل الصلاة, فإن فعلتها في الحضر فأتم, وإن فعلتها في السفر فاقصر سواء؛ دخل عليك الوقت في هذا المكان أو قبل. مثلاً: إنسان سافر من بلده بعد أذان الظهر لكن صلى الظهر بعد خروجه من البلد ففي هذه الحال يصلي ركعتين, وأما إذا رجع من السفر ودخل عليه الوقت وهو في السفر ثم وصل بلده فإنه يصلي أربعاً, فالعبرة بفعل الصلاة إن كنت مقيماً فأربع وإن كنت مسافراً فركعتين.
1156 وسئل – غفر الله له -:تمر بعض الرحلات في نفس المدينة التي يقيم بها الملاح ثم تقلع مرة أخرى لتواصل رحلة أخرى فإذا دخل وقت صلاة الظهر مثلاً في نفس بلد الإقامة فهل يجب على الملاح الإتمام أم يجوز له قصر الصلاة مثل رحلة جدة – المدينة – جدة وهو من أهل جدة وبعدها يواصل إلى أبها؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا السؤال جزء الذي قبله, والعبرة بفعل الصلاة إن صليت بعد أن غادرت وطنك فصل ركعتين, فإذا وصلت إلى مطار بلدك فصل أربعاً, إذا كان المطار(15/428)
متصلاً بالبلد, وإذا كان خارج البلد فصل ركعتين, وعلى كل حال إذا كان المطار خرج البلد فصل ركعتين, وعلى كل حال إذا كان المطار خارج البلد ومررت به فأنت مسافر, حتى لو خرجت من البلد بعد أن أذن, وصليت في المطار وهو خارج البلد ركعتين.
* * *
1157 وسئل فضيلة الشيخ: ما حكم الصلاة داخل غرفة القيادة مع أن بعض أفراد طاقم الطائرة يدخن؟
فأجاب بقوله: الصلاة لا بد من أن يصليها الإنسان ولو في مكان فيه رائحة كريهة ,ولكن أرى أن الذي ابتلي بشرب الدخان يراعي شعور الآخرين؛ فلا يدخن مطلقاً ما دام في الطائرة, فإن الدخان يتصاعد وينتشر بين الركاب فيتأذون برائحته, وقد يسبب أمراضاً للآخرين, وقد بلغني أن الولايات المتحدة تمنع شرب الدخان في الطائرة فوق أجوائها, فأقول لو أننا أخذنا بمقتضى ما عندنا من العلم, من أن شرب الدخان محرم, وممنوع حسب قواعد الشريعة الإسلامية, لقوله تعالى: (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة) . وقول الرسول صلي الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه ابن عباس – رضي الله عنهما – أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال (لا ضرر ولا ضرار) (1) .لكان هذا السيف أقوى من سيف النظام الذي سنته الولايات المتحدة ونمنع الناس من التدخين مطلقاً لكان ذلك إعانة لهم على حفظ أنفسهم مما يضرهم ويضر الآخرين.
* * *(15/429)
1158 وسئل فضيلته: رجل مسافر صلى الجمعة في الحضر فهل يجمع معه العصر قصراً؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يجمع معها العصر؛ لأن السنة إنما وردت في الجمع بين الظهر والعصر, والجمعة ليست ظهراً بل هي صلاة مستقلة في هيئتها وشروطها وأركانها فلا تجمع إليها العصر (1) ,فإن قال قائل: هل يصح أن ينوي الجمعة ظهراً ليجمع إليها العصر؟ فالجواب: إذا نواها ظهراً فإنها لا تصح الظهر منه؛؟ لأنه صلى الظهر قبل تمام الإمام لصلاة الجمعة, وصلاة الظهر قبل تمام الجمعة لا تصح, ولا يقال مثلاً أليس المريض يصلي في بيته الظهر قبل أن يصلي الناس الجمعة؟ نقول بلى, ولا حرج أن يصلي المريض قبل أن يصلي الناس الجمعة لكن هذا قد حضر صلاة الجمعة فوجبت عليه الجمعة, فالواجب عليه أن يصلي الجمعة لا يمكن أن يجمع إليها العصر.
مثلاً: أنت مسافر ومن أهل جدة وصلت الرياض, وذهبت وصليت مع الناس الجمعة فإذا نويتها ظهراً لم تصح؛ لأنك لما حضرت الجمعة لزمتك الجمعة, فإن نويتها جمعة ما صح جمع العصر إليها. ثم نقول: لو قدرنا أنها تصح وهي لا تصح, لكان هذا من سفه الإنسان أن يعدل عن نية الجمعة التي هي أفضل من الظهر إلى(15/430)
نية الظهر ولم يحصل على أنه أجر الجمعة الذي ثبت لهذه الأمة, وعلى كل حال فالمسألة ليس فيها صعوبة, لا تصل العصر مع الجمعة وصل العصر إذا دخل وقتها.
* * *
1159 وسئل فضيلة الشيخ: ما حكم المسافر النازل في بلد ولا يحضر الجمعة لرغبته في الجمع بين الظهر والعصر فيجلس في غرفته ويستمع إلى الخطبة؟
فأجاب بقوله: لا يحل له ذلك لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) (الجمعة: من الآية9) .وهي عامة لكل من سمع نداء الجمعة من المسافرين وغيرهم, والآية نزلت في المدينة, والمدينة فيها مسافرون ومقيمون, ولم يستثن الله المسافرين فيجب على من سمع النداء يوم الجمعة ولو كان مسافراً أن يصلي مع المسلمين, وإلا رجلاً يقول: أنا لا أستطيع؛ لأنني سأواصل رحلتي وسفري, فهذا يعذر؛ لأنه يفوته مقصوده لو بقي لصلاة الجمعة.
فالصحيح: أن الجمعة لا تسقط عن المسافر إلا إذا كان ماراً بالبلد مواصلاً للسير, ووقف لحاجة, وسمع النداء الجمعة فلا جمعة عليه, أما المقيم إلى العصر مثلاً أو الليل فلا تسقط عنه الجمعة.
* * *
1160 وسئل الشيخ – حفظه الله ورعاه -:رجل أراد أن(15/431)
يسافر من بلده وحانت صلاة الظهر مثلاً فهل يصليها ويجمع العصر ثم يسافر؟
فأجاب قائلاً: لا يصليها ويجمع إليها العصر, إلا إذا علم أنه لا يمكن أن يصلي العصر في الطريق, مثل النقل الجماعي لا يتوقف فحينئذ يجمع العصر إلى الظهر, كذلك في الطائرة تقلع قبل العصر بوقت يسير, ولا تصل إلى المطار الثاني إلا بعد غروب الشمس فهذا يجب أن يجمع بدون قصر لأنه في بلده.
* * *
1161 وسئل فضيلة الشيخ: رجل مسافر صلى مع جماعة في الحضر فهل يجمع معها الصلاة التي بعدها؟
فأجاب قائلاً: نعم يجمع إليها الصلاة التي بعدها, مثال ذلك أنا من أهل القصيم وجئت إلى جدة وأريد أن أسافر بعد الظهر فأصلي الظهر مع الإمام أربعاً وأصلي العصر جمعاً ركعتين.
* * *
1162 وسئل فضيلة الشيخ: هل الأفضل للمسافر أن يترك قيام الليل والنوافل والسنن الراتبة أم يصليها كما اعتادها؟
فأجاب قائلاً: الأفضل للمسافر أن يتنفل بالنوافل كلها صلاة الليل وصلاة الضحى والوتر وراتبه الفجر والتطوع المطلق ولا يترك إلا راتبه الظهر والمغرب والعشاء فقط والباقي يصليها كما يصلي في الحضر.(15/432)
1163 وسئل فضيلة الشيخ: ما حكم الصلاة في المسجد الذي فيه قبر؟
فأجاب بقوله: إذا كان هذا المسجد مبنياً على القبر فإن الصلاة فيه محرمة ويجب هدمه؛ لأن النبي صلي الله عليه وسلم لعن اليهود والنصارى حيث اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد تحذيراً مما صنعوا (1) ,أما إذا كان المسجد سابقاً على القبر فإنه يجب إخراج القبر من المسجد ويدفن فيما يدفن فيه الناس, ولا حرج علينا في هذه الحال إذا نبشنا هذا القبر؛ لأنه دفن في مكان لا يحل أن يدفن فيه, فإن المساجد لا يحل دفن الموتى فيها, والصلاة في المسجد إذا كان سابقاً على القبر صحيحة, بشرط ألا يكون القبر في ناحية القبلة فيصلي الناس إليه؛لأن النبي صلي الله عليه وسلم نهى عن الصلاة إلى القبور.
1164 وسئل فضيلته: هل يجوز الصلاة في مكان فيه خمر؟
فأجاب بقوله: نعم تجوز الصلاة في مكان فيه خمر, لعموم قوله صلي الله عليه وسلم (جعلت لي الأرض مسجداً وطهرواً) (2) .
1165 وسئل فضيلته: إذا كنت مسافراً ووصلت رحلتي الساعة العاشرة صباحاً إلى البلد الآخر وكنت مجهداً فهل(15/433)
بإمكاني أن أنام وعندما أستيقظ أصلي الظهر مع العصر جمع تأخير إذا لم يخرج وقت العصر؟
فأجاب قائلاً: لا بأس بذلك.
* * *
1166 وسئل فضيلته: بعض المسافرين ينتظرون الإمام المقيم حتى ينتهي من الركعتين الأوليين ثم يدخلون معه ليصلوا ركعتين ثم ليسلموا قاصدين بذلك فهل هذا جائز؟
فأجاب قائلاً: هذا غير جائز, وإذا دخلوا مع المقيم كما قلت, يجب أن يكملوا أربع ركعات بعد التسليم الإمام لعموم قول النبي صلي الله عليه وسلم (ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا) (1) .
* * *
1167 وسئل الشيخ – حفظه الله ورعاه -:أذن المؤذن لصلاة العصر وأنا على سفر ولم أصل الظهر فهل يجوز لي أن أصلي الظهر قصراً ثم أذهب لأصلي العصر مع الجماعة؟
فأجاب بقوله: نعم يجوز لك ذلك
* * *
1168 وسئل فضيلته أيضاً: وماذا لو أتيت مع الإقامة؟
فأجاب بقوله: تصلي مع الإمام ظهراً, وهم يصلون العصر, ثم إذا سلم تصلي العصر قصراً.(15/434)
1169 وسئل فضيلة الشيخ: وصلت من الرحلة الماضية إلى رحلة أخرى حتى الصباح ولم أنم وانتظرت صلاة الظهر وكنت متعباً جداً فهل يجوز لي أن أصلي العصر مع الظهر جمع تقديم مع أنني في بلدي؟
فأجاب قائلاً: نعم يجوز لك ذلك, لأن الجمع بين الظهر والعصر ,أو بين المغرب والعشاء يجوز مع المشقة بتركه, سواء كان جمع تقديم أو جمع تأخير.
* * *
1170 وسئل فضيلة الشيخ: أنا قائد طائرة وطبيعة عملي بعض الأحيان تحتم علي في حالة إقامتي ببلدي أن آخذ قسطاً من الراحة لا يقل عن ثماني ساعات للاستعداد لرحلة أخرى طويلة قد تستمر اثني عشر ساعة وخلال نومي يمر وقت صلاة المغرب والعشاء فما الحكم هل أقوم لكل صلاة في وقتها علماً أن هذا سيفوت علي الراحة المطلوبة استعداد للسفر القادم أم أجمع الصلاتين جمع تأخير؟
فأجاب قائلاً: اجمع الصلاتين جمع تأخير؛ لأن الجمع أمره سهل يحصل بأدنى مشقة, لحديث ابن عباس – رضي الله عنهما – قال صلى رسول الله صلي الله عليه وسلم الظهر والعصر بالمدينة من غير خوف ولا سفر, وسئل ابن عباس – رضي الله عنهما – لم فعل ذلك رسول الله صلي الله عليه وسلم؟ فقال: أراد أن لا يحرج أحداً من أمته, أي لا يوقع(15/435)
أحداً من أمته في ضيق (1) .
* * *
1171 وسئل فضيلة الشيخ: إذا أذن المؤذن في المسجد للصلاة ونحن على سفر فهل يجوز لنا أن نصلي جماعة قبل أن تقام الصلاة في المسجد مع الإمام الراتب إذا خشينا فوات الرحلة أو تأخيرها؟
فأجاب بقوله: يجوز لكم ذلك, لكن تصلون في غير مسجد الجماعة, لئلا تشوشوا على الناس.
* * *
1172 وسئل – حفظه الله ورعاه -:كنت أصلي صلاة العصر وتذكرت أنني لم أصل الظهر فهل يجوز لي تغيير النية العصر؟ فأجاب بقوله: لا تغير النية, بل أكمل صلاة العصر, ثم صل الظهر.
* * *
1173 سئل فضيلة الشيخ: هل الصيام أفضل للمسافر أم الإفطار؟ (2)
فأجاب بقوله: الأفضل فعل ما تيسر له, إن كان الأيسر له الصيام فالأفضل الصيام, وإن كان الأيسر الإفطار فالأفضل(15/436)
الإفطار, وإذا تساوي الأمران, فالأفضل الصيام؛ لأن هذا فعل النبي صلي الله عليه وسلم وسنته وهو أسرع في إبراء الذمة وأهون على الإنسان, فإن القضاء يكون ثقيلاً على النفس, إذن فله ثلاثة أحوال:
1- أن يكون الإفطار أسهل له فليفطر.
2- الصيام أسهل فليصم.
3- إذا تساوي الأمران فالأفضل أن يصوم.
* * *
1174 سئل فضيلة الشيخ: في شهر رمضان يكون إقلاع بعض الرحلات وقت أذان المغرب فنفطر ونحن على الأرض وبعد الإقلاع عن مستوى الأرض نشاهد قرص الشمس ظاهراً فهل نمسك أم نكمل إفطارنا؟
فأجاب قائلاً: أكمل إفطارك, ولا تمسك؛ لأنك أفطرت بمقتضى الدليل الشرعي لقوله تعالى: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) (البقرة: من الآية187) . وقوله صلي الله عليه وسلم (إذا أقبل الليل من هاهنا وأشار إلى المشرق وأدبر النهار من هاهنا وأشار إلى المغرب وغربت الشمس فقد أفطر الصائم) (1) .
* * *
1175 وسئل فضيلته: في شهر رمضان نكون على سفر ونصوم خلال هذا السفر فيدركنا الليل ونحن في الجو فهل نفطر(15/437)
حينما نرى اختفاء قرص الشمس من أمامنا أم نفطر على توقيت أهل البلد الذين نمر فوقهم؟
فأجاب قائلاً: افطر حين ترى الشمس قد غابت, لقوله عليه الصلاة والسلام (إذا أقبل الليل من هاهنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم) .
* * *
1176 وسئل فضيلته أيضاً: لو كان هناك غيم ونحن صيام فكيف نفطر في الطائرة؟
فأجاب قائلاً: إذا غلب على ظنك أن الشمس غائبة أفطر؛ لأن النبي صلي الله عليه وسلم أفطر ذات يوم هو وأصحابه بالمدينة, وفي يوم غيم, ثم طلعت الشمس بعد إفطارهم, ولم يأمرهم بالقضاء.رواه البخاري من حديث أسماء بنت أبي بكر الصديق – رضي الله عنها -.
* * *
1177 وسئل الشيخ – غفر الله له -:في إحدى المرات كنت في السعودية ورؤى هلال العيد وكنت مسافراً في تلك الليلة إلى باكستان حوالي الساعة الثانية ليلاً وعلمت أنهم لم يروا هلال شوال وبالتالي فهم صائمون فهل أصوم معهم؟ فأجاب بقوله: صم معهم؛ لأنك وقت الإمساك أنت في بلد صائم حتى لو زاد صيامك على شهر, فالزائد تبع كما أنك لو صمت في بلدك إلى قريب المغرب ثم أقلعت الطائرة إلى أمريكا وطالت رؤيتك للشمس أكثر من اليوم؛ فإنك لا تفطر حتى تغيب الشمس ,(15/438)
وكذلك خروج الشهر وإن صمت ثلاثين يوماً, ثم سافرت إلى بلد فوجدت شوال لم يدخل فصم معهم, وصومك هذا للتبعية, لقوله عليه الصلاة والسلام (الصوم يوم يصومون, والفطر يوم يفطرون, والأضحى يوم يضحون) (1) .
* * *
1178 وسئل فضيلة الشيخ أيضاً: هل على شيء إذا كان في تنقلي من بلد إلى بلد إن صمت رمضان ثمان وعشرين يوماً؟
فأجاب قائلاً: عليك أن تأتي بيوم واحد فقط تكملة لشهر رمضان.
* * *
1179 وسئل الشيخ – حفظه الله ورعاه -:يحصل أن بعض البلدان يرى أهلها الهلال قبلنا أو بعدنا فهل نلتزم برؤيتهم أم برؤية بلادنا؟ وكيف نفعل في البلاد الكافرة؟
فأجاب بقوله: إذا كنت في بلد لا تدري أرأوا الهلال, أم لا فإنك تبني على الأصل, فإن كنت في شعبان فلا يلزمك الصوم, وإن كنت في رمضان فلا تفطر, فلو أن الإنسان سافر من المملكة العربية السعودية إلى باكستان, ونزول في باكستان, وباكستان لم يروا الهلال, والسعودية ثبت عندها رؤية الهلال, نقول في هذه(15/439)
الحال تبقى صائماً؛ لأنك في مكان لم ير فيه الهلال, لأن النبي صلي الله عليه وسلم قال (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) (1) . فلو فرض أنك رجعت في اليوم نفسه, فلك أن تفطر, والعكس إذا ذهبنا إلى الغرب ونزلنا في بلد رأوا الهلال, ولم يرى في السعودية فإننا نصوم؛ لأن المكان رؤيا فيه الهلال لأن الله تعالى قال: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (البقرة: من الآية185) .وقال النبي صلي الله عليه وسلم (إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فافطروا) (2) .فالعبرة بمكانك الذي أنت فيه, فمتى رؤى الهلال فاعمل به إفطاراً وصوماً, وأما في البلاد الكافرة إذا رأيته فصم وإذا لم تره فابن على الأصل, فإذا كنت في شعبان فالأصل بقاؤه, فلا يلزم الصوم, وإن كنت في رمضان فالأصل بقاؤه فلا تفطر, فإذا أشكل عليكم فابنوا على اليقين, وفي الحقيقة أنتم مسافرون ولكم أن تفطروا, وليعلم أن الهلال إذا رؤى في السعودية فسيري في أمريكا قطعاً, لأن البلاد الشرقية ترى الهلال قبل البلاد الغريبة, والعكس إذا كنتم في الباكستان أو اليابان وما أشبه ذلك.
1180 وسئل الشيخ – وفقه الله -:يكثر سؤال بعض الركاب على الرحلات الجوية أنهم تركوا ملابس الإحرام في حقائب(15/440)
السفر ,فكيف يحرمون, حفظكم الله؟
فأجاب قائلاً: يحرم هؤلاء الذين تركوا ملابس الإحرام في حقائب السفر في جوف الطائرة, بخلع الثياب العليا, وهي القميص ويبقون في السراويل, ويجعل الثوب الأعلى هذا بمنزلة الرداء, يعني يلفه على بدنه ويلبي, لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الذي لم يجد الإزار قال: فليلبس السراويل (1) ,وهذه المسألة تقع كثيراً, حتى في العمرة إذا جاء بالطائرة فيقول: الثياب أسفل فنقول: اخلع القميص واجعله رداء وتبقى في السراويل ولا حرج, فإذا نزلتم فبادروا بلباس الإزراء وإذا كان عليه بنطلون يخلع الأعلى منه يعني القميص.
* * *
1181 سئل فضيلة الشيخ: ما حكم الأكل في آنية الكفار؟
فأجاب بقوله: قال عليه الصلاة والسلام (لا تأكلوا في آنيتهم إلا تجدوا غيرها فاغسلوها وكلوا فيها) (2) . وقال عليه الصلاة والسلام ذلك من أجل أن يبتعد المسلم عن مخالطة الكفار, وإلا فالطاهر منها طاهر, يعني لو طهي فيها الطعام, أو غيره فهي طاهرة, لكن النبي صلي الله عليه وسلم أراد أن لا نخالطهم, وألا تكون أوانيهم أواني لنا, فقال صلي الله عليه وسلم (لا تأكلوا فيها إلا ألا تجدوا غيرها(15/441)
فاغسلوها وكلوا فيها) ,وكلما ابتعد الإنسان عن الكفار فهو خير ولا شك.
* * *
1182 وسئل فضيلة الشيخ – وفقه الله تعالى -:لا يخفى على فضيلتكم أن دول أهل الكتاب في هذه الأيام خليط من أجناس وديانات مختلفة, وشبهة الذبح على غير الطريقة الشرعية قوية, فما الحكم في أكل ذبائحهم؟ وهل هناك تفصيل في هذه المسألة؟ نرجو منكم توضيح هذا الأمر فإنه محير لنا؟
فأجاب قائلاً: يشترط في الذبح أن يعلم, أو يغلب على الظن أن الذابح ممن تحل ذبيحته, وهم المسلمون وأهل الكتاب اليهود والنصارى, فإذا شككنا هل الذابح من اليهود, أو النصارى فإن غلب على الظن أن الذابح يهودي, أو نصراني فالذبيحة حلال, وإذا أن غالب الظن أن الذين يتولون الذبح ليسوا من أهل الكتاب, فالذبيحة حرام, وإذا شككنا فالذبيحة حرام فصارت المراتب الآن خمس حالات:
1ـ إذا علمنا أن الذابح من أهل الكتاب, فالذبيحة حلال.
2ـ إذا غلب الظن أن الذابح من أهل الكتاب, فالذبيحة حلال.
3ـ إذا شككنا, فالذبيحة حرام.
4ـ إذا غلب على الظن أن الذابح من غير أهل الكتاب فالذبيحة حرام.
5ـ إذا علمنا أن الذابح من غير أهل الكتاب فالذبيحة حرام.(15/442)
فهي خمسة أحوال تحرم بثلاثة أحوال منها وتحل في حالتين. وسمعنا في أمريكا أنهم يذبحون بالصعق, لكنهم ينهرون الذم قبل أن تموت, وهذا يوجب حل الذبيحة ما دام يدركها قبل أن تموت, فالذبيحة حلال؛ لأن الله تعالى قال: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُم) (المائدة: من الآية3) . وسمعت أيضاً من بعض الشباب الذين ذهبوا إلى هناك, يقولون الآن بدءوا يعلمون أنه لا يمكن أن تكون الذبيحة طيبة إلا بإنهار الدم, لكن صاروا ينهرونه على غير الوجه الذي ينهر به المسلمون, فيقولون إنهم يخرقون الوريد العرق الغليظ في الرقبة ,ويدخلون في الثاني شيئاً ينفخون به الدم من أجل أن يخرج بغزارة من العرق الآخر, وهي في الحقيقة إنهار للدم لكن على وجه آخر, ولعلهم في يوم من الأيام يرجعون إلى طريقة المسلمين, يعني يقطعون الودجين, حتى يسيل الدم منهما جميعاً ,وعلى كل حال إذا أشكل عليك وأردت أن يكون مطعمك طيباً فعليك بالسمك.
* * *
1183 وسئل الشيخ: نحن نذهب إلى بعض المطاعم الإسلامية في بلاد الكفر أثناء الرحلات الخارجية ثم نجد أنهم يقومون بتقديم الخمور فما حكم الأكل في هذه المطاعم؟ كما أننا نجد خموراً إما بصورة مخيفة أو بصورة ظاهرة في غرف الفندق التي ننزل بها فما الواجب علينا فعله تجاه هذا الأمر؟(15/443)
فأجاب قائلاً: أولاً: لا تسكنوا في هذه الفنادق إلا للحاجة, مادام يعلن فيها شرب الخمر, ولا تأكلوا في هذه المطاعم إلا لحاجة, وإذا احتجتم فمن السهل أن تقولوا للخدم انزعوا هذا وابعدوه سواء في الفندق أو المطعم.
* * *
1184 وسئل فضيلته: يتبقى بعد انتهاء الرحلة بعض الأطعمة الزائدة عن حاجة الركاب وغالباً ما تتلف, فهل يجوز أخذ هذه الأطعمة من قبل ملاحي الطائرة بعد الانتهاء من الرحلة؟ وهل لي أن آخذ من الطعام والماء المقرر لي إن لم آكله في الطائرة؟
فأجاب قائلاً: أرى أن لا تأخذ شيئاً مما تأكله, لأن هناك فرقاً بين التمليك, وبين الإباحة, فهم يبيحون لك أن تأكل وتشرب ما شئت, لكن لا يملكونك هذا, ولذلك رخص الشارع لمن مر ببستان فيه نخل أن يأكل وهو على النخل لكن لا يحمل, وأما إذا أنت تتلف فلك أن تأخذها وتأكلها أو تتصدق بها.
* * *
1185 وسئل فضيلة الشيخ: ما حكم غسل ملابسنا في البلاد الكافرة مع ملابس الكفار؟
فأجاب قائلاً: الغالب على ملابس الكفار النجاسة, لأنهم لا يستنجون ولا يستجمرون, فإذا كان بالإمكان غسلها بمفردها, فهذا هو المطلوب, وإذا لم يمكن فلا بد أن نعلم أو يغلب على ظننا أن(15/444)
هذا الغسال يصب عليها عدة مرات بحيث تطهر في المرة الأولى أو الثانية وتبقى طاهرة.
* * *
1186 وسئل فضيلة الشيخ: يقوم بعض الطيارين باصطحاب زوجاتهم أثناء أداء عملهم إلى البلاد الكافرة أو غيرها خاصة إذا كانت مدة سفرهم ثلاثة أيام أو خمسة أو أطول فما نصيحتكم لهم؟
فأجاب قائلاً: هذه في الواقع تختلف باختلاف الناس, فقد يكون هذا الرجل شاباً يخشى على نفسه هناك أن تسول له بشيء لا يرضي الله ورسوله, وقد يكون رجلاً لا يهتم لهذه الأمور, أما الثاني فنقول له: لا تسافر بها لأن بقاءها في بلدها أفضل, وأحفظ لها, وأنت لست بحاجة إليها, وأما الأول فنقول: سافر بها؛ لأن فيها مصلحة ,وكفاً عن الشر والفساد, وربما تكون أيضاً مثلك وتحتاج أن تسافر معك فالفتوى في هذه المسألة تختلف بحسب حال الناس.
* * *
وسئل فضيلة الشيخ: في حقل الطيران يعمل معنا موظفون ذووا جنسيات متعددة بديانات مختلفة, وطبيعة عملنا تتطلب منا أن نكون متعاونين معهم غاية التعاون داخل الطائرة حتى تسير الرحلة بسلام بحفظ الله لها, فحددوا لنا ضوابط الشرعية في التعاون والتعامل معهم؟(15/445)
فأجاب قائلاً: الضوابط في هذا أن نقول: إن عمل الجميع لمصلحة العمل, فأنت لا تستخدمه إلا لطبيعية العمل, وهو إذا قدرنا أنه فوقك لا يستخدمك إلا لطبيعة العمل, وهذا لا بأس به ولا حرج فيه, أما لو أنك خدمته في أمر لا يتعلق بالعمل, مثل أن تقرب له ملابسه أو تغسلها له, فهذا لا ينبغي أن يذل المسلم نفسه إلى هذا الحد, فالخلاصة: أن ما كان خدمة للعمل, فليس خدمة للعامل وهذا جائز ,وأنا لا أنصح بالغلظة في رجل يشاركك في العمل, لكن أنصح بعدم الإكرام لقول النبي صلي الله عليه وسلم (لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام, وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه) (1) .فهناك فرق بين الإكرام والإهانة, أنا لا أهينه ولا أكرمه ولكن من باب المكافأة, أن تقول له مثل ما يقول لك, لقوله تعالى: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة:8) .وأما في سبيل دعوته عندما تحسن إليهم, من باب المعاملة الحسنة, كي يقبل منك شريطاً أو كتاباً قد يقرأه, ويطلع عليه, وقد لا يقرأه فلا بأس, أما من باب الإكرام, فلا يفعل والتأليف له باب آخر, ولهذا قالوا في المؤلفة قلوبهم هم من يرجى إسلامه.
* * *
1188 وسئل فضيلة الشيخ: ما حكم حمل القرآن للبلاد الكافرة؟(15/446)
فأجاب قائلاً: حمل القرآن إذا حمله الإنسان ليقرأ فيه فلا بأس كان مسافراً إلى بلاد كافرة أو مسلمة.
1189 وسئل الشيخ – حفظه الله ورعاه -:البعض يقوم بأداء ما أمر الله عز وجل وحين يشكل عليه أمر فإنه يتخذ فيه رأياً وفق ما يظهر له من فهمه وتقديره ويقول: استفت قلبك, مع قلة علمه الشرعي, فهل يجوز له هذا؟ وعندما ينبه إلى أنه يجب عليه أن يسأل أهل العلم فإنه يقول: كل إنسان ونيته؟
فأجاب قائلاً: هذا لا يجوز له, والواجب على من لا يعلم أن يتعلم ومن كان جاهلاً أن يسأل, أما يخاطب به رجلاً صحابياً قلبه صاف, ليس ملطخاً بالبدع والهوى, ولو أن الناس أخذوا هذا الحديث على ظاهره, لكان لكل واحد مذهب, ولكان لكل واحد ملة, لقلنا إن أهل البدع كلهم على حق؛ لأن قلوبهم استفتوها فأفتتهم بذلك, والواجب على المسلم أن يسأل عن دينه, ويحرم على الإنسان أن يقول على الله بلا علم, أو على رسوله, ومن ذلك أن يفسر الآيات أو الأحاديث بغير ما أراد الله ورسوله.
* * *
1190 وسئل فضيلة الشيخ – غفر الله له -:من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يطرق الرجل أهله ليلاً ونحن كثيروا السفر, بل(15/447)
السفر هو طبيعة عملنا وكثيراً ما تصادف الرجوع ليلاً من رحلاتنا, فكيف العمل؟
فأجاب قائلاً: النهي ليس وارداً على هذا, فالنهي على إنسان يطرق أهله بغير أن يخبرهم, أما إذا أخبرهم فلا حرج في ذلك, وليس فيه نهي, لأن النبي عليه الصلاة والسلام علل النهي فقال صلي الله عليه وسلم (حتى تمشط الشعثة, وتستحد المغيبة) (1) ,وهذا يدل على أن النهي إنما هو لمن لا يعلم أهله بذلك, أما من علموا وباتفاق بينه وبينهم ويقول سآتي في الساعة الثانية عشر ليلاً فلا شيء عليه.
تم
بحمد الله تعالى المجلد الخامس عشر
ويليه بمشيئة الله - عز وجل - المجلد السادس عشر(15/448)
المجلد السادس عشر
صلاة الجمعة
محمد بن صالح العثيمين
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
خصائص صلاة الجمعة ويوم الجمعة
قال فضيلة الشيخ أعلى الله درجته في المهديين:
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليماً كثيراً أما بعد:
فيوم الجمعة هذا اليوم العظيم يوم جعله الله عيداً للأسبوع، وما طلعت الشمس ولا غربت على يوم أفضل من يوم الجمعة باعتبار أيام الأسبوع، وخير يوم طلعت عليه الشمس يوم عرفة باعتبار أيام السنة، هذا اليوم يوم العيد منَّ الله به على هذه الأمة، وأضل عنه اليهود والنصارى، فصار لليهود يوم السبت، وصار للنصارى يوم الأحد، وضلوا عن يوم الجمعة الذي فيه ختم الله خلق السموات والأرض؛ لأن الله تعالى خلقها في ستة أيام، وآخرها الجمعة، وفيه ابتداء خلق الله لا"دم، وفيه أخرج من الجنة وأهبط إلى الأرض، فيكون مبدأ خلق البشر يوم الجمعة،(16/11)
وفيه تقوم الساعة فيكون منتهى الخلق أيضاً يوم الجمعة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة» . فهو يوم عظيم ولهذا اختص بأحكام نذكر منها ما تيسر فمن ذلك:
أنه اختص بفرض صلاة الجمعة، هذه الصلاة العظيمة التي لابد من الجماعة فيها، ولو قدر أن الإنسان صلى وحده يوم جمعة، وقال: أريد أن تكون جمعة. قلنا له: إن صلاتك غير صحيحة، ويجب عليك أن تعيد، فهذه الصلاة لابد فيها من جمع ثلاثة فأكثر، وغيرها من الصلاة تنعقد باثنين بإمام ومأموم، أما الجمعة فلابد فيها من جمع ثلاثة فأكثر، واختلف العلماء في العدد الذي لابد منه في صلاة الجمعة:
فمنهم من قال: أربعون رجلاً، فلو كان هناك قرية صغيرة ليس فيها إلا ثلاثون رجلاً فإنهم لا يقيمون الجمعة؛ لأنه لابد أن يكون العدد أربعين.
وقال بعض العلماء: يكفي اثنا عشر رجلاً؛ لأن الصحابة الذين انفضوا عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما رأوا التجارة لم يبق منهم إلا اثنا عشر رجلاً. فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطب قائماً يوم الجمعة، فجاءت عير من الشام فانفتل الناس إليها حتى لم يبق إلا اثنا(16/12)
عشررجلاً.، فنزلت هذه الآية التي في الجمعة {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّو"اْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً قُلْ مَا عِندَ اللهِ خَيْرٌ مِّنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرازِقِينَ} وهذا يدل على أن اثني عشر رجلاً يكفي في عدد الجمعة.
ومنهم من قال: يكفي في عدد الجمعة ثلاثة، فلو فرض أن قرية ليس فيها سوى ثلاثة نفر فإنها تقام الجمعة؛ لأنه يحصل بهم الجمع: إمام يخطب، ومؤذن يدعو، ومأموم يجيب وقد قال الله تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُو"اْ إِذَا نُودِىَ لِلصلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} ، المنادي المؤذن، ولابد من خطيب، ولابد من مدعو: {ياأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُو"اْ إِذَا نُودِىَ لِلصلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} ، وهذا القول أرجح الأقوال، أنه يكفي في عدد الجمعة ثلاثة: إمام يخطب، ومؤذن يدعو، ومأموم يجيب.
ولو صلى الإنسان غير الجمعة كالظهر مثلاً صلى وحده تجزئه الصلاة وتبرأ بها ذمته، لكن إن كان ممن تجب عليه الجماعة كان آثماً، وإن كان ممن لا تجب عليه الجماعة كان غير آثم.
ومن خصائص هذه الصلاة العظيمة: أنها لا تصح إلا في الوقت، ولهذا قال العلماء: «من شروط صحة الجمعة الوقت» وفي غيرها قالوا: «من شروط الصلاة دخول الوقت» وحينئذ نسأل(16/13)
ما الفرق بين قولنا: «من شروط صحة الصلاة الوقت» وبين قولنا: «من شروط صحة الصلاة دخول الوقت» ؟.
الفرق هو أننا إذا قلنا «من شروط صحة الصلاة الوقت» أنها لا تصح لا قبله ولا بعده، وإذا قلنا «من شروط صحة الصلاة دخول الوقت» لم تصح قبله وصحت بعده.
ولكن هل تصح الصلاة بعد الوقت لمن أخرها عمداً أو لا؟
لا تصح.
ومن أخرها نوماً أو نسياناً تصح، والصلاة التي غير الجمعة لو أن الإنسان نام ولم يستيقظ وليس عنده من يوقظه فلم ينتبه إلا حين خرج الوقت فإنها تصح، يصليها وصلاته صحيحة لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها» هذا للنسيان، وإذا استيقظ فهذا في حال اليقظة، ولهذا لما نام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه عن صلاة الفجر وهم في سفر فلم يستيقظوا إلا عند طلوع الشمس صلاها ولم يدعها، لكن لو أخر الصلاة عمداً عن وقتها بلا عذر شرعي فلا تصح الصلاة والدليل قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» . ومؤخر الصلاة(16/14)
عن وقتها بلا عذر عمل عملاً ليس عليه أمر الله ولا رسوله، فيكون عمله مردوداً.
وكذلك يمكن أن يستدل بقول الله تعالى: {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ، والمخرج للصلاة عن وقتها بلا عذر متعد لحدود الله فيكون ظالماً والظالم لا يقبل منه: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} .
ومن خصائص الجمعة أنها لا تكون إلا في الأوطان، في المدن والقرى، وغير الجمعة تقام في أي مكان، والدليل على هذا أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يسافر الأسفار الطويلة وتمر به الجمعة ولم يكن يقيمها في السفر، ولو كانت واجبة على المسافر لأقامها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأعجب أن يوم عرفة في حجة الوداع وافق يوم الجمعة ولم يصلّ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الجمعة كما في حديث جابر الطويل الذي رواه مسلم أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نزل في الوادي فخطب الناس خطبة معروفة بليغة، ثم أمر بلالاً فأذن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، هكذا قال جابر رضي الله عنه ولقد ضل من قال: إن الجمعة تقام في السفر، وخرج عن هدي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعليه إذا فعل أن يعيدها إذا كان يريد إبراء ذمته وإقامة حجته عند الله عز وجل؛ لأن هذا ليس موضع اجتهاد حتى(16/15)
يقال: لا إنكار في مسائل الاجتهاد، هذا السنة فيه واضحة أجلى من النهار في ارتفاع الشمس، ولا عذر لأحد أن يقيم صلاة الجمعة في السفر إطلاقاً، لكن لو صادف أنك في بلد نازل تريد أن تواصل السفر في آخر النهار وجب عليك أن تصلي مع المسلمين لأن الله يقول: {ياأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُو"اْ إِذَا نُودِىَ لِلصلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} ، والمسافر من المؤمنين فيشمله الخطاب.
ومن خصائص هذه الصلاة أنه لا يجمع إليها ما بعدها والذي بعدها هو العصر، فلا تجمع صلاة العصر إلى صلاة الجمعة، فلو أن إنسان كان مسافراً نازلاً في بلد ويريد أن يواصل السير بعد صلاة الجمعة وصلى مع الناس صلاة الجمعة فإنه لا يضم إليها العصر؛ لأن السنة إنما وردت في الجمع بين الظهر والعصر، وصلاة الجمعة ليست صلاة ظهر بالاتفاق، فلا أحد يقول: إن صلاة الجمعة صلاة ظهر، وعلى هذا فنقول: واصل السفر، وإذا دخل وقت العصر وأنت في السفر فصل حيثما أدركتك الصلاة.
ومن خصائص هذه الصلاة العظيمة أن القراءة فيها جهر وغيرها سر، إلا ما كان مثلها في جمع الناس فيكون جهراً، ولهذا نرى أن صلاة العيدين القراءة فيها جهر، وصلاة الكسوف جهر حتى في النهار، وصلاة الاستسقاء جهر؛ لأن الناس مجتمعون فهذا الاجتماع الموحد جعل القراءة في الصلاة جهراً ولو كانت نهارية.
إذن القراءة في صلاة الجمعة جهر بخلاف الظهر؛ وذلك(16/16)
من أجل أن يجتمع هذا الجمع الكبير على قراءة واحدة وهي قراءة الإمام.
ومن خصائص صلاة الجمعة أنها تصادف ساعة الإجابة التي قال عنها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه» ، وهذه نعمة عظيمة، هذه ليست موجودة في صلاة الظهر مثلاً لكنها في صلاة الجمعة.
وأرجى ساعات الجمعة في الإجابة هي وقت الصلاة لما يأتي:
أولاً: لأن ذلك جاء في صحيح مسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
وثانياً: أن هذا اجتماع من المسلمين على عبادة واحدة، بقيادة واحدة بإمام واحد، وهذا الاجتماع يكون أقرب إلى الإجابة، ولهذا في يوم عرفة حين يجتمع المسلمون على صعيد عرفة يدنو جل وعلا ثم يباهي بهم الملائكة، ويجيب دعائهم.
لذلك احرص على الدعاء في هذا الوقت وقت صلاة الجمعة. لكن متى تبتدىء هذه الساعة ومتى تخرج؟ تبتدىء من دخول الإمام إلى أن تنقضي الصلاة، فلننظر الآن متى ندعو إذا(16/17)
دخل الإمام وسلم وبعد ذلك شرع المؤذن بالا"ذان، والا"ذان ليس فيه دعاء بل فيه إجابة للمؤذن، وبعد الأذان فيه دعاء أي بين الأذان والخطبة فيه دعاء تقول بعد الأذان: «اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت محمد الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته» «إنك لا تخلف الميعاد» . هذا يقال بعد متابعة المؤذن ثم تدعو بما شئت مادام الخطيب لم يشرع بالخطبة، كذلك أيضاً بين الخطبتين تدعو الله بما شئت من خيري الدنيا والآخرة، كذلك في أثناء الصلاة في السجود دعاء وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد كما ثبت ذلك عن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذلك لأن هيئة السجود أكمل ذل للإنسان، وأن أشرف عضو وهو الوجه يوضع في السجود على الأرض وهو موطىء الأقدام، فرأسك وجبهتك يساوي أصابع رجليك، بهذا الذل العظيم صار الإنسان أقرب ما يكون من ربه جل وعلا، لأن من تواضع لله رفعه، أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فاستغل هذه الفرصة وأكثر من الدعاء من خيري الدنيا والآخرة فلو قال أحدكم في دعائه: اللهم ارزقني سيارة جميلة، فهذا يصلح، لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ليسأل أحدكم ربه حتى شراك نعله» ، ثم إن الدعاء(16/18)
عبادة فإذا دعوت الله بأي غرض لو قال الطالب وهو في أيام الامتحان: اللهم ارزقني نجاحاً إلى درجة الممتاز فهذا يصلح، لأنه دعاء لله تخاطب الله، والممنوع مخاطبة الا"دميين لكن مخاطبة الله بالدعاء ليست ممنوعة، وهناك محل دعاء آخر في الصلاة بعد التشهد كما في حديث ابن مسعود حين ذكر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التشهد ثم قال بعده: «ثم ليتخير من المسألة ما شاء» ، وكلمة «ما شاء» عند علماء الأصول تفيد العموم.
ودليل ذلك: {وَالَّذِى جَآءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَائِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} ، {أولئك هم} هذه جماعة {والذي} مفرد، والذي أوجب الإخبار عن المفرد بالجماعة هو أن اسم الموصول يفيد العموم، ومثل ذلك اسم الشرط يفيد العموم والدليل على هذا قوله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} ، فهذه تفيد العموم والدليل على ذلك لما ذكر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخيل وأثنى عليها وما فيها من الأجر قالوا: يا رسول الله فالحمر قال: «لم ينزل علي فيها إلا هذه الآية الشاذة والفاذة: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} ، وهذه تعم كل شيء.(16/19)
إذن الاسم الموصول يفيد العموم فقول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث ابن مسعود «ثم ليتخير من الدعاء ما شاء» ، يفيد أي دعاء.
وأما قول بعض الفقهاء: إنه لا يجوز للإنسان في دعائه شيء من ملاذ الدنيا. فإنه قول ضعيف يخالف الحديث.
فصار عندنا الآن في ساعة الإجابة وقت صلاة الجمعة عدة مواطن للدعاء فانتهز الفرصة بالدعاء في صلاة الجمعة لعلك تصادف ساعة الإجابة.
القول الثاني: أن الساعة التي ترجى فيها الإجابة هي ما بعد العصر إلى أن تغرب الشمس، لكن هذا القول أشكل على بعض العلماء وقال: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «وهو قائم يصلي» وبعد العصر ليس فيه صلاة، وأجاب عنه العلماء فقالوا: إن منتظر الصلاة في حكم المصلي لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ولايزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة» .
ومن خصائص هذه الصلاة أنه يجب الغسل لها كما يغتسل الإنسان للجنابة وجوباً، في الشتاء وفي الصيف والدليل قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم» ، والذي قال(16/20)
إنه واجب الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو أعلم الخلق بشرع الله، ولا يمكن أن يطلق على شيء مستحب أنه واجب، فهو أعلم الخلق بشريعة الله، وهو أفصح الخلق بما ينطق به، وهو أنصح الخلق للخلق، وهو أصدق الخلق خبراً فهو يقول: «غسل الجمعة واجب» ثم قرن الوجوب بما يقتضي التكليف «على كل محتلم» لأن المحتلم هو الذي تجب عليه الواجبات، والمحتلم ليس هو الذي يحتلم بالفعل، فالمحتلم بالفعل يجب عليه الغسل ولو في غير يوم الجمعة، ولكن غسل الجمعة واجب على كل محتلم، أي: بالغ.
وأظن أننا لو قرأنا هذه العبارة في مصنف من مصنفات الفقه لم يبق عندنا شك بأن المؤلف يرى الوجوب، فكيف والناطق به الرسول عليه الصلاة والسلام؟! ثم إن في الغسل فائدة للبدن تنشيطاً وتنظيفاً، ويدل للوجوب ما جرى بين عمر وعثمان رضي الله عنهما كان عمر رضي الله عنه يخطب الناس فدخل عثمان رضي الله عنه في أثناء الخطبة فكأن عمر رضي الله عنه لامه على تأخره قال: والله يا أمير المؤمنين ما زدت على أن سمعت الأذان فتوضأت ثم أتيت، فقال له عمر رضي الله عنه أمام الناس وهو يخطب: «والوضوء أيضاً» يعني تقتصر على الوضوء وتأتي متأخراً، وقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا جاء أحدكم إلى الجمعة فليغتسل» ، فكلمه بنوع من التوبيخ، واستدل لذلك بقول(16/21)
الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا أتى أحدكم الجمعة فليغتسل» .
وكذلك من خصائص هذه الصلاة العظيمة: أنه ليس لها راتبة قبلها؛ لأن المؤذن إذا أذن فالخطيب حاضر سوف يبدأ بالخطبة وإنشاء التطوع في الخطبة حرام، ولو فعل لكان آثماً والصلاة غير مقبولة، إلا فيمن دخل والخطيب يخطب فإنه لا يجلس حتى يصلي ركعتين لما ثبت عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن رجلاً دخل يوم الجمعة والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطب فجلس فقال: «أصليت؟» قال: لا، قال: «قم فصل ركعتين وتجوز فيهما» ، فالجمعة ليس لها راتبة قبلها، ولكن إذا جاء قبل الأذان الثاني فليتطوع بما شاء، ولها راتبة بعدها، فقد ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه يصلى بعدها ركعتين وقال: «إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربعاً» ، فعندنا الآن سنة قولية وسنة فعلية، القولية أربع ركعات، والفعلية ركعتان، فكيف نجمع بينهما؟ هل نأخذ بالسنة الفعلية، أو السنة القولية، أو نأخذ بهما جميعاً، أو نفصل؟
الاحتمالات الآن أربع: هل نأخذ بالسنة القولية فنقول: سنة الجمعة أربع ركعات، أو بالسنة الفعلية فنقول: سنة الجمعة ركعتان أو نجمع بينهما فتكون السنة ست ركعات، أو نفصل:(16/22)
من العلماء من قال: السنة ركعتان في البيت؛ لأن هذا فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد قال الله تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الأَْخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً} .
ومن العلماء من قال: السنة أربع سواء صلاها في البيت أو في المسجد، لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربعاً» ، وقوله مقدم على فعله عند التعارض.
ومنهم من قال: الاحتياط أن يأتي بالسنة القولية والفعلية فيصلي ستًّا.
أما شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - ففصل قال: إن صلى في بيته فالسنة ركعتان فقط؛ لأن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يزد على ركعتين في بيته، وإن صلى في المسجد فأربعاً.
وهذا تفصيل لا بأس به.
إذن تختص الجمعة أو تفارق الظهر بأنه ليس لها راتبة قبلها، وراتبتها بعدها ركعتان.
أما يوم الجمعة فله خصائص:
منها: أنه يسن للإنسان أن يقرأ فيه سورة الكهف كاملة وليس في فجر يوم الجمعة كما يفعله بعض الأئمة الجهال، بل في غير الصلاة، لأن فجر يوم الجمعة يقرأ فيه بسورتين معروفتين(16/23)
سورة السجدة، وسورة الإنسان، لكن الكهف يقرأها في غير الصلاة، ويجوز أن يقرأها بعد صلاة الجمعة، أو قبلها فإنه يحصل الأجر، بخلاف الاغتسال فإنه لابد أن يكون قبل الصلاة.
ومنها: أنه يقرأ في فجره {ألم تنزيل} . السجدة في الركعة الأولى، وفي الركعة الثانية {هل أتى على الإنسان} ، اقتداء برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما يفعله بعض الجهال من الأئمة حيث يقسم {ألم تنزيل} السجدة بين الركعتين، أو يقتصر على نصفها ويقرأ نصف {هل أتى} ، فهو خطأ، ونقول لهذا: إما أن تقرأ بالسورتين كاملتين، وإما أن تقرأ بسورة أخرى لئلا تخالف السنة؛ لأن هناك فرق بين من يقرأ بسورتين أخريين فيقال: هذا فاتته السنة، لكن من قرأ بسورة {ألم تنزيل} السجدة وقسمها بين الركعتين، أو قرأ نصفها ونصف {هل أتى} فهذا خالف السنة، وفرق بين المخالفة، وبين عدم فعل السنة لأن الأول أشد.
ومن خصائص يوم الجمعة: إنه ينبغي فيه إكثار الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنه أعظم الخلق حقًّا عليك، أعظم حقًّا من أمك وأبيك، ويجب أن تفديه بنفسك ومالك، فأكثر من الصلاة عليه يوم الجمعة، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بذلك.
ومن خصائص هذا اليوم: إنه لا يصام وحده إلا من صادف(16/24)
عادة فصامه، فلا يمكن أن تفرد يوم الجمعة بصوم، فإما أن تصوم يوم الخميس معه، وإما أن تصوم يوم السبت، إلا من كان يصوم يوماً ويفطر يوماً فصادف يوم الجمعة يوم صومه فلا بأس أن يصوم ولا حرج، وكذلك لو كان يوم الجمعة يوم عرفة صم ولا حرج، وكذلك لو صادف يوم الجمعة يوم عاشوراء صم ولا حرج ولكن يوم عاشوراء يختص بصوم يوم قبله، أو يوم بعده مخالفة لليهود، أما يوم السبت فصومه جائز لمن أضاف إليه الجمعة، وأما بدون الجمعة فلا تصم يوم السبت لا تفرده ما لم يصادف عادة أو يوماً مشروعاً صومه كيوم عرفة، أو يوم عاشوراء.
ومن خصائص هذا اليوم: إنه عند بعض العلماء تسن فيه زيارة القبور، لكن هذا ليس بصحيح فإن زيارة القبور مشروعة كل وقت في الليل وفي النهار في الجمعة في الاثنين والثلاثاء والأربعاء في أي وقت تسن أن تزور المقابر، وقد ثبت عن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه زار البقيع ليلاً، ولا يختص بيوم الجمعة وزيارة القبور لها فائدة عظيمة فإنها تذكر الآخرة، وتذكر الموت، والمقصود بزيارة القبور تذكر الإنسان لحاله أنه الآن على ظهر الأرض يتمكن من الأعمال الصالحة وغداً من أهل باطن الأرض الذين لا يتمكنون من العمل الصالح.
هذا ما تيسر من خصائص صلاة الجمعة ويوم الجمعة.
بقي هناك مسألة مهمة عظيمة وهي السلام، سلام الناس(16/25)
بعضهم على بعض أهو سنة، أم حرام، أم مكروه؟
السلام سنة، لكن العجب أنك الآن تسلم على بعض الناس خارجاً من المسجد أو داخلاً فيه ويستنكر كأنه لم يشرع السلام بين المسلمين، وكأنه في غير بلاد المسلمين، مع أن السلام له فضائل عظيمة منها:
أنه سبب لدخول الجنة ودليل ذلك قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا» ، ليس فيه إيمان كامل إلا إذا تحاب المؤمنون وأحب بعضهم بعضاً؛ لأنه بدون المحبة لا يمكن أن تجتمع القلوب، لابد من المحبة حتى ولو حصل بينك وبين أخيك المؤمن سوء تفاهم فحاول أن تزيل أثر هذا حتى تعيد المحبة بينك وبين أخيك، وانظر الآن الفرق بين شخص تسلم عليه فتجده مكفهر الوجه وربما يعرض عنك، ورجل تسلم عليه فينطلق وجهه سروراً ويضيء من السرور تجد قلبك ينفتح له.
قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أوَ لا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم» .
أفشوا بمعنى انشروا ووسعوا السلام بينكم.
فيسلم الصغير على الكبير، ويسلم الراكب على الماشي، ويسلم القليل على الكثير، ولا يسلم الإنسان بمنبه السيارة لأنه إذا نهي عن السلام بالإشارة فهذا من باب أولى لكن بعض الناس ينبه(16/26)
بمنبه السيارة ثم يقول: السلام عليكم، فيكون للتنبيه وليس للسلام، ومع ذلك الأولى ألا يفعل وأن يسلم بالقول.
وإذا لم يسلم الصغير فسلم أنت أيها الكبير؛ لأنه قد يكون الصغير في تلك الساعة غافلاً لاهياً ساهياً، وقد يكون جاهلاً فأنت سلم لتعلمه، ولهذا كان من هدي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يسلم على الصبيان إذا مر بهم تواضعاً منه عليه الصلاة والسلام وتعليماً للأمة.
والقليل على الكثير: أنت الآن معك ثلاثة رجال فالجميع أربعة لاقاكم رجلان ولم يسلما، فتسلم عليهما، ولا نترك السنة تضيع لغفلة، أو سهو، أو استكبار، أو غير ذلك، إذن يسلم الصغير على الكبير، والقليل على الكثير، والراكب على الماشي، والماشي على القاعد، فإذا لم تحصل السنة ممن يطالب بها يسلم الآخر، ومن تواضع لله رفعه الله.
وصيغة السلام: السلام عليك إذا كان واحداً، والسلام عليكم إذا كانوا جماعة، والدليل: أن رجلاً جاء فدخل المسجد فصلى صلاة لا يطمئن فيها ثم جاء إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: السلام عليك يا رسول الله، فرد عليه السلام وقال: «ارجع فصل فإنك لم تصل» وإذا كنت تخاطب اثنين فقل: السلام عليكم؛(16/27)
لأنه يجوز مخاطبة الاثنين بصيغة الجمع، وإذا كنت تسلم على أمك فتقول: السلام عليكِ؛ لأن الكاف إذا خوطب بها امرأة تكون مكسورة، وإذا دخلت على خالاتك وهن أربع، أو خمس فتقول: السلام عليكن ورحمة الله وبركاته؛ لأن الكاف للخطاب فتكون على حسب المخاطب ويرد المسلم عليه وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ويجوز بدون الواو ولكن بالواو أفضل، وإذا رد رجل على من قال له السلام عليك بقوله: أهلاً ومرحباً، وحياكم الله، وتفضل، على الرحب والسعة، وهذا من أفضل الأيام عندنا، وفقك الله وزادك علماً وتقوى وهدى، فلا يكون هذا رد السلام الواجب، فلو أن الإنسان ملأ الدنيا كلها في رد ليس به عليك السلام فإنه لا يعد ردًّا للسلام، ويكون آثماً؛ لأن رد السلام واجب بالمثل أو أحسن، لقوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُم(16/28)
بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ حَسِيباً} ، فبدأ بالأحسن ثم قال {أو ردوها} .
ولا يجوز أن يُسلم المؤمن على الكافر ابتداءً فلو مررت على إنسان كافر مجوسي أو يهودي أو نصراني فلا يُبدأ بالسلام والدليل على ذلك: قول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تبدأوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه» ، فلا يجوز أن تبدأ اليهودي أو النصراني، أو المشرك، أو الشيوعي بالسلام لكن إذا سلموا يجب الرد عليهم والدليل: {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ حَسِيباً بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ حَسِيباً فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ حَسِيباً} ، ما قال الله عز وجل إذا حيّا بعضكم بعضاً، أو إذا حياكم المسلمون، أي إنسان يحييك بتحية فإن من عدالة الإسلام أن ترد عليه {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإْحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِى الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} ، سلم عليه فإذا قال النصراني «السلام عليكم» فنرد عليه السلام، وإذا أدغم اللام وقال: «السام عليك» . ولا تدري أقال السلام، أم السام عليك فيرد عليه: «وعليك» هكذا أمرنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نقول إذا سلموا علينا وعليكم وقد علم الرسول هذا بقوله: «إن اليهود كانوا يقولون إذا سلموا عليكم: السام عليكم، فقولوا: وعليكم» .
قال أهل العلم: إن هذا يدل على أنه لو قالوا: السلام. باللام الواضحة فإنه يقال عليكم السلام ولا بأس، لعموم قوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ حَسِيباً} ، ولكن يبتلى بعض الناس ببلوى يكون رئيسه في عمله نصرانياً فيدخل المكتب يريد أن يتفاهم مع هذا الرئيس لو لم يُسلم عليه يفصل أو يشطب عليه باللون الأحمر،(16/29)
ولا تظن أنك إذا هجرت الكافر لا يبالي بك، قال الله تعالى: {وَلاَ تَهِنُواْ فِى ابْتِغَآءِ الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً} ، لا تفكر أنك إذا أهنته لا يتأثر لابد أن يتأثر.
لذا فباب التأول واسع، ونقتصر على هذا القدر، والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(16/30)
فصل: درس في فضائل يوم الجمعة
بسم الله الرحمن الرحيم
قال فضيلة الشيخ جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد:
فيوم الجمعة هو عيد الأسبوع الذي هدى الله سبحانه وتعالى الأمة إليه، وأضل عنه اليهود والنصارى، فكان لليهود يوم السبت، وللنصارى يوم الأحد.
وفي يوم الجمعة ابتداء الخلق، وفيه انتهاء الخلق، وفيه تقوم الساعة، وفيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه.
ومن خصائص يوم الجمعة: أنه لا يخص يومه بصيام ولا ليلته بقيام، بل ينهى الإنسان أن يصوم يوم الجمعة على وجه التخصيص لهذا اليوم، أما إذا كان من عادته أن يصوم يوماً ويفطر يوماً، فصادف يوم صومه يوم الجمعة فلا بأس، وكذلك لو كان عليه قضاء من رمضان ولا يفرغ لصوم القضاء إلا يوم الجمعة فلا بأس؛ لأنه لم يخصصه.
وكذلك نهى أن تخص ليلة الجمعة بقيام، يعني ألا يقوم الليل إلا ليلة الجمعة، بل إن كان من عادته أن يقوم في ليلة(16/31)
الجمعة وفي غيرها، وإلا فلا يخص ليلة الجمعة بقيام.
ومن خصائص هذا اليوم: أنه يجب على الإنسان أن يغتسل فيه لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «غسل الجمعة واجب على كل محتلم» . أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري. ولكن هذا الغسل الواجب ليس شرطاً في صحة صلاة الجمعة، لأنه ليس غسلاً من حدث حتى يقال إنه شرط، بل من لم يغتسل يوم الجمعة فقد أخل بواجب، ولكنه لو صلى بدون غسل فصلاته صحيحة، بخلاف ما لو كان عليه جنابة وصلى يوم الجمعة أو غيرها ولم يغتسل فصلاته غير صحيحة. فيفرق هنا بين الواجب والشرط. وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «غسل الجمعة واجب» . وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما دخل عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو يخطب فكأنه لامه على تأخره عن التقدم إلى الجمعة، فقال: ما زدت على أن توضأت. فقال عمر: والوضوء أيضاً، وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل» ، فلامه أمام الناس على اقتصاره على الوضوء، ولكنه لم يقل له: إنك لو صليت الجمعة لبطلت صلاتك. ولهذا نقول: غسل الجمعة واجب وليس شرطاً لصحة صلاة الجمعة.
ومن خصائص يوم الجمعة: أن فيه هذه الصلاة التي تخالف غيرها من الصلوات: فهي جهرية مع أنها صلاة نهارية، ولكننا لو تأملنا وجدنا أن الصلاة النهارية إذا كانت صلاة يجتمع الناس إليها(16/32)
فيشرع فيها الجهر، كما في صلاة العيد وصلاة الكسوف، والأفضل فيها أي صلاة الكسوف أن يجتمع الناس في المساجد الجوامع، وأن يجهر الإمام بالقراءة وأن يخطبهم إذا فرغ من الصلاة خطبة يعظهم فيها، كما فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ومن خصائص هذا اليوم: أن فيه هذه الساعة التي أشرنا إليها: ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه.
واختلف العلماء في تعيين هذه الساعة على أكثر من أربعين قولاً، لكن أقرب الأقوال فيها قولان:
الأول: أنها ما بين أن يخرج الإمام إلى الناس للصلاة حتى انقضاء الصلاة. فإن هذا أرجى الأوقات موافقة لساعة الإجابة، لما رواه مسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وهي ساعة يجتمع المسلمون فيها على فريضة من فرائض الله ويدعون الله فيها، فهي أقرب ما تكون موافقة لساعة الإجابة، ولهذا ينبغي أن يحرص الإنسان في هذه الساعة على الدعاء، ولاسيما في الصلاة، ومحل الدعاء في الصلاة إما في السجود، وإما في الجلسة بين السجدتين، وإما بعد التشهد فينبغي للإنسان أن يحرص على الدعاء في صلاة الجمعة، وأن يستشعر أن هذا من أرجى أوقات يوم الجمعة إجابة.
القول الثاني: أنها بعد العصر، والإنسان بعد العصر قد يكون قائماً يصلي، كما لو دخل المسجد قبل غروب الشمس فإنه(16/33)
يصلي ركعتين لعموم قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين» ، وقد سبق أن قلنا: كل صلاة لها سبب فليس عنها نهي.
ومن خصائص هذا اليوم: أنه ينبغي للإنسان أن يبكر في الحضور إلى المسجد، فإن من اغتسل يوم الجمعة ثم جاء إلى المسجد في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، وفي الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، وفي الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن، وفي الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، وفي الساعة الخامسة كأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة وطويت الصحف ولم يكتب لأحد أجر التقدم، لأن وقت التقدم انتهى بحضور الإمام.
وأنصح إخواني المسلمين بالتقدم إلى الجمعة لأننا نجد الكثير يضيعون الوقت فيما لا فائدة فيه فيحرمون أنفسهم من هذا الأجر، ولو أنهم تقدموا بعد الاغتسال، ثم صلواما يسر الله لهم، وجلسوا يقرأون القرآن، ويذكرون الله حتى يحضر الإمام، أو يصلون حتى يحضر الإمام لكان خيراً لهم. والله الموفق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(16/34)
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل يجب الحضور لسماع الخطبة وإن كان الخطيب يتكلم بغير العربية؟
فأجاب فضيلته بقوله: ظاهر قوله تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُو"اْ إِذَا نُودِىَ لِلصلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أنه يجب الحضور وإن كان الخطيب يتكلم بغير العربية، والحاضر لا يعرفها، ولهذا نقول للأصم: احضر الخطبة وإن كنت لا تسمع، وكذلك نقول للحاضر: لا تتكلم والإمام يخطب لعموم النهي عن الكلام والإمام يخطب، وإن كان الحاضر أصم، أو لا يفهم لغة الخطيب.
وسئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما القول الراجح في حضور المرأة لصلاة الجمعة؟
فأجاب فضيلته بقوله: القول الراجح أنه لا يسن لها الحضور لصلاة الجمعة ولا لغيرها إلا صلاة العيد، فإن صلاة العيد أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يخرج لها النساء، وما عدا ذلك فهو(16/35)
مباح، لكنه ليس بمرغوب، وعلى المرأة إذا خرجت لصلاة العيد، أو للصلوات الأخرى، أو لحاجة في السوق أن تخرج غير متبرجة بزينة، ولا متطيبة وتمشي بحياء.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: أنا أشتغل حارس أمن، وأحياناً يُطلب مني الدوام يوم الجمعة، فلا أستطيع أن أؤدي صلاة الجمعة مع المسلمين فهل يجوز ذلك؟ وهل أصلي الصلاة ظهراً أم أصليها ركعتين؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم يجوز لك أن تحرس ولو فاتت الجمعة، مادام المكان محتاجاً إلى الحراسة، وفي هذه الحال يجب عليك أن تصليها ظهراً، ولا يجوز أن تصليها جمعة.
* * *(16/36)
رسالة
فضيلة الشيخ/ محمد بن صالح العثيمين حفظه الله تعالى
عضو هيئة كبار العلماء
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد،
أود أن أفيدكم بأن مدير مكتبنا في..... كتب إلينا بأن أحد المستشارين في مجال الموارد البشرية..... طلب منه أن يستفتي أهل العلم عن مسألة جواز تخلف العاملين المسؤولين عن مواقع حساسة بالمرافق الكبرى مثل مصانع البتروكيماويات ومحطة الطاقة عن أداء فريضة الجمعة، حيث أن توقف آلياتها وإعادة تدويرها للوصول بها إلى مستوى الإنتاج المطلوب ينتج عنه خسارة مادية كبيرة تساوي ملايين الدولارات مما يؤثر على استراتيجيات الصناعات الوطنية في تلك البلاد.
وعليه يرجى التفضل بتزويدنا بفتواكم في هذا الأمر لننقلها لهم حسب طلبهم. أفادكم الله.
وتقبلوا فائق التقدير والاحترام
المحب لكم
فأجاب فضيلته بقوله: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
إذا كان ذهابهم إلى الجمعة يحصل به خسارة كبيرة فإن المباشرين للعمل يُعذرون بترك صلاة الجمعة، ويصلون بدلها(16/37)
ظهراً؛ لكن ينبغي أن يقتصر على أقل عدد يحصل به المطلوب، وأن يعمل العمال بالتناوب هذا جمعة وهذا جمعة.
أما إذا كان لا يحصل به خسارة ولكن يفوت به ربح، فالواجب أن يصلوا الجمعة، لقول الله تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُو"اْ إِذَا نُودِىَ لِلصلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} . حرر في 02/3/9141هـ.
* * *
وسئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: عن رجل قطعت قدمه في حادث وأصبح لا يستطيع ثنيها ويشعر بأنه يضايق الناس في صلاة الجمعة بمد رجله فهل له أن يصلي في بيته، علماً بأنه يصلي بقية الصلوات في المسجد؟
فأجاب فضيلته بقوله: المنصوص عليه شرعاً أن صلاة الجمعة بالمسجد فرض عين على كل مسلم متى توفرت شروطها. ولا يسقط أداؤها إلا إذا فقد شرط من شروطها. وبما أن السائل يقرر أنه يؤدي الصلاة فعلاً في المسجد في جماعة، وأن الذي جعله يمتنع عن ذلك هو شعوره وشعور بعض المصلين بالضيق من مد رجله لعدم قدرته على ثنيها، فهذا ليس عذراً يمنعه من صلاة الجمعة مع قدرته على أداء الصلاة فعلاً، إذ يستطيع أن يتفادى ذلك بوقوفه بجانب الجدار في آخر الصف أو بأية صورة أخرى. والله أعلم.(16/38)
* * *
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد الصالح العثيمين إلى الأخ المكرم....... حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كتابكم الكريم المؤرخ 32 رمضان 7931هـ وصل، سرني صحتكم الحمد لله على ذلك، وأسأله أن يتم نعمته على الجميع ويرزقنا شكرها، كما سرني نبأ وصول جوابي على كتاب الأخ.... حول تأخير صلاة العيد، وأشكر جمعيتكم على عنايتها بذلك، وأسأل الله أن يرزقنا جميعاً البصيرة في دينه والثبات عليه.
كما أفيدكم بأني أحب مواصلة الكتابة والتعرف على أحوال الجمعية لأن هذا يهم الجميع.
وقد تضمن كتابكم المذكور أربع مسائل بل خمساً:
المسألة الأولى: تأسيس مركز إسلامي في مدينة.... وأنا أؤيد فكرة تأسيسه للأسباب التي ذكرها مؤيدوا الفكرة، ولما فيه من ظهور شأن الإسلام، وبيان اعتزاز أهله به وعنايتهم بشؤونه، ثم إنه لابد أن يلفت نظر أهل المدينة فيجتمع إليه من يمكن دعوته إلى الإسلام فيسلم إذا خلصت نية الداعي، وسلك طريق الحكمة في دعوته، ففكرة تأسيسه فكرة جيدة نبيلة نافعة للإسلام والمسلمين إن شاءالله.
والأسباب التي ذكرها المعارضون مدفوعة بكون بعضها غير وارد إطلاقاً وبعضها غير مؤثر.
أفنقل الأموال المسلمة إلى بلد الكفر ليس لمصلحة بلد الكفر بل لمصلحة المسلمين، وهاهم طلبة المسلمين يفدون للدراسة(16/39)
إلى بلد الكفر وينفقون أموالاً كثيرة في نفقاتهم الضرورية والكمالية ينتفع بها بلد الكفر، ولكن لما كانت لمصلحة أبناء المسلمين لم يتوجه أحد إليها بالمعارضة، وعلى فرض قلة وجود الطلبة، أو انعدامهم بالكلية ورجوع المركز إلى دولة الكفر فإن انتفاع المسلمين به مدة بقائهم في المدينة كافٍ في تبرير تأسيسه.
ب كون قلة الإعداد لا تستحق المركز مدفوع بأن هذا المركز يقوي هذه القلة ويشجعها على الاجتماع، والعمدة على الكيفية دون الكمية، كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، والناس ألف منهم كواحد، وواحد كالألف.
ج والذي يحدث إذا عاد مجلس الإدارة لأوطانهم مجهول، لكن ينبغي للمؤمن أن يحسن الظن بالله، وقد يهيىء الله لهذا المركز من هم أشد حماساً وقوة من مؤسسيه.
هـ وجود مناطق أهم من منطقة..... قد يكون وارد لكنه غير مؤثر إذ ليس هناك تعارض بين فتحه في.... وفتحه في المناطق الأهم لإمكان فتحه في الجميع.
نعم لو فرض أنه دار الأمر بين أن يفتح في...... وفي المناطق الأهم بحيث لا يفتح في الجميع لكان تقديم الأهم والأنفع أولى.
لكن الأمر لم يكن على هذا الفرض.
وشكهم بأن هذا المشروع يستحق هذا الجهد الكبير لا يمنع من إقامة المشروع؛ لأن هذا الشك شيء قائم في نفوسهم فلا يحكم به على الحقيقة التي يراها غيرهم من أن هذا المشروع(16/40)
مشروع جيد نبيل نافع يستحق الكثير من الجهد المالي، والبدني، والوقتي، ولا مانع من أن نكون طلاباً للعلم ودعاة إلى الله تعالى مجاهدين في سبيله.
ز وليس في إقامة المركز تشجيع لحضور أبناء المسلمين إلى بلاد الكفر فإنه لن يحضر أحد من أبناء المسلمين إلى بلاد الكفر من أجل أن فيها مركزاً إسلامياً، وإنما يحضر من يحضر لأغراض أخرى تقتضيها مصلحته، أو حاجته سواء كان فيها مركز إسلامي أم لا، وإذا لم تكن تلك الأغراض فلن يحضر سواء كان فيها مركز إسلامي أم لا.
هذا جوابنا على إيرادات المعارضين للفكرة.
المسألة الثانية: إقامتكم الجمعة في البلد التي أنتم فيها، والحكم فيها يتحرر بتحرير الأمور التالية:
أهل تقام الجمعة في السفر؟
ب هل يشترط لها عدد معين؟
ج هل تقام في غير البلاد الإسلامية؟
فأما الأول: فإن جمهور العلماء على أن الجمعة لا تقام في السفر؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخلفاءه الراشدين وأصحابه كانوا يسافرون ولا يقيمون الجمعة، فهذه حجة الوداع آخر سفر سافره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصادف يوم الجمعة فيه يوم عرفة، ولم يصلِّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه صلاة الجمعة، قال جابر رضي الله عنه في حديثه الطويل الذي رواه مسلم في صفة حج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثم أذن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصلِّ بينهما(16/41)
شيئاً» . ولو كانت الجمعة مشروعة في السفر لفعلها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لوجوب إبلاغ الدين عليه، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولو فعلها لنقل إلينا؛ لأن الله تكفل بحفظ الدين، فإذا انتفت مشروعية الجمعة في السفر انتفت صحتها وقبولها لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» . أي مردود، وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة» .
وعلى هذا فإذا لم يكن في البلد التي أنتم فيها جماعة من المسلمين مستوطنون فإنها لا تقام فيها الجمعة؛ لأن المقيمين فيها من الطلاب الذين نيتهم تركها بعهد انتهاء دراستهم ليسوا مستوطنين فلهم حكم المسافرين في عدم إقامة الجمعة، بل هم مسافرون على ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لهم حكم المسافرين في كل شيء.
أما إن كان في البلد التي أنتم فيها جماعة من المسلمين مستوطنون فإن الجمعة تقام فيهاوتصلونها معهم.
ب وأما الثاني: فإن العلماء، أو أكثرهم إلا من شذّ، مجمعون على اشتراط العدد للجمعة، وأنها لا تصح من المنفرد،(16/42)
لكنهم مختلفون في قدر العدد المشترط.
فمنهم من قدره بخمسين.
ومنهم من قدره بأربعين.
ومنهم من قدره باثني عشر.
ومنهم من قدره بثلاثة.
ومنهم من قدره باثنين.
وهناك آراء أخرى، وليس في المسألة دليل ظاهر لترجيح هذه الأقوال بعضها على بعض، وأقرب الأقوال تقديرها بثلاثة: خطيب، ومستمعين اثنين، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ورواية عن الإمام أحمد رحمه الله وقول الأوازعي إمام أهل الشام في عصره رحمه الله.
وعلى هذا فإذا كان في البلد التي أنتم فيها ثلاثة فأكثر من المسلمين مستوطنون فأقيموا الجمعة وإن لم تبلغوا أربعين أما إن كان المستوطنون من المسلمين لا يبلغون ثلاثة فلا تقيموا الجمعة.
ج وأما الثالث: فموضع خلاف بين أهل العلم فمنهم من قال: لا تقام في غير البلاد الإسلامية؛ لأنها ليس فيها سلطان مسلم ولا نائب عنه؛ ولأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقم الجمعة في مكة مع استيطانه فيها قبل الهجرة، ومن العلماء من قال: تقام في غير البلاد الإسلامية وليس من شرطها السلطان أو نائبه؛ لأنه لا دليل لذلك، وأما كون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقمها بمكة فالجمهور من أهل العلم على أن الجمعة لم تفرض إلا بعد الهجرة. وعلى تقدير أنها(16/43)
فرضت قبلها فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة لا يتمكن من إقامتها لما علم من معارضة المشركين له.
وعلى هذا فيكون القول الراجح إقامة الجمعة في غير البلاد الإسلامية إذا أمكن ذلك وكان في البلد جماعة من المسلمين مستوطنون ثلاثة فأكثر. والمستوطن من اتخذ البلد موطناً ومستقرًّا لا من أقام فيه لغرض ونيته أن يفارقه إذا انتهى غرضه سواء كان الغرض دراسة أم غيرها.
المسألة الثالثة: اللحم المذكى. فلا يخفى عليكم فيما أظن أن السمك بجميع أنواعه لا يحتاج إلى ذكاة فهو حلال سواء اصطاده مسلم أم كتابي أم غيرهما، وسواء صيد حيًّا أم ميتاً لعموم قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِى" إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (المائدة: 69) . قال ابن عباس رضي الله عنهما: صيده ما أخذ منه حياً، وطعامه ما لفظه ميتاً.
وأما حيوان البر فلا يحل إلا بذكاة في محل الذبح والنحر وهو الرقبة ينهر فيها الدم بقطع الودجين، وهما العرقان الغليظان المحيطان بالحلقوم، وكمال الذكاة بقطع الحلقوم والمريء معهما، ولابد من قول بسم الله عند الذبح أو النحر، وأن يكون المذكي مسلماً، أو كتابيًّا وهو اليهودي أو النصراني.
وإذا وجدنا لحماً نعلم أن الذي ذكاه مسلم أو كتابي فهو حلال، إلا أن نعلم أنه ذكي على غير الوجه الشرعي، أو أن الذي(16/44)
ذكاه لم يقل بسم الله عند التذكية، وذلك أننا إذا وجدنا لحماً ذكاه مسلم أو كتابي فلنا ثلاث حالات:
أحدها: أن نعلم أنه ذكاه على الوجه الشرعي وسمى الله، فلا شك في حله.
الثانية: أن نعلم أنه ذكاه على غير الوجه الشرعي، أو لم يسم الله عند الذبح، فلا شك في تحريمه.
الثالثة: أن نجهل كيف وقعت التذكية، فهذا مشكوك فيه، لكن النصوص تدل على حله تسهيلاً على العباد، ففي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن قوماً قالوا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن قوماً يأتوننا بلحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سموا عليه أنتم وكلوه» قالت: وكانوا حديثي عهد بكفر. وثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه أكل من الشاة التي أهدتها له المرأة اليهودية في خيبر، وأجاب دعوة يهودي على خبز شعير وإهالة سنخة، والإهالة السنخة: ما أذيب من الشحم والألية وتغير.
وعلى هذا فما يجلب في أسواقكم من اللحم الذي ذكاه أهل الكتاب من اليهود والنصارى يكون حلالاً لكم وإن لم تعلموا كيف تذكيتهم له، ولا يكون حراماً إلا أن تعلموا أنهم يذكونه على غير الوجه الشرعي، أو لا يسمون الله عليه، وإذا علمتم ذلك فهو حرام ولا يبرر حله لكم كون الرجل المسلم يتخلف عن الذبح(16/45)
أحياناً، أو يرفع سعر اللحم الذي عنده، وإني لأسأل ألا يمكن أحدكم أن يذهب إلى المجزرة فيذبح بيده؟
المسألة الرابعة: في زكاة الفطر وزكاة المال حيث لا يوجد في..... من يستحقها، وحل هذه المشكلة يسير وذلك بأن توكلوا من يخرجهما عنكم إما في بلادكم الأصلية أو غيرها من البلاد التي فيها أحد من أهل الزكاة، ولا يصح صرفها لحساب المركز الإسلامي المزمع إنشاؤه في.... لأنه ليس من مصارف الزكاة، فإن المراد بقوله تعالى: {في سبيل الله} خصوص الجهاد في سبيل الله كما هو قول الجمهور من أهل العلم، وليس المراد به عموم المصالح كما قاله بعض المتأخرين، إذ لو كان كما قال لضاعت فائدة الحصر المستفادة من قوله {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِى سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .
المسألة الخامسة: في إعفاء اللحية، فإعفاء اللحية من سنن المرسلين السابقين واللاحقين، قال الله تعالى عن هارون أنه قال لأخيه شقيقه موسى: {قَالَ يَبْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلاَ بِرَأْسِى إِنِّى خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِى" إِسْرا"ءِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِى} وكان خاتمهم وأفضلهم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أعفى لحيته، وكذلك كان خلفاؤه، وأصحابه، وأئمة الإسلام وعامتهم في غير العصور المتأخرة التي خالف فيها الكثير ما كان عليه نبيهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسلفهم الصالح رضوان الله عليهم، فهي هدي الأنبياء والمرسلين(16/46)
وأتباعهم، وهي من الفطرة التي خلق الله الناس عليها كما ثبت ذلك في صحيح مسلم، ولهذا كان القول الراجح تحريم حلقها كما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ لأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإعفائها وتوفيرها.
وأما كون الحكمة من إبقائها مخالفة اليهود وانتفت الآن فغير مسلَّم؛ لأن العلة ليست مخالفة اليهود فقط بل الثابت في الصحيحين خالفوا المشركين، وفي صحيح مسلم أيضاً خالفوا المجوس، ثم إن المخالفة لهؤلاء ليست وحدها هي العلة؛ بل هناك علة أخرى أو أكثر مثل موافقة هدي الرسل عليهم الصلاة والسلام في إبقائها، ولزوم مقتضى الفطرة، وعدم تغيير خلق الله فيما لم يأذن به الله، فكل هذه علل موجبات لإبقائها وإعفائها مع مخالفة أعداء الله من المشركين والمجوس واليهود.
ثم إن ادعاء انتفائها غير مسلم، فإن أكثر أعداء الله اليوم من اليهود وغيرهم، يحلقون لحاهم، كما يعرف ذلك من له خبرة بأحوال الأمم وأعمالهم، ثم على فرض أن يكون أكثر هؤلاء اليوم يعفون لحاهم، فإن هذا لا يزيل مشروعية إعفائها؛ لأن تشبه أعداء الإسلام بما شرع لأهل الإسلام لا يسلبه الشرعية، بل ينبغي أن تزداد به تمسكاً حيث تشبهوا بنا فيه وصاروا تبعاً لنا، وأيدوا حسنه ورجعوا إلى مقتضى الفطرة.(16/47)
وأما كون بعض الدول الإسلامية يعتبرون اللحية تطرفاً دينياً، فإننا نسأل: ماذا يعنون بالتطرف؟
أيعنون التطرف إلى زاوية الانحراف؟ أم إلى زاوية التمسك والحفاظ على شعار المسلمين، وهدي النبيين، والمرسلين؟
فإن أرادوا الأول فاعتبارهم غير صحيح، وكيف يكون هدي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وخلفائه وأصحابه، وسلف الأمة تطرفاً إلى زاوية الانحراف؟! ومن اعتبر ذلك تطرفاً إلى زاوية الانحراف فقد طعن في رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأتباعه وصار هو المتطرف.
وإن أرادوا الثاني فنحن سنتمسك بديننا، ونحافظ على شعارنا، وهدي الأنبياء والرسل، وليعتبروه ما شاؤوا من تطرف أو توسط، فالحق لا ينقلب باطلاً باعتبار المفاهيم الخاطئة، كما لا ينقلب الماء الزلال زعافاً باعتبار فساد ذوق المريض.
وأما توهم التعرض للخطر بإعفاء اللحية، فهذا من الوساوس التي لا حقيقة لها، وإنما يلقيها الشيطان في القلب، ثم إن قدر لها حقيقة فالواجب على المسلم أن يصبر إذا أوذي في الله وأن لا يجعل فتنة الناس كعذاب الله.
أسأل الله أن يعيننا جميعاً على التمسك بشعائر الإسلام، وهدي خير الأنام، ظاهراً وباطناً، وأن يجعلنا هداة مهتدين، وأن يهب لنا من لدنه رحمة، إنه هو الوهاب، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(16/48)
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: نحن نعيش خارج البلاد الإسلامية، ونظام الدراسة لا يمكن بعض الطلبة من حضور صلاة الجمعة فهل لهؤلاء إعادة الجمعة في المسجد بعد انقضاء صلاة الجمعة الأولى؟
فأجاب فضيلته بقوله: ما يفعله الناس من إعادة الجمعة في مسجد واحد بحجة أن النظام في المدرسة لا يمكن المتأخرين من أداء الجمعة مع الأولين، فهذا على مذهب ابن حزم ومن وافقه لا بأس به، حيث يرى أن من فاتته الجمعة ووجد من يصلي معه ولو واحداً فإنه يصلي معه جمعة، أما إن لم يجد أحداً فإنه يصلي ظهراً.
وأما على مذاهب الفقهاء فإنه لا يصح هذا العمل؛ لأنه يفضي إلى تعدد الجمعة بدون حاجة، وليس من الحاجة أن الطائفة الثانية يمنعها نظام الدراسة من أدائها مع الأولين، وإلا لكان كل من فاتته الجمعة لشغل جاز أن يقيمها مع جماعته فيفوت بذلك مقصود الشارع بالجمعة من اجتماع الناس في مكان واحد، على عبادة واحدة، خلف إمام واحد.
نعم لو كان الطائفة الثانية في مكان بعيد عن الأولين وأقاموا الجمعة في مكانهم لكان ذلك جائزاً لحاجة البعد عن مكان الأولين مع اختلاف زمن أدائها.
لكن الفقهاء يشترطون لصحة صلاة الجمعة أن يكون(16/49)
المقيمون لها مستوطنين في البلد كلهم، أو من يحصل بهم العدد المشترط، على الخلاف بينهم في العدد: هل هو أربعون؟ أو اثنا عشر؟ أو ثلاثة بالإمام أو دونه؟ وعلى هذا فإذا كان الدارسون في بلد ليس فيه مسلمون مستوطنون فإن الجمعة لا تصح منهم، وإنما يصلون ظهراً كغيرها من الأيام.
وفي هذه الحال يمكنهم أن يعينوا وقتاً دورياً، أو طارئاً للاجتماع فيه، ودراسة أحوالهم، وحل مشاكلهم الدينية والدنيوية.
وأما على مذهب ابن حزم ومن وافقه فلا يشترط الاستيطان لصحة الجمعة، فتصح الصلاة جمعة وإن كان المقيميون لها مسافرين، بل تجب عليهم أيضاً.
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل يجوز للمصلي في يوم الجمعة أن يترك المسجد الموجود في منطقته ويذهب إلى مسجد آخر بعيد المسافة، وذلك لكون الخطيب لديه اطلاع واسع. وجيد الإلقاء؟
فأجاب فضيلته بقوله: الأحسن أن يصلي أهل الحي في مسجدهم للتعارف والتآلف بينهم، وتشجيع بعضهم بعضاً، فإذا ذهب أحد إلى مسجد آخر لمصلحة دينية كتحصيل علم، أو استماع إلى خطبة تكون أشد تأثيراً، وأكثر علماً فإن هذا لا بأس(16/50)
به، وكان الصحابة رضي الله عنهم يصلون مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في مسجده لإدراك فضل الإمام، وفضل المسجد، ثم يذهبون ليصلوا في حيهم، كما كان يفعل معاذ رضي الله عنه في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو يعلم، ولم ينكره الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
* * *
وسئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: أنا أحد الطلبة المبتعثين للدراسة في الولايات المتحدة الأمريكية، ومن المعروف أن يوم الجمعة يوم دراسي، ففي هذا اليوم تتعارض مواد الدراسة مع صلاة الجمعة التي تقام في مسجد المدينة الصغير، الساعة الواحدة والنصف، وليس بإمكاني التوفيق بين هذه المواد والصلاة في وقت واحد، علماً بأنه ليس هناك بديل لهذه المواد، وهي مواد أساسية في التخصص، ولقد تمكنت من الاستئذان من مدرس المادة في أحد أيام الجمعة، ولكن قال لي: لن أسمح لك مرة أخرى؛ لأن ذلك يؤثر في مستواك الدراسي، فماذا أفعل؟ أفيدوني أفادكم الله؟
فأجاب فضيلته بقوله: أرى أنه إذا كان يسمع النداء فإن الواجب عليه الحضور إلى صلاة الجمعة لعموم قوله تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُو"اْ إِذَا نُودِىَ لِلصلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ(16/51)
وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} وإذا كان الله تعالى أمر بترك البيع مع أنه قد يكون مما يضطر إليه الإنسان، أوعلى الأصح ما يحتاج إليه الإنسان، كذلك هذه الدراسة يلزمه تركها والحضور إلى الجمعة.
أما إذا كان المسجد بعيداً فإنه لا يلزمه الحضور إذا كان يشق عليه الحضور إلى مكان الجمعة.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل يجوز للمقيم أن يسافر ويصلي الجمعة في بلد آخر؟
فأجاب فضيلته بقوله: إن كان قصده تعظيم المكان فهو حرام؛ لأنه لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد.
أما إذا كان قصده الانتفاع بخطبة الخطيب؛ لأنها خطبة مفيدة فلا بأس. فهذا سافر للعلم، ولم يسافر للمسجد. ولهذا لو انتقل هذا الخطيب إلى بلد آخر تبعه.(16/52)
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد الصالح العثيمين إلى الأخ المكرم.. حفظه الله تعالى
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. وإليكم الجواب على ما سألتم عنه:
الأول: سؤالكم عن جواز الجمع والقصر لكم.
وجوابه: أن القصر والجمع جائز لكم، لكن الأفضل ترك الجمع إلا لحاجة، مثل: أن يكون الماء قليلاً، وإن جمعتم بدون حاجة فلا بأس؛ لأنكم مسافرون، فإنكم انتدبتم لعمل مؤقت لا تنوون استيطاناً ولا إقامة مطلقة وإنما إقامتكم لحاجة متى انتهت رجعتم إلى بلادكم، وقد ثبت أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقام في تبوك عشرين يوماً يصلي ركعتين، وأقام عام الفتح في مكة تسعة عشر يوماً يقصر الصلاة، ومازال المسلمون يقيمون في الثغور الأشهر وربما السنة والسنتين ويقصرون الصلاة، ولم يحد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأمته حدًّا ينقطع به حكم السفر لمن كان مسافراً. هذا هو القول الصحيح.
ويرى بعض العلماء أن من نوى إقامة أكثر من أربعة أيام لزمه أن يتم.(16/53)
السؤال الثاني: عن صلاتكم الجمعة:
وجوابه: أنه ليس من هدي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاة الجمعة في السفر وبناء على ذلك فلا تشرع لكم صلاة الجمعة، وإنما تصلون ظهراً مقصورة.
وقد كتب الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله إلى الملك سعود رحمه الله كتاباً قال فيه: من خصوص فارس أبا العلاء والجنود الذي معه في البرود يصلون الجمعة وهم ليس في حقهم جمعة، ولا يشرع لهم ذلك، فينبغي المبادرة في تنبيههم على ذلك، ومنعهم من التجميع. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
السؤال الثالث: هل نعتبر مسافرين وعلى ذلك نفطر؟
وجوابه: أنه متى جاز لكم قصر الصلاة جاز لكم الفطر، وقد سبق في الجواب الأول أن القول الصحيح جواز القصر في حقكم، ولكن الصوم للمسافر أفضل إذا لم يشق عليه.
السؤال الرابع: عن ضابط المشقة؟
وجوابه: أن المشقة هي أن يحصل للإنسان شيء من التكلف والتحمل.(16/54)
وأما موضوع التدخين فتعلمون بارك الله فيكم أن عموميات الكتاب والسنة تدل على تحريمه حيث ثبت ضرره، وعلى هذا فلا يجوز للإنسان شرب الدخان، وينبغي أن يستغل فرصة شهر رمضان للتخلص منه، فإن الصائم في النهار قد حماه الله منه بالصوم، فليتصبر في الليل عنه حتى يستعين بذلك على التخلص منه، بالإضافة إلى استعانته بالله ودعائه.
السؤال الخامس: هل الأفضل بقاؤكم في عملكم أو استئذانكم للسفر إلى مكة؟
وجوابه: أن الأفضل بقاؤكم في عملكم؛ لأنه عمل مهم وقيام بواجب، وسفركم إلى مكة من قبيل التطوع، والقيام بالواجب أفضل من القيام بالتطوع.
السؤال السادس: هل تصلون التراويح وأنتم تقصرون الصلاة؟
وجوابه: نعم تصلون التراويح، وتقومون الليل، وتصلون صلاة الضحى وغيرها من النوافل لكن لا تصلون راتبة لظهر، أو مغرب، أو عشاء.
السؤال السابع: عن التيمم لصلاة الفجر من الجنابة إذا كان الجو بارداً؟
وجوابه: إذا وجب الغسل على أحدكم وكان الماء بارداً، ولم يكن عنده ما يسخن به الماء، وخاف على نفسه من المرض(16/55)
فلا بأس أن يتيمم، فإذا تمكن من الغسل بعد دفء الجو والماء، أو وجود ما يسخن به الماء وجب عليه أن يغتسل؛ لأن التيمم إنما يطهر حال وجود العذر، فإذا زال العذر عاد الحدث ووجب استعمال الماء.
كتب هذه الأجوبة السبعة محمد الصالح العثيمين في 03/8/1141هـ.
* * *(16/56)
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد الصالح العثيمين إلى الأخ المكرم.. حفظه الله تعالى
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
كتابكم غير المؤرخ وصلني يوم الاثنين 41/2/3041هـ الجاري وقرأته بمشقة لخفاء حروفه بضعف مداده، وماتضمنه من الأسئلة فإليكم جوابه، سائلين الله تعالى أن يلهمنا فيها الصواب:
ج 1: تعريف السفر عندنا ما سماه الناس سفراً، ولا يتحدد ذلك بمسافة معينة، ولا مدة معينة، وذلك لأنه لم يرد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك تحديد، فمادام الإنسان مفارقاً لمحل إقامته وهو عند الناس مسافر فهو في سفر، وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا خرج مسيرة ثلاثة أيام، أو فراسخ صلى ركعتين» . وفي صحيح البخاري عنه قال: «خرجنا مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المدينة إلى مكة فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة، قيل له: أقمتم بمكة شيئاً؟ قال: أقمنا بها عشراً» ، وكان ذلك في حجة الوداع، وفيه أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «أقام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة تسعة عشر يوماً يصلي ركعتين» وكان ذلك عام الفتح. قال في(16/57)
الفتح ص 765 ج 2 ط السلفية عن حديث أنس الأول: «وهو أصح حديث ورد في بيان ذلك وأصرحه» .
قلت: ولا يصح حمله على أن المراد به المسافة التي يبتدىء منها القصر لا غاية السفر؛ لأن أنس بن مالك رضي الله عنه أجاب به من سأله عن خروجه من البصرة إلى الكوفة أيقصر الصلاة، وأيضاً فقد نقل في الفتح عن ابن المنذر إجماع أهل العلم على أن لمريد السفر أن يقصر إذا خرج عن جميع بيوت قريته، يعني وإن لم يتجاوز ثلاثة أميال أو فراسخ.
وقد أقام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة ولم يكن ذلك تحديداً منه، فلما لم يحدد ذلك لأمته علم أنه ليس فيه تحديد، وأن المسافر مادام لم يعزم على الإقامة المطلقة فإن حكم السفر في حقه باق.
وقد كتبنا في ذلك أجوبة مبسوطة ومختصرة لأسئلة متعددة اخترنا أن نبعث لكم صورة من المتوسط منها نسأل الله أن ينفع بها.
ج 2 وأما من انتقلت وظيفته إلى بلد فانتقل إليها مطمئناً بذلك فإن البلد الثاني هو محل إقامته؛ لأن الأصل بقاء وظيفته وعدم نقله مرة أخرى، وأما إذا لم يطمئن وإنما حدد عمله وإقامته في البلد المنقول إليه، أو كان ذلك لم يحدد ولكن هو يطالب برده إلى وطنه الأول وهو عازم على الرجوع إليه ولو أدى ذلك إلى استقالته فإنه حينئذ مسافر على ما نراه.(16/58)
ج 3 وأما ظنكم أن المقيم الذي له حكم المسافر لا يشهد الجمعة ولا الجماعة فاعلموا أن من سمع النداء وجبت عليه الإجابة لعموم الأدلة الدالة على ذلك.
ج 4 وأما من له أهلان أحدهم في الرياض، والآخرون في جدة فإن كلا البلدين وطنه، فمتى جاء إلى جدة فقد انقطع سفره، ومتى جاء إلى الرياض فقد انقطع سفره، والفرق بين هذا وبين المبتعثين للدراسة ظاهره، فإن هؤلاء المبعوثين لم يتأهلوا في البلاد التي بعثوا إليها، وإنما هم فيها لحاجة متى انتهت رجعوا.
ج 5 وأما ترك إقامة الجمعة من غير المستوطنين ولو كانوا مقيمين فهذا ما ذكره فقهاء الحنابلة وهو موضع خلاف بين أهل العلم:
فقهاء الحنابلة يرون أنه لا تصح الجمعة من هؤلاء، وهو المشهور عند الشافعية.
وفيه وجه للشافعية بالجواز.
فإن رأيتم أن في إقامتها مصلحة للإسلام والمسلمين فأرجو أن لا يكون في ذلك بأس إن شاءالله تعالى، مع أني والله أرجح عدم إقامتها، إلا إذا كان معهم مستوطنون.
ومصلحة الاجتماع تحصل بدون إقامة الجمعة مثل أن تنظم ندوات شهرية، أو أسبوعية تلقى فيها الخطب، وتحصل المناقشات التي فيها الفائدة الحاصلة بخطبة الجمعة والاجتماع لها.
وأسأل الله لي ولكم العافية، والتوفيق للصواب، وليست هذه الأمور الشرعية تؤخذ بما يبدو من المصالح التي قد تحصل بغيرها بدون تعدٍّ لقواعد الشريعة، والله تعالى أحكم الحاكمين.(16/59)
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: إذا صلت المرأة صلاة الجمعة في المسجد الحرام فهل تجزؤها عن صلاة الظهر؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا صلت المرأة الجمعة في المسجد الحرام أجزأتها عن الظهر، وكذلك لو صلت في غيره من المساجد مع الناس صلاة الجمعة فإنها تجزؤها عن صلاة الظهر.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: كم تصلي المرأة الجمعة؟
فأجاب فضيلته قائلاً: المرأة إن صلت الجمعة مع الإمام فإنها تصلي كما يصلي الإمام، وأما إذا صلت في بيتها فإنها تصلي ظهراً أربع ركعات.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل يجوز للمرأة أن تصلي الجمعة وتجزؤها عن صلاتها الظهر؟
فأجاب فضيلته بقوله: يجوز للمرأة أن تصلي الجمعة مع الإمام، وتجزؤها عن صلاة الظهر، أما في بيتها فتجب عليها صلاة الظهر.(16/60)
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: عن رجل مسافر جاء إلى صلاة الجمعة في المسجد فأدرك معهم التشهد الأخير، فهل يصلي أربعاً أو يصلي كصلاتهم؟
فأجاب فضيلته بقوله: المسافر لا تلزمه الظهر إلا مقصورة، فإذا أدرك من الجمعة أقل من ركعة وجبت عليه الظهر، والظهر بحقه مقصورة ركعتان فليصل ركعتين فقط، لأنه غير مقيم بل هو مسافر، أما لو أدرك ركعة فإنه يأتي بركعة واحدة، وتكون له جمعة.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: من لم يدرك من صلاة الجمعة إلا أقل من ركعة فهل يقضيها ركعتين أم أربع ركعات؟
أفتونا مأجورين حيث أن كثير من الناس يشتبه عليه الأمر في ذلك وفقكم الله وبارك فيكم.
فأجاب فضيلته بقوله: إذا لم يدرك من صلاة الجمعة إلا أقل من ركعة فإنه يجب عليه أن يصلي الظهر أربعاً؛ لأن الجمعة قد فاتته لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة» . فإن مفهومه أن من أدرك دون ذلك لم يدرك الصلاة.(16/61)
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: يحصل من بعض الناس بل الكثير وهو على الطريق أن يجمع صلاة الجمعة مع صلاة العصر جمع تقديم، معللاً ذلك بأنه يصلي ظهراً وليست نيته صلاة الجمعة بل الظهر، حيث أنه مسافر تسقط عنه الجمعة ثم لو لم يصل الظهر بل أخرها مع صلاة العصر هل يصح فعله أم لا؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا حضر المسافر الجمعة وجب أن يصليها جمعة، لقوله تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُو"اْ إِذَا نُودِىَ لِلصلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} . والمراد بالصلاة هنا صلاة الجمعة بلا ريب. والمسافر داخل في الخطاب فإنه من الذين آمنوا، ولا يصح أن ينوي بها الظهر، ولا أن يؤخرها إلى العصر لأنه مأمور بالحضور إلى الجمعة.
وأما قول السائل إنه مسافر تسقط عنه الجمعة فصحيح أن المسافر ليس عليه جمعة بل ولا تصح منه الجمعة لو صلاها في السفر؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان لا يقيم الجمعة في السفر، فمن أقامها في السفر فقد خالف هدي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيكون عمله مردوداً لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» .(16/62)
أما إذا مر المسافر ببلد يوم الجمعة وأقام فيه حتى حان وقت صلاة الجمعة وسمع النداء الثاني الذي يكون إذا حضر الخطيب فعليه أن يصلي الجمعة مع المسلمين، ولا يجمع العصر إليها، بل ينتظر حتى يأتي وقت العصر فيصليها في وقتها متى دخل.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: إذا صلى المسافر يوم الجمعة الظهر قصراً هل تكون هذه ظهراً يجمع إليها صلاة العصر فما توجيهكم؟
فأجاب فضيلته بقوله: فضل الجمعة أمر لا ينبغي التهاون به؛ لأن الجمعة يوم واحد في الأسبوع، وأنت إذا نويت صلاة الظهر في هذا الأسبوع فلا تدري هل تدركك الجمعة الثانية أو لا؟! فكونك تفوت هذا الأجر العظيم الذي أضل الله عنه اليهود والنصارى واختاره لهذه الأمة من أجل أن تجمع العصر إلى الظهر، لاشك أنه قصور نظر، فصل الجمعة ولا تجمع إليها العصر، وإذا حان وقت صلاة العصر فصل العصر، والحمد لله.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: من صلى الجمعة فهل يصلي الظهر؟(16/63)
فأجاب فضيلته بقوله: إذا صلى الإنسان الجمعة فإن الجمعة هذه هي فريضة الوقت أي فريضة وقت الظهر وعلى هذا فلا يصلي الظهر، وصلاة الظهر بعد صلاة الجمعة من البدع؛ لأنها لم تأت في كتاب الله، ولا في سنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيجب النهي عنها، حتى ولو تعددت الجمع فإنه ليس من المشروع أن يصلي الإنسان صلاة الظهر بعد صلاة الجمعة، بل هي بدعة منكرة؛ لأن الله تعالى لم يوجب على المرء في الوقت الواحد سوى صلاة واحدة وهي الجمعة، وقد أتى بها.
وأما تعليل من علل ذلك بأن تعدد الجمع لا يجوز، وأنه إذا تعددت فالجمعة لأسبق المساجد، وهنا الأسبق مجهول فيؤدي حينئذ إلى بطلان الجمع كلها وإقامة الظهر بعدها.
فنقول لهؤلاء: من أين لكم هذا الدليل أو هذا التعليل؟! وهل بني على أساس من السنة، أو على صحيح من النظر؟! الجواب «لا» بل نقول: إن الجمعة إذا تعددت لحاجة فكل الجمع صحيح، لقول الله تعالى: {فَاتَّقُواْ اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنْفِقُواْ خَيْراً لأَِنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وأهل هذا البلد إذا تباعدت جهات البلد، أو ضاقت المساجد وتعددت الجمع بحسب الحاجة هم قد اتقوا الله ما استطاعوا، ومن اتق الله ما استطاع فقد أتى بما وجب عليه، فكيف يُقال إن عمله فاسد، وإنه يجب أن يأتي ببدله، وهي صلاة الظهر بدلاً عن الجمعة.(16/64)
وأما إذا أقيمت الجمع في أمكنة متعددة بدون حاجة فلا شك أن هذا خلاف السنة، وخلاف ما كان عليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخلفاؤه الراشدون، وهو حرام عند أكثر أهل العلم، ولكن مع هذا لا نقول إن العبادة لا تصح؛ لأن المسؤولية هنا ليست على العامة، وإنما المسؤولية على ولاة الأمور الذين أذنوا بتعدد الجمعة بدون حاجة، فمن ثمّ نقول:
يجب على ولاة الأمور القائمين بشؤون المساجد أن لا يأذنوا في تعدد الجمع إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك، وهذا لأن للشارع نظراً كبيراً في اجتماع الناس على العبادات، لتحصل الألفة والمودة، وتعليم الجاهل، وغير ذلك من المصالح الكبيرة الكثيرة. والاجتماعات المشروعة: إما أسبوعية، أو حولية، أو يومية كما هو معروف، فالاجتماعات اليومية تكون في الأحياء في مساجد كل حي؛ لأن الشارع لو أوجبها على الناس أن يجتمعوا كل يوم خمس مرات في مكان واحد لكان في ذلك مشقة عليهم، فلهذا خفف عنهم، وجعلت اجتماعاتهم في مساجدهم كل حي في مسجده.
أما الاجتماع الأسبوعي: فهو يوم الجمعة، فإن الناس يجتمعون كل أسبوع، ولهذا كانت السنة تقتضي أن يكونوا في مسجد واحد لا يتعدد؛ لأن هذا الاجتماع الأسبوعي لا يضرهم إذا قاموا به، ولا يشق عليهم، وفيه مصلحة كبيرة يجتمع الناس على إمام واحد، وعلى خطيب واحد يوجههم توجيهاً واحداً، فينصرفون وهم على عظة واحدة، وصلاة واحدة.(16/65)
وأما الاجتماع الحولي فمثل صلاة الأعياد فإنها اجتماع حولي، وهي أيضاً لجميع البلد؛ ولهذا لا يجوز أن تتعدد مساجد الأعياد إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك كمساجد الجمعة. والله الموفق.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: عن حكم السفر يوم الجمعة؟ وما الحكم إذا كان وقت إقلاع الطائرة بعد الأذان مباشرة؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا نودي للصلاة أي صلاة الجمعة فيحرم السفر على من تلزمه الجمعة؛ لقوله تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُو"اْ إِذَا نُودِىَ لِلصلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} فأمر الله عز وجل بالسعي للجمعة وترك البيع، فكذلك يترك السفر؛ لأن السفر مانع من حضور الصلاة، كما أن البيع مانع من حضور الصلاة. لكن لو خاف فوات الرفقة وفوات غرضه لو تأخر فله السفر للضرورة.
أما قبل النداء فهو جائز. وقال بعض العلماء بكراهته لئلا يفوت على الإنسان فضل الجمعة.
وأما إذا كان وقت إقلاع الطائرة بعد الأذان مباشرة فإن كان لا يفوت غرضه لو تأخر فإنه يتأخر، كما لو كان فيه طائرة تقلع بعد الصلاة بزمن لا يفوت به غرضه، وإن لم يكن طائرة إلا بعد زمن يفوت به غرضه فله أن يسافر حينئذ؛ لأنه معذور.
* * *(16/66)
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هناك بعض الخطباء يدخلون إلى المسجد يوم الجمعة ويشرعون في الخطبة قبل الوقت وربما أقيمت الصلاة ولم يحن وقت الزوال فما صحة ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: الشروع في الخطبة والصلاة يوم الجمعة قبل الزول محل خلاف بين العلماء:
فمنهم من قال: إنها لا تجوز حتى تزول الشمس.
ومنهم من قال: إنها تجوز.
والصحيح: أنها تجوز قبل الزوال بساعة، أو نصف ساعة أو ما قارب ذلك.
ولكن الأفضل بعد الزوال، حتى عند القائلين بأنها يجوز أن تتقدم بساعة ونحوها؛ وذلك لأن المؤذن إذا أذن وسمعه من في البيوت فإنهم ربما يتعجلون فيصلون الظهر، فيحصل بذلك غرر للناس، ثم إن زوال الشمس بالاتفاق شرط لإقامة صلاة الجمعة على وجه الأفضلية، ولكن من العلماء من أجاز التقديم على الزوال، ومنهم من لم يجز، ولكنهم متفقون على أن تأخيرها حتى تزول الشمس أفضل.
ولو صلى قبل الزوال على الرأي الذي يقول بجوازها قبل الزوال فلا بأس.
وهنا مسألة بالنسبة لوقتنا الآن لا نحبذ أن أحداً يصلي مبكراً عن الآخرين قبل الزوال.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: نلاحظ أن بعض أئمة الجوامع في صلاة الجمعة يدخل الخطيب قبل زوال الشمس بوقت، فيؤذن المؤذن، فتقوم بعض النساء المجاورات للمسجد بأداء الصلاة ظانه أن الوقت قد دخل، فتصلي الصلاة في غير وقتها، فنرجو منكم التوجيه في هذا الأمر، وهل تجوز صلاة الجمعة قبل الزوال؟
فأجاب فضيلته بقوله: جمهور العلماء ومنهم الأئمة الثلاثة مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، ورواية عن الإمام أحمد رحمهم الله أن الجمعة كالظهر لا تجوز قبل الزوال.
وعن الإمام أحمد رحمه الله رواية أنها تجوز قبل الزوال بساعة.
ورواية أخرى تجوز قبل ذلك أيضاً.
والاحتياط أن لا يأتي الخطيب إلا إذا زالت الشمس.
أولاً: من أجل أن يوافق جمهور العلماء.
وثانياً: من أجل أن لا تحصل هذه المفسدة التي أشار إليها السائل وهي صلاة النساء في البيوت الظهر قبل الزوال.(16/67)
فنصيحتي لأخواني الأئمة: أن لا يأتوا إلى المسجد إلا إذا زالت الشمس، والحمد لله الأمر ليس فيه مشقة، ليس هناك حر مزعج ولا برد مؤلم، أكثر المساجد فيها المكيف دافئاً في الشتاء، وبارداً في الصيف وليس هناك مشقة إطلاقاً ولله الحمد.(16/68)
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: بعض خطباء الجمعة رغبة في الخير يتقدمون في الحضور ويجلسون في المسجد إلى حين دخول الوقت فما حكم ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: هؤلاء يثابون على نيتهم، ولا يثابون على عملهم، لأنه خلاف هدي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صلاة الجمعة إنما يأتي عند الخطبة ولا يتقدم، والخير كل الخير في اتباعه عليه الصلاة والسلام، فبقاؤهم في بيوتهم أفضل حتى يأتي وقت الصلاة عند الزوال.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل تقام صلاة الجمعة في البراري؟
فأجاب فضيلته بقوله: صلاة الجمعة لا تجوز إقامتها في البراري، ولهذا لم يكن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقيم الجمعة في أسفاره، وذكر أهل العلم أن البوادي التي كانت في عهد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا تقام فيها الجمعة، وإنما تقام الجمعة في القرى والأمصار، وعليه فإن من سكن البوادي لا تلزمه الجمعة، بل ولا تصح منهم صلاة الجمعة؛ لأن مكانهم لا يصح أن تقام فيه الجمعة، ولو كان مثل هذا المكان تقام فيه الجمعة لأقيمت على عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنه إذا كان هذا المكان مكاناً للجمعة صارت إقامة الجمعة فيه من شريعة الله، وإذا كانت من شريعة الله فلابد أن تكون قائمة في عهد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،(16/69)
ثم تنقل إلى الأمة؛ لأن الله تعالى تكفل بحفظ دينه، ولما لم تكن قائمة في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام علم أنها ليست من دين الله، ولا من شريعة الله، وإذا لم تكن من دين الله ولا شريعته فقام بها أحد من الناس فإنهامردودة عليه، لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» ، وعلى من كانوا في البر أن يقيموا صلاة الظهر قصراً إن كانوا في حكم المسافرين وإتماماً إن كانوا مقيمين.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: من كان يعمل في مزرعة في الصحراء ولا يستطيع أن يحضر الجمعة فما الحكم؟
فأجاب فضيلته قائلاً: إن في الشريعة الإسلامية قاعدة هامة نافعة دل عليها عدة آيات من كتاب الله منها قوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} ، وقوله تعالى: {فَاتَّقُواْ اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنْفِقُواْ خَيْراً لأَِنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ، وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِى هَاذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُواْ الصلاةَ وَءَاتُواْ الزكاةَ وَاعْتَصِمُواْ بِاللهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} ، فإذا كان المكان بعيداً عن المساجد، وليس هناك مسجد قريب يتمكن الإنسان أن يصلي فيه صلاة الجمعة فإنه ليس عليه جمعة في هذه الحال؛ لأنه معذور بتركها من أجل البعد(16/70)
والمشقة، فالحمد لله تعالى على تيسيره وعلى تسهيله لهذا الدين الذي تعبدنا به سبحانه وتعالى.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: مزارع يعمل في مزرعة بعيدة عن البلد ولا يستطيع أن يصل إلى المسجد ليصلي الجمعة فهل يصليها ظهراً؟ وهل يأثم صاحب المزرعة لعدم نقل هذا المزارع للبلد ليتمكن من الصلاة مع الناس؟ أفتونا مأجورين.
فأجاب فضيلته بقوله: له أن يصلي في هذا المكان ظهراً كل جمعة؛ لأن صاحب المزرعة لا يمكنه من صلاة الجمعة بنقله إليها؛ ولأنه بعيد عن مكان المسجد وليس له ما يوصله إلى المسجد، هو معذور ولا حرج عليه أن يصلي في مكانه ظهراً.
ولا يأثم صاحب المزرعة إلا إذا كان قد شرط عليه عند العقد بأنه يمكنه من الصلاة ويقوم بنقله إلى المسجد فيجب عليه الوفاء بما شرط عليه.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما حكم صلاة العيدين والجمعة للمجاهدين والمرابطين في سبيل الله؟ وهل هناك فرق بين المجاهد والمرابط؟
فأجاب فضيلته بقوله: المجاهد: من يقاتل العدو، والمرابط: هو الذي يكون على الثغور يحميها من العدو بدون(16/71)
قتال، هذا هو الفرق بينهما.
وأما الجمعة والأعياد فإنها لا تكون إلا في القرى المسكونة والمدن، ولا تكون في هذه الأماكن، فإن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يخرج في الغزو ويمكث المدة الطويلة ولا يقيم الجمع كما في غزوة تبوك وغيرها.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: نحن في أرض بادية ونبعد عن أقرب القرى نحو ستين كيلو متراً ويصعب علينا الذهاب إليها لصلاة الجمعة لعدم وجود مواصلات، هل يجوز لنا أن نقيم جمعة في باديتنا ولاسيما نحن حوالي عشرين شخصاً؟
فأجاب فضيلته بقوله: البوادي لا تقام فيها الجمع؛ لأن الجمع إنما تكون في المدن المسكونة، أما البادية فإن الله تعالى قد وضع عنهم صلاة الجمعة فيصلون بدلها ظهراً، وكانت الأعراب في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حول المدينة قاطنون في أماكنهم ومع ذلك لم يأمرهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإقامة الجمع.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما حكم إقامة الجمعة في القرى؟ وهل يشترط أن تكون بالأمصار؟
فأجاب فضيلته بقوله: الجمعة يصح أن تقام بالقرى ولا يشترط أن تكون بالأمصار؛ لأن اشتراط أن تكون بالأمصار ليس له(16/72)
دليل لا من كتاب الله، ولا من سنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما لا دليل له فإنه ليس بشيء؛ لأن التشريع والشروط في التشريع ومقتضيات الصحة، ومقتضيات البطلان كلها إنما تتلقى من الشرع، فإذا لم يوجد لها دليل من الشرع فهي مردودة على قائلها، لقوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الأَْخِرِ ذالِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} . وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» .
ومن أثبت شروطاً ليست في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سواء كانت تلك الشروط في العبادات، أو في المعاملات فإنها شروط مردودة عليه، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مئة شرط» .
وهؤلاء الذين في القرى مستوطنين، هؤلاء مخاطبون بقوله تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُو"اْ إِذَا نُودِىَ لِلصلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} فيجب عليهم إقامة الجمعة في أماكنهم.
أما المسافرون فإنه لا جمعة عليهم إذا لم يكونوا في بلاد تقام فيها الجمعة، فهم في طريقهم في السفر لا يصلون الجمعة، وكذلك لو مروا ببلد لا تقام فيها الجمعة فلا جمعة عليهم، أما إذا(16/73)
مر المسافر في بلد تقام فيه الجمعة وأقام يوم الجمعة في ذلك البلد فإنه يجب عليه حضورها، لقوله تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُو"اْ إِذَا نُودِىَ لِلصلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} فهذا المسافر مؤمن فيدخل في الخطاب.
أما العدد المعتبر في الجمعة فأصح المذاهب في ذلك مذهب أبي حنيفة رحمه الله وهو أن العدد المعتبر ثلاثة فقط، وليس اثني عشر، ولا أربعين رجلاً، فإذا وجد في هذه القرية ثلاثة مستوطنون فإن الجمعة تلزمهم وتنعقد بهم وتصح؛ لأنه لا دليل على اشتراط ما زاد على الثلاثة، والأحاديث الواردة في ذلك إنما هي قضايا أعيان وقعت اتفاقاً لا قصداً وما كان كذلك فهي لا تدل على الاشتراط.
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: أنا أسكن في قرية يبلغ سكانها من الرجال واحداً ًوعشرين رجلاً بالغين مقيمين بها، ولكنهم لا يقيمون صلاة الجمعة، وقد حاولت فيهم أن نصلي الجمعة وأنا مستعد للخطبة بهم والصلاة بهم فأنا أقرؤهم لكتاب الله ولكنهم يرفضون ذلك بحجة أن صلاة الجمعة يلزم لوجوبها عدد أربعين من أهلها، فما الحكم في مثل هذه الحالة هل هم على حق أم أنا وعليهم طاعتي في هذا؟ أفيدونا بارك الله فيكم.(16/74)
فأجاب فضيلته بقوله: الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله، وأصحابه أجمعين.
الجواب على هذا السؤال يبنى على اختلاف أقوال أهل العلم، وذلك أن العلماء اختلفوا رحمهم الله هل يشترط للجمعة عدد معين أو لا يشترط أن يكون معيناً بالأربعين؟
فمن أهل العلم من يقول: إن الجمعة لا تصح حتى يوجد أربعين من أهل وجوبها مستوطنين بالمكان الذي تقام به، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله.
ومنهم من يقول: تجب إقامة الجمعة إذا وجد في المكان اثني عشر رجلاً مستوطناً فيه.
ومنهم من يقول: تجب إقامة الجمعة إذا وجد ثلاثة فأكثر مستوطنين في هذا المكان.
والقول الراجح: أنها تقام الجمعة إذا وجد في القرية ثلاثة فأكثر مستوطنين؛ لأن الأدلة التي استدل بها من يشترطون الاثني عشر، أو الأربعين ليست واضحة في الاستدلال، والأصل وجوب الجمعة، فلا يعدل عنه إلا بدليل بيِّن، ذلك أن الذين استدلوا بأنه لابد من اثني عشر استدلوا: بأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يخطب الناس يوم الجمعة، فقدمت عير من الشام فانصرف الناس إليها وانفضوا، ولم يبق مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا اثني عشر رجلاً.
والذين استدلوا على اشتراط الأربعين استدلوا: بأن أول جمعة جمعت في المدينة كان عدد المقيمين بها أربعين(16/75)
رجلاً. ومن المعلوم أن العدد في الأول، والعدد في الثاني إنما كان اتفاقاً، بمعنى أنه أقيمت الجمعة فكان الاتفاق أي الذي وافق العدد أربعين رجلاً، وكذلك الذين انصرفوا عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان الاتفاق أن يبقى منهم اثنا عشر رجلاً، مثل هذا لا يمكن أن يستدل به على أنه شرط، إذ من الممكن أن يقال: لو أقيمت الجمعة وكان أقل فليس عندنا دليل على أن الجمعة لا تصح، كما أنه لو بقي أكثر من اثني عشر، أو كان عند إقامة الجمعة أكثر من أربعين، لم يمكننا أن نقول أنه يشترط أن يزيدوا على اثني عشر، أو يزيدوا عن أربعين، على هذا فنرجع إلى أقل جمع ممكن وهو للجمعة ثلاثة لأن الله تعالى يقول: {ياأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُو"اْ إِذَا نُودِىَ لِلصلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} ومعلوم أن المنادي ينادي لحضور الخطيب، فيكون المنادي، والخطيب، والمأمور يسعى إلى الجمعة، وأقل ما يمكن في ذلك ثلاثة، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - وهو الراجح.
أما قضيتكم المعنية في هذه القرية التي في.... فالذي أرى أن تراجع المسؤولين عن شؤون المساجد لدى الجمهورية ثم تمشوا على ما يوجهونكم إليه.
* * *(16/76)
سئل فضيلة الشيخ: بعض العمال لا يأذن لهم كفلاؤهم بصلاة الجمعة بحجة أنهم حراس في المزرعة، وقد قالوا لي: تكلم في الجمعة على كفلائهم أن يأذنوا لهم فما رأيكم؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان هؤلاء العمال بعيدين عن المسجد بحيث لا يسمعون النداء لولا مكبر الصوت وهم خارج البلد فإن الجمعة لا تلزمهم، ويطمئن العمال بأنه لا إثم عليهم في البقاء في المزرعة، ويصلون ظهراً، ويشار على كفيلهم أن يأذن لهم، لأن في ذلك خيراً له وخيراً لهم، وتطييباً لقلوبهم، وربما يكون ذلك سبباً في نصحهم إذا قاموا بالعمل، بخلاف ما إذا لم يأذن لهم، وكثير من العمال يطلبون صلاة الجمعة من أجل أن يلتقوا بأصحابهم ومعارفهم، ولهذا تجدهم يأتون إلى الجمعة ويتحدثون في السوق يتحدثون إلى أن يحضر الإمام، فإذا حضر الإمام دخلوا المسجد.
والمدار على ما سبق إذا سمعوا النداء لولا مكبر الصوت وهم في البلد فليحضروا، وإذا كانوا خارج البلد فليس عليهم شيء.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل يجوز للمسلم أن يصلي في بيته الجمعة إذا كان يسمع صوت الإمام؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يجوز أن تؤدى صلاة الجمعة إلا مع المسلمين في المسجد، ولكن إذا امتلأ المسجد واتصلت(16/77)
الصفوف في الشوارع فلا حرج في الصلاة في الشوارع لأجل الضرورة، وأما أن يصلي الإنسان في بيته، أو في دكانه فإنه لا يجوز ولا يحل له ذلك؛ لأن المقصود من الجمعة والجماعة أيضاً أن يحضر المسلمون بعضهم إلى بعض، وأن يكونوا أمة واحدة، فيحصل فيهم التآلف والتراحم، ويتعلم جاهلهم من عالمهم، ولو أنا فتحنا الباب لكل أحد وقلنا: صلِّ على المذياع، أو صل على مكبر الصوت وأنت في بيتك لم يكن لبناء المساجد وحضور المصلين فائدة؛ ولأنه يؤدي إلى ترك الجمعة والجماعة لو فتح هذا الباب.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ماذا يفعل الإنسان إذا جاء يوم الجمعة والإمام في التشهد من صلاة الجمعة؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا جاء الإنسان والإمام في التشهد في صلاة الجمعة فقد فاتته الجمعة فيدخل مع الإمام ويصلي ظهراً أربعاً؛ لأن الجمعة قد فاتته لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة» ، فإن مفهومه أن من أدرك أقل من ذلك لم يكن مدركاً للصلاة.
وقد روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «من أدرك ركعة من الجمعة فقد أدرك» . أي: فقد أدرك صلاة الجمعة إذا أتى بالركعة الثانية.(16/78)
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد، أفتونا جزاكم الله خيراً في هذه المسألة: حصل أن سها الخطيب وخطب بالناس خطبة واحدة، صلى بعدها بالناس، والسؤال يا فضيلة الشيخ هو: هل هذه الجمعة صحيحة أم لا؟ وهل تلزم الإعادة للإمام والمأمومين، أم الإمام فقط، فيصليها ظهراً؟ وفقكم الله وسدد خطاكم وجزاكم عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء؟
فأجاب فضيلته بقوله: بسم الله الرحمن الرحيم.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، يجب على الإمام والمأمومين أن يعيدوها ظهراً. 24/3/ 1416هـ.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ذكر الفقهاء رحمهم الله تعالى أنه يشترط لصحة خطبة الجمعة: البداءة بالحمد، والصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقراءة آية، والوصية بتقوى الله، ونرى قلة قليلة من الخطباء لا يتقيدون بذلك مما يحدث بعض البلبلة في صفوف المصلين فما توجيهكم؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان جماعة المسجد يرون ذلك فإن من الحكمة مراعاتهم في ذلك؛ لأن ذلك ليس بمحرم،(16/79)
ومراعاة الناس في مثل ذلك مما جاءت به الشريعة، فقد ترك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بناء الكعبة على قواعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام مراعاة لأحوال الناس.
ولا شك أن البداءة بالحمد، والصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقراءة آية، والأمر بالتقوى من كمال الخطبة، فكل ما كان من الكمال فهو مطلوب. والله الموفق.
* * *(16/80)
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد الصالح العثيمين إلى الأخ المكرم. حفظه الله تعالى
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
قرأت كتابكم المؤرخ في 1/2/1241هـ وفيه مسائل:
المسألة الأولى: تفريق السورة الواحدة بين الركعتين، وهذا جائز ولا منع فيه، وقد جاءت به السنة، وعمل الناس عليه قديماً وحديثاً.
المسألة الثانية: القراءة من أثناء السورة وهذا قد ثبتت به السنة في النافلة (في سنة الفجر) وما ثبت في النفل ثبت في الفرض إلا بدليل، ولهذا لما ذكر الصحابة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصلي في السفر على راحلته قالوا: «غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة» ، وهذا يدل على أنهم يعتبرون ما ثبت في النفل ثابتاً في الفرض، فذكروا هذا القيد لئلا يلحق أحد الفريضة بالنافلة في هذا الحكم.
المسألة الثالثة: ذكرتم في أثناء كلامكم أن رأيي منع الإمام من قراءة بعض السورة، وأنا لست أرى هذا، بل أرى أن للمصلي(16/81)
أن يقرأ سورة كاملة، أو بعض سورة من أولها، أو آخرها، أو وسطها لعموم قوله تعالى: {فَاقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءَانِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَى وَءَاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِى الأَْرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللهِ وَءَاخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُواْ الصلاةَ وَءَاتُواْ الزكاةَ وَأَقْرِضُواُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَِنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} لكن الأفضل أن يقرأ من المفصل حسب التفصيل المعروف، ليسهل حفظه على المأمومين؛ ولأن الغالب أنه محفوظ عند كثير من المصلين فيفتحون على الإمام إذا أخطأ.
المسألة الرابعة: هل القتل بالكهرباء قتل بالنار؟
وجوابه: أنه ليس قتلاً بالنار، ودليل ذلك أنه لا يحترق المقتول ولا ثيابه، وإنما قتل بالصعق صعق الكهرباء فيجمد الدم ويتوقف نهائياً.
المسألة الخامسة: الضابط في الاستشهاد بالشعر في خطبة الجمعة أن لا يكثر منه، وأن يكون مناسباً للموضوع (موضوع الخطبة) وأن لا يكون من شعر من لا خير فيه من شعراء العصر أو غيرهم؛ لأن في إنشاد شعره رفعة له، وتغريراً للناس بالشاعر.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته 16/4/1412هـ.(16/82)
شرح خطبة الحاجة
الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإننا في هذا اللقاء نتكلم عن معاني هذه الخطبة التي ابتدأنا بها حديثنا، التي تسمى: خطبة الحاجة، والتي علمها النبي صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم، كي يبدءوا بها كلامهم وخطبهم.
«إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره» . الحمد: وصف المحمود بالكمال محبة وتعظيماً وإجلالاً، فإذا وصفت ربك بالكمال، فهذا هو الحمد، لكن لابد أن يكون مصحوباً بالمحبة والتعظيم والإجلال، لأنه إن لم يكن مصحوباً بذلك سمي مدحاً لا حمداً، ومن ثم نجد بعض الشعراء يمدحون بعض الناس مدحاً عظيماً بالغاً، لكن لو فتشت عن قلبه لوجد أنه خال من محبة هذا الشخص، ولكنه يمدحه إما لرجاء منفعة، أو لدفع مضرة.
أما حمدنا لله عز وجل فإنه حمد محبة وتعظيم وإجلال، إذ أن محبة الله تعالى فوق كل محبة، ومحبة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوق محبة كل مخلوق، ولهذا يجب علينا أن يكون الله تعالى ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(16/83)
أحب إلينا مما سواهما، يجب علينا أن تكون محبة الله تعالى ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوق محبة أنفسنا، وأهلنا، ووالدينا، وأولادنا، أما الله تعالى فلما له من الكمال والإفضال، فنعمه علينا لا تحصى، قال الله تعالى: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ} . وقال عز وجل: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَآ إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} . وأما النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فلأنه أعظم الناس حقاً علينا، به هدانا الله، وبه أرشدنا، وبه دلنا على كل خير، به بُين لنا كل شر، به استدللنا على صراط ربنا عز وجل الموصل إلى دار كرامته ورضوانه.
فلهذا من لم يكن قلبه مملوءاً من محبة الله تعالى، ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن لم يكن مقدماً لمحبة الله تعالى، ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على من سواهما، فليعلم أن في قلبه مرضاً، وليحرص على أن يعالج هذا المرض. قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما» ، وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من ولده، ووالده، والناس أجمعين» .
إذاً الحمد هو وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم(16/84)
والإجلال هذا هو الحمد، وإذا كررت هذا الوصف سمي ثناء، وعليه فالثناء تكرار وصف المحمود بالكمال، ويدل على هذا الفرق ما ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال: الحمد لله رب العالمين، قال الله حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال: أثنى علي عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين، قال: مجَّدني عبدي» .
تصور أن الله عز وجل يناجيك وأنت في صلاتك، يسمعك من فوق سبع سموات ويرد عليك، إذا قلت: الحمد لله رب العالمين. قال الله: حمدني عبدي، وإذا قلت: الرحمن الرحيم. قال: أثنى علي عبدي، وإذا قلت: مالك يوم الدين، قال: مجدني عبدي. والتمجيد: التعظيم. ونقرأ الفاتحة على أنها ركن لا تصح الصلاة إلا بها، لكننا لا نشعر بهذه المعاني العظيمة، لا نشعر أننا نناجي الله سبحانه وتعالى.
من يشعر بهذا يجد لذة عظيمة للصلاة، ويجد أن قلبه استنار بها، وأنه خرج منها بقلب غير القلب الذي دخل فيها به.
«الحمد لله نحمده» جملة نحمده: جملة فعلية، والحمد لله جملة اسمية، فجاءت الجملة الفعلية بعد الجملة الإسمية لتأكيد تكرار الحمد، كأننا مستمرون على حمد الله عز وجل.(16/85)
و «نستعينه» يعني نطلب منه العون على كل شيء من شؤوننا، وكل أمر من أمورنا، وأول ما يدخل في ذلك ما نحن فيه من الصلاة تقول: «إياك نعبد وإياك نستعين» على كل شيء، ومنها أن نستعينك على أداء الصلاة على الوجه الذي يرضيك عنا، وعندما تبدأ بهذه الخطبة، بين يدي الحاجة فإنك تستعين الله تعالى على هذه الخطبة التي ستقولها، وتسأله العون على الحاجة التي افتتحها بهذه الخطبة.
وفي الحديث: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: «كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن» . والاستخارة استعانة بالله عز وجل، استعن بالله في كل شيء، إذا أردت أن تقضي حاجتك فاستعن بالله في ذلك، لا تحقرن شيئاً حتى عند الوضوء، عند الخروج إلى المسجد، عند أي عمل، اجعل زادك الاستعانة بالله عز وجل.
و «نستغفره» نسأله المغفرة، والمغفرة هي ستر الذنب مع التجاوز عنه، هذه المغفرة أن يستر الله عن العباد ذنبك، وأن يعفو عنك هذا الذنب.
ومعلوم أن الإنسان له ذنوب بينه وبين الله، ذنوب خفية في القلب، وذنوب خفية في الجوارح، لكن لا يعلم بها الناس، أرأيتم لو أن الله كشفها إذن لكانت محنة عظيمة، ولكن من رحمة الله عز وجل أن سترها عن العباد، فأنت تسأل الله أن يغفر لك، أي أن يستر عليك الذنوب، وأن يتجاوز عنها، فانتبه لهذا المعنى.(16/86)
أنت عندما تقول: أستغفر الله، تسأل الله شيئين:
الأول: ستر الذنب.
والثاني: التجاوز عنه، بحيث لا يعاقبك الله عليه.
ويدل لهذا ما رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «إن الله يدني المؤمن، فيضع عليه كنفه ويستره، فيقول: أتعرف ذنب كذا، أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي رب، حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه هلك، قال: سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم» .
تنبيه: نجد في بعض كتب العلماء الذين يبدأونها بهذه الخطبة «نستغفره ونتوب إليه» ولكن بعد التحري لم نجد في الحديث «ونتوب إليه» .
و «نعوذ بالله من شرور أنفسنا» «نعوذ» بمعنى: نعتصم بالله من شرور أنفسنا، وهل في النفس شر؟ الجواب: نعم، في النفس شر، قال الله تعالى: {وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِى" إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّو"ءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّى إِنَّ رَبِّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . والنفوس ثلاث:
الأولى: نفس شريرة، وهي الأمارة بالسوء.
الثانية: نفس خيّرة، وهي المطمئنة تأمر بالخير.
الثالثة: نفس لوامة، وكلها مذكورة في القرآن.(16/87)
فالنفس الشريرة التي تأمر بالسوء مذكورة في سورة يوسف {وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِى" إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّو"ءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّى إِنَّ رَبِّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . والنفس المطمئنة الخيرة التي تأمر بالخير مذكورة في سورة الفجر {ياأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِى إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِى فِى عِبَادِى * وَادْخُلِى جَنَّتِى} .
والنفس اللوامة مذكورة في سورة القيامة {لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} .
فهل النفس اللوامة غير النفسين الخيرة والسيئة؟ أو هي وصف للنفسين؟
من العلماء من يقول: إنها نفس ثالثة.
ومنهم من يقول: بل هي وصف للنفسين السابقتين، فمثلاً: النفس الخيرة تلومك إذا عملت سوءاً، أو فرطت في واجب، والنفس الشريرة تلومك إذا فعلت خيراً أو تجنبت محرماً تلومك في ذلك؛ كيف تحجر على نفسك؟ لماذا لا تتحرر؟ لماذا لا تنفذ كل ما تريد؟
وأيًّا كان الأمر سواء كانت نفساً ثالثة، أو هي وصف للنفسين الأمارة بالسوء والمطمئنة، فإن للنفس الشريرة علامة تعرف بها وهي أن تأمرك بالشر، تأمرك بالكذب، تأمرك بالغيبة، تأمرك بالغش، تأمرك بالسرقة، تأمرك بالزنا، تأمرك بشرب الخمر ونحو ذلك، هذه هي النفس الشريرة التي تأمر بالسوء.(16/88)
النفس الخيرة بالعكس تأمرك بالخير، بالصلاة، بالذكر، بقراءة القرآن، بالصدقة، بغير ذلك مما يقرب إلى الله.
ونحن كلنا نجد في نفوسنا مصارعة بين هاتين النفسين، والموفق من عصمه الله ووقاه شر نفسه، ولهذا نقول: نعوذ بالله من شرور أنفسنا، فأنفسنا فيها شر إذا لم يعصمك الله عز وجل من شر نفسك هلكت {وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِى" إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّو"ءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّى إِنَّ رَبِّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .
«ومن سيئات أعمالنا» أيضاً الأعمال السيئة لها آثار سيئة، كما قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِى عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} . والسيئة تجلب السيئة، وتقود الإنسان إلى السيئة الأخرى، قال الله تعالى: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} ولهذا قال العلماء رحمهم الله: إن المعاصي بريد الكفر، يعني إذا هانت المعاصي في نفسك، هانت الصغيرة، ثم هانت الكبيرة، ثم هان الكفر في نفسك فكفرت والعياذ بالله.
ولهذا يجب على الإنسان أول ما يشعر بالمعصية أن يستغفر الله منها، وأن يلجأ إلى الله عز وجل بالإنابة والتوبة، حتى تمحى آثار هذه المعصية وحتى لا يختم على القلب، وحتى لا يصل(16/89)
الإنسان إلى هذه الدرجة، التي أشار الله إليها في قوله: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} .
نسأل الله تعالى أن يصلح لنا ولكم العلانية والسريرة، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.
* * *(16/90)
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل يسن للخطيب أن يكثر من خطبة الحاجة في افتتاح خطب الجمعة، أو ينوع؟
فأجاب فضيلته بقوله: الأصل أن خطبة الحاجة هي الأفضل، لكن لا حرج أن ينوع، حتى لا يظن الناس أن خطبة الحاجة أمر واجب، ولأنه ربما يمل الناس إذا أخذ يكرر هذه الخطبة في كل جمعة.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل ورد في خطبة الحاجة «ونستهديه» حيث إننا نسمع بعض الناس يقولها؟ وما صحة الحديث الذي جاء فيه «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به» ؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذان سؤالان في سؤال واحد. أما الفقرة الأولى: قوله: «ونستهديه» فهي لم ترد في خطبة الحاجة، لكن بعض الناس يزيدها.
ويقول البعض أيضاً: «من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشداً» ويعدل عن قوله: «ومن يضلل فلا هادي له» وهذا خلاف الوارد في السنة. والأمر في هذا واسع إن شاءالله، لكن الوارد أفضل.
وأما حديث: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما(16/91)
جئت به» فهو حديث ضعيف، لكن بعض أهل العلم حسنه، وهو في الحقيقة من حيث المعنى صحيح، لأن هوى الإنسان إذا لم يكن تبعاً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإيمانه ناقص بلا شك.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ذكرتم في تفسير «الحمد» الوارد في الخطبة أنه وصف المحمود بالكمال محبة وتعظيماً وإجلالاً. فهل يمكن أن نقول بأن تعريف الحمد هو الثناء على الجميل بالجميل؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا ليس بصحيح، فالثناء على الجميل بالجميل هو معنى الشكر، ثم إننا أيدنا ما ذكرناه بأن الحمد ليس هو الثناء، بل الثناء تكرار الحمد، أيدناه بالحديث الصحيح الذي ذكرناه أثناء كلامنا على هذا.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ذكرتم خطبة الحاجة، ونحن نسمع أن الذين يعقدون النكاح للناس يبدأون بها النكاح، فهل ورد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنها تقرأ عند عقد النكاح؟ وما السر في هذا؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا شك أن من أعظم الحوائج حاجة(16/92)
النكاح، فإن حاجة الإنسان إلى النكاح قد تكون مثل حاجته إلى الطعام والشراب، ولهذا يجب على الإنسان إذا كان له أولاد يحتاجون للنكاح وهو غني أن يزوجهم، كما يجب أن ينفق بالطعام والشراب واللباس والمسكن، فإن لم يفعل وقدروا على أخذ شيء من ماله ولو خفية، ليتزوجوا به فلهم ذلك، كما أذن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لهند بنت عتبة، حين شكت إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زوجها الذي لا يعطيها ما يكفيها وولدها، قال: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» .
فإذا كان النكاح من أعظم حوائج الإنسان، فإنه يسن أن تتقدم هذه الخطبة عند عقد النكاح، ولكن ليست شرطاً، فلو أن رجلاً أراد أن يزوج ابنته، وأتى بشاهدين، وقال للخاطب: زوجتك بنتي فلانة، قال: قبلت، بدون خطبة. لكان جائزاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم زوج الرجل الذي طلب منه أن يزوجه المرأة التي وهبت نفسها له صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بدون أن تتقدم الخطبة.
وفي هذه القصة أن امرأة جاءت للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقالت: يا رسول الله وهبت نفسي لك، فصعَّد فيها النظر وصوَّبه، ولكنه لم يردها، إلا أنه لحسن خلقه لم يقل لا أريدك وإنما سكت، فقام رجل فقال: يا رسول الله، إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها، وهذا من كمال الأدب في الصحابة، فإن(16/93)
الرجل لم يقل: مباشرة زوجنيها ولكن قال: إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها. قال: «ما تصدقها؟» لأن المرأة لا تحل إلا بصداق، لقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُمْ مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَئَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} . قال: «ما تصدقها؟» قال: يا رسول الله أصدقها إزاري، وليس عنده إلا إزار. ما عنده رداء، قال: «إن أعطيتها إياه بقيت بلا إزار، وإن بقي عليك بقيت بدون صداق، التمس ولو خاتماً من حديد» ، فذهب الرجل فالتمس، فلم يجد شيئاً، فقال له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هل معك شيء من القرآن؟» قال: نعم معي سورة كذا وكذا، قال: «زوجتكها بما معك من القرآن» يعني فعلمها ما معك من القرآن فتزوجها الرجل.
إذاً فخطبة الحاجة المتقدمة تقرأ عند عقد النكاح على وجه الاستحباب، فلو لم تقرأ وقال أبو الزوجة: زوجتك ابنتي فقال الزوج: قبلت، صح العقد.
* * *
وسئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: عن المناسبات التي تقال فيها هذه الخطبة غير النكاح؟
فأجاب فضيلته بقوله: تقال هذه الخطبة عند كل حاجة، تقال مثلاً في مجلس الصلح، إذا أردت أن تصلح بين اثنين أو بين زوجين، فاقرأ هذه الخطبة، وتقال أيضاً إذا أردت أن تتكلم في(16/94)
الناس بأمر هام، فاجعل هذه الخطبة بين يدي كلامك، وكذلك تقال في خطب الجمعة والعيدين، لأنها مشروعة عند كل أمرٍ هام.
* * *
وسئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: عن حكم اعتماد الخطيب على عصا؟
فأجاب فضيلته بقوله: إن احتاج إلى ذلك لضعفه فهو سنة؛ لأن القيام سنة، وما أعان على السنة فهو سنة، أما إذا لم يكن هناك حاجة إلى حمل العصا فلا حاجة إليه.
* * *
وسئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل من السنة أن يلتفت الخطيب يميناً وشمالاً؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا ليس من السنة؛ لأنه إن اتجه يميناً أضر بأهل اليسار، وإن اتجه إلى اليسار أضر بأهل اليمين، والمستحب أن يقصد تلقاء وجهه، ومن التفت إليه من المستمعين فلا حرج لأنه يروى أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يفعلونه.(16/95)
* * *
وسئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل من السنة أن يحرك الخطيب يديه؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا ليس من السنة أيضاً.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ذكر البخاري في كتاب يوم الجمعة حديثاً قال: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جلس ذات يوم على المنبر وجلسنا حوله؟ هل يدل ذلك على مشروعية التحول أو الالتفات إلى الإمام حتى ولو كان في طرف الصف؟
فأجاب فضيلته بقوله: معنى «نحن حوله» أننا نحرص أن نكون قريبين منه، وليس المعنى أنهم يتحوطون عليه، أو يستديرون عليه، وإنما فيه أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، كان يخطب وكانوا يحرصون أن يكونوا قريبين منه، وإلا فهو يخطب الناس وهم على صفوفهم، بل ورد حديث ينهى عن التحلق يوم الجمعة لما في ذلك من التضييق على المصلين في(16/96)
المسجد، وفيه أيضاً ما توهمه السائل من أن المراد أنهم يتحوطون حوله ويتحلقون.
* * *
وسئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: عن حكم الالتفات بالرأس للنظر إلى الخطيب في الجمعة؟
فأجاب فضيلته بقوله: الالتفات بالرأس لا بأس، يعني أن ينظر الإنسان إلى الخطيب حال الخطبة هذا لا بأس به، بل هذا طيب، لأنه يشد انتباه الإنسان أكثر، وقد روي عن الصحابة رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كان إذا خطب استقبلوه بوجوههم.
* * *
سئل فضيلة الشيخ: هناك خطيب يكثر في خطبته من قول: «قال حبيب الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» فما حكم ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: من المعلوم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حبيب إلى الله ولا شك، ولكن خيرٌ من أن نقول إنه حبيب الله، أن نقول: إنه خليل الله؛ لأن الخلة أعلى أنواع المحبة، فإذا وصفت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحبيب نزَّلت من مرتبة الخلة إلى المحبة، فالأولى أن نقول خليل الله، لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً» ، ويدلك على أن الخلة أعلى من المحبة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر، ولكن(16/97)
إخوة الإسلام ومودته» .
مع أن أبا بكر رضي الله عنه حبيب إلى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو أحب الرجال إلى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعائشة رضي الله عنها حبيبة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وزيد بن حارثة رضي الله عنه حبيب الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأسامة بن زيد رضي الله عنه حبيب الرسول عليه الصلاة والسلام، وكل الصحابة رضي الله عنهم أحباء للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولكن لم يتخذ واحداً منهم خليلاً؛ لأن الخلة أعلى أنواع المحبة، والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أراد أن تكون خلته لله سبحانه وتعالى، ويدل لذلك أيضاَ أن محبة الله للمؤمنين عامة، فالله يحب المؤمنين، ويحب المتقين، ويحب المقسطين، ويحب الصابرين، ولكن لا نعلم أنه اتخذ خليلاً إلا محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإبراهيم عليه الصلاة والسلام، وبهذا تبين أن الذين يصفون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمحبة ويدعون الخلة أن فيهم نوعاً من التقصير، وأن الأولى أن يصفوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخليل الله، عن حبيب الله.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل يشرع رفع اليدين عند الدعاء ومسحهما بعد أداء السنن والرواتب قبل الصلاة وبعدها، وعند دعاء الإمام آخر الخطبة يوم الجمعة؟(16/98)
فأجاب فضيلته بقوله: هذا ليس من المشروع أن الإنسان إذا أتم الصلاة رفع يديه ودعا، وإذا كان يريد الدعاء فإن الدعاء في الصلاة أفضل من كونه يدعو بعد أن ينصرف منها، ولهذا أرشد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى ذلك في حديث ابن مسعود رضي الله عنه حين ذكر التشهد قال: «ثم ليتخير من المسألة ما شاء» .
وأما ما يفعله بعض العامة من كونهم كلما صلوا تطوعاً رفعوا أيديهم حتى إن بعضهم تكاد تقول: إنه لم يَدْعُ لأنك تراه تقام الصلاة وهو في التشهد من تطوعه فإذا سلم رفع يديه رفعاً كأنه والله أعلم رفع مجرد، ثم مسح وجهه، كل هذا محافظة على هذا الدعاء الذي يظنون أنه مشروع وهو ليس بمشروع.
فالمحافظة عليه إلى هذا الحد يعتبر من البدع.
وأما رفع الأيدي والإمام يخطب يوم الجمعة فإن ذلك ليس بمشروع أيضاً، وقد أنكر الصحابة رضي الله عنهم على بشر بن مروان حين رفع يديه في خطبة الجمعة.
ولكن يستثنى من ذلك الدعاء بالاستسقاء، فإنه ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه رفع يديه يدعو الله تعالى بالغيث وهو في خطبة الجمعة، ورفع الناس أيديهم معه، وما عدا(16/99)
ذلك فإنه لا ينبغي رفع اليدين في حال الدعاء في خطبة يوم الجمعة.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما حكم رد السلام، والتأمين على دعاء الخطيب، والصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حال خطبة الإمام في يوم الجمعة؟
فأجاب فضيلته بقوله: السلام حال خطبة الجمعة حرام، فلا يجوز للإنسان إذا دخل والإمام يخطب الجمعة أن يسلم، ورده حرام أيضاً، ووجه كون رده حراماً أنه كلام.
وقد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: «إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب يوم الجمعة فقد لغوت» ، مع أنك ناه عن منكر، ومع ذلك يلغو، أي يحرم أجر الجمعة.
وأما الصلاة على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عند ذكره في الخطبة فلا بأس بذلك، لكن بشرط أن لا يجهر به، لئلا يشوش على غيره، أو يمنعه من الإنصات.
وكذلك التأمين على دعاء الخطيب لا بأس به بدون رفع صوت؛ لأن التأمين دعاء.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما حكم رفع اليدين في دعاء خطبة الجمعة؟(16/100)
فأجاب فضيلته بقوله: هذا غير مشروع، ولهذا أنكر الصحابة على بشر بن مروان حين رفع يديه في خطبة الجمعة.
ويشرع الرفع في حالين: الاستسقاء، وهو طلب نزول الماء، وكذلك طلب رفع المطر. ودليل ذلك ما رواه أنس رضي الله عنه من حديث الرجل الذي دخل والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطب فقال: «هلكت الأموال ... » فرفع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودعا، وذكر أنس رضي الله عنه أن الرجل جاء في الجمعة التي بعدها وقال: يا رسول الله غرق المال، فرفع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يديه وقال: «اللهم حوالينا ولا علينا» إلى آخر الحديث.
فالخطيب لا يرفع يديه إلا في هذين الموضعين. والناس لا يرفعون أيديهم إلا إذا رفع الخطيب يده؛ لأن الصحابة رفعوا أيديهم حين رفع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يده. ففي حديث أنس رضي الله عنه المتقدم عند البخاري «فرفع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يديه يدعو، ورفع الناس أيديهم مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعون» .
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: عن حكم الدعاء للمسلمين في خطبة الجمعة، والدعاء للأئمة؟
فأجاب فضيلته بقوله: الدعاء بذلك جائز، وفيه حديث عن(16/101)
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «للمؤمنين والمؤمنات» لكن فيه مقال.
والدعاء للأئمة حسن؛ لأن صلاحهم من أسباب صلاح الأمة.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: عن حكم رفع اليدين في دعاء القنوت؟ وما حكم رفع اليدين حال دعاء الخطيب؟ وكذلك رفع السبابة عند الدعاء، وعند ذكر الله في الخطبة؟
فأجاب فضيلته بقوله: أما رفع اليدين في دعاء القنوت فقد رواه البيهقي بإسناد حسن أو صحيح عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وأما رفع اليدين عند الدعاء في الخطبة فقد أنكره الصحابة رضي الله عنهم على بشر بن مروان حين خطب فرفع يديه في دعاء الخطبة، إلا أنه قد ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه لما دخل الأعرابي والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطب يوم الجمعة قال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يغيثنا، فرفع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يديه وقال: «اللهم أغثنا، أللهم أغثنا» ، فتبين بهذا أن رفع اليدين في خطبة الجمعة جائز في الاستسقاء، والاستصحاء، وهو طلب(16/102)
الصحو، والناس كانوا قد رفعوا أيديهم مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين دعا بالاستسقاء، وهذا دليل على أن المأمومين الذين يستمعون الخطبة يرفعون أيديهم في الدعاء بالاستسقاء فقط.
وأما إذا دعا الخطيب يوم الجمعة بغير ذلك فإنه لا يرفع يديه، ولا يشرع للمأمومين المستمعين إلى خطبته أن يرفعوا أيديهم أيضاً.،
وأما رفع السبابة عند الدعاء فهذا ورد في الجلوس للتشهد، وفي الجلوس بين السجدتين، وهو أن الإنسان يشير بإصبعه السبابة يحركها يدعو الله عز وجل بها.
وكذلك ورد في خطبة الجمعة عند ذكر الله عز وجل، أو عند دعائه في غير الاستسقاء الإشارة بالسبابة.
وأما ما يفعله بعض العامة إذا مر ذكر اسم الله تعالى في قراءة الإمام رفع اصبعه تعظيماً لله فهذا لا أعلم له أصلاً، والله أعلم.
* * *
وسئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما حكم الزيادة على الأدعية الثابتة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثل: «رب أجرني من النار» فهل يجوز أن يزيد ووالدي وإخواني؟(16/103)
فأجاب فضيلته بقوله: ما جاء عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأدعية فالأولى المحافظة فيه على الصيغة الواردة بدون زيادة، ثم بعد ذلك تدعو لمن أحببت.
* * *
وسئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: إذا حضر الإنسان لصلاة الجمعة فهل يجوز له أن يدعو الله أثناء خطبة الجمعة؟
فأجاب فضيلته بقوله: الدعاء أثناء خطبة الجمعة لا يجوز؛ لأنه يشغل عن استماع الخطبة، لكن لو ذكر الخطيب الجنة، أو النار وقلت: أسأل الله من فضله، أو أعوذ بالله من النار من غير أن يشغلك عن سماع الخطبة، أو تشوش على غيرك فلا بأس.
* * *
وسئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: عن حكم الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أثناء الخطبة.
فأجاب فضيلته بقوله: الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند ذكره عليه الصلاة والسلام في الخطبة إذا لم يشغلك عن سماعها فلا بأس به.
* * *
وسئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: في بعض الجوامع يقطع المنبر الصف الأول ما حكم ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: ينبغي للإمام إذا كان المسجد واسعاً(16/104)
وكان المنبر يقطع الصف أن يتأخر حتى يكون الصف الذي خلفه متصلاً بعضه ببعض غير مفصول بالمنبر؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتقون الصف بين السواري أي بين الأعمدة لأنها تقطع الصف، فأما إذا لم يمكن بأن كان العدد كثيراً ولابد من تقدم الإمام فحينئذ يكون قطع الصف بالمنبر لحاجة ولا بأس به.
* * *
وسئل فضيلته - رحمه الله تعالى -: هل التأمين عند دعاء الإمام في آخر خطبة صلاة الجمعة من البدع؟ أفتونا جزاكم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
فأجاب فضيلته بقوله: ليس هذا من البدع، التأمين على دعاء الخطيب في الخطبة إذا أخذ يدعو للمسلمين فإنه يستحب التأمين على دعائه، لكن لا يكون بصوت جماعي وصوت مرتفع، وإنما كل واحد يؤمِّن بمفرده، وبصوت منخفض، حيث لا يكون هناك تشويش، أو أصوات مرتفعة، وإنما كل يؤمِّن على دعاء الخطيب سرّاً ومنفرداً عن الآخرين.
* * *(16/105)
وسئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما حكم رفع اليدين للمأموم حينما يدعو الإمام أثناء خطبة الجمعة؟ وما حكم التأمين بصوت جماعي؟
فأجاب فضيلته بقوله: رفع اليدين عند الدعاء في الخطبة إنما يشرع في دعاء الاستسقاء فقط، لما جاء في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، فإذا دعا الإمام بالاستسقاء أي قال: اللهم اسقنا، اللهم أغثنا، فهنا ترفع الأيدي يرفعها الخطيب والمستمعون كلهم، وفي غير ذلك لا رفع لا للإمام ولا للمأمومين، ولهذا أنكر الصحابة رضي الله عنهم على بشر بن مروان حين رفع يديه بالدعاء في خطبة الجمعة، وإنما يشير الإمام إشارة فقط عند الدعاء إشارة إلى علو المدعو وهو الله تبارك وتعالى.
أما التأمين جهراً فإن ذلك ينافي كمال الاستماع إلى الخطبة، لكن إذا أراد أن يؤمن المأموم فليؤمن سرًّا ولا حرج عليه في ذلك.
* * *(16/106)
رسالة
فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين حفظه الله تعالى.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد.
فنأمل الإفادة عن رفع الأيدي في الدعاء وخاصة في الجمعة؟
فأجاب فضيلته بقوله: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته وبعد.
سبق منا جواب حول هذه المسألة إليكم صورة منه:
اعلم أن دعاء الله تعالى من عبادته؛ لأن الله تعالى أمر به وجعله من عبادته في قوله: {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى" أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} .
وإذا كان الدعاء من العبادة فالعبادة تتوقف مشروعيتها على ورود الشرع بها في: جنسها، ونوعها، وقدرها، وهيئتها، ووقتها، ومكانها، وسببها.
ولا ريب أن الأصل في الدعاء مشروعية رفع اليدين فيه؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعل رفع اليدين فيه من أسباب الإجابة حيث قال فيما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً» الحديث، وفيه: ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام،(16/107)
وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك» ، وفي حديث سلمان رضي الله عنه الذي رواه أحمد وغيره أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن الله حيي كريم، يستحي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفراً» .
لكن ما ورد فيه عدم الرفع كان السنة فيه عدم الرفع، والرفع فيه بدعة، سواء ورد عدم الرفع فيه تصريحاً، أو استلزاما.
فمثال ما ورد فيه عدم الرفع تصريحاً: الدعاء حال خطبة الجمعة، ففي صحيح مسلم عن عمارة بن رؤيبة أنه رأى بشر بن مروان على المنبر رافعاً يديه فقال: «قبح الله هاتين اليدين، لقد رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يزيد على أن يقول بيده هكذا، وأشار بأصبعه السبابة» .
ويستثنى من ذلك ما إذا دعا الخطيب باستسقاء فإنه يرفع يديه والمأمومون كذلك، لما رواه البخاري من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه في قصة الأعرابي الذي طلب من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يخطب يوم الجمعة أن يستسقي قال: «فرفع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يديه يدعو ورفع الناس أيديهم معه يدعون» . وقد ترجم عليه البخاري: «باب رفع الناس أيديهم مع الإمام في الاستسقاء» .(16/108)
وعلى هذا يحمل حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الذي رواه البخاري أيضاً عنه قال: «كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء، وأنه يرفع حتى يرى بياض إبطيه» فيكون المراد به دعاءه في الخطبة، ولا يرد على هذا رفع يديه في الخطبة للاستصحاء، لأن القصة واحدة، وقد أيد صاحب الفتح (ابن حجر رحمه الله) حمل حديث أنس رضي الله عنه على أن المراد بالنفي في حديث أنس نفي الصفة لا أصل الرفع كما في [ص (715) ج (2) الخطيب] .
وأيًّا كان الأمر فإن حديث عمارة يدل على أنه لا ترفع الأيدي في خطبة الجمعة، وإنما هي إشارة بالسبابة، وحديث أنس رضي الله عنه يدل على رفعها في الاستسقاء والاستصحاء، فيؤخذ بحديث عمارة فيما عدا الاستسقاء، والاستصحاء ليكون الخطيب عاملاً بالسنة في الرفع والإشارة بدون رفع.
ومثال ما ورد فيه عدم الرفع استلزاماً: دعاء الاستفتاح في الصلاة، والدعاء بين السجدتين، والدعاء في التشهدين، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يضع يديه على فخذيه في الجلوس، ويضع يده اليمنى على اليسرى في القيام، ولازم ذلك أن لا يكون رافعاً لهما.(16/109)
وأما الدعاء أدبار الصلوات ورفع اليدين فيه فإن كان على وجه جماعي بحيث يفعله الإمام ويؤمن عليه المأمومون فهذا بدعة بلا شك، وإن كان على وجه انفرادي فما ورد به النص فهو سنة، مثل الاستغفار ثلاثاً، فإن الاستغفار طلب المغفرة وهو دعاء، ومثل قول: «اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» عند من يرى أن ذلك بعد السلام، ومثل قول: «رب أجرني من النار» ، سبع مرات بعد المغرب والفجر إلى غير ذلك مما وردت به السنة.
أما ما لم يرد في السنة تعيينه بعد السلام فالأفضل أن يدعو به قبل السلام، لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث ابن مسعود رضي الله عنه حين ذكر التشهد: «ثم يتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو» ، رواه البخاري، ولأنه في الصلاة يناجي ربه فينبغي أن يكون دعاؤه قبل أن ينصرف. وإن دعا بعد السلام فلا حرج، لكن لا ينبغي أن يتخذ ذلك سنة راتبة فيلحقه بالوارد، لما سبق في أول الجواب من أن العبادات تتوقف على الوارد عن الشارع: في جنسها، ونوعها، وقدرها، وهيئتها، ووقتها، ومكانها، وسببها.
والله الموفق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه ومن اتبعه في هديه.(16/110)
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: نرى كثيراً من خطباء المساجد يداومون على إكمال خطبة الجمعة بعد الانتهاء مباشرة من الصلاة، والبعض ينشأ موضوعاً جديداً، بل وبعضهم له درس ثابت. وحجتهم في ذلك انتهاز فرصة تجمع الناس حيث يدخل المسجد أناس لا يدخلونه إلا يوم الجمعة فقط، فهل فعلهم هذا صحيح وموافق لهدي الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟ أفتونا مأجورين جزاكم الله خيراً.
فأجاب فضيلته بقوله: لا شك أن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقد كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يعلن ذلك في خطبته يوم الجمعة أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولا شك أن أهدى الناس وأقومهم طريقاً هو محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولا شك أن أعلم الناس بما يصلح الناس هو محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم. فهل شرع خطبتين اثنتين قبل الصلاة وواحدة بعدها؟!
الجواب: كل يعلم بأنه لم يفعل هذا، وإذا كان كذلك فلسنا والله خيراً من محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم في هداية الخلق، لذلك أرى أن ذلك الفعل الذي ذكرت في السؤال وهو أن الخطيب يكمل موضوع الخطبة بعد الصلاة، أو يأتي بموضوع(16/111)
جديد أرى أن هذا من البدع المنكرة.
وقد قال الإمام أحمد رحمه الله: لا يستمع لكلمة تقال بعد صلاة الجمعة يعني نهى الناس أن يستمعوا إلا إذا كانت من السلطان، ومعلوم أن السلطان ليس يكتب للناس كل جمعة ولكن في الأمور التي تحدث يكتب وتقرأ بعد صلاة الجمعة، ونصيحتي لإخواني الخطباء أن يتبعوا هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فإنه والله أبرك، وأنفع، وأجدى للخلق، وليس نحن مشرعين نشرع ما تهواه أنفسنا، ونرى أنه الحق ولكننا متبعون نتأسى بأهدى الخلق محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
فالنصحية.. النصيحة.. النصيحة لهؤلاء الخطباء بأن يدعوا الكلام بعد صلاة الجمعة، وإن كان لديهم موضوع مهم فليجعلوه في الخطبة التي قبل الصلاة.
وأما الجلوس للتدريس بعد صلاة الجمعة فلا أعلم به بأساً أن يقوم المدرس في زاوية من المسجد ويدرس، أو يكون له كرسي في وسط المسجد يجلس عليه ويدرس.
* * *
وسئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما حكم الخطبة بغير اللغة العربية؟
فأجاب فضيلته بقوله: الصحيح في هذه المسألة أنه يجوز لخطيب الجمعة أن يخطب باللسان الذي لا يفهم الحاضرون غيره، فإذا كان هؤلاء القوم مثلاً ليسوا بعرب ولا يعرفون اللغة العربية فإنه يخطب بلسانهم؛ لأن هذا هو وسيلة البيان لهم،(16/112)
والمقصود من الخطبة هو بيان حدود الله سبحانه وتعالى للعباد، ووعظهم، وإرشادهم، إلا أن الآيات القرآنية يجب أن تكون باللغة العربية، ثم تفسر بلغة القوم، ويدل على أنه يخطب بلسان القوم ولغتهم قوله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فبين الله تعالى أن وسيلة البيان إنما تكون باللسان الذي يفهمه المخاطبون. والله أعلم.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما الحكمة من كون الجمعة ركعتان؟
فأجاب فضيلته بقوله: الحكمة والله أعلم في قصرها هو التيسير على المصلين، فإن منهم من يكون مبكراً ثم الخطبتان تستغرقان وقتاً على المصلين، فلو كانت الجمعة أربعاً لطال عليهم الوقت.
وهناك حكمة ثانية وهي: الفرقان بين الجمعة وبين الظهر.
وهناك حكمة ثالثة وهي: أن الجمعة عيد الأسبوع فمن الحكمة أن تكون صلاتها قريبة من صلاة العيد.
وهناك حكمة رابعة ذكرها بعض العلماء وهي أن الخطبتين بدل عن ركعتين، ولا يجمع بين البدل والمبدل والله أعلم.(16/113)
* * *
وسئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما الحكمة من الجهر بالقراءة في صلاة الجمعة؟
فأجاب فضيلته بقوله: الحكمة في الجهر بقراءتها أولاً: من الحكم والله أعلم تحقيق الوحدة والاجتماع على إمام واحد، فإن اجتماع الناس على إمام واحد منصتين له أبلغ في الاتحاد من كون كل واحد منهم يقرأ سرًّا بينه وبين نفسه، ولتتميم هذه الحكمة وجب اجتماع الناس كلهم في مكان واحد إلا لضرورة.
والحكمة الثانية: أن تكون قراءة الإمام في الصلاة جهراً بمنزلة تكميل للخطبتين، ومن ثم كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في الجمعة بما يناسب إما بالجمعة والمنافقين، لما في الأولى من ذكر الجمعة والحث عليها، وفي الثانية ذكر النفاق وذم أهله، وإما بسبح والغاشية، لما في الأولى من ذكر إبداء الخلق وصفة المخلوقات وذكر ابتداء الشرائع، وأما في الثانية ذكر القيامة والجزاء.
والحكمة الثالثة: الفرق بين الظهر والجمعة.
والحكمة الرابعة: لتشبه صلاة العيد، لأن الجمعة عيد الأسبوع.
* * *
وسئلة فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: إذا خطب شخص وصلى بالناس آخر فما الحكم؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا العمل صحيح وجائز.
* * *(16/114)
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما حكم القنوت في صلاة الجمعة؟
فأجاب فضيلته بقوله: يقول العلماء إنه لا يُقنت في صلاة الجمعة؛ لأن الخطبة فيها دعاء للمؤمنين، ويُدعى لمن يُقنت لهم في أثناء الخطبة. هكذا قال أهل العلم، والله أعلم. فالأحسن أن يدعو لمن أراد القنوت لهم في أثناء الخطبة.
* * *
وسئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل صلاة الجمعة لا تصح إلا بقراءة سورة (الأعلى) وسورة (الغاشية) ؟
فأجاب فضيلته بقوله: صلاة الجمعة السنة فيها أن يقرأ في الركعة الأولى ب (سبح) ، وفي الركعة الثانية ب (الغاشية) ، أو يقرأ بعد الفاتحة بسورة الجمعة {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأَْرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} في الركعة الأولى، وفي الركعة الثانية يقرأ بسورة (المنافقون) ، وإن قرأ غيرهما فلا حرج، وليس في القرآن سورة تجب قراءتها إلا سورة الفاتحة، لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» ، والله الموفق.(16/115)
بسم الله الرحمن الرحيم
9/9/1396هـ
رسالة
من محمد الصالح العثيمين إلى الأخ المكرم وجماعة مسجد وفقهم الله وبعد:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فبناء على ما أوجب الله على المؤمنين من التناصح وطلب ما يوجب اجتماع كلمتهم، وجمع قلوبهم وأبدانهم على ذكر الله ودعائه، اللذين أهمهما جمع ذلك على أحب الأعمال إلى الله بعد الإيمان به وهي الصلاة، بناء على ذلك رأيت من الواجب أن أكتب إليكم بهذه الكتابة راجياً أن تكون خالصة لله، وأن يكون رائد الجميع الحق والإصلاح إنه قريب مجيب.
لقد سمعت اليوم بعد صلاة الجمعة خبراً أساءني جداً وهو أن بعض جماعتكم قد سعى بطلب إقامة الجمعة في مسجدكم، وأنتم تعلمون بارك الله فيكم ما للشارع من مقصد حكيم في اجتماع الناس يوم الجمعة، حتى قصرت الصلاة إلى ركعتين لئلا تطول على الجمع الكثير مع الخطبتين الصادرتين عن خطيب واحد، ليكون توجيه الناس واحد، ولله الحكمة البالغة في شرعه وقدره.
وتعلمون أن أهل العلم نصوا على تحريم تعدد الجمعة في البلد بدون حاجة من بُعد، أو ضيق، أو خوف فتنة، وكل هذه(16/117)
منتفية في مسجد الجامع، فليس بعيداً على جماعتكم، ولا ضيقاً بهم، ولا فتنة بين أهل البلد فكلهم أخوة في الإيمان، واجب عليهم المودة بينهم، والتآلف والاجتماع، وأن يبتعدوا عن وساوس الشيطان ونزغاته من الجنة والناس.
وتعلمون بارك الله فيكم أن أهل العلم نصوا على أن الرجل إذا كان داخل البلد وجب عليه السعي إلى الجمعة وإن كان بينه وبين موضع إقامتها فراسخ، ومعنى ذلك أنهم لم يعذروا بهذا البعد، فكيف بمن لم يكن بينه وبين موضع إقامتها إلا ربع ميل أو أقل؟!
وتعلمون بارك الله فيكم أن أهل العلم نصوا على أن الرجل يجب عليه حضور الجمعة وإن لم يقدر إلا راكباً، أو محمولاً؛ لأنها لا تتكرر، بخلاف الجماعة إلا أن يكون عليه ضرر.
وتؤمنون بارك الله فيكم بأن خير الهدي هدي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه الخلفاء الراشدين، ومعلوم أن هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهدي خلفائه الراشدين أنهم لا يصلون الجمعة إلا في مسجد واحد، مع أن لهم مساجد في كل حي يصلون فيها الصلوات الخمس، حتى كانوا يأتون إلى الجمعة من أقصى المدينة من العوالي وغيرها.
قال ابن المنذر: لم يختلف الناس أن الجمعة لم تكن تصلى في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي عهد الخلفاء الراشدين إلا في مسجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: وفي تعطيل الناس مساجدهم يوم الجمعة واجتماعهم في مسجد واحد أبين البيان بأن الجمعة خلاف سائر(16/118)
الصلوات، وأنها لا تصلى إلا في مكان واحد.
وسئل الإمام أحمد رحمه الله تعالى: هل جمع جمعتان في مصر؟ قال: لا أعلم أحداً فعله.
وذكر الخطيب في تأريخ بغداد أن أول جمعة أحدثت في بلد في الإسلام مع قيام الجمعة القديمة كانت في أيام المعتضد سنة 208 هـ.
فإذا كان هذا هدي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وخلفائه الراشدين، وسلف الأمة فإن الواجب على المؤمن أن يسعه ما وسعهم، وأن لا يسعى فيما فيه تفريق المؤمنين، والإضرار بجمعهم واجتماعهم؛ لأنه مسؤول عن ذلك أمام الله عز وجل.
وليس من المبرر أن يكون نفر قليل من الجماعة كبار السن، أو قليلي الصحة، فقد علمتم أن العلماء قالوا: بحمل هؤلاء، أو يركبون، فإن تضرروا سقطت عنهم وكانوا ممن عذرهم الله، على أن كثيراً من هؤلاء يذهبون إلى السوق القريب من الجامع كل يوم صباحاً ومساء، أو أحد الوقتين، فما بالهم لا يشق عليهم ذلك، ويشق عليهم إذا جاؤا إلى الجامع في الأسبوع مرة واحدة؟!
وتعلمون بارك الله فيكم ما في فضل بعد المسجد من كثرة الخطا، التي في كل واحدة منها رفع درجة، وحط خطيئة، إذا خرج من بيته متطهراً لا يريد إلا الصلاة، وأن أعظم الناس(16/119)
أجراً في الصلاة أبعدهم فأبعدهم ممشى.
وتعلمون بارك الله فيكم ما في كثرة الجمع من محبة الله لها، وعظم أجرها عند الله، وفي الحديث الصحيح: وما كان أكثر فهو أحب إلى الله. وما ذكر العلماء رحمهم الله من فضيلة المسجد العتيق لتقدم الطاعة فيه.
وتعلمون بارك الله فيكم ما يحصل بكثرة المسلمين واجتماعهم على العبادة والتأمين خلف الإمام، والذكر خلف الصلوات، وضجيجهم بالدعاء مما يكون أقرب إلى الإجابة، وأعظم في الهيبة والوقار، إلى غير ذلك من الحكم والمصالح الجمة الكثيرة التي ضاق بنا الوقت عن تعدادها، وكلها تفوت بتفريق المؤمنين وتعداد جمعهم.
فنصيحتي لكم ولجماعتكم العدول عن هذه الفكرة والتمشي على ما كان أسلافكم، واحتساب الأجر من الله بكثرة الخطا إلى المساجد، واجتماع المسلمين، وما هي إلا نحو خمس وخمسين مرة في السنة الكاملة، ثم الإنسان لا يعلم مقامه في الدنيا فقد لا يدرك هذه المدة، ثم يذهب يسعى لما قد يجر الوبال عليه.
أسأل الله لي ولكم التوفيق لما يحب ويرضى، وأن يجمع(16/120)
قلوبنا على المحبة والقيام بحقه، وأن يهب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(16/121)
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ... وبعد
فمن مدينة (....) في مقاطعة (....) في (.....) نحييكم وننقل إليكم تحيات إخوانكم أبناء الجالية المسلمة الكبيرة والموحدة بفضل الله تعالى في إطار الوقف الإسلامي الذي منّ الله تعالى به علينا أخيراً، وتم شراؤه بتظافر الجهود، إن الوقف عندنا ينظم العمل الإسلامي بأنشطته الدعوية، والثقافية والاجتماعية، والتي تنطلق كلها من مسجد الوقف ولجانه المختلفة، ولقد درجنا ومنذ أكثر من ست سنوات ولازلنا على رفع أذان واحد يوم الجمعة، وذلك اقتداء بالسنة النبوية الشريفة، واستضفنا خلال هذه المدة علماء عديدين، ومن مناطق مختلفة، وألقوا محاضرات، ودروساً، وأقاموا فينا صلوات الجمعة التي يرفع فيها أذان واحد، وفي الا"ونة الأخير بدأ بعض الأخوة المصلين عندنا يطلبون برفع أذانين يوم الجمعة بدل الأذان الواحد، على اعتبار أن ذلك أيضاً سنة عمل بها الصحابة منذ زمن الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه، وكما هو الحال في الحرم المكي، والمدني، والمسجد الأقصى والأزهر، بل في كافة البلاد الإسلامية باستثناء عدد محدود من المساجد التي تقيم أذاناً واحداً في بعض البلاد، إن إدارة الوقف وحرصاً منها على عدم توسع(16/123)
الخلاف في هذا الأمر قررت التوجه إلى أهل العلم لبيان رأيهم في الموضوع، ولذلك نتوجه إلى فضيلتكم بالسؤال التالي:
هل الأفضل والأقرب إلى السنة أذان واحد للجمعة أم أذانين؟ وماذا ترون بناء على المعطيات السابقة؟ نرجو ترجيح رأي من الرأيين؟
فأجاب فضيلته بقوله: بسم الله الرحمن الرحيم. وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. الأفضل أن يكون للجمعة أذانان اقتداء بأمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه؛ لأنه أحد الخلفاء الراشدين الذين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم باتباع سنتهم؛ ولأن لهذا أصلاً من السنة النبوية حيث شرع في رمضان أذانين أحدهما من بلال، والثاني من ابن أم مكتوم رضي الله عنهما، وقال: «إن بلالاً يؤذن بليل ليوقظ نائمكم ويرجع قائمكم، فكلواواشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم، فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر» . ولأن الصحابة رضي الله عنهم لم ينكروا على أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه، فيما نعلم، وأنتم محتاجون للأذان الأول لتتأهبوا للحضور.
فاستمروا على ما أنتم عليه من الأذانين، ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم، وتكونوا فريسة للقيل والقال بين أمم تتربص بكم الدوائر والاختلاف.(16/124)
أسأل الله تعالى أن يجمع قلوبكم، وكلمتكم على الهدى، ويعيذكم من ضلالات التفرق. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. حرر في 15/6/ 1418هـ.(16/125)
رسالة
فضيلة الشيخ العلامة: محمد بن صالح العثيمين سلمه الله.
نتقدم لفضيلتكم بهذا السؤال:
اختلفت طائفتان من المسلمين في المركز الإسلامي والثقافي ب (....) حول حكم النداء الأول لصلاة الجمعة والحكمة منه، وثار جدال حاد بينهما، يخشى أن يصل إلى درجة الفتنة والفرقة، فطائفة تقول: إن الأذان الأول مشروع، وقد سنه عثمان رضي الله عنه حتى يجتمع الناس لصلاة الجمعة، وقد استمر عليه العمل في كثير من بلاد المسلمين إلى يومنا هذا، فنحن نعمل بهذه السنة المأثورة عن ذلك الخليفة الراشد، والعمل بها عمل بسنة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما هو معلوم.
وطائفة أخرى تقول: إن الحكمة من العمل بهذا النداء غير قائمة الآن في مسجد المركز، فالأذان الأول في مسجد المركز غير مسموع خارجه، وصوت المؤذن لا يتجاوز أسوار المسجد، فالحكمة منه منتفية، ومن ثم يكون العمل به بدعة، فيكتفى بالأذان عند دخول الإمام وسلامه على المأمومين، ولا داعي للأذان الأول لانتفاء موجبه، واختفاء علته، فما الحكم الشرعي في هذه المسألة في ضوء هذا الاختلاف حتى يعمل به ويصار إليه؟(16/127)
فأجاب فضيلته بقوله: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين: لا يخفى علينا جميعاً أن الله تعالى قال في كتابه العظيم: {إِنَّ هَاذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ فَاعْبُدُونِ} . وفي الآية الثانية: {وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} . ولا يخفى علينا جميعاً أن من مقاصد الشريعة الإسلامية الاجتماع وعدم التفرق، والائتلاف وعدم الاختلاف، وهذا أمر لا يحتاج إلى أدلة لوضوحه، ومن المعلوم أن المجتهد من هذه الأمة لا يخلو من أجر، أو أجرين، فإن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر، ولا يخفى أن مسائل الاجتهاد لا إنكار فيها إذا كان الاجتهاد فيها سائغاً، ومثل هذه المسألة التي ذكرها السائل من مسائل الاجتهاد، إذ تعارض فيها أصلان:
أحدهما: الاقتداء بأمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، لأنه من الخلفاء الراشدين الذين لهم سنة متبعة، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة رضي الله عنهم فيما نعلم.
والأصل الثاني: أن عثمان بن عفان رضي الله عنه إنما فعل ذلك لعلة غير موجودة في مصلى المركز الذي أشار إليه السائل.
فقد تنازعها أصلان، وحينئذ نقول: إن القول قول أمير(16/128)
هؤلاء الإخوة، لقوله تعالى: {أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الأَْمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الأَْخِرِ ذالِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الأَْخِرِ ذالِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} . فما قاله الأمير في هذه المسألة يجب أن يتبع، ولا يجوز الاختلاف في هذا، فإذا قال الأمير: يؤذن فليؤذن، وإذا قال لا يؤذن فلا يؤذن، والأمر والحمد لله واسع لأن هذا الأذان لم يقل أحد من الناس إنه واجب، لكن الفرقة بين المسلمين لا يقول أحد إنها غير حرام، فإذا كان يتعارض ترك سنة أو وقوع في محرم فلا شك أن ترك السنة أهون من الوقوع في المحرم.
هذا ما أراه في هذه المسألة، ثم إني أنصح إخواني في (....) وغيرها من التفرق من أجل هذا النزاع، وأشكرهم إذ وكلوا الأمر إلى عالم يتحاكمون إليه، ليأخذوا برأيه، فإن هذا من علامات التوفيق، كما قال الله تعالى: {وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَْمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِى الأَْمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} ، فجزاهم الله خيراً على هذا التحكيم، وأسأل الله تعالى أن يوفقهم للعمل به. 02/5/8141هـ.
* * *(16/129)
رسالة
فضيلة الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين سلمه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد
نتقدم لفضيلتكم بهذا السؤال: من العادات المعروفة التي يعمل بها معظم المسلمين في (....) وفي المركز الإسلامي (....) يوم الجمعة أنه بعد النداء الأول يتولى أحد المقرئين تلاوة القرآن الكريم من خلال مكبر الصوت حتى قرب صعود الإمام على المنبر لأداء الخطبة، وقد وقع خلاف مؤخراً حول هذا العمل، فطائفة العوام يقولون: إن هذا العمل قد ألفناه، ونحن نستفيد منه، ونتعلم تلاوة القرآن، ونخشع له من خلال ما نسمع في هذا الوقت الذي قد لا يتسنى لنا مثله في غيره، فبقاؤه واستمراره ظاهر الفائدة لنا.
وطائفة المتعلمين يقولون: إن هذا أمر محدث ولا أصل له، بل يشغل المصلين عن الذكر والاستغفار، وتلاوة القرآن، وصلاة التطوع، فلابد من العدول عنه لكونه مبتدعاً، فما الحكم الشرعي في هذه المسألة حتى يعمل به ويسار في ضوئه؟
فأجاب فضيلته بقوله: الذي أرى أن هذا بدعة كما قاله ذووا(16/131)
العلم من إخواننا في (....) ، لأن ذلك لم يعهد في عصر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وخلفائه الراشدين والصحابة، بل إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج ذات يوم على أصحابه وهم يقرأون ويجهرون بالقراءة، ويصلون، فقال: «لا يجهر بعضكم على بعض في القرآن» أو قال: «في القراءة» وعليه فالواجب العدول عنه، والعامة لا يؤخذ بقولهم إثباتاً ولا نفياً، المرجع للعامة وغير العامة إلى كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الأَْخِرِ ذالِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} . ولكن ينبغي أن يبين للعوام أن هذا شيء لم يكن في عهد السلف الصالح، وأنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ثم يقال لهؤلاء العوام: بقاء الأمر متروكاً للناس هذا يقرأ، وهذا يصلي، وهذا يحدث أخاه بما ينفعه، وهذا يذكر، خير من كونهم ينصتون إلى قراءة قارىء يكون بعضهم نائماً، وبعضهم يفكر في أمور أخرى، حتى يقتنعوا بذلك، ولست أقول هذا بمعنى أننا لا نترك هذا الفعل إلا إذا اقتنع العامة، لكن أريد أن يطمئن العامة لترك هذا الشيء، وإلا فتركه أمر لابد منه. 20 /5/1418هـ.
* * *(16/132)
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: عن النافلة بعد الجمعة؟
فأجاب فضيلته بقوله: ثبت أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته، وقال عليه الصلاة والسلام: «إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربعاً» . وورد أنها ست لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصلي بعد الجمعة ستًّا، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن الإنسان إن صلى في المسجد صلى أربعاً، وإن صلى في البيت صلى ركعتين.
والأولى أن يصلي أربعاً سواء كان في البيت، أم في المسجد لعموم أمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بها.
* * *
وسئل فضيلة الشيخ: - رحمه الله تعالى -: هل للجمعة سنة قبلية وبعدية؟
فأجاب فضيلته بقوله: صلاة الجمعة ليس لها سنة قبلها، ولكن المشروع لمن جاء إلى المسجد أن يصلي إلى حضور الإمام، وقد ثبت في السنة الحث على التبكير إلى صلاة الجمعة وأن من جاء في الساعة الأولى فكأنما قرَّب بدنة، ومن جاء في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن جاء في الساعة الثالثة فكأنما(16/133)
قرب كبشاً أقرن، ومن جاء في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن جاء في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة.
وهؤلاء الذين يأتون إلى الجمعة ينبغي لهم أن يشتغلوا بالصلاة، والذكر، وقراءة القرآن، وغير ذلك مما يقرب إلى الله عز وجل.
وأما السنة بعدها فإنه ثبت من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصلي في بيته ركعتين بعد صلاة الجمعة، فهذه هي السنة بعدها أن يصلي ركعتين في بيته، وإن صلى أربعاً في مكانه في المسجد فهو خير أيضاً.
* * *
سئل فضيلة الشيخ: عن غسل الجمعة والتجمل لها هل هو عام للرجال والنساء؟ وما حكم الاغتسال قبلها بيوم أو يومين؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذه الأحكام خاصة بالرجل لكونه هو الذي يحضر الجمعة، وهو الذي يطلب منه التجمل عند الخروج، أما النساء فلا يشرع في حقهن ذلك، ولكن كل إنسان ينبغي له إذا وجد في بدنه وسخاً ينبغي له أن ينظفه، فإن ذلك من الأمور المحمودة التي ينبغي للإنسان أن لا يدعها.
وأما الاغتسال للجمعة قبلها بيوم أو يومين فلا ينفع؛ لأن الأحاديث الواردة في ذلك تخصه بيوم الجمعة، وهو ما بين طلوع(16/134)
الفجر أو طلوع الشمس إلى صلاة الجمعة، هذا هو محل الاغتسال الذي ينبغي أن يكون، وأما قبلها بيوم أو يومين فلا ينفع، ولا يجزىء عن غسل الجمعة.
* * *
وسئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل آثم إذا تركت غسل الجمعة أم لا؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا قلنا بوجوب غسل الجمعة فإن من تركه يأثم، وإذا قلنا بأنه سنة وليس بواجب فإن تاركه لا يأثم، والصحيح أن غسل الجمعة واجب على كل بالغ يحضر الجمعة، لما ثبت من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الذي رواه البخاري وغيره، بل أخرجه جميع الأئمة المخرج لهم وهم السبعة قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «غسل الجمعة واجب على كل محتلم» وهذه العبارة لو وجدناها في كتاب فقه عبر به العلماء لكنا لا نشك بأن هذه العبارة تدل على الوجوب الذي هو اللزوم والإثم بالترك، فكيف إذا كان الناطق بها أفصح الخلق، وأعلم الخلق بما يقول، وأنصح الخلق فيما يرشد عليه الصلاة والسلام فكيف يقول لأمته «غسل الجمعة واجب على كل محتلم» ثم نقول: معنى واجب أي متأكد؟!
إذاً فغسل الجمعة واجب على كل بالغ محتلم.(16/135)
* * *
وسئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ذكرتم أن «غسل الجمعة واجب على كل محتلم» ، وجاء في الحديث: «من توضأ فبها ونعمة، ومن اغتسل فالغسل أفضل» ، ألا يصرف هذا الحديث الأول من الوجوب إلى الاستحباب؟
فأجاب فضيلته بقوله: الحديث الثاني حديث مرسل، وفي صحته إلى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نظر، ثم إن أسلوبه ليس عليه طلاوة الكلام النبوي، فهذا الحديث ضعيف، ولا يمكن أن يقاوم حديث أبي سعيد رضي الله عنه الذي أخرجه السبعة بلفظ صريح واضح «غسل الجمعة واجب على كل محتلم» .
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل يجزىء الغسل للجمعة في ليلة الجمعة أي قبل طلوع فجر يوم الجمعة؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يجزىء؛ لأن الغسل للجمعة لا يجزىء إلا إذا كان بعد طلوع الشمس، أي ما بين طلوع الشمس وطلوع الفجر. وأما إذا اغتسل بعد طلوع الفجر وقبل طلوع(16/136)
الشمس فأنا أتردد فيه، وذلك لأن النهار شرعاً ما بين طلوع الفجر وغروب الشمس. وفلكاً: ما بين طلوع الشمس وغروبها، فيحمل اليوم على اليوم الشرعي وليس اليوم الفلكي، لكن يعكر على ذلك أن ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس وقت لصلاة الفجر لا يُندب للإنسان فيه أن يتقدم لصلاة الجمعة بل هو وقت صلاة الفجر.
فمن اغتسل بعد طلوع الشمس فقد أصاب السنة وامتثل الأمر ولا إشكال، وأما ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس فهو محل نظر فعلى هذا فالاحتياط أن لا يغتسل إلا بعد طلوع الشمس.
* * *
وسئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما حكم الجمع بين غسل الجمعة وغسل الجنابة؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا بأس بذلك فإذا كان الإنسان جنباً واغتسل ونوى بذلك رفع الجنابة والاغتسال للجمعة فلا حرج في هذا، كما لو أن الإنسان دخل المسجد وصلى ركعتين ينوي بهما الراتبة وتحية المسجد فلا بأس.
وهذه المسألة لا تخلو من أقسام ثلاثة:
القسم الأول: أن ينوي الجنابة فقط.
القسم الثاني: أن ينوي غسل الجنابة والجمعة.
القسم الثالث: أن ينوي غسل الجمعة فقط.
بقي قسم رابع وهو لا يمكن أن يرد وهو أن لا ينويهما وهذا غير وارد.(16/137)
فإذا نوى غسل الجنابة أجزأ عن غسل الجمعة إذا كان بعد طلوع الشمس، وإذا نواهما جميعاً أجزأ ونال الأجر لهما جميعاً، وإذا نوى غسل الجمعة لم يكفه عن غسل الجنابة؛ لأن غسل الجمعة واجب عن غير حدث، وغسل الجنابة واجب عن حدث فلابد من نية ترفع هذا الحدث.
وبعض العلماء قال: يغتسل مرتين، ولكن هذا لا وجه له لأن السنة جاءت «من غسل واغتسل، وبكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام ولم يلغو» .
فقوله: «غسل واغتسل» بعض العلماء يقول: غسل الأذى ونظف بدنه، واغتسل غسل الجنابة المعروف. وبعضهم يقول: «من غسل» أي من جامع زوجته؛ لأن جماعه إياها يستلزم أن تغتسل، وهذا يدل على أن الغسل الواحد يكفي.
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: عن السنن التي ينبغي فعلها لمن خرج لصلاة الجمعة؟
فأجاب فضيلته بقوله: يسن له أن يتنظف ويتطيب لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر، ويدهن من دهنه، أو يمس طيباً من طيب بيته ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا(16/138)
تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى» .
ويسن له أيضاً: أن يلبس أحسن ثيابه؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يعد أحسن ثيابه للوفد والجمعة.
ويسن أيضاً: أن يبكر للجمعة لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «من اغتسل يوم الجمعة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة» الحديث.
ويسن أيضاً: أن يخرج ماشياً لقوله عليه الصلاة والسلام: «ومشى ولم يركب» ولأن بالمشي يرفع له بكل خطوة درجة، ويحط عنه بها خطيئة.
ويسن: أن يدنو من الإمام لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «ليلني منكم أولو الأحلام والنهى» .
ويسن: أن يغتسل كما يغتسل من الجنابة.
وقيل: يجب الغسل، وهو الصحيح، لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «غسل الجمعة واجب على كل محتلم» .(16/139)
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: متى تبدأ الساعة الأولى من يوم الجمعة؟
فأجاب فضيلته بقوله: الساعات التي ذكرها الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خمس: فقال: «من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة» . فقسم الزمن من طلوع الشمس إلى مجيء الإمام خمسة أقسام، فقد يكون كل قسم بمقدار الساعة المعروفة، وقد تكون الساعة أقل أو أكثر؛ لأن الوقت يتغير، فالساعات خمس ما بين طلوع الشمس ومجيء الإمام للصلاة.
وتبتدي من طلوع الشمس، وقيل: من طلوع الفجر، والأول أرجح؛ لأن ما قبل طلوع الشمس وقت لصلاة الفجر.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل غسل الجمعة يجزىء عن الوضوء إذا نوى به رفع الحدث أم لا؟ وإذا كان لا يجزىء فما الحكم فيمن صلى بالغسل فقط هل عليه شيء؟ أفتونا مأجورين.
فأجاب فضيلته بقوله: غسل الجمعة واجب، ولكن وجوبه ليس عن حدث، ولهذا لا يجزىء عن الحدث لا الجنابة ولا(16/140)
الوضوء، يعني لو أن شخصاً صار عليه جنابة ونسيها ثم اغتسل للجمعة فقط بدون نية غسل الجنابة، فإن الجنابة لا ترتفع؛ لأن غسل الجمعة ليس عن حدث، وكذلك لا يرتفع الحدث الأصغر بغسل الجمعة، لأن غسل الجمعة ليس عن حدث، وقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنما الأعمال بالنيات» ، ولكننا نقول ينبغي لمن يغتسل للجمعة أن يأتي بالغسل على الوجه الأكمل، وإذا أتى على الوجه الأكمل ناوياً رفع الحدث ارتفع، ويكون على الوجه الأكمل إذا سبقه وضوء؛ لأن الغسل ينبغي أن يسبقه وضوء.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: متى يبدأ غسل الجمعة؟ هل هو من بعد صلاة الفجر أو قبل هذا الوقت؟
فأجاب فضيلته بقوله: غسل صلاة الجمعة يبتدىء من يوم الجمعة، لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «غسل الجمعة واجب على كل محتلم» ، واليوم يدخل من طلوع الفجر، يعني لو اغتسل الإنسان بعد طلوع الفجر للجمعة فإن ذلك جائز، لكن العلماء رحمهم الله قالوا: إن غسل الجمعة عند المضي إليها أفضل، فإذا كنت تريد أن تذهب إلى الجمعة مثلاً في الساعة العاشرة،(16/141)
فالأفضل أن تؤخر الغسل إلى الساعة العاشرة، ثم تغتسل وتخرج إلى المسجد.
* * *
وسئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: متى يبدأ وقت غسل الجمعة؟
فأجاب فضيلته بقوله: غسل الجمعة يبدأ من طلوع الفجر، لكن الأفضل أن لا يغتسل إلا بعد طلوع الشمس؛ لأن النهار المتيقن من طلوع الشمس، لأن ما قبل طلوع الشمس من وقت صلاة الفجر، فوقت صلاة الفجر لم ينقطع بعد، فالأفضل أن لا يغتسل إلا إذا طلعت الشمس، ثم الأفضل أن لا يغتسل إلا عند الذهاب إلى الجمعة فيكون ذهابه إلى الجمعة بعد الطهارة مباشرة.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل قراءة سورة الكهف يوم الجمعة سنة؟
فأجاب فضيلته بقوله: قراءة سورة الكهف يوم الجمعة سنة ورد فيها فضل بأنه يضيء له من النور ما بينه وبين الجمعتين، وفي رواية: سطع له نور من تحت قدمه إلى عنان السماء، يضيء له يوم القيامة، وغفر له ما بين الجمعتين.(16/142)
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما حكم قراءة سورة الكهف يوم الجمعة؟ وهل هناك فرق بين من يقرأ من المصحف أو عن ظهر قلب؟
فأجاب فضيلته بقوله: قراءة سورة الكهف يوم الجمعة عمل مندوب إليه، وفيه فضل، ولا فرق في ذلك بين أن يقرأها الإنسان من المصحف أو عن ظهر قلب.
واليوم الشرعي من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وعلى هذا فإذا قرأها الإنسان بعد صلاة الجمعة أدرك الأجر، بخلاف الغسل ليوم الجمعة، فإن الغسل يكون قبل الصلاة؛ لأنه اغتسال لها فيكون مقدماً عليها، ولقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل» .
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل هناك سور وآيات يجب أن يركز عليها وتقرأ دائماً، أفيدونا أفادكم الله؟
فأجاب فضيلته بقوله: من المعلوم أن قراءة الفاتحة ركن من أركان الصلاة، وأن من قرأ قل هو الله أحد فإنها تعدل ثلث(16/143)
القرآن، وأن من قرأ آية الكرسي في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح، وأن قراءة سورة الكهف مفضلة يوم الجمعة. وأنه ينبغي قراءة المعوذات عند النوم، ولكن مع ذلك لا ينبغي أن يدع قراءة بقية القرآن.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: إذا حضر الإنسان سواء كان ذكر أو أنثى المسجد يوم الجمعة والإمام يخطب وجلس حتى إذا ما انتهى الإمام من خطبته الأولى قام وصلى ركعتين خفيفتين فهل هذه الصلاة جائزة في هذا الوقت أم لا؟
فأجاب فضيلته بقوله: عمله هذا ليس بصحيح ولا بصواب؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين» وهذا الرجل جلس فقد أخطأ وعصى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الأمر، ولكن إذا دخل المسجد والإمام يخطب فليبادر قبل أن يجلس وليصل ركعتين خفيفتين لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يخطب(16/144)
الناس يوم الجمعة فدخل رجل فجلس فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أصليتَ» ؟ قال: لا، قال: «قم فصلِّ ركعتين وتجوز فيهما» فهذا هو المشروع أن الإنسان إذا دخل والإمام يخطب لا يجلس حتى يصلي ركعتين خفيفتين ثم ينصت للخطبة.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل تكون قراءة القرآن في المسجد وكذلك التسبيح والتهليل والتكبير سرًّا أو جهراً إذا أمن الأذى، وما حكم الاجتماع يوم الجمعة قبل الخطبة على مقرىء واحد والاستماع له وترك القراءة الفردية كما يفعل في بعض البلدان؟ وهل له أصل في الشرع؟ وهل هناك ما يمنع من وضع المصحف في المخباة أثناء الذهاب إلى المسجد أو في الصلاة؟ وهل هذا ينافي احترامه؟
فأجاب فضيلته بقوله: ينبغي أن ينظر في ذلك إلى المصلحة فإذا كان الجهر بذلك أنشط له، وأحضر لقلبه، وأنفع لغيره ممن يحب الاستماع فالأفضل الجهر إذا لم يشوش على غيره من المصلين، والقارئين، والذاكرين، وإذا كان الإسرار بذلك أخشع له، وأبعد عن الرياء فالأفضل الإسرار.
وأما الاجتماع على قاريء واحد فينظر فيه أيضاً إلى المصلحة فإذا كان في نطاق ضيق بحيث يختار جماعة من الناس(16/145)
أن يسمعوا قارئاً يجلسون حوله، ولا يؤذون أحداً، ولا تشوش قراءته على أحد، ورأوا أن استماعهم لقراءته أخشع لقلوبهم، وأفهم للمعاني فلا بأس بذلك، وقد طلب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عبد الله بن مسعود أن يقرأ عليه فقال: يا رسول الله أقرأ عليك القرآن وعليك أنزل؟ قال: «نعم إني أحب أن أسمعه من غيري» فقرأ عليه سورة النساء حتى بلغ قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هؤلاء شَهِيداً} قال: «أمسك» فرأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عيناه تذرفان.
أما إذا كانت القراءة عامة كما يفعل في بعض البلدان فليس بجائز؛ لأنه يشوش على المصلين، والقارئين، والذاكرين، وليس كل الناس يرغبون ذلك، وهو أيضاً بدعة لم يكن معروفاً عند السلف وفيه مدعاة لإعجاب القاريء بنفسه، والكسل والخمول عن الطاعة، حيث أن المستمعين يركنون إلى الاستماع ويتركون القراءة بأنفسهم، ولأن الناس لا يستطيعون التعبد مع هذا الصوت القوي، وليس لهم شوق إلى استماعه، فيبقون لا متعبدين ولا مستمعين، ويحصل لهم الكسل والنعاس.
وليس في وضع المصحف في المخباة امتهان له إذا لم يدخل به الأماكن التي يجب تنزيهه عنها.(16/146)
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: عن حكم تخطي الرقاب يوم الجمعة؟
فأجاب فضيلته بقوله: تخطي الرقاب حرام حال الخطبة وغيرها، لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لرجل رآه يتخطى رقاب الناس: «اجلس فقد آذيت» ويتأكد ذلك إذا كان في أثناء الخطبة؛ لأن فيه أذية للناس، وإشغالاً لهم عن استماع الخطبة، حتى وإن كان التخطي إلى فرجة؛ لأن العلة وهي الأذية موجودة.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما الواجب نحو من يتخطى الصفوف يوم الجمعة؟
فأجاب فضيلته بقوله: يجب إجلاس المارين بين الصفوف أثناء خطبة الجمعة بدون كلام، ولكن يجر ثوبه أو يشير، والأولى أن يتولى ذلك الخطيب نفسه كما كان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعل، حيث رأى رجلاً يتخطى رقاب الناس وهو يخطب يوم الجمعة فقال: «اجلس فقد آذيت» .(16/147)
* * *
سئل فضيلة الشيخ: إذا مر السائل أمام الصفوف يوم الجمعة قبل الخطبة أو في أثنائها هل يجوز رده أو إعطاؤه؟
فأجاب فضيلته بقوله: يجب إجلاس المار من بين الصفوف أثناء خطبة الجمعة بدون كلام، ولكن بالإشارة إليه، والأولى أن يتولى ذلك الخطيب كما كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعل حيث رأى رجلاً يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة فقال: «اجلس فقد آذيت» .
وأما إعطاؤه في هذه الحال فلا يجوز؛ لأنه إغراء له وإعانة على الاستمرار في هذا العمل المحرم.
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: عن حكم حجز المكان في المسجد؟
فأجاب فضيلته بقوله: حجز الأماكن إذا كان الذي حجزها خرج من المسجد فهذا حرام عليه ولا يجوز؛ لأنه ليس له حق في هذا المكان، فالمكان إنما يكون للأول فالأول، حتى إن بعض فقهاء الحنابلة يقول: إن الإنسان إذا حجز مكاناً وخرج من المسجد فإنه إذا رجع وصلى فيه فصلاته باطلة؛ لأنه قد غصب هذا المكان؛ لأنه ليس من حقه أن يكون فيه وقد سبقه أحد إليه، والإنسان إنما يتقدم ببدنه لا بسجادته، أو منديله، أو عصاه، ولكن إذا كان الإنسان في المسجد ووضع هذا وهو في المسجد(16/148)
لكن يحب أن يكون في مكان آخر يسمع درساً، أو يتقي عن الشمس ونحو ذلك فهذا لا بأس به، بشرط أن لا يتخطى الناس عند رجوعه إلى مكانه، فإن كان يلزم من رجوعه تخطي الناس وجب عليه أن يتقدم إلى مكانه إذا حاذاه الصف الذي يليه لئلا يؤذي الناس.
* * *
سئل فضيلة الشيخ: إذا أخطأ الخطيب في الخطبة فهل يرد عليه المستمع؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا أخطأ الخطيب في خطبة الجمعة خطأ يغير المعنى في القرآن خاصة، فإن الواجب أن يرد عليه لأنه لا يجوز أن يغير كلام الله عز وجل إلى ما يتغير به المعنى، فلا يجوز الإقرار عليه فليرد على الخطيب.
أما إذا كان خطأ في كلامه فكذلك يرد عليه مثل لو أراد الخطيب أن يقول: هذا حرام، فقال: هذا واجب فيجب أن يرد عليه؛ لأنه لو بقي على ما قال: إنه واجب لكان في ذلك إضلال الخلق، ولا يجوز أن يقر الخطيب على كلمة تكون سبباً في ضلال الخلق.
أما الخطأ المغتفر الذي لا يتغير به المعنى فلا يجب عليه أن يرد، مثل لو رفع منصوباً، أو نصب مرفوعاً على وجه لا يتغير به المعنى فإنه لا يجب أن يرد عليه، سواء كان ذلك في القرآن، أو في غير القرآن.
* * *(16/149)
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: عن حكم رد السلام؟ وتشميت العاطس أثناء خطبة الجمعة؟ وما حكم مصافحة من مد يده أثناء خطبة الجمعة؟
فأجاب فضيلته بقوله: رد السلام وتشميت العاطس أثناء خطبة الجمعة لا يجوز؛ لأنه كلام، والكلام حينئذ محرم؛ ولأن المسلم لا يشرع له السلام في هذه الحال، فسلامه غير مشروع فلا يستحق جواباً.
والعاطس غير مشروع له حال الخطبة أن يجهر بالحمد فلا يستحق أن يشمت.
وأما مصافحة من مد يده فهو أهون، والأولى عدمه؛ لأنه مشغل إلا أن يخشى من ذلك مفسدة فلا بأس أن يصافح اتقاء للمفسدة لكن بدون كلام، وتبين له بعد الصلاة أن الكلام حال الخطبة حرام.
* * *
وسئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: إذا دخل الإنسان المسجد والمؤذن يؤذن فماذا يفعل؟
فأجاب فضيلته بقوله: يجيب المؤذن أولاً، ثم يصلي إلا إذا كان الأذان أذان الجمعة الذي بعد حضور الخطيب فيصلي ولا يجيب المؤذن؛ ليتفرغ لاستماع الخطبة؛ لأن استماع الخطبة أهم من إجابة المؤذن.(16/150)
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: إذا دخل الرجل المسجد يوم الجمعة والمؤذن يؤذن الأذان الثاني فهل يصلي تحية المسجد أو يتابع المؤذن ثم يصلي تحية المسجد؟
فأجاب فضيلته بقوله: ذكر أهل العلم أن الرجل إذا دخل المسجد وهو يسمع الأذان الثاني فإنه يصلي تحية المسجد ولا يشتغل بمتابعة المؤذن وإجابته، وذلك ليتفرغ لاستماع الخطبة؛ لأن استماعها واجب، وإجابة المؤذن سنة، والسنة لا تزاحم الواجب.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: لاحظت في صلاة الجمعة وأثناء جلوس الإمام بين الخطبتين أن بعض المصلين قاموا فصلوا ركعتين ثم جلسوا فما حكم هذه الصلاة؟ وهل يجوز أن يقوم الرجل للصلاة بعد جلوسه إذا دخل؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذه الصلاة غير مشروعة؛ لأن المشروع بعد دخول الإمام أن يستمع الناس إلى الخطبة وأن يتابعوا إمامهم، وبين الخطبتين أن ينتظروا الإمام في الخطبة الثانية، وإن دعوا بين الخطبتين بدعاء يختارونه فهذا حسن، لأن هذا الوقت من الأوقات التي ترجى فيها إجابة الدعاء، فإن في يوم(16/151)
الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئاً إلا أعطاه الله تعالى ما دعا به.
نعم يقوم الرجل لصلاته بعد جلوسه ليؤدي تحية المسجد إذا لم يؤدها فإن رجلاً دخل يوم جمعة والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطب فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أصليت؟» قال: لا. قال: «قم فصل ركعتين» . أما إذا جلس وطال الفصل فلا يصلي هذه التحية؛ لأن السنة إذا فات محلها سقط الطلب بها.
* * *
وسئل فضيلته - رحمه الله تعالى -: يلاحظ على بعض المصلين إذا دخلوا المسجد يوم الجمعة والإمام يخطب أداء ركعتين، ثم يقومون لأداء ركعتين أخريين بين الخطبتين، فما حكم هذا العمل؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا دخل الإنسان يوم الجمعة والإمام يخطب فإنه يصلي ركعتين خفيفتين، لما ثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن رجلاً دخل يوم الجمعة والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطب فقال له: «أصليت؟» قال: لا، فقال: «قم فصلِّ ركعتين، وتجوز فيهما» ، ولا يصلي غيرهما لا في أثناء الخطبة، ولا بين الخطبتين، بل الذي يجب الإنصات للخطبة.
وإن اشتغل بين الخطبتين بالدعاء فحسن، لأنه وقت ترجى(16/152)
فيه إجابة الدعاء، فقد ثبت في الحديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن في الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه، ومنتظر الصلاة في المسجد في صلاة فلعله أن يصادف ساعة الإجابة فيستجيب الله دعاءه. والله الموفق.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: إذا صلى المسافر الجمعة، هل تسقط عنه الراتبة؟ وهل يجمع معها العصر؟
فأجاب فضيلته بقوله: المسافر إذا كان في بلد تقام فيه الجمعة فإنه يجب عليه أن يصلي الجمعة، لقوله تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُو"اْ إِذَا نُودِىَ لِلصلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} ، والمسافر من المؤمنين فيدخل في العموم، ولا يقول أنا مسافر سأقصر، فإذا صلى الجمعة فإنها ليس لها راتبة قبلها. ولكن لها راتبة بعدها فهل يصلي الراتبة أم لا؟ الظاهر أنه لا يصلي الراتبة، ولكن يصليها نفلاً مطلقاً، وإنما قلنا الظاهر أنه لا يصلي؛ لأن العلة من ترك الراتبة ليس القصر، بدليل أن المغرب للمسافر ليست مقصورة ومع ذلك لا يصلي لها الراتبة.
فنقول: ليست للجمعة راتبة في حقك، ولكن إن صليت تطوعاً مطلقاً بغير قصد الراتبة فلا بأس.(16/153)
والجمعة لا يجمع إليها العصر؛ لأن الجمعة صلاة مستقلة لا يجمع إليها ما بعدها، ولا تجمع هي أيضاً إلى ما بعدها فتأخر؛ فإن السنة الواردة هي الجمع بين الظهر والعصر، فقط لا بين الجمعة والعصر، والجمعة تخالف الظهر في مسائل كثيرة.
* * *
وسئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: عن رجل توضأ بعد عصر الجمعة ليصلي لأجل الدعاء، فما رأيكم؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا لا يجوز، إذا كان ليس من عادة الإنسان أنه يصلي إذا توضأ، لكن توضأ لأجل أن يصلي فهذا إن توضأ حرام عليه أن يصلي، لأن الصلاة التي ليس لها سبب في هذا الوقت حرام.
* * *
وسئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هناك إمام جامع يقوم بالصلاة الإبراهيمية قبل خطبة الجمعة، هو وجماعة المسجد بصوت جماعي فما الحكم؟ أفتونا مغفوراً لكم؟
وما حكم حضور الخطيب مبكراً للمسجد وجلوسه فيه إلى حين وقت الخطبة؟
فأجاب فضيلته بقوله: الصلاة الإبراهيمية كما يسميها بعض المتأخرين هي: اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما(16/154)
صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وهذه الصلاة إذا أتى بها الإنسان كما وصف السائل قبل الخطبة بصوت جماعة فقد فعل بدعة، فلم يفعلها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا أصحابه، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام محذراً أمته: «إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار» ، والمشروع لأهل المسجد قبل مجيء الإمام أن يشتغلوا بالصلاة، وقراءة القرآن، والذكر، كل على انفراده بدون أن يجتمعوا على ذلك.
وأما الإمام فالمشروع في حقه إذا دخل أن يسلم أول ما يدخل على من حول الباب، ثم يصعد المنبر ويتوجه إلى الناس ويسلم عليهم عامة، ثم يجلس إلى فراغ الأذان، ثم يقوم فيخطب الخطبة الأولى، ثم يجلس، ثم يخطب الخطبة الثانية، ثم ينزل فيصلي بالناس هذا هو المشروع للإمام في يوم الجمعة، ولا ينبغي للإمام أن يتقدم إلى المسجد قبل حلول وقت الخطبة والصلاة، كما يفعله بعض الناس المحبين للخير الذين يرغبون في السبق إلى الطاعات، وذلك لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن يفعل هذا، فلم يكن عليه الصلاة والسلام يتقدم إلى المسجد في يوم الجمعة ينتظر الخطبة والصلاة، وخير الهدي هدي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالذي ينبغي للإنسان أن يكون متحرياً لهدي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه خير الهدي.
وأما الجماعة الذين ينتظرون الإمام فإنهم كلما تقدموا إلى(16/155)
الجمعة كان ذلك أفضل كما ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه قال: «من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الخامسة فكأنما قرب بيضة» .
* * *
وسئل فضيلة الشيخ: إذا كان الخطيب يخطب الناس في صلاة الجمعة، فدخل رجل فجلس دون أن يصلي ركعتين، فأنكر عليه، هل يشرع في حقه تكرار الإنكار على الأشخاص الآخرين الذين يدخلون بعده، ولم يعلموا، أرجو توضيح هذه المسألة وجزاكم الله خيراً؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا دخل الإنسان والإمام يخطب يوم الجمعة ثم جلس، فالخطيب لا ينكر عليه مباشرة، بل يقول كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أصليت؟» فإن قال: لا، فيقول له: «قم فصل ركعتين» وإن قال: صليت، انتهى الأمر، وكذلك لو دخل ثان وثالث فإنه يقول لهم هذا، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قال قولاً، أو فعل فعلاً في حادثة فهو لجميع الحوادث المماثلة.(16/156)
* * *
وسئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: النهي عن التحلق يوم الجمعة هل يقصد به قبل الصلاة مباشرة أو بعد صلاة الفجر؟
فأجاب فضيلته بقوله: الظاهر أن التحلق قبل أن يحضر الناس إلى المسجد لا بأس به، وإنما نهى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن التحلق، لئلا يضيقوا على الناس الذين يأتون إلى الصلاة، وغالباً بعد الفجر لا يوجد ناس.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما حكم الاجتماع يوم الجمعة قبل الخطبة على مقرىء واحد؟
فأجاب فضيلته بقوله: الاجتماع على قارىء واحد ينظر فيه إلى المصلحة فإذا كان في نطاق ضيق بحيث يختار جماعة من الناس أن يسمعوا قارئاً يجلسون حوله ولا يؤذون أحداً، ولا تشوش قراءته على أحد، ورأوا أن استماعهم لقراءته أخشع لقلوبهم، وأفهم للمعاني فلا بأس بذلك، وقد طلب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن يقرأ عليه فقال: يا رسول الله: أقرأ عليك القرآن وعليك أنزل؟ قال: «نعم، إني أحب أن أسمعه من غيري» فقرأ عليه سورة النساء حتى بلغ قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هؤلاء(16/157)
شَهِيداً شَهِيداً} فقال: «حسبك الآن» فإذا عيناه تذرفان، متفق عليه.
أما إذا كانت القراءة عامة كما يفعل في بعض البلدان فليس بجائز؛ لأنه يشوش على المصلين والقارئين والذاكرين، وليس كل الناس يرغبون ذلك، وهو أيضاً بدعة لم يكن معروفاً عند السلف، وفيه مدعاة لإعجاب القارىء بنفسه، وللكسل والخمول عن الطاعة، حيث إن المستمعين يركنون إلى الاستماع ويتركون القراءة بأنفسهم؛ ولأن الناس لا يستطيعون التعبد مع هذا الصوت القوي، وليس لهم شوق إلى استماعه فيبقون لا متعبدين ولا مستمعين ويحصل لهم الكسل والنعاس.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم قراءة القرآن جماعة بصوت واحد من أجل الحفظ وعدم النسيان؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان الجماعة يقرؤون القرآن بصوت واحد من أجل الاستعانة على الحفظ لا من أجل التعبد بذلك فلا بأس بشرط أن لا يحصل منهم تشويش على المصلين.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: أغلب المساجد في ... يقام فيها بين أذاني الجمعة درس فما حكم هذا العمل؟ وما حكم الصلاة بين السواري؟(16/158)
فأجاب فضيلته بقوله: الأولى أن لا تقام الدروس قبل صلاة الجمعة في المسجد؛ لأن ذلك يشغل الحاضرين عن الصلاة وقراءة القرآن.
وأما الصلاة بين السواري فهي جائزة عند الضيق، أما في حال السعة فلا يصلى بين السواري لأنها تقطع الصفوف.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما حكم التحلق في المسجد قبل صلاة الجمعة؟ وعن حكم صلاة النافلة في السيارة؟
فأجاب فضيلته بقوله: ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه نهى عن التحلق يوم الجمعة، وذلك لأن التحلق يوم الجمعة يؤدي إلى تضييق المسجد على المصلين القادمين إليه، لاسيما إذا كانت الحلق قريباً من كثرة الحضور وكان المسجد ضيقاً، فإن ضررها واضح جداً، أما إذا لم يكن فيها محذور فإنه لا محظور فيها؛ لأن الشرع إنما ينهى عن أشياء لضررها الخالص أو الغالب.
وأما قول السائل: هل تجوز صلاة النافلة في السيارة؟ فجوابه: إذا كان الإنسان مسافراً وصلى على السيارة إلى جهة سيره فلا حرج عليه سواء كان راكباً أم سائقاً إلا إذا كان اشتغاله بالصلاة في حال سياقته يؤثر فإنه يجب عله تجنب الخطر، وإذا نزل صلى التطوع إن لم يفت وقته، فإن فات وقته كما لو كان من عادته أن يصلي(16/159)
صلاة الضحى ولم يقف إلا بعد أذان الظهر فإنها سنة فات محلها فلا تقضى. والله أعلم.
* * *
وسئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: عن حكم رد السلام حال الخطبة؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يجوز للإنسان أن يرد السلام على من سلم عليه والإمام يخطب، ولكن إزالة لما قد يقع في نفسه من عدم الرد فإنه إذا انتهى الخطيب من الخطبة ينبغي أو يجب أن يرد عليه السلام، ويقول له: إن الخطبة ليست محلاً للسلام لا ابتداء ولا ردًّا، ولهذا يحرم في أثناء الخطبة ابتداء السلام ورد السلام، لأن الإنسان مأمور بالإنصات، وقد ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «إذا قلت لصاحبك: أنصت. يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت» ، ومعنى اللغو: أن الإنسان لا يكتب له أجر الجمعة، وإن كانت تجزئه. ولكنه لا يكتب له أجرها وفضلها، ويحرم من هذا الفضل بسبب أنه اشتغل بكلمة واحدة وهي قوله لصاحبه: «أنصت» فما بالك بقوم يتخذون من الخطبة مكاناً للتحدث فيما بينهم.(16/160)
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل يجوز رد السلام والإمام يخطب يوم الجمعة؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يجوز للإنسان أن يسلم على أحد والإمام يخطب يوم الجمعة ولا يجوز لأحد أن يرد عليه سلامه، لكن إذا انتهت الخطبة ينبغي أن يرد أو يجب أن يرد عليه السلام، ثم يقول له نصيحة لئلا يقع في قلبه شيء يقول له: إن السلام وقت الخطبة محرم، وإن رده محرم، وذلك إما بين الخطبتين، أو بعدهما أو بعد الصلاة.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: في يوم الجمعة دخلت المسجد للصلاة وفي أثناء الخطبة دخل المسجد واحد من المصلين فصلى تحية المسجد ثم جلس بجانبي وسلم عليّ باليد مصافحاً والإمام يخطب، فهل من حقي أن أصافحه باليد وأرد السلام عليه أو أعمل بحديث الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من مسَّ الحصى فقد لغا، ومن لغا فلا جمعة له» ، لذا أومأت له برأسي. وبعدما فرغ الإمام من الخطبة سلمت عليه واعتذرت وأخبرته بالحديث، فما حكم ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: الإنسان إذا جاء والإمام يخطب يوم الجمعة فإنه يصلي ركعتين خفيفتين ويجلس ولا يسلم على أحد، فالسلام على الناس في هذه الحال محرم، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة: أنصت، والإمام يخطب فقد(16/161)
لغوت» ، وكذلك قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من مس الحصى فقد لغا» ، واللاغي، معناه الذي أتى شيئاً من اللغو، وربما يكون هذا الذي حصل منه مفوتاً لثواب الجمعة، ولهذا جاء في الحديث: «ومن لغى فلا جمعة له» ، وإذا سلم عليك أحدٌ فلا ترد عليه السلام باللفظ، لا تقل: وعليك السلام. حتى لو قاله باللفظ، لا تقل وعليك السلام.
أما مصافحته فإنه لا بأس بها وإن كان الأولى أيضاً عدم المصافحة، وغمزه ليشعر بأن هذا ليس موضع مصافحة؛ لأن في المصافحة نوعاً من العبث الذي قد يخرج الإنسان عن تمام الاستماع للخطبة. وما صنعت في كونك نبهته حين انتهت الخطبة على أن هذا أمر لا ينبغي فهو حسن وليت مثلك كثير. فإن بعض الناس يكون جاهلاً في الأمر فيرد السلام. أو ربما يحرجه ويتركه ويهجره، ولا يخبره إذا انتهى الخطيب لماذا صنع هذا، على أن من أهل العلم من قال: له رد السلام، ولكن الصحيح أن ليس له أن يرد السلام؛ لأن واجب الاستماع مقدم على واجب الرد، ثم إن المسلم في هذه الحال ليس له حق أن يسلم والإمام يخطب؛ لأن ذلك يشغل الناس عن ما يجب استماعهم إليه، وأنه لا رد ولا ابتداء في السلام والإمام يخطب.
* * *(16/162)
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: يتحدث بعض المأمومين مع الإمام أثناء خطبة الجمعة أو مثلاً يصلح جهاز مكبر الصوت فيما لو حصل فيه عطل أثناء الخطبة لكي تعم الفائدة؟ هل يدخل هذا في المنع؟
فأجاب فضيلته بقوله: التحدث مع الإمام بما فيه المصلحة، أو الحاجة لا بأس به فللإمام مثلاً أن يقول لمن دخل وجلس: قم فصل ركعتين، وله أن يقول لمن يتردد بين الصفوف أو يتخطى الرقاب: اجلس فقد آذيت، وله أيضاً أن يتكلم مع من يصلح جهاز مكبر الصوت إذا حصل فيه عطل، أو يتكلم مع إنسان ليفتح النوافذ إذا حصل على الناس غمّ، أو ضيق تنفس من حر أو ما أشبه ذلك.
المهم أن الخطيب له أن يكلم من شاء للمصلحة، أو للحاجة، وكذلك لغيره أن يكلمه للمصلحة، أو للحاجة.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: في بعض المساجد يتكلم بعض من لا يحسن العربية أثناء خطبة الجمعة، هل يحق للخطيب المداومة على التنبيه عليهم لأنهم يتغيرون؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كثر الذين يتكلمون أثناء الخطبة يوم الجمعة فإن الخطيب نفسه يتكلم يقول: بلغنا أن أناساً يتكلمون وهذا حرام عليهم، ويأتي بالحديث الدال على ذلك،(16/163)
ولكن المشكلة أنه ربما يقع الكلام من قوم لا يفهمون اللغة العربية فتقع المشكلة وحينئذ لا بأس أن يشير من حولهم بالإشارة ليسكتهم لا بالقول؛ لأن تسكيتهم بالقول محرم لقول النبي عليه الصلاة والسلام: «إذا قلت لصاحبك: أنصت، يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت» .
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: نرى بعض الناس يتساهلون في الكلام أثناء خطبة الجمعة فما حكم من يتكلم والإمام يخطب؟ وما واجبنا نحوهم؟
فأجاب فضيلته بقوله: الكلام يوم الجمعة والإمام يخطب حرام، وبه يفوت أجر الجمعة وثوابها الخاص، لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة: أنصت، والإمام يخطب فقد لغوت» لكن يجوز أن يتكلم الخطيب مع غيره لمصلحة فقد دخل رجل والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يخطب يوم الجمعة فجلس فقال: «أصليت؟» قال: لا، قال: «قم فصل ركعتين» . ودخل رجل والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطب فقال: يا رسول الله: هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يغيثنا، فرفع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يديه وقال: «اللهم أغثنا» . وفي الجمعة الأخرى دخل رجل وقال: يا رسول الله، غرق المال،(16/164)
وتهدم البناء، فادع الله يمسكها عنا، فرفع يديه وقال: «اللهم حوالينا ولا علينا» الحديث.
وبهذا يتبين أن من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو آثم، محروم من أجر الجمعة وثوابها، وإن كانت تجزىء عنه وتبرأ بها ذمته.
وأن من تكلم مع الخطيب، أو تكلم معه الخطيب لمصلحة فلا إثم عليه.
وأما واجبنا نحو من يتكلم والإمام يخطب فهو نصيحته وتحذيره من ذلك، لكن بعد انتهاء الخطبة، أما في أثناء الخطبة فيمكن تسكيته بالإشارة.
* * *
وسئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: عن حكم رد السلام وتشميت العاطس أثناء خطبة الجمعة؟
فأجاب فضيلته بقوله: رد السلام وتشميت العاطس أثناء خطبة الجمعة لا يجوز؛ لأنه كلام والكلام حينئذ محرم؛ ولأن المسلم لا يشرع له السلام في هذه الحال فسلامه غير مشروع فلا يستحق جواباً.
والعاطس غير مشروع له حال الخطبة أن يجهر بالحمد فلا يستحق أن يشمت.
* * *(16/165)
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: إذا كان الإمام يخطب يوم الجمعة فهل لمستمع الخطبة أن يرد السلام على من سلم عليه؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يرد السلام عليه، ولكنه يشير إليه بيده حتى لا يكرر السلام مرة أخرى وحتى لا يكون في نفسه شيء، فإذا انتهى الإمام من الخطبة أخبره أنه لا يجوز له هو أن يسلم، ولا يستحق الرد.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل لمستمع الخطبة أن يشمت العاطس ويصلي على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا ذكر الخطيب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
فأجاب فضيلته بقوله: ليس له أن يشمت العاطس، والعاطس لا ينبغي له أن يحمد الله بصوت مسموع.
أما إذا ذكر الخطيب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه يصلي عليه سراً حتى لا يشوش على من حوله.
* * *
وسئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: إذا دعا الإمام هل يؤمن على دعائه؟ ويقرن ذلك برفع اليدين؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم يؤمن على دعائه؛ لأن الإمام يدعو لنفسه ولمن يستمع إليه.
أما رفع اليدين فلا ترفع إلا في موضعين:(16/166)
الأول: إذا دعا الإمام بالغيث فإنه يرفع يديه ويرفع الناس أيديهم، وأعني بالإمام الخطيب، إذا دعا الإمام بالغيث قال: «اللهم أغثنا» فإنه يرفع يديه ويرفع المستمعون أيديهم كذلك.
ثانياً: الاستصحاء إذا دعا الله بالصحو: «اللهم حوالينا ولا علينا» فليرفع يديه وكذلك المستمعون، لما تقدم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وما عدا ذلك فينهى عنه أي عن رفع اليدين حال الخطبة لا الخطيب ولا المستمع.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل التسوك والإمام يخطب يعد من اللغو؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم يعد من اللغو، إلا إذا دعت الحاجة إليه مثل أن يصيبه النعاس فيستاك ليطرد النعاس فلا بأس.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: إننا نصلي مع جماعتنا في المسجد، ونلاحظ بعد صلاة الجمعة كثيراً من الجماعة يتنازعون ويتشاجرون، ما حكم ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: ينبغي للمسلم أن لا يشاجر إخوانه، ولا ينازعهم، وكل شيء يحدث العداوة والبغضاء فإن الشرع ينهى عنه، ولهذا نهى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يبيع الرجل على بيع أخيه، وأن يخطب على خطبة أخيه، لما في ذلك من العداوة والبغضاء.(16/167)
لاسيما وأن هؤلاء قد خرجوامن صلاة الجمعة، وصلاة الجمعة كما ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تكفر ما قبلها إلى الجمعة الأخرى، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر» . والله الموفق.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: بعض الأئمة في فجر الجمعة يقرأ سورة فيها سجدة عوضاً عن {آلم تنزيل} السجدة فما حكم هذا العمل؟
فأجاب فضيلته بقوله: المشروع في فجر يوم الجمعة أن يقرأ الإنسان {آلم تنزيل} السجدة، في الركعة الأولى، و {هل أتى على الإنسان} في الركعة الثانية.
وليس المقصود بقراءة {آلم تنزيل} السجدة التي فيها، بل المقصود نفس السورة، فإن تيسر له أن يقرأ هذه السورة في الركعة الأولى، و {هل أتى على الإنسان} في الركعة الثانية فهذا هو المطلوب والمشروع، وإلا فلا يتقصد أن يقرأ سورة فيها سجدة عوضاً عن {آلم تنزيل} السجدة.
* * *(16/168)
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: من المعلوم أنه إذا وفق العيد يوم الجمعة سقطت الجمعة عمن صلى العيد، فهل تجب الظهر أم أنها تسقط كلية؟
فأجاب فضيلته بقوله: الصواب في ذلك أنه يجب عليه إما صلاة الجمعة مع الإمام، لأن الإمام سوف يقيم الجمعة، وإما صلاة الظهر؛ لأن عموم قوله تعالى: {أَقِمِ الصلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ وَقُرْءَانَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْءَانَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} (يعني لزوالها) {إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ وَقُرْءَانَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْءَانَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} يتناول يوم العيد الذي وافق يوم الجمعة. وعلى هذا فيجب على المرء إذا صلى مع الإمام يوم العيد الذي وافق يوم الجمعة، يجب عليه إما أن يحضر إلى الجمعة التي يقيمها الإمام، وإما أن يصلي صلاة الظهر، إذ لا دليل على سقوط صلاة الظهر، والله تعالى يقول: {أَقِمِ الصلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ وَقُرْءَانَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْءَانَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} والظهر فرض الوقت وقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وقت الظهر إذا زالت الشمس» .
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: لا تخفى علينا أهمية الجمعة وفضلها، وأن من حضر صلاة العيد سقطت عنه الجمعة وصلاها ظهراً، فهل هذا محل إجماع بين العلماء رحمهم الله، وما حكمة الشارع من ذلك؟ ومن حضر صلاة العيد ولم يتمكن من سماع الخطبتين هل يجب(16/169)
عليه حضور الجمعة أم لا؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذه المسألة ليست إجماعية ولا منصوصة من قبل الشارع نصًّا صحيحاً، بل النصوص الواردة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سقوط الجمعة ضعيفة، ولذلك كان مذهب كثير من العلماء أن الجمعة لا تسقط عن أهل البلد وتسقط عمن هو خارج البلد، وعللوا ذلك بأنهم إن بقوا بعد العيد إلى وقت الجمعة شق عليهم، وإن ذهبوا إلى محلهم شق عليهم الرجوع، وذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى وجوب الجمعة على أهل البلد وغيرهم، وذهب عطاء بن أبي رباح رحمه الله إلى سقوط الجمعة عن كل أحد ولا يصلون بعد العيد إلا العصر، قال ابن المنذر: روينا نحوه عن علي بن أبي طالب وابن الزبير. والمشهور من مذهب أحمد أن الجمعة تسقط عمن صلى العيد مع الإمام ولا تسقط عن الإمام، وتجب الظهر على من لم يصل الجمعة.
ولكن قد صح عن ابن الزبير رضي الله عنه أنه اقتصر على العيد ولم يصل الجمعة بعدها، وقال ابن عباس: أصاب السنة، وفي صحيح مسلم عن النعمان بن بشير قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في العيدين وفي الجمعة ب {سبح اسم ربك الأعلى} و {هل أتاك حديث الغاشية} قال: وإذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد يقرأ بهما أيضاً في الصلاتين، وصح عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه رخص لأهل(16/170)
العوالي فقط في ترك الجمعة، فأنت ترى الآن اختلاف الأدلة واختلاف العلماء في هذه المسألة، ولكن على القول بسقوط الجمعة تكون الحكمة هو أنه حصل الاجتماع العام الذي شرعه الشارع كل أسبوع بصلاة العيد فاكتفى فيه بتلك الصلاة كما يكتفى بصلاة الفريضة عن تحية المسجد.
أما بالنسبة للسؤال الثاني فنقول: نعم، من حضر الصلاة مع الإمام أجزأته عن صلاة الجمعة، وإن لم يسمع الخطبة على القول بسقوطها كما تقدم.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما الحكم لو صادف يوم العيد يوم الجمعة؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا صادف يوم الجمعة يوم العيد فإنه لابد أن تُقام صلاة العيد، وتُقام صلاة الجمعة، كما كان النبي عليه الصلاة والسلام يفعل، ثم إن من حضر صلاة العيد فإنه يعفى عنه حضور صلاة الجمعة، ولكن لابد أن يصلي الظهر، لأن الظهر فرض الوقت، ولا يمكن تركها.(16/171)
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: عن قراءة سورة السجدة والإنسان فجر الجمعة هل هو عام للرجال والنساء؟ وحكم القراءة من المصحف لمن لم يحفظ؟
فأجاب فضيلته بقوله: نقول في الجواب على هذا السؤال: ينبغي أن يعلم أن ما فعله النبي عليه الصلاة والسلام في صلاته من أفعال، أو قاله من أقوال فهو مشروع للرجال والنساء وللمنفرد وللإمام أيضاً، حتى يقوم دليل على التخصيص لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صلواكما رأيتموني أصلي» ، فهذا الحديث عام وشامل، فكل ما قاله رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو أقره، أو فعله في صلاته فإن الأصل فيه المشروعية لكل أحد إلا أن يقوم دليل على التخصيص.
أما القراءة من المصحف في حق من لم يحفظ فإن هذا لا بأس به، فيجوز للإنسان أن يقرأ في المصحف عند خوف نسيان آية أو غلط فيها ولا حرج عليه. والله الموفق.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل من السنة المواظبة على قراءة سورة السجدة والإنسان في الجمعة دائماً؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ بهما «(16/172)
ويديم على ذلك» ، وهذه اللفظة ليست في الصحيحين، ولكن لا تنافي ما في الصحيحين، لكن لو أنه خشي أن يظن العامة أن قراءتهما فرض فلا بأس أحياناً أن يقرأ بغيرهما مثل في الشهر مرة، أو في الشهر مرتين.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: يوجد بعض أئمة المساجد يقرأون في صلاة فجر يوم الجمعة بسورة الإنسان في الركعة الأولى والثانية، وبعضهم يقرأ سورة السجدة في الركعة الأولى والثانية، وبعضهم يقرأ نصف سورة السجدة في الركعة الأولى، ونصف سورة الإنسان في الركعة الثانية، فهل عملهم هذا صحيح؟ وهل نقول لهم بأن عملهم هذا بدعة جزاكم الله خيراً؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا نقول إن عملهم بدعة، لكننا نقول أن عملهم تلاعب بالسنة، إذا كانوا صادقين في اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام فليفعلوا ما فعل، ولهذا وصف ابن القيم رحمه الله أمثال هؤلاء بالأئمة الجهال فنحن نقول: إذا كان لديك قوة على أن تقرأ {ال"م". تنزيل} السجدة في الركعة الأولى و {هل أتى} في الركعة الثانية فافعل، وإن لم يكن لديك قوة فاقرأ سورة أخرى لئلا تشطر السنة وتلعب بها، فالسنة محفوظة كان الرسول(16/173)
عليه الصلاة والسلام في فجر يوم الجمعة يقرأ في الركعة الأولى: {ال"م. تنزيل) السجدة، وفي الركعة الثانية: {هل أتى على الإنسان} ، فإما أن تفعل ما فعله الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، وإما أن تقرأ سوراً أخرى، أما أن تشطر ما فعله الرسول وتقسم ما فعله الرسول فهذا خلاف السنة ولا شك أنه تلاعب بالسنة، فافعل هدي نبيك محمد عليه الصلاة والسلام، وكن شجاعاً؛ لأن بعض الأئمة يقول: إذا قرأت: {ال"م". تنزيل} السجدة في الركعة الأولى و {هل أتى على الإنسان} في الركعة الثانية قالوا: ليش تطول علينا؟ ليش تفعل؟ ثم صاروا فقهاء وهم عوام، يقولون كيف تطول بنا والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غضب على معاذ رضي الله عنه وعاتبه.
لكن نقول: كل ما فعله الرسول فهو تخفيف، حتى لو قرأ: {ال"م. تنزيل) . و {هل أتى على الإنسان} . ولهذا قال أنس بن مالك رضي الله عنه: «ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتم صلاة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم» .
* * *(16/174)
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: يتبع بعض الناس طريقة لمحاسبة أنفسهم في أداء الصلوات المفروضة والسنن الرواتب، وهي أن يضع جدولاً، هذا الجدول عبارة عن محاسبة لأدائه الصلوات خلال أسبوع واحد، بحيث يضع أمام كل وقت صلاة مربعين، أحدهما للفرض والآخر للسنة الراتبة، فإذا صلى الفرض مع الجماعة وضع لصلاته تلك درجة، وإذا صلى الراتبة وضع لها درجة أيضاً، وإذا لم يصل لم يضع درجة.. وهكذا، ثم في آخر الأسبوع يخرج مجموع الدرجات، وتشتمل الورقة على أربعة جداول لشهر واحد، ويقول هؤلاء: إن مثل هذه الوسيلة تعين على المحافظة على أداء الفرائض والسنن، فما رأي فضيلتكم في هذه الطريقة؟ هل هي مشروعة أم لا؟ وما رأيكم في نشرها أثابكم الله؟ وهذه صورة الجدول.(16/175)
فأجاب فضيلته بقوله: هذه الطريقة غير مشروعة فهي بدعة، وربما تسلب القلب معنى التعبد لله تعالى، وتكون العبادات كأنها أعمال روتينية كما يقولون، وفي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: دخل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المسجد فإذا حبل ممدود بين ساريتين فقال: «ما هذا» ؟ قالوا: حبل لزينب تصلي فإذا كسلت، أو فترت أمسكت به فقال: «حلوه، ليصل أحدكم نشاطه فإذا كسل، أو فتر فليقعد» . ثم إن الإنسان قد يعرض له أعمال مفضولة في الأصل ثم تكون فاضلة في حقه لسبب فلو اشتغل بإكرام ضيف نزل به عن راتبة صلاة الظهر لكان اشتغاله بذلك أفضل من صلاة الراتبة.
وإني أنصح شبابنا من استعمال هذه الأساليب في التنشيط على العبادة؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حذر من مثل ذلك حيث حث على اتباع سنته وسنة الخلفاء الراشدين، وحذر من البدع، وبين أن كل بدعة ضلالة. يعني وإن استحسنها مبتدعوها، ولم يكن من هديه ولا هدي خلفائه وأصحابه رضي الله عنهم مثل هذا.
* * *(16/176)
رسالة
فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
تسائلنا مع بعض العمال والوافدين إلى بلادنا في موضوع الأهلة التي توضع على المآذن (المنائر) كيف وضعها في بلادهم فأجابوا قائلين: إنها توضع في بلادنا على معابد النصارى وقباب القبور المعظمة، أفتونا جزاكم الله خيراً والحالة هذه عن وضعها على مآذن مساجد المسلمين؟
فأجاب فضيلته بقوله: بسم الله الرحمن الرحيم. وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. أما وضع الهلال على القبور المعظمة فقد ذكر الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهم الله تعالى 01/342 من الدرر السنية ما نصه:
«وعمار مشاهد المقابر يخشون غير الله، ويرجون غير الله، حتى إن طائفة من أرباب الكبائر الذين لا يتحاشون فيما يفعلونه من القبائح إذا رأى أحدهم قبة الميت، أو الهلال الذي على رأس القبة خشي من فعل الفواحش، ويقول أحدهم لصاحبه: ويحك هذا هلال القبة. فيخشون المدفون تحت الهلال، ولا يخشون الذي خلق السموات والأرض، وجعل أهلة السماء مواقيت للناس والحج» اهـ.(16/177)
وأما وضع الهلال على معابد النصارى فليس ببعيد، لكن قد قيل: إنهم يضعون على معابدهم الصلبان والله أعلم.
لكن وضع الأهلة على المنائر كان حادثاً في أكثر أنحاء المملكة وقد قيل: إن بعض المسلمين الذين قلدوا غيرهم فيما يصنعونه على معابدهم وضعوا الهلال بإزاء وضع النصارى الصليب على معابدهم، كما سمو دور الإسعافات للمرضى (الهلال الأحمر) بإزاء تسمية النصارى لها ب (الصليب الأحمر) وعلى هذا فلا ينبغي وضع الأهلة على رؤوس المنارات من أجل هذه الشبهة، ومن أجل ما فيها من إضاعة المال والوقت.
* * *(16/178)
فصل في مسألة جمع العصر إلى الجمعة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد
فقد كثر السؤال عن جمع صلاة العصر إلى صلاة الجمعة في الحال التي يجوز فيها جمع العصر إلى الظهر.
فأجيب مستعيناً بالله سائلاً منه الهداية والتوفيق:
لا يجوز جمع العصر إلى صلاة الجمعة في الحال التي يجوز فيها الجمع بين الظهر والعصر، فلو مر المسافر ببلد وصلى معهم الجمعة، لم يجز أن يجمع العصر إليها، ولو نزل مطر يبيح الجمع وقلنا بجواز الجمع بين الظهر والعصر للمطر لم يجز جمع العصر إلى الجمعة.
ولو حضر المريض الذي يباح له الجمع إلى صلاة الجمعة فصلاها، لم يجز أن يجمع إليها صلاة العصر.
ودليل ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الصلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً} أي مفروضاً لوقت معين وقد بين الله تعالى هذا الوقت إجمالاً في قوله تعالى: {أَقِمِ الصلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ وَقُرْءَانَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْءَانَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} .
فدلوك الشمس زوالها، وغسق الليل اشتداد ظلمته، وهذا منتصف الليل، ويشمل هذا الوقت أربع صلوات: الظهر،(16/179)
والعصر، والمغرب، والعشاء جمعت في وقت واحد؛ لأنه لا فصل بين أوقاتها، فكلما خرج وقت صلاة كان دخول وقت الصلاة التي تليها، وفصل صلاة الفجر؛ لأنها لا يتصل بها صلاة العشاء، ولا تتصل بصلاة الظهر.
وقد بينت السنة هذه الأوقات بالتفصيل في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وجابر رضي الله عنهما وغيرهما وهو أن الظهر من زوال الشمس إلى أن يصير ظل كل شيء مثله، ووقت العصر من حين أن يصير ظل كل شيء مثله إلى غروب الشمس، لكن ما بعد اصفرارها وقت ضرورة، ووقت المغرب من غروب الشمس إلى مغيب الشفق الأحمر، ووقت العشاء من غروب الشفق الأحمر إلى نصف الليل، ووقت الفجر من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، هذه حدود الله تعالى لأوقات الصلوات في كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فمن صلى صلاة قبل وقتها المحدد في كتاب الله وسنة رسوله فهو آثم، وصلاته مردودة لقوله تعالى: {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ولقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» . وكذلك من صلاها بعد الوقت لغير عذر شرعي، فمن صلى الظهر قبل زوال الشمس فصلاته باطلة(16/180)
مردودة، وعليه قضاؤها.
ومن صلى العصر قبل أن يصير ظل كل شيء مثله فصلاته باطلة مردودة، وعليه قضاؤها، إلا أن يكون له عذر شرعي يبيح له جمعها تقديماً إلى الظهر.
ومن صلى المغرب قبل غروب الشمس فصلاته باطلة مردودة، وعليه قضاؤها.
ومن صلى العشاء قبل مغيب الشفق الأحمر فصلاته باطلة مردودة، وعليه قضاؤها، إلا أن يكون له عذر شرعي يبيح له جمعها تقديماً إلى المغرب.
ومن صلى الفجر قبل طلوع الفجر فصلاته باطلة مردودة، وعليه قضاؤها.
هذا ما يقتضيه كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعلى هذا فمن جمع صلاة العصر إلى صلاة الجمعة فقد صلاها قبل أن يدخل وقتها وهو أن يصير ظل كل شيء مثله فتكون باطلة مردودة.
فإن قال قائل: أفلا يصح قياس جمع العصر إلى الجمعة على جمعها إلى الظهر؟
فالجواب: لا يصح ذلك لوجوه:
الأول: أنه لا قياس في العبادات.
الثاني: أن الجمعة صلاة مستقلة منفردة بأحكامها تفترق مع الظهر بأكثر من عشرين حكماً، ومثل هذه الفروق تمنع أن تلحق إحدى الصلاتين بالأخرى.(16/181)
الثالث: أن هذا القياس مخالف لظاهر السنة، فإن في صحيح مسلم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء في المدينة من غير خوف ولا مطر، فسئل عن ذلك فقال: أراد أن لا يحرج أمته. وقد وقع المطر الذي فيه المشقة في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يجمع فيه بين العصر والجمعة كما في صحيح البخاري وغيره عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استسقى يوم الجمعة وهو على المنبر، فما نزل من المنبر إلا والمطر يتحادر من لحيته، ومثل هذا لا يقع إلا من مطر كثير يبيح الجمع لو كان جائزاً بين العصر والجمعة، قال: وفي الجمعة الأخرى دخل رجل فقال: يا رسول الله غرق المال، وتهدم البناء، فادع الله يمسكها عنا، ومثل هذا يوجب أن يكون في الطرقات وحل يبيح الجمع لو كان جائزاً بين العصر والجمعة.
فإن قال قائل: ما الدليل على منع جمع العصر إلى الجمعة؟
فالجواب: أن هذا سؤال غير وارد لأن الأصل في العبادات المنع إلا بدليل، فلا يطالب من منع التعبد لله تعالى بشيء من الأعمال الظاهرة، أو الباطنة، وإنما يطالب بذلك من تعبد به لقوله تعالى منكراً على من تعبدوا لله بلا شرع: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللهُ وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ(16/182)
لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِى مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِى مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» . وعلى هذا:
فإذا قال القائل: ما الدليل على منع جمع العصر مع الجمعة؟
قلنا: ما الدليل على جوازه؟ فإن الأصل وجوب فعل صلاة العصر في وقتها، خولف هذا الأصل في جمعها إلى الظهر عند وجوب سبب الجمع، فبقي ما عداه على الأصل، وهو منع تقديمها على وقتها.
فإن قال قائل: أرأيتم لو نوى بصلاة الجمعة صلاة الظهر ليتم له الجمع؟
فالجواب: إن كان ذلك إمام الجمعة في أهل البلد أي أن أهل البلد نووا بالجمعة صلاة الظهر فلا شك في تحريمه وبطلان الصلاة؛ لأن الجمعة واجبة عليهم، فإذا عدلوا عنها إلى الظهر فقد عدلوا عما أمروا به إلى ما لم يؤمروا به، فيكون عملهم باطلاً مردوداً لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» .
وأما إن كان الذي نوى بالجمعة الظهر كمسافر صلى الجمعة وراء من يصليها، فنوى بها الظهر ليجمع إليها العصر فلا يصح أيضاً؛ لأنه لما حضر الجمعة لزمته، ومن لزمته الجمعة فصلى الظهر قبل سلام الإمام منها لم تصح ظهره.(16/183)
وعلى تقدير صحة ذلك فقد فوت على نفسه خيراً كثيراً وهو أجر صلاة الجمعة.
هذا وقد نص صاحبا المنتهى والإقناع رحمهما الله على أن الجمعة لا يصح جمع العصر إليها، ذكرا ذلك في أول باب صلاة الجمعة.
وإنما أطلت في ذلك للحاجة إليه، والله أسأل أن يوفقنا للصواب ونفع العباد إنه جواد كريم.
كتبه محمد الصالح العثيمين في 12/6/1419 هـ.(16/184)
بسم الله الرحمن الرحيم
فصل
قال فضيلة الشيخ جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء:الفروق بين صلاة الجمعة وصلاة الظهر:
1 صلاة الجمعة لا تنعقد إلا بجمع على خلاف بين العلماء في عدده.
وصلاة الظهر تصح من الواحد والجماعة.
2 صلاة الجمعة لا تقام إلا في القرى والأمصار.
وصلاة الظهر في كل مكان.
3 صلاة الجمعة لا تقام في الأسفار فلو مر جماعة مسافرون ببلد قد صلوا الجمعة لم يكن لهؤلاء الجماعة أن يقيموها.
وصلاة الظهر تقام في السفر والحضر.
4 صلاة الجمعة لا تقام إلا في مسجد واحد في البلد، إلا لحاجة.
وصلاة الظهر تقام في كل مسجد.
5 صلاة الجمعة لا تقضى إذا فات وقتها، وإنما تصلى ظهراً؛ لأن من شرطها الوقت.
وصلاة الظهر تقضى إذا فات وقتها لعذر.
6 صلاة الجمعة لا تلزم النساء، بل هي من خصائص الرجال.
وصلاة الظهر تلزم الرجال والنساء.
7 صلاة الجمعة لا تلزم الأرقاء، على خلاف في ذلك وتفصيل.
وصلاة الظهر تلزم الأحرار والعبيد.(16/185)
8 صلاة الجمعة تلزم من لم يستطع الوصول إليها إلا راكباً.
وصلاة الظهر لا تلزم من لا يستطيع الوصول إليها إلا راكباً.
9 صلاة الجمعة لها شعائر قبلها كالغسل، والطيب، ولبس أحسن الثياب ونحو ذلك.
وصلاة الظهر ليست كذلك.
01 صلاة الجمعة إذا فاتت الواحد قضاها ظهراً لا جمعة.
وصلاة الظهر إذا فاتت الواحد قضاها كما صلاها الإمام إلا من له القصر.
11 صلاة الجمعة يمكن فعلها قبل الزوال على قول كثير من العلماء.
وصلاة الظهر لا يجوز فعلها قبل الزوال بالاتفاق.
21 صلاة الجمعة تسن القراءة فيها جهراً.
وصلاة الظهر تسن القراءة فيها سرًّا.
31 صلاة الجمعة تسن القراءة فيها بسورة معينة، إما سبح والغاشية، وإما الجمعة والمنافقون.
وصلاة الظهر ليس لها سور معينة.
41 صلاة الجمعة ورد في فعلها من الثواب، وفي تركها من العقاب ما هو معلوم.
وصلاة الظهر لم يرد فيها مثل ذلك.
51 صلاة الجمعة ليس لها راتبة قبلها، وقد أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من صلاها أن يصلي بعدها أربعاً.(16/186)
وصلاة الظهر لها راتبة قبلها، ولم يأت الأمر بصلاة بعدها، لكن لها راتبة بعدها.
61 صلاة الجمعة تسبقها خطبتان.
وصلاة الظهر ليس لها خطبة.
71 صلاة الجمعة لا يصح البيع والشراء بعد ندائها الثاني ممن تلزمه.
وصلاة الظهر يصح البيع والشراء بعد ندائها ممن تلزمه.
81 صلاة الجمعة إذا فاتت في مسجد لا تعاد فيه ولا في غيره.
وصلاة الظهر إذا فاتت في مسجد أعيدت فيه وفي غيره.
91 صلاة الجمعة يشترط لصحتها إذن الإمام على قول بعض أهل العلم.
وصلاة الظهر لا يشترط لها ذلك بالاتفاق.
02 صلاة الجمعة رتب في السبق إليها ثواب خاص مختلف باختلاف السبق، والملائكة على أبواب المسجد يكتبون الأول فالأول.
وصلاة الظهر لم يرد فيها مثل ذلك.
12 صلاة الجمعة لا إبراد فيها في شدة الحر.
وصلاة الظهر يسن فيها الإبراد في شدة الحر.
22 صلاة الجمعة لا يصح جمع العصر إليها في الحال التي يجوز فيها جمع العصر إلى الظهر.
وصلاة الظهر يصح جمع العصر إليها حال وجود العذر المبيح.(16/187)
صلاة الكسوفصلاة الكسوفصلاة الكسوفصلاة الاستسقاءعضها أي الزائد عما ذكرنا فيه نظر، أو داخل في بعض ما ذكرناه. والله أعلم.
كتبه محمد الصالح العثيمين وتم ذلك في 15/6/ 1419هـ.(16/188)
صلاة العيدين
باب صلاة العيدين
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: عن الأعياد المشروعة في الإسلام؟ وحكم الاحتفال بما سواها؟
فأجاب فضيلته بقوله: الأعياد ثلاثة:
الفطر: ومناسبته اختتام صيام رمضان.
الأضحى: ومناسبته اختتام عشر ذي الحجة.
الجمعة: وهو عيد الأسبوع، ومناسبته اختتام الأسبوع.
ولا يحتفل بما سواها فلا يحتفل بذكرى غزوة بدر، ولا غيرها من الغزوات العظيمة سواء كانت هذه الانتصارات في عهد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أو بعده.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: عن حكم الاحتفال عند تخريج دفعة من حفظة كتاب الله؟ وهل ذلك من اتخاذ الأعياد؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا بأس بذلك، ولا تدخل في اتخاذها عيداً؛ لأنها لا تتكرر بالنسبة لهؤلاء الذين احتفل بهم، ولأن لها مناسبة حاضرة.
* * *
وسئل فضيلته: ما رأي سماحتكم في الأعياد التي تقام الآن، لعيد الميلاد، والعيد الوطني، وغير ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: أماعيد الميلاد فإن كان المراد ميلاد(16/191)
عيسى بن مريم، عليه الصلاة والسلام، الذي يتخذه النصارى عبادة فإن إقامته للمسلم حرام بلا شك. وهو من أعظم المحرمات، لأنه تعظيم لشعائر الكفر، والإنسان إذا أقامه فهو على خطر.
وأما إذا كان المراد ميلاد كل شخص بنفسه، فهذا إلى التحريم أقرب منه إلى الكراهة، وكذلك إقامة أعياد المناسبات غير المناسبات الشرعية، والمناسبات الشرعية للأعياد هي: فطر رمضان، وعيد الأضحى، وعيد الأسبوع، وهو يوم الجمعة.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: عن حكم إظهار الفرح والسرور بعيد الفطر وعيد الأضحى، وبليلة السابع والعشرين من رجب، وليلة النصف من شعبان، ويوم عاشوراء؟
فأجاب فضيلته بقوله: أما إظهار الفرح والسرور في أيام العيد عيد الفطر، أو عيد الأضحى فإنه لا بأس به إذا كان في الحدود الشرعية، ومن ذلك أن يأتي الناس بالأكل والشرب وما أشبه هذا وقد ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه قال: «أيام التشريق أيام أكل وشرب، وذكر لله عز وجل» يعني بذلك الثلاثة الأيام التي بعد عيد الأضحى المبارك وكذلك في العيد، فالناس يضحون ويأكلون من ضحاياهم ويتمتعون بنعم الله عليهم، وكذلك في عيد(16/192)
الفطر لا بأس بإظهار الفرح والسرور ما لم يتجاوز الحد الشرعي.
أما إظهار الفرح في ليلة السابع والعشرين من رجب، أو ليلة النصف من شعبان، أو في يوم عاشوراء، فإنه لا أصل له وينهى عنه ولا يحضر الإنسان إذا دعي إليه لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة» . فأما ليلة السابع والعشرين من رجب فإن الناس يدعون أنها ليلة المعراج التي عرج بالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها إلى الله عز وجل وهذا لم يثبت من الناحية التاريخية، وكل شيء لم يثبت فهو باطل، والمبني على الباطل باطل، ثم على تقدير ثبوت أن ليلة المعراج ليلة السابع والعشرين من رجب، فإنه لا يجوز لنا أن نحدث فيها شيئاً من شعائر الأعياد أو شيئاً من العبادات؛ لأن ذلك لم يثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأصحابه فإذا كان لم يثبت عمن عرج به، ولم يثبت عن أصحابه الذين هم أولى الناس به، وهم أشد الناس حرصاً على سنته وشريعته، فكيف يجوز لنا أن نحدث ما لم يكن على عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في تعظيمها شيء ولا في إحيائها، وإنما أحياها بعض التابعين بالصلاة والذكر لا بالأكل والفرح وإظهار شعائر الأعياد.
وأما يوم عاشوراء فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن صومه فقال: «يكفر السنة الماضية» ، يعني التي قبله، وليس في هذا اليوم شيء من شعائر الأعياد وكما أنه ليس فيه شيء من شعائر الأعياد فليس فيه(16/193)
شيء من شعائر الأحزان أيضاً، فإظهار الحزن أو الفرح في هذا اليوم كلاهما خلاف السنة، ولم يرد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في هذا اليوم إلا صيامه، مع أنه عليه الصلاة والسلام، أمر أن نصوم يوماً قبله أو يوماً بعده حتى نخالف اليهود الذين كانوا يصومونه وحده.
2131 سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: عن الفرق بين ما يسمى بأسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله تعالى - والاحتفال بالمولد النبوي حيث ينكر على من فعل الثاني دون الأول؟
فأجاب فضيلته بقوله: الفرق بينهما حسب علمنا من وجهين:
الأول: أن أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله تعالى - لم يتخذ تقرباً إلى الله عز وجل، وإنما يقصد به إزالة شبهة في نفوس بعض الناس في هذا الرجل ويبين ما من الله به على المسلمين على يد هذا الرجل.
الثاني: أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله لا يتكرر ويعود كما تعود الأعياد، بل هو أمر بين للناس وكتب فيه ما كتب، وتبين في حق هذا الرجل ما لم يكن معروفاً من قبل لكثير من الناس ثم انتهى أمره.(16/194)
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى - عن حكم إقامة الأسابيع كأسبوع المساجد وأسبوع الشجرة؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذه الأسابيع لا أعلم لها أصلاً في الشرع، وإذا اتخذت على سبيل التعبد وخصصت بأيام معلومة تصير كالأعياد فإنها تلتحق بالبدعة؛ لأن كل شيء يتعبد به الإنسان لله عز وجل وهو غير وارد في كتاب الله ولا في سنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنه من البدع.
لكن الذين نظموها يقولون إن المقصود بذلك هو تنشيط الناس على هذه الأعمال التي جعلوا لها هذه الأسابيع وتذكيرهم بأهميتها. ويجب أن ينظر في هذا الأمر، وهل هذا مسوغ لهذه الأسابيع أو ليس بمسوغ؟
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: عن حكم الاحتفال بما يسمى عيد الأم؟
فأجاب فضيلته بقوله: إن كل الأعياد التي تخالف الأعياد الشرعية كلها أعياد بدع حادثة لم تكن معروفة في عهد السلف الصالح وربما يكون منشؤوها من غير المسلمين أيضاً، فيكون فيها مع البدعة مشابهة أعداء الله سبحانه وتعالى والأعياد الشرعية معروفة عند أهل الإسلام، وهي عيد الفطر، وعيد الأضحى، وعيد الأسبوع «يوم الجمعة» وليس في الإسلام أعياد سوى هذه الأعياد الثلاثة، وكل أعياد أحدثت سوى ذلك فإنها(16/195)
مردودة على محدثيها وباطلة في شريعة الله سبحانه وتعالى لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» ، أي مردود عليه غير مقبول عند الله، وفي لفظ: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» . وإذا تبين ذلك فإنه لا يجوز في العيد الذي ذكر في السؤال والمسمى عيد الأم، لا يجوز فيه إحداث شيء من شعائر العيد؛ كإظهار الفرح والسرور، وتقديم الهدايا وما أشبه ذلك، والواجب على المسلم أن يعتز بدينه ويفتخر به وأن يقتصر على ما حده الله تعالى ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في هذا الدين القيم الذي ارتضاه الله تعالى لعباده فلا يزيد فيه ولا ينقص منه، والذي ينبغي للمسلم أيضاً أن لا يكون إمعة يتبع كل ناعق، بل ينبغي أن يكون شخصيته بمقتضى شريعة الله تعالى حتى يكون متبوعاً لا تابعاً، وحتى يكون أسوة لا متأسياً، لأن شريعة الله والحمد لله كاملة من جميع الوجوه كما قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِى مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِى مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . والأم أحق من أن يحتفى بها يوماً واحداً في السنة، بل الأم لها الحق على أولادها أن يرعوها، وأن يعتنوا بها، وأن يقوموا بطاعتها في غير معصية الله عز وجل في كل زمان ومكان.(16/196)
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: عن حكم إقامة أعياد الميلاد للأولاد أو بمناسبة الزواج؟
فأجاب بقوله: ليس في الإسلام أعياد سوى يوم الجمعة عيد الأسبوع، وأول يوم من شوال عيد الفطر من رمضان، والعاشر من شهر ذي الحجة عيد الأضحى، وقد يسمى يوم عرفة عيداً لأهل عرفة وأيام التشريق أيام عيد تبعاً لعيد الأضحى.
وأما أعياد الميلاد للشخص أو أولاده، أو مناسبة زواج ونحوها فكلها غير مشروعة، وهي للبدعة أقرب من الإباحة.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: عن حكم أعياد الميلاد؟
فأجاب فضيلته بقوله: يظهر من السؤال أن المراد بعيد الميلاد عيد ميلاد الإنسان، كلما دارت السنة من ميلاده أحدثوا له عيداً تجتمع فيه أفراد العائلة على مأدبة كبيرة أو صغيرة.
وقولي في ذلك إنه ممنوع؛ لأنه ليس في الإسلام عيد لأي مناسبة سوى عيد الأضحى، وعيد الفطر من رمضان، وعيد الأسبوع وهو يوم الجمعة، وفي سنن النسائي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان لأهل الجاهلية يومان في كل سنة يلعبون فيهما فلما قدم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة قال: «كان لكم يومان تلعبون فيهما وقد أبدلكم الله بهما خيراً منهما يوم الفطر ويوم الأضحى»(16/197)
ولأن هذا يفتح باباً إلى البدع مثل أن يقول قائل: إذا جاز العيد لمولد المولود فجوازه لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أولى، وكل ما فتح باباً للممنوع كان ممنوعاً. والله الموفق.
* * *
سئل فضيلة الشيخ: رجل يوجد عنده مؤسسة وسيمر عليه فترة من الزمن بعد أيام سيحتفل بها لإظهار الأعمال التي قام بها، فما توجيه فضيلتكم له في ذلك هل يفعل أم لا؟ ولماذا؟ وما حكم تهنئته بذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: أرى أن لا يفعل؛ لأني أخشى أن يتخذ ذلك عيداً، كلما حال الحول أقام احتفالاً، ولم يجعل الله لهذه الأمة عيداً يحتفل فيه إلا الفطر، والأضحى، والجمعة عيد الأسبوع، ولها خصائصها، لكن العيدان الأضحى والفطر يجوز فيهما من اللعب والدف ما لا يجوز في غيرهما، فهذه الأعياد الثلاثة الإسلامية، ولا ينبغي للإنسان أن يتخذ عيداً سواها، ولكنه لا بأس أن الإنسان إذا تم الحول على تجارته وهي مستقيمة، أن يشكر الله تعالى ويحمده عليها، بل هذا من الأمور المطلوبة، أما تخاذ احتفال، أو عيد، أو عزائم فلا.(16/198)
بسم الله الرحمن الرحيم
فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين حفظه الله تعالى
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد.
فقد انتشر في الا"ونة الأخيرة الاحتفال ب
عيد الحب خاصة بين الطالبات وهو عيد من أعياد النصارى، ويكون الزي كاملاً باللون الأحمر الملبس والحذاء ويتبادلن الزهور الحمراء، نأمل من فضيلتكم بيان حكم الاحتفال بمثل هذا العيد، وما توجيهكم للمسلمين في مثل هذه الأمور والله يحفظكم ويرعاكم؟
بسم الله الرحمن الرحيم
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
الاحتفال بعيد الحب لا يجوز لوجوه:
الأول: أنه عيد بدعي لا أساس له في الشريعة.
الثاني: أنه يدعو إلى العشق والغرام.
الثالث: أنه يدعو إلى اشتغال القلب بمثل هذه الأمور التافهة المخالفة لهدي السلف الصالح رضي الله عنهم.
فلا يحل أن يحدث في هذا اليوم شيء من شعائر العيد سواء كان في المآكل، أو المشارب، أو الملابس، أو التهادي، أو غير ذلك.(16/199)
وعلى المسلم أن يكون عزيزاً بدينه وأن لا يكون إمعة يتبع كل ناعق. أسأل الله تعالى أن يعيذ المسلمين من كل الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يتولانا بتوليه وتوفيقه.
كتبه محمد الصالح العثيمين في 5/11/1420 هـ.(16/200)
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين حفظه الله تعالى
نرجو من فضيلتكم التكرم بإفادتنا عما إذا كان تحديد موعد منتظم أسبوعياً لإلقاء محاضرة دينية، أو حلقة علم، بدعة منهيًّا عنها، باعتبار طلب العلم عبادة والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن يحدد موعداً لهذه العبادة. وتبعاً لذلك هل إذا اتفق مجموعة من الأخوة على الالتقاء في المسجد ليلة محددة كل شهر لقيام الليل، هل يكون ذلك بدعة مع إيراد الدليل على ذلك؟ وجزاكم الله خيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فأجاب فضيلته بقوله: بسم الله الرحمن الرحيم، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
إن تحديد يوم معين منتظم لإلقاء محاضرة، أو حلقة علم ليس ببدعة منهي عنها، بل هو مباح، كما يقرر يوم معين في المدارس والمعاهد لحصة الفقه، أو التفسير أو نحو ذلك.
ولا شك أن طلب العلم الشرعي من العبادات لكن توقيته بيوم معين تابع لما تقتضيه المصلحة، ومن المصلحة أن يعين يوم لذلك حتى لا يضطرب الناس. وطلب العلم ليس عبادة مؤقتة بل هو بحسب ما تقتضيه المصلحة والفراغ.(16/201)
لكن لو خص يوماً معيناً لطلب العلم باعتبار أنه مخصوص لطلب العلم وحده فهذا هو البدعة.
وأما اتفاق مجموعة على الالتقاء في ليلة معينة لقيام الليل فهذا بدعة؛ لأن إقامة الجماعة في قيام الليل غير مشروعة إلا إذا فعلت أحياناً وبغير قصد كما جرى للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مع عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.
كتبه محمد الصالح العثيمين في 28/5/1415 هـ.(16/202)
وسئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: شاع في بعض البلاد الإسلامية الاحتفال بأول يوم من شهر محرم من كل عام، باعتباره أول أيام العام الهجري، ويجعله بعضهم إجازة له عن العمل، فلا يحضر إلى عمله، كما يتبادلون فيه الهدايا المكلفة مادياً، وإذا قيل لهم في ذلك قالوا: مسألة الإعياد هذه مرجعها إلى أعراف الناس، فلا بأس باستحداث أعياد لهم للتهاني وتبادل الهدايا، ولاسيما في الوقت الحاضر حيث انشغل الناس بأعمالهم وتفرقوا، فهذا من البدع الحسنة، هذا قولهم، فما رأي فضيلتكم وفقكم الله؟ نسأل الله تعالى أن يجعل هذا في ميزان حسناتكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فأجاب فضيلته بقوله: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، تخصيص الأيام، أو الشهور، أو السنوات بعيد مرجعه إلى الشرع وليس إلى العادة، ولهذا لما قدم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما فقال: «ما هذان اليومان» ؟ قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما: يوم الأضحى، ويوم الفطر» . ولو أن الأعياد في الإسلام كانت تابعة للعادات لأحدث الناس لكل حدث عيداً ولم يكن للأعياد الشرعية كبير فائدة.(16/203)
ثم إنه يخشى أن هؤلاء اتخذوا رأس السنة أو أولها عيداً متابعة للنصارى ومضاهاة لهم حيث يتخذون عيداً عند رأس السنة الميلادية فيكون في اتخاذ شهر المحرم عيداً محذور آخر.
كتبه محمد الصالح العثيمين في 24/1/1418 هـ.
* * *(16/204)
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين حفظه الله تعالى
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
بالنيابة عن أخواني في شركة.... أتوجه إليك حفظك الله بسؤالي التالي:
«انتشرت بين الموظفين عادة أنه إذا استقال أحد زملائهم من أخوانهم المسلمين من العمل بالشركة جمعوا له مبلغاً من المال وأقاموا له حفلة تسمى «حفلة توديع» وبعد ذلك تطور الأمر وأصبحوا يدفعون للمسلم ولغير المسلم (الكافر) الذي لم يسجد لله، ولم يقر بوجوده سبحانه، فمثلاً إذا أراد أن يغادر بدء بعض إخواننا بالطلب من الموظفين أن يجمعوا لهذا المغادر مبلغاً من المال حتى تقام له «حفلة وداع» وعادة يكون هذا المبلغ ما بين خمسين ريالاً إلى مئة ريال، لذا نرجو من سماحتكم حفظكم الله أن توضحوا لنا هذه المسألة وكذلك حكم من يعزى في هؤلاء الكفار إذا توفي أحدهم، وما حكم من يحضر أعيادهم ويشاركهم أفراحهم، حفظك الله ورعاك وجعلكم من العلماء العاملين المخلصين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(16/205)
فأجاب فضيلته بقوله: بسم الله الرحمن الرحيم. وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
هذا الكتاب تضمن مسائل:
الأولى: إقامة حفلة توديع لهؤلاء الكفار لا شك أنه من باب الإكرام، أو إظهار الأسف على فراقهم، وكل هذا حرام على المسلم، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه» . والإنسان المؤمن حقًّا لا يمكن أن يكرم أحداً من أعداء الله تعالى، والكفار أعداء لله بنص القرآن، قال الله تعالى: {مَن كَانَ عَدُوًّا لّلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ لِّلْكَافِرِينَ} .
المسألة الثانية: تعزية الكافر إذا مات له من يعزى به من قريب، أو صديق، وفي هذا خلاف بين العلماء:
فمن العلماء من قال: إن تعزيتهم حرام.
ومنهم من قال: إنها جائزة.
ومنهم من فصَّل في ذلك فقال: إن كان في ذلك مصلحة كرجاء إسلامهم، وكف شرهم الذي لا يمكن إلا بتعزيتهم فهو جائز، وإلا كان حراماً.
والراجح: أنه إن كان يفهم من تعزيتهم إعزازهم وإكرامهم كانت حراماً، وإلا فينظر في المصلحة.(16/206)
المسألة الثالثة: حضور أعيادهم ومشاركتهم أفراحهم فإن كانت أعياد دينية كعيد الميلاد فحضورها حرام بلا ريب، قال ابن القيم رحمه الله: «لا يجوز الحضور معهم باتفاق أهل العلم الذين هم أهله، وقد صرح به الفقهاء من أتباع الأئمة الأربعة في كتبهم» . والله الموفق.
كتبه محمد الصالح العثيمين في 24/12/1410 هـ.(16/207)
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل هناك صيغة محفوظة عن السلف في التهنئة بالعيد؟ وما هو الثابت في خطبة العيد الجلوس بعد الخطبة الأولى ثم خطبة ثانية أو عدم الجلوس؟
فأجاب فضيلته بقوله: التهنئة بالعيد قد وقعت من بعض الصحابة رضي الله عنهم، وعلى فرض أنها لم تقع فإنها الآن من الأمور العادية التي اعتادها الناس، يهنىء بعضهم بعضاً ببلوغ العيد واستكمال الصوم والقيام.
لكن الذي قد يؤذي ولا داعي له هو مسألة التقبيل، فإن بعض الناس إذا هنأ بالعيد يقبل، وهذا لا وجه له، ولا حاجة إليه فتكفي المصافحة والتهنئة.
وأما سؤاله عن خطبة العيد فإن العلماء اختلفوا في ذلك:
فمنهم من قال: إن العيد له خطبتان يجلس بينهما.
ومنهم من قال: ليس له إلا خطبة واحدة، ولكن إذا كان النساء لا يسمعن الخطيب فإنه يخصص لهن خطبة، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(16/208)
لما خطب الناس يوم العيد نزل إلى النساء فوعظهن وذكرهن، وهذا التخصيص في وقتنا الحاضر لا نحتاج إليه.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما حكم المصافحة، والمعانقة والتهنئة بعد صلاة العيد؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذه الأشياء لا بأس بها؛ لأن الناس لا يتخذونها على سبيل التعبد والتقرب إلى الله عز وجل، وإنما يتخذونها على سبيل العادة، والإكرام والاحترام، ومادامت عادة لم يرد الشرع بالنهي عنها فإن الأصل فيها الإباحة كما قيل:
والأصل في الأشياء حل ومنع عبادة إلا بإذن الشارع
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل هناك سنة معينة تفعل في ليلة العيد؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا أعلم سنة معينة في ليلة العيد سوى ما هو معروف، من الذكر، والتكبير الثابت بقوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} . وقد ورد حديث في فضل إحياء ليلتي العيد،(16/209)
لكنه حديث تكلم فيه العلماء، ولا أجسر على أن تثبت هذه السنة بمثل هذا الحديث.
* * *
وسئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما حكم التهنئة بالعيد؟ وهل لها صيغة ميعنة؟
فأجاب فضيلته بقوله: التهنئة بالعيد جائزة، وليس لها تهنئة مخصوصة، بل ما اعتاده الناس فهو جائز ما لم يكن إثماً.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: إذا كنت أطوف طواف الوداع وحضرت صلاة العيد فماذا أفعل؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا طاف الإنسان طواف الوداع، وأقيمت صلاة العيد فليصل ولا حرج.
أما إذا لم يكن الأمر كذلك فإن الأفضل أن يجعل الطواف بعد صلاة العيد حتى يكون آخر عهده بالبيت الطواف.
* * *
وسئل فضيلته - رحمه الله تعالى -: أيهما أفضل للمرأة الخروج لصلاة العيد أم البقاء في البيت؟
فأجاب فضيلته بقوله: الأفضل خروجها إلى العيد؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر أن تخرج النساء لصلاة العيد، حتى العواتق وذوات الخدور يعني حتى النساء اللاتي ليس من عادتهن الخروج أمرهن أن يخرجن إلا الحيض فقد أمرهن بالخروج واعتزال(16/210)
المصلى مصلى العيد فالحائض تخرج مع النساء إلى صلاة العيد، لكن لا تدخل مصلى العيد؛ لأن مصلى العيد مسجد، والمسجد لا يجوز للحائض أن تمكث فيه، فيجوز أن تمر فيه مثلاً، أو أن تأخذ منه الحاجة، لكن لا تمكث فيه، وعلى هذا فنقول: إن النساء في صلاة العيد مأمورات بالخروج ومشاركة الرجال في هذه الصلاة، وفيما يحصل فيها من خير، وذكر ودعاء.
* * *
سئل فضيلة الشيخ: ما حكم خروج النساء إلى المصلى وخاصة في زماننا هذا الذي كثرت فيه الفتن، وأن بعض النساء تخرج متزينة متعطرة، وإذا قلنا بالجواز فما تقولون في قول عائشة رضي الله عنها «لو أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى ما أحدث النساء لمنعهن المسجد» ؟
فأجاب فضيلته بقوله: الذي نرى أن النساء يؤمرن بالخروج لمصلى العيد يشهدن الخير، ويشاركن المسلمين في صلاتهم، ودعواتهم، لكن يجب عليهن أن يخرجن تفلات، غير متبرجات ولا متطيبات، فيجمعن بين فعل السنة، واجتناب الفتنة.(16/211)
وما يحصل من بعض النساء من التبرج والتطيب، فهو من جهلهن، وتقصير ولاة أمورهن. وهذا لا يمنع الحكم الشرعي العام، وهو أمر النساء بالخروج إلى صلاة العيد.
وأما قول عائشة رضي الله عنها فإنه من المعروف أن الشيء المباح إذا ترتب عليه محرم فإنه يكون محرماً، فإذا كان غالب النساء يخرجن بصورة غير شرعية فإننا لا نمنع الجميع، بل نمنع هؤلاء النساء اللاتي يخرجن على هذه الصورة فقط.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما حكم صلاة العيدين والجمعة للمجاهدين والمرابطين في سبيل الله؟ وهل هناك فرق بين المجاهد والمرابط؟
فأجاب فضيلته بقوله: المجاهد من يقاتل العدو. والمرابط هو الذي يكون على الثغور يحميها من العدو بدون قتال، هذا هو الفرق بينهما.
وأما الجمعة والأعياد فإنها لا تكون إلا في القرى المسكونة والمدن لا تكون في هذه الأماكن فإن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يخرج في الغزو ويمكث المدة الطويلة ولا يقيم الجمع كما في غزوة تبوك وغيرها.
* * *
سئل فضيلة الشيخ: ما حكم صلاة العيد هل هي فرض كفاية، أو فرض عين؟ وإذا فاتت فهل تقضى؟(16/212)
فأجاب فضيلته بقوله: صلاة العيد فيها أقوال ثلاثة للعلماء:
فمنهم من قال: إنها سنة؛ لأن الأعرابي الذي سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لما أخبره عن الصلوات الخمس قال: هل علي غيرها؟ قال: «لا، إلا أن تطوع» .
ومنهم من قال: إنها فرض كفاية، وقال: إنها من شعائر الإسلام الظاهرة، ولهذا تفعل جماعة وتفعل في الصحراء، وما كان من الشعائر الظاهرة فهو فرض كفاية كالأذان.
ومنهم من قال: إنها فرض عين، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أمر بها حتى النساء الحيض، وذوات الخدور، والعواتق أمرهن أن يخرجن إلى مصلى العيد.
وهذا القول أقرب الأقوال، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنها فرض عين.
وإذا فاتت لا تُقضى، يعني لو جئت والإمام قد سلم فلا تقضيها، لأنها مثل الجمعة لا تقضى إذا فاتت، لكن الجمعة عنها بدل وهو الظهر؛ لأن الوقت هذا لابد فيه من صلاة، وأما العيد فلم يرد عن النبي عليه الصلاة والسلام أن لها بدلاً.(16/213)
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: عن حكم صلاة العيد؟ وهل تقضى إذا فاتت؟
فأجاب فضيلته بقوله: الذي يظهر أن صلاة العيد فرض عين؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بها.
وإذا فاتته فإنه لا يقضيها؛ لأنه لم يرد قضاؤها، بخلاف الجمعة، فإنها إذا فاتته يقضيها، لكن لا نقول يقضي نفس الصلاة، وإنما يصلي ظهراً، وذلك لأن هذا الوقت إماجمعة وإما ظهراً، فإذا فاتته الجمعة فإنه يصلي الظهر، أما العيد فإنه إنما يشرع على وجه الاجتماع، إن أدركت هذا الاجتماع فصل، وإن لم تدركه فلا تصل.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: عن حكم صلاة العيد؟
فأجاب فضيلته بقوله: الذي أرى أن صلاة العيد فرض عين، وأنه لا يجوز للرجال أن يدعوها، بل عليهم حضورها، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بها بل أمر النساء العواتق وذوات الخدور أن يخرجن إلى صلاة العيد، بل أمر الحيض أن يخرجن إلى صلاة العيد ولكن يعتزلن المصلى، وهذا يدل على تأكدها، وهذا القول الذي قلت إنه الراجح هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
ولكنها كصلاة الجمعة إذا فاتت لا تقضى لعدم الدليل على(16/214)
وجوب قضائها، ولا يصل بدلها شيئاً؛ لأن صلاة الجمعة إذا فاتت يجب أن يصلي الإنسان بدلها ظهراً، لأن الوقت وقت ظهر، أما صلاة العيد فإذا فاتت فإنها لا تقضى، ونصيحتي لإخواني المسلمين أن يتقوا الله عز وجل، وأن يقوموا بهذه الصلاة التي تشتمل على الخير والدعاء، ورؤية الناس بعضهم بعضاً، وائتلافهم وتحابهم، ولو أن الناس دعوا إلى اجتماع على لهو لرأيت من يصلون إليه مسرعين، فكيف وقد دعاهم الرسول عليه الصلاة والسلام إلى هذه الصلاة التي ينالون بها من ثواب الله سبحانه وتعالى ما يستحقونه بوعده؟! لكن يجب على النساء إذا خرجن إلى هذه الصلاة أن يبعدن عن محل الرجال، وأن يكن في طرف المسجد البعيد عن الرجال، وألا يخرجن متجملات ومتطيبات أو متبرجات، ولهذا لما أمر النبي عليه الصلاة والسلام النساء بالخروج إليها سألنه قلن: يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب، قال: «لتلبسها أختها من جلبابها» ، والجلباب الملاءة أو ما يشبه العباءة، وهذا يدل على أنه لابد أن تخرج المرأة متجلببة لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندما سئل عن المرأة لا يكون لهاجلباب لم يقل لتخرج بما تستطيع، بل قال: «لتلبسها أختها من جلبابها» ، وينبغي للإمام أعني إمام صلاة العيد إذا خطب الرجال أن يخص النساء بخطبة إذا كن لا يسمعن خطبة الرجال، أما إذا كن(16/215)
يسمعن خطبة الرجال فإنها كافية، ولكن من الأولى أن يذيل الخطبة بأحكام خاصة بالنساء يعظهن ويذكرهن، كما
فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين خطب الرجال في صلاة العيد تحول إلى النساء فوعظهن وذكرهن.
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: عن أحكام العيد والسنن التي فيه؟
فأجاب فضيلته بقوله: جعل الله في العيد أحكاماً متعددة، منها:
أولاً: استحباب التكبير في ليلة العيد من غروب الشمس آخر يوم من رمضان إلى حضور الإمام للصلاة، وصيغة التكبير: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد. أو يكبر ثلاثاً فيقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد. وكل ذلك جائز.
وينبغي أن يرفع الإنسان صوته بهذا الذكر في الأسواق والمساجد والبيوت، ولا ترفع النساء أصواتهن بذلك.
ثانياً: يأكل تمرات وتراً قبل الخروج للعيد؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات وتراً، ويقتصر على وتر كما فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثالثاً: يلبس أحسن ثيابه، وهذا للرجال، أما النساء فلا(16/216)
تلبس الثياب الجميلة عند خروجها إلى مصلى العيد؛ لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وليخرجن تَفِلات» أي في ثياب عادية ليست ثياب تبرج، ويحرم عليها أن تخرج متطيبة متبرجة.
رابعاً: استحب بعض العلماء أن يغتسل الإنسان لصلاة العيد؛ لأن ذلك مروي عن بعض السلف، والغسل للعيد مستحب، كما شرع للجمعة لاجتماع الناس، ولو اغتسل الإنسان لكان ذلك جيداً.
خامساً: صلاة العيد. وقد أجمع المسلمون على مشروعية صلاة العيد، ومنهم من قال: هي سنة. ومنهم من قال: فرض كفاية. وبعضهم قال: فرض عين ومن تركها أثم، واستدلوا بأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر حتى ذوات الخدور والعواتق ومن لا عادة لهن بالخروج أن يحضرن مصلى العيد، إلا أن الحيض يعتزلن المصلى، لأن الحائض لا يجوز أن تمكث في المسجد، وإن كان يجوز أن تمر بالمسجد لكن لا تمكث فيه.
والذي يترجح لي من الأدلة أنها فرض عين، وأنه يجب على كل ذكر أن يحضر صلاة العيد إلا من كان له عذر، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وإذا فاتت الإنسان سقطت لأنها كالجمعة، والجمعة إذا فاتت الإنسان سقطت، ولو أن الوقت وقت جمعة لقلنا لمن فاتته الجمعة لا تصل الظهر، لكن(16/217)
لما فاتته الجمعة وجبت صلاة الظهر؛ لأنه وقت الظهر، أما صلاة العيد فليس لها صلاة مفروضة غير صلاة العيد وقد فاتت.
وذهب بعض أهل العلم إلى أنه يسن قضاؤها، فإذا أتيت صلاة العيد والإمام يخطب، تصلي العيد على الصفة التي صلاها الإمام.
ويقرأ الإمام في الركعة الأولى {سبح اسم ربك الأعلى} وفي الثانية {هل أتاك حديث الغاشية} أو يقرأ سورة (ق) في الأولى، وسورة القمر في الثانية، وكلاهما صح به الحديث عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
سادساً: إذا اجتمعت الجمعة والعيد في يوم واحد، فتقام صلاة العيد، وتقام كذلك صلاة الجمعة، كما يدل عليه ظاهر حديث النعمان بن بشير الذي رواه مسلم في صحيحه، ولكن من حضر مع الإمام صلاة العيد إن شاء فليحضر الجمعة، ومن شاء فليصل ظهراً.
سابعاً: ومن أحكام صلاة العيد أنه عند كثير من أهل العلم أن الإنسان إذا جاء إلى مصلى العيد قبل حضور الإمام فإنه يجلس ولا يصلي ركعتين؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى العيد ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما.(16/218)
وذهب بعض أهل العلم إلى أنه إذا جاء فلا يجلس حتى يصلي ركعتين؛ لأن مصلى العيد مسجد، بدليل منع الحيض منه، فثبت له حكم المسجد، فدل على أنه مسجد، وإلا لما ثبتت له أحكام المسجد، وعلى هذا فيدخل في عموم قوله عليه الصلاة والسلام: «إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين» . وأما عدم صلاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبلها وبعدها فلأنه إذا حضر بدأ بصلاة العيد.
إذن يثبت لمصلى العيد تحية المسجد كما تثبت لسائر المساجد، ولأننا لو أخذنا من الحديث أن مسجد العيد ليس له تحية لقلنا: ليس لمسجد الجمعة تحية؛ لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا حضر مسجد الجمعة يخطب ثم يصلي ركعتين، ثم ينصرف ويصلي راتبة الجمعة في بيته، فلم يصل قبلها ولا بعدها.
والذي يترجح عندي أن مسجد العيد تصلى فيه ركعتان تحية المسجد، ومع ذلك لا ينكر بعضنا على بعض في هذه المسألة؛ لأنها مسألة خلافية، ولا ينبغي الإنكار في مسائل الخلاف إلا إذا كان النص واضحاً كل الوضوح، فمن صلى لا ننكر عليه، ومن جلس لا ننكر عليه.
ثامناً: من أحكام يوم العيد عيد الفطر أنه تفرض فيه زكاة الفطر، فقد أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تخرج قبل صلاة العيد، ويجوز(16/219)
إخراجها قبل ذلك بيوم أو يومين لحديث ابن عمر رضي الله عنهما عند البخاري: «وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين» ، وإذا أخرجها بعد صلاة العيد فلا تجزئه عن صدقة الفطر لحديث ابن عباس: «من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات» ، فيحرم على الإنسان أن يؤخر زكاة الفطر عن صلاة العيد، فإن أخرها بلا عذر فهي زكاة غير مقبولة، وإن كان بعذر كمن في السفر وليس عنده ما يخرجه أو من يخرج إليه، أو من اعتمد على أهله أن يخرجوها واعتمدوا هم عليه، فذلك يخرجها متى تيسر له ذلك، وإن كان بعد الصلاة ولا إثم عليه؛ لأنه معذور.
تاسعاً: يهنىء الناس بعضهم بعضاً، ولكن يحدث من المحظورات في ذلك ما يحدث من كثير من الناس، حيث يدخل الرجال البيوت يصافحون النساء سافرات بدون وجود محارم. وهذه منكرات بعضها فوق بعض.
ونجد بعض الناس ينفرون ممن يمتنع عن مصافحة من ليست محرماً له، وهم الظالمون وليس هو الظالم، والقطيعة منهم وليست منه، ولكن يجب عليه أن يبين لهم ويرشدهم إلى سؤال الثقات من أهل العلم للتثبت، ويرشدهم أن لا يغضبوا لمجرد(16/220)
اتباع عادات الا"باء والأجداد؛ لأنها لا تحرم حلالاً، ولا تحلل حراماً، ويبين لهم أنهم إذا فعلوا ذلك كانوا كمن حكى الله قولهم: {وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآءَابَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىءَاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} .
ويعتاد بعض الناس الخروج إلى المقابر يوم العيد يهنئون أصحاب القبور، وليس أصحاب القبور في حاجة لتهنئة، فهم ما صاموا ولا قاموا.
وزيارة المقبرة لا تختص بيوم العيد، أو الجمعة، أو أي يوم، وقد ثبت أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زار المقبرة في الليل، كما في حديث عائشة عند مسلم. وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة» .
ولو قيدها البعض بمن قسى قلبه لم يكن بعيداً، لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علل الأمر بالزيارة بأنها تذكرة الآخرة، فكلما ابتعدنا عن الآخرة ذهبنا إلى المقابر، لكن لم أعلم من قال بهذا من أهل العلم، ولو قيل لكان له وجه.
وزيارة القبور من العبادات، والعبادات لا تكون مشروعة(16/221)
حتى توافق الشرع في ستة أمور منها الزمن، ولم يخصص النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم العيد بزيارة القبور، فلا ينبغي أن يخصص بها.
عاشراً: ومما يفعل يوم العيد معانقة الرجال بعضهم لبعض، وهذا لا حرج فيه، وتقبيل النساء من المحارم لا بأس به، ولكن العلماء كرهوه إلا في الأم فيقبل الرجل رأسها أو جبهتها وكذلك البنت، وغيرهما من المحارم يبعد عن تقبيل الخدين، فذلك أسلم.
الحادي عشر: ويشرع لمن خرج لصلاة العيد أن يخرج من طريق ويرجع من آخر اقتداء برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا تسن هذه السنة في غيرها من الصلوات، لا الجمعة ولا غيرها، بل تختص بالعيد، وبعض العلماء يرى أن ذلك مشروع في صلاة الجمعة، لكن القاعدة: «أن كل فعل وجد سببه في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يفعله فاتخاذه عبادة يكون بدعة من البدع» .
فإن قيل: ما الحكمة من مخالفة الطريق؟
فالجواب: المتابعة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً} ، ولما سئلت عائشة رضي الله عنها: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ قالت رضي الله عنها: «كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم، ولا(16/222)
نؤمر بقضاء الصلاة» ، فهذه هي الحكمة.
وعلل بعض العلماء بأنه لإظهار هذه الشعيرة في أسواق المسلمين.
وعلل بعضهم بأنه لأجل أن يشهد له الطريقان يوم القيامة.
وقال بعضهم: للتصدق على فقراء الطريق الثاني. والله أعلم.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما حكم وصفة صلاة العيد؟ وما هي شروطها ووقتها؟
فأجاب فضيلته بقوله: صلاة العيد فرض عين على الرجال على القول الراجح من أقوال أهل العلم، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بها وواظب عليها، حتى أمر النساء العواتق، وذوات الخدور، والحيض بالخروج، وأمر الحيض أن يعتزلن المصلى، وإذا فاتت الإنسان فإنه لا يقضيها، لأنها صلاة ذات اجتماع. فإذا فاتت لا تقضى كالجمعة إذا فاتت لا تقضى، لكن الجمعة لما كانت في وقت الظهر فإنها إذا فاتت طولب الإنسان بصلاة الظهر. وأما صلاة العيد فليس في وقتها صلاة سوى صلاة العيد، فإذا فاتت فإنها لا تقضى، وليس لها بدل يصلى عنها.(16/223)
وأما المشروع فيها: فكيفيتها يكبر تكبيرة الإحرام، ويستفتح، ثم يكبر ست تكبيرات، ثم يقرأ الفاتحة وسورة معها: إما «سبح» وإما «ق» في الركعة الأولى، وفي الثانية إذا قام من السجود سيقوم مكبراً، ثم يكبر خمس تكبيرات بعد قيامه، ثم يقرأ الفاتحة وسورة، فإن قرأ في الأولى «سبح» قرأ في الثانية «الغاشية» وإن قرأ في الأولى «ق» قرأ في الثانية «اقتربت الساعة وانشق القمر» .
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما حكم تعدد صلاة العيد في البلد، أفتونا مأجورين؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا دعت الحاجة إلى ذلك فلا بأس، كما إذا دعت الحاجة إلى الجمعة؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِى هَاذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُواْ الصلاةَ وَءَاتُواْ الزكاةَ وَاعْتَصِمُواْ بِاللهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} وإذا لم تقل بالتعدد لزم من هذا حرمان بعض الناس لصلاة الجمعة وصلاة العيد.
ومثال الحاجة لصلاة العيد أن تتسع البلد ويكون مجيء الناس من الطرف إلى الطرف الثاني شاقًّا، أما إذا لم يكن حاجة للتعدد فإنها لا تقام إلا في موضع واحد.
* * *(16/224)
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
12/9/1397 هـ
من محمد الصالح العثيمين إلى الأخ المكرم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
كتابكم الكريم المؤرخ 27 من الشهر الماضي وصلني قبل أمس أي يوم الأربعاء 10 من الشهر الحالي، سرنا صحتكم الحمد لله على ذلك، ونسأل أن يديم علينا وعليكم نعمته، ويرزقنا شكرها.
كما سرنا كثيراً تكوين جمعية إسلامية من الطلبة والعمال المسلمين في المدينة التي أنتم فيها في....، تهتم هذه الجمعية بأمر الإسلام والمسلمين، فنسأل الله أن يثبتهم على ذلك، وأن يرزقهم البصيرة في دين الله، والحكمة في الدعوة إليه.
وقد فهمت مشكلتكم في شأن صلاة العيد حيث لا يوجد لها مكان إلا ما حجز من صالات الجامعة في يوم معين قد لا يوافق يوم العيد إذا كان شهر رمضان تسعة وعشرين يوماً، ومن جهة أخرى إبلاغ الناس عن موعد صلاة العيد ومكانها.
وفهمت أيضاً ما أفتى به أحد أئمة المركز الإسلامي من جواز تأخير صلاة العيد إلى اليوم الثاني وما علل به ذلك.
والجواب على ذلك: أن صلاة العيد صلاة أمر بها الشارع، وحدد لها وقتاً معيناً هو أول يوم من شوال فلا يجوز أن يتعدى فيها(16/225)
ما حدده الشارع وتنقل إلى اليوم الثاني، كما لا يجوز نقل صلاة الجمعة إلى يوم السبت، فكلتا الصلاتين صلاة عيد في يوم عيد.
فأما مشكلة المكان بالنسبة لكم: فتزول إذا حجزتم المكان يومين: يوم الثلاثين، والحادي والثلاثين، فإن كان الشهر ثلاثين فإن الحجز على حسابكم في اليوم الأول، وأظن أن الأمر يسير، وإن كان الشهر تسعة وعشرين صليتم العيد في اليوم الأول، وجعلتم اليوم الثاني وقت اجتماع عادي وتداول لأموركم، أو ألغيتم حجزه.
وأما مشكلة إبلاغ الناس: فتزول إذا أعلنتم في الصحف المحلية بأنه متى ثبت دخول شوال فإن صلاة العيد ستقام في نفس اليوم، في المكان الفلاني.
فإذا لم يمكن زوال المشكلتين بما ذكرنا فثم شيء ثالث هو أن يقال: يحجز المكان في اليوم الحادي والثلاثين باعتبار أن شهر رمضان ثلاثون يوماً، ويقال: إن كان رمضان ثلاثين فالاجتماع في الحادي والثلاثين لصلاة العيد، وإن كان تسعة وعشرين فكل طائفة تجتمع في المكان الذي تستطيعه وتصلي صلاة العيد، ويكون الاجتماع العام في الحادي والثلاثين لإظهار السرور وإلقاء الخطب، وتداول الأمور والتعارف والتآلف بدون صلاة.
وبهذا يحصل المقصود من أداء صلاة العيد في الوقت الذي حدده من شرعها، ويحصل اجتماع المسلمين في أيام العيد وتعارفهم وتآلفهم، وتداول أمورهم فنحصل على الحسنيين بدون تعد لحدود الله تعالى.(16/226)
وأما ما أفتى به بعض أئمة المركز الإسلامي من جواز تأخير صلاة العيد إلى اليوم الثاني فلا وجه له.
وأما ما احتج به من أن الخبر يتأخر وصوله في بعض القرى إلى قرب الزوال بحيث لا تمكن إقامة الصلاة قبله، فهذا ينظر فيه ويجعل لكل بلد حكمه، فما وصل إليه الخبر في وقت تمكن فيه المسلمون إقامة الصلاة فيه أقيمت، سواء كان مدينة، أم قرية، وسواء حضر من بقربه من القرى أم لم يحضر، وما لم يصل إليه الخبر إلا بعد الزوال أو قبله بوقت لا تمكن فيه إقامة الصلاة أجلت فيه الصلاة لليوم الثاني.
والخلاصة: أنه لا يجوز تأخير صلاة العيد عن يوم العيد إلا إذا لم يعلم به إلا بعد الزوال، أو قبله بزمن لا تمكن فيه إقامة الصلاة، وأن مشكلتكم تزول بحجز مكان للصلاة يومين فإن كان شهر رمضان ثلاثين صليت صلاة العيد في ثاني اليومين، وفات عليكم اليوم الأول، وإن كان رمضان تسعة وعشرين صليت صلاة العيد في أول اليومين، وألغيتم حجز اليوم الثاني، أو جعلتموه يوم اجتماع لتداول أموركم. فإن لم يمكن ذلك حجزتم المكان في اليوم الحادي والثلاثين وأعلنتم بأنه إن كان رمضان ثلاثين يوماً فالاجتماع في الحادي والثلاثين لصلاة العيد، وإن كان تسعة وعشرين فكل أهل بلد يصلون العيد في بلدهم بقدر المستطاع يوم العيد، والاجتماع في الحادي والثلاثين للتعارف والتآلف، وإظهار السرور وتداول الأمور.(16/227)
هذا ما نراه في هذه المسألة والله الموفق والهادي إلى صراط مستقيم.
وهذا ما لزم شرفونا بما يلزم، بلغوا سلامنا زملاءكم، والله يحفظكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
* * *(16/228)
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: عن وقت صلاة العيد؟ وإذا لم يعلم الناس بالعيد إلا بعد الزوال فما الحكم؟
فأجاب فضيلته بقوله: وقت صلاة العيد من ارتفاع الشمس قيد رمح إلى الزوال، إلا أنه يسن تقديم صلاة الأضحى وتأخير صلاة الفطر، لما روي أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يصلي صلاة عيد الأضحى إذا ارتفعت الشمس قيد رمح، وصلاة الفطر إذا ارتفعت قيد رمحين، ولأن الناس في عيد الفطر بحاجة إلى امتداد الوقت، ليتسع وقت إخراج زكاة الفطر، وأما عيد الأضحى فإن المشروع المبادرة بذبح الأضحية، وهذا لا يحصل إلا إذا قدمت الصلاة في أول الوقت.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما الحكم لو لم يعلم الناس بالعيد إلا بعد زوال الشمس؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا لم يعلموا بالعيد إلا بعد زوال الشمس، فإنهم يفطرون في عيد الفطر، ويخرجون إلى الصلاة من الغد.
أما في عيد الضحى، فإنهم يخرجون إلى الصلاة من الغد، ولا يضحون إلا بعد صلاة العيد، لأن الأضحية تابعة للصلاة،(16/229)
والمشهور من المذهب أنهم يضحون إذا فاتت بالزوال، والأول أحوط.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: عن حكم إقامة صلاة العيد في المساجد؟
فأجاب فضيلته بقوله: تكره إقامة صلاة العيد في المساجد إلا لعذر؛ لأن السنة إقامة العيد في الصحراء؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يصليها في الصحراء (1) ، ولولا أن الخروج أمر مقصود لما فعله، ولا كلف الناس الخروج إليه؛ ولأن الصلاة في المساجد يفوت إظهار هذه الشعيرة وإبرازها.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما حكم صلاة العيد في المسجد؟
فأجاب فضيلته بقوله: السنة في صلاة العيد أن تكون في الصحراء؛ لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يخرج في صلاة العيد إلى الصحراء، مع أنه أخبر بأن الصلاة في مسجده «خير من ألف صلاة» ومع ذلك يدع الصلاة في مسجده ليخرج إلى المصلى(16/230)
فيصلي فيه، وعلى هذا فالسنة أن يخرج الناس إلى الصحراء؛ لأجل أن يقيموا هذه الصلاة التي تعتبر شعيرة من شعائر الإسلام، إلا أن الحرمين منذ أزمنة طويلة، وصلاة العيد تصلى في نفس المسجد الحرام، وفي نفس المسجد النبوي، وقد جرى المسلمون على هذا منذ أمد بعيد.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل صلاة العيد في الصحراء أفضل ولو في مكة والمدينة أو الحرم أفضل؟
فأجاب فضيلته بقوله: صلاة العيد في المصلى أفضل، لكن بمكة جرت العادة من قديم الزمان أنهم يصلون في المسجد الحرام، وكذلك المدينة كانوا يصلون في المسجد النبوي منذ أزمنة طويلة، لكن المدينة لا شك أن صلاتهم في المصلى أفضل، كما هو الحال في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وخلفائه الراشدين رضي الله عنهم، فقد كان عليه الصلاة والسلام يصلي صلاة العيد في الصحراء.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: إذا كان هناك ضعفة من الناس داخل المدينة، فكيف تتم صلاة العيد(16/231)
لهم؟ ومتى يحل ذبح الأضحية؟ هل بعد صلاتهم أو بعد انتهاء صلاة الإمام الذي يصلي في مصلى العيد؟
فأجاب فضيلته بقوله: يقول أهل العلم: إنه إذا كان في البلد ضعفة، لا يستطيعون الخروج لمصلى العيد، فإنه يقام لهم صلاة عيد في البلد لأجل العذر، وحينئذ يتعلق ذبح الأضحية بأسبق الصلاتين، فإن سبقت صلاة العيد في المصلى جازت الأضحية، وإن سبقت صلاة العيد في البلد للضعفة جازت الأضحية.
ولو قال قائل: إن هذا يتعلق بصلاة الإنسان نفسه، فمن صلى مع أهل البلد في المصلى تعلق الحكم بصلاته في المصلى؛ ومن صلى مع الضعفة تعلق الحكم بصلاته مع الضعفة، أقول لو قال قائل بذلك لكان له وجه.
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما السنة في صلاة العيد هل تُصلى في المسجد أو في الصحراء؟ فإذا كان الجواب أن السنة أن تفعل في الصحراء فإن البلد لايزال يكبر، فكلما جعل للعيد مصلى أحاطته الأبنية من كل جانب، فلم يصدق عليه أنه في الصحراء، أفيدونا مأجورين؟
فأجاب فضيلته بقوله: السنة في صلاة العيد أن تكون في(16/232)
الصحراء كما فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا كَبُر البلد، فإنه ينبغي أن ينقل المصلى إلى الصحراء، وإذا لم ينقل فلا حرج، لأن كونها في الصحراء ليس على سبيل الوجوب بل هو على سبيل الاستحباب.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: إذا كان الناس يصلون صلاة عيد الفطر في المسجد وخرج الإنسان لصلاة الفجر، فهل يأكل تمرات الإفطار قبل صلاة الفجر، أم الأفضل أن ينصرف إلى أهله ثم ينشىء خطى جديدة لصلاة العيد؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان لا يمكن الرجوع، نقول: لا تخرج من البيت حتى تأكل، لأن خروجك نويته لصلاة الصبح وصلاة العيد، وإن كان يمكنه الرجوع فليرجع إذا صلى الفجر ليأكل التمرات ثم يرجع لصلاة العيد.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأكل قبل الفطر تمرات وتراً، هل هناك حد للوتر أو يشمل «ثلاث، خمس، سبع، تسع، إحدى عشرة.. وهكذا» ؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا حد للوتر المطلوب في الكثرة،(16/233)
وإنما أقله ثلاث، لأنها أقل الجمع، والله أعلم.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما رأيكم فيما قاله الفقهاء رحمهم الله من أنه يسن الأكل من كبد الأضحية؟ وهل عليه دليل؟
فأجاب فضيلته بقوله: يسن الأكل من أضحيته، والأكل من الأضحية عليه دليل من الكتاب والسنة، قال تعالى: {فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْبَآئِسَ الْفَقِيرَ} . والنبي عليه الصلاة والسلام، أمر بالأكل من الأضحية، وأكل من أضحيته، فاجتمعت السنتان القولية، والفعلية.
وأما اختيار أن يكون الأكل من الكبد فإنما اختاره الفقهاء، لأنها أخف وأسرع نضجاً، وليس من باب التعبد بذلك.
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما السنة للإنسان قبل الصلاة في عيد الفطر، وعيد الأضحى؟
فأجاب فضيلته بقوله: السنة في عيد الفطر أن يأكل تمرات وتراً قبل أن يخرج إلى المصلى، وأما في عيد الأضحى،(16/234)
فالسنة أن يأكل من أضحيته التي يذبحها بعد الصلاة.
وأما الاغتسال فاستحبه طائفة من أهل العلم لصلاة العيد، ويستحب أيضاً أن يلبس أجمل ثيابه، ولو اقتصر على الوضوء، وعلى ثيابه العادية فلا حرج.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل السنة الذهاب لمصلى العيد ماشياً أو راكباً؟
فأجاب فضيلته بقوله: يسن أن يكون ماشياً إلا إذا كان يحتاج إلى الركوب فلا بأس أن يركب.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما حكم حمل السلاح في صلاة العيد؟
فأجاب فضيلته بقوله: إن دعت الحاجة إلى حمله فليحمل وإلا فلا.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: عندنا في بلدنا يخرج الحرس إلى مصلى العيد قبل قدوم الأمير، فإذا قدم ضربوا الطبول تحية له، ويصاحب الضرب على الطبول(16/235)
عزف بالموسيقى فما حكم ذلك؟ أفيدونا مأجورين.
فأجاب فضيلته بقوله: الضرب بالطبول لا يجوز، وإنما الضرب بالدف قد يرخص فيه، لكن ليس في وقت العبادة، ومكان العبادة.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما رأيكم فيما يقوله بعض الفقهاء من أن المعتكف يخرج للعيد في ثياب اعتكافه؟
فأجاب فضيلته بقوله: رأينا أن هذا خلاف السنة، وأن السنة في العيد أن يتجمل الإنسان سواء كان معتكفاً أم غير معتكف.
* * *
سئل فضيلة الشيخ: - رحمه الله تعالى -: هل تشرع صلاة العيد في حق المسافر؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا تشرع صلاة العيد في حق المسافر، كما لا تشرع الجمعة في حق المسافر أيضاً، لكن إذا كان المسافر في البلد الذي تقام فيه صلاة العيد فإنه يؤمر بالصلاة مع المسلمين.(16/236)
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما الحكمة من مخالفة الطريق يوم العيد؟
فأجاب فضيلته بقوله: الحكمة بالنسبة لنا:
أولاً: الاقتداء بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن هذا من السنة.
ثانياً: من الحكم إظهار الشعيرة، شعيرة صلاة العيد في جميع أسواق البلد.
ثالثاً: ومن الحكم أيضاً أن فيه تفقداً لأهل الأسواق من الفقراء وغيرهم.
رابعاً: قالوا: ومن الحكم أيضاً أن الطريقين تشهدان له يوم القيامة.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل لصلاة العيد أذان وإقامة؟
فأجاب فضيلته بقوله: صلاة العيد ليس لها أذان ولا إقامة، كما ثبتت بذلك السنة، ولكن بعض أهل العلم رحمهم الله قالوا: إنه ينادى لها «الصلاة جامعة» ، لكنه قول لا دليل له، فهو ضعيف. ولا يصح قياسها على الكسوف، لأن الكسوف يأتي من غير أن يشعر الناس به، بخلاف العيد فالسنة أن لا يؤذن لها، ولا(16/237)
يقام لها، ولا ينادى لها، «الصلاة جامعة» وإنما يخرج الناس، فإذا حضر الإمام صلوا بلا أذان ولا إقامة، ثم من بعد ذلك الخطبة.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: عن عدد التكبيرات في العيدين؟
فأجاب فضيلته بقوله: عدد التكبيرات في صلاة العيدين مختلف فيه، اختلف فيه السلف والخلف، فمن كبر في الركعة الأولى سبعاً بتكبيرة الإحرام، وفي الركعة الثانية خمساً بعد القيام فحسن، ومن كبر خلاف ذلك فحسن أيضاً حيث ورد عن السلف.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما حكم صلاة من اقتصر على تكبيرة الإحرام في صلاة العيد؟
فأجاب فضيلته بقوله: صلاته صحيحة إذا اقتصر على تكبيرة الإحرام، لأن التكبيرات الزائدة على تكبيرة الإحرام وتكبيرات الانتقال، سنة.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: عن كيفية صلاة العيدين؟
فأجاب فضيلته بقوله: كيفية صلاة العيدين أن يحضر الإمام ويؤم الناس بركعتين، يكبر في الأولى تكبيرة الإحرام ثم يكبر(16/238)
بعدها ست تكبيرات، ثم يقرأ الفاتحة، ويقرأ سورة «ق» في الركعة الأولى، وفي الركعة الثانية يقوم مكبراً، فإذا انتهى في القيام يكبر خمس تكبيرات، ويقرأ سورة الفاتحة، ثم سورة «اقتربت الساعة وانشق القمر» فهاتان السورتان كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ بهما في العيدين، وإن شاء قرأ في الأولى بسبح وفي الثانية ب «هل أتاك حديث الغاشية» .
واعلم أن الجمعة والعيدين يشتركان في سورتين، ويفترقان في سورتين، فأما السورتان اللتان يشتركان فيها فهما: سبح، والغاشية، والسورتان اللتان يفترقان فيها فهما في العيدين «ق» و «اقتربت» ، وفي الجمعة «الجمعة» و «المنافقون» وينبغي للإمام إحياء السنة بقراءة هذه السور حتى يعرفها المسلمون ولا يستنكروها إذا وقعت، وبعد هذا يخطب الخطبة، وينبغي أن يخص شيئاً من الخطبة يوجهه إلى النساء يأمرهن بما ينبغي أن يقمن به، وينهاهن عن ما ينبغي أن يتجنبنه، كما فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما حكم رفع اليدين في تكبيرات صلاة العيد؟ وماذا يقال بينها؟
فأجاب فضيلته بقوله: رفع اليدين على المشهور من مذهب(16/239)
الحنابلة في صلاة العيدين أي في التكبيرات الزوائد وفي تكبيرة الإحرام سنة، فينبغي له أن يرفع يديه عند كل تكبيرة، أما تكبيرة الإحرام فقد ثبت فيها الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يرفع يديه إلى حذو منكبيه عند تكبيرة الإحرام، أما بقية التكبيرات فإن فيها آثاراً عن الصحابة ولهذا اختلف العلماء هل ترفع الأيدي بعد تكبيرة الإحرام، أو لا ترفع؟ والمشهور من مذهب الحنابلة كما تقدم أنها ترفع.
وأما ما يقال بين التكبيرات: فمن العلماء من يقول: لا ذكر بينها.
ومنهم من يقول: إنه يحمد الله، ويصلي على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والأمر في ذلك واسع ولله الحمد.
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: متى يستفتح في صلاة العيد؟ هل يستفتح بعد تكبيرة الإحرام أو بعد التكبيرات؟
فأجاب فضيلته بقوله: يستفتح بعد تكبيرة الإحرام، هكذا قال أهل العلم، والأمر في هذا واسع حتى لو أخر الاستفتاح إلى آخر تكبيرة فلا بأس.(16/240)
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ماذا يقال بين كل تكبيرة وتكبيرة في صلاة العيدين؟ وما حكم هذه التكبيرات؟ وإذا فات الإنسان شيئاً منها هل يأتي بها؟
فأجاب فضيلته بقوله: ليس في ذلك ذكر محدود معين بل يحمد الله ويثني عليه، ويصلي على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أي صفة شاء، وإن تركه فلا بأس لأنه مستحب.
وأما حكم التكبيرات الزوائد فإنها سنة أيضاً وهي متأكدة.
وإذا فات الإنسان شيءٌ منها سقط ما فاته ولم يأت به، وكذلك إذا نسيه أو بعضه حتى شرع في القراءة فإنه لا يأتي به؛ لأنه سنة فات محلها، أما لو فاتته مع الإمام ركعة كاملة فإنه يأتي بتكبيرات تلك الركعة الفائتة.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ماذا يقال بين التكبيرات الزوائد في صلاة العيد؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا أعلم سنة عن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك، لكن الفقهاء قالوا: يحمد الله ويثني عليه، ويصلي على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيقول: الحمد لله رب العالمين، اللهم صل على محمد؛ لأنك إذا قلت: الحمد لله رب العالمين، والرحمن الرحيم، أثنيت على الله وحمدته، وإذا صليت على نبيه قلت: اللهم صل على محمد، لكن لا أعلم في هذا سنة.(16/241)
ومن العلماء من قال: لا ذكر بينها. والأمر في ذلك واسع والحمد لله.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل يرفع الإمام والمأموم يديه عند التكبير لصلاة العيدين وصلاة الجنازة أم لا يرفعها إلا في التكبيرة الأولى؟
فأجاب فضيلته بقوله: أما الجنازة: فإنه يرفع يديه في كل تكبيرة؛ لأن ذلك صح من فعل ابن عمر رضي الله عنهما، وهذا العمل لا مجال للاجتهاد فيه، حتى نقول: لعله من اجتهاد ابن عمر، بل هو لا يكون إلا على سبيل التوقيت. وفعل ابن عمر هذا له حكم الرفع، وعلى هذا فالسنة في الصلاة على الجنازة أن يرفع الإنسان يديه عند كل تكبيرة، كما أن السنة أيضاً في الرفع في الصلاة أن يرفع الإنسان يديه عند تكبيرة الإحرام، وعند الركوع، وعند الرفع منه، وعند القيام من التشهد الأول، وأما الرفع عند كل تكبيرة، فقد ذكر المحقق ابن القيم رحمه الله: أن هذا من أوهام بعض الرواة حيث وهم فنقل قوله: «إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكبر كلما خفض ورفع» فقال: إنه كان يرفع يديه كلما خفض ورفع.
والثابت في الصحيحين عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما هو ما ذكرنا عند تكبيرة الإحرام، وعند الركوع، وعند الرفع منه، وثبت في البخاري ذلك عند القيام من التشهد الأول، وقال ابن عمر: «وكان لا يفعل ذلك في السجود» ، وابن عمر من أشد الناس حرصاً على معرفة السنة والتمسك بها، ولا يمكن أن ينفي مثل هذا النفي القاطع وهو عن غير علم، وليس هذا من باب ما يقال إنه إذا تعارض المثبت والنافي قدم المثبت؛ لأن نفيه هنا مع إثباته الرفع عند تكبيرة الإحرام، وعند الركوع، وعند الرفع(16/242)
منه، دليل على أن هذا النفي حكمه حكم الإثبات. وهذا ظاهر لمن تأمله، والقاعدة المعروفة عند أهل العلم (أن المثبت مقدم على النافي) ينبغي أن تقيد بمثل هذا وهو أن الراوي: إذا ذكر أشياء وفصلها ثم أثبت لبعضها حكماً ونفى هذا الحكم عن البعض الآخر، فإنه قد شهد الجميع، وتيقن أن هذا الحكم ثابت في هذا، ومنتف في هذا.
أما صلاة العيد فلا يحضرني فيها الآن سنة، لكن(16/243)
المشهور من مذهب الحنابلة رحمهم الله أنه يرفع يديه في كل تكبيرة.
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما الحكم لو نسي تكبيرات العيد حتى شرع في القراءة؟ هل يعيدها أم ماذا يفعل؟
فأجاب فضيلته بقوله: لو نسي التكبير في صلاة العيد، حتى قرأ سقط؛ لأنه سنة فات محلها، كما لو نسي الاستفتاح حتى قرأ فإنه يسقط.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما حكم التكبيرات الزوائد في صلاة العيد؟ وماذا يقال بين هذه التكبيرات؟ وما حكم رفع اليدين فيها؟
فأجاب فضيلته بقوله: حكم التكبيرات الزوائد سنة، إن أتى بها الإنسان فله أجر، وإن لم يأت بها فلا شيء عليه. لكن لا ينبغي أن يُخلّ بها حتى تتميز صلاة العيد عن غيرها.
وأما ما يقال بينها: فقد ذكر العلماء أنه يحمد الله، ويصلي على النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن لم يفعل فلا حرج.
وأما رفع اليدين مع كل تكبيرة فهو سنة.(16/244)
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما الحكم لو أدرك الإمام أثناء التكبيرات الزوائد؟
فأجاب فضيلته بقوله: سبق الجواب عليه إذا أدركه في أثنائه، أما إذا أدركه راكعاً فإنه يكبر للإحرام فقط، ثم يركع، وإذا أدركه بعد فراغه فإنه لا يقضيه لأنه فات.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما الحكم لو أدركت الإمام وهو يصلي العيد وكان يكبر التكبيرات الزوائد، هل أقضي ما فاتني أم ماذا أعمل؟ أفيدوني أفادكم الله.
فأجاب فضيلته بقوله: إذا دخلت مع الإمام في أثناء التكبيرات، فكبر للإحرام أولاً، ثم تابع الإمام فيما بقي، ويسقط عنك ما مضى.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما السور التي يسن للإمام أن يقرأها في صلاة العيد بعد الفاتحة؟
فأجاب فضيلته بقوله: يستحب أن يقرأ إما سورة «ق» ، و «اقتربت» ، وإما سورة «سبح» ، و «الغاشية» هذا هو السنة، وإن قرأ غيرهما فلا بأس.
* * *(16/245)
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل يخطب الإمام في العيد خطبة واحدة أو خطبتين؟
فأجاب فضيلته بقوله: المشهور عند الفقهاء رحمهم الله أن خطبة العيد اثنتان لحديث ضعيف ورد في هذا، لكن في الحديث المتفق على صحته أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يخطب إلا خطبة واحدة، وأرجو أن الأمر في هذا واسع.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما هو الثابت في خطبة العيد هل هي واحدة؟
فأجاب فضيلته بقوله: خطبة العيد: اختلف العلماء رحمهم الله فيها.
فمنهم من قال: إن العيد له خطبتان يجلس بينهما.
ومنهم من قال: ليس له إلا خطبة واحدة، ولكن إذا كانت النساء لا يسمعن الخطيب فإنه يخصص لهن خطبة، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما خطب الناس يوم العيد نزل إلى النساء فوعظهن وذكرهن، وهذا التخصيص في وقتنا الحاضر لا نحتاج إلي؛ لأن النساء يسمعن عن طريق مكبرات الصوت فلا حاجة إلى تخصيصهن،(16/246)
لكن ينبغي أن يوجه الخطيب كلمة خاصة بالنساء كحثهن مثلاً على الحجاب والحشمة وما أشبه ذلك.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما حكم الكلام أثناء خطبة العيد؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذه المسألة محل خلاف بين العلماء رحمهم الله.
فمنهم من قال: إنه يحرم الكلام والإمام يخطب يوم العيد.
وقال آخرون: إنه لا بأس به؛ لأن حضورها ليس بواجب، فاستماعها ليس بواجب.
ولا شك أن من الأدب أن لا يتكلم؛ لأنه إذا تكلم أشغل نفسه، وأشغل غيره ممن يخاطبه، أو يسمعه ويشاهده.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل السنة أن يقوم الخطيب في خطبة العيد أو يصح أن يكون جالساً؟
فأجاب فضيلته بقوله: السنة في الخطبة في الجمعة والعيد أن يكون الخطيب قائماً كما ثبت ذلك عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
* * *(16/247)
سئل فضيلة الشيخ: هل للعيد خطبة أم خطبتان؟ أفيدونا مأجورين.
فأجاب فضيلته بقوله: السنة أن تكون للعيد خطبة واحدة، وإن جعلها خطبتين فلا حرج؛ لأنه قد روي ذلك عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن لا ينبغي أن يهمل عظة النساء الخاصة بهن. لأن النبي عليه الصلاة والسلام وعظهن.
فإن كان يتكلم من مكبر تسمعه النساء فليخصص آخر الخطبة بموعظة خاصة للنساء، وإن كان لا يخطب بمكبر وكان النساء لا يسمعن فإنه يذهب إليهن، ومعه رجل أو رجلان يتكلم معهن بما تيسر.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل يبتدىء الخطيب خطبة العيد بالاستغفار أو بالتكبير أو بماذا يبدأ؟ أفتونا مأجورين؟
فأجاب فضيلته بقوله: أما الاستغفار فلا تستفتح به، ولا أعلم أحداً قال به.
وأما التحميد، أو التكبير فالعلماء مختلفون في هذا:
فمنهم من قال: تبدأ بالتكبير.(16/248)
ومنهم من قال: تبدأ بالتحميد.
والأمر في هذا واسع، فهو إذا قال: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد. فقد ابتدأ بالتحميد. فالجملة كأنها جملة واحدة، وإن قال الحمد لله، والله أكبر، ولا إله إلا الله، فقد بدأ بالتحميد أيضاً فالأمر في هذا واسع.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما حكم تقديم خطبة العيد على الصلاة؟ وما حكم حضور خطبة العيد؟ وهل هي شرط لصحة الصلاة؟
فأجاب فضيلته بقوله: تقديم خطبة العيدين على الصلاة بدعة أنكرها الصحابة رضي الله عنهم.(16/249)
وأما حضورها فليس بواجب، فمن شاء حضر واستمع وانتفع، ومن شاء انصرف.
وليست شرطاً لصحة صلاة العيد، لأن الشرط يتقدم المشروط، وهي متأخرة عن صلاة العيد.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل يسن للإمام أن يخطب على منبر في صلاة العيد؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم، يرى بعض العلماء أنه سنة، لأن في حديث جابر رضي الله عنه أن الرسول عليه الصلاة والسلام، خطب الناس فقال: «ثم نزل فأتى النساء» قالوا: والنزول لا يكون إلا من مكان عالٍ، وهذا هو الذي عليه العمل.
وذهب بعض العلماء إلى أن الخطبة بدون منبر أولى، والأمر في هذا واسع إن شاءالله.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل يعتبر مصلى العيد مسجد ويأخذ أحكام المسجد؟
فأجاب فضيلته بقوله: العلماء اختلفوا فيه هل هو مسجد أو مصلى: فمن قال: إنه مسجد أعطاه أحكام المساجد، ومن قال: إنه مصلى لم يعطه أحكام المساجد.(16/250)
والفرق بين المسجد والمصلى ظاهر، فمثلاً إذا كان الإنسان اتخذ في بيته مكاناً ما يصلي فيه كما يوجد في البيوت قديماً فهذا مصلى وليس بمسجد، فلا تثبت له أحكام المساجد، أما إذا كان مسجداً فإنه تثبت له أحكام المساجد.
والظاهر من السنة أن مصلى العيد مسجد، وقد صرح بذلك أصحاب الإمام أحمد رحمه الله فقال في المنتهى «ومصلى العيد مسجد، لا مصلى الجنائز» فمصلى العيد مسجد، ودليل ذلك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر في العيدين أن تخرج النساء العواتق وذوات الخدور، وأمر أن يعتزل الحيض المصلى، فهذا دليل على أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعطاه حكم المسجد، وبناء عليه نقول: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين» فإذا دخلت مصلى العيد فلا تجلس حتى تصلي ركعتين.
ومن العلماء من قال: حتى وإن كان مسجداً فلا تصل في مسجد العيد ركعتين تحية المسجد، كما هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى العيد ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما، وهذا ثابت في الصحيحين، ولكن ليس فيه دليل لما قالوا؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتى المسجد فتقدم فصلى، فكانت صلاة العيد مجزئة عن تحية المسجد، كما لو دخل الإنسان والإمام يصلي فصلى مع الإمام أجزأته عن تحية المسجد،(16/251)
أما كونه لم يصل بعدهما فلأنه عليه الصلاة والسلام انصرف من صلاته إلى الخطبة، وليس لصلاة العيد راتبة بعدها، ونقول أيضاً هو في الجمعة عليه الصلاة والسلام لا يصلي قبلها ولا بعدها، فإذا جاء خطب وصلى، ثم انصرف إلى بيته وصلى ركعتين، فهو لم يصل قبل الخطبة ولا بعدها، فهل يقال: إن الرجل إذا جاء إلى مسجد الجامع يوم الجمعة لا يصلي قبل الجمعة، ولا بعدها؛ لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يصل قبلها ولا بعدها؟!
لا يقال بهذا، إذاً فلا فرق بين مصلى العيد، ومسجد الجامع، فإذا كان يصلي تحية المسجد يوم الجمعة إذا دخل حتى وإن كان الإمام يخطب، فليصل كذلك تحية المسجد إذا دخل مصلى العيد لأنه مسجد.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: إذا دخل الإنسان مصلى العيد لأداء صلاة العيد، أو الاستسقاء فهل يؤدي تحية المسجد مع الأدلة؟ وما حكم من ينكر ذلك على المصلي في المصلى والكلام فيه في المجالس؟
فأجاب فضيلته بقوله: القول الراجح أن من دخل مصلى العيد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين لعموم قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين» ، ومصلى العيد مسجد؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر الحيض أن يعتزلنه، ولولا أنه(16/252)
مسجد ما أمرهن باعتزاله، وقد صرح المتأخرون من أصحابنا أن مصلى العيد مسجد، قال في الإنصاف 1/246: مصلى العيد مسجد على الصحيح من المذهب، قال في الفروع هذا هو الصحيح اه. وقال في المنتهى وشرحه آخر باب الغسل: ومصلى العيد لا مصلى الجنائز مسجد، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وليعتزل الحيض المصلى» اه.
وقال في الإنصاف 2/341 - 342: الصحيح من المذهب كراهة التنفل قبل الصلاة وبعدها في موضعها. إلى أن قال: وقيل يصلي تحية المسجد، اختاره أبو الفرج، وجزم به في الغنية، قال في الفروع: وهو أظهر ورجحه في النكت اه. وذكر أقوالاً أخرى.
وأما من ينكر ذلك على فاعله، فلا وجه لإنكاره، والكلام فيه في المجالس غيبة محرمة، ويقال للمنكر: أنت لا تفعل ذلك، ولكن لا تنكر على غيرك إلا بدليل من الكتاب، أو السنة، أو الإجماع، ولا شيء من ذلك في هذه المسألة.
وأما كون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما فلا يدل على كراهة الصلاة قبلهما أو بعدهما؛ لأنه حين وصل المصلى شرع في صلاة العيد فأغنت عن تحية المسجد، ولما انتهى من الصلاة خطب الناس ثم انصرف.
* * *(16/253)
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: قلتم إن مصلى العيد تشرع فيه تحية المسجد، فإذا كان المصلى خارج البلد ولم يسور فهل تشرع فيه تحية المسجد كذلك؟ وهل ينكر على من ترك التحية؟
فأجاب فضيلته بقوله: مصلى العيد يشرع فيه تحية المسجد كغيره من المساجد، إذا دخل فيه الإنسان لا يجلس حتى يصلي ركعتين، وإن كان خارج القرية؛ لأنه مسجد سواء سُور أو لم يُسور، والدليل على ذلك أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، «منع النساء الحيض أن يدخلن المصلى» ، وهذا يدل على أنه له حكم المسجد.
ولا ينكر على من ترك التحية؛ لأن بعض العلماء قالوا لا تحية له، ولكن القول الراجح أنه يصلى فيه؛ لأن له تحية.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل يعد مصلى العيد مسجد فتسن له تحية المسجد؟ وهل يتنفل بغير تحية المسجد؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم مصلى العيد مسجد، ولهذا منع الرسول عليه الصلاة والسلام الحيض أن يمكثن فيه، وأمرهن باعتزاله، فعلى هذا إذا دخله الإنسان فلا يجلس حتى يصلي ركعتين، ولكن لا يتنفل بغيرها، لا قبل الصلاة، ولا بعدها، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يصل قبلها ولا بعدها لكن تحية المسجد لها سبب.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: إذا جاء الإنسان يوم العيد والإمام يخطب فهل يجلس أو يقضي صلاة العيد؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا جاء الإنسان يوم العيد والإمام يخطب فقد انتهت الصلاة كما هو معلوم، ولكن لا يجلس حتى يصلي ركعتين تحية للمسجد، فإن فقهاء الحنابلة رحمهم الله نصوا على أن مصلى العيد مسجد حكمه حكم المساجد ويدل على ذلك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر الحيض أن تعتزله، وهذا يدل على أن حكم حكم المساجد، وبناء عليه فإنه إذا دخله الإنسان لا يجلس حتى يصلي(16/254)
ركعتين تحية المسجد.
أما قضاء صلاة العيد إذا فاتت فقد اختلف فيها أهل العلم.
فمنهم من قال: إنها تقضى على صفتها.
ومنهم من قال: إنها لا تقضى.
والقائلون بأنها لا تقضى يقولون: لأنها صلاة شرعت على وجه الاجتماع فلا تقضى إذا فاتت كصلاة الجمعة، لكن صلاة الجمعة يجب أن يصلي الإنسان بدلها صلاة الظهر؛ لأنها فريضة(16/255)
الوقت، أما صلاة العيد فليس لها بدل، فإذا فاتت مع الإمام فإنه لا يشرع قضاؤها، وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو عندي أصوب من القول بالقضاء، والله أعلم.
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل تقضى صلاة العيد إذا فاتت الإنسان؟
فأجاب فضيلته بقوله: الصحيح أنها لا تقضى، وأن من فاتته صلاة العيد سقطت عنه، بخلاف الجمعة، فإن الجمعة إذا فاتت الإنسان صلى الظهر، والفرق بينهما أن صلاة الظهر فرض الوقت، فإذا لم يتمكن الإنسان من صلاة الجمعة وجب أن يصلي الظهر، بخلاف العيد فإن العيد صلاة اجتماع إن أدرك الإنسان فيها الاجتماع وإلا سقطت عنه.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: إذا دخل المصلي لصلاة العيد وكان الإمام قد انتهى من الركعة الأولى كيف يقضيها؟
فأجاب فضيلته بقوله: يقضيها إذا سلم الإمام بصفتها، أي يقضيها بتكبيرها.
* * *(16/256)
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
فضيلة الشيخ/ محمد بن صالح العثيمين حفظه الله وبارك فيه
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
أما بعد: فأنا أحد محبيكم في الله إمام وخطيب أحد مصليات العيد، ألتمس فتوى خطية من فضيلتكم في موضوع التكبير يوم العيد عبر مكبرات الصوت، وواقع الحال أن المصلى يجتمع فيه الألوف من المصلين، ولكنهم لا يقيمون سنة التكبير، فتجدهم صامتين لا يكبرون إلا ما ندر جهلاً، أو غفلة منهم، مع اجتهاد الناصحين في حثهم على التكبير، وتذكيرهم بذلك ليلة العيد في المساجد، ويوم العيد في المصلى، فهل يجوز لنا إحياءً للسنة وتعليماً للجاهل وتذكيراً للغافل، أن نكلف أحد المصلين أن يكبر وحده في مكبر الصوت التكبير المشروع، مع العلم بأنه قد ثبت بالتجربة في مصليات ومساجد عدة أنه عندما يكبر أحد المصلين عبر مكبر الصوت فإن كثيراً من المصلين يكبرون، أم تأمروننا بأن نترك ذلك حتى ولو أدى ذلك إلى ترك التكبير من المصلين، وجزاكم الله خيراً. والله يحفظكم ويرعاكم ويمدكم بعونه وتوفيقه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فأجاب فضيلته بقوله: بسم الله الرحمن الرحيم.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. التكبير ليلة العيدين إلى أن يأتي الإمام للصلاة سنة، وليس بواجب، والجهر به سنة(16/257)
وليس بواجب، فلو تركه الناس بالكلية لم يأثموا، ولو كبروا سرًّا لم يأثموا، ولا ينبغي أن يقع النزاع بين الناس في مثل هذه الأمور التي أكثر ما يقال فيها إنها سنة، ثم تحدث في هذا النزاع عداوات وبغضاء، وتضليل وتفسيق وتبديع وما أشبه ذلك، فلو أن الناس لم يكبروا، أو لم يرفعوا أصواتهم بالتكبير فإنهم لا يعدون آثمين، ولا ينبغي الإصرار على أن يرفع التكبير عبر مكبر الصوت من أجل التذكير بهذه السنة إذا كان هذا يحدث عداوة وبغضاء فإن ذلك خلاف ما تهدف إليه الشريعة، فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ترك بناء الكعبة على قواعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام مع أنه كان يرغب ذلك، وقال لعائشة رضي الله عنها: «لولا أن قومك حديثوا عهد بكفر لبنيت الكعبة على قواعد إبراهيم» فترك هذا من أجل أن لا تحدث فتنة، ولكن إذا لم يكن هناك فتنة في التكبير وقيل للناس إننا نكل إلى شخص معين المؤذن أو غيره أن يكبر التكبير المشروع عبر مكبر الصوت بدون أن يتابعه أحد على وجه جماعي فلا أرى في هذا بأساً؛ لأنه من باب رفع الصوت بالتكبير والجهر به وفيه تذكير للغافلين أو الناسين، ومن المعلوم أنه لو كبر أحد الحاضرين رافعاً صوته بدون مكبر الصوت لم يتوجه الإنكار عليه من أحد، فكذلك إذا كبر عبر مكبر الصوت، لكن بدون أن يتابعه الناس على وجه جماعي كأنما يلقنهم ذلك، ينتظرون تكبيره حتى يكبروا بعده بصوت واحد، فإن هذا لا أصل له في السنة.
وعلى كل حال، فأهم شيء عندي أن يتفق الناس على ما كان عليه السلف، وأن لا يقع بينهم شيء من العداوة والبغضاء، وصلى الله على نبينا محمدوعلى آله وصحبه وسلم. في 1/11/1413 هـ.(16/258)
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: متى يبتدىء التكبير لعيد الفطر؟ وما هي صفته؟
فأجاب فضيلته بقوله: التكبير يوم العيد يبتدىء من غروب الشمس آخر يوم من رمضان، إلى أن يحضر الإمام لصلاة العيد.
وصفته أن يقول: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد، أو يقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، يعني إما أن يقول التكبير ثلاث مرات، أو مرتين كل ذلك جائز، ولكن ينبغي أن تظهر هذه الشعيرة فيجهر بها الرجال في الأسواق والمساجد والبيوت، أما النساء فإن الأفضل في حقهن الإسرار.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما رأيكم فيمن يكبر في المسجد في أيام العيد عبر مكبر الصوت ويتابعه العامة يكبرون خلفه؟
فأجاب فضيلته بقوله: نرى أن هذا لا ينبغي؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم ما كانوا يكبرون كما يكبرون في الأذان، ما كانوا يقصدون الأماكن المرتفعة ليكبروا عليها، بل(16/259)
كانوا يكبرون في أسواقهم، وفي مساجدهم، وفي بيوتهم، وفي مخيماتهم في منى، دون أن يتقصدوا شيئاً عالياً يكبرون عليه، فأخشى أن يكون ذلك من باب التنطع الذي قال فيه الرسول عليه الصلاة والسلام: «هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون» . التنطع فيه الهلاك والعياذ بالله. ليسعنا ما وسع السابقين الأولين.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: عن حكم التكبير الجماعي بعد أداء الصلوات عبر مكبر الصوت ومن منائر المساجد في عشر ذي الحجة، وليلة عيد الفطر؟
فأجاب فضيلته بقوله: التكبير في عشر ذي الحجة ليس مقيداً بأدبار الصلوات، وكذلك في ليلة العيد عيد الفطر ليس مقيداً بأدبار الصلوات فكونهم يقيدونه بأدبار الصلوات فيه نظر، ثم كونهم يجعلونه جماعياً فيه نظر أيضاً، لأنه خلاف عادة السلف، وكونهم يذكرونه على المنائر فيه نظر، فهذه ثلاثة أموركلها فيها نظر، والمشروع في أدبار الصلوات أن تأتي بالأذكار المعروفة المعهودة، ثم إذا فرغت كبر، وكذلك المشروع أن لا يكبر الناس جميعاً، بل كل يكبر وحده هذا هو المشروع كما(16/260)
في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أنهم كانوا مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحج، فمنهم المهلّ، ومنهم المكبر ولم يكونوا على حال واحد.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل يشترط في التكبير المقيد أن يكون بعد الصلاة التي تقام جماعة، أو يسن ولو صلى منفرداً؟
فأجاب فضيلته بقوله: يكون مشروعاً سواء صلى الإنسان في جماعة، أو صلى منفرداً، هذا هو الأقرب.
وبعض العلماء يرى أنه لا يشرع إلا إذا صلى في جماعة.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل يقدم التكبير على الذكر الذي دبر كل صلاة؟
فأجاب فضيلته بقوله: لم يرد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نص صحيح صريح في باب التكبير المقيد، لكنه آثار واجتهادات من العلماء، وهؤلاء يقولون: إنه يقدمه على الذكر العام أدبار الصلوات.(16/261)
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما هي الأيام المعلومات، والأيام المعدودات؛ المذكورة في القرآن؟
فأجاب فضيلته بقوله: الأيام المعلومات هي أيام العشر: عشر ذي الحجة، والأيام المعدودات هي أيام التشريق.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما صفة التكبير المطلق، والتكبير المقيد؟ أفيدونا أفادكم الله؟
فأجاب فضيلته بقوله: صفة التكبير: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد، أو يكرر التكبير ثلاث مرات، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.
والمطلق هو الذي يسن في كل وقت، والمقيد هو الذي يسن في أدبار الصلوات المكتوبة. وقد ذكر العلماء رحمهم الله أن المقيد إنما يختص بالتكبير في عيد الأضحى فقط من صلاة الفجر يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق. وأما المطلق فيسن في عيد الفطر، وفي عشر ذي الحجة.
والصحيح أن المطلق يستمر في عيد الأضحى إلى آخر أيام التشريق. وتكون مدته ثلاثة عشر يوماً.
والسنة أن يجهر بذلك، إلا النساء فإنهن لا يجهرن.(16/262)
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما الحكم لو أحدث الإنسان بعد الصلاة هل يشرع له أن يكبر، وكذا لو خرج من المسجد أو طال الفصل؟
فأجاب فضيلته بقوله: ينبغي أن يعلم أن التكبير المقيد ليس فيه نص صحيح صريح عن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكن فيه آثار واجتهادات من أهل العلم، والأمر فيه واسع، حتى لو تركه نهائيًّا، واقتصر على ذكر الصلاة كان جائزاً، لأن الكل ذكر لله عز وجل ومن المعلوم أنه لو أحدث فإن ذكر الصلاة لا يسقط، لأنه لا يشترط للذكر طهارة، فكذلك التكبير، وكذلك لو خرج من المسجد فإن الذكر لا يسقط وكذلك التكبير.
أما إذا طال الفصل فإن كان تركه تهاوناً يسقط، وإن كان نسياناً قضاه.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: عندنا في بعض المساجد يجهر المؤذن بالتكبير في مكبرات الصوت والناس يرددون وراءه ما يقول، فهل هذا يعد من البدع؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا من البدع؛ لأن المعروف من هدي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الأذكار أن كل واحد من الناس يذكر الله سبحانه وتعالى لنفسه فلا ينبغي الخروج عن هدي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه.
* * *(16/263)
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
سماحة الشيخ الوالد محمد بن صالح العثيمين حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ما هو الفرق بين التكبير المطلق والتكبير المقيد، ومتى يبدأ وقت كل منهما، ومتى ينتهي؟ أفيدونا مأجورين؟
بسم الله الرحمن الرحيم.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
الفرق بين المطلق والمقيد أن المطلق في كل وقت، والمقيد خلف الصلوات الخمس في عيد الضحى فقط.
ويبدأ المطلق في عيد الأضحى من دخول شهر ذي الحجة إلى آخر أيام التشريق وهي الأيام الثلاثة بعد العيد. وفي عيد الفطر من دخول شهر شوال إلى صلاة العيد.
ويبدأ المقيد على ما قاله العلماء من صلاة الفجر يوم عرفة إلى عصر آخر يوم من أيام التشريق.
كتبه محمد الصالح العثيمين في 2/12/1415 هـ.(16/265)
فصل
قال فضيلة الشيخ جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء:
بسم الله الرحمن الرحيم
1 التكبير المطلق يكون في موضعين:
الأول: ليلة عيد الفطر، من غروب الشمس، إلى انقضاء صلاة العيد.
الثاني: عشر ذي الحجة من دخول الشهر، إلى فجر يوم عرفة والصحيح أنه يمتد إلى غروب الشمس من آخر يوم من أيام التشريق.
2 التكبير المقيد من انتهاء صلاة عيد الأضحى إلى عصر آخر أيام التشريق.
3 التكبير الجامع بين المطلق والمقيد من طلوع الفجر يوم عرفة، إلى انتهاء صلاة عيد الأضحى، والصحيح أنه إلى غروب الشمس من آخر يوم من أيام التشريق.
والفرق بين التكبير المطلق، والتكبير المقيد، أن المطلق مشروع كل وقت لا في أدبار الصلوات، فمشروعيته مطلقة ولهذا سمي مطلقاً.
وأما المقيد فمشروع أدبار الصلوات فقط، على خلاف بين العلماء في نوع الصلاة التي يشرع بعدها، فمشروعيته مقيدة بالصلاة ولهذا سمي مقيداً، والله أعلم.
* * *(16/266)
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين حفظه الله تعالى
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
في مساجد بعض المدن في يوم العيد قبل الصلاة يقوم الإمام بالتكبير من خلال المكبر ويكبر المصلون معه، فما الحكم في هذا العمل جزاكم الله خيراً؟
فأجاب فضيلته بقوله: بسم الله الرحمن الرحيم.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. هذه الصفة التي ذكرها السائل لم ترد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، والسنة أن يكبر كل إنسان وحده.
كتبه محمد الصالح العثيمين في 3/6/9041هـ.(16/267)
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما حكم التكبير الجماعي في أيام الأعياد، وما هي السنة في ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: الذي يظهر أن التكبير الجماعي في الأعياد غير مشروع، والسنة في ذلك أن الناس يكبرون بصوت مرتفع كل يكبر وحده.(16/268)
* * *
عيد الفطر
قال فضيلة الشيخ جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
في ختام شهر رمضان شرع الله لعباده أن يكبروه، فقال تعالى: {وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} تكبروا الله، أي: تعظموه بقلوبكم وألسنتكم، ويكون ذلك بلفظ التكبير.
فتقول: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أو تكبر ثلاثاً، فتقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله. والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
كل هذا جائز سواء أتيت بالتكبير شفعاً، أو أتيت وتراً.
وينبغي للإنسان عند التكبير أن يستشعر أنه يكبر الله بقلبه ولسانه، وأنه بنعمة الله عليه وهدايته إياه صار في المحل الأعلى الأرفع ولهذا قال: {عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .
فجعل الله التكبير فوق الهداية، أي أن ذلك التكبير كان نتيجة لهداية الله سبحانه وتعالى وتوفيقه لصيام رمضان وقيامه، وهذا التكبير سنة عند جمهور أهل العلم، وهو سنة للرجال(16/269)
والنساء، في المساجد والبيوت والأسواق.
أما الرجال فيجهرون به، وأما النساء فيسررن به بدون جهر؛ لأن المرأة مأمورة بخفض صوتها. ولهذا قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا نابكم شيء في صلاتكم فليسبح الرجال، ولتصفق النساء» ، وهي منهية عن الكلام الخاضع الهابط الذي يجر الفتنة إليها.
قال الله تعالى لنساء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يانِسَآءَ النَّبِىِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَآءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} .
فتأملوا هذا الخطاب، وفي أي زمن. فالخطاب لنساء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللاتي هن أطهر النساء، وفي زمن الصحابة رضي الله عنهم الذين هم خير القرون بنص رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومع ذلك يقول لهن الله عز وجل: {فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} .
فما ظنك بنساء اليوم، وما ظنك بهذا الزمن؟ وما ظنك برجال هذا اليوم؟ أليسوا أقرب إلى المرض من زمن الصحابة؟ بلى، هم أقرب إلى المرض من زمن الصحابة. وأقرب إلى الفتنة ومع ذلك(16/270)
نهى الله نساء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يخضعن بالقول وعلل هذا النهي {فَيَطْمَعَ الَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} .
فالنساء يخفين التكبير والرجال يهجرون به.
وابتداؤه من غروب الشمس ليلة العيد إذا علم دخول الشهر قبل الغروب كما لو أكمل الناس الشهر ثلاثين يوماً، أو من ثبوت الخبر إذا ثبت ليلة الثلاثين من رمضان، وينتهي بالصلاة يعني إذا شرع الناس في صلاة العيد انتهى وقت التكبير.
وصلاة العيد سنة واجبة أمر بها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل أمر النساء أيضاً أن يخرجن لصلاة العيد، ولكن لا يحل للمرأة أن تأتي بمصلى العيد وهي متبرجة، أو متطيبة، أو متزينة، أو كاشفة وجهها؛ لأن ذلك محرم، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أيما امرأة أصابت بخوراً فلا تشهد معنا صلاة العشاء» .
فنهاها أن تحضر إلى الصلاة إذا أصابت البخور فما ظنك بمن تتطيب بأطيب الطيب ثم تأتي إلى المسجد فإنها آثمة من خروجها من بيتها إلى رجوعها إلى بيتها.
والشيطان يستشرفها ويبهيها بعين الرجل حتى يظنها من أجمل النساء ومن أحسن النساء، ويجعل الطيب أفضل من رائحته الحقيقية من أجل الافتتان بها.
فالواجب على المرأة أن لا تخرج إلا على الوجه المأذون فيه، فتخرج غير متزينة، ولا متطيبة، ولا متبرجة، وتمشي هويناً(16/271)
ولا تخاطب الرجال؛ لأن ذلك من الفتنة، وإنما تحضر الصلاة من أجل البركة التي تحصل بهذا الاجتماع على طاعة الله تعالى وعبادته، ولطفه ودعائه، يشهدن الخير ودعوة المسلمين، وأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحُيض أن يعتزلن مصلى العيد؛ لأن مصلى العيد مسجد، والمرأة لا يحل لها أن تمكث في المسجد وهي حائض.
بل لها أن تمر في المسجد عابرة إذا أمنت تلوث المسجد، لكن ليس لها أن تجلس في المسجد؛ لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر الحيض أن يعتزلن المصلى.(16/272)
فصل: قال فضيلة الشيخ أعلى الله درجته في المهديين:
حكم صلاة العيد على الرجال
* للعلماء فيها ثلاثة أقوال:
قال بعض العلماء: إنها سنة. واستدلوا بأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما علم الأعرابي فرائض الإسلام ومنها الصلوات الخمس. قال الأعرابي: هل عليّ غيرهن؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «لا، إلا أن تطوع» . وهذا عام، فإن كل صلاة غير الصلوات الخمس داخلة في هذا ومنها صلاة العيد.
القول الثاني: أنها فرض كفاية؛ لأنها عبادة ظاهرة من شعائر الإسلام، وشعائر الإسلام الظاهرة يقصد بها حصول هذه الشعيرة بقطع النظر عن الفاعل.
وحينئذ تكون فرض كفاية؛ لأن المقصود إظهار هذه الشعيرة، وخروج الناس إلى المصلى حتى يتبين أنهم في عيد.
القول الثالث: أنها فرض عين؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بالخروج إليها حتى الحيض وحتى العواتق وذوات الخدور.
وشيء يأمر به النساء فالرجال من باب أولى وهذا الأخير هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
يقول رحمه الله: إن صلاة العيد فرض عين، وإن من تأخر عنها فهو آثم، ولو كانت الكفاية تحصل بغيره، ولكن إذا فاتت الإنسان فإنها لا تقضى على رأي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال: لأنها صلاة اجتماع فهي كصلاة الجمعة.
وصلاة الجمعة إذا فاتت الإنسان لا يقضيها لكن يصلي الظهر، لأنها فرض الوقت لا أنها بدل عن الجمعة.
والجمعة لما فات الاجتماع ولم يدركها الإنسان سقطت ولا يمكن أن يأتي بها.
لكن لما كان الظهر فرض الوقت وجب عليه أن يصلي.
فصلاة العيد إذا قلنا إنها فرض عين ولم يدركها الإنسان فهل لوقتها صلاة مفروضة؟ لا.
وحينئذ تسقط ولا يجب عليه شيء، لأنها فاتته، ولا شك أن ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه(16/273)
الله تعالى - أقوى الأقوال، وأن صلاة العيد فرض عين على كل ذكر.
وإن من لم يحضرها فهو آثم.
ولكن إذا فاتته فإنه لا يقضيها؛ لأنها صلاة اجتماع، لا انفراد.
ومما يفعل في هذا العيد تهنئة الناس بعضهم بعضاً، بالتخلص برمضان من الذنوب، وفرق بين قولنا: التخلص من رمضان، والتخلص برمضان من الذنوب، فرق بين أن نقول: استرحنا بالصلاة، واسترحنا من الصلاة. والمحمود استرحنا بالصلاة، والمذموم استرحنا منها.
وفي التخلص من رمضان كلمة مذمومة.
كل المؤمنين يحبون أن يكون شهر رمضان كل السنة والتخلص برمضان كلمة محمودة؛ «لأن من صام رمضان إيماناً(16/274)
واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه» ، و «من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه» ، و «من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه» .
ثلاثة أمور كلها أسباب لمغفرة الذنوب إذا فاتت الإنسان فهو خاسر، إذا كان صومه لا يكفر ذنوبه فقد خسر، وإذاكان قيامه لا يكفر ذنوبه فقد خسر، وإذا كان قيام ليلة القدر لا يكفر ذنوبه فقد خسر.
فتهنئة الناس بعضهم بعضاً هي من باب العادة، وإن كان نقل عن بعض الصحابة أنهم كانوا يهنىء بعضهم بعضاً بذلك، لكن هي من باب العادة، ولكن يفعل بعض الناس في هذه العادة ما لا يجوز شرعاً، يهنىء ابن العم بنت العم وهي كاشفة وجهها، فهذا حرام، ولا يجوز أن يهنىء ابن العم بنت العم وهي كاشفة وجهها؛ لأنها أجنبية منه وليست من محارمه، وبعض الناس أيضاً يهنىء أي امرأة من أقاربه وهي كاشفة وجهها، وإن لم تكن ابنة عمه وهذا أيضاً حرام.(16/275)
فإذا لم تكن من محارمه فيحرم عليه أن يهنىء وهي كاشفة وجهها.
وبعض الناس أيضاً يهنىء النساء من أقاربه اللاتي لسن من محارمه فيصافحهن وهذا حرام، لا يجوز للرجل أن يصافح امرأة من غير محارمه، حتى وإن قال أنا أصافحها من وراء حجاب؛ لأن الإنسان قد يغويه الشيطان، فإذا صافحها بيدها ضغط عليها وحصل ما حصل، لذلك لا يجوز أن يصافح الإنسان امرأة من غير محارمه، لا من وراء حجاب ولا مباشرة.
ويجوز أن يصافح امرأة من محارمه، فيجوز أن يصافح أخته، وعمته، وابنة أخيه، وابنة أخته. أما تقبيله للمحارم فهذا لا ينبغي أن يقبِّل المحارم؛ لأن التقبيل أقرب إلى الفتنة من المصافحة إلا إذا كانت ابنته أو أمه، فإن هذا لا بأس به، أو إذا كانت امرأة كبيرة كالعمة والخالة يقبلها على الرأس تكريماً لها واحتراماً لها؛ لأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فربما يلقي في قلبه شراًّ عند تقبيل هذه المرأة التي ليست من أصوله ولا من فروعه، ومن الفروع البنات، وإن نزلن، والأصول الأمهات وإن علون.
ويفعل في هذا العيد أيضاً أن الناس يتبادلون الهدايا يعني يصنعون الطعام ويدعو بعضهم بعضاً، ويجتمعون ويفرحون، وهذه عادة لا بأس بها؛ لأنها أيام عيد، حتى إن أبا بكر رضي الله عنه لما دخل على بيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعنده جاريتان تغنيان في(16/276)
أيام العيد انتهرهما، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دعهما» ولم يقل: إنهما جاريتان قال: «دعهما فإنها أيام عيد» .
وفي هذا دليل على أن الشرع ولله الحمد من تيسيره وتسهيله على العباد أن فتح لهم شيئاً من الفرح والسرور في أيام العيد.
وأما ما يذكر عن بعض العباد والزهاد أنه مر بقوم يفرحون في أيام العيد فقال: «هؤلاء أخطئوا سواء تقبل منهم أم لم يتقبل، فإن كان لم يتقبل منهم الشهر فليس هذا فعل الخائفين، وإن كان قد تقبل منهم فليس هذا فعل الشاكرين» ، فهذا لا شك أنه بخلاف هدي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ هدي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه فتح لأمته في أيام الفرح من الانطلاق، والانشراح الذي لا يخل بالدين ولا بالشرع، كما أنه أباح للإنسان عند الحزن أن يحد ثلاثة أيام، يعني يترك الزينة والطيب وما أشبه ذلك، ولهذا قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليالٍ إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً» .
وهذا من باب معاملة النفوس بما تقتضيه الأحوال، ومعلوم أن أيام العيد تقتضي الفرح والسرور فليجعل للنفس حظًّا من الانطلاق والفرح والسرور في هذه الأيام، لكن بشرط أن لا يفضي(16/277)
إلى شيء محرم، فلو جاء إنسان وقال: أنا أرغب الموسيقى وأغاني فلانة وفلان في أيام العيد.
نقول له: هذا حرام؛ لأن الفرح إذا وصل إلى حد ممنوع شرعاً يجب أن يوقف؛ لأنه يكون انطلاقاً مشيناً، حرية على حساب رق؛ لأن الحرية المخالفة للشرع هي في الحقيقة رق. والذي استرق الشيطان.
ولهذا قال ابن القيم رحمه الله في النونية:
هربوا من الرق الذي خُلقوا له وبُلوا برق النفس والشيطان
فالرق الذي خلقنا له الرق لله عز وجل، فنحن عبيد الله كما قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} .
(وبلوا برق النفس والشيطان) استعبدتهم نفوسهم وشياطينهم، حتى تركوا الهدى، واتبعوا الشيطان، فمثلاً إذا وصل حد الفرح إلى حد ممنوع شرعاً، وجب إيقافه، أما الحدود الشرعية فإنه لا ينبغي لنا أن نضيق على عباد الله عز وجل ما وسعه الله لهم، فنحن جميعاً نتعبد لله بشرع الله، ولسنا الذين نحكم على عباد الله، وإنما الذي يحكم على العباد هو الله عز وجل {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَىْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبِّى عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .
فالله هو الحاكم بين عباده، فليس للإنسان أن يحرم ما أحل الله، ولا أن يحلل ما حرم الله.(16/278)
فإذا قال قائل: إن يوم العيد هذا العام يوم الخميس وصيام يوم الخميس مشروع، وأنا رجل أحب العبادة، فأحب أن أتعبد لله عز وجل بصوم هذا اليوم؟
نقول له: نحن لا ننكر صيام يوم الخميس، وإنما ننكر صيام يوم العيد؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (نهى عن صيام يوم العيدين) ، فلا يجوز للإنسان أن يتطوع، أو أن يصوم يوم العيد ولو في فرض، حتى لو فرض أن عليه أياماً من رمضان، وقال: أريد أن أصوم هذا اليوم عن القضاء. قلنا له: أنت آثم وصيامك غير مقبول.
إذن شرع الله للعباد في يوم عيد الفطر ثلاث سنن:
1 التكبير.
2 صدقة الفطر.
3 صلاة العيد.
وأباح للعباد ما تتطلبه المناسبة من مناسبة الفرح من شيء من العادات، أو من اللهو الذي يكون مباحاً في حدود الشريعة.
وهناك أيضاً بحث متعلق بصلاة العيد وهو أن صلاة العيد فيها تكبيرات زوائد، فهذه التكبيرات حكمها سنة، وإذا فاتت الإنسان فإنه لا يقضيها في الركعة الواحدة.
ومثلاً: لو جئت والإمام قد كبر ثلاث تكبيرات وبقي عليه أربع، فأنت تكبر للإحرام، وتتابعه فيما بقي من التكبير، لأن الإمام إذا انتهى يقرأ بفاتحة الكتاب، فلا تكبر والإمام يقرأ، بل(16/279)
أنصت له؛ لأنه لا قراءة مع الإمام لا بتكبير، ولا بقراءة القرآن، إلا بفاتحة الكتاب.
ولو فاتتك ركعة كاملة ثم سلم الإمام وقمت تقضي هذه الركعة فصلها كما صلاها الإمام، تكبر خمساً بعد تكبيرة الإمام؛ لأن هذه قضاء عما سبق.
وإذا أتيت إلى صلاة العيد من طريق، فالسنة أن ترجع من طريق آخر، يعني فإذا كان لك طريقان إلى المسجد فأت من طريق وارجع من الطريق الآخر، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ لأنه ثبت عنه أنه كان إذا أتى من طريق، رجع من طريق آخر، فإذا كان طريقك إلى المسجد واحداً يعني ليس هناك طريق ثان، فلا حرج.
وفي عيد الفطر سنة أيضاً وهي أن الإنسان قبل أن يأتي إلى المسجد يأكل تمرات وتراً يعني ثلاث ولا يأكل واحدة، لأن أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يأكل تمرات» والتمرات جمع وأقلها ثلاث. ولاسيما إذا كانت وتراً فلا بد من الثلاث.
إذن أقلها ثلاث، وإن زاد فخمس، أو سبع، أو تسع، أو إحدى عشر، أو إحدى وعشرون.
والمهم أن نقطعها على وتر.(16/280)
وهل كلما أكل الإنسان تمراً في غير هذه المناسبة يقطعها على وتر؟ نقول: لا.
وهل الإنسان يقطع كل شيء على وتر؟
فإذا أكل نقول له: اقطع ثلاث لقمات، فهذا غير مشروع.
وعندما يحب أن يزيد من الطيب فيقول أوتر ولكن هذا لا أصل له.
فأنا لا أعلم أن الإنسان مطلوب منه أن يوتر في مثل هذه الأمور، فأما قول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إن الله وتر يحب الوتر» ، فليس هذا على عمومه، لكنه عز وجل وتر يحكم شرعاً أو قدراً بوتر، فمثلاً الصلاة وتر في الليل نختمه بوتر التطوع، وفي النهار نختمه بوتر المغرب، وأيام الأسبوع وتر، السموات وتر، والأرض وتر، فيخلق الله عز وجل ما يشاء على وتر، ويحكم بما يشاء على وتر، وليس المراد بالحديث أن كل وتر فإنه محبوب إلى الله عز وجل.
وإلا لقلنا احسب خطواتك من بيتك إلى المسجد لتقطعها على وتر، احسب التمر الذي تأكله على وتر، احسب الشاي الذي تشربه لتقطعه على وتر، وكل شيء احسبه على وتر.
فهذا لا أعلم أنه مشروع.
فأكل تمرات وتراً من السنن التي تفعل في عيد الفطر خاصة أن لا تأتي المسجد حتى تأكل تمرات وتراً.(16/281)
فبعض الناس ولاسيما العامة ينقلون التمر ليأكلوه في مصلى العيد، ولا يأكلونه حتى تطلع الشمس فيقيدون هذا الأكل بزمان، ومكان.
فالزمن بعد طلوع الشمس، والمكان مصلى العيد.
وقد قلنا: إن كل إنسان يخصص عبادة بزمان ومكان لم يرد به الشرع، فإنها بدعة غير موافقة للشرع.
والله الموفق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
* * *(16/282)
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما حكم إخراج السجاد من المسجد لاستعماله في أغراض أخرى كالجلوس عليه في الشارع في الأعياد مثلاً؟
فأجاب فضيلته بقوله: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد:
لا يجوز إخراج السجاد من المسجد والانتفاع به في جهات أخرى؛ لأن الموقوف على شيء معين لا يجوز صرفه في غيره، ولأنه لو فتح هذا الباب لأوشك أن يأخذها الإنسان يستعملها لخاصة نفسه.
16/10/1415 هـ.(16/283)
صلاة الكسوف
باب صلاة الكسوف
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: عن سبب الكسوف؟
فأجاب فضيلته بقوله: الكسوف له سبب حسي، وسبب شرعي، فالسبب الحسي في كسوف الشمس أن القمر يحول بينها وبين الأرض، فيحجبها عن الأرض إما كلها، أو بعضها، وكسوف القمر سببه الحسي حيلولة الأرض بينه وبين الشمس؛ لأنه يستمد نوره من الشمس، فإذا حالت الأرض بينه وبين الشمس ذهب نوره، أو بعضه، أما السبب الشرعي لكسوف الشمس وخسوف القمر فهو ما بينه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بقوله: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، وإنما يخوف الله بهما عباده» .
* * *(16/287)
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد الصالح العثيمين إلى الأخ المكرم ... وفقه الله تعالى
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فقد عرض علي أكثر من واحد ما كتبتم في الصفحة السادسة من صحيفة (.....) الصادرة يوم السبت الموافق 22/12/1420 هـ حول كسوف الشمس، ويتضمن عدة أمور:
الأول: قلتم: «إن للكسوف تفسيراً علمياً يدرك بالحساب» ، وهذا حق لكنه لا يتنافى مع التفسير الشرعي الذي لا يدرك إلا بالوحي، ولا مجال للعقل فيه إلا أن يصدق ما ثبت بالوحي عن رسول الله تعالى الصادق المصدوق صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي لا ينطق عن الهوى، حيث قال حين كسفت الشمس فيما ثبت عنه في الصحيحين وغيرهما: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده، وأنهما لا ينكسفان لموت أحد من الناس، فإذا رأيتم منها شيئاً فصلوا وادعوا الله حتى يكشف ما بكم» ، وفي حديث آخر عند البخاري: «هذه الآيات التي يرسلها الله لا تكون لموت أحد ولا لحياته، ولكن يخوف الله بها عباده، فإذا(16/289)
رأيتم شيئاً من ذلك فافزعوا إلى ذكر الله تعالى ودعائه واستغفاره» . وفي حديث آخر: «فافزعوا إلى الصلاة» ، وفي حديث آخر: «فادعوا الله وكبروا وصلوا وتصدقوا» . وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: لقد أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالعتاقة في كسوف الشمس، فهذه سبعة أشياء أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بها عند الكسوف وكلها ثابتة في صحيح البخاري وهي:
1 الصلاة.
2 الدعاء.
3 الاستغفار.
4 التكبير.
5 الذكر.
6 الصدقة.
7 العتق.
وقد خرج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فزعاً، وعرض عليه في مقامه ما قال عنه: «ما من شيء كنت لم أره إلا قد رأيته في مقامي هذا، حتى الجنة والنار، ولقد أوحي إلي أنكم تفتنون في القبور» ثم أمرهم أن يتعوذوامن عذاب القبر. ولقد صلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاة الكسوف على(16/290)
وجه لا نظير له في كيفيته وطوله، وكل هذا يدل على أهمية شأن الكسوف من الناحية الشرعية، وأن هناك سبباً لحدوثه لا تدركه العقول، ولا يحيط به الحساب وهو تخويف الله تعالى عباده، ليحدثوا توبة إليه ورجوعاً إلى طاعته. وهذا أمر وراء المادة لا يفقهه إلا من رزقه الله تعالى علماً بوحيه وإيماناً بخبره.
الثاني: قلتم «كان يصاحب كسوف الشمس في الماضي الخوف والذعر لدى كثير من الناس، وذلك لوجود بعض الاعتقادات الخاطئة حول ظاهرة الكسوف، وقد زالت بعد فهم طبيعة نظام المجموعة الشمسية، وحركات كواكبها، وتحديد أوقات الكسوف لمئات السنين القادمة» .
وهذه الجملة فيما كتبتم أرجو أن يكون سببها عدم إحاطتكم علماً بما جاء عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الأحاديث السابقة من أن الله يخوف عباده بالكسوف، وأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نفسه خرج إليها فزعاً فصلاها على الوصف الذي لم يسبق له نظير، وأمر بالفزع إلى الصلاة، وغيرها من أسباب النجاة.(16/291)
وتأمل يا أخ ( ... ) ما تفيده كلمة «افزعوا» فإنها والمثل لا يدل على المساواة من كل وجه كما لو قيل لأهل البلد افزعوا إلى الملاجىء، أو إلى السلاح عند سماع صفارات الإنذار.
وهذا يدل على أنه لابد أن نشعر بالخوف حتى يتحقق الفزع، إذ لا يمكن فزع بدون خوف، وعلى هذا فتكون الدعوة إلى عدم الخوف عند الكسوف من المحادة لله تعالى ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ هي دعوة إلى خلاف ما دعا الله تعالى ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليه، فإن صدرت من جاهل بما جاء به الشرع في هذا الأمر، فإنه لا يسعه إذا علم إلا أن يرجع عن قوله الخاطىء، ويدعو لما يقتضيه الشرع، وإن صدرت من عالم بما جاء به الشرع كان الأمر خطيراً في حقه؛ لأنه يتضمن تكذيب ما جاء به الشرع. فعليه أن يتوب من ذلك توبة نصوحاً يمتلىء بها قلبه إيماناً بما جاء به الشرع، وتصديقاً وإذعاناً، وقبولاً، ويحقق ذلك بدعوته لما يقتضيه الكتاب والسنة في هذه الأمور وغيرها.
وقولكم: «لوجود بعض الاعتقادات الخاطئة حول ظاهرة الكسوف» أرجو أن يكون مقصودكم الاعتقادات الجاهلية التي أبطلها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهي أن الكسوف يكون لموت عظيم، وأن لا يكون مقصودكم اعتقاد تخويف الله لعباده بذلك. فإن هذا الاعتقاد حق وواجب على كل مؤمن بالله تعالى ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لثبوت الأخبار به عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ومن شك فيه، أو أنكره، أو دعا(16/292)
إلى الإعراض عنه ومحوه من العقيدة فليس بمؤمن بالله ولا رسوله، نسأل الله لنا ولكم السلامة.
وقولكم: «وقد زالت هذه الاعتقادات بعد فهم طبيعة نظام المجموعة الشمسية ... » إلخ إن كان مقصودكم الاعتقادات التي كانت في الجاهلية فقد زالت بإبطال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لها من قبل، وبما علمه الناس قبل النهضة العلمية الأخيرة من أسباب الكسوف الطبيعية.
وإن كان مقصودكم اعتقاد التخويف الذي أخبر به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوالله ما زال عن قلوب المؤمنين به، الموقنين بصحة ما ثبت عنه، وإنما زال ذلك عن قلوب الجاهلين بسنته، أو المعرضين المستكبرين عن قبولها الذين لا يؤمنون بما وراء المادة ويعجز بطانهم عن سعة ما ثبت به الشرع وما شهد به الحس.
والناس في هذا ثلاثة أقسام:
مفرط في إثبات الشرع يأخذ بما يظهر له منه، وينكر الأسباب القدرية فيقول: إن الكسوف ليس له سبب حسي، ولا يمكن أن يدرك بالحساب، وربما يكفرون، أو يضللون من يقول بذلك.
والثاني: مفرط في إثبات القدر، فيقول: إن للكسوف أسباباً حسية تدرك بالحساب، وينكرون ما سواها، ويضللون من يعتقد سواها مما جاء به الشرع.
وكلا القسمين مصيب من وجه، مخطىء من وجه.
والصواب مع القسم الثالث الذين يأخذون بهذا وهذا، فيؤمنون بما شهد به الحس، وبما جاء به الشرع، ولا يرون بينهما(16/293)
تنافياً؛ لأن الكل من الله عز وجل فهو الحاكم شرعاً وقدراً، فما جاء به شرعه لا يكذبه ما اقتضاه قدره، فإن الله تعالى يقدر الكسوف بأسباب حسية، لكن تقديره لهذه الأسباب له حكمة وغاية اقتضته وهي تخويف الله تعالى لعباده، كما أن الصواعق، والعواصف، والزلازل المدمرة لها أسباب حسية معلومة عند أهل الخبرة، والله تعالى يرسلها ليخوف بها العباد، والمؤمن العاقل الذي في قلبه تعظيم الشرع وقبوله، والشهادة له بالحق يوفق للجمع بين ما جاء به الشرع، وما ثبت به الحس مما يخفى على كثير من الناس، أما من أعرض وصار في قلبه تعظيم العلوم الأخرى، ومشاهدة المحسوس بغير منظار الشرع فإنه يهلك ويزل نسأل الله العافية.
الأمر الثالث مما تضمنه ما كتبتم: «أن ظاهرة الكسوف ظاهرة طبيعية مثلها مثل الليل والنهار» ، وأرجو أن تعيدوا النظر وتتأملوا في الموضوع ليتبين لكم أن الشرع والقدر لا يسعفان فهمكم هذا:
أما الشرع فظاهر، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يصنع عند حدوث الليل والنهار ما صنعه عند حدوث الكسوف، ولا أمر أمته بذلك، ولو كان مثلهما واحداً للزم أحد أمرين:
إما أن يصنع عند حدوث الليل والنهار ما صنعه عند الكسوف، أو أن لا يصنع شيئاً عند حدوث الكسوف كما لم يصنعه عند حدوث الليل والنهار، فلما لم يكن واحد من(16/294)
الأمرين علم أن مثلهما ليس واحداً؛ لأن الشرع لا يفرق بين متماثلين.
وأما القدر: فإن الليل والنهار منتظمان لا يختلفان أبداً، فاليوم والليلة في أول يوم من برج الحمل مثلاً لا يختلفان، وكذلك هما في أول برج السرطان، والميزان والجدي، اليوم والليلة في أول كل يوم من هذه البروج وأوسطها، وآخرها لا يختلفان في عام عن العام الآخر. أما الكسوف فإنه يختلف في وقته، ومكثه، وحجمه، فقد يمضي عدة شهور ولم يحصل، وقد يحصل متقارباً، وقد يكون كلياً، وجزئياً، وقد تطول مدته، وقد تقصر.
وأخيراً فإن ما كتبتم قد يكون له أثر سلبي في عقيدة الجاهلين، أو العاجزين عن الجمع بين الشرع والحس، وهذا خطر كبير عليكم، فنصيحتي لكم أن تكتبوا كلمة تبينون بها ما جاء عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أن الكسوف يخوف الله بها عباده وأن ذلك لا ينافي أن يكون معلوماً بالحساب، وواقعاً بالأسباب الحسية، فإن الله هو المقدر له ولأسبابه، لحكمة أخبرنا عنها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهي تخويف الله تعالى لعباده، فلعل الله أن يمحو أثر ما كتبتم، فإن الحسنات يذهبن السيئات.
كما أنني أتمنى أن لا يكتب شيء عن الكسوف قبل وقوعه؛ لأن ذلك يقلل من أهمية الكسوف عند الناس.(16/295)
وقد آثرت أن أكتب إليكم ليكون التعقيب على ما كتبتم من قبلكم، وأسأل الله تعالى أن يوفقنا لصواب العقيدة، والقول، والعمل. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 26/12/1420 هـ.
* * *(16/296)
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: إذا كان وقت الاقتران (الاجتماع) بين الشمس والقمر (ولادة الهلال فلكياً) لحظة الكسوف في آخر الشهر الهجري القمري لا يحصل إلا بعد غروب الشمس في المملكة، وجاء من يدعي بأنه قد رأى الهلال في مساء ذلك اليوم بعد غروب الشمس، فهل يؤخذ بهذه الشهادة (قلّ عدد الشهود أم كثُر) وبذلك يعتبر اليوم التالي أول أيام الشهر الهجري الجديد، أم أن هذه الشهادة ترد على صاحبها ولا يُعتد بها؟
هذا مع العلم بأن معرفة وقت الاقتران (الاجتماع) تتم من خلال الحسابات الفلكية المعتمدة على الحاسب الا"لي، وهي حسابات دقيقة جداً إن شاءالله ويمكن عملها لسنوات قادمة؟
وقد ورد في فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (مجلد 52 ص 581) ما نصه: «والحُسَّاب يعبرون بالأمر الخفي من اجتماع القرصين الذي هو وقت الاستسرار، ومن استقبال الشمس والقمر الذي هو وقت الإبدار، فإن هذا يضبط بالحساب» . وجزاكم الله خيراً.
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كسفت الشمس بعد الغروب وادعى أحد رؤية القمر هالاً في بلد غابت الشمس فيه قبل كسوفها فإن دعواه هذه غير مقبولة؛ للقطع بأن الهلال لا يرى في مثل هذه(16/297)
الحال، فيكون المدعي متوهماً إن كان ثقة، وكاذباً إن لم يكن ثقة.
وقد ذكر العلماء قاعدة مفيدة في هذا: «أن من ادعى ما يكذبه الحس لم تسمع دعواه» .
حرر في 11/11/1415 هـ.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما سبب الكسوف والخسوف؟
فأجاب فضيلته بقوله: السبب بيَّنه الرسول عليه الصلاة والسلام، بأن الله يخوف بهما عباده، هذا هو السبب الذي ينبغي للإنسان أن يعتني به.
أما السبب الحسي، فهو معروف، فإن سبب خسوف القمر حيلولة الأرض بينه وبين الشمس؛ لأن نور القمر مستمد من الشمس، وسبب كسوف الشمس حيلولة القمر بينها وبين الأرض.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: الكسوف والخسوف آية من آيات الله تعالى لتخويف العباد، وتذكيرهم بالله عز وجل كي يجتنبوا المعاصي التي يقعون فيها ليلاً ونهاراً، وقد أصبح علماء الفلك يقولون: بأنها حادثة طبيعية تحصل في السنة مرة، أو أكثر من مرة(16/298)
بطريقة معينة، فكيف يكون التخويف؟ وأصبحوا أيضاً يعلنون عنها سواء في الصحف أو غيرها، فإذا حدثت أصبح الناس لا يخافون ولا يتعظون وأصبح لديهم تبلد في الحس فما قولكم في هذا؟ وكيف يكون التخويف في هذه الآية؟
فأجاب فضيلته بقوله: يكون التخويف في هذه الآية لمن كمل إيمانه بالله عز وجل وبما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
والكسوف، أو الخسوف له سببان:
سبب طبيعي: يدرك بالحس والحساب، فهذا يعلم لأهل الحساب ويعرفونه ويقدرون ذلك بالدقيقة.
وسبب شرعي: لا يعلم إلا بطريق الوحي، وهو أن الله يُقدر هذا الشيء تخويفاً للعباد، فنسأل من الذي قدر السبب الطبيعي حتى حصل الكسوف، أو الخسوف؟ إنه الله. لماذا؟ ليخاف الناس ويحذروا، ولهذا خرج النبي عليه الصلاة والسلام حين رأى الشمس كاسفة، خرج فزعاً حتى لحق بردائه وجعل يجره، وفزع الناس، وأمر من ينادي بالصلاة جامعة،(16/299)
واجتمع المسلمون في مسجد واحد يدعون الله عز وجل ويفزعون إليه، فالمؤمن حقًّا يفزع، ومن تبلد ذهنه، أو ضعف إيمانه فإنه لا يهتم بهذا الشيء.
وأما إخبار الناس بها قبل حدوثها، فأنا أرى أنه لا ينبغي أن يخبروا بها، لأنهم إذا أخبروا بها استعدوا لها وكأنها صلاة رغبة، كأنهم يستعدون لصلاة العيد، وصارت تأتيهم على استعداد للفعل لا على تخوف، لكن إذا حدثت فجأة، حصل من الرهبة والخوف ما لا يحصل لمن كان عالماً.
وأضرب مثلاً بأمر محسوس. لو نزلت من عتبة وأنت مستعد متأهب وتعرف أن تحتك عتبة هل تتأثر بشيء؟ لكن لو كنت غافلاً لا تدري، ثم وقعت في العتبة صار لها أثر في قلبك وأثر عليك.
فلهذا أتمنى أن لا تذكر ولا تنشر بين الناس، حتى لو نشرت في الصحف لا تنشرها بين الناس، دع الناس حتى يأتيهم الأمر وهم غير مستعدين له وغير متأهبين له، ليكون ذلك أوقع في النفوس.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: إذا حصل كسوف كلي أو جزئي للشمس بعد غروبها في المملكة العربية السعودية وشوهد هذا الكسوف في المناطق التي تقع غرب المملكة فما حكم اليوم التالي لتلك الليلة التي حصل(16/300)
فيها الكسوف؟ هل هو تكملة الشهر ثلاثين يوماً؟ وإذا دخل الشهر التالي في ذلك اليوم سواء عن طريق الحساب، أو عن طريق الرؤية فما الحكم؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا وقع كسوف الشمس بعد غروبها في أي مكان من الأرض فإنه يتعذر أن يكون فيه اليوم التالي أول شهر جديد؛ وذلك لأنه من المعلوم عند المحققين من أهل العلم شرعاً، وأهل الخبرة حساً أن سبب كسوف الشمس الحسي حيلولة القمر بينها وبين الأرض، ومن المعلوم عند العامة والخاصة أن دخول الشهر لا يكون إلا حيث يرى الهلال بعد غروب الشمس متأخراً عنها، فإذا كان كذلك فإنه لا يمكن أن يحكم بدخول الشهر في الليلة التي يقع فيها كسوف الشمس بعد الغروب؛ لأن ذلك مستحيل حسب العادة التي أجرى الله تعالى في مسير الشمس والقمر، قال الله تعالى: {وَجَعَلَ الَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَالِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} . وقال تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالعُرجُونِ الْقَدِيمِ * لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِى لَهَآ أَن تدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ الَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} . وقال تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا} . ففي هذه الآية نص على أن القمر ليلة الهلال تال للشمس، فإذا كان تالياً لها فهو متأخر عنها بعيد(16/301)
عن الحيلولة بينها وبين الأرض فكيف يقفز حتى يحول بينها وبين الأرض؟!
والناظر في سير الشمس والقمر يرى أن القمر دائماً متأخر عن الشمس في سيره، فتراه في أول ليلة من الشهر (مثلاً) يبعد عنها بقدر مترين أو ثلاثة، وفي الليلة الثانية بأكثر، وفي الليلة الثالثة بأكثر وهلم جرا، حتى يكون في منتصف الشهر في الجانب المقابل لها من الأفق فيكون بينهما ما بين المشرق والمغرب.
وعلى هذا فمن زعم دخول الشهر في الليلة التي تكسف فيها الشمس بعد الغروب فهو كمن زعم أن القمر يكون بدراً ليلة الهلال، أو أن الشمس تخرج قبل طلوع الفجر، أو أن الجنين يستهل قبل أن يخرج من بطن أمه. ومن المعلوم أن هذا لا يمكن حسب السنة التي أجراها الله تعالى في هذا الكون البديع في نظامه وإتقانه.
أما حسب القدرة الإلهية فلا إشكال في أن الله تعالى على كل شيء قدير، وأنه قادر على جمع القمرين وتفريقهما وطمسهما وإضاءتهما في كل وقت، قال الله تعالى: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ * يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ} . لكن السنة التي أجراها الله تعالى في سير الشمس والقمر في هذه الدنيا سنة مطردة لا تختلف إلا حيث تقع آية لنبي أو كرامة لولي.
كتبه: محمد الصالح العثيمين في 30/11/1421 هـ.
* * *(16/302)
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل الأولى الإخبار بموعد الكسوف حتى يستعد الناس؟
فأجاب فضيلته بقوله: الأولى فيما أرى عدم الإخبار، لأن إتيان الكسوف بغتة أشد وقعاً في النفوس، ولهذا نجد أن الناس لما علموا الأسباب الحسية للكسوف، وعلموا به قبل وقوعه، ضعف أمره في قلوب الناس، ولهذا كان الناس قبل العلم بهذه الأمور، إذا حصل كسوف خافوا خوفاً شديداً، وبكوا وانطلقوا إلى المساجد خائفين وجلين، والله المستعان.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: إذا وقع كسوف للشمس فهل يمكن أن يهل القمر؟
فأجاب فضيلته بقوله: إنه من المعلوم أنه يستحيل عادة أن يقع الكسوف بعد الهلال؛ لأن الكسوف سببه حيلولة القمر دون جرم الشمس، فإذا وقع بعد الغروب فقد علم أن القمر لم يتأخر عن الشمس حتى يمكن أن يهل، ومن زعم أنه يمكن أن يهل في هذا الحال، فهو كمن زعم أن الجنين يمكن أن يستهل قبل أن يخرج من بطن أمه، أو زعم أن الشمس تطلع قبل الفجر، وسير الشمس والقمر مقدر من قبل الله عز وجل، كما قال الله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالعُرجُونِ الْقَدِيمِ * لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِى لَهَآ أَن(16/303)
تدْرِكَالقَمَرَ وَلاَ الَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} .
وقد أنكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن يقع خسوف القمر ليلة العاشر، حين ذكر بعض أهل العلم أنه لو وقع في عرفة صلى الحجاج ثم دفعوا، وقال: إن هذا لا يمكن؛ لأنه خلاف العادة التي أجراها الله عز وجل. كتبه محمد الصالح العثيمين في 82/8/9041هـ.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: انتشر عند الناس أنه سيكون هناك خسوف أو كسوف للقمر يوم الاثنين القادم فهل يعتبر هذا من علم الغيب وهل يتحراه الإنسان، وهل تنصح أيضاً الناس أن يصلي كل إمام لو حصل في مسجده أم يجتمع في جامع واحد. سواء في الحي أو في البلد وهل تخرج النساء إلى تلك الصلاة؟
فأجاب فضيلته بقوله: أما العلم بخسوف القمر، أو كسوف الشمس فليس من علم الغيب؛ لأن له أسباباً حسية معلومة، وقد ذكر علماء المسلمين من قديم الزمان أن العلم بالخسوف، أو الكسوف ليس من علم الغيب.
وأما صلاة الخسوف فإن الذي يظهر لي أنها فرض كفاية، إذا قام بها من يكفي سقط عن الباقين لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بها،(16/304)
وقال: «إذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله» ، فعبر بالفزع مما يدل على أن الأمر عظيم جداً وليس بالأمر الهين.
وأخبر عليه الصلاة والسلام أن الله تعالى يخوف بهما العباد.
فإذا ظهر خسوف القمر في الليل يصلي الناس، وإن كان في النهار فإنهم لا يصلون، لأن خسوفه في النهار لا يظهر له أثر، بمعنى أنه لا يتبين؛ لأن ضوء الشمس قد غشاه، والرسول عليه الصلاة والسلام، إنما جعل الصلاة سنة حيث يظهر أثر ذلك ليكون التخويف، ومعلوم أن القمر إذا خسف بعد انتشار الضوء في الأفق لا يكون به التخويف؛ لأن الناس لا يعلمون به.
وأما ترقب ذلك فإن من العلماء من قال: لا بأس أن يستعد له ويترقب.
ولكني أرى خلاف هذا، أرى أن الإنسان إن ابتلي وظهر له ذلك فليصل، وإن لم يظهر فليحمد الله على العافية.
وقد قيل لنا: إن خسوف القمر المترقب سيكون بعد انتشار الضوء، إما قبل الشمس بقليل، أو بعد طلوع الشمس، والله أعلم.
وعلى هذا فلا يكون هناك صلاة.
والفقهاء رحمهم الله نصوا على أنه إذا ظهر الفجر وخسف القمر بعد ذلك فلا صلاة. بناءً على أن صلاة الخسوف(16/305)
صلاة التطوع وأن صلاة التطوع لا تفعل في أوقات النهي، لكن أرى أنه لو ظهر الخسوف وتبين بحيث يكون نوره باقياً فإنه يصلى له، أما إذا كان بعد انتشار الضوء وخفاء نور القمر فإنه لا يصلي والله أعلم.
أما الأفضل، فالأفضل أن تصلى صلاة الخسوف في الجوامع؛ لأن اجتماع الناس على إمام واحد له قيمته، ويكون دعاؤهم واحداً، وخشوعهم واحداً، والموعظة التي تقال بعد الصلاة تكون واحدة.
وكذلك النساء يحضرن، لأن النساء حضرن في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حين كسفت الشمس، لكنه ليس كصلاة العيد فلا يؤمرن بذلك ولا ينهين، أما صلاة العيد فقد أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النساء أن يحضرن صلاة العيد، حتى الحيض أمرهن أن يخرجن لكن يعتزلن الصلاة.
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: يقول بعض الناس: إن الكسوف لا يدرك بالحساب فما توجيهكم؟
فأجاب فضيلته بقوله: الدين لا يمكن أن يأتي بإنكار شيء(16/306)
محسوس أبداً، ولذلك يرى المحققون من العلماء كشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وغيره أن الكسوف أمر يدرك بالحساب، وليس من أمور الغيب، ولذلك لا يقع إلا في أيام معلومة من الشهر، كآخر الشهر، تسع وعشرين، وثلاثين من الشهر في كسوف الشمس، ووسطه كأربع عشرة، وخمس عشرة في كسوف القمر، وهذا لا ينافي ما ذكره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أن الله تعالى يخوف به العباد، فإن الله تعالى هو الذي يقدر اختلاف سير الشمس والقمر فيقع الكسوف لهذه الحكمة التي ذكرها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: إذا اجتمعت صلاتان صلاة الكسوف مع غيرها؛ كصلاة الفريضة، أو الجمعة، أو الوتر، أو التراويح، فأيهما يقدم؟
فأجاب فضيلته بقوله: الفريضة مقدمة على الكسوف والخسوف؛ لأنها أهم، ولأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال في الحديث القدسي: «ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه» .
وأما الوتر؛ فتقدم صلاة الكسوف عليه؛ لأنه يمكن قضاؤه بعد، بل تمكن صلاته بعد الكسوف، إما في وقته إن كان الوقت باقياً، أو قضاء إن خرج الوقت قبل أدائه.
والوتر يقضى شفعاً؛ أي: يقضيه في النهار إذا لم يتمكن منه(16/307)
قبل طلوع الفجر شفعاً؛ بمعنى أنه إذا كان يوتر بثلاث صلى أربعاً، وإذا كان يوتر بخمس صلى ستًّا ... وهكذا.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل ثبت خسوف القمر على زمن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وهل كان ذلك أكثر من مرة؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا نعلم أنه حصل خسوف القمر على عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا كسوف الشمس إلا مرة واحدة، كسفت الشمس فقط لما مات إبراهيم رضي الله عنه، هذا الذي نعلم، ويجوز أن هناك كسوفات أو خسوفات في مكان آخر لم يطلع عليها الناس الذين في الجزيرة، ويجوز أيضاً أن يكون كسوف أو خسوف في وقت غيم لا يعلم به، أو يصادف وقت نومهم، والله أعلم.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل يجوز رفع الرأس لرؤية الشمس وقت صلاة الكسوف؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يجوز؛ لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن رفع البصر في الصلاة، واشتد قوله بذلك، حتى قال: «لينتهينَّ عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم» ، وفي رواية: «(16/308)
أو لا ترجع إليهم» .
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما رأي فضيلتكم في من سمع الإمام يقرأ في الليل في صلاة الخسوف ولكنه أكمل نومه ولم يخرج لصلاة الخسوف فهل يلحقه إثم في ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا سمع الرجل صلاة الخسوف وهو على فراشه فإن الخير له أن يقوم من فراشه، ويصلي مع المسلمين، فإن لم يفعل فقد حرم نفسه خيراً كثيراً، وقد أثم عند من يرى من أهل العلم أن صلاة الخسوف فرض عين، والصحيح أنها فرض كفاية إذا قام بها من يكفي سقط الإثم عن الباقين، وكانت في حق الآخرين سنة، وليست بواجبة.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما الحكم لو كانت الشمس عليها غمام ونشر في الصحف قبل ذلك بأنه سوف يحصل كسوف بإذن الله تعالى في ساعة كذا وكذا فهل تصلى صلاة الكسوف ولو لم ير؟(16/309)
فأجاب فضيلته بقوله: لا يجوز أن يصلي اعتماداً على ما ينشر في الجرائد، أو يذكر بعض الفلكيين، إذا كانت السماء غيماً ولم ير الكسوف؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علق الحكم بالرؤية، فقال عليه الصلاة والسلام: «فإذا رأيتموهما فافزعوا إلى الصلاة» ، ومن الجائز أن الله تعالى يخفي هذا الكسوف عن قوم دون آخرين لحكمة يريدها.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل يجوز للمرأة أن تصلي وحدها في البيت صلاة الكسوف؟ وما الأفضل في حقها؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا بأس أن تصلي المرأة صلاة الكسوف في بيتها؛ لأن الأمر عام: «فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم» ، وإن خرجت إلى المسجد كما فعل نساء الصحابة، وصلت مع الناس كان في هذا خير.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما السنة في صلاة الكسوف؟ هل هي في المسجد أم في المصلى؟ وهل تجب فيها الجماعة؟(16/310)
فأجاب فضيلته بقوله: السنة في صلاة الكسوف أن يجتمع الناس لها في مسجد الجامع؛ لأنه كلما كثر العدد، كان أقرب إلى الإجابة، وإذا صليت في المساجد الأخرى فلا حرج، وإذا صليت فرادى كما تصليها النساء في بيوتهن؛ فلا حرج أيضاً؛ لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: «صلوا وادعوا» .
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما الركن في صلاة الكسوف؛ الركوع الأول أم الثاني؟ وما الذي يترتب على فوات أحدهما؟ هل يترتب إعادة الركعة بكاملها أم لا؟
فأجاب فضيلته بقوله: الركن هو الركوع الأول، فإذا فاته؛ فقد فاتته الركعة، فيقضي مثلها إذا سلم الإمام؛ لقول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا» .
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: من أتم صلاة الكسوف بركوع وسجدتين بعدما سلم الإمام؛ فهل يلزمه إعادة الصلاة أم ماذا يفعل؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يلزمه إعادة الصلاة إذا كان(16/311)
جاهلاً، أما إذا كان عالماً لكنه متلاعب؛ فإن صلاته تبطل.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: من رفع من الركوع الأول هل يقول: سمع الله لمن حمده أم يكبر؟ وما الدليل على ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم؛ يقول: سمع الله لمن حمده، ولا إشكال في هذا. ودليل ذلك حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «خسفت الشمس في حياة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فخرج إلى المسجد، فصف الناس وراءه، فكبر فقرأ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قراءة طويلة، ثم كبر فركع ركوعاً طويلاً ثم قال: «سمع الله لمن حمده، بنا ولك الحمد» .
* * *
وسئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل تشرع قراءة الفاتحة في كل ركوع في صلاة الكسوف؟
فأجاب فضيلته بقوله: ينبغي أن يكون السؤال: هل تُشرع قراءة الفاتحة بعد الركوع الأول؟
والجواب على ذلك: أن قراءة الفاتحة مشروعة؛ كما جاءت بذلك السنة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن الواصفين لصلاته لم يقولوا: إنه كان لا يقرأ سورة الفاتحة بعد الرفع من الركوع الأول،(16/312)
والعلماء يقولون: إن الركن هو الركوع الأول والقراءة التي قبله، وإن الإنسان لو ترك القراءة التي بعد الركوع الأول وقبل الركوع الثاني فلا بأس.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل كسوف الشمس وخسوف القمر لهما نفس صفة الصلاة؟ وهل يجهر في صلاة كسوف الشمس؟
فأجاب فضيلته بقوله: كسوف الشمس وخسوف القمر حكمهما واحد، ويجهر في صلاة الكسوف والخسوف؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جهر حينما كسفت الشمس، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «جهر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صلاة الخسوف بقراءته» ، وكان ذلك نهاراً.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: من كبر من الركوع الأول في صلاة الكسوف ولم يقل: «سمع الله لمن حمده» ؛ ماذا عليه؟
فأجاب فضيلته بقوله: إن ترك قول: «سمع الله لمن حمده» فقد ترك واجباً، وترك الواجب كما هو معلوم يوجب سجود السهو.
* * *(16/313)
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: إذا كان الإنسان جاهلاً بصفة صلاة الكسوف، فدخل مع الإمام بنية أنها ركعتين؛ فهل يؤثر اختلاف النيات على صحة الصلاة؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يؤثر؛ لأن الرجل دخل بنية صلاة الكسوف، لكنه جاهل بكيفيتها، وهذا الجهل لا يضر، فيتبع الإمام، وتصح صلاته.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: إذا هوى الإمام للسجود بعد الركوع الأول من الركعة الأولى؛ فماذا يفعل؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا ترك الركوع الثاني ناسياً؛ فإنه يكون كترك بقية السنن، فيسن له أن يسجد للسهو، فإن لم يسجد؛ فلا بأس.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل لصلاة الكسوف دعاء خاص؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا أعلم لها دعاءً خاصًّا، لكنها صلاة رهبة ودفع شر وبلاء، فينبغي للإنسان أن يكثر فيها من الاستغفار والتوبة إلى الله عز وجل، وسؤال الرحمة، وكما يعلم من التطويل فيها؛ فإن التطويل يحتاج إلى دعاء، فيكرر الإنسان الدعاء من المغفرة والرحمة والعفو وما أشبه ذلك.
* * *(16/314)
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل يجوز للإنسان أن يعيد صلاة الكسوف تطوعاً وحده؟ وبماذا تدرك صلاة الكسوف بالركوع الأول أو الثاني؟
فأجاب فضيلته بقوله: صلاة الكسوف فرض كفاية لا يجوز للمسلمين أن يدعوها، وقال بعض العلماء: إنها فرض عين، وإنه يجب على كل واحد أن يصلي صلاة الكسوف، وأكثر العلماء على أنها سنة مؤكدة، فأصح الأقوال أنها فرض كفاية، وأنه لابد أن تصلى، وصلاتها كما هو معلوم لا نظير لها في الصلوات، لأنها تصلى أولاً يكبر ويقرأ الفاتحة، ثم يقرأ قراءة طويلة جداً، ثم يركع ركوعاً طويلاً، ثم يقوم فيقرأ الفاتحة وسورة طويلة، لكن دون الأولى، ثم يركع ويطيل الركوع، ثم يرفع ويطيل القيام، ثم يسجد ويطيل السجود، ثم يرفع ويطيل الجلوس، ثم يسجد ويطيل السجود، ثم يقوم للركعة الثانية، ويفعل كما فعل في الأولى، إلا أنها دونها في كل ما يُفعل ثم يُسلم.
والمأموم إذا أدرك الركوع الأول فقد أدرك الركعة، وإن فاته الركوع الأول فاتته الركعة، فمثلاً إذا جئت والإمام في الركعة الأولى لكن قد رفع من الركوع الأول فلا تحتسب هذه الركعة، هذه فاتتك، فإذا سلم الإمام فقم وصل واقضِ الركعة الأولى بركوعيها، يعني تقوم ثم تقرأ الفاتحة وسورة، ثم تركع وترفع، ثم تقرأ الفاتحة وسورة، ثم تركع وترفع، ثم تسجد يعني تقضيها على صفة ما فاتك.(16/315)
فالقاعدة أن من فاته الركوع الأول فقد فاتته الركعة فيقضيها كلها بركوعيها وسجوديها.
وإذا انتهت الصلاة وقد بقي الكسوف، فالذي ينبغي أن تبقى في المسجد، أو في بيتك لكن تدعو وتستغفر، وإن شئت فصل ولكن صلاتها جماعة لا تعاد على القول الصحيح. حتى لو انصرف الناس قبل أن تنجلي فإنهم لا يعيدون الصلاة جماعة، لكن من شاء أن يصلي وحده حتى ينجلي فلا بأس.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: من المعلوم أن السنة التطويل في صلاة الكسوف لكن إذا كان يشق على الناس فماذا أصنع؟
فأجاب فضيلته بقوله: نقول افعل السنة، فلست أرحم بالخلق من رسول الحق، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أطال في صلاة الكسوف إطالة طويلة، حتى إن بعض الصحابة مع قوتهم، ومحبتهم للخير جعل بعضهم يغشى عليه ويسقط من طول القيام، ففي حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «كسفت الشمس على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في يوم شديد الحر، فصلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأصحابه، فأطال القيام حتى جعلوا يخرون» ، ولهذا انصرف النبي عليه الصلاة والسلام من صلاته وقد تجلت الشمس، مع أن كسوفها كان كلياً كما ذكره(16/316)
المؤرخون، وهذا يقتضي أن تبقى ثلاث ساعات أو نحوه والرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقرأ ويصلي، فقرأ قبل الركوع الأول نحواً من قراءة سورة البقرة، كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وقالت عائشة رضي الله عنها: «ما سجدت سجوداً قط كان أطول منها» ، وفي حديث أبي موسى رضي الله عنه قال: «فقام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخشى أن تكون الساعة، فأتى المسجد فصلى بأطول قيام وركوع وسجود رأيته قط يفعله» ، ولم يقل عليه الصلاة والسلام إني سأرحم الخلق، وأقصر وأخفف.
لذا أفعل السنة، فمن قدر على المتابعة فليتابع، ومن لم يقدر فليجلس ويكمل الصلاة جالساً، وإذا لم يستطع ولا الجلوس كما لو حصر ببول أو غائط فلينصرف. أما أن نترك السنة من أجل ضعف بعض المصلين، فهذا غير صحيح.
* * *(16/317)
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما الذي يشرع من القرآن لصلاة الكسوف؟
فأجاب فضيلته بقوله: صلاة الكسوف لا يشرع فيها قراءة سورة معينة، بل المشروع فيها الإطالة، لكن لو أتى مثلاً بسور فيها مواعظ كثيرة فالوقت مناسب، وكان بعض مشائخنا يستحب أن يقرأ سورة الإسراء، لأن فيها آيات مناسبة منها قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِالأَْيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَْوَّلُونَ وَءَاتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالأَْيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا} . المهم أنه يقرأ ما تيسر، ولكن يطيل القراءة، كما فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما هو الراجح في صفة صلاة الكسوف والخسوف؟
فأجاب فضيلته بقوله: الراجح في صفتها ما ثبت في «الصحيحين» من حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى ركعتين، في كل ركعة ركوعان وسجودان، وأطال فيهما في القراءة، والقيام، والقعود، والركوع، والسجود، ولكنه جعل كل ركعة أطول من التي بعدها.(16/318)
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: من فاته الركوع لأول من الركعة الثانية ماذا يفعل؟
فأجاب فضيلته بقوله: الذي يفوته الركوع الأول من الركعة الثانية، أو الأولى تكون هذه الركعة قد فاتته، وإذا فاته الركوع الأول من الركعة الثانية؛ فقد فاتته صلاة الكسوف كلها مع الإمام، ولكنه إذاسلم الإمام يقوم فيأتي بركعتين في كل ركعة ركوعان وسجودان.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: متى تشرع صلاة الكسوف والخسوف؟ إذا كان جزئياً أي: في بدايته أم إذا كان كليًّا؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا رأى الكسوف سواء كان كليًّا أو جزئيًّا فإنه يفزع إلى الصلاة، ولا يتأخر؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعل ذلك حين رأى الكسوف وأمر به، ولا يشترط أن يبقى حتى يكمل؛ لأنه أمر غير معلوم؛ ولأن قوله عليه الصلاة والسلام: «إذا رأيتموهما» يشمل الكسوف الجزئي والكلي، فينادى للصلاة: الصلاة جامعة؛ لتجمع الناس، والأفضل أن يكونوا في مساجد الجمعة؛ لأن ذلك أكثر للعدد، وأقرب للإجابة، ولهذا نص العلماء رحمهم الله على أنه يسن الاجتماع لصلاة الكسوف أو(16/319)
الخسوف في الجامع، ولا حرج أن يصلي كل حي في مسجده الخاص؛ لأن الأمر في هذا واسع.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما الحكمة من صلاة الكسوف؟
فأجاب فضيلته بقوله: الحكمة من صلاة الكسوف متعددة الجوانب:
أولاً: امتثال أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلقد أمرنا أن نفزع إلى الصلاة.
ثانياً: اتباع الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد صلاها.
ثالثاً: التضرع إلى الله عز وجل؛ لأن هذا الكسوف، أو الخسوف يخوف الله به العباد من عقوبة انعقدت أسبابها، فيتضرع الناس لربهم عز وجل؛ لئلا تقع بهم هذه العقوبة التي أنذر الله الناس بها بواسطة الكسوف أو الخسوف.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل لصلاة الكسوف والخسوف أذان وإقامة؟
فأجاب فضيلته بقوله: ليس لها أذان ولا إقامة، بل ينادى لها: الصلاة جامعة؛ نداء مكرراً، بحيث يعلم الناس بهذا، فإن(16/320)
الشمس لما كسفت على عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم نودي «الصلاة جامعة» .
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: من فاتته ركعة من صلاة الخسوف فكيف يقضيها؟
فأجاب فضيلته بقوله: من فاتته ركعة في صلاة الخسوف فقد ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم السكينة والوقار، ولا تسرعوا، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاتموا» فهذا الذي فاتته ركعة من الخسوف يتمها على حسب ما صلاها الإمام لعموم قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فأتموا» .
وهذا السؤال يتفرع عليه سؤال أكثر إشكالاً عند كثير من الناس وهو فيمن فاته الركوع الأول في الركعة؟
فمن فاته الركوع الأول من الركعة فقد فاتته الركعة، وبعدما يسلم الإمام يقضي الركعة التي فاته ركوعها الأول كلها لعموم قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وما فاتكم فأتموا» .
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل يسن للإمام بعد الفراغ من صلاة الكسوف أن يخطب؟(16/321)
فأجاب فضيلته بقوله: نعم يسن أن يخطب خطبة واحدة يذكر الناس، ويرقق قلوبهم، ويخوفهم من عذاب الله تعالى، ويحثهم على التوبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما انتهى من صلاة الكسوف قام فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: أما بعد؛ ثم وعظ الناس، وهذه صفات الخطبة.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل يجوز للإمام أن يصلي الكسوف مرتين متتاليتين لأنه أنهى صلاته الأولى والقمر مازال كاسفاً؟
فأجاب فضيلته بقوله: المشهور عند أهل العلم أن صلاة الكسوف لا تكرر، ولكن ينبغي للإمام أن يلاحظ مدة الكسوف فيجعل الصلاة مناسبة، فإن كانت قصيرة قصر لصلاة، ويعلم هذا بما نسمع عنه الآن مما يقرر قبل حدوث الكسوف بأن الكسوف سيبدأ في الدقيقة كذا من الساعة كذا، إلى الدقيقة كذا في الساعة كذا، فينبغي للإمام أن يلاحظ ذلك، وإذا فرغت الصلاة قبل انجلاء الكسوف فليتشاغلوا بالدعاء والذكر حتى ينجلي، ثم إنه ينبغي للإمام إذا انتهى من صلاة الكسوف أن يعظ الناس اقتداء برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولتكن موعظته موعظة واعظ يذكر فيها الجنة والنار، ويحذر من الأسباب التي توجب دخول النار.(16/322)
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: لو كسفت الشمس وحال دونها سحاب، فشك في انجلائها، ماذا يفعل؟ هل يستمر في صلاته أم يقطعها؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كانت الشمس كاسفة وسط غيم؛ فالأصل بقاء الخسوف حتى يغلب على ظنه أنها قد انجلت، هذا إذا لم يكن معلوماً؛ حيث صار الناس في هذا الزمن يدرون متى يبتدىء الكسوف ومتى ينجلي، لكن مع ذلك لا يعمل به إذا لم يره، أما إذا رآه وكان قد علم أنه سيبقى ساعة أو ساعتين؛ فلا حرج من العمل بذلك؛ لأنه أمر أصبح يقيناً يدرك بالحساب، لكنه لو فرض أن غيمت السماء في ذلك اليوم، ولم يروا الكسوف؛ فإنهم لا يصلون صلاة الكسوف اعتماداً على ما قيل؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علقه بالرؤية.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل يجوز للإنسان أن يخبر المصلين وهم أثناء صلاة الكسوف بأن القمر أو الشمس زال كسوفهما وانجليا؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا حرج على شخص دخل ووجد ناساً يصلون الكسوف، أو الخسوف أن يخبرهم أنه انجلى؛ لأن(16/323)
في ذلك إخباراً بزوال مقتضى الصلاة؛ فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر أن نصلي وندعوا حتى ينكشف.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما الذي يشرع للمصلين إذا أخبروا بانجلاء الكسوف هل يقطعون الصلاة؟
فأجاب فضيلته بقوله: يتمون صلاة الكسوف، أو الخسوف خفيفة.
* * *
وسئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: إذا صليت صلاة الكسوف ولم تنجل الشمس؛ فهل تكرر صلاة الكسوف أم يشتغل بذكر الله؛ من قراءة القرآن وغيره؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا تكرر صلاة الكسوف إذا انتهت قبل الانجلاء، وإنما يصلي نوافل كالنوافل المعتادة، أو يدعو ويستغفر ويشتغل بالذكر حتى ينجلي.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: إذا كسفت الشمس بعد العصر فهل تصلى صلاة الكسوف؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كسفت الشمس بعد العصر فتصلى صلاة الكسوف لعموم قول النبي صلى الله عليه وعلى آله(16/324)
وسلم: «إذا رأيتم ذلك فصلوا» وهذا يشمل كل وقت، ولأن كل صلاة لها سبب فإنها تصلى حيث وجد السبب، كما دلت عليه السنة.
* * *
وسئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: إذا خسف القمر بعد صلاة الفجر فهل تصلى صلاة الخسوف؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم تصلى لما تقدم في الجواب السابق إلا إذا لم يبق على طلوع الشمس إلا قليلاً لأنه قد ذهب سلطان القمر حينئذ فلا يصلى.
* * *
وسئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: إذا حدث زلازل وصواعق ورياح شديدة خارجة عن العادة فهل يشرع لها صلاة؟
فأجاب فضيلته بقوله: يرى شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - أن يصلى لذلك، والعلم عند الله عز وجل.
* * *(16/325)
بسم الله الرحمن الرحيم
خطبة صلاة الكسوف
15/7/1410 هـ
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحق، رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، وحجة على من أرسله إليهم أجمعين، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده بأنواع الجهاد المختلفة، بالمال، والبدن، والعلم والسلاح، وترك أمته على محجة بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وقيض الله له خير أهل الأرض منذ خلق آدم بعد النبيين عليهم الصلاة والسلام، فتلقوا رسالته وأدوها إلى أمته صافية خالصة في كتاب الله، وفيما صح عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أرسله الله تعالى على حين فترة من الرسل بعد أن نظر الله تعالى إلى أهل الأرض فمقتهم أبغضهم أشد البغض إلا بقيًّا من أهل الكتاب، بعثه الله في زمن جاهلية جهلاً، لا يعرفون حقًّا(16/327)
للخالق، ولا رحمة بالمخلوق، لقد كان من قصص هؤلاء الجاهليين أن الواحد منهم يعبد الشجر والحجر، يخبت إليه وينيب إليه كما ينيب ويخبت لرب العالمين، حتى كان الواحد منهم يصنع التمثال من التمر ويعبده، فإذا جاع أكله، يا لها من عقول ما أسفهها وأضلها، وكان من جملة ما يعتقدونه أنه إذا كسفت الشمس أو خسف القمر لا يكون ذلك إلا لموت عظيم فقدر الله عز وجل بحكمته وعزته ورحمته أنه في اليوم التاسع والعشرين من شهر شوال سنة عشر من الهجرة مات إبراهيم بن محمد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورضي عن ابنه إبراهيم، مات في ذلك اليوم في التاسع والعشرين من شهر شوال سنة عشر من الهجرة، فقال الناس بناء على العقيدة السابقة، قالوا: كسفت الشمس لموت إبراهيم، ولكن محمداً رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما كسفت الشمس حين ارتفعت قدر رمح في أول النهار وصارت كأنها قطعة نحاس كسوفاً كليًّا، خرج النبي صلى
الله عليه وسلم فزعاً يجر رداءه بعد أن لحقوه به عليه الصلاة والسلام، وأمر فنودي في الناس: الصلاة جامعة، فاجتمع المسلمون على رسولهم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما(16/328)
بين رجال ونساء فصلى بهم تلك الصلاة الطويلة الغريبة التي ليس لها نظير في الصلوات، صلى بهم عليه الصلاة والسلام صلاة طويلة، حتى إن منهم من سقط مغشياً عليه من طول القيام، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائم في مقامه يتلو كتاب الله يخبت إلى الله عز وجل؛ لأن هذه آية عظيمة يخوف الله بها العباد، وينذرهم من سخط انعقدت أسبابه، لأن هذا إنذار من الله سبحانه وتعالى لعباده كما قال من لا ينطق عن الهوى، قال عليه الصلاة والسلام: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته» ومن في الأرض حتى تتغير له الأفلاك؟! حتى تنكسف الشمس أو القمر لموته أو حياته؟! لن تنكسف الشمس والقمر لموت أحد ولا لحياته، ولكن من حكمة الله أن الشمس كسفت في ذلك اليوم الذي مات فيه ابن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليتبين للناس أن الشمس لا تنكسف لموت أحد ولا لحياته، ثم إن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تلك الصلاة العظيمة، وذلك القيام الطويل، والركوع والسجود الطويلين، والقيام بعد الركوع، والقعود بين السجدتين الطويلين، عرضت عليه وهو قائم الجنة والنار، حتى رآه الصحابة يتقدم ليأخذ عنقوداً من الجنة، ولكن لم يكن له ذلك لحكمة أرادها الله، قال عليه الصلاة والسلام: «لو تناولته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا» ثم رأوه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تأخر وهو في صلاته حين(16/329)
عرضت عليه النار فخاف من لفحها صلوات الله وسلامه عليه، ورأى فيها من يعذب، كل ذلك حق اليقين، رآه صلوات الله وسلامه عليه من شدة الأمر الذي نزل، ولما فرغ من الصلاة خطب خطبة عظيمة بليغة، فقال عليه الصلاة والسلام: «يا أمة محمد، والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، يا أمة محمد لو
تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً» ، «ولما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله عز وجل» . هكذا قال عليه الصلاة والسلام، وتأملوا أيها الأخوة قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته» ليتبين لكم أن الزنا من أكبر أسباب عقاب الله، وغضب الله الذي ينذر الله العباد منه في هذا الكسوف والخسوف، وإننا في هذا العصر أيها المسلمون كما نشاهد الكسوفات كثيرة، والخسوفات كثيرة، وما ذاك إلا من أجل كثرة الذنوب، ولاسيما الزنا والدعارة وأسبابهما، من وسائل الإعلام المقروءة، والمسموعة، والمشاهدة، تلك الوسائل التي ضل فيها كثير من(16/330)
الناس، والتي خدعنا بها أعدائنا؛ لأنهم يعلمون أن الأمة الإسلامية إذا لم يكن لها هم إلا بطنها وفرجها فإنها تضيع وتبقى هائمة على وجهها، لا يخاف منها أحد، لكن لو أن الأمة الإسلامية أخذت بتعاليم الدين وأخذت بجدية الدين، وأخذت بالعمل المثمر النافع لهابها أعدائها، ولقد قدم أبو سفيان إلى الشام لتجارته بين صلح الحديبية وفتح مكة، ولما سمع بهم هرقل وكان رجلاً ذكيًّا وليس بعاقل لكنه ذكي لما سمع بهم دعاهم ليسألهم عن نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عما يدعو إليه، وعن سيرته، وعن أتباعه، فجعل يسأل أبا سفيان أسئلة عارف بالنبوات، فسأله عن نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن دعوته وخلقه، وسيرته، وأصحابه، ثم قال بعد ذلك: «إن كان ما تقوله حقًّا فسيملك ما تحت قدمي هاتين، ولو أرجو أن أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت قدميه» من يقوله؟ يقوله هرقل ملك الروم التي تعتبر في ذلك اليوم أعظم دولة، يقول: «إن كان حقًّا ما تقوله فسيملك ما تحت قدمي هاتين» . ولما خرج أبو سفيان قال لأصحابه: لقد أمِرَ أمْرُ ابنِ أبي كَبْشَة يعني النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنهم يكنونه بهذه الكنية تعييراً له. (لقد أمِرَ أمْرُ ابنِ أبي كبشَةَ إنه ليخافه ملك بني
الأصفر) وصحيح عظم أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث كان يخافه ملك بني الأصفر ملك الروم، ومع هذا لم تمض إلا سنوات غير كثيرة حتى ملكت أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما تحت قدمي هرقل، ملكت ذلك بدين محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا بقوتها، ولا(16/331)
بعروبتها، ولا بقوميتها، ولا بجعاجعها، ولا بكلامها الكثير الطويل العريض الذي لا يجدي شيئاً، إنما ملكت ذلك بقوتها وإيمانها، وكونها تقاتل في سبيل الله، لا تقاتل لقومية عربية، ولا لقومية فارسية، ولا لقومية رومية، وإنما تقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فما مضى إلا زمن يسير حتى سقطت عروش ملوك الفرس، وملوك الروم ولله الحمد، ووالله ما كان بالأمس ليكونن اليوم لو رجعنا إلى ديننا حقيقة، لو رجعنا رعاة ورعية إلى ديننا حقيقة لملكنا ما تحت أقدام هؤلاء الكفرة ورؤسائهم، ولكن مع الأسف هم يخوفوننا بقوتهم المادية، ونحن نخاف ولكن يقول الله عز وجل: {إِنَّمَا ذَالِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} أسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيد للأمة الإسلامية مجدها، والواقع أننا ولله الحمد مستبشرون بما حصل من اليقظة لشباب المسلمين، ولا شك أن هذه بشرى وهي بحول الله من بشائر النصر، ولكن يجب علينا أن تكون مسيرتنا مسيرة تؤدة وحكمة وتأني، وأن لا نجابه مجابهة تؤدي إلى قمع هذه اليقظة وإلى إماتتها، أو إنامتها، يجب أن نكون متحركين ولكن بهدوء وحكمة، وأنا أجزم وأنتم كذلك تجزمون أنه إذا عرض الإسلام بمعناه الحقيقي إذا عرض على أي إنسان فإنه سيقبله؛ لأن الإسلام دين الفطرة كما قال الله تعالى: {فِطْرَةَ اللهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} لكن قد يشوه الإسلام بعض من يعرضه ويأتي بالعنف(16/332)
أمام أناس جهلاء، وهم وإن كانوا ذوي علم، لكنهم في الحقيقة جهلة عندهم جهالة لا جهل، سفاهة لا حلم، لكن إذا عرض عليهم الإسلام عرضاً مطمئناً هادئاً فسوف يكون له أثره، أما الكلام وكثرة الكلام بلا عمل، وبلا فائدة فإنها ضرر محض تخدير في الواقع، هي تخدير وليست تقدماً، وليست حركة، إنما المسلمون اليوم بحاجة إلى أن يتحركوا، وإذا قاموا لله فإن الله تعالى ينصرهم، وإذا نصرهم الله فلا غالب لهم أبداً {ياأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُو"اْ إِن تَنصُرُواْ اللهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} . تعساً أي خيبة وخسارة، فعملهم ضال ضائع لا فائدة منه، لكن بشرط أن يكون أمامهم مسلمون حقيقة، تصدق أفعالهم أقوالهم، أسأل الله تعالى أن ينصر دينه، وأن ينصر دينه بنا، وأسأله سبحانه وتعالى أن يقينا أسباب سخطه وعقابه، وأن يجعلنا ممن يتعظون بآياته إنه الجواد الكريم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
* * *(16/333)
خطبة صلاة الكسوف
15/5/1418 هـ
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخليله وأمينه على وحيه، أرسله الله تعالى بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه، وسراجاً منيراً، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وأسأل الله في هذه الساعة العظيمة أن يجعلني وإياكم من أتباعه، ومن أنصار دينه، وممن يحشرون في زمرته إنه على كل شيء قدير.
أيها الإخوة.. كسفت الشمس في عهد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كسوفاً كلياً في التاسع والعشرين من شهر شوال من السنة العاشرة من الهجرة، وكان ذلك اليوم هو اليوم الذي توفي فيه إبراهيم ابن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان عند أهل الجاهلية عقيدة فاسدة أن الشمس والقمر ينخسفان إذا مات عظيم، أو ولد عظيم، ولما كسفت خرج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فزعاً يجر ردائه، فأمر المنادي(16/335)
ينادي: الصلاة جامعة، فاجتمع المسلمون ذكوراً وإناثاً فصلى بهم صلوات الله وسلامه عليه صلاة لا نظير لها في الشريعة الإسلامية، صلاها كما صليناها الآن، ركعتين في كل ركعة ركوعان، وأطال فيها إطالة عظيمة حتى كان بعض الصحابة يسقطون من طول القيام، وهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثابت، عرضت عليه الجنة، وعرضت عليه النار، ورأى أهلها يعذبون فيها، ولم ير منظراً أفظع من ذلك المنظر في ذلك اليوم؛ لأن كسوف الشمس والقمر ليس بالأمر الهين، إنه منذر بعقوبة من الله عز وجل، فلما فرغ من صلاته صلوات الله وسلامه عليه قام في الناس فخطب خطبة عظيمة بليغة، قال فيها: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، يخوف الله بهما عباده، وإنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموهما فافزعوا إلى ذكر الله، وكبروا، واستغفروا، وتصدقوا، وصلوا» ، بل أمر بالعتق، وهذا مما يدل على أنه حدث عظيم، وأنه ليس كما يظن الجاهلون مجرد حدث طبيعي، لا والله، هو لا شك أن له أسباباً طبيعية، لكن الذي خلق هذه الأسباب هو الله عز وجل، هو الذي خلق هذه الأسباب يخوف عباده حتى يرجعوا إلى ربهم عز وجل للقيام بطاعته وترك معاصيه، ونص النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه الخطبة على أمر وقع فيه الكثير(16/336)
من الناس اليوم إلا من شاء الله ألا وهو الزنى، فقال: «يا أمة محمد، والله ما من أحد أغير من الله من أن يزني عبده أو تزني أمته» . والزنى يوجد الآن في بعض البلاد الإسلامية علناً، تعرض النساء الفتيات أنفسهن
على الراغبين في الزنى، بل بلغنا أنه يعمل بالفتيان عمل قوم لوط، نسأل الله العافية، هذا وإن لم يكن موجوداً في بلادنا ولله الحمد، لكن وسائله موجودة: الإعلام الخبيث، الصحف الخبيثة، المجلات الخبيثة، الجرائد الخبيثة ترد إلى بلادنا من كل فج وفي كل حين، فيها مما يغضب الله عز وجل، ومما لا يرضى به العاقل فضلاً عن المؤمن، نسأل الله تبارك وتعالى أن يكفينا شره إنه كل كل شيء قدير.
وسائل الإعلام هدمت الأخلاق، لقد قيل لي: إنه يشاهد في بعض القنوات الفضائية، يشاهد ركوب الرجل على المرأة علناً عراة، أترون شيئاً أقبح من هذا؟! لا أقبح من هذا، ولذلك يا أخوان يجب أن نتعاون على القضاء على هذه الفتنة؛ لأنها والله إذا انتشرت بين فتياتنا وفتياننا فستنقلب الأمة إلى أمة بهيمية، أعداؤكم الكفار من اليهود والنصارى الذين بعضهم أولياء بعض لا يدعونكم إلى عبادة غير الله، لا يقولون اعبدوا اللات، اعبدوا العزى، اعبدوا مناة، اعبدوا هبل، لكن يدعونكم بهذه الوسائل الخبيثة التي تدمر أخلاقكم، وإذا دمرت الأخلاق دمرت عقائدكم؛ لأن الإنسان يصبح بهيميًّا ليس له إلا شهوة فرجه وبطنه، وهم أذكياء عندهم دراسة، درسوا علم النفس، ودرسوا(16/337)
علم الأخلاق، يعرفون ما لا تعرفون من هذه الأمور، إنهم يشعلون الشرر فتكون سعيراً، ولكن مع الأسف أن بعضنا عنده من الغباوة، وعنده من الجهل، وعنده من ضعف الإيمان، وعنده ضعف في الشخصية مما جعله ذنباً لهؤلاء المستعمرين، وهم لم يستعمروا بلادنا استعماراً بالسلاح، ولكن استعمروا القلوب، وهذه من الأمور أعني تولي مثل هؤلاء من الأمور التي يعاقب عليها والتي ربما تكون من أسباب هذا الخسوف الكلي العظيم إنذاراً من الله عز وجل أن نستمر في معصيته وأن نغفل.
يا إخوان: الإسلام دين بارز يجب أن تكون له حريته، وأن لا يكون هذا خاضع لغيره، {قُلْ هَاذِهِ سَبِيلِى" أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِى وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} . ثم إني أوصيكم بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، ومراعاة الأولاد وتأديبهم تأديباً حسناً؛ لأنه مسؤول عنهم كما قال الله تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ قُو"اْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} . وقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «الرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته» انظروا إلى أولادكم هل عندهم مجلات خليعة؟ هل يشاهدون أشياء غير طيبة؟ ماذا يعملون؟ من عنده شيء من هذه(16/338)
المجلات، أو الصحف التي فيها ما يحلل الأخلاق، ويفسد الأفكار فعليه أن يقوم بإحراقها وأن يشوهها.
أسأل الله لي ولكم السلامة، وأن يجعل أفعالنا خيراً من أقوالنا، وقلوبنا خيراً من ظواهرنا، إنه على كل شيء قدير، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبيه محمد وآله وأصحابه أجمعين. غفر الله لنا ولكم.
* * *(16/339)
خطبة في صلاة الكسوف
الحمد لله الملك القهار، العظيم الجبار، خلق الشمس والقمر، وسخر الليل والنهار، وأجرى بقدرته السحاب يحمل بحار الأمطار، فسبحانه من إله عظيم خضعت له الرقاب، ولانت لقوته الصعاب، توعد بالعقوبة من خرج عن طاعته {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَاكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً} . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله صلى الله عليه، وعلى آله، وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان.
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله واشكروه على ما سخر لكم من مخلوقاته، فلقد سخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه. {اللهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِىَ فِى الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ * وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} .
سخر لكم الشمس والقمر دائبين لتعلموا بمنازل القمر عدد السنين والحساب، ولتتنوع الثمار بمنازل الشمس بحسب الفصول(16/341)
والأزمان. سخرهما يسيران بنظام بديع، وسير سريع {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} لا يختلفان علواً ولا نزولاً، ولا ينحرفان يميناً ولا شمالاً، ولا يتغيران تقدماً ولا تأخراً عما قدر الله تعالى لهما في ذلك {صُنْعَ اللهِ الَّذِى" أَتْقَنَ كُلَّ شَىْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} . فالشمس والقمر آيتان من آيات الله الدالة على كمال علمه وقدرته، وبالغ حكمته، وواسع رحمته، آيتان من آياته في عظمهما، آيتان من آياته في نورهما وإضاءتهما {وَالشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالعُرجُونِ الْقَدِيمِ * لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِى لَهَآ أَن تدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ الَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} .
لقد أرجف الماديون بصانعي الأقمار الصناعية وعظموها وأنزلوهم المنزلة العالية مع حقارة ما صنعوا، وخلله، وتلفه، وغفلوا عن تعظيم من خلق صانعي هذه الأقمار، وعلمهم كيف يصنعونها، وخلق لهم موادها ويسرها لهم. غفلوا عن تعظيم من خلق الشمس والقمر دائبين آناء الليل والنار، وأعرضوا عن التفكر فيما فيهما من القدرة العظيمة، والحكمة البالغة لذوي العقول والأبصار.
إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، مخلوقان من مخلوقات الله، ينجليان بأمره وينكسفان بأمره، فإذا أراد الله تعالى(16/342)
أن يخوف عباده من عاقبة معاصيهم ومخالفاتهم كسفهما باختفاء ضوئهما كله أو بعضه، إنذاراً للعباد، وتذكيراً لهم لعلهم يحدثون توبة، فيقومون بما يجب عليهم من أوامر ربهم، ويبعدون عما حرم عليهم من نواهي الله عز وجل، ولذلك كثر الكسوف في هذا العصر فلا تكاد تمضي السنة حتى يحدث كسوف في الشمس، أو القمر، أو فيهما جميعاً، وذلك لكثرة المعاصي والفتن في هذا الزمن، فلقد انغمس أكثر الناس في شهوات الدنيا ونسوا أهوال الآخرة، وأترفوا أبدانهم، وأتلفوا أديانهم، أقبلوا على الأمور المادية المحسوسة، وأعرضوا عن الأمور الغيبية الموعودة التي هي المصير الحتمي والغاية الأكيدة {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ الَّذِى يُوعَدُونَ} .
أيها الناس إن كثيراً من أهل هذا العصر تهاونوا بأمر الكسوف فلم يقيموا له وزناً، ولم يحرك منهم ساكناً، وما ذاك إلا لضعف إيمانهم وجهلهم بما جاء عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واعتمادهم على ما علم من أسباب الكسوف الطبيعية، وغفلتهم عن الأسباب الشرعية، والحكمة البالغة التي من أجلها يحدث الله الكسوف بأسبابه الطبيعية.
فالكسوف له أسباب طبيعية يقرّ بها المؤمنون والكافرون، وله أسباب شرعية يقر بها المؤمنون، وينكرها الكافرون، ويتهاون بها ضعيفوا الإيمان فلا يقومون بما أمرهم به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من(16/343)
الفزع إلى الصلاة، والذكر، والدعاء، والاستغفار، والصدقة، والعتق.
لقد كسفت الشمس في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرة واحدة في آخر حياته في السنة العاشرة من الهجرة حين مات ابنه إبراهيم رضي الله عنه، بعد أن ارتفعت بمقدار رمحين، أو ثلاثة من الأفق وذلك في يوم شديد الحر، فقام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فزعاً إلى المسجد، وأمر منادياً ينادي: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس في المسجد رجالاً ونساء، فقام فيهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصفوا خلفه، فكبر وقرأ الفاتحة وسورة طويلة بقدر سورة البقرة، يجهر بقراءته، ثم ركع ركوعاً طويلاً جداً، ثم رفع وقال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، ثم قرأ الفاتحة وسورة طويلة، لكنها أقصر من الأولى، ثم ركع ركوعاً طويلاً دون الأول، ثم رفع وقال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، وقام قياماً طويلاً نحو ركوعه، ثم سجد سجوداً طويلاً جداً نحواً من ركوعه، ثم رفع وجلس جلوساً طويلاً، ثم سجد سجوداً طويلاً، ثم قام إلى الركعة الثانية فصنع مثل ما صنع، لكنها دونها في القراءة، والركوع، والسجود والقيام، ثم تشهد وسلم، وقد تجلت الشمس، ثم خطب خطبة عظيمة بليغة، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: «أما(16/344)
بعد، فإن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، يخوف الله بهما عباده فينظر من يحدث منهم توبة، وإنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة، وإلى ذكر الله، ودعائه، واستغفاره» وفي رواية: «فادعوا الله، وكبروا، وتصدقوا، وصلوا حتى يفرج الله عنكم» . وفي رواية: «حتى ينجلي» ، وقال: «يا أمة محمد والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده، أو تزني أمته، يا أمة محمد لو تعلمون ما أعلم
لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً» ، وأيم الله يعني والله لقد رأيت منذ قمت أصلي ما أنتم لاقوه من أمر دنياكم وآخرتكم، ما من شيء لم أكن رأيته إلا رأيته في مقامي هذا، حتى الجنة والنار، رأيت النار يحطم بعضها بعضاً، فلم أر كاليوم منظراً قط أفظع، ورأيت فيها عمرو بن لحي الخزاعي يجر قُصبه يعني أمعاءه ورأيت فيها امرأة تعذب في هرة لها، ربطتها فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض، ولقد أوحي إلي أنكم تفتنون في قبوركم كفتنة الدجال، يؤتى أحدكم فيقال: ما عِلمُك بهذا الرجل، فأما المؤمن، أو الموقن فيقول: محمد رسول الله جاءنا بالبينات والهدى فأجبنا وآمنا واتبعنا، فيقال: نم صالحاً، فقد علمنا إن كنت لموقناً، وأما المنافق أو المرتاب فيقول: لا أدري(16/345)
سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته» ، ثم ذكر الدجال وقال: «لن تروا ذلك حتى تروا أموراً يتفاقم شأنها في أنفسكم، وتساءلون بينكم هل كان نبيكم ذكر لكم منها ذكرا؟ وحتى تزول جبال عن مراتبها» .
أيها المسلمون: إن فزع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للكسوف، وصلاته هذه الصلاة، وعرض الجنة والنار عليه فيها، ورؤيته لكل ما نحن لاقوه من أمر الدنيا والآخرة، ورؤيته الأمة تفتن في قبورها، وخطبته هذه الخطبة البليغة، وأمره أمته إذا رأوا كسوف الشمس أو القمر أن يفزعوا إلى الصلاة، والذكر، والدعاء، والاستغفار، والتكبير، والصدقة، بل أمر بالعتق أيضاً. إن كل هذه لتدل على عظم الكسوف، وأن صلاة الكسوف مؤكدة جداً، حتى قال بعض العلماء: إنها واجبة، وإن من لم يصلها فهو آثم، فصلوا أيها المسلمون رجالاً ونساء عند كسوف الشمس أو القمر كما صلى نبيكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ركعتين، في كل ركعة ركوعان وسجودان بقراءة جهرية. ومن فاتته الصلاة مع الجماعة فليقضها على صفتها، ومن دخل مع الإمام قبل الركوع الأول فقد أدرك الركعة، ومن فاته الركوع الأول فقد فاتته الركعة لأن الركوع الثاني لا تدرك به الركعة.(16/346)
وفقني الله وإيكم لتعظيمه والخوف منه، ورزقنا الاعتبار بآياته، والانتفاع بها، إنه جواد كريم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(16/347)
صلاة الاستسقاء
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: متى تشرع صلاة الاستسقاء؟ وما الحكم إذا أعلن عن إقامة صلاة الاستسقاء ثم نزل المطر في بعض مناطق المملكة؟ وما الذي يقلب هل هو الرداء والبشت؟ وهل الغترة والشماغ مثل ذلك؟ وبعض الناس يخرج قالباً المشلح فما حكم ذلك؟ وهل من السنة إخراج صدقة وصيام ذلك اليوم؟
فأجاب فضيلته بقوله: أما صلاة الاستسقاء فإنها تشرع إذا تأخر المطر وتضرر الناس بذلك كما فعل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وإذا نزل المطر في مناطق دون أخرى فيكون استسقاؤنا بالنسبة لإخواننا الذين لم يصبهم المطر، لكن لو أصاب المملكة كلها قبل يوم الإثنين فإن الصلاة لا تشرع حينئذ وتلغى كما قال العلماء رحمهم الله «إن سُقوا قبل خروجهم شكروا الله، وسألوه المزيد من فضله، ولا يقيمون الصلاة» .
أما بالنسبة لما يقلب فالذي ورد هو قلب الرداء؛ لحديث عبد الله بن زيد «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استسقى فقلب رداءه» ومثله البشت والعباءة للمرأة، لكن المرأة إذا كان المسجد مكشوفاً وكان تحت العباءة ثياب تلفت النظر، فأخشى أنه في حال قيامها لتقلب العباءة تظهر هذه الثياب وتكون مفسدة أكبر من المصلحة فلا تقلب.(16/351)
وأما قلب الغترة والشماغ، فلا أظن هذا مشروعاً، لأنه لم يرد أن العمامة تُقلب، والغترة والشماغ بمنزلة العمامة، لكن هل يقلب الكوت إذا كان عليه كوت؟ في نفسي من هذا شيء، والظاهر أنه لا يقلبها، ولا يلزمه أن يلبس شيئاً أيضاً من أجل أن يقلبه، يعني يخرج على طبيعته.
وما يفعله بعض الناس يخرج قالباً مشلحه، يقلب المشلح من أجل إذا قلبه وقت الاستسقاء يرجع عادياً، هذا لا حاجة إليه، يبقى على ما هو عليه، وإذا قلبه عند الاستسقاء فإنه سوف يعيده على حاله إذا نزعه مع ثيابه، يعني تبقى حتى يدخل إلى البلد لا يغيرها.
أما الاستسقاء فقال بعض العلماء: إنه ينبغي أن يقدم بين يدي الاستسقاء صدقة، وزاد بعضهم أنه ينبغي أن يصوم ذلك اليوم، لكنه ليس في هذا سنة بالنسبة للصوم أن الإنسان يخرج صائم لكن من كان يعتاد أن يصوم الاثنين فهذا طيب، يصوم الاثنين ويجمع بين هذا وهذا، وينبغي أن يخرج بخشوع وخضوع وتضرع خروج المستكين لله عز وجل المفتقر إليه الراجي فضله، فإن ذلك أقرب إلى الإجابة؛ لحديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: «إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج متبذلاً متواضعاً متضرعاً حتى أتى المصلى» . وذكر بعض العلماء أنه ينبغي أن(16/352)
يخرج معه الصبيان والعجائز والشيوخ؛ لأن هؤلاء أقرب إلى الإجابة، وبعضهم قال يخرج أيضاً بالبهائم الغنم والبقر يجعلها حوله، لكن كل هذا لم ترد به السنة، وما لم ترد به السنة فالأولى تركه، كان الناس يخرجون على عادتهم الشيخ، والكبير، والصغير.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: بعض الناس يقول: «لو لم تستغيثوا لنزل المطر» فما قول الشيخ في هذا؟
فأجاب فضيلته بقوله: قولي إني أخشى على قائله من خطر عظيم، فإن الله عز وجل يقول: {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى" أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} والله سبحانه وتعالى حكيم قد يؤخر فضله ليعلم الناس شدة افتقارهم إليه، وأنه لا ملجأ من الله إلا إليه، ويجعل سبب نزول المطر هو دعاء الناس، وإذا دعاء الناس ولم يمطروا فلله تعالى حكمة، فهو سبحانه وتعالى أعلم وأحكم وأرحم بعباده منهم بأنفسهم، فكثيراً ما يدعو الإنسان بشيء ولا يحصل، ثم يدعو ولا يحصل، ثم يدعو ولا يحصل وقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول دعوت فلم يستجب لي» . وحينئذ(16/353)
يستحسر ويدع الدعاء والعياذ بالله، مع أن الإنسان الداعي على كل حال رابح، بل جاء في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام أن من دعا يحصل له إحدى ثلاث خصال: إما أن يستجاب له، وإما أن يصرف عنه من السوء ما هو أعظم، وإما أن تدخر له يوم القيامة.
وإني أوجه نصيحتي إلى الأخ القائل لتلك العبارة أن يتوب إلى الله عز وجل، فإن هذا ذنب عظيم مضاد لأمر الله تعالى بالدعاء ومحادة لله.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: عن صفة صلاة الاستسقاء؟ وهل لها خطبة واحدة فقط؟ وهل تقدم الخطبة على الصلاة أو تقدم الصلاة على الخطبة؟ وإذا فاتت صلاة الاستسقاء والعيدين هل تقضى؟ وإذا فاتته ركعة فهل يقضي التكبيرات أم لا؟ وبالنسبة للأئمة الذين لا يطلبون من المأمومين تسوية الصفوف فما نصيحتكم لهم؟ وما حكم قول الإمام: «استقيموا» ؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا السؤال يأتي في مناسبة طيبة لأنه صادف اليوم الذي أقمنا فيه صلاة الاستسقاء، والاستسقاء هو طلب السقيا، وطلب السقيا يكون على أوجه كثيرة، قد تستسقي وأنت في السجود، وقد تستسقي وأنت في مجلس أصحابك، وقد(16/354)
يستسقي الخطيب في يوم الجعة، وقد يخرج الناس إلى مصلى العيد ليصلوا صلاة الاستسقاء.
وصفة صلاة الاستسقاء كصلاة العيد.
أما الخطبة فإنها خطبة واحدة، وليست كخطبة العيد، فالعيد فيه خطبتان، هذا هو المشهور عن أهل العلم، وقيل: للعيد خطبة واحدة، وهو الذي تدل عليه الأدلة الصحيحة السالمة من التضعيف. خطبة العيد خطبة واحدة لكن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يخطب الرجال أولاً، ثم ينزل إلى النساء فيعظهن.
أما الاستسقاء فهو خطبة واحدة، حتى على قول من يرى أن صلاة العيد لها خطبتان، فهي خطبة واحدة؛ إما قبل الصلاة وإما بعد الصلاة. فالأمر كله جائز، لو أن الإمام حين حضر إلى المصلى فاستقبل القبلة ودعا، وأمّن الناس على ذلك لكان كافياً، وإن أخّر الخطبة إلى ما بعد الصلاة فهو أيضاً كافٍ وجائز، فالأمر في هذا واسع.
وإنما قلت ذلك لئلا ينفر أحد مما قد يفعله بعض الأئمة من الخطبة والدعاء في صلاة الاستسقاء قبل الصلاة، فإن من فعل ذلك لا ينكر عليه، لأنه سنة ثابتة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أما إذا فاتت الإنسان صلاة الاستسقاء، فأنا لا أعلم في هذا سنة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكن لو صلى ودعا فلا بأس.
وأما صلاة العيد فإنها لا تقضى إذا فاتت، لأنها صلاة شرعت على وجه معين، وهو حضور الناس واجتماعهم على إمام واحد، فإذا فاتت فإنها لا تقضى.
وكذلك صلاة الجمعة فإن صلاة الجمعة إذا فاتت لا تقضى أيضاً، لكن يصلي بدلها ظهراً؛ لأن هذا وقت الظهر، فإن لم يتمكن من الجمعة صلى الظهر.
أما العيد فلم يرد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(16/355)
عنها بدل، فإذا فاتتك مع الإمام، فقد فاتت، ولا يشرع لك قضاؤها.
وأما بالنسبة للتكبيرات، التي بعد تكبيرة الإحرام فإنك إذا دخلت مع الإمام بعد انتهاء التكبيرات، فإنك لا تعيد التكبيرات؛ لأنها سنة فات محلها، فإذا فات محلها سقطت.
أما طلب الأئمة تسوية الصفوف في صلاة العيد وفي صلاة الاستسقاء، فإنه مشروع كغيرها من الصلوات، وذلك لأن الناس إذا لم ينبهوا على هذا، ربما يغفلون عنه، فكل صلاة يشرع فيها الجماعة، فإنه يشرع للإمام إذا كان الناس صفوفاً أن ينبههم وأن يقول: «استووا اعتدلوا» .(16/356)
وأما قول بعض الأئمة: «استقيموا» فإن هذه لا أصل لها، ولم ترد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد بحثت عنها وسألت بعض الإخوان أن يبحثوا عنها، فلم يجدوا لها أصلاً عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يقول: استقيموا.
ولا وجه لقوله: «استقيموا» ؛ لأن المراد بقوله: «استقيموا» يعني على دين الله وليس هذا محله؛ لأن هذا محل أمر الناس بإقامة الصفوف في الصلاة، فالمشروع أن يقول: أقيموا صفوفكم.. سووا صفوفكم.. وما أشبه ذلك.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل ورد أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يعظ الناس قبل الخروج للاستسقاء؟
فأجاب فضيلته بقوله: لم يرد ذلك فيما أعلم، ولكن لو وعظهم وعظاً عاماً وحثهم على الخروج للصلاة والتوبة فلا بأس.
* * *
7341 سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل يشرع الصوم في اليوم المحدد للاستسقاء خاصة إذا كان اليوم المحدد هو يوم الاثنين أو الخميس؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يشرع الصوم لأجل الاستسقاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم خرج للاستسقاء ولم يأمر الصحابة رضي الله عنهم بالصيام ولم ينقل عنه أنه صام.
وأما لو جعل الاستسقاء يوم الاثنين، أو يوم الخميس ولم(16/357)
يكن ذلك على وجه الدوام من أجل أن يصادف صيام بعض الناس فلا بأس.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: إذا خرج الإنسان للاستسقاء متطيباً فهل ينكر عليه؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا ينكر عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يحب الطيب، وإن كان بعض الفقهاء قال: «إذا خرج للاستسقاء لا يتطيب» ، وهذا لا دليل عليه، والطيب لا يمنع الاستكانة والخضوع لله تعالى.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: من كان يلبس شماغاً هل يقلبه في صلاة الاستسقاء؟ وهل المرأة تقلب عباءتها؟ وما الحكمة من ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: الظاهر أن المرأة لا تقلب لأن الستر لها أفضل، ولا تقلب عباءتها.
والشماغ أيضاً لا يقلب فهو يشبه العمامة على الرأس، ولكن المشلح للرجل قد يكون مشبه للرداء.
والحكمة في أن الرجل يقلب المشلح التفاؤل أن يقلب الله الحال من الجدب وقحط المطر إلى الرخاء، ولكن أهم من ذلك عندي التأسي بالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقول الله تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى(16/358)
رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الأَْخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الأَْخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً} . أما بالنسبة لفعل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إياه فالتعليل كما ذكرنا، وأيضاً كأن الرجل التزم أن يغير عمله السيىء إلى عمل صالح، لأن الأعمال لباس، قال الله تعالى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَالِكَ خَيْرٌ ذَالِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} . فكأن الإنسان في هذه الفعل كأنه التزم أن يغير حاله ولباسه الديني إلى لباس آخر، وأهم شيء بالنسبة لنا أن نقتدي بالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: بعض طلبة العلم لا يخرج إلى صلاة الاستسقاء بحجة أن المعاصي موجودة فكيف ندعو الله ونحن لم نغير من أحوالنا؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا خطأ، لأن المصائب كلها قد تكون بسبب الذنوب، كما قال تعالى: {وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} وقد تكون امتحاناً من الله عز وجل، يمتحن بها العبد هل يصبر أو لا يصبر، هذه واحدة.
ثانياً: إذا قلنا: إن علينا ذنوباً أليست هذه الصلاة من أسباب مغفرة الذنوب، إذاً فلنخرج إلى الله عز وجل ونستسقيه ونتعبد له بالصلاة والذكر وغير ذلك، لهذا أرجو من إخواننا طلبة العلم إذا(16/359)
صح السؤال أن يتأملوا الموضوع، وأن لا يثبطوا الناس عن الخير، وأن يشجعوهم عليه.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما هو الضابط في قلب الرداء بعد صلاة الاستسقاء، هل يكون الشماغ بديلاً للرداء؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا ليس بديلاً له، وربما الفروة أو المشلح نعم، لأن الشماغ أقرب ما يكون للعمامة فلا يدخل في الحديث.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: إذا دخل الإنسان مصلى العيد لأداء صلاة العيد أو الاستسقاء فهل يؤدي تحية المسجد مع الأدلة؟ وما حكم من ينكر ذلك على المصلي في المصلى والكلام فيه في المجالس؟
السؤال الثاني: اعتاد الناس عندنا في صلاة الاستسقاء بعد انتهاء الخطبة أن ينزل الخطيب من المنبر ويستقبل القبلة ويقف الناس خلفه كذلك ويدعون سرًّا لمدة دقيقة أو دقيقتين ثم ينصرفون فما حكم ذلك؟
السؤال الثالث: اشترى رجل سيارة بالمزاد العلني في السوق العام ثم أتى شخص آخر واشتراها من هذا الرجل بزيادة في المبلغ وهي في مكانه التي بيعت فيه على الأول(16/360)
ولم تسجل كذلك باسم الأول فما حكم ذلك؟ والسلام عليكم.
فأجاب فضيلته بقوله: بسم الله الرحمن الرحيم، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
القول الراجح أن من دخل مصلى العيد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين لعموم قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين» ومصلى العيد مسجد؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر الحيض أن يعتزلنه ولولا أنه مسجد ما أمرهن باعتزاله، وقد صرح المتأخرون من أصحابنا أن مصلى العيد مسجد، قال في الإنصاف 1/642: مصلى العيد مسجد على الصحيح من المذهب، قال في الفروع: هذا هو الصحيح اه. وقال في المنتهى وشرحه آخر باب الغسل: ومصلى العيد لا مصلى الجنائز مسجد لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وليعتزل الحيض المصلى» أه. وقال في الإنصاف: 2/134 234: الصحيح من المذهب كراهة التنفل قبل الصلاة وبعدها في موضعها إلى أن قال: وقيل يصلي تحية المسجد، اختاره أبو الفرج، وجزم به في الغنية، قال في الفروع: وهو أظهر، ورجحه في النكت. ا. هـ، وذكر أقوالاً أخرى.
وأما من ينكر ذلك على فاعله فلا وجه لإنكاره، والكلام فيه في المجالس غيبة محرمة، ويقال للمنكر: أنت لا تفعل ذلك، ولكن لا تنكر على غيرك إلا بدليل من الكتاب، أو السنة أو(16/361)
الإجماع، ولا شيء من ذلك في هذه المسألة.
وأما كون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما، فلا يدل على كراهة الصلاة قبلهما أو بعدهما؛ لأنه حين وصل المصلى شرع في صلاة العيد فأغنت عن تحية المسجد، ولما انتهى من الصلاة خطب الناس ثم انصرف.
ج 2 الأمر في هذا واسع، ولكن وقوف المأمومين حال الدعاء لا أعلمه وارداً عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه رضي الله عنهم.
ج 3 إذا بيعت السلعة في السوق العام سيارة كانت أم غير سيارة وسلمها البائع وانصرف فقد تم قبضها، فللمشتري بيعها في مكانها بمثل الثمن، أو أقل، أو أكثر؛ لأن السوق العام محل للجميع، فإذا تخلى البائع عن السلعة وانصرف فقد تخلت يده عن السلعة والمكان، وحلت يد المشتري محلها وحصل القبض التام.
وأما تسجيل السيارة المبيعة فلابد أن تسجل باسم المشتري الأول، ثم يسجل بيعه إياها على المشتري الثاني، تجنباً للكذب وتحقيقاً لرجوع كل واحد بالعهدة على من باع عليه، سواء سجلت بأوراق رسمية، أو أوراق عادية موثقة. 10/6/1414 هـ.
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: إذا اتفق الناس على الخروج للاستسقاء ثم سقوا قبل خروجهم فما الحكم؟(16/362)
فأجاب فضيلته بقوله: الاستسقاء إنما يشرع إذا أجدبت الأرض وقحط المطر، فإذا سقوا قبل الخروج فلا صلاة، وإنما عليهم شكر المنعم عز وجل بقلوبهم، وألسنتهم، وجوارحهم، واسألوا الله المزيد من فضله، وأن يقولوا ما قاله النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «اللهم صيباً نافعاً» .
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل ينادى لصلاة الاستسقاء بالصلاة جامعة؟
فأجاب فضيلته بقوله: صلاة الاستسقاء لا ينادى لها؛ لأن النداء لها خلاف هدي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقد صلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الاستسقاء ولم يناد لها.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل من السنة إذا نزل المطر أن يحسر الإنسان عن رأسه ليصيبه المطر؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم من السنة إذا نزل المطر أن يخرج الإنسان شيئاً من بدنه ليصيبه المطر، وليس ذلك خاصًّا بالرأس، فقد كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا نزل المطر حسر ثوبه ليصيبه المطر. فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «أصابنا ونحن مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مطر، فحسر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثوبه(16/363)
حتى أصابه من المطر. فقلنا: يا رسول الله لم صنعت هذا؟ قال: «لأنه حديث عهد بربه عز وجل» .
***
تم بحمد الله تعالى المجلد السادس عشر
ويليه بمشيئة الله عز وجل
المجلد السابع عشر
وأوله: كتاب الجنائز(16/364)
المجلد السابع عشر
كتاب الجنائز
التداوي وعياداة المريض
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: عن حكم التداوي؟
فأجاب فضيلته بقوله: التداوي على أقسام:
فإذا غلب على الظن نفع الدواء مع احتمال الهلاك بتركه فالتداوي واجب.
وإن غلب على الظن نفع الدواء، ولكن ليس هناك احتمال للهلاك بترك الدواء، فالتداوي أفضل.
وإن تساوى الأمران فترك التداوي أفضل.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: أفيدكم بأنني أرقي بآيات الله مثل: فاتحة الكتاب، وآية الكرسي والمعوذات ... إلخ. وأدعو بالأدعية المأثورة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثل: «اللهم ربّ الناس اذهب البأس، اشفِ أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً» . وذلك على الناس المصابين بالأمراض النفسية والعصبية. وكذلك نقرأ على ما ورد ذكره في القرآن الكريم، مثل: العسل، وزيت الزيتون، وآمر الناس باستعمالها أكلاً ودهناً، وقد شفي على يدي بعد الله أناس كثير، ولا زلت مستمراً على ذلك ولم أطلب من أحد أجراً، ولي في هذا العمل فترة من الزمن ولله الحمد، أرجو من سماحتكم إذا كان هذا العمل جائزاً ولنا فيه أجر من(17/13)
الله عز وجل في الا?خرة وفيه منفعة للناس نستمر على ذلك، وإذا كان علينا إثم في ذلك نتجنبه؛ حيث إن كثيراً من الناس يثير الشبهات حول التداوي بالقرآن الكريم ووروده عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويعتبرونه نوعاً من الشعوذة. أفتونا في ذلك ولتكن الفتوى خطية والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فأجاب فضيلته بقوله:
بسم الله الرحمن الرحيم.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. التداوي بالقراءة على المريض بما ورد في القرآن، أو السنة، أو بالأدعية الشرعية، أو بالعسل، والحبة السوداء ونحو ذلك قال الله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا} . وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للذي قرأ على اللديغ بالفاتحة فبرىء: «وما يدريك أنها رقية» . وقال الله تعالى في العسل: {يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} . وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحبة السوداء: «إنها شفاء من كل داء إلا السام» . والسام: الموت. وما دام علاجك بمثل هذا فاستمر عليه، أسأل الله تعالى أن ينفع بك. 19/2/1418 هـ.(17/14)
رسالة تتضمن أسئِلَة عن العلاج بالقرآن الكريم
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد الصالح العثيمين إلى الأخ المكرم ... حفظه الله تعالى
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
سرني اطّلاعكم على بعض مؤلفاتنا، وحرصكم على تحقيق العقيدة الصحيحة.
وإليكم جواب أسئِلَتكم:
ج 1: تحقيق الفرق بين أسماء الله المتقاربة المعنى تارة يكون بحسب الصيغة، وتارة يكون بغير ذلك.
فمن الأول قوله تعالى: (الخالق) و (الخلاق) فالثاني أبلغ؛ لأن الأول يدل على مجرد الفعل وهوالخلق، والثاني يدل على الفعل والكثرة.
وتارة يكون بغير الصيغة، مثل: (الرؤوف) و (الرحيم) كلاهما متضمن الرحمة، لكن الأول أخص.
ج 2: لا أعلم أن (الطبيب) من أسماء الله لكن (الشافي) من أسماء الله، وهو أبلغ من (الطبيب) لأن الطب قد يحصل به الشفاء، وقد لا يحصل.(17/15)
ج 3: ما ذكرناه من الأسماء الحسنى في (القواعد المثلى) قد شرح كثيراً منه ابن القيم في العقيدة النونية.
ج 4: الإلحاد الكفري: أن ينكر الاسم إنكار تكذيب، مثل أن يقول: (السميع) ليس من أسماء الله.
وأما الإلحاد الفسوقي فهو: أن يحرِّف معناه مع الإقرار بالاسم، مثل أن يقول (السميع) يعني: المسمع لغيره (أي خالق السمع في غيره) .
هذه أجوبة الطائفة الأولى من الأسئلة.
ج 5: ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في عدة مواضع من كتبه أنه تجوز الاستعانة بالجن الصالحين على الأعمال المشروعة، أو المباحة وهو واقع فكم من شخص أعانه صالحو الجن على أعماله الصالحة، أو المباحة فيما سمعنا من وقائع.
* وأما أسئلتكم الخاصة بالعلاج بالقرآن الكريم:
فقد قال الله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا} . وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الفاتحة: «وما يدريك أنها رقية» . وقال في المعوذتين الفلق والناس: «ما سأل سائل بمثلها، وما تعوذ متعوذ بمثلها» .
والقرآن كله خير وبركة، فإذا قرأ الإنسان به على المريض(17/16)
فيما يناسب مرضه كان حسناً.
ج 1: ويجوز للشاب أن يقرأ على المريضة، بشرط أن لا يخلو بها، وأن لا يحس بشهوة عند قراءته عليها.
ج 2: والخلوة: أن يكون معها في غرفة ونحوها وليس معها محرم، لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم» وإن كان معهما أحد تؤمن الفتنة بوجوده زالت الخلوة.
ج 3: يجوز أن يقرأ على ثلاث نسوة، إحداهن بها مس من الجن، لكن عزل المصابة بالجن عن السليمات أولى، ويكون معها وليها أي محرمها.
ج 4: لا يجوز وضع يد المعالج على رأس المرأة إلا أن تكون من محارمه.
ج 5: لا أرى بأساً أن يقرأ بإذن المريض في القراءة عليه الرجل مع الرجل، والمرأة مع المرأة، وأما رجل في أذن امرأة، أو امرأة في أذن رجل فلا.
ج 6: كان بعض العلماء يضرب المصروع الذي صرعه الجن ويرى الضرب واقعاً على المريض المصروع، وهو في الحقيقة على الجني الصارع.
وممن أثر عنه ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ولكن هل نبيح ذلك لكل أحد؟(17/17)
ج 7: لا أرى جواز خنق المريض عند القراءة لما في ذلك من الخطورة.
ج 8: ارجع إلى الجواب رقم 5 من الطائفة الأولى من الأسئلة.
ج 9: القراءة الجماعية على المصابين ليست طريقاً مأثوراً ولا موروثاً عن السلف، بل هو حادث.
ج 01: لا يقرأ على امرأة من غير محارمه إلا وهي متسترة تستراً كاملاً بالوجه والكفين وغيرها.
هذه أجوبة الطائفة الثانية من الأسئلة.
وأما جواب الطائفة الثالثة من الأسئلة:
ج 1: مراكز العلاج بالقرآن لا أرى فيها بأساً؛ لأن المقصود بها الدلالة على مكان الراقين، لكني لا أعلمه مأثوراً عمن سلف، لكن إن اتخذ لجلب المال ففي جوازه نظر.
ج 2: المشترك في المركز إذا كان يأخذ مالاً من المركز فإن كان ما يأخذه في مقابل القراءة حال الدوام فقط، ثم أعطي مكافأة من المريض على قراءته عليه خارج الدوام فهي له خاصة. وإن كان ما يأخذه من المركز على قراءته على المريض في أي وقت، كان ما يأخذه من المريض في أي وقت من نصيب المركز، فيرده في صندوق المركز. أمّا إذا لم يكن له مكافأة من المركز فإن ما يعطيه إياه المريض له خاصة.
ونفيدكم بأننا شرحنا كتاب التوحيد وهو الا?ن تحت الطبع نسأل الله أن ينفع به، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 22/4/1418 هـ.(17/18)
س 3 سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: انتشر بين أوساط النساء ظاهرة تسمى (تقشير الوجه) أو ما يسمى بين النساء (بصنفرة الوجه) وهي تتم إما عن طريق استخدام كريمات ومراهم، أو قد تلزم إجراء عملية عند طبيب وتتم تحت التخدير. وكل ذلك لتقشير الطبقة السطحية للوجه لإزالة ما عليه من بثور وندبات، حتى تبدو بشرة الوجه أكثر صفاء وجمالاً.
وقد يكون لهذا التقشير آثاراً سلبية في تشويه الوجه أحياناً إذا لم تنجح العملية كظهور آثار حروق على الوجه، أو عدم زوال ما كان على الوجه من بثور أو غير ذلك، والسؤال:
1 ما رأيكم في هذه الظاهرة؟ وهل تعد من تغيير خلق الله أم تعد من أنواع الزينة؟
2 ما صحة الحديث: «لعن الله القاشرة والمقشورة» ؟
3 وهل ثبت أن عائشة رضي الله عنها قد نهت عن تقشير الوجه باستخدام الزعفران ونحوه؟
نرجو من فضيلتكم التكرم بإجابة وافية عن هذا السؤال ليتم نشره بين النساء.
فأجاب فضيلته بقوله:
ج 1: رأيي في هذه الظاهرة أنها إن كانت من باب التجميل فحرام؛ قياساً على النمص والوشر ونحوهما.
وإن كانت لإزالة عيب كحفر في الوجه وسواد في الوجه(17/19)
الأبيض ونحو ذلك فلا بأس به؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أذن للرجل الذي قطع أنفه أن يتخذ أنفاً من ذهب.
ج 2: لا أعرف شيئاً عن هذا الحديث، ولا أظنه يصح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ج 3: لا أعرف شيئاً عن أثر عائشة رضي الله عنها.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: انتشر بين الناس وخاصة النساء استخدام بعض المواد الكيميائية والأعشاب الطبيعية التي تغيِّر من لون البشرة بحيث البشرة السمراء تصبح بعد مزاولة تلك المواد الكيميائية والأعشاب الطبيعية بيضاء وهكذا فهل في ذلك محذور شرعي؟ علماً بأن بعض الأزواج يأمرون زوجاتهم باستخدام تلك المواد الكيميائية والأعشاب الطبيعية بحجة أنه يجب على المرأة أن تتزين لزوجها. أفتونا مأجورين.
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان هذا التغيير ثابتاً فهو حرام بل من كبائر الذنوب؛ لأنه أشد تغييراً لخلق الله تعالى من الوشم، وقد ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه لعن الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة، ففي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما قال: «لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات(17/20)
والمتنمصات، والمتفلجات للحسن، المغيرات خلق الله» وقال: «ما لي لا ألعن من لعنه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» .
فالواصلة: التي يكون شعر الرأس قصيراً فتصله إما بشعر أو بما يشبهه، والمستوصلة التي تطلب من يصل شعرها بذلك.
والواشمة: التي تضع الوشم في الجلد بحيث تغرز إبرة ونحوها فيه، ثم تحشي مكان الغرز بكحل أو نحوه مما يحول لون الجلد إلى لون آخر.
والمستوشمة: التي تطلب من يضع الوشم فيها.
والنامصة: التي تنتف شعر الوجه، كالحواجب وغيرها من نفسها أو غيرها.
والمتنمصة: التي تطلب من يفعل ذلك بها.
والمتفلجة: التي تطلب من يفلج أسنانها أي تحكها بالمبرد حتى يتسع ما بينها؛ لأن هذا كله من تغيير خلق الله.
وما ذُكر في السؤال أشد تغييراً لخلق الله تعالى مما جاء في الحديث، وأما إذا كان التغيير غير ثابت كالحناء ونحوه فلا بأس به لأنه يزول فهو كالكحل وتحمير الخدين والشفتين، فالواجب الحذر والتحذير من تغيير خلق الله، وأن ينشر التحذير بين الأمة لئلا ينتشر الشر ويستشري فيصعب الرجوع عنه. 61/2/8141هـ.(17/21)
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم إجراء عمليات التجميل؟ وما حكم تعلُّم عِلم التجميل؟
فأجاب فضيلته بقوله: التجميل نوعان:
النوع الأول: تجميل لإزالة العيب الناتج عن حادث أو غيره، وهذا لا بأس به ولا حرج فيه؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أذن لرجل قُطعت أنفه في الحرب أن يتخذ أنفاً من ذهب..
والنوع الثاني: التجميل الزائد وهو ليس من أجل إزالة العيب، بل لزيادة الحُسن، وهو محرَّم ولا يجوز؛ لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لعن النامصة والمتنمصة والواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة..» لما في ذلك من إحداث التجميل الكمالي الذي ليس لإزالة العيب.
أما بالنسبة للطالب الذي يُقرر علم جراحة التجميل ضمن مناهج دراسته فلا حرج عليه أن يتعلمه ولكن لا ينفذه في الحالات المحرمة.. بل ينصح من يطلب ذلك بتجنبه لأنه حرام، وربما لو جاءت النصيحة على لسان طبيب كانت أوقع في أنفس الناس.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم عمليات تقويم الأسنان؟
فأجاب فضيلته بقوله: تقويم الأسنان على نوعين:(17/22)
النوع الأول: أن يكون المقصود به زيادة التجمُّل فهذا حرام ولا يحل وقد لعن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم «المتفلجات للحسن المغيرات لخلق الله» هذا مع أن المرأة مطلوب منها أن تتجمل وهي من يُنشأ في الحلية، والرجلُ من باب أولى أن يُنهَى عن ذلك.
النوع الثاني: إذا كان تقويمها لعيب فلا بأس بذلك فيها فإن بعض الناس قد يبرز شيء من أسنانه إما الثنايا أو غيرها تبرز بروزاً مُشيناً بحيث يستقبحه من يراه ففي هذا الحال لا بأس من أن يُعدلها الإنسان؛ لأن هذا إزالة عيب وليس زيادة تجميل، ويدل لهذا أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «أمر الرجل الذي قُطع أنفه أن يتخذ أنفاً من وَرِق أي فضة ثم أنْتَنَ فأمره أن يتخذ أنفاً من ذهب» لأن في هذا إزالة عيب وليس المقصود زيادة تجمُل.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: عن حكم زراعة شعر المصاب بالصلع وذلك بأخذ شعر من خلف الرأس وزرعه في المكان المصاب فهل يجوز ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم يجوز؛ لأن هذا من باب رد ما خلق الله عز وجل ومن باب إزالة العيب، وليس هو من باب التجميل أو الزيادة على ما خلق الله عز وجل فلا يكون من باب تغيير خلق الله. بل هو من رد ما نقص وإزالة العيب، ولا يخفى ما في قصة الثلاثة(17/23)
النفر الذي كان أحدهم أقرع وأخبر أنه يحب أن يَرُدَّ الله عزّ وجل عليه شعره فمسحه الملَك فرد الله عليه شعره فأُعطي شعراً حسناً.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما رأي فضيلتكم بما يسمى: العزائم والتي تحتوي على آيات قرآنية ويقول: ضعها تحت مخدة أو بلها واشرب ماءها؟
فأجاب فضيلته بقوله: أما الاستشفاء بالقرآن فإنه مشروع، فقد ثبت من حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: انطلق نفرٌ من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سفرةٍ سافروها، حتى نزلوا علي حيٍّ من أحياء العرب، فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم، فلُدِغ سيد ذلك الحي فسعوا له بكل شيء لا ينفعُهُ شيء، فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرَّهط الذين نزلوا، لعلّه أن يكون عند بعضهم شيء فأتوهم فقالوا: يا أيها الرهط، إن سيدنا لُدغ فهل فيكم من راقٍ؟ قالوا: نعم، ولكن لا نرقي لكم حتى تجعلوا لنا جُعلاً، فصالحوهم على قطيعٍ من الغنم، فانطلق يَتْفُل عليه ويقرأ: «الحمد لله رب العالمين» فكأنما نشط من عقال، فأوفوهم جُعْلهم فقال بعضهم: اقسموا، فقال الذي رقى: لا تفعلوا حتى نأتي رسول الله فذكروا له فقال: «وما يدريك أنها رقية» ثم قال: «قد أصبتم اقسموا واضربوا لي معكم سهماً» . فالاستشفاء بالقرآن أمر مطلوب وفيه مصلحة، ولكن(17/24)
على أي صفة نستشفي به؟ نقول: يُستشفى به على الصفة الواردة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذلك بقراءة القاريء على المريض، أمَّا أن يُعلّق على رقبته ما فيه شيء من القرآن فهذا أجازه بعض السلف ومنعه آخرون، فممن منعه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وأجازه بعض أهل العلم من السلف والخلف، وأما وضعه تحت الوسادة أو تعليقه في الجدار أو ما أشبه ذلك فهذه صفات لم ترد عن السلف ولا ينبغي أن نعمل عملاً لم يسبقنا إليه أحد من السلف، وكذلك من باب أولى ما يفعله بعض الناس. يقرأ في ماء فيه زعفران ثم يأتي بأوراق ويخطط فيها خطوطاً فقط من هذا الزعفران، خطوطاً لا يُقرأ ما فيها، فهذا أيضاً من البدع ولا يستقيم ولا يصح.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم التلقيح الصناعي طفل الأنابيب وهو أخذ ماء الزوج فيوضع في رحم الزوجة عن طريق أنابيب بواسطة طبيب أو طبيبة؟
فأجاب فضيلته بقوله: التلقيح الصناعي: أن يُؤخَذ ماءُ الزوج ويُوضَع في رحم الزوجة عن طريق أنابيب (إبرة) ، وهذه المسألة خطيرة جداً، ومَن الذي يأمن الطبيب أن يلقي نطفة فلان في رحم زوجة شخص آخر؟! ولهذا نرى سدَّ الباب ولا نفتي إلا في قضية معينة بحيث نعرف الرجل والمرأة والطبيب، وأما فتح الباب(17/25)
فيُخشى منه الشرُّ.
وليست المسألةُ هيِّنةً؛ لأنه لو حصل فيها غش لزم إدخال نسب في نسب، وصارت الفوضى في الأنساب وهذا مما يحرمه الشرع، ولهذا قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا توطأ حامل حتى تضع» ، فأنا لا أفتي في ذلك. اللهم إلا أن ترد إليّ قضية معينة أعرف فيها الزوج والمرأة والطبيب.(17/26)
* * *
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد الصالح العثيمين إلى الابن المكرم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
كتابكم الكريم وصل، وقد قرأته وفهمت ما تضمنه من السؤال عن حكم إيداع بويضة المرأة في أنبوبة، ثم تلقيحها بماء الرجل، ثم إعادتها إلى رحم المرأة لتأخذ مجراها في التكوين.
وجوابنا على ذلك:
أإذا لم تكن حاجة لهذا العمل فإننا لا نرى جوازه؛ لأنه يتقدمه عملية جراحية لإخراج البويضة كما ذكرتم في السؤال وهذه العملية تحتاج إلى كشف العورة بدون حاجة، ثم إلى جراحة يخشى أن يكون منها نتائج ولو في المستقبل البعيد من تغيير القناة، أو حدوث التهابات.
ثم إن ترك الأمور على طبيعتها التي خلقها عليها أرحم الراحمين، وأحكم الحاكمين، أكمل تأدباً مع الله سبحانه، وأولى وأنفع من طرق يستحدثها المخلوق ربما يبدو له حسنها في أول وهلة، ثم يتبين فشلها بعد ذلك.
ب إذا كان لهذا العمل حاجة فإننا لا نرى به بأساً بشروط ثلاثة:
الأول: أن يتم هذا التلقيح بمني الزوج، أو السيد (إن قدر الله تعالى أن توجد مملوكة على الوجه الشرعي) ولا يجوز أن يكون هذا(17/27)
التلقيح بمني غير الزوج، أو السيد، لقول الله تعالى: {وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} ، فخص ذلك بالأزواج.
الثاني: أن تتم عملية إخراج المني من الرجل بطريق مباح بأن يكون ذلك عن طريق استمتاع الزوج أو السيد بزوجته أو مملوكته فيستمتع بين فخذيها، أو بيدها حتى يتم خروج المني ثم تلقح به البويضة.
الثالث: أن توضع البويضة بعد تلقيحها في رحم الزوجة أو المملوكة، فلا يجوز أن توضع في رحم امرأة سواهما بأي حال من الأحوال؛ لأنه يلزم منه إدخال ماء الرجل في رحم امرأة غير حلال له وقد قال الله تعالى: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَِنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللهَ وَاعْلَمُو?اْ أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} ، فخص الحرث بامرأة الرجل، وهذا يقتضي أن تكون المرأة غير الزوجة غير محل لحرثه. وقد دلَّ الكتاب والسنة والإجماع على أن المملوكة مثل الزوجة في ذلك.
هذا والله يحفظكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حرر في 5/8/1420 هـ.(17/28)
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده
فضيلة الشيخ الوالد محمد بن صالح العثيمين حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
هناك امرأة لا تلد فكشف عليها الأطباء فوجدوا أن البويضات الأنثوية ميتة، ثم قاموا بعملية زراعة للبويضات، ثم حملت المرأة بأربعة فلما كشف عليها الأطباء وأخبروا زوجها قال: إنه لا يريد أربعة لأن المرأة قد تتعب وتوهن، فقال: يخرجوا اثنتين ويبقوا اثنتين، فقال الأطباء: لا نعمل هذا العمل إلا بفتوى من فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين، علماً بأن مدة حملها ثلاثة أشهر فهل يجوز للأطباء أن يعملوا هذه العملية؟ حيث إنهم توقفوا لينظروا في رأي فضيلتكم. وجزاكم الله خيراً.
بسم الله الرحمن الرحيم
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
الجواب: زراعة البويضات لا نتكلم عنها لأن الأمر قد مضى.
أما تنزيل بعض ما في بطنها فإن كان يُخشَى على الأم ولم يتم للحمل أربعة أشهر فلا بأس، وإن كان قد تمَّ للحمل أربعة أشهر فإنه لا يجوز التنزيل بأي حال من الأحوال. حرر في 61/7/0241هـ.(17/29)
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم التداوي بالمُحرَّم؟ وهل يعتبر البنجُ وبعض المواد الكحولية التي توجد في بعض الأدوية من المحرَّم؟ وهل يستوي ذلك في الضرورة أو غير الضرورة؟
فأجاب فضيلته بقوله: التداوي بالمحرم حرامٌ لا يجوز؛ لأن الله لم يجعل شفاء هذه الأمة فيما حرَّمه عليها. ولأن الله لا يُحرم علينا الشيء إلا لضرره، والضار لا ينقلب نافعاً أبداً، حتى لو قيل: إنه اضطر إلى ذلك، فإنه لا ضرورة للدواء إطلاقاً؛ لأنه قد يُتداوى ولا يُشفى، وقد يُشفى بلا تداوي. إذًا لا ضرورة إلى الدواء، لكن لو جاع الإنسان وخاف أن يموت لو لم يأكل، جاز له أن يأكل المَيْتة، وأن يأكل الخنزير لأنه إذا أكل اندفعت ضرورته وزال عنه خطر الموت، وإن لم يأكل مات.
لكن الدواء لا ضرورة إليه كما سبق. اللهم إلا في شيء واحد وهو قطع بعض الأعضاء عند الضرورة، فلو حصل في بعض الأعضاء سرطان مثلاً، وقال الأطباء: إنه لا يمكن وقف انتشار هذا المرض إلا بقطع عضو، ومعلوم أن قطع الأعضاء حرام، لا يجوز للإنسان أن يقطع ولا أُنْمُلة من أنامله، فإذا قالوا: لابد من قطع العضو، كانت هذه ضرورة، إذا تأكدوا أنه إذا قطع انقطع هذا الداء الذي هو السرطان.
أما البنجُ فلا بأس به، لأنه ليس مُسكراً، السكر زوال العقل على وجه اللذة والطرب، والذي يُبنَّج لا يتلذذ ولا يطرب، ولهذا قال العلماء: إن البنج حلالٌ ولا بأس به، وأمّا ما يكون من مواد(17/30)
الكحول في بعض الأدوية، فإن ظهر أثر ذلك الكحول بهذا الدواء بحيث يُسْكَر الإنسانُ منه فهو حرامٌ، وأما إذا لم يظهر الأثر وإنما جعلت فيه مادة الكحول من أجل حفظه، فإن ذلك لا بأس به، لأنه ليس لمادة الكحول أثر فيه.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هناك بعض الناس إذا عضّه كلب أو ثعلب يذهب إلى قبيلة ... ويأخذ من دمهم ويشربه، أو يشتريه بثمن وهو يعلم أن الله تعالى هو الشافي ولكن يقول: إنه لا يوجد غير دم هؤلاء القبيلة يَصْلُح لهذا، حتى إن هناك امرأة سبَّلت دمها لمن أُصيب بمثل هذا، ويقولون: إن بعضهم يقول إن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استضافهم فأكرموه ودعا لهم بأن يكون دمُهم شفاءً، هل هذا صحيح؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا ليس بصحيح، أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استضافهم فأكرموه ودعا لهم.
أما ما ذكرت من أن دمهم يُسْتشفى به فهذا مشهور عند الناس لكن لا يجوز شرعاً، لأن الدم حرام بنص القرآن، قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَْزْلاَمِ ذَالِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِى مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . وقال تعالى: {قُل لاّ? أَجِدُ فِى مَآ أُوْحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاّ? أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ إِلَىَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاّ? أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاّ? أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ
اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ مَّسْفُوحًا(17/31)
أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .
وإذا كان حراماً فإنه لا شفاء فيه، لأن الله لم يجعل شفاء هذه الأمة فيما حرم عليها فلذلك ننهى عن هذا الشيء، ونقول: هذا شيء لا أصل له وقد فتح الله، ولله الحمد الآن أبواباً كثيرة للطب وتنقية الدم. وبإمكانهم أن يذهبوا إلى المستشفيات، وينقوا دمهم من هذا الدم الخبيث، أو من هذه العضة الخبيثة.
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: قلتم في الفتوى السابقة: إنه لا يجوز شرعاً التداوي بالدم، لكنهم يقولون: إنهم مضطرون إلى الذهاب إلى القبيلة وقد قال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . فما تعليق فضيلتكم على ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: قلت سابقاً هذا الشيء محرم، والمحرم لا يجوزُ إلا عند الضرورة.
ولكن ما هي الضرورة؟ الضرورة أن نعلم أن الإنسان إذا فعل هذا الشيء زالت ضرورته. ونعلم كذلك أنه لا يمكن أن تزول ضرورته إلا بهذا الشيء. يعني ليس هناك ضرورة تُبيح المُحرَّم إلا بشرطين: أن نعلم أنه لا تزول ضرورته إلا بهذا الشيء، وأن نعلم أن ضرورته تزول به. ولهذا إذا كان الإنسان يخاف الموت فله أن يأكل مَيْتَة لتوفر الشرطين السابقين، أما هؤلاء فليست هناك ضرورة تدفعهم لفعل هذا الشيء المحرَّم.(17/32)
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هناك بعض الأدوية تساعد على إنبات اللحية بصورة كاملة فهل يجوز استعمالها؟
فأجاب فضيلته بقوله: يريد السائل أنه في بعض الأحيان يكون نبات اللحية متفرقاً على العارضين، وربما يكون على العارضين لحية، والذقن الذي هو مجمع اللحيين ليس فيه شيء، فهل يجوز أن يحاول الإنسان إنبات الشعر الذي لم ينبت؟
الجواب: إذا كان يرجو نباته بنفسه فلا يحاول، لأن هذا ليس بعيب؛ إذ إنَّ كثيراً من الشباب الذين هم في ابتداء نبات لحاهم لا تنبت اللحية مستوية جميعاً فهذا ينتظر.
أما إذا كان عيباً بحيث نعلم ونيأس أنه لن ينبت بنفسه، فلا حرج أن يعالج ذلك حتى يخرج الباقي، لاسيما إن كانت مشوَّهة، أما إذا كانت غير مشوهة، فالأفضل ألا يعالجها بشيء لتنبت نباتاً طبيعياً.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: نحنُ في حاجة إلى الدعوة إلى الله ومع ذلك فإننا قد انشغلنا بعلاج الممسوسين بالجن، هل يجوز تعطيل الدعوة لهذا العمل؟ وكيف يكون علاج الممسوس؟ وهل يُشترط أخذُ مالٍ؟
فأجاب فضيلته بقوله: الدعوة إلى الله عز وجل فرضُ كفاية إذا قام بها من يكفي صارت في حق الا?خرين سُنَّة، فإن تعينتْ على(17/33)
الشخص بحيث لا يقوم غيره مقامه، فإنها مقدمة على القراءة على من به مس من الجن، وذلك لأن مصلحة الدعوة مصلحة متيقنة، ومصلحة القراءة على مَنْ به مس من الجن مصلحة غير متيقنة، وكم من إنسان قُرىء عليه ولم يستفد شيئاً، فيُنْظَر إذا كانت الدعوة مُتَعيَّنة على هذا الرجل، لا يقوم غيره مقامه فيها، فإنه يجب عليه أن يدعو ولو ترك القراءة على من به مس من الجن، أمَّا إذا كانت فرض كفاية، فيُنْظَر إلى الأصلح، وإذا أمكن أن يجمع بينهما، وهو الظاهر أنه يمكن الجمع بينهما، يخصص لهذا يوماً ولهذا يوماً أو أياماً حسب الأهمية، ويحصل منه الإحسان إلى إخوانه الذين أصيبوا بهذه المصيبة، ومع ذلك يستمر في الدعوة إلى الله عز وجل فإن حصل الجمع بينهما ما أمكن فهو الأولى.
أما العلاج الصحيح للممسوس بالجن فإنه يختلف من حال إلى حال لكن أحسن ما يكون أن يقرأ عليه القرآن؛ مثل قوله تعالى: {يامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضِ فَانفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ * فَبِأَىِّءَالا?ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ * فَبِأَىِّءَالا?ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} . لأن هذا تحدّ لهم أنهم لا يستطيعون الفرار من الله عز وجل. وكذلك يقرأُ عليهم المعوذتين، وقل هو الله أحد، وآية الكرسي.
وكذلك يتكلم عليه بالموعظة كما كان يفعل شيخ الإسلام رحمه الله يقول: «هذا حرام عليكم أن تؤذوا المسلمين أو تضربوهم أو ما أشبه ذلك» .(17/34)
أمَّا أخذُ المال، فإذا لم يأخذ مالاً فهو أفضل، وإن أخذ بدون شرط فلا بأس، وإن كان هؤلاء الذين قرأ عليهم قد تركوا ما يجب عليهم للقارىء، وأبى أن يقرأ إلا بعوضٍ فلا بأسَ كما فعل أهلُ السَّرية الذين بعثهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنزلوا على قوم فلم يُضيِّفوهم، فأرسل الله تعالى على سيدهم عقرباً فلدغته، فطلبوا من يقرأ فقالوا: لعل هؤلاء القوم الذين نزلوا بكم يقرءون، فأتوا إليهم فقالوا: لا نقرأ عليه إلا بكذا وكذا بقطيع من الغنم وأجاز هذا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: نريد إيضاح حديث ابن عباس رضي الله عنهما في قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب: «إنهم لا يسترقون ... » الحديث. فهل عموم العلاج يدخل في الحديث؟ وإذا كان لا يدخل فما الفرق بينه وبين الرقية؟ لأن كلاًّ منهما سبب. وكيف نفهم أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعائشة رضي الله عنها وغيرها أن يسترقوا من العين؟ وإذا علمنا رجلاً أصابته عين فهل نأمره بالرقية أم نرشده إلى الصبر(17/35)
والاحتساب؟ أرجو الإفادة وجزاكم الله خيراً.
فأجاب فضيلته بقوله: قوله في حديث السبعين ألفاً: «ولا يسترقون» (أي لا يطلبون الرقية من غيرهم) لكنه عليه الصلاة والسلام أمر بالتداوي وأرشد إليه وقال: «ما أنزل الله داء، إلا أنزل له شفاء» ، «عَلِمه من عَلِمه وجَهِله من جَهِله» ، والفرق بينهما من وجهين:
الوجه الأول: أن تعلُّق الإنسان بالراقي أكثر من تَعَلُّقه بالتداوي؛ لأن الراقي إذا قدّر الله تعالى أن ينتفع المريض برقيته، صارت العلاقة بينه وبين هذا المريض علاقة روحية فربما يُفتتن به ويقول: هذا من أولياء الله وما أشبه ذلك، وقد يحصل معه شيء من الشرك ولهذا جاء بعدها «وعلى ربهم يتوكلون» .
الثاني: أنه قد يطلب الرقية من شخص ليس أهلاً لذلك، لأنه يداوي بشيء حسي يعرف. فيرقى هذا الذي سئل الرقية ثم لا يحصل الشفاء بالرقية لأنها غير شرعية ولكن عند الرقية، فيفتتن الناس أيضاً بهذا الرجل، ويظنونه ممن تجاب دعوته، وممن يتبرك بقراءته وليس كذلك.
فلهذا قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ولا يسترقون» ، ولم يقل: ولا يتداوون، وعلى هذا فالدواء مطلوب، وأما الاسترقاء فإن الأفضل تركه، لكن لو أنَّ أحداً من الناس هو الذي تقدم وقرأ عليك ولم تمنعه فإن هذا لا يمنع من دخول الإنسان في هذا الحديث، لأنك لم تطلب الرقية،(17/36)
وكذلك لو أنك رقيت على أخيك فإنك محسن إليه ولا تخرج بهذه الرقية من صفات هؤلاء السبعين ألفاً، ولهذا نقول: إن ما ورد في «صحيح مسلم» من زيادة وهي قوله: «ولا يرقون» زيادة شاذة ليست بصحيحة، والصواب: «ولا يسترقون» فقط.
أما الرقية من العالم فلأن العالِم معروف، فتطلب منه الرقية، لأنه إذا رقي على الإنسان فإنه ينتفع بذلك بإذن الله عز وجل، كالطبيب الذي يداوي.
أما هل نأمر الذي أصيب بالعين بالرقية أو نأمره بالصبر؟ فنقول له: إن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرشد إلى طريقة الشفاء من العين، حيث أمر الذي عان أحد الصحابة أن يغتسل ويتوضأ، فيؤخذ من مائه فيصبُّ على المصاب حتى يُشفى.
* * *(17/37)
بسم الله الرحمن الرحيم
فائدة من المنتقى من فرائد الفوائد
في الآداب الشرعية ص 103 104 ج3: روى أبو بكر بن أبي شيبة بإسناده عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت لا ترى بأساً أن تعوذ بالماء ثم يصب على المريض.
وفي ص 774 ج 3 من الكتاب المذكور، قال صالح يعني ابن الإمام أحمد بن حنبل رحمهما الله تعالى ربما اعتللت فيأخذ أبي قدحاً فيه ماء فيقرأ عليه، ويقول لي: اشرب منه، واغسل وجهك ويديك. وذكر نصوصاً أخرى.
قلت: وفي سنن أبي داود ص 733 ج 2 أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم دخل على ثابت بن قيس رضي الله عنه وهو مريض فقال: «اكشف الباس، رب الناس» عن ثابت بن قيس بن شماس، ثم أخذ تراباً من بطحان فجعله في قدح، ثم نفث عليه بماء وصبه عليه.(17/38)
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: بسبب ما انتشر الآن من تلبُّس الجني بالإنسي وجلوس بعض الناس وتفرغهم لأجل الرقية وأخذ المكافأة على ذلك ماذا ترون فيه، ويستدلون بحديث الرهط الذين رقوا الرجل بالفاتحة؟
فأجاب فضيلته بقوله: أما من جهة أخذ الأجر على الرقية على المريض فلا بأس بها، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله» ، وهذا القاريء مثل المداوي، بخلاف الذي يأخذ الأجرة على مجرد قراءته، مثل الرجل يقرأ ليتعبد لله بالقراءة، ويأخذ على هذا أجراً، فهذا حرام، ولكن رجل قرأ على غيره لينتفع به أو علَّم غيره القرآن فلا بأس أن يأخذ الأجرة. وأما دعوى أنهم يقرأون على الجن وأن الجن تخاطبهم وما أشبه ذلك فهذا يحتاج إلى إثبات، فإذا ثبت فليس ببعيد، أن الجن يخاطبون الإنسان، ويقولون: إنهم مسلمون، أو إنهم كافرون، لأن بعضهم حسب ما سمعنا من الإخوان الذين يقرأون يقول: إنه مسلم لكنه لا يريد أن يخرج من هذا الإنسي لأنه يحبه، وأحياناً يصرح أنه كافر يهودي أو نصراني أو بوذي أو ما أشبه ذلك، ولكن لا يريد أن يخرج، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله عن شيخه ابن تيمية رحمه الله أنه جيء إليه بمصروع قد صرعه جني، فقرأ عليه الشيخ فلم يخرج فضربه ضرباً شديداً فخاطبه الجني وهو امرأة فقالت: إني أحبه، قال: لكنه لا يحبك. فقالت له: إني أريد أن أحجَّ به، فقال: لكنه لا يريد أن يحج معك، ثم قالت: أخرجُ كرامةً للشيخ، قال الشيخ: لا تخرجي(17/39)
كرامة لي، اخرجي طاعة لله ورسوله. فخرجت فأفاق الرجل فتعجب، ما الذي جاء بي إلى حضرة الشيخ يعني شيخ الإسلام ابن تيمية، وما أحس بالضرب؛ لأن الضرب يقع على المصروع في الظاهر، وفي الباطن على من صرعه.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: بعض المرضى يقول للراقي: لا أعطيك أجرة إلا إذا شفاني الله. فهل يجوز هذا الاشتراط؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم يجوز أن يشترط المريض أو المصاب على القاريء على أنه إن عُوفي من ذلك فله كذا وكذا، وإلا فلا شيء له.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: بعض طلبة العلم يقول: إن الطيب لا يؤثر على الجروح، لأن هناك دراسة أثبتت أن الطيب ليس له أثر على ألم الجرح أو انتفاخه، ولكن من اعتقد أن الطيب يضر فإنه يوكل إلى ما اعتقد، فهل هذا صحيح جزاك الله خيراً؟
فأجاب فضيلته بقوله: نحن نقول في هذا الأمر قاعدة مفيدة وهي: أن الشيء لا يثبت حكمه إلا عن طريق الوحي، أو عن طريق التجارب، ففي قوله تعالى عن النحل: {يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ(17/40)
مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} . علمنا بأن فيه شفاء عن طريق الوحي، وكذلك قول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحبة السوداء إنها «شفاء من كل داء إلا الموت» ، عرفنا ذلك عن طريق الوحي.
والطريق الثاني التجارب، وهذا يكون معلوماً بالحس، والمعلوم عند الناس بالتجارب أن الجرح قد يتأثر بنوع من الطيب ليس بكل الأطياب، وهذا الشيء عندهم مجرب متعارف، وأنه بمجرد ما يحصل هذا الطيب عند المريض بالجروح، تتفطر الجروح وتتورم، كما لو علمنا مثلاً أن تناول هذه الأعشاب مسهل للبطن أو موجب للحرارة بالتجارب، فكل الأدوية الا?ن الموجودة عند الناس المصنوعة التي لم ينزل فيها وحي كلها علمت بالتجارب، فالذي أعرف أن الجروح تتأثر ببعض الأطياب، والدليل على هذا أنهم يحتاطون، فيشرب الإنسان شيئاً من المر أو يضعه في أنفه، حتى لا تدخل الرائحة إلى مسام البدن، فما علمنا أنه سبب حسي فإنه لا بأس أن نعتمده سبباً، وليس هذا من الشرك، أما الذي يكون بمجرد الأوهام فهذا لا أثر له ولا يجوز.
* * *(17/41)
رسالة
فضيلة الشيخ الوالد العلامة محمد بن صالح العثيمين سلمه لله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. نرجو منكم الإجابة على هذا السؤال وهو:
ما حكم الحاوي؟ علماً أن الحاوي له صفات منها:
1 أن الحاوي رجل وضِعَ له في صغره مع حليب ثدي أمه العقربُ الميتُ، أو يوضع العقرب الميت فوق الثدي فقط، ويقولون: إنه بذلك يكتسب الطفل مناعة ضد العقرب والثعبان والدود.
2 أن الحاوي لا تلدغه العقرب ولا الثعبان ولا الدود، ولا تُأثِّر فيه بشيء.
3 أن الحاوي إذا تفل على اللديغ يشفى من السم بريق الحاوي فقط.
4 أن الحاوي إذا تبوَّل، أو تفل على العقرب، أو الثعبان يموت العقرب أوالثعبان مباشرة، ولكن بعد ذلك تُسْلَبُ من الحاوي الخاصِّية التي فيه فيصبح مثله مثل باقي الناس ولذلك الحاوي لا يتفل على العقرب ولا على الثعبان كما إنه لا يقتل الثعبان ولا العقرب.
5 أن الحاوي إذا كان في مجلس وفيه عقرب أو حية فإنه(17/43)
يرسم في الأرض دائرة حول العقرب أو الحية فلا تستطيع أن تخرج منها حتى تموت داخله.
6 أن الرجل الكبير إذا أراد أن يصبح حاوياً يجب أن يذهب إلى حاوي لكي يحويه.
7 بعضهم يقول ذِكْراً فيه مخاطبة للدود. وبعضهم والده هو الذي يقول الذِّكْرَ لابنه عندما يضع له العقرب الميت عندما يكون صغيراً.
ولقد ذكرتُ لفضيلتكم صورة كاملةً بحسب ما أخبرني به ممن يعرفون الحاوي فنرجو منكم الإجابة قطعاً للنزاع ورفعاً للإشكال والله يرعاكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فأجاب فضيلته بقوله: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، هذه الكلمات غير صحيحة ولا يجوز اعتبارها ولا تبادلها بل يجب إتلافها.
كتبه محمد الصالح العثيمين في 32/3/7141هـ.
* * *(17/44)
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد الصالح العثيمين إلى الأخ المكرم الدكتور ... وزميليه حفظهم الله تعالى.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كتابكم وصل، وما تضمنه من الأسئلة، فهذا جوابها:
جواب السؤال الأول: لا نرى نقل عضو آدمي محترم إلى آدمي آخر سواء كان ذلك في حياة الأول أم بعد وفاته وذلك:
أأن جسم الإنسان أمانة عنده يجب عليه حفظه وحمايته من التلف والضرر لقوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُو?اْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} . وقوله: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُو?اْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} . ومن المعلوم أن قطع عضو من أعضائه إتلاف لذلك العضو يترتب عليه فقدان منفعته في الجسم، وربما يُعْطبُ العضو الباقي فيفقد جنس هذه المنفعة كلية، وربما يتعلق بالعضوين وظائف دينية لا تقوم أو لا تكمل إلا بوجودهما جميعاً، فتتعطل تلك الوظيفة بفقد أحدهما، أو تنقص، وهذا ضرر على المرء. وهذه الحكمة ظاهرة جداً فيما إذا كان الأول حيًّا.
أما إذا كان ميتاً فإن حُرْمَة الميت كحرمته حيًّا لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «(17/45)
كسر عظم الميت ككسره حيًّا» قال الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام: رواه أبو داود بإسناد على شرط مسلم؛ ولأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بتغسل الميت وتكفينه والصلاة عليه ودفنه، ولو أجزنا أخذ أعضائه لكان المُغسل، والمُكفن، والمُصلى عليه، والمدفون بعض الميت؛ ولأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن التمثيل بقتلى الكفار الحربيين مع ما في المثلة من مصلحة إغاظة الكفار التي جعلها الله تعالى من الأعمال الصالحة في قوله: {وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} .
ب أن تركيب العضو في الثاني قد ينجح، وقد لا ينجح، فكم من جسم رفض العضو الجديد لغرابته عليه أو غير ذلك من الأسباب، إذن فمفسدة قطع العضو للتركيب محققة، ومصلحة تركيبه غير محققة، ومن المعلوم شرعاً وعقلاً أنه يمتنع ارتكاب مفسدة معلومة، لمصلحة موهومة، ولذلك لو اضطر الحي لأكل الميت جاز ذلك على خلاف فيه، وذلك لتحقق المصلحة من أكله فإن خوف الموت بالجوع يزول بالأكل كما هو معلوم.
وأما القول بأن حياة الثاني مهددة إذا لم نركب له فجوابه من(17/46)
وجهين:
أحدهما: أن نقول إن ذلك ليس من فعلنا فلسنا الذين فعلنا به ما يهدد حياته، وأما نقل العضو من الأول فهو بفعلنا نحن الذين أتلفنا هذا العضو عليه.
الثاني: أن نقول إنه لا يلزم من تركيبنا العضو فيه أن يرتفع عنه الخطر فقد لا تنجح العملية.
جواب السؤال الثاني: لا نرى بأساً في التلقيح الصناعي على الوجه المشروح في السؤال بأن تخرج بويضة الزوجة فتلقح بمني زوجها في المختبر، ثم تعاد إلى رحم الزوجة؛ لأن هذا مصلحة لا محذور فيها من وجهة الشرع. لكن بشرط أن يكون الزوج حيًّا، لأنه بعد وفاته لا يكون زوجاً، ولذلك تحل زوجته لغيره. وعلى هذا يجب إبطال مشروع بنك الحيوانات المنوية وقتله في مهده لما يخشى به من فوضى اجتماعية لا يعلم مدى مفاسدها إلا الله تعالى.
جواب السؤال الثالث: تشريح جثث الموتى المحترمين حرام لما ذكرناه في الجواب رقم 1، لكن إذا دعت الحاجة لذلك جاز، مثل أن يكون التشريح لمعرفة سبب الوفاة إن كان هناك شك في سببها ونحو ذلك.
جواب السؤال الرابع: استخدام المخدرات للحاجة في ظاهر الجسم كالتخدير للعملية الجراحية، أو تخفيف ألم الجرح لا بأس به لما فيه من المصلحة بدون ضرر.
وخلط الكحول بالأدوية إن كان الخلط يسيراً بحيث لا يظهر أثر لهذه الكحول فهو جائز، وإن كانت كثيرة بحيث يظهر لها أثر فهو(17/47)
حرام إذا كانت تستعمل في أكل أو شرب.
جواب السؤال الخامس: كلما كثر الأولاد فهو أحبُّ إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأعز للأمة ولهذا امتنَّ الله بالكثرة على بني إسرائيل فقال: {وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} . وقال شعيب لقومه: {وَاذْكُرُو?اْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} ولا ينبغي للإنسان أن يحاول تقليل نسله فإن النسل نعمة، وقد يكونون صالحين فينفعونه بالدعاء له بعد موته، وإن كانوا سوى ذلك لم يضروه.
ولكن إذا دعت الحاجة إلى تأجيل الحمل حتى تنشط الأم ونحو ذلك فلا بأس به؛ لأن الصحابة كانوا يعزلون في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولا بأس بأكل حبوب منع العادة في الحج، وكذلك في الصوم لكن الأولى في الصيام تركها؛ لأن المرأة ستقضي الصوم.
جواب السؤال السادس: كشف عورة الرجل للمرأة، والمرأة للرجل عند الحاجة لذلك حال العلاج لا بأس به، بشرط أن تؤمن الفتنة، وأن لا يكون هناك خلوة.
والطبيبة النصرانية المأمونة أولى في علاج المرأة من الرجل المسلم؛ لأنها من جنسها بخلاف الرجل.
جواب السؤال السابع: إجراء عملية للتجميل حرام، لأنها كالوشم الملعون فاعله والنمص الملعون فاعله، وإذا كان اللعن(17/48)
وارداً في الوشر وهو في الأسنان، وفي النمص وهو في الشعور، ففي الأجزاء الأخرى كالأنف ونحوه من باب أولى، والعلم عند الله تعالى.
وأما إجراءالعملية لإصلاح عيب حادث، أو أصلي كالإصبع الزائدة فلا بأس به؛ لأن عرفجة بن أسعد قطع أنفه فأذن له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يتخذ أنفاً من ذهب.
جواب السؤال الثامن: بنك لبن الأمهات جائز بشرط أن تقيد أسماء المتبرعات به، ويمكن ضبط توزيعه على الأطفال، وعدد الرضعات وإلا فلا يجوز لما فيه من الفوضى.
جواب السؤال التاسع: إذا كان يمكن تعيين ممرضات مسلمات فلا ينبغي العدول إلى غير المسلمات، لقوله تعالى: {وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَائِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُو?اْ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} ، أما إذا لم يمكن تعيين مسلمات ودعت الحاجة إلى تعيين غيرهن وأمنت الفتنة فلا بأس.
* جواب الأسئلة المختلفة:
ج 1: صفة الهرولة ثابتة لله تعالى كما في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي» فذكر الحديث وفيه: «وإن أتاني يمشي أتيته هرولة» وهذه الهرولة صفة من صفات أفعاله التي يجب علينا الإيمان بها من غير تكييف ولا تمثيل؛(17/49)
لأنه أخبر بها عن نفسه وهو أعلم بنفسه، فوجب علينا قبولها بدون تكييف؛ لأن التكييف قول على الله بغير علم وهو حرام، وبدون تمثيل؛ لأن الله يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .
ج 2: الجمع بين الظهر والعصر، أو بين المغرب والعشاء في الحضر جائز إذا كان في تركه مشقة، أو تفويت جماعة، مثال الأول: المرض، ومثال الثاني: الجمع حال المطر لجماعة المسجد، فإنَّ بإمكان كل واحد أن يصلي وحده في بيته في الوقت لكن لما كان ذلك تفوت به الجماعة أباح الشرع الجمع كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء في المدينة من غير خوف ولا مطر.
ج 3: لا أعرف ما هي ربطة العنق.
هذا ما لزم والله يحفظكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
22/5/1404 هـ.
* * *(17/50)
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: إذا كان الأنف كبيراً وضخماً هل يجوز إجراء عملية لتجميله بحيث يصبح مناسباً للوجه؟
فأجاب فضيلته بقوله: القاعدة في هذه الأمور أن العملية لإزالة العيب جائزة، والعملية للتجميل غير جائزة، ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعن المتفلجات في أسنانهن من أجل تجميل السن، ولكنه أذِنَ لأحد الصحابة رضي الله عنه لما أصيبت أنفه وقطع أن يتخذ أنفاً من ذهب، فالقاعدة: أن ما كان لإزالة عيب فهو جائز، وما كان لزيادة التجميل فهو ليس بجائز.
فمثلاً: لو كان الأنف أعوج وأجرى عملية لتعديله فلا بأس؛ لأن هذا إزالة عيب، أو كانت العين حولاء فأجرى عملية لتعديلها فلا بأس لأنه إزالة عيب.
هذا الأنف إذا كان كبره يعتبر عيباً فهذا عيب ولا بأس بإجراء عملية، أما إذا كان فيه كبر وتصغيره يكون أجمل فإن هذا يعتبر تجميلاً فهو كالتفلّج، والتفلج لا يجوز.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: إذا رغب إنسان في التبرع لمريض بإحدى كليتيه وطلب من ذوي المريض مقابل ذلك تأمين بعض الأشياء مثل تأمين سيارة معينة ليمتلكها بحجة أنه أصبح في وضع غير الذي كان عليه(17/51)
فهل يقبل منه ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذه المسألة صدر فيها فتوى من هيئة كبار العلماء بأنها جائزة، أما أنا فلا أرى الجواز، وذلك لأن أعضاء الإنسان عنده أمانة وقد نص فقهاء الحنابلة رحمهم الله أنه لا يجوز التبرع بعضو من الأعضاء ولو أوصى به الميت من بعد موته، وإن كان بعض الأعضاء قد يكون النجاح فيها (09) أو أكثر من ذلك لكن المفسدة في نزعها من الأول محققة حتى في الكلى، قد يقوم البدن على كلية واحدة، لكن لا شك أن قيامه على واحدة ليس كقيامه على ثنتين؛ لأن الله لم يخلق شيئاً عبثاً. ثم هذه الواحدة لو فسدت هلك الإنسان، ولو كانت الكلية المنزوعة موجودة فيه وفسدت الباقية لم يهلك.
فلهذا أنا أرى عدم الجواز بخلاف نقل الدم، لأن نقل الدم يخلفه دم آخر ولا يتضرر به المنقول منه ولا يفقد به عضو.
ومع ذلك فإني أرى أن مَنْ أخذَ بقول الجماعة فلا حرج عليه؛ لأن المسألة مسألة اجتهاد، ومسائل الاجتهاد لا إلزام فيها، لكن نظراً لأنه لا يحل لي كتمان العلم الذي أعلمه من شريعة الله بينته هنا، وإلا لكان يسعني أن أقول قد صدر بها فتوى فمن أرادها فليرجع إليها، لكن نظراً إلى أن العلم أمانة، وأن الإنسان لا يدري ما يواجه به الله عز وجل فإنه لابد أن أبين ما عندي، وأسأل الله تعالى أن يهدينا وإياكم لما اختلف فيه من الحق بإذنه.
وأنقل لكم كلام الفقهاء السابقين كما في الإقناع (وهو كتاب مشهور عند فقهاء الحنابلة) ، قالوا: لا يجوز أبداً أن ينقل عضو من(17/52)
شخص ولو أوصى به بعد موته، لو قال: إذا مت فأعطوا فلان كليتي أو يدي أو ما أشبه ذلك.
* * *
سُئِلَ فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: بعض أطباء العيون يقولون: إن الكحل يضر بالعين وينصحون بعدم استعماله فماذا تقولون لهم؟
فأجاب فضيلته بقوله: الإثمد معروف أنه جيد ونافع للعين، وغيره من أنواع الكحل لا أعرف عنه شيئاً، والأطباء الأمناء هم مرجعنا في هذه المسألة.
ويقال: إن زرقاء اليمامة التي تبصر من ثلاثة أيام لما قتلت رأوا أن عروق عينها كلها متأثرة بهذا الإثمد. والآن ظهرت أنواع من الكحل مثل: الأقلام، يكتحل بها النساء لا ندري من أي شيء ركب وقد يكون من شحم خنزير، أو من بلاء أشد. فهذه المسألة أرى أنها مهمة ولابد أن يكتب فيها تحقيق مفيد.
* * *(17/53)
رسالة
سماحة شيخنا الشيخ محمد الصالح العثيمين حفظه الله
أحسن الله إليكم
انتشر بين بعض الناس ظاهرة التداوي بلحوم وشحوم ودماء السباع وخاصة الذئب، فنرجو من سماحتكم توضيح الحكم في ذلك والله يحفظكم.
بسم الله الرحمن الرحيم، يَحْرُم على الإنسان أن يتداوى بالحرام؛ لأن الله تعالى لم يجعل الشفاء فيما حرَّم على عباده، ولو كان في الحرام فائدة ما حرمه عليهم، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تداووا ولا تداووا بحرام» وقال ابن مسعود رضي الله عنه: إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم، فلا يحل أكل لحوم الذئاب والسباع، أو شحومها، أو شرب دمائها للتداوي، فمن فعل ذلك فقد عصى الله ورسوله، وإذا قدر أنه شفي بتناولها فهو فتنة له، والشفاء ليس منها قطعاً فليتق الله امرىء آمن به وخاف يوم الحساب، أسأل الله أن يعصمنا وإخواننا من غضبه وعقابه.
كتبه محمد الصالح العثيمين في 31/8/6141هـ.(17/55)
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: يقوم بعض الأطباء بعمليات جراحية للنساء تتمثل في أشياء كثيرة في الجسم منها:
1 شد الوجه، ورفع الحاجب جراحياً، أو بالمنظار.
2 تصغير وتكبير الشفاه.
3 تجميل الصدر «رفع، تكبير، تصغير» .
والسؤال: هل يجوز للنساء الذهاب لهؤلاء الأطباء بغير ضرورة؟ وهل يجوز فعل هذه الأمور؟ وهل يُعد تصغير وتكبير الشفاه ورفع الحاجب من تغيير خلق الله؟ وهل يجوز الدعاية لمثل هؤلاء الأطباء؟ نرجو منكم الإجابة وفقكم الله.
فأجاب فضيلته بقوله: التجميل المذكور أعلاه محرم لما فيه من تغيير خلق الله تعالى، وهو يشبه النمص، والوشم، ووشر الأسنان لتفليجها، وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أنه لعن الواشمات والمستوشمات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات لخلق الله، وقال: ما لي لا ألعن من لعنه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فليحذر الطبيب أن يقوم بمثل هذا التجميل من شد الوجه ورفع الحاجب، وتصغير الشفاه وتكبيرها، ورفع الصدر، وتكبيره وتصغيره، وليتق الله ربه، وليعدل إلى ممارسة العمليات الحلال فقليل من حلال، خير من كثير حرام.(17/56)
ولا تجوز الدعاية لمثل هذا العمل؛ لأنه من باب التعاون على الإثم والعدوان، وقد نهى الله تعالى عن ذلك.
ويحرم على النساء أن يقمن بمثل هذه العمليات، وعليهن أن يتقين الله تعالى في أنفسهن وفي بنات جنسهن.
ولا يحل لأولياء النساء من آبائهن وأزواجهن وغيرهم ممن له ولاية عليهن أن يمكنوهن من هذا العمل، قال الله تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ قُو?اْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} . أسأل الله تعالى أن يصلح أحوال المسلمين وأن يحميهم من أسباب سخطه وعقابه إنه جواد كريم. 28/7/1420 هـ.
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: إذا مرض المريض يُذهب به إلى بعض الناس المعروفين، بما يسميه العوام (أنه يجمع الجن ويفرقهم) ويقولون عن بعضهم إنه «سيد» فيقوم هذا الرجل بكتابة أوراق في بعضها آيات قرآنية، وأحياناً تكون هذه الآيات مكتوبة بالمقلوب، ويعطيها للمريض، ويقول له: لا تفتحها وضعها في مكان معين، أو أنه يكتب له في صينية من الفخار كتابات ونقوش غير معروفة، ثم يقول له: اغسلها بالماء حتى يذوب الحبر في الماء ثم اشربها. فهل الذهاب إلى مثل هذا يجوز؟ علماً بأن(17/57)
بعض هؤلاء يسمون شيوخاً؟
فأجاب فضيلته بقوله: يحرم الذهاب إلى مثل هؤلاء لطلب ما يكتبون مما لا يُعرف؛ لأننا لا ندري ما الذي كُتب، ولاسيما إذا كانوا يكتبون القرآن مقلوباً فإن هذا يدل على أنهم يُطيعون جنًّا يُسخرونهم لأن يكتبوا كتاب الله جلا وعلا على وجه مقلوب، وإذا كان العلماء رحمهم الله اختلفوا هل تجوز كتابة القرآن بغير الرسم العثماني فكيف بمن يكتبه مقلوباً؟!
وإني أنصح أولئك القوم الذين يسمون (الشيوخ) والذين يموِّهون على العباد بمثل هذا، أنصحهم من هذه الطريق المنحرفة وأقول: يا أيها الناس توبوا إلى ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تُنصرون، ارجعوا إلى الكتاب والسنة، وإذا كان فيكم خير لعباد الله فليكن عن طريق شرعي لا عن الطريق المحرم.
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: انتشر في بعض القرى ما يسمى (برقية العقرب) ، وذلك كالا?تي: يأتي الراقي بزيت مع سكر ويخلطهما، ثم ينفخ فيه: بسم الله، آمنت بالله عن الأفاعي والرفاعي، ثم يقول الراقي لطالب الرقية: احفظ ما أقول: بسم الله، آمنت بالله عن الأفاعي والرفاعي. حتى يحفظها. ثم يقول الراقي بعد ذلك لطالب الرقية: العق من السكر المخلوط بالزيت قدر ما تشاء، ولا تخبر أحداً، ولا تقتل عقرباً إذا رأيتها، وحينئذ إذا لدغته(17/58)
العقرب لا تضره، وثمن هذه الرقية ريال واحد. أفيدونا عن حكم ذلك نفع الله بكم الإسلام والمسلمين.
فأجاب فضيلته بقوله: هذه الرقية للنجاة من لدغة العقرب رقية بدعية لا أساس لها من أثر أو نظر، فهي نوع من الشرك؛ لأنه سبب غير شرعي، ولا حسي، بل وهمي، ثم إن فيها محادة للسنة وهي الامتناع من قتل العقرب، مع أن قتل العقرب مأمور به وإن كان الإنسان يصلي، وإن كان في مكة، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خمسٌ من الدواب كلهن فواسق، يقتلن في الحل والحرم: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور» . وأخرج الخمسة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بقتل الأسودين في الصلاة: العقرب والحية. حرر في 16/2/1419 هـ.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: يوجد بعض الأشخاص يكتبون للمرضى بعض الكتابات التي لا يقرأ إلا اليسير منها، وقد لا يُقرأ شيء منها أحياناً ويسمون هذه الكتابة «(17/59)
المحو» ويَدَّعُون أن الذي كتبها يعرف قراءتها.. ويقول للمريض: ضعها في ماء واشرب الماء، أو يقول: ضعها على ضرسك، أو تحت الوسادة ونحو ذلك. فضيلة الشيخ: ما حكم هذاالعمل؟ وما حكم الذهاب لهم؟ وهل هذا ورد في الكتاب والسنة؟ وما هو البديل وجزاكم الله خيراً؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا تستعمل الرقى أو الكتابات التي لا تقرأ ولا يعرف ما فيها.
والبديل عن ذلك أن يقرأ القاريء على نفس المريض كما جاءت به السنة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والا?ثار عن الصحابة رضي الله عنهم وذكر عن بعض السلف الصالح أنه كان يكتب آيات من القرآن في إناء بالزعفران فيخضخض بالماء ويشربه المريض، فلو فعل ذلك فلا بأس إن شاءالله تعالى. 91/11/5141هـ.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: واجهتني في حياتي عدة مشاكل جعلتني أكره الحياة فكنت كلما أتضجر أتوجه إلى الله بأن يأخذ عمري في أقرب وقت وهذه هي أمنيتي حتى الا?ن لأنني لم أر حلاً لمشاكلي سوى الموت هو وحده الذي يخلصني من هذا العذاب فهل هذا حرام عليّ؟(17/60)
فأجاب فضيلته بقوله: إن تمني الإنسان الموت لضر نزل به، وقوع في ما نهى عنه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث قال: «لا يتمنَّينَّ أحدكم الموت من ضرٍّ أصابه، فإن كان لابدَّ فاعلاً فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفَّني إذا كانت الوفاة خيراً لي» فلا يحل لأحد نزل به ضر، أو ضائقة، أو مشكلة، أن يتمنى الموت، بل عليه أن يصبر ويحتسب الأجر عند الله تعالى وينتظر الفرج منه لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً» . وليعلم المصاب بأي مصيبة، أن هذه المصائب كفارات لما حصل منه من الذنوب، فإنه لا يُصيب المرء المؤمن هم ولا غم ولا أذى إلا كفَّر الله عنه به، حتى الشوكة يُشاكها. ومع الصبر والاحتساب ينال منزلة الصابرين، تلك المنزلة العالية التي قال الله تعالى في أهلها: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَْمَوَالِ وَالأَْنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُو?اْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعونَ} ، وكون هذه المرأة لا ترى حلاً لمشاكلها إلا الموت، أرى أن ذلك نظر خاطىء، فإن الموت لا تنحل به المشاكل، بل ربما تزداد به المصائب، فكم من إنسان مات، وهو مصاب بالمشاكل والأذى، ولكنه كان مسرفاً على نفسه، لم يستعتب من ذنبه، ولم يتُب إلى الله عز وجل، فكان في موته إسراع لعقوبته، ولو أنه بقي على الحياة ووفقه الله تعالى للتوبة(17/61)
والاستغفار، والصبر وتحمل المشاق وانتظار الفرج لكان في ذلك خير كثير له.
فعليك أيتها السائلة أن تصبري وتحتسبي وتنتظري الفرج من الله عز وجل فإن الله تعالى يقول في كتابه: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} } والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول فيما صح عنه: «واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً» .
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم تمني الموت؟
فأجاب فضيلته بقوله: نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يتمنى الإنسان الموت لضر نزل به، وقال: «إن كان لابد فاعلاً فليقل: اللهم أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني ما علمت الوفاة خيراً لي» ، ولا يرد على هذا قول مريم رضي الله عنها: {فَأَجَآءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يالَيْتَنِى مِتُّ قَبْلَ هَاذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً} فإن هذا ليس تمنياً للموت، ولكنها تمنت أن تكون ماتت قبل هذه القضية التي حصلت عليها.
وكذلك قول يوسف عليه الصلاة والسلام: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِى مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الأَْحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضِ أَنتَ وَلِىِّ فِى(17/62)
الدُّنُيَا وَالأَْخِرَةِ تَوَفَّنِى مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ الدُّنُيَا وَالأَْخِرَةِ تَوَفَّنِى مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ} . ليس معناه أنه يسأل الله الموت، ولكنه يسأل الله أن يموت على هذه الحال؛ أي أن يموت مسلماً فلا يكون هذا معارضاً لنهي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن تمني الموت.
سُئِلَ فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: عن حكم الرقية؟ وعن حكم كتابة الآيات وتعليقها في عنق المريض؟
فأجاب فضيلته بقوله: الرقية على المريض المصاب بسحر أو غيره من الأمراض لا بأس بها إن كانت من القرآن الكريم، أو من الأدعية المباحة فقد ثبت عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه كان يرقي أصحابه، ومن جملة ما يرقاهم به: «ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض، كما رحمتك في السماء فاجعل رحمتك في الأرض، أنزل رحمة من رحمتك، وشفاء من شفائك على هذا الوجع» فيبرأ. ومن الأدعية المشروعة: «بسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس، أو عين حاسد، الله يشفيك، بسم الله أرقيك» ، ومنها أن يضع الإنسان يده على الموضع الذي يؤلمه من بدنه فيقول: «أعوذ بالله وعزته من شر ما أجد وأحاذر» ، إلى غير ذلك مما ذكره أهل العلم من الأحاديث الواردة عن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(17/63)
وأما كتابة الآيات والأذكار وتعليقها فقد اختلف أهل العلم في ذلك: فمنهم من أجازه، ومنهم من منعه، والأقرب المنع من ذلك، لأن هذا لم يرد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنما الوارد أن يقرأ على المريض، أما أن تُعلق الآيات أو الأدعية على المريض في عنقه أو في يده، أو تحت وسادته وما أشبه ذلك، فإن ذلك من الأمور الممنوعة على القول الراجح لعدم ورودها.
وكل إنسان يجعل من الأمور سبباً لأمر آخر بغير إذن من الشرع، فإن عمله هذا يعد نوعاً من الشرك؛ لأنه إثبات سبب لم يجعله الله سبباً.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل الرقية تنافي التوكل؟
فأجاب فضيلته بقوله: التوكل هو صدق الاعتماد على الله عز وجل في جلب المنافع ودفع المضار مع فعل الأسباب التي أمر الله بها، وليس التوكل أن تعتمد على الله بدون فعل الأسباب، فإن الاعتماد على الله بدون فعل الأسباب طعن في الله عز وجل وفي حكمته تبارك وتعالى لأن الله تعالى ربط المسببات بأسبابها، وهنا سؤال: مَنْ أعظم الناس توكلاً على الله؟
الجواب: هو الرسول، عليه الصلاة والسلام.(17/64)
وهل كان يعمل الأسباب التي يتقي بها الضرر؟
الجواب: نعم، كان إذا خرج إلى الحرب يلبس الدروع ليتوقى السهام، وفي غزوة أحد ظاهر بين درعين، أي لبس درعين كل ذلك استعداداً لما قد يحدث. ففِعْل الأسباب لا ينافي التوكل، إذا اعتقد الإنسان أن هذه الأسباب مجرد أسباب فقط لا تأثير لها إلا بإذن الله تعالى وعلى هذا فالقراءة قراءة الإنسان على نفسه، وقراءته على إخوانه المرضى لا تنافي التوكل، وقد ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يرقي نفسه بالمعوذات، وثبت أنه كان يقرأ على أصحابه إذا مرضوا، والله أعلم.
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: عن حكم تعليق التمائم والحجب؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذه المسألة أعني تعليق الحجب والتمائم تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أن يكون المُعلّق من القرآن وقد اختلف في ذلك أهل العلم سلفاً وخلفاً.
فمنهم من أجاز ذلك ورأى أنه داخل في قوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا} ، وقوله تعالى: {كِتَابٌ(17/65)
أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُو?اْءَايَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الأَْلْبَابِ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُو?اْءَايَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الأَْلْبَابِ} ، وأن من بركته أن يعلق ليدفع به السوء.
ومنهم من منع ذلك وقال: إن تعليقها لم يثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه سبب شرعي يدفع به السوء أو يُرفع به، والأصل في مثل هذه الأشياء التوقيف، وهذا القول هو الراجح وأنه لا يجوز تعليق التمائم ولو من القرآن الكريم، ولا يجوز أيضاً أن تجعل تحت وسادة المريض، أو تعلق في الجدار وما أشبه ذلك، وإنما يدعى للمريض ويقرأ عليه مباشرة كما كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعل.
القسم الثاني: أن يكون المعلق من غير القرآن الكريم مما لا يفهم معناه فإنه لا يجوز بكل حال؛ لأنه لا يدرى ماذا يكتب فإن بعض الناس يكتبون طلاسم وأشياء معقدة، حروف متداخلة ما تكاد تعرفها ولا تقرأها فهذا من البدع وهو محرم ولا يجوز بكل حال. والله أعلم.
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: عن حكم النفث في الماء؟
فأجاب فضيلته بقوله: النفث في الماء على قسمين:
القسم الأول: أن يراد بهذا النفث التبرُّك بريق النافث فهذا لا شك أنه حرام ونوع من الشرك، لأن ريق الإنسان ليس سبباً للبركة والشفاء ولا أحد يُتبرَّك بآثاره إلا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أما غيره فلا يتبرك بآثاره فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتبرك بآثاره في حياته وكذلك بعد مماته إذا بقيت(17/66)
تلك الا?ثار كما كان عند أم سلمة رضي الله عنها جلجل من فضة فيه شعرات من شعر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يستشفي بها المرضى فإذا جاء مريض صبَّت على هذه الشعرات ماء ثم حركته ثم أعطته الماء، لكن غير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يجوز لأحد أن يتبرك بريقه، أو بعرقه، أو بثوبه، أو بغير ذلك، بل هذا حرام ونوع من الشرك، فإذا كان النفث في الماء من أجل التبرك بريق النافث فإنه حرام ونوع من الشرك وذلك لأن كل من أثبت لشيء سبباً غير شرعي ولا حسي فإنه قد أتى نوعاً من الشرك، لأنه جعل نفسه مسبباً مع الله، وثبوت الأسباب لمسبباتها إنما يتلقى من قبل الشرع فلذلك كل من تمسك بسبب لم يجعله الله سبباً؛ لا حسًّا ولا شرعاً، فإنه قد أتى نوعاً من الشرك.
القسم الثاني: أن ينفث الإنسان بريق تلا فيه القرآن الكريم مثل أن يقرأ الفاتحة والفاتحة رقية وهي من أعظم ما يرقى به المريض فيقرأ الفاتحة وينفث في الماء فإن هذا لا بأس به وقد فعله بعض السلف وهو مجرب ونافع بإذن الله وقد كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينفث في يديه عند نومه ب {قل هو الله أحد} ، و {قل أعوذ برب الفلق} ، و {قل أعوذ برب الناس} فيمسح بهما وجهه وما استطاع من جسده صلوات الله وسلامه عليه، والله الموفق.
س 32 سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: جاء في(17/67)
الفتوى السابقة أن التبرُّك بريق أحد غير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حرام ونوع من الشرك باستثناء الرقية بالقرآن وحيث إن هذا يشكل مع ما جاء في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول في الرقية: «بسم الله، تربة أرضنا بريقة بعضنا يُشفى سقيمنا بإذن ربنا» . فنرجو من فضيلتكم التكرم بالتوضيح.
فأجاب فضيلته بقوله: ذكر بعض العلماء أن هذا مخصوص برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبأرض المدينة فقط وعلى هذا فلا إشكال.
ولكن رأي الجمهور أن هذا ليس خاصًّا برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا بأرض المدينة، بل هو عام في كل راق، وفي كل أرض، ولكنه ليس من باب التبرك بالريق المجردة، بل هو ريق مصحوب برقية وتربة للاستشفاء وليس لمجرد التبرك. وجوابنا في الفتوى السابقة هو التبرك المحض بالريق وعليه فلا إشكال لاختلاف الصورتين.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل تجوز كتابة بعض آيات القرآن الكريم «مثل آية الكرسي» على أواني الطعام والشراب لغرض التداوي بها؟
فأجاب فضيلته بقوله: يجب أن نعلم أن كتاب الله عز وجل أعز وأجل من أن يمتهن إلى هذا الحد ويبتذل إلى هذا الحد،(17/68)
كيف تطيب نفس مؤمن أن يجعل كتاب الله عز وجل وأعظم آية في كتاب الله وهي آية الكرسي أن يجعلها في إناء يشرب فيه ويمتهن ويرمى في البيت ويلعب به الصبيان؟! هذا العمل لا شك أنه حرام، وأنه يجب على من عنده شيء من هذه الأواني أن يطمس هذه الآيات التي فيها، بأن يذهب بها إلى الصانع فيطمسها، فإن لم يتمكن من ذلك فالواجب عليه أن يحفر لها في مكان طاهر ويدفنها، وأما أن يبقيها مبتذلة ممتهنة يشرب بها الصبيان ويلعبون بها، فإن الاستشفاء بالقرآن على هذا الوجه لم يرد عن السلف الصالح رضي الله عنهم.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: عن حكم لبس السوار لعلاج الروماتيزم؟
فأجاب فضيلته بقوله: اعلم أن الدواء سبب للشفاء، والمسبب هو الله تعالى، فلا سبب إلا ما جعله الله تعالى سبباً والأسباب التي جعلها الله تعالى أسباباً نوعان:
النوع الأول: أسباب شرعية كالقرآن الكريم والدعاء كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سورة الفاتحة: «وما يدريك أنها رقية» ، وكما كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرقي المرضى بالدعاء لهم فيشفي الله تعالى بدعائه من أراد شفاءه به.
النوع الثاني: أسباب حسية كالأدوية المادية المعلومة عن طريق الشرع كالعسل، أو عن طريق التجارب مثل كثير من الأدوية(17/69)
وهذا النوع لابد أن يكون تأثيره عن طريق المباشرة لا عن طريق الوهم والخيال، فإذا ثبت تأثيره بطريق مباشر محسوس صحَّ أن يتخذ دواء يحصل به الشفاء بإذن الله تعالى، أما إذا كان مجرد أوهام وخيالات يتوهمها المريض فتحصل له الراحة النفسية بناء على ذلك الوهم والخيال ويهون عليه المرض وربما ينبسط السرور النفسي على المرض فيزول، فهذا لا يجوز الاعتماد عليه ولا إثبات كونه دواء؛ لئلا ينساب الإنسان وراء الأوهام والخيالات، ولهذا نُهي عن لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع المرض أو دفعه، لأن ذلك ليس سبباً شرعيًّا ولا حسيًّا، وما لم يثبت كونه سبباً شرعيًّا ولا حسيًّا لم يجز أن يجعل سبباً؛ لأن جعله سبباً نوع من منازعة الله تعالى في ملكه وإشراك به حيث شارك الله تعالى في وضع الأسباب لمسبباتها، وقد ترجم الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله لهذه المسألة في كتاب التوحيد بقوله: «باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لدفع البلاء أو رفعه» .
وما أظن السوار الذي أعطاه الصيدلي لصاحب الروماتيزم الذي ذُكِر في السؤال إلا من هذا النوع، إذ ليس ذلك السوار سبباً شرعيًّا ولا حسيًّا تعلم مباشرته لمرض الروماتيزم حتى يبرئه فلا ينبغي للمصاب أن يستعمل ذلك السوار حتى يعلم وجه كونه سبباً، والله الموفق.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: عن حكم عيادة المريض؟(17/70)
فأجاب فضيلته بقوله: عيادة المريض فرض كفاية لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس» .
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ذكر الفقهاء رحمهم الله أنه يُسنُّ تذكير المريض التوبة والوصية، فقال بعض الناس إن هذا خاص بالأمراض الخطيرة دون اليسيرة فما رأي فضيلتكم؟
فأجاب فضيلته بقوله: الذي أراه أن المريض يُذكر بالتوبة والوصية مطلقاً؛ لأن التوبة مشروعة كل وقت، والوصية مشروعة ولكن يكون ذلك على وجه لا يزعج المريض.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ماذا يفعل الجالس عند المُحتضر؟ وهل قراءة سورة «يس» عند المحتضر ثابتة في السنة أم لا؟
فأجاب فضيلته بقوله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. عيادة المريض من حقوق المسلمين بعضهم على بعض. وينبغي لمن عاد المريض أن يذكره بالتوبة، وبما يجب(17/71)
عليه من الوصية. وبملء وقته بذكر الله عز وجل، لأن المريض في حاجة إلى مثل هذا الشيء، وإذا احتضر، وتيقن الإنسان أنه حضره الموت، فإنه ينبغي له أن يلقن: «لا إله إلا الله» كما أمر بذلك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيذكر الله عنده بصوت يسمعه حتى يتذكر. ويذكر الله، قال أهل العلم: ولا ينبغي أن يأمره بذلك، لأنه ربما يكون لضيق صدره، وشدة الأمر عليه يأبى أن يقول «لا إله إلا الله» حينئذ تكون الخاتمة سيئة. وإنما يذكره بالفعل، أي بالذكر عنده حتى قالوا: وإذا ذكَّره فذكر فقال: «لا إله إلا الله» فليسكت، ولا يحدثه بعد ذلك ليكون آخر قوله «لا إله إلا الله» فإن تكلم أي المحتضر فليعد التلقين عليه مرة ثانية ليكون آخر كلامه «لا إله إلا الله» .
وأما قراءة «يس» عند المحتضر فإنها سنة عند كثير من العلماء لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقرأوا على موتاكم يس» ، لكن هذا الحديث تكلم فيه بعضهم وضعفه، فعند من صححه تكون قراءة هذه السورة سنة، وعند من ضعفه لا تكون سنة. والله أعلم.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما معنى قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يموت المؤمن بعرق الجبين» ؟(17/72)
فأجاب فضيلته بقوله: أقرب ما قيل فيه أن معناه أن المؤمن يموت وهو يعمل العمل الصالح، أي أنه يستمر في عمله الصالح إلى الموت، لقول الله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ الْيَقِينُ} .
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل هناك صارف عن الوجوب في قوله عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: «لقِّنوا موتاكم لا إله إلا الله؟» .
فأجاب فضيلته بقوله: الظاهر أن من الصارف عن الوجوب الحال الواقعة من الصحابة، فإن الظاهر من أحوالهم أنهم لا يلقنون كل ميت، والله أعلم.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم الأذان في أذن الميت؟ وتلقينه لا إله إلا الله عند الموت؟ وتلقينه إجابة الملكين بعد دفنه؟
فأجاب فضيلته بقوله: الأذان في أُذن الميت بدعة.
وتلقينه عند الموت: لا إله إلا الله أمر به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أما تلقينه إجابة الملكين بعد دفنه، فهذا ورد في حديث، لكنه(17/73)
ضعيف، فلا يعتمد.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما صحة الحديث الذي يقول: «اقرأوا سورة يس على موتاكم» ؟ وبعض الناس يقرأونها على القبر.
فأجاب فضيلته بقوله: «اقرأوا على موتاكم يس» الحديث هذا ضعيف، فيه شيء من الضعف، ومحل القراءة إذا صح الحديث عند الموت إذا أخذه النزع، فإنه يقرأ عليه سورة يس، قال أهل العلم: وفيها فائدة وهو تسهيل خروج الروح، لأن فيها قوله تعالى: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يالَيْتَ قَوْمِى يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِى رَبِّى وَجَعَلَنِى مِنَ الْمُكْرَمِينَ} فيقرأها عند المحتضر هذا إن صح الحديث، وأما قراءتها على القبر فلا أصل له.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: متى وقت التلقين؟
فأجاب فضيلته بقوله: التلقين عند الموت وعند الاحتضار يلقن المُحتضر لا إله إلا الله، كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام عند موت عمه أبي طالب حيث حضره فقال: «يا عم، قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله» ، ولكن عمه أبا طالب والعياذ(17/74)
بالله لم يقل هذا ومات على الشرك.
وأما التلقين بعد الدفن فإنه بدعة لعدم ثبوت الحديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك، ولكن الذي ينبغي أن يفعل ما رواه أبو داود حيث كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: «استغفروا لأخيكم، اسألوا له التثبيت، فإنه الا?ن يُسأل» ، وأما القراءة عند القبر وتلقينه في القبر فهذا بدعة لا أصل له.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل ورد دليل على أنه يُسَن إذا مات الإنسان أن يُشد لحياه، وتُلين مفاصله، وتُغمض عيناه وتُوضع حديدة على بطنه؟
فأجاب فضيلته بقوله: شد لحيي الميت وتليين مفاصله لم يرد فيه دليل، وإنما ذكره الفقهاء رحمهم الله لأن في شد اللحيين حفظ الميت من بقاء فمه مفتوحاً، ودرءاً عن تشويه وجهه، وتليين المفاصل ليسهل غسله وتكفينه.
وأما تغميض العينين فقد وردت به السنة الصحيحة من فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأبي سلمة رضي الله عنه حين أتاه وقد شَخُصَ بصره فأغمضه وقال: «إن الروح إذا قبض تبعه البصر» .(17/75)
وأما وضع حديدة على بطن الميت فليس من السنة.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: عن حكم نقل الميت من بلد إلى آخر؟
فأجاب فضيلته بقوله: يجوز نقل الميت من بلد إلى آخر إذا كان هناك غرض صحيح، ولم يخف على الميت من التفسخ، لكن الأفضل دفنه في البلد الذي مات فيه لأنه أسرع في تجهيزه.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: يترك بعض الناس جثة الميت في البيت حتى يُمكَّنُ بعض الأقارب من توديعه فما حكم هذا العمل؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا العمل خلاف أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث قال: «أسرعوا بالجنازة فإن تكن صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تكن سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم» . وهذا أيضاً جناية على الميت إذا كان صالحاً، لأن الميت إذا كان صالحاً وخرج من بيته فإن روحه تقول: قدموني قدموني، وذلك لأن الإنسان إذا احتضر وكان من أهل الخير فإنه يبشر بالجنة، وحينئذ يشتاق إليها ويرغب أن يقدم إلى الدفن، حتى ينعم بما أنعم الله به عليه، فإنه إذا كان(17/76)
صالحاً وسأله الملكان عن ربه، ودينه، ونبيه، وأجاب بالصواب فإنه يفتح له باب إلى الجنة، ويأتيه من روحها ونعيمها، ويفسح له في قبره مدّ البصر، وقد ذكر أهل العلم أنه يسن الإسراع في تجهيز الميت، وأنه لا ينبغي تأخيره.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم تأخير الصلاة على الجنازة حتى يحضر أقارب الميت؟ وما الضابط لذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: تأخير تجهيز الميت والصلاة عليه خلاف السنة، خلاف ما أمر به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد قال عليه الصلاة والسلام: «أسرعوا بالجنازة فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم» .
ولا ينبغي الانتظار اللهم إلا مدة يسيرة كما لو انتظر به ساعة أو ساعتين وما أشبه ذلك، وأما تأخيره إلى مدة طويلة فهذا مخالفة للسنة وجناية على الميت؛ لأن النفس الصالحة إذا خرج أهل الميت بها تقول: قدموني. قدموني، فتطلب التعجيل والتقديم؛ لأنها وعدت بالخير والثواب الجزيل. والله أعلم.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل يجوز للإنسان أن يُوصِي بدفنه في مكان ما؟(17/77)
فأجاب فضيلته بقوله: نعم، يجوز أن يُوصِي بدفنه في مكان معين إذا كان مما يجوز الدفن فيه، أما إذا كان لا يجوز الدفن فيه كالمسجد فلا يجوز تنفيذ وصيته.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هناك امرأة أوصت أن تُدفن ببقعة معينة ولم ينفذ الورثة الوصية. ويسأل ولدها ويقول: إنها تعرض له في المنام كثيراً وتعرض لوالده والا?ن لهم سنة بعد. دفنها، فيسأل: هل يعتبر هذا عصياناً؟ ثم هل يجوز نبش القبر وإرجاعها إلى المكان الذي أوصت أن تدفن فيه؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يلزم تنفيذ الوصية إذا أوصى الميت أن لا يدفن إلا في مكان معين؛ لأنه ليس فيه مقصود شرعي، بل يدفن مع المسلمين إذ أن الأرض كلها سواء، وكان الصحابة رضي الله عنهم إذا مات منهم ميت في أي مكان دفنوه، فهذه الوصية لا يلزم تنفيذها.
وكونها تعرض له في المنام لأنه يفكر فيها، ومعلوم أن الإنسان إذا فكر في الشيء قد يراه في المنام.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: عما يفعله بعض الناس من كونه يحفر قبراً له؟
فأجاب فضيلته بقوله: حفر القبر له قبل الموت إن كان في(17/78)
مقبرة مسبلة فلا يجوز؛ لأنه تحجر للمكان ومنع لغيره من الدفن فيه وهو لا يدري فربما لا يموت في هذا البلد، وأما إن كان في أرض غير مسبلة فإنه لا بأس به كما أعدت عائشة رضي الله عنها مكان قبرها في بيتها، ثم آثرت به عمر رضي الله عنه.
* * *
س 50 سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: نحن يا فضيلة الشيخ سكان أحد ضواحي ... عاصمة ... وفي ذلك الحي لا يوجد إلا مسجد واحد، وقد قام ببناء هذا المسجد أحد سكان ذلك الحي ولكنه أوصى قبل موته أن يُدفَن في المسجد وكان ذلك، فدفن الرجل ملاصقاً لجدار المصلى خلف المحراب، علماً بأن القبر مسوى بالأرض وغير مرفوع. ولقد طالب سكان هذا الحي ورثة الميت برفع جثته ونقلها إلى مقابر المسلمين فصار يُسوِّف ويُؤجِّل، ثم سأل بعض المعممين في بلدنا فأفتوا بجواز الصلاة، وقالوا: لا بأس وليس عليه رفع الجثة.
ولقد سألنا شيخنا العلامة ... فأفتى بوجوب رفع الجثة، وقال: علينا أن نصلي في غير هذا المسجد حتى لو في بيت أحدنا، وقال: إن علينا العمل على بناء مسجد آخر، ولكن الناس ظلوا يصلون في هذا المسجد فما الحكم(17/79)
الشرعي في هذه الصلاة؟ وهل يجوز لأحدنا أن يصلي في بيته مفرداً أو يأتي هذا المسجد؟ ماذا علينا أن نفعل؟ أفيدونا أفادكم الله وبارك فيكم وزادكم علماً وتوفيقاً.
فأجاب فضيلته بقوله: هذه الوصية لا يلزم الوفاء بها أعني وصية باني المسجد أن يدفن فيه بل ولا يجوز الوفاء بها؛ لأنه لما أوقف المسجد خرج عن ملكه، وليس له الحق بأن يدفن فيه، ودفنه فيه بمنزلة دفنه في أرض مغصوبة إن لم يكن أعظم، وعلى هذا فيجب على أولياء الميت من وصي، أو غيره أن ينبشوه ويدفنوه في مقابر المسلمين.
وأما بالنسبة للصلاة في هذا المسجد فإن وجدتم غيره فهو أولى منه، وإن لم تجدوا غيره فلا تصلوا إلى القبر؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن الصلاة إلى القبور، ولكن اجعلوه عن اليمين أو الشمال، ولا مانع من الصلاة في هذا المسجد؛ لأنه سابق على القبر، ووضع القبر فيه عدوان عليه، والعدوان عليه لا يستلزم بطلان الصلاة فيه ولا يحوِّله إلى مقبرة، لكن إن خُشِي من فتنة في المستقبل بحيث تَظنُّ الأجيال المقبلة أن هذا المسجد قد بني على القبر فهَجْرُ هذا المسجد أولى ويكون الا?ثم مَنْ حرم المسلمين الصلاة فيه، وهم أولياء هذا الميت من وصي أو غيره.
ولذا فإني أكرر نصيحتي لهم أن ينبشوا الميت من المسجد ويدفنوه مع المسلمين. وفق الله الجميع لما يحب ويرضى،(17/80)
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(ملاحظة) : إذا كنتم سألتم الشيخ العلامة ... على وجه الاستفتاء والأخذ بما يفتي به فالتزموا بما أفتى به؛ لأنكم سألتموه معتقدين أن ما يقوله هو الحق الذي تدينون الله به. وإن كنتم سألتموه لمجرد استطلاع رأيه ومعرفة ما عنده فلا حرج عليكم بالعدول عما أجابكم به.
* * *(17/81)
تغسيل الميت
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل يجوز للزوج أن يُغسِّل زوجته؟
فأجاب فضيلته بقوله: للزوج أن يغسل زوجته إذا ماتت، وللزوجة أن تغسل زوجها إذا مات؛ لأنه يُروى أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لعائشة رضي الله عنها: «لو مت قبلي فغسلتك» ولأن أبا بكر رضي الله عنه أوصى أن تغسله زوجته أسماء بنت عميس رضي الله عنها.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: نرى الناس يُغسِّلون موتاهم في المغاسل التي بُنيت لهذا الغرض مع أن الفقهاء رحمهم الله قالوا: الأولى بالتغسيل الوصي، ثم الأب، ثم الجد، ثم الأقرب فالأقرب؟
فأجاب فضيلته بقوله: ما ذكره الفقهاء رحمهم الله تعالى إنما هو عند المشاحة، أما عند عدم المشاحة فلا بأس أن يتولى التغسيل من تفرغ لذلك.
* * *
وسُئِلَ فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل للأب والأم تغسيل مَنْ مات مِنْ أولادهم دون السابعة؟(17/85)
فأجاب فضيلته بقوله: للأب أن يُغسِّل ابنته إذا ماتت وكان لها أقل من سبع سنوات، وللأم أن تُغسِّل ابنها إذا مات وكان له أقل من سبع سنوات، لأن إبراهيم ابن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما مات غسَّلته امرأة، ولأن عورة من دون السبع لا حكم لها.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما هي صفة تغسيل الميت؟ وما هي نصيحتك لطلبة العلم حيال ذلك والإقدام على تغسيل الأموات؟
فأجاب فضيلته بقوله: صفة تغسيل الميت أن يجعل في مكان مستور لا تشاهده العيون، ولا يحضره أحد إلا من يباشر تغسيله، أو من يساعده، ثم يجرد من ثيابه بعد أن يوضع على عورته خرقة حتى لا يراها ولا الغاسل، ثم ينجيه وينظفه، ثم يوضأ كما يتوضأ للصلاة، إلا أن أهل العلم قالوا: لا يدخل الماء إلى فمه ولا إلى أنفه، وإنما يبل خرقة بالماء ويدلك بها أسنانه، وداخل أنفه، ثم بعد هذا يغسل رأسه، ثم يغسل سائر جسده، ويبدأ بالأيمن فالأيمن، وينبغي أن يجعل في الماء سدراً؛ لأنه ينظف ويغسل برغوة السدر رأسه ولحيته، وينبغي كذلك أن يجعل في الغسلة الأخيرة كافوراً، أو شيئاً من كافور؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بذلك النساء اللائي يغسلن ابنته قال: «اجعلن في الغسلة الأخيرة كافوراً أو شيئاً من كافور» ، ثم(17/86)
ينشفه ثم يضعه على أكفانه، وتغسيل الميت فرض كفاية كما هو معروف إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين، وعلى هذا فمن قام به، قام بفرض كفاية يثاب عليه ثواب الفرض، ولا ينبغي أن يتولى تغسيله إلا من يعرف كيفية الغسل الشرعي، وليس من اللازم أن يباشر ذلك طلبة العلم؛ لأن طلبة العلم قد يكونون مشغولين بما هو أهم، حيث إن تغسيل الميت يقوم به من يكفي من الجهات المسؤولة. لكن يجب أن يفهَّم هؤلاء كيفية تغسيل الميت، وتكفينه، حتى يكونوا على بصيرة من أمرهم، والله أعلم.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما رأيكم في هذه الحالة وهي أن بعض من يغسل الميت يخلعون جميع ملابسه ويكون عارياً وربما دخل عليه من ليس له حاجة؟
فأجاب فضيلته بقوله: قال أهل العلم: لابد عند خلع ثياب الميت أن يكون عليه سترة تستر عورته، وقالوا إنه يكره لغير من يحتاج إليه أن يحضر التغسيل، وأما من احتيج إليه لصب الماء، أو غيره فلا بأس بحضوره.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم تقليم أظفار الميت وقص شاربه ونتف إبطه وحلق عانته؟
فأجاب فضيلته بقوله: قال أهل العلم إن تقليم الأظافر من الميت، وأخذ الشعور التي يطلب أخذها؛ كالعانة والإبط والشارب، حسن إذا طالت، أما إذا لم تطل فإنها تبقى ولا تؤخذ.(17/87)
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: إذا كان في الميت أسنان ذهب فهل تخلع منه؟
فأجاب فضيلته بقوله: خلع أسنان الذهب من الميت إن أمكن بدون مُثلة أخذت، لأن بقاءها إضاعة للمال وهو منهي عنه، وإن لم يمكن خلعها إلا بمثلة فإنها تبقى حتى يبلى الميت ثم تؤخذ.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: إذا توفي إنسان وكان أحد أسنانه من ذهب هل يترك هذا السن أو يخلع؟ وإذا كان هذا الخلع يترتب عليه مضرة لبقية الأسنان فما الحكم؟ وهل ورد نص في ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: أولاً: يجب أن نعلم أن السن الذهب لا يجوز أن يركب إلا عند الحاجة إليه، فلا يجوز أن يركبه أحد للزينة، اللهم إلا النساء إذا جرت عادتهن التزين بتحلية الأسنان بالذهب فلا بأس، أما الرجال فلا يجوز أبداً إلا لحاجة.
ثانياً: إذا مات من عليه أسنان من ذهب، فإن كان يمكن خلع السن بدون مُثلة خُلع، لأن ملكه انتقل إلى الورثة، وإن كان لا يمكن خلعه إلا بمُثلة، بحيث تسقط بقية الأسنان فإنه يبقى ويدفن معه. ثم إن كان الوارث بالغاً عاقلاً رشيداً وسمح بذلك تُرك ولم يتعرض له، وإلا فقد قال العلماء: إنه إذا ظن أن الميت بلى حُفر القبر وأُخذ السن لأن بقاءه إضاعة مال. وقد نهى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك.(17/88)
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: عن حكم استعمال الصابون في تغسيل الميت؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا حرج في استعمال الصابون من أجل إزالة الوسخ؛ لأن الصابون مثل الأشنان، بل هو أقوى منه في التنظيف.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: يرى بعض الناس أن الغريق والحريق والمبطون لا يُغسَّلون لأنهم شهداء فما قولكم؟
فأجاب فضيلته بقوله: الصحيح أن جميع الموتى من المسلمين يُغَسَّلُون، ويُكَفَّنون، ويُصلَّى عليهم، إلا شهداء المعارك من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل السقط يُصلى عليه ويُغسَّل ويُكفَّن؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يُصلَّى عليه إلا إذا نُفِخت فيه الروح، وتُنفَخ فيه الروح إذا بلغ أربعة أشهر، كما يدل عليه حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو الصادق المصدوق فقال: «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً،(17/89)
ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله وشقي، أم سعيد» . فإذا كان السقط قد تم له أربعة أشهر صُلِّي عليه بعد أن يُغسَّل ويُكفَّن ويُدفَن مع المسلمين، وإن كان لم يبلغ أربعة أشهر فلا يُغسَّل، ولا يُكفَّن، ولا يُصلَّى عليه، ويُدفَن في أي مكان من الأرض، والعلم عند الله.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: إذا تعذر غسل الميت فما العمل؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان غسل الميت متعذراً فإن أهل العلم يقولون: ييمم. بمعنى أن الحي يضرب التراب بيديه، ويمسح بهما وجه الميت، وكفيه، ثم يكفن، ويصلى عليه، ويدفن.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: عثرت على طفل ميت ومجرد من الثياب في ماء نهر جار، وهذا الطفل حديث الولادة وكان جسمه متهتكاً لم أستطع غسله مثل الموتى، وحسب شريعة الإسلام، فهل عليَّ إثم في دفني له دون غسل، وما الذي أفعله لو تكررت مثل هذه الحالة؟(17/90)
فأجاب فضيلته بقوله: إذا تكررت هذه الحالة وصار غسل الميت متعذراً فإن أهل العلم يقولون: ييمم، بمعنى أن الحي يضرب التراب بيديه، ويمسح بهما وجه الميت وكفيه، ثم يكفن ويصلى عليه ويدفنه.
وأما ما جرى منك فإنه لا ينبغي للإنسان في مثل هذه الأمور المشكلة أن يفعل الشيء قبل أن يسأل أهل العلم لقوله سبحانه وتعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} . لاسيما في مثل هذا الأمر الذي تعمله لغيرك لا لنفسك، فإنه يجب عليك الاحتياط ولا تتسرع حتى تسأل أهل العلم.
وهذا الطفل الذي فعلت فيه ما فعلت، إن كنت لم تصل عليه وأنت تعرف قبره، فصلّ على قبره، وإلا فصل عليه صلاة الغائب؛ لأنه يجب على المسلمين أن يُصلُّوا على أمواتهم، فالصلاة على الميت كما هو معلوم من فروض الكفايات.
وإذا تعذَّر غُسل الميت لاحتراق أو غيره فإنه ييمم، وإذا قُدِّر أنه تقطَّع أوصالاً كما يحصل والعياذ بالله من ذلك في بعض الحوادث فإن هذه الأوصال تُجمَع وتُغسَّل ويُربَط بعضُها ببعض وتكفَّن جميعاً ويُصلَّى عليها.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: بعض الذين يُغسِّلون الموتى يتحدثون عما يقابلهم أثناء التغسيل من أحوال الموتى فما توجيهكم؟(17/91)
فأجاب فضيلته بقوله: المتعين على الغاسل أن يستر ما يراه إن لم يكن حسناً، إلا أن بعض العلماء قال: إذا كان الميت صاحب بدعة وداعياً إلى بدعته، ورأى الغاسل في وجهه مكروهاً فالأولى أن يذكره حتى يُحذِّر الناس.
وأما إذا كان الميت صاحب خير ورأى الغاسل خيراً فيحسن أن يخبر به، لما فيه من إحسان الظن والدعاء للميت.
* * *(17/92)
25 سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: نرى الناس يُغسِّلون موتاهم في المغاسل التي بُنيت لهذا الغرض مع أن الفقهاء رحمهم الله قالوا: الأولى بالتغسيل الوصي، ثم الأب، ثم الجد، ثم الأقرب فالأقرب؟
فأجاب فضيلته بقوله: ما ذكره الفقهاء رحمهم الله تعالى إنما هو عند المشاحة، أما عند عدم المشاحة فلا بأس أن يتولى التغسيل من تفرغ لذلك.
* * *
35 وسُئِلَ فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل للأب والأم تغسيل مَنْ مات مِنْ أولادهم دون السابعة؟
فأجاب فضيلته بقوله: للأب أن يُغسِّل ابنته إذا ماتت وكان لها أقل من سبع سنوات، وللأم أن تُغسِّل ابنها إذا مات وكان له أقل من سبع سنوات، لأن إبراهيم ابن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما مات غسَّلته امرأة، ولأن عورة من دون السبع لا حكم لها.
* * *
س 45 سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما هي صفة تغسيل الميت؟ وما هي نصيحتك لطلبة العلم حيال ذلك والإقدام على تغسيل الأموات؟
تكفين الميت
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: كيف يُكفَّن الرجل والمرأة؟
فأجاب فضيلته بقوله: تُبخَّر الأكفانُ أولاً بالبخور المعروف، ثم يذر بينها شيء من الحنوط وهو أخلاط من الطيب يصنع للموتى وكذلك يجعل من هذا الحنوط على وجه الميت، ومغابنه، ومواضع سجوده ويوضع في قطن على عينيه، ومنخريه، وشفتيه وكذلك بين إليتيه، ثم يوضع الميت فوق الكفن، وهو للرجل ثلاث لفائف بيض، يوضع بعضها فوق بعض، ثم يرد طرف اللفافة العليا من جانب الميت الأيمن على صدره، ثم طرفها من جانبه الأيسر، ثم يفعل باللفافة الثانية ثم الثالثة كذلك، ثم يرد طرف اللفائف من عند رأس الميت ورجليه ويعقدها.
وأما المرأة فإنها تُكفَّن في خمسة أثواب: إزار، وخمار، وقميص، ولفافتين، وإن كُفِّنت المرأة كما يُكفَّن الرجل فلا حرج في ذلك.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: متى تُحَلُّ عقد الكفن؟
فأجاب فضيلته بقوله: تُحَلُّ عقد الكفن عند وضع الميت في قبره، والله أعلم.
* * *
س 67 سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: أريد أن(17/95)
أحتفظ بملابس الإحرام لكي تكون كفناً لي فهل هناك مانع شرعي من ذلك مع العلم بأن على أحدهما بقع من دم الهدي؟
فأجاب فضيلته بقوله: نقول لهذا الأخ أما لو مت وأنت محرم لقلنا نكفنك في ثوب إحرامك؛ لأن الرجل الذي وقصته ناقته بعرفة مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمات فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه يعني في ثوبي إحرامه ولا تخمروا رأسه يعني لا تغطوا رأسه ولا تحنطوه يعني لا تجعلوا فيه طيباً، لأن من العادة أن الميت يطيب فإنه يبعث يوم القبيامة ملبياً"، فأنت يا أخي لو مت قبل أن تتحلل لكفناك في ثوبي الإحرام؛ لأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك، أما إذا مت بعد أن تحللت من الإحرام فإنه ليس من المشروع أن تُكفَّن في ثوبي الإحرام، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما كُفِّن في ثوبي إحرامه وإنما كُفِّن في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص ولا عمامة، هكذا كفن الرسول عليه الصلاة والسلام. فأنت لا تعمل هذا العمل لا تتخذ ثوب الإحرام للكفن، إذا مت تكفن كما كفن الرسول عليه الصلاة والسلام بثلاثة أثواب ليس فيها قميص ولا عمامة.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل ورد تطييب جميع بدن الميت؟(17/96)
فأجاب فضيلته بقوله: نعم، ورد عن بعض الصحابة رضي الله عنهم.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: بعض المغسلين للموتى إذا أراد تكفين الميت يضم يده اليمنى على اليسرى كالمصلي هل هذا العمل مشروع؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا العمل ليس مشروعاً، وإنما تجعل يد الميت إلى جنبه.
* * *(17/97)
بسم الله الرحمن الرحيم
فائدة من منتقى فرائد الفوائد
في حكم تضميخ الميت بالزعفران
كان كثير من الناس يضمخون جنائزهم بالزعفران، وقد كره ذلك الفقهاء رحمهم الله.
وفي (ص 403 ج 1) من فتح الباري الطبعة السلفية قوله: (ولأبي داود من حديث عمار رفعه: لا تحضر الملائكة جنازة كافر ولا مضمخ بالزعفران) ، ثم إني راجعت الحديث في سنن أبي داود في الباب الثامن من كتاب الترجل (ص 893 ج 3) وفي مختصر السنن (ص 19 ج 6) ، وفي مسند الإمام أحمد (ص 023 ج 4) فوجدته بلفظ: "إن الملائكة لا تحضر جنازة الكافر بخير، ولا المتضمخ بالزعفران ولا الجنب" وليست في لفظ أحمد (بخير) . وفي رواية لأبي داود: "ثلاثة لا تقربهم الملائكة: جيفة الكافر، والمتضمخ بالخلوق، والجنب إلا أن يتوضأ".
والحديث الأول فيه عطاء الخرساني فيه كلام، والحديث الثاني منقطع. وعل كل حال فليس في ذلك ما يدل على أن التضمخ بالخلوق يختص بالميت، بل هو عام، بل ظاهره يدل على أن المراد به الحي.(17/98)
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما هو الوضع الصحيح للميت عند الصلاة عليه؟ وهل هناك فرق بين الرجل والمرأة والطفل؟
فأجاب فضيلته بقوله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله، وأصحابه أجمعين.
الميت عند الصلاة عليه يوضع أمام المصلي، ويقف الإمام عند رأسه إن كان الميت ذكراً، وعند وسطها إن كان الميت أنثى، ولا فرق بين أن يكون رأس الميت عن يمين الإمام، أو عن شماله، خلافاً لما يظنه بعض العامة أنه لابد أن يكون عن يمين الإمام. ويكون الإمام وحده في الصف، ولا يصف معه أحد؛ لأن هذا هو هدي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الإمام إذا كان خلفه اثنان فأكثر. وأما الذين حملوا الجنازة وقدموها إلى الإمام فإن كانوا يجدون مكاناً في الصف تأخروا للصف، وإن كانوا لا يجدون مكاناً صاروا وراء الإمام بينه وبين الصف الأول.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل وضع رأس الميت عن يمين الإمام مشروع عند الصلاة عليه؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا أعلم بهذا سنة، ولذلك ينبغي للإمام الذي يصلي على الجنازة أن يجعل رأس الجنازة عن يساره أحياناً حتى يتبين للناس أنه ليس واجباً أن يكون الرأس عن اليمين، لأن الناس يعتقدون أنه لابد أن يكون رأس الجنازة عن يمين الإمام،(17/101)
وهذا لا أصل له.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما موقف الإمام عند الصلاة على الرجال، النساء، الأطفال؟
فأجاب فضيلته بقوله: موقف الإمام عند رأس الرجل، وعند وسط المرأة سواء كانوا كباراً أو صغاراً، فالطفل الصغير الذكر يقف الإمام عند رأسه، والطفلة الصغيرة الأنثى يقف الإمام عند وسطها كما يفعل ذلك في الكبار.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: عند وجود عدد من الأموات رجالاً ونساء كيف نرتبهم؟ وهل نقدم للإمام أعلمهم أم هم سواء؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا اجتمعت جنائز فإنه يُصلَّى عليهم صلاة واحدة، ويُقدَّم الرجال ثم النساء، ويقدم الصبي من الذكور على المرأة، فإذا كان رجل بالغ، وصبي لم يبلغ، وامرأة بالغة، وفتاة لم تبلغ رتبناهم هكذا: الرجل البالغ، ثم الصبي الذي لم يبلغ، ثم المرأة البالغة، ثم الفتاة التي لم تبلغ، ويكون وسط الأنثى بحذاء رأس الرجل.
وإذا اجتمعوا من جنس واحد يعني تعدد الرجال مثلاً نقدِّم إلى الإمام أعلمهم؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في شهداء أحد الذين يدفنون في قبر واحد كان يأمر أيهم أكثر قرآناً فيقدمه في اللحد، وهذا يدل على(17/102)
أن العالم هو الذي يقدم مما يلي الإمام، والله أعلم.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم بيان جنس الميت أذكر هو أو أنثى عند الصلاة عليه؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا بأس بالإخبار عن الميت أذكر أم أنثى عند تقديمه للصلاة عليه إذا لم يعرف المصلون ذلك، من أجل أن يدعوا له دعاء التذكير إن كان ذكراً، ودعاء التأنيث إن كان أنثى. وإن لم يفعل فلا بأس أيضاً، وينوي المصلون الذين لا يعلمون عن هذا الميت ينوون على الحاضر الذي بين أيديهم، وتجزؤهم الصلاة سواء قالوا بلفظ المذكر (اللهم اغفر له) أي لهذا الحاضر بين أيدينا أو بلفظ المؤنث (اللهم اغفر لها) أي لهذه الجنازة التي بين أيدينا.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هناك بعض الناس إذا قدم الميت للصلاة عليه يذكر اسم هذا الشخص، هل هذا الأمر فيه شيء، يقول مثلاً: هذا فلان بن فلان، أو الصلاة على فلان بن فلان؟
فأجاب فضيلته بقوله: إخبار الناس بالميت إذا قدم بأنه ذكر، أو أنثى من أجل أن يكون الدعاء بضمير المذكر إذا كان ذكراً، أو بضمير المؤنث إذا كانت أنثى، أو إذا كان هناك جنازة بالغ، أو صغير، لم يبلغ الحلم، فيخبر الناس من أجل أن يدعوا لكل واحد بما يناسبه، هذا لا بأس به لما فيه من المصلحة.
وأما الإخبار عن اسمه فلا أدري، أتوقفُ فيها، قد يكون فيه(17/103)
مصلحة، وقد لا يكون فيه مصلحة. قد يكون مثلاً من الحاضرين من بينه وبين الميت المعين عداوة سابقة مثلاً، فينصرف عن الصلاة يقول: لا أصلي على هذا الرجل، ويكون في هذا تشويش، أو ربما يصلي عليه وبدلاً من أن يدعو الله له يدعو الله عليه، فلو أنه تُرك التعيين بالاسم لكان أحسن.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: في يوم الجمعة خاصة يوجد عددٌ من الأموات لا يُتَّسع لهم المكان، هل يصلى عليهم بشكل طولي أم يصلى عليهم مرات عديدة؟
فأجاب فضيلته بقوله: يصلى عليهم جميعاً صلاة واحدة عرضاً لا طولاً، ويتأخر الإمام، ويتأخرون خلفه، ولو تراص الناس في صفوفهم لأنهم لا يحتاجون إلى ركوع ولا إلى سجود.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل ورد شيء بإكثار صفوف الجنازة؟ وما الحكمة من ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم، ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "ما من مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفَّعهم الله فيه".
وكذلك ورد في فضل ثلاثة الصفوف، ولكن هل المقصود ثلاثة الصفوف الكثرة التي تبلغ ثلاثة صفوف؟ أو المراد ثلاثة صفوف ولو(17/104)
كان كل صف رجلين رجلين؟ الأقرب الأول، والله أعلم.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل يشترط في الأربعين رجلاً الذين يصلون على الميت أن لا يشركوا بالله شيئاً الشرك الأصغر أو الأكبر؟
فأجاب فضيلته بقوله: في الحديث قال عليه الصلاة السلام: "ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه".
فظاهر قوله: "لا يشركون بالله شيئاً" أنهم لا يشركون شركاً أصغر ولا أكبر.
ويُحتَمَلُ أن يُقالَ: إن المراد لا يشركون بالله شركاً أكبر، وأنا لم يترجَّح عندي شيء؛ لأنه لا شك أن المشرك شركاً أكبر لا يُصلي معهم، ولكن قد يقال: إنه ربما يصلي وهو مشرك شركاً أكبر وهو لا يعلم؛ مثل ما يفعل بعض المسلمين الآن يدعون الأولياء، وأهل القبور، وهم يظنون أنهم مسلمون، وعلى كل حال الخالي من الشرك الأصغر والأكبر هذا لا شك أنه يكون شافعاً، والمتلبس بالشرك الأكبر لا يكون شافعاً، والمتلبس بالشرك الأصغر فيه احتمال.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم تسوية الصفوف في صلاة الجنازة؟(17/105)
فأجاب فضيلته بقوله: عموم الأدلة تدل على تسوية الصفوف في كل جماعة، في الفريضة، أو النافلة كصلاة القيام، أو الجنازة، أو جماعة النساء، فمتى شرع الصف شرعت فيه المساواة.
وكثير من الناس يتهاونون في تسوية الصفوف مع أن الأدلة تدل أن تسوية الصفوف واجبة، ومن ذلك حرص النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وخلفائه على تسوية الصفوف، حتى إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يمسح بصدور أصحابه ومناكبهم ويقول: "استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم" وكان الخلفاء الراشدون كعمر، وعثمان رضي الله عنهما يُوكِّلون رجالاً يسوون الصفوف فإذا أخبروهم أن الصفوف استوت كبروا للصلاة.
ويجب على الإمام أن يعتني بتسوية الصف، ولا تأخذه في الله لومة لائم، لأن كثيراً من الجهلة إذا تأخر الإمام في التكبير لتسوية الصفوف أخذهم الحمق والغضب، فلا ينبغي أن يبالي الإمام بأمثال هؤلاء، لأن صلته بالله مادامت وثيقة فستقوى الصلة بالناس بإذن الله.
ويرد كثيراً سؤال عن أفضل صفوف النساء أولها أم آخرها؟
وقد جاء في الحديث أن "خير صفوف النساء آخرها وشرها أولها". والظاهر أن هذا ليس عاماً، وأن النساء إذا كن في مكان منفرد عن الرجال فالأفضل في حقهن أن يبدأن بالأول فالأول؛ لأن(17/106)
الحكمة من كون آخر صفوف النساء خيرها هو البعد عن الرجال، فإذا لم يكن هناك رجال بقين على الأصل وهو أن يكمل الصف الأول فالأول.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: نرى كثيراً من أولياء الميت إذا أرادوا الصلاة على ميتهم وقفوا بجانب الإمام ما حكم ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا أصل لهذا؛ لا من السنة، ولا من كلام أهل العلم. والسنة أن يتقدم الإمام ويتأخر المأمومون، ولكن إذا قدم أهل الجنازة الجنازة، ولم يكن في الصف الأول مكان لهم؛ فإنهم يكونون بين الجنازة وبين الصف الأول؛ أي أنهم يكونون وراء الإمام بينه وبين الصف الأول، فإن قُدِّر أن المكان ضيق فإنهم يكونون عن يمينه وعن شماله ولا حرج في ذلك.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: إذا كان عدد المصلين قليلاً هل يسن جعلهم ثلاثة صفوف؟
فأجاب فضيلته بقوله: ثَبُتَ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفَّعهم الله فيه". وكذلك صح عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه: "ما من مسلم يموت فيصلي عليه ثلاثة صفوف من المسلمين إلا غفر له".(17/107)
فمن العلماء من قال: يُسْتحَبُّ أن يجعلهم ثلاثة صفوف، ولو كانوا على رجلين رجلين.
ومنهم من قال: إن مراد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك الكثرة؛ بدليل الحديث الثاني (أربعون رجلاً) وهذا هو الأقرب.
وعلى هذا فنقول: الأفضل أن يكمل الصف الأول فالأول، وإذا حصلت الكثرة كفى.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: يوجد عندنا أمر يفعله بعض المصلين في صلاة الجنازة، ونرجو بيان الحكم الشرعي فيه: وهو أنه عند تقديم الجنازة للصلاة عليها يتدافع المأمومون ويصفُّون صفوفاً غير التي كانت في صلاة الفريضة، مما يخل بتراص الصفوف وتسويتها، ويقربون بين هذه الصفوف دون المسافة التي كانت بينها في صلاة الفريضة، ويعتقد بعضهم أنه لابد من إقامة ثلاثة صفوف ولو كان هنالك فراغ في الصف الأول والثاني فهل هذا من المشروع أو لا؟ وجزاكم الله خيراً.
فأجاب فضيلته بقوله: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.(17/108)
ما يفعله بعض الناس إذا قُدّمت الجنازة، ذهبوا سراعاً حتى يكونوا حولها، ثم يصفون صفوفاً غير متساوية، بل تجد الواحد منهم ربما صف وحده في هذا المكان، وهذا لا شك خلاف السنة ولا أعلم له أصلاً لا في السنة، ولا في كلام العلماء رحمهم الله والأولى أن يبقى الناس على مصافهم، ثم تقدَّم الجنازة ويتأخر الذين قدموها في الصفوف، فإن كان يشق عليهم الدخول في الصفوف، فلا حرج أن يصفوا خلف الإمام، وأما كون الصفوف لا تنقص عن ثلاثة، فهذا قد ذهب إليه بعض أهل العلم، وقالوا: ينبغي ألا تنقص الصفوف عن ثلاثة، ولو كان في الصف الأول مكان. والذي يظهر لي خلاف ذلك، وأنه ينبغي أن يكمَّل الأول فالأول كسائر الصلوات، وما ورد من السنة في أن "من صلى عليه يعني جماعة يبلغ أن يكونوا ثلاثة صفوف إلا غفر له" فإنما المعنى: أنها الصفوف الكاملة لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بإكمال الأول فالأول، أو المعنى ما يبلغ أن يكونوا ثلاثة صفوف، وإن كانوا في صف واحد وأدنى ما يمكن أن يكونوا ثلاثة صفوف أن يبلغوا ستة نفر ومع إمامهم سبعة نفر. والله الموفق. حرر 8/4/1415 هـ.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: عندما يُسلِّم الإمام من الفريضة يُسرع أهل الميت بإحضاره للصلاة عليه بحجة الإسراع بدفنه، نرجو بيان ما يجب عليهم وما هي نصيحتك للإمام حيالهم؟(17/109)
فأجاب فضيلته بقوله: الذي أرى أنه إذا سلَّم الإمام من الفريضة فإن كان فيه أناس يقضون وهم كثيرون، فالأولى أن ينتظر في تقديم الجنازة من أجل كثرة المصلين عليها، حتى لا يفوتهم الثواب ولا يفوت الميت شفاعتهم، وربما يكون في الذين يقضون من هم خير من الذين سلَّموا مع الإمام.
أما إذا لم يكن هناك سبب فالمبادرة لذلك أفضل وأولى.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل يُشتَرَطُ إتمام الصف الأول فالأول وسد الفرج بين الصفوف في صلاة الجنازة؟
فأجاب فضيلته بقوله: الصفوف في صلاة الجنازة ينبغي فيها تسوية الصفوف كغيرها من الصلوات، وأن يكمل الصف الأول فالأول، وأن تُسدَّ الفُرَجُ بين الصفوف.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما الحكم فيما لو تعددت الصفوف بدون أن تكتمل في صلاة الجنازة؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا خلاف السنة، وإن كان بعض أهل العلم رأى أنه ينبغي أن لا تنقص الصفوف في صلاة الجنازة عن ثلاثة حتى لو لم يتم الصف الأول، وقال: إنه ينبغي للإمام إذا كانوا لا يملؤون الصفوف، أن يجزأهم ثلاثة صفوف. والله أعلم.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: إذا تقدم أهل الميت أو من يحملونه عند الصلاة عليه وصاروا عن يمين(17/110)
الإمام هل لذلك أصل في الشرع؟ وما السنة الثابتة في ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا تقدم أهل الميت بالجنازة إلى الإمام فإنهم لا يصلون إلى جانب الإمام لا عن يمينه ولا عن يساره، ولكنهم يصلون في الصفوف مع الناس، فإن لم يتيسر لهم مكان فإنهم يصلون خلف الإمام بينه وبين الصف الأول؛ لأن الوقوف مع الإمام إذا كانوا اثنين فأكثر غير مشروع، بل المشروع إذا كان الجماعة ثلاثة فأكثر أن يتقدم الإمام، فإن قدر أنه لم يكن لهم مكان بين الإمام والصف الأول فإنهم يقفون عن يمين الإمام وعن يساره، ولا يقفون عن يمينه فقط إلا أن يكون واحداً أي الذي قدم الجنازة واحداً كما لو كانت الجنازة طفلاً صغيراً قدمها واحد ولم يجد له مكاناً في الصف فإنه يقف عن يمين الإمام والله أعلم.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم القيام للجنازة قبل أن توضع للصلاة وقبل أن توضع على الأرض عند الدفن؟ وما حكم القيام عند الدفن علماً بأن الناس إذا قاموا للصلاة على الجنازة عند دخولها إلى المسجد يتركون الذكر بعد الصلاة؟ وما رأيكم في أن بعض الأئمة يصلي على الجنازة فور انتهائه من صلاة الفريضة؟
فأجاب فضيلته بقوله: يُسَنُّ للإنسان القيام للجنازة إذا مرَّتْ به لأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك.(17/111)
وأما الصلاة عليها من حين أن يسلم الإمام فإننا نقول إن كان فيه أناس كثيرون يقضون انتظرهم حتى لا يفوت عليهم فضل صلاة الجنازة، وليكثر العدد على الجنازة، وإن لم يكن فيه أحد يقضي، أو كان العدد يسيراً فالأفضل أن تقدم.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما هو القول الراجح في القيام للجنازة ورفع اليدين عند التكبير على الجنازة؟
فأجاب فضيلته بقوله: الراجح في هاتين المسألتين أن الإنسان إذا مرت به الجنازة قام لها، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بذلك وفعله أيضاً، ثم تركه، والجمع بين فعله وتركه، أن تركه ليبين أن القيام ليس بواجب.
وأما رفع اليدين في تكبيرة صلاة الجنازة فالصحيح أنه يكون في كل التكبيرات، لأنه صح عن ابن عمر موقوفاً، وروي أيضاً مرفوعاً، وقد صحح رفعه جماعة من أهل(17/112)
العلم، فالصواب أن اليدين ترفعان في كل تكبيرة.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: من أولى الناس بالصلاة على الميت الإمام أو الولي؟
فأجاب فضيلته بقوله: إن صُلِّي عليه في المسجد فالإمام أولى (أعني إمام المسجد) لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يَؤُمنَّ الرجلُ الرجلَ في سلطانه"، وإمام المسجد سلطان في مسجده، وإن صلِّي عليه في مكان غير المسجد فأولى الناس به وصيّه، فإن لم يكن له وصي فأقرب الناس إليه، وإن صلى أحد الحاضرين فلا بأس.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: في المسجد الحرام ينادى للصلاة على الميت فهل يجوز للنساء أن يؤدين هذه الصلاة مع الرجال سواء على ميت حاضر أو غائب؟
فأجاب فضيلته بقوله: المرأة كالرجل إذا حضرت الجنازة فإنها تصلي عليها ولها من الأجر مثل ما للرجل لأن الأدلة في هذا عامة ولم يستثن منها شيء، وقد ذكر المؤرخون أن المسلمين كانوا يصلون على الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرادى الرجال، ثم النساء، وعلى هذا(17/113)
فلا بأس، بل إنه من الأمور المطلوبة إذا حضرت الجنازة، والمرأة في المسجد أن تصلي مع الرجال على هذه الجنازة.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: عن حكم صلاة المرأة على الميت؟
فأجاب فضيلته بقوله: يجوز للمرأة أن تصلي على الميت كما يجوز للرجل؛ لأن ذلك فيه دعاء للميت، وأجر للمصلي، ومازال المسلمون كذلك، فإن النساء يصلين على الأموات في المساجد إذا حضرن.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل تصلي المرأة على الميت في بيتها أو في المسجد؟
فأجاب فضيلته بقوله: صلاتها عليه في البيت أفضل، ولو خرجت وصلت مع الناس فلا بأس، لكنه لما لم يكن معروفاً عندنا فالأفضل أن لا تصليها؛ أي أن لا تخرج إلى المسجد لتصلي على الجنازة وإنما تصلي في البيت وهو عندها إذا كان الميت من أهل البيت. أما إذا كان الميت من الخارج فلا يمكن أن تصلي عليه صلاة الغائب.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: إذا دخل الرجل إلى المسجد وقد فاتته الصلاة المكتوبة مع الإمام وقد(17/114)
قُدِّم الميت للصلاة عليه هل يُصلِّي مع الإمام على الجنازة أم يُصلِّي المكتوبة؟
فأجاب فضيلته بقوله: يُصلِّي مع الإمام على الجنازة لأن المكتوبة يمكن إدراكها بعد، أما الجنازة فإنه سوف يُصلَّى عليها ثم ينصرفون بها.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: إذا قُدِّم للإمام في صلاة الجنازة من يشكّ في إسلامه ماذا يصنع؟
فأجاب فضيلته بقوله: يجب أن يصلي عليه؛ لأن الأصل أن المسلم باقي على إسلامه، ولكنه عند الدعاء له يشترط فيقول: "اللهم إن كان مؤمناً فاغفر له وارحمه"، والله تعالى يعلم حاله هل هو مؤمن أم لا، وبهذا يسلم من التبعة، يسلم من أن يدعو لشخص كافر بالمغفرة والرحمة.
والاستثناء في الدعاء، أو الشرط فيه أمر وارد في القرآن، ففي آيات اللعان قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} . وقال في المرأة: {وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا الْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَاللهِ عَلَيْهَآ إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} . فالاسثتناء في الدعاء وارد كالاستثناء في العبادات أيضاً، كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لضباعة بنت الزبير(17/115)
رضي الله عنها حين أرادت الحج وهي شاكية (أي مريضة) فقال لها الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "حُجِّي واشترطي أن محلي حيث حبستني".
فالمهم أن الإنسان يستثني في مثل هذه الحال "اللهم إن كان مؤمناً فاغفر له"، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في أعلام الموقعين عن شيخه ابن تيمية رحمه الله أنه أشكل عليه مسائل من مسائل العلم فرأى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام وكان من جملة ما أشكل عليه أنه تقدم له جنائز لا يدري هل هم مسلمون أو لا. فقال له: عليك بالشرط يا أحمد، يقوله النبي عليه الصلاة والسلام في المنام، وهذا سند ابن القيم عن شيخه ابن تيمية سند صحيح، لأن الرجلين كليهما ثقة.
ولا يقول قائل: إننا اعتمدنا هنا على إثبات حكم شرعي برؤيا، لأن هذه الرؤيا يؤيدها القرآن كما سبق في قصة اللعان، فهذه الرؤيا موافقة لقواعد الشريعة فيعمل بها، والله أعلم.
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما رأيكم فيما إذا قُدم للإمام شخص ليصلي عليه فأخذ يسأل عنه مَنْ هو؟ وهل هو يصلي أو غير ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: رأيي في هذا أن لا يسأل عنه، لأنه من التنطُّع في الدين، ولأنه يشبه تتبُّع عورات المسلمين، والسؤال من حيث هو بدعة، فلم يكن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسأل عن الرجل؛ مع أن المنافقين موجودون في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يكن يسأل يقول: هل(17/116)
هو منافق أو مؤمن؟
نعم كان يسأل عن الرجل هل عليه دَيْن أو لا قبل أن يفتح الله عليه بكثرة الأموال، فإذا قالوا عليه دين وليس له وفاء، قال: "صلُّوا على صاحبكم"، ولما فتح الله عليه بكثرة الأموال صار هو الذي يقضي الديون عن المدينين، وأما ما يتعلق بالديانة فالسؤال عنه بدعة.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: عن الجنازة التي يشك في كون الميت يصلي؟
فأجاب فضيلته بقوله: الجنائز التي تقدم ويشك في كون الميت يصلي، ففي هذه الحال يُصلَّى عليه ويُستثنى فيقال: "اللهم إن كان مؤمناً، أو مسلماً فاغفر له وارحمه" إلخ، والاستثناء في الدعاء جائز كما في قوله تعالى في آيات اللعان في سورة النور يقول الزوج: {أَنَّ لَعْنَةَ اللهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} وتقول الزوجة {أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْهَآ إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} . وفي دعاء الاستخارة يقول: "اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خيرا لي ... " إلخ وفي قصة بني إسرائيل الثلاثة: الأبرص، والأقرع، والأعمى، قال الملك لكل من الأبرص، والأقرع: "إن كنت كاذباً(17/117)
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل يُشْرَع دعاء الاستفتاح في الصلاة على الجنازة؟ وهل يُتعوَّذ قبل القراءة؟
فأجاب فضيلته بقوله: ذكر العلماء أنه لا يستحب، وعللوا ذلك بأن صلاة الجنازة مبناها على التخفيف، وإذا كان مبناها على التخفيف فإنه لا استفتاح.
أما التعوذ: فإنه يتعوذ لأنه سيقرأ القرآن، وقد قال الله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} .
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة
فأجاب فضيلته بقوله: قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة ركن، لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب"، وهذا يعم صلاة الجنازة وغيرها، لأن صلاة الجنازة صلاة، فتدخل في عموم قول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب".
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل تجب قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة؟ وهل تصح صلاة الجنازة إذا(17/119)
لم يقرأ الإمام والمأموم سورة الفاتحة؟
فأجاب فضيلته بقوله: إن صلاة الجنازة صلاة مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم، فتدخل في عموم قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب". فإذا صلى أحد على الجنازة ولم يقرأ بفاتحة الكتاب فإن الصلاة لا تصح، ولا تبرأ بها الذمة، ولا تقوم بما يجب قيامه جهة أخينا الميت من حق. وقد ثبت في صحيح البخاري أن ابن عباس رضي الله عنهما قرأ سورة الفاتحة في صلاة الجنازة وقال: "لتعلموا أنها سنة". ومراده بالسنة هنا (الطريقة) ، وليست السنة الاصطلاحية عند الفقهاء. وهي التي يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها. لأن السنة في عرف المتقدمين تطلق على (طريقة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سواء كانت واجبة أم مستحبة) ، كما في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: (أي أنس) : من السنة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعاً. والمراد بالسنة هنا السنة الواجبة.
وعلى هذا فعلى المرء أن يتقي الله عز وجل في نفسه وأن يرجع فيما يتعبد به لله، أو يعامل به عباد الله إلى كتاب الله، وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ففيهما الكفاية وفيما الهدى والنور والشفاء.
* * *(17/120)
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم قراءة آية بعد الفاتحة في صلاة الجنازة؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا بأس أن يقرأ الإنسان في صلاة الجنازة شيئاً قليلاً من القرآن بعد الفاتحة، وإن اقتصر على الفاتحة فالأمر واسع، لأن صلاة الجنازة مبنية على التخفيف. ولهذه لا يشرع فيها استفتاح، وإنما يتعوذ ويقرأ الفاتحة.
* * *
سُئِلَ فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل ثبت من السنة في صلاة الجنازة بعد التكبيرة الثانية (اللهم صلِّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت وسلمت وباركت ورحمت وتراحمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد) كما هو مكتوب في رسالة باللغة الأردية "آسان غاز" يعني "الصلاة اليسرى"؟.
فأجاب فضيلته بقوله: هذه الصفة في الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صفة مبتدعة، وبدعة لم ترد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأفضل ما يصلى عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما علّمه أمته حين قالوا: يا رسول الله علمنا كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ فقال: قولوا: "اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد". هذه الصفة وما(17/121)
صحَّ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غيرها هي التي ينبغي للإنسان أن يلازمها في الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أما مثل هذه الصفة التي ذكرت في السؤال فإنها بدعة لم يرد بها النص وعلى المؤمن أن يتجنب جميع البدع، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: "كل بدعة ضلالة"، "وكل ضلالة في النار".
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل يجوز الاشتراط عند الدعاء للميت في الصلاة عليه كأن نقول: "اللهم إن كان يشهد أن لا إله إلا الله ... " وهل لذلك أصل في الشرع؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان الإنسان عنده شك قوي في هذا الميت فلا حرج أن يقول: "اللهم إن كان مؤمناً فاغفر له وارحمه"، وأما إذا لم يكن عنده شك قوي فلا يشترط؛ لأن الأصل في المسلمين أنهم على إسلامهم، والاشتراط في الدعاء له أصل، ومنه قوله تعالى في آية اللعان: {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} . والمرأة تقول: {اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِىُّ وَهُوَ يُحْىِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ وَهُوَ يُحْىِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} وكذلك الاشتراط الذي وقع من سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فقال: اللهم إن كان هذا قام رياء وسمعة فاعم بصره وأطل عمره وعرضه للفتن، وهو أيضاً داخل في عموم قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لضباعة بنت الزبير رضي الله عنها: "حجي واشترطي".
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل يجوز أن أشترط عندما أصلي على ميت، مثلاً أن أقول: اللهم إن كان مؤمناً فاغفر له، إلى آخر الدعاء؛ لأنني لا أعلم هل هو تارك للصلاة أم لا، وكما تعلمون أن تارك الصلاة كافر، ولا يجوز الصلاة عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا السؤال مهم جداً استفدنا منه فائدة حكم بها السائل، وهي أن تارك الصلاة كافر، الذي يترك الصلاة تركاً مطلقاً، ولا يصلي لا في الليل ولا في النهار، ولا في البيت، ولا في المسجد، ولا جمعة ولا غيرها، فهذا كافر خارج عن الإسلام، لا يجوز أن نزوجه امرأة مسلمة، ولا يجوز أن يتولى العقد لبناته؛ لأنه لا ولاية لكافر على مسلم، وإذا مات لا يجوز أن ندعو له بالرحمة والمغفرة؛ لأنه كافر والعياذ بالله.
أما سؤاله: هل يجوز أن نشترط في الدعاء للميت فنقول: اللهم إن كان(17/122)
مؤمناً فاغفر له؟
فنقول: إن هذا لا يشترط وليس بمشروع؛ لأن الأصل في المسلمين أنهم مسلمون، إنما لو كنت تعرف شخصاً معيناً بعينه، وتشك في إسلامه مثل أن يكون داعية إلى بدعة مكفرة وتشك في(17/123)
كفره، فهذا لك أن تشترط، فتقول: "اللهم إن كان مؤمناً فاغفر له وارحمه"، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله أحد تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيمية عن شيخ الإسلام ابن تيمية أنه رأى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام فسأله - أي ابن تيمية - سأل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن مسائل مشكلة عليه كان منها هذه المسألة فأرشده إلى الشرط.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل لسجود التلاوة والدعاء للميت أثناء الصلاة عليه دعاء معين؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم سجود التلاوة كغيره من السجود وقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين نزلت هذه الا?ية: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأََعْلَى} قال: "اجعلوها في سجودكم". على ما في هذا الحديث من مقال بين أهل العلم، وعليه فنقول: إذا سجدت للتلاوة فقل: سبحان ربي الأعلى، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي، اللهم لك سجدت وبك آمنت، وعليك توكلت، سجد وجهي لله الذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره بحوله وقوته، اللهم اكتب لي بها أجراً وضع عني بها وزراً، واجعلها لي عندك ذخراً، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود) .
وأما صلاة الجنازة فالأدعية للميت فيها كثيرة مشهورة، وأحيل القارىء إما إلى (منتقى الأخبار) ، وإما إلى (بلوغ المرام) ،(17/124)
ففيهما أحاديث متعددة مثل: "اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا، وغائبنا، صغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، إنك تعلم منقلبنا ومثوانا، اللهم مَنْ أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومَنْ توفيته منا فتوفه على الإيمان، اللهم اغفر له، وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله وأوسع مدخله، واغسله بالثلج والماء والبرد، ونقه من الذنوب كما يُنقى الثوب الأبيض من الدنس أو من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس"، والأحاديث في هذا معروفة.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما معنى قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللهم لا تحرمنا أجره"؟
فأجاب فضيلته بقوله: من المعلوم أن الذي يصلي على الجنازة له أجر لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان"، قيل: وما القيراطان؟ قال: "مثل الجبلين العظيمين".
فمعنى لا تحرمنا أجره، أي لا تحرمنا أجر الصلاة عليه، وإذا كان الإنسان مصاباً به صار معنى لا تحرمنا أجره، أي أجر مصيبته، وأجر الصلاة عليه.(17/125)
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل ورد في السنة دعاء خاص يُدعَى به للطفل الميت في الصلاة عليه؟ وهل في السنة نهي عن استلقاء المرأة على ظهرها؟
فأجاب فضيلته بقوله: أما الأول فليس فيه سنة صحيحة عن الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن وردت أحاديث في صحتها نظر، وهو أن الطفل الذي لم يبلغ يدعى لوالديه، وقد ذكر بعض الفقهاء دعاء مناسباً قالوا: اللهم اجعله فرطاً لوالديه، وذخراً وشفيعاً مجاباً، اللهم ثقل به موازينهما وأعْظِم به أجورهما، وألحقه بصالح سلف المؤمنين، واجعله في كفالة إبراهيم، وقه برحمتك عذاب جهنم.
وأما استلقاء المرأة على ظهرها، فإنه لا ينبغي، خصوصاً إذا كان في البيت أحد، فإنه قد يمر بها وهي على هذه الحال، وقد تحصل فتنة، وأما إذا كانت وحدها في بيتها فلا بأس. وأما النهي عن ذلك فلا أعلم.
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما هي صفة الدعاء للصغير وللمجنون؟
فأجاب فضيلته بقوله: ذكر العلماء أن صفة الدعاء للميت الصغير أو المجنون بعد الدعاء العام يقول: "اللهم اجعله فرطاً لوالديه وذخراً، وشفيعاً مجاباً، اللهم ثقل به موازينهما، وأعظم به أجورهما، وألحقه بصالح سلف المؤمنين، واجعله في كفالة إبراهيم، وقه برحمتك عذاب الجحيم"، فإن دعى بذلك وإلا فبأي(17/126)
دعاء يستحضره. الأمر في هذا واسع وليس فيه سنة صحيحة يعتمد عليها في ذلك.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ورد في الدعاء: "واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس" فلماذا قال: بالماء، والثلج، والبرد، مع أن الماء الحار أبلغ في التنظيف؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم، من المعروف أن الماء الساخن أبلغ في التنظيف من الماء البارد، لكن لما كانت الذنوب توجب العذاب الأليم في النار، وهي حارة ناسب أن يذكر ما يكون مقابلاً لها ومضاداً لها وهو: الثلج والبرد، حتى يحصل الأمران التنقية والبرودة في مقابلة ما حصل من الذنوب من الأوساخ والحرارة.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: عن صفة الصلاة على الميت؟
فأجاب فضيلته بقوله: صفة الصلاة على الميت: يقف الإمام عند رأسه إن كان ذكراً سواءً كان صغيراً أم كبيراً يقف عند رأسه، ويكبِّر التكبيرة الأولى ثم يقرأ الفاتحة، وإن قرأ معها سورة قصيرة فلا بأس، بل قد ذهب بعض أهل العلم إلى أنه من السنَّة.
ثم يكبِّر الثانية فيصلي على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.(17/127)
اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. ثم يكبر الثالثة، ثم يدعو بما ورد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومنه: "اللهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، إنك تعلم مُنقلبنا ومثوانا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ومن توفيته فتوفه على الإيمان. اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، واوسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله الجنة، وأعذه من عذاب القبر ومن عذاب النار، اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده، واغفر لنا وله. وغير ذلك مما ورد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثم يكبِّر الرابعة، قال بعض أهل العلم يقول بعدها: ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الا?خرة حسنة، وقنا عذاب النار.
وإن كبَّر خامسة فلا بأس لأنه قد ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل إنه ينبغي أن يفعل ذلك أحياناً بأن يكبر خمساً لثبوت ذلك عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،(17/128)
وما ثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينبغي للمرء أن يفعله على الوجه الذي ورد، فيفعل هذا مرة وهذا مرة، وإن كان الأكثر أن التكبير أربع، ثم يسلِّم تسليمة واحدة عن يمينه.
أما إذا كانت أنثى فإنه يقف عند وسطها لا يقف عند رأسها وصفة الصلاة عليها كصفة الصلاة على الرجل، وإذا اجتمع عدة جنائز فإنهم ينبغي أن يكونوا مرتبين، فيكون الذي يلي الإمام الرجال البالغون، ثم الأطفال الذكور، ثم النساءالبالغات، ثم الجواري الصغار، هكذا بالترتيب، فعلى هذا يقدم الذكر ولو كان صغيراً على المرأة، بمعنى أنه يكون هو مما يلي الإمام، وأما رؤوسهم فيجعل رأس الذكر عند وسط المرأة، ليكون وقوف الإمام في المكان المشروع.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما هي صفة الصلاة على الميت؟ وإذا كبر الإمام خمساً فماذا يقول بعد التكبيرة الرابعة؟
فأجاب فضيلته بقوله: صفة الصلاة على الميت أن يوضع الميت بين يدي المصلي ويقف الإمام عند رأس الرجل، وعند وسط المرأة، ثم يكبر التكبيرة الأولى يقرأ فيها سورة الفاتحة ثم الثانية يصلي فيها على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم الثالثة يدعو فيها للميت. والدعاء معروف في كتب أهل العلم: يدعو أولاً بالدعاء العام. اللهم اغفر لحينا وميتنا، وصغيرنا وكبيرنا ... إلخ، ثم بالدعاء الخاص الوارد(17/129)
عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن لم يتيسر له معرفة ذلك دعا بما يستحضره. المهم أن يخلص الدعاء للميت؛ لأنه في حاجة إلى ذلك، ثم يكبر الرابعة ويقف قليلاً، ثم يسلم. وذكر بعض أهل العلم أنه بعد الرابعة يقول: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الا?خرة حسنة وقنا عذاب النار. وإن كبر خامسة فلا بأس بل هو من السنة، فينبغي أن تفعل أحياناً حتى لا تخفى السنة، وفي هذه التكبيرة لا أعرف شيئاً ورد، ولكن إذا كان في نيته أن يكبر خمساً فليقسم الدعاء بين الرابعة والخامسة، والله أعلم.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: إذا سلم الإمام في الجنازة تسليمتين فما حكم ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا بأس بذلك لأنه ورد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: رأيت في إحدى الدول الإسلامية في صلاة الجنازة أن الإمام يسلم تسليمتين وبعد السلام يقوم ويخطب بالمصلين بأن الموت سيأتي لكل واحد منهم ويذكرهم بهذا الشيء، هل هذا له أصل؟
فأجاب فضيلته بقوله: أما التسليم مرتين في صلاة الجنازة(17/130)
فقد ذهب إليه بعض أهل العلم، ولا حرج أن يسلم الإنسان مرتين.
أما الخطبة بعد ذلك قبل أن ترفع الجنازة أو الخطبة في المقبرة بالترغيب أو الترهيب فإن هذا ليس سنة، ولم يثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان إذا فرغ من الصلاة على الجنازة قام فذكَّر الناس، ولا أنه قام في المقبرة فذكَّر الناس. وغاية ما ورد أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتى إلى البقيع وفيه قوم ينتظرون اللحد ليدفنوا ميتهم، فجلس وجلس الناس حوله، وجعل يذكرهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو جالس لا على سبيل الخطبة.
وكذلك كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم في المقبرة أيضاً فقال: "ما منكم من أحد إلا وقد كُتِب مقعده من الجنة ومقعده من النار" فقالوا: يا رسول الله، أفلا نَدَعَ العمل ونتكل على الكتاب؟ قال: "لا، اعملوا فكل ميسر لما خُلق له: أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة، ثم تلا قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} .
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل يرفع الإمام والمأموم يديه عند التكبير لصلاة العيدين، وصلاة(17/131)
الجنازة أو لا يرفعهما إلا في التكبيرة الأولى؟
فأجاب فضيلته بقوله: أما الجنازة: فإنه يرفع يديه في كل تكبيرة؛ لأن ذلك صح من فعل ابن عمر رضي الله عنهما وهذا العمل لا مجال للاجتهاد فيه، حتى نقول: لعله من اجتهاد ابن عمر، بل هو لا يكون إلا على سبيل التوقيف. وفعل ابن عمر هذا له حكم الرفع، وعلى هذا فالسنة في الصلاة على الجنازة أن يرفع الإنسان يديه عند كل تكبيرة، كما أن السنة أيضاً في الرفع في الصلاة أن لا يرفع الإنسان يديه إلا عند تكبيرة الإحرام، وعند الركوع، وعند الرفع منه، وعند القيام من التشهد الأول.
وأما الرفع عند كل تكبيرة، فقد ذكر المحقق ابن القيم رحمه الله: أن هذا من أوهام بعض الرواة، حيث وهم فنقل قوله: "إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكبر كلما خفض ورفع" فقال: (إنه كان يرفع يديه كلما خفض ورفع) .
والثابت في الصحيحين عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما هو ما ذكرنا عند تكبيرة الإحرام، وعند الركوع، وعند الرفع منه، وثبت في البخاري ذلك عند القيام من التشهد الأول، وقال ابن عمر: "وكان لا يفعل ذلك في(17/132)
السجود"، وابن عمر من أشد الناس حرصاً على معرفة السنة والتمسك بها، ولا يمكن أن ينفي مثل هذا النفي القاطع وهو عن غير علم، وليس هذا من باب ما يقال إنه: إذا تعارض المثبت والنافي قدم المثبت؛ لأن نفيه هنا مع إثباته الرفع عند تكبيرة الإحرام، وعند الركوع، وعند الرفع منه، دليل على أن هذا النفي حكمه حكم الإثبات. وهذا ظاهر لمن تأمله، والقاعدة المعروفة عند أهل العلم (أن المثبت مقدم على النافي) ينبغي أن تقيد بمثل هذا وهو: أن الراوي إذا ذكر أشياء وفصلها، ثم أثبت لبعضها حكماً ونفى هذا الحكم عن البعض الا?خر، فإنه قد شهد الجميع وتيقن أن هذا الحكم ثابت في هذا، ومنتف في هذا.
أما صلاة العيد فلا يحضرني فيها الا?ن سنة لكن المشهور من مذهب الحنابلة رحمهم الله أنه يرفع يديه في كل تكبيرة.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل ثبت رفع الأيدي في تكبيرات صلاة الجنازة؟
فأجاب فضيلته بقوله: أما رفع الأيدي في تكبيرات صلاة الجنازة فقد صح ذلك عن ابن عمر رضي الله عنهما من فعله، وروي عنه مرفوعاً، وابن عمر صحابي حريص على تتبع السنة وفعلها ولا يمكن أن يحدث في العبادة ما لم يعلم أنه مشروع، وعلى(17/133)
هذا فالسنة في التكبيرات في صلاة الجنازة أن ترفع يديك لكل تكبيرة. والله أعلم.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل يرفع المصلي يديه في كل تكبيرة من تكبيرات صلاة الجنازة؟
فأجاب فضيلته بقوله: القول الصحيح أنه يرفع يديه في كل تكبيرة؛ لأنه صح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وأما قول بعضهم أنه في تكبيرة الإحرام فقط، فهذا قول لبعض أهل العلم، ولكن الصحيح أنه في كل تكبيرة.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: عن عدد تكبيرات صلاة الجنازة؟ وكيف يقضي من سُبق في بعض التكبيرات؟
فأجاب فضيلته بقوله: تكبيرات الجنازة تكون أربعاً وتكون خمساً، وقد وردت أحاديث أوصلتها إلى السبع، لكن الثابت في صحيح مسلم إلى الخمس فيكبر أربعاً، أو خمساً، والذي ينبغي أن يكبر الإنسان في أكثر أحيانه أربعاً، وأن يكبر أحياناً(17/134)
خمساً لأجل أن يأتي بالسنة؛ لأن العبادات الواردة على وجوه متنوعة الأفضل أن تفعل على هذه الوجوه تارة وتارة، ليكون الإنسان فاعلاً للسنة بجميع وجوهها.
وإذا جاء الإنسان وهو مسبوق بالتكبيرات فإذا صادف الإمام في التكبيرة الثالثة التي هي محل الدعاء للميت فليدع للميت لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما أدركتم فصلوا"، ثم إذا سلم الإمام فقد ذكر أهل العلم أنه يُخيَّر أي المسبوق بين أن يسلم مع الإمام، أو يقضي ما فاته، فإن كانت الجنازة باقية وتمكن من قضاء ما فاته على صفته قضاه على صفته، وإن حملت الجنازة فليتابع التكبير ويسلم.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم من فاتته تكبيرة من تكبيرات صلاة الجنازة؟ وما حكم من يسلم تسليمتين في صلاة الجنازة؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا جاء الإنسان والإمام يصلي على الجنازة بعد أن فاتته تكبيرة، أو تكبيرتان فلا أعلم في هذا سنة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن الفقهاء رحمهم الله يقولون: إذا فاتك شيء من التكبيرات فإذا كانت الجنازة باقية فأكمل ما فاتك وسلم، وإن رفعت الجنازة، فإنك بالخيار: إما أن تسلم مع الإمام، وإما أن تتابع التكبير وتسلم إذا أنهيت التكبيرات، ولكني لا أعلم في هذا سُنة، ومن اطّلع على سنة في ذلك فليسعفنا بها جزاه الله خيراً.(17/135)
وأما من سلم التسليمتين فلا حرج عليه.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: لو دخلت مع الإمام في صلاة الجنازة وقد كبر بعض التكبيرات فما الحكم وماذا أصنع؟ نرجو التوضيح.
فأجاب فضيلته بقوله: صلاة الجنازة من فروض الكفايات والقائم بها يثابُ ثواب الواجب، فإذا دخل الداخل والإمام في التكبيرة الثالثة، والتكبيرة الثالثة هي التي يدعو فيها للميت، فإنه يدخل معه ويدعو للميت، لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا" ثم إذا سلم الإمام من صلاة الجنازة أتم المأموم ما فاته إن بقيت الجنازة حتى يُتم، فإن رُفعت قبل أن يتم فله أن يسلم، وله أن يكبر تكبيرات متوالية فيما بقي من التكبيرات ويسلم. هكذا قال أهل العلم رحمهم الله في هذه المسألة.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: من فاتته التكبيرات أو إحداهن هل يقضيها؟ وكيف يدخل مع الإمام في الصلاة؟
فأجاب فضيلته بقوله: يدخل مع الإمام في الصلاة حيث أدركه، لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا"، وإذا سلم الإمام أتمَّ ما فاته إن بقيت الجنازة لم ترفع، وأما إذا خشي رفعها فإن فقهائنا رحمهم الله يقولون: إنه يخير بين أن يتم ما(17/136)
فاته، وأن يسلِّم مع الإمام.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: إذا دخل المسبوق مع الإمام بعد التكبيرة الثالثة في صلاة الجنازة فهل يدعو للميت، أو يقرأ الفاتحة؟
فأجاب فضيلته بقوله: يدعو للميت لعموم قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما أدركتم فصلوا".
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: إذا جاء رجل والإمام يصلي الجنازة وقد كبر تكبيرتين، فما العمل؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا جاء الرجل وقد كبَّر الإمام على الجنازة التكبيرتين الأوليين، فإنه يكبر معه التكبيرة الثالثة، ويدعو للميت، وإذا سلم الإمام، فإن بقي الميت لم يرفع؛ أكمل ما مضى على صفته، وإن رفع الميت، فإنه يتابع التكبير ويسلم، وإن شاء سلم بدون متابعة التكبير.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم من فاتته تكبيرة من تكبيرات صلاة الجنازة؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا لا يخلو من حالين:
الحال الأولى: أن يتمكن المسبوق من قضاء ما فاته قبل أن ترفع الجنازة فإنه يقضي لعموم قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وما فاتكم فأتموا".
الحال الثانية: أن يخشى أن ترفع الجنازة، أو ترفع بالفعل(17/137)
فإنه مخير بين متابعة التكبير وبين أن يسلم ويسقط عنه ما بقي، هذا مقتضى ما ذكره الفقهاء رحمهم الله. والله أعلم.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم الصلاة على الجنازة في المقبرة سواء قبل الدفن أو بعد الدفن في أوقات النهي عن الصلاة خاصة بعد صلاة العصر لكثرة الصلاة على الجنائز في هذا الوقت؟ نرجو توضيح ذلك وجزاكم الله خيراً.
فأجاب فضيلته بقوله: حكم الصلاة على الجنازة في المقبرة قبل الدفن جائز، سواء كان في وقت النهي عن الصلاة، أو في غير وقت النهي عن الصلاة.
أما حكم الصلاة على الجنازة بعد الدفن، فإنه إن كان في وقت النهي عن الصلاة مثل بعد صلاة العصر فإنه لا يجوز الصلاة على الجنازة بعد دفنها، ولكن يأتي ويصلي عليها في غير هذا الوقت.
وأما إن كانت الصلاة على الجنازة بعد دفنها في غير وقت النهي عن الصلاة فإن هذا جائز.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل يجوز تأخير دفن الميت في قبره بحجة إتيان جماعة يصلون عليه ولو لمدة أقل من عشر دقائق، إذا كان قد صلي عليه بالمسجد؟(17/138)
فأجاب فضيلته بقوله: الإسراع في الجنازة هو السنة والأفضل ولا ينتظر أحد، والذين يأتون متأخرين يصلون عليه ولو بعد الدفن لأنه ثبت أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى على قبر المرأة التي كانت تقم المسجد.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل من صلى على قبر ميت يكون الأجر له كاملاً؟
فأجاب فضيلته بقوله: الظاهر والله أعلم أنه لا يدرك الأجر كاملاً، لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من شهد الجنازة حتى يصلي عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان" قيل: وما القيراطان؟ قال: "مثل الجبلين العظيمين"، ولكن له أجر لأنه ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه صلى على قبر المرأة التي كانت تقمّ المسجد، فيكون صلاته على القبر اتباعاً لسنة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
* * *
سُئِلَ فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: عن حكم الصلاة على الميت في المقبرة لمن لم يصل عليه؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا أعلم فيها سنة للرسول عليه الصلاة والسلام، ولا عن أصحابه؛ لكنها داخلة في عموم الترغيب في الصلاة على الميت، ويمكن أن يستدل لذلك بصلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على(17/139)
قبر المرأة التي كانت تقم المسجد، فإذا جاء أحد قد فاتته الصلاة عليه في المسجد فصلى عليه فلا بأس، وله أجر إن شاء الله.(17/140)
* * *
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين ...
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
أرجو أن تجيب عن سؤالنا هذا، المرأة إذا سقط منها الجنين قبل أربعة شهور هل تصوم وتصلي وإذا لم تتأكد من الأيام التي عليها فماذا تفعل؟ وهل يصلى على هذا السقط؟ أفيدونا أفادكم الله وجزاكم خيراً.
بسم الله الرحمن الرحيم، الجواب وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
قال أهل العلم: إذا سقط من المرأة جنين وقد تبيَّن فيه خلق إنسان أي خطط ورأت الدم فإنها تجلس لا تصوم ولا تصلي، وإن لم يخطط فلا تجلس.
وأما سؤالكم إذا لم تتأكد من الأيام التي عليها فإنها تبني على اليقين وغلبة الظن، وتقضي الصوم أو الصلاة التي عليها حتى تعلم أو يغلب على ظنها أن ذمتها برئت، ولا يصلى على الجنين إذا سقط وهو لم يتم له أربعة أشهر. والله الموفق. قال ذلك كاتبه محمد الصالح العثيمين في 5/1/8931هـ.(17/141)
رسالة
فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين حفظه الله ...
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
هل المرأة إذا أجهضت في الشهر الثالث وأسقطت طفلها تصلي، وإذا كان معها دم ماذا تفعل؟ وهل الجنين يُصلَّى عليه أم لا؟ وهل يدفن بدون صلاة؟ أرجو منكم الإجابة كتابة وجزاك الله خيراً.
بسم الله الرحمن الرحيم، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
إذا كان الحمل لم يتم له أربعة أشهر فإنه لا يُغسَّل، ولا يكفَّن ولا يصلى عليه، ويدفن في أي مكان غير مملوك لأحد.
وإذا بلغ أربعة أشهر فإنه يغسَّل، ويُكفَّن، ويُصلَّى عليه، ويدفن في المقابر.
وأما الدم الخارج عند ولادته فإن كان الجنين مخلقاً فهو دم نفاس، وإن كان لم يخلق فهو دم فساد لا تترك من أجله الصلاة. وليعلم أنه لا يمكن أن يخلق قبل أن يتم له ثمانون يوماً. كتبه محمد الصالح العثيمين في 32/5/2141هـ.(17/143)
س 921 سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: شخص علم بموت شخص آخر وقال: لن أصلي اليوم لأنني مشغول ولكن أصلي عليه غداً إذا دفن هل يشرع ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا أعلم في هذا شيئاً، ولكن إذا كان يريد الأجر فإنه يصلي عليه قبل أن يدفن؛ لأن هذه هي السنة الواردة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يصلِّ على القبر إلا حيث دفن وهو لم يعلم بموت صاحب القبر.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم وضع مغسلة ومسجد في المقبرة لمن لم يصل على الميت؟
فأجاب فضيلته بقوله: أما المغسلة فلا بأس بأن يوضع في المقبرة، أو حولها مغسلة.
أما بناء المسجد في المقبرة فلا يجوز. نعم، لو وضع مصلى للجنائز؛ عند المغسلة فلا بأس: وأقول: "مصلى للجنائز" أي أنه لا تصلى فيه الصلوات الخمس فإن هذا لا بأس به ولا حرج.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: بعض العوام يدخل المقبرة كل خميس ويصلي على كل من مات قريباً من هذا اليوم، وأحياناً بعضهم يصلي على أبيه كل جمعة ما رأيكم في هذا الأمر؟(17/144)
فأجاب فضيلته بقوله: رأيي أن هذه الصلاة بدعة فقد كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يزور القبور ولا يصلي عليهم، وإنما يدعو لهم بالدعاء المشروع: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاءالله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية"، "اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم".
وأما الصلاة عليهم صلاة الجنازة فهذا من البدعة، فيجب النهي عن هذا، وأن نبين للناس الذين يفعلونه أن هذا لا يزيدهم من الله قربة، ولا ينتفع به الميت أيضاً؛ لأنه بدعة.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: من فاتته الصلاة على الميت في المسجد سواء كان فرداً، أو جماعة هل يجوز لهم الصلاة على الميت في المقبرة قبل الدفن أو على القبر بعد الدفن؟
فأجاب فضيلته بقوله: الأولى أن يصلوا عليه قبل الدفن، لأنه إذا أمكن أن يصلوا على الجنازة حاضرة بين أيديهم كان هذا هو الواجب لكن لو جاءوا وقد دفن فإنهم يصلون على القبر لأنه ثبت(17/145)
عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه صلى على القبر.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: عن حكم صلاة الغائب، وكذلك الصلاة على القبر وهل لها حد؟
فأجاب فضيلته بقوله: أما الصلاة على الغائب فالصحيح أنها ليست بسنة إلا من لم يصل عليه؛ مثل أن يموت في بر، أو في دار كفر ولا يُعلم أنه صُلي عليه؛ فالصلاة عليه واجبة، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى على النجاشي، وأمر أصحابه أن يصلوا عليه أيضاً، فخرج بهم إلى المصلى فصلى بهم عليه الصلاة والسلام.
وهذه القضية أي الصلاة على الغائب لم ترد إلا في النجاشي؛ لأنه لا يُعلم أنه صُلي عليه في بلده.
وأما من علم أنه صُلي عليه في بلده، فالصحيح أنه لا تسن الصلاة عليه.
أما الصلاة على القبر فهي سنة كما ثبت ذلك عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولكن من العلماء من حددها بشهر، ومنهم من لم يحددها.
والصحيح أنها ليس لها حد؛ لكن يشترط أن يكون الميت الذي صلي عليه في قبره قد مات في حياة هذا المصلي؛ أي مات بعد ولادته وتمييزه.
أما لو مات قبل ذلك فلا تسن الصلاة على القبر، مثال هذا:(17/146)
لو أن شخصاً مات في سنة 0041هـ وولد شخصاً آخر في هذه السنة؛ فإنه إذا كبر هذا المولود لا يصلي على القبر؛ لأنه حين موت الميت ليس من أهل الصلاة؛ أما لو مات سنة 0041هـ وجاء شخصٌ من مواليد سنة 0831هـ؛ فإنه يصلي عليه؛ لأنه حين موته كان المصلي من أهل الصلاة.
وإنما قلنا ذلك لئلا يبتدع أحد بدعة فيذهب يصلي صلاة الجنازة على قبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى قبور الصحابة رضي الله عنهم في البقيع فإن هذا لم يرد.
والخلاصة أنه يصلى على القبر بدون تعيين مدة إذا كان صاحب القبر قد مات في زمن قد بلغ فيه المصلي أن يكون من أهل الصلاة.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: عن الصلاة على الميت الغائب؟
فأجاب فضيلته بقوله: الصلاة على الميت الغائب جائزة، لكن بشرط أن يكون في غير بلد المصلي، أما في بلد المصلي فيذهب ويصلي على القبر، وليست لها مدة محددة بل يصلي عليه إذا كان لم يصل عليه من قبل وإن طالت المدة، لكن الذي نرى أنه يصلي عليه إذا كان هذا الميت قد مات في زمن يكون المصلي فيه مميزاً، أما لو كان هذا الميت قد مات قبل أن يخلق هذا الإنسان ويميز فإنه لا تشرع له الصلاة عليه، ولهذا لو قال قائل: الا?ن سوف صلي على أبي بكر، أو على عمر، أو على غيرهما ممن ماتوا قديماً. لقلنا إن هذا ليس بمشروع، لكن لو مات إنسان في زمن أنت فيه(17/147)
موجود ومن أهل الصلاة يعني مميزاً فإن لك أن تصلي عليه صلاة الغائب. وقال بعض أهل العلم: إنه لا يصلى على الغائب إلا في حدود شهر واحد فقط، وما زاد على الشهر فإنه لا يصلي عليه. ولكن الصحيح أنه لا بأس أن تصلي عليه وإن زاد على الشهر.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ثبت عن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه صلى على النجاشي صلاة الغائب، وسبب ذلك أنه ما كان هناك أحد من المسلمين يصلي عليه، وواقع المسلمين الآن يموتون جماعة وبالتأكيد لم يصل عليهم كما هو حاصل في وقتنا الحاضر يعني أتأكد أنه ما يصلى عليهم؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا تأكدت أنه لم يصلّ عليهم فصل عليهم، لأن الصلاة فرض كفاية.
لكن ربما أهله صلوا عليه، لأن الصلاة على الميت تكون بواحد، على كل حال إذا تأكدت أن شخصاً ما لم يصل عليه فعليك أن تصلي عليه لأنها فرض كفاية ولابد منها.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: كيف يصلى على الغائب؟ وهل يصلى على كل ميت صلاة الغائب؟
فأجاب فضيلته بقوله: الصلاة على الغائب كالصلاة على الحاضر، ولهذا لما نعى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النجاشي وأخبرهم بموته، أمر(17/148)
الناس أن يخرجوا إلى المصلى وصفهم صفوفاً، وكبر أربع مرات كما يكبر على الحاضر.
وأما هل يصلى على كل ميت صلاة غائب أم لا؟
في هذا خلاف بين أهل العلم:
منهم من يقول: يصلى على كل ميت غائب، حتى إن بعضهم قال: ينبغي للإنسان في كل مساء أن يصلي صلاة الميت، وينوي بها الصلاة على كل من مات من المسلمين في ذلك اليوم، في مشارق الأرض ومغاربها.
وآخرون قالوا: لا يصلَّى على أحد إلا من علم أنه لم يصل عليه أحد.
وفريق ثالث قالوا: يصلى على كل من كانت له يد على المسلمين من علم نافع وغيره.
والراجح: أنه لا يصلى على أحد إلا من لم يصل عليه، ففي عهد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم مات كثير ممن كانت لهم أياد على المسلمين ولم يصل صلاة الغائب على أحد منهم، والأصل في العبادات التوقيف حتى يقوم الدليل على مشروعيتها.
* * *
وسُئِلَ فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما القول الراجح في الصلاة على الغائب؟
فأجاب فضيلته بقوله: الصلاة على الغائب ليست مشروعة إلا على من لم يصل عليه، هذا هو القول الراجح.(17/149)
س 831 وسُئِلَ فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: كيف يُصلَّى على المسلمين الذين دُفنوا بغير صلاة عليهم؟
فأجاب فضيلته بقوله: يُصلَّى على المسلمين الذين دفنوا بغير صلاة عليهم على قبورهم إن أمكن، وإلا صلى عليهم صلاة الغائب.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: عن رجل قتل زوجته ثم قتل نفسه فهل يصلى عليه؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم يصلى عليه، لأن قتل النفس لا يخرج من الإسلام، والدليل على أنه لا يخرج من الإسلام قول الله تبارك وتعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالاُْنثَى بِالاُْنْثَى فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَالِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَالِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فجعل القاتل أخاً للمقتول، ولو كان يخرج من الإسلام لم يكن أخاً له، ولكن الأمر شديد وإن لم يخرج من الإسلام، وكذلك العقوبة شديدة، يقول الله عز وجل: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} خمس عقوبات: جهنم، والخلود فيها، وغضب الله عليه، ولعنه، وأعد له عذاباً عظيماً. فالأمر ليس بالهين، لكن لا يخرج من الإسلام، ويصلى عليه، ويدعى له بالمغفرة، وفضل الله واسع.(17/150)
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده، يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بسمٍّ، فسمه بيده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تردَّى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالداً مخلداً أبداً". ماذا يُقصد بهذه الأبدية؟ هل هي خاصة بقاتل نفسه؟ وهل يجوز الترحم على من فعل ذلك بنفسه؟
فأجاب فضيلته بقوله: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. هذا سؤال مهم جداً؛ وذلك أنه يأتي في الكتاب والسنة نصوص فيها فتح باب الرجاء والأمل الواسع؛ مثل أن يذكر الشارع بعض الأعمال الصالحة، ويرتب عليها تكفير السيئات، أو يرتب عليها دخول الجنة وما أشبه ذلك، فيأتي بعض الناس ويغلب جانب الرجاء على جانب الخوف، فيفرح ويستبشر بذلك ويقول: إذن فلا تضرني معصية، مادام هذا العمل اليسير يكفِّر عني السيئات، أو يكون سبباً في دخولي الجنة، وهذا فهم خاطىء لنصوص الرجاء.
وتأتي نصوص أخرى، تذكر بعض المعاصي، أو بعض الكبائر، وترتب عليها دخول النار، أو الخلود فيها، ولكنها لا(17/151)
تخرج العبد من الإسلام، فتجد بعض الناس يتحسَّر وييأس، ويتمادى في ضلاله، وهذا فهم خاطىء أيضاً لنصوص الوعيد.
ولذلك انقسم أهل القبلة يعني الذين ينتسبون للإسلام انقسموا في هذه النصوص إلى ثلاثة أقسام: قسم غلَّب جانب نصوص الرجاء، وقال: لا تضر مع الإسلام معصية، وهؤلاء هم المرجئة، يغلبون جانب الرجاء على جانب الخوف، ويقولون: أنت مؤمن، اعمل ما شئت فلا يضرك مع الإيمان معصية.
وطائفة أخرى: غلبوا نصوص التخويف والزجر، وقالوا: إن فاعل الكبائر، مخلد في نار جهنم أبداً، ولو كان مؤمناً، ولو كان يصلي، ولو كان يزكي ويصوم ويحج، وهؤلاء هم (الوعيدية) من المعتزلة والخوارج، قالوا: إن الإنسان لو فعل كبيرة، كقتل نفسه مثلاً، أو قتل نفس غيره، أو زنى أو سرق، فهو خالد مخلد في نار جهنم.
وكل هؤلاء جانبوا الصواب، سواء الذين غلَّبوا نصوص الرجاء والرحمة، أو الذين غلبوا نصوص التخويف والوعيد.
وأهل السنة والجماعة وسط بين هذه الفرق، قالوا: نأخذ بالنصوص كلها؛ لأن الشريعة شريعة واحدة، صادرة عن مصدر واحد وهو الله عز وجل، إما في كتابه، أو على لسان رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا كان الأمر كذلك، فإنه يكمل بعضها بعضاً، ويُقيد بعضها بعضاً، ويخصص بعضها بعضاً، فيأتي نص عام، ونص خاص، فيجب أن نحمل العام على الخاص، ويأتي نص مطلق، ونص مقيد، فيجب أن نحمل المطلق على المقيد؛ لأن الشريعة واحدة،(17/152)
والمشرع واحد، فإذا كان كذلك فلا يمكن أن نأخذ بجانب دون الا?خر.
وبهذا يسلم الإنسان من إشكالات كثيرة، فقد ورد في القرآن قوله تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً عَذَاباً عَظِيماً} . هذه خمس عقوبات؛ جزاؤه جهنم، خالداً فيها، وغضب الله عليه، ولعنه، وأعد له عذاباً عظيماً. عندما تقرأ هذه الا?ية تقول: إن قاتل المؤمن عمداً مخلدٌ في النار، ولا يمكن أن يخرج منها، لأن الله قال: {وغضب الله عليه ولعنه} . ومن لعنه الله فقد طرده وأبعده عن رحمته، وهذا يقتضي أنه لا يمكن أن يخرج من النار إلى الجنة أبداً.
وكذلك ما أشار إليه السائل فيمن قتل نفسه، أنه خالدٌ مخلدٌ أبداً، صرح في الحديث بالتأبيد، وهذا يقتضي ألا يخرج منها، لأن هذا خبر من الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخبر الرسول صدق، ولا يمكن أن يعتريه الكذب، ولا يمكن أن يتخلف مدلوله، ولهذا نقول: هذه الأشياء تكون سبباً لذلك، فقتل النفس سبب للخلود المؤبد في نار جهنم، كما قال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولكن هناك موانع من الخلود، دلَّت عليها النصوص الشرعية؛ منها أن يكون الإنسان معه شيء من الإيمان، ولو أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من الإيمان، فإنه لا يخلد في النار، فنحمل هذه النصوص على هذه النصوص، ونقول: نصوص الوعيد جاءت عامة من أجل التنفير من هذا العمل والهروب منه، ولكن(17/153)
ليس هناك خلود مؤبد إلا للكافرين، هذا وجه.
الوجه الثاني: أن بعض العلماء يقول: هذه النصوص على ظاهرها، وذلك أنه قد يصاب الذي يقتل نفسه بالانسلاخ من الإيمان، فيكون حين قتل نفسه غير مؤمن، وإذا كان غير مؤمن فهو كافر خالد في النار، لأنه إذا نحر نفسه فإن كان مجنوناً فلا شيء عليه، وإن كان عاقلاً، فلابد أنه فعل ذلك لسبب، وهذا السبب في الغالب لكي يستريح من النكبة أو الضائقة التي حلت به على زعمه.
ومن زعم أنه إذا قتل نفسه نجا من الضائقة التي ألمت به فقد أنكر البعث، وأنكر عقوبة الا?خرة، وإذا أنكر البعث، وعقوبة الا?خرة، كان بذلك كافراً، فيكون مستحقًّا للخلود المؤبد في النار، لأنه ليس من المعقول أن شخصاً يقتل نفسه ليستريح مما هو فيه، إلا لظنه أنه ينتقل إلى ما فيه الراحة له، ولا يمكن ذلك وقد قتل نفسه، فيكون شاكًّا في البعث أو جاحداً لعذاب الا?خرة، وبذلك يكون كافراً. هكذا قال بعض أهل العلم.
الوجه الثالث: يرى بعض العلماء أن قوله: "خالداً مخلداً" وهم من الراوي. والمهم أنه يجب أن نعلم أن نصوص الكتاب والسنة يقيد بعضها بعضاً، ويخصص بعضها بعضاً، ولا تناقض بين نصوص الكتاب والسنة أبداً.(17/154)
وأما مسألة الترحُّم عليه، فيجوز الترحُّم عليه، لأنه ليس بكافر وإن كان يخلد في النار إلى أن يشاء الله.
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما رأيكم فيمن يخرج من الصلاة إذا علم أن الميت من أصحاب المعاصي، وقصده في ذلك تعظيم هذه المعاصي وزجر الناس؟
فأجاب فضيلته بقوله: العاصي إذا لم تخرجه معصيته عن الإسلام فهو من أحق الناس بالصلاة عليه، لأنه محتاج للدعاء فينبغي أن يُصلَّى على العاصي ليدعو له، ويشفع له، ولا ينبغي الخروج وترك الصلاة، اللهم إلا إذا كان الرجل له أهمية في البلد، ويكون الميت قد أعلن فسقه، ورأى أن المصلحة أن لا يصلي عليه فلا بأس.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: إذا كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يصل على الذي في ذمته دين فهل هذا خاص به عليه الصلاة والسلام، أعني عدم الصلاة على المدين؟ ولماذا لا يكون من بعض الأئمة سؤال عن الموتى الذين يصلون عليهم؟
فأجاب فضيلته بقوله: إن الرسول عليه الصلاة والسلام كان لا يصلي على من عليه دين لا وفاء له، لكن لما فتح الله عليه صار(17/155)
يقول: "من كان عليه دين فعلي قضاؤه"، فصار يقضي عن الناس ديونهم ويصلي عليهم، أما بالنسبة لغيره فالصحيح أن في ذلك تفصيلاً، فإن كان الرجل له قيمته في المجتمع وإذاترك الصلاة على هذا المدين اتعظ الناس بذلك وخففوا من الديون عليهم فليفعل اقتداء برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أما إذا كان من عامة الناس وإنه إذا ترك الصلاة على المدين لم ينته الناس عن الدين ولا يزيده ذلك إلا شماتة به وسبًّا له فلا يفعل، فهناك فرق بين رجل له قيمته واعتباره في المجتمع إذا فعل الشيء قبله الناس واقتدوا به، وشخص آخر ليس له هذه القيمة ولا يزيده فعل ذلك إلا سبًّا وشتماً، فلا يفعل هو في غنى عن هذا.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: لو دخل رجل ووجد جماعة يصلون على جنازة فصلى معهم، وهو يريد أن يبقى في المسجد؛ فهل تجزئه صلاته هذه عن تحية المسجد؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يجلس حتى يصلي ركعتين؛ لأن صلاة الجنازة ليست من جنس صلاة الركعتين، فلا تجزئه عن تحية المسجد.
* * *
س 441 سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما هي(17/156)
الساعات التي نُهينا أن نصلي فيها على موتانا؟ ولماذا لا يصلي الناس على الجنازة قبل صلاة الفجر أو قبل صلاة العصر إذا كانوا مجتمعين خصوصاً في الحرمين للخروج من النهي؟
فأجاب فضيلته بقوله: الساعات التي نهينا عن الصلاة فيها وعن دفن الميت ثلاث ساعات: حين تطلع الشمس حتى ترتفع قيد رمح، وحين يقوم قائم الظهيرة أي قبل الزوال بنحو عشر دقائق إلى خمس دقائق وإذا بقي عليها أن تغرب مقدار رمح، هذه ثلاث ساعات ينهى عن الصلاة والدفن فيها، لحديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: "ثلاث ساعات نهانا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نصلي فيهن وأن نقبر فيهن موتانا". وذكر هذه الساعات الثلاث.
وأما ما بعد صلاة الفجر، وبعد صلاة العصر، فإنه ليس فيه نهي عن الصلاة على الميت ولهذا فلا حاجة أن نقدم الصلاة على الميت قبل صلاتي العصر والفجر.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل يجوز للمرأة أن تجمع أهل البيت من النساء وتصلي بهن صلاة الجنازة على ميتهن في ذلك المنزل؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم، لا حرج أن تصلي المرأة صلاة الجنازة، سواء صلتها في المسجد مع الناس، أو صلت عليها في(17/157)
بيت الجنازة، لأن النساء لا يمنعن من الصلاة على الميت، وإنما يمنعن من زيارة القبور، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعن زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج. هذا إن قصدت الزيارة، أما إن لم تقصد الزيارة بأن تكون ذهبت لشغل لها ومرت بالمقبرة فلا حرج عليها أن تقف وتسلم على أهل القبور وتدعو لهم.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل تُقْطَعُ صلاة النافلة أو طواف التطوع للصلاة على الجنازة؟ وهل تقطع النافلة إذا أقيمت الفريضة؟
فأجاب فضيلته بقوله: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة" وظاهره أن النافلة لا تقطع إلا للفريضة، ولا تقطع لصلاة الجنازة، ولو قطعها المصلي فلا بأس؛ لأنه يجوز قطع النفل لغرض صحيح.
وكذلك من يطوف تطوعاً يقطع طوافه لصلاة الجنازة، لكن الأفضل أن لا يقطع.
وإذا أقيمت الفريضة وأنت في نافلة فالمسألة خلافية:
فمن العلماء من قال: تقطع على كل حال.(17/158)
ومنهم من قال: لا تقطع إلا إذا بقي على انتهاء صلاة الإمام مقدار تكبيرة الإحرام.
والصحيح أن الصلاة إذا أقيمت وقد قمت للركعة الثانية فكملها خفيفة، وإن كنت في الأولى فاقطعها، بدليل قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة". فهذا المصلي المتنفل الذي صلى ركعة كاملة قبل وجود السبب المقتضي للقطع يكون قد أدرك الصلاة في وقت يحل له إقامتها فيها فيستمر هذا الحل ولكن يتجوز فيها؛ لأن الجزء من الفريضة أفضل من الجزء من النافلة.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هناك جنازتان متجاورتان في المقبرة، ما كيفية الصلاة عليهما بعد الدفن؟ هل يصلى على كل جنازة على حدة، أو ينوي الصلاة عليهما؟
فأجاب فضيلته بقوله: إن كان القبران كلاهما بين يدي المصلي فإنه يصلي عليهما صلاة واحدة، وإن كان كل واحد بمكان فلكل واحد صلاة. حرر في 51/01/1416 هـ.
* * *
س 841 سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما القول(17/159)
الصحيح في حكم الصلاة على الميت في المسجد؟
فأجاب فضيلته بقوله: الصحيح أنه لا بأس بالصلاة على الميت في المسجد؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى على سهل بن بيضاء في المسجد.
* * *(17/160)
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
فضيلة الشيخ/ محمد بن صالح العثيمين سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
فلدينا جامع يصلى فيه على الجنائز ولكن مقدمته ضيقة جداً لاسيما عندما توجد أكثر من جنازة فتحصل مشقة كبيرة وعدم انتظام للقريبين من الجنازة ونريد أن نبني ملحقاً أمامياً في المسجد يكون على هيئة الغرفة وتكون مفتوحة على بناء المسجد لأصلى على النحو الموجود في هذا الرسم لتوضع فيها الجنازة أثناء الصلاة عليها.
فما هو رأيكم حفظكم الله وسدد خطاكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته؟
بسم الله الرحمن الرحيم
ج وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
لا بأس ببناء هذه الغرفة، ووضع الجنائز فيها، ولكن إذا كان فيها جنازة، أو جنازتان، فإنهما يحضران بين يدي الإمام؛ لأن ذلك أوقع في النفوس، وأقوى تأثيراً في اتعاظ المشاهدين.
أما إذا كثرت الجنائز وصار في إحضارهن، إرباك للصفوف؛ فلا بأس بالصلاة عليهن في هذه الغرفة ويكون بابها كما وصف أعلاه واسعاً، حرر في 01/11/1418 هـ.(17/161)
دفن الميت
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما الحكم فيمن يقول عند اتباع الجنازة: "لا إله إلا الله، الدايم وجه الله" وذلك بصوت مسموع، وعند الدفن يقولون: "يا رحمن، يا رحمن"، فما الحكم في ذلك؟ وما هي السنة عند اتباع الجنازة وعند دفن الميت؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا القول مُبتدَع. ولا شك أنه لا إله إلا الله، وأنه لا يبقى إلا الله، لكن كونها تُتخذ على هذا الوجه الذي ذُكر في السؤال هذا من البدع؛ لأن كل طريق لم يفعله السلف مما يقرب إلى الله ويُتعبد لله فإنه بدعة، وكذلك عند الدفن قولهم "يا رحمن، يا رحمن" أيضاً هذا من البدع.
والسّنة لمن اتبع الجنازة أن يكون متأملاً متفكراً في مآله، وأنه الآن يمشي مشيعاً للجنازة وسيُمشى معه مشيعاً كما شُيعت هذه الجنازة، ويتأمل في أعماله وأحواله.
وأما عند الدفن فقد كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: "استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يُسأل"، فهذا هو المشروع.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل جعل رأس الميت هو المقدم عند المشي به سنة أم لا؟(17/165)
فأجاب فضيلته بقوله: لا أعلم في هذا سنة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكن كلام أهل العلم في كيفية التربيع في حمل الجنازة يقتضي أن يكون رأسه هو المقدم.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: أيهما أفضل: حمل الجنازة على الأكتاف أو على السيارة؟
وأيهما أفضل: السير أمامها أو خلفها سواء كان ماشياً أو راكباً؟
فأجاب فضيلته بقوله: الأفضل حملها على الأكتاف، لما في ذلك من المباشرة بحمل الجنازة، ولأنه إذا مرت الجنازة بالناس في الأسواق عرفوا أنها جنازة ودعوا لها، ولأنه أبعد عن الفخر والأبهة، إلا أن يكون هناك حاجة، أو ضرورة فلا بأس أن تحمل على السيارة، مثل: أن تكون أوقات أمطار، أو حر شديد، أو برد شديد، أو قلة المشيعين.
وأما السير فذكر أهل العلم أن يمينها، ويسارها، وخلفها، وأمامها يختلف، فيكون المشاة أمامها، والركبان خلفها، وبعض أهل العلم يقول: ينظر الإنسان ما هو أيسر سواء كان أمامها، أو عن يمينها، أو شمالها، أو خلفها.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما معنى التربيع في حمل الجنازة؟ وهل لهذا أصل؟
فأجاب فضيلته بقوله: التربيع في حمل الجنازة أن يحملها(17/166)
من أعواد السرير الأربعة، فيبدأ من عود السرير الأيمن بالنسبة للميت، الأيمن المقدم، ثم يرجع إلى المؤخر، ثم يذهب إلى العود الأيسر بالنسبة للميت، المقدم، ثم يرجع إلى المؤخر، وقد وردت فيه آثار عن السلف، واستحبه أهل العلم.
ولكن الأولى للإنسان إذا كان هناك زحام أن يفعل ما هو أيسر بحيث لا يَتْعب ولا يُتْعِب غيره.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم تقديم الرجل اليمنى في الدخول إلى المقبرة وتقديم اليسرى في الخروج منها؟
فأجاب فضيلته بقوله: ليس في هذا سنة عن النبي عليه الصلاة والسلام، وبناء على ذلك فالإنسان يدخل حيث صادف، إن صادف دخوله برجله اليمنى، فالرجل اليمنى، أو اليسرى فاليسرى حتى يتبين دليل من السنة.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم اتباع جنازة المسلم؟ وهل هو حق واجب عيني؟
فأجاب فضيلته بقوله: قال أهل العلم: إن تجهيز الميت من تغسيل، وتكفين، وحمل، ودفن، فرض كفاية؛ إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين، ولكن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رغَّب في اتباع الجنائز وقال: "من شهد جنازة حتى يصلى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان"، قيل: وما القيراطان: قال: "مثل الجبلين(17/167)
العظيمين".
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: في بعض الأماكن، وعندما يحمل الناس الميت إلى الصلاة، ومن ثم إلى المقبرة يغطون الميت بغطاء مكتوب عليه آية الكرسي، أو آيات متفرقة من القرآن، فهل لهذا العمل أصل في الشرع؟
فأجاب فضيلته بقوله: ليس لهذا العمل أصل في الشرع (أي ليس لكتابة الآيات القرآنية على ما يغطى به الميت فوق النعش أصل في الشرع) ؛ بل هو في الحقيقة امتهان لكلام الله عز وجل، بجعله غطاء يتغطى به الميت، وهو ليس بنافع الميت بشيء، وعلى هذا فالواجب تجنبه:
أولاً: لأنه ليس من عمل السلف.
وثانياً: لأن فيه شيئاً من امتهان القرآن الكريم.
وثالثاً: لأن فيه اعتقاداً فاسداً وهو أن هذا ينفع الميت، وهو ليس بنافعه.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم وضع الحديد على نعش المرأة بقصد إخفاء معالمها؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا بأس به؛ لأن ذلك أستر لها.
* * *(17/168)
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: كثير من الناس عند دفن الميت نجدهم كلهم مجتمعين حول القبر، وترى الكلام من كل شخص، ونجد الخلافات حول القبر حتى لا تجد سكينة ولا فائدة من حضوره للجنازة ما رأيكم في ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا خلاف السنة، والذي ينبغي للإنسان في هذا الحال أن يكون مُفكِّراً في مآله، منتظراً ما سيؤول إليه، كما آل إليه هؤلاء الأموات، هذا هو الذي ينبغي، ولا ينبغي النزاع والشقاق ورفع الأصوات في هذا الحال.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: إذا تأخر الرجل في متابعة الجنازة بسبب الزحام، أو لأداء الراتبة، أو لإتمام فريضة، أو غير ذلك فلم يسر معها، ولكنه أدرك الجنازة قبل أن تدفن هل يكون مشيعاً لها يثبت له أجر المشيع؟
فأجاب فضيلته بقوله: ذكر السائل عدة مسائل في هذا السؤال:
1 إذا تأخر لأداء الراتبة، والذي يتأخر لأداء الراتبة ثم يلحق الجنازة لا يكتب له أجر المشيع، لأن ترك الراتبة ممكن، فيمكن أن تؤخر الراتبة حتى يرجع من الجنازة.
2 وأما من تأخر عنها لعذر كالزحام وإتمام الفريضة وقد أتى(17/169)
وحرص على أن يشيع، ولكن حصل له مانع، أو تقدم الناس حتى صلوا عليها وخرجوا بها إلى المقبرة فالظاهر أنه يكتب له الأجر؛ لأنه نوى وعمل ما استطاع، ومن نوى وعمل ما استطاع فإنه يكتب له الأجر كاملاً. قال الله تعالى: {وَمَن يُهَاجِرْ فِى سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِى الأَْرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَّحِيماً} .
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: أيهما أفضل أن تكون الجنازة تابعة أم متبوعة؟ وما حكم الدعاء بصوت عال للميت، والناس يؤمنون خلفه حال الدفن؟
فأجاب فضيلته بقوله: ذكر أهل العلم أن التابع للجنازة إن كان راكباً فالأفضل أن يكون خلف الجنازة، وإن كان ماشياً فالسنة أن يكون أمامها، أو يمينها، أو شمالها.
والأمر في هذا واسع، والعلماء قالوا: إن الركبان يكونون خلف الجنازة وذلك في عهدهم، لأن الناس كانوا يركبون على الإبل أو على الحمير أو ما أشبهها. أما الآن فالأولى للركبان إذا كانوا في السيارات أن يكونوا أمامها، لأن وجودهم خلف المشيعين على أرجلهم يزعجهم وربما يرغم المشيعين أن يسرعوا إسراعاً فاحشاً، يخشى على الميت مع قوة الرج أن يخرج منه شيء. فلهذا أرى أن الركبان في السيارات في الوقت الحاضر يكونون أمام الجنازة، فإن لم يتيسر لهم ذلك فليكونوا خلفها بعيداً عن المشاة(17/170)
لئلا يزعجوا المشاة.
والأمر بالنسبة للمشاة واسع؛ إن كانوا عن أمامها، أو عن خلفها، أو عن يمينها، أو عن شمالها.
أما الدعاء للميت برفع الصوت عند الدفن فإنه بدعة، لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: "استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت، فإنه الا?ن يُسأل"، ولو كان الدعاء بصوت جماعي سنة لفعله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن يقال للناس: كلٌّ يدعو بنفسه لهذا الميت إذا دفن، يستغفر له، ويسأل الله له التثبيت، ويكفي مرة واحدة. لكن إن كررها ثلاثاً فهو خير، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا دعا، دعا ثلاثاً.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: يقوم بعض الناس بالإسراع في حمل الجنازة، والجري بها، ثم يتكلم أحدهم فجأة ويقول مثلاً: (وحِّدوه) فيقولون: "لا إله إلا الله"، ويقول: "اذكروا الله" فيذكرون الله فهل لهذا أصل؟
فأجاب فضيلته بقوله: ليس لهذا العمل أصل أي قول أحدهم: اذكروا الله، وحدوا الله فهو من الأمور البدعية، والذي ينبغي للمشيع أن يكون مفكراً في مآله، وأنه سوف يحمل كما حمل هذا الرجل، ويفكر في أمر الدنيا، وأن هذا الرجل الذي كان بالأمس(17/171)
على ظهر الأرض أصبح الا?ن رهين عمله، هذا هو المشروع، أما وحدوه، واذكروا الله، فلم يرد عن السلف. وخير عمل يعمله الإنسان هو ما عمله السلف رحمهم الله أما الإسراع بالجنازة فهذا من السنة؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "أسرعوا بالجنازة"، إلا أن بعض العلماء قالوا: لا ينبغي الإسراع الذي يشق على المشيعين، أو يخشى منه تمزق الميت، أو خروج شيء من بطنه مع الحركة.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: متى يجلس من يتبع الجنازة إلى المقبرة؟
فأجاب فضيلته بقوله: يجلس إذا وضعت في القبر، أو إذا وضعت على الأرض لانتظار وإتمام حفر القبر.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: كثير من الناس يرفعون أصواتهم عند دفن الميت هل في هذا من حرج؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا دعت الحاجة إلى ذلك فلا بأس يعني إذا صوت أحدهم: "أعطني اللبن، أعطني الطين، أعطني الماء"، فلا بأس مادام الحاجة دعت إلى ذلك، وإلا فالصمت خير. هذا إذا كان الصوت في أمر غير تَعبُّدي، كطلب ماء ولَبن ونحوهما، أما أن يكون في أمر تعبدي مثل أن يرفعوا أصواتهم بقراءة، أو ذكر من تهليل، أو تكبير، أو غيرهما فإن ذلك بدعة.(17/172)
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم تسجية قبر المرأة عند إنزالها القبر، وما مدة التسجية؟
فأجاب فضيلته بقوله: ذكر بعض أهل العلم أنه يسجى يعني يغطى قبر المرأة إذا وضعت في القبر لئلا تبرز معالم جسمها، ولكن هذا ليس بواجب، ويكون هذا التخمير أو التسجية إلى أن يُصف اللبن عليها.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما رأي فضيلتكم في المقصورة التي توضع على المرأة الميتة على نعشها لتسترها؟ وهل المرأة عورة حية وميتة وهل هذه المقصورة من السنة؟ فإن كانت من السنة فلماذا لا تُحيا ويعمل بها جزاكم الله خير الجزاء؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا شك أن المقصورة إذا وضعت على نعش الميتة الأنثى أنه أستر لها، لأنه أحياناً تقدم جنائز من النساء يشاهد الإنسان حجم الميتة تماماً، ويتبين بذلك مقاطع جسمها، وهذا أمر لا يرغب فيه، وما يوجد في الحجاز ولاسيما في مكة من وضع المكبة هذه التي تكون على النعش، لا شك أنه أستر وأبعد عن رؤية الميتة.
أما ما ظهر من المرأة من ثياب ونحوه فليس بعورة سواء كانت حية أو ميتة إلا إذا كان عليها ثياب لاصقة بالجسم ضيقة تبين مقاطع الجسم، فإنه لا يجوز لها أن تفعل ذلك.(17/173)
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: بعض الناس عند إنزال المرأة إلى اللحد يغطي المرأة بعباءة حتى لا يراها الناس ما حكم ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا مما فعله السلف واستحبه العلماء رحمهم الله قالوا: لأن هذا أستر لها، لأنها إذا وضعت في اللحد بدون تغطية فإنها ربما تنكشف، ولكن الناس يعملون عندنا هنا في عُنيزة يضعون المرأة بعباءتها التي غطيت بها؛ ثم يأخذون العباءة شيئاً فشيئاً. كلما وضعوا لبنة أزالوا العباءة فيحصل بهذا الستر.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: بعد الفراغ من دفن المرأة يقوم حافر القبر بوضع حجر بارز في وسط قبر المرأة حتى يُعرف هذا القبر أنه قبر امرأة، بحجة أنه لو نُبش القبر مثلاً فإنه يحرص على ستر عورة الميتة، أو غير ذلك من الحجج التي يحتجون بها فهل هذا الفعل من السنة؟
فأجاب فضيلته بقوله: ليس هذا من السنة، بل السنة أن يُدفن القبر ويرفع قدر شبر، لا فرق بين الرجال والنساء، لكن لا بأس بوضع علامة ليزوره قريبه فيعرفه، وأما التفريق بهذا الحجر فلا أصل له.(17/174)
* * *
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
فضيلة الشيخ/ محمد بن صالح العثيمين حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ما رأي فضيلتكم في قفص يوضع على نعش جنازة المرأة أثناء حملها للصلاة عليها وتشييعها؟
فأجاب فضيلته بقوله: بسم الله الرحمن الرحيم: رأينا أن هذا لا بأس به، بل قد استحبه أهل العلم، قال في (الروض المربع) (للحنابلة 1/843، ح العنقري) : "فإن كانت امرأة استحب تغطية نعشها بمكبة؛ لأنه أستر لها ويروى أن فاطمة رضي الله عنها صنع لها ذلك بأمرها، ويجعل فوق المكبة ثوب". ا. هـ
وقال في (جواهر الإكليل شرح مختصر خليل) (للمالكية 1/111 ط الحلبي) : "وندب سترها أي الميتة حال حملها للصلاة والدفن بقبة على النعش مبالغة في سترها". ا. هـ
وقال في المجموع شرح المهذب (للشافعية 5/122ط دار العلوم للطباعة) : فرع. قال أصحابنا: يستحب أن يتخذ للمرأة نعش، والنعش هو المكبة التي توضع فوق المرأة على السرير، وتغطى بثوب لتستر عن أعين الناس، وكذا قال صاحب الحاوي إلى(17/175)
أن قال: واستدلوا له بقصة جنازة زينب، أم المؤمنين رضي الله عنها، وقد روى البيهقي أن فاطمة رضي الله عنها أوصت أن يتخذ لها ذلك ففعلوه، فإن صح هذا فهي قبل زينب بسنين كثيرة". ا. هـ وفي كتاب الفقه على المذاهب الأربعة لعبد الرحمن الجزيري (1/135) عن الحنفية أنهم قالوا: ويغطى نعش المرأة ندباً، كما يغطى قبرها عند الدفن إلى أن يفرغ من لحدها إذ المرأة عورة من قدمها إلى قرنها". ا. هـ
فهذا كلام أهل المذاهب الأربعة، معللين ذلك بأنه أستر للمرأة، وهذا شيء معلوم معمول به في الحجاز، لكن لو جعلتم هذا القفص على قدر نصف الجسم بإزاء وسط المرأة، ويربط الثوب الذي فوقه بأطراف النعش، لحصلت به الكفاية، وكان أخف من القفص الكبير، نسأل الله لنا ولكم التوفيق. كتبه محمد الصالح العثيمين في 2/2/1413 هـ.(17/176)
صورة القفص(17/177)
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: عن جماعة يسكنون في منطقة رملية وقبورهم لا تلحد وإنما تشق فما حكم ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: الشق إذا احتيج إليه فإنه لا بأس به، بل قد يتعين كما في الأرض الرملية.(17/178)
* * *
رسالة
فضيلة الشيخ: محمد بن صالح العثيمين سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
حيث إن الأرض الطينية بمقابر ... قد امتلأت ولم يبق سوى أرض صلبة يصعب الحفر فيها يدويًّا لذا نرجو توجيهنا عن مدى جواز الاستعانة ب (الكبريشن) أو آلة مماثلة لحفر القبور، مع أحاطتكم بأن الا?لة سيراعى في إدخالها عدم المرور من فوق القبور داعين الله عز وجل لكم بدوام التوفيق لخدمة الإسلام والمسلمين؟ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 8/01/1411 هـ.
فأجاب فضيلته بقوله: بسم الله الرحمن الرحيم، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. إن أمكنكم الحصول على أرض طينية فانقلوا المقبرة إليها؛ لأن ذلك أسرع في الحفر، وأسهل، وأسلم من تسرب الأمطار إلى جوف اللحد من خلال الحصا، فالأرض الطينية أولى وإن بعدت عن الحجرية، وإن لم يمكن ذلك لكون الأراضي التي حولكم كلها حجرية فلا حرج في حفر القبر بالا?لات الثقيلة للضرورة إلى ذلك. وفق الله الجميع لما فيه الخير. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. كتبه محمد الصالح العثيمين في 01/01/1141هـ.(17/179)
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: عند وضع الميت يجلس كثير من الناس على طرف القبر قائمين ينظرون إلى الميت هل هذا الفعل مشروع؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا الفعل الذي ذكرت أنهم يقومون على القبر لينظروا إلى الميت ليس بمشروع، وإنما المشروع أن الميت إذا وضع في القبر يوضع عليه اللبنات، ثم يدفن في الحال؛ لأن الإسراع في التجهيز هو الأفضل.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل يجوز دفن الأموات بالليل؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم، يجوز دفن الأموات بالليل إذا قام الإنسان بالواجب من التغسيل، والتكفين، والصلاة عليه، فإنه يجوز أن يدفن بالليل، وقد دفن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلاً، وذكر أن أبا بكر رضي الله عنه دفن ليلاً، وكذلك المرأة التي كانت تقمّ بالمسجد دفنت ليلاً، والأصل الجواز، فدل هذا على جواز الدفن ليلاً بشرط أن يكون الدافن قد أدى ما ينبغي أن يؤدى من التغسيل، والتكفين، والصلاة عليه.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: من أولى الناس بإنزال الميت إلى قبره: المُتعلِّم أو ولي الميت؟ وهل(17/180)
هناك فرق بين الرجل والمرأة؟ وهل يشترط أن يكون الذي ينزل المرأة من محارمها؟
فأجاب فضيلته بقوله: الأولى بذلك وصيّه، إذا كان له وصي، فإن لم يكن له وصي فالأقرب ثم الأقرب من أوليائه، وإذا كان هناك متعلم فهو أولى، وإن لم يكن هناك متعلم ودفنها غير متعلم فإنه يتلقى التعليم من المتعلم، ويوجهه المتعلم.
ولا يشترط أن يكون الذي ينزل للقبر محرماً للمرأة. فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر أبا طلحة رضي الله عنه أن ينزل في قبر ابنته ويدفنها مع حضوره هو، وزوجها عثمان بن عفان رضي الله عنه.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: مِنْ أي الجهات يُنزل الميت إلى قبره؟
فأجاب فضيلته بقوله: من الجهة المتيسرة، لكن بعض العلماء قالوا: يسن من عند رجليه، وبعض العلماء يقول: يُسنُّ من الأمام. والأمر في هذا واسع.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ماذا يقال عند إدخال الميت إلى قبره؟
فأجاب فضيلته بقوله: نص الفقهاء رحمهم الله تعالى على أنه يقول مدخله: "بسم الله، وعلى ملة رسول الله".(17/181)
س 371 سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى على أي جنب يوضع الميت؟
فأجاب فضيلته بقوله: يستحب أن يوضع على جنبه الأيمن ويجب أن يوضع مستقبل الكعبة؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "الكعبة قبلتكم أحياءً وأمواتاً".
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: في بعض البلاد يدفنون الميت على ظهره ويده على بطنه فما الصواب في دفن الميت؟
فأجاب فضيلته بقوله: الصواب أن الميت يُدفن على جنبه الأيمن مستقبل القبلة، فإن الكعبة قبلة الناس أحياءً وأمواتاً، وكما أن النائم ينام على جنبه الأيمن كما أمر بذلك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكذلك الميت يضجع على جنبه الأيمن فإن النوم والموت يشتركان في كون كل منهما وفاة، كما قال تعالى: {اللهُ يَتَوَفَّى الأَْنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا وَالَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِى قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الاُْخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ فِى ذَلِكَ لأََيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِى قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الاُْخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ فِى ذَلِكَ لأََيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِى قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الاُْخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ فِى ذَلِكَ لأََيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِى قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الاُْخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ فِى ذَلِكَ لأََيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الاُْخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ فِى ذَلِكَ لأََيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الاُْخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ فِى ذَلِكَ لأََيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ إِنَّ فِى ذَلِكَ لأََيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ذَلِكَ لأََيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} ، وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِى يَتَوَفَّاكُم بِالَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ(17/182)
تَعْمَلُونَ يَتَوَفَّاكُم بِالَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ
ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ تَعْمَلُونَ} . فالمشروع في دفن الميت أن يضجع على جنبه الأيمن مستقبل القبلة.
ولعل ما شاهده السائل كان نتيجة عن جهل من يتولى ذلك، وإلا فما علمت أحداً من أهل العلم يقول: إن الميت يضجع على ظهره، وتجعل يداه على بطنه.
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: عن حكم حل العقد في القبر، وكشف وجه الميت؟
فأجاب فضيلته بقوله: حل عقد اللفائف ورد فيه أثر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "إذا أدخلتم الميت القبر فحلوا العقد".
أما كشف وجه الميت كله فلا أصل له، وغاية ما ورد فيه إن صحّ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "إذا مت ووضعتموني في قبري فأفضوا بخدي إلى الأرض".
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم وضع القطيفة في القبر للميت بدليل ما رواه مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (جُعلَ في قبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(17/183)
قطيفة حمراء"؟
فأجاب فضيلته بقوله: ذكر أهل العلم أنه لا بأس أن يجعل فيه قطيفة، ولكني أرى في هذا نظراً، لأنه لم ينقل عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم أنهم فعلوا ذلك، ولعل هذا كان من خصائص الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولأنه لو فتح هذا الباب لتنافس الناس في ذلك، وصار كل إنسان يحب أن يجعل تحت ميته قطيفة أحسن من الآخر، وهكذا، حتى تكون القبور موضع المباهاة بين الناس، والذرائع ينبغي أن تسد إذا كانت تفضي إلى أمر محذور.
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل هناك دليل يثبت أن الصحابة رضي الله عنهم أنكروا وضع القطيفة على شُقران؟ وما صحة سند أن الصحابة رضي الله عنهم أخرجوا هذه القطيفة؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا أعلم عن هذا شيئاً.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى بالنسبة للحثيات الثلاث هل لها أصل أن تكون من جهة رأس الميت؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم لها أصل؛ لأن الحديث الوارد في ذلك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حثى من قبل رأسه ثلاث حثيات.(17/184)
سُئِلَ فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما هو المشروع عند مواراة الميت بالتراب؟ وهل يشرع قول: "منها خلقناكم، وفيها نعيدكم، ومنها نخرجكم تارة أخرى"؟
فأجاب فضيلته بقوله: ذكر بعض أهل العلم أنه يسن أن يحثي ثلاث حثيات.
وأما قول "منها خلقناكم، وفيها نعيدكم، ومنها نخرجكم تارة أخرى" فليس فيه حديث عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعتمد عليه.
وأما ما يُسن فعله بعد الدفن فهو ما أمر به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد كان إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: "استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت، فإنه الا?ن يُسأل". فتقول: اللهم اغفر له، اللهم اغفر له، اللهم اغفر له، اللهم ثبته، اللهم ثبته، اللهم ثبته، ثم تنصرف.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم رفع القبر؟
فأجاب فضيلته بقوله: رفع القبر خلاف السنة، ويجب أن يسوى بالقبور التي حوله إن كان حوله قبور، أو ينزل حتى يكون كالقبور المعتادة؛ لأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال لأبي الهياج الأسدي: "ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن لا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته".
* * *(17/185)
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما رأيكم فيمن يضع على قبر الرجل حجرين، وعلى قبر المرأة حجراً واحداً هل هذا التفريق مشروع؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا التفريق ليس بمشروع، والعلماء قالوا إن وضع حجر أو حجرين، أو لبنة أو لبنتين من أجل العلامة على أنه قبر لئلا يحفر مرة ثانية لا بأس به، وأما التفريق بين الرجل والمرأة في ذلك فلا أصل له.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما معنى قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: "ولا قبراً مشرفاً إلا سويته"، والا?ن نرى كثيراً من القبور تزيد عن شبر؟
فأجاب فضيلته بقوله: القبر المشرف معناه الذي يكون عالياً على غيره من القبور؛ بحيث يتميز فهذا يجب أن يسوى بالقبور الأخرى؛ لئلا يفتتن الناس به، لأن الناس إذا رأوا هذا القبر المشرف العالي ربما يفتتنوا به، فلهذا بعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن لا يدع قبراً مشرفاً إلا سواه.
* * *
سُئِلَ فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: جرت العادة كما شاهدت في بلادنا أن من الناس من ينذر إضاءة(17/186)
المقامات بالشمع مثل قبور الأنبياء مثل النبي صالح عليه الصلاة والسلام والنبي موسى عليه الصلاة والسلام ومقام بعض الأولياء في بعض المناسبات أو عندما ينذرون نذورهم كأن يقول إنسان أو شخص إذا رزقت بولد إن شاءالله سوف أضيء المقام الفلاني مدة أسبوع مثلاً أو أذبح لوجه الله ذبيحة عند المقام الفلاني فهل تجوز مثل هذه النذور؟ وهل إنارة المقام بالشمع أو بالزيت جائزة وعادة ما تكون هذه الأيام التي يضيئون بها هي أيام الاثنين والخميس ليلة الجمعة فهل هذا ورد في زمن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أم أنه بدعة؟
فأجاب فضيلته بقوله: إضاءة المقامات يعني مقامات الأولياء والأنبياء التي يريد بها السائل قبورهم هذه الإضاءة محرمة فقد ورد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنه لعن فاعليها، فلا يجوز أن تضاء هذه القبور لا في ليالي الاثنين ولا في غيرها، وفاعل ذلك ملعون على لسان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى هذا فإذا نذر الإنسان إضاءة هذا القبر في أي ليلة أو في أي يوم فإن نذره محرم، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه"، فلا يجوز له أن يفتي بهذا النذر.
ولكن هل يجب عليه أن يكفر كفارة يمين لعدم وفائه بنذر، أو لا يجب؟(17/187)
محل خلاف بين أهل العلم، والاحتياط أن يُكفِّر كفارة يمين، لعدم وفائه بهذا النذر.
وأما تعداده لقبور بعض الأنبياء مثل صالح وموسى عليهما الصلاة والسلام وما أشبهه فإنه لا يصح أي قبر من قبور الأنبياء إلا قبر النبي عليه الصلاة والسلام فإن الأنبياء لا تعلم قبورهم، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام في موسى عليه الصلاة والسلام أنه سأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فلو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر" وليس معلوماً مكانه الا?ن، وكذلك قبر إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام ليس معلوماً مكانه.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: في بعض البلاد يوضع على بعض القبور قطع من الرخام وتكون مرتفعة قليلاً، وبعضهم يكتب على تلك القطع {يا أيتها النفس المطمئنة} الا?ية، ثم يكتب اسم الميت، فما رأي فضيلتكم في ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا منكر وحرام، وتجب إزالته، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى أن يُبنى على القبر، أو يجلس عليه، أو يجصص، أو يكتب عليه وبعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن لا(17/188)
يدع قبراً مُشرفاً إلا سواه، أي جعله مثل القبور الأخرى، فيجب على هؤلاء القوم أن يزيلوا ما وضعوا من الرخام. وقال بعض أهل العلم: "إن الميت يتأذى بالمنكر إذا فُعل عند قبره"، وهذا منكر، ومقتضى قول العلماء هذا أن صاحب القبر يتأذى بما وُضع عليه، فبادر أخي السائل بهذا، وقل يجب إزالته، فإن فعلوا الإزالة فهو من نعمة الله عليهم وعلى ميتهم، وإن لم يفعلوا فالواجب على المسؤول عن المقبرة أن يزيل ذلك. ثم ما الذي أدراهم أنها نفس مطمئنة يقال: ارجعي إلى ربك راضية مرضية؟ ما يُدرى، هل كل أحد يعلم أن هذا الرجل مات على التوحيد والإيمان؟ إنما نحن علينا بالظاهر، لكن أمور الا?خرة لا ندري عنها.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم الكتابة على القبور أو تعليمها بالألوان؟
فأجاب فضيلته بقوله: أما التلوين فإنه من جنس التجصيص وقد نهى النبي عليه السلام عن تجصيص القبور، وهو أيضاً ذريعة إلى أن يتباهى الناس بهذا التلوين، فتصبح القبور محل مباهاة، ولهذا ينبغي تجنُّب هذا الشيء.
وأما الكتابة عليه فقد نهى النبي عليه السلام عن الكتابة على(17/189)
القبر، لكن بعض أهل العلم خفف فيما إذا كانت الكتابة لمجرد الإعلام فقط، ليس فيها مدح ولا ثناء، وحمل النهي على الكتابة التي يكون فيها تعظيم لصاحب القبر، وقال بدليل أنه (أي النهي عن الكتابة) قرن بالنهي عن تجصيص القبور والبناء عليها.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم وضع علامة على القبر أو كتابة الاسم عليه بحجة الزيارة له؟
فأجاب فضيلته بقوله: وضع العلامة عليه لا بأس به؛ كحجر أو خشبة أو ما شابه ذلك.
وأما الكتابة عليه فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "نهى أن يكتب على القبر".
لكن إذا كانت الكتابة مجرد كتابة الاسم فقط بدون أن يكون مدحاً، أو إطراء، أو كتابة قرآن وما أشبه ذلك فإن هذا لا بأس به عند بعض أهل العلم، وبعض العلماء يرى أن الكتابة ولو كتابة الاسم أنها داخلة في النهي ويقول بدلاً عن كتابة الاسم نجعل الوسم المعروف في القبيلة، ويجعل على الحجر الذي عند رأس الميت ويكفي، وإذا حصل هذا فهو أحسن أي إذا كانت علامة الوسم تكفي فلا حاجة للكتابة.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: نلاحظ بعض الناس أنهم يضعون على أحد جانبي قبر الميت علامة(17/190)
من الإسمنت يكتب عليها اسم الميت وتاريخ وفاته وقد يرفع بناؤها؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا من المنهي عنه، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى أن يكتب على القبر، ورخص بعض العلماء أن يكتب علامة فقط كالوسم، أو الاسم فقط. أما أن يكتب تاريخ الموت والاسم واسم الأب والجد وما أشبه ذلك، أو يكتب شيء من القرآن فإن هذا كله من البدع التي تزال إذا وجدت، يستبدل الحجر بغيره، ثم إن الحجر الذي يوضع لا يكون مشرفاً على غيره من القبور، بل يكون مماثلاً لها، لأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال لأبي الهياج الأسدي: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل وضع شيء على القبور من أشجار رطبة وغيرها من السنة بدليل صاحبي القبرين اللذين يعذبان أم أن ذلك خاص بالرسول عليه الصلاة والسلام وما دليل الخصوصية؟
فأجاب فضيلته بقوله: وضع الشيء الرطب من أغصان، أو غيرها على القبر ليس بسنة، بل هو بدعة، وسوء ظن بالميت، لأن النبي عليه السلام لم يكن يضع على كل قبر شيئاً من ذلك، وإنما وضع على قبرين علم عليه الصلاة والسلام أنهما(17/191)
يعذبان. فوضع الجريدة على القبر جناية عظيمة على الميت، وسوء ظن به، ولا يجوز لأحد أن يسيء الظن بأخيه المسلم، لأن هذا الذي يضع الجريدة على القبر يعني أنه يعتقد أن هذا القبر يعذب، لأن النبي عليه السلام لم يضعها على القبرين إلا حين علم أنهما يعذبان.
وخلاصة الجواب أن وضع الجريدة ونحوها على القبر بدعة وليس له أصل، وأنه سوء ظن بالميت حيث يظن الواضع أنه يُعذب، فيريد التخفيف عليه، ثم ليس عندنا علم بأن الله تعالى يقبل شفاعتنا فيه إذا فعلنا ذلك، وليس عندنا علم بأن صاحب القبر يعذب.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل يجوز للإنسان إذا زار المقبرة أن يضع على القبر جريدة رطبة أو غصن شجرة؟
فأجاب فضيلة بقوله: لا يجوز أن نصنع ذلك لأمور:
أولاً: أننا لم يكشف لنا أن هذا الرجل يعذب بخلاف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثانياً: أننا إذا فعلنا ذلك فقد أسأنا إلى الميت، لأننا ظننا به ظن سوء أنه يعذب وما يدرينا فلعله ينعم، لعل هذا الميت ممن منَّ الله عليه بالمغفرة قبل موته لوجود سبب من أسباب المغفرة الكثيرة فمات وقد عفا رب العباد عنه، وحينئذ لا يستحق عذاباً.(17/192)
ثالثاً: أن هذا الاستنباط مخالف لما كان عليه السلف الصالح الذين هم أعلم الناس بشريعة الله فما فعل هذا أحد من الصحابة رضي الله عنهم فما بالنا نحن نفعله.
رابعاً: أن الله تعالى قد فتح لنا ما هو خير منه فكان النبي عليه الصلاة والسلام، إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: "استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الا?ن يسأل".
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم وضع الحشيش والبرسيم على قبر الميت علماً بأن بعضهم يدعي بأن هذا البرسيم يمنع من دخول التراب داخل القبر؟
فأجاب فضيلته بقوله: في بعض البلاد لابد من وضع الإذخر، أو ما يقوم مقامه بين خلل اللبنات، ولذلك لما حرم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حش حشيش مكة وقطع الشجر، قال ابن عباس: إلا الإذخر، فإنه لبيوتهم وقبورهم، فقال: "إلا الإذْخِر" فإذا كان لابد من وضع هذا بين اللبنات، فإنه يوضع ولا حرج فيه ولا بأس.
وأما وضع الحشيش على القبر فإن هذا ليس من هدي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإنما ورد عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حينما مر بقبرين، فقال: "إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما: فكان لا يستتر من البول، وأما الا?خر: فكان يمشي بالنميمة"، فأخذ(17/193)
جريدة رطبة فشقها نصفين، وغرز في كل قبر واحدة فقالوا: لم فعلت ذلك يا رسول الله؟ قال: "لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا". فهذا خاص بالرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنه علم بأن هذين القبرين يعذبان، ولو وضع أحد مثل هذا على قبر لكان معنى ذلك أنه أساء الظن بالميت وأنه يعذب.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: بعض الناس يقول إن التراب الذي يخرج من القبر حال حفره لابد حال الدفن أن يوضع جميعه لأنه حق للميت؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا ليس بصحيح، بل إنه إذا كان التراب كثيراً بحيث يزيد على الشبر فإنه لا ينبغي أن يدفن به، لأن رفع القبور أكثر من الشبر خلاف السنة، وأما الزيادة على تراب القبر فقد قال العلماء: إنه لا يزاد عليه.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم رش القبر بالماء بعد الدفن بحجة أنه يمسك التراب؟ وهل هو يبرد على الميت؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا بأس أن يرش؛ لأن الماء يمسك التراب فلا يذهب يميناً ويساراً.
أما ما يعتقد العامة من أنهم إذا رشوا برّدوا على الميت فإن هذا ليس له أصل.(17/194)
رسالة
فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين حفظه الله:
يوجد عندي أرض تقع في ... بجوار جملة أملاك لغيري وقد أحييت تلك الأرض بغرس شجر الأثل فيها منذ ما يقارب الثلاث والأربعون سنة، وحين إحيائي لها وهي رمال عالية وقد أخرجت حجة استحكام للأرض المذكورة وكذلك حصلت على رخصة بناء منزل فيها من بلدية ... والذي حصل أن فيه جماعة اعترضوا على إقامتي البناء عليها بحجة أنه يوجد فيها قبور علماً أن المعترضين عليّ لهم أملاك بجوار أرضي قد اشتروها منذ عهد قريب وقد طلبوا مني شراء تلك الأرض ورفضت لأنني أرغب إقامة مبنى سكني عليها وعلى ذلك أدلة وليطمأن خاطري وتطيب نفسي فقد عملت على حفر الأرض لأرى إذا كان عليها أثر قبور فلم أعثر على أي أثر يدل على وجود قبور فيها، لذا أرجو من فضيلتكم إفادتي شرعاً لكي أقيم عليها سكني أو أتركها، وفقكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، إذا كان حفرك الأرض حفراً عميقاً بحيث لو كان فيها قبور لتبينت فلا حرج عليك في إقامة السكن فيها ما لم يثبت أنها من أرض المقبرة. حرر في 12/11/1399 هـ.(17/195)
رسالة
فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين وفقه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
نحيط فضيلتكم علماً بأنه يوجد لدى قيادة الدفاع المدني سيارة إنارة وعدد من المولدات المحمولة والمقطورة التي تستخدم أيضاً للإنارة وذلك أثناء الحاجة لها في الحوادث التي تقع ليلاً لإضاءة مسارح العمليات الليلية أثناء مجابهة الحوادث بأنواعها وكذلك الكوارث في حالة وقوعها لا قدر الله.
وفي بعض الأحيان وإذا كانت الظروف عادية وليس هناك حاجة لها يطلب منا بعض المواطنين إنارة المقبرة في حالات الدفن ليلاً لأنه كما لا يخفى على فضيلتكم أن جميع مهامنا إنسانية ونهتم بالجوانب الإنسانية بجميع أشكالها.
وقد حدث في إحدى الليالي أن انتقلت سيارة الإنارة لإضاءة المقبرة الواقعة بحي ... أثناء دفن جثة أحد المواطنين الذي انتقل إلى رحمة الله وأثناء ذلك تدخل أحد المواطنين طالباً إطفاء الإنارة أثناء الدفن؛ لأن هذا غير جائز حسب رأيه، ولكن الرائد ... لم ينفذ واكتفى بأن قال له:(17/197)
انتظر حتى ننتهي من عملية الدفن وبعد ذلك جرت مفاهمة بينهما فقال له الرائد فيما معناه: أنه ما كان ينبغي أن تتدخل بهذا الأسلوب والأمر الجاف أثناء هذا الظرف، وكان المفروض أن تنتظر حتى ننتهي من الدفن جزاك الله خيراً وتبلغنا ما أمرت به بأسلوب لبق يتفق مع تعاليم ديننا الحنيف. لذا أرجو من والدنا أن يزودنا بفتوى نستند عليها في جواز إضاءة المقبرة أثناء الدفن بواسطة سيارات ومقطورات الدفاع المدني المخصصة لغرض الإضاءة من عدمه علماً أن جميع المجالات التي سبق أن تدخلنا بها كانت السيارة تقف في الشارع وتوجه الكواشف الموجودة بها للمقبرة، كما أرجو إفادتنا أيضاً عن جواز إضاءة المقبرة أثناء الدفن بواسطة سلك كهربائي يمد من خارجها ويوصل بمصدر كهربائي سواء كان المصدر ثابتاً أو متحركاً وذلك لنتمكن من التنسيق مع البلديات إذا كان جائزاً. وختاماً أضرعُ إلى الله جل وعلا أن يمد في عمرك ويوفقكم دائماً لما فيه خير الإسلام والمسلمين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فأجاب فضيلته بقوله: بسم الله الرحمن الرحيم.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
أما وقوف السيارة خارج المقبرة أو داخلها من أجل إضاءة المكان ليسهل الدفن وحركة الناس فلا بأس لأن في ذلك مصلحة بلا مضرة.(17/198)
وأما إضاءة المقبرة بواسطة سلك كهربائي يمد من خارجها أثناء الدفن فأخشى من الغفلة عن إطفائه بعد انتهاء الدفن، فتبقى المقبرة مضيئة في غير حاجة، فترك ذلك أولى سدًّا للباب. وفقكم الله وجزاكم خيراً.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 13/5/1413 هـ.
* * *(17/199)
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم المرور بين القبور بالنعال؟ وما صحة الدليل الذي ينهى عن ذلك: "يا صاحب السبتتين اخلع نعليك"؟
فأجاب فضيلته بقوله: ذكر أهل العلم أن المشي بين القبور بالنعال مكروه، واستدلوا بهذا الحديث، إلا أنهم قالوا: إذا كان هناك حاجة كشدة حرارة الأرض، ووجود الشوك فيها، أو نحو ذلك فإنه لا بأس أن يمشي في نعليه.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: يقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يا صاحب السبتتين، اخلع نعليك فقد آذيت" كما نهى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أن يمتشط الرجل إلا غبًّا، ظاهر الحديث الأول الوجوب، والثاني التحريم. لكن من العلماء من يرى الندب في الأول، والكراهة في الثاني دون أن يذكروا صارفاً لذلك. فما هو الراجح عندكم مع ذكر الدليل وتبيين قواعد الأصوليين في ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: حديث "اخلع نعليك فقد آذيت" لا أعرفه بلفظ: "فقد آذيت". والقول بأن المشي بالنعال بين القبور للكراهة هو قول جمهور العلماء، وهو عندي أظهر من القول بالتحريم، لأن النهي عن ذلك من باب إكرام قبور المسلمين(17/200)
واحترامها، والقول بأن ذلك إهانة لها فنهي عنه، غير ظاهر، وهذا هو الذي صرف النهي إلى الكراهة.
وأما النهي عن الترجل إلا غبًّا فهو من باب الإرشاد إلى ترك الترف وإضاعة الوقت فيه.
وعلماء الأصول مختلفون في الأمر المجرد هل هو للوجوب، والنهي المجرد هل هو للتحريم؟ على أقوال ثلاثة:
القول الأول: أن الأمر للوجوب لقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} والنهي للتحريم لقوله تعالى: {وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً} .
القول الثاني: أن الأمر للاستحباب؛ لأن الأمر به رجح فعله، والأصل براءة الذمة وعدم التأثيم بالترك، والوعيد بالا?ية يراد به الأمر الذي ثبت أنه للوجوب لا كل أمر.
والنهي للكراهة؛ لأن النهي عنه رجح تركه، والأصل عدم التأثيم بالفعل، وهذا حقيقة المكروه.
وأما وصف العاصي بالضلال المبين فالمراد من عصى معصية يأثم بمخالفتها، أو يقال وهو بعيد إن الضلال مخالفة الهدى، وقد يكون معصية، وقد يكون دونها، لكن هذا الجواب ضعيف.
القول الثالث: أن ما يتعلق بالا?داب فالأمر فيه للاستحباب،(17/201)
والنهي للكراهة، وما كان يتعلق بالعبادات فالأمر فيه للوجوب، والنهي للتحريم؛ لأن الأول يتعلق بالمروءة، والثاني بالشريعة.
وهذا الخلاف ما لم تكن قرينة تعين الوجوب، أو الاستحباب، والكراهة أو التحريم، فإن كان ثم قرينة عمل بما تقتضيه من إيجاب، أو استحباب أو كراهة، أو تحريم.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم خلع الحذاء عند الدخول إلى المقبرة؟
فأجاب فضيلته بقوله: المشي بين القبور بالنعال خلاف السنة، والأفضل للإنسان أن يخلع نعليه إذا مشى بين القبور إلا لحاجة، إما أن يكون في المقبرة شوك، أو شدة حرارة، أو حصى يؤذي الرجل فلا بأس به، أي يلبس الحذاء ويمشي به بين القبور.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم المشي على القبور؟
فأجاب فضيلته بقوله: المشي على القبور لا يجوز؛ لأن فيه إهانة للميت، وقد نهى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يجصص القبر، وأن يبنى عليه، وأن يكتب عليه، وقال في الجلوس على القبر: "لأَنْ يجلس أحدكم على جمرة، فتحرق ثيابه فتمضي إلى جلده، خير له من أن يجلس على القبر".(17/202)
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: المقبرة إذا جعلت طريقاً أو جلس الناس عليها ما الحكم في ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يجوز أن تجعل مقابر المسلمين طرقاً يتطرق الناس بها، أو يجلسون عليها، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن الجلوس على القبر وقال: "لأَنْ يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه، فتمضي إلى جلده، خير له من أن يجلس على القبر"، والواجب أن تزال تلك الطرق من المقابر وتحترم مقابر المسلمين. والله أعلم.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل يجوز نبش القبور من أجل الطريق العام كأن يكون الطريق لا يصلح إلا من المقبرة، فهل يجوز نبشها ووضعها في مقبرة ثانية من أجل المصلحة العامة؟
فأجاب فضيلته بقوله: نبش القبور عند الضرورة إلى الطريق، أفتت اللجنة الدائمة أو بعض علمائها في المملكة العربية السعودية بجواز ذلك بشرط أن لا يمكن صرف الطريق عن الاتجاه إلى المقبرة فتُنبش القبور وتؤخذ العظام وتوضع في مقبرة.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: في ذات يوم اشتعلت النيران داخل الحجرة ويوجد بها بنت(17/203)
فاحترقت، فغسلناها وقبرناها وتبين لنا أن عليها ذهب في يديها وخروص في أذنيها فهل يجوز نبش القبر لأخذ الذهب؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يلزم أن ينبشوا قبر البنت من أجل أخذ الذهب الذي عليها، ولكن لو أرادوا نبش القبر في زمن قريب فإن لهم ذلك، لأن الذهب ملكهم بعد وفاة البنت، ولكن بعد مراجعة الجهة المختصة حتى لا تكون الأمور فوضى.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: يوجد قبر خارج القرية، فنبتت على هذا القبر شجرة، فجاءت الإبل تأكل من هذه الشجرة وتدوس على هذا القبر، وحفاظاً على هذا القبر وضعوا على هذا القبر سوراً فهل هذا العمل جائز أم لا؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذه الشجرة تقلع من أصلها. وإذا قلعناها من أصلها لم تأت الإبل وسلمنا من شرها، وبقي القبر على ما هو عليه، وأما البناء حفاظاً عليه فأخشى إن طال بالناس زمان أن يضلوا بهذا فيعتقدوا أنه قبر ولي أو صالح ثم تعود مسألة القبور إلى هذه البلاد بعد أن طهرها الله منها على يد الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.
فالا?ن لابد من تبليغ القاضي بالموضوع، خصوصاً إذا كان البناء كأنه حجرة فهذا لابد أن يزال، والقبر ينقل إلى مكان آخر إن خيف عليه في مكانه.(17/204)
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: لدي مزرعة عليها سور، وفي طرفها قبر من داخل السور، وقد ظهرت اللحود على ظهر الأرض، سألت كبار السن عنها فقالوا: إنها على هذه الطريقة، ولا نعرفها منذ أن ولدنا، فقمت بمسح هذا المحل لتوسعة المزرعة، فاتضح فيها خمسة قبور أخرى، وتمت التوسعة في هذه المزرعة من داخل السور وزراعتها، فهل علي شيء في هذا العمل؟
فأجاب فضيلته بقوله: القبور إذا دفن فيها الميت فإنها تبقى محترمة إلى أن يبلى الميت، وهذه القصة التي ذكرت أرى أن تذهب إلى القاضي في المحكمة التي لديكم حتى يرى المسألة رأي عين ويشاهد بنفسه، ثم ما يقضي به فهو خير إن شاءالله تعالى. والله الموفق.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: يقول السائل: لقد ورثت بيتاً عن المرحومة والدتي وقد انهدم هذا المنزل وجددت عمارته ويوجد بجانبه قبور كثيرة وبينما كنا نحفر أساسه عثرنا على عظام بالية يبدو أنها من القبور المجاورة فأخذت هذه العظام فدفنتها في مكان بعيد عن البيت وقد اكتملت عمارته مع العلم أن بيوتنا تقع كلها بجوار قبور، وقد ورثنا هذه البيوت من أجدادنا ولا نملك بيوتاً غيرها ولا أرضاً لنبني بعيداً عن هذه القبور فهل يحق لنا السكن في هذا(17/205)
البيت؟ وهل نقلي لهذه العظام إلى مكان جديد ليس فيه إثم أم لا؟ أفيدوني بارك الله فيكم.
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كانت هذه القبور قبور مسلمين فإن أصحابها أحق بالأرض منكم؛ لأنهم لما دفنوا فيها ملكوها، ولا يحل لكم أن تبنوا بيوتكم على قبور المسلمين، ويجب عليكم إذا تيقنتم أن هذا المكان فيه قبور يجب عليكم أن ترفعوا البناء، وأن تدعو القبور لا بناء عليها، وكونه لا بيت لكم لا يقتضي أن تحتلوا بيوت غيركم من المسلمين، فإن القبور بيوت الأموات، ولا يحل لكم أن تسكنوها مادمتم عالمين بأن فيها أموات.
بقي مسألة وهي قول السائل: "المرحومة والدتي" فإن بعض الناس ينكر هذا اللفظ يقولون: إننا لا نعلم هل هذا الميت من المرحومين، أو ليس من المرحومين؟ وهذا إنكار في محله إذا كان الإنسان يخبر خبراً عن هذا الميت أنه قد رحم؛ لأنه لا يجوز أن تخبر أن هذا قد رحم، أو عذب بدون علم، قال الله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولائِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} لكن الناس لا يريدون الإخبار قطعاً فالإنسان الذي يقول: "المرحوم الوالد" أو "المرحومة الوالدة" أو "المرحومة الأخت"، أو الأخ وما أشبه ذلك لا يريدون بهذا الجزم، أو الإخبار أنهم من المرحومين، إنما يريدون بذلك الدعاء أن الله تعالى قد رحمهم والرجاء، وفرق بين الدعاء والخبر، ولهذا تقول: "فلان رحمه الله، فلان غفر الله له" ولا فرق من حيث اللغة العربية بين قولنا "فلان المرحوم" و"فلان رحمه الله" لأن جملة "رحمه الله"(17/206)
جملة خبرية "والمرحوم" بمعنى الذي رحم فهي أيضاً خبرية، فلا فرق بينهما أي بين مدلولهما في اللغة العربية فمتى منع المرحوم يجب أن يمنع "فلان رحمه الله".
على كل حال نقول لا إنكار في هذه الجملة، أي قولنا: "فلان المرحوم وفلان المغفور له" وما أشبه ذلك لأننا لسنا نخبر بذلك خبراً، ونقول: إن الله قد رحمه، وإن الله قد غفر له، ولكننا نسأل الله ونرجو، فهو من باب الرجاء والدعاء، وليس من باب الإخبار، وفرق بين هذا وهذا.
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: نرى من الناس من لا يهتم بالقبور فيمشي عليها ويجلس عليها ومن الناس من يبالغ فيبني على القبور ويكتب عليها ويسرج المقابر فما توجيهكم؟
فأجاب فضيلته بقوله: أصحاب القبور من المسلمين لهم حقوق فتزار المقابر، ويسلم على أهلها، ويدعى لهم بالرحمة والمغفرة، وقد نهى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يمشى على القبر أو أن يجلس عليه، فقال عليه الصلاة والسلام: "لأَنْ يجلس أحدكم على جمرة، فتحرق ثيابه فتمضي إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر". ونهى عليه الصلاة والسلام عن البناء على القبور وأن يكتب عليها، ولعن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من(17/207)
إسراج القبور، فيجب أن لا نفرط فيما يجب للمقابر من الاحترام فلا تجوز إهانتها ولا الجلوس عليها وما أشبه ذلك، وأن لا نغلو فيها فنتجاوز الحد.
والواجب على المرء أن يتمشى في كل أموره على ما جاءت به الشريعة، وأن يحذر فتنة القبور والغلو في أصحابها، والله المستعان.
* * *
سُئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: عن حكم إسراج المقابر؟
فأجاب فضيلته بقوله: المقبرة التي لا يحتاج الناس إليها كما لو كانت المقبرة واسعة، وفيها موضع قد انتهى الناس من الدفن فلا حاجة إلى إسراجه، أما الموضع الذي يقبر فيه فيسرج ما حوله فقد يقال بجوازه لأنها لا تسرج إلا بالليل فليس في ذلك ما يدل على تعظيم القبر بل اتخذت للحاجة. ولكن الذي نرى المنع مطلقاً للأسباب الا?تية:
السبب الأول: أنه ليس هناك ضرورة.
السبب الثاني: أن الناس إذا وجدوا ضرورة لذلك فيمكنهم أن يحملوا سراجاً معهم.
السبب الثالث: أنه إذا فتح هذا الباب فإن الشر سيتسع في قلوب الناس ولا يمكن ضبطه فيما بعد.
أما إذا كان في المقبرة حجرة يوضع فيها اللبن ونحوه، فلا(17/208)
بأس بإضاءتها لأنها بعيدة عن القبور، والإضاءة داخلة لا تشاهد.
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: عن رجل توفي وبعد مدة رآه رجل في المنام وطلب منه أن يخرجه من القبر ويبني له مقاماً ففعل، فما حكم هذا العمل؟
فأجاب فضيلته بقوله: الحكم في هذا أنه فعل محرم، وأن المرائي التي ترى في المنام إذا كانت مخالفة للشرع فإنها باطلة، وهي من ضرب الأمثلة التي يضربها الشيطان ومن وحي الشيطان فلا يجوز تنفيذها أبداً، لأن الأحكام الشرعية لا تتغير بالمنامات، والواجب عليهم الا?ن أن يهدموا هذا المقام الذي بنوه له وأن يردوه إلى مقابر المسلمين.
ونصيحتي لهؤلاء وأمثالهم أن يعرضوا كل ما رأوه في المنام على الكتاب والسنة، فما خالف الكتاب والسنة، فمطرح مردود ولا عبرة به، ولا يجوز للإنسان أن يعتمد في أمور دينه على هذه المرائي الكاذبة؛ لأن الشيطان أقسم بعزة الله عز وجل أن يغوي بني آدم إلا عباد الله المخلصين، فمن كان مخلَصاً لله ومخلِصاً لله، متبعاً لدينه مبتغياً لدينه فإنه يسلم من إغواء الشيطان وشره، وأما من كان على خلاف ذلك فإن الشيطان يتلاعب به في عبادته، وفي اعتقاداته، وفي أفكاره، وفي أعماله، فليحذره يقول الله عز وجل: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} .(17/209)
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: عن مقبرة قديمة أصبحت طريقاً للناس والبهائم كيف يعمل بها؟
فأجاب فضيلته بقوله: أود أن أبين بهذه المناسبة أن لأصحاب القبور حقوقاً لأنهم مسلمون، ولهذا نهى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يوطَ على القبر وأن يجلس عليه وقال: "لأَنْ يجلس أحدكم على جمرة فتخرق ثيابه فتمضي إلى جلده خير له من أن يجلس على القبر". وكما نهى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن امتهان القبور فإنه نهى أيضاً عن تعظيمها بما يفضي إلى الغلو والشرك، فنهى أن يجصص القبر، وأن يبنى عليه، وأن يكتب عليه.
وهذه القضية التي ذكرت في السؤال المقبرة القديمة التي أصبحت ممرًّا وطريقاً للمشاة والسيارات ومرعى للبهائم يجب أن يرفع أمرها إلى ولاة الأمور لاتخاذ اللازم في حمايتها وصيانتها وفتح طرق حولها يعبر الناس منها إلى الجهات الأخرى.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: عن حكم دفن الموتى في المساجد؟
فأجاب فضيلته بقوله: الدفن في المساجد نهى عنه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونهى عن اتخاذ المساجد على القبور ولعن من اتخذ ذلك وهو(17/210)
في سياق الموت يحذر أمته ويذكر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن هذا من فعل اليهود والنصارى، ولأن هذا وسيلة إلى الشرك بالله عز وجل لأن إقامة المساجد على القبور ودفن الموتى فيهاوسيلة إلى الشرك بالله عز وجل في أصحاب هذه القبور، فيعتقد الناس أن أصحاب هذه القبور المدفونين في المساجد ينفعون، أو يضرون، أو أن لهم خاصية تستوجب أن يُتقرب إليهم بالطاعات من دون الله سبحانه وتعالى فيجب على المسلمين أن يحذروا من هذه الظاهرة الخطيرة، وأن تكون المساجد خالية من القبور، مؤسسة على التوحيد والعقيدة الصحيحة قال الله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللهِ أَحَداً} فيجب أن تكون المساجد لله سبحانه وتعالى خالية من مظاهر الشرك تؤدى فيها عبادة الله وحده لا شريك له هذا هو واجب المسلمين. والله الموفق.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: عن رجل بنى مسجداً وأوصى أن يدفن فيه فدفن فما العمل الآن؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذه الوصية أعني الوصية أن يدفن في المسجد غير صحيحة، لأن المساجد ليست مقابر، ولا يجوز الدفن في المسجد، وتنفيذ هذه الوصية محرم، والواجب الا?ن نبش هذا(17/211)
القبر وإخراجه إلى مقابر المسلمين.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: عن حكم البناء على القبور؟
فأجاب فضيلته بقوله: البناء على القبور محرَّم وقد نهى عنه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لما فيه من تعظيم أهل القبور، وكونه وسيلة وذريعة إلى أن تعبد هذه القبور، وتتخذ آلهة مع الله، كما هو الشأن في كثير من الأبنية التي بنيت على القبور فأصبح الناس يشركون بأصحاب هذه القبور، ويدعونها مع الله تعالى ودعاء أصحاب القبور والاستغاثة بهم لكشف الكربات شرك أكبر وردة عن الإسلام. والله المستعان.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: عن حكم الدين في بناء المقابر بالطوب والأسمنت فوق ظهر الأرض؟
فأجاب فضيلة بقوله: أولاً أنا أكره أن يوجه للشخص مثل هذا السؤال بأن يقال: ما حكم الدين، ما حكم الإسلام وما أشبه ذلك؛ لأن الواحد من الناس لا يُعبر عن الإسلام إذ قد يُخطىء ويصيب ونحن إذا قلنا إنه يعبر عن الإسلام معناه أنه لا يخطىء، لأن الإسلام لا خطأ فيه، فالأولى في مثل هذا التعبير أن يقال: ما ترى في حُكم من فعل كذا وكذا، أو ما ترى فيمن فعل كذا وكذا، أو ما ترى في(17/212)
الإسلام هل يكون كذا وكذا حكمه، المهم أن يُضاف السؤال إلى المسئول فقط.
أما بالنسبة لما أراه في هذه المسألة أنه لا يجوز أن يبنى على القبور فقد ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أنه نهى عن البناء على القبور، ونهى أن يجصص القبر وأن يجلس عليه"، فالبناء على القبور محرم؛ لأنه وسيلة إلى أن تُعبد ويُشرك بها مع الله عز وجل.
* * *
سُئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: عن رجل حفر لتأسيس بيته فوجد عظاماً فأخرجها فما حكم عمله هذا؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا تيقن أو غلب على ظنه أنها عظام موتى مسلمين فإنه لا يجوز له نقل العظام، وأصحاب القبور أحق بالأرض منه، لأنهم لما دفنوا فيها ملكوها، ولا يحل له أن يبني بيته على قبور المسلمين، ويجب عليه إذا تيقن أن هذا المكان فيه قبور أن يزيل البناء، وأن يدع القبور لا بناء عليها. وفي مثل هذه الحال الواجب مراجعة ولاة الأمور.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم دفن أكثر من واحد في قبر واحد؟
فأجاب فضيلته بقوله: المشروع أن يدفن كل إنسان في قبر(17/213)
وحده كما جرت به سنة المسلمين قديماً وحديثاً، ولكن إذا دعت الحاجة، أو الضرورة إلى جمع اثنين فأكثر في قبر واحد فلا بأس به فإن النبي عليه الصلاة والسلام في غزوة أحد كان يدفن الرجلين والثلاثة في قبر واحد، وفي هذه الحال ينبغي أن يقدم للقبلة أكثرهم قرآناً؛ لأنه الأفضل، ويكون بعضهم إلى جنب بعض، قال الفقهاء: وينبغي أن يجعل بين كل اثنين حاجز من تراب.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: حصل وماتت طفلة وعمرها ستة أشهر وقبرت مع طفل قد سقط وهو في الشهر السادس ومن بطن أمه فهل هذا يجوز أم لا؟ وإن كان لا فما حكم الذين قبروهما في قبر واحد؟
فأجاب فضيلته بقوله: المشروع أن يدفن كل ميت في قبر وحده، هذه هي السنة التي عمل المسلمون بها من عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى عهدنا هذا، ولكن إذا دعت الحاجة إلى قبر اثنين، أو أكثر في قبر واحد فلا حرج في هذا، فإنه ثبت في الصحيح وغيره أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يجمع الرجلين والثلاثة من شهداء أحد بقبر واحد إذ دعت الحاجة إلى ذلك.
وهذه الطفلة وهذا السقط اللذان جمعا في قبر واحد لا يجب الا?ن نبشهما؛ لأنه قد فات الأوان.
ومن دفنهما في قبر واحد جاهلاً بذلك فإنه لا إثم عليه، ولكن(17/214)
الذي ينبغي لكل من عمل عملاً من العبادات أو غيرها أن يعرف حدود الله تعالى في ذلك العمل قبل أن يتلبس به حتى لا يقع فيما هو محذور شرعاً.
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: توفيت والدتي عن عمر يناهز (58 عاماً) ، ودفنت مع أخرى توفيت قبل ثلاث سنوات فما حكم ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يجوز الدفن مع الميت مادام قد بقي من جثته شيء، وعلى هذا يجب دفن كل ميت في قبر مستقل، فإذا حفروا ووجد شيئاً من رفات الأموات، وجب دفنه بإعادة ترابه عليه، والتماس قبر آخر ولو بعيداً، لحرمة المسلم ولو ميتاً، فقد ورد في الحديث: "كسر عظم الميت ككسر عظم الحي".
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم دفن غير أهل السنة مع أهل السنة في مقبرة واحدة؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان صاحب البدعة كافراً ببدعته فإنه لا يجوز أن يدفن في مقابر المسلمين، لأن الكفار يجب أن تكون مقابرهم منفردة عن المسلمين، وأما إذا كان لا يكفر ببدعته فلا بأس أن يدفن مع المسلمين.
* * *
س 612 سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: عن حكم(17/215)
قراءة القرآن الكريم على الميت ووضع المصحف على بطنه؟ وهل للعزاء أيام محدودة حيث يقال: إنها ثلاثة أيام فقط، أرجو من سماحة الشيخ الإفادة جزاه الله خيراً؟
فأجاب فضيلته بقوله: ليس لقراءة القرآن على الميت أو على القبر أصل صحيح، بل ذلك غير مشروع، بل من البدع، وهكذا وضع المصحف على بطنه ليس له أصل وليس بمشروع، وإنما ذكر بعض أهل العلم وضع حديدة، أو شيء ثقيل على بطنه بعد الموت حتى لا ينتفخ.
وأما العزاء فليس له أيام محدودة، والله ولي التوفيق.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل يجوز لولي الميت أن يطلب من المشيعين أن يحللوا الميت؟
فأجاب فضيلته بقوله: طلب ولي الميت من المشيعين أن يحللوه من البدع، وليس من السنة أن تقول للناس: "حللوه"؛ لأن الإنسان إذا لم يكن بينه وبين الناس معاملة فليس في قلب أحد عليه شيء، ومن كان بينه وبين الناس معاملة فإن كان قد أدى ما يجب عليه فليس في قلب صاحب المعاملة شيء، وإن كان لم يؤد فربما لا يحلله، وربما يحلله، وقد ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله".(17/216)
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم تلقين الميت بعد دفنه؟
فأجاب فضيلته بقوله: القول الراجح أن لا يلقن بعد الدفن وإنما يُستغفر له ويسأل له التثبيت؛ لأن الحديث الوارد في التلقين حديث ضعيف.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما يجري عند بعض المسلمين من طلب الشهادة على الميت قبل دفنه فيقول قريبه أو وليه: ماذا تشهدون عليه ... فيشهدون له بالصلاح والاستقامة هل لهذا أصل في الشرع؟
فأجاب فضيلته بقوله: ليس له أصل في الشرع، ولا ينبغي للإنسان أن يستشهد الناس على الميت؛ لأنه من البدعة؛ ولأنه قد يثني عليه شرًّا فيكون في ذلك فضيحة له، ولكن الذي جاءت به السنة أن النبي عليه الصلاة والسلام كان مع أصحابه فمرت جنازة فأثنوا عليه خيراً، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وجبت"، ثم مرت جنازة أخرى فأثنوا عليه شرًّا، فقال عليه الصلاة السلام: "وجبت"، فسألوه ما معنى قوله: "وَجَبت"؟ فقال: "هذا أثنيتم عليه خيراً، فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرًّا فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض".(17/217)
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: بعد دفن الميت هناك حديث يرشد إلى أن يبقى الإنسان عند الميت بعد دفنه قدر ما يذبح البعير، فما معنى ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا أوصى به عمرو بن العاص رضي الله عنه فقال: "أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها"، لكن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يرشد إليه الأمة، ولم يفعله الصحابة رضي الله عنهم فيما نعلم، بل إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: "استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت، فإنه الا?ن يسأل"، فتقف على القبر وتقول: اللهم ثبته، اللهم ثبته، اللهم ثبته، اللهم اغفر له، اللهم اغفر له، اللهم اغفر له، ثم تنصرف، أما المكث عنده فليس بمشروع.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم قراءة القرآن على القبر بعد دفن الميت؟ وما حكم استئجار من يقرأون في البيوت ونسميها رحمة على الأموات؟
فأجاب فضيلته بقوله: الراجح من أقوال أهل العلم أن القراءة على القبر بعد الدفن بدعة؛ لأنها لم تكن في عهد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يأمر بها ولم يكن يفعلها. بل غاية ما ورد في ذلك أنه كان عليه الصلاة والسلام بعد الدفن يقف ويقول: "استغفروا لأخيكم،(17/218)
واسألوا له التثبيت، فإنه الا?ن يسأل". ولو كانت القراءة عند القبر خيراً وشرعاً لأمر بها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى تعلم الأمة ذلك.
وأيضاً اجتماع الناس في البيوت للقراءة على روح الميت لا أصل له، وما كان السلف الصالح رضي الله عنهم يفعلونه، والمشروع للمسلم إذا أصيب بمصيبة أن يصبر ويحتسب الأجر عند الله، ويقول ما قاله الصابرون "إنا لله وإنا إليه راجعون.. اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها" وأما الاجتماع عند أهل الميت، وقراءة القرآن ووضع الطعام وما شابه ذلك فكلها من البدع.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل تجوز قراءة الفاتحة على الموتى؟ وهل تصل إليهم؟
فأجاب فضيلته بقوله: قراءة الفاتحة على الموتى لا أعلم فيها نصًّا من السنة، وعلى هذا فلا تُقرأ، لأن الأصل في العبادت الحظر والمنع حتى يقوم دليل على ثبوتها، وأنها من شرع الله عز وجل، ودليل ذلك أن الله أنكر على من شرعوا في دين الله ما لم يأذن به الله، فقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللهُ وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ اللهُ وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
وثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"، وإذا كان مردوداً كان باطلاً وعبثاً يُنزه الله عز وجل أن(17/219)
يُتقرب به إليه.
وأما استئجار قارىء يقرأ القرآن ليكون ثوابه للميت فإنه حرام، ولا يصح أخذ الأجرة على قراءة القرآن، ومن أخذ أجرة على قراءة القرآن فهو آثم ولا ثواب له؛ لأن قراءة القرآن عبادة، ولا يجوز أن تكون العبادة وسيلة إلى شيء من الدنيا، قال الله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحياةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ} .
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم قراءة القرآن كله على الميت؟ سواء كان من اليوم السابع من وفاته أو في آخر السنة؟ وهل في ذلك ثواب للميت؟ أفيدوني بارك الله فيكم.
فأجاب فضيلته بقوله: القراءة على القبر بدعة لم ترد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا عن أصحابه رضي الله عنهم وإنما كان عليه الصلاة والسلام إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: "استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت، فإنه الا?ن يُسأل" هذا الذي ورد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأما القراءة للميت بمعنى أن الإنسان يقرأوينوي أن يكون ثوابها للميت، فقد اختلف العلماء رحمهم الله هل ينتفع بذلك أو لا ينتفع؟ على قولين مشهورين.(17/220)
والصحيح أنه ينتفع، ولكن الدعاء له أفضل، لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" ولم يذكر القراءة ولا غيرها من الأعمال الصالحة، ولو كانت من الأمور المشروعة لبينها الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث، ثم إن اتخاذ القراءة في اليوم السابع خاصة أو على رأس السنة من موته بدعة ينكر على فاعلها، لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إياكم ومحدثات الأمور".
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم قراءة سورة (يس) عند المقبرة، أو قراءة سورة الإخلاص، فأحد الناس يقول: اقرأوا سورة الإخلاص إحدى عشرة مرة؟
فأجاب فضيلته بقوله: القراءة عند القبور من البدع سواء (يس) أو (قل هو الله أحد) ، أو الفاتحة، فلا ينبغي أن يقرأ الإنسان على المقبرة، وإنما يقتصر الإنسان على ما جاء عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيقول: "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاءالله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية"، "اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا(17/221)
بعدهم، واغفر لنا ولهم"، ثم ينصرف ولا يزد على هذا، لا قراءة ولا غيرها.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم قراءة يس بعد دفن الميت؟
فأجاب فضيلته بقوله: قراءة يس على قبر الميت بدعة لا أصل لها، وكذلك قراءة القرآن بعد الدفن ليست بسنة؛ بل هي بدعة وذلك لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: "استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت فإنه الا?ن يسأل". ولم يرد عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يقرأ على القبر ولا أمر به.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: عن حكم استئجار قارىء ليقرأ القرآن الكريم على روح الميت؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا من البدع وليس فيه أجر لا للقارىء ولا للميت، ذلك لأن القارىء إنما قرأ للدنيا والمال فقط وكل عمل صالح يقصد به الدنيا فإنه لا يقرب إلى الله ولا يكون فيه ثواب عند الله، وعلى هذا فيكون هذا العمل ضائعاً ليس فيه سوى إتلاف المال على الورثة فليحذر منه فإنه بدعة ومنكر.
* * *
س 722 سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: عن حكم(17/222)
التلاوة لروح الميت؟
فأجاب فضيلته بقوله: التلاوة لروح الميت يعني أن يقرأ القرآن وهو يريد أن يكون ثوابه لميت من المسلمين، هذه المسألة محل خلاف بين أهل العلم على قولين:
القول الأول: أن ذلك غير مشروع وأن الميت لا ينتفع به أي لا ينتفع بالقرآن في هذه الحال.
القول الثاني: أنه ينتفع بذلك وأنه يجوز للإنسان أن يقرأ القرآن بنية أنه لفلان أو فلانة من المسلمين سواء كان قريباً أو غير قريب.
والراجح القول الثاني لأنه ورد في جنس العبادات جواز صرفها للميت، كما في حديث سعد بن عبادة رضي الله عنه حين تصدَّق ببستانه لأمه، وكما في قصة الرجل الذي قال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إن أمي أفتلتت نفسها وأظنها لو تكلمت لتصدقت أفأتصدق عنها؟ قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نعم" وهذه قضايا أعيان تدل على أن صرف جنس العبادات لأحد من المسلمين جائز وهو كذلك، ولكن أفضل من هذا أن تدعو للميت، وتجعل الأعمال الصالحة لنفسك لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له". ولم يقل أو ولد صالح(17/223)
يتلو له أو يصلي له أو يصوم له أو يتصدَّق عنه بل قال: "أو ولد صالح يدعو له" والسياق في سياق العمل، فدل ذلك على أن الأفضل أن يدعو الإنسان للميت، لا أن يجعل له شيئاً من الأعمال الصالحة، والإنسان محتاج إلى العمل الصالح، أن يجد ثوابه له مدخراً عند الله عز وجل.
أما ما يفعله بعض الناس من التلاوة للميت بعد موته بأجرة، مثل أن يحضروا قارئاً يقرأ القرآن بأجرة، ليكون ثوابه للميت فإنه بدعة ولا يصل إلى الميت ثواب؛ لأن هذا القارىء إنما قرأ لأجل الدنيا ومن أتى بعبادة من أجل الدنيا فإنه لا حظ له منها في الا?خرة كما قال الله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحياةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُوْلَائِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِى الأَْخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} .
وإني بهذه المناسبة أوجه نصيحة لإخواني الذين يعتادون مثل هذا العمل أن يحفظوا أموالهم لأنفسهم أو لورثة الميت، وأن يعلموا أن هذا العمل بدعة في ذاته، وأن الميت لا يصل إليه ثواب، وحينئذ يكون أكلاً للأموال بالباطل ولم ينتفع الميت بذلك.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: عن حكم الاجتماع عند القبر والقراءة؟ وهل ينتفع الميت بالقراءة أم لا؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا العمل من الأمور المنكرة التي لم تكن معروفة في عهد السلف الصالح وهو الاجتماع عند القبر والقراءة.(17/224)
وأما كون الميت ينتفع بها فنقول: إن كان المقصود انتفاعه بالاستماع فهذا منتف؛ لأنه قد مات وقد ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"، فهو وإن كان يسمع إذا قلنا بأنه يسمع في هذه الحال فإنه لا ينتفع، لأنه لو انتفع لزم منه أن لا ينقطع عمله، والحديث صريح في حصر انتفاع الميت بعمله بالثلاث التي ذكرت في الحديث.
وأما إن كان المقصود انتفاع الميت بالثواب الحاصل للقارىء، بمعنى أن القارىء ينوي بثوابه أن يكون لهذا الميت فإذا تقرر أن هذا من البدع فالبدع لا أجر فيها "كل بدعة ضلالة" كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يمكن أن تنقلب الضلالة هداية، ثم إن هذه القراءة في الغالب تكون بأجرة، والأجرة على الأعمال المقربة إلى الله باطلة، والمستأجر للعمل الصالح إذا نوى بعمله الصالح هذا الصالح من حيث الجنس وإن كان من حيث النوع ليس بصالح كما سيتبين إن شاءالله إذا نوى بالعمل الصالح أجراً في الدنيا، فإن عمله هذا لا ينفعه ولا يقربه إلى الله ولا يثاب عليه لقوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحياةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُوْلَائِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِى الأَْخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} ، فهذا القارىء الذي نوى(17/225)
بقراءته أن يحصل على أجر دنيوي نقول له: هذه القراءة غير مقبولة، بل هي حابطة ليس فيها أجر ولا ثواب وحينئذ لا ينتفع الميت بما أهدي إليه من ثوابها لأنه لا ثواب فيها، إذن فالعملية إضاعة مال، وإتلاف وقت، وخروج عن سبيل السلف الصالح رضي الله عنهم لاسيما إذا كان هذا المال المبذول من تركة الميت وفيها حق قُصّر وصغار وسفهاء فيأخذ من أموالهم ما ليس بحق فيزاد الإثم إثماً. والله المستعان.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: عن حكم إهداء القراءة للميت؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا الأمر يقع على وجهين:
أحدهما: أن يأتي إلى قبر الميت فيقرأ عنده، فهذا لا يستفيد منه الميت؛ لأن الاستماع الذي يفيد من سمعه إنما هو في حال الحياة حيث يكتب للمستمع ما يكتب للقارىء، وهنا الميت قد انقطع عمله كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له".
الوجه الثاني: أن يقرأ الإنسان القرآن الكريم تقرُّباً إلى الله سبحانه وتعالى ويجعل ثوابه لأخيه المسلم أو قريبه فهذه المسألة مما اختلف فيها أهل العلم:
فمنهم: من يرى أن الأعمال البدنية المحضة لا ينتفع بها الميت ولو أهديت له؛ لأن الأصل أن العبادات مما يتعلق بشخص(17/226)
العابد، لأنها عبارة عن تذلل وقيام بما كلف به وهذا لا يكون إلا للفاعل فقط، إلا ما ورد النص في انتفاع الميت به فإنه حسب ما جاء في النص يكون مخصصاً لهذا الأصل.
ومن العلماء: من يرى أن ما جاءت به النصوص من وصول الثواب إلى الأموات في بعض المسائل، يدل على أنه يصل إلى الميت من ثواب الأعمال الأخرى ما يهديه إلى الميت.
ولكن يبقى النظر هل هذه من الأمور المشروعة أو من الأمور الجائزة بمعنى هل نقول: إن الإنسان يطلب منه أن يتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بقراءة القرآن الكريم، ثم يجعلها لقريبه أو أخيه المسلم، أو أن هذا من الأمور الجائزة التي لا يندب إلى فعلها؟
الذي نرى أن هذا من الأمور الجائزة التي لا يندب إلى فعلها وإنما يندب إلى الدعاء للميت والاستغفار له وما أشبه ذلك مما نسأل الله تعالى أن ينفعه به، وأما فعل العبادات وإهداؤها فهذا أقل ما فيه أن يكون جائزاً فقط وليس من الأمور المندوبة، ولهذا لم يندب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمته إليه بل أرشدهم إلى الدعاء للميت فيكون الدعاء أفضل من الإهداء.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: عن حكم قراءة القرآن الكريم على القبور؟ والدعاء للميت عند قبره؟ ودعاء الإنسان لنفسه عند القبر؟
فأجاب فضيلته بقوله: قراءة القرآن الكريم على القبور بدعة ولم ترد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا عن أصحابه وإذا كانت لم ترد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(17/227)
ولا عن أصحابه، فإنه لا ينبغي لنا نحن أن نبتدعها من عند أنفسنا، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال فيما صح عنه: "كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار"، والواجب على المسلمين أن يقتدوا بمن سلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان حتى يكونوا على الخير والهدى لما ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
وأما الدعاء للميت عند قبره فلا بأس به، فيقف الإنسان عند القبر ويدعو له بما يتيسر مثل أن يقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، اللهم أدخله الجنة، اللهم أفسح له في قبره، وما أشبه ذلك.
وأما دعاء الإنسان لنفسه عند القبر فهذا إذا قصده الإنسان فهو من البدع أيضاً؛ لأنه لا يخصص مكان للدعاء إلا إذا ورد به النص وإذا لم يرد به النص ولم تأت به النسة فإنه أعني تخصيص مكان لدعاء أيًّا كان ذلك المكان يكون تخصيصه بدعة.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم دعاء الجماعة عند القبر بأن يدعو أحدهم ويُؤمِن الجميع؟
فأجاب فضيلته بقوله: ليس هذا من سُنة الرسول عليه الصلاة والسلام ولا من سنة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وإنما كان الرسول عليه الصلاة والسلام يرشدهم إلى أن يستغفروا للميت،(17/228)
ويسألوا له التثبيت، كل بنفسه وليس جماعة.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: بعض المقابر يوجد بها مصاحف لمن أراد القراءة على الميت ما رأيكم في ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: رأينا أن هذا بدعة، وأن الواجب أن تنقل هذه المصاحف إلى المساجد، لينتفع بها المسلمون ويقرأوا فيها.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما رأيكم فيمن يلقون المواعظ عند تلحيد الميت؟ وهل هناك حرج في المداومة على ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: الذي أرى أن هذا ليس بسنة؛ لأنه لم يرد عن النبي عليه الصلاة والسلام، ولا عن الصحابة رضي الله عنهم وغاية ما هنالك أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج مرة في جنازة رجل من الأنصار فجلس، وجلس الناس حوله ينتظرون حتى يلحد، وحدثهم عليه الصلاة والسلام عن حال الإنسان عند الموت وبعد الدفن، وكذلك كان عليه الصلاة والسلام ذات مرة عند قبر وهو يدفن فقال: "ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة، ومقعده من النار"، ولكن لم يقم بهم خطيباً واقفاً كما يفعل بعض الناس،(17/229)
وإنما حدثهم بها حديث مجلس، ولم يتخذها دائماً. فمثلاً لو أن إنساناً جلس ينتظر تهيئة القبر، أو دفن الميت، وحوله أناس في المقبرة وتحدث بمثل هذا الحديث فلا بأس به، وهو من السنة، أما أن يقوم قائماً يخطب الناس فليس هذا من السنة، ثم إن فيه عائقاً عن المبادرة بالدفن إن صار يعظهم قبل الدفن، والله نسأل أن يهدينا صراطه المستقيم.
* * *
سئل فضيلة الشيخ: ما حكم الموعظة عند القبر، وفي قصور الأفراح، وفي العزايم؟
فأجاب فضيلته بقوله: الموعظة عند القبر جائزة على حسب ما جاء في السنة، وليست أن يخطب الإنسان قائماً يعظ الناس، لأن ذلك لم يرد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خصوصاً إذا اتخذت راتبة، كلما خرج شخص مع جنازة قام ووعظ الناس، لكن الموعظة عند القبر تكون كما فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وعظهم وهو واقف على القبر، وقال: "ما منكم من أحد إلا وقد كُتِب مقعده من الجنة والنار"، وأتى مرة وهم في البقيع في جنازة ولما يلحد القبر، فجلس وجلس الناس حوله، وجعل ينكت بعود معه على الأرض، ثم ذكر حال الإنسان عند احتضاره، وعند دفنه، وتكلم بكلام هو موعظة في حقيقته، فمثل هذا لا بأس به، أما أن يقوم خطيباً يعظ الناس، فهذا لم يرد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(17/230)
وأما في الأعراس فكذلك أيضاً لم يرد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يقوم خطيباً يخطب الناس، ولا عن الصحابة فيما نعلم، بل إنه لما ذكر له أن عائشة رضي الله عنها زفت امرأة لرجل من الأنصار قال: "يا عائشة ما كان معكم لهو، فإن الأنصار يعجبهم اللهو"، فدل ذلك على أن لكل مقام مقالاً، ولأن الإنسان إذا قام خطيباً في الأعراس، فإنه قد يثقل على الناس، وليس كل أحد يتقبل، قد يكون أحد الناس ما رأى أقاربه أو أصحابه إلا في هذه المناسبة، فيريد أن يتحدث إليهم ويسألهم ويأنس بهم، فإذا جاءتهم هذه الموعظة وهم متأهبون للحديث مع بعضهم، ثقلت عليهم، وأنا أحب أن تكون المواعظ غير مثقلة للناس؛ لأنها إذا أثقلت على الناس كرهوها، وكرهوا الواعظ ولكن: لو أن أحداً في محفل العرس طلب من هذا الرجل أن يتكلم، فحينئذ له أن يتكلم، ولاسيما إذا كان الرجل ممن يتلقى الناس قوله بالقبول. كذلك لو رأى منكراً، فله أن يقوم ويتكلم عن هذا المنكر ويحذر منه ويقول: إما أن تكفُّوه أو خرجنا. فلكل مقام مقال، وإذا تلقى الناس الموعظة بانشراح وقبول كان أحسن، ولهذا كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتخول أصحابه بالموعظة مخافة السآمة يعني الملل.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما مشروعية الموعظة عند القبر؟ فقد سمعنا من يقول: إنها ما(17/231)
وردت عن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن يقول: إنها سنَّة؟
فأجاب فضيلته بقوله: القول بأنها ما وردت على إطلاقه غير صحيح، والقول بأنها سنة غير صحيح، ووجه ذلك أنه لم يرد أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يقف عند القبر، أو في المقبرة إذا حضرت الجنازة ثم يعظ الناس ويذكرهم كأنه خطيب جمعة، وهذا ما سمعنا به، وهو بدعة وربما يؤدي في المستقبل إلى شيء أعظم، ربما يؤدي إلى أن يتطرق المتكلم إلى الكلام عن الرجل الميت الحاضر، مثل أن يكون هذا الرجل فاسقاً مثلاً، ثم يقول: انظروا إلى هذا الرجل، بالأمس كان يلعب، بالأمس كان يستهزىء، بالأمس كان كذا وكذا، والا?ن هو في قبره مرتهن، أو يتكلم في شخص تاجر مثلاً، فيقول: انظروا إلى فلان، بالأمس كان في القصور، والسيارات والخدم، والحشم وما أشبه ذلك، والا?ن هو في قبره.
فلهذا نرى ألا يقوم الواعظ خطيباً في المقبرة، لأنه ليس من السنة، فلم يكن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقف إذا فرغ من دفن الميت أو إذا كان في انتظار دفن الميت، يقوم ويخطب الناس، أبداً ولا عهدنا هذا من السابقين، وهم أقرب إلى السنة منا. ولا عهدناه أيضاً فيمن قبلهم من الخلفاء، فما كان الناس في عهد أبي بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي رضي الله عنهم فيما نعلم يفعلون هذا، وخير الهدي هدي من سلف إذا وافق الحق.
وأما الموعظة التي تعتبر كلام مجلس، فهذا لا بأس بها، فإنه قد ثبت في السنن. أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج إلى بقيع (الغرقد) في(17/232)
جنازة رجل من الأنصار ولم يلحد القبر، فجلس وجلس حوله أصحابه، وجعل يحدثهم بحال الإنسان عند موته، وحال الإنسان بعد دفنه حديثاً ليس على سبيل الخطبة.
وكذلك ثبت عنه في صحيح البخاري وغيره أنه قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار"، فقالوا: يا رسول الله، ألا نتكل؟ قال: "لا، اعملوا فكلٌّ ميسر لما خُلق له".
والحاصل أن الموعظة التي هي قيام الإنسان يخطب عند الدفن، أو بعده ليست من السنة ولا تنبغي لما عرفت، وأما الموعظة التي ليست كهيئة الخطبة كإنسان يجلس ومعه أصحابه فيتكلم بما يناسب المقام فهذا طيب، اقتداءً برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: الموعظة بصفة دائمة على القبر، ما حكمها؟
فأجاب فضيلته بقوله: الذي أرى أنها خلاف السنة؛ لأنها ليست على عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي هو أنصح الخلق للخلق، وأحرصهم على إبلاغ الحق، ولم نعلم أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعظ على القبر قائماً يتكلم كما يتكلم الخطيب أبداً، إنما وقع منه كلمات:
أولاً: مثل ما وقع منه حين انتهوا إلى القبر ولما يلحد فجلس عليه الصلاة والسلام وجلس الناس حوله، وفي يده عود ينكت في الأرض ويحدثهم، ماذا يكون عند الموت؟ وهذه ليست خطبة، ما(17/233)
قام خطيباً في الناس يعظهم ويتكلم معهم.
ثانياً: حينما كان قائماً على شفير القبر فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما منكم من أحد إلا وقد كُتب مقعده من الجنة أو النار" فقالوا: يا رسول الله أفلا ندع العمل ونتكل، قال: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له".
وأما أن يتَّخذ هذا عادة، كلما دُفن ميت قام أحد الناس خطيباً يتكلم فهذا ليس من عادة السلف إطلاقاً، وليرجع إلى السنة في هذا الشيء، وأخشى أن يكون هذا من التنطع لأن المقام في الحقيقة مقام خشوع وسكون ليس المقام إثارة للعواطف. ومواضع الخطبة هي المنابر والمساجد كما كان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعل هذا، ولا يمكن أن نستدل بالأخص على الأعم، يعني لو قال قائل: سنجعل حديث حينما وقف على شفير القبر، وكذلك الحديث الا?خر حينما جلس، ينتظر أن يُلحد القبر وتحدَّث إليهم، لو قال قائل: نريد أن نجعله أصلاً في هذه المسألة قلنا: لا صحة لذلك لأنه لو كان أصلاً في هذه المسألة لاستعمله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حياته فلما تركه كان تركه هو السنة.
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: عن الوعظ عند دفن الميت على وجه الخطابة؟
فأجاب فضيلته بقوله: الوعظ عند دفن الميت على وجه الخطابة، بأن يقوم الواعظ خطيباً في الناس لتذكير بحال الميت عند موته وبعد دفنه، لا أعلم له أصلاً، فلم يكن من هدي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقوم خطيباً في المقبرة عند دفن الميت يعظ الناس، لكنه أحياناً يذكِّر(17/234)
من حوله بكلام مناسب للحال في طوله وقصره، كما في الصحيحين عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنا في جنازة في بقيع (الغرقد) فأتانا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقعد وقعدنا حوله، ومعه مخصرة فنكس فجعل ينكت بمخصرته ثم قال: "ما منكم من أحد، ما من نفس منفوسة إلا كتب مكانها من الجنة والنار، وإلا وقد كتبت شقية أو سعيدة"، فقال رجل: يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل، فمن كان منا من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، وأما من كان منا من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة؟ قال: "اعملوا فكلٌّ ميسر لما خلق، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة ثم قرأ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى لِلْعُسْرَى} .
وفي حديث البراء بن عازب رضي الله عنه الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود قال: خرجنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولما يلحد بعد، فجلس رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجلسنا كأنما على رؤسنا الطير وبيده عود ينكت به في الأرض فرفع رأسه فقال: تعوذوا بالله من عذاب القبر، مرتين أو ثلاثاً وذكر الحديث، وهو مذكور بتمامه في الترغيب والترهيب 4/563 وقال(17/235)
الحافظ المنذري عقبه: هذا الحديث حديث حسن، رواته محتج بهم في الصحيح.
والمهم أنه لم يرد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يقوم خطيباً في المقبرة يعظ الناس.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم ذكر محاسن الميت؟ وما حكم الدعاء له بعد الدفن؟ وما حكم طلب الدعاء له من الحاضرين؟
فأجاب فضيلته بقوله: ذكر محاسن الميت لا بأس به إذا لم يكن على سبيل الندب، فقد روى الحاكم في مستدركه عن جابر رضي الله عنه قال: شهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جنازة في بني سلمة وكنت إلى جانب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال بعضهم: والله يا رسول الله لنعم المرء كان، لقد كان عفيفاً مسلماً، وأثنوا عليه خيراً، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أنت بما تقول"، فقال الرجل: الله أعلم بالسرائر. انظر تفسير ابن كثير 1/843.
وأما الدعاء للميت بعد الدفن، أو طلب الدعاء فقد روى أبو داود عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: "استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت؛ فإنه الا?ن يسأل"، فإذا فعل شخص ذلك أو نحوه فلا بأس به.(17/236)
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: عن حكم (عشوة رمضان) والمقصود بها أن يذبح ذبيحة أو ذبيحتان ثم يُدعى لها، علماً أن هذا شبه واجب من أغلب الناس، وفي نظرهم أن لا يجزىء غيرها من الصدقات، علماً أن الغالب عدم الفائدة من أكل هذه العشوة وأن الناس يأتون مجاملة للداعي، وقد يتكرر وليمة أو وليمتان في ليلة واحدة، بيِّنوا حفظكم الله لنا هل هذا العمل مناسب، أو أن هناك طرقاً أخرى يمكن الاستفادة منها بدل هذه (العشوة) ؟ وفقكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فأجاب فضيلته بقوله: هذه الذبيحة التي يسمونها (العشوة) أو (عشاء الوالدين) يذبحونها في رمضان ويدعون الناس إليها تكون على وجهين:
الأول: أن يعتقد الذابح التقرب إلى الله بالذبح، بمعنى أن يعتقد أن مجرد الذبح قُربة كما يكون في عيد الأضحى فهذا بدعة؛ لأنه لا يتقرب إلى الله تعالى بالذبح إلا في مواضعه كالأضحية، والعقيقة والهدي.
الثاني: أن يذبح الذبيحة لا للتقرب إلى الله بالذبح، ولكن من أجل اللحم أي أنه بدلاً من أن يشتري اللحم من السوق يذبح الذبيحة في بيته فهذا لا بأس به، لكن الإسراف في ذلك لا يجوز، لأن الله نهى عن الإسراف، وأخبر أنه لا يحب المسرفين.
ومن ذلك أن يفعل كما يفعل بعض الناس من ذبح ما يزيد على(17/237)
الحاجة، ودعوة الكثير من الناس الذين لا يأتون إلا مجاملة لا رغبة، ويبقى الشيء الكثير من الطعام الذي يضيع بلا فائدة.
والذي أرى أن يصرف الإنسان ما ينفقه في ذلك إلى الفقراء دراهم، أو ملابس، أو أطعمة يعطونها الفقراء، أو نحو ذلك؛ لأن في هذا فائدتين:
الأولى: أنه أنفع للفقراء.
والثانية: أنه أسلم من الوقوع في الإسراف والمشقة على الداعي والمدعو.
وقد كان الناس سابقاً في حاجة وإعواز، وكان صنع الطعام لهم له وقع كبير في نفوسهم، فكان الأغنياء يصنعونه ويدعون الناس إليه، أما اليوم فقد تغيرت الحال ولله الحمد فلا تقاس على ما سبق. والله الموفق. 52/8/1410 هـ.(17/238)
* * *
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد الصالح العثيمين إلى الأخ المكرم ... حفظه الله تعالى
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
كتابكم الكريم المؤرخ ... من الشهر الحالي، وصل. سرنا صحتكم، الحمد لله على ذلك.
سؤالكم عما يقوم به بعض الناس من الصدقات عن أمواتهم صدقات مقطوعة أو دائمة هل لها أصل في الشرع إلى آخر ما ذكرتم؟
نفيدكم بأن الصدقة عن الميت سواء كانت مقطوعة، أم مستمرة لها أصل في الشرع، فمن ذلك ما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً قال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن أمي افتلتت نفسها وأظنها لو تكلمت تصدقت، فهل لها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: "نعم".
وأما السعي في أعمال مشروعة من أجل تخليد ذكرى من جعلت له فاعلم أن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً له، موافقاً لشرعه، وأن كل عمل لا يقصد به وجه الله تعالى فلا خير(17/239)
فيه، قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَآ الهكُمْ اله وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا إِلَىَّ أَنَّمَآ الهكُمْ اله وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا} .
وأما السعي في أعمال مشروعة نافعة لعباد الله تقرباً إلى الله تعالى ورجاء لوصول الثواب إلى من جعلت له فهو عمل طيب، نافع للحي والميت إذا خلا من شوائب الغلو والإطراء.
وأما الحديث الذي أشرتم إليه في كتابكم وهو قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" فهو حديث صحيح رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والمراد بالصدقة الجارية كل ما ينفع المحتاجين بعد موته نفعاً مستمراً، فيدخل فيه الصدقات التي توزع على الفقراء، والمياه التي يشرب منها، وكتب العلم النافع التي تطبع، أو تشترى وتوزع على المحتاجين إليها، وغير ذلك مما يقرب إلى الله تعالى وينفع العباد.
وهذا الحديث يراد به ما يتصدق به الميت في حياته، أو يوصي به بعد موته، لكن لا يمنع أن يكون من غيره أيضاً كما في حديث عائشة السابق.
وأما الأعمال التطوعية التي ينتفع بها الميت سوى الصدقة فهي كثيرة تشمل كل عمل صالح يتطوع به الولد ويجعل ثوابه(17/240)
لوالده، أباً كان أم أمًّا، لكن ليس من هدي السلف فعل ذلك كثيراً، وإنما كانوا يدعون لموتاهم ويستغفرون لهم، فلا ينبغي للمؤمن أن يخرج عن طريقتهم. وفق الله الجميع لما فيه الخير والهدى والصلاح. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
52/7/1400 هـ.(17/241)
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
فقد بحثت مسألة الأضحية عن الأموات وقد اتضح لي من هذا البحث أن الأضحية المستقلة للميت لا تخرج عن حالين وكلاهما خطأ فيما يظهر لي والله أعلم بالصواب لأن الشيء وإن كان صحيحاً فإن وضعه في غير موقعه يجعله غير صحيح، فهي إما أن يقال: إنها أضحية، أو صدقة. فإن قيل: إنها أضحية فالأضحية المستقلة للميت ليس على مشروعيتها دليل صحيح صريح من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وليست من عمل السلف الصالح رحمهم الله وقياسها على الصدقة غير صحيح؛ لأن القياس في العبادة لا يجوز.
وإن قيل: إنها صدقة، فالصدقة لا يشترط فيها ما يشترط في الأضحية فسواء ذبحت يوم العيد أو قبله، وسواء كانت صغيرة أو معيبة لا يؤثر ذلك عليها شيئًاً مادام أنها صدقة، وتختلف الأضحية عن الصدقة في أشياء كثيرة، وأيضاً فقد قالت اللجنة الدائمة للإفتاء: إن تخصيص الصدقة للميت بزمن معين بدعة، فإن قيل: نريد فضل عشر ذي(17/243)
الحجة. قلنا: الفضل يشمل العشر كلها وأنتم خصصتم منها يوماً واحداً فقط وهذا التخصيص مثل تخصيص بعض الناس العمرة في رمضان بليلة سبع وعشرين منه، وهذا التخصيص بدعة، فإن قيل: نريد العمل بحديث: "ما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله من اهرَاقَةِ دم"، قلنا: هذا حث للأحياء على الأضاحي المشروعة، وأنها أفضل لهم في ذلك اليوم من التصدق بثمنها، وليس فيه ما يدل على تخصيص الميت بأضحية؛ لأن القائل لهذا الكلام عليه الصلاة والسلام وصحابته الكرام رضي الله عنهم الذين رووا هذا الحديث ونقلوه إلينا كان لهم أموات، وكانت الأموال متوفرة لديهم وتوفر أسبابها لديهم ومع علمهم بهذا الحديث لم يفعلوها وهم أحرص الأمة على الخير واتباع السنة. أفيدونا بارك الله فيكم هل هذا صحيح أم خطأ؟
فأجاب فضيلته بقوله: بسم الله الرحمن الرحيم. وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته:
الأضحية عن الميت إن كانت بوصية منه مما أوصى به وجب تنفيذها؛ لأنها من عمله وليست جنفاً ولا إثماً.
وإن كانت بتبرع من الحي فليست من العمل المأثور عن السلف الصالح؛ لأن ذلك لم ينقل عنهم، وعدم النقل عنهم مع توافر الدواعي وعدم المانع دليل على أن ذلك ليس معروفاً بينهم،(17/244)
وقد أرشد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين ذكر انقطاع عمل ابن آدم بموته إلى الدعاء له، ولم يرشد إلى العمل له، مع أن سياق الحديث في ذكر الأعمال الجارية له بعد موته.
وقد قرأت ما كتبته أنت أعلاه فأعجبني ورأيته صحيحاً. وفق الله الجميع للعمل بما يرضيه.
لكن لا ننكر على من ضحَّى عن الميت وإنما ننبه على ما كان يفعله كثير من الناس سابقاً فإن الواحد يضحي تبرعاً عن الأموات ولا يضحي عن نفسه وأهله، بل كان بعضهم لا يعرف أن الأضحية سنة إلا عن الأموات إما تبرعاً، أو بوصية، وهذا من الخطأ الذي يجب على أهل العلم بيانه. كتبه محمد الصالح العثيمين في 16/8/1419 هـ.(17/245)
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: إذا تبرع ابن من ماله الخاص لوالده المتوفى، هل يصله أجر ذلك؟ وجزاكم الله خيراً.
فأجاب فضيلته بقوله: الصحيح أنه يصله أجره، لأنه ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن رجلاً أتاه فقال: إن أمي أفتُلتت نفسها وأظنها لو تكلمت لتصدقت أفتصدق عنها؟ قال: "نعم". وكذلك استأذنه سعد بن عبادة أن يتصدق في محراثه أي في بستانه لأمه وهي ميتة فأذن له، ولكن الأفضل أن يجعل الصدقات لنفسه وأن يجعل لوالديه الدعاء، هكذا أرشدنا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث قال: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له". فقال: "أو ولد صالح يدعو له"، ولم يقل: يتصدق له، أو يعمل له، مع أن السياق في ذكر الأعمال.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل أجر الأضحية يصل إلى الميت إذا لم تكن من ماله الخاص، فمثلاً من مال ابنه، وجزاكم الله خيراً.
فأجاب فضيلته بقوله: الصحيح أنه يصله أجرها، لكن مع ذلك ليس من السنة أن تضحي عن الميت وحده إلا بما أوصى به، أما إذا كنت تريد أن تضحي من مالك فضح عنك وعن أهل بيتك، وإذا(17/246)
نويت أن الأموات يدخلون فلا حرج.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هناك من يولم في رمضان ويذبح ذبيحة ويقول عنها عشاء الوالدين فما حكمها؟
فأجاب فضيلته بقوله: الصدقة للوالدين الأموات جائزة ولا بأس بها، ولكن الدعاء لهما أفضل من الصدقة لهما؛ لأن هذا هو الذي أرشد إليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ووجه إليه في قوله: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"، ولم يقل: ولد صالح يتصدق عنه، أو يصلي له، ولكن مع ذلك لو تصدق عن ميته لجاز، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن ذلك فأجازه.
لكن ما يفعله بعض الناس في ليالي رمضان من الذبائح والولائم الكثيرة والتي لا يحضرها إلا الأغنياء، فإن هذا ليس بمشروع، وليس من عمل السلف الصالح، فينبغي أن لا يفعله الإنسان؛ لأنه في الحقيقة ليس إلا مجرد ولائم يحضرها الناس ويجلسون إليها على أن البعض منهم يتقرب إلى الله تعالى بذبح هذه الذبيحة، ويرى أن الذبح أفضل من شراء اللحم، وهذا خلاف الشرع، لأن الذبائح التي يتقرب بها إلى الله هي الأضاحي، والهدايا، والعقائق، فالتقرب إلى الله بالذبح في رمضان ليس من السنة.(17/247)
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هناك أمر منتشر بين عامة الناس وخصوصاً أهل القرى والهجر وهو أن يذبحوا ذبيحة أو ذبيحتين في رمضان لأمواتهم ويدعون الناس للإفطار والعشاء وهي ما تعرف ب (العشوة) وهي من الأمور الهامة عندهم ويقولون: إنها صدقة عن الميت يحصل له الأجر بتفطير الصائمين منها، نرجو بيان هذا الأمر وجزاكم الله خيراً؟
فأجاب فضيلته بقوله: الصدقة في رمضان صدقة في زمن فاضل، وكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن.
وأفضل ما تكون الصدقة على المحتاجين إليها، وما كان أنفع لهم فهو أفضل، ومن المعلوم أن الناس اليوم يفضلون الدراهم على الطعام، لأن المحتاج إذا أعطي الدراهم تصرف فيها حسبما تقتضيه حاجته من طعام، أو لباس، أو وفاء غريم أو غير ذلك، فيكون صرف الدراهم للمحتاجين في هذه الحال أفضل من صنع الطعام ودعوتهم إليه.
وأما ما ذكره السائل من الذبح للأموات في رمضان، ودعوة الناس للإفطار والعشاء، فلا يخلو من أحوال:
الأولى: أن يعتقد الناس التقرُّب إلى الله بالذبح، بمعنى أنهم يعتقدون أن الذبح أفضل من شراء اللحم، وأنهم يتقربون بذلك(17/248)
الذبح إلى الله تعالى كما يتقربون إلى الله في ذبح الأضحية في عيد الأضحى، ففي هذه الحال يكون ذبحهم بدعة، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن يذبح الذبائح في رمضان تقرباً إلى الله كما يفعل في عيد الأضحى.
الحال الثانية: أن يؤدي هذا الفعل إلى المباهاة والتفاخر أيُّهم أكثر ذبائح وأكثر جمعاً، ففي هذه الحال يكون إسرافاً منهياً عنه.
الحال الثالثة: أن يحصل في هذا الجمع اختلاط النساء بالرجال وتبرجهن وكشف وجوههن لغير محارمهن، ففي هذه الحال يكون حراماً؛ لأن ما أفضى إلى الحرام كان حراماً.
الحال الرابعة: أن يخلو من هذا كله ولا يحصل به محذور فهذا جائز، ولكن الدعاء للميت أفضل من هذا، كما أرشد إليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: "أو ولد صالح يدعو له" ولم يقل: يتصدق عنه.
وأيضاً فإن دفع الدراهم في وقتنا أنفع للفقير من هذا الطعام فيكون أفضل. والمؤمن الطالب للخير سوف يختار ما كان أفضل، ومن سنَّ في الإسلام سنة حسنة بترك ما يخشى منه المحذور والعدول إلى الأفضل فله أجرها وأجر من عمل بها. كتبه محمد الصالح العثيمين في 3/9/1411 هـ.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل يجوز أن يتصدق الرجل بمال ويشرك معه غيره في الأجر؟
فأجاب فضيلته بقوله: يجوز أن يتصدق الشخص بالمال وينويها لأبيه وأمه وأخيه، ومن شاء من المسلمين؛ لأن الأجر(17/249)
كثير، فالصدقة إذا كانت خالصة لله تعالى، ومن كسب طيب تضاعف أضعافاً كثيرة، كما قال تعالى: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّاْئَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} . وكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يضحي بالشاة الواحدة عنه وعن أهل بيته.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل يجوز للإنسان أن يصلي نافلة عن والده المتوفى ونحو ذلك من العبادات أم لا؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم يجوز للإنسان أن يصلي تطوعاً عن والده أو غيره من المسلمين، كما يجوز أن يتصدق عنه، ولا فرق بين الصدقات، والصلوات، والصيام، والحج وغيرها.
ولكن السؤال الذي ينبغي أن نقوله: هل هذا من الأمور المشروعة، أو من الأمور الجائزة غير المشروعة؟
فنقول: إن هذا من الأمور الجائزة غير المشروعة، وأن المشروع في حق الولد أن يدعو لوالده دعاء إلا في الأمور المفروضة فإنه يؤدي عن والده ما جاءت السنة بأدائه عنه، كما لو مات وعليه صيام، فقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه".(17/250)
ولا فرقَ في ذلك بين أن يكون الصيام صيام فرض بأصل الشرع كصيام رمضان، أو صيام فرض بإلزام الإنسان نفسه كما في صيام النذر، فهنا نقول: إن إهداء القرب أو ثوابها إلى الأقارب ليس من الأمور المشروعة، بل هو من الأمور الجائزة، والمشروع هو الدعاء لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له". فقال: "ولد صالح يدعو له"، ولم يقل أو ولد صالح يصلي له، أو يصوم له، أو يتصدق عنه، فدلّ هذا على أن أفضل ما نحله الولد لأبيه، أو أمه بعد الموت هو الدعاء.
فإذا قال قائل: إننا لا نستطيع أن نفهم كيف يكون الشيء جائزاً وليس بمشروع؟ وكيف يمكن أن نقول: إنه جائز وليس بمشروع؟
فنقول: نعم، إنه جائز وليس بمشروع، فهو جائز لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أذن فيه، فإن رجلاً جاء إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: إن أمي افتلتت نفسها وأظنها لو تكلمت لتصدقت أفتصدق عنها؟ قال: "نعم"، وكذلك سعد بن عبادة رضي الله عنه حيث جعل لأمه نخلة صدقة لها، فأقره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ذلك، ولكن النبي لم يأمر أمته بهذا أمراً يكون تشريعاً لهم، بل أذن لمن استئذنه أن يفعل هذا، ونظير ذلك في أن الشيء يكون جائزاً وليس بمشروع قصة الرجل الذي بعثه(17/251)
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على سرية فكان يقرأ لأصحابه ويختم بقل هو الله أحد، فلما رجعوا أخبروا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك فقال: "سلوه لأي شيء كان يصنعه"؟ فقال: إنها صفة الرحمن، وأنا أحب أن أقرأها، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أخبروه أن الله يحبه". فأقر النبي عليه الصلاة والسلام عمله هذا، وهو أنه يختم قراءة الصلاة بقل هو الله أحد، ولكن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يشرعه؛ إذ لم يكن عليه الصلاة والسلام يختم صلاته بقل هو الله أحد، ولم يأمر أمته بذلك، فتبين بهذا أن من الأفعال ما يكون جائزاً فعله، ولكنه ليس بمشروع، بمعنى أن الإنسان إذا فعله لا ينكر عليه، ولكنه لا يطلب منه أن يفعله. والله الموفق.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما درجة هذا الحديث: "من بر الوالدين بعد مماتهما أن تصلي لهما مع صلاتك، وأن تصوم لهما مع صيامك"؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا الحديث لا يصح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن مِنْ بر الوالدين بعد مماتهما أن تستغفر لهما، وتدعو الله لهما، وتكرم صديقهما، وتصل الرحم التي هم الصلة بينك وبينهما، هذا من بر الوالدين بعد موتهما، وأما أن يصلي لهما مع صلاته الصلاة الشرعية المعروفة، أو أن يصوم لهما، فهذا لا أصل له.(17/252)
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل يجوز تثويب قراءتي القرآن في رمضان لميت، وكذلك الطواف له، أفيدونا جزاكم الله خيراً ووفقكم لما يحب ويرضى؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا يعني أنك تعمل عملاً صالحاً وتجعل ثوابه لشخص ميت، والجواب أن ذلك لا بأس به، فإذا أراد شخص أن يصلي ويجعل ثوابها لميته، أو يتصدق، أو يحج، أو يقرأ القرآن، أو يصوم، ويجعل ثواب ذلك لميته فلا بأس به.
وذلك لما ورد في الحديث الصحيح أن رجلاً أتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، إن أمي افتُلتت نفسها، وإنها لو تكلمت لتصدقت أفأتصدق عنها؟ قال: "نعم". وكذلك أذن لسعد بن عبادة رضي الله عنه أن يتصدق لأمه، وسائر العبادات كالصدقة إذ لا فرق بينهما.
والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يرد عنه نص يمنع مثل ثواب هذه للميت، حتى نقول: إننا نقتصر على ما ورد، فإذا جاءت السنة بجنس العبادات فإنه يكون المسكوت عنه مثل المنطوق به، لاسيما وأن هذا ليس بنطق من الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل إنه استفتاء في قضايا أعيان، وإفتاء الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنه يجوز أن يتصدق الإنسان عن أمه لا يدل على أن ما سواه ممنوع.
ولكن الذي أرى أن يجعل الإنسان العمل الصالح لنفسه، وأن يدعو لأمواته، فالدعاء أفضل من التبرع لهم، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: إلا من صدقة جارية، أو علم(17/253)
ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"، ولم يقل: يتعبد له.
وبناء على ذلك فالدعاء لأبيك، أو لأمك أفضل من أن تهدي لهم الصلاة، أو القرآن، أو ما أشبه ذلك، واجعل الأعمال لنفسك كما أرشد إلى ذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والله الموفق.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل تصل الصدقة الجارية والمال المتبرع به إلى الميت؟
فأجاب فضيلته بقوله: الصدقة الجارية يجب أن نعلم أن الذي قام بها هو الميت نفسه قبل أن يموت، كرجل بنى مسجداً فهذا صدقة جارية، ورجل أوقف برادة ماء، ورجل حفر بئراً ليسقي به الناس هذه صدقة جارية، ورجل أصلح طرقاً وعرة ليسهلها على الناس هذه صدقة جارية.
وأما الصدقة التي تكون من بعض الأقارب من بعد الإنسان فهذه تصل إلى الميت، لكن ليس هي المرادة بقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صدقة جارية". وحينئذ يبقى النظر هل الأولى والأفضل للإنسان أن يتصدق عن والديه، أو يصلي عن والديه، أو يصوم عن والديه بعد موتهما، أو الأفضل الدعاء لهما؟
الجواب: الأفضل الدعاء لهما، عملاً بتوجيه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذلك حين قال: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له".(17/254)
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم الصلاة عن الميت والصوم له؟
فأجاب فضيلته بقوله: هناك أربعة أنواع من العبادات تصل إلى الميت بالإجماع، وهي:
الأول: الدعاء.
الثاني: الواجب الذي تدخله النيابة.
الثالث: الصدقة.
الرابع: العتق.
وما عدا ذلك فإنه موضع خلاف بين أهل العلم:
فمن العلماء من يقول: إن الميت لا ينتفع بثواب الأعمال الصالحة إذا أهدي له في غير هذه الأمور الأربعة.
ولكن الصواب: أن الميت ينتفع بكل عمل صالح جعل له إذا كان الميت مؤمناً، ولكننا لا نرى أن إهداء القرب للأموات من الأمور المشروعة التي تطلب من الإنسان، بل نقول: إذا أهدى الإنسان ثواب عمل من الأعمال، أو نوى بعمل من الأعمال أن يكون ثوابه لميت مسلم فإنه ينفعه، لكنه غير مطلوب منه أو مستحب له ذلك، والدليل على هذا أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يرشد أمته إلى هذا العمل، بل ثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أنه قال: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له". ولم يقل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أو ولد صالح يعمل له، أو يتعبد له بصوم أو صلاة أو غيرهما،(17/255)
وهذا إشارة إلى أن الذي ينبغي والذي يشرع هو الدعاء لأمواتنا، لا إهداء العبادات لهم، والإنسان العامل في هذه الدنيا محتاج إلى العمل الصالح، فليجعل العمل الصالح لنفسه، وليكثر من الدعاء لأمواته، فإن ذلك هو الخير وهو طريق السلف الصالح رضي الله عنهم.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل قوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} يدل على أن الثواب لا يصل إلى الميت إذا أهدي له؟
فأجاب فضيلته بقوله: قوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} المراد به والله أعلم أن الإنسان لا يستحق من سعي غيره شيئاً، كما لا يحمل من وزر غيره شيئاً، وليس المراد أنه لا يصل إليه ثواب سعي غيره؛ لكثرة النصوص الواردة في وصول ثواب سعي الغير إلى غيره وانتفاعه به إذا قصده به فمن ذلك:
1 الدعاء فإن المدعو له ينتفع به بنص القرآن والسنة وإجماع المسلمين، قال الله تعالى لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} وقال تعالى: {وَالَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإَيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَءَامَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} فالذين سبقوهم بالإيمان(17/256)
هم المهاجرون والأنصار، والذين جاؤوا من بعدهم: التابعون فمن بعدهم إلى يوم القيامة، وثبت عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه أغمض أبا سلمة رضي الله عنه بعد موته وقال: "اللهم اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه، وافسح له في قبره، ونور له فيه". وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي على أموات المسلمين ويدعو لهم، ويزور المقابر ويدعو لأهلها، واتبعته أمته في ذلك، حتى صار هذا من الأمور المعلومة بالضرورة من دين الإسلام، وصح عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "ما من رجل مسلم يموت، فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً، إلا شفَّعهم الله فيه".
وهذا لا يعارض قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"، رواه مسلم، لأن المراد به عمل الإنسان نفسه لا عمل غيره له، وإنما جعل دعاء الولد الصالح من عمله؛ لأن الولد من كسبه حيث أنه هو السبب في إيجاده، فكأن دعاءه لوالده دعاء من الوالد نفسه. بخلاف دعاء غير الولد لأخيه فإنه ليس من عمله وإن كان ينتفع به، فالاستثناء الذي في الحديث من انقطاع عمل الميت نفسه لا عمل غيره له، ولهذا لم يقل: "انقطع العمل له" بل قال: "انقطع عمله". وبينهما فرق بيّن.
2 الصدقة عن الميت، ففي صحيح البخاري عن عائشة(17/257)
رضي الله عنها أن رجلاً قال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن أمي افتلتت نفسها (ماتت فجأة) وأظنها لو تكلمت تصدقت، فهل لها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: "نعم". وروى مسلم نحوه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه والصدقة عبادة مالية محضة.
3 الصيام عن الميت، ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه"، والولي هو الوارث، لقوله تعالى: {وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ} ، ولقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو لأولى رجل ذكر". متفق عليه. والصيام عبادة بدنية محضة.
4 الحج عن غيره، ففي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: "نعم". وذلك في حجة الوداع. وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة من جهينة قالت للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟(17/258)
قال: "نعم، حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء".
فإن قيل: هذا من عمل الولد لوالده، وعمل الولد من عمل الوالد كما في الحديث السابق "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث" حيث جعل دعاء الولد لوالده من عمل الوالد.
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يعلل جواز حج الولد عن والده بكونه ولده، ولا أومأ إلى ذلك، بل في الحديث ما يبطل التعليل به، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شبهه بقضاء الدين الجائز من الولد وغيره، فجعل ذلك هو العلة، أعني كونه قضاء شيء واجب عن الميت.
الثاني: أنه قد جاء عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يدل على جواز الحج عن الغير حتى من غير الولد فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة، قال: "مَن شبرمة"؟ قال: أخ لي أو قريب لي، قال: "أحججت عن نفسك"؟ قال: لا. قال: "حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة". قال في البلوغ: رواه أبو داود وابن ماجه. وقال في الفروع: إسناده جيد احتج به أحمد في رواية صالح. لكنه رجح في كلام آخر أنه موقوف. فإن صح المرفوع فذاك، وإلا فهو قول صحابي لم يظهر له مخالف فهو حجة ودليل على أن هذا العمل كان من المعلوم جوازه عندهم. ثم إنه قد(17/259)
ثبت حديث عائشة رضي الله عنها في الصيام: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه". والولي هو الوارث سواء كان ولداً أم غير ولد، وإذا جاز ذلك في الصيام مع كونه عبادة بدنية محضة، فجوازه بالحج المشوب بالمال أولى وأحرى.
5 الأضحية عن الغير، فقد ثبت في الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "ضحى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكبشين أملحين أقرنين، ذبحهما بيده، وسمى وكبر، ووضع رجله على صفاحهما". ولأحمد من حديث أبي رافع رضي الله عنه "أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا ضحى اشترى كبشين سمينين، أقرنين أملحين، فيذبح أحدهما ويقول: اللهم هذا عن أمتي جميعاً، من شهد لك بالتوحيد وشهد لي بالبلاغ، ثم يذبح الآخر ويقول: هذا عن محمد وآل محمد". قال في مجمع الزوائد: إسناده حسن، وسكت عنه في التلخيص.
والأضحية عبادة بدنية قوامها المال، وقد ضحى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أهل بيته وعن أمته جميعاً، وما من شك في أن ذلك ينفع المضحى عنهم، وينالهم ثوابه ولو لم يكن كذلك لم يكن للتضحية عنهم فائدة.
6 اقتصاص المظلوم من الظالم بالأخذ من صالح أعماله،(17/260)
ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلله منها، فإنه ليس ثَمَّ دينار ولا درهم، من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات أخيه فطرحت عليه". وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "أتدرون ما المفلس"؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: "إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار". فإذا كانت الحسنات قابلة للمقاصة بأخذ ثوابها من عاملها إلى غيره، كان ذلك دليلاً على أنها قابلة لنقلها منه إلى غيره بالإهداء.
7 انتفاعات أخرى بأعمال الغير، كرفع درجات الذرية في الجنة إلى درجات آبائهم، وزيادة أجر الجماعة بكثرة العدد، وصحة صلاة المنفرد بمصافة غيره له، والأمن والنصر بوجود أهل الفضل كما في صحيح مسلم عن أبي بردة عن أبيه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رفع رأسه إلى السماء وكان كثيراً ما يرفع رأسه إلى السماء فقال: "النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة(17/261)
لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون". وفيه أيضاً عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يأتي على الناس زمان يبعث منهم البعث فيقولون: انظروا هل تجدون فيكم أحداً من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيوجد الرجل فيفتح لهم به، ثم يبعث البعث الثاني فيقولون: هل فيكم من رأى أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيفتح لهم به، ثم يبعث البعث الثالث فيقال: انظروا هل ترون فيهم من رأى من رأى أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم يكون البعث الرابع فيقال انظروا هل ترون فيهم أحداً رأى من رأى أحداً رأى أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيوجد الرجل فيفتح لهم به".
فإذا تبين أن الرجل ينتفع بغيره وبعمل غيره، فإن من شرط انتفاعه أن يكون من أهله وهو المسلم، فأما الكافر فلا ينتفع بما أهدي إليه من عمل صالح، ولا يجوز أن يهدى إليه، كما لا يجوز أن يدعى له ويستغفر له، قال الله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِىِّ وَالَّذِينَءَامَنُو?اْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُو?اْ أُوْلِى قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} . وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن جده (العاص بن وائل السهمي) أوصى أن يعتق عنه مئة رقبة فأعتق ابنه هشام خمسين رقبة، وأراد ابنه عمرو بن العاص أن يعتق عنه الخمسين الباقية، فسأل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: "إنه لو(17/262)
كان مسلماً فأعتقتم أو تصدقتم عنه، أو حججتم بَلَغَه ذلك". وفي رواية: "فلو كان أقر بالتوحيد فصمت وتصدقت عنه نفعه". وذلك رواه أحمد وأبو داود.
فإن قيل: هلا تقتصرون على ما جاءت به السنة من إهداء القرب وهي: الحج، والصوم، والصدقة، والعتق؟
فالجواب: أن ما جاءت به السنة ليس على سبيل الحصر، وإنما غالبه قضايا أعيان سئل عنها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأجاب به، وأومأ إلى العموم بذكر العلة الصادقة بما سئل عنه وغيره وهي قوله: "أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته". ويدل على العموم أنه قال: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه". ثم لم يمنع الحج والصدقة والعتق فعلم من ذلك أن شأن العبادات واحد والأمر فيها واسع.
فإن قيل: فهل يجوز إهداء القرب الواجبة؟
فالجواب: أما على القول بأنه لا يصح إهداء القرب إلا إذا نواه المهدي قبل الفعل، بحيث يفعل القربة بنية أنها عن فلان، فإن إهداء القرب الواجبة لا يجوز لتعذر ذلك، إذ من شرط القرب الواجبة أن ينوي بها الفاعل أنها عن نفسه، قياماً بما أوجب الله تعالى عليه. اللهم إلا أن تكون من فروض الكفايات، فربما يقال: بصحة ذلك، حيث ينوي الفاعل القيام بها عن غيره لتعلق الطلب بأحدهما لا بعينه. وأما على القول بأنه يصح إهداء القرب بعد الفعل، ويكون(17/263)
ذلك إهداء لثوابها بحيث يفعل القربة ويقول: اللهم اجعل ثوابها لفلان، فإنه لا يصح إهداء ثوابها أيضاً على الأرجح، وذلك لأن إيجاب الشارع لها إيجاباً عينياً دليل على شدة احتياج العبد لثوابها وضرورته إليه، ومثل هذا لا ينبغي أن يؤثر العبد بثوابه غيره.
فإن قيل: إذا جاز إهداء القرب إلى الغير فهل من المستحسن فعله؟
فالجواب: أن فعله غير مستحسن إلا فيما وردت به السنة كالأضحية والواجبات التي تدخلها النيابة كالصوم والحج، وأما غير ذلك فقد قال شيخ الإسلام رحمه الله في الفتاوى ص 223 323 ج 42 مجموع ابن قاسم: "فالأمر الذي كان معروفاً بين المسلمين في القرون المفضلة، أنهم كانوا يعبدون الله بأنواع العبادات المشروعة، فرضها ونفلها،.... وكانوا يدعون للمؤمنين والمؤمنات كما أمر الله بذلك لأحيائهم وأمواتهم. قال: ولم يكن من عادة السلف إذا صلوا تطوعاً وصاموا وحجوا، أو قرأوا القرآن يهدون ثواب ذلك لموتاهم المسلمين ولا لخصوصهم بل كان عادتهم كما تقدم، فلا ينبغي للناس أن يعدلوا عن طريقة السلف، فإنه أفضل وأكمل" اه. وأما ما روي أن رجلاً قال يا رسول الله إن لي أبوين، وكنت أبرهما في حياتهما فكيف البر بعد موتهما؟ فقال: "إن من البر أن تصلي لهما مع صلاتك، وتصوم لهما مع صيامك، وتصدق لهما مع صدقتك". فهو حديث مرسل لا(17/264)
يصح، وقد ذكر الله تعالى مكافأة الوالدين بالدعاء فقال تعالى: {وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا} . وعن أبي أسيد رضي الله عنه أن رجلاً سأل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: "نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما". رواه أبو داود وابن ماجه. ولم يذكر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من برهما أن يصلي لهما مع صلاته، ويصوم لهما مع صيامه.
فأما ما يفعله كثير من العامة اليوم حيث يقرؤون القرآن في شهر رمضان أو غيره، ثم يؤثرون موتاهم به، ويتركون أنفسهم، فهو لا ينبغي لما فيه من الخروج عن جادة السلف، وحرمان المرء نفسه من ثواب هذه العبادة فإن مهدي العبادة ليس له من الأجر سوى ما يحصل من الإحسان إلى الغير، أما ثواب العبادة الخاص فقد أهداه، ومن ثم كان لا ينبغي إهداء القرب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له ثواب القربة التي تفعلها الأمة، لأنه الدال عليها والا?مر بها، فله مثل أجر الفاعل، ولا ينتج عن إهداء القرب إليه سوى حرمان الفاعل نفسه من ثواب تلك العبادة. وبهذا تعرف فقه السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، حيث لم ينقل عن واحد منهم أنه أهدى شيئاً من القرب إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع أنهم أشد الناس حبًّا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأحرصهم على فعل الخير، وهم أهدى الناس(17/265)
طريقاً، وأصوبهم عملاً، فلا ينبغي العدول عن طريقتهم في هذا وغيره، فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين. تم تحريره في 27/3/1400 هـ.
* * *(17/266)
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد سألني المكرم ... عن رجل عنده دراهم يريد أن يتصدق بها عن ميت من أقاربه، أو يضحي بها عن هذا الميت فأيهما أفضل الصدقة بها عنه أو الأضحية؟
فأجبته بما يلي: الصدقة بالدراهم عن الميت، أو وضعها في بناء مسجد، أو أعمال خيرية أفضل من الأضحية، وذلك لأن الأضحية عن الميت استقلالاً غير مشروعة؛ لأن ذلك لم يرد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا من قوله، ولا من فعله، ولا من إقراره، وقد مات للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أولاده، سوى فاطمة رضي الله عنها وماتت زوجتاه خديجة وزينت بنت خزيمة رضي الله عنهما ومات عمه حمزة رضي الله عنه ولم يضح عن واحد منهم، ولم نعلم أن أحداً من الصحابة رضي الله عنهم ضحى في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أحد من الأموات قريب ولا بعيد.
ولهذا ذهب كثير من أهل العلم إلى أن الميت لا ينتفع بالأضحية عنه، ولا يأتيه أجرها إلا أن يكون قد أوصى بها.
ولكن الصحيح: أنه ينتفع بها ويأتيه الأجر إن شاءالله، إلا أن الصدقة عنه بالدراهم والطعام أفضل؛ وذلك لأن الصدقة عن الميت قد ورد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقوعها في عهده، وإقراره عليها بخلاف الأضحية، ففي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن رجلاً أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله إن أمي افتلتت نفسها وأظنها لو تكلمت تصدقت، فهل لها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: "(17/267)
نعم". والذين أجازوا الأضحية عن الميت استقلالاً إنما قاسوها على الصدقة عنه، ومن المعلوم أن ثبوت الحكم في المقيس عليه أقوى من ثبوته في المقيس، فتكون الصدقة عن الميت أولى من الأضحية عنه.
قال ذلك كاتبه محمد الصالح العثيمين في 7/1/1403 هـ.
* * *(17/268)
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد الصالح العثيمين إلى الأخ المكرم ... حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كتابكم المؤرخ 29 من الشهر الماضي وصل، سرنا صحتكم الحمد لله على ذلك.
أما سؤالكم عما كثر من أقوال العامة والخاصة ممن ينتسبون إلى العلم أنه ليس للموتى أضحية، وليس لهم صدقة إلا الصدقة الجارية فقط، وكذلك ما يصح لهم حج ولا غيره إلا الذي ما قضى فرضه فهو يحج عنه؟
فجوابه: أما الأضحية عن الأموات فإنها تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
أحدها: أن يوصي بها الميت، فيضحي عنه تنفيذاً لوصيته، لأن الله تعالى لم يبح تغيير الوصية إلا إذا كانت جنفاً أو إثماً قال الله تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} والأضحية ليست جنفاً ولا إثماً، بل هي عبادة مالية من أفضل العبادات والشعائر، وقد روى الترمذي وأبو داود عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان يضحي(17/269)
بكبشين أحدهما عن نفسه والا?خر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وفي رواية أبي داود أنه قال: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوصاني أن أضحي عنه فأنا أضحي عنه، وقد ترجم لذلك الترمذي وأبو داود فقال الترمذي: باب ما جاء في الأضحية عن الميت، وقال أبو داود: باب الأضحية عن الميت. ثم ساقا الحديث، لكن الحديث سنده ضعيف عند أهل العلم، وعلى كل حال فالعمدة على آية الوصية.
القسم الثاني: أن يضحي عن الميت تبعاً، مثل أن يضحي الرجل عن نفسه وأهل بيته وفيهم من هو ميت، فهذا جائز ويحصل للميت به أجر، وقد جاءت بمثله السنة فقد ضحى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكبشين، أحدهما عنه وعن آله، والثاني عن أمته وهو شامل للحي والميت عن آله وأمته.
القسم الثالث: أن يضحي عن الميت وحده بدون وصية منه، مثل أن يضحي الإنسان عن أبيه وأمه، أو ابنه، أو أخيه، أو غيرهم من المسلمين فلا أعلم لذلك أصلاً من السنة إلا ما جاء في بعض روايات مسلم لحديث البراء بن عازب رضي الله عنه في قصة أبي بردة بن نيار رضي الله عنه أنه قال: "يا رسول الله قد نسكت عن ابن لي". فإن صحت هذه الزيادة فقد يتمسك بها من يثبت جواز الأضحية عن الميت وحده حيث لم يسأله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ابنه أحيّ أم ميت. ولو كان الحكم يختلف بين الحي والميت لاستفصل(17/270)
منه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكن في هذا نظر؛ لأن المعهود أن الأضحية كانت في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الأحياء، والأموات تبع لهم ولا نعلم أنه ضحى عن الميت وحده في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولذلك اعتمد من يجيزون الأضحية عن الميت وحده بدون وصية منه على قياس الأضحية على الصدقة حيث إن الكل عبادة مالية، قال ابن العربي المالكي في شرح صحيح الترمذي (ص 092 ج 6) : اختلف أهل العلم هل يضحى عن الميت مع اتفاقهم على أنه يتصدق عنه، والضحية ضرب من الصدقة، لأنها عبادة مالية وليست كالصلاة والصيام. اه.
والخلاصة: أن الأضحية عن الميت وحده بدون وصية منه لا أعلم فيها نصًّا صريحاً بعينها، لكن إذا فعلت فأرجو أن لا يكون بها بأس، إلا أن الأفضل والأحسن أن يجعل المضحي الأضحية عنه وعنه أهل بيته الأحياء والأموات اقتداء بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفضل الله واسع يكون الأجر بذلك للجميع إن شاء الله تعالى.
وأما قول بعض الذين ينتسبون للعلم عندكم "إن الصدقة لا تصح للموتى إلا أن تكون صدقة جارية". فهذا غير صحيح، فإن الصدقة للموتى تصح ويصل إليهم ثوابها إذا كانت خالصة لله تعالى ومن مال طيب، سواء كانت جارية أم منقطعة فقد ثبت في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً قال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن أمي افتلتت نفسها (أي ماتت فجأة) وأظنها لو تكلمت تصدقت فهل لها أجر إن تصدقت عنها؟ قال "نعم". وروى نحوه مسلم من(17/271)
حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ففي هذا الحديث دليل على جواز الصدقة على الميت مطلقاً وأن له بذلك أجراً سواء كانت الصدقة جارية أم منقطعة.
ولعل الذين توهموا أن الميت لا ينفعه إلا الصدقة الجارية فهموا ذلك من قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"، رواه مسلم، وليس في هذا الحديث دلالة على ما توهموه فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "انقطع عمله" ولم يقل: (انقطع العمل له) ، ثم إن هذا الحديث الذي استند إليه هؤلاء فيما فهموا منه ليس على عمومه بالنص والإجماع إذ لو كان على عمومه لكان الميت لا ينتفع بغير دعاء ولده له، وقد دل الكتاب والسنة والإجماع على انتفاع الميت بدعاء غير ولده له، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإَيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَءَامَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} والذين سبقوهم بالإيمان في هذه الآيات هم المهاجرون والأنصار، والذين جاؤوا من بعدهم شامل لمن بعدهم إلى يوم القيامة فهم يدعون بالمغفرة لهم وإن لم يكونوا من أولادهم وينفعهم ذلك، وثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه أغمض أبا سلمة رضي الله عنه حين مات وقال: "اللهم اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه، وافسح له(17/272)
في قبره ونور له فيه". وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي على أموات المسلمين ويدعو لهم، وصح عنه أنه قال: "ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفَّعهم الله فيه"، وصح عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يزور المقابر ويدعو لأهلها ويأمر أصحابه بذلك.
فهذه دلالة الكتاب والسنة على انتفاع الإنسان بدعاء غير ولده له. وأما الإجماع فقد أجمع المسلمون على ذلك إجماعاً قطعياً فما زالوا يصلون على موتاهم، ويدعون لهم وإن لم يكونوا من آبائهم.
وكذلك صح عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، وليس ذلك من الصدقة الجارية، ولا من العلم، ولا من دعوة الولد.
وكذلك صح عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن من مات وعليه صيام صام عنه وليه. ووليه وارثه سواء كان ولداً أم غيره لقوله تعالى: {وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ} . وقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو لأولى رجل ذكر" متفق عليه. والصيام عبادة بدنية وقد أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بصومه عن الميت وهو دليل(17/273)
على أنه ينتفع به وإلا لم يكن للأمر به فائدة.
والأمثلة أكثر من هذا ولا حاجة لاستيعابها إذ المؤمن يكفيه الدليل الواحد.
والمقصود أن قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا مات الإنسان انقطع عمله" إلى آخر الحديث إنما يعني به عمل نفسه لا عمل غيره له، ولهذا قيد الصدقة بالجارية لتكون مستمرة له بعد الموت. وأما عمل غيره له فقد عرفت الأمثلة والأدلة على انتفاعه به سواء من الولد أو غيره، ولكن مع ذلك لا ينبغي للإنسان أن يكثر من إهداء العمل الصالح لغيره؛ لأن ذلك لم يكن من عادة السلف وإنما يفعله أحياناً.
وأما قول بعض المنتسبين للعلم عندكم: "إنه ما يصح الحج للميت إلا إذا كان ما قضى فرضه فهو يحج عنه" فهذا موضع خلاف بين العلماء والمشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أنه يجوز أن يحج عن الميت الفرض والنفل، لحديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً قال: لبيك عن شبرمة، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من شبرمة؟ " قال: أخ لي أو قريب لي، قال: "حججت عن نفسك؟ " قال: لا، قال: "حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة"، قال في الفروع [ص 562 ج 3 ط آل ثاني] إسناده جيد احتج به أحمد في رواية صالح، قال البيهقي: إسناده صحيح، ومن العلماء من أعله بالوقف لكن الرافع له ثقة، وهو يدل بعمومه على جواز حج النفل عن الميت، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يستفصل هذا الرجل عن حجه عن شبرمة هل هو نفل أو فرض؟ وهل كان شبرمة حيًّا أو ميتاً؟(17/274)
قالوا: وإذا جاز أن يحج عنه الفرض بالنص الصحيح الصريح فما المانع من النفل، فإن جواز حجه الفرض عنه دليل على أن الحج لا تمتنع فيه النيابة، وهذا لا فرق فيه بين الفرض والنفل إذا كان الذي يحج عنه ميتاً أوعاجزاً عجزاً لا يرجى زواله، أما القادر أوالعاجز عجزاً يرجى زواله فلا يوكل من يحج عنه. هذا ما لزم والله يحفظكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 51/1/1400 هـ.
* * *(17/275)
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما أفضل الأعمال التي تقدم إلى الميت؟ وما معنى قول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الصلاة عليهما؟
فأجاب فضيلته بقوله: أفضل ما يقدم إلى الميت الدعاء لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له"، فالدعاء للميت أفضل من كل شيء، أفضل من أن تصلي، أو تتصدق، أو تحج، أو تعتمر عن الميت، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر هذا: "ولد صالح يدعو له". في سياق الأعمال، فلو كانت الأعمال مشروعة للميت لقال: أو ولد صالح يتصدق له، أو يصوم عنه أو ما أشبه هذا، فلما عدل عن ذلك إلى الدعاء علم أن الدعاء أفضل من إهداء الأعمال.
وأما قوله: "الصلاة عليهما" يعني الدعاء، لأن الصلاة تأتي بمعنى الدعاء كقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صلاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} .
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم رجل يذبح عند القبر لله سبحانه وتعالى وهي صدقة عن الميت الذي في القبر ولكنه يعتقد أنه إذا ذبحت عند القبر يصل الأجر والثواب لصاحب القبر بسرعة هل هذا شرك؟(17/276)
فأجاب فضيلته بقوله: هذا ليس بشرك؛ لأنه لا يريد بذلك التقرب إلى صاحب القبر، إنما يريد التقرب إلى الله لكنه ظن جهلاً منه أن هذا أسرع في إيصال الثواب للميت فيُنبه على هذا، ويقال: هذا خطأ، والثواب يصل إلى الميت بإيصال الله عز وجل سواء كنت بعيداً عن الميت أم لا. على أنه ليس بمشروع أن يذبح الإنسان للميت ذبيحة؛ لأن الذبائح الشرعية مخصوصة بالأضحية، والعقيقة، والهدي. ولا يشرع للإنسان أن يذبح ذبيحة يتقرب بها إلى الله في غير هذه المواضع الثلاثة، نعم لو كان يريد أن يذبح لكن يقول: أنا لا أريد أن أتقرب بالذبح، ولكن أريد أن أتصدق باللحم. فهذا لا بأس.
ثم إننا ننهى أن يذبح عند القبر، وإن لم يكن شركاً؛ لأنه قد يؤدي إلى الاقتداء به.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: عن حكم صنع الطعام لأهل الميت؟
فأجاب فضيلته بقوله: إن أهل الميت إذا اشتغلوا بسبب المصيبة، وانشغلوا عن إصلاح الطعام لهم، فإنه يسن لمن علم بمصيبتهم أن يبعث إليهم بطعام لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين جاء نعي جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه: "اصنعوا لا?ل جعفر طعاماً، فقد أتاهم ما يشغلهم"، وفي قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فقد أتاهم ما يشغلهم" إشارة إلى أن ذلك ليس مستحباً على سبيل الإطلاق، ولكنه مستحب إذا كان أهل الميت قد انشغلوا عن إصلاح الطعام، أما إذا كان الأمر طبيعياً كما هو المعروف في عهدنا الا?ن فإنه لا يسن أن يبعث إليهم بطعام؛ لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حينما قال "ابعثوا لا?ل جعفر طعام" لم يقل: (فإنه قد مات لهم ميت) ، وإنما قال: "فقد أتاهم ما(17/277)
يشغلهم". وعلى هذا فإذا لم يكن هناك إشغال فإنه ليس هناك طعام، وإذا صنع الطعام وبعث إليهم وعندهم أحد من أقاربهم فله أن يأكل معهم، وأما أن يدعو الناس إليه، فإن هذا نوع من النياحة، ولهذا يكره لأهل الميت أن يصنعوا طعاماً ويدعوا الناس إليه، وبهذا يعلم أن ما يصنعه بعض المسلمين من صنع الطعام والشاي ودعوة الناس إليه أن هذا من البدع.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: مسألة العزاء توسع الناس فيها فإذا مات عند الناس ميت اجتمعوا ويصنع لهم طعام ويأتي بالذبائح وإذا قلنا في ذلك يقولون: أناس يزوروننا أفلا نغديهم!! وكذلك إذا كلمناهم في الجلوس للعزاء قالوا: أين نستقبل الناس؟
فأجاب فضيلته بقوله: التعزية ليست تهنئة كما يهنأ الإنسان القادم، التعزية يراد بها أننا إذا رأينا شخصاً مصاباً متأثراً نكلمه بما(17/278)
يهون عليه المصيبة، هذا هو المقصود منها، فنقول له مثلاً كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لإحدى بناته: "اصبر واحتسب فإن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى". ولا حاجة إلى الاجتماع في البيت فإن الاجتماع في البيت خلاف ما كان عليه السلف الصالح. حتى قالوا أي السلف الصالح كنا نعد الاجتماع عند أهل الميت وصنعة الطعام من النياحة. والنياحة من كبائر الذنوب، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعن النائحة والمستمعة. ولكن إذا سمعنا أن شخصاً من الناس تأثر بموت قريبه أو صديقه أو ما أشبه ذلك فإننا نحرص على أن نصل إليه. ونقول: اصبر واحتسب. أما مجرد أن يموت القريب نجتمع ويجتمع الناس. وربما توقد الأنوار، وتصف الكراسي، ويؤتى بالقراء وما أشبه ذلك فهذا لا يجوز. وكان الناس إلى عهد قريب لا يفعلون هذا إطلاقاً يموت الميت للإنسان فإذا فرغوا من دفنه ورأوه متأثراً عزوه ورجعوا إلى أهلهم، ثم من وجده في السوق أو في المسجد عزاه. وأما الاجتماع فلا شك أنه بدعة، وأنه ينهى عنه، لاسيما إن صحبه ندب بأن تجتمع النساء تقول: والله هذا كان كذا وكذا، هذا أبو العائلة هذا صاحب البيت، مَن للعائلة؟ مَن للبيت؟ وما أشبه ذلك فإنه يكون من الندب المحرم. وعلى طلبة العلم أن يُبصِّروا الناس قبل أن يتسع الخرق على الراتق.
* * *(17/279)
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: انتشرت وبشكل ملفت للنظر ومتزايد ظاهرة الولائم والبذخ بقصد طلب الأجر والمواساة إكراماً لذوي المتوفى، ما هي وجهة نظركم حول هذه الظاهرة وأسباب تزايدها؟ وما موقف الشريعة الإسلامية من ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذه الظاهرة أعني صنع الطعام والولائم لأهل الميت أيام وفاته ظاهرة غير مشروعة، بل قال جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه: كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام بعد دفنه من النياحة. رواه الإمام أحمد. قال في شرح المنتقى: وإسناده صحيح، فبين جرير رضي الله عنه أن ذلك نوع من النياحة. وثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه لعن النائحة والمستمعة، وأما قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين جاء نعي جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه: "اصنعوا لا?ل جعفر طعاماً فقد أتاهم ما يشغلهم"، فقد أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يصنع لا?ل جعفر طعاماً، وعلل ذلك بأنه أتاهم ما يشغلهم عن كلفة صنع الطعام، لا لأجل تسليتهم بإقامة الولائم عندهم، ثم إنه أمر أن يصنع لا?ل جعفر، وهذا يكون بقدر آل البيت، وهذا يدل على أنه إنما أمر بذلك للحاجة وبقدر الحاجة، لاعلى ما ذكر في السؤال، وغالب الناس اليوم لا(17/280)
يحتاجون لصنع الطعام لهم؛ لأن كثيراً من البيوت مملوءة من الأطعمة الجاهزة ولله الحمد. حرر في 16/2/1418 هـ.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم صنع الطعام لأهل الميت؟ بحيث يكون في كل يوم الطعام على أناس معينين يتبرعون بذلك؟ ويكون الطعام في العادة ذبائح مطبوخة مقدمة لأهل الميت، ويحتجون أنه قد جاء أهل البيت ما يشغلهم من عمل الطعام؟
فأجاب فضيلته بقوله: الذي ثبت في السنة أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه لما استشهد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأهله: "اصنعوا لا?ل جعفر طعاماً فقد أتاهم ما يشغلهم"، ولكن ليس على هذا الوجه الذي يفعله بعض الناس اليوم؛ حيث تكون الذبائح التي تهدى إلى أهل البيت ذبائح كثيرة، يجتمع عليها الناس كثيراً، فإن هذا خلاف المشروع؛ ثم إن الانشغال الذي كان في عهد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس موجوداً الا?ن ولله الحمد؛ هناك مطاعم كثيرة قريبة، خصوصاً في المدن، فهم ليسوا في حاجة إلى أن يُهدى لهم الطعام.
* * *(17/281)
الزيارة والتعزية
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم زيارة المقابر؟
فأجاب فضيلته بقوله: زيارة القبور سنة أمر بها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد أن نهى عنها كما ثبت ذلك عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكركم الا?خرة". رواه مسلم، فزيارة القبور للتذكر والاتعاظ سنة، فإن الإنسان إذا زار هؤلاء الموتى في قبورهم، وكان هؤلاء بالأمس معه على ظهر الأرض يأكلون كما يأكل، ويشربون كما يشرب، ويتمتعون بدنياهم، وأصبحوا الا?ن رهناً لأعمالهم، إن خيراً فخير، وإن شرًّا فشر، فإنه لابد أن يتعظ ويلين قلبه ويتوجه إلى الله عز وجل بالإقلاع عن معصيته إلى طاعته، وينبغي لمن زار المقبرة أن يدعو بما كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو به وعلمه أمته "السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاءالله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية"، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم، يقول هذا الدعاء ولم يرد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يقرأ الفاتحة عند زيارة القبور، وعلى هذا فقراءة الفاتحة عند زيارة القبور خلاف المشروع عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأما زيارة القبور للنساء فإن ذلك محرَّم؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعن(17/285)
زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج، فلا يحل للمرأة أن تزور المقبرة هذا إذا خرجت من بيتها لقصد الزيارة، أما إذا مرت بالمقبرة بدون قصد الزيارة فلا حرج عليها أن تقف وأن تسلم على أهل المقبرة بما علمه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمته، فيفرق بالنسبة للنساء بين من خرجت من بيتها لقصد الزيارة، ومن مرت بالمقبرة بدون قصد فوقفت وسلمت، فالأولى التي خرجت من بيتها للزيارة قد فعلت محرماً وعرضت نفسها للعنة الله عز وجل، وأما الثانية فلا حرج عليها.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: إذا توفي أحد المشهود لهم بالصلاح والعلم يكثر زوار قبره زيارة شرعية ولكن بعض طلبة العلم ينهون عن ذلك سدًّا للذريعة وخوفاً من الشرك، ما قول فضيلتكم في هذا؟
فأجاب فضيلته بقوله: الذي أرى ما ذهب إليه بعض طلبةالعلم وهو أن الإكثار من زيارة أهل العلم والعبادة ربما يؤدي في النهاية إلى الغلو الموقع في الشرك، ولهذا ينبغي أن يدعى لهم بدون أن تزار قبورهم على وجه كثير، والله عز وجل إذا قبل الدعوة فهي نافعة للميت سواء حضر الإنسان عند قبره ودعا له عند قبره، أو دعا في بيته، أو في المسجد كل ذلك يصل إن شاءالله عز وجل، ولا حاجة إلى أن يتردد إلى قبره؛ لأن المحظور الذي حذره بعض طلبة العلم وارد، ولاسيما إذا تطاول الزمن.(17/286)
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم تخصيص العيدين والجمعة لزيارة المقابر؟ وهل الزيارة للأحياء أم للأموات فيهما؟
فأجاب فضيلته بقوله: ليس لتخصيص الجمعة والعيدين أصل من السنة، فتخصيص زيارة المقابر في يوم العيد، واعتقاد أن ذلك مشروع يعتبر من البدع؛ لأن ذلك لم يرد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا علمت أحداً من أهل العلم قال به.
أما يوم الجمعة فقد ذكر بعض العلماء أنه ينبغي أن تكون الزيارة في يوم الجمعة، ومع ذلك فلم يذكروا في هذا أثراً عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: زيارة المقابر هل تختصُّ بيوم معين كالعيدين والجمعة أو في وقت معين من اليوم أم إنها عامة؟ وماذا يجاب عما ذكر ابن القيم رحمه الله في كتاب (الروح) من أنها تزار في يوم الجمعة؟ وهل يعلم الميت بزيارة الحي له؟ ثم أين يقف الزائر من القبر؟ وهل يشترط أن يكون عنده أم يجوز ولو كان بعيداً عنه؟
فأجاب فضيلته بقوله: زيارة المقابر سنة في حق الرجال، لأنها ثبتت بقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفعله، فقال قال عليه الصلاة والسلام: "زوروا القبور فإنها تذكر بالموت"، وثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان(17/287)
يزورها، ولا تتقيد الزيارة بيوم معين، بل تستحب ليلاً ونهاراً في كل أيام الأسبوع، ولقد ثبت في الصحيح أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج إلى البقيع ليلاً فزارهم وسلم عليهم، والزيارة مسنونة في حق الرجال، أما النساء فلا يجوز لهن الخروج من بيوتهن لزيارة المقبرة، ولكن إذا مررن بها ووقفن وسلمن على الأموات بالسلام الوارد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن هذا لا بأس به؛ لأن هذا ليس مقصوداً، وعليه يُحمل ما ورد في صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها وبه يجمع بين هذا الحديث الذي في صحيح مسلم، والحديث الذي في السنن أن الرسول عليه الصلاة والسلام "لعن زائرات القبور".
وأما تخصيص الزيارة يوم الجمعة وأيام الأعياد فلا أصل له وليس في السنة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ما يدل على ذلك.
وأما هل يعرف من يزوره فقد جاء في حديث أخرجه أهل السنن وصححه ابن عبد البر، وأقره ابن القيم في كتاب الروح "أن من سلَّم على ميت وهو يعرفه في الدنيا رد الله عليه روحه فرد عليه السلام".
وأما أين يقف الزائر فنقول: يقف عند رأس الميت مستقبلاً إياه فيقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، اللهم اغفر له(17/288)
وارحمه، وعافه واعف عنه، ويدعو له بما شاء ثم ينصرف، وهذا غير الدعاء العام الذي يكون لزيارة المقبرة عموماً. فإنه يقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاءالله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما هي أقسام زيارة المقابر؟
فأجاب فضيلته بقوله: زيارة القبور نوعان:
النوع الأول: يقصد الإنسان شخصاً معيناً فهنا يقف عنده، ويدعو بما شاء الله عز وجل، كما فعل عليه الصلاة والسلام حين استأذن الله عز وجل أن يستغفر لأمه فلم يأذن الله له، واستأذنه أن يزورها فأذن له، فزارها صلوات الله وسلامه عليه ومعه طائفة من أصحابه رضي الله عنهم.
النوع الثاني: أن تكون زيارته لعموم المقبرة فهنا يقف أمام القبور ويسلم كما كان عليه الصلاة والسلام يفعل ذلك إذا زار البقيع. يقول: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاءالله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية".(17/289)
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل يجوز زيارة قبر أمي حيث ماتت منذ أكثر من عشر سنوات؟
فأجاب فضيلته بقوله: زيارة القبور أمر بها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإنها تذكركم الا?خرة"، فينبغي للإنسان أن يزور المقابر، ويعتبر ويتعظ، ويدعو لهم بما ورد مثل: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاءالله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم".
وزيارة قبر أمك بخصوصه لا بأس به، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سأل الله عز وجل أن يزور قبر أمه فأذن له سبحانه وتعالى، واستأذن أن يستغفر لها فلم يأذن له، لأن أم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ماتت على الكفر قبل أن يُبعث النبي عليه الصلاة والسلام. فدل هذا على أنه يجوز للإنسان أن يزور قبر أبيه، أو أمه، أو قريبه على وجه الخصوص.
إلا أن أهل العلم لا يجوزونه على القول الراجح، إذا احتاج إلى شد رحل وسفر، لكن إذا كانت أمك في بلدك جاز لك زيارة قبرها، كما علمت، أما في بلد آخر فادع الله لها وأنت في بلدك، والله قريب مجيب، ولا تسافر من أجل زيارة قبرها، والله الموفق.
* * *(17/290)
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: عن حكم زيارة قبور الأقرباء؟
فأجاب فضيلته بقوله: زيارة القبور عامة سُنة أمر بها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها، فإنها تذكر الا?خرة"، والزائر للقبور يزورها لمصلحة أهل القبور، ولمصلحته هو بالأجر الذي يناله من زيارتها، وبالعبرة والعظة.
وليس يقصدهم من أجل الدعاء عند قبورهم لنفسه أو لغيره، وليس يقصدهم من أجل أن يتبرك بهم، وليس يقصدهم من أجل أن يدعوهم من دون الله، أو يدعوهم ليكونوا له وسطاء بينه وبين الله فكل هذا من الزيارات البدعية، وقد تكون زيارات شركية مخرجة عن الإسلام حسب ما تقتضيه نصوص الشريعة.
وإنما يزور الإنسان المقبرة للسلام عليهم، كما ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاءالله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم".
ولا بأس أن يزور أحد قبر أمه، أو أبيه، أو أحد من أصحابه، فيسلم عليه ويدعو له بما يتيسر، سواء طال عهد موته أم قصر، ولكن إذا رأى أن زيارته لأبيه، أو أمه، أو أحد من أقربائه أنها تبعث الأحزان في نفسه والهم والغم، أو ما هو أشد من ذلك من النياحة،(17/291)
فإنه حتى في مثل هذه الحالة يتجنب الزيارة، ويدعو لهم بما يستطيع ولو كان في بيته. والله الموفق.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل لزيارة القبور وقت محدد بالنسبة للرجال وهل هناك وقت نهي لزيارة القبور؟
فأجاب فضيلته بقوله: زيارة القبور ليس لها وقت محدد أي ساعة من الليل أو النهار، تزورها فلا بأس، وقد ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه زارها ليلاً.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: عندنا في القرية وفي ليلة عيد الفطر، أو ليلة عيد الأضحى المبارك عندما يعرف الناس أن غداً عيد يخرجون إلى القبور في الليل ويضيئون الشموع على قبور موتاهم ويدعون الشيوخ ليقرأوا على القبور، ما صحة هذا الفعل؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا فعل باطل محرم، وهو سبب للعنة الله عز وجل، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعن زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج، والخروج إلى المقابر في ليلة العيد ولو لزيارتها بدعة فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يرد عنه أنه كان يخصص ليلة العيد، ولا يوم العيد لزيارة المقبرة وقد ثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "إياكم(17/292)
ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار"، فعلى المرء أن يتحرى في عباداته، وكل ما يفعله مما يتقرب به إلى الله عز وجل أن يتحرى في ذلك شريعة الله تبارك وتعالى؛ لأن الأصل في العبادات المنع والحظر، إلا ما قام الدليل على مشروعيته، وما ذكره السائل من إسراج القبور ليلة العيد، قد دل الدليل على منعه، وعلى أنه من كبائر الذنوب كما أشرت إليه قبل قليل من أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعن زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل يجوز شد الرحال إلى قبر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
فأجاب فضيلته بقوله: من يشد الرحال إلى قبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعل ذلك من أجل السلام عليه، ونقول: إن الله قد كفاك، فأي إنسان يسلم على الرسول عليه الصلاة والسلام في أي مكان فإن تسليمه يبلغه، فلا يجوز أن يشد الرحال من أجل زيارة قبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأن ذلك أقل ما فيه إضاعة مال، وإضاعة المال محرمة.
لكن لو شد الرحل للمسجد النبوي فهذا جائز، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى"، وإذا وصلت إلى المسجد(17/293)
فصل تحية المسجد وقم بزيارة قبر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وقم بزيارة قبر أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه بالبقيع، وقم بزيارة أهل البقيع كلهم، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يزور البقيع.
والحكمة من زيارة البقيع وسائر القبور من أجل تذكر الا?خرة والدعاء لهم، لا من أجل الدعاء عند القبر أو الاستغاثة بأهل القبور. قال عليه السلام وهو المشرع للأمة المبين لحكم الشريعة قال: "زوروا القبور فإنها تذكركم الموت"، وفي لفظ: "تذكركم الا?خرة" هذا المقصود، فهؤلاء القوم هم الا?ن في باطن الأرض لا يملكون زيادة حسنة ولا نقص سيئة من أعمالهم، وأنت الا?ن على ظهر الأرض تستطيع أن تزيد حسنة في حسناتك، أو أن تستغفر من سيئة. فتذكر الموت، وتذكر الا?خرة، وهي دار الجزاء فإن هذا هو المقصود. والعبد ليس له عهد من الله أنه سيبقى مدة بعد هذه الزيارة، وأنت يا أخي لا تدري لعلك تزور هؤلاء الموتى صباحاً، ويزورك أقاربك في هذه القبور مساء، فاستعد للموت، تب إلى الله عز وجل مما فرطت في حق الله، وفرطت في حق عباد الله. فهذا هو المقصود من زيارة القبور.
أما إذا أردت أن تدعو الله، فادع الله في بيوته وهي المساجد.
وأقبح من الدعاء عند القبور! دعاء أهل القبور، فيقول: يا(17/294)
ربي الله، يا سيدي، يا فلان، افعل كذا وكذا، ارزقني مثلاً وهذا شرك أكبر يستحق فعله ما ذكره الله في قوله: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} . نسأل الله تعالى أن يختم لنا ولكم بالتوحيد والإخلاص والسنة إنه على كل شيء قدير.(17/295)
فصل في زيارة قبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقبري صاحبيه رضي الله عنهما
بعد أن يُصلي في المسجد النبوي أول قدومه ما شاء الله أن يُصلي، يذهب للسلام على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
1 فيقف أمام قبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مستقبلاً للقبر مستدبراً للقبلة، فيقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، وإن زاد شيئاً مناسباً فلا بأس مثل أن يقول: السلام عليك يا خليل الله وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، أشهد أنك قد بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، وجاهدت في الله حق جهاده.
وإن اقتصر على الأول فحسنٌ.
وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا سلم يقول: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتِ، ثم ينصرف.
2 ثم يخطو خطوة عن يمينه ليكون أمام أبي بكر رضي الله عنه فيقول: السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا خليفة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أمته، رضي الله عنك وجزاك عن أمة محمد خيراً.(17/296)
3 ثم يخطو خطوة عن يمينه ليكون أمام عمر رضي الله عنه فيقول: السلام عليك يا عمر، السلام عليك يا أمير المؤمنين، رضي الله عنك وجزاك عن أمة محمد خيراً.
وليكن سلامه على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصاحبيه بأدب، وخفض صوت، فإن رفع الصوت في المساجد منهيٌّ عنه، لاسيما في مسجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعند قبره.
وفي "صحيح البخاري" عن السائب بن يزيد قال: كنت قائماً أو نائماً في المسجد فحصبني رجل فنظرت فإذا عمر بن الخطاب فقال: اذهب فأتني بهذين، فجئته بهما فقال: مَن أنتما؟ قالا: من أهل الطائف، قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما جلداً، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولا ينبغي إطالة الوقوف والدعاء عند قبر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقبري صاحبيه، فقد كرهه مالك وقال: هو بدعة لم يفعلها السلف، ولن يُصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وكره مالك لأهل المدينة كلما دخل إنسان المسجد أن يأتي إلى قبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأن السلف لم يكونوا يفعلون ذلك، بل كانوا يأتون إلى مسجده فيصلون فيه خلف أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وهم يقولون في الصلاة: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، ثم إذا قضوا الصلاة قعدوا أو خرجوا ولم يكونوا يأتون القبر للسلام لعلمهم أن الصلاة والسلام عليه في الصلاة أكمل وأفضل.(17/297)
قال: وكان أصحابه خير القرون، وهم أعلم الأمة بسنته، وأطوع الأمة لأمره.
قلت: وأقواهم في تعظيمه ومحبته، وكانوا إذا دخلوا إلى مسجده لا يذهب أحد منهم إلى قبره، لا من داخل الحجرة ولا من خارجها، وكانت الحجرة في زمانهم يُدخَلُ إليها من الباب إلى أن بُني الحائط الا?خر، وهم مع ذلك التمكن من الوصول إلى قبره لا يدخلون إليه، لا لسلام، ولا لصلاة عليه، ولا لدعاء لأنفسهم، ولا لسؤال عن حديث أو علم!
ولم يكن أحد من الصحابة رضوان الله عليهم يأتيه ويسأله عن بعض ما تنازعوا فيه، كما أنهم أيضاً لم يطمع الشيطان فيهم فيقولُ: اطلبوا منه أن يأتي لكم بالمطر، ولا أن يستنصر لكم، ولا أن يستغفر كما كانوا في حياته يطلبون منه أن يستسقي لهم، وأن يستنصر لهم.
قال: وكان الصحابة إذا أراد أحدٌ أن يدعو لنفسه، استقبل القبلة ودعا في مسجده كما كانوا يفعلون في حياته، لا يقصدون الدعاء عند الحجرة، ولا يدخل أحدهم إلى القبر.
قال: وكانوا يقدمون من الأسفار للاجتماع بالخلفاء الراشدين وغير ذلك، فيصلون في مسجده، ويسلمون عليه في الصلاة، وعند دخولهم المسجد والخروج منه، ولا يأتون القبر؛ إذ كان هذا عندهم مما لم يأمرهم به. ولكن ابن عمر كان يأتيه فيسلم عليه وعلى صاحبيه عند قدومه من السفر، وقد يكون فعله غير ابن عمر أيضاً، ولم يكن جمهور الصحابة يفعلون كما فعل ابن عمر(17/298)
رضي الله عنهما.
ولا يتمسَّح بجدار الحجرة، ولا يقبله، فإن ذلك إن فعله عبادة لله وتعظيماً لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو بدعة، وكل بدعة ضلالة، وقد أنكر ابن عباس رضي الله عنهما على مُعاوية رضي الله عنه مسح الركنين الشامي والغربي من الكعبة، مع أن جنس ذلك مشروع في الركنين اليمانيين. وليس تعظيم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومحبته بمسح جدران حجرة لم تبن إلا بعد عهده بقرون، وإنما محبته وتعظيمه باتباعه ظاهراً وباطناً، وعدم الابتداع في دينه ما لم يشرعه.
قال الله تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .
وأما إن كان مسح جدار الحجرة وتقبيله مجرد عاطفة أو عبث فهو سفه وضلال لا فائدة فيه، بل فيه ضرر وتغرير للجهال.
ولا يدعو رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بجلب منفعة له، أو دفع مضرة، فإن ذلك من الشرك، قال الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى? أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ دَاخِرِينَ} . وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللهِ أَحَداً} ، وأمر الله نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يعلن لأمته بأنه لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، فقال تعالى: {قُل لاّ? أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَآءَ اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ السُّو?ءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ، وإذا كان لا يملك ذلك لنفسه، فلا يمكن أن يملكه(17/299)
لغيره.
وأمره سبحانه أن يعلن لأمته أنه لا يملك مثل ذلك لهم، فقال تعالى: {قُلْ إِنِّى لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَداً} .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: لما نزلت: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَْقْرَبِينَ} قام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: "يا فاطمة ابنة محمد، يا صفية بنت عبد المطلب، يا بني عبد المطلب لا أملكُ لكم من الله شيئاً، سَلُوني من مالي ما شئتم"، رواه مسلم.
ولا يطلب من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يدعو له، أو يستغفر له، فإن ذلك قد انقطع بموته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لما ثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "إذا مات ابن آدمَ انقطع عمله".
فأما قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُو?اْ أَنفُسَهُمْ جَآءُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللهَ تَوَّاباً رَّحِيماً اللهَ تَوَّاباً رَّحِيماً} فهذا في حياته، فليس فيها دليل على طلب الاستغفار منه بعد موته؛ فإن الله قال: {إذ ظلموا} ولم يقل: إذا ظلموا أنفسهم، (وإذ) ظرف للماضي لا للمستقبل، فهي في قوم كانوا في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا تكون لمن بعده.
فهذا ما ينبغي في زيارة قبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقبري صاحبيه(17/300)
والسلام عليهم.
وينبغي أن يزور مقبرة البقيع، فيسلم على من فيها من الصحابة والتابعين، مثل عثمان بن عفان رضي الله عنه، فيقف أمامه ويسلم عليه فيقول: السلام عليك يا عثمان بن عفان، السلام عليك يا أمير المؤمنين، رضي الله عنك وجزاك عن أمة محمد خيراً.
وإذا دخل المقبرة فليقل ما علمه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمته كما في "صحيح مسلم" عن بُريدة رضي الله عنه قال: "كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر فكان قائلهم يقول: "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاءالله بكم للاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية".
وفيه أيضاً عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخرج من آخر الليل إلى البقيع، فيقول: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون غداً مؤجلون، وإنا إن شاءالله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد".
وإنْ أحبَّ أن يخرج إلى (أُحد) ويزور الشهداء هناك فيسلم عليهم ويدعو لهم ويتذكر ما حصل في تلك الغزوة من الحكم والأسرار فحسن.
* * *(17/301)
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: نرى بعض الناس في المسجد النبوي يقف مستقبلاً قبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أي مكان في المسجد فهل هذه الصفة مشروعة؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان يريد بذلك أن يسلم على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنقول له: أدن من القبر، فإن زيارة القبر لابد فيها من الدنو، وإذا كنت تريد أن تدعوه فهو شرك أكبر يخرجك من ملة الرسول عليه الصلاة والسلام، أو أن تدعو الله متوجهاً إلى القبر فهذا بدعة ووسيلة للشرك، وليس من المعقول أن تنصرف من بيت الله إلى قبر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن بيت الله الذي يجب على كل مسلم أن يتجه إليه في صلاته أفضل من قبر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأفضل بقعة على وجه الأرض هو بيت الله عز وجل الكعبة فلا يليق بك وأنت تدعي أنك تعبد الله أن تتوجه بدعائك إلى قبر الرسول عليه الصلاة والسلام دون أن تتوجه إلى بيت الله، هذا من تسفيه ومن إضلال الشيطان لبني آدم وإغوائه إياهم، وإلا فبمجرد أن يفكر الإنسان بقطع النظر عن الدليل الشرعي يعلم أن هذا ضلال وسفه، حينئذ نقول للواقف على هذا الوجه يريد التسليم على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نقول له: ادن من القبر. والذي يدعو الله متوجهاً إلى القبر، نقول: هذا بدعة ووسيلة للشرك وضلال في الدين وسفه في العقل؛ لأن توجهك إلى بيت الله أولى من توجهك إلى قبر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وإذا كان يتوجه هذا التوجه يدعو الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو مشرك شركاً أكبر يخرجه عن ملة رسول الله عليه الصلاة والسلام.
* * *(17/302)
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما بالنا نتخذ من قبر الرسول عليه الصلاة والسلام مسجداً؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا سؤال تلبيس وتشبيه على الناس يريد هؤلاء القوم الذين يبنون المساجد على قبورهم، أو يدفنون موتاهم في مساجدهم يريدون أن يلبسوا على العامة أن قبر الرسول عليه الصلاة والسلام بني عليه المسجد، مع أن القبر منفرد في حجرة منفصلة، فالمسجد لم يبن على قبر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا شك في هذا؛ لأن المسجد سابق على القبر، فالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يدفن في المسجد. إذن انتفت الشبهة، والمسجد لم يبن على القبر وإنما دفن عليه الصلاة والسلام في حجرة عائشة رضي الله عنها ثم لما زيد في المسجد في عام (أربعة وتسعين) هجرية أدخلوا الحجرة، ولعل هذا من نعمة الله عز وجل؛ لأن وجودها في المسجد على فرض أنها في المسجد أحمى لها مما لو كانت خارج المسجد، وأحمى للأمة من الشرك مما لو كانت خارج المسجد، ولهذا تقول عائشة رضي الله عنها لما ذكرت بناء الأمم السابقة على قبور أنبيائهم قالت: "ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً" وعلى هذا فلا شبهة في هذا إطلاقاً والأمر ولله الحمد واضح.(17/303)
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: كيف نجيب عبَّاد القبور الذين يحتجون بدفن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المسجد النبوي؟
فأجاب فضيلته بقوله: الجواب عن ذلك من وجوه:
الوجه الأول: أن المسجد لم يبن على القبر بل بني في حياة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الوجه الثاني: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يدفن في المسجد حتى يقال إن هذا من دفن الصالحين في المسجد؛ بل دفن صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيته.
الوجه الثالث: أن إدخال بيوت الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومنها بيت عائشة مع المسجد ليس باتفاق الصحابة، بل بعد أن انقرض أكثرهم، وذلك في عام (أربعة وتسعين) هجرية تقريباً، فليس مما أجازه الصحابة؛ بل إن بعضهم خالف في ذلك وممن خالف أيضاً سعيد بن المسيب.
الوجه الرابع: أن القبر ليس في المسجد حتى بعد إدخاله، لأنه في حجرة مستقلة عن المسجد فليس المسجد مبنيًّا عليه، ولهذا جعل هذا المكان محفوظاً ومحوطاً بثلاثة جدران، وجعل الجدار في زاوية منحرفة عن القبلة أي أنه مثلث، والركن في الزاوية الشمالية حيث لا يستقبله الإنسان إذا صلى لأنه منحرف، وبهذا يبطل احتجاج أهل القبور بهذه الشبهة.
س 072 سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: عندما(17/304)
يدفن الميت يتركه أهله أربعون يوماً لا يزورونه وبعد ذلك يذهبون لزيارته بحجة أنه لا يجوز زيارة الميت قبل أربعين يوماً فما الحكم في ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: قبل الإجابة على هذا السؤال ينبغي أن نبين أن زيارة القبور سنة في حق الرجال أمر بها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد أن نهى عنها، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم بالا?خرة". والزائر الذي يزور القبور يزورها.
أولاً: امتثالاً لأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثانياً: اعتباراً بحال هؤلاء الأموات الذين كانوا بالأمس معه على ظهر الأرض، يأكلون كما يأكل، ويشربون كما يشرب، ويلبسون كما يلبس، ويتنعمون في الدنيا كما يتنعم، فأصبحوا الا?ن مرتهنين في قبورهم بأعمالهم، ليس عندهم صديق ولا حميم، وإنما جليسهم عملهم كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: "يتبع الميت ثلاثة، فيرجع اثنان ويبقى معه واحد، يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله ويبقى عمله" فيعتبر الزائر بحال هؤلاء.
والفائدة الثالثة: أنه يتذكر الا?خرة، وأنها المقر والمرجع، وأن الدنيا دار ممر وليست دار مقر، ومع ذلك فليست القبور هي المثوى الأخير فبعدها ما بعدها من اليوم الا?خر، وأما البقاء في(17/305)
القبور فهو زيارة كما قال تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَّاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} .
وقد ذُكِر أن أعرابياً سمع قارئاً يقرأ هذه الا?ية {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} فقال: والله ما الزائر بمقيم وإن وراء هذه الزيارة لأمر إقامة.
وبهذه المناسبة أود أن أنبه إلى كلمة يقولها بعض الناس من غير روية وتدبر لمعناها وهو أنهم إذا تحدثوا عن الميت قالوا: "ثم آووه إلى مثواه الأخير". "أو دفن في مثواه الأخير"، وكلمة (مثواه الأخير) لو دُقق في معناها لكانت كفراً؛ لأنه إذا كان القبر هو المثوى الأخير فمعناه (أنه لا بعد ذلك من مقر) ، وهذا أمر خطير لأن الإيمان بالله واليوم الا?خر من أركان الإيمان، لكن الذي يظهر لي أن العامة يقولونها من غير تدبر لمعناها، لكن يجب التنبه لذلك لخطورة ذلك، فمن اعتقد أن القبر هو المثوى الأخير وأنه ليس بعده شيء فقد أخطأ.
الفائدة الرابعة من زيارة القبور: أن الزائر يسلِّم على أهل القبور ويدعو لهم: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاءالله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية.
وأما من يزور القبور للدعاء عندها فإن ذلك من البدع فالمقبرة ليست مكاناً للدعاء حتى يذهب ليدعو الله عندها، كالدعاء عند قبر رجال صالح أو ما أشبه ذلك، وأشد من ذلك من يذهب إلى(17/306)
المقبرة ليدعو أصحاب القبور ليستغيث بهم ويستعين بهم فإن هذا من الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله. قال الله عز وجل: {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى? أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} . وقال الله عز وجل: {فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللهِ أَحَداً} . فمن دعا غير الله لقضاء حاجته من هؤلاء الأموات فقد أشرك بالله شركاً أكبر.
وليعلم أن زيارة القبور لا تختص بوقت معين، ولا بليلة معينة بل يزورها الإنسان ليتذكر، ولقد زار النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ البقيع ذات مرة في الليل وهو دليل على أن الزيارة لا يشترط لها يوم معين.
أما فيما يتعلق بسؤال السائل وهو أن أهله لا يزورونه إلا إذا تم له أربعون يوماً، فهذا لا أصل له، بل للإنسان أن يزور قبر قريبه من ثاني يوم دفن، ولكن لا ينبغي للإنسان إذا مات له الميت أن يعلق قلبه به وأن يكثر التردد إلى قبره؛ لأن هذا يجدد له الأحزان، وينسيه ذكر الله عز وجل، ويجعل أكبر همه أن يكون عند هذا القبر، وربما يبتلى بالوساوس والخرافات والأفكار السيئة بسبب هذا.(17/307)
* * *
رسالة
سماحة الشيخ الوالد الشيخ محمد بن صالح العثيمين وفقه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
بعض الناس يذهب لزيارة مكان في الأبواء يزعمون أنه مكان قبر أم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويتوسلون بها، وبعضهم يطلب منها كشف الكربات وتنفيس الشدائد وإجابة الدعوات، وربما اقترن بعملهم ذلك اعتقاد بأن أم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أحياها الله فآمنت به ثم ماتت. والسؤال: ما حكم زيارة قبرها إن صح معرفة مكانه؟ وهل ما ذكر من إحيائها وإيمانها صحيح؟
وما حكم دعاء المخلوق وسؤاله كشف الكربة وإجابة الدعاء؟
وهل كون الميت من الأنبياء أو الصالحين يبيح للإنسان دعائه وسؤاله، نرجو بسط الجواب لمسيس الحاجة إلى ذلك، نفع الله بكم.
بسم الله الرحمن الرحيم
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
إن هذا المكان الذي يدعى أنه قبر أم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير مشهور في السابقين، وإذا كان غير مشهور في السابقين كان تعيينه دعوى من المتأخرين لا دليل عليها، فيكون تعيينه من اتباع الظن، والظن(17/309)
لا يغني من الحق شيئاً، ويكون الزائرون له على الوجه المذكور في السؤال مخطئين من وجوه:
الأول: أنه لم يثبت أن هذا قبرها فيكونون اتبعوا ما ليس لهم به علم.
الثاني: أن زيارته ليست مستحبة، ولهذا لم يفعلها الصحابة رضي الله عنهم وهم أشد حباً منا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأقوى اتباعاً لسنته، وإنما كانت زيارة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من باب شفقة الولد لأمه، ومع ذلك لم يؤذن له أن يستغفر لها، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي".
الثالث: أن التوسل بها من باب التوسل الممنوع، فإن التوسل بأموات المسلمين من باب الشرك، فكيف التوسل بمن مات قبل البعثة، وبمن مُنع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يستغفر له.
الرابع: أن طلب كشف الكربات من الأموات شرك أكبر مخرج عن ملة الإسلام، وهو سفه وضلال، قال الله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ اللهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} . وقال تعالى: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ(17/310)
وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِى الأَْخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} .
وأما اعتقاد أن أم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحياها الله تعالى فآمنت به ثم ماتت، فاعتقاد باطل لا أساس له، والحديث المروي في ذلك موضوع.
وكون الإنسان من الأنبياء، أو الصالحين لا يبيح دعاء الناس، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والصالح لا يرضى بذلك.
كتبه محمد الصالح العثيمين في 14/2/1419 هـ.
* * *(17/311)
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم زيارة المرأة للقبور؟ وما الحكمة من منع النساء من زيارة القبور؟
فأجاب فضيلته بقوله: المرأة ليس لها زيارة القبور، بل القول الراجح من أقوال أهل العلم أن زيارتها للقبور محرمة، بل هي من الكبائر، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعن زائرات القبور، ولا يكون اللعن إلا على إثم كبير، ولهذا جعل أهل العلم من علامات الكبيرة أن يترتب عليها اللعن، لأنه عقوبة عظيمة، والعقوبة العظيمة لا تكون إلا على ذنب عظيم.
ولكن إذا مرت المرأة على المقابر فلا حرج عليها أن تقف وتدعو لأصحاب القبور، أما أن تخرج من بيتها قاصدة الزيارة فهذا هو المحرم.
والحكمة من ذلك أن في زيارة النساء للقبور مفاسد، منها أن المرأة ضعيفة الإرادة، قوية العاطفة، وربما لا تتحمل إذا وقفت على قبر قريبها كأمها، أو أبيها، فيحدث منها البكاء والنواح والعويل مما يكون له ضرر عليها في دينها وبدنها.
ومن الحكمة أيضاً: أن المرأة إذا مكنت من زيارة القبور التي غالباً ما تكون خالية من الناس فإنها قد يتعرض لها الفساق، وأهل الفجور في هذا المكان الخالي فيحصل لها ما لا تحمد عقباه.
ومن الحكمة أيضاً: أن المرأة وهي الضعيفة العزيمة، القوية العاطفة قد تتخذ من زيارة القبور ديدناً لها فتضيع بذلك مصالح(17/312)
دينها ودنياها، وتبقى نفسها معلقة بهذه الزيارة.
ولو لم يكن من الحكمة في منع زيارة النساء للقبور إلا أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعن زائرات القبور لكان هذا كافياً في الحذر منها، وفي البعد عنها؛ لأن الله تعالى إذا قضى أمراً في كتابه أو على لسان رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه لا خيرة لنا. {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً} .
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: أرجو من سماحتكم التفصيل في مسألة زيارة المرأة للمقابر؟
فأجاب فضيلته بقوله: زيارة المرأة للمقابر محرمة، بل من كبائر الذنوب؛ لأن الرسول عليه السلام لعن زائرات القبور، ولكن إذا مرت المرأة بالمقبرة من غير أن تخرج من أجل الزيارة فلا حرج عليها أن تقف وتدعو لهم، كما يفيده ظهر حديث عائشة رضي الله عنها في صحيح مسلم.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: روى مسلم من حديث محمد بن قيس قال: قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله كيف أقول لهم؟ قال عليه الصلاة والسلام: "قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاءالله بكم للاحقون"، ألا يدل هذا الحديث مع حديث أم عطية رضي الله عنها "نهينا عن اتباع الجنائز ولم يُعْزَمْ علينا"، وغيرها من الأحاديث دلالة واضحة على جواز زيارة النساء للمقابر إذا كن لا يفعلن ما حرم الله، وإذا لم يكن كذلك كيف توجهون حديث محمد بن قيس؟
فأجاب فضيلته بقوله: ذكرنا في ما سبق جواباً يدل على حكم هذه المسألة وأشرنا إلى حديث عائشة هذا، وقلنا: إن السنة تدل على أن المرأة إذا خرجت تريد زيارة القبور فإن هذا من كبائر الذنوب، وأما إذا مرت بها بدون قصد ووقفت وسلمت فإن هذا لا بأس به وعلى هذا ينزل حديث عائشة رضي(17/313)
الله عنها حتى تلتئم السنة ولا يحصل فيها تناقض.
وأما حديث أم عطية رضي الله عنها "نهينا عن اتباع الجنائز، ولم يعزم علينا" فإن كثيراً من أهل العلم قال: إن الاعتبار بما روت "نهينا عن اتباع الجنائز" وكونها تقول: "ولم يعزم علينا" هذا تفقه منها، قد يكون هذا مراد رسول الله عليه الصلاة والسلام، وقد لا يكون، ولأن الاتباع غير الزيارة؛ لأن اتباع الجنائز يبعد أن(17/314)
يكون فيه محذور لوجود الرجال مع الجنازة، ومنعهن من المحذور فيما لو أراد النساء أن يفعلن ذلك بخلاف الزيارة.
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: عن زيارة النساء لقبر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
فأجاب فضيلته بقوله: زيارة المرأة للقبور محرمة؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعن زائرات القبور، واللعن هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله ولا لعن على فعل إلا من كبائر الذنوب، ولهذا قال العلماء: كل ذنب كانت عقوبته اللعنة فهو من كبائر الذنوب.
أما زيارة النساء لقبر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فيرى بعض العلماء أنه لا بأس أن تزور المرأة قبر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأن زيارتها لقبره ليست زيارة حقيقية؛ لأن القبر محاط بجدران منفصل، حتى لو وقفت عنده تريد الزيارة فهي لم تزر القبر؛ لأن بينها وبين القبر كما قال ابن القيم: أحاطه بثلاثة جدران. بينها وبينه جدار وليست كالتي تقف على القبر بدون أن يحول بينها وبينه شيء، ولهذا استثنى بعض العلماء هذه الزيارة، وقال: إنها حقيقة ليست زيارة؛ لأن المرأة لا تباشر القبر، ولكن لا شك أن الاحتياط والأولى أن لا تزور، ونقول للمرأة هوني عليك إذا قلت السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فهناك أمناء ينقلون هذا السلام إلى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "فأكثروا عليّ من الصلاة فإن صلاتكم(17/315)
معروضة عليّ"، فهي وإن كانت في أبعد ما يكون عن القبر إذا سلمت على الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن السلام يبلغه فلتهون على نفسها، ولتعلم أنها لم تحرم الخير، وعندها الروضة فيها زيارة وقد قال فيها الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة"، وهذا عام للرجال والنساء.
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما الفرق بين زيارة النساء لقبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغيره؟ وهل النهي عام أم يستثنى منه قبر النبي عليه السلام؟
فأجاب فضيلته بقوله: ليس هناك ما يدل على تخصيص قبر النبي عليه الصلاة والسلام بإخراجه من النهي عن زيارة القبور بالنسبة للنساء، ولهذا نرى أن زيارة المرأة لقبر الرسول عليه الصلاة والسلام كزيارتها لأي قبر آخر، والمرأة يكفيها والحمد لله أنها تسلم على النبي عليه الصلاة والسلام في صلاتها، وإذا سلمت فإن تسليمها يبلغ النبي عليه الصلاة والسلام أينما كانت.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم زيارة قبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للنساء والسلام عليه؟(17/316)
فأجاب فضيلته بقوله: الذي أرى أن زيارة قبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كزيارة غيره، وأنه لا يجوز للمرأة أن تزور قبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما لا يجوز لها أن تزور قبر غيره لعموم الحديث وهو: "لعن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج".
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: امرأة تسأل تقول: هل مجيء العادة الشهرية عند زيارة الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام دليل على أن الله تعالى ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد غضبا عليها؟ ماذا أفعل لكي أنال محبة الله ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لي؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا السؤال تضمن مسألتين:
الأولى: قولها إتيان العادة الشهرية عند زيارة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجواباً على هذا فنقول: إنه لا يشرع للمرأة زيارة قبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن ذلك بقوله: "لعن الله زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج"، فعلى هذا لا تزور المرأة قبره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا صلت المرأة عليه في مكانها وسلمت عليه في مكانها فإن ذلك يبلغه مهما كان مكانها.
وأما المسألة الثانية: فهي عن سؤالها عما يوجب محبة الله لها ورضاه عنها فنقول: إن الذي يوجب ذلك هو محبتها له، واتباع أمره وأمر رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما قال سبحانه: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِى(17/317)
يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . فعليك أيتها السائلة أن تحرصي على طاعة الله، وطاعة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مخلصة في ذلك لله عز وجل، متبعة لهدي رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبهذا تنالين الحياة الطيبة، والأجر الحسن في الا?خرة، كما قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} . والله الموفق.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم زيارة النساء للقبور عامة وقبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاصة؟
فأجاب فضيلته بقوله: أما زيارة المرأة للقبور فهي محرمة بل من كبائر الذنوب؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعن زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج، ولأن المرأة ضعيفة، وسريعة العاطفة، وسريعة التأثر فزيارتها للقبور يحصل بها محاذير عديدة، ولأن المرأة إذا زارت القبور فإنها لعاطفتها ولينها ربما تكرر هذه الزيارة فتبدو المقابر مملوءة بالنساء، ولأنه إذا حصل ذلك ربما يكون هذا مرتعاً لأهل الخبث والفجور يترصدون النساء في المقابر، والغالب أن المقابر تكون بعيدة عن محل السكن فيحصل بذلك شر عظيم، لذلك كان لعن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لزائرات القبور مبنياً على حكم عظيمة توجد في زيارة المرأة للمقبرة، لكن لو أن المرأة مرت(17/318)
بالمقبرة من غير قصد لزيارتها ووقفت وسلمت السلام المشروع، وهو: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاءالله بكم لاحقون، فإن ذلك لا بأس به لأن عائشة رضي الله عنها سألت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ماذا تقول إذا مرت بالقبور، فبين لها الرسول عليه الصلاة والسلام هذا الذكر. أما أن تتعمد الزيارة فإن ذلك محرم، ومن كبائر الذنوب.
أما زيارة النساء لقبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن الظاهر أنها داخلة في العموم، وأن المرأة لا تزور قبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال بعض العلماء: إنها تزور قبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأن قبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليسا بارزاً كالقبور الأخرى، بل هو محاط بثلاثة جدران، فهي إذا زارته لم تكن في الحقيقة زائرة له، بل وقفت حوله، ولكن لا شك أن هذا يسمى زيارة عرفاً، وإذا كان يسمى زيارة فلا تزور، ويكفيها أن تقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته وهي تصلي فإن تسليمها هذا يبلغ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويحصل لها به الثواب.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل يجوز للمرأة زيارة مقبرة البقيع؟
فأجاب فضيلته بقوله: زيارة المرأة للقبور حرام سواء البقيع أو غيره لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لعن زائرات القبور) وهو بهذا اللفظ صحيح أو حسن.(17/319)
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل أستطيع أن أزور قبر ابني حيث إنه مات وقد سمعت من بعض الناس أنهم يقولون: إن الوالدة إذا ذهبت إلى القبر قبل طلوع الشمس من اليوم الجمعة ولم تبك وقرأت سورة الفاتحة يمكن لولدها أن يراها بحيث تكون المسافة بينهما مثل ثقوب المنخل وإذا بكت عليه حُجبت عنه، ما صحة هذا؟ وما حكم زيارة النساء للقبور؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا الذي ذكر من عمل المرأة إذا زارت قبر ابنها يوم الجمعة قبل طلوع الشمس وقرأت الفاتحة ولم تبك فإنه يكشف لها عنه حتى تراه كأنما تراه من خلال المنخل، نقول: إن هذا القول ليس بصحيح، وهو قول باطل لا يعول عليه.
* وأما حكم زيارة النساء للقبور فقد اختلف العلماء فيه:
فمنهم: من كرهها.
ومنهم: من أباحها إذا لم تشتمل على محظور.
ومنهم: من حرمها.
والصحيح: الراجح عندي من أقوال أهل العلم رحمهم الله أن زيارة النساء للقبور حرام لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعن زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج، واللعن لا يكون على فعل مباح، ولا يكون على فعل مكروه، بل يكون اللعن على فعل محرم، بل إن القاعدة المعروفة عند أهل العلم تقتضي أن تكون(17/320)
زيارة النساء للقبور من كبائر الذنوب؛ لأنه ترتب عليها اللعنة، والذنب إذا رتبت عليه اللعنة صار من كبائر الذنوب كما هو الأصل عند كثير من أهل العلم أو أكثرهم، وعلى هذا فإن نصيحتي لهذه المرأة التي توفي ولدها أن تكثر من الاستغفار والدعاء له في بيتها، وإذا قبل الله تعالى ذلك منها فإنه ينتفع به الولد وإن لم تكن عند قبره.
* * *(17/321)
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد الصالح العثيمين إلى الأخ المكرم ... حفظه الله تعالى.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ... وبعد
الصواب أن زيارة المرأة للقبور إن كانت استقلالاً بأن خرجت من بيتها لذلك فهو حرام؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعن زائرات القبور، وفي حديث آخر: زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج، وقد أجاب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عما أعل به هذان الحديثان فيما بين صفحتي 843 353 مج 42 من مجموع الفتاوى لابن قاسم، وأجاب عن لفظ (زوارات) بأنه قد يكون لتعدد الزائرات لا لتعدد الزيارة من الواحدة، واستشهد لذلك بقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ وفتّحت أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} في قراءة من شدد التاء.
أما إذا كانت زيارة المرأة للمقبرة عرضاً بأن مرت بها في طريقها إلى غرض آخر فوقفت عندها للسلام على أهلها فلا بأس بذلك إن شاءالله تعالى، ولعله يستدل له بما رواه مسلم ص 176 ج 1 تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي من حديث عائشة رضي الله عنها أن جبريل أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: "إن ربك يأمرك أن تأتي أهل(17/323)
البقيع فتستغفر لهم"، قالت: قلت: كيف أقول لهم يا رسول الله؟ قال: "قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاءالله بكم لاحقون"، فإن ظاهر هذا أنها سألت كيف أقول لهم إذا زرتهم، وليس صريحاً فيه لاحتمال أن يكون هذا دعاء لهم بدون زيارة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية ص 543 مج 42 من مجموع الفتاوى: وما علمنا أن أحداً من الأئمة استحب لهن زيارة القبور، ولا كان النساء على عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخلفائه الراشدين يخرجن إلى زيارة القبور كما يخرج الرجال. ا. هـ.
* * *(17/324)
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
في 7/1/1339 هـ
من محبكم محمد الصالح العثيمين إلى الأخ المكرم ... حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كتابكم الكريم المؤرخ 42 الماضي وصل، سرنا صحتكم الحمد لله على ذلك، ودعاؤكم لنا بقبول العمرة والصلاة في المسجدين الشريفين نرجو الله قبوله، وأن يجزيكم عنا خيراً. وسؤالكم عن حكم زيارة النساء لقبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فبعض العلماء يرى أن لا بأس بها، لا لمعنى يختص بقبره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأن قبره كغيره من القبور يثبت له ما يثبت لها، ولكن لأن قبره محاط ومحجوب بالبناء، فلا يمكن الوقوف على القبر، ولا الوصول إليه، فلا تتحقق الزيارة فيه.
والأولى منع النساء من زيارته؛ لأن الزيارة ليس لها مسمى شرعي، وذهابهن إلى القبر ووقوفهن أمامه يسمى زيارة عرفاً، فثبت لذلك حكم الزيارة وإن كان ثم بناء، كما لو ذهبن إلى البقيع ووقفن عند المقبرة فإنه ينبغي منعهن من ذلك؛ لأنه يسمى زيارة عرفاً.
وربما يقول قائل: إن الوقوف عند المقبرة مع الحائل لا يكون زيارة للقبور لعدم الوصول إلى القبور، ولكن الأول أحوط وأسلم، وإذا أرادات المراة أن تسلم على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو تدعو لأهل المقابر(17/325)
فعلت ذلك وهي في بيتها فإن بيوتهن خير لهن.
وأما سؤالكم عن الحديث الذي في المجلد الأول من المشكاة [ص 555 ط آل ثاني] فقد رجعت إليه في صحيح مسلم، وسنن النسائي، ومسند الإمام أحمد فلم أجده صريحاً في زيارة القبور، وإنما هو في قصة طويلة وفيها أن جبريل أتى النبي فقال: "إن الله يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم"، قالت: قلت: كيف أقول لهم يا رسول الله؟ قال: "قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين" إلى آخر الحديث. وهذا اللفظ كما ترى ليس صريحاً في الزيارة فلا ينبغي أن يعارض به الأحاديث الدالة على تحريم زيارة القبور للنساء.
ولا شك أن المرأة إذا مرت بالمقبرة غير قاصدة للزيارة فسلمت على أهل القبور فإن ذلك جائز، ولا يدخل في النهي، وعلى هذا فيحمل حديث عائشة رضي الله عنها المذكور على من مرت بالمقبرة، ويبقى النهي محكماً لا معارض له، وقول صاحب المشكاة تعني في زيارة القبور تصرف غير جيد؛ لأنه ليس صريحاً فيه، فلا ينبغي الجزم به.
* وبعد فإن العلماء مختلفون في حكم زيارة النساء للمقبرة على ثلاثة أقوال:
أحدها: الجواز، ودليلهم هذا الحديث، وادعوا أن أحاديث النهي منسوخة.
الثاني: الكراهة، ودليلهم حديث أم عطية رضي الله عنها ((17/326)
نهينا عن اتباع الجنائز، ولم يعزم علينا) .
الثالث: التحريم، ودليلهم أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعن زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج، قالوا: والأحاديث التي استدل بها المجيزون ليست صريحة في الزيارة حتى تكون معارضة لأحاديث النهي، ولو فرض أنها صريحة فإن أحاديث النهي أحوط؛ لأنها دالة على تحريم الزيارة وتلك دالة على جوازها، واجتناب المحرم أولى من فعل المباح، وقول المجيزين: (إن أحاديث النهي منسوخة) مردود؛ لأن من شرط النسخ أن نعلم التاريخ بتأخر الناسخ، ولا دليل على تأخر أحاديث الجواز، وهذه الدعوى التي قالوها يمكن أن يقولها من قال بالتحريم، فيقول: إن أحاديث الإباحة قبل أحاديث النهي فهي منسوخة بها، فالقول بالتحريم أرجح من حيث الدليل، ومن حيث التعليل أيضاً؛ لأن زيارة النساء للقبور يترتب عليها من الشر والفساد ما يقتضي المنع لو لم يرد النهي، فكيف وقد ورد لعن زائرات القبور؟! والله يحفظكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
* * *(17/327)
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما الحكم في تخصيص يوم العيد بزيارة المقابر؟ وما حكم زيارة النساء للمقابر وهن يبكين؟
فأجاب فضيلته بقوله: تخصيص يوم العيد بذلك بدعة فإن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن يخصص المقابر بالزيارة يوم العيد، ولا يمكن للمرء أن يخصص وقتاً من الأوقات لعبادة من العبادات إلا بدليل من الشرع، لأن العبادة تتوقف على الشرع في سببها، وفي جنسها، وفي قدرها، وفي هيئتها، وفي زمانها، وفي مكانها، لابد أن يكون الشرع قد جاء في كل هذه الأشياء فإذا خصصنا عبادة من العبادات بزمن معين بدون دليل كان ذلك من البدع، فتخصيص يوم العيد بزيارة المقبرة بدعة ليست واردة من الرسول عليه الصلاة والسلام ولا عن أصحابه رضي الله عنهم.
وأما بالنسبة لزيارة النساء للمقابر فهي محرمة لا يجوز للنساء أن يزرن القبور، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعن زائرات القبور، فكيف إذا حصل من زيارتهن من البكاء والنياحة فإنه يكون ظلماً فوق ظلم، وقد ثبت أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعن النائحة والمستمعة، وأخبر أن النائحة إذا لم تتب قبل موتها فإنها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب والعياذ بالله فعلى النساء أن يتقين الله عز وجل، وأن يبتعدن عن محارمه، ولا يزرن المقابر، والله عليم(17/328)
بكل شيء.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: إذا كانت المقبرة في طريق المرأة فسلمت عليهم وقرأت الفاتحة وسورة الإخلاص فهل عليها من حرج في ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: ليس عليها حرج في هذا إذا سلمت على أهل القبور ودعت لهم بالرحمة والمغفرة، كما جاء عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاءالله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم.
وأما قراءة الفاتحة والإخلاص وغيرها من القرآن فإن هذا من البدع فلا ينبغي ذلك، ويكفي السلام والدعاء الوارد في السنة.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم زيارة النساء للقبور والنياحة على الميت ومتابعة النساء للجنازة ولبس الثوب الأسود وعمل شادر (صيوان) لقراءة القرآن ليلة الوفاة وليلة الأربعين والسنوية هذا ما يحدث كثيراً في بعض الدول العربية المجاورة والإسلامية نرجو إيضاح هذا الأمر للمسلمين وجزاكم الله عنا وعن المسلمين خير(17/329)
الجزاء والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته؟
فأجاب فضيلته بقوله: زيارة النساء للقبور حرام بل من كبائر الذنوب إذا خرجن إلى المقابر بقصد ذلك، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعن زائرات القبور، أي دعا عليهن باللعنة. واللعنة هي الطرد والإبعاد عن رحمة الله، ولا يكون إلا في كبيرة من كبائر الذنوب.
أما إذا خرجت المرأة لحاجة فمرت بالمقابر فلا حرج عليها أن تقف وتسلم على أهل القبور، وعلى هذا يحمل ما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله، كيف أقول لهم؟ قال: "قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاءالله بكم للاحقون".
وأما النياحة على الميت فحرام، بل من الكبائر أيضاً، لأنه ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه لعن النائحة والمستمعة، أي التي تستمع لها.
وأما اتباع النساء للجنائز فحرام لقلة صبرهن، ولما في ذلك من التعرض للفتنة والاختلاط بالرجال.
وأما لبس السواد عند المصيبة فمن البدع، وكذلك عمل الشادر لقراءة القرآن ليلة الوفاة، أو ليلة الأربعين أو على مدار السنة؛ لأن مثل هذه الأشياء لم تكن تفعل في عهد السلف الصالح،(17/330)
ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها.
جعلنا الله جميعاً من الصالحين المصلحين إنه جواد كريم. حرر في 31/01/0241هـ.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل ترد أرواح الموتى إليهم يومي الاثنين والخميس ليردوا السلام على الزوار؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا لا أصل له، وزيارة المقابر مشروعة كل وقت لقول النبي عليه الصلاة والسلام: "زوروا القبور فإنها تذكركم الا?خرة"، وينبغي للزائر أن يفعل ما كان يفعله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من السلام عليهم دون القراءة فقد كان يقول عليه الصلاة والسلام: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاءالله بكم للاحقون، يرحم الله المستقدمين منكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم". ولا تنبغي القراءة على القبر؛ لأن ذلك لم يرد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما لم يرد عنه فإنه لا ينبغي للمؤمن أن يعمله.
واعلم أن المقصود بالزيارة أمران:
أحدهما: انتفاع الزائر بتذكر الا?خرة والاعتبار والاتعاظ، فإن هؤلاء القوم الذين الا?ن في بطن الأرض كانوا بالأمس على ظهرها وسيجري لهذا الزائر ما جرى لهم، فيعتبر ويغتنم الأوقات(17/331)
والفرص، ويعمل لهذا اليوم الذي سيكون في هذا المثوى الذي كان عليه هؤلاء.
الأمر الثاني: الدعاء لأهل القبور بما كان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو به من السلام، وسؤال الرحمة، وأما أن يسأل الأموات ويتوسل بهم فإن هذا محرم ومن الشرك، ولا فرق في هذا بين قبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقبر غيره، فإنه لا يجوز أن يتوسل أحد بقبر النبي عليه الصلاة والسلام، وبالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد موته، فإن هذا من الشرك. لأنه لو كان هذا حقًّا لكان أسبق الناس إليه الصحابة رضي الله عنهم ومع ذلك فإنهم لا يتوسلون به بعد موته فقد استسقى عمر رضي الله عنه ذات يوم فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، ثم قام العباس رضي الله عنه فدعا وهذا دليل على أنه لا يتوسل بالميت مهما كانت درجته ومنزلته عند الله تعالى، وإنما يتوسل بدعاء الحي الذي ترجى إجابة دعوته لصلاحه واستقامته في دين الله عز وجل، فإذا كان الرجل ممن عرف بالدين والاستقامة وتوسل بدعائه فإن هذا لا بأس به، كما فعل أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه وأما الأموات فلا يتوسل بهم أبداً، ودعاؤهم شرك أكبر مخرج عن الملة، قال الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى? أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} .(17/332)
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل يشرع استقبال القبلة عند السلام على الميت؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا، يسلم على الميت تجاه وجهه ويدعو له وهو قائم هكذا بدون أن ينصرف إلى القبلة.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل السنة أن يسلم الرجل على الأموات عند الدخول في المقبرة فقط أم يشرع ذلك إذا مر بها في الشارع؟
فأجاب فضيلته بقوله: قال الفقهاء: إن السلام على الأموات يشمل ما إذا قصد الزيارة بالقبور، وعلى هذا فإذا مر بالقبور فليقل ما يقول إذا زارها.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل يسلم على أهل القبور داخل المقبرة أم في الشارع عند المرور بالمقابر؟
فأجاب فضيلته بقوله: السلام على أهل القبور يكون داخل المقبرة، أي إذا دخل المقبرة، أما إذا مر بها فإن كانت المقبرة مسورة فإنه لا يسلم، وإن لم تكن مسورة فقد قال بعض العلماء: إذا مر بها فليسلم ليحصل على الأجر، لأنه سيدعو لإخوانه فيكون محسناً إليهم، وفي ذلك أجر وخير إن شاءالله.(17/333)
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما كيفية السلام على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند قبره؟
فأجاب فضيلته بقوله: أحسن ما يُسلم به على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عند زيارة قبره ما علمه أمته وهو: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. هذا أحسن ما يسلم به على الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
* *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: عند المرور بجانب سور المقبرة هل نسلم على أهل المقابر؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم، يقول العلماء يُسنُّ السلام على أهل المقابر سواء مررت أو وقفت، لكن كونك تقف وتسلم وتدعو بما ورد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خير من أن تمر، ومرور الناس الا?ن في الغالب بالسيارات ويكون سريعاً ولا يكمل الإنسان ربع الوارد إلا تجاوز المقبرة، أما إذا هناك سور ولا ترى المقابر فلا يكون ذلك زيارة.
* *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: كتب على جدران بعض المقابر بالدعاء للمقابر والسلام عليهم، فهل حين المرور على هذه المقابر مع أنها في أسوار محاطة، لا نرى القبور ولا نشاهدها هل يشرع لنا السلام على أهلها أم ماذا نصنع؟
فأجاب فضيلته بقوله: الظاهر أن الذين كتبوا هذا يريدون(17/334)
تنبيه الداخل إلى المقبرة أن يقول هذا الذكر.
ولكن يبقى النظر فيما لو مر الإنسان هل يسلِّم أو لا؟ يحتمل في ذلك وجهين: إما أن نقول يُسلم، لأنه صدق عليه أنه مر بالمقبرة، وإما أن نقول إنه لا يُسلم، لأنه كما قال السائل لا يشاهد القبور ولم يدخل عليها، ولهذا لو مر الإنسان ببيت إنسان داخل بيته. وهو يعلم أنه في بيته فهل يسلم عليه؟ لا يسلم لكن لو دخل سلم عليه.
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم تسوير المقابر؟ وهل يشرع السلام على أهل المقابر من خلف الحواجز أو يشترط الدخول للمقبرة؟
فأجاب فضيلته بقوله: تسوير المقبرة لا بأس به، وربما يكون مأموراً به إذا كانت المقبرة حول مكان يكثر فيه امتهانها لأنه قد يؤمر بذلك لكي لا تمتهن القبور. وأما السلام على أهل القبور من وراء هذا الحائط فأنا متردد فيه، ولكن لو سلم فإنه لا يضر؛ لأن أقل ما نقول فإنه فيه دعاء للأموات وهو محتمل المشروعية.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ذكر ابن القيم رحمه الله في كتابه الروح أن الميت يعلم بزيارة الزائر في يوم الجمعة وخص ذلك بيوم الجمعة فما دليله؟ وهل الا?ثار التي أوردها صحيحة أم فيها ضعف؟(17/335)
فأجاب فضيلته بقوله: أما الا?ثار التي أوردها لا أدري عنها، وأما تخصيص ذلك بيوم الجمعة فلا وجه له، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "زوروا القبور فإنها تذكر الموت"، وثبت عنه أنه زار البقيع ليلاً كما في حديث عائشة رضي الله عنها الطويل المشهور، وعلى هذا فتخصيص معرفته للزائر يوم الجمعة لا وجه له.
كذلك يروي أصحاب السنن بسند صححه ابن عبد البر، وأقره ابن القيم في كتاب الروح، أنه: "ما من رجل يسلم على مسلم يعرفه في الدنيا إلا رد الله عليه روحه فرد عليه السلام" في أي وقت.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل المسلم إذا ألقى السلام على الميت في قبره يرد الله عليه روحه ويرد السلام؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا الذي ذكر السائل جاء فيه حديث مرفوع صححه ابن عبد البر وهو أنه: "ما من مسلم يمر بقبر رجل مسلم كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا ردَّ الله عليه روحه فردَّ عليه السلام".
* * *
س 492 سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ماذا(17/336)
يستحب عند زيارة القبور؟ وما رأيكم في الكتيبات التي فيها أدعية تقال عند زيارة البقيع؟
فأجاب فضيلته بقوله: زيارة القبور نهى عنها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أول الأمر دفعاً للشرك، فلما وضح الإيمان في قلوب الناس أمر بها، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكر الا?خرة"، وفي رواية "فإنها تذكر الموت" فإذا زار الإنسان القبور فليزرها متعظاً لا عاطفة فبعض الناس يزور قبر أبيه، أو قبر أمه عاطفة، أو حناناً ومحبة، وإن كان هذا من طبيعة البشر لكن الأولى أن تزورها للعلة التي ذكرها النبي عليه الصلاة والسلام وهي تذكر الا?خرة، تذكر الموت، هؤلاء الذين في القبور الا?ن هم كانوا بالأمس مثلك على ظهر الأرض، والا?ن أصبحوا في بطونها مرتهنين بأعمالهم، لا يملكون زيادة حسنة، ولا إزالة سيئة فتذكر وليس بينك وبين من في القبر مدى معلوم؛ لأنك لا تدري متى يفجؤك الموت، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يوشك أن يأتيني داعي الله فأجيب".
فالإنسان لا يدري متى يموت، فإذن تذكّر! أليس من الناس من خرج إلى عمله حاملاً حقيبته ورجع محمولاً ميتاً؟!
إذن تذكر الموت، وتذكر الا?خرة، وهذا هو المطلوب من زيارة القبور، وليس للدعاء عند القبور مزية عن الدعاء عند غيرها(17/337)
ومن قصد القبور ليدعو الله عندها فقد ابتدع وأخطأ لأن أقرب مكان يجاب فيه الدعاء هو المساجد بيوت الله أما القبور فلا.
فإذا كان هذا هو حال القلب عند الزيارة التذكر فيقول بلسانه:
السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاءالله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم. وينصرف.
وأما ما يوجد الا?ن من كتيبات تقال عند زيارة البقيع فكلها بدعة إلا ما وافق السنة، ولا ينبغي للإنسان أن يتعب نفسه بشيء لم يرد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقصد التعبد به لله؛ لأنه إذا فعل ذلك فإنه لا ينفعه؛ لأنه مردود عليه "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد".
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هناك من يزور القبور ويدعو الأموات وينذر لهم ويستغيث بهم ويستعين بهم لأنهم كما يزعم أولياء لله فما نصيحتكم لهم؟
فأجاب فضيلته بقوله: نصيحتنا لهؤلاء وأمثالهم أن يرجع الإنسان إلى عقله وتفكيره فهذه القبور التي يُزعم أن فيها أولياء تحتاج:
أولاً: إلى إثبات أنها قبور إذ قد يوضع شيء يشبه القبر ويقال هذا قبر فلان كما حدث ذلك مع أنه ليس بقبر.
ثانياً: إذا ثبت أنها قبور فإنه يحتاج إلى إثبات أن هؤلاء(17/338)
المقبورين كانوا أولياء لله؛ لأننا ما ندري هل هم أولياء لله أم أولياء للشيطان.
ثالثاً: إذا ثبت أنهم من أولياء لله فإنهم لا يزارون من أجل التبرك بزيارتهم، أو دعائهم، أو الاستغاثة بهم، وإنما يزارون كما يزار غيرهم للعبرة، والدعاء لهم فقط، على أنه إن كان في زيارتهم فتنة أو خوف فتنة بالغلو فيهم، فإنه لا تجوز زيارتهم دفعاً للمحظور، ودرءاً للمفسدة.
فأنت أيها الإنسان حكم عقلك فهذه الأمور الثلاثة التي سبق ذكرها لابد أن تتحقق وهي:
أثبوت القبر.
ب ثبوت أنه ولي.
ج الزيارة لأجل الدعاء لهم، فهم في حاجة إلى الدعاء مهما كانوا، فهم لا ينفعون ولا يضرون، ثم إننا قلنا: إن زيارتهم من أجل الدعاء لهم جائزة ما لم تستلزم محظوراً.
أما من زارهم ونذر لهم وذبح لهم أو استغاث بهم فإن هذا شرك أكبر مخرج عن الملة يكون صاحبه به كافراً مخلداً في النار.
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما صفة التعزية؟
فأجاب فضيلته بقوله: أحسن ما يعزى به من الصيغ ما عزى به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إحدى بناته حيث أرسلت إليه رسولاً يدعوه ليحضر، وكان لها ابن أو صبية في الموت. فقال عليه الصلاة والسلام لهذا(17/339)
الرسول: "مرها فلتصبر ولتحتسب، فإن لله ما أخذ وله ما أبقى، وكل شيء عنده بأجل مسمى".
وأما ما اشتهر عند الناس من قولهم: "عظَّم الله أجرك، وأحسن الله عزاءك، وغفر الله لميتك"، فهي كلمة اختارها بعض العلماء، لكن ما جاءت به السنة أولى وأحسن.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما هو وقت التعزية؟
فأجاب فضيلته بقوله: وقت التعزية من حين ما يموت الميت، أو تحصل المصيبة إذا كانت التعزية بغير الموت إلى أن تنسى المصيبة وتزول عن نفس المصاب، ولأن المقصود بالتعزية ليست تهنئة أو تحية، إنما المقصود بها تقوية المصاب على تحمل هذه المصيبة واحتساب الأجر.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل تجوز التعزية قبل الدفن؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم، تجوز قبل الدفن وبعده؛ لأن وقتها من حين ما يموت الميت إلى أن تنسى المصيبة، وقد ثبت أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عزى ابنة له حين أرسلت تخبره أن صبياً لها في الموت فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ارجع إليها، فأخبرها أن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبر(17/340)
ولتحتسب".
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: يقول بعض الناس إنه لا تجوز التعزية قبل دفن الميت؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا ليس بصحيح، التعزية متى حصلت المصيبة، أي الموت فإنها مشروعة.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل المصافحة والتقبيل سنة في التعزية؟
فأجاب فضيلته بقوله: المصافحة والتقبيل ليست سنة في التعزية، وإنما المصافحة عند الملاقاة، فإذا لاقيت المصاب وسلمت عليه وصافحته فهذه سنة من أجل الملاقاة لا من أجل التعزية، ولكن الناس اتخذوها عادة فإن كانوا يعتقدون أنها سنة فينبغي أن يعرفوا أنها ليست سنة، وأما إذا كانت عادة بدون أن يعتقدون أنها سنة فلا بأس بها وعندي فيها قلق. وتركها بلا شك أولى.
* ثم هاهنا مسألة ينبغي التفطُّن لها وهي: أن التعزية يقصد بها تقوية المصاب على الصبر واحتساب الأجر من الله عز وجل، وليست كالتهنئة يهنىء بها كل من حصلت له مناسبة، فمناسبة(17/341)
الموت إذا أصيب بها الإنسان يُعزى أي بما يقوي صبره واحتسابه الأجر من الله سبحانه وتعالى وقد صارت عند كثير من الناس كالتهاني يأتون إليها أرسالاً، ويعد أهل الميت مكاناً ينتظرون فيه المعزين، وربما صفوا الكراسي، وأوقدوا أنوار الكهرباء، وكل هذا مخالف لهدي السلف الصالح فإنهم لم يكونوا يجتمعون للعزاء، أو يحدثون شيئاً غير عادي من الأنوار، أو غيرها، وقد صرح علماؤنا رحمهم الله بكراهة الجلوس للتعزية، فقال في (المنتهى) وشرحه: وكره جلوس لها أي التعزية بأن يجلس المصاب بمكان ليعزى. وقال في (الإقناع) وشرحه مثل ذلك. وقال النووي في (شرح المهذب) : وأما الجلوس للتعزية فنص الشافعي والمصنف وسائر الأصحاب على كراهته، قالوا: يعني بالجلوس لها أن يجتمع أهل الميت في بيت ليقصدهم من أراد التعزية، قالوا: بل ينبغي أن ينصرفوا في حوائجهم، فمن صادفهم عزاهم، ولا فرق بين الرجال والنساء في كراهة الجلوس لها. انتهى كلامه.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم القصد إلى التعزية والذهاب إلى أهل الميت في بيتهم؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا ليس له أصل من السنة ولكن إذا كان الإنسان قريباً لأهل الميت ويخشى أن يكون من القطيعة أن لا يذهب إليهم فلا حرج أن يذهب، ولكن بالنسبة لأهل الميت لا يشرع لهم الاجتماع في البيت، وتلقي المعزين؛ لأن هذا عده بعض السلف من النياحة، وإنما يغلقون البيت، ومن صادفهم في السوق أو في المسجد عزاهم، فهاهنا أمران:
الأول: الذهاب إلى أهل الميت، وهذا ليس بمشروع، اللهم إلا كما قلت: إذا كان من الأقارب ويخشى أن يكون ترك ذلك قطيعة.
الثاني: الجلوس لاستقبال المعزين، وهذا لا أصل له، بل عده بعض(17/342)
السلف من النياحة.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم التعزية بالصحف وأحياناً يكتبون آيات كقوله تعالى: {يا أيتها النفس المطمئنة} ؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا من النعي الذي نهى عنه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأن المقصود به إشهار موته وإعلانه، وهذا من النعي الذي نهى عنه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم التعزية بالجرائد؟ وهل هو من النعي المنهي عنه؟
فأجاب فضيلته بقوله: الظاهر لي أن إعلان الموت في الجرائد بعد موت الإنسان والتعزية من النعي المنهي عنه، بخلاف النعي قبل أن يصلى على الميت من أجل الصلاة عليه فلا بأس به،(17/343)
كما نعى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النجاشي حين موته، وأمر الصحابة أن يخرجوا للمصلى فصلى بهم. وأما بعد موته فلا حاجة إلى الإخبار بموته لأنه مات وانتهى، فالإعلان عنه بالجرائد من النعي المنهي عنه.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: انتشر في الآونة الأخير التعازي عن طريق الجرائد والمجلات والرد عليها بالشكر على التعزية من قبل أهل الميت، ما حكم هذا العمل؟ وهل يدخل في النعي الممنوع علماً بأن التعزية والرد عليها في الجريدة قد يكلف صفحة كاملة تأخذ الجريدة عليها عشرة آلاف ريال فهل يدخل ذلك في الإسراف والتبذير؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم، الذي أرى أن مثل هذا قد يكون من النعي المنهي عنه، وإذا لم يكن منه فإن فيه كما أشرت إليه تبذيراً وإضاعة للمال، والتعزية في الحقيقة ليست كالتهنئة حتى يحرص الإنسان عليها سواء كان الذي فقد ميته حزيناً أم غير حزين.
التعزية إنما يقصد بها أنك إذا رأيت مصاباً قد أثرت فيه المصيبة فإنك تقويه على تحمل المصاب، هذا هو المقصود من التعزية، وليست من باب المجاملات، وليست من باب التهاني، فلو علم الناس المقصود من التعزية ما بلغوا بها هذا المبلغ الذي أشرت إليه من نشرها في الصحف أو الاجتماع لها، وقبول الناس وضع الطعام وغير ذلك.(17/344)
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم السفر من أجل العزاء بحيث يسافر الإنسان من مكانه الذي هو فيه إلى مكان التعزية؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا أرى السفر للتعزية، اللهم إلا إذا كان الإنسان قريباً جداً للشخص، وكان عدم سفره للتعزية يعتبر قطيعة رحم، ففي هذه الحال ربما نقول: إنه يسافر للتعزية لئلا يُفضي ترك سفره إلى قطيعة رحم.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل العزاء محدد بمكان معين أو بوقت معين؟
فأجاب فضيلته بقوله: العزاء ليس محدداً بمكان؛ بل حيث ما وجدت المصاب: في المسجد، في الشارع، في أي مكان تعزيه، وليس محدداً بزمن أيضاً؛ بل مادامت المصيبة باقية في نفسه فإنه يعزى، ولكن ليس على التعزية التي اعتادها بعض الناس، بحيث يجلسون في مكان، ويفتحون الأبواب، وينيرون اللمبات، ويصفون الكراسي، وما أشبه ذلك فإن هذا من البدع التي لا ينبغي للناس أن يفعلوها، فإنها لم تكن معروفة في عهد السلف الصالح رضي الله عنهم.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم التعزية؟ وبأي لفظ تكون مع الدليل؟(17/345)
فأجاب فضيلته بقوله: تعزية المصاب سنة، وفيها أجر وثواب، ومن عزى مصاباً كان له مثل أجره، ولكن اللفظ الذي يعزى به أفضله ما جاء في السنة: "اصبر واحتسب فإن لله ما أخذ، وله ما أبقى، وكل شيء عنده بأجل مسمى".
فإن الرسول عليه الصلاة والسلام أرسلت له إحدى بناته تخبره بطفل، أو طفلة عندها في سياق الموت، فقال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مُرْها فلتصبر ولتحتسب، فإن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى"، وإن عزى بغير هذا اللفظ مثل أن يقول: أعظم الله لك الأجر، وأعانك على الصبر، وما أشبه فلا حرج؛ لأنه لم يرد شيء معين لابد منه.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: مسألة العزاء والاجتماع عليه فبعض الناس لو كلَّمتهم في هذا، يقولون: نحن نفعل هذا ولا نقصد به التعبُّد وإنما نقصد به العادة، كيف الرد عليهم؟
فأجاب فضيلته بقوله: الجواب على هذا: إن التعزية سُنَّة، فالتعزية من العبادة، فإذا صيغت العبادة على هذا الوجه الذي لم يكن معروفاً في عهد الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، صارت بدعة، ولهذا جاء الثواب في فضل من عزى المصاب، والثواب لا يكون إلا على العبادات.(17/346)
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل للتعزية وقت محدد؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا أعلم نصًّا في هذه المسألة يحددها، والتعزية سببها المصيبة فمادامت آثار المصيبة باقية على المصاب فإن التعزية مشروعة، والناس يختلفون، فمنهم من لا تؤثر فيه المصيبة إطلاقاً، ومنهم من يتأثر، فنحن نعزي المصاب مادام متأثراً بمصيبته، والمقصود بالتعزية التقوية، وليس المقصود بالتعزية النياحة والندب وترقيق القلوب، بل المقصود التقوية، وأحسن ما يعزى به الإنسان ما عزى به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إحدى بناته وقد أرسلت إليه رسولاً تطلب منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يحضر فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهذا الرسول: "مرها فلتصبر ولتحتسب فإن لله ما أخذ، وله ما أبقى، وكل شيء عنده بأجل مسمى". فما أعظم كلام الرسول عليه الصلاة والسلام، وما ألذه على السمع، وما أشد تأثيره على القلب، فقوله: "مرها فلتصبر ولتحتسب" هاتان الجملتان جملتان دالتان على الحكم، وهو وجوب الصبر والاحتساب، وقوله: "فإن لله ما أخذ وله ما أبقى" هذه جملة تطمئن الإنسان بأن كل شيء ملك لله، وقوله: "وكل شيء عنده بأجل مسمى" هذا الإيمان بالقدر، فإذا أردنا أن نعزي مصاباً فأحسن ما نعزيه به ما عزَّى به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابنته، ولكن مع ذلك لو أننا رأينا هذا المصاب لم يتأثر بمثل هذا الحديث، فنأتي بكلمات أخرى تناسب، فنقول: يا أخي هذا أمر الله، هذه حال الدنيا، وما أشبه ذلك حتى تزول عنه هذه المصيبة، أما أن نأتي(17/347)
بالعبارة المثيرة للأحزان فهذا لا يجوز.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: توفي أحد الأفراد وكان ضمن المعزين بعض النصارى فهل يجوز الاجتماع معهم في هذا العزاء؟
فأجاب فضيلته بقوله: يجوز أن يعزى المصاب سواء كان المعزى له مسلماً أو كافراً، ولكن الاجتماع في البيت لتلقي المعزين بدعة لم يكن في عهد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا أصحابه رضي الله عنهم وإنما تغلق الأبواب، أي أبواب الذين مات ميتهم، ومن وجدهم في السوق، أو في المسجد ورآهم مصابين، عزَّاهم، لأن المقصود بالتعزية ليست التهنئة، المقصود بالتعزية تقوية الإنسان على الصبر، ولهذا أرسل النبي عليه الصلاة والسلام رسول ابنته الذي أرسلته لتخبره عن ابن لها كان في سياق الموت فرد النبي عليه الصلاة والسلام الرسول وقال له: "مرها فلتصبر ولتحتسب، فإن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى"، ولم يذهب يعزيها حتى ردته وألحت عليه أن يحضر، ليس من أجل العزاء، ولكن من أجل حضور هذا الغلام أو الطفل المحتضر، ولم يكن معروفاً في عهد الصحابة رضي الله عنهم أن يجتمع أهل الميت ليتلقوا العزاء من الناس، بل كانوا يعدون صنعة الطعام في بيت أهل الميت، والاجتماع على ذلك من النياحة، والنياحة من(17/348)
كبائر الذنوب، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعن النائحة والمستمعة وقال: "النائحة إذا لم تتب تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب"، نعوذ بالله، فلهذا نحن ننصح إخواننا المسلمين عن فعل هذه التجمعات التي ليست خيراً لهم بل هي شر لهم.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم قراءة الفاتحة عند التعزية مع رفع اليدين وماذا يقال عند التعزية؟
فأجاب فضيلته بقوله: قراءة الفاتحة عند التعزية مع رفع اليدين بدعة، ولم يكن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعزي أصحابه بذلك، وإنما التعزية معناها التقوية، أي تقوية المصاب على تحمل المصيبة، فكل لفظ يدل على المقصود يكفي، وقد عزى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعض بناته حيث قال للرسول الذي أرسلته إليه: "مرها فلتصبر ولتحتسب، فإن لله ما أخذ، وله ما أبقى، وكل شيء عنده بأجل مسمى". فمثل هذه الكلمات من أحسن ما يكون للتعزية أن يأمر المصاب بالصبر واحتساب الأجر على الله عز وجل، وأن يبين له أن الكل ملك لله سبحانه وتعالى، له ما أخذ، وله ما أبقى، وأن كل شيء عنده بأجل مسمى معين، لا يتقدم ولا يتأخر، فالحزن والتسخُّط ونحو ذلك من الأشياء التي تنافي الشرع هي لا ترد قضاءً، ولا تزيل مصيبة، فالواجب أن يصبر الإنسان ويحتسب، وأحسن ما يعزى به الإنسان(17/349)
هو ما عزى به الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابنته من هذه الكلمات. والله أعلم.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: عن تعزية النساء للنساء بما فيها من تبرج وخروج أمام الرجال فأيهما أفضل أن تخرج النساء لتعزي النساء وتعزي الرجال أم الأفضل لها أن تبقى في البيت؟
فأجاب فضيلته بقوله: أولاً: يجب أن نعرف أن العزاء ليس تهنئة، حتى يجتمع الناس عليه ويسهرون، وربما يوقدون الأنوار وتجد المسكن كأنه في حفلة زواج، كما شاهدنا في بعض البلدان وكما نسمع أيضاً.
فالعزاء المقصود به تقوية المصاب على الصبر، وتقوية المصاب على الصبر لا تكون في الأمور الظاهرية والحسية، إنما يكون بتذكيره باليقين بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن هذا من عند الله. وكما عزَّى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعض بناته حين قال للرسول الذي بعثه إليها بعد أن أرسلت إليه قال: "مرها فلتصبر ولتحتسب، فإن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى"، هذا العزاء وليس المقصود به إظهار الفرح لنطرد الحزن، هذه تعزية حسية فقط أو ظاهرية لا تعطي القلب يقيناً، وإنابة إلى الله ورجوعاً إليه.
التعزية أن نقول للرجل المصاب: يا أخي اصبر، احتسب، هذه الدنيا والملك لله، له ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء مقدر(17/350)
بأجل لا يتقدم ولا يتأخر وننصرف. فهذا الاجتماع الذي أشرت إليه غير مشروع، بل كان الصحابة رضي الله عنهم يعدون الاجتماع لأهل الميت وصنع الطعام من النياحة والنياحة من كبائر الذنوب.
وإذا كان أهل الميت أقرابها بحيث إذا لم تأتوا تعزونهم صار في نفوسهم شيء، يذهب بهن خمس دقائق ثم يقول لها: نمشي، ارجعي.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم تعزية أهل الكتاب وغيرهم من الكفار إذا مات لهم ميت مما يفهم منه إكرامهم؟ وما حكم حضور دفنه والمشيء في جنازته؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يجوز تعزيته بذلك، ولا يجوز أيضاً شهود جنائزهم وتشييعهم، لأن كل كافر عدو للمسلمين، ومعلوم أن العدو لا ينبغي أن يواسى أو يشجع للمشي معه، كما أن تشييعنا لجنائزهم لا ينفعهم؛ ومن المعلوم أيضاً أنه لا يجوز لنا أن ندعو لهم لقول الله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِىِّ وَالَّذِينَءَامَنُو?اْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُو?اْ أُوْلِى قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} .
* * *(17/351)
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم اصطفاف أهل الميت عند باب المقبرة لتلقي تعازي الناس بعد دفن الميت مباشرة؟
فأجاب فضيلته بقوله: الأصل أن هذا لا بأس به؛ لأنهم يجتمعون جميعاً من أجل سهولة الحصول على كل واحد منهم ليعزى، ولا أعلم في هذا بأساً.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم تقبيل أقارب الميت عند التعزية؟
فأجاب فضيلته بقوله: تقبيل أقارب الميت عند التعزية لا أعلم فيه سنة، ولهذا لا ينبغي للناس أن يتخذوه سنة، لأن الشيء الذي لم يرد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا عن أصحابه رضي الله عنهم ينبغي للناس أن يتجنبوه.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل نقبل تعزية أهل الكتاب أو غيرهم من الكفار للمسلمين في حالة موت المسلم؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم نقبل منهم التعزية، يعني إذا عزونا فلا حرج أن نقبل منهم التعزية، وندعو لهم بالهداية.
* * *
س 713 سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: إذا مات(17/352)
للكافر قريب فهل يعزى؟
فأجاب فضيلته بقوله: تعزية الكافر إذا مات له من يعزى به من قريب أو صديق في هذا خلاف بين العلماء.
فمن العلماء من قال: إن تعزيتهم حرام.
ومنهم من قال: إنها جائزة.
ومنهم من فصل في ذلك فقال: إن كان في ذلك مصلحة كرجاء إسلامهم، وكف شرهم الذي لا يمكن إلا بتعزيتهم، فهو جائز وإلا كان حراماً.
والراجح أنه إن كان يفهم من تعزيتهم إعزازهم وإكرامهم كانت حراماً وإلا فينظر في المصلحة.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: بعض العامة يقولون إن إقامة التعزية والوليمة من حقوق الميت وما هي حقوق الميت على أهله؟
فأجاب فضيلته بقوله: ليس على أهل الميت حقوق بعد موته إلا أن يجهزوه بالتغسيل، والتكفين، والصلاة عليه، ودفنه، وقضاء دينه، وإنفاذ وصيته، وينبغي لهم أن يدعوا له ويستغفروا له، وأما أن يلزموا بشيء فلا أعلم سوى ما ذكرت لك، وأما الدعاء له فهو من بره ومن الإحسان إليه.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم قراءة القرآن؟ وخاصة سورة (يس) في العزاء؟(17/353)
فأجاب فضيلته بقوله: العزاء ليس فيه قراءة قرآن، وإنما هو دعاء يدعى به للمعزى، وللميت عند الحاجة إليه، وأما قراءة القرآن سواء سورة (يس) أم غيرها من كلام الله عز وجل، فهو بدعة ومنهي عنه لقول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كل بدعة ضلالة".
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم وضع الكراسي في المسجد لتقبل العزاء؟
فأجاب فضيلته بقوله: العزاء داخل المسجد غير مشروع، فالمساجد لم تُبن للعزاء، إنما بنيت للصلاة، وقراءة القرآن، والذكر، وما أشبه ذلك، ويمنع من وضع الكراسي فيها للعزاء لما فيه من تضييق على المسجد وحدوث فوضى فيه، فإن كل أناس يريدون أن يضعوا فيه كراسي عزاء، مع أن أصل وضع الكراسي من أجل الاجتماع للعزاء غير معروف عند السلف، سواء كان في المسجد، أو في غيره.(17/354)
* * *
رسالة
فضيلة الشيخ الوالد محمد بن صالح العثيمين سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد.
في بعض مدن.... نرى الناس اتخذوا التقبيل في العزاء عادة لزموها، وبما أن العزاء سنة توقيفية، بحثت عن دليل شرعي لهذا الفعل أعني التقبيل في العزاء فلم أجد نصاً شرعياً ولا رأياً اجتهادياً في ذلك فيما وقفت عليه من الكتب، وغاية ما وجدته ما نقله ابن قدامة رحمه الله في المغني عن الإمام أحمد رحمه الله حيث قال: إن شئت أخذت بيد الرجل في التعزية، وإن شئت لم تأخذ. وقال الدكتور الزحيلي (في فقه الإسلام وأدلته) : ولا تكره المصافحة، أو أخذ المعزي بيد من عزاه.
والشيخ الألباني على ما له من الباع الطويل في الحديث وعلومه لم ينقل لنا في كتابه أحكام الجنائز في هذه المسألة شيئاً. بل نقل في كتابه (سلسلة الأحاديث الصحيحة الجزء الأول ص 842 252) ما فهمت منه أن التقبيل لا يشرع إلا فيما دل عليه نص شرعي كتقبيل القادم من السفر والأولاد والزوجة ونحو ذلك مما جاءت به السنة، فنرغب من فضيلتكم إبداء رأيكم في هذه المسألة حيث تتوفر الدواعي(17/355)
لبيانها للناس، بارك الله فيكم وسددكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فأجاب فضيلته بقوله: بسم الله الرحمن الرحيم، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
الأمر كما ذكرتم فليس في التقبيل عند العزاء سنة متبعة، ولا نقله أحد من أهل العلم عن السلف، فتركه أولى وأحوط، لاسيما أنه يحصل به تأذي المعزى - بفتح الزاي - أحياناً، ثم إنه ربما يحصل به تطور إلى أبعد من ذلك كما يفعل في بعض الجهات من الاجتماعات المذمومة. ونسأل الله لنا ولإخواننا الهداية والتوفيق لما يرضاه. كتبه محمد الصالح العثيمين في 82/3/1413 هـ.(17/356)
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هناك عادة في بعض البلاد أنه إذا مات الميت يؤخذ من المعزين نقود تسجل في سجل وتكون لأهل الميت فما حكم هذه العادة؟ وهل يحل هذا المال؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذه العملية بدعة لم تكن معروفة عند السلف، وإنما المعروف الذي جاءت به السنة أنه لما جاء نعي جعفر بن أبي طالب، رضي الله عنه قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اصنعوا لا?ل جعفر طعاماً فقد أتاهم ما يشغلهم". فإذا علمنا أن المصابين بهذا الميت قد انشغلوا عن إصلاح غدائهم، أو عشائهم بما أصابهم من الحزن، فإنه من السنة أن يبعث إليهم طعام.
وأما أن يسجل المعزون، وأن يرى المعزون أن عليهم ضريبة يدفعونها فهذا من البدع، وإذا كان كذلك فإن المال المأخوذ على هذا العمل بدعة لا يحل ولا يجوز.
والواجب على الإنسان أن يصبر ويحتسب عوض مصيبته من الله عز وجل، فإن المشروع للمؤمن إذا أصيب بمصيبة أن يقول ما أثنى الله على قائليه: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُو?اْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعونَ} ، وكما ثبت في الحديث الصحيح أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "ما من مسلم يصاب بمصيبة، ثم يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي، واخلف لي خيراً منها،(17/357)
إلا آجره الله وأخلف له خيراً منها".
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: نلاحظ كثيراً من الناس أنهم يخصصون ثلاثة أيام للعزاء، يبقى أهل الميت في البيت فيقصدهم الناس، وقد يتكلف أهل الميت في العزاء بأعراف الضيافة؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا لا أصل له، فالعزاء يمتد مادامت المصيبة لم تزل عن المصاب لكنه لا يكرر بمعنى أن الإنسان إذا عزى مرة انتهى. أما تقييده بالثلاث فلا أصل له.
وأما الاجتماع للتعزية في البيت فهذا أيضاً لا أصل له، وقد صرح كثير من أهل العلم بكراهته، وبعضهم صرح بأنه بدعة. والإنسان لا يفتح الباب للمعزين، يغلق الباب، ومن صادفه في السوق وعزاه فهذا هو السنة، ما كان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا أصحابه رضي الله عنهم يجلسون للعزاء أبداً، وهذا أيضاً ربما يفتح على الناس أبواباً من البدع كما يحدث في بعض البلاد الإسلامية.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: عند العزاء يصافح الناس أهل الميت، وقد يقبلونهم فهل لهذا أصل؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا أيضاً ليس له أصل. المصافحة إذا كان الإنسان لم ير صاحبه من قبل مسنونة عند اللقاء، وأما التقبيل فلا وجه له إطلاقاً.(17/358)
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما هي الأدعية المأثورة في التعزية؟ وبم يرد المعزَّى؟
فأجاب فضيلته بقوله: أحسن ما يعزَّى به ما قاله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لإحدى بناته: "إن لله ما أخذ، وله ما أبقى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فاصبر واحتسب"، هذا أحسن شيء.
والمعزَّى يقول: شكر الله لك، وأعاننا الله على التحمل والصبر.(17/359)
* * *
رسالة
فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين سلمه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
يوجد لدينا عادة منتشرة وهي: أنه إذا مات الميت اجتمع أهل القرية وربما شاركهم غيرهم من القرى الأخرى في بيت الميت بما فيهم بعض أهل الوظائف أحياناً لمدة ثلاثة أيام، ويكون الحضور ما بين الخمسة عشر إلى الستين أحياناً، ويأتون معهم بالقهوة والشاي، فيحضر كل واحد منهم ثلاجة شاي، أو قهوة، ويستقبلون المعزين الذين يأتون من قرى أخرى، وهذا برضا قريب الميت، بل بطلبه أحياناً، علماً أن هؤلاء الحضور قد عزوا صاحب المصيبة عند الدفن، أو في اليوم الأول. وعندما قلنا لهم: هذه بدعة، بدليل حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه الذي قال فيه: "كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام بعد الدفن من النياحة". وهذه ما عملها السلف. قالوا: هذه عادتنا ولا فيها نياحة ولا فيها بكاء، وإنما استقبال المعزين من القبائل والقرى الأخرى، وتصبير أهل الميت، وكيف يأتي الناس ولا نكون في استقبالهم؟! علماً أن المعزين إذا أتوا من قرية أو قبيلة أخرى قام هؤلاء جميعاً وقوفاً لاستقبالهم(17/361)
وهكذا. فما حكم هذا العمل؟ وما حكم من جلس فيه؟ وما حكم جلوس أهل الميت وأقاربهم فقط لاستقبال المعزين؟ وهل يحد العزاء بهذه الثلاثة الأيام؟ وكيف كان السلف يعزي بعضهم بعضاً؟ نرجو توضيح السنة في ذلك بشيء من التفصيل وذكر الأدلة حتى نقوم بتوزيع الفتوى على الأهالي وقراءتها في المساجد إن شاءالله.
بسم الله الرحمن الرحيم
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
لا شك أن تعزية المصاب بموت قريب أو غيره من الأمور المطلوبة شرعاً، فقد روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة، إلا كساه الله عز وجل من حلل الكرامة يوم القيامة". أخرجه ابن ماجه، والمقصود من التعزية تقوي المصاب على تحمل المصيبة والصبر عليها، ومن أحسن ما يعزى به المصاب أن يقال له: "اصبر واحتسب إن لله ما أخذ وله ما أعطى، كل شيء عنده بأجل مسمى. فإن رأى منه شدة في الحزن فلا بأس أن يزيد على ذلك قولاً مناسباً.
وأما اجتماع أقارب الميت في بيت واحد، وتوافد الناس عليهم من كل جهة، وصنع الطعام، وتهيئة الكراسي، وإيقاد(17/362)
الكهرباء ونحو ذلك، فكله خلاف السنة، وخلاف ما كان عليه الصحابة الكرام رضي الله عنهم بل إن ذلك يعد من النياحة عندهم، قال جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام بعد دفنه من النياحة، رواه أحمد. وقال الشوكاني (في نيل الأوطار) : أخرجه أيضاً ابن ماجه، وإسناده صحيح.
وإذا كان الصحابة رضي الله عنهم يعدون ذلك من النياحة، وهم أعلم الأمة بمقاصد الشريعة، وأقومهم عملاً بها، وأسدهم رأياً، وأطهرهم قلوباً فإنه قد ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "الميت يعذب في قبره بما نيح عليه" فهل يرضى أحد أن يعذب أبوه، أو أمه، أو ابنه، أو بنته، أو أحد من أقاربه بشيء من صنعه؟! وهل يرضى أحد أن يسيء إلى هؤلاء وهو الذي أصيب بهم؟! إذا كان صادقاً في محبتهم ومصيبتهم فليتجنب ما يكون سبباً في تعذيبهم.
ومن مفاسد هذا الاجتماع إلى أهل الميت المشقة على الناس في الحضور من كل جهة، لاسيما في أيام الحر والبرد والأمطار والرياح، وذلك أنه لما صار هذا الشيء عادة عندهم صار المتخلف عنه عرضة للقدح بالسب في حضوره، والغيبة في غيبته، وصار يأتي كالمكره، وربما ترك أشغالاً تهمه، وربما تعرض للخطر في الطرقات الوعرة.(17/363)
ومن مفاسد هذا الاجتماع: أنه يحضر إليه الرجال والنساء فيحصل للنساء من البكاء والنحيب والعويل ما ينافي الصبر، وربما وصل إلى النياحة التي جعلها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الكفر، ولعن النائحة والمستمعة، وقال: "النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب".
ومن مفاسد هذا الاجتماع: ما يحصل به من إضاعة المال، حيث ينفق عليه أموال في أمر غير مشروع، وربما تكون من تركة الميت وفيها وصية، أو ميراث ليتامى، أو غير مرشدين، وقد قال الله تعالى في الوصية {فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَآ إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} . وقال في أموال اليتامى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} ، ومن المعلوم أن إنفاقه في هذا الأمر ليس بالتي هي أحسن.
ومن مفاسد هذا الاجتماع: أنه ربما يحضر قارىء يقرأ القرآن يرتله بصوت يهيج الأحزان، ويثير كوامن النفوس، والقرآن إنما نزل ليسكن النفوس، ويطمئن القلوب، ويهدىء الأحزان.
وربما أخذ القارىء على قراءته أجرة من تركة الميت أو غيرها وهو إذا قرأ من أجل أخذ الأجرة لم يكن له ثواب عند الله تعالى، بل هو آثم بذلك، فيكون أهل الميت قد أعانوا هذا الا?ثم على إثمه فاشتركوا في ذلك، وغرموا ما غرموا من المال.(17/364)
وربما كان هذا القارىء يقرأ والناس من حوله ولاسيما الصغار ومن لا يهتمون باستماع القرآن في ضجيج وكلام وغفلة، ولا تليق مثل هذه الحال في مجلس يتلى فيه كلام الله عز وجل.
ومن مفاسد هذا الاجتماع: أنه يحصل فيه أحياناً إضاعة الصلاة مع الجماعة، لاسيما مع كثرة الناس، وانشغال بعضهم ببعض، وضعف أصوات المؤذنين، ولا يخفى وجوب صلاة الجماعة على الرجال.
ولهذا وغيره أنصح إخواني المسلمين إلى ترك هذه الأعمال والرجوع إلى ما كان عليه السلف الصالح فإن الخير في هديهم، قال الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَْوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِىَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذَالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} ، وقد عرفت ما سبق في حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه.
ومن أكبر العون على ترك ذلك أن ينظر إخواننا طلبة العلم في هذا الأمر، ويقيسوه بعمل السلف الصالح، ويبينوا للناس ما هو الحق فإن قاصدي الحق من العامة لا يحيدون عنه إذا تبين لهم.
أسأل الله تعالى أن يجعلنا جميعاً من دعاة الحق وأنصاره وممن رأى الحق حقًّا واتبعه، ورأى الباطل باطلاً واجتنبه، إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. كتبه محمد بن صالح العثيمين في 31/1/1421 هـ.(17/365)
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: عن العادة الموجودة في أكثر القرى وهو أنه إذا مات ميت قام أهل بيته ويكون ذلك من أولاده بدعوة الناس إلى وليمة غداء أو عشاء بقصد أن هذه الدعوة صدقة عن الميت ويجتمع الناس على تلك العزيمة، ثم بعد ذلك يقوم أقارب الميت بعزيمة أبناء الميت وأقاربه ويستمر ذلك في بعض الأحيان إلى ثلاثة أيام أو أربعة، ويقوم النوع الثاني: أنه في حالة إذا مات ميت قام أقاربه أو أصدقاؤه في عزيمة أبناء ذلك الميت ثم يجتمع الناس عند أقاربه ويعزون أبناء الميت في غير بيتهم وبعد ذلك تستمر عزائم على وجبه غداء أو عشاء لمدة ثلاثة أيام فأكثر، لذا يا فضيلة الشيخ نرجو توضيح الحكم الشرعي فيما سبق وما هي طريقة العزاء الصحيح هذا والله يحفظكم ويرعاكم.
فأجاب فضيلته بقوله: صنع أهل الميت الوليمة ودعوة الناس إليها يعد من النياحة، كما جاء ذلك في حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام بعد دفنه من النياحة. رواه الإمام أحمد. وقال في (نيل الأوطار) : أخرجه أيضاً ابن ماجه، وإسناده صحيح. قال البناء في شرح ترتيب المسند: واتفق الأئمة الأربعة على كراهة صنع أهل الميت طعاماً للناس يجتمعون عليه، مستدلين بحديث جرير بن عبد الله المذكور في الباب وظاهره التحريم، لأن النياحة حرام، وقد(17/366)
عده الصحابة رضي الله عنهم من النياحة فهو حرام. ا. هـ.
وكذلك النوع الثاني مخالف لهدي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه فإنهم لم يكونوا يدعون أهل الميت ويصنعون لهم الولائم المتتابعة، وهو مع كونه مخالفاً لهدي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه رضي الله عنهم مكلف لصانعي الطعام الداعين، وللمدعوين أيضاً لما فيه من إنفاق المال على وجه غير مشروع، وإضاعة الأوقات في غير فائدة.
وطريقة العزاء المشروع إذا رأيت مصاباً محزوناً أن تقول له: اصبر واحتسب، فإن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، وإن زاد دعاء مناسباً قليلاً فلا بأس. 42/1/9141هـ.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: يوجد لدينا عادة وهي أنه إذا دفن ميت يقوم أقرب الناس إليه بتوجيه دعوة للناس في المقبرة بأن العشاء أو الغداء هذه الليلة عنده، وكذلك يقوم أحدهم ويقول: اقرؤوا الفاتحة وذلك بعد الانتهاء من الدفن مباشرة، ثم يذهبون بعد ذلك لشراء البقر والغنم ويقومون بذبحها ويقسمونها على الجماعة حسب العادة المتداولة بينهم ولو لم يفعلوا هذا (أي أقرباء الميت) لقال الناس عنهم: إنهم لا يحبون ميتهم.. فهل ما ذُكِر صحيح؟ أفتونا جزاكم الله خيراً.
فأجاب فضيلته بقوله: هذا العمل يتضمن ثلاثة أشياء:(17/367)
أولاً: دعوة المشيعين إلى الطعام لبيت الميت، أو أحد أقربائه.
ثانياً: طلب قراءة الفاتحة بعد الدفن.
ثالثاً: شراء البقر والأغنام أو غيرها مما يذبح ويوزع وكل هذه الأعمال بدع منكرة، وذلك لأن خير الهدي هدي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشر الأمور محدثاتها، ومن المعلوم أن هدي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يتضمن مثل هذا، بل إن الصحابة رضي الله عنهم يعدون الاجتماع عند أهل الميت وصنع الطعام من النياحة، والنياحة لا يخفى حكمها على من اطلع على السنة فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعن النائحة والمستمعة وقال: "النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب"، فالواجب الكف عن هذه العادة المنكرة، وأن تحفظ الأموال عن بذلها في هذا العمل المحرم.
وأما العمل الثاني: وهو طلب قراءة الفاتحة من الحاضرين فهو أيضاً بدعة، فإن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن إذا دفن الميت يقول للناس: اقرؤوا عليه الفاتحة، أو شيئاً من القرآن، بل كان إذا فرغ من دفنه وقف عليه وقال: "استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت، فإنه الا?ن يسأل". ولم يكن هوالذي يستغفر بهم لهذا الميت فيدعو ويؤمنون. بل قال: "استغفروا لأخيكم" وكل واحد يقول: اللهم اغفر له، اللهم ثبته.(17/368)
والمشروع بعد الدفن أن يقف الناس عليه، وكل واحد يقول على انفراد: اللهم اغفر له، اللهم ثبته، يقولها ثلاثاً، ثم ينصرف، فإن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا دعا دعا ثلاثاً.
وأما العمل الثالث: وهو شراء البقر والغنم وغيرها من الأنعام فتذبح وتوزع فهو أيضاً بدعة منكرة، ولم يكن من هدي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا أصحابه رضي الله عنه وفيه أيضاً إضاعة للمال، وقد ثبت عن النبي أنه نهى عن إضاعة المال.
وعلى هذا فيجب منعه والإعراض عنه، وأما لوم الناس لأهل الميت إذا لم يفعلوا هذا بقولهم: إنهم لا يحبون ميتهم، فهذا جهل منهم.. بل إن الذي يتجنب هذه الأشياء هو الذي يحب ميته حقيقة، وهو الذي يحب ما أحبه الله تعالى ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو الذي يبتعد عن البدع التي سماها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضلالة.
لهذا أنصح إخواني المسلمين أن يرجعوا في أمورهم كلها إلى ما كان عليه سلفهم الصالح ففيهم الخير، وفيهم البركة، وأما ما اعتاده الناس من الأمور التي تخالف الشرع فإن الواجب على طلبة العلم خصوصاً، وعلى كل من علم حكمها عموماً أن يحذروا الناس منها، وأن يبينوا لهم الحق. فالناس ولله الحمد على فطرهم؛ لأن غالبهم إذا ذُكِّر تذكَّر ورجع إلى الصواب وترك ما هو عليه من المخالفة.
* * *
س 723 سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: في بعض(17/369)
البلاد إذا مات الميت يأتون بسيارة عليها مكبر صوت ويطوفون في القرى ويقولون: توفي إلى رحمة الله فلان الفلاني ويعدون مكاناً يستقبلون فيه الناس ويصنعون لهم الطعام ويأتون بالمقرىء يقرأ فما حكم هذه الأشياء؟ وهل الميت يستفيد من قراءته على أنه يأخذ أجراً على قراءته؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا محرم من عدة أوجه:
أولاً: هو من النعي الذي نهى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنه. فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان ينهى عن النعي، وهو الإخبار بموت الميت، إلا إذا كان الميت لم يدفن وأخبرنا بموته، من أجل كثرة المصلين عليه، فإنه قد ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه وأمر الناس فخرجوا فصلوا عليه.
ثانياً: أن هذا العمل من عمل الجاهلية، وقد نهينا عن التشبه بهم.
ثالثاً: أنه نياحة حيث يجتمع الناس إلى أهل الميت ويصنعون الطعام ويأكلونه.
رابعاً: أنه متضمن لمحرم وهو الاستئجار في قراءة القرآن فإن هذا عمل محرم، لأن القرآن لا تقع تلاوته إلا قربة لله. وما لا يقع إلا قربة لا يصح أن تؤخذ عليه الأجرة.
وأما انتفاع الميت بذلك فإنه لا ينتفع قطعاً بل قد قال النبي عليه الصلاة والسلام: "إن الميت ليعذب بما نيح عليه"، فهو(17/370)
يعذب من هذا الصنيع، ولا ينتفع بالقراءة قراءة المقرىء لأن هذا المقرىء لا أجر له، قد استعجل أجره بما أخذ من الأجرة، فليس له في الا?خرة من خلاق. وإذا لم يكن له أجر في الا?خرة فإن الميت لا ينتفع بشيء. لذلك يجب أن يُنبه الفاعلون لهذا الأمر، وأن يحذروا منه، وأن يعلموا أنه ليس فيه إلا إضاعة المال، وإضاعة الأوقات، والوقوع في السيئات، والعياذ بالله.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما هو العزاء المشروع؟ وما رأيكم حفظكم الله فيما يفعله بعض الناس من الاجتماع في بيت أحد أقارب الميت وانتظار المعزين فيه، وقراءة الفاتحة للميت في نفس المكان؟
فأجاب فضيلته بقوله: العزاء مشروع لكل مصيبة، فيعزى المصاب وليس الأقارب فقط، فقد يصاب الإنسان بموت صديقه أكثر مما يصاب بموت قريبه، وقد يموت القريب للشخص ولا يصاب به ولا يهتم بموته، فالعزاء في الأصل إنما هو لمن أصيب فيعزى يعني يقوى على تحمل الصبر، فمعنى عزيته أي: قويته على تحمل الصبر، وأحسن ما يعزى به ما فعله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث أرسل إلى إحدى بناته فقال: "مرها فلتصبر ولتحتسب، فإن لله ما أخذ، وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى".
وأما اجتماع الناس للعزاء في بيت واحد فإن ذلك من البدع، فإن انضم إلى ذلك صنع الطعام في هذا البيت كان من النياحة،(17/371)
والنياحة كما يعلمه كثير من طلبة العلم من كبائر الذنوب فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعن النائحة والمستمعة وقال: "النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب". وعلى هذا يجب على طلبة العلم أن يبينوا للعامة أن هذا غير مشروع، وأنهم إلى الإثم أقرب منهم إلى السلامة، وأن الواجب على خلف الأمة أن يتبعوا سلفها، فهل جلس النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للعزاء في أبنائه؟ أو في زوجته خديجة أو زينت بنت خزيمة رضي الله عنهم هل جلس أبو بكر الصديق رضي الله عنه؟ هل جلس عمر بن الخطاب رضي الله عنه؟ هل جلس عثمان بن عفان رضي الله عنه؟ هل جلس علي بن أبي طالب رضي الله عنه؟ هل جلس أحد من الصحابة رضي الله عنهم ينتظر من يعزيه؟ أبداً كل ذلك لم يحصل، ولا شك أن خير الهدي هدي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأما ما تُلقي من الا?باء وجرت به العادة فهذا يعرض على كتاب الله تعالى وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهدي السلف رضي الله عنهم فإن وافقه فهو مقبول، لا لأنه عادة بل لأنه وافق السنة، وما خالف فيجب أن يرفض، ولا ينبغي لطلبة العلم أن يخضعوا للعادات، وأن يقولوا كيف ننكر على آبائنا، وأمهاتنا، وإخواننا شيئاً معتاداً؛ لأننا لو أخذنا بهذه الطريقة وهي عدم الإنكار ما صلح شيء، ولبقيت الأمور على ما هي عليه بدون إصلاح.
وأما قراءة الفاتحة فهي بدعة أيضاً، بدعة على بدعة فما كان(17/372)
الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعزي بقراءة الفاتحة أبداً، ولا غيرها من القرآن، وأما قولهم إنه يقرأ بها على المريض ليشفى لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "وما يدريك أنها رقية" فهي يقرأ بها على المرضى فيشفون بإذن الله، لكن الميت ميت ولن يشفى ولن يبعث إلا يوم القيامة، وكل هذه الأشياء يجب على طلبة العلم أن ينزعوها من مجتمعاتهم وأن يعيدوا الناس إلى ما كان عليه السلف الصالح.
فإن قيل: إذاً متى نعزي؟
قلنا:
أولاً: العزاء ليس بواجب، وغاية ما فيه أنه سنة.
ثانياً: العزاء إنما يكون للمصاب الذي نعرف أنه تأثر بالمصيبة فنعزيه وندلي عليه بالمواعظ حتى يطمئن.
ثالثاً: أن العزاء المشروع ليس بالاجتماع في البيت، بل في أي مكان نلاقيه نعزيه سواء كان في المسجد، أو في السوق، أو في غير ذلك.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: مسألة العزاء والاجتماع عليه، بعض الناس لو كلَّمناهم في هذا يقول: نحن نفعل هذا ولا نقصد به التعبد وإنما نقصد به العادة، وأن ترك المشاركة في الاجتماع يعتبر قطيعة رحم فكيف الرد عليهم؟
فأجاب فضيلته بقوله: الجواب على هذا أن التعزية سنة،(17/373)
التعزية من العبادة، فإذا صيغت العبادة على هذا الوجه الذي لم يكن معروفاً في عهد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، صارت بدعة، ولهذا جاء الثواب في فضل من عزى المصاب، والثواب لا يكون إلا على العبادت.
مسألة العزاء، فالعزاء إنما كان تركه قطيعة رحم، لأن الناس اعتادوه فصار الذي يتخلف عنه عندهم قاطع رحم، لكن لو أن الناس تركوه كما تركه الصحابة رضي الله عنهم والتابعون رحمهم الله ما صار تركه قطيعة رحم، صار تركه عادة، ولهذا لو أن طلبة العلم بينوا للناس هذا الأمر وبدأوا بأنفسهم هم، كما بدأنا بأنفسنا، والدنا توفي ولم نجلس للعزاء، ووالدتنا توفيت ولم نجلس للعزاء، لو أن أهل العلم فعلوا ذلك لكان فيه خير كثير، ولترك الناس هذه العادات، لاسيما في بعض البلاد إذا مررت ببيت مات فيه ميت تقول: هذا بيت فيه زواج، لأنك ترى فيه من الأنوار في الداخل والخارج والكراسي والأشياء التي تنافي الشرع، وفيها إسراف وفيها بذخ.
فالواجب على الإنسان أن يعرف الحق من الكتاب والسنة لا من عادات الناس، لو أن الناس تركوا هذه العادات وصار العزاء إن وجدوا في السوق، أو في المسجد عزي، وأيضاً يعزيه إذا كان مصاباً لا إذا كان قريباً، بعض الأقارب لا يهتم بموت قريبه، وربما يفرح إذا مات قريبه، قد يكون بينه وبين قريبه مشادات ومنازعات وخصومات فإذا مات قال: الحمد لله الذي أراحني من هذا.
فالتعزية للمصاب فقط كما جاء في الحديث: "من عزى(17/374)
مصاباً فله مثل أجره" فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مصاباً" ولم يقل: "من عزى من مات له ميت" فمثل هذه المسائل يجب على طلبة العلم أن يبينوا للناس الحق فيها، حتى يسير الناس فيه على الهدى لا على الهوى.
* * *(17/375)
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد الصالح العثيمين إلى الأخ المكرم ... سلمه الله
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته وبعد:
إليكم أجوبة الأسئلة التي ذكرتم في كتابكم إلينا.
* جواب السؤال الأول: اجتماع أهل الميت للعزاء واستئجار قارىء يقرأ شيئاً من القرآن بدعة منكرة لوجوه:
الأول: أن اجتماع أهل الميت للعزاء لم يكن معروفاً في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه رضي الله عنهم ومن المعلوم أن تعزية المصاب من العبادات، وإذا كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه رضي الله عنهم لم يجتمعوا لها، كان الاجتماع لها بدعة؛ لأن الأصل في العبادات المنع إلا ما قام عليه الدليل، وإذا ثبت أنه بدعة فقد ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التحذير من البدع، وأن كل بدعة ضلالة. وقوله: "كل بدعة ضلالة" كلمة عامة من أقوى صيغ العموم، صادرة من أعلم الناس بشريعة الله ومدلولات الألفاظ التي يتكلم بها، ومن أنصح الناس لعباد الله، ومن أفصحهم نطقاً، وأبلغهم بياناً، لا يمتري بذلك مؤمن، ولم يأت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حرف يستثني شيئاً من هذه القاعدة العامة.
وأما قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من سنَّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة" فليس المراد به أن يحدث في(17/377)
شرع الله ما ليس منه قطعاً، إذ لو كان هذا هو المراد لكان مناقضاً لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كل بدعة ضلالة"، ولكانت الأمة تختلف في دينها كل حزب بما لديهم فرحون، ولحق عليها قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِى شَىْءٍ إِنَّمَآ أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} .
والمراد بالحديث: "من سن في الإسلام" أحد أمرين قطعاً:
1 فإما أن يراد به من سبق إلى العمل بسنة ثبتت مشروعيتها، ويدل لذلك سبب الحديث، فإن سببه كما في صحيح مسلم في باب الحث على الصدقة عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه أن قوماً من مضر أتوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حفاة عراة، مجتابي النِّمار أو العباء، فتمعَّر وجه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما رأى ما بهم من الفاقة، وفيه: فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، قال: ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب حتى رأيت وجه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتهلل كأنه مُذْهَبَةٌ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من سنَّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء".
2 وأما أن يراد به إعادة سنة مشروعة بعد تركها، ومن ذلك قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "نعمت البدعة هذه" يعني إقامة الجماعة في قيام رمضان، وعلى هذا يكون معنى قوله: "من سن" أي من أحيا سنة بعد أن تركت.(17/378)
وقد ذكر كثير من العلماء رحمهم الله حكم هذه المسألة، أعني الاجتماع للعزاء:
ففي (المنتهى) ، وهو عمدة المتأخرين من الحنابلة في المذهب: وكره جلوس لها أي للتعزية، قال في شرحه: يعني أنه يكره للمصاب أن يجلس في مكان ليعزوه، ويكره للمعزي أن يجلس عند المصاب للتعزية.
وفي (المقنع) : ويكره الجلوس لها يعني للتعزية قال في الشرح الكبير: وذكره أبوالخطاب؛ لأنه محدث. اه
وقال النووي في (شرح المهذب) : وأما الجلوس للتعزية فنص الشافعي والمصنف وسائر الأصحاب على كراهته وذكر تعليل ذلك ثم قال: واستدل له المصنف وغيره بدليل آخر وهو أنه محدث. اه
وقال الألباني في (أحكام الجنائز) : وينبغي اجتناب أمرين وإن تتابع الناس عليهما:
أالاجتماع للتعزية في مكان خاص كالدار، أو المقبرة، أو المسجد.
ب اتخاذ أهل الميت الطعام لضيافة الواردين للعزاء، وذلك لحديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: كنا نعد وفي رواية: نرى الاجتماع إلى أهل الميت وصنيعة الطعام بعد دفنه من النياحة. وذكر الألباني في حاشية الكتاب المذكور عن ابن الهمام أن هذا بدعة قبيحة.(17/379)
وبهذا يتبين حكم الاجتماع للتعزية.
وأما قول من ابتلي بها: "إنها حسنة" فمردود بقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كل بدعة ضلالة".
وأما قوله: هناك أشياء كثيرة لم تكن على عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وليست ببدعة.
فيقال: هذه الأشياء إن فعلها فاعلها على وجه القربة والتعبُّد فإنها بدعة وضلالة، وإن كانت من باب الوسائل إلى أمر مشروع كتصنيف العلوم، وطباعة الكتب ونحو ذلك فهي مشروعة مشروعية الوسائل.
وأما إحضار قارىء يقرأ للعزاء فإن كان بأجرة فلا ثواب له، بل هو آثم، وحينئذ لا ينتفع الميت بقراءته، وإن كان بغير أجرة فالقراءة للعزاء بدعة لا ثواب فيها.
والواجب على المؤمن أن يرجع إلى ما كان عليه سلف الأمة، فإنهم خير القرون، وأن لا يلتفت إلى ما أحدثه الناس في دين الله تعالى لا في هذا ولا غيره، فالخير كله في اتباع السلف، والشر كله في ابتداع من خلف. وفقنا الله وإياكم لاتباع السنة، والبعد عن البدعة.
والواجب على أهل العلم بيان الحق في هذا وغيره على نحو ما ذكره الله عز وجل في قوله: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} ولا يجوز لهم الذهاب إلى المجتمعين للعزاء إلا على سبيل النصيحة لهم.(17/380)
جواب السؤال الثاني: كيف تعاملون النصارى المشاركين لكم في العمل والمجاورين لكم في المنازل أن تعاملوهم بمثل ما يعاملونكم، فإن هذا من العدل الذي أمر الله تعالى به، كما قال تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإْحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِى الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} ولا بأس بالإحسان إليهم تأليفاً لهم على الإسلام لا تودداً وتقرباً إليهم لقول الله تعالى: {لاَّ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُو?اْ إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} .
وأما موادتهم وموالاتهم فلا يحل لنا ذلك لقوله تعالى: {لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الأَْخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُو?اْءَابَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَائِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِىَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ أُوْلَائِكَ حِزْبُ اللهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الا?ية، وقوله: {ياأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُمْ مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِاللهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِى سَبِيلِى وَابْتِغَآءَ مَرْضَاتِى تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ} . وقوله: {يَ ?اأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} .
وأما تهنئتهم فإن كان لمناسبات دينية عندهم فهذا حرام بلا شك؛ لأنه يتضمن الرضا بما هم عليه من الكفر وتثبيتهم عليه وإدخال السرور عليهم، به وإن كان لمناسبات غير دينية كحصول مال أو ولد فلا بأس به إذا كانوا يفعلون ذلك معنا، لما فيه من العدل والإنصاف وإلا فلا نهنئهم به إلا أن يتضمن ترك ذلك إضراراً بنا.
وأما تعزيتهم فنعزيهم إذا كانوا يعزوننا لما فيه من العدل(17/381)
والإنصاف لكن ينبغي أن تكون تعزيتنا مفتاحاً لوعظهم ودعوتهم للإسلام.
هذا ما نراه في هذه المسائل ونسأل الله تعالى أن ينصر عباده المؤمنين على أعدائه الكافرين.
كتب هذه الأجوبة بيده محمد الصالح العثيمين في 7/01/7141هـ.(17/382)
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم زيارة قبور الكفار وما يسمى بقبر الجندي المجهول ووضع الزهور عليها؟
فأجاب فضيلته بقوله: زيارة قبور الكفار للاتعاظ لا بأس بها، ولهذا استأذن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربه أن يستغفر لأمه فلم يأذن له، واستأذنه أن يزور قبرها فأذن له.
أما زيارته تعظيماً كما يفعل وتوضع عليها الزهور فهذا حرام ولا يجوز؛ لأنه تعظيم لهؤلاء الكفار.
والجندي المجهول إن كان مجهولاً فعلاً فلا يستحق أن يكرم، ولكن هؤلاء سلب الله عقولهم، فكما أنهم بهذا العمل مخالفون للشريعة فهم مخالفون للمعقول، إذ المستحق للإكرام هو الجندي المعروف بالشجاعة والدفاع سواء عن وطنه أو دينه، وهم أهل دين، وما أظن هذه وقعت إلا من رجل أحمق ثم تتابع الناس عليها.
وإن كان المقصود مجهول القدر وهو معلوم العين فإن كان كافراً فإنه لا يجوز أيضاً وحرام، وإن كان مسلماً فهو تكريم مبتدع، ولا يكرم جماد من الجمادات بأي اسم كان؛ لأن التحية إنما هي للحي الذي يستحقها. أما أشياء جماد تعظم فهذا أشبه ما يكون بفعل قوم نوح عليه الصلاة والسلام حين نصبوا أصناماً لقوم صالحين وصاروا يعظمون هذه الأصنام. والله المستعان.
* * *(17/383)
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم شد الرحل والسفر لأجل تشييع جنازة أو لأجل تعزية مصاب في ميت؟
فأجاب فضيلته بقوله: أما تشييع الجنازة فلا بأس بذلك، لأنه ليس كشد الرحل لزيارة القبور.
وأما للتعزية فأقله أن يكون مكروهاً، لأن هذا يستلزم تجمع الناس إلى دار المصابين، وقد قال جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنع الطعام من النياحة.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ذكرتم في التعزية أنها قد تكون في غير الميت هل تسن التعزية في غير الميت وما صفة التعزية؟
فأجاب فضيلته بقوله: التعزية هي تقوية المصاب على تحمل الصبر، وانتظار الثواب سواء كان في ميت أو غيره، مثل أن يصاب بفقد مال كبير له، أو ما أشبه ذلك، فتأتي إليه وتعزيه وتحمله على الصبر حتى لا يتأثر تأثراً بالغاً.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل الاجتماع على العزاء، وإقامة ولائم الطعام، وقراءة الفاتحة(17/384)
على روح الميت جائزة؟ ما رأيكم جزاكم الله خيراً؟
فأجاب فضيلته بقوله: الاجتماع للعزاء بدعة مكروهة، وإذا حصل معه إطعام المجتمعين، وإقامة ولائم الطعام لحضور المعزين صار من النياحة، قال جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه: كنا نعد وفي رواية نرى الاجتماع إلى أهل الميت وصنع الطعام بعد دفنه من النياحة.
ولم يكن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا خلفاؤه الراشدون ولا أصحابه المهتدون رضي الله عنهم فيما نعلم يجتمعون لتلقي المعزين أبداً. غاية ما في الأمر أنه لما جاء نعي جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اصنعوا لا?ل جعفر طعاماً، فقد أتاهم ما يشغلهم"، ولم يجتمع من آل جعفر، علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو أخوه، ولا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو ابن عمه، ولا أحد من أقاربه فيما نعلم، لم يجتمعوا إلى آل جعفر ليأكلوا من هذا الطعام.
ولا شك أن خير الهدي هدي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن شر الأمور محدثاتها، والتعزية من العبادة، والعبادة لابد أن تكون على وفق ما جاءت به الشريعة، وقد صرح بعض أئمة العلم بأن الاجتماع بدعة، وصرح فقهاء الحنابلة رحمهم الله في كتبهم بأن الاجتماع مكروه، ومن العلماء من حرمه.
وإنك لتعجب في بعض البلدان، أنه إذا مات لهم الميت وضعوا السرادقات الطويلة العريضة، وعليها أنوار كبيرة كاشفة(17/385)
وغير كاشفة، والمقاعد، وهذا يخرج وهذا يدخل، كأنهم في وليمة عرس أو أشد. من قال هذا؟ من فعل هذا؟
أليس لنا في محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسوة حسنة؟ ولهذا نجى الله بعض البلاد من هذه البدعة المكلفة مالياً، المهلكة للزمن وقتياً، المتعبة للأبدان، حتى إنهم يأتون من أطراف البلاد إلى هذا الاجتماع. سبحان الله لو كان هذا مشروعاً على سبيل الوجوب، أو الاستحباب لرأيت أنه ثقيل على النفوس. لكن لما كان مما لم يأمر به الله تعالى ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صار هيناً على النفوس. فتجد الناس يأتون من بعيد ليجتمعوا عند أهل الميت.
* أما ما ذكره السائل من قراءة الفاتحة، وسورة الإخلاص، وهذه الأذكار لا تزيد الأمر إلا شدة، ولا تزيده إلا بعداً من السنة، فهي بدعة.
فإذا قال قائل: فكيف نعزي الناس؟
فالجواب: التعزية ليست واجبة حتى نقول: لابد منها وأنها ضرورة، التعزية سنة، ولا تكون إلا للمصاب الذي نعلم أنه تأثر بموت هذا الميت، فنذهب إليه بدون ما يفتح الباب ويجمع الناس نذهب إليه إذا كان من أقاربنا الذي لابد أن نذهب إليهم، وأننا لو لم نذهب لقيل: هذا قاطع، نذهب إليه ونقول: اتق الله، واصبر واحتسب.
وأقول: نذهب إليه ليس على سبيل الاستحباب لكن خوفاً من معرة القطيعة، وإلا فها هو النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرسلت إليه إحدى بناته تخبره أن طفلاً لها، أو طفلة في سياق الموت، فجاء الرسول يخبر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(17/386)
ويطلب منه أن يأتي فقال له الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مرها فلتصبر ولتحتسب فإن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى".
ثم عاد الرسول إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنها تلح عليه أن يأتي فذهب إليها الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكن لما اعتاد الناس أنه لابد للأقارب أن يأتوا ويعزوا أهل الميت صار ترك هذا قد يؤدي إلى القطيعة للرحم، ويكون الإنسان لوكاً للألسن فيذهب يدرأ عن نفسه مغبة الغيبة، فيكون إتيانه هنا لا على سبيل أنه تطوع به، ولكن على سبيل أنه درء للمفسدة فقط، بدون أن يكون هناك فتح باب، هذا يدخل وهذا يخرج، وإنما للقريب، القريب. فاذهب إلى البيت واستأذن، وادخل وتكلم معهم إذا رأيتهم تأثروا تأثراً كبيراً. أحياناً لا يتأثر أهل الميت للميت لأي سبب من الأسباب، وليس هذا موضع تمثيل بشيء، لكن أحياناً فعلاً لا تجدهم متأثرين للميت هؤلاء لا يعزون؛ لأن التعزية تقوية المصاب على تحمل المصيبة. وقد يكفي الهاتف في ذلك فيمن لا يرى من حقه أن تأتي إليه بنفسك كالأقارب القريبين الذين ذكرنا آنفاً.
هذا معنى التعزية ونسأل الله تعالى أن يهدينا وإخواننا المسلمين لما فيه الخير والصلاح اللهم آمين.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: بعض العامة يضعون في بيوت العزاء أو مكان التجمع للتعزية(17/387)
مسجلاً ويقرأ أحد القراء قرآناً وأحياناً مواعظ وأشعار وبعض المعزين يحضرون معهم أنواعاً من الطعام والهدايا أو غيره ما حكم ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: أصل جلوس التعزية خلاف السنة، ولم يكن الصحابة رضي الله عنهم يجلسون للتعزية، بل كانوا يعدون الاجماع عند أهل الميت وصنع الطعام من النياحة، وقد ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التحذير من النياحة، حتى إنه لعن النائحة والمستمعة، وقال: "النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب"، فالواجب الحذر مما يكون مخالفاً للسنة، وموجب للعقوبة والإثم.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل اجتماع أهل الميت في بيت واحد من أجل العزاء، ومن أجل أن يصبر بعضهم بعضاً لا بأس به؟
فأجاب فضيلته بقوله: سبق لنا نظير هذا السؤال، وقلنا: إن الاجتماع في بيت الميت ليس له أصل من عمل السلف الصالح وليس بمشروع، لاسيما إذا اقترن بذلك إشعال الأضواء، وصف الكراسي، وإظهار البيت وكأنه في ليلة زفاف عرس، فإن هذا من البدع التي قال عنها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كل بدعة(17/388)
ضلالة".
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم ما يفعله الناس في الوقت الحاضر من استقبال الناس في بيوتهم من أجل العزاء لمدة ثلاثة أيام أو أكثر، هذا مع وضعهم للأضواء التي تبين مكان العزاء وكذلك استئجار شقة أو بيت لوضع العزاء فيها؟
فأجاب فضيلته بقوله: حكم ذلك أنه من إضاعة الوقت وإضاعة المال، وإظهار البدعة، لأن هذا لم يكن معروفاً في عهد السلف الصالح رضي الله عنهم فإذا اجتمع في هذه الأمور: إضاعة الوقت، وإضاعة المال، وإظهار البدعة، فإنه لا يليق بمسلم أن يفعلها، وخير الهدي هدي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وخير الأتباع الصحابة رضي الله عنهم ومن تبعهم بإحسان كما ثبت عن النبي بقوله: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"، وعلى هذا فالذي أرى الكف عن هذا العمل، وأن تكون التعزية تعزية لا يحصل فيها هذا الاجتماع، وهذه الأضواء وما أشبه ذلك.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: بعد الفراغ من دفن الميت وتعزية أهله يقوم الناس بالذهاب إلى بيت(17/389)
الميت وعادة ما يكون ذلك بعد صلاة المغرب، ثم يشربون القهوة ويعزون أهل الميت مرة أخرى، ثم ينصرفون، فما الحكم في هذا؟
فأجاب فضيلته بقوله: الحكم أن هذا من البدع، فما كان الصحابة رضي الله عنهم في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا فيما بعده ينتظرون الناس في بيوتهم ليعزوهم، والحقيقة أن هذا يُشعر أن المصاب جزع من المصيبة كأنه يقول: يا أيها الناس إني جالس في بيتي محزوناً فتقدموا لي بالعزاء.
والسنة أن الإنسان يغلق بيته، ثم من وجده في السوق، أو وجده في المسجد يعزيه إذا رآه مصاباً حزيناً، فيسليه بالتعزية، ويقول: اصبر احتسب، الأمر أمر الله عز وجل، لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى.
* * *(17/390)
رسالة
فضيلة الشيخ الوالد: محمد بن صالح العثيمين حفظه الله وسدد خطاه
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
أرجو من فضيلتكم بيان حكم الشرع في حالتي هذه:
فما أن علم أقاربي وأقارب زوجتي وهم كثر جداً ولله الحمد ما إن علموا بوفاة ولدي حتى أتوا يعزونني ويصبرونني مواساة في ابني، وحيث إن منزلي صغير ومتواضع ولا يسعني أن أستقبلهم فيه، قمت باجتهادي الخاص باستئجار بعض الكراسي والفرش وفرشها أمام منزلي كما قمت بوضع عقد من الأنوار في ذلك المكان حيث إنه مظلم، وقمت بالانتظار والمكوث في هذا المكان ما بين المغرب والعشاء أستقبل هذه الوفود، وأصبح منزلي مكان استقبال النساء، ويعلم الله يا فضيلة الشيخ أنني ما فعلت هذا الأمر عن قصد، أو عن اعتقاد في مشروعيته، ولكن هذه هي حالتي كما ذكرت لك، وأحب أن أشير يا فضيلة الشيخ إلى أن هذا الأمر أصبح عندنا عادة متعارف عليها، ويصعب في الوقت الحاضر أن أمتنع عن استقبال هذه الوفود، وإلا لأصبحت محل نقد الناس بأنني امتنعت عن استقبال من جاء لمواساتي، كما أنني أخشى إن فعلت ذلك من وقوع فرقة بين الأهل وحصول تنازع، أو بعض(17/391)
الكراهية منهم تجاهي، فهل اجتهادي هذا صائب؟ وهل يعارض هذا الفعل مرضاة الله تعالى ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما أرجو من فضيلتكم بيان التصرف الصحيح إن كان اجتهادي خاطئاً في مثل هذه الحالة؟ أرشدوني أرشدكم الله وسدد خطاكم إلى ما يحبه ويرضاه وجزاكم الله خيراً.
فأجاب فضيلته بقوله: بسم الله الرحمن الرحيم، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. أرى أن تلغي ما فعلت فوراً؛ لأنه بدعة، ولأنه إضاعة مال في غير طاعة، ولا منفعة دنيوية، ولأن العزاء ليس حفل فرح تضاء له الأنوار، وتصف الكراسي، وتصنع الأطعمة ويجتمع له الناس، وقد قال جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه: كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت بعد دفنه وصنع الطعام من النياحة، وقد ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الميت يعذب بما نيح عليه.
وإذا كنت تخشى من انتقاد بعض الناس فقل لهم: إن الحق في العزاء لي، ولا أريد أن أفعل شيئاً لم يفعله السلف الصالح من الصحابة رضي الله عنه والتابعين لهم بإحسان، وأنت إذا قطعت هذه العادة ابتغاء مرضاة الله، أرضى الله عنك الناس، وانقلب غضبهم عليك رضا عنك، وبإمكانك إذا حضروا أن تبين لهم وتقول أنا الا?ن أكرمكم بالضيافة ولكن لا اجتماع بعد ذلك وفقك الله للخير وأعانك عليه. كتبه محمد الصالح العثيمين في 7/01/1414 هـ.(17/392)
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته وبعد:
العزاء المشروع أنه إذا أصيب شخص بموت قريبه، أو صديقه هُدىء باله وقيل له: إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فاصبر واحتسب، واعلم أنه ما من مسلم يصاب بمصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي، واخلف لي خيراً منها، إلا آجره الله في مصيبته وأخلف له خيراً منها.
وأما هذه التجمعات المذكورة في السؤال فليست من عمل السلف الصالح رضي الله عنهم فلا ينبغي أن نقوم بها، حتى قال جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه: كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام بعد دفنه من النياحة. أخرجه الإمام أحمد وابن ماجه. قال في (نيل الأوطار) : وإسناده صحيح. وعلى هذا يجب على طلبة العلم والعلماء بيان المشروع للناس في ذلك، وتحذيرهم مما يخالفه حتى يستقيم الناس على المنهج الصحيح. 16/01/1415 هـ.
* * *(17/393)
رسالة
سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبكراته وبعد:
فأبعث لفضيلتكم هذا السؤال من خارج المملكة: ماذا يفعل صاحب الميت بعد دفن ميته هل يجلس له في المنزل ثلاثة أيام ويقرأ القرآن على روحه، ويأخذ الشيخ القارىء مبلغاً من المال نظير قراءته في المنزل، أم يقبل العزاء على القبر فقط، أم يجلس ويتقبل العزاء في داره دون وجود شيخ لقراءة القرآن وأخذ الأجرة؟ وهل ثواب هذه القراءة تصل للميت أم لا؟ وما الطريق الصحيح والحل الصحيح لأهل الميت بعد دفن موتاهم؟ أفيدونا أفادكم الله وجعلكم لنا عوناً.
فأجاب فضيلته بقوله: بسم الله الرحمن الرحيم. وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. الجلوس في البيت لاستقبال المعزين بدعة محدثة، لم تكن في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا عهد أصحابه رضي الله عنهم بل قال جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه: كانوا يعدون الاجتماع إلى أهل الميت، وصنعة الطعام من النياحة.
وأقبح من ذلك أن يستأجر قارىء يقرأ القرآن على روح الميت(17/395)
كما يزعمون فإن القراءة أعني قراءة القرآن من العبادات، وليست مشروعة بهذه المناسبة، ثم إن العبادات لا يصح أخذ الأجرة عليها، والأجير القارىء ليس له ثواب عند الله؛ لأنه استعجل ثوابه، وحينئذ لا ينتفع الميت بقراءته.
والطريق الصحيح بعد الدفن أن يوقف على القبر ويستغفر للميت، ويسأل الله له التثبيت، كما كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا فرغ من دفن الميت قال: "استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت، فإنه الا?ن يسأل"، فيقف الإنسان على القبر ويقول: اللهم اغفر له، اللهم اغفر له، اللهم اغفر له. اللهم ثبته، اللهم ثبته، اللهم ثبته، ثم ينصرف.
أما العزاء فمن كان متأثراً من أقارب الميت، أو أصدقائه فإنه يعزى، فيؤمر بالصبر واحتساب الأجر ويقال له: إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، بدون اجتماع، وإيقاد أنوار وصف كراسي، وحضور قارىء كما يفعله بعض الناس اليوم، فإن ذلك من البدع المحدثة. نسأل الله لنا ولإخواننا الثبات على السنة، والنجاة من البدعة إنه سميع مجيب. كتبه محمد الصالح العثيمين في 19/01/1415 هـ.(17/396)
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: نحن أهل قرية من قرى ... التابعة لمنطقة.... قد اشتهر أو وجد عندنا في الا?ونة الأخيرة أنه إذا مات الميت قام أهله بتعطيل أعمالهم، وأخذ إجازات لاستقبال المعزين من الأقارب والجيران ما يقارب ثلاثة أيام، وفي أول يوم من أيام العزاء يذبح ذبيحة فيؤتى بها إلى أهل الميت مطبوخة، ثم بعد ذلك يقوم الجيران والأقارب بذبح الذبائح في بيوتهم لأهل الميت موزعة على الوجبات، ويقولون: نريد أن نواسيهم ونذهب عنهم بعض الحزن فنرجو من فضيلتكم الإجابة على الأسئلة الا?تية:
* أولاً: حكم الجلوس للعزاء بهذه الصفة؟
* ثانياً: حكم هذه الذبائح التي تذبح وتؤخذ على شكل دورية بين الجيران والأقارب.
* ثالثاً: ومما انتشر عندنا أيضاً أن أهل الميت أو غيرهم لابد أن يصفوا عن يمين الإمام في صلاة الجنازة فما الحكم؟
* رابعاً: ما حكم وضع البلك في القبر بدلاً من اللبن الطين؟
*(17/397)
خامساً: ما حكم وضع الإضاءة على المقبرة لأجل الدفن؟ أفيدونا جزاكم الله خيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فأجاب فضيلته بقوله: بسم الله الرحمن الرحيم.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
جواب السؤال الأول: أصل الجلوس للعزاء غير مشروع، فإنه ليس من هدي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه رضي الله عنه بل قد روى الإمام أحمد وابن ماجه بإسناد صحيح عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: "كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام بعد دفنه من النياحة".
قال النووي رحمه الله: وأما الجلوس للتعزية فنص الشافعي والمصنف وسائر الأصحاب على كراهته.
وإذا لزم من ذلك تعطيل الأعمال وإنفاق الأموال كان ذلك أشد وأعظم، وقد كان السلف الصالح لا يجلسون من أجل التعزية، بل ينصرفون إلى أعمالهم وشؤون حياتهم، ثم من رآهم في أي مكان عزاهم.
جواب السؤال الثاني: هذه الذبائح حلال أكلها، لكن ذبحها على حسب الوصف المذكور في السؤال بدعة منكرة، لأن السلف لم يكونوا يفعلونه كذلك، وغاية ما فيه قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اصنعوا لا?ل جعفر طعاماً فقد أتاهم ما يشغلهم" وكان هذا في أول يوم.(17/398)
جواب السؤال الثالث: السنة في صلاة الجماعة أن يكون الإمام صفاً وحده، لا يصف معه أحد إلا لحاجة كضيق المسجد، أو عدم وجود مكان في الصف للذين يقدمون الجنازة.
جواب السؤال الرابع: وضع اللبن أفضل من وضع البلك؛ لأن البلك قد مسته النار، وقد كره بعض العلماء أن يكون في القبر شيء مما مسته النار، لكن إن كان هناك حاجة إلى البلك، مثل أن يكون اللبن يتفتت ولا يصمد للتراب الذي يهال عليه جاز وضع البلك موضعه.
جواب السؤال الخامس: لا بأس باستعمال السراج ونحوه لإضاءة القبر عند الدفن لأنه حاجة ولا يستمر.
كتب هذه الأجوبة الخمسة محمد الصالح العثيمين في 8/10/1414 هـ.
* * *(17/399)
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين حفظه الله آمين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
أحيطكم علماً أن والدي مات رحمه الله من حوالي أربعة وعشرين عاماً، وقد تبين أنه لدى أحد أقاربه صورة مصورة بالكمرة، وقد سمح لبعض أقارب الميت رحمه الله بتصوير هذه الصورة ليس تقديساً لها ولكن بقصد الذكرى حتى زعم بعضهم أن هذا بر لذلك الميت، لذا آمل التكرم ببيان حكم ما يأتي:
1 ما حكم من صوّر هذه الصورة بواسطة آلة تصوير؟
2 ما الحكم بالنسبة للشخص الذي بيّن صورة الميت بعد سنوات طويلة ولم يتلفها بل سمح بنشرها؟
3 هل يسلم الميت من الإثم؟ وهل يعتبر السحب على هذه الصورة برًّا كما زعم البعض أم عقوقاً؟
4 وما حكم اتخاذ الصور للذكرى؟ وما نصائحكم وفقكم الله وتوجيهاتكم للجميع؟ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
من أخيكم محمد الصالح العثيمين:
جواب السؤال الأول: التصوير لقصد الذكرى محرم سواء(17/401)
كان بآلة تصوير أو غيرها لكنه باليد من كبائر الذنوب؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعن المصورين، واللعن لا يكون إلا على كبيرة.
جواب السؤال الثاني: هذا الذي بيّن صورة الميت لأجل أن تنشر يكون عليه من الإثم بقدر ما أثم الساحبون عليها وإن كثروا؛ لأنه معين على الإثم والعدوان.
جواب السؤال الثالث: أخشى أن يكون هذا من جنس النياحة وقد ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الميت يعذب بما نيح عليه، وليس هذا من بر الميت، وأين البر في هذا؟ فماذا يستفيد الميت، بل في هذا خطورة على الحي، فربما وقع في قلبه تعلق بالميت أو تقديس له أو تجديد لأحزانه، ولا يخفى ما ذكر من خطورة صور الأموات كما ذكروا أن أصل شرك قوم نوح كان بسبب احتفاظهم بالصور التي كانت لقوم صالحين.
جواب السؤال الرابع: اتخاذ الصور للذكرى محرم؛ لأن اقتناء الصورة يمنع دخول الملائكة البيت كما صح ذلك عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلى هذا فإني أنصح إخواني عن هذا العمل وأحثهم على التوبة إلى الله تعالى وتمزيق ما عندهم من الصور أو تحريقها ليسلموا من الإثم، {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} .
حرر في 18/5/1408 هـ.(17/402)
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
في 30/9/1379 هـ
من محمد الصالح العثيمين إلى أخيه المكرم.... حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
فقد تبين لي البارحة حين اتصلت بكم هاتفيًّا للتعزية بالأخ ... رحمه الله تعالى أن في نفوسكم شرهاً علي إذ لم أحضر إلى البيت، وهذا جزاكم الله خيراً يدل على أن لي منزلة في نفوسكم؛ لأنه لو لم يكن لي منزلة لم تشرهوا علي.
والله يعلم أني لم أترك الحضور إلى البيت، احتقاراً لكم، ولا استخفافاً بالمصاب، ولكني تركت ذلك؛ لأنه لم يكن من سنة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا من عادة السلف الصالح، اجتماع أهل الميت، أو جلوسهم للتعزية، فقد مات للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زوجتان في حياته إحداهما فريدته وأم أكثر أولاده خديجة رضي الله عنها ومات جميع أولاده ما عدا فاطمة رضي الله عنها وقال في ابنه إبراهيم: "العين تدمع والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون". ولم يحفظ عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه جلس ليعزى بهؤلاء، وأما جلوسه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المسجد يعرف فيه الحزن حين جاء خبر قتل زيد(17/403)
وجعفر وعبد الله بن رواحة، فليس فيه أنه جلس لقصد التعزية. ومن أجل أن الجلوس للتعزية لم يكن من سنة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا من عادة السلف الصالح كرهه الإمام أحمد رحمه الله فقال: ما ينبغي، ومرة قال: ما يعجبني، وقد ذكر في الفروع أن الإمام أحمد إذا قال: (لا ينبغي) فهو للتحريم، ولذلك نقل عنه المنع من الجلوس، ونقل عنه الرخصة فيه، والذي استقر عليه مذهبه عند المتأخرين من أصحابه أن الجلوس للتعزية مكروه، قال (في الفروع) : ويكره الجلوس لها، نص عليه واختاره الأكثر وفاقاً لمالك والشافعي، وقال في (المنتهى) و (الإقناع) وهما عمدة المتأخرين في المذهب: ويكره الجلوس لها، قال في الشرح أي للتعزية بأن يجلس المصاب بمكان ليعزى أو يجلس المعزي عند المصاب بعدها. ا. هـ.
وقال في (المهذب) ، وهو من أكبر كتب الشافعية قدراً: يكره الجلوس للتعزية؛ لأن ذلك مُحْدَث والمحدث بدعة، قال في الشرح في تفسير الجلوس لها: هو أن يجتمع أهل الميت في بيت فيقصدهم من يريد التعزية، قالوا: بل ينبغي أن ينصرفوا في حوائجهم فمن صادفهم عزاهم. ا. هـ.
وهذا الكلام الذي سقته إليكم هو الذي جعلني لم أحضر إلى البيت للتعزية، وليس الاحتقار لكم، أو الاستخفاف بالمصاب، بل لكم عندي ما تستحقونه من التقدير، ولقد تعرضت لمصادفتكم آخر الليل قبل البارحة عند انتهاء القيام بعد صلاة الفجر ولم تقدر لي مصادفتكم. أما الميت فنسأل الله له المغفرة والرحمة. هذا ما أردت(17/404)
بيانه لكم لتكونوا على بصيرة من أمرى والله الموفق. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وأتباعه إلى يوم الدين.(17/405)
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل صحيح أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم، إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه؛ لأن ذلك ثبت عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن العلماء اختلفوا رحمهم الله في تخريج هذا الحديث:
فحمله بعضهم على أن المراد به الكافر أنه يعذب ببكاء أهله عليه دون المؤمن.
ولكن هذا خلاف ظاهر الحديث، لأن الحديث عام، وحمل هؤلاء الحديث على الكافر فراراً من أن يعذب الإنسان بذنب غيره لا يحصل به الخصوص، لأن تعذيب الكافر ببكاء أهله عليه هو تعذيبه بذنب غيره.
وقال بعض العلماء: المراد بذلك أن يُوصي، يعني أن يكون الميت أوصى أهله بأن يبكوا عليه، فيكون هو الا?مر بهذا الشيء فيلحقه من عذابه.
وقال آخرون: هو في الرجل الذي يعلم من أهله أنهم يبكون على أمواتهم ولم ينههم عن ذلك قبل موته؛ لأن رضاه وسكوته مع علمه بأنهم يفعلونه دليل على رضاه به، والراضي عن المنكر كفاعل المنكر.
فهذه ثلاثة أوجه في تخريج الحديث، ولكن كلها مخالفة لظاهر الحديث؛ لأن الحديث ليس فيه قيد، إن المراد به من أوصى(17/406)
بذلك، أو رضي به.
والحديث على ظاهره أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه، ولكنه ليس عذاب عقوبة؛ لأنه لم يفعل ذنباً حتى يعاقب عليه، لكنه عذاب تألم وتضجر من هذا البكاء، لأنه يعلم بذلك فيتألم ويتضجر، والتألم والتضجر لا يلزم منه أن يكون ذلك عذاب عقوبة. ألا ترى إلى قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في السفر: "إنه قطعة من العذاب" وليس السفر عقوبة ولا عذاب، لكنه هم واستعداد وقلق نفسي، فكذلك عذاب الميت في قبره من هذا النوع؛ لأنه يحصل به تألم وقلق وتعب، وإن لم يكن ذلك عقوبة ذنب.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما معنى قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه"؟
فأجاب فضيلته بقوله: معناه أن الميت إذا بكى أهله عليه فإنه يعلم بذلك ويتألم، وليس المعنى أن الله يعاقبه بذلك لأن الله تعالى يقول: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَىْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُواْ الصلاةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ} . والعذاب لا يلزم أن يكون عقوبة ألم تر إلى قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن السفر قطعة من العذاب" والسفر ليس بعقوبة، لكن يتأذى به الإنسان ويتعب، وهكذا الميت إذا بكى أهله عليه فإنه يتألم ويتعب من ذلك، وإن كان هذا ليس بعقوبة من الله عز وجل له، وهذا التفسير للحديث تفسير واضح(17/407)
صريح، ولا يرد عليه إشكال، ولا يحتاج أن يقال: هذا فيمن أوصى بالنياحة، أو فيمن كان عادة أهله النياحة ولم ينههم عند موته، بل نقول: إن الإنسان يعذب بالشيء ولا يتضرر به.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: إذا بكى الإنسان لوفاة قريبه بغير اختياره فما حكم ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما توفي ابنه إبراهيم بكى وقال: "إن العين تدمع، والقلب يحزن ... " فالبكاء غير المتكلف لا شيء فيه وهو من طبيعة الإنسان.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: عن تعذيب الميت ببكاء أهله؟
فأجاب فضيلته بقوله: تعذيب الميت ببكاء أهله ليس معلقاً بالبكاء، فالبكاء الطبيعي لا يعذب به الباكي، ولا المبكي عليه، وإنما الحديث فيمن يناح عليه، فإنه يعذب على ذلك في قبره صح بذلك الحديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحمله بعض العلماء على من أوصى بالنياحة عليه بعد موته، أو على من يرضى به في حياته ولم ينه أهله عنه، والصحيح أن الحديث على ظاهره يعذب وإن لم يوص، وأن لم يرض، ولكن العذاب غير العقاب، فقد يراد به القلق والتعب كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في السفر: "أنه قطعة من العذاب" مع أنه ليس(17/408)
عقوبة، فمعنى تعذيب الميت بما نيح عليه أن النياحة تعرض عليه في قبره فيتأذى بها ويتعذب بها.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: عن حكم النياحة؟
فأجاب فضيلته بقوله: الذي أعلمه من الشرع أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعن النائحة والمستمعة، والنائحة هي التي تبكي على الميت برنة تشبه نوح الحمام، وإنما لعنها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما يترتب على النوح من تعاظم المصيبة، وشدة الندم، وإلقاء الشيطان في قلوب النساء ما يلقيه من التسخط على قدر الله عز وجل وقضائه، وهذه الاجتماعات التي تكون بعد موت الميت، ويكون فيها الندب والنياحة كلها اجتماعات محرمة، اجتماعات على كبائر الذنوب، فالواجب على المسلمين الرضا بقضاء الله وقدره، وإذا أصيب الإنسان بمصيبة فليقل: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي، واخلف لي خيراً منها، فإن الإنسان إذا قال ذلك بصدق نية، وتصديق لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن الله سبحانه وتعالى يخلف عليه خيراً من مصيبته، ويأجره عليها، ولقد جرى ذلك لأم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها حين مات عنها زوجها أبو سلمة رضي الله عنها فقالت رضي الله عنها مؤمنة مصدقة بكلام النبي عليه الصلاة والسلام قالت هذا القول: "اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منه" فأخلف الله لها خيراً منها، فإنها حين انقضت عدتها تزوجها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكان(17/409)
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خيراً لها من أبي سلمة، ولها الأجر عند الله تعالى، فوظيفة الإنسان عند المصائب الصبر والتحمل واحتساب الأجر من الله سبحانه، والله الموفق.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: بعض النساء إذا أتت إلى أهل الميت لتعزيتهم أول ما يكون منها صياح وعويل وتبكي كل الحاضرين هل يعد هذا من النوح؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم هذا من النوح بلا شك، وقد لعن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النائحة والمستمعة، فلا يحل لهذه أن تفعل هذا الفعل، ولا يحل لأهل الميت أن يمكنوها منه، ويجب عليهم إذا رأوا أنها مستمرة في هذا العمل أن يخرجوها من البيت.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم تخصيص لباس معين للتعزية كلبس السواد للنساء؟
فأجاب فضيلته بقوله: تخصيص لباس معين للتعزية من البدع فيما نرى، ولأنه قد ينبىء عن تسخط الإنسان على قدر الله عز وجل، وإن كان بعض الناس يرى أنه لا بأس به، لكن إذا كان السلف لم يفعلوه، وهو ينبىء عن شيء من التسخط فلا شك أن تركه أولى؛ لأن الإنسان إذا لبسه فقد يكون إلى الإثم أقرب منه إلى السلام.(17/410)
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل رثاء الميت من النعي المحرم؟
فأجاب فضيلته بقوله: ليس رثاء الميت من النعي المحرم إذا لم يتضمن غلواً يخرج به الراثي عن الحد، ومازال المسلمون يستعملونه من زمن الصحابة رضي الله عنهم إلى اليوم بدون نكير، وانظر ما قيل في غزوة أحد من رثاء حمزة والشهداء رضي الله عنهم.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: عن حكم المآتم؟
فأجاب فضيلته بقوله: المآتم كلها بدعة، سواء كانت ثلاثة أيام، أو على أسبوع، أو على أربعين يوماً، لأنها لم ترد من فعل السلف الصالح رضي الله عنهم ولو كان خيراً لسبقونا إليه، ولأنها إضاعة مال، وإتلاف وقت، وربما يحصل فيها شيء من المنكرات من الندب والنياحة ما يدخل في اللعن فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعن النائحة والمستمعة.
ثم إنه إن كان من مال الميت من ثلثه أعني فإنه جناية عليه لأنه صرف له في غير الطاعة، وإن كان من أموال الورثة فإن كان فيهم صغار أو سفهاء لا يحسنون التصرف فهو جناية عليهم أيضاً، لأن الإنسان مؤتمن في أموالهم فلا يصرفها إلا فيما ينفعهم، وإن كان لعقلاء بالغين راشدين فهو أيضاً سفه، لأن بذل الأموال فيما لا(17/411)
يقرب إلى الله أو لا ينتفع به المرء في دنياه من الأمور التي تعتبر سفهاً، ويعتبر بذل المال فيها إضاعة له، وقد نهى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن إضاعة المال. والله ولي التوفيق.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هناك عادة في بعض البلاد وهي أنه إذا مات الميت رفعوا أصواتهم بالقرآن ومن خلال المسجلات في بيت الميت فما حكم هذا العمل؟ وكذا ما يحصل من النياحة والبكاء على الميت؟
فأجاب فضيلته بقوله: الجواب أن نقول: إن هذا العمل بدعة بلا شك فإنه لم يكن في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا عهد أصحابه رضي الله عنهم والقرآن إنما تخفف به الأحزان إذا قرأه الإنسان بنفسه بينه وبين نفسه، لا إذا أعلن به على مكبرات الصوت التي يسمعها كل إنسان، حتى اللاهون في لهوهم، حتى الذين يستمعون المعازف وآلات اللهو تجده يسمع القرآن ويسمع هذه الا?لات، وكأنما يلغون في هذا القرآن ويستهزؤون به، ثم إن اجتماع أهل الميت لاستقبال المعزين هو أيضاً من الأمور التي لم تكن معروفة في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى إن بعض العلماء قال: إنه بدعة، ولهذا لا نرى أن أهل الميت يجتمعون لتلقي العزاء بل يغلقون أبوابهم، وإذا قابلهم أحد في السوق، أو جاء أحد من معارفهم بدون أن يعدوا لهذا اللقاء عدته، ودون أن يفتحوا الباب لكل أحد فإن هذا لا بأس به، وأما اجتماعهم وفتح الأبواب لاستقبال الناس فإن هذا شيء لم يكن معروفاً في عهد(17/412)
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى كان الصحابة رضي الله عنهم يعدون الاجتماع عند أهل الميت وصنع الطعام من النياحة، والنياحة كما هو معروف من كبائر الذنوب، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعن النائحة والمستمعة وقال: "النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب". نسأل الله العافية.
فنصيحتي لإخواني المسلمين أن يتركوا هذه الأمور المحدثة، فإن ذلك أولى بهم عند الله، وهو أولى بالنسبة للميت أيضاً، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبر: أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه، وبنياحة أهله عليه، ومعنى "يعذب" أي: يتألم من هذا البكاء وهذه النياحة، وإن كان لا يعاقب عقوبة الفاعل، لأن الله تعالى يقول: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَىْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُواْ الصلاةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ} ولا يلزم من العذاب أن يكون عقوبة ألا ترى إلى قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "السفر قطعة من العذاب" وليس السفر عقوبة بل إن الألم والهم وما أشبه ذلك يعد عذاباً، ومن كلمات الناس العابرة يقول: "عذبني ضميري" إذا اعتراه الهم والغم الشديد، والحاصل أنني أنصح إخواني عن مثل هذه العادات التي لا تزيدهم من الله إلا بعداً، ولا تزيد موتاهم إلا عذاباً.(17/413)
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: عن حكم لبس السود حداداً على الميت؟
فأجاب فضيلته بقوله: لبس السواد حداداً على الميت من البدع وإظهار الحزن، وهو شبيه بشق الجيوب ولطم الخدود الذي تبرأ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من فاعله حيث قال: "ليس منا من شق الجيوب، ولطم الخدود، ودعا بدعوى الجاهلية".
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم ما يسمى ب (الموالد النسائية) حيث إنه إذا مات الميت يجتمع النساء في بيت الميت وتكون هناك مقرئة تقرأ لهن بعض الآيات والأذكار ويكررن هذا العمل بعد مضي ثلاثة أيام على موت الميت، وكذلك بعد مرور سبعة أيام وأيضاً بعد شهر وهكذا حتى تنقضي عدة المرأة المتوفى عنها زوجها فهل هذا العمل جائز؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا العمل لا يجوز، وهو بدعة، والإنسان مأمور أن يسترجع عند المصيبة ويقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي، واخلف لي خيراً منها، ثم يتناسها.
وأما ما يفعل هؤلاء النساء مما ذكرت فهو أصلاً بدعة، ثم تجديده لكل ثلاثة أيام، أو كل أسبوع، أو كل شهر بدعة أخرى.(17/414)
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما المقصود "بدرع من جرب" في قوله عليه السلام: "النائحة إذا لم تتب تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب"، والحديث رواه مسلم من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه؟
فأجاب فضيلته بقوله: المراد بالدرع من الجرب، أي أن جلدها والعياذ بالله يكون فيه جرب يكسوه كالدرع، وذلك من أجل أن تتألم كثيراً بما يحصل لها من عذاب النار.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: عندنا في القرية عادة إذا مات عندهم أحد، تقوم النساء بشق الجيوب ولطم الخدود والنياحة، فيقوم بعض طلبة العلم بنصيحتهن ولكن دون فائدة، وعلاوة على ذلك فإنهن يتبعن الجنائز إلى المقبرة بحالتهن تلك. ويقمن بحثو التراث على رؤوسهن في الطريق، وكذلك الرجال إذا وصلت الجنازة إلى المقبرة ودفنوها، فإنهم يجلسون على القبر يبكون وينوحون، وبعد مضي أربعين يوماً يعملون عشاء للميت يدعون إليه كل من حولهم بدون استثناء وينتهي العزاء بأن تراق القهوة والشاي على الأرض، فما رأيكم في هذه العادة؟ وما الحكم فيمن يفعلها؟(17/415)
فأجاب فضيلته بقوله: هذه العادة منكرة وبدعة ضلالة. والواجب على المسلم عند المصيبة أن يرضى بقضاء الله سبحانه وتعالى وقدره، وأن يعلم أن هذه المصيبة لابد أن تقع مهما عمل؛ لأنها قد كتبت، وجفت الأقلام، وطويت الصحف، ومهما كان فلابد أن يقع ما قدر الله عز وجل، ويكون كما كان المسلمون يقولون: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
فإذا اطمأن الإنسان إلى هذا، وعلم أنه من الله عز وجل رضي وسلم كما قال علقمة رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ} قال: هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم.
فوظيفة الإنسان عند المصائب الصبر واحتساب الأجر حتى لا يحرم الثواب؛ فإن المصاب حقيقة من حرم الثواب، وإذا وقعت بك مصيبة فقل: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها، فإنك إذا قلت ذلك آجرك الله في مصيبتك وأخلف لك خيراً منها.
وهذا أمر قاله النبي عليه الصلاة والسلام وشهد به الواقع، فأم سلمة رضي الله عنها كانت تحت أبي سلمة، وكانت تحبه حبًّا شديداً، فلما توفي أبو سلمة رضي الله عنه قالت: اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها. وكانت تقول في نفسها: من خيرٌ من أبي سلمة، فلما انقضت عدتها تزوجها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكان رسول(17/416)
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خيراً لها من أبي سلمة.
وهذا أيضاً تشهد به وقائع كثيرة، فالإنسان إذا صبر واحتسب فإن الله سبحانه وتعالى يوفي الصابرين أجرهم بغير حساب، والجزع والحزن والنياح لا ترد المصيبة، بل توجب الوقوع في الإثم، فإن النياحة على الميت من كبائر الذنوب، فقد لعن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النائحة والمستمعة.
والنائحة هي التي تنوح على الميت، والمستمعة التي تستمع لها، وكذلك يجب على الرجال أولياء أمور هؤلاء النساء أن يمنعوهن من النياحة، وعلى ولاة الأمور في البلد أي ذوي السلطة يجب عليهم أن يمنعوا مثل هذا في المقابر وفي الأسواق. وأن يمنعوا النساء من اتباع الجنائز حتى يكون المجتمع مجتمعاً إسلاميًّا، عارفاً بالله سبحانه وتعالى، راضياً بقضاء الله وقدره.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: بعض الناس يقيمون الحداد على الميت لمدة أسبوع، يقرأون القرآن بحيث تقوم امرأة بالقراءة ويرددون خلفها، ويقسم أهل الميت التمر، وأحياناً يمتد ذلك لمدة شهر، فما حكم ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: الحداد على الميت معناه ترك المألوف مما يتجمل به الإنسان عادة، وتجتنب المرأة التحلي، وما أشبه(17/417)
ذلك، ما يقوم به الحزين عادة، وقد أباح النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحداد لمدة ثلاثة أيام إلا الزوجة، فإنها تحاد مدة العدة، أربعة أشهر وعشرة أيام إن لم تكن حاملاً، وإلى وضع الحمل إن كانت حاملاً.
وأما الاجتماع عند أهل الميت وقراءة القرآن، وتوزيع التمر واللحم فكله من البدع التي ينبغي للمرء تجنبها، فإنه ربما يحدث مع ذلك نياحة، وبكاء، وحزن، وتذكر للميت حتى تبقى المصيبة في قلوبهم لا تزول.
وأنا أنصح هؤلاء الذين يفعلون مثل هذا أنصحهم أن يتوبوا إلى الله عز وجل، وأن يسلكوا طريق السلف الصالح عند المصائب، فيقول الإنسان إذا أصيب بمصيبة: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي، واخلف لي خيراً منها، فإذا فعل ذلك آجره الله في مصيبته وأخلف له خيراً منها، وليتذكروا قصة أم سلمة رضي الله عنها حين مات عنها زوجها رضي الله عنه فقالت: "اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها" وكانت تقول في نفسها: مَن خير من أبي سلمة، فلما انقضت عدتها خطبها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتزوجها فكان خيراً لها من أبي سلمة.
والذي ينبغي للمصاب أن لا يجلس في انتظار من يأتون للعزاء، لأن ذلك ليس من هدي الصحابة رضي الله عنهم بل ينصرف إلى عمله، أو إلى دراسته، أو إلى تجارته، أو إلى صناعته، أو إلى أي عمل يكابده في هذه الدنيا حتى ينسى المصيبة، وحق(17/418)
الميت علينا أن ندعو له بالمغفرة والرحمة.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم الحزن على الميت؟ وهل يعارض الرضا بالقضاء والقدر؟
فأجاب فضيلته بقوله: الحزن على الفائت من طبيعة الإنسان، ولا يؤاخذ الإنسان به، وقد ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال حين مات ابنه إبراهيم: "العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون"، ولكن إن اقترن بالحزن شيء من المحرم؛ كلطم الخدود، وشق الجيوب، ونتف الشعور صار من هذه الناحية حراماً؛ لأنه اقترن بفعل محرم.
أما مجرد الحزن الذي لا يصحبه شيء فقد حصل من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: "لا نقول إلا ما يرضي الرب" فلا نقول يا ويلاه، واثبوراه.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: بعض الناس إذا مات لهم ميت وجاء العيد بعد ذلك فإنهم لا يقدمون لمن يزورهم حق الضيافة بل يعتادون نوعاً من الأكل كالتمر فقط إظهاراً لحزن أهل الميت عليه ما حكم ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: السؤال غير واضح، أما إذا كان يوم العيد لا يقدمون الضيافة المشروعة، وإنما يقدمون نوعاً من الطعام(17/419)
إظهاراً للحزن على الميت فإن هذا لا يجوز؛ لأن هذا يشبه شق الجيوب، ولطم الخدود، ونتف الشعر عند المصيبة. والواجب على الإنسان أن يرضى بالله عز وجل، وبما قدر عليه، ويصبر ويحتسب، ولا يجوز أن يعتاد هذا العمل الذي ذكر في السؤال.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: امرأة تقول: توفيت لي بنت تبلغ من العمر عشر سنوات تقريباً، وحزنت عليها حزناً شديداً وأخذت من ملابسها ثوباً واحداً واحتفظت به حتى إذا جاء موتي يوضع على رأسي، وجمعت من الشعر الذي يأتي بعد التمشيط من شعرها وشعر رأسي ومن شعر رؤوس جميع الأسرة، ووضعته في منديل وقلت يوضع تحت رأسي عند موتي. فهل في ذلك شيء من وضع الثوب على رأسي ومن تجميع الشعور ووضعها معي في قبري؟ أفيدونا جزاكم الله خيراً.
فأجاب فضيلته بقوله: كل هذه الأعمال التي ذكرتها السائلة بدعة، وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كل بدعة ضلالة"، وهذا الثوب الذي احتفظت به إن كان يمكن الانتفاع به، أو التصدق به فإنه ينتفع به ويتصدق به، وإن كان لا يمكن الانتفاع به فإنه يحرق، أو يلقى في القمامة، وكذلك ما حفظته من الشعور من هذه البنت ومن غيرها من الأهل فإنها تدفن في مكان، أو تلقى، والمهم أن هذا العمل وهو(17/420)
جعلها معها في القبر عمل خاطىء، بدعي لا أصل له في الشرع، فعليك أن تتجنبي ذلك كله. والله الموفق.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: عمي قتل في المعركة وقد بلغ بنا الحزن عليه أن قررنا زيارة قبره كل خميس وجمعة ولبسنا السواد مدة خمسة وثلاثين يوماً وقد رفع أهله قبره عن الأرض فما الحكم في هذه الأعمال هل هي صحيحة أم مخالفة لكتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذه الأعمال غير صحيحة، والواجب على المرء إذا أصابته مصيبة أن يتلقاها بالصبر والاحتساب، لأن الحزن لا يرد شيئاً من المقدور، وقد قال الله تعالى في القرآن: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَْمَوَالِ وَالأَْنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُو?اْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعونَ} .
وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لإحدى بناته وقد مات لها طفل، قال للرسول الذي أرسلته إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مرها فلتصبر ولتحتسب، فإن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى"، فالواجب عليكم أيها المصابون بفقد حبيبكم الصبر والاحتساب، والدعاء له بالمغفرة والرحمة، حيث إنه مسلم، وعلى هذا فإن زيارتكم لقبره،(17/421)
أو تكرير هذه الزيارة لقبره كل خميس وجمعة ليس بمشروع ولا ينبغي، وكذلك لبسكم السواد فإنه من البدع وإظهار الحزن، وهو شبيه بشق الجيوب ولطم الخدود الذي تبرأ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من فاعله حيث قال: "ليس منا من شق الجيوب، ولطم الخدود، ودعا بدعوى الجاهلية".
أما رفع القبر فإنه أيضاً خلاف السنة، ويجب أن يسوى بالقبور التي حوله إذا كان حوله قبور، أو ينزل حتى يكون كالقبور المعتادة؛ لأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال لأبي الهياج الأسدي: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ألا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته".
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: في قول الرسول عليه الصلاة والسلام في ما يرويه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن الروح والنفس بمعنى واحد، والحديث قوله عليه الصلاة والسلام: "ألم تروا أن الإنسان إذا مات شخص بصره"؟ قالوا: بلى، قال: "فذلك حيث يتبع بصره نفسه"، والحديث الثاني حديث أم سلمة رضي الله عنها: "إن الروح إذا قبض تبعه البصر" رواه مسلم أيضاً،(17/422)
هل الروح هي النفس؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم الروح هي النفس التي تقبض كما قال الله تعالى: {اللهُ يَتَوَفَّى الأَْنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا وَالَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِى قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الاُْخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ فِى ذَلِكَ لأََيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} الا?ية.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: يموت أحياناً من فيه شر فيأخذ الناس في بيان ما فيه من الشر بالرغم من ورود الحديث في صحيح البخاري: "لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدَّموا"، هل هم وقعوا في محذور؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم، إذا كان الغرض من ذلك السب والشماتة بالميت فهذا لا يجوز، وإذا كان الغرض منه التحذير من صنيعه وطريقه الذي يمشي عليها، فإن هذا لا بأس به؛ لأنه يقصد به المصلحة.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: قال عليه الصلاة والسلام في ما يرويه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "إذا خرجت روح المسلم تلقاها ملكان يصعدانها" قال حماد فذكر من طيب ريحها، وذكر المسك، قال: "ويقول أهل السماء: روح طيبة جاءت من قبل الأرض(17/423)
صلى الله عليك وعلى جسد كنت تعمرينه، فينطلق به إلى ربه، ثم يقول الله: انطلقوا به إلى آخر الأجل، وكذلك الكافر، يقال: انطلقوا به إلى آخر الأجل"؟ ما المقصود بآخر الأجل؟
فأجاب فضيلته بقوله: المقصود بذلك قيام الساعة.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل يجوز النظر إلى شريط الفيديو الذي يصور طريقة تغسيل وتكفين ودفن الميت بقصد الاتعاظ وإحياء الغفلة؟ ويصاحب هذه الصورة إرجوزة مطلعها: ليس الغريب غريب الشام واليمن ... إلخ؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا شك أن إحياء القلوب بالمواعظ من الأمور المطلوبة، ولكن المواعظ بالأمور المحرمة لا تفيد، ولا يمكن الإصلاح بالأمر المحرم.
وإنما تكون المواعظ من كتاب الله عز وجل، وبما صح عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي ذلك خير وكفاية لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مَّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٌ لِّمَا فِى الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} . فمواعظ القرآن كافية لكل ذي قلب، كما قال سبحانه وتعالى في سورة (ق) لما ذكر المواعظ العظيمة من ابتداء(17/424)
خلق الإنسان إلى انتهاء جزائه بالثواب أو العقاب قال تعالى: {إِنَّ فِى ذَالِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} . أما ما ذكره السائل عن ظهور الميت والغاسل يغسله وترنم من حوله بهذه الأبيات السالفة الذكر:
ليس الغريب غريب الشام واليمن إن الغريب غريب اللحد والكفن فهذا أمر لا يصح أن يكون طريقاً للموعظة، وعلى هذا فليتجنب، وليأت ببدله بما هو من كتاب الله جل وعلا، وما صح عن رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ففيهما الشفاء والنور. والله الموفق.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: فكرت طويلاً في حفر قبر لي ولكني متردد خشية أن أحرم من يحضر موتي من أجر الحفر أرجو الإفادة؟
فأجاب فضيلته بقوله: المقبرة إن كانت مسبلة فإنه يحرم عليه أن يحفر له قبراً فيها، وذلك لأنه يتحجر مكاناً السابق إليه أولى به من غيره، والأماكن العامة لا يجوز لأحد أن يختص فيها مكاناً، بل هي لمن سبق، وقد روي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قيل له: ألا نبني لك بيتاً يعني خيمة في منى، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "منى مناخ من سبق".
وعلى هذا فلا يجوز لأحد أن يحفر له قبراً في مقبرة مسبلة،(17/425)
وهذا هو الغالب عندنا في بلادنا.
أما لو كانت المقبرة ملكاً خاصاً له كما يوجد في بعض البلاد الإسلامية يشتري أرضاً يدفن فيها من يموت من أقاربه فإن له أن يحفر ذلك قبل موته.
وأقول: إن هذا ليس أمراً مشروعاً وإن كان جائزاً، ولا أعلم فيه سنة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا عن أحد من أصحابه رضوان الله عليهم ثم إنه من الجهل فإن الإنسان لا يدري بأي أرض يموت، كما قال تعالى: {وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلَيمٌ خَبِيرٌ} . فإنه قد يحفر هذا القبر ويموت في أرض أخرى. والله الموفق.
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: عندما يموت الشخص ويوضع في قبره هل يعلم أنه انتقل إلى الدار الا?خرة، وهل يذكر أهله وأولاده؟
فأجاب فضيلته بقوله: أما كونه يشعر إذا انتقل إلى الدار الا?خرة فإنه يشعر من حين يأتيه ملك الموت ليقبض روحه، ويعلم أن روحه خرجت من جسده بنظره إليها. فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبر أن الروح إذا قبضت تبعها البصر ولهذا يشخص بصر الميت. دخل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أبي سلمة رضي الله عنه وقد شخص بصره يعني انفتح فأغمضه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: "إن الروح إذا قبض تبعه البصر" ثم قال: "اللهم اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين،(17/426)
وافسح له في قبره، ونور له فيه، واخلفه في عقبه".
دعا له بخمس دعوات عظيمة. اللهم اغفر له، وارفع درجته في المهديين، وافسح له في قبره، ونور له فيه، واخلفه في عقبه. وما كان في الدنيا فقد أدرك فإن الله تعالى خلفه في عقبه بأن تزوجت أم سلمة رضي الله عنها بعد انقضاء عدتها من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم صار أولاد أبي سلمة في حجر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فخلفه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عقبه استجابة لدعوة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وخلاصة القول: إن الميت يدري أنه مات، وأنه انتقل إلى الدار الا?خرة.
أما كونه يدري إذا وضع في قبره وما أشبه ذلك فهذا لم يثبت به سنة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو من أمور الغيب التي لا يجوز الجزم بها إلا بنص من الكتاب والسنة الصحيحة.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما هو القرين؟ وهل يرافق الميت في قبره؟
فأجاب فضيلته بقوله: القرين هو الشيطان مسلط على الإنسان بإذن الله عز وجل، يأمره بالفحشاء وينهاه عن المعروف، كما قال عز وجل: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَآءِ وَاللهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} .
ولكن إذا منّ الله سبحانه وتعالى على العبد بقلب سليم،(17/427)
صادق متجه إلى الله عز وجل، مريد للا?خرة، مؤثر الله على الدنيا فإن الله تعالى يعينه على هذا القرين حتى يعجز عن إغوائه.
ولذلك ينبغي للإنسان كلما نزغه من الشيطان نزع أن يستعذ بالله من الشيطان الرجيم، كما أمر الله، حيث قال تعالى: {وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} . والمراد بنزغ الشيطان أن يأمرك بترك الطاعة، ويأمرك بفعل المعصية.
فإذا أحسست من نفسك الميل إلى ترك الطاعة، فذلك من الشيطان، أو الميل إلى فعل المعصية فهذا من الشيطان، فبادر بالاستعاذة بالله منه يعيذك الله عز وجل منه، وأما كون هذا القرين يمتد بأن يكون مع الإنسان في قبره، فلا، فالظاهر والله أعلم بمجرد أن يموت الإنسان يفارقه؛ لأن مهمته التي كان مسخراً لها قد انتهت: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له".
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: قال أحد أئمة المساجد: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبر أن مدة بقاء الميت المؤمن في قبره يجعلها الله له كصلاة العصر أو الظهر فهل هذا صحيح؟
فأجاب فضيلته بقوله: اعلم أن الزمن بالنسبة للميت(17/428)
يذهب سريعاً كأنه ليس بشيء، أمات الله رجلاً مائة عام فلما بعثه قال: {قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَءَايَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وهي مائة سنة. كذلك أهل الكهف لبثوا في كهفهم ثلاث مئة سنين وازدادوا تسعاً، وهو نوم، والنوم ليس كالموت، الموت أسرع في ذهاب الوقت، وهؤلاء الأموات الذين ماتوا لهم منذ سنين طويلة تجدهم كأنهم ما مرت عليهم دهور طويلة، كأنهم الا?ن ماتوا قال الله تعالى: {فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَآ * إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا * كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُو?اْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} .
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: "يتبع الميت ثلاثة: فيرجع اثنان ويبقى واحد، يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله ويبقى عمله" كيف أن ماله يتبعه؟
فأجاب فضيلته بقوله: قال أهل العلم رحمهم الله تعالى: هذا في الميت الذي له أرقاء يتبعونه، والأرقاء أمواله يباعون ويشترون.
وقال بعض العلماء: المراد بماله هو ما يكرم من أجله، يعني أن الناس غير أقاربه وغير أهله يخرجون معه من أجل ماله إذا كان(17/429)
تاجراً فعبر بالمال عن التابعين من أجل المال، ولهذا نجد الفقير إذا صلي عليه في المسجد لا يتبعه إلا الذين يحملون النعش فقط، أربعة، أو خمسة، أو ستة، لكن إذا كان غنيًّا ملأوا المسجد إلا ما شاءالله، فهذا تبع المال.
وربما يقال: المال ما يغطى به من أكسية أو نحوها يرجع فيكون هذا هو المراد بالمال لكن هذا ضعيف. فالمعنى إما أن يقال: إن المراد بالمال العبيد الأرقاء، أو يراد بالمال ما يكرم به من أجله، وهو كثرة الناس الذين ليسوا من أهل الميت. والله أعلم.
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل الميت يسمع السلام والكلام ويشعر بما يفعل لديه؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذه مسألة اختلف فيها أهل العلم والسنة قد بينت فيها بعض الأشياء، فقد صح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أن العبد إذا وضع في قبره وانصرف الناس عنه فإنه يسمع قرع نعالهم"، وأخبر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه ما من مسلم يمر بقبر مسلم فيسلم عليه، وهو يعرفه في الدنيا، إلا رد الله عليه روحه، فرد عليه السلام. وهذا الحديث صححه ابن عبد البر رحمه الله وذكره ابن القيم رحمه الله في كتاب (الروح) ولم يتعقبه، وربما يؤيد هذا أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان إذا خرج إلى المقابر قال: "السلام عليكم دار(17/430)
قوم مؤمنين".
وعلى كل تقدير مهما قلنا بأن الميت يسمع فإن الميت لا ينفع غيره ولو سمعه، يعني أنه لا يمكن أن ينفعك الميت إذا دعوت الله عند قبره كما أنه لا ينفعك إذا دعوته نفسه، ودعاؤك الله عند قبره، معتقداً لذلك مزية وبدعة من البدع، ودعاؤك إياه شرك أكبر مخرج من الملة.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل عذاب القبر على البدن أو على الروح؟
فأجاب فضيلته بقوله: الأصل أنه على الروح لأن الحكم بعد الموت للروح، والبدن جثة هامدة، ولهذا لا يحتاج البدن إلى إمداد لبقائه، فلا يأكل ولا يشرب، بل تأكله الهوام، فالأصل أنه على الروح، لكن قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن الروح قد تتصل بالبدن فيعذب أو ينعم معها، وإن لأهل السنة قولاً آخر بأن العذاب أو النعيم يكون للبدن دون الروح، واعتمدوا في ذلك على أن هذا قد رُئي حسًّا في القبر فقد فتحت بعض القبور ورُئي أثر العذاب على الجسم، وفتحت بعض القبور ورئي أثر النعيم على الجسم.
وقد حدثني بعض الناس أنهم في هذا البلد هنا في (عنيزة) كانوا يحفرون لسور البلد الخارجي، فمروا على قبر فانفتح اللحد فوجد فيه ميت قد أكلت كفنُه الأرض وبقي جسمه يابساً لكن لم تأكل منه شيئاً، حتى إنهم قالوا: إنهم رأوا لحيته وفيها الحنا وفاح عليهم(17/431)
رائحة كأطيب ما يكون من المسك، فتوقفوا وذهبوا إلى الشيخ وسألوه فقال دعوه على ما هو عليه واجنبوا عنه، احفروا من يمين أو من يسار.
فبناء على ذلك قال العلماء إن الروح قد تتصل بالبدن فيكون العذاب على هذا وهذا، وربما يستأنس لذلك بالحديث الذي قال فيه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن القبر ليضيق على الكافر حتى تختلف أضلاعه"، فهذا يدل على أن العذاب يكون على الجسم لأن الأضلاع في الجسم، والله أعلم.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما المراد بالقبر هل هو مدفن الميت أو البرزخ؟
فأجاب فضيلته بقوله: أصل القبر مدفن الميت، قال الله تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} ، قال ابن عباس: أي أكرمه بدفنه. وقد يراد به البرزخ الذي بين موت الإنسان وقيام الساعة وإن لم يدفن كما قال تعالى: {وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} ، يعني من وراء الذين ماتوا؛ لأن أول الا?ية يدل على هذا {حَتَّى إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّى? أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَقَآئِلُهَا وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} .(17/432)
ولكن هل الداعي إذا دعا "أعوذ بالله من عذاب القبر" يريد من عذاب مدفن الموتى، أو من عذاب البرزخ الذي بين موته وبين قيام الساعة؟
الجواب: يريد الثاني؛ لأن الإنسان في الحقيقة لا يدري هل يموت ويدفن، أو يموت وتأكله السباع، أو يحترق ويكون رماداً ما يدري {وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلَيمٌ خَبِيرٌ} فاستحضر أنك إذا قلت من عذاب القبر أي من العذاب الذي يكون للإنسان بعد موته إلى قيام الساعة.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل عذاب القبر ثابت؟
فأجاب فضيلته بقوله: عذاب القبر ثابت بصريح السنة وظاهر القرآن وإجماع المسلمين هذه ثلاثة أدلة:
أما صريح السنة فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: "تعوذوا بالله من عذاب القبر، تعوذوا بالله من عذاب القبر، تعوذوا بالله من عذاب القبر".
وأما إجماع المسلمين فلأن المسلمين يقولون في صلاتهم: "أعوذ بالله من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر" حتى العامة الذين ليسوا من أهل الإجماع ولا من العلماء.(17/433)
وأما ظاهر القرآن فمثل قوله تعالى في آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُو?اْءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} . ولا شك أن عرضهم على النار ليس من أجل أن يتفرجوا عليها، بل من أجل أن يصيبهم من عذابها، وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى? إِذِ الظَّالِمُونَ فِى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو?اْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُو?اْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْءَايَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} الله أكبر إنهم لشحيحون بأنفسهم لا يريدون أن تخرج {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْءَايَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} . فقال: {اليوم} و"ال" هنا للعهد الحضوري اليوم يعني اليوم الحاضر الذي هو يوم وفاتهم {تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْءَايَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} .
إذن فعذاب القبر ثابت بصريح السنة، وظاهر القرآن، وإجماع المسلمين، وهذا الظاهر من القرآن يكاد يكون كالصريح لأن الا?يتين اللتين ذكرناهما كالصريح في ذلك.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل عذاب القبر يشمل المؤمن العاصي أو هو خاص بالكفار؟
فأجاب فضيلته بقوله: عذاب القبر المستمر يكون للمنافق والكافر. وأما المؤمن العاصي فإنه قد يعذب في قبره لأنه ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مر(17/434)
بقبرين فقال: "إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير؛ أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الا?خر فكان يمشي بالنميمة". وهذا معروف أنهما كانا مسلمين.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: إذا لم يدفن الميت فأكلته السباع أو ذرته الرياح فهل يعذب عذاب القبر؟
فأجاب فضيلة بقوله: نعم، ويكون العذاب على الروح، لأن الجسد قد زال وتلف وفني، وإن كان هذا أمراً غيبيًّا لا أستطيع أن أجزم بأن البدن لا يناله من هذا العذاب ولو كان قد فني واحترق؛ لأن الأمر الأخروي لا يستطيع الإنسان أن يقيسه على المشاهد في الدنيا.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: كيف نجيب من ينكر عذاب القبر ويحتج بأنه لو كشف القبر لوجده لم يتغير ولم يضق ولم يتسع؟
فأجاب فضيلته بقوله: يجاب من أنكر عذاب القبر بحجة أنه لو كشف القبر لوجد أنه لم يتغير بعدة أجوبة منها:
أولاً: أن عذاب القبر ثابت بالشرع، قال الله تعالى في آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُو?اْءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} ، وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فلولا أن تدافنوا(17/435)
لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع" ثم أقبل بوجهه فقال: "تعوذوا بالله من عذاب النار"، قالوا: نعوذ بالله من عذاب النار، فقال: "تعوذوا من عذاب القبر"، قالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر". وقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المؤمن: "يفسح له في قبره مد بصره" إلى غير ذلك من النصوص فلا يجوز معارضة هذه النصوص بوهم من القول بل الواجب التصديق والإذعان.
ثانياً: أن عذاب القبر على الروح في الأصل، وليس أمراً محسوساً على البدن، فلو كان أمراً محسوساً على البدن لم يكن من الإيمان بالغيب ولم يكن للإيمان به فائدة لكنه من أمور الغيب، وأحوال البرزخ لا تقاس بأحوال الدنيا.
ثالثاً: أن العذاب والنعيم وسعة القبر وضيقه، إنما يدركه الميت دون غيره، والإنسان قد يرى في المنام وهو نائم على فراشه أنه قائم وذاهب وراجع، وضارب ومضروب، ويرى أنه في مكان ضيق موحش، أو في مكان واسع بهيج، والذي حوله لا يرى ذلك ولا يشعر به.
والواجب على الإنسان في مثل هذه الأمور أن يقول: سمعنا وأطعنا، وآمنا وصدقنا.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل عذاب القبر دائم أو منقطع؟(17/436)
فأجاب فضيلته بقوله: أما إن كان الإنسان كافراً والعياذ بالله فإنه لا طريق إلى وصول النعيم إليه أبداً ويكون عذابه مستمرًّا.
وأما إن كان عاصياً وهو مؤمن، فإنه إذا عذب في قبره يعذب بقدر ذنوبه وربما يكون عذاب ذنوبه أقل من البرزخ الذي بين موته وقيام الساعة وحينئذ يكون منقطعاً.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل يخفف عذاب القبر عن المؤمن العاصي؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم، قد يخفف، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرَّ بقبرين فقال: "إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير بلى إنه كبير؛ أما أحدهما فكان لا يستبرىء" أو قال: "لا يستتر من البول، وأما الا?خر فكان يمشي بالنميمة" ثم أخذ جريدة رطبة فشقها نصفين فغرز في كل قبر واحدة، وقال: "لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا". وهذا دليل على أنه قد يخفف العذاب، ولكن ما مناسبة هاتين الجريدتين لتخفيف العذاب عن هذين المعذبين؟
1 قيل: لأنهما أي الجريدتين تسبحان ما لم ييبسا، والتسبيح يخفف من العذاب على الميت، وقد فرّعوا على هذه العلة المستنبطة التي قد تكون مستبعدة أنه يسن للإنسان أن يذهب إلى القبور ويسبح عندها من أجل أن يخفف عنها.
2 وقال بعض العلماء: هذا التعليل ضعيف؛ لأن الجريدتين تسبحان سواء كانتا رطبتين أم يابستين، لقوله تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ(17/437)
السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَْرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَاكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَْرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَاكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} ، وقد سُمع تسبيح الحصى بين يدي الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مع أن الحصى يابس، إذن ما العلة؟
العلة: أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ترجى من الله عز وجل أن يخفف عنهما من العذاب مادامت هاتان الجريدتان رطبتين، يعني أن المدة ليست طويلة وذلك من أجل التحذير من فعلهما، لأن فعلهما كبير كما جاء في الرواية "بلى إنه كبير" أحدهما لا يستبرىء من البول، وإذا لم يستبرىء من البول صلى بغير طهارة، والا?خر يمشي بالنميمة يفسد بين عباد الله والعياذ بالله ويلقي بينهم العداوة، والبغضاء، فالأمر كبير، وهذا هو الأقرب أنها شفاعة مؤقتة تحذيراً للأمة لا بخلاً من الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالشفاعة الدائمة.
ونقول استطراداً: إن بعض العلماء عفا الله عنهم قالوا: يسن أن يضع الإنسان جريدة رطبة، أو شجرة، أو نحوها على القبر ليخفف عنه، لكن هذا الاستنباط بعيد جدًّا ولا يجوز أن نصنع ذلك لأمور:
أولاً: أننا لم يكشف لنا أن هذا الرجل يعذب بخلاف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثانياً: أننا إذا فعلنا ذلك فقد أسأنا إلى الميت، لأننا ظننا به ظن سوء أنه يعذب وما يدرينا فلعله ينعم، لعل هذا الميت ممن منَّ الله عليه بالمغفرة قبل موته لوجود سبب من أسباب المغفرة الكثيرة فمات وقد عفا رب العباد عنه، وحينئذ لا يستحق عذاباً.(17/438)
ثالثاً: أن هذا الاستنباط مخالف لما كان عليه السلف الصالح الذين هم أعلم الناس بشريعة الله فما فعل هذا أحد من الصحابة رضي الله عنهم فما بالنا نحن نفعله.
رابعاً: أن الله تعالى قد فتح لنا ما هو خير منه، فكان النبي عليه الصلاة والسلام إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: "استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الا?ن يسأل".
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل عذاب القبر من أمور الغيب أو من أمور الشهادة؟
فأجاب فضيلته بقوله: عذاب القبر من أمور الغيب، وكم من إنسان في هذه المقابر يعذب ونحن لا نشعر به، وكم جار له منعم مفتوح له باب إلى الجنة ونحن لا نشعر به، فما تحت القبور لا يعلمه إلا علام الغيوب، فشأن عذاب القبر من أمور الغيب، ولولا الوحي الذي جاء به النبي عليه الصلاة والسلام، ما علمنا عنه شيئاً، ولهذا لما دخلت امرأة يهودية إلى عائشة وأخبرتها أن الميت يُعذَّب في قبره فزعت حتى جاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأخبرته وأقر ذلك عليه الصلاة والسلام، ولكن قد يطلع الله تعالى عليه من شاء من عباده، مثل ما أطلع نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، على الرجلين اللذين يعذبان، أحدهما يمشي بالنميمة، والا?خر لا يستنزه من البول.
*(17/439)
والحكمة من جعله من أمور الغيب هو:
أولاً: أن الله سبحانه وتعالى أرحم الراحمين فلو كنا نطلع على عذاب القبور لتنكد عيشنا، لأن الإنسان إذا اطلع على أن أباه أو أخاه، أو ابنه، أو زوجه، أو قريبه يعذب في القبر ولا يستطيع فكاكه، فإنه يقلق ولا يستريح وهذه من نعمة الله سبحانه.
ثانياً: أنه فضيحة للميت، فلو كان هذا الميت قد ستر الله عليه ولم نعلم عن ذنوبه بينه وبين ربه عز وجل ثم مات وأطلعنا الله على عذابه، صار في ذلك فضيحة عظيمة له ففي ستره رحمة من الله بالميت.
ثالثاً: أنه قد يصعب على الإنسان دفن الميت كما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام: "لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر". ففيه أن الدفن ربما يصعب ويشق ولا ينقاد الناس لذلك، وإن كان من يستحق عذاب القبر عذب ولو على سطح الأرض، لكن قد يتوهم الناس أن العذاب لا يكون إلا في حال الدفن فلا يدفن بعضهم بعضاً.
رابعاً: أنه لو كان ظاهراً لم يكن للإيمان به مزية؛ لأنه يكون مشاهداً لا يمكن إنكاره، ثم إنه قد يحمل الناس على أن يؤمنوا كلهم لقوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُو?اْءَامَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} فإذا رأى الناس هؤلاء المدفونين وسمعوهم يتصارخون لا?منوا وما كفر أحد لأنه أيقن بالعذاب، ورآه رأي العين(17/440)
فكأنه نزل به، وحكم الله سبحانه وتعالى عظيمة، والإنسان المؤمن حقيقة هو الذي يجزم بخبر الله أكثر مما يجزم بما شاهده بعينه؛ لأن خبر الله عز وجل لا يتطرق إليه احتمال الوهم ولا الكذب، وما تراه بعينك يمكن أن تتوهم فيه، فكم من إنسان شهد أنه رأى الهلال، وإذا هي نجمة، وكم من إنسان شهد أنه رأى الهلال وإذا هي شعرة بيضاء على حاجبه وهذا وهم، وكم من إنسان يرى شبحاً، ويقول: هذا إنسان مقبل وإذا هو جذع نخلة، وكم من إنسان يرى الساكن متحركاً والمتحرك ساكناً، لكن خبر الله لا يتطرق إليه الاحتمال أبداً.
نسأل الله لنا ولكم الثبات، فخبر الله بهذه الأمور أقوى من المشاهدة، مع ما في الستر من المصالح العظيمة للخلق.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل سؤال الميت في قبره حقيقي وأنه يجلس في قبره ويُناقش؟
فأجاب فضيلته بقوله: سؤال الميت في قبره حقيقي بلا شك والإنسان في قبره يجلس ويناقش ويُسأل.
فإن قال قائل: إن القبر ضيق فكيف يجلس؟!
فالجواب:
أولاً: أن الواجب على المؤمن في الأمور الغيبية أن يقبل ويصدق، ولا يسأل كيف؟ ولم؟ لأنه لا يسأل عن كيف ولم إلا من شك، وأما من آمن وانشرح صدره لأخبار الله تعالى ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيسلم ويقول الله أعلم في كيفية ذلك.(17/441)
ثانياً: أن تعلّق الروح بالبدن في الموت ليس كتعلقها به في حال اليقظة، فللروح مع البدن شئون عظيمة لا يدركها الإنسان، وتعلقها بالبدن بعد الموت لا يمكن أن يقاس بتعلقها به في حال الحياة، وها هو الإنسان في منامه يرى أنه ذهب، وجاء، وسافر، وكلم أناساً، والتقى بأناس أحياء وأموات، ويرى أن له بستاناً جميلاً، أو داراً موحشة مظلمة، ويرى أنه راكب على سيارة مريحة، ويرى مرة أنه راكب على سيارة مقلقة كل هذا يمكن مع أن الإنسان على فراشه ما تغير حتى الغطاء الذي عليه لم يتغير ومع ذلك فإننا نحس بهذا إحساساً ظاهراً، فتعلق الروح بالبدن بعد الموت يخالف تعلقها به في اليقظة أو في المنام ولها شأن آخر لا ندركه نحن، فالإنسان يمكن أن يجلس في قبره ويسأل ولو كان القبر محدوداً ضيقاً.
هكذا صح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمنه البلاغ، وعلينا التصديق والإذعان قال الله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى? أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} .
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: كلنا يعرف مصير المشركين في الآخرة لكن ما مصير أطفالهم الصغار إذا ماتوا وهم لم يدركوا بعد؟ وهل يُغسَّلون ويكفَّنون ويصلى عليهم؟(17/442)
فأجاب فضيلته بقوله: إذا مات أطفال الكفار وهم لم يبلغوا سن التميز وكان أبواهم كافرين فإن حكمهم حكم الكفار في الدنيا أي لا يغسلون، ولا يكفنون، ولا يصلى عليهم، ولا يدفنون مع المسلمين؛ لأنهم كفار بوالديهم. هذا في الدنيا، أما في الا?خرة فالله أعلم بما كانوا عاملين، وأصح الأقوال فيهم أن الله سبحانه وتعالى يختبرهم يوم القيامة بما يشاء من تكليف، فإن امتثلوا أدخلهم الله الجنة، وإن أبوا أدخلهم النار، وهكذا نقول في أهل الفترة، ومن لم تبلغهم الرسالات فالله أعلم بما كانوا عاملين، يختبرون ويكلفون بما يشاء الله عز وجل، وما تقتضيه حكمته، فإن أطاعوا دخلوا الجنة، وإن عصوا دخلوا النار.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل صحيح أنه إذا أدخل المؤمن القبر تأتيه حورية ينقطع عقدها فينظم هذا العقد حتى تقوم الساعة؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا ليس بصحيح، الصحيح أن الإنسان إذا أدخل في قبره وسأله الملكان، وأجاب بالصواب، فسح له في قبره مد البصر، وأتاه من روح الجنة ونعيمها، ويأتيه عمله الصالح في أحسن صورة ويبقى عنده.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: بعض من يموت لهم ميت يحرصون أن يدفنوه بجانب طفل ويتفاءلون بذلك وأن له مزية ما حكم هذا الشيء؟(17/443)
فأجاب فضيلته بقوله: هذا الشيء لا أصل له، والإنسان في قبره يعذب، أو ينعم بحسب عمله، لا بحسب من كان جاراً له، فلذلك لا أصل لهذه المسألة إطلاقاً، فالإنسان في الحقيقة في قبره يعذب، أو ينعم بحسب أعماله، سواء كان جاره من أهل الخير، أو من غير أهل الخير.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما حكم إلقاء الموعظة في العزاء لتذكير الناس؟ أو إلقاء موعظة عند الدفن في المقبرة؟
فأجاب فضيلته بقوله: سبق بيان أن الاجتماع في العزاء ليس له أصل عند السلف الصالح، وأصله غير مشروع وبناء على ذلك فإذا كان غير مشروع، فلا اجتماع ولا خطبة.
أما الخطبة عند الدفن في المقبرة، فلم يرد عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قام خطيباً يخطب الناس، إنما ورد أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انتهى إلى المقبرة، والقبر لم يلحد بعد، فجلس وحوله أصحابه فجعل يحدثهم عن الإنسان حين احتضاره، وبعد دفنه، وكذلك كان قائماً على قبر إحدى بناته وهي تدفن فحدثهم، عليه الصلاة والسلام ولكن ليس بحديث قام فيه خطيباً، أو واعظاً.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: بعض العوام إذا حضر إلى المقبرة اتخذها موطناً للقيل والقال في(17/444)
أمور الدنيا فما نصيحتكم لمن زار المقبرة وذهب تبعاً للجنازة وبماذا يشتغل؟
فأجاب فضيلته بقوله: نصيحتنا لمن زار المقبرة أن يدعو بما جاء في السنة: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاءالله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم"، ولا ينبغي لمن زارها أن يتحدث بشيء من أمور الدنيا أو شيء يوجب الضحك والقهقهة، وما أشبه ذلك؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "زوروا القبور فإنها تذكر بالا?خرة"، فالسنة في زيارة القبور أن يكون متذكراً، خاشعاً متخشعاً، متذكراً مآله، وأنه سوف يؤول إلى ما آل إليه هؤلاء. والله المستعان.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: بعض العوام في القرى يتخذ مقبرة خاصة لنسائه وإخوانه وأبنائه ولنفسه وغير عامة للمسلمين ما حكم ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: ليس في هذا بأس، ولكن قد يخشى أن كل طائفة من الناس الذين اتخذوا هذه المقابر تشيد مقبرة، ويحصل في هذا تفاخر، فالذي ينبغي لولاة الأمور أن يمنعوا مثل هذا، وأن يجعلوا المقبرة عامة لجميع المسلمين، كما كانت المقبرة مقبرة أهل المدينة البقيع عامة لجميع المسلمين، يدفن هذا الرجل،(17/445)
ويدفن إلى جنبه من هو أكبر منه وأعظم قدراً، وهذا هو السنة المتبعة في مقابر المسلمين.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: بعض الناس إذا مات لهم ميت خارج المدينة النبوية أو بداخلها يحرصون على دفنه بالبقيع ويحرصون على أن يكون ميتهم بمقدمة المقبرة ولعلهم يعتقدون أن المقدمة أفضل من المؤخرة ما حكم ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان الميت قريباً من المدينة فإحضاره للبقيع طيب وحسن، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد"، أما إذا كان بعيداً فلا.
أما اختيارهم بأن يكون في مقدمة المقبرة ظنًّا منهم أنه أفضل، فهذا لا أصل له، فالمقبرة سواء أولها وآخرها.
* * *(17/446)
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
يوجد في بعض المناطق ظاهرة منتشرة وهي: أنه بعد موت الميت ودفنه يقوم أحد الحاضرين عند القبر ويطلب من الناس الجلوس على الركب فيلقي كلمة يحث فيها الناس على الالتزام بالدين، وبعد ذلك يدعو للميت بصوت مرتفع فيؤمن الحاضرون على دعائه فما حكم هذا العمل أثابك الله؟
فأجاب فضيلته بقوله: بسم الله الرحمن الرحيم، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
إن طلب أحد الحاضرين من مشيعي الجنازة أن يجثوا على الركب، ثم يلقي كلمة يحث الناس فيها على الالتزام بالدين، ثم يدعو للميت ويؤمن الحاضرون على ذلك، أقول إن طلب ذلك، وإلقاء الموعظة عليهم، ثم الدعاء للميت، من البدع المحدثة التي لم تكن معروفة في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا عهد السلف الصالح، وقد ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التحذير من البدع، وبيان أن كل بدعة ضلالة، ولم يكن يعرف عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يقوم خطيباً يعظ الناس لا قبل دفن الميت، ولا بعده، وغاية ما ورد عنه في الموعظة أنه أتى أصحابه رضي الله عنهم وهم في البقيع في جنازة يلحد لها فجلس النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجلس أصحابه حوله كأن على رؤوسهم الطير،(17/447)
ومعه عود ينكت به الأرض فرفع رأسه وقال: "استعيذوا بالله من عذاب القبر" مرتين، ثم حدثهم عن حال الميت حين موته، وبعد دفنه، في حديث طويل رواه الإمام أحمد رحمه الله وغيره عن البراء بن عازب رضي الله عنه وروى البخاري رحمه الله نحوه من حديث علي رضي الله عنه.
وأما دعاؤه للميت بعد الدفن فقد كان إذا فرغ من دفنه وقف عليه وقال: "استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت، فإنه الا?ن يسأل". ولم يكن صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو بصوت مرتفع يؤمن الناس عليه. ولا ريب أن خير الهدي هدي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولو كانت هذه الأمور المحدثة خيراً لكان أسبق الناس إليها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه رضي الله عنهم. فعلى إخواننا المسلمين أن يتمشوا في أحيائهم وأمواتهم على ما كان عليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه لقوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَْوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِىَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذَالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} وقوله تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الأَْخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً} . وفق الله الجميع للإخلاص في القصد والاتباع في العمل، وأعاذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن إنه سميع الدعاء. كتبه محمد الصالح العثيمين في 14/3/1418 هـ.(17/448)
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: يوجد في بعض المناطق ظاهرة وهي زراعة الأشجار وبعض النباتات على القبر أو حوله ويتعاهد بعض الناس سقايتها ورشها بالماء بحيث إن الداخل إلى المقبرة يجدها مليئة بالأشجار والنباتات الأخرى المزروعة، فما حكم ذلك جزاكم الله خيراً؟
فأجاب فضيلته بقوله: المقبرة مدفن الموتى، وليست أرض زراعة، ولكن لعل هؤلاء يريدون أن يتشبهوا بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين مر بقبرين فقال: "إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير أي في أمر شاق عليهما أما أحدهما فكان لا يستنزه من البول، وأما الا?خر فكان يمشي بالنميمة" ثم أخذ جريدة رطبة فشقها نصفين، وغرز في كل قبر واحدة فقيل: لم صنعت هذا؟ قال: "لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا".
فإن كان هذا مرادهم فقد أخطأوا من وجوه:
الأول: أنه ليس من هدي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يفعل ذلك في كل قبر وإنما فعله في قبرين كشف له أنهما يعذبان، ففعل هذا في كل ميت بدعة مخالفة لما كان عليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الثاني: أنه إساءة ظن بالميت بأنه يعذب، فيكون قدحاً في الميت، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علل وضع الجريدة بأنهما يعذبان، أفيعتقد هؤلاء أن آباءهم، أو أمهاتهم، أو أبناءهم، أو أقاربهم، أو أصحابهم كانوا يعذبون؟!(17/449)
الثالث: أن الماء الذي تسقى به هذه الأشجار سوف ينزل إلى قاع قبر الميت، وقد ذكر بعض العلماء أن القبر ينبش إذا كان حوله ماء تلحق الميت منه نداوة، كما في الغاية وشرحها 1/719 فكيف بمن يصبون الماء حوله فينزل إليه؟!
فنصيحتي لهؤلاء أن يتركوا هذا الفعل ويريحوا ميتهم وأنفسهم من هذا العناء، والله الموفق. 14/3/1418 هـ.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل المسلم إذا دخل الجنة يتعرف على أقاربه الذين في الجنة؟ وهل يذكر أهله بعد موته ويعرف أحوالهم؟
فأجاب فضيلته بقوله: أما الشطر الأول من السؤال وهو إذا دخل الإنسان الجنة هل يتعرف على أقاربه فجوابه: نعم، يتعرف على أقاربه وغيرهم من كل ما يأتيه سرور قلبه لقول الله تعالى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَْنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَْعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَتَلَذُّ الأَْعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ فِيهَا خَالِدُونَ} . بل الإنسان يجتمع بذريته في منزلة واحدة، إذا كان في الذرية دون منزلته، لقوله تعالى: {وَالَّذِينَءَامَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَىْءٍ كُلُّ امْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ} .
وأما الشق الثاني من السؤال وهو: معرفة الميت ما يصنعه أهله في الدنيا، فإنني لا أعلم في ذلك أثراً صحيحاً يعتمد عليه،(17/450)
ولكن بعض الوقائع تدل على أن الإنسان قد يعرف ما يأتي على أهله، فقد حدثني شخص أنه بعد موت أبيه أضاع وثيقة له، وصار يطلبها ويبحث عنها فرأى في المنام أن أباه يكلمه من نافذة المجلس ويقول له: إن الوثيقة مكتوبة في أول صفحة من الدفتر الفلاني، لكن الورقة لاصقة بجلدة الدفتر فافتح الورقة تجد الوثيقة في ذلك المكان. ففعل الرجل فرآها كما ذكر أبوه. وهذا يدل على أن الإنسان قد يكون له علم بما يصنعه أهله من بعده. والله أعلم
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل تصح كلمة المرحوم للأموات مثلاً أن نقول المرحوم فلان؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان القائل وهو يتحدث عن الميت قال: "المرحوم، أو المغفور له" أو ما أشبه ذلك، خبراً فإنه لا يجوز؛ لأنه لا يدري هل حصلت له الرحمة أم لم تحصل له، والشيء المجهول لا يحل للإنسان الجزم به؛ لأن هذه شهادة له بالرحمة والمغفرة من غير علم، والشهادة من غير علم محرمة.
وأما إذا قال ذلك على وجه الدعاء والرجاء، بأن الله سبحانه وتعالى يرحمه، فإن ذلك لا بأس به، ولا حرج فيه، ولا فرق بين أن تقول المرحوم، أو فلان رحمه الله؛ لأن كلتا الكلمتين صالحتان للخبر وللدعاء، فهو على حسب نية القائل، ولا شك أن الذين يقولون: "فلان المرحوم، أو المغفور له" لا يريدون بذلك الخبر والشهادة بأنه مرحوم أو مغفور له، وإنما يريدون بذلك الرجاء والتفاؤل والدعاء، وعلى هذا فهذه الكلمة لا حرج ولا بأس فيها.(17/451)
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: عن قول "فلان المرحوم" أو "تغمده الله برحمته" أو "انتقل إلى رحمة الله"؟
فأجاب فضيلته بقوله: قول "فلان المرحوم" أو "تغمده الله برحمته" لا بأس بها؛ لأن قولهم: "المرحوم" من باب التفاؤل والرجاء، وليس من باب الخبر، وإذا كان من باب التفاؤل والرجاء فهو لا بأس به.
وأما قولهم: "انتقل إلى رحمة الله" فهو كذلك فيما يظهر لي أنه من باب التفاؤل، وليس من باب الخبر، إلا أن هذا من أمور الغيب ولا يمكن الجزم به، وكذلك لا يقال: "انتقل إلى الرفيق الأعلى".
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: عن حكم قول: "البقية في حياتك" عند التعزية ورد أهل الميت بقولهم: "حياتك الباقية"؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا أرى فيها مانعاً إذا قال الإنسان "البقية في حياتك"، ولكن الأولى أن يقال: "إن في الله خلفاً من كل هالك، إن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فاصبر واحتسب" لأن المحافظة على الألفاظ النبوية في التعزية وغيرها أولى، كذلك الرد عليه إذا غير المعزي هذا الأسلوب فسوف يتغير الرد.
* * *(17/452)
سئل فضيلة الشيخ: ما حكم قولهم "دفن في مثواه الأخير"؟
فأجاب فضيلته بقوله: قول القائل "دفن في مثواه الأخير" حرام ولا يجوز؛ لأنك إذا قلت في مثواه الأخير فمقتضاه أن القبر آخر شيء له، وهذا يتضمن إنكار البعث، ومن المعلوم لعامة المسلمين أن القبر ليس آخر شيء، إلا عند الذين لا يؤمنون باليوم الا?خر، فالقبر آخر شيء عندهم، أما المسلم فليس آخر شيء عنده القبر، وقد سمع أعرابي رجلاً يقرأ قوله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَّاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} فقال: "والله ما الزائر بمقيم" لأن الذي يزور يمشي فلابد من بعث وهذا صحيح.
لهذا يجب تجنب هذه العبارة فلا يقال عن القبر إنه المثوى الأخير، لأن المثوى الأخير إما الجنة، وإما النار في يوم القيامة.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: عن قول الإنسان إذا سئل عن شخص قد توفاه الله قريباً قال: "فلان ربنا افتكره"؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان مراده بذلك أن الله تذكر ثم أماته فهذه كلمة كفر، لأنه يقتضي أن الله عز وجل ينسى، والله سبحانه وتعالى لا ينسى، كما قال موسى عليه الصلاة والسلام، لما سأله فرعون: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الاُْولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّى(17/453)
فِىكِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّى وَلاَ يَنسَى} . فإذا كان هذا جاهلاً ولا يدري ويريد بقوله: "أن الله افتكره" يعني أخذه فقط فهذا لا يكفر، لكن يجب أن يُطهر لسانه عن هذا الكلام، لأنه كلام موهم لنقص رب العالمين عز وجل ويجيب بقوله: "توفاه الله" أو نحو ذلك.
* * *(17/454)
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: عن حكم قول: (إلى روح الفقيد، أيتها الروح المقيمة فينا) ؟
فأجاب فضيلته بقوله: بعض الناس يقول إذا عمل عملاً صالحاً هذا هدية إلى روح فلان أو لروح فلان، وهذه الكلمة لا حاجة لها؛ لأن الإنسان ينوي العمل للشخص المسلم قبل أن يبدأ به، ونيته في قلبه تغني عن التلفظ، لكن لو تلفظ وقال: اللهم اجعل ثواب ما أعمله لفلان فلا حرج.
أما قولهم: روح الفقيد بيننا، فلا يحل لقوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولائِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} ونحن لا نعلم أن روح الفقيد بيننا، أو فينا، لذلك يكون هذا القول داخلاً فيما نهى الله عنه.
* * *
رسالة
من ... إلى سماحة الشيخ/ محمد بن صالح العثيمين وفقه الله إلى كل خير
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
لقد انتشر في هذا الزمن كثير من الأمور المشتبه فيها والتي تتعلق بالجنازة وتشييعها، نرجو من سماحتكم أن تبينوا للناس الحكم الشرعي فيها وجزاكم الله خيراً، وهي كما يأتي:
1 نقل الميت من بلد إلى آخر وتكرار الصلاة عليه في أكثر من مسجد.
2 اصطفاف أقارب الميت أو من سيقوم بدفنه مع الإمام حال الصلاة مع سعة المكان.
3 دخول المشيعين المقبرة بسياراتهم من غير حاجة وسبق الجنازة إليها مما يسبب ازدحام السيارات وإذهاب الخشوع المقصود من تشييع الجنازة وزيارة القبور.
4 تسليم الناس بعضهم على بعض وتبادل التحيات مع المعانقة والمصافحة في داخل المقبرة.
5 التحدُّث في أمور الدنيا.
6 بقاء أهل الميت في المنزل لاستقبال المعزين لمدة ثلاثة أيام مع الإعلان في الصحف عن مكان العزاء وكتابة(17/455)
المراثي فيها وإقامة الولائم أثناء العزاء لأهل الميت من أقاربهم وغيرهم.
أثابكم الله ونفعنا وجميع المسلمين بعلمكم.
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد الصالح العثيمين إلى أخيه المكرم الشيخ ... حفظه الله تعالى
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
كتابكم المؤرخ 22/21 من السنة الماضية وصل، وما تضمنه من الأسئلة فإليكم جوابها سائلين الله تعالى أن يوفقنا للصواب.
1 نقل الميت من بلد إلى آخر وتكرار الصلاة عليه، إن كان المقصود به تكرار الصلاة عليه فهذا بدعة منكرة مخالفة لهدي السلف الصالح، ومخالفة لأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالإسراع بالميت، وفيها فتح باب لتباهي الناس بأمواتهم، حتى يكون تشييع الميت كأنه حفل عرس. ويغني عنه أن يصلى عليه في البلد الآخر صلاة الغائب إن قلنا بمشروعيتها.
والصحيح أنه لا يصلى على الميت صلاة الغائب إلا من مات في محل لم يصل عليه فيه، أو بأمر الإمام.
أما الأول فلأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى على النجاشي صلاة الغائب، وأما الثاني فلئلا يشق عصا الطاعة في أمر اجتهادي.
وإن قصد بنقل الميت اختيار أن يدفن في بلد آخر إما لكون(17/456)
الدفن فيه أفضل، أو لكون أهله فيه ونحو ذلك فهذا لا بأس به، لكن إن منع منه الإمام خوفاً من تزاحم الناس على المكان الفاضل، وضيق المكان، والعجز عن القيام بواجب الدفن فلا ينقل، وكذلك لو كان يتحمل نفقات باهظة تضر بحق الورثة في التركة ونحو ذلك.
وربما يكون النقل واجباً كما لو مات بدار كفار ليس فيها مقابر للمسلمين ولا يمكن دفنه في هذه الدار في مكان آخر فإنه لابد من نقله إلى بلاد المسلمين.
وأما نقل الميت من مسجد إلى آخر في البلد ليصلى عليه في عدة مساجد فهو أيضاً من البدع المنكرة، وفيه من المحذور ما سبق والميت يؤتى إليه، ولا يطاف به بين الناس ليصلى عليه.
2 اصطفاف أقارب الميت مع الإمام حين الصلاة عليه إن كان المكان ضيقاً لا يمكنهم أن يصطفوا خلف الإمام ولو بينه وبين الصف الأول فلا بأس، لأن هذا حاجة، ويقفون عن يمين الإمام وعن شماله، وإن كان المكان واسعاً فلا يصفون مع الإمام، لأن هذا خلاف السنة في صلاة الجماعة، لكن رأينا بعض أقارب الميت يتقدمون عمداً ليصفوا مع الإمام ظنًّا منهم أن هذا سنة، وهذا غلط ينبغي للأئمة أن ينبهوا عليه، ويبينوا للناس أن هذا ليس من السنة.
3 دخول السيارات للمقبرة من غير حاجة لا ينبغي؛ لأنها أحياناً تضيق على الناس، وتجعل مشهد الجنائز كمشهد الأعراس مما ينسي الناس تذكرة الا?خرة.
4 لا أعلم أصلاً عن السلف فيما يصنعه الناس أخيراً من المصافحة والمعانقة عند التعزية، وكذلك الاصطفاف للمعزين(17/457)
لكن بعض الناس قالوا: إنهم يصطفون من أجل راحة المعزين حتى لا يتعبوا في طلب أهل الميت، لاسيما إذا كان المشيعون كثيرين، وأهل الميت ذوي عدد، وهذا ربما يكون غرضاً صحيحاً، وإن كان لا يعجبني فعلهم.
5 التحدُّث في أمر الدنيا لمتبعي الجنازة مخالف لما ينبغي أن يكون المتبع عليه من التفكُّر في حاله ومآله، وأنه الا?ن يشيع الموتى وغداً يشيعه الأحياء، ولا يدري متى يكون، ثم إن فيه كسراً لقلوب المصابين بالميت من أقاربه وأصدقائه، وقد كره بعض العلماء لمتبع الجنازة أن يتحدث في أمر الدنيا، وأن يجلس إلى صاحبه يمازحه ويضاحكه، ولهذا كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجلس إلى أصحابه رضي الله عنهم في المقبرة قبل أن يتم اللحد، فيحدثهم بما يناسب، ففي صحيح البخاري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتانا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة فنكس (أي رأسه) فجعل ينكت بمخصرته وذكر الحديث، وفي المسند وسنن أبي داود وغيرهما من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: خرجنا مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولما يلحد فجلس رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وجلسنا حوله كأن على رؤوسنا الطير، وفي يده عود ينكت في الأرض فقال: "استعيذوا بالله من عذاب القبر" مرتين أو ثلاثاً، ثم حدثهم صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن حال المؤمن وحال الكافر عند الموت، وبعده. وهو(17/458)
حديث طويل عظيم، وبه وبحديث علي نعرف أن المشروع لمتبعي الجنائز أن يكون حديثه فيما يتعلق بالموت وما بعده.
هذا وقد أخذ بعض الناس من الحديثين أنه ينبغي أن يعظ الناس في هذه الحال، فيقوم خطيباً بين الناس يتكلم بما يتكلم به، لكن لا وجه لأخذه؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يقم خطيباً في أصحابه، بل كان جالساً بينهم يتحدث إليهم حديث الجالس إلى من كان بجنبه؛ لأنه إما أن يسكت، أو يتكلم بأمر لا يناسب المقام، أو يتكلم بما يناسب المقام وهذا هو الحاصل من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
6 بقاء أهل الميت في المنزل لاستقبال المعزين ليس معروفاً في عهد السلف الصالح، ولهذا صرح بعض العلماء بأنه بدعة، وقال في (الإقناع وشرحه) : ويكره الجلوس لها أي للتعزية بأن يجلس المصاب في مكان ليعزوه. ولما ذكر حكم صنع الطعام لأهل الميت قال: وينوي فعل ذلك لأهل الميت لا لمن يجتمع عندهم فيكره؛ لأنه معونة على مكروه، وهو اجتماع الناس عند أهل الميت، نقل المروذي عن أحمد، هو من أفعال الجاهلية، وأنكره شديداً، ثم ذكر حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: "كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام بعد دفنه من النياحة". وقال النووي في (شرح المهذب) : وأما الجلوس للتعزية فنص الشافعي والمصنف وسائر الأصحاب على كراهته،(17/459)
ونقله أبو حامد في (التعليق) وآخرون عن نص الشافعي قالوا: يعني بالجلوس لها أن يجتمع أهل الميت في بيت فيقصدهم من أراد التعزية، قالوا: بل ينبغي أن ينصرفوا في حوائجهم فمن صادفهم عزاهم. ا. هـ.
ثم إن فتح أهل الميت الباب ليأتيهم من يعزيهم كأنما يقولون للناس بلسان الحال: يا أيها الناس إنا قد أصبنا فعزونا، وكونهم يعلنون في الصحف عن مكان العزاء هو دعوة بلسان المقال أيضاً. وهل من السنة إعلان المصيبة ليعزى لها؟ أليس الواجب على المرء أن يصبر لحكم الله وقضائه، وأن يجعل ذلك بينه وبين ربه، وأن يتعزى بالله تعالى عن كل هالك؟! ثم إن الأمر قد تطور في بعض المناطق إلى أن تُهيأ السرادق، وتصف الكراسي، وتضاء الأنوار، ويكثر الداخل والخارج حتى لا تكاد تفرق بين هذا وبين وليمة العرس، وربما استأجروا قارئاً يقرأ كما يزعمون لروح الميت مع أن الإجارة على هذا فاسدة، والقارىء الذي قرأ من أجل المال لا ثواب له، فيكون في هذا إضاعة للمال، وإغراء لهؤلاء القرَّاء على الإثم.
فإن قال قائل: أليس قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما جاء خبر قتل جعفر وصاحبيه جلس في المسجد يعرف فيه الحزن؟
فالجواب: بلى، ولكن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يجلس ليعزيه الناس، ولذلك لم يبلغنا أن أحداً جلس عنده(17/460)
ليعزيه، فليس فيه دليل لفتح أبواب البيوت والجلوس لتلقي العزاء.
وأما الإعلان عن موت الميت في الصحف فإن كان لمصلحة مثل أن يكون الميت واسع المعاملة مع الناس بين أخذ وإعطاء وأعلن موته لعل أحداً يكون له حق عليه فيقضى أو نحو ذلك فلا بأس. كتبه محمد الصالح العثيمين في 24/1/1418 هـ.
* * *(17/461)
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
فضيلة الشيخ/ محمد بن صالح العثيمين حفظه الله تعالى.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد:
فقد كتب أحد الكتاب مقالاً دعا فيه أحد المصابين بحادث للتوبة إلى الله عز وجل، وجاء فيه العبارة الا?تية: (.. أتمنى بعد أن يمن الله بالشفاء العاجل على (فلان) أن يولي وجهه إلى البيت الحرام يؤدي شعيرة العمرة شكراً لمولاه وينطلق زائراً للمسجد النبوي الشريف ويصلي في الروضة ويقف أمام قبر المصطفى يجدد البيعة القلبية والفكرية ويعلن البراء من كل تقصير) انتهى. فما رأيكم في هذا؟ والله يحفظكم.
بسم الله الرحمن الرحيم
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
لا شك أن الإنسان إذا منَّ الله عليه بحصول نعمة، أو اندفاع نقمة، فأخرج مالاً، أو صلى، أو عمل عملاً صالحاً، شكراً لله تعالى على منته بذلك فلا حرج؛ لأن العمل الصالح من الشكر؛ ولأن أبا لبابة أخرج بعض ماله لما منَّ الله عليه بالتوبة، لكن كونه يقف أمام(17/463)
قبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجدد البيعة، ويعلن البراء من كل تقصير هو البدعة المنكرة؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ميت ولا يمكن أن يبايع أحداً بعد موته، ويعلن أمام قبره البراء من كل تقصير، فالتوبة تكون بين العبد وبين ربه تبارك وتعالى. كتبه محمد الصالح العثيمين في 14/4/1418 هـ.(17/464)
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: هل لمن يموت بسبب إصابته بعين، فضل أو زيادة أجر؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا أعلم أن له زيادة أجر أو فضل؛ لأن هذا من الأمور التي يبتلي الله بها العبد، اللهم إلا أن يقال هذا يشبه مَنْ مات بغرق أو حرق، وعلى كل يرجى له الخير، أما الجزم بذلك فلا نستطيع الجزم به.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: شخص مصاب بمرض أعصاب مزمن حسب كلام الطبيب، وسبب له هذا المرض كثيراً من المشاكل، منها: رفع الصوت على الوالدين، وقطيعة الرحم، ووجود القلق والخجل والخوف، فهل تُرفَع عنه التكاليف الشرعية؟ وهل عليه شيء في أعماله تلك؟ وبماذا تنصحونه جزاكم الله خيراً؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا تُرفَع عنه الأحكام الشرعية مادام عقله باقياً، أما لو فقد عقله ولم يستطع السيطرة على عقله حينئذ يكون معذوراً، والذي أنصحه به أن يكثر من الدعاء، ومن ذكر الله عز وجل، ومن الاستغفار، ومن الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم عندما يثور غضبه لعل الله أن يكشف عنه.
* * *
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: يصاب الإنسان أحياناً بهموم وغموم فما الأشياء التي تزيل الهموم(17/465)
والغموم التي تصيب المسلم؟ وهل يشرع أن يرقي الإنسان نفسه؟
فأجاب فضيلته بقوله: أولاً: يجب أن تعلم أن الهموم والغموم التي تصيب المرء هي من جملة ما يُكفّر عنه بها ويُخفّف عنه من ذنوبه، فإذا صبر واحتسب أثيب على ذلك، ومع هذا فإنه لا حرج على الإنسان أن يدعو بالأدعية المأثورة لزوال الهم والغم، كحديث ابن مسعود رضي الله عنه الذي أخرجه أهل السنن بسند صحيح: "اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض فيَّ حكمك، عدلٌ فيَّ قضاؤك، أسألك اللهم بكل اسم هو لك سميتَ به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علَّمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي". فإن هذا من أسباب فرج الهم والغم. وكذلك قوله تعالى: {لاَّ اله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} . فإن يونس عليه الصلاة والسلام قالها: قال الله تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذالِكَ نُنجِى الْمُؤْمِنِينَ} . ولا حرج أن يرقي الإنسان نفسه، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يرقي نفسه بالمعوذات عند منامه ينفث بيديه، فيمسح بهما وجهه وما استطاع من جسده.(17/466)
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: عمن يتسخَّط إذا نزلت به مصيبة؟
فأجاب فضيلته بقوله: الناس حال المصيبة على مراتب أربع:
المرتبة الأولى: التسخُّط، وهو على أنواع:
النوع الأول: أن يكون بالقلب، كأن يسخط على ربه يغتاظ مما قدره الله عليه فهذا حرام، وقد يؤدي إلى الكفر، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالأَْخِرَةَ ذالِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالأَْخِرَةَ ذالِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} .
النوع الثاني: أن يكون باللسان، كالدعاء بالويل والثبور وما أشبه ذلك، وهذا حرام.
النوع الثالث: أن يكون بالجوارح، كلطم الخدود، وشق الجيوب، ونتف الشعور وما أشبه ذلك، وكل هذا حرام مناف للصبر الواجب.
المرتبة الثانية: الصبر، وهو كما قال الشاعر:
والصبر مثل اسمه مر مذاقته لكن عواقبه أحلى من العسل فيرى أن هذا الشيء ثقيل عليه لكنه يتحمله، وهو يكره وقوعه ولكن يحميه إيمانه من السخط، فليس وقوعه وعدمه سواء عنده وهذا واجب لأن الله تعالى أمر بالصبر فقال: {وَأَطِيعُواْ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ(17/467)
تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُو?اْ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُو?اْ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} .
المرتبة الثالثة: الرضا، بأن يرضى الإنسان بالمصيبة بحيث يكون وجودها وعدمها سواء فلا يشق عليه وجودها، ولا يتحمل لها حملاً ثقيلاً، وهذه مستحبة وليست بواجبة على القول الراجح، والفرق بينها وبين المرتبة التي قبلها ظاهر؛ لأن المصيبة وعدمها سواء في الرضا عند هذا، أما التي قبلها فالمصيبة صعبة عليه، لكنه صبر.
المرتبة الرابعة: الشكر، وهو أعلى المراتب، وذلك بأن يشكر الله تعالى على ما أصابه من مصيبة، حيث عرف أن هذه المصيبة سبب لتكفير سيئاته، وربما لزيادة حسناته كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما يصيب المسلم من نصبٍ ولا وصبٍ، ولا همٍّ ولا حَزَن، ولا أذى، ولا غمٍّ، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفَّر الله بها من خطاياه".
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: أحد الصحابة رضي الله عنه لما مات حضر جنازته سبعون ألف ملك، وعندما دفنه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لقد ضُمَّ ضمة ثم فرج عنه" هل هذا حاصل لكل واحد منا؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا الصحابي هو سعد بن معاذ(17/468)
رضي الله عنه وهو سيد الأوس ومعروفة قصته مع بني قريظة الذين كانوا حلفاءه حين غدروا بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فغزاهم وحاصرهم أكثر من عشرين ليلة، فلما تعبوا من الحصار سألوا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ فأعطاهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك، وكان سعد رضي الله عنه في خيمة له في المسجد؛ لأنه أصيبت أكحله في يوم الأحزاب فبنى عليه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبة يعني خيمة في المسجد ليزوره عن قُرب.
وكان رضي الله عنه لما سمع أن بني قريظة وهم حلفاؤه قد نقضوا العهد قال: اللهم لا تمتني حتى تُقر عيني بهم، يعني بأن يؤخذوا بما نقضوا العهد.
بعد ذلك أرسل إليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال له: إن حلفاءك أرادوا أن ينزلوا على حكمك، فجاء رضي الله عنه من مسجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى مكان بني قريظة راكباً على حمار، فلما أقبل قال: "قوموا إلى سيدكم"، فقاموا إليه، ونزل ثم اجتمع رؤساء اليهود بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أجل أن يحكم فيهم سعد بن معاذ، وكان اليهود ينتظرون أن يحكم سعد فيهم بما حكم به عبد الله بن أبي في بني النضير، لكن فرق بين عبد الله بن أبي رأس المنافقين وبين سعد بن معاذ رضي الله عنه.
لما حضروا قال: حكمي نافذ عليكم؟ قالوا: نعم. قال: وعلى مَن هنا؟ ولم يقل على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهذا من أدبه ما قال: حكمي نافذ على الرسول قال: وعلى من هنا، قال: أحكم فيهم أن تُقتل مقاتلتهم، وتُسبى نساؤهم وذريتهم، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات"، ثم نفذ حكمه فقتل(17/469)
المقاتلة وسبى النساء والذرية.
وبعد ذلك انبعث الدم من جرح سعد بن معاذ ومات رضي الله عنه يعني بقي حتى استجاب الله دعوته؛ أقر الله عينه ببني قريظة حتى صار حكمهم بيده، ولما حكم وانتهت قضيتهم انبعث الدم فمات رضي الله عنه وورد في الصحيح أن عرش الرب جل وعلا اهتز لموته. الله أكبر! وفي ذلك يقول حسان بن ثابت رضي الله عنه:
وما اهتز عرش الله من أجل هالك سمعنا به إلا لسعد أبي عمرو أما الضمة فقد ورد أن القبر ضمه رضي الله عنه ولكن فيما أظن أن هذا الحديث فيه ضعف؛ لأن الأحاديث الصحيحة تدل على أن الرجل إذا سأله الملكان وأجاب بالصواب فسح له في قبره، فإن صح الحديث فالمعنى أنه أول ما دخل ضمه القبر ثم يفسح له، وقد ذكر أن ضمة القبر للمؤمن كضمة الأم الرحيمة لولدها، يعني ليس هو ضمٌّ يُؤلم أو يُؤذي، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من السعداء.
* * *(17/470)
بسم الله الرحمن الرحيم
نبذة في تغسيل الميت وتكفينه والصلاة عليه ودفنه
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والا?خرين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خاتم النبيين، وإمام المتقين، صلى الله عليه، وعلى آله، وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلَّم تسليماً.
أما بعد: فهذه نبذ تتعلق بتغسيل الميت، وتكفينه، والصلاة عليه، ودفنه.
وقبل أن نشرع في المقصود نقدم هذه الفقرات:
1 غسل الميت المسلم وتكفينه والصلاة عليه ودفنه فرض كفاية، فينبغي لمن قام بذلك أن ينوي أنه مؤد لهذه الفريضة، لينال أجرها وثوابها من الله تعالى. أما الكافر فلا يجوز تغسيله، ولا تكفينه، ولا دفنه مع المسلمين.
2 الغاسل مؤتمن على الميت فيجب عليه أن يفعل ما يلزم في تغسيله وغيره.
3 الغاسل مؤتمن على الميت فيجب عليه أن يستر ما رآه فيه من مكروه.
4 الغاسل مؤتمن على الميت فلا ينبغي أن يمكن أحداً من الحضور عنده إلا من يحتاج إليه لمساعدته في تقليب الميت وصب الماء ونحوه.
5 الغاسل مؤتمن على الميت فينبغي أن يستعمل الرفق به والاحترام، وأن لا يكون عنيفاً، أو حاقداً عليه عند خلع ثيابه(17/471)
وتغسيله وغير ذلك.
6 لا يغسل الرجل المرأة إلا أن تكون زوجته، ولا المرأة الرجل إلا أن يكون زوجها، إلا من دون سبع سنين فيغسله الرجل والمرأة سواء كان ذكراً أم أنثى.
7 يستحب للغاسل إذا فرغ أن يغتسل كما يغتسل للجنابة، فإن لم يغتسل فلا حرج عليه.
* كيفية تغسيل الميت
الواجب في تغسيل الميت أن يغسل جميع جسده بالماء حتى ينقى، والأفضل أن يعمل ما يلي:
1 يضع الميت على الشيء الذي يريد أن يغسله عليه منحدراً نحو رجليه.
2 يلف خرقة على عورة الميت من السرة إلى الركبة قبل أن يخلع ثيابه لئلا ترى عورته بعد الخلع.
3 يخلع ثياب الميت برفق.
4 يلف الغاسل على يده خرقة فيغسل عورة الميت من غير كشف حتى ينقيها، ثم يلقي الخرقة.
5 يبل خرقة بماء فينظف بها أسنان الميت ومناخره.
6 يغسل وجه الميت، ويديه إلى المرفقين، ورأسه ورجليه إلى الكعبين، يبدأ باليد اليمنى قبل اليسرى، وبالرجل اليمنى قبل اليسرى.
7 لا يدخل الماء في فم الميت ولا أنفه اكتفاء بتنظيفهما بالخرقة.
8 يغسل جسده كله ثلاثاً، أو خمساً، أو سبعاً، أو أكثر من ذلك(17/472)
حسب حاجة الجسم إلى التنظيف والتنقية، يبدأ بالجانب الأيمن من الجسم قبل الأيسر.
9 الأفضل أن يخلط الماء الذي يغسله به بسدر؛ لأنه أبلغ في الإنقاء فيضرب الماء المخلوط بالسدر بيده حتى تظهر رغوته، فيغسل بالرغوة رأسه ولحيته، وبالباقي بقية الجسم.
01 الأفضل أن يخلط بالغسلة الأخيرة كافوراً (وهو نوع معروف من الطيب) .
11 إذا كان للميت شعر فإنه يسرح ولا يلبد ولا يقص شيء منه.
21 إذا كان الميت امرأة نقض شعرها إن كان مجدولاً، فإذا غسل ونقي جدل ثلاث جدائل، وجعلن خلف ظهرها.
31 إذا كانت بعض أعضاء الميت منفصلة فإنها تغسل وتضم إليه.
41 إذا كان الميت متفسخاً بحروق أو غيرها، ولا يمكن تغسيله فإنه ييمم عند كثير من أهل العلم، فيضرب الميمم يديه بالأرض ويمسح بهما وجه الميت وكفيه.
* كيفية تكفين الميت
الواجب في تكفين الميت خرقة تغطي جميع بدنه، لكن الأفضل كما يلي:
1 يكفن الرجل في ثلاث خرق بيض، يوضع بعضها فوق بعض، ثم يوضع الميت عليها، ثم يرد طرف العليا من جانب الميت الأيمن على صدره، ثم طرفها من جانبه الأيسر، ثم يفعل باللفافة الثانية، ثم الثالثة كذلك، ثم يرد طرف اللفائف من عند رأسه ورجليه ويعقدها.(17/473)
2 تبخر الأكفان بالبخور، ويذر بينها شيء من الحنوط (والحنوط أخلاط من الطيب يصنع للموتى) .
3 يجعل من الحنوط على وجه الميت، ومغابنه، ومواضع سجوده.
4 يوضع شيء من الحنوط في قطن فوق عينيه، ومنخريه، وشفتيه.
5 يوضع شيء من الحنوط في قطن بين إليتيه، ويشد بخرقة.
6 تكفن المرأة في خمس قطع: إزار، وخمار، وقميص، ولفافتين. وإن كفنت كما يكفن الرجل فلا حرج في ذلك.
7 تحل عقد الكفن عند وضع الميت في قبره.
* كيفية الصلاة على الميت
1 يصلى على الميت المسلم صغيراً كان أم كبيراً، ذكراً كان أم أنثى.
2 يصلى على الحمل إذا سقط وقد بلغ أربعة أشهر، ويفعل به كما يفعل بالكبير فيغسل، ويكفن قبل الصلاة عليه.
3 لا يصلى على الحمل إذا سقط قبل تمام أربعة أشهر؛ لأنه لم تنفخ فيه الروح، ولا يغسل، ولا يكفن، وإنما يدفن في أي مكان.
4 يقف الإمام في الصلاة على الميت عند رأس الرجل، وعند وسط المرأة، ويصلي الناس وراءه.
5 يكبر في الصلاة على الميت أربع تكبيرات، يقرأ في التكبيرة الأولى بعد التعوذ والبسملة سورة الفاتحة.(17/474)
ويصلي على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد التكبيرة الثانية فيقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. ويدعو للميت بعد التكبيرة الثالثة. والأفضل أن يدعو بما ورد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك، فإن لم يعرفه دعا بما يعرف.
ويقف بعد الرابعة قليلاً، ثم يسلم، وإن قال قبل السلام: ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الا?خرة حسنة، وقنا عذاب النار فلا بأس بذلك.
* كيفية دفن الميت
1 الواجب أن يدفن الميت في قبر يمنعه من السباع متوجهاً إلى القبلة، وكلما عمقه فهو أفضل.
2 الأفضل أن يكون القبر لحداً، وذلك بأن يحفر للميت حفرة في عمق القبر مما يلي القبلة.
3 يجوز أن يكون القبر شقًّا، وذلك بأن يحفر للميت حفرة في عمق القبر في وسطه، إذا دعت الحاجة لذلك، بأن تكون الأرض رخوة.
4 يوضع الميت في قبره على جنبه الأيمن متوجهاً إلى القبلة.
5 ينصب عليه اللبن نصباً، ويسد ما بينها بالطين المثرى لئلا ينهال التراب على الميت.
6 يدفن القبر بعد ذلك، ولا يرفع، ولا يشيد بجص أو غيره.
7 لا يجوز الدفن في ثلاثة أوقات:
1(17/475)
إذا طلعت الشمس حتى ترتفع قدر رمح.
2 إذا وقفت عند الزوال حتى تزول.
3 إذا بقي عليها مقدار رمح عند الغروب حتى تغرب.
ومقدار الوقتين الأول والأخير نحو ربع ساعة، ومقدار الثاني نحو سبع دقائق.
كتب ذلك محمد الصالح العثيمين في 2/2/1420 هـ
والحمد لله رب العالمين(17/476)
المجلد الثامن عشر
كتاب الزكاة
1 سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: ما المقصود بالزكاة في اللغة والشرع؟ وما العلاقة بين المفهومين؟
فأجاب فضيلته بقوله: الزكاة في اللغة الزيادة والنماء، فكل شيء زاد عدداً، أو نما حجماً فإنه يقال له: زكاة، فيقال: زكَّى الزرع إذا نما وطاب، وأما في الشرع فهي: التعبد لله تعالى بإخراج جزء واجب شرعاً في مال معين لطائفة أو جهة مخصوصة.
والعلاقة بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي: أن الزكاة وإن كان ظاهرها نقص كمية المال، لكن آثارها زيادة المال بركة وكمية، فإن الإنسان قد يفتح الله له من أبواب الرزق ما لا يخطر بباله، إذا قام بما أوجب الله عليه في ماله. قال تعالى: {وَمَآءَاتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَاْ فِى أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ اللهِ وَمَآ ءاتَيْتُمْ مِّن زكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} . وقال تعالى: {وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَىْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} {يخلفه} أي: يأتي بخلفه وبدله، وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما نقصت صدقة من مال» ، وهذا أمر مُشاهد فإن الموفقين لأداء ما يجب عليهم في أموالهم يجدون بركة فيما ينفقونه، وبركة في ما بقي عندهم، وربما يفتح الله لهم أبواب رزق يشاهدونها رأي العين بسبب إنفاقهم أموالهم في سبيل الله، ولهذا كانت الزكاة في الشرع ملاقية للزكاة في اللغة من حيث النماء والزيادة، ثم إن في الزكاة أيضاً زيادة أخرى وهي زيادة الإيمان في قلب صاحبها، فإن الزكاة من الأعمال الصالحة، والأعمال الصالحة تزيد من إيمان الرجل؛ لأن مذهب أهل السنة والجماعة أن الأعمال الصالحة من الإيمان،(18/11)
وأن الإيمان يزداد بزيادتها، وينقص بنقصها، وهي أيضاً تزيد الإنسان في خلقه فإنها بذل وعطاء، والبذل والعطاء يدل على الكرم والسخاء، والكرم والسخاء لا شك أنه خلق فاضل كريم، بل إن له آثاراً بالغة في انشراح القلب، وانشراح الصدر، ونور القلب وراحته، ومن أراد أن يطلع على ذلك فليجرب الإنفاق، يجد الا"ثار الحميدة التي تحصل له بهذا الإنفاق، ولاسيما فيما إذا كان الإنفاق واجباً مؤكداً كالزكاة، فالزكاة أحد أركان الإسلام ومبانيه العظام، وهي التي تأتي كثيراً مقرونة بالصلاة التي هي عمود الإسلام، وهي في الحقيقة محك تبين كون الإنسان محبًّا لما عند الله عز وجل؛ لأن
المال محبوب عند النفوس، وبذل المحبوب لا يمكن إلا من أجل محبوب يؤمن به الإنسان وبحصوله، ويكون هذا المحبوب أيضاً أحب مما بذله، ومصالح الزكاة وزيادة الإيمان بها وزيادة الأعمال وغير ذلك أمر معلوم يحصل بالتأمل فيه أكثر ما ذكرنا الآن.
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما آثار الزكاة التي تنعكس على المجتمع وعلى الاقتصاد الإسلامي؟
فأجاب فضيلته بقوله: آثار الزكاة على المجتمع وعلى الاقتصاد الإسلامي ظاهرة أيضاً، فإن فيها من مواساة الفقراء والقيام بمصالح العامة ما هو معلوم ظاهر من مصارف هذه الزكاة، فإن الله سبحانه وتعالى قال في مصارف هذه الزكاة: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِى سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} وهؤلاء(18/12)
الأصناف الثمانية منهم من يأخذها لدفع حاجته، ومنهم من يأخذها لحاجة المسلمين إليه، فالفقراء والمساكين والغارمون لأنفسهم، وابن السبيل والرقاب، هؤلاء يأخذون لحاجتهم، ومنهم من يأخذ لحاجة الناس إليه: كالغارم لإصلاح ذات البين، والعاملين عليها والمجاهدين في سبيل الله، فإذا عرفنا أن توزيع الزكاة على هذه الأصناف يحصل بها دفع الحاجة الخاصة لمن أعطيها، ويحصل بها دفع الحاجة العامة عن المسلمين عرفنا مدى نفعها للمجتمع وفي الاقتصاد تتوزع الثروات بين الأغنياء والفقراء، حيث يؤخذ من أموال الأغنياء هذا القدر ليصرف للفقراء، ففيها توزيع للثروة حتى لا يحصل التضخم من جانب، والبؤس والفقر من جانب آخر، وفيها أيضاً من صلاح المجتمع ائتلاف القلوب، فإن الفقراء إذا رأوا من الأغنياء أنهم يمدونهم بالمال ويتصدقون عليهم بهذه الزكاة التي لا يجدون فيها منة عليهم، لأنها مفروضة عليهم من قبل الله، فإنهم بلا شك يحبون الأغنياء
ويألفونهم، ويرجون ما أمرهم الله به من الإنفاق والبذل، بخلاف إذا ما شح الأغنياء بالزكاة، وبخلوا بها، واستأثروا بالمال، فإن ذلك قد يولد العداوة والضغينة في قلوب الفقراء، ويشير إلى هذا ختم الآية الكريمة التي بها بيان لمصالح الزكاة، يقول الله تعالى: {فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} .
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما حكم الزكاة في الإسلام؟ ومتى فرضت؟(18/13)
فأجاب فضيلته بقوله: الزكاة أحد أركان الإسلام الخمسة التي بني عليها؛ لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام» وهي فرض بإجماع المسلمين، فمن أنكر وجوبها فقد كفر، إلا أن يكون حديث عهد بإسلام، أو ناشىء في بادية بعيدة عن العلم وأهله فيعذر، ولكنه يُعلّم، وإن أصر بعد علمه فقد كفر مرتدًّا، وأما من منعها بخلاً وتهاوناً ففيه خلاف بين أهل العلم، فمنهم من قال: إنه يكفر، وهو إحدى روايتين عن الإمام أحمد، ومنهم من قال: إنه لا يكفر، وهذا هو الصحيح، ولكنه قد أتى كبيرة عظيمة، والدليل على أنه لا يكفر حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر عقوبة مانع زكاة الذهب والفضة، ثم قال: «حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله: إما إلى الجنة وإما إلى النار» . وإذا كان يمكن أن يرى له سبيلاً إلى الجنة فإنه ليس بكافر؛ لأن الكافر لا يمكن أن يرى سبيلاً له إلى الجنة، ولكن على مانعها بخلاً وتهاوناً من الإثم العظيم ما ذكره الله تعالى في قوله: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآءَاتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَللَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
خَبِيرٌ} . وفي قوله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ(18/14)
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَاذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} . فعلى المرء المسلم أن يشكر الله على نعمته بالمال، وأن يؤدي زكاته حتى يزيد الله له في ماله بركة ونماء.
وأما قول السائل: متى فرضت الزكاة؟
فجوابه: أن الزكاة فرضت في أصح أقوال أهل العلم بمكة، ولكن تقدير الأنصبة والأموال الزكوية وأهل الزكاة كان بالمدينة.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: يقول الله تعالى: {وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزكاةَ} فما المراد بالزكاة؟
فأجاب فضيلته بقوله: قوله تعالى: {الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزكاةَ وَهُمْ بِالأَْخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} يحتمل معنيين:
أحدهما: أن يراد بالزكاة زكاة النفس وهو تطهيرها من الشرك، لقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} فيكون قوله: {الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزكاةَ وَهُمْ بِالأَْخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} تفسيراً لقوله: «للمشركين» بمعنى الذين لا يؤتون أنفسهم زكاتها بالتخلي عن الشرك ووسائله.
الاحتمال الثاني: أن يكون المراد بالزكاة زكاة المال، ويكون تركهم للزكاة وتركهم البذل من أوصافهم، وإن كان هذا ليس بزكاة(18/15)
لأنه بالنسبة لهم لا يقبل منهم زكاة ولا غيرها ماداموا على شركهم.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: عن شروط وجوب الزكاة؟
فأجاب فضيلته بقوله: شروط وجوب الزكاة: الإسلام والحرية، وملك النصاب، واستقراره، ومضي الحول إلا في المعشرات.
فأما الإسلام فإن الكافر لا تجب عليه الزكاة، ولا تقبل منه لو دفعها باسم الزكاة، لقوله تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاّ" أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ} .
ولكن ليس معنى قولنا: إنها لا تجب على الكافر ولا تصح منه أنه معفي عنها في الآخرة بل إنه يعاقب عليها لقوله تعالى: {إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِى جَنَّاتٍ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ * قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الُخَآئِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} وهذا يدل على أن الكفار يعذبون على إخلالهم بفروع الإسلام، وهو كذلك.
وأما الحرية فلأن المملوك لا مال له، إذ أن ماله لسيده، لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من باع عبداً له مال فماله لبائعه إلا أن يشترطه(18/16)
المبتاع» . فهو إذن غير مالك للمال حتى تجب عليه الزكاة، وإذا قدر أن العبد ملك بالتمليك فإن ملكه في النهاية يعود لسيده؛ لأن سيده له أن يأخذ ما بيده، وعلى هذا ففي ملكه نقص ليس بمستقر استقرار أموال الأحرار، فعلى هذا تكون الزكاة على مالك المال، وليس على المملوك منها شيء، ولا يمكن أن تسقط الزكاة عن هذا المال.
وأما ملك النصاب: فمعناه أن يكون عند الإنسان مال يبلغ النصاب الذي قدره الشرع، وهو يختلف باختلاف الأموال، فإذا لم يكن عند الإنسان نصاب فإنه لا زكاة عليه؛ لأن ماله قليل لا يحتمل المواساة.
والنصاب في المواشي مقدر ابتداءً وانتهاءً، وفي غيرها مقدر ابتداءً وما زاد فبحسابه.
وأما مضي الحول: فلأن إيجاب الزكاة في أقل من الحول يستلزم الإجحاف بالأغنياء، وإيجابها فيما فوق الحول يستلزم الضرر في حق الفقراء، فكان من حكمة الشرع أن يقدر لها زمن معين تجب فيه وهو الحول، وفي ربط ذلك بالحول توازن بين حق الأغنياء وحق أهل الزكاة.
وعلى هذا فلو مات الإنسان مثلاً، أو تلف المال قبل تمام الحول سقطت الزكاة، إلا أنه يستثنى من تمام الحول ثلاثة أشياء:
الأول: ربح التجارة.(18/17)
الثاني: نتاج السائمة.
الثالث: المعشرات.
أما ربح التجارة فإن حوله حول أصله، وأما نتاج السائمة فحول النتاج حول أمهاته، وأما المعشرات فحولها وقت تحصيلها والمعشرات هي الحبوب والثمار.
مثال ذلك في الربح أن يشتري الإنسان سلعة بعشرة آلاف ريال، ثم قبل تمام حول الزكاة بشهر تزيد هذه السلعة، أو تربح نصف الثمن الذي اشتراها به، فيجب عليه زكاة رأس المال وزكاة الربح، وإن لم يتم للربح حول لأنه فرع، والفرع يتبع الأصل.
وأما النتاج مثل أن يكون عند الإنسان من البهائم نصاب ثم في أثناء الحول يتوالد هذا النصاب حتى يبلغ نصابين، فيجب عليه الزكاة للنصاب الذي حصل بالنتاج وإن لم يتم عليه الحول، لأن النتاج فرع فيتبع الأصل. وأما المعشرات فحولها حين أخذها مثل الحبوب والثمار، فإن الثمار في النخل مثلاً لا يتم عليه الحول حين يجز فتجب الزكاة عند جزه، وكذلك الزرع يزرع ويحصد قبل أن يتم عليه الحول، فتجب الزكاة عند حصاده، لقوله تعالى: {وَءَاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُو"اْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} فهذه الأشياء الثلاثة تستثنى من قولنا: إنه يشترط لوجوب الزكاة تمام الحول.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ذكر الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله في الفتاوى ص 302 هذه الجملة: (الزكاة تصير على رأس المال منه، وعلى المصلحة إن(18/18)
كان هو حال وإلا فبقسطه) فما معنى قول الشيخ - رحمه الله تعالى -؟
فأجاب فضيلته بقوله: معنى قول الشيخ - رحمه الله تعالى - أن الدين إن كان حالاًّ وجبت زكاة أصله وربحه، وإن كان مؤجلاً وجبت زكاة أصله، أما ربحه فيجب بقسطه، فمثلاً إذا بعت عليه ما يساوي ألفاً ًبألف ومائتين إلى سنة، وكان حول زكاة الألف يحل في نصف السنة وجب عليك زكاة ألف ومائة فقط عند تمام حول الألف، وظاهر كلام الشيخ أنه لا يلزم من زكاة الربح إلا ما تم حوله، وقد سبق ما يدل على وجوب الزكاة في الربح وإن لم يتم حوله؛ لأنه تبع لأصله لا يشترط له تمام الحول؛ ولأن الدين ثابت كله بأصله وربحه، والله أعلم.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: إذا كان عند الإنسان بيت أو دكان يؤجره فهل يبدأ حول الأجرة للزكاة من حين العقد أو من استلام الأجرة؟
فأجاب فضيلته بقوله: يبتدىء حول الزكاة من العقد؛ لأن الأجرة تثبت بالعقد وإن كانت لا تستقر إلا باستيفاء المنفعة فإذا استوفى المنفعة وقبض الأجرة وقد تم لها سنة أي العقد وجب عليه إخراج زكاتها، وأما إذا قبضها في نصف السنة وأنفقها قبل أن تتم السنة فليس عليه زكاة فيها، فإذا قدر أنه أجر هذا الدكان بعشرة آلاف، ولما مر ستة أشهر أخذ خمسة آلاف ثم أنفقها، فإن الخمسة(18/19)
التي أخذها ليس فيها زكاة؛ لأنها لم يتم عليها الحول من العقد، وأما الخمسة الباقية التي يأخذها عند تمام الحول فعليه زكاتها؛ لأنها تم عليها الحول من العقد.
* * *(18/20)
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
س 1: والدنا توفي من مدة سنة وخمسة شهور وعنده أراضي، ولما توفي أصبحت الأراضي ملك الورثة، وبعد وفاته بستة شهور قام الورثة ببيع الأراضي وقسموا الورث فيما بينهم، وهذه المبالغ قسمت مدة خمسة شهور هل يزكى على هذه المبالغ وهي لم تكمل سنة؟
س 2: أيهما أفضل الوضوء بماء بارد أو بماء دافىء في الشتاء؟
أفتونا جزاكم الله خيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
ج 1: لا زكاة عليكم حتى يحول الحول
ج 2: الوضوء بالماء الدافىء أفضل.
أملاه محمد الصالح العثيمين في 11/9/2141هـ.(18/21)
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: عن رجل مات وترك مالاً ولم يحل عليه الحول، وظل هذا المال فترة لم يوزع على الورثة فهل إذا حال الحول عليه تخرج زكاته؟
فأجاب فضيلته بقوله: أما بالنسبة للميت الذي مات قبل أن يتم الحول فلا زكاة عليه، لأنه مات قبل الوجوب، فلا يقضى عنه.
أما بالنسبة للورثة فالذي يبلغ نصيبه نصاباً عليه الزكاة إذا تم الحول على موت مورثه، والذي ماله قليل لا يبلغ النصاب وليس عنده ما يكمله به فإنه لا زكاة عليه.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: يشترط في الزكاة مضي الحول فما كيفية إخراج زكاة الرواتب الشهرية؟
فأجاب فضيلته بقوله: أحسن شيء في هذا أنه إذا تم حول أول راتب استلمه فإنه يؤدي زكاة ما عنده كله، فما تم حوله فقد أخرجت زكاته في الحول، وما لم يتم حوله فقد عجلت زكاته، وتعجيل الزكاة لا شيء فيه، وهذا أسهل عليه من كونه يُراعي كل شهر على حدة، لكن إن كان ينفق راتب كل شهر قبل أن يأتي راتب الشهر الثاني فلا زكاة عليه؛ لأن من شروط وجوب الزكاة في المال أن يتم عليه الحول.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هناك استحقاقات لبعض الموظفين العاملين في قطاعات الدولة المختلفة، وهذه(18/22)
الاستحقاقات لا يتم صرفها لمستحقيها في بعض الأحيان إلا بعد مضي عدة سنوات، فهل تجب فيها الزكاة؟ وهل تكون الزكاة لسنة واحدة فقط؟ أم تجب لمجموع السنوات التي أمضتها هذه المبالغ لدى الدولة؟ وفي حالة كون صاحب الاستحقاق عليه دين فهل يزكي على ما استلم من استحقاق وما تبقى يسدد به الدين؟ أم تسقط عنه الزكاة لسداد دينه؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا قبض الموظف ماله عند الحكومة فإن كان قبل تمام السنة فلا زكاة فيه حتى تتم عليه سنة، وإن قبضه بعد تمام السنة فإنه يزكيه مرة واحدة، سواء مضى عليه سنة واحدة أو سنتان أو أكثر. وسواء كان عليه دين أم لم يكن؛ لأن الدين لا يمنع وجوب الزكاة في الأموال التي بيد المدين على القول الراجح. قاله كاتبه محمد الصالح العثيمين في 4/6/1410 هـ.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما حكم زكاة الديون؟
فأجاب فضيلته بقوله: الديون التي في ذمة الناس سواء كانت ثمناً لمبيع، أو أجرة، أو قرضاً، أو قيمة متلف أو أرش جناية، أو غير ذلك مما يثبت في الذمة تنقسم إلى قسمين:
الأول: أن تكون مما لا تجب الزكاة في عينه كالعروض بأن يكون عند الإنسان لشخص ما مئة صاع من البر أو أكثر، فهذا الدين لا زكاة فيه، وذلك لأن الزروع أو الحبوب لا تجب الزكاة في عينها إلا لمن زرعها.(18/23)
وأما الثاني: فهي الديون التي تجب الزكاة في عينها كالذهب والفضة، وهذا فيه الزكاة على الدائن لأنه صاحبه، ويملك أخذه والإبراء منه فيزكيه كل سنة إن شاء زكاه مع ماله، وإن شاء أخر زكاته، وأخرجها إذا قبضه، فإذا كان لشخص عند آخر مائة ألف فإن من له المئة يزكيها كل عام، أو فإن الزكاة تجب على من هي له كلها لكنه بالخيار: إما أن يخرج زكاتها مع ماله، وإما أن ينتظر حتى يقبضها ثم يزكيها لما مضى، هذا إذا كان الدين على موسر، فإن كان الدين على معسر فإن الصحيح أن الزكاة لا تجب فيه؛ لأن صاحبه لا يملك المطالبة به شرعاً، فإن الله تعالى يقول: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} فهو حقيقة عاجز شرعاً عن ماله فلا تجب عليه الزكاة فيه، لكن إذا قبضه فإنه يزكيه سنة واحدة فقط، وإن بقي في ذمة المدين عشر سنوات؛ لأن قبضه إياه يشبه تحصيل ما خرج من الأرض يزكى عند الحصول عليه، وقال بعض أهل العلم: لا يزكيه لما مضى، وإنما يبتدىء به حولاً من جديد، وما ذكرناه أحوط وأبرأ للذمة أنه يزكيه عن سنة واحدة لما مضى، ثم يستأنف به حوله، والأمر في هذا سهل، وليس من الصعب على الإنسان أن يؤدي ربع العشر من دينه الذي قبضه بعد أن أيأس منه، فهذا من شكر نعمة الله عليه بتحصيله. هذا هو القول في زكاة الديون.
والخلاصة أنه ثلاثة أقسام:
القسم الأول: لا زكاة فيه: وهو إذا كان الدين مما لا تجب الزكاة في عينه، مثل أن يكون في ذمة شخص لا"خر أصواع من البر(18/24)
أو كيلوات من السكر أو من الشاي وما أشبه ذلك، فهذا لا زكاة فيه حتى ولو بلغ النصاب.
القسم الثاني: الدين الذي تجب الزكاة في عينه كالذهب والفضة، ولكنه على معسر فهذا لا زكاة فيه إلا إذا قبضه، فإنه يزكيه لسنة واحدة، ثم يستأنف به حولاً، وقيل: إنه يستأنف به حولاً على كل حال، ولكن ما قلناه أولى لما ذكرنا من التعليل.
القسم الثالث: ما فيه الزكاة كل عام، وهو الدين الذي تجب فيه الزكاة لعينه، وهو على موسر، فهذا فيه الزكاة كل عام، ولكن إن شاء صاحب الدين أن يخرج زكاته مع ماله، وإن شاء أخرها حتى يقبضه من المدين.
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: عن الديون التي في ذمم الناس هل فيها زكاة؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كانت الديون على مليء ففيها الزكاة كل عام، لكن صاحبها بالخيار: إن شاء أخرج الزكاة مع زكاة ماله، وإن شاء أخر زكاة الديون حتى يقبضها، فيزكيها لكل ما مضى.
أما إذا كانت الديون على غير مليء فلا زكاة فيها على القول الراجح، لكن إذا قبضها يؤدي زكاة سنة واحدة.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: لي أمانة عند رجل منذ أربع سنوات وزكيت عنها ثلاث سنوات، وطلبت(18/25)
الأمانة التي ادخرتها عنده في السنة الأخيرة فلم يعطني شيئاً منها، هل تجب الزكاة في السنة الأخيرة أم لا؟
فأجاب فضيلته بقوله: الأمانة التي للإنسان عند الناس هي في الحكم الموجود في ماله، يجب عليه أن يزكيها إلا إذا منع منها، بمعنى أن الذي كانت عنده قد أنفقها وكان فقيراً، فإنه لا يجب عليك أن تؤدي زكاتها؛ لأن الدين الذي في ذمة الفقراء ليس فيه زكاة لكن إذا قبضتها فزكاها لسنة واحدة، وذلك لأن الديون التي في ذمة الفقراء يجب على أصحابها أن ينظروا هؤلاء الفقراء، وأن لا يطلبوا منهم الوفاء، ولا يطالبوهم به، فإنه لا يجوز للإنسان إذا كان له مدين فقير لا يجوز له أن يقول له: أعطني ديني، ولا يتكلم إليه ولا بربع كلمة، لأن الله تعالى يقول: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} . ومن المؤسف جداً أن يكون في بعض هذه الأمة من يشبهون اليهود في أكل الربا والعياذ بالله؛ فإن بعض الناس يأكلون الربا ويظلمون الناس، إذا حل الدين على الفقير الذي لا يستطيع وفاءه، ذهب هذا الطالب يتحيل على قلب الدين على الفقير فيدينه ليوفيه ويقلب عليه الدين، أو يقول: استدن من فلان وأوفني. ثم إذا أوفاه دينه مرة ثانية ليوفي الدائن الثاني، وهكذا حتى تنقلب المئات إلى ألوف، والألوف إلى مئات الألوف، ومئات الألوف إلى الملايين على هذا الفقير المعدم. وهؤلاء والعياذ بالله عصوا الله عز وجل فلم يخافوا منه، ولم يرحموا هؤلاء الفقراء، والواجب عليك إذا كان لك عند فقير معسر دين أن(18/26)
تسكت ولا تطلب منه الدين ولا تطالبه به، وأنت إذا طالبته أو طلبته منه فإنك عاصٍ لله عز وجل.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: عندي مبلغ خمسون ألف ريال، وأعطيتها والدي ليحفظها وعندما قلت لوالدي: أخرج الزكاة عني. قال: إني قد صرفتها وسأعطيك بدلاً منها فيما بعد. فهل علَّي زكاة أم لا؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذه المسألة مثل المسألة السابقة في الحقيقة، والظاهر من السؤال أن والده أنفقها أخرج هذه الدراهم وبقيت في ذمته، فإذا كانت في ذمة الوالد فمن العلماء من يقول: إن الدين الذي على الوالد لا زكاة فيه؛ لأنه لا يمكن الولد مطالبة أبيه بالدين، فهو كالدين الذي على المعسر، فلا يجب على الإنسان أن يؤدي زكاة دين كان على أبيه؛ لأنه لو أراد أن يطلبه من أبيه أو يطالبه به لم يتمكن من ذلك شرعاً، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أنت ومالك لأبيك» .
وقال بعض العلماء: إن الدين الذي في ذمة الوالد إذا لم ينوِ الوالد تملك هذه الدراهم فإنه تجب زكاته، والاحتياط أن يخرج زكاة الدين الذي في ذمة أبيه، لاسيما إذا كان أبوه موسراً وسهلاً لو أراد أن يستوفيه ولده أعطاه إياه بسرعة، فإنه ينبغي أن تجب الزكاة فيه حينئذ، وهذا أحسن وأولى أن يؤدي الزكاة عن الدين الذي في ذمة(18/27)
أبيه، إلا أن يكون الأب معسراً فإن كان معسراً فإنه كغيره من المدينين المعسرين لا تجب الزكاة في الديون التي عليهم.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: عن زكاة الدين؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يجب على من له دين على شخص أن يؤدي زكاته قبل قبضه؛ لأنه ليس في يديه، ولكن إن كان الدين على موسر فإن عليه زكاته كل سنة، فإن زكاها مع ماله فقد برئت ذمته، وإن لم يزكها مع ماله وجب عليه إذا قبضها أن يزكيها لكل الأعوام السابقة، وذلك لأن الموسر يمكن مطالبته فتركه باختيار صاحب الدين، أما إذا كان الدين على معسر أو غني لا يمكن مطالبته فإنه لا يجب عليه زكاته لكل سنة، وذلك لأنه لا يمكنه الحصول عليه، فإن الله تعالى يقول: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} ، فلا يمكن أن يستلم هذا المال وينتفع به فليس عليه زكاته، ولكن إذا قبضه فمن أهل العلم من يقول: يستقبل به حولاً من جديد، ومنهم من يقول: يزكي لسنة واحدة، وإذا دارت السنة يزكيه أيضاً، وهذا أحوط. والله أعلم.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: إذا كانت جميع مستحقاتي من مشاريع سواء لدى الحكومة أو لدى الأفراد متأخرة وليس لديّ سيولة إلا من خلال الاقتراض من البنوك بزيادة ربوية فهل يحق لي أن أدفع الزكاة منها أو أنتظر حتى استلام مستحقاتي؟(18/28)
فأجاب فضيلته بقوله: لا يجوز أخذ القرض أصلاً من البنك مع زيادة ربوية؛ لأنه حرام طالما هو بفائدة فكيف يدفع منها الزكاة؟
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: معروف أن صوامع الغلال تستلم محصول القمح والشعير كل عام ثم تقوم بدورها باستقطاع الزكاة وتقوم بتسليم المزارع قيمة المحصول في نفس العام هذا في السنوات الماضية. أما الآن فإن قيمة المحصول تبقى لدى الصوامع لعدة سنوات فهل قيمة المحصول هذا تجب فيها الزكاة عن سنة واحدة أم عن كل السنوات الماضية؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا تجب الزكاة فيما عند الحكومة سواء قيمة زرع أو أجرة أو أي شيء آخر حتى تقبضه فإذا قبضته فزكي سنة واحدة حتى لو بقي عند الدولة خمس أو عشر سنوات أو أكثر زكه سنة واحدة فقط، وجه ذلك لأن بقاءه عند الحكومة قد تأخر لظروف لا يستطيع صاحب الحق أن يستوفيه.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: امرأة مؤخر صداقها ثلاثة آلاف ريال، وتقول: إذا أخرجت الزكاة كل عام فسينفد عن قريب فما العمل؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان الزوج فقيراً فلا تزكي ما في ذمته من المهر، وهكذا كل دين، فالدين الذي في ذمة فقير لا زكاة(18/29)
عليه؛ لأن صاحب الدين لا يستطيع أن يستوفيه؛ لأن الفقير يجب إنظاره ولا يجوز طلبه ولا مطالبته ولا حبسه، بل يجب إذا علم الإنسان أن مدينه معسر أن يعرض عنه ولا يطلب منه الوفاء ولا يجوز أن يحبس على ذلك.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل يصح تأجيل صداق المرأة؟ وهل هو دين على الرجل يلزم بدفعه؟ وهل تجب الزكاة فيه؟
فأجاب فضيلته بقوله: الصداق المؤجل جائز ولا بأس به؛ لقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَْنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّى الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} ، والوفاء بالعقد يشمل الوفاء به وبما شرط فيه.
فإذا اشترط الرجل تأجيل الصداق أو بعضه فلا بأس، ولكن يحل إن كان قد عين له أجلاً معلوماً، فيحل بهذا الأجل، وإن لم يؤجل فيحل بالفرقة: بطلاق، أو فسخ، أو موت، ويكون ديناً على الزوج يطالب به بعد حلول أجله في الحياة، وبعد الممات كسائر الديون.
وتجب الزكاة على المرأة في هذا الصداق المؤجل إذا كان الزوج ملياً، وإن كان فقيراً فلا يلزمها زكاة.
ولو أخذ الناس بهذه المسألة وهي تأجيل المهر لخفف كثيراً على الناس في الزواج.
ويجوز للمرأة أن تتنازل عن مؤخر الصداق إن كانت رشيدة،(18/30)
أما إن أكرهها أو هددها بالطلاق إن لم تفعل فلا يسقط؛ لأنه لا يجوز إكراهها على إسقاطه.
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: رجل يقول: إذا دينت مبلغاً من المال في رمضان فهل يجب علَّي إخراج زكاة المصلحة (الغائبة) أو بعدما يحول عليها الحول؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم يجب عليه إخراج زكاة الغائبة، وذلك أن الدين قد ثبت في ذمة المدين بأصله وربحه، ولذلك لو مات المدين ثبت للدائن الحق كاملاً في ذمته، وحل تأجيله على المذهب إذا لم يوثق الورثة برهن يحرز أو كفيل مليء، فمثلاً إذا بعت على شخص سلعة تساوي ألفاً بألف ومائتين إلى سنة، ومات المشتري بعد عقد البيع بشهر واحد أو بيوم واحد ثبت لك في تركته ألف ومائتان كاملة حالة غير مؤجلة إلا أن يوثق الورثة برهن يحرز أو كفيل مليء فإنها تبقى كاملة مؤجلة إلى أجلها، كما أنه لو أراد المشتري أن ينقد لك الثمن قبل حلول أجله وطلب منك أن تسقط مقابل الأجل من الربح لم يلزمك قبول ذلك بل لك الحق أن تقول: لا أقبله الآن إلا كاملاً، وإلا فيبقى إلى أجله، ولك أن تتعجل وتسقط على القول الصحيح، والمذهب: يجوز لك أن تتعجل لكن بدون إسقاط، فإذا تبين أن هذا الربح ملك لك لا يمكن أن يسقط إلا باختيارك وأنه لو وجد ما يوجب حلوله لحل كاملاً، فلماذا لا تجب زكاته وإن لم يحل أجله، ثم إن هذه الغائبة كما يقولون ربح للأصل، وقد نص العلماء على أن ربح التجارة لا يشترط له تمام(18/31)
الحول، وأن حوله حول أصله، ولذلك لو اشتريت عروضاً بألف ريال وقبل تمام الحول بأسبوع فقط زادت قيمتها حتى بلغت عند الحول ألفين وجب عليك زكاة الألفين كلها.
وبعد فلعلك تعرف أن الدين وإن وجبت زكاته فإنه لا يجب إخراجها إلا بعد قبضه، فإذا قبضه زكاه لما مضى عن جميع السنوات إن كان المدين غنيًّا، أو عن سنة واحدة سنة قبضه إن كان المدين فقيراً.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: بعت على شخص سيارة وبقي لي عنده خمسة آلاف ولها سنوات، والشخص اختفى لا أدري أين هو، هل أزكي عنها؟
فأجاب فضيلته بقوله: الدين الذي على معسر ليس فيه زكاة، إلا إذا قبضته فإنك تزكيه سنة واحدة، والآن مادمت لا تعرف أين ذهب الرجل فليس عليك زكاة.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: عندي مبلغ من المال مرت عليه ثلاث سنوات ولم أزكه، فكيف أزكيه؟ ولمن تدفع الزكاة؟ ومتى تخرج؟
فأجاب فضيلته بقوله: زكاة المال الواجبة مقدارها في الذهب والفضة ربع العشر، بمعنى أن تقسم ما لديك على أربعين، فما خرج بالقسمة فهو الزكاة، وإذا كنت تركت الزكاة ثلاث سنوات فاقسم المال على أربعين، والناتج يكون زكاة السنة الأولى، ثم(18/32)
اقسمه على أربعين لتخرج زكاة السنة الثانية، ثم اقسمه على أربعين لتخرج زكاة السنة الثالثة.
وأما من تدفع إليهم الزكاة فقد ذكرهم الله في قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِى سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} فيعطي الفقراء والمساكين ما يكفيهم وعائلتهم لمدة سنة، ويعطي الغارمين منها ما يوفون به ديونهم.
وأما وقت إخراج الزكاة فإنه إذا تم للمال الزكوي سنة، فإنه تخرج زكاته، إلا زكاة الثمار والحبوب فإن وقت إخراجها وقت حصادها، ولكنها تجب إذا اشتد الحب وبدا صلاح الثمر كما هو معروف عند أهل العلم.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: إذا كان الدين عند أناس فقراء واستمر مدة من الزمن فهل عليه زكاة؟ وعن أي سنة؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كانوا فقراء فليس عليك زكاة إلا إذا قبضته لو بقي عشر سنين، تُزكِّيه لسنة واحدة السنة الحاضرة فقط وإذا كان عند أغنياء يمكنك أن تقول: أعطوني مالي. ويعطونك إياه، فهذا تُزكيه كل سنة، ولكن أنت بالخيار: إن شئت أخرجت زكاته مع مالك قبل أن تقبضه منهم، وإن شئت انتظرت حتى تأخذه، وفي هذه الحال لو فُرض أنك انتظرت حتى تأخذ ثم افتقروا ولم يوفوا فليس عليك زكاة.(18/33)
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل تجب الزكاة في المال المرهون؟ وهل في القرض زكاة؟
فأجاب فضيلته بقوله: المال المرهون تجب الزكاة فيه إذا كان مالاً زكوياً، لكن يخرجها الراهن منها إذا وافق المرتهن، مثال ذلك: رجل رهن ماشية من الغنم والماشية مال زكوي رهنها عند إنسان، فالزكاة فيها واجبة لابد منها؛ لأن الرهن لا يسقط الزكاة، ويخرج الزكاة منها، لكن بإذن المرتهن.
وأما القرض فقد سبق لنا أن القرض إذا كان على غني باذل ففيه الزكاة كل سنة، وإذا كان على فقير فليس فيه زكاة لو بقي عشر سنين إلا إذا قبضه فيزكيه بسنة واحدة.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما حكم دفع الزكاة للمدين المعسر؟ وهل في الدين زكاة؟
فأجاب فضيلته بقوله: دفع الزكاة إلى المدين المعسر الذي لا يجد الوفاء أو دفعها إلى غريمه جائز ومجزىء؛ لأن الآية الكريمة تدل على هذا، قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِى سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} فالتعبير مختلف بين الأربعة الأول، وبين الأربعة الأخر.
الأربعة الأول كان التعبير باللام الدالة على التمليك، فلابد أن تملكهم، أي: تعطيهم الزكاة وتتركهم يفعلون ما شاءوا، وفي الأربعة الأخر كان التعبير بفي، وهي للظرفية لا للتمليك، قال(18/34)
تعالى: {وَفِى الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِى سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} {الغارمين} : معطوف على الرقاب، فيكون التقدير «في» وعلى هذا فيجوز أن تذهب إلى الغريم الذي يطالب الفقير وتوفي عنه.
ولكن هنا مسألة: هل الأولى أن أذهب إلى الغريم وأوفيه دون أن أعطي الفقير، أو أن أعطي الفقير؟
هذا فيه تفصيل: إذا علمت أن الفقير الذي تريد القضاء عنه رجل ديِّن يحبُّ إبراء ذمته، وأنك إذا أعطيته سوف يذهب إلى صاحبه ويوفيه فأعطه هو؛ لأن ذلك أجبر لخاطره، وأبعد من الخجل، وأسلم من الرياء الذي قد يصيب الإنسان، فكونك تعطي المدين في هذه الحال أولى.
أما إذا خفت أن يكون المدين متلاعباً تعطيه ليوفي، لكن يذهب فيلعب بها أو يشتري كماليات أو غيرها فلا تعطها إياه، بل اذهب إلى صاحبه الذي يطلبه وأوفه.
وأما زكاة الديون فقد سبق الكلام عنها.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: إذا أقرض شخص شخصاً آخر كيف يزكي عن هذا؟ ولو تأخر ثلاث سنين؟
فأجاب فضيلته بقوله: الدَّين فيه تفصيل: إذا كان الدين على معسر فلا زكاة فيه ولو بقي عشر سنوات، لكن إذا قبضته فتؤدي زكاة سنة واحدة فقط.
أما إذا كان على غني باذل وامتدت المدة فتزكيه كل سنة لكنك بالخيار: إن شئت تدفع زكاته مع مالك كل سنة، وإن شئت إذا(18/35)
قبضته تزكي لما مضى، وأستحب أن تزكيه مع مالك، لأنه ربما يموت الإنسان ويتهاون الورثة في إخراج الزكاة. وربما يحصل أشياء تمنع الزكاة. فإذا أديته مع مالك يكون اطمئناناً لقلبك، أما إذا ماطل الغني، فإن كان لا يمكن مطالبته كالأب مثلاً وكالسلطان والأمير المتسلط وما أشبه ذلك فهو كالمعسر ليس فيه زكاة إلا سنة قبضه.
وأما إذا ماطل وهو يمكن مطالبته تشكوه على الأمير ويسلمك، فهذا عليك الزكاة فيه؛ لأن الأمر باختيارك.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: إذا استغرق الدين جميع المال فهل فيه زكاة؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم: منهم من يرى أن الدين لا يمنع وجوب الزكاة؛ لأن عمومات النصوص لم تفرق بين مدين وغيره، ولأن الزكاة إنما تجب في المال لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حين بعثه إلى اليمن: «أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم» فالزكاة واجبة في المال ومتعلقة به، والمال موجود بين يديه، والدين في ذمته، فقد اختلف المحل: الدين في الذمة، والزكاة في المال، والمال موجود يتصرف فيه الإنسان تصرف الملاك في أمالكهم تصرفاً حرًّا، فتجب الزكاة عليه(18/36)
في هذا المال ولو كان عليه مقداره من الدين. ومن العلماء من قال: إنه إذا كان على الرجل دين بمقدار ما بيده من المال الزكوي فإنه لا زكاة عليه، وليس لهم دليل من الأثر فيما أعلم، وإنما عندهم نظر، ومعنى يقولون: إن الزكاة وجبت مواساة. فإذا كانت وجبت للمواساة فإن المدين ليس أهلاً لها؛ لأن المال الذي بيده هو في الحقيقة لغيره لوجوب وفائه فليس أهلاً لأن يكون ممن يجب عليه مواساة إخوانه الفقراء.
ومن العلماء من فصَّل في هذا وقال: إذا كان المال ظاهراً فإن الدين لا يمنع وجوب الزكاة فيه، والمال الظاهر هو الذي ليس يخزن في الصناديق وراء الإبواب مثل الماشية والثمار والزروع، قالوا: فهذه وإن كان على صاحبها دين فيجب عليه إخراج زكاتها؛ لأنها أموال ظاهرة تتعلق بها أطماع الفقراء، والدين أمر خفي لا يعلم، فيجب أن تؤدى الزكاة من هذه الأموال الظاهرة، والنبي عليه الصلاة والسلام يرسل السعاة لقبض الزكاة من هذه الأموال ولم يستفصل أهلها: هل عليهم دين أو ليس عليهم دين.
والأموال الباطنة كالذهب والفضة والأوراق النقدية إذا كان على صاحبها دين بمقدار ما عنده منها لا زكاة عليه فيه.
والأرجح عندي: أن الزكاة تجب في المال ظاهراً أو باطناً ولو كان على صاحبه دين يستوعبه، وذلك لعموم الأدلة الدالة على وجوب الزكاة في الأموال، وكوننا نعلل بأن الزكاة مؤاساة، لا يوجب تخصيص هذه العمومات، والزكاة تلاحظ فيها العبادة أكثر مما تلاحظ المواساة؛ لأنها ركن من أركان الإسلام، والمواساة علة(18/37)
مستنبطة قد تكون من مراد الشارع، وقد لا تكون من مراد الشارع، اللهم إلا إذا كان الدين حالاًّ ويُطالب به، وأراد أن يوفيه فحينئذ نقول: أوف الدين، ثم زك ما يبقى بعده إذا بلغ نصاباً، ويؤيد ذلك ما قاله فقهاء الحنابلة في الفطرة فإنهم قالوا: لا يمنعها الدين إلا بطلبه، وكذلك الأثر المروي عن عثمان رضي الله عنه أنه كان يقول في شهر رمضان: «هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليقضه» فهذا يدل على أن الدين إذا كان حالاًّ وصاحبه يريد قضاءه قدمه على الزكاة، أما الديون المؤجلة فإنها لا تمنع وجوب الزكاة بلا ريب.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: عن الدين الذي يكون في ذمة الناس هل فيه زكاة؟
فأجاب فضيلته بقوله: الدين الذي يكون في ذمة الناس، إما أن يكون عند الأغنياء أو عند الفقراء، فإن كان عند الفقراء فليس فيه زكاة، إلا إذا قبضته تُزكيه لسنة واحدة، وأما الدين الذي عند الأغنياء ففيه زكاة كل سنة، ولكن إن أحببت أخرجت زكاته قبل القبض، وإن أحببت أخرجت زكاته بعد القبض.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: شخص عنده رأس مال قدره مائتا ألف ريال وعليه دين قدره مائتا ألف ريال بحيث يدفع منه كل سنة عشرة آلاف فما هو الحكم في ذلك؟(18/38)
فأجاب فضيلته بقوله: نعم تجب الزكاة في المال الذي في يده، وذلك لأن النصوص الواردة في وجوب الزكاة عامة، ولم تستثنِ شيئاً، لم تستثنِ مَن عليه دين. وإذا كانت النصوص عامة وجب أن نأخذ بها، ثم إن الزكاة واجبة في المال، لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صلاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما رواه البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما حين بعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معاذاً إلى اليمن قال: «أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم» فبين الله تعالى ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الزكاة في المال، وليست في ذمة الإنسان، والدين واجب في ذمته، فالجهة منفكة، وإذا كانت الجهة منفكة فإن أحدهما لا يجب على الآخر، وإذا لم يجب أحدهما على الآخر لم يوجد التعارض، وعلى هذا فتجب زكاة المال الذي بيدك والدين واجب في ذمتك، فهذا له وجهة، وهذا له وجهة، فعلى المرء أن يتقي ربه ويخرج الزكاة عما في يده، ويستعين الله تعالى في قضاء الدين الذي عليه، ويقول: اللهم اقضِ عني الدين واغنني من الفقر. وربما يكون أداء زكاة المال الذي بيده سبباً في بركة هذا المال ونمائه، وتخليص ذمته من الدين، وربما يكون منع الزكاة منه سبباً في فقره، وكونه يرى نفسه دائماً في حاجة وليس من أهل الزكاة، واحمد الله عز وجل أن جعلك من المعطين ولست من الا"خذين، ثم إن تعليل بعض العلماء الذين يقولون: إن الدين يسقط الزكاة تعليلهم ذلك بأن الزكاة وجبت مواساة، والمدين ليس أهلاً لها نقول: لا نستطيع أن نجزم أن الزكاة وجبت مواساة، بل(18/39)
الزكاة وجبت بما فيها من عبادة الله عز وجل، ولما فيها من كبح النفس عن الشح، ولما في ذلك من سد الحوائج العامة والخاصة بالمسلمين، ولهذا وجب صرفها في سبيل الله، وليس ذلك من باب المواساة، فالجزم بأن العلة هي
المواساة وأن المدين ليس أهلاً لها هذا يحتاج إلى نص من الكتاب والسنة، وليس في ذلك نص، بل إن النصوص تدل على أن الزكاة إنما وجبت لأنها عبادة عظيمة يتقي بها الإنسان الشح، ويتعبد بها الإنسان لله تعالى، ويعرف بها تفضيل عبادة الله وتقديمها على هوى نفسه ومحبته للمال، وتسد بها حاجات عظيمة خاصة وعامة.
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: أنا رجل صاحب عقارات أبيع وأشتري، وقد يحين علّي وقت الزكاة إلا أن علّي ديوناً للا"خرين.. فكيف أزكي عقاراتي التي دار عليها الحول مع وجود الديون علّي أرجو بيان ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذه المسألة تحتاج إلى تفصيل، وذلك أن القول الراجح عندي أن الزكاة تجب على من عنده مال زكوي. ولو كان عليه دين، وأن الدين لا يمنع الزكاة نهائيًّا، لأن الدين واجب في الذمة، فهو واجب على المدين؛ سواء بقي معه المال الزكوي أو لم يبق. حتى ولو تلف المال الذي معه كله، فإن الذمة تبقى مشغولة بهذا الدين، فلا علاقة لهذا الدين بالمال الذي بين يديه.
وأما الزكاة فإنها واجبة في المال، لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ(18/40)
صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صلاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صلاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} . ولقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حينما بعثه إلى اليمن: «أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم» ، ثم إن عموم الأدلة في الأموال الزكوية ليس فيها استثناء من عليه دين، وعلى هذا فمن أسقطوا الزكاة بالدين فعليهم بالدليل. ولا دليل لهم إلا أنهم قالوا: تجب الزكاة مواساة، والمدين ليس من أهل المواساة، فنقول: ليست للمواساة فقط، بل كما قال عز وجل: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صلاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} .
فإنها تطهر الإنسان من البخل، وتزكي أعمالهم وتنميها قبل كل شيء، أما المواساة فهي في المرتبة الثانية، ويدل عليها قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمعاذ: «تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم» فهذا يشير إلى أن من حكمة الزكاة أن تسد حاجة الفقراء، ولكنها ليست هي الحكمة الأساسية.
وعلى هذا فنقول: إن المدين تجب عليه الزكاة في ماله، فيعطي الفقير منها، أو من الأصناف الثمانية المذكورين في سورة التوبة، فإذا احتاج المدين إلى ما يسدد دينه يعطى من الزكاة، لأن الغارم الذي لا يجد ما يسد ما عليه من ديون هو من أهل الزكاة، هذا هو القول الراجح في المسألة.
فنقول للأخ: جميع الأموال الزكوية أخرج ما عليها من زكاة، والديون سيجعل الله لك فرجاً ومخرجاً، قال تعالى: {وَمَن(18/41)
يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} . والله الموفق.
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل تصح صدقة المدين؟ وماذا يسقط عن المدين من الحقوق الشرعية؟
فأجاب فضيلته بقوله: الصدقة من الإنفاق المأمور به شرعاً، والإحسان إلى عباد الله إذا وقعت موقعها، والإنسان مثاب عليها، وكل امرىء في ظل صدقته يوم القيامة، وهي مقبولة سواء كان على الإنسان دين أم لم يكن عليه دين، إذا تمت فيها شروط القبول، بأن تكون بإخلاص لله عز وجل، ومن كسب طيب، ووقعت في محلها، فبهذه الشروط تكون مقبولة بمقتضى الدلائل الشرعية، ولا يشترط أن لا يكون على الإنسان دين، لكن إذا كان الدين يستغرق جميع ما عنده فإنه ليس من الحكمة ولا من العقل أن يتصدق والصدقة مندوبة وليست بواجبة ويدع ديناً واجباً عليه، فليبدأ أولاً بالواجب ثم يتصدق.
وقد اختلف أهل العلم فيما إذا تصدق وعليه دين يستغرق جميع ماله: فمنهم من يقول: إن ذلك لا يجوز له؛ لأنه إضرار بغريمه، وإبقاء لشغل ذمته بهذا الدين الواجب.
ومنهم من قال: إنه يجوز، ولكنه خلاف الأولى، وعلى كل حال فلا ينبغي للإنسان الذي عليه دين يستغرق جميع ما عنده أن يتصدق حتى يوفي الدين؛ لأن الواجب مقدم على التطوع.
وأما الحقوق الشرعية التي يعفى عنها من عليه دين حتى يقضيه:(18/42)
فمنها الحج، فالحج لا يجب على الإنسان الذي عليه دين حتى يوفي دينه.
أما الزكاة فقد اختلف أهل العلم: هل تسقط عن المدين أو لا تسقط؟
فمن أهل العلم من يقول: إن الزكاة تسقط فيما يقابل الدين، سواء كان المال ظاهراً أم غير ظاهر.
ومنهم من يقول: إن الزكاة لا تسقط فيما يقابل الدين، بل عليه أن يزكي جميع ما في يده ولو كان عليه دين ينقص النصاب.
ومنهم من فصّل فقال: إن كان المال من الأموال الباطنة التي لا ترى ولا تشاهد: كالنقود وعروض التجارة فإن الزكاة تسقط فيما يقابل الدين، وإن كان المال من الأموال الظاهرة: كالمواشي والخارج من الأرض فإن الزكاة لا تسقط.
والصحيح عندي أنها لا تسقط، سواء كان المال ظاهراً أم غير ظاهر، وأن كل من في يده مال مما تجب فيه الزكاة فعليه أن يؤدي زكاته ولو كان عليه دين، وذلك لأن الزكاة إنما تجب في المال؛ لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صلاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} . ولقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حينما بعثه إلى اليمن: «أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم» . والحديث في البخاري بهذا اللفظ، وبهذا الدليل من الكتاب والسنة تكون الجهة منفكة، فلا تعارض بين الزكاة وبين الدين؛ لأن الدين يجب في الذمة، والزكاة تجب في المال، فإذاً كلٌّ(18/43)
منهما يجب في موضع دون ما يجب فيه الآخر، فلم يحصل بينهما تعارض ولا تصادم، وحينئذٍ يبقى الدين في ذمة صاحبه، وتبقى الزكاة في المال يخرجها منه بكل حال.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: يقول السائل: أنا تاجر أملك رأس مال خاص بي، وعندي دين بضاعة من المؤسسات أقوم بتقدير جميع ما أملك بالإضافة إلى الدين الذي عندي للمؤسسات، وأزكي عليها جميعاً في نهاية العام، فقال لي بعض الناس: اخصم الدين الذي عندك للناس وزكِّ رأس المال الصافي؛ لأن الناس سيقومون بزكاة مالهم الذي عندك. لذا أرجوك يا فضيلة الشيخ حسم هذا الموضوع؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا الموضوع لا يمكن حسمه في الواقع؛ لأن العلماء مختلفون في هذه المسألة: إذا كان عند الإنسان مال يتجر به وعليه دين يقابل هذا المال: فهل يخصم الدين من المال الذي عنده أو لا يخصمه، في هذا للعلماء أقوال ثلاثة، والذي يظهر لي أن الواجب زكاة المال الذي بيده، بدون أن يخصم الدين، فإذا قدر أن رجلاً عنده مال يساوي مائة ألف، وعليه دين قدره خمسون ألفاً، يزكي على القول الذي اخترناه مائة ألف، ولا يخصم منها الدين الذي كان عليه.
وعلى القول الثاني: يزكي عن خمسين ألفاً، ويخصم مقدار الدين الذي عليه.
وقول ثالث يقول: إن الأموال الظاهرة لا تخصم منها(18/44)
الديون، والأموال الباطنة تخصم منها الديون والأموال الباطنة هي الذهب والفضة وعروض التجارة؛ لأن هذه يتصرف فيها الإنسان دون أن تظهر للناس.
والأموال الظاهرة هي بهيمة الأنعام والخارج من الأرض من الحبوب والثمار. يقول: هذه لا يخصم منها الدين، فإذا قدر أن شخصاً عنده نخل وثمره يساوي عشرة آلاف ريال، وعليه دين يبلغ خمسة آلاف ريال، فإن هذا الدين لا يخصم، ويجب عليه أن يزكي جميع الثمر، وكذلك لو كان عنده مائة من الإبل وعليه دين يستغرق خمسين بعيراً فإنه يجب أن يزكي جميع المائة. وحجة هذا القول الذي يفرق بين المال الظاهر والباطن؛ أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يبعث العمال لأخذ الزكاة فيأخذونها بدون أن يستفصلوه: هل على صاحبها دين أم لا؟
ولكن: الذي يترجح عندي أن كل من بيده مال فإنه يجب عليه إخراج زكاته، سواء كانت ذمته سالمة من الدين أم مشغولة بالدين.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: عن امرأة كان عندها ذهب يبلغ النصاب، وفي أثناء الحول أبدلته بذهب آخر فهل ينقطع الحول، وتحسب الحول من وقت الإبدال أو لا ينقطع؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا ينقطع الحول في هذه المسألة؛ لأن هذه المرأة أبدلت الذهب بجنسه.
* * *(18/45)
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: عن رجل توفي وفي ذمته زكاة: فهل تخرج وتقدم على قسمة التركة؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان هذا الرجل المسؤول عنه يخرج الزكاة في حياته، ولكن تم الحول ومات، فعلى الورثة إخراج الزكاة، لقوله عليه الصلاة والسلام: «اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء» .
وأما إذا كان تعمد ترك إخراج الزكاة ومنعها بخلاً فهذا محل خلاف بين العلماء رحمهم الله والأحوط والله أعلم أن الزكاة تخرج، لأنه تعلق بها حق أهل الزكاة فلا تسقط، وقد سبق حق أهل الزكاة في هذا المال حق الورثة، ولكن لا تبرأ ذمة الميت بذلك؛ لأنه مصر على عدم الإخراج، والله أعلم.
* * *(18/46)
باب زكاة بهيمة الأنعام(18/47)
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل في المواشي التي تعلف نصف السنة زكاة؟
فأجاب فضيلته بقوله: المواشي التي تعلف نصف السنة كاملاً ليس فيها زكاة، وذلك لأن زكاة المواشي لا تجب إلا إذا كانت سائمة، والسائمة هي التي ترعى مما أنبته الله في الأرض السنة كاملة أو أكثر السنة، وأما ما يعلف بعض السنة أو نصف السنة فإنه لا زكاة فيه، إلا إذا كانت معدة للتجارة، فهذه لها حكم زكاة العروض، وإذا كانت كذلك فإن فيها الزكاة حيث تقدر كل سنة بما تساوي، ثم يخرج ربع عشر قيمتها، أي اثنين ونصف في المئة من قيمتها.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: اشتريت إبلاً منذ أكثر من عام، لكي أنتفع بشرب حليبها، وبيع الذكران منها، ولها راع يرعاها بأجر شهري، وأصرف عليها أيضاً علفاً شهريًّا، وقد تجاوزت أكثر من نصاب، فهل تجب فيها الزكاة أم لا؟
فأجاب فضيلته بقوله: الذي يظهر من هذا أن صاحب الإبل أرادها للاقتناء لا للتجارة، لأن الذي يشتري الإبل تارة يشتريها للاقتناء والبقاء والنسل، وتارة يشتريها للتجارة يبيع هذه ويشتري هذه، أما الذي يقتنيها للتجارة، فإن حكمها حكم عروض التجارة، بمعنى أنها تقدر عند تمام الحول بما تساوي من الدراهم(18/49)
وتأخذ زكاتها من الدراهم، حتى لو كانت ناقة واحدة.
أما إذا كان الإنسان يقتنيها للنسل والدر، فهذه ليس فيها زكاة إلا إذا كانت سائمة.
والسائمة هي التي ترعى المباح، أي ترعى ما أنبته الله عز وجل من النبات السنة كاملة أو أكثرها، فإذا كان يصرف عليها فلا زكاة فيها، ولو كانت تبلغ نصاب الإبل، وبناءً على ذلك نقول: الإبل الموجودة عند الفلاحين التي يعدونها للتناسل والدر لا تجب فيها الزكاة؛ لأن الفلاحين يعلفونها والزكاة لا تجب في هذا النوع مما يقتنى، إلا إذا كان يرعى السنة كلها أو أكثرها، وبيع الذكور لا يعد هذا تجارة؛ لأننا نعلم أن الثمار التي في عهد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والتي أوجب فيها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زكاة الثمار يبيعها أهلها، أو يبيعون ما لا يحتاجون إليه منها.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: لدي إبل وغنم سائمة فآمل من فضيلتكم بيان النصاب والواجب فيه حتى نتمشى على ذلك براءة للذمة؟
فأجاب فضيلته بقوله: أقل نصاب الإبل خمس، وفيها شاة، وفي عشر شاتان، وفي خمس عشرة ثلاث شياه، وفي عشرين أربع شياه، وفي خمس وعشرين بنت مخاض وهي بكرة صغيرة لها سنة، وفي ست وثلاثين بنت لبون، وهي ما تم لها سنتان، وفي ست وأربعين حقة، وهي ما تم لها ثلاث سنوات، وفي إحدى وستين جذعة، وهي ما تم لها أربع سنوات، وفي ست وسبعين بنتا لبون،(18/50)
وفي إحدى وتسعين حقتان، وفي مائة وإحدى وعشرين ثلاث بنات لبون، ثم تستقر الفريضة في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة، ففي مائة وثلاثين حقة وبنتا لبون، وفي مائة وأربعين حقتان وبنت لبون، وفي مائة وخمسين ثلاث حقات، وفي مائة وستين أربع بنات لبون، وفي مائة وسبعين حقة وثلاث بنات لبون، وفي مائة وثمانين حقتان وبنتا لبون، وفي مائة وتسعين ثلاث حقاق وبنت لبون، وفي مائتين خمس بنات لبون، أو أربع حقاق.
أما الغنم فأقل النصاب أربعون شاة، والواجب فيها شاة واحدة، وفي مائة وإحدى وعشرين شاتان، وفي مائتين وواحدة ثلاث شياه، ثم في كل مائة شاة، ففي ثلاثمائة ثلاث شياه، وفي أربعمائة أربع شياه، وفي خمسمائة خمس شياه، وهكذا.
* * *
فوائد من المنتقى من فرائد الفوائد
فائدة: إذا أبدل نصاب سائمة بمثله فعلى أربعة أقسام:
الأول: أن يبدل نصاباً لتجارة بنصاب لتجارة فيبني.
الثاني: أن يبدل نصاباً لقنية، بنصاب لقنية فيبني، إلا أن يبدل ما تجب الزكاة في عينه بما تجب في غيره، كخمس وعشرين بعيراً بخمس في ظاهر كلامهم.
الثالث: أن يبدل نصاباً لقنية بنصاب لتجارة، كأن يشتري نصاباً للتجارة بمثله للقنية، فيبني كما صرح به في الفروع، والتنقيح والإقناع، وشرح الزاد. وعللوه بقولهم: «لأن السوم(18/51)
سبب للزكاة قدم عليه زكاة التجارة، لقوتها، فبزوال المعارض يثبت حكم السوم لظهوره» اه.
وهذا التعليل كما ترى لا يتلاءم مع الصورة المذكورة، وإنما يتلاءم مع صورة القسم الرابع:
أن يبدل نصاباً لتجارة بنصاب لقنية، وهي صورة المنتهى، لكن عارضه الشيخ منصور بكلام الفروع والتنقيح وبقول المنتهي بعد. ومن ملك نصاب سائمة لتجارة نصف حول ثم قطع نية التجارة استأنفه. قال فهنا أولى. اه
وهذه الصورة أعني صورة القسم الرابع، هي التي صورها في الكافي، وعللها بما عللوا به الصورة في القسم الثالث. والظاهر أن الصورة منقلبة على صاحب الفروع، وتبعه من بعده، وعلى تقدير الانقلاب يكون كلام المنتهى في المسألة الأخيرة على الوجه الثاني في المسألة التي في القسم الرابع، فإن فيها وجهين: الانقطاع، والبناء، والله أعلم.
فائدة:
إذا اختلفت نيته في النصاب فلا يخلو من حالين:
إحداهما: أن يكون للتجارة ونواها لغيرها، فتؤثر نيته، ثم إن نواه على حالةٍ تجب فيها الزكاة استأنف حولاً، وإلا فلا زكاة، ولكن في المنتهى أنه إذا نوى بعبيد التجارة أو ثيابها شيئاً مُحرماً انقطع بمجرد نيته، فمفهومه إن لم يكن مُحرماً فلابد من تحقق ذلك بالفعل، كالسائمة إذا نواها لعمل محرم انقطع بنيته، وإن كان لعمل مباح لم ينقطع إلا بالفعل.(18/52)
الحالة الثانية: أن يكون لغير التجارة فنيته على صور:
الأولى: أن ينوي به التجارة فلا يكون لها إلا حلي اللبس.
الثانية: أن يكون حليًّا معدًّا للكراء أو النفقة، ثم ينوي إعارته أو لبسه، فلا تكون نيته مؤثرة حتى يعيره أو يلبسه.
الثالثة: عكس ذلك، ففيه الزكاة بمجرد النية.
الرابعة: أن يكون له سائمة للدرّ والنسل فينويها لقطع الطريق أو نحوه من الأفعال المحرمة فينقطع الحول ولا زكاة. كذا قالوا، وفيه نظر.
الخامسة: إن نواها لعمل مباح فلا ينقطع إلا بمباشرته.
السادسة: عكس ذلك، فتؤثر نيته، وتكون للسوم بمجردها.
السابعة: له سائمة للدر والنسل، فنواها للتجارة فلا عبرة بنيته.
الثامنة: عكسها، ففيها الزكاة للسوم ويبتدىء الحول.
التاسعة: عنده عروض للقنية فنواها للتجارة فلا أثر لها.
العاشرة: عكسها، فظاهر كلام المنتهى في باب زكاة السائمة، أنه إن نواها لمحرم انقطع، وإلا فلا قبل مباشرة العمل وصرح في باب زكاة العروض أنها تصير لها بمجرد النية، وهو الموافق للقياس.
فائدة:
النية في إخراج الزكاة على أربعة أقسام:
الأول: أن تكون شرطاً من المالك فقط، وذلك فيما إذا فرقها مالكها المكلف بنفسه.(18/53)
الثاني: أن تكون شرطاً من غيره فقط وذلك فيما إذا كان المالك غير مكلف، فينوي إخراجها وليه في ماله.
الثالث: أن تكون شرطاً من المالك ومن غيره، وذلك فيما إذا وكل في أخراجها وبعد الزمن فتشترط من الوكيل أيضاً عند دفعها للفقير.
الرابع: أن لا تشترط النية أصلاً وذلك في ثلاث صور:
الأولى: إذا تعذر الوصول إلى المالك بحبس أو غيره فأخذها الإمام أو الساعي، وتجزىء ظاهراً وباطناً.
الثانية: إذا امتنع المالك من أدائها فأخذها الإمام أو الساعي قهراً، فتجزىء ظاهراً لا باطناً.
الثالثة: إذا غيّب ماله فأخذها الإمام أو الساعي بعد العثور عليه، وتجزىء ظاهراً لا باطناً.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: يقوم بعض الناس بتربية الطيور فهل عليهم زكاة؟
فأجاب فضيلته بقوله: الذين يربون الطيور إذا كانوا يريدون التجارة فعليهم الزكاة؛ لأنها عروض التجارة، يعني الإنسان يتكسب منها يبيع ويشتري فيها، أما إذا كانوا يريدون التنمية؛ يأكلونها أو يبيعون منها ما زاد عن حاجتهم، فلا زكاة عليهم، لأن الزكاة لا تجب في الحيوان إلا في ثلاثة أصناف: الإبل، والبقر والغنم فقط، بشروطها المعروفة.
* * *(18/54)
باب زكاة الحبوب والثمار(18/55)
رسالة
فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ... وبعد
كثير من البيوت يوجد بها نخيل وفيها ثمر قد يصل إلى حد النصاب وقد يتجاوزه؛ فهل تجب فيها الزكاة؟ وإن كان يهدى منها ويؤكل فهل يجزي ذلك عن الزكاة أم لا؟ وما مقدار الزكاة إن وجدت؟ وما مقدار النصاب؟ وإذا كانت فسائلها تباع فهل فيها زكاة؟ وإذا كان النخيل يغرس بقصد بيع الفسائل (الفراخة) فهل فيها زكاة؟ وجزاكم الله خيراً.
بسم الله الرحمن الرحيم
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
الجواب: النخيل التي في البيوت تجب الزكاة في ثمرها إذا بلغت نصاباً، لقول الله تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُو"اْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَْرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِأَخِذِيهِ إِلاّ" أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُو"اْ أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} وهذه مما أخرج الله لنا من الأرض، فتجب فيها الزكاة، سواء كانت تهدى بعد خرفها، أو تؤكل، أو تباع.
وإذا لم تبلغ النصاب فلا زكاة فيها، لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة» والوسق الواحد ستون(18/57)
صاعاً بصاع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومقدار صاع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كيلوان اثنان وأربعون غراماً، فيكون النصاب ستمائة واثني عشر كيلو (216) ، والمعتبر في هذا الوزن بالبر (القمح) الجيد؛ فتزن من البر الجيد ما يبلغ كيلوين اثنين وأربعين غراماً، ثم تضعه في مكيال يكون بقدره من غير زيادة ولا نقص، فهذا هو الصاع النبوي، تقيس به كيلاً ما سوى البر.
ومن المعلوم أن الأشياء المكيلة تختلف في الوزن خفة وثقلاً، فإذا كانت ثقيلة فلابد من زيادة الوزن حسب الثقل.
ومقدار الزكاة نصف العشر، لأنها تسقى بالماء المستخرج من الا"بار أو من البحر، لكن بمؤونة إخراج وتحلية وتصفية، وقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فيما سقت السماء والعيون، أو كان عثرياً العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر» رواه البخاري.
وليس في الفسائل زكاة، ولكن إذا بيعت بالدراهم وحال على ثمنها الحول وجبت زكاته.
وليس في النخيل التي تغرس لبيع الفسائل زكاة، كما أن النخيل التي تغرس لقصد بيع ثمرتها ليس فيها زكاة.
وما بيع من ثمر النخل التي في البيوت تخرج زكاته من قيمته، وما أكل رطباً تخرج زكاته رطباً من النوع الوسط إذا كان كثيراً في النخل. وما بقي حتى يتمّر تخرج زكاته تمراً.
كتبه محمد الصالح العثيمين في 2/3/1415 هـ.(18/58)
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: عندي في منزلي خمس نخلات وكلها مثمرة هل في ثمارها زكاة؟ وما مقدارها؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذه مسألة في الحقيقة السؤال عنها جيد. كثير من الناس عندهم بيوت فيها نخل، والنخل تكون ثمارها بالغة للنصاب، ومع ذلك لا يزكونه؛ لأنهم يظنون أن الزكاة تجب في الحوائط الكبيرة. أما النخلات التي في البيت فيظن كثير من الناس أنه ليس فيها زكاة، ولكن الأمر ليس كذلك، بل نقول: إذا كان في بيتك نخل وعندك بستان آخر، وكانت النخل الموجودة في البيت لا تبلغ النصاب، فإنها تضم إلى النخل الذي في البستان.
أما إذا لم يكن عندك بستان فإننا ننظر في النخل الذي في البيت إن كان يبلغ النصاب وجبت الزكاة، وإن كان لا يبلغ النصاب فلا زكاة فيه.
والنصاب ثلاثمائة صاع بصاع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فينظر ويحسب من أجل أن يحول إلى وزنه بالمثاقيل، وأنا لم أحرره الآن، ولكن من الممكن أن يحرر بمعرفة صاع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمثاقيل.
الخلاصة: أن النخل الذي في البيت إن كان مالك البيت عنده بستان فيه نخل فإن ثمرة النخل الذي في البيت تضم إلى ثمرة النخل الذي في البستان، فإذا بلغ مجموعها نصاباً وجب إخراج الزكاة.
وإن لم يكن له بستان فإننا نعتبر النخل الذي في البيت بنفسه،(18/59)
ونقول: إذا بلغت ثمرتها نصاباً وجب فيها الزكاة وإلا فلا.
والزكاة نصف العشر فيما يسقى بمؤونة، والعشر كاملاً فيما يسقى بلا مؤونة.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: اشتريت قبل ثلاث سنوات بيتاً، وفيه - ولله الحمد - ثلاث نخلات مثمرات من نوعين، وفيهن ثمر كثير، فهل علَّي زكاة والحال هذه؟ فإذا كان الجواب بنعم والناس يجهلون ذلك جداً فأسأل أسئلة:
أولاً: كيف يكون معرفتي بلوغ النصاب من عدمه وأنا أخرفها خرفاً؟
ثانياً: كيف يكون تقدير الزكاة؟ وهل تدفع من كل نوع بنسبته أم يضم بعضها إلى بعض وتخرج من نوع واحد؟ وهل يجوز أن أدفع نقوداً؟ وماذا أصنع في السنوات الماضية؟
فأجاب فضيلته بقوله: ما ذكره السائل من خفاء حكم هذه النخيل التي تكون في البيوت على كثير من الناس فهو صحيح، كثير من الناس يكون عنده سبع نخل أو عشر نخل أو أكثر أو أقل، وثمرتها تبلغ النصاب، لكنهم لا يعلمون أن فيها زكاة، يظنون أن الزكاة في البساتين فقط. والزكاة في ثمر النخل، سواء كان في البستان أو في الدور، وعلى هذا فليأت بإنسان عنده خبره، وليقدر ثمر هذا النخل: هل يبلغ النصاب أو لا؟ فإذا بلغ النصاب وجب عليه أن يزكيه، ولكن كيف يزكيه وهو يخرفه كما قال السائل؟(18/60)
أرى أنه في مثل هذه الحالة تقدر قيمة النخل، ويخرج نصف العشر من قيمتها؛ لأن ذلك أسهل على المالك وأنفع للمحتاج، يعني إعطاء الدراهم أنفع للمحتاج وتقويمها بالدراهم أسهل على المالك، ولكن كم مقدار الزكاة؟ مقدار الزكاة خمسة في المائة، بينما زكاة المال في المائة اثنين ونصف، لكن هذه فيها خمسة في المائة، لأن زكاتها زكاة ثمر وليست زكاة تجارة.
أما ما مضى من السنوات وهو لم يزكه جاهلاً، فإنه يقدر الآن في نفسه: كم يظن الثمرات الماضية ويخرج زكاتها الآن، وليس عليه إثم فيما سبق من تأخير الزكاة؛ لأنه جاهل بذلك، لكن لابد من أداء زكاة ما سبق. 10/2/1415 هـ.
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: بعض المزارعين يخرج زكاة النخل من ثمرة مع العلم أن هناك نوعاً أحسن منه، والله يقول: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَىْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ} فما توجيهكم؟
فأجاب فضيلته بقوله: المشهور من المذهب أنه يجب إخراج زكاة كل نوع منه، فتخرج زكاة الشقر من الشقر، وأم حمام منها، والسكري من السكري، والبرحي من البرحي، وهكذا كل نوع تخرج زكاته منه.
والصحيح أنه يجوز أن يخرج من الوسط بحسب القيمة، فإذا كان بستانه ثلاثة أصناف: صنف طيب، وصنف رديء، وصنف متوسط، وكان نقص قيمة الرديء بمقدار زيادة الطيب جاز أن(18/61)
يخرج من الوسط، أما مع التفاوت الكبير كما هو معروف الآن فإنه يجب أن تخرج زكاة كل نوع منه، لكن إذا كان يبيع الدقل فله أن يخرج الزكاة من قيمته.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل في العنب زكاة قبل أن يجف؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم فيه زكاة، حتى وإن لم يحصل منه زبيب على رأي جمهور العلماء، ففي عنبنا زكاة.
وقيل: إذا لم يحصل منه زبيب فلا زكاة فيه، بل يكون من جنس الفواكه والخضر، وعلى هذا فليس في عنبنا زكاة، لأنه لا يحصل منه زبيب، والأحوط إخراج الزكاة، والله أعلم.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: كم يساوي الوسق من صاع أو كيلو؟
فأجاب فضيلته بقوله: الوسق هو الحمل، ومقداره ستون صاعاً بصاع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ففي قوله عليه الصلاة والسلام: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» فيبلغ ثلاثمائة صاع، فيكون نصاب الحبوب والثمار ثلاثمائة صاع بصاع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصاع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقل من الصاع المعروف في القصيم بخُمسٍ وخُمس الُخمس.(18/62)
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: بعض المزارعين يزرع الحلبة والرشاد هل يجب فيها الزكاة أم لا؟ وما هو النصاب فيها؟
فأجاب فضيلته بقوله: تجب الزكاة في الحلبة والرشاد بشرط أن تبلغ نصاباً ولا يُضمُّ بعضها إلى بعض، الحلبة وحدها والرشاد وحده، أما إذا لم تبلغ نصاباً، فلا زكاة فيها. والنصاب فيها ثلاثمائة صاع بصاع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: لو فرضنا أن عند إنسان بستاناً أراد أن يبيعه، وفي هذا البستان من جملة ما فيه نخل، وانقضت سنة دون أن يبيعه، فهل على هذا الشخص زكاتان: زكاة على البستان جميعه على اعتبار أنه عروض تجارة، وزكاة على الثمر؟
فأجاب فضيلته بقوله: ذكر العلماء رحمهم الله: أن البستان المعد للتجارة تجب فيه زكاة ثمره وزكاة أصله، فزكاة الثمر نصف العشر أو العشر بحسب مؤونة سقيه وعدمها، وزكاة الأصل ربع العشر.
والسؤال المذكور: إن كان قد تملك البستان من أجل الربح بالاتجار به ففيه زكاة عروض في أصله، وزكاة ثمار في ثمره. وإن كان قد تملك البستان للاستغلال ثم نواه للتجارة فالمشهور من المذهب أنه لا يزكي للتجارة؛ لأن العروض يشترط لوجوب الزكاة(18/63)
فيها أن يكون ناوياً التجارة فيها من أول تملكه إياها، وعليه فليس في البستان المذكور إلا زكاة الثمر.
والرواية الثانية عن الإمام أحمد رحمه الله أنها تكون للتجارة بمجرد النية، فعليها يجب في البستان المذكور زكاة العروض وزكاة الثمر، والله أعلم.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: إذا كان ما يجب على صاحب الزرع أكثر مما قدرته لجنة جمع الزكاة فهل يلزم صاحب الزرع أن يخرج زكاة الزائد؟
فأجاب فضيلته بقوله: ثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال في زكاة الخارج من الأرض: «فيما سقت السماء أو كان عثرياً العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر» . فيجب على المرء المسلم أن يخرج هذا القسط مما تجب فيه الزكاة من الخارج من الأرض إذا بلغ نصاباً.
وإذا قدر أن الساعي على الزكاة وهم اللجنة الذين قدروا الزرع وأخذوا زكاته نقص عن الواقع فإنه يجب على المالك إخراج زكاة مازاد، سواءً كان هذا الزائد يبلغ نصاباً أم لم يبلغ؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أوجب سهماً معيناً نسبته كما سبق العشر أو نصف العشر، فلابد من إخراج هذا الواجب.(18/64)
* * *
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
فضيلة المكرم الشيخ محمد بن صالح العثيمين سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
اتصل بنا مندوب من ... كجباة لزكاة الثمار، وأشاروا إلى تشكيل هيئة لتقديرها بدراهم، ويكون كل نوع يقدر على حدة بدراهم، وعمال الحكومة قد قدروها كالمعتاد، وحيث إننا لم يسبق هذا التصرف طيلة السنين الماضية ولم نسمع به من عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع وجود أفاضل علماء موثوق بعلمهم وعملهم، ولم يتعرض أحد منهم لذلك، ونحن ولله الحمد لا ننكر وجوب الزكاة، ولم نمتنع من دفعها، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوصى معاذاً رضي الله عنه بقوله: «إياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم» إلخ. والهيئة المشكلة لا علم لها بما يلحق ثمار النخيل من الأجور والمؤنة، والنقص والعيب، والفقهاء نصوا على أن يترك لهم الربع، أو الثلث. لذا نطلب الإيضاح لنا بالأدلة الشرعية لنكون على بصيرة، لأن هذا التصرف بتحويلها إلى دراهم يوجب التشويش وربما سبب مشاكل، أفيدونا وفقكم الله والسلام.(18/65)
بسم الله الرحمن الرحيم
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
سؤالكم عن تصرف الهيئة المشكلة لتقدير زكاة الثمار بدراهم، وكل نوع على حدة. إلخ ما ذكرتم.
نفيدكم: أولاً: أن ولاة الأمور إذا رأوا المصلحة في شيء لا يخالف الشريعة فإن طاعتهم واجبة، لقول الله تعالى: {يَ "اأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الأَْمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الأَْخِرِ ذالِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} .
ثانياً: أن أخذ زكاة النخيل، كل نوع على حدة ليس مخالفاً للشرع، بل هو الواجب عند فقهاء الحنابلة رحمهم الله تعالى كما صرحوا به في كتبهم المختصرة والمطولة، قال في شرح الزاد (ص 773 ج 1 مع حاشية العنقري) : ويزكى كل نوع على حدته أي مفرده. وقال في المنتهى وشرحه (ص 984 ج1 ط مقبل) : ويجب خرص متنوع، كل نوع على حدة، وتزكيته أي المتنوع من ثمر وزرع كل نوع على حدة. وقال في الإقناع وشرحه (ص 554 ج 1ط مقبل) : ويأخذ العشر من كل نوع على حده بحصته، ولو شق ذلك لكثرة الأنواع واختلافها؛ لأن الفقراء بمنزلة الشركاء فينبغي أن يتساووا في كل نوع، فإن أخرج الوسط عن جيد ورديء بقدر قيمتي الواجب منهما لم يجزئه، أو أخرج الرديء عن الجيد بالقيمة بأن زاد في الرديء بحيث يساوي قيمة الواجب من الجيد لم يجزئه. اه. وقال في الإنصاف (ص 211 ج 3) : ويؤخذ العشر من كل نوع على حدة، هذا الصحيح من المذهب وعليه أكثر الأصحاب.(18/66)
اه. وقال في المغني (ص 217 ج 2) عن القول بأنه يخرج من كل نوع على حدة. إنه قول أكثر أهل العلم.
ثالثاً: وأما أخذ الدراهم عن التمر ففيه مصلحة كبيرة للفقراء؛ لأنه أنفع لهم وأرغب إليهم، ولقد مضت السنوات السابقة والتمور المقبوضة زكاة في المخازن لم يستفد منها أحد حتى فسدت، وقد علم الناس كلهم قلة رغبة الناس في التمر هذه السنين، فكيف تطيب نفس الفلاح، أو أهل الأصل أن يبيعوا تمورهم بدراهم ثم يخرجوا زكاتها من التمر، وربما يكون من نوع لا يساوي زكاة النوع الجيد. وعليه فإخراج الدراهم فيه فائدة لرب المال من الفلاحين وأهل الأصل، وهي تيقن إبراء ذممهم وخروجهم من العهدة. وإجزاء القيمة عن الزكاة هو مذهب أبي حنيفة ورواية عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله وعنه رواية أخرى يجزىء للحاجة. وذكر بعضهم رواية أخرى يجزىء للمصلحة، هذا معنى ما قاله في الفروع (ص 365 ج 2 ط آل ثاني) . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى (ص 28، 38 ج 52 لابن القاسم) : وأما إخراج القيمة للحاجة، أو المصلحة، أو العدل فلا بأس به، وذكر لذلك أمثلة منها أن يبيع ثمر بستانه أو زرعه بدراهم، ومنها أن يرى الساعي (يعني جابي الزكاة) أن أخذها أنفع للفقراء.
رابعاً: وأما إذا بيع النخل ثمرته بدراهم فإن العدل الذي تبرأ به الذمة أن يخرج الزكاة من الدراهم، إذا كان ذلك أرغب للفقراء وأنفع لهم، قال في الفروع (ص 565 ج 2 ط آل ثاني) : ونقل عنه ((18/67)
يعني عن الإمام أحمد) صالح وابن منصور إذا باع ثمره أو زرعه وقد بلغ ففي ثمنه العشر أو نصفه. ونقل أبو طالب: يتصدق بعشر الثمن. قال القاضي: أطلق القول هنا أن الزكاة في الثمن وخيّر في رواية أبي داود، وعنه لا يجزىء أن يخرج من الثمن. اه. والقول الأول وهو إخراج الزكاة من الثمن إذا بيع أقرب إلى العدل، وأظهر في براءة الذمة، لاسيما مع اختلاف الأنواع ومشقة الإخراج من كل نوع على حدة.
وبهذا علم أن أخذ القيمة عن الزكاة، أو أخذ الزكاة من ثمن الثمر أو الزرع إذا بيع ليس مخالفاً للشرع، بل هو من الشرع إذا دعت الحاجة، أو المصلحة إليه، أو كان أقرب إلى العدل.
وأما كون هذا لم يسبق طيلة السنين الماضية مع وجود علماء أفاضل موثوق بعلمهم وعملهم، فجوابه: أن كونه لم يسبق لا يوجب أن لا يكون حقًّا، فالحق ثابت سواء عمل به أم لم يعمل به، وعذر العلماء في ترك العمل: أن الحاجة لم تكن داعية إليه في أوقاتهم، فلم يكن هذا الاختلاف الكبير بين أنواع التمر، وكان تمر الشقر في وقتهم هو النوع الوسط إن لم يكن الخيار. فقد حدثني من أثق به: أن تمر الشقر كان أغلى عند الناس فيما سبق من تمر السكري، وكان غالب قوتهم من التمر تمر الشقر، ولم تكثر تمور البرحي الغالية في ذلك الوقت، فمن أجل هذا لم يتعرض العلماء للناس في إخراج زكاتهم من الشقر، أما لما تغير الوضع واختلفت أنواع التمور هذا الاختلاف الكبير، فإنه لابد أن يعاد النظر في هذا،(18/68)
ويلزم الناس بالعدل، لأن الحكم يدور مع علته، كما هو معلوم مقرر عند أهل العلم.
خامساً: وأما وصية النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمعاذ بن جبل رضي الله عنه في قوله: «وإياك وكرائم أموالهم» فإن الذي أوصاه بذلك رسول من قال: {ياأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُو"اْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَْرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِأَخِذِيهِ إِلاّ" أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُو"اْ أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ * الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَآءِ وَاللهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} .
فالكريم من المال: الجيد منه. والخبيث منه: الرديء، والجودة والرداءة أمران نسبيان، فقد يكون الجيد في مال شخص رديئاً في مال آخر، فإذا قدر أن شخصاً عنده بستان فيه برحي وسكري كان السكري رديئاً بالنسبة للبرحي؛ لأنه أقل ثمناً ورغبة عند الناس، وإذا قدر أن شخصاً عنده بستان فيه سكري وشقر كان السكري جيداً بالنسبة للشقر؛ لأنه أغلى وأرغب عند الناس، ولهذا قال الله تعالى: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِأَخِذِيهِ إِلاّ" أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُو"اْ أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} ثم قال: {وَلَسْتُم بِأَخِذِيهِ إِلاّ" أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُو"اْ أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} يعني لو كان الحق لكم لم تأخذوا هذا الرديء من المال، إلا على إغماض.
ومن المعلوم أن الواجب في زكاة الثمار والزروع نصف العشر إن كان يسقى بمؤونة، والعشر كاملاً إن كان يسقى بدون مؤونة، فإذا كان لك العشر أو نصفه من بستان فيه برحي وشقر: فهل ترضى أن تعطى من الشقر وينفرد شريكك في البرحي؟ الجواب(18/69)
سيكون بالنفي، أي أنك لا ترضى إلا على إغماض، فإذا كان كذلك فكيف ترضى أن يكون نصيب زكاتك من الشقر بدلاً عن البرحي أو السكري مع ظهور الفرق الكبير بينهما رغبة وقيمة. والحديث ظاهر فيما يطابق الآية، لأنه أضاف الكرائم إلى أموالهم فكريم كل مال بحسبه.
والمقصود من تحذير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معاذاً بقوله: «إياك وكرائم أموالهم» أن يأخذ الجيد من المال عن الوسط أو الرديء منه؛ لأن ذلك ظلم لصاحب المال، ولهذا أردفه بقوله: «واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب» كما أن أخذ الوسط أو الردىء عن الجيد ظلم لأهل الزكاة، والعدل أن يؤخذ عن الجيد جيد، وعن الوسط وسط، وعن الردىء منه، فإذا أخذنا عن الكريم كريماً فهذا هو العدل المأمور به في قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى" أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} وقوله: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإْحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِى الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} .
وإني أضرب لك مثلاً يتضح به الأمر لمن شاءالله:
لو كان لك بستان ربعه برحي، وربعه سكري، وربعه أمهات حمام، وربعه شقر وكان مقداره ثمانية آلاف كيلو من كل نوع ألفان من الكيلوات،وكان الكيلو من البرحي باثني عشر ريالاً، ومن السكري بستة ريالات، ومن أمهات حمام بثلاثة ريالات، ومن الشقر بريالين، فإن قيمة البرحي أربعة وعشرون ألفاً، وقيمة السكري اثنا عشر ألفاً، وقيمة أمهات حمام ستة آلاف ريال، وقيمة الشقر أربعة(18/70)
آلاف ريال. فزكاة البرحي تساوي ألفاً ومائتي ريال، وزكاة السكري تساوي ستمائة ريال، وزكاة أمهات حمام تساوي ثلاثمائة ريال، وزكاة الشقر تساوي مائتي ريال، فتبلغ زكاة الجميع ألفين وثلاثمائة ريال إذا أخرج زكاة كل نوع منه، ولو أخرجها من البرحي لبلغت أربعة آلاف وثمانمائة ريال، ولو أخرجها من الشقر لم تبلغ إلا ثمانمائة ريال. فإلزام المزكي بإخراجها من البرحي ظلم له وهو الذي حذر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معاذاً منه، والاكتفاء بإخراجها من الشقر ظلم لأهل الزكاة، وهو الذي نهى الله عنه في قوله: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِأَخِذِيهِ إِلاّ" أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُو"اْ أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} وهو خلاف ما أمر الله به من العدل.
وبهذا المثل يتبين ما وقع فيه كثير من الناس اليوم من ظلم أنفسهم وظلم غيرهم بإخراج الزكاة عن الأنواع الجيدة من أنواع رديئة بالنسبة إليها. وأن الواجب على المؤمن أن ينظر بعين البصيرة والعدل في إخراج الواجب عليه، وأن يحاسب نفسه اليوم لأنه يستطيع التخلص قبل أن يأتيه الموت فيقول: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّى" أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} أو يقول: {رَبِّ لَوْلا" أَخَّرْتَنِى" إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ} أو يقول: {ياحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ اللهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} .
سادساً: وأما قول القائل: أنا لم أمتنع من دفع الزكاة. فنقول: إن من دفع الرديء زكاة عن الجيد لم يدفع الزكاة في الحقيقة؛ لأن الزكاة معتبرة بالكمية والكيفية، فنقص الوصف فيها كنقص المقدار.
سابعاً: وأما قولكم: إن هيئة النظر لا علم لها بالمؤونة وما يلحق الثمار من العيب ونحو ذلك. فنقول: هذا صحيح، ولكن(18/71)
لصاحب الثمر أو الزرع أن يبين للهيئة الواقع، ثم تنظر الهيئة ماذا عليه في حكم الشرع.
ثامناً: وأما قولكم: إن الفقهاء نصوا على أن يترك لصاحب
الثمر الثلث أو الربع. فهذا مبني على حديث سهل بن أبي حتمة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع» ، وقد تفرد به راوٍ لا تعرف حاله، ثم إن العلماء اختلفوا في المراد بترك الثلث أو الربع فقيل: يترك ليخرجوه زكاة لمن يعرفون ويحبون أن يخصوه بها، وقيل: يترك بلا زكاة. فعلى الأول يكون المعنى اتركوا ثلث الزكاة أو ربعها يخرجونه هم، وعلى الثاني يكون المعنى: أسقطوا عنهم ثلث الزكاة أو ربعها، وعلى كلا المعنيين فإن الفرق قد يكون بين قيمة الجيد والوسط والرديء أكثر من الثلث كما يعلم من المثال السابق.
هذا وقد ذهب كثير من أهل العلم إلى أنه لا يترك لصاحب الثمر شيء لا ثلث ولا ربع، قال النووي في المجموع ص 634 ج 5 تحقيق محمد نجيب المطيعي: المذهب الصحيح المشهور يعني من مذهب الشافعية الذي قطع به المصنف والأكثرون أنه يخرص جميع النخل والعنب، وفيه قول للشافعي: أنه يترك للمالك نخلة أو نخلات يأكلها أهله، ويختلف باختلاف حال الرجل في قلة عياله وكثرتهم، ثم ذكر من حكاه من الشافعية، وقال في حكاية الماوردي أنه يترك الربع أو الثلث اه. وحكى ابن حزم في المحلى (ص 952(18/72)
ج 5) عن مالك وأبي حنيفة أنه لا يترك له شيئاً. وقال ابن عبد البر في كتاب الكافي (ص 603 ج 1) : والمشهور من مذهب مالك أنه لا يترك الخارص شيئاً في خرصه من ثمر النخل أو العنب إلا خرصه اه.
وخلاصة جواب كتابكم ما يلي:
1 أن طاعة ولاة الأمور واجبة إذا رأوا المصلحة في أمر لا يخالفه الشرع.
2 أن أخذ زكاة النخيل من كل نوع على حدته ليس مخالفاً للشرع، بل هو الواجب في مذهب الحنابلة وأكثر أهل العلم.
3 أن أخذ الدراهم عن زكاة التمر فيه مصلحة للفقراء، وفائدة لرب المال، وأنه مذهب أبي حنيفة ورواية عن الإمام أحمد رحمه الله.
4 أن أخذ زكاة الثمار من القيمة إذا بيعت من تمام العدل، وأن هذه رواية عن الإمام أحمد نقلها صالح، وابن منصور، وأبو طالب. وذكرنا عذر العلماء عن العمل بذلك فيما سبق.
5 أن المراد بتحذير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معاذاً عن أخذ كرائم الأموال أخذها عن الرديء والوسط؛ لأن ذلك ظلم لرب المال، وضربنا مثلاً يتضح به المراد.
6 أن الزكاة معتبرة بالكمية والكيفية، فنقص الوصف فيها كنقص المقدار.
7 أنه إذا كانت هيئة النظر لا تعلم ما يلحق الثمار من النقص فلصاحب الثمار أن يخبرها؛ لتنظر حكم الشرع في ذلك.(18/73)
8 أن ترك الثلث أو الربع لصاحب الثمر ليس محل إجماع من العلماء، فمذهب المالكية والشافعية أنه لا يترك، وحكاه ابن حزم عن الحنفية. والحديث المذكور فيه، محل نظر في سنده ومعناه.
هذا ما لزم، والله يحفظكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. كتبه محمد الصالح العثيمين في 17/3/1420 هـ.(18/74)
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد الصالح العثيمين إلى ... حفظه الله وتولاه في الدنيا والآخرة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد.
فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو الجواد الكريم. ثم إن نعم الله تعالى كثيرة لا تعد ولا تحصى، وخصوصاً ما أنعم به علينا في الأعوام الأخيرة بأنواع ثمار النخيل اللذيذة الطعم، المريئة المأكل، التي تفضل كثيراً مما كان شائعاً من قبل في المأكل والنوع والقيمة، {وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِى الاُْكُلِ إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} وقد أمرنا الله سبحانه أن نأكل من هذه الطيبات ونشكره عليها، ومن أوجب الشكر أن نخرج ما أوجبه الله علينا من الزكاة فيها، فإن الزكاة أوجب واجبات المال، وهي أحد أركان الإسلام، وأهميتها عظيمة، وأخطارها جسيمة. لذلك وجب علّي أن أذكر أخي بما أوجب الله تعالى، فقد بيّن الله تعالى فيما آتاه نبيه من البينات والهدى ما يجب إخراجه في الزكاة قدراً وصفة:
فأما القدر: فهو العشر كاملاً، فيما لا يحتاج إلى كلفة في إخراج الماء لسقيه: كالذي يشرب بالقصب السائحة والأنهار والعيون، أو يشرب بعروقه، ونصف العشر فيما يحتاج إلى كلفة مثل الذي يشرب بالسواني والمكائن.
وأما الصفة: فقد قال الله عز وجل: {ياأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُو"اْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَْرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ(18/75)
الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِأَخِذِيهِ إِلاّ" أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُو"اْ أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِأَخِذِيهِ إِلاّ" أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُو"اْ أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} فنهى الله تعالى عن قصد الإنفاق من الخبيث وهو الرديء هنا، وأشار إلى الحكمة في ذلك، وهو أنه ليس من العدل فإنكم لو أعطيتموه لم تأخذوه إلا على إغماض وكراهية. والنهي لا يتضمن إلا النهي عن قصد الرديء ففهم من ذلك جواز إخراج المتوسط، وهو أقل الواجب، كما فهم من الآية جواز إخراج الطيب، وهذا أكمل وأفضل.
وإذا كانت الآية دالة على جواز إخراج المتوسط فإنه يجوز إخراج المتوسط إذا كان النوع واحداً، مثل أن يكون البستان كله شقر أو كله سكري أو كله برحي، ويكون البعض طيباً والبعض رديئاً والبعض متوسطاً، فتخرج من المتوسط بالقسط، وأما إذا كانت الأنواع متعددة مثل أن يكون البستان أنواعاً بعضه سكري، وبعضه شقر، وبعضه برحي، وبعضه دقل أخرى، فإن مذهب الإمام أحمد رحمه الله عند أصحابه أنه يجب عليك أن تخرج زكاة كل نوع على حدة، فتخرج زكاة السكري من السكري، وزكاة الشقر من الشقر، وزكاة البرحي من البرحي، حتى لو كانت نخلة واحدة من نوع وجب عليك أن تخرج زكاتها منها، هذا هو المذهب كما صرح به الأصحاب رحمهم الله في كتبهم المختصرة والمطولة، وأنا لا أقول: إنه يجب على الإنسان أن يعمل بهذا القول، لأنه مشقة وحرج خصوصاً إذا كثرت الأنواع وقلَّت أفرادها، والله سبحانه وتعالى ما جعل علينا في الدين من حرج، ولكني أقول: إنه يجوز إن شاءالله أن يخرج من متوسط الأنواع، كما يجوز أن يخرج من متوسط الأفراد، لكن بشرط مراعاة العدل ومساواة أهل الزكاة في(18/76)
الواجب، فإذا قدرنا أن البستان ثلاثة أنواع: نوع طيب، ونوع رديء ونوع متوسط، وكانت قيمة الطيب تزيد على قيمة المتوسط بقدر نقص قيمة الرديء عن المتوسط فحينئذ يجوز أن يخرج من المتوسط؛ لأن نقصه عن قيمة الطيب يقابل زيادته على قيمة الرديء، فأما إذا كانت قيمة الطيب تزيد على قيمة ما يسمى بالمتوسط أكثر مما يزيد المتوسط على قيمة الرديء فكيف يقال: إنه متوسط؟ وكيف يجوز أن نخرج منه؟ هل هذا من العدل أو مساواة أهل الزكاة؟!
إن أهل الزكاة شركاء لك فيما أوجب الله عليك لهم، فقد جعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهم سهماً مشاعاً، وغاية ما رخص فيه أن تعطيهم من المتوسط، فلو قدرنا أن لك سهماً مشاعاً في بستان شخص يجب لك من متوسطه: هل تقبل أن يعطيك من رديئه؟ لا، لا تقبل ذلك إلا على إغماض أو محاباة، ولا محاباة في الزكاة إلا بإخراج المتوسط فقط.
ولنضرب مثلاً يتضح به المقصود: لقد كان البستان الذي يشتمل على الكثير من هذه الأنواع الطيبة يباع مثلاً بعشرة آلاف أو أكثر وقد خرص مثلاً عشرة آلاف وزنة، فيخرج صاحب البستان عنه خمسمائة وزنة من الشقر باعتبار أن هذا هو نصف العشر، وهذه الخمسمائة في وقتنا هذا ربما لا تساوي إلا مائتي ريال أو تزيد خمسين ريالاً أو تنقص خمسين ريالاً، فهل مائتا ريال أو مائتان وخمسون نصف عشر عشرة آلاف؟ كلا. إذن فالواجب على المسلم أن يلاحظ ذلك ويحاسب نفسه في الدنيا قبل أن يحاسب عليها في الآخرة.(18/77)
لكن ههنا أمر مشكل ربما يرد على المرء وهو: لماذا لم يتكلم العلماء السابقون في البلد على هذه المسألة كمشائخنا الذين أدركناهم؟ ولماذا أقروا الناس على إخراج الشقر وسكتوا عنهم من غير تفصيل؟
والجواب على ذلك من وجهين:
الأول: أن الأنواع الطيبة خصوصاً البرحي لم تكن فيما مضى بهذه الكثرة، وإنما هي أفراد قليلة بالنسبة للأنواع التي في البساتين.
الثاني: أنه لم يكن التفاوت بين قيمتها وقيمة الشقر مثل ما كان عليه في وقتنا الحاضر، والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، كما قال ذلك أهل العلم والفقه.
ثم إنه متى قامت الحجة واستبان الدليل من كلام الله تعالى وكلام رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن لأحد عذر في ترك العمل بمقتضاه.
فإن قيل: فكيف نخرج بعد أن عرفنا أن الشقر ليست هي النوع المتوسط إذا كانت قيمة الأنواع التي فوقها تزيد على قيمتها أكثر مما تنقص عنها قيمة الرديء؟
فالجواب أن نقول: إن الزكاة وجبت لمواساة الفقراء وسد حاجتهم، وأكثر الناس الآن يبيعون هذه الأنواع الطيبة بالدراهم فإذا أخرجوا الفرق دراهم فأرجو أن يكون ذلك جائزاً؛ لأنهم واسوا الفقير في ذلك، ولأن الدراهم أرغب للفقير غالباً من التمر.
هذا حررته لكم للتذكير بهذه المسألة لأهميتها وعظم خطرها وأعتقد أنكم قد رأيتم أو سترون ما رأيته أنا إن شاءالله، وإنكم(18/78)
سوف تستعينون الله على أنفسكم بإبراء ذمتكم وإخراج الواجب قبل يوم القيامة إذا علمتم أن الزكاة ليست مغرماً وخسارة، وإنما هي إيمان ومغنم وبركة وفلاح وسعادة، وأسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم ممن رأى الحق حقًّا واتبعه، ورأى الباطل باطلاً واجتنبه إنه سميع قريب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وأتباعه. في 27/3/1383 هـ.(18/79)
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
سائل يسأل ويقول: حصدت عيشي العام الماضي سنة 8041هـ في شهر رمضان، وأدخلت جزءاً من العيش في الصوامع بعد رمضان وآخره بعد عيد الأضحى، واستلمت الفلوس في شهر شعبان عام 9041هـ. السؤال: هل في الفلوس المستلمة زكاة هذا العام 9041هـ أم إذا حال عليها الحول من حين استلامي لها.
بسم الله الرحمن الرحيم
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
من المعلوم أن على المرء المسلم زكاة زرعه نصف العشر إن كان يسقى بالمكائن وشبهها مما يحتاج لمؤونة، أو العشر كاملاً مما يشرب سيحاً أو بالأمطار ونحوها مما لا يحتاج لمؤونة، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «فيما سقت السماء والعيون أو كان عثرياً العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر» رواه البخاري.(18/81)
فإذا باعه الإنسان على الصوامع أو غيرها فإن قبض الثمن حالا وحال عليه الحول وجبت عليه الزكاة، وابتداء الحول يكون من حين تمام العقد، وإن لم يقبض الثمن إلا بعد مضي مدة فإن كان قبل تمام السنة من العقد لم تجب عليه الزكاة حتى يتم الحول، وإن كان بعد تمام السنة زكَّاه في الحال. كتبه محمد الصالح العثيمين في 19/10/1409 هـ.(18/82)
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
المزارع تسقى بمؤونة بواسطة المكائن، وتم خرص النخيل وكلفت الجمعية من قبل القاضي بتوزيع زكاة التمور على المستحقين، ولكن هذا الخرص زاد في بعض المزارع عن الواقع، كما نقص في مزارع أخرى، وكذلك هذه المزارع أصناف التمور فيها مختلفة من سكري، وبرحي، وشقرى وأنواع أخرى كثيرة، وتمر البرحي بيع بسراً فما رأي فضيلتكم بتوجيه الفلاحين إلى بيع التمر، ومن ثم إعطاء الجمعية مقدار الزكاة، وهو نصف العشر حتى يكون ذلك إبراء لذمة المزارع، وأفضل للمستحق حتى يشتري من التمور أو غيرها ما يريد من حيث النوع أو الكيف، وحتى يزول الحرج عن بعض الفلاحين الذي يتحرج من بيعه. والله يحفظكم ويرعاكم.
أخوكم
رئيس الجمعية الخيرية في ...
بسم الله الرحمن الرحيم
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
لا بأس أن يخرج الفلاح زكاة ثماره من الدراهم، إذا باع(18/83)
الثمر، فإن ذلك أبرأ للذمة وأقرب للعدل.
أما إذا لم يبعه فالواجب إخراجها من الوسط، ولا يجوز إخراجها من الرديء، ولا يلزم بإخراجها من الجيد. والمشهور من المذهب وجوب إخراج زكاة كل نوع منه، ولكن الراجح ما ذكرته من إخراج الوسط. وفق الله الجميع لما فيه الخير والصلاح. كتبه محمد الصالح العثيمين في 61/3/1410 هـ.(18/84)
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: إذا باع المزارع ثمر نخل له ونسي أن يُخرج الزكاة فهل يشتري تمراً ويخرجه أو يخرجها نقوداً؟ وما هو نصاب الزكاة؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا باع الإنسان ثمرة نخله أو زرعه فإنه يُخرج الزكاة من قيمتها؛ لأن هذا أقرب إلى العدل، وهذا أنفع للفقراء في وقتنا، فمثلاً إذا بعته بعشرة آلاف ريال تخرج نصف العشر يعني خمسمائة ريال.
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: كيف تخرج زكاة الثمار؟
فأجاب فضيلته بقوله: يجوز إخراج زكاة الثمار المخروصة من الثمر بعد جذه، ويجوز إخراجها مشاعة على رؤوس النخل بحيث يخرص الثمرة على رؤوس النخل، ثم يعين شجرات للزكاة، والباقي لرب المال، فههنا صفتان لتعيين الزكاة:
الأولى: أن ينتظر فيها إلى الجذاذ، وبعد الجذاذ تقسم فيخرج منهم الزكاة، والباقي لرب المال.
الثانية: أن تخرص الثمرة على رؤوس الشجر، ويعين سهم الزكاة في شجر مفرد، ينفرد بها أهل الزكاة، والباقي من الشجر يختص رب المال بثمره، كما نص على ذلك في الفروع والإقناع وغيرهما، قال في الفروع (2/624 ط آل ثاني) : وله أن يخرج الواجب منه مشاعاً، أو مقسوماً بعد الجذاذ، أو قبله بالخرص وفاقاً(18/85)
لمالك والشافعي؛ لأنها مواساة فيتخير الساعي بين مقاسمة رب المال الثمرة قبل الجذاذ بالخرص، ويأخذ نصيبه شجرات مفردة، وبين مقاسمته الثمرة بعد جذها بالكيل. اه. وهذا الذي قاله تفريع على قول القاضي وجماعة، وهو الصواب.
ويكون الخرص حين يبدو صلاحه فيحمر أو يصفر.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: إذا أخرج المزارع زكاة الحب عند الحصاد، ثم باعه بنقد، فهل تجب الزكاة فيه؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا زكاه عند حصاده، أو عند جنيه إذا كان ثمراً، فإن بقي عنده على ما هو عليه، فإنه لا تعاد زكاته مرة ثانية، وأما إذا باعه بدراهم أو أعده للتجارة بعد ذلك، فإنه يجب عليه أن يخرج زكاته إذا تم الحول على هذه الدراهم، التي أخذها عوضاً عنه أو تم الحول من نيته التجارة؛ لأنه إذا نوى به التجارة صار عروض تجارة، وعروض التجارة تجب فيها الزكاة، وإذا باع هذا المحصول بنقد فإنه يكون نقداً، ويتحول إلى زكاة النقد إلا أنه لا تجب فيه الزكاة حتى يتم له حول، وفي هذه الحال يكون قد أخرج الزكاة مرتين، ولكن المرة الأولى عن زكاته باعتباره خارجاً من الأرض، والثانية باعتباره نقداً، أو باعتباره عروض تجارة، وبينهما فرق في المقدار، ففي النقود ربع العشر، وكذلك في قيمة عروض التجارة ربع العشر، بخلاف الخارج من الأرض ففيه العشر، أو نصفه على ما سبق.(18/86)
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل على العسل زكاة؟ وما هو النصاب؟ وكم مقدارها لأنه قد كثر النحل هذه الأيام؟
فأجاب فضيلته بقوله: الصحيح أن العسل ليس فيه زكاة، لأن ذلك لم يرد عن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنما ورد عن عمر رضي الله عنه أنه حرس أماكن النحل وأخذ عليهم العشر، وعلى هذا فلا تجب الزكاة في العسل، لكن إن إخرجها الإنسان تطوعاً فهذا خير، وربما يكون ذلك سبباً لنمو نحله وكثرة عسله، أما أنها لازمة يأثم الإنسان بتركها فهذا لا دليل عليه.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل على العسل زكاة؟ وإن كان الإنسان يريده لبيته والتصدق منه، وإذا كان للتجارة فهل يزكي عنه؟ وما مقدار هذه الزكاة؟
فأجاب فضيلته بقوله: المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أن العسل فيه الزكاة، ومقدارها العشر، لأنه يؤخذ بدون كلفة وبدون مؤونة، فهو كالثمار التي تسقى بدون مؤونة، ولكن المشهور من مذهب أحمد رحمه الله أنه لابد أن يبلغ نصاباً، وهو وزن واحد وستين كيلو وخمس. والله الموفق.(18/87)
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: عن حكم الركاز والواجب فيه؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان الركاز حديث عهد فهو لقطة لواجده، ينشده، أي: يعرفه لمدة سنة، فإن وجد صاحبه وإلا فهو له، وأما إن كان الركاز قديماً لا يغلب على الظن أنه لأحد معروف من أهل العصر فهو لواجده بدون تعريف، ولكن عليه أن يخرج منه الخمس، كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وفي الركاز الخمس» .
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: إذا وجد عمال هدم البيوت التي تهدم لصالح الشوارع ركازاً فهل يدخل هذا الركاز في بيت مال المسلمين؟ وهل يأثم كانزه بسبب تعطيله وعدم إخراج زكاته؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان الركاز حديث عهد فهو لقطة لواجده، يعرفه لمدة سنة، فإن وجد صاحبه وإلا فهو له، وأما إن كان الركاز قديماً لا يغلب على الظنه أنه لأحد معروف من أهل العصر فهو لواجده أيضاً بدون تعريف، ولكن عليه أن يخرج منه الخمس، كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وفي الركاز الخمس» .
أما كانزه فأمره إلى الله قد يكون كنزه لعذر كالخوف من(18/88)
السرقة أو لغير ذلك، وربما أنه يخرج زكاته فلا يمكن أن نحكم عليه بالإثم ولا بالبراءة من الإثم.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: شخص وجد مبلغاً من المال يقدر بعشرين جنيهاً من الفضة داخل حفرة، فأخذ هذا المال وصرفه في علاج ابنه وهو في أمس الحاجة، فهل عليه شيء؟ وهل فيه زكاة؟
فأجاب فضيلته بقوله: المال المدفون إن كان عليه علامة على أنه مال سابق ليس من أموال المسلمين، فهذا يسمى عند العلماء ركازاً، ويجب إخراج خمسه، فإذا وجد هذا الركاز وهو يساوي خمسة آلاف مثلاً، فالواجب إخراج (ألف) ، والباقي له يدخله في ماله.
أما إذا كان هذا المال الذي وجده مدفوناً في الأرض ليس فيه دليل على أنه من مدفون الجاهلية الأولى، فإنه يعتبر لقطة يبحث عن صاحبه لمدة سنة فإذا جاء صاحبه وإلا فهو له.(18/89)
باب زكاة النقدين(18/91)
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: عن نصاب الذهب والفضة، ومقدار صاع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالكيلو؟
فأجاب فضيلته بقوله: نصاب الذهب عشرون مثقالاً، ويساوي بالجرام خمسة وثمانين جراماً.
أما نصاب الفضة فهو مئة وأربعون مثقالاً، ويساوي بدراهم الفضة السعودية ستة وخمسين ريالاً.
وأما مقدار صاع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالكيلو فهو كيلوان وأربعون غراماً من البر الرزين.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: كم يساوي ربع الدينار من الذهب، أو ثلاثة الدراهم من الفضة بالنسبة للعملة السعودية؟
فأجاب فضيلته بقوله: الدينار الإسلامي زنته مثقال من الذهب، والجنية السعودي زنته مثقالان إلا ربعاً، فيكون ربع الدينار سبع جنيه سعودي. والدرهم الإسلامي سبعة أعشار مثقال، والريال السعودي مثقالان وربع صافياً، فتكون ثلاثة الدراهم ريالاً سعوديًّا إلا عشر مثقال ونصف العشر.
* * *(18/93)
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد الصالح العثيمين إلى الأخ المكرم.... حفظه الله ووفقه
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
كتابكم الكريم المؤرخ 21 الجاري وصل، سرنا صحتكم، الحمد لله على ذلك، نشكركم على التهنئة بهذا الشهر المبارك، ونسأل الله تعالى أن يجزيكم عنا خيراً، وأن يعين الجميع على عبادته، ويتقبل ذلك بمنه وكرمه.
سؤالكم عن تحرير عشرين مثقال الذهب، وكم قدرها من الجنيه، فهي أحد عشر جنيهاً وثلاثة أسباع جنيه بالتحرير.
وعن دم ترك طواف الوداع فإنه يذبح بمكة، ويفرق على فقراء الحرم كله، ولا يؤكل منه شيء.
وعن المداينة بالصفة التي ذكرت، فنحن نرى أنها لا تحل للجميع على هذا الوجه، وإنها حيلة وخداع لا تخفى على رب العالمين، بل ولا على أبسط خلق الله، بل المتعاقدان أنفسهما يعرفان أن هذا البيع صوري لا حقيقة له، فليس للمستدين غرض بالسلعة التي اشتراها من المعزب، بدليل أنه لا يقلبها، ولا يسأل عنها سؤال من له غرض فيها، وشراؤه مشترى حقيقي، وإني أعتقد بناء على عملهم هذا أن صاحب الدكان لو أتى بأكياس من الرمل ووضعها في دكانه وقال لهم: هذا سكر. لعقدوا عليه هذه الصفة ومسحوه بأيديهم، وانتهى كل شيء فأي تلاعب بدين الله أبلغ من هذا التلاعب.
والله يحفظكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 31/9/6831هـ.(18/95)
سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: قلتم: إن نصاب الذهب أحد عشر وثلاثة أسباع، لكن لا أعرف كم يساوي هذا بالنقود؟
فأجاب فضيلته بقوله: الرجل يسأل يقول: إن نصاب الذهب أحد عشر جنيهاً وثلاثة أسباع، ولكن لا أدري ماذايساوي بالنقود. نقول: إن هذا النصاب إذا عرفته فإنه يختلف من سنة إلى أخرى، إذا زاد الذهب ارتفعت العروض، وإذا نقص الذهب انخفض سعره، ولا يمكن أن يحدد هذا بالنقود، والنقود تبع للقيمة وقت وجوب الزكاة، فإذا قدر أن هذاالذهب اشتري بمائة ألف مثلاً، وصار عند وجوب الزكاة لا يساوي إلا خمسين ألفاً فزكاته زكاة خمسين ألفاً، وإذا كاناشتري بخمسين ألفاً فصار عند وجوب الزكاة يساوي مائة ألف وجب أن يزكى زكاة مائة ألف، وزكاة الدراهم معلومة للجميع أنها ربع العشر، يعني اثنين ونصف بالمائة، أو خمسة وعشرين بالألف.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: إذا كان مع ذهب ألماس ونحوه فكيف تقدر زكاته؟
فأجاب فضيلته بقوله: يقدر ذلك أهل الخبرة فيذهب بها إلى تجار الذهب أو الصاغة، لينظروا هل يبلغ الذهب النصاب أو لا(18/96)
يبلغ؟ فإن لم يبلغ النصاب فلا زكاة فيه إلا أن يكون عندها من الذهب ما يكمل به النصاب، وتقدر قيمة الذهب الذي مع الماس، ثم تخرج زكاته وهي ربع العشر.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما حكم اقتناء المجوهرات مثل الألماس؟ وهل تجب فيها الزكاة؟ وهل يعتبر حكم الألماس حكم الذهب والفضة؟
فأجاب فضيلته بقوله: اقتناء المجوهرات لاستعمالها جائز بشرط ألا يصل إلى حد الإسراف، فإن وصل إلى حد الإسراف كان ممنوعاً بمقتضى القاعدة العامة التي تحرم الإسراف، وهو مجاوزة الحد لقول الله تعالى: {وَلاَ تُسْرِفُو"اْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} . وإذا لم يخرج اقتناء هذه المجوهرات من الألماس وغيره إلى حد الإسراف فهي جائزة؛ لعموم قوله تعالى: {هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الأَْرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ} وليس فيها زكاة إلا أن تعد للتجارة، فإنها تكون كسائر الأموال التجارية.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: يقول بعض الناس: إن تقدير نصاب الفضة كان في زمن يتغير عن هذا الوقت بقلة المال، وأنه يجب أن يقدر بما يناسب هذا الوقت فما قولكم؟(18/97)
فأجاب فضيلته بقوله: قول بعض الناس: إن تقدير نصاب الفضة كان في زمن يتغير عن هذا الوقت بقلة المال، وأنه يجب أن يقدر بما يناسب هذا الوقت.
جوابه: أن هذا قول باطل، فإن الأمور المقدرة بالشرع لا مجال للرأي فيها، ولا تتغير بتغير الزمان والأحوال؛ لأن ذلك يفضي إلى تغير الشرع بتغير الزمان والأحوال، فلا تكون الملة واحدة ولا الأمة متفقة، ويكون لكل عصر شريعة ولكل قوم ملة. ثم إن تقدير أنصباء الزكاة كان في السنة الثانية من الهجرة، وقد كثرت الأموال بعد ذلك في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعهد الخلفاء الراشدين ومن بعدهم، ولم يغير الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا خلفاؤه الراشدون رضي الله عنهم ولا أئمة المسلمين وعلماؤهم رحمهم الله هذا التقدير من أجل كثرة المال وقلة هذا النصاب بالنسبة لكثرة المال.
ثم إذا قلنا بتغيير هذا التقدير لكثرة المال لزم أن نقول بتغييره أيضاً إذا قل المال.
ثم لو قلنا بتغيير تقدير النصاب بحسب مستوى المعيشة لجاز أن نقول بتغيير تقدير الواجب، فإذا كان الواجب في الذهب والفضة وعروض التجارة ربع العشر في مثل مستوى المعيشة عند تقديره، لزم أن يزيد أو ينقص بحسب حال مستوى المعيشة، فترفع النسبة عند كثرة المستحقين، وتخفض عند قلتهم، وهذا لا يمكن لأحد أن يقول به.
وأما كون نصاب الفضة وهو ما يساوي وزن ستة وخمسين ريالاً قد ارتفعت قيمته بالنسبة للعملة الورقية، فهنا قد نقول بأن(18/98)
النصاب من الأوراق المالية هو ما يساوي قيمة ستة وخمسين ريالاً من الفضة بناء على ما ذهب إليه جمهور العلماء من أن نصاب الفضة مقدر بالوزن، لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة» . والورق الفضة ولكن الاحتياط أن نقول للبدل حكم المبدل، وإن نصاب الأوراق المالية ست وخمسون ورقة، بناء على أن كل ورقة تقابل ريالاً من الفضة حسب وضع الحكومة في كل زمن بحسبه.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: إذا كانت زوجة وبناتها، ومعهن حلي، ولكن حلي كل واحدة منهن لا يبلغ النصاب، فهل يجمع كله ويدفع زكاته؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذه امرأة عندها حلي لا يبلغ النصاب، مثلاً عندها حلي وزنه عشرة جنيهات، ولها بنات لهن حلي، لكن حلي كل واحدة لا يبلغ النصاب أيضاً تسأل: هل يجب أن يجمع حلي البنات مع حلي الأم وتخرج الزكاة؟ نقول: لا يجب، لأن مال كل إنسان يخصه، إلا إذا كان الحلي الذي على البنات ملك للأم أعطته البنات على سبيل العارية فإنه يضم إلى حلي المرأة، وأما إذا كان الحلي الذي على البنات لهن، فإن مال كل واحد يخصه ولا يكمل نصاب مال إنسان بمال إنسان آخر.(18/99)
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما حكم لبس دبلة الزواج الفضية للرجال، أي لبسها في الأصبع؟
فأجاب فضيلته بقوله: لبس الدبلة للرجال أو النساء من الأمور المبتدعة، وربما تكون من الأمور المحرمة، ذلك لأن بعض الناس يعتقدون أن الدبلة سبب لبقاء المودة بين الزوج والزوجة، ولهذا يذكر لنا أن بعضهم يكتب على دبلته اسم زوجته، وتكتب على دبلتها اسم زوجها، وكأنهما بذلك يريدان دوام العلاقة بينهما، وهذا نوع من الشرك؛ لأنهما اعتقدا سبباً لم يجعله الله سبباً لا قدراً ولا شرعاً، فما علاقة هذه الدبلة بالمودة أو المحبة، وكم من زوجين بدون دبلة وهما على أقوى ما يكون من المودة والمحبة، وكم من زوجين بينهما دبلة وهما في شقاء وعناء وتعب.
فهي بهذه العقيدة الفاسدة نوع من الشرك، وبغير هذه العقيدة تشبه بغير المسلمين؛ لأن هذه الدبلة متلقاة من النصارى، وعلى هذا فالواجب على المؤمن أن يبتعد عن كل شيء يخل بدينه.
أما لبس خاتم الفضة للرجل من حيث هو خاتم لا باعتقاد أنه دبلة تربط بين الزوج وزوجته، فإن هذا لا بأس به، لأن الخاتم من الفضة للرجال جائز، والخاتم من الذهب محرم على الرجال، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى خاتماً في يد أحد الصحابة رضي الله عنهم فطرحه وقال: «يعمد أحدكم إلى جمرة من النار فيضعها في يده» .
* * *(18/100)
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
لقد شاهدت في بعض محلات الذهب في مدينة ... انتشار قطع ذهبية تحمل صوراً لعيسى عليه الصلاة والسلام وأمه مريم كما يدعي النصارى، وأيضاً قطعاً ذهبية يوجد عليها رسوم للأبراج (العقرب، السنبلة، الثور ... ) وأخرى على شكل قارورة عليها كلمة إنجليزية تعني نوع من أنواع الخمور.
وعندما حاولتُ نصح أصحاب المحلات قال لي بعضهم: إنهم يبيعونها على النصارى فقط، والبعض الآخر ادعى أن الصور ليست لعيسى عليه الصلاة والسلام ومريم، آملاً من فضيلتكم كتابة رأيكم في بيع هذه الأشياء وتوجيههم. وجزاكم الله خيراً ورفع درجاتكم في المهديين.
بسم الله الرحمن الرحيم
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته:
بيع القطع التي عليها صورة عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام أو أمه مريم (كما يزعمون) محرم، سواء بيعت على المسلمين أم على النصارى، أما بيعها على المسلمين فتحريمه ظاهر، وأما على النصارى فلأنه مداهنة لهم على الكفر، وإشارة إلى رضا ما هم عليه، ومداهنة النصارى وغيرهم بموافقتهم على ما يرونه(18/101)
شعاراً لدينهم محرمة بلا شك، فعلى المؤمن أن يكره ما يكرهه الله تعالى ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أعمال وعقائد وغيرها، ليحقق موالاة الله ورسوله. فتحريم بيع القطع التي عليها صور عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام أو صورة أمه مريم لوجهين:
الأول: أنه شعار ديني للنصارى.
والثاني: أنه صور مجسمة.
وإذا كانت الصور لغير عيسى عليه الصلاة والسلام وأمه كانت محرمة لوجه واحد وهو أنها مجسمة.
وكذلك القطع التي عليها صور البروج؛ لأنهم يتفاءلون بها، أو يتشاءمون، وهذا من أعمال الجاهلية، وفيه نوع من الشرك.
وكذلك شكل القارورة التي كتب عليها اسم نوع من الخمر، لأن ذلك دعاية لهذا النوع من الخمر، ويستلزم التهاون بالخمر واستساغته فالله الهادي.
كتبه محمد الصالح العثيمين في 19/4/1419 هـ.(18/102)
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: عن الحكمة في تحريم لبس الذهب على الرجال؟
فأجاب فضيلته بقوله: اعلم أيها السائل، وليعلم كل من يطلع على هذا الجواب أن العلة في الأحكام الشرعية لكل مؤمن، هي قول الله تعالى ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً} . فأي واحد يسألنا عن إيجاب شيء، أو تحريم شيء دل على حُكمه الكتاب والسنة فإننا نقول: العلة في ذلك قول الله تعالى، أو قول رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذه العلة كافية لكل مؤمن، ولهذا لما سُئلت عائشة رضي الله عنها: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ قالت: «كان يصيبنا ذلك فنُؤمر بقضاء الصوم ولا نُؤمر بقضاء الصلاة» لأن النص من كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علة موجبة لكل مؤمن، ولكن لا بأس أن يتطلب الإنسان العلة، وأن يلتمس الحكمة في أحكام الله تعالى، لأن ذلك يزيده طمأنينة، ولأنه يتبين به سمو الشريعة الإسلامية، حيث تقرن الأحكام بعللها، ولأنه يتمكن به من القياس إذا كانت علة هذا الحكم المنصوص عليه ثابتة في أمر آخر لم ينص عليه، فالعلم بالحكمة الشرعية له هذه الفوائد الثلاث.
ونقول - بعد ذلك - في الجواب على السؤال: إنه ثبت عن(18/103)
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحريم لبس الذهب على الذكور دون الإناث، ووجه ذلك أن الذهب من أغلى ما يتجمل به الإنسان ويتزين به فهو زينة وحلية، والرجل ليس مقصوداً لهذا الأمر، أي ليس إنساناً يتكمّل بغيره أو يكمل بغيره، بل الرجل كامل بنفسه لما فيه من الرجولة، ولأنه ليس بحاجة إلى أن يتزين لشخص آخر تتعلق به رغبته، بخلاف المرأة، فإن المرأة ناقصة تحتاج إلى تكميل بجمالها، ولأنها محتاجة إلى التجمل بأغلى أنواع الحلي، حتى يكون ذلك مدعاة للعشرة بينها وبين زوجها؛ فلهذا أبيح للمرأة أن تتحلى بالذهب دون الرجل، قال الله تعالى في وصف المرأة: {أَوَمَن يُنَشَّأُ فِى الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِى الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} . وبهذا يتبين حكمة الشرع في تحريم لباس الذهب على الرجال.
وبهذا المناسبة أوجه نصيحة إلى هؤلاء الذين ابتُلوا من الرجال بالتحلي بالذهب، فإنهم بذلك قد عصوا الله تعالى ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وألحقوا أنفسهم بمصاف الإناث، وصاروا يضعون في أيديهم جمرة من النار يتحلون بها، كما ثبت ذلك عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فعليهم أن يتوبوا إلى الله سبحانه وتعالى، وإذا شاءوا أن يتحلوا بالفضة في الحدود الشرعية فلا حرج في ذلك، وكذلك بغير الذهب من المعادن لا حرج عليهم أن يلبسوا خواتم منه إذا لم يصل ذلك إلى حد السرف.(18/104)
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: عن حكم لبس الرجل الذهب؟
فأجاب فضيلته بقوله: لبس الذهب حرام على الرجال، سواء كان خاتماً، أو أزراراً، أو سلسلة يضعها في عنقه، أو غير ذلك، لأن مقتضى الرجولة أن يكون الرجل كاملاً برجولته، لا بما ينشأ به من الحلي ولباس الحرير ونحو ذلك مما لا يليق إلا بالنساء، قال الله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَانِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * أَوَمَن يُنَشَّأُ فِى الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِى الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} . فالمرأة هي التي تحتاج إلى لبس الذهب والحرير ونحوهما، لأنها في حاجة إلى التجمل لزوجها، أما الرجل فهو في غنى عن ذلك برجولته، وبما ينبغي أن يكون عليه من البذاذة والاشتغال بشئون دينه ودنياه.
والدليل على تحريم الذهب على الرجال:
أولاً: ما ثبت في صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى خاتماً من ذهب في يد رجل فنزعه وطرحه وقال: «يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده» . فقيل للرجل بعدما ذهب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خذ خاتمك انتفع به، فقال: لا والله لا آخذه وقد طرحه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثانياً: عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يلبس حريراً ولا(18/105)
ذهباً» . رواه الإمام أحمد، ورواته ثقات.
ثالثاً: عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من مات من أمتي وهو يتحلى بالذهب حرم الله عليه لباسه في الجنة» . رواه الطبراني ورواه الإمام أحمد ورواته ثقات.
رابعاً: عن أبي سعيد رضي الله عنه أن رجلاً قدم من نجران إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعليه خاتم من ذهب، فأعرض عنه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: «إنك جئتني وفي يدك جمرة من نار» . رواه النسائي.
خامساً: وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: نهانا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن سبع: «نهى عن خاتم الذهب» . الحديث رواه البخاري.
سادساً: وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن خاتم الذهب. رواه البخاري أيضاً.
سابعاً: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يلبس خاتماً من ذهب فنبذه، فقال: «لا ألبسه أبداً» فنبذ الناس خواتيمهم. رواه البخاري.(18/106)
ثامناً: ما نقله في فتح الباري شرح صحيح البخاري، قال: وقد أخرج أحمد وأصحاب السنن وصححه ابن حبان والحاكم، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخذ حريراً وذهباً فقال: «هذان حرامان على ذكور أمتي، حلٌّ لإناثهم» .
فهذه الأحاديث صريحة وظاهرة في تحريم خاتم الذهب على الذكور لمجرد اللبس، فإن اقترن بذلك اعتقاد فاسد كان أشد وأقبح، مثل الذين يلبسون ما يُسمى ب (الدبلة) ويكتبون عليه اسم الزوجة، وتلبس الزوجة مثله مكتوباً عليه اسم الزوج، يزعمون أنه سبب للارتباط بين الزوجين، وهذه بلا شك عقيدة فاسدة، وخيال لا حقيقة له؛ فأي ارتباط وأي صلة بين هذه الدبلة وبين بقاء الزوجية وحصول المودة بين الزوجين؟ وكم من شخص تبادل الدبلة بينه وبين زوجته، فانفصمت عرى الصلات بينهما، وكم من شخص لا يعرف الدبلة وكان بينه وبين زوجته أقوى الصلات والروابط.
فعلى المرء أن يُحكِّم عقله وألا يكون منجرفاً تحت وطأة التقليد الأعمى الضار في دينه وعقله وتصرفه، فإني أظن أن أصل هذه الدبلة مأخوذ من الكفار، فيكون فيه قبح ثالث، وهو قبح التشبه بالكافرين، وقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من تشبه بقوم فهو منهم» أسأل(18/107)
الله أن يعصمنا وإياكم من الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وأن يتولانا في الدنيا والآخرة، إنه جواد كريم.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: عن حكم لبس الساعة المطلية بالذهب الأبيض؟
فأجاب فضيلته بقوله: الساعة المطلية بالذهب للنساء لا بأس بها، وأما للرجال فحرام، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حرم الذهب على ذكور أمته.
وأما قول السائل الذهب الأبيض فلا نعلم أن هناك ذهباً أبيض، الذهب كله أحمر، لكن إن كان قصده بالذهب الأبيض الفضة، فإن الفضة ليست من الذهب، ويجوز منها ما لا يجوز من الذهب كالخاتم ونحوه.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: عن حكم تركيب الأسنان الذهبية؟
فأجاب فضيلته بقوله: الأسنان الذهبية لا يجوز تركيبها للرجال إلا لضرورة، لأن الرجل يحرم عليه لبس الذهب والتحلي به، وأما للمرأة فإذا جرت عادة النساء بأن تتحلى بأسنان الذهب فلا حرج عليها في ذلك، فلها أن تكسو أسنانها ذهباً إذا كان هذا مما جرت العادة بالتجمل به، ولم يكن إسرافاً، لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أحل(18/108)
الذهب والحرير لإناث أمتي» . وإذا ماتت المرأة في هذه الحال أو مات الرجل وعليه سن ذهب قد لبسه للضرورة فإنه يخلع إلا إذا خُشي المثلة، يعني خشي أن تتمزق اللثة فإنه يبقى؛ وذلك أن الذهب يعتبر من المال، والمال يرثه الورثة من بعد الميت فإبقاؤه على الميت ودفنه إضاعة للمال.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: عن حكم طلاء الأسنان بالذهب لإزالة التسوس؟ وعن حكم ملء الفراغ بأسنان الذهب؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا لم يمكن إزالة السوس إلا بكسائها بالذهب فلا بأس بذلك، وإن كان يمكن بدون الذهب فلا يجوز.
وأما ملء الفراغ بأسنان الذهب فلا يجوز إلا بشرطين:
الأول: أن لا يمكن ملؤها بشيء غير الذهب.
الثاني: أن يكون في الفراغ تشويه للفم.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل التختم للرجال سنة؟
فأجاب فضيلته بقوله: التختم ليس بسنة مطلوبة بحيث يطلب من كل إنسان أن يتختم، ولكن إذا احتاج إليه، فإن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قيل له: إن الملوك الذين يريد أن يكتب إليهم لا يقبلون كتاباً(18/109)
إلا مختوماً اتخذ الخاتم من أجل أن تختم به الكتب التي يرسلها إليهم، فمن كان محتاجاً إلى ذلك كالأمير والقاضي ونحوهما كان اتخاذه اتباعاً لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن لم يكن محتاجاً إلى ذلك لم يكن لبسه في حقه سنة، بل هو من الشيء المباح، فإن لم يكن في لبسه محذور فلا بأس به، وإن كان في لبسه محذور كان له حكم ذلك المحذور، وليعلم أنه لا يحل للذكور التختم بالذهب؛ لأنه ثبت النهي عنه عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: إذا توفي إنسان وكان أحد أسنانه من ذهب هل يترك هذا السن أو يخلع؟ وإذا كان هذا الخلع يترتب عليه مضرة لبقية الأسنان فما الحكم؟ وهل ورد نص في ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: أولاً: يجب أن نعلم أن السن الذهب لا يجوز أن يركب إلا عند الحاجة إليه، فلا يجوز أن يركبه أحد للزينة، اللهم إلا النساء إذا جرت عادتهن التزين بتحلية الأسنان بالذهب فلا بأس، أما الرجال فلا يجوز أبداً إلا لحاجة.
ثانياً: إذا مات من عليه أسنان من ذهب فإن كان يمكن خلع السن بدون مُثلة خُلع، لأن ملكه انتقل إلى الورثة، وإن كان لا(18/110)
يمكن خلعه لا بمُثلة بحيث تسقط بقية الأسنان فإنه يبقى ويدفن معه. ثم إن كان الوارث بالغاً عاقلاً رشيداً وسمح بذلك تُرك ولم يتعرض له، وإلا فقد قال العلماء: إنه إذا ظن أن الميت بَلي حُفر القبر وأُخذ السن لأن بقاءه إضاعة مال. وقد نهى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن إضاعة المال.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل من السنة لبس الخاتم من الفضة في الخنصر أو البنصر أفتونا مأجورين؟
فأجاب فضيلته بقوله: الخنصر والبنصر سواء، ولا بأس أن يلبس في هذا أو ذاك، ولكن هل من السنة لبس الخاتم؟
في هذا خلاف بين العلماء، من العلماء من قال: إنه سنة لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لبس الخاتم، ولبسه الصحابة رضي الله عنهم أيضاً، ولكن بشرط ألا يكون من الذهب إذا كان للرجال.
ومنهم من قال: إنه سنة لذي السلطان، كالحاكم، والقاضي والمفتي وما أشبه ذلك، وأما سائر الناس فليس لهم بسنة، ولكنه لا نهي فيه.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما حكم استعمال النظارات أو الأواني الملونة بلون الذهب؟
فأجاب فضيلته بقوله: الأواني المطلية بالذهب إن كان يجتمع(18/111)
من هذا الذهب شيء إذا عُرض على النار، يعني إذا قال الصائغ: هذا الذهب لو عرض على النار لاجتمع منه شيء فإن المطلي بها محرم؛ لأنه استعمال الذهب حقيقة، وأما إذا كان مجرد لون فإنه لا بأس به، أي لا بأس أن يأكل ويشرب بها، لكن الأفضل ترك ذلك؛ لأن من نظر إليه وهو يأكل فقد يسيء به الظن، ويقول: هذا الرجل يأكل بآنية الذهب. ومن نظر إليه فقد يظن ذلك ذهباً خالصاً فيقتدي به، وفي الأواني الكثيرة المنوعة ما يكفي عن استعمال مثل هذه الأواني، وكذلك يقال في النظارات.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل وضع الدبلة في الأصبع بدعة، حتى ولو كانت من الفضة وبخاصة في حالة الزواج؟
فأجاب فضيلته بقوله: الذي أراه أن وضع الدبلة أقل أحواله الكراهة؛ لأنها مأخوذة من غير المسلمين، وعلى كل حال الإنسان المسلم يجب أن يرفع بنفسه عن تقليد غيره في مثل هذه الأمور، وإن صحب ذلك اعتقاد كما يعتقده بعض الناس في الدبلة أنها سبب للارتباط بينه وبين زوجته كان ذلك أشد وأعظم، لأن هذا لا يؤثر في العلاقة بين الزوج وزوجته. وقد نرى من يلبس الدبلة للارتباط بينه وبين زوجته، ولكن بينهما من التفرق والشقاق ما لا يحصل ممن لم يلبس هذه الدبلة، فهناك كثير من الناس لا يلبسها ومع ذلك أحوالهم سائرة مع زوجاتهم.
* * *(18/112)
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: لدي ساعة يدوية مطلية بماء الذهب، فهل يجوز لي لبسها أو استعمالها؟
فأجاب فضيلته بقوله: من المعلوم أن لبس الذهب حرام على الرجال، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى رجلاً وفي يده خاتم من ذهب فنزعه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من يده وطرحه وقال: «يعمد أحدكم إلى جمرة من نار ويضعها في يده» . فلما انصرف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قيل للرجل: خذ خاتمك وانتفع به، قال: والله لا آخذ خاتماً طرحه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال النبي عليه الصلاة والسلام في الذهب والحرير: «هذان حرام على ذكور أمتي حل لإناثها» . فلا يجوز للرجل أن يلبس أي شيء من الذهب لا خاتماً ولا زراراً ولا غيره، والساعة من هذا النوع إذا كانت ذهباً، أما إذا كانت طلاء أو كانت عقاربها من ذهب أو فيها حبات من ذهب يسيرة، فإن ذلك جائز لكن مع هذا لا نشير على الرجل أن يلبسها أعني الساعة المطلية بالذهب لأن الناس يجهلون أن هذا طلاء أو أن يكون خلطاً في مادة هذه الساعة، ويسيئون الظن بهذا الإنسان، وقد يقتدون به إذا كان من الناس الذين يقتدى بهم، فيلبسون الذهب الخالص أو المخالط. ونصيحتي ألا يلبس الرجال مثل هذا الساعات المطلية وإن كانت حلالاً، وفي الحلال الواضح الذي لا لبس فيه غنية عن هذا، فقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه» . ولكن إذا كان(18/113)
الطلاء خلطاً من الذهب لا مجرد لون فالأقرب التحريم.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: يوجد في الأسواق نوع من الساعات تحمل إشارة الصليب فهل استعمالها مباح أم لا؟
فأجاب فضيلته بقوله: ينبغي أن يعرف أن الصليب كان من هدي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه يكسره ويزيله عليه الصلاة والسلام، فإذا كان الصليب مجسماً وجب كسره، وإذا كان بتلوين كما في بعض الساعات فإنه يطمس، بأن يوضع عليه لون يزيل صورته حتى لا يبقى في الساعات شيء منه، ولا ينبغي للإنسان أن يحمل في يده ما فيه شعار النصارى، ما هو ظاهر به التعظيم في وضعه مثل الساعة أو بعض الا"لات.
وأما ما هو شعار الشركة فنقول: إنه ظاهر الحديث الوارد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه لا فرق بين أن يضع الصليب من أجل تعظيمه والإشارة إلى كونه شعار النصارى، وبين أن يكون لمجرد الدلالة لهذه الشركة أو هذا المصنع. والمسلم يجب عليه أن يبتعد كثيراً عما يكون في شعار غير المسلمين؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «من تشبه بقوم فهو منهم» .
أما ما ظهر منه أنه لا يراد به الصليب لا تعظيماً ولا بكونه شعاراً مثل بعض العلامات الحسابية، أو بعض ما يظهر بالساعات(18/114)
الألكترونية من علامة زائد، فإن هذا لا بأس به، ولا يعد من الصلبان بشيء.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: هل يجوز للنساء التحلي بالذهب المحلق؟
فأجاب فضيلته بقوله: الصواب أن حلي الذهب حلال للنساء ما لم يكن محرماً لعارض: كالإسراف، وكونه على صور حيوان ونحوه، وهو قول جمهور أهل العلم، وحكاه بعضهم إجماعاً.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: ما حكم ثقب إذن البنت من أجل أن تتحلى بالذهب كالخرص؟ وهل في ذلك شيء من المثلة والتعذيب، كما قال بعض الفقهاء؟ وهل ينطبق ذلك على ثقب الأنف؟
فأجاب فضيلته بقوله: الصحيح أنه لا بأس به؛ لأن هذا من المقاصد التي يتوصل بها إلى التحلي المباح، وقد ثبت أن نساء الصحابة رضي الله عنه كان لهن أقراط يلبسنها في آذانهن،(18/115)
وهذا التعذيب تعذيب يسير، وإذا ثقبت في حال الصغر صار برؤه سريعاً.
وينطبق ذلك على الأنف عند من يرى أنه مكان للزينة.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى -: بعض العلماء يقولون: إن الذهب الذي يستعمل للبس عليه زكاة، وبعضهم يقول عكس ذلك، فهل على الذهب المعد للبس زكاة؟
فأجاب فضيلته بقوله: ما ذكرته أيها الأخ صحيح، فقد اختلف أهل العلم في الذهب المعد للبس أو العارية دون الاستغلال بالتأجير أو الاكتساب بالربح:
فمنهم من يرى أن الذهب تجب فيه الزكاة ولو كان معدًّا للبس، أو الاستعمال، أو العارية.
ومنهم من يرى أنه لا تجب فيه الزكاة.
والواجب في مثل هذه الحال الرجوع إلى ما دل عليه الكتاب والسنة، لقوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الأَْخِرِ ذالِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} ، وإذا رددنا الأمر إلى الله تعالى والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجدنا الصواب قول من يقول بوجوب الزكاة في الحلي من الذهب والفضة بشرط أن يبلغ النصاب، وهو عشرون مثقالاً من الذهب، ومائة وأربعون مثقالاً من الفضة، ووزن العشرين مثقالاً من الذهب أحد عشر جنيهاً وثلاثة أسباع الجنيه، فإذا كان عند المرأة ما يبلغ مجموعه هذا الوزن وجبت فيه(18/116)
الزكاة، وإن كان دون ذلك فلا زكاة عليها فيه.
ويدل لهذا القول الصحيح عموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} وكنزها منع زكاتها ولو كانت على ظهر الأرض، أما ما أديت زكاته فليس بكنز ولو كان مدفوناً بالأرض.
وقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت صفائح من نار، وأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه، وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار» ، فقوله: «لا يؤدي منها حقها» عام في جميع الحقوق ومنها الزكاة.
بل إنه ثبت في صحيح مسلم رواية أخرى: «لا يؤدي زكاته» ، وعلى هذا فيكون العموم شاملاً لهذه المسألة، فإن من عندها حلي من الذهب فهي صاحبة ذهب بلا شك، وكذلك من عندها حلي من الفضة فهي صاحبة فضة بلا شك.
ثم إن هناك أحاديث خاصة في الحلي، منها ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن امرأة جاءت إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب، فقال: «أتؤدين زكاة هذا؟» قالت: لا، قال: «أيسرك أن يسوِّرك الله بهما سوارين من نار؟» فخلعتهما وألقتهما إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقالت: «هما(18/117)
لله ورسوله» . قال ابن حجر في بلوغ المرام: إن إسناده قوي، وكذلك صححه شيخنا عبد العزيز بن عبد الله بن باز، وله شاهد من حديث عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما.
وعلى هذا فيكون الصواب هو قول من يرى الزكاة في الحلي، ولو كان معدًّا للاستعمال أو العارية.
أما الذين قالوا: لا زكاة فيه فإنهم احتجوا بحديث لا يصح وهو ما يروى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ليس في الحلي زكاة» ، وهذا الحديث لا يقولون به على سبيل الإطلاق، ولهذا تراهم إذا كان الحلي للنفقة أو الإجارة تراهم يوجبون فيه الزكاة، ولا يأخذون بعموم هذا الحديث، هذا لو صح، لكنه لا يصح.
ويستدلون أيضاً بقياس الحلي على الثياب وما يحتاجه الإنسان لنفسه من سيارة ونحوها، ولكن هذا القياس ليس بصحيح، وذلك لأن الذهب والفضة الأصل فيهما الزكاة، فمن ادعى خروج شيء منهما عن الزكاة فعليه الدليل. أما الثياب والسيارة، وما إلى ذلك مما يعده الإنسان لحاجته فالأصل عدم الزكاة فيها، ولهذا لا تجب فيها الزكاة إلا إذا أعدت للتجارة، حتى لو أعدت للتأجير فإنه لا زكاة فيها، أي لو كان عنده ثياب يؤجرها فلا زكاة فيها، وكذلك لو كان عنده سيارة يعدها للإجارة فلا زكاة عليه في هذه السيارة.
مع أن القائلين بعدم زكاة الحلي يقولون: إذا كان عنده حلي(18/118)