الكسر، أو اللزقة التي تكون على الجرح، أو على ألم في الظَّهر أو مأ أشبه ذلك، فالمسح عليها بجزيء عن الغسل. فإذا قدرنا أن ذراع المتوضئ لزقة على جرح يحتاج إليها، فإنه يمسح عليها بدلاً عن الغسل وتكون هذه الطهارة كاملة، بمعنى أنه لو فُرض أن هذا الرَّجل نزع هذه الجبيرة أو اللزقة، فإن طهارته تبقى ولا تنتقض لأنها تمت على وجه شرعي. ونزع اللزقة ليس هناك دليل على أنه ينقض الوضوء أو ينقض الطهارة وليس في المسح على الجبيرة دليل خالٍ من معارضة، فيها أحاديث ضعيفة ذهب إليها بعض أهل العلم، وقال: إن مجموعها يرفعها إلى أن تكون حجة.
ومن أهل العلم من قال: إنه لضعفها لا يعتمد عليها، وهؤلاء اختلفوا، فمنهم من قال: يسقط تطهير محل الجبيرة، لأنه عاجز عنه. ومنهم من قال: بل يتيمم له ولا يمسح عليها.
لكن أقرب الأقوال إلى القواعد بقطع النظر عن الأحاديث الواردة فيها، أقرب الأقوال أنه يمسح، وهذا المسح يغنيه عن التيمم فلا حاجة إليه، وحينئذٍ نقول: إنه إذا وجد جرح في أعضاء الطهارة فله مراتب:
المرتبة الأولى: أن يكون مكشوفاً ولا يضره الغسل، ففي هذه المرتبة يجب عليه غسله إذا كان في محلٍ يُغسل.
المرتبة الثانية: أن يكون مكشوفاً ويضره الغسل دون المسح، ففي هذه المرتبة يجب عليه المسح دون الغسل.
المرتبة الثالثة:: أن يكون مكشوفاً ويضره الغسل والمسح، فهنا يتيمم له.
المرتبة الرابعة: أن يكون مستوراً بلزقة أو شبهها محتاج إليها، وفي هذه المرتبة يمسح على هذا الساتر، ويغنيه عن غسل العضو ولا يتيمم.(11/172)
116) وسُئل: هل يشترط للجبيرة أن لا تكون زائدة عن الحاجة؟
فأجاب قائلاً: الجبيرة لا يُمسح عليها إلا عند الحاجة فيجب أن تقدر بقدرها، وليست الحاجة هي موضع الألم أو الجرح فقط، بل كل ما يحتاج إليه في تثبت هذه الجبيرة أو هذه اللزقة مثلاً فهو حاجة، فلو كان الكسر في الإصبع ولكن احتجنا أن نربط كل الرَّاحة لتستريح اليد، فهذه حاجة.
117) وسُئل فضيلة الشيخ: هل يجب الجمع بين التيمم والمسح على الجبيرة أو لا؟
فأجاب بقوله: لا يجب الجمع بين المسح والتيمم، لأن إيجاب طهارتين لعضو واحد مخالف لقواعد الشريعة، لأننا نقول: يجب تطهير هذا العضو إما بكذا وإما بكذا، أما أن نوجب تطهيره بطهارتين، فهذا لا نظير له في الشريعة، ولا يكلِّف الله عبداً بعبادتين سببهما واحد.
118) وسُئل: هل يجب أن يعم الإنسان الجبيرة عند المسح عليها؟
فأجاب بقوله: نعم يعمها كلها، لأن الأصل أن البدن له حكم المبدل ما لم ترد السنة بخلافه، فهنا المسح بدل عن الغسل فكما أن الغسل يجب أن يعم العضو كله، فكذلك المسح يجب أن يعم جميع الجبيرة، واما المسح على الخفين فهو رخصة وقد وردت السنة بجواز الاكتفاء بمسح بعضه.(11/173)
119) سُئل فضيلة الشيخ: هل هناك فرق بين المسح على الخفين والمسح على الجبيرة؟
فأجاب قائلاً: نعم هناك فروق منها:
أولاً: أن المسح على الخفين مقدر بمدة معنية، أما المسح على الجبيرة فله أن يمسح عليها ما دامت الحاجة داعيه إلى بقائها.
ثانياً: أن الجبيرة لا تختص بعضو معين والخف يختص بالرِّجل.
ثالثاً: المسح على الخفين يُشترط فيه أن يلبسهما على طهارة بخلاف الجبيرة فلا تشترط لها الطهارة.
رابعاً: أن الجبيرة يمسح عليها في الحدث الأصغر والحدث الأكبر بخلاف الخف كما سبق، فإذا وجب عليه الغسل يمسح عليها كما يمسح في الوضوء.
120) وسُئل: إذا تطهَّر الإنسان بالتيمم ولبس الخفين، فهل يجوز له أن يمسح عليهما إذا وجد الماء؟
فأجاب بقوله: لا يجوز له أن يمسح على الخفين إذا كانت الطهارة طهارة تيمم، لقوله صلى الله عليه وسلم: " فإني أدخلتهما طاهرتين ". وطهارة التيمم لا تتعلق بالرِّجل، إنما هي في الوجه والكفين فقط، وعلى هذا أيضاً لو أن إنساناً ليس عنده ماء، أو كان مريضاً لا يستطيع استعمال الماء في الوضوء، فإنه يلبس الخفين ولو كان على غير طهارة وتبقيان عليه بلا مدة محدودة حتى يجد الماء إن كان عادِماً له، أو يشفى من مرضه إن كان مريضاً، لأن الرِّجل لا علاقة لها بطهارة التيمم.(11/174)
121) وسُئل فضيلة الشيخ: عن حكم من توضأ فغسل رجله اليمنى، ثم لبس الخف أو الجورب، ثم غسل اليسرى ولبس الجورب عليها أو الخف؟
فأجاب قائلاً: هذه المسألة محل خلاف بين أهل العلم فمنهم من قال: لا بد أن يُكمل الطهارة قبل أن يلبس الخف أو الجورب، ومنهم قال: إنه يجوز إذا غسل اليمنى أن يلبس الخف أو الجورب ثم يغسل اليسرى ويلبس الخف أو الجورب، فهو لم يدخل اليمنى إلا بعد أن طهرَّها واليسرى كذلك، فيصدق عليه أنه أدخلهما طاهرتين. لكن هناك حديث أخرجه الدارقطني والحاكم وصححه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا توضأ أحدكم ولبس خفيه ". الحديث. فقوله: " إذا توضأ " قد يرجح القول الأول، لأن من لم يغسل اليسرى لا يصدق عليه أن توضأ فعليه فالقول به أولى.
122) وسُئل حفظه الله: إذا مسح الإنسان وهو مقيم ثم سافر فهل يتم مسح مسافر؟
فأجاب قائلاً: إذا مسح وهو مقيم ثم سافر فإنه يتم مسح مسافر على القول الراجح، وقد ذكر بعض أهل العلم أنه إذا مسح في الحضر ثم سافر، أتمّ مسح مقيم، ولكن الراجح ما قلناه، لأن هذا الرجل قد بقي في مدة مسحه شيء قبل أن يسافر وسافر، فيصدق عليه أنه من المسافرين الذين يمسحون ثلاثة أيام، وقد ذكر عن الإمام أحمد - رحمه الله أنه رجع إلى هذا القول بعد أن كان يقول بأنه يتم مسح مقيم.(11/175)
123) وسُئل: إذا مسح الإنسان وهو مسافر ثم أقام فهل يتم مسح مقيم؟
فأجاب - حفظه الله ورعاه - بقوله: إذا مسح مسافراً ثم أقام فإنه يتم مسح مقيم على القول الراجح إن كان بقي من مدته شيء وإلا خلع عند الوضوء وغسل رجليه.
124) وسُئل فضيلة الشيخ: إذا شكَّ الإنسان في ابتداء المسح ووقته فماذا يفعل؟
فأجاب قائلاً: في هذه الحال يبني على اليقين، فإذا شكَّ هل مسح لصلاة الظهر أو لصلاة العصر فإنه يجعل ابتداء المدة من صلاة العصر، لأن الأصل عدم المسح. ودليل هذه القاعدة هو أن الأصل بقاء ما كان على ما كان، وأن الأصل العدم، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام، شكى إليه الرَّجل يخيَّل إليه أن يجد الشيء في صلاته فقال: " لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً ".
125) وسُئل: إذا مسح الإنسان على الكنادر ثم خلعها ومسح على الشراب فهل يصح مسحه؟
فأجاب قائلاً: المعروف عند أهل العلم أنه إذا مسح أحد الخفين الأعلى أو الأسفل تعلق الحكم به ولا ينتقل إلى ثانٍ، ومنهم من يرى أنه يجوز الانتقال إلى الثاني إذا كان الممسوح هو الأسفل ما دمادامت المدة باقية.
وهذا هو القول الراجح. وعلى هذا فلو توضأ ومسح على الجوارب ثم لبس عليها جوارب أخرى، أو كنادر ومسح العليا، فلا بأس به على(11/176)
القول الراجح ما دامت المدة باقية، لكن تُحسب المدة من المسح على الأول لا من المسح على الثاني.
126) وسُئل فضلية الشيخ: عن كيفية المسح على الخفين؟
فأجاب بقوله: كيفية المسح أن يمرَّ يده من أطراف أصابع الرِّجل إلى ساقه فقط، يعني أن الذي يُمسح هو أعلى الخف فيمر يده من عند أصابع الرِّجل إلى الساق فقط، ويكون المسح باليدين جميعاً على الرجلين جميعاً، يعني اليد اليمنى تَمسح الرِّجل اليمنى، واليد اليسرى تمسح الرِّجل اليسرى في نفس اللحظة، كما تُمسح الأذنان، لأن هذا هو ظاهر السنة لقول المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - " فمسح عليهما " ولم يقل بدأ باليمنى بل قال: " مسح عليهما " فظاهر السنة هو هذا. نعم لو فرض أن إحدى يديه لا يعمل بها فيبدأ باليمنى قبل اليسرى، وكثير من الناس يمسح بكلتا يديه على اليمنى وكلتا يديه على اليسرى، وهذا لا أصل له فيما أعلم، وإنما العلماء يقولون: يمسح باليد اليمنى على اليمنى، واليد اليسرى على اليسرى. وعلى أي صفة مسح أعلى الخف فإنه يُجزيء لكن كلامنا هذا في الأفضل.
127) وسُئل فضيلة: عن حكم مسح أسفل الخف؟
فأجاب فضيلته قائلاً: مسح أسفل الخف ليس من السنة، ففي السنن من حديث علي بن ابي طالب - رضي الله عنه - قال: " لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يمسح ظاهر خفيه ". وهذا يدل على أن المشروع مسح الأعلى فقط.(11/177)
128) وسُئل فضيلة الشيخ: إذا أدخل الإنسان يده من تحت الشراب فهل يبطل مسحه؟ وكذلك إذا خلعها؟
فأجاب - حفظه الله تعالى - قائلاً: إذا أدخل يديه من تحت الشراب " الجوارب " فلا بأس في ذلك ولا حرج، ولا يبطل المسح بذلك لأنه لم يخلعهما. أما إن خلعهما فُينظر إن خلع جزءاً يسيراً فلا يضر، وإن خلع شيئاً كثيراً بحيث يظهر أكثر القدم، فإنه يبطل المسح عليهما في المستقبل.
129) وسُئل فضيلة الشيخ: إذا نزع الإنسان الشراب وهو على وضوء ثم أعاداها قبل أن ينتقض وضوءه فهل يجوز له المسح عليها؟
فأجاب بقوله: إذا نزع الشراب ثم أعادها وهو على وضوئه فلا يخلو من حالين:
الأولى: أن يكون هذا الوضوء هو الأول، أي إنه لم ينتقض وضوءه بعد لبسه فلا حرج عليه أن يعيدها ويمسح عليها إذا توضأ.
الثانية: إذا كان هذا الوضوء وضوءاً مسح فيه على شرابه، فإنه لا يجوز له إذا خلعها أن يلبسها ويمسح عليها، لأنه لا بد أن يكون لبسهما على طهارة بالماء، وهذه طهارة بالمسح، هذا ما يعلم من كلام أهل العلم ولكن إن كان أحد قال بأنه إذا أعادها على طهارة ولو طهارة المسح، له أن يمسح ما دامت المدة باقية، فإن هذا قول قوي، ولكنني لم أعلم أن أحداً قال به، فالذي يمنعني من القول به هو أنني لم أطَّلع على أحد قال به، فإن كان قال به أحد من أهل العلم فهو الصواب عندي، لأن طهارة المسح طهارة كاملة، فينبغي أن يُقال إنه إذا كان(11/178)
يمسح على ما لبسه على طهارة غسل، فليمسح على ما لبسه على طهارة مسح، لكنني ما رأيت أحداً قال بهذا. والعلم عند الله.
130) سُئل فضيلة الشيخ: إذا خلع الإنسان خفيه بعد أن مسح عليهما فهل تبطل طهارته؟
فأجاب بقوله: إذا خلع الخف أو الجورب بعد أن مسح عليه فلا تبطل طهارته على القول الصحيح، لكن يبطل مسحه دون طهارته، فإذا أرجعها مرة أخرى وانتقض وضوءه، فلا بد أن يخلع الخف ويغسل رجليه، والمهم أن نعلم أنه لا بد أن يلبس الخف على طهارة غسل فيها الرِّجل على ما علمنا من كلام أهل العلم. ولأن هذا الرّجل لمّا مسح على الخف تمت طهارته بمقتضى دليل شرعي، وما ثبت بمقتضى دليل شرعي فإنه لا ينتقض إلا بدليل شرعي، وعلى هذا فلا ينتقض وضوءه إذا خلع خفيه بل يبقى على طهارته إلى وجود ناقض من نواقض الوضوء المعروفة. ولكن لو أعاد الخف بعد ذلك وأراد أن يمسح عليه في المستقبل فلا، على ما أعلمه من كلام أهل العلم.
131) وسُئل حفظه الله: هل إذا تمت المدة فهل ينتقض الوضوء؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا ينتقض الوضوء بانتهاء المدة لأن النبي صلى الله عليه وسلم، إنما وقَّت مدة المسح لا انتهاء الطهارة، فليس الموَّقت الطهارة حتى نقول إذا تمت مدة المسح انتقضت، بل الموقت المسح، فنحن نقول: إذا تمت المدة لا تمسح، لكن قبل تمام المدة إذا مسحت وأنت على طهارة فإن طهارتك هذه قد تمت بمتقضى دليل شرعي، وما تم بمقتضى دليل شرعي فلا ينتقض إلى بمقتضى دليل شرعي، ولا دليل على ذلك(11/179)
والأصل بقاء الطهارة وعدم النقض، وفي مسألة النقض أصل أصَّله رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الرَّجُل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال: " لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً " فلم يوجب النبي صلى الله عليه وسلم الوضوء إلا على من تيقَّن سبب وجوبه، ولا فرق بين كون سبب الوجوب مشكوكاً فيه من حيث الواقع كما في الحديث، أو من حيث الحكم الشرعي، فإن في كل جهالة، هذا جاهل بالواقع هل حصل أو لم يحصل؟ وهذا جاهل بالشرع هل يوجب أو لا؟ فإذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً " عُلم أنه لا ينتقض الوضوء إلا باليقين وهنا لا يقين فتبقى الطهارة.
132) وسُئل الشيخ - حفظه الله تعالى: مَن مسح على خفيه بعد انتهاء المدة وصلى بهما فما الحكم؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا انتهت مدة مسح الخفين ثم صلى الإنسان بعد انتهاء المدة، فإن كان أحدث بعد انتهاء المدة ومسح، وجب عليه إعادة الوضوء كاملاً بغسل رجليه، ووجب عليه إعادة الصلاة، وذلك لأنه لم يغسل رجليه فقد صلّى بوضوء غير تام. وأما إذا انتهت مدة المسح وبقي الإنسان على طهارته، وصلى بعد انتهاء المدة فصلاتُه صحيحة لأن انتهاء مدة المسح لا ينقض الوضوء، وإن كان بعض العلماء يقولون: إن انتهاء مدة المسح ينقض الوضوء، لكنه قولٌ لا دليل عليه، وعلى هذا فإذا تمت مدة المسح وبقي الإنسان على طهارته بعد انتهاء المدة، ولو يوماً كاملاً، فله أن يصلي ولو بعد انتهاء المدة، لأن وضوءَه قد ثبت بدليل شرعي فلا يرتفع إلا بدليل شرعي، ولا دليل على النبي صلى الله عليه وسلم يدلُّ على أن انتهاء مدة المسح موجب للوضوء. الله أعلم.(11/180)
133) وسُئل فضيلته: هل هناك فرق بين الرجال والنساء في أحكام المسح على الخفين؟
فأجاب بقوله: ليس هناك فرق بين الرجال والنساء في هذا وينبغي أن نعلم قاعدة وهي " أن الأصل أن ما ثبت في حق الرجال ثبت في حق النساء، وأن ما ثبت في حق النساء ثبت في حق الرجال إلا بدليل يدل على افتراقهما ".(11/181)
رسالة
قال فضيلة الشيخ جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيراً:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه بحوث في المسح على الخفين:
البحث الأول: في المسح على المخرَّق، وما تُرى منه البشرة لصفائه أو رقَّته وفي هذا خلاف بين العلماء:
فالمشهور من مذهب الإمام أحمد أن المسح عليه لا يصح. قال في المنتهى في معرض ذكر شروط المسح: وأن لا يصف البشرة لصفائه أو خفته. وذكر قبله أنه يُشترط ستر محل الفرض.
وفي المجموع فقه الشافعية للنووي 1//480 ذكر قولين في الخُف المخرَّق، أصحهما لا يمسح، وفي ص 481 منه أن ابن المنذر حكى عن الثوري وإسحاق ويزيد بن هارون، وأبى ثور، جواز المسح على جميع الخفاف. قال ابن المنذر: وبه أقول لظاهر إباحة رسول الله صلى الله عليه وسلم، المسح على الخفين قولاً عامّاً يدخل فيه جميع الخفاف.أهـ.
وفي الاختبار لشيخ الإسلام ابن تيميه ص 13 أن الخف الممزَّق يجوز المسح عليه ما دام اسم الخف باقياً، والمشي فيه ممكناً، وهو قديم قولي الشافعي واختيار أبي البركات وغيره من العلماء.
وفي المحلىَّ 2/100 جواز المسح على المخرَّق ولو ظهر أكثر القدمين ما دام يتعلق بالرِّجلين منهما شيء ونقل عن سفيان الثوري أنه قال: امسح مادام يُسمى خفًّا.(11/183)
وفي المجموع 2/482 إذا تخرَّقت الظهارة فإن كانت البطانة صفيقة، جاز المسح وإلا فلا، لأنه كالمكشوف، قال: وحكى الروياني والرافعي وجهاً غريباً ضعيفاً أنه يجوز وإن كانت البطانة رقيقة. وفي ص 484 حكى ابن المنذر إباحة المسح على الجورب عن تسعة من الصحابة - رضي الله عنهم - إلى أن قال: وحكى أصحابنا عن عمر وعلي - رضي الله عنهما - جواز المسح على الجورب وإن كان رقيقاً. وحكوْه عن أبي يوسف ومحمد وإسحاق وداود اهـ. وفي ص 486 إذا لبس خفَّ زجاج يمكن متابعة المشي عليه جاز المسح عليه، وإن كان ترى تحته البشرة.
وفي ص 24 جـ 1 من جواهر الإكليل شرح مختصر خليل، أن الجورب ملبوس رجل على هيئة الخف منسوج من قطن أو كتَّان أو صوف يسمى في عُرف أهل مصر شراباً.
البحث الثاني: إذا لبس خفّاً على خف فلا يخلو من حالين:
الأولى: أن يكون بعد الحدث فالحكم للأسفل ولا يمسح الأعلى.
الثانية: أن يكون قبل الحدث فهو بالخيار، فإن مسح الاسفل تعلق الحكم به ولا يضره نزع الأعلى، وإن مسح الأعلى تعلق الحكم به فإن نزعه لزم نزع الأسفل، ومتى مسح أحدهما لم ينتقل إلى الثاني. ولا يصحّ المسح عليهما إنا كانا مُخرَّقين، ولا على الاسفل إن كان هو المخرَّق. وفي الفروع 1/160: ولا يمسح خفين لُبسا على ممسوحين.. ويتوجه الجواز (و) لمالك وفي 172: وإن نزع خفّاً فوْقانيّاً مسحه فإنه يلزم نزع التحتاني.. فيتوضأ أو يغسل قدميه على الخلاف، وعنه لايلزمه (وهـ م) فيتوضأ أو يمسح التحتاني مفرداً على الخلاف اهـ.
قلت: وعلى القول بأن النزع لا ينقض الطهارة لاشيء عليه.(11/184)
وفي المجموع للنووي 1/490، إذا جوَّزنا المسح على الجرموق (ملبوس رِجل يُلبس فوق الخف لا سيما في البلاد الباردة) فقد ذكر أبو العباس بن سريج فيه ثلاثه معانٍ أصحّها: أن بدل عن الخف، والخف بدل عن الرجل. الثاني: أن الأسفل كُلفافة والأعلى هو الخف. والثالث: أنهما كخف واحد، فالأعلى طهارة والأسفل بطانة. وفرَّع الأصحاب على هذه المعاني مسائل كثيرة، وذَكر منها لو نزعه بعد مسحه وبقي الأسفل بحالة، فإن قلنا بالأول لم يجب نزع الأسفل فيمسحه، لكن هل يكفيه مسحه أوْ لابد من إعادة الوضوء؟ فيه القولان في نازع الخفين، وإن قلنا بالثالث فلا شيء عليه، وإن قلنا بالثاني، وجب نزع الأسفل وغسل القدمين، وفي وجوب استئناف الوضوء القولان، فحصل من الخلاف في المسالة خمسة أقوال:
أحدها: لا يجب شيء وأصحها مسح الأسفل فقط. الثالث: يجب مسحه مع استئناف الوضوء. الرابع: يجب نزع الخفين وغسل الرجلين. الخامس: يجب النزع واستئناف الوضوء. وفي ص 490 أيضاً: إذا لبس الخف على طهارة ثم أحدث ومسح عليه ثم لبس الجرموق على طهارة المسح، ففي جواز المسح عليه وجهان مشهوران. ثم قال عن الجواز إنه الأظهر المختار لأنه لبس على طهارة وقولهم: إنها طهارة ناقصة غير مقبول. قال الرافعي: قال الشيخ أبو علي: إذا جوَّزنا المسح عنا فابتداء المدة من حين أحدث بعد لبس الخف لا من لبس الجرموق. اهـ وقوله من حيث أحدث بناء على أن ابتداء المدة من الحدث، وسيأتي الخلاف في ذلك.
البحث الثالث: في توقيت مدة المسح:
وفي هذه المسألة خلاف بين أهل العلم. فجمهور أهل العلم من(11/185)
الصحابة والتابعين ومن بعدهم على أن المسح مؤقت بيوم وليلة للمقيم. وثلاثة أيام بلياليها للمسافر. وقال بعض العلماء لا توقيت فيه. وفي المجموع 1/ 467: حكاه أصحابنا عن أبي سلمة بن عبد الرحمن والشعبي وربيعة والليث وأكثر أصحاب مالك، وهو المشهور عنه، وعنه أنه مؤقت وعنه مؤقت للحاضر دون المسافر. قال ابن المنذر: وقال سعيد بن جبير: يمسح غدوة إلى الليل اهـ. وقال شيخ الإسلام في الاختيارات ص 15: ولا تتوقت مدة المسح في المسافر الذي يشق اشتغاله بالخلع واللبس، كالبريد المجهز في مصلحة المسلمين.
وإذا قلنا بالتوقيت فمن أين يبتدئ؟
الجمهور من أهل العلم على أن َّ ابتداء المدة: من أول حدث بعد اللبس.
وفي المجموع 1/ 470: وقال الأوزاعي وأبو ثور: ابتداء المدة من حين يمسح بعد الحدث. وهو رواية عن أحمد وداود - وهو المختار الراجح دليلاً - واختاره ابن المنذر وحكى نحوه عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وحكى الماوردي والشاشي عن الحسن البصري ان أبتداءها من اللبس. أهـ.
البحث الرابع:
إذا تغيرت حال اللابس من إقامة إلى سفر أو بالعكس فبأيهما يعتبر؟
وهذا له ثلاث حالات:
الحال الأولى:أن يكون التغير قبل الحدث، مثل أن يلبس الخفين مقيماً ثم يسافر قبل أن يُحدث. أو يلبسهما مسافراً ثم يقدم بلده قبل أن يُحدث، ففي المسألة الأولى يمسح مسح مسافر، قال في المجموع(11/186)
2/ 472. في المسألة الثانية يمسح مسح مقيم ولا إشكال في ذلك.
الحال الثانية: أن يكون التغير بعد الحدث وقبل المسح، مثل أن يلبس الخفين مقيماً ثم يُحدث ثم يسافر قبل أن يمسح. أو يلبسهما مسافراً ثم يُحدث ثم يقدم بلده قبل أن يمسح. ففي المسالة الأولى يمسح مسح مسافر. قال في الإنصاف 1/179 هذا المذهب - وعليه الأصحاب - ورمز لذلك في الفروع 1/168 بالواو إشارة لموافقة الأئمة الثلاثة. قال وعنه مسح مقيم إلخ اهـ. وفي المغني 1/290 لا نعلم بين أهل العلم خلافاً في أن من لم يمسح حتى سافر أنه يتم مسح المسافر اهـ. وفي المسالة الثانية يمسح مسح مقيم، ولم أرّ في ذلك خلافاً.
الحالة الثالثة: أن يكون التغير بعد الحدث والمسح، مثل أن يلبس الخفين ويمسح عليهما مقيماً ثم يسافر، أو يلبس الخفين ويمسح عليهما مسافراً ثم يقدم بلده بعد ذلك. ففي هذه الحال خلاف بين أهل العلم:
أما المسألة الأولى: فلا يخلوا إما أن تكون مدة مسح المقيم قد انتهت أوْلاً. فإن كانت قد انتهت فلا مسح، ولم أرَ في ذلك خلافاً إلا ما ذكره في المحلىَّ 2/109 أنه يتم مسح مسافر.
وإن كانت مدة مسح المقيم باقية، ففي ذلك خلاف: فمذهب مالك والشافعي وأحمد في رواية عنه وإسحاق وداود في رواية عنه يتم مسح مقيم. ومذهب أبي حنيفة والثوري يتم مسح مسافر وهو رواية عن أحمد وداود (انظر المجموع 1/472) قال في المغني: 1/292 قال الخلال: رجع أحمد عن قوله الأول إلى هذا. وفي الإنصاف 1/178 عن صاحب الفائق: هو النص المتأخر وهو المختار اهـ
وأما المسالة الثانية: فلا يخلو إما أن تكون مدة مسح المسافر قد(11/187)
انتهت أوْ لا: فإن كانت قد انتهت، فلا مسح، وإن كانت باقية، أتم مسح مقيم إن بقي من مدته شيء، قال في المغني 1/293: وهذا قول الشافعي وأصحاب الرأي، ولا أعلم فيه مخالفاً اهـ. ورمز لذلك في الفروع 1/168 بالواو إشارة لموافقة الآئمة الثلاثة: قال: وفي المبهج: مسح مسافر إن كان مسح مسافراً فوق يوم وليلة اهـ. وفي المحلي 2/109 يبتديء مسح مقيم إن كان قد مسح في السفر يومين وليلتين فأقل، وإلا أتم مسح مسافر إن بقي من مدته شيء.
البحث الخامس: إذا انتهت مدة المسح أو نزع الممسوح، فهل تبقي الطهارة أو تنتقض؟
في هذا خلاف بين العلماء، ذكره في المجموع 1/511.
القول الأول: تبقى طهارته ولا يلزمه شيء، فيُصلي بطهارته ما لم يُحدث، وقد حكاه ابن المنذر عن الحسن البصري وقتاده وسليمان بن حرب، واختاره. قال النووي: وهو المختار الأقوى. قلت: واختاره ابن حزم 2/94 ونقله في المسألة الأولى (انتهاء المدة) عن إبراهيم النخعي والحسن البصري وابن أبي ليلى وداود، وقال: هذا هو القول الذي لا يجوز غيره. قال ص 95: ولو مسح قبل إنقضاء أحد الأمدين بدقيقة كان له أن يصلي به ما لم يحدث. وقال عن المسالة الثانية 2/105 إنه قول طائفه من السلف. وهو أيضاً اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية في المسألتين.
القول الثاني: يلزمه غسل القدمين فقط، وبه قال عطاء وعلقمة والأسود وحكى عن النخغي وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه والثوري وأبي ثور والمزني ورواية عن أحمد.(11/188)
القول الثالث: يلزمه الوضوء، وبه قال مكحول والنخغي والزهري وابن أبي ليلى والأوزاعي والحسن بن صالح وإسحاق، وهو أصح الروايتين عن أحمد.
القول الرابع: يلزمه الوضوء إن طال الفصل بين النزع وغسل الرجلين، وإلا كفاه غسل الرجلين وبه قال مالك والليث.
وإلى هنا تم ما أردنا كتابته. فنسأل الله تعالى أن ينفع بها إنه جواد كريم. تم ذلك في يوم الأربعاء الموافق 16 / ربيع الثاني عام 1407هـ.(11/189)
رسالة
قال فضيلة الشيخ جزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد.
فهذه مسائل في المسح على الخفين اقتصرت فيها على ما رأيته صواباً بمقتضى الأدلة الشرعية، أسأل الله تعالى أن تكون خالصة لله صواباً على شريعة الله:
1- اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في جواز المسح على الخف المخرَّق. والصحيح جوازه ما دام اسم الخف باقياً، وهو قول ابن المنذر وحكاه عن الثوري وإسحاق ويزيد بن هارون وأبي ثور، وبه قال شيخ الإسلام ابن تيميه ما دام اسم الخف باقياً والمشي به ممكناً.
2- يجوز المسح على الخف الرقيق على القول الصحيح، قال النووي: حكى أصحابنا عن عمر وعلي - رضي الله عنهما - جواز المسح على الجورب وإن كان رقيقاً وحكوه عن أبي يوسف ومحمد وإسحاق وداود. وقال في الصحيح بل الصواب ما ذكره القاضي أبو الطيب والقفال وجماعات من المحققين، أنه إن أمكن متابعة المشي عليه جاز كيف كان وإلا فلا.
3- مدة المسح يوم وليلة للمقيم وثلاثة أيام بلياليها للمسافر، وابتداء(11/191)
المدة من أول مرة مسح بعد الحدث على القول الصحيح، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وبه قال الأوزاعي وأبو ثور واختاره ابن المنذر، وحكى نحوه عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال النووي: وهو المختار الراجح دليلاً.
4- إذا لبس في الحضر ثم سافر قبل أن يُحدث فمسحه مسح مسافر.
5- إذا لبس في السفر ثم أقام قبل أن يحدث فمسحه مسح مقيم.
6-إذا لبس في الحضر فأحدث ثم سافر قبل أن يمسح فمسحه مسح مسافر.
7- إذا لبس في السفر فأحدث ثم أقام قبل أن يمسح فمسحه مسح مقيم.
8- إذا لبس في الحضر فأحدث ومسح ثم سافر قبل أن تنتهي مدة المسح أتم مسح مسافر على القول الصحيح، وهو مذهب أبي حنيفة. والرواية التي رجع إليها أحمد عن قوله يتم مسح مقيم قال في الفائق: وهو النص المتأخر - يعني عن أحمد - وهو المختار اهـ.
وإن انتهت مدة المسح قبل أن يسافر وجب عليه عند الوضوء خلعهما وغسل الرجلين.
9-إذا لبس في السفر فأحدث ومسح ثم أقام أتمَّ مسح مقيم إن بقي من المدة شيء، وإلا خلع. قال في المغني: لا أعلم فيه مخالفاً.
10- إذا لبس جورباً أو خفّاً ثم لبس عليه آخر قبل أن يحدث فله مسح أيهما شاء
11- إذا لبس جورباً أو خفًّاً ثم أحدث ثم لبس عليه آخر قبل أن يتوضأ فالحكم للأول.
12- إذا لبس جورباً أو خفّاً ثم أحدث ومسحه ثم لبس عليه آخر فله(11/192)
مسح الثاني على القول الصحيح. قال في الفروع: ويتوجه الجواز وفاقاً لمالك. اهـ وقال النووي: إن هذا هو الأظهر لأنه لبس على طهارة، وقولهم إنها طهارة ناقصة غير مقبول. أهـ. وإذا قلنا بذلك كان ابتداء المدة من مسح الأول.
13- إذا لبس خفّاً على خف أو جورب ومسح الأعلى ثم خلعه، فهل يمسح بقية المدة على الأسفل؟ لم أرَ من صرح به، لكن ذكر النووي عن أبي العباس بن سريج فيهما إذا لبس الجرموق على الخف ثلاثة معان. منها: أنهما يكونان كخف واحد الأعلى ظهاره والأسفل بطانه. قلت: وبناء عليه يجوز أن يمسح على الأسفل حتى تنتهي المدة من مسحه على الأعلى، كما لو كشطت ظهارة الخف فإنه يمسح على بطانته.
14- إذا خلع الخف أو الجورب بعد مسحه لم تنتقض طهارته بذلك فيصلي ما شاء حتى يُحدث على القول الصحيح. حكاه ابن المنذر عن جماعة من التابعين واختاره وحكاه ابن حزم عن طائقة من السلف. قال النووي: وهو المختار الأقوى. واختاره أيضاً شيخ الإسلام ابن تيمية.
15- إذا تَّمت مدة المسح لم تنتقض طهارته بذلك، فيصلي ما شاء حتى يُحدث على القول الصحيح، واختاره من اختار عدم النقص في المسألة التي قبلها. قال ابن حزم: وهو القول الذي لا يجوز غيره، وقال أيضاً: لو مسح قبل انقضاء احد الأمدين - يعني أمدي المسافر والمقيم - بدقيقة، فإن له أن يصلي به ما لم يُحدث اهـ.
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعة إلى يوم الدين.(11/193)
حرر في السابع من ربيع الثاني عام أحد عشر وأربعمائة وألف والحمد لله رب العالمين.(11/194)
باب نواقض الوضوء
134) سُئل فضيلة الشيخ _ أعلى الله درجته في المهديين: - عن نواقض الوضوء؟
فأجاب بقوله: نواقض الوضوء ممّا حصل فيه خلاف بين أهل العلم، لكن نذكر ما يكون ناقضاً بمقتضى الدليل:
الأول: الخارج من السبيلين، أي الخارج من القُبُل أو من الدُّبُر، فكل ما خرج من القُبل أو الدبر فإنه ناقض الوضوء، سواءً كان بولاً أم غائطاً، أم مذياً، أم منياً، أم ريحاً، فكل شيء يخرج من القبل أو الدبر فإنه ناقض للوضوء ولا تسأل عنه، لكن إذا كان منيّاً وخرج بشهوة، فمن المعلوم أن يوجب الغسل، وإذا كان مذياً فإنه يوجب غسل الذكر والأنثيين مع الوضوء أيضاً.
الثاني: النوم إذا كان كثيراً بحيث لا يشعر النائم لو أحدث، فأما إذا كان النوم يسيراً يشعر النائم بنفسه لو أحدث فإنه لا ينقض الوضوء، ولا فرق في ذلك أن يكون نائماً مضطجعاً أو قاعداً معتمداً أو قاعداً غير معتمد، فالمهم حالة حضور القلب، فإذا كان بحيث لو أحْدث لأحسَّ بنفسه فإن وضوءه لا ينتقض، وإن كان في حال لو أحْدث لم يحسّ بنفسه، فإنه يجب عليه الوضوء، وذلك لأن النوم نفسه ليس بناقض وإنما مظنة الحدث، فإذا كان الحدثُ مُنتقياً لكون الإنسان يشعر به لو حصل منه، فإن لا ينتقض الوضوء. والدليل على أن ألنوم نفسه ليس بناقض أن يسيره لا ينقض الوضوء، ولو كان ناقضاً لنقض يسيرهُ وكثيرهُ كما ينقض البولُ يسيرهُ وكثيره.(11/195)
الثالث: أكل لحكم الجزور، فإذا أكل الإنسان من لحم الجزور، الناقة أو الجمل، فإنه ينتقض وضوؤه سواءً كان نيِّا أو مطبوخاً، لأنه ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث جابر بن سمرة، أنه سُئل النبي صلى الله عليه وسلم أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: " إنْ شئت ". فقال: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: " نعم ". فكونه صلى الله عليه وسلم يجعل الوضوء من لحم الغنم راجعاً إلى مشيئة الإنسان، وأنه لابدَّ منه، وعلى هذا فيجب الوضوء من لحم الإبل إذا أكله الإنسان نيئاً أو مطبوخاً، ولا فرق بين اللحم الأحمر واللحم غير الأحمر، فينقض الوضوء أكلُ الكرش والأمعاء والكبد والقلب والشحم وغير ذلك، وجميع أجزاء البعير ناقضٌ للوضوء، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يُفصِّل وهو يعلم أن الناس يأكلون من هذا ومن هذا، ولو كان الحكم يختلف لكان النبي صلى الله عليه وسلم يبيِّنه للناس حتى يكونوا على بصيرة من أمرهم، ثم إننا لا نعلم في الشريعة الإسلامية حيواناً يختلف حُكمه بالنسبة لأجزائه، فالحيوان إمّا حلال أو حرام، وإما موجب للوضوء أو غير موجب، وأما أن يكون بعضه له حكم وبعضه له حكم فهذا لا يُعرف في الشريعة الإسلامية، وإن كان معروفاً في شريعة اليهود كما قال الله تعالى: {وعلى الذين هادوا حرَّمنا كلَّ ذي ظفر من البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم) (1) . ولهذا أجمع العلماء على أن شحم الخنزير مُحَّرم مع أن الله تعالى لم يذكر في القرآن إلا اللحم، فقال تعالى: (حُرِّمت عليكم الميتة واتلدم ولحم الخنزير وما أهلَّ لغير الله به) (2) . ولا أعلم خلافاً بين أهل
__________
(1) سورة الأنعام، الآية: 146.
(2) سورة المائدة، الآية: 3.(11/196)
العلم في أن شحم الخنزير محرَّم. وعلى هذا فنقول: اللحم المذكور في الحديث بالنسبة للإبل يدخل فيه الشحم والأمعاء والكرش وغيرها.
135) وسُئل - حفظه الله تعالى: - عن الواجب على من به سلس بول في الضوء؟
فأجاب بقوله: الواجب على من به سلس بول أن لا يتوضأ للصلاة إلا بعد دخول وقتها. فإذا غسل فرجَه تلجَّم بشيء حتى لا تتعدى النجاسة إلى ملابسه وبدنه، ثم يتوضأ ويصلي، وله أن يصلي الفروض والنوافل. وإذا أراد نافلة في غير وقت صلاة فإنه يفعل ما ذكرنا من التحفّظ والوضوء ويصلي.
136) وسُئل: عن رجل به غازات كيف يتصرف؟
فأجاب قائلاً: إن كان لا يتمكن من حبس تلك الغازات، بمعنى أنها تخرج بغير اختياره، فإذا كانت مستمرة معه فإن حُكمها حكم من به سلس البول، يتوضأ للصلاة عند دخول وقتها ويصلي، وإذا خرج منه شيء أثناء الصلاة فإن صلاته لا تبطل بذلك، لقوله تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم) (1) . وقوله: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) (2) .
137) وسُئل: هل خروج الهواء من فرج المرأة ينقض الوضوء؟
فأجاب بقوله: هذا لا ينقض الوضوء لأنه لا يخرج من محل نجس كالريح التي تخرج من الدبر.
__________
(1) سورة التعابن، الآية: 16
(2) سورة البقرة، الآية: 286.(11/197)
138) وسُئل فضيلة الشيخ: هل ما يخرج من غير السبيلين ينقض الوضوء؟
فأجاب بقوله: الخارج من غير السبيلين لا ينقض الوضوء قلَّ أو كَثُر إلا البول والغائط، وذلك أن الأصل عدم النقض، فمن ادَّعى خلاف الأصل فعليه الدليل، وقد ثبتت طهارة الإنسان بمقتضى دليل شرعي، وما ثبت بمقتضى دليل شرعي فإنه لا يمكن رفعه إلا بدليل شرعي، ونحن لا نخرج عما دلَّ عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لأننا متعبدون بشرع الله لا بأهوائنا، فلا يسوغ لنا أن نلزم عباد الله بطهارة لم تجب لا أن نرفع عنهم طهارة واجبة.
فإنْ قال قائل: قد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قاء فتوضأ.
قلنا: هذا الحديث قد ضعَّفه أكثر أهل العلم، ثم نقول: إن هذا مجرد فعل، ومجرد الفعل لا يدل على الوجوب، لأنه خالٍ من الأمر، ثم أنه معارضٌ بحديث - وإن كان ضعيفاً: - أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وصلى ولم يتوضأ. وهذا يدل على أن وضوءه من القيء ليس للوجوب.
وهذا هو القول الراجح، أن الخارج من بقية البدن لا ينقض الوضوء وأن كَثُر، سواءًَ كان قيئاً أو لعاباً أو دماً أو ماء جروح أو أي شيء آخر، إلا أن يكون بولاً أو غائطا مثل أن يفتح لخروجهما مكان من البدن فإن الوضوء ينقتض بخروجهما منه.
139) وسُئل فضيلة الشيخ - حفظه الله: هل الدم نجس أم طاهر؟
فأجاب بقوله: هذه المسألة فيها تفصيل:
أولاً: الدم الخارج من حيوان نجسٍ، نجسٌ قليله وكثيره ُ، ومثالُه: الدم(11/198)
الخارج من الخنزير أو الكلب فهذا نجس قليله وكثيره بدون تفصيل سواء خرج منه حياً أم ميتاً.
ثانياً: الدم الخارج من حيوان طاهر في الحياة، نجس بعد الموت فهذا إذا كان في حال الحياه فهو نجس، لكن يُعفى عن يسيره. مثال ذلك: الغنم والإبل فهي طاهرة في الحياة نجسة بعد الموت، والدليل على نجاستها بعد الموت، قوله تعالى: (قل لا أجد فيما أوحي إلى محرما ً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتةً أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس) (1) .
ثالثاً: الدم الخارج من حيوان طاهر في الحياة وبعد الموت وهذا طاهر، إلا أنه يستثنى منه عند عامة العلماء دم الآدمي، فإن دم الآدمي دمُ خارج من طاهر في الحياة وبعد الموت، ومع ذلك فإنه عند جمهور العلماء نجس لكنه يُعفى عن يسيره.
رابعاً: الدم الخارج من السبيلين: القُبُل أو الدبر، فهذا نجس ولا يُفي عن يسيره، لأن النبي صلى الله عليه وسلم، لمّا سألته النساء عن دم الحيض يصيب الثوب أمر بغسله بدون تفصيل.
وليعلم أنَّ الدم الخارج من الإنسان من غير السبيلين لا ينقض الوضوء، لاقليله ُ ولا كثيرهُ كدم الرُّعاف، ودم الجرح، بل نقول: كل خارج من غير السبيلين من بدن الإنسان، فإنه لا ينقض الوضوء مثل الدم وماء الجروح وغيرها.
__________
(1) سورة الأنعام، الآية: 145,.(11/199)
140) وسئل الشيخ: عن الدم الخارج من الإنسان هل هو نجس؟ وهل هو ناقض للوضوء؟
فأجاب فضيلته بقوله: الدم الخارج من الإنسان إن كان من السبيلين القبل أوالدبر، فهو نجس وناقض للوضوء قلَّ أم كَثُر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم، أمر النساء بغسل دم الحيض مطلقاً، وهذا دليل على نجاسته، وأنه لا يُعفي عن يسيره، وهو كذلك فهو نجس لا يُعفي عن يسيره وناقض للوضوء قليله وكثيره.
واما الدم الخارج من بقية البدن: من الأنف أو من السِّن أو من جرح أو مأ أشبه ذلك، فإنه لا ينقض الوضوء قل أو كثر، هذا هو القول الراجح أنه لا ينقض الوضوء شيء خارج من غير السبيلين من البدن سواء من الأنف أو من السن أو من غيره وسواء كان قليلاً أو كثيراً، لأنه لا دليل على انتقاض الوضوء به، والأصل بقاء الطهارة حتى يقوم دليل على انتقاضها.
وأما نجاسته فالمشهور عند أهل العلم أنه نجس وأنه يجب غسله إلا أنه يُعفي عن يسيره لمشقة التحرُّز منه والله أعلم.
141) وسُئل فضيلة الشيخ: هل ينتقض الوضوء بالإغماء؟
فأجاب بقوله: نعم ينتقض الوضوء بالإغماء، لأن الإغماء أشدُّ من النوم، والنوم يَنقض الوضوء إذا كان مستغرقاً، بحيث لا يدري النائم لو خرج منه شيء، أمّا النوم اليسير الذي لو أحدث النائم لأحسُّ بنفسه، فإن هذا النوم لا ينقض الوضوء، سواء من مُضطجع أو قاعد متكئ أو قاعد غير متكئ، أو أي حال من الأحوال، ما دام لو أحدث أحسَّ(11/200)
بنفسه، فإنه نومه لا ينقض الوضوء، فالإغماء أشد من النوم فإذا أُغمي على الإنسان، فإنه يجب عليه الوضوء.
142) وسُئل: هل استعمال المرأة كريم الشعر وأحمر الشفاه ينقض الوضوء؟
فأجاب بقوله: تدهن المرأة بالكريم أو بغيره من الدهون لا يبطل الوضوء بل ولا يبطل الصيام أيضا، وكذلك دهنه بالشفه لا يبطل الوضوء ولا يبطل الصيام، ولكن في الصيام إذا كان لهذه التحريمات طعم فإنها لا تستعمل على الوجه ينزل طعمها إلى جوفها.
143) وسُئل ـ حفظه الله ـ: هل مس المرأة ينقض الوضوء؟
فأجاب فضيلته بقوله: الصحيح أن مس المرأة لا ينقض الوضوء مطلقا، إلا إذا خرج منه شيء، ودليل هذا ما صح عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قبل بعض نسائه وخرج إلى الصلاة ولم يتوضأ. ولأن الأصل عدم النقض حتى يقوم دليل صريح صحيح على النقض، ولأن الرجل أتم طهارته بمقتضى دليل شرعي، وما ثبت بمقتضى دليل شرعي فإنه لا يمكن رفعه إلا بدليل شرعي.
فإن قيل: قد قال الله عز وجل في كتابه: (أو لامستم النساء) .
فالجواب: أن المراد بالملاسة في الآية الجماع، كما صح ذلك عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ ثم إن هناك دليلا من تقسيم الآية الكريمة إلى أصلية، وبدلية، وتقسيم للطهارة إلى كبرى، وصغرى. وتقسيم لأسباب الطهارة الكبرى، والصغرى. قال الله تعالى: (أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُم(11/201)
وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) (1) . فهذه طهارة بالماء أصلية صغرى. ثم قال: (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا) . فقوله: (فتيمموا) هذا البدل. وقوله (أو جاء أحد منكم من الغائط) . هذا بيان سبب الصغرى. وقوله: (أو لامستم النساء) . هذا بيان سبب الكبرى. ولو حملناه على المس الذي هو الجس باليد، لكانت الآية الكريمة ذكر الله فيها سببين للطهارة الصغرى، وسكت عن سبب الطهارة الكبرى، مع أنه قال: (وإن كنتم جنبا فاطهروا) . وهذا خلاف البلاغة القرآنية، وعليه فتكون الآية دالة على أن المراد بقوله: (أو لامستم النساء) أي جامعتم النساء، لتكون الآية مشتملة على السببين الموجبين للطهارة، السبب الأكبر والسبب الأصغر، والطهارتين الصغرى في الأعضاء الأربعة، والكبرى في جميع البدن، والبدل الذي هو طهارة التيمم في عضوين فقط لأنه يتساوى فيها الصغرى والكبرى.
وعلى هذا فالقول الراجح أن مس المرأة لا ينقض الوضوء مطلقا، سواء بشهوة أو بغير شهوة إلا أن يخرج منه شيء، فإن خرج منه شيء وجب عليه الغسل إن كان الخارج منيا، ووجب عليه غسل الذكر والأنثيين مع الوضوء إن كان مذيا.
__________
(1) سورة المائدة، الآية: 6.(11/202)
144) وسُئل فضيلة الشيخ: عما إذا مس الإنسان ذكره أثناء الغسل هل ينتقض وضوئه؟
فأجاب قائلا: المشهور من المذهب أن مس الذكر ناقض للوضوء، وعلى هذا فإذا مس ذكره أثناء غسله لزمه الوضوء بعد ذلك، سواء تعمد مس ذكره أم لا.
والقول الثاني: أن مس الذكر ليس بناقض للوضوء، وإنما يستحب الوضوء منه استحبابا وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وهو أقرب إلى الصواب، لاسيما إذا كان عن غير عمد لكن الوضوء أحوط.
145) وسُئل: هل لمس ذكر المريض وخصيتيه ناقض للوضوء؟
فأجاب بقوله: لمس ذكر المريض وخصيتيه لا ينقض الوضوء سواء من وراء حائل أو مباشرة على القول الراجح.
146) وسُئل: عن المرأة إذا وضأت طفلها وهي طاهرة هل يجب عليها أن تتوضأ؟
فأجاب فضيلته قائلا: إذا وضأت المرأة طفلها أو طفلتها ومست الفرج فإنه لا يجب عليها الوضوء وإنما تغسل يديها فقط، لأن مس الفرج لغير شهوة لا يجب الوضوء، ومعلوم أن المرأة التي تغسل أولادها لا يخطر ببالها الشهوة فهي إذا وضأت الطفل أو الطفلة فإنما تغسل يديها فقط من النجاسة التي أصابتها ولا يجب عليها أن تتوضأ.
147) وسُئل فضيلة الشيخ: هل تغسيل الميت ينقض الوضوء؟
فأجاب ـ حفظه الله تعالى ـ بقوله: تغسل الميت لا ينقض(11/203)
الوضوء، وذلك أن النقض يحتاج إلى دليل شرعي يرتفع به الوضوء الثابت بدليل شرعي، ولا دليل على أن تغسيل الميت ينقض الوضوء. ولهذا يجب علينا أن نتحرى في مسألة نقض الوضوء، فلا نتجرأ على القول بأن هذا ناقض إلا إذا وجدنا دليلا بينا يكون لنا حجة عند الله سبحانه وتعالى.
148) وسُئل: عن شخص أكل لحم إبل عند شخص آخر، وذهب للصلاة، ولم يتوضأ، فهل يلزمه إعلامه أم لا؟
فأجاب فضيلته قائلا: نعم يلزم إعلامه، لأن هذا من باب التعاون على البر والتقوى وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه حين ذكروه بما نسي من صلاته قال لهم: (إذا نسيت فذكروني) . وهذا يدل على أن الإنسان إذا رأى شخصا تاركا لواجب أو واقعا في محرم عليه أن ينبهه فلا يقل: هذا الرجل معذور سأدعه وعذره، بل نقول هو معذور لكن أنت بعلمك لست بمعذور، والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا.
ويتفرع عن هذه القاعدة وهي وجوب إعلام الغافل بما نسي من واجب أو فعل من محرم يتفرع منها ما لو رأيت صائما في رمضان يشرب ناسيا فالواجب تذكيره.
ومن ثم فإنه يلزمك إعلامه وعلى الرجل أن يعيد صلاته.
149) وسُئل فضيلة الشيخ: هل موجبات الغسل ناقضة للوضوء؟
فأجاب ـ أجزل الله له المثوبة ـ بقوله: المشهور عند فقهائنا ـ رحمهم الله ـ أن كل ما أوجب غسلا أوجب وضوء إلا الموت؛ وبناء على(11/204)
ذلك فإنه لابد لمن اغتسل من موجبات الغسل أن ينوي الوضوء، فأما أن يتوضأ مع الغسل، وإما أن ينوي بغسله الطهارة من الحدثين.
وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ إلى أن نية الاغتسال عن الحدث الأكبر تغني عن نية الوضوء، لأن الله عز وجل قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) (1) إلخ. فلم يذكر الله في حال الجنابة إلا الاطهار، يعني التطهير، ولم يذكر الوضوء، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل حين أعطاه الماء ليغتسل، قال: (خذ هذا فأفرغه على نفسك) . ولم يذكر له الوضوء، أخرجه البخاري من حديث عمران بن حصين في حديث طويل. وما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية أقرب إلى الصواب، وهو أن من عليه حدث أكبر إذا نوى الحدث الأكبر فإنه يجزئ عن الأصغر. وبناء على هذا فإن موجبات الغسل منفردة عن نواقص الوضوء.
150) وسُئل فضيلته: هل أخذ شيء من الشعر أو الجلد أو الأظافر ينقض الوضوء؟
فأجاب قائلا: أخذ الإنسان من شعره أو ظفره أو جلده لا ينقض الوضوء.
وبهذا المناسبة أحب أن أبين أن الشعور ينقسم أخذها إلى أقسام:
القسم الأول: الشعور التي أمر الشارع بإزالتها مثل: شعر العانة والإبطين والشارب أمر بقصه.
القسم الثاني: الشعور التي نهى الشارع عن إزالتها: شعر اللحية قال
__________
(1) سورة المائدة، الآية:6.(11/205)
النبي صلى الله عليه وسلم: (وفروا اللحى..) . وكذلك النمص وهو نتف الحواجب.
القسم الثالث: الشعور التي سكت عنها الشارع، كالرأس والساق والذراع وبقية شعور الجسم. فيما سكت عنه الشارع، فقد قال بعض العلماء: إنه منهي عن أخذه تغيرا لخلق الله من أوامر الشيطان، لقوله تعالى: (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ) (1) .وقال بعض العلماء: إن أخذه مباح؛ لأنه مسكوت عنه، لأن الشرع أمر، ونهى، وسكت علم أن هذا ليس مما أمر به ولا مما نهى عنه؛ لأنه لو كان منهيا عنه لنهى عنه، ولو كان مأمورا به لأمر به وهذا الأقرب من حيث الاستدلال: أن إزالة الشعور غير التي نهى عنها جائزة.
والشعور التي أمر الشارع بإزالتها، مدتها أربعون يوما، قال أنس بن مالك رضي الله عنه: (وقت لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الشارب والظفر والعانة والإبط ألا تترك فوق أربعين يوما) .
لكن بعض الناس يأبى إلا أن تكون أظفاره طويلة، وبعض الناس يأبى إلا أن يكون ظفر الخنصر طويلا مع أن فيه مخالفة للشريعة، ويلحقه كذلك بالسباع، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه فكل إلا السن والظفر، فإن السن عظم، والظفر مدي الحبشة) . ومعنى الظفر مدي الحبشة: أي أن الحبشة يبقون أظفارهم حتى تكون كالحراب، فإذا مسك الأرنب مثلا بطها بهذا الظفر، وصارت مدية له. ولذلك فأنا أعجب من قوم يدعون الحضارة، ويدعون
__________
(1) سورة النساء، الآية: 119.(11/206)
أنهم أهل النظافة، ثم يذهبون يبقون أظفارهم حتى تبقى طويلة، أو يبقون شعورهم في الإبط، أو في العانة حتى تبقى طويلة، مع أنهم يدعون أنهم أهل الحضارة والتقدم والنظافة وما أشبه ذلك.
151) وسُئل فضيلة الشيخ ـ حفظه الله تعالى ـ عمن تيقن الطهارة وشك في الحدث، وشك في الطهارة، فماذا يعمل؟
فأجاب قائلا: من تيقن الطهارة وشك في الحدث فهو باق على طهارته، ومن تيقن الحدث وشك في الطهارة فهو باق على حدثه، لأن القاعدة أن اليقين لا يزول بالشك، وأن الأصل بقاء ما كان على ما كان، وهذه قاعدة مهمة، ولها فروع كثيرة جدا، وهي مبنية على حديث أبي هريرة، وعبد الله بن زيد ـ رضي الله عنهما ـ في الرجل يجد الشيء في بطنه، ويشكل عليه هل خرج منه شيء أم لا؟ قال النبي، صلى الله عليه وسلم: (لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا) . وفي حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ (لا يخرج (يعنى من المسجد) حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا) . وهذا الحديث تنحل به إشكالات كثيرة، وهذا من يسر الإسلام، ومن كونه يريد من أمة الإسلام أن تكون في قلق وحيرة، وأن تكون أمورهم واضحة جلية، لأن الإنسان لو استسلم لمثل هذه الشكوك، لتنغصت عليه حياته، فالشارع ـ ولله الحمد ـ قطع هذه الوساوس، فما دمت لم تتيقن فهذه الوساوس لا محل لها. ويجب أن تدفنها، ولا تجعل لها أثرا في نفسك، فحينئذ تستريح وتنحل عنك إشكالات كثيرة.(11/207)
152) وسُئل فضيلة الشيخ: متى يكون الشك مؤثرا في الطهارة؟
فأجاب ـ حفظه الله تعالى ـ بقوله: الشك في الطهارة نوعان:
أحدهما: شك في وجودها بعد تحقق الحدث.
والثاني: شك في زوالها بعد تحقق الطهارة.
أما الأول وهو الشك في وجودها بعد تحقق الحدث كأن يشك الإنسان هل توضأ بعد حدثه أم لم يتوضأ؟ ففي هذه الحال يبني على الأصل، وهو أنه لم يتوضأ، ويجب عليه الوضوء، مثال ذلك: رجل شك عند أذان الظهر هل توضأ، بعد نقضه وضوئه في الضحى أم لم يتوضأ؟
فنقول له: ابن على الأصل، وهو أنك لم تتوضأ، ويجب عليك أن تتوضأ.
أما النوع الثاني، وهو الشك في زوال الطهارة بعد وجودها، فإننا نقول: أيضا ابن على الأصل ولا تعتبر نفسك محدثا. مثاله: رجل توضأ في الساعة العاشرة، فلما حان وقت الظهر شك هل انتفض وضوؤه أم لا؟ فنقول له: إنك على وضوئك، ولا يلزمك الوضوء حينئذ؛ وذلك لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان عليه. ويشهد لهذا الأصل قول النبي صلى الله عليه وسلم: فيمن وجد في بطنه شيئا فأشكل عليه، أخرج منه شيء أم لا؟ قال: (لا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا) .
وأما الشك في فعل أجزاء الطهارة، مثل أن يشك الإنسان هل غسل وجهه في وضوئه أم لا؟ وهل غسل يديه أم لا؟ وما أشبه ذلك فهذا لا يخلو من أحوال:
الحال الأولى: أن يكون مجرد وهم طارئ على قلبه، هل غسل يديه أم(11/208)
لم يغسلهما وهما ليس له مرجح، ولا تساوى عنده الأمران بل هو مجرد شيء خطر في قلبه، فهذا لا يهتم به ولا يلتفت إليه.
الحال الثانية: أن يكون كثير الشكوك كلما توضأ مثلا فإذا غسل قدميه شك هل مسح رأسه أم لا؟ هل مسح أذنيه أم لا؟ هل غسل يديه أم لا؟ فهو كثير الشكوك، فهذا لا يلتفت إلى الشك ولا يهتم به.
الحال الثالثة: أن يقع الشك بعد فراغه من الوضوء، فإذا فرغ من الوضوء شك هل غسل يديه أم لا؟ أو هل مسح رأسه، أو هل مسح أذنيه؟ فهذا أيضا لا يلتفت إليه، إلا إذا تيقن أنه لم يغسل ذلك العضو المشكوك فيه فيبني على يقينه.
الحال الرابعة: أن يكون شكا حقيقيا وليس كثير الشكوك، وحصل قبل أن يفرغ من العبادة، ففي هذه الحال إن ترجح عنده أنه غسله اكتفى بذلك. وإن لم يترجح عنده أنه غسله وجب عليه أن يبني على اليقين، وهو العدم، أي أنه لم يغسل ذلك العضو الذي شك فيه فيرجع إليه ويغسله، وما بعده، وإنما أوجبنا عليه أن يغسل ما بعده مع أنه قد غسل، من أجل الترتيب، لأن الترتيب بين أعضاء الوضوء واجب كما ذكر الله تعالى، وقال النبي صلى الله عليه وسلم حين أقبل على الصفا: (أبدأ بما بدأ الله به) . هذه هو حال الشك في الطهارة.
153) سُئل فضيلة الشيخ: عن شخص كثير الشكوك في الطهارة والصلاة والمطعومات؟
فأجاب قائلا: الشكوك التي ترد على العقول في العبادات والمعتقدات وغيرها وحتى في ذات الله تعالى كلها من الشيطان، ولذا لما شكا الصحابة رضي الله عنهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما يجدون في نفوسهم مما يتعاظمون به أخبرهم صلى الله عليه وسلم: (أن ذلك من صريح الإيمان) .(11/209)
أي خالصة، وذلك لأن الشيطان إنما يورد مثل هذه الشبهات على قلب ليس عنده شبهه حتى يطيعه في الشبهة وأما من كان قلبه مملوءا بالشبهات أو منسلخا من الديانات فإن الشيطان لا يعرض عليه مثل هذه الأمور لأنه قد فرغ منه.
ونقول لهذا المسئول عنه: إن الواجب عليه أن يستعيذ بالله من الشيطان، ولا يلتفت إلى الوساوس التي ترد على ذهنه لا في الوضوء ولا في الصلاة ولا في غيرها، وهذا الشك دليل على خلوص الإيمان ولكنه في نفس الوقت إذا استرسل معه كان دليلا على ضعف العزيمة.
ونقول له: لا وجه لهذا الشك فأنت مثلا حين تذهب إلى السوق لبيع أو شراء هل تشك فيما أتيت به من السوق، والجواب: لا، ذلك لأن الشيطان لا يوسوس للإنسان في مثل هذه الأمور، لكنه يوسوس له في العبادات ليفسدها عليه، فإذا كثرت الشكوك فلا يلتفت إليها.
وكذلك إذا كان الشك بعد الفراغ من العبادة فلا تلتفت إليه إلا أن تتيقن الخلل، والشك بعد الفعل لا يؤثر.
أما شكك في المطعومات التي أصلها الحل فلا عبرة به، فقد أهدت امرأة يهودية في خيبر شاة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأكل منها، ودعاه يهودي وقدم له خبز شعير فأكل من ذلك.
وفي صحيح البخاري: أن قوما كانوا حديثي عهد بالإسلام أهدوا لجماعة من المسلمين لحما. فقالوا يا رسول الله، إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا؟ فقال لهم، صلى الله عليه وسلم: (سموا أنتم وكلوا) . فالأصل في ذبيحة من تحل ذبيحته الحل حتى يقوم دليل على التحريم. ومنع الله تضييق لا وجه له.(11/210)
154) وسُئل فضيلة الشيخ: عن إمام يصلي بالناس صلاة الجمعة وفي التشهد شك هل توضأ أم لا، فما الحكم؟
فأجاب ـ حفظه الله تعالى ـ بقوله: قبل الإجابة على هذا السؤال، أحب أن أبين قاعدة نافعة في باب الحدث وغيره، وهي أن الأصل بقاء ما كان على ما كان، وهذا الأصل مبني على ما ثبت عن النبي، صلى الله عليه وسلم، في الرجل يخيل إليه أنه أحدث، فقال: (لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا) . ومن أمثلة هذا الأصل إذا كان الإنسان قد توضأ، فشك هل أحدث أم لا؟ فإنه يبقى على وضوئه وطهارته، لأن الأصل بقاء الطهارة وعدم الحدث ومنه ـ أي من هذا الأصل ـ إذا أحدث الإنسان ثم شك هل رفع حدثه أم لم يرفعه؟ فإن الأصل بقاء الحدث وعدم رفعه، فعليه أن يتوضأ إن كان الحدث أصغر، وأن يغتسل إن كان الحدث أكبر، وبناء على ذلك فإننا نقول في مثل هذه الحال التي ذكرها السائل: لو شك الإمام في أثناء الصلاة في التشهد الأخير، أو فيما قبله، هل تطهر من حدثه أم لا؟ فإن الأصل عدم الطهارة، وحينئذ يجب عليه أن ينصرف من صلاته، وأن يعهد إلى أحد المأمومين بإتمام صلاة الجماعة، فيقول مثلا: تقدم يا فلان أكمل الصلاة بهم، ويبنون على ما مضى من صلاتهم، هذا هو القول الراجح في هذه المسألة، وبه يتبين أن صلاة المأمومين ليس فيها خلل، سواء ذكر الإمام في أثناء الصلاة أو بعد تمام صلاته أنه ليس على طهارة، فإن ذكر بعد تمام صلاته فقد انتهت صلاة المأمومين على أنها صحيحة وليس فيها إشكال، وإن ذكر في أثناء صلاته فإن المأمومين لم يفعلوا شيئا يوجب بطلان صلاتهم لأنهم فعلوا ما أمروا به من متابعة هذا الإمام، والأمر الخفي الذي لا يعلمون به ليسوا(11/211)
مؤاخذين به، لقوله تعالى: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) (1) . وكوننا نلومهم بأمر خفي يتعلق بالإمام، هذا من الأمور التي لا تدخل تحت الوسع، وعلى هذا فنقول: إذا تبين للإمام في أثناء صلاته أنه ليس على وضوء أو أحدث في أثناء الصلاة فإنه يعهد إلى واحد من المأمومين أن يتقدم فيكمل بهم الصلاة ولا حرج في ذلك، وعلى هذا فنقول لهذا السائل: إذا حصل منك مثل هذا في صلاة الجمعة فإنك تعهد إلى أحد المأمومين يتقدم يكمل بهم صلاة الجمعة، وأما أنت فتذهب تتطهر ثم ترجع فإن أدركت ركعة من الصلاة مع الجماعة في الجمعة، فأت بعدها بركعة واحدة تكون جمعة، وإن أدركت أقل من ركعة بأن جئت بعد أن رفع الإمام رأسه من الركوع في الركعة الثانية، فقد فاتتك الجمعة فتصليها ظهرا.
155) وسُئل فضيلة الشيخ: عن حكم قراءة القرآن لمن كان حدث أصغر؟
فأجاب ـ حفظه الله ـ بقوله: قراءة القرآن لمن عليه حدث أصغر لا بأس بها إذا لم يمس المصحف، لأنه ليس من شرط جواز القراءة أن يكون الإنسان على طهارة، وأما إذا كان عليه جنابة، فإنه لا يقرأ القرآن مطلقا حتى يغتسل، ولكن لا بأس أن يقرأ من القرآن، مثل أن يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، أو يصاب بمصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، او نحو ذلك من الأذكار المأخوذة من القرآن.
__________
(1) سورة البقرة، الآية:286.(11/212)
156) وسُئل فضيلته: عن مدرس يدرس للتلاميذ القرآن الكريم، ولا يوجد ماء في المدرسة أو بالقرب منها والقرآن لا يلمسه إلا المطهرون، فماذا يفعل؟
فأجاب بقوله: إذا لم يكن في المدرسة ماء ولا بقربها فإنه ينبه على الطلبة ألا يأتوا إلا وهم متطهرون وذلك لأن المصحف لا يلمسه إلا طاهر ففي حديث عمرو بن حزم الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم له: (ألا يمس القرآن إلا طاهر) . فالطاهر هنا من ارتفع حدثه بدليل قوله تعالى في آية الوضوء والغسل والتيمم: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (1) ففي قوله (ليطهركم) دليل على أن الإنسان قبل أن يتطهر لم تحصل له الطهارة وعلى هذا فلا يجوز لأحد أن يلمس القرآن إلا وهو طاهر متوضئ، إلا أن بعض أهل العلم رخص للصغار أن يمسوا القرآن لحاجتهم لذلك وعدم إدراكهم للوضوء ولكن الأولى أن يؤمر الطلاب بذلك أي بالوضوء حتى يمسوا المصحف وهم على طهارة.
وأما قول السائل لأن القرآن لا يلمسه إلا المطهرون، فكأني به يريد أن يستدل بهذه الآية على وجب التطهر لمس المصحف، والآية ليس فيها دليل لهذا لأن المراد بقوله: (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) (2) الكتاب المكنون، وهو اللوح المحفوظ والمراد بالمطهرون الملائكة، ولو كان يراد بها المتطهرون لقال لا يمسه إلا المتطهرون ولم يقل إنه لا يجوز مس المصحف إلا بطهارة لكن الحديث الذي أشرنا إليه آنفا هو الذي يدل على ذلك.
__________
(1) سورة المائدة، الآية: 6.
(2) سورة الواقعة، الآية: 79.(11/213)
157) وسُئل الشيخ: هل يحرم على من دون البلوغ مس المصحف بدون طهارة؟
فأجاب بقوله: هذا محل خلاف، فقال بعض أهل العلم: لا يحرم على من دون البلوغ مس المصحف، لأنه غير مكلف والقلم مرفوع عنه.
ومن العلماء من قال: لا يجوز حتى للصغير أن يمس المصحف بدون وضوء، وعلى وليه أن يلزمه بالوضوء كما يلزمه بالوضوء للصلاة، لأن هذا فعل يشترط لحله الطهارة.
158) وسُئل: عن حكم تمكين الصغار من مس المصحف والقراءة منه.
فأجاب قائلا: لا بأس من تمكين الصغار من مس المصحف والقراءة منه إذا كانوا على طهارة ولم يحصل منهم إهانة للمصحف.
159) وسُئل فضيلته: هل تجوز كتابة بعض الآيات على السبورة بدون وضوء؟ وما حكم مس السبورة التي كتبت فيها تلك الآيات؟
فأجاب ـ حفظه الله تعالى ـ قائلا: تجوز كتابة القرآن بغير وضوء ما لم يمسها.
أما مس السبورة التي كتبت فيها تلك الآيات فإن فقهاء الحنابلة قالوا: يجوز للصبي مس اللوح الذي كتبت فيه آيات في الموضع الخالي من الكتاب، أي بشرط أن لا تقع يده على الحروف فهل تلحق السبورة بهذا أو لا تلحق؟ هي عندي محل توقف. والله أعلم.
160) وسُئل: هل يجوز مس كتب التفسير بغير وضوء؟
فأجاب بقوله كتب التفسير يجوز مسها بغير وضوء لأنها تعتبر(11/214)
تفسيرا، والآيات التي فيها أقل من التفسير، ويستدل لذلك بكتابة النبي صلى الله عليه وسلم، الكتب للكفار وفيها آيات من القرآن الكريم، فدل هذا على أن الحكم للأغلب والأكثر. أما إذا تساوى التفسير والآيات، فعلى القاعدة المعروفة عند أهل العلم، أنه إذا اجتمع مبيح وحاظر ولم يتميز أحدهما برجحان، فإنه يغلب جانب الحظر وعلى هذا فإذا كان القرآن والتفسير متساويين أعطي حكم القرآن، وإذا كان التفسير أكثر ولو بقليل أعطي حكم التفسير.
161) وسُئل فضيلة الشيخ: هل يجوز للمحدث أن يسجد للتلاوة أو الشكر؟
فأجاب ـ حفظه الله تعالى ـ قائلا حكم هذه المسألة ينبني على الخلاف في سجدتي التلاوة والشكر، هل هما صلاة أم لا؟
فإن قلنا هما صلاة وجبت لهما الطهارة، وإن قلنا إنهما غير صلاة لم تجب لهما الطهارة، والمتأمل للسنة يدرك أنهما ليستا صلاة، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يسجد للتلاوة، ولم ينقل عنه أنه كان يكبر إذا سجد ولا إذا رفع ولا يسلم، إلا في حديث رواه أبو داود في التكبير للسجود دون الرفع منه ودون التسليم، فمن تأمل سجود الرسول صلى الله عليه وسلم للتلاوة أو الشكر تبين له أنه لا ينطبق عليه تعريف الصلاة، وعليه فلا تكون سجدة التلاوة وسجدة الشكر من الصلاة، وحينئذ لا يحرم على من كان محدثا أن يسجد للتلاوة أو الشكر، وقد صح عن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أنه كان يسجد للتلاوة بدون وضوء.
ولكن لا ريب أنه الأفضل أن يتوضأ الإنسان، لاسيما وأن القارئ سوف يتلو القرآن، وتلاوة القرآن يشرع لها الوضوء لأنها من ذكر الله، وكل ذكر لله يشرع له الوضوء.(11/215)
أما سجود الشكر، فاشتراط الطهارة له ضعيف، لأن سجود الشكر سببه تجدد النعم أو تجدد اندفاع النقم، وهذا قد يأتي الإنسان وهو محدث، فإن قلنا: لا تسجد حتى تتوضأ فربما يطول الفصل، والحكم المعلق بسبب إذا تأخر عن سببه سقط، وحينئذ إما أن نقول: اسجد على غير وضوء، أو لا تسجد، وسجوده على غير وضوء أولى من تركه.(11/216)
باب الغسل
162) وسُئل فضيلة الشيخ جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيرا: عن موجبات الغسل؟
فأجاب بقوله: موجبات الغسل منها:
الأول: إنزال المني بشهوة يقظة أو مناما، لكنه في المنام يجب عليه الغسل، وإن لم يحس بالشهوة، لأن النائم قد يحتلم ولا يحس بنفسه، فإذا خرج منه المني بشهوة وجب عليه الغسل بكل حال.
الثاني: الجماع، فإذا جامع الرجل زوجته، وجب عليه الغسل بأن يولج الحشفة في فرجها، فإذا أولج في فرجها الحشفة أو ما زاد، فعليه الغسل، لقول النبي صلى الله عليه وسلم عن الأول: (الماء من الماء) يعني أن الغسل يجب من الإنزال، وقوله عن الثاني: (إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل) وإن لم ينزل، وهذه المسألة ـ اعني الجماع بدون إنزال ـ يخفى حكمها على كثير من الناس، حتى إن بعض الناس تمضي عليه الأسابيع والشهور وهو يجامع زوجته بدون إنزال ولا يغتسل جهلا منه، وهذا أمر له خطورته، فالواجب أن يعلم الإنسان حدود ما أنزل الله على رسوله، فإن الإنسان إذا جامع زوجته وإن لم ينزل وجب عليه الغسل وعليها، للحديث الذي ذكرناه آنفا.
الثالث: من موجبات الغسل خروج دم الحيض والنفاس، فإن المرأة إذا حاضت ثم طهرت، وجب عليها الغسل لقوله تعالى: (فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ(11/217)
أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (1) . ولأمر النبي صلى الله عليه وسلم المستحاضة إذا جلست قدر حيضها أن تغتسل، والنفساء مثلها، فيجب عليها أن تغتسل.
وصفة الغسل من الحيض والنفاس كصفة الغسل من الجنابة، إلا أن بعض أهل العلم استحب في غسل الحائض أن تغتسل بالسدر، لأن ذلك أبلغ في النظافة لها وتطهيرها.
وذكر بعض العلماء أيضا من موجبات الغسل الموت، مستدلين بقوله صلى الله عليه وسلم للنساء اللاتي يغسلن ابنته: اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو سبعا أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك) . وبقوله، صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي وقصته راحلته بعرفة وهو محرم: (اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه) . فقالوا: إن الموت موجب للغسل، لكن الوجوب هنا يتعلق بالحي لأن الميت انقطع تكليفه بموته، ولكن على الأحياء أن يغسلوا موتاهم لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، بذلك.
163) وسُئل فضيلته: هل يجب الغسل بالمداعبة أو التقبيل؟
فأجاب قائلا: لا يجب على الرجل ولا على المرأة غسل بمجرد الاستمتاع بالمداعبة أو التقبيل إلا إذا حصل إنزال المني فإنه يجب الغسل على الجميع إذا كان المني قد خرج من الجميع، فإن خرج من أحدهما فقط وجب عليه الغسل وحده، وهذا إذا كان الأمر مجرد مداعبة أو تقبيل أو ضم، أما إذا كان جماعا فإن الجماع فيه الغسل على كل حال، على الرجل وعلى المرأة حتى وإن لم يحصل إنزال، لقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 222.(11/218)
رواه أبو هريرة: (إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل) . وفي لفظ لمسلم: (وإن لم ينزل) . وهذه المسألة قد تخفى على كثير من النساء، تظن المرأة بل وربما يظن الرجل أن الجماع إذا لم يكن إنزال فلا غسل فيه، وهذا جهل عظيم، فالجماع يجب فيه الغسل على كل حال، وما عدا الجماع من الاستمتاع لا يجب فيه الغسل إلا إذا حصل الإنزال.
164) وسُئل: عن الرجل إذا داعب زوجته وأحس بنزول شيء منه، فوجد في ملابسه سائلا لزجا بدون لون فهل يجب عليه الغسل؟
فأجاب بقوله: إذا كان هذا منيا فيجب عليه الغسل، والمني المعروف يخرج دفقا بلذة، وإن كان غير مني بأن كان مذيا وهو الذي يخرج من غير إحساس ويخرج عند فتور الشهوة غالبا، إذا اشتهى الإنسان ثم فترت شهوته وجد هذا السائل فإن المذي لا يوجب الغسل وإنما يوجب غسل الذكر والأنثيين فقط مع الوضوء، وأما المني فإنه يوجب الغسل، وإذا شككت هل هو مني أو مذي فإن الأصل عدم وجوب الغسل، فأصل هذا على أنه مذي تغسل الذكر والأنثيين وما أصاب من ثوب وتتوضأ للصلاة.
165) سُئل الشيخ حفظه الله تعالى: عمن وجد منيا في ثيابه بعد أن صلى الفجر ولم يعلم به فما الحكم في ذلك؟
فأجاب قائلا: إذا لم ينم الإنسان بعد صلاة الفجر فإن صلاة الفجر غير صحيحة لوقوعها وهو جنب حيث تيقن أنه قبل الصلاة.
أما إذا كان الإنسان قد نام بعد صلاة الفجر ولا يدري هل هذه(11/219)
البقعة من النوم الذي بعد الصلاة أو من النوم الذي قبل الصلاة فالأصل أنها مما بعد الصلاة، وأن الصلاة صحيحة، وهكذا الحكم أيضا فيما لو وجد الإنسان أثر مني وشك هل هو من الليلة الماضية أو من الليلة التي قبلها، فليجعله من الليلة القريبة وأن يجعله من آخر نومه نامها، لأن ذلك هو المتيقن وما قبلها مشكوك فيه، والشك في الإحداث لا يوجب الطهارة منها لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا فأشكل عليه أخرج منه شيء أم لا فلا يخرجن من المسجد) . رواه مسلم من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ. والله الموفق.
166) وسُئل فضيلة الشيخ: شخص صلى المغرب والعشاء، ثم عاد إلى بيته، وعند خلعه لثوبه وجد في ملابسه الداخلية أثر مني، فماذا يلزمه؟
فأجاب ـ أعلى الله درجته في المهتدين ـ بقوله: إذا كان هذا الرجل الذي وجد المني على لباسه لم يغتسل، فإنه يجب عليه أن يغتسل ويعيد الصلوات التي صلاها وهو على جنابة، لكن أحيانا يرى الإنسان أثر الجنابة على لباسه ولا يدري أكان في الليلة التي قبلها، فهل يعتبره من الليلة الماضية القريبة أم من الليلة السابقة؟
الجواب: يعتبره من الليلة الماضية القريبة لأن ما قبل الليلة الماضية مشكوك فيه، والأصل الطهارة، وكذلك لو نام بعد صلاة الصبح واستيقظ ووجد في لباسه أثر الجنابة ولا يدري أهو من النوم الذي بعد صلاة الفجر أو من النوم في الليل، فهل يلزمه إعادة صلاة الفجر؟
الجواب: لا يلزمه إعادة صلاة الفجر، لأن نوم الليل مشكوك في حصول الاحتلام فيه، وهكذا اجعلها قاعدة عندك: كلما شككت هل هذه الجنابة من نومة سابقة أو لاحقة فاجعله من اللاحقة.(11/220)
167) وسُئل الشيخ: إذا استيقظ الإنسان فوجد في ملابسه بللا فهل يجب عليه الغسل؟
فأجاب بقوله: إذا استيقظ الإنسان فوجد بللا، فلا يخلو من ثلاث حالات:
الحال الأولى: أن يتيقن أنه مني، فيجب عليه حينئذ الاغتسال سواء ذكر احتلاما أم لم يذكر.
الحال الثانية: أن يتيقن أنه ليس بمني، فلا يجب عليه الغسل في هذه الحال، ولكن يجب عليه أن يغسل ما أصابه، لأن حكمه حكم البول.
الحال الثالثة: أن يجهل هل هو مني أم لا؟ ففيه تفصيل:
أولا: إن ذكر أنه احتلم في منامه، فإنه يجعله منيا ويغتسل، لحديث أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ حين سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل، هل عليها غسل؟ قال: (نعم إذا هي رأت الماء) . فدل هذا على وجوب الغسل على من احتلم ووجد الماء.
ثانيا: إذا لم ير شيئا في منامه، فإن كان قد سبق نومه تفكير في الجماع جعله مذيا.
وإن لم يسبق نومه تفكير فهذا محل خلاف:
قيل: يجب عليه الغسل احتياطا.
وقيل: لا يجب وهو الصحيح لأن الأصل براءة الذمة.
168) وسُئل: عن حكم السائل الذي يخرج بعد الغسل من الجنابة؟
فأجاب بقوله: هذا السائل الذي يخرج بعد الغسل إذا لم يكن هناك شهوة جديدة أوجبت خروجه فإنه بقية ما كان من الجنابة الأولى،(11/221)
فلا يجب الغسل منه، وإنما عليه أن يغسله ويغسل ما أصابه ويعيد الوضوء فقط.
169) وسُئل الشيخ: عن الفرق بين المني والمذي والودي؟
فأجاب بقوله: الفرق بين المني والمذي، أن المني غليظ له رائحة، ويخرج دفقا عند اشتداد الشهوة وأما المذي فهو ماء رقيق وليس له رائحة المني، ويخرج بدون دفق ولا يخرج أيضا عند اشتداد الشهوة بل عند فتورها إذا فترت تبين للإنسان.
أما الودي فإنه عصارة تخرج بعد البول نقط بيضاء في آخر البول.
هذا بالنسبة لماهية هذه الأشياء الثلاثة.
أما بالنسبة لأحكامها: فإن الودي له أحكام البول من كل وجه.
والمذي يختلف عن البول بعض الشيء في التطهر منه، لأن نجاسته أخف فيكفي فيه النضح، وهو أن يعم المحل الذي أصابه بالماء بدون عصر وبدون فرك، وكذلك يجب فيه غسل الذكر كله والأنثيين وإن لم يصبهما.
أما المني فإنه طاهر لا يلزم غسل ما أصابه إلا على سبيل إزالة الأثر فقط، وهو موجب للغسل وأما المذي والودي والبول فكلها توجب الوضوء
170) وسُئل فضيلته: هل المذي يوجب الغسل؟
فأجاب بقوله: المذي لا يوجب الغسل، وإنما يوجب غسل الذكر والأنثيين والوضوء، لكن لو خرج منه مني ولو بالنظر أو بالتفكر وجب عليه الغسل، والفرق بينهما: أن المني يخرج دفقا مع اللذة، والمذي يخرج بغير دفق، ويكون بعد برود الشهوة.(11/222)
171) وسُئل فضيلة الشيخ: إذا خرج من الإنسان ماء أبيض رقيق، قبل البول أو بعده بدون لذة، وليس بسبب نظر أو تذكر، فما الحكم؟
فأجاب قائلا: الذي يبدو أن هذا ليس ناتجا عن الشهوة أو تذكر، كما جاء في آخر السؤال، وعلى هذا فلا يعتبر مذيا ولا منيا، وإنما هي رواسب ـ فيما يبدو ـ في قنوات البول، وتتعقد على هذا الوجه، وتخرج قبل البول وربما بعده أحيانا، فعليه يكون حكمها حكم البول تماما، بمعنى أنه يجب تطهيرها وتطهير ما أصابت ويتوضأ ولا يجب أكثر من ذلك. والله الموفق.
172) سُئل الشيخ: عن الرجل يجلس بين شعبها الأربع ويمس الختان الختان من غير مجاوزة، ثم ينزل خارج الفرج فهل عليها غسل؟
فأجاب بقوله: الرجل عليه الغسل، لأنه أنزل، وأما المرأة فليس عليها غسل لأنه من شرط وجوب الغسل الإيلاج، ومن المعلوم أن موضع الختان فوق الحشفة مما يلي قصبة الذكر، فإذا كان كذلك فلا يمس موضع ختان المرأة إلا بعد أن تلج الحشفة، ولذلك اشترطنا في وجوب الغسل من الجماع أن يغيب الحشفة، وقد ورد في بعض ألفاظ حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: (إذا التقى الختانان وتوارت الحشفة فقد وجب الغسل) .
173) سُئل: هل يجب على الزوجين الغسل بعد الجماع وإن لم يحصل إنزال؟
فأجاب قائلا: نعم يجب عليهما الغسل، سواء أنزل أم لم ينزل،(11/223)
لحديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل) . متفق عليه. وفي لفظ لمسلم: (وإن لم ينزل) . وهذا صريح في وجوب الغسل، حتى مع عدم الإنزال وهذا يخفى على كثير من الناس، فالواجب التنبيه لذلك.
174) وسُئل فضيلة الشيخ: عن الأحكام المتعلقة بالجنابة؟
فأجاب ـ حفظه الله تعالى ـ بقوله: الأحكام المتعلقة بالجنابة هي:
أولا: أن الجنب تحرم عليه الصلاة، فرضها ونفلها، حتى صلاة الجنازة. لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) ـ إلى قوله ـ (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) (1) .
ثانيا: أن الجنب يحرم عليه الطواف بالبيت، لأن الطواف بالبيت مكث في المسجد، وقد قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا) (2) .
ثالثا: أنه يحرم عليه مس المصحف، لقول النبي، صلى الله عليه وسلم: (لا يمس القرآن إلا طاهر) .
رابعا: أنه يحرم عليه المكث في المسجد إلا بوضوء لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا) (2)
خامسا: يحرم عليه قراءة القرآن حتى يغتسل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان
__________
(1) سورة المائدة، الآية: 6.
(2) سورة النساء، الآية:43.(11/224)
يقرئ الصحابة القرآن ما لم يكونوا جنبا.
هذه الأحكام الخمسة التي تتعلق بمن عليه جنابة.
175) وسُئل فضيلة الشيخ: هل يحرم على الجنب والحائض لمس الكتب والمجلات التي تشتمل على آيات قرآنية؟
فأجاب بقوله: لا يحرم على الجنب ولا الحائض ولا على غير المتوضئ لمس شيء من الكتب أو المجلات التي فيها شيء من الآيات، لأن ذلك ليس بمصحف.
176) وسُئل فضيلة الشيخ: عن صفة الغسل؟
فأجاب ـ أجزل الله له المثوبة ـ بقوله: صفة الغسل على وجهين:
الوجه الأول: صفة واجبة، وهي أن يعم بدنه كله بالماء، ومن ذلك المضمضة والاستنشاق، فإذا عمم بدنه على أي وجه كان فقد ارتفع عنه الحدث الأكبر وتمت طهارته، لقول الله تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) (1) .
الوجه الثاني: صفة كاملة وهي أن يغتسل كما اغتسل النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا أراد أن يغتسل من الجنابة فإنه يغسل كفيه، ثم يغسل فرجه وما تلوث من الجنابة، ثم يتوضأ وضوءا كاملا ـ على صفة ما ذكرناه في الوضوء ـ ثم يغسل بالماء ثلاثا تروية ثم يغسل بقية بدنه. هذه صفة الغسل الكامل.(11/225)
177) سُئل الشيخ: عن المرأة إذا كانت عليها جنابة واغتسلت، هل تغسل شعرها حتى يدخل الماء إلى البشرة؟
فأجاب قائلا: الغسل من الجنابة أو غيرها من موجبات الغسل فيه إيصال الماء إلى منبت الشعر، سواء كان ذلك من الرجال أو من النساء، لقوله تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) (1) ولا يجوز لها أن تغسل ظاهر الشعر فقط، بل لابد أن يصل الماء إلى أصول الشعر إلى جلدة الرأس، ولكن إذا كان مجديا فإنه لا يجب عليها نقضه بل يجب عليها أن يصل الماء إلى كل الشعرات بأن تضع الجديلة تحت مصب الماء ثم تعصره حتى يدخل الماء إلى جميع الشعر.
178) وسُئل الشيخ ـ أعلى الله تعالى منزلته ـ: هل يلزم الإنسان إذا دخل مغتسله أن يستقبل القبلة ويتلفظ بالنية؟
فأجاب بقوله: ما ذكره السائل من أن الرجل إذا دخل مغتسله فإنه يستقبل القبلة عند الغسل ليس بصحيح؛ فإن جميع الذين نقلوا صفة غسل النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكروا أنه كان يستقبل القبلة حين اغتساله، ولو كان هذا من الأمور المشروعة لبينه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لأمته، إما بقوله، وإما بفعله، فلما لم يرد ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع وجود سببه لو كان مشروعا، علم أنه ليس بمشروع، وهذه قاعدة تنفع الإنسان في هذا المقام وغيره، وهي: (أن كل شيء وجد سببه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يشرع له قول أو فعل، فإنه لا يشرع له قول أو فعل، فإنه لا يشرع له قول ولا فعل) . ومن ذلك النية ـ نية العبادة أي التلفظ بها ـ فإن العبادات كان الرسول عليه الصلاة والسلام، يفعلها ولا يتلفظ بالنية لها، ولو كان هذا مشروعا
__________
(1) سورة المائدة،الآية: 6.(11/226)
لفعله ولو فعله لنقل إلينا، وكذلك استقبال القبلة حين الغسل؛ نقول هذا وجد سببه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهو الغسل، ولم ينقل عنه أنه كان يتجه إلى القبلة حين اغتساله، ولو كان مشروعا لفعله ولو فعله لنقل إلينا.
179) وسُئل الشيخ ـ حفظه الله تعالى ـ: إذا توضأ الإنسان بعد الغسل من الجنابة وهو عار فهل وضوؤه صحيح؟
فأجاب فضيلته بقوله: الأفضل أن الإنسان إذا انتهى من الاغتسال أن يلبس ثيابه، لئلا يبقى مكشوف العورة بلا حاجة، ولكن لو توضأ بعد الاغتسال من الجنابة، فلا حاجة عليه في ذلك ووضوؤه صحيح، ولكن هذا الوضوء ينبغي أن يكون قبل أن يغتسل؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يتوضأ عند الاغتسال قبل الاغتسال، أما بعد الغسل فلا وضوء عليه، ولو أن الإنسان نوى الاغتسال واغتسل بدون وضوء سابق ولا لاحق أجزأه ذلك، لأن الله تعالى لم يوجب على الجنب إلا الطهارة بجميع البدن، حيث قال عز وجل: (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) (1) . ولم يوجب الله تعالى وضوءا، وعلى هذا فلو أن أحدا نوى رفع الحدث من الجنابة، وانغمس في بركة أو بئر أو في البحر وهو قد نوى رفع الحدث الأكبر، أجزأه ذلك إذا تمضمض واستنشق ولم يحتج إلى وضوء. والله أعلم.
__________
(1) سورة المائدة،الآية: 6.(11/227)
180) وسُئل الشيخ: هل يجزئ الغسل من الجنابة عن الوضوء؟
فأجاب بقوله: إذا كان على الإنسان جنابة واغتسل فإن ذلك يجزئه عن الوضوء، لقوله تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) (1) .ولا يجب عليه إعادة الوضوء بعد الغسل، إلا إذا حصل ناقض من نواقض الوضوء، فأحدث بعد الغسل، فيجب عليه أن يتوضأ، وأما إذا لم يحدث فإن غسله من الجنابة يجزئ عن الوضوء سواء توضأ قبل الغسل أم لم يتوضأ، لكن لابد من ملاحظة المضمضة والاستنشاق، فإنه لابد منهما في الوضوء والغسل.
181) وسُئل: هل يجزئ الغسل غير المشروع عن الوضوء؟
فأجاب قائلا: الغسل غير المشروع لا يجزئ عن الوضوء، لأنه ليس بعبادة.
182) وسُئل: هل الاستحمام يكفي عن الوضوء؟
فأجاب قائلا: الاستحمام ـ إن كان عن جنابة ـ فإنه يكفي عن الوضوء لقوله تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) . فإذا كان على الإنسان جنابة وانغمس في بركة أو في نهر أو ما أشبه ذلك، ونوى بذلك رفع الجنابة وتمضمض واستنشق، فإنه يرتفع الحدث عنه الأصغر والأكبر، لأن الله تعالى لم يوجب عند الجنابة سوى أن نطهر، أي أن نعم جميع البدن بالماء غسلا، وإن كان الأفضل أن المغتسل من الجنابة يتوضأ، أولا، حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يغسل فرجه بعد أن يغسل كفيه ثم يتوضأ
__________
(1) سورة المائدة،الآية: 6.(11/228)
وضوءه للصلاة، ثم يفيض الماء على رأسه،
فإذا ظن أنه أروى بشرته، أفاض عليه ثلاث مرات، ثم يغسل باقي جسده.
أما إذا كان الاستحمام لتنظيف أو لتبرد، فإنه لا يكفى عن الوضوء، لأن ذلك ليس من العبادة، وإنما هو من الأمور العادية، وإن كان الشرع يأمر بالنظافة لكن لا على هذا الوجه، بل النظافة مطلقا في أي شيء يحصل فيه التنظيف. وعلى كل حال إذا كان الاستحمام للتبرد أو النظافة فإنه لا يجزئ عن الوضوء. والله أعلم.
183) وسُئل ـ حفظه الله تعالى ـ إذا اغتسل الإنسان ولم يتمضمض ولم يستنشق فهل يصح غسله؟
فأجاب بقوله: لا يصح الغسل بدون المضمضة والاستنشاق، لأن قوله تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) . يشمل البدن كله، وداخل الفم وداخل الأنف من البدن الذي يجب تطهيره، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالمضمضة والاستنشاق في الوضوء، لدخولهما في قوله تعالى: (اغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) (1) فإذا كانا داخلين في غسل الوجه ـ والوجه مما يجب تطهيره وغسله في الطهارة الكبرى ـ كان واجبا على من اغتسل من الجنابة أن يتمضمض ويستنشق.
184) وسُئل ـ رعاه الله ـ: إذا جامع الرجل زوجته وأراد العود مرة ثانية فماذا يلزمه؟
فأجاب بقوله: هاهنا ثلاث مراتب:
الأولى: أن يغتسل قبل أن يعود، وهذه أكمل المراتب.
__________
(1) سورة المائدة،الآية: 6.(11/229)
الثانية: أن يقتصر على الوضوء فقط قبل أن يعود، وهذه دون الأولى.
الثالثة: أن يعود بدون غسل ولا وضوء، وهذه أدنى المراتب وهي جائزة.
لكن الأمر الذي ينبغي التفطن له أن لا يناما إلا على أحد الطهارتين إما الوضوء أو الغسل.
185) وسُئل: هل تحتلم المرأة؟ وإذا احتلمت فماذا يجب عليها؟ ومن احتلمت ولم تغتسل فماذا يلزمها؟
فأجاب بقوله: المرأة قد تحتلم، لأن النساء شقائق الرجال، فكما أن الرجال يحتلمون فالنساء كذلك.
وإذا احتلمت المرأة أو الرجل كذلك ولم يجد شيئا بعد الاستيقاظ، أي ما وجد أثرا من الماء فإنه ليس عليها غسل، وإن وجدت الماء فإنه يجب إن تغتسل لأن أم سلمة قالت: يا رسول الله هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ قال: (نعم إذا هي رأت الماء) فإذا رأت الماء وجب عليها الغسل.
وأما من احتلمت فيما مضى فإن كانت لم تر الماء فليس عليها شيء، وأما إن كانت رأته فإنها تتحرى كم صلاة تركتها وتصليها.(11/230)
باب التيمم
186) وسُئل فضيلة الشيخ: هل التيمم رافع للحدث أو مبيح؟
فأجاب بقوله: الصواب أن التيمم مطهر ورافع للحدث، لقول الله تعالى حين ذكر التيمم: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) (1) . ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا) . والطهور ـ بالفتح ـ ما يتطهر به.
وكذلك من النظر فالتيمم بدل، والقاعدة الشرعية أن للبدل حكم المبدل وفائدته قولن بدل، أنه لا يمكن العمل به مع وجود الأصل وهو الماء، فإذا وجد الماء بطل التيمم، ووجب عليه أن يغتسل إن كان تيمم عما يوجب الغسل، وأن يتوضأ إذا كان التيمم عن حدث أصغر لحديث الرجل الذي أصابته جنابة ولا ماء فاعتزل ولم يصل، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: (لم لم تصل مع الناس؟) . فقال: أصابتني جنابة ولا ماء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليك بالصعيد فإنه يكفيك) . فهذا الرجل تيمم عن الجنابة، ولما جاء الماء قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خذ هذا وأفرغه على نفسك) . ولو كان التيمم رافعا للحدث رفعا مستمرا، ما بطل بوجود الماء. ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لصعيد الطيب طهور المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجده فليتق الله وليمسه بشرته) .
__________
(1) سورة المائدة، الآية: 6.(11/231)
187) وسُئل فضيلة الشيخ: إذا تعذر استعمال الماء، فبماذا تحصل الطهارة؟
فأجاب بقوله: إذا تعذر استعمال الماء، لعدمه أو التضرر باستعماله، فإنه يعدل عن ذلك إلى التيمم،بأن يضرب الإنسان بيديه على الأرض ثم يمسح بهما وجهه ويمسح بعضها ببعض، لكن هذا خاص بالطهارة من الحدث.
أما طهارة الخبث فليس فيها تيمم، سواء كانت على البدن أو على الثوب أو على البقعة، لأن المقصود من التطهر من الخبث إزالة هذه العين الخبيثة، وليس التعبد فيها شرطا، ولهذا لو زالت هذه العين الخبيثة بغير قصد من الإنسان طهر المحل، فلو نزل المطر على مكان نجس أو على ثوب نجس وزالت النجاسة بما نزل من المطر، فإن المحل يطهر بذلك، وإن كان الإنسان ليس عنده علم بهذا، بخلاف طهارة الحدث فإنها عبادة يتقرب بها الإنسان إلى الله عز وجل، فلابد فيها من النية والقصد.
188) وسُئل الشيخ ـ حفظه الله تعالى ـ: من أصبح جنبا في وقت بارد فهل يتيمم؟
فأجاب قائلا: إذا كان الإنسان جنبا فإن عليه أن يغتسل، لقول الله تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) (1) .فإن كانت الليلة باردة ولا يستطيع أن يغتسل بالماء البارد، فإنه يجب عليه أن يسخنه إذا كان يمكنه ذلك، فإن كان لا يمكنه أن يسخنه لعدم وجود ما يسخن به الماء، فإنه في هذه الحال يتيمم عن الجنابة ويصلي، لقول الله تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْجَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ
__________
(1) سورة المائدة، الآية: 6.(11/232)
تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (1) .
وإذا تيمم عن الجنابة، فإنه يكون طاهرا بذلك ويبقى على طهارته حتى يجد الماء، فإذا وجد الماء وجب عليه أن يغتسل، لما ثبت في صحيح البخاري من حديث عمران بن حصين الطويل، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا معتزلا لم يصل في القوم، قال: (ما منعك؟) قال: أصابتني جنابة ولا ماء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليك بالصعيد فإنه يكفيك) . ثم حضر الماء بعد ذلك فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم ماء وقال: (أفرغه على نفسك) . فدل هذا على أن المتيمم إذا وجد الماء، وجب عليه أن يتطهر به، سواء كان ذلك عن الجنابة أو عن حدث أصغر، والمتيمم إذا تيمم عن جنابة، فإنه يكون طاهرا منها حتى يحصل له جنابة أخرى، أو يجد الماء، وعلى هذا فلا يعيد تيممه عن الجنابة لكل وقت، وإنما يتيمم بعد تيممه من الجنابة يتيمم عن الحدث الأصغر إلا إن يجنب.
189) وسُئل: إذا خشي الإنسان من استعماله الماء البارد فهل يجوز له أن يتيمم أو لا؟
فأجاب بقوله: لا يجوز أن يتيمم، بل يجب عليه أن يصبر ويستعمل هذا الماء البارد في الوضوء، إلا إذا كان يخشى من ضرر يلحقه، فإنه لا بأس أن يتيمم حينئذ إذا لم يجد ما يسخن به الماء، وإذا تيمم وصلى فليس عليه إعادة الصلاة، لأنه صلى كما أمر، وكل من أتى بالعبادة على وجه أمر به فإنه ليس عليه إعادة تلك العبادة. أما مجرد أنه يتأذى ببرودته ليس بعذر، فإنه غالبا ـ ولا سيما ممن لا يكون في البلد،
__________
(1) سورة المائدة، الآية: 6.(11/233)
الغالب أنه في أيام الشتاء ـ لابد أن يكون الماء باردا ويتأذى الإنسان من برودته ولكنه لا يخشى منه الضرر، أما من يخشى من الضرر فإنه لا بأس أن يتيمم، ويصلى ولا إعادة عليه إذا لم يجد ما يسخن به الماء، ولا يجوز أن ينتظر حتى تخرج الشمس ويسخن الماء، بل الواجب عليه أداء الصلاة في وقتها على الوجه الذي أمر به، إن قدر على استعمال الماء بدون ضرر استعمله، وإذا كان يخشى من الضرر تميم، أما تأخير الصلاة حتى خروج الوقت فلا.
190) وسُئل فضيلة الشيخ: إذا لم يجد الراعي ماء فهل يتيمم؟
فأجاب بقوله: نعم إذا حضرت الصلاة ولم يكن عنده ماء فيباح له التيمم، قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما ذكره من خصائصه التي خصه الله بها وأمته قال صلى الله عليه وسلم: (وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل) . فإذا أدركتك الصلاة فصل إن كان عندك ماء تطهرت به، وإن لم يكن عندك ماء فتطهر بالتراب ويجزئك ذلك.
وصفة التيمم المشروعة أن ينوي الإنسان أنه يتيمم لقول النبي، صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) . ثم يضرب الأرض بيديه ضربه واحدة يمسح بها وجهه وكفيه وبهذا يتم تيممه ويكون طاهرا يحل له بهذا التيمم ما يحل له بالتطهر بالماء لأن الله عز وجل قال: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون) (1) فبين
__________
(1) سورة المائدة، الآية: 6.(11/234)
الله تعالى أن الإنسان بالتيمم يكون طاهرا، قال الرسول، عليه الصلاة والسلام: (جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا) . والطهور ـ بالفتح ـ ما يتطهر به، ولهذا كان الراجح من قول العلماء أن التيمم رافع للحدث ما دام الإنسان لم يجد الماء فيجوز له إذا تيمم ان يصلى.
191) وسُئل الشيخ: إذا كان عند الإنسان ماء لا يكفي إلا لبعض الأعضاء فما العمل؟
فأجاب بقوله: عليه أن يستعمل الماء أولا ثم يتيمم للباقي، لأنه لو تيمم مع وجود الماء لم يصدق عليه أنه عادم للماء، ودليل ذلك قول الله تعالى: (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا) . وقوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (1) .وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) . فإذا غسل ما استطاع وانتهى الماء، فإنه بهذا الفعل اتقى الله، وما بقي فالماء متعذر، فيرجع إلى بدله وهو التيمم، ولا تضاد بين الحكمين، لأن استعمال الماء من تقوى الله تعالى، واستعمال التيمم عند عدم الماء من تقوى الله أيضا، فربما يستدل لما قلنا بجمع النبي صلى الله عليه وسلم بين طهارة المسح وطهارة الغسل، بما يروى في حديث صاحب الشجة: (إنما كان يكفيك أن تتيمم وتعصب على جرحك خرقة ثم تمسح عليها) .
__________
(1) سورة التغابن، الآية:16.(11/235)
فإن قيل: إنه هذا جمع بين البدل والمبدل منه فكيف يصح؟
فنقول: إن التيمم هنا ليس عن الأعضاء المغسولة، ولكنه عن الأعضاء التي لم تغسل فهو شبيه بالمسح على الخفين من بعض الوجوه، لأن فيه غسل لبعض الأعضاء التي تغسل ومسح على الخف بدلا عن غسل الرجل التي تحته، فهنا جمع بين بدل ومبدل منه.
192) وسُئل: عن شخص استيقظ من النوم وعليه جنابة فإذا اشتغل بالغسل خرج وقت الفجر فهل يتيمم؟
فأجاب قائلا: عليه أن يغتسل ويصلي الصلاة، ولو بعد الوقت، وذلك لأن النائم يكون وقت الصلاة في حقه وقت استيقاظه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها) . فأنت حين استيقاظك كأن الوقت دخل الآن، فاغتسل وافعل الواجبات التي تسبق الصلاة ثم صل.
193) وسُئل ـ حفظه الله ـ: إذا كان على بدن المريض نجاسة فهل يتيمم لها؟
فأجاب قائلا: لا يتيمم لها، إن أمكن هذا المريض أن يغسل هذه النجاسة غسلها، وإلا صلى بحسب حاله بلا تيمم، لأن التيمم لا يؤثر في إزالة النجاسة، وذلك أن المطلوب تخلي البدن عن النجاسة، وإذا تيمم لها فإن النجاسة لا تزول عن البدن، ولأنه لم يرد التيمم عن النجاسة، والعبادات مبناها على الاتباع.
194) سُئل الشيخ: إذا كان على الإنسان نجاسة لا يستطيع إزالتها فهل يتيمم لها؟
فأجاب بقوله: إذا كان على الإنسان نجاسة وهو لا يستطع إزالتها(11/236)
فإنه يصلي بحسب حاله ولا يتيمم لها، ولكن يخفف النجاسة ما أمكن بالحك أو ما أشبه ذلك، وإذا كانت مثلا في ثوب يمكنه خلعه، ويستتر بغيره، وجب عليه أن يخلعه ويستتر بغيره.
195) وسُئل فضيلة الشيخ: عن رجل عليه ملابس بها نجاسة وليس عنده ماء، ويخشى خروج الوقت فكيف يعمل؟
فأجاب ـ حفظه الله تعالى ـ قائلا: نقول له خفف عنك ما أمكن من هذه النجاسة، فإذا كانت في ثوب وعليك ثوبان، فاخلع هذا الثوب النجس وصل بالطاهر، وإذا كان عليك ثوبان كلاهما نجس أو ثلاثة وكل منها نجس، فخفف ما أمكن من النجاسة، وما لم يمكن إزالته أو تخفيفه من النجاسة، فإنه لا حرج عليك لقول الله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (1) . فتصلي بالثوب ولو كان نجسا، ولا إعادة عليك على القول الراجح، فإن هذا من تقوى الله تعالى ما استطعت، والإنسان إذا اتقى الله ما استطاع، فقد أتى ما أوجبه الله عليه، ومن أتى بما أوجبه الله عليه فقد ابرأ ذمته. والله الموفق.
196) وسُئل الشيخ: هل يشترط في التراب المتيمم به أن يكون له غبار؟ وهل قوله تعالى: (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) . قوله: (منه) دليل على اشتراط الغبار؟
فأجاب بقوله: القول الراجح أنه لا يشترط للتيمم أن يكون بتراب فيه غبار، بل إذا تيمم على الأرض أجزأه سواء كان فيها غبار أم
__________
(1) سورة التغابن، الآية:16.(11/237)
لا، وعلى هذا فإذا نزل المطر على الأرض، فيضرب الإنسان بيديه على الأرض ويمسح وجهه وكفيه، وإن لم يكن للأرض غبار في هذه الحال، لقول الله تعالى: (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) (1) . ولأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يسافرون إلى جهات ليس فيها إلا رمال، وكانت الأمطار تصيبهم وكانوا يتيممون كما أمر الله عز وجل؛ فالقول الراجح أن الإنسان إذا تيمم على الأرض فإن تيممه صحيح، سواء كان على الأرض غبار أم لم يكن.
وأما قوله تعالى: (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) . فإن (من) لابتداء الغاية وليست للتبعيض، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه نفخ في يديه حين ضرب بهما الأرض.
197) وسُئل فضيلته: عن شخص تيمم على صخرة لعدم استطاعته استعمال الماء، فهل يجب عليه إعادة الصلاة؟
فأجاب بقوله: لا يجب عليه إعادة الصلاة إذا كان حين التيمم لا يستطيع استعمال الماء، لأن الله عز وجل قال: (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (2) وقال النبي، صلى الله عليه وسلم: (جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل) .فإذا كنت غير مستطيع لاستعمال الماء تيممت ولو بقيت مدة طويلة تصلي بالتيمم فإنه لاشيء عليك ما دام الشرط موجودا وهو تعذر استعمال الماء.
__________
(1) سورة المائدة، الآية: 6.
(2) سورة المائدة، الآية: 6.(11/238)
198) وسُئل فضيلته: إذا أصابت المريض جنابة ولم يتمكن من استعمال الماء فهل يتيمم؟
فأجاب بقوله: إذا أصابت الرجل جنابة أو المرأة وكان مريضا لا يتمكن من استعمال الماء، فإنه في هذه الحال يتيمم لقول الله تبارك وتعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) (1) .وإذا تيمم من هذه الجنابة فإنه لا يعيد التيمم عنها مرة أخرى إلا بجنابة تحدث له أخرى ولكنه يتيمم عن الوضوء كلما انتقض وضوؤه.
والتيمم رافع للحدث مطهر للمتيمم لقول الله تعالى حين ذكر التيمم، وقبله الوضوء والغسل قال سبحانه وتعالى: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (2) .
وثبت عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا) . والطهور ما يتطهر به الإنسان، لكن التيمم مطهر طهارة مقيدة بزوال المانع من استعمال الماء فإذا زال المانع من استعمال الماء، فبرأ المريض ووجد الماء من عدمه، فإنه يجب عليه أن يغتسل إذا كان تيمم عن جنابة وأن يتوضأ إذا كان تيمم عن حدث أصغر ويدل على ذلك ما رواه البخاري من حديث عمران بن حصين الطويل وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم، رأى رجلا معتزلا لم يصل في القوم فسأله ما الذي منعه فقال يا رسول الله أصابتني جنابة، ولا ماء. فقال: (عليك بالصعيد فإنه يكفيك) . ثم
__________
(1) سورة المائدة، الآية: 6.
(2) سورة المائدة، الآية: 6.(11/239)
حضر الماء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستقى الناس منه وبقي منه بقية، فقال للرجل: (خذ هذا فأفرغه على نفسك) . وهذا دليل على أن التيمم مطهر وكاف عن الماء لكن إذا وجد الماء فإنه يجب استعماله، ولهذا أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يفرغه على نفسه بدون أن يحدث له جنابة جديدة، وهذا القول هو الراجح من أقوال أهل العلم.
199) وسُئل فضيلة الشيخ: عن المريض لا يجد التراب فهل يتيمم على الجدار، وكذلك الفرش أم لا؟
فأجاب ـ أعلى الله درجته في المهديين ـ بقوله: الجدار من الصعيد الطيب، فإذا كان الجدار مبنيا من الصعيد سواء كان حجرا أو كان مدرا ـ لبنا من الطين ـ، فإنه يجوز التيمم عليه، أما إذا كان الجدار مكسوا بالأخشاب أو (بالبوية) فهذا إن كان عليه تراب ـ غبار ـ فإنه يتيمم به ولا حرج، ويكون كالذي يتيمم على الأرض، لأن التراب من مادة الأرض، أما إذا لم يكن عليه تراب، فإنه ليس من الصعيد في شيء، فلا يتيمم عليه.
وبالنسبة للفرش نقول: إن كان فيها غبار فليتيمم عليها، وإلا فلا يتيمم عليها لأنها ليست من الصعيد.
200) وسُئل: إذا تيمم الإنسان لنافلة، فهل يصلي بذلك التيمم الفريضة؟
فأجاب بقوله: جواب هذا السؤال يتضح مما سبق وهو أن التيمم رافع للحدث، فحينئذ له أن يصلي الفريضة ـ وإن كان يتيمم لنافلة ـ كما لو توضأ لنافلة جاز له أن يصلي بذلك الوضوء الفريضة، ولا يجب إعادة التيمم إذا خرج الوقت، ما لم يوجد ناقض.(11/240)
201) وسُئل فضيلة الشيخ: ما الحكم إذا وجد المتيمم الماء في أثناء الصلاة أو بعدها؟
فأجاب بقوله: إذا وجد المتيمم الماء في الصلاة، فهذه المسالة محل خلاف بين أهل العلم.
فمنهم من قال: إن التيمم لا يبطل بوجود الماء حينئذ لأنه شرع في الصلاة على وجه مأذون فيه شرعا، فلا يخرج منها إلا بدليل شرعي.
ومنهم من قال: إنه يبطل التيمم بوجود الماء في الصلاة، واستدلوا بعموم قوله تعالى: (فإن لم تجدوا ماء) . وهذا قد وجد الماء فيبطل تيممه، وإذا بطل التيمم بطلت الصلاة، وعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته) . ولأن التيمم بدل عن طهارة الماء عند فقده، فإذا وجد الماء زالت البدلية فيزول حكمها، فحينئذ يخرج من الصلاة ويتوضأ ويستأنف الصلاة من جديد. والذي يظهر لي ـ والعلم عند الله تعالى ـ أن القول الثاني أقرب للصواب.
أما إذا وجد الماء بعد الصلاة، فإنه لا يلزمه أن يعيد الصلاة، لما رواه أبو داود وغيره في قصة الرجلين اللذين تيمما ثم صليا وبعد صلاتهما وجدا الماء في الوقت، فأما أحدهما فلم يعد الصلاة وأما الآخر فتوضأ وأعاد الصلاة، فلما قدما أخبرا النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام للذي لم يعد: (أصبت السنة) . وقال للذي أعاد: (لك الأجر مرتين) .
فإن قال قائل: أنا أريد الأجر مرتين.
قلنا: إنك إذا علمت بالسنة فخالفتها فليس لك الأجر مرتين،(11/241)
بل تكون متبتدعا، والذي في الحديث لم يعلم بالسنة، فهو مجتهد فصار له أجر العملين العمل الأول والثاني.
فإن قيل: المجتهد إذا أخطأ فليس له إلا أجر واحد كما جاء في الحديث: (إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر) . فكيف كان لهذا المخطئ في إعادة الصلاة الأجر مرتين؟
فالجواب: أن هذا عمل عملين بخلاف الحاكم المخطئ، فإنه لم يعمل إلا عملا واحدا فلم يحكم مرتين.
بهذا يتبين لنا أن موافقة السنة أفضل من كثرة العمل، فإذا قال قائلا مثلا: أنا أريد أن أطيل ركعتي الفجر لفضل الوقت، وكثرة العمل،
قلنا له: لم تصب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخفف ركعتي الفجر كما جاء ذلك في حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ ومثال ذلك أيضا لو قال: أريد أن أطيل ركعتي الطواف، قلنا: لم تصب السنة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخففهما وهذه فائدة مهمة على طالب العلم أن يعيها. والله الموفق.
202) وسُئل فضيلة الشيخ: هل الأفضل للإنسان إذا لم يجد الماء أن يؤخر الصلاة إلى آخر الوقت، رجاء وجود الماء؟ أو يتيمم ويصلي في الوقت؟
فأجاب بقوله:
أولا: يترجح تأخير الصلاة إلى آخر الوقت في حالين:
الأول: إذا علم وجود الماء، فالأفضل أن يؤخر الصلاة ولا يقال بالوجوب، لأن علمه بذلك ليس أمرا مؤكدا، لأنه قد يتخلف المعلوم.
الثاني: إذا ترجح عنده وجود الماء، فيؤخر الصلاة، لأن في ذلك محافظة على شرط من شروط الصلاة، وهو الطهارة بالماء، لأن في ذلك محافظة على شروط الصلاة، وهو الطهارة بالماء، وفي الصلاة(11/242)
أول الوقت محافظة على فضيلة فقط، وعلى هذا يكون التأخير والطهارة والطهارة بالماء أفضل.
ثانيا: يترجح تقديم الصلاة في أول وقتها في ثلاث حالات:
الأولى: إذا علم أنه لن يجد الماء.
الثانية: إذا ترجح أنه لن يجد الماء.
الثالثة: إذا تردد فلم يترجح عنده شيء.(11/243)
باب إزالة النجاسة
203) سُئل فضيلة الشيخ ـ أعلى الله درجته ومنزلته ـ: عن النجاسات الحكمية وكيفية تطهير ما أصابت؟
فاجاب بقوله: النجاسات الحكمية هي النجاسة الواردة على مكان طاهر، فهذه يجب علينا أن نغسلها، وأن ننظف المحل الطاهر منها، فيما إذا كان يقتضي الطهارة.
وكيفية تطهير ما أصابت النجاسة تختلف بحسب المواضع وبحسب جنس النجاسة.
أولا: إذا كانت النجاسة على الأرض، فإنه يكتفى بصب الماء عليها بعد إزالة عينها إن كانت ذات جرم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للصحابة حين بال الرجل في طائفة المسجد: (أريقوا على بوله سجلا من ماء) . فإذا كانت النجاسة على الأرض، فإن كانت ذات جرم أزلنا جرمها أولا، ثم صببنا الماء عليها مرة واحدة ويكفي.
ثانيا: إذا كانت النجاسة على غير الأرض وهي نجاسة كلب، فإنه لابد من تطهيرها من سبع غسلات إحدها بالتراب، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا إحداهن بالتراب) .
ثالثا: إذا كانت النجاسة على غير الأرض وليست نجاسة كلب، فإن القول الراجح أنها تطهر بزوالها على أي حال كان، سواء زالت بأول غسلة أو بالغسلة الثانية أو الثالثة أو الرابعة أو الخامسة، المهم متى زالت عين النجاسة فإنها تطهر، لكن إذا كانت النجاسة بول غلام صغير لم(11/245)
يأكل الطعام، فإنه يكفي أن تغمر بالماء المحل النجس وهو ما يعرف عند العلماء بالنضح، ولا يحتاج إلى غسل ودلك، لأن نجاسة بول الغلام الصغير الذي لم يأكل الطعام نجاسة مخففة.
204) وسُئل فضيلة الشيخ: عن حكم اقتناء الكلاب؟ وهل مسه ينجس اليد؟ وعن كيفية تطهير الأواني التي بعده؟
فأجاب قائلا: اقتناء الكلاب لا يجوز إلا في ما رخص فيه الشارع، والنبي عليه الصلاة والسلام، رخص من ذلك في ثلاث كلاب: كلب الماشية يحرسها من السباع والذئاب، وكلب الزرع من المواشي والأغنام وغيرها، وكلب الصيد ينتفع به الصائد، هذه الثلاثة التي رخص النبي صلى الله عليه وسلم فيها باقتناء الكلب فما عداها فإنه لا يجوز، وعلى هذا فالمنزل الذي يكون في وسط البلد لا حاجة أن يتخذ الكلب لحراسته، فيكون اقتناء الكلب لهذا الغرض في مثل هذه الحال محرما لا يجوز وينتقص من أجور أصحابه كل يوم قيراط أو قيراطان، فعليهم أن يطردوا هذا الكلب وألا يقتنوه، أما لو كان هذا البيت في البر خاليا ليس حوله أحد فإنه يجوز أن يقتنى الكلب لحراسه البيت ومن فيه، وحراسة أهل البيت أبلغ في الحفاظ من حراسة المواشي والحرث.
وأما مس هذا الكلب فإن كان مسه بدون رطوبة فإنه لا ينجس اليد، وإن كان مسه برطوبة فإن هذا يوجب تنجيس اليد على رأي كثير من أهل العلم، ويجب غسل اليد بعده سبع مرات، إحداها بالتراب.
وأما الأواني التي بعده إذا ولغ في الأناء أي شرب منه يجب غسل الإناء سبع مرات إحداها بالتراب كما ثبت ذلك في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا(11/246)
ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا إحداها بالتراب) . والأحسن أن يكون التراب في الغسلة الأولى. والله أعلم.
205) وسُئل فضيلة الشيخ: عن حديث ابن عمر، ـ رضي الله عنهما ـ قال: (كانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد في زمان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلم يكونوا يرشون شيئا من ذلك؟
فأجاب بقوله: الحديث المشار إليه وجدته في صحيح البخاري عن ابن عمر قال (كانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد في زمان رسول الله، فلم يكونوا يرشون شيئا من ذلك) . وقد أشكل هذا الحديث على العلماء ـ رحمهم الله ـ واختلفوا في تخريجه:
فقال أبو داود: إن الأرض إذا يبست طهرت، واستدل بهذا الحديث، وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام فإنه ذكر أن الأرض تطهر بالشمس والريح، واستدل بهذا الحديث.
وذهب بعض العلماء إلى أن قوله: (وتبول) يعني في غير المسجد وأن الذي في المسجد إنما هو الإقبال والإدبار لكن هذا التخريج ضعيف، لأنها لو كانت لا تبول في المسجد لم يكن فائدة في قوله: (ولم يكونوا يرشون شيئا من ذلك) . وقال ابن حجر في فتح الباري: والأقرب أن يقال أن ذلك في أول الأمر قبل ان يؤمر بتكريم المساجد وتطهيرها وجعل الأبواب عليها.
والذي يظهر لي أن كلام شيخ الإسلام هو الصحيح وأن الأرض إذا أصابتها النجاسة فيبست حتى زال أثرها فإنها تطهر لأن الحكم يدور مع علته، فإذا لم يبق للنجاسة أثر صارت معدومة فتطهر الأرض بذلك.(11/247)
206) وسُئل فضيلة الشيخ: إذا زالت عين النجاسة بالشمس فهل يطهر المكان؟
فأجاب قائلا: إذا زالت عين النجاسة بأي مزيل كان، فإن المكان يطهر، لأن النجاسة عين خبيثة فإذا زالت زال ذلك الوصف وعاد الشيء إلى طهارته، لأن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما، وإزالة النجاسة ليست من باب المأمور به حتى يقال: لابد من فعله، بل هو من باب اجتناب المحظور، ولا يرد على هذا حديث بول الأعرابي في المسجد، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بدنوب من ماء فأريق على بوله، لأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بصب الماء عليه لأجل المبادرة بتطهيره، لأن الشمس لا يحصل بها التطهير الفوري، بل يحتاج إلى أيام، لكن الماء يطهره في الحال، والمسجد يحتاج إلى المبادرة بتطهيره، ولذلك ينبغي للإنسان أن يبادر بإزالة النجاسة، لأن هذا هو هدي النبي، صلى الله عليه وسلم، ولأن فيه تخلصا من النجاسة، وحتى لا ينسى الإنسان هذه النجاسة أو ينسى مكانها.
207) وسُئل حفظه الله تعالى: هل الدخان نجس؟
فأجاب قائلا: الدخان ليس بنجس نجاسة حسية بلا ريب، لأنه نبات وإنما كان حراما لما يترتب عليه من الأضرار البدنية والمالية والاجتماعية، ولا يلزم من تحريم الشيء أن يكون نجسا، فهذا الخمر حرام بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين وليس بنجس نجاسة حسية على القول الراجح، ففي صحيح مسلم عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن رجلا أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم راوية خمر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل علمت أن الله قد حرمها؟) قال لا، فسار إنسانا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (بم ساررته؟) . قال أمرته ببيعها، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: (إن الذي حرم شربها حرم بيعها) . قال ففتح المزادة حتى ذهب ما فيها. اهـ(11/248)
ص 1206ط الحلبي تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، وفي صحيح البخاري ص 112 جـ 5 من الفتح ط السلفية عن أنس أنه كان ساقي القوم في منزل أبي طلحة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم، مناديا ينادي ألا إن الخمر قد حرمت. قال: فقال لي أبو طلحة: اخرج فأهرقها، فخرجت فهرقتها، فجرت في سكك المدينة. ولو كانت الخمر نجسة نجاسة حسية لأمر النبي، صلى الله عليه وسلم، صاحب الراوية أن يغسلها كما فعل النبي، صلى الله عليه وسلم، حين حرمت الحمير عام خبير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أهريقوها واكسروها) ، فقال او نهريقها ونغسلها؛ قال: (أو ذاك) .ثم لو كانت الخمر نجسة نجاسة حسية فإن الدخان (التتن) ليس بنجس نجاسة حسية من باب أولى، أما تحريم التدخين فإن من قرأ ما كتبه العلماء وقرره الأطباء عنه لم يشك في أنه حرام، وهو الذي نراه ونفتي به.
208) وسُئل فضيلته: عن حكم بول الطفل الصغير إذا وقع على الثوب؟
فأجاب قائلا: الصحيح في هذه المسألة أن بول الذكر الذي يتغذى باللبن خفيف النجاسة، وأنه يكفي في تطهيره النضح، وهو أن يغمره بالماء يصب عليه الماء حتى يشمله بدون فرك. وبدون عصر، وذلك أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جيء بابن صغير فوضعه في حجره فبال عليه، فدعا بماء فأتبعه إياه ولم يغسله، أما بالنسبة للأنثى فلابد من غسل بولها، لأن الأصل أن البول نجس ويجب غسله لكن يستثنى الغلام الصغير لدلالة السنة عليه.(11/249)
209) وسُئل فضيلة الشيخ: هل الخمر نجسة وكذلك الكولونيا؟
فأجاب ـ حفظه الله تعالى ـ بقوله: هذه المسألة وهي نجاسة الخمر، إن أريد بالنجاسة النجاسة المعنوية، فإن العلماء مجمعون على ذلك، فإن الخمر نجس وخبيث، ومن أعمال الشيطان؛ وإن أريد بها النجاسة الحسية فإن المذاهب الأربعة وعامة الأمة على إنها نجسة، يحب التنزة منها وغسل ما أصابته من ثوب أو بدن، وذهب بعض أهل العلم إلى أنها ليست نجسة نجاسة حسية بل أن نجاستها معنوية عملية.
فالذين قالوا: إنها نجسة نجاسة حسية ومعنوية استدلوا بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) (1) . والرجس هو النجس، لقوله تعالى: (قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ) (2) . ولحديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم، أمر أبا طلحة أن ينادي إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية فإنها رجس، فالرجس في الآية والحديث بمعنى النجس نجاسة حسية، فكذلك هي في آية الخمر رجس نجس نجاسة حسية.
وأما الذين قالوا بطهارة الخمر طهارة حسية، أي أن الخمر نجس نجاسة معنوية لا حسية، فقالوا: إن الله سبحانه وتعالى قيد في سورة
__________
(1) سورة المائدة، الآية:91.
(2) سورة الأنعام، الآية: 145.(11/250)
المائدة ذلك الرجس بقوله: (رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) (1) .فهو رجس عملي وليس رجسا عينيا ذاتيا، بدليل أنه قال: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ) (2) . ومن المعلوم أن الميسر والأنصاب والأزلام ليست نجسة نجاسة حسية، فقرن هذه الأربعة: الخمر والميسر والأنصاب والأزلام في وصف واحد الأصل أن تتفق فيه، فإذا كانت الثلاثة نجاستها نجاسة معنوية، فكذلك الخمر نجاسته معنوية لأنه من عمل الشيطان.
وقالوا أيضا: إنه ثبت أنه لما نزل تحريم الخمر أراقها المسلمون في الأسواق، ولو كانت نجسة ما جازت إراقتها في الأسواق لأن تلويث الأسواق بالنجاسات محرم ولا يجوز.
وقالوا أيضا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم، لما حرمت الخمر، لم يأمر بغسل الأواني منها ولو كانت نجسة لأمر بغسل الأواني منها كما أمر بغسلها من لحوم الحمر الأهلية حين حرمت.
وقالوا أيضا: قد ثبت في صحيح مسلم أن رجلا أتى براوية من خمرإلى النبي صلى الله عليه وسلم فأهداها إليه، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: (أما علمت أنها قد حرمت) ثم سارة رجل أي كلم صاحب الراوية رجل بكلام سر فقال: (ماذا قلت؟) قال: قلت: يبيعها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه) . فأخذ الرجل بفم الراوية فأراق الخمر، ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بغسلها منه، ولا منعه من إراقتها هناك،
قالوا: فهذا دليل على أن الخمر ليس نجسا نجاسة حسية، ولو كانت حسية لأمره النبي صلى الله عليه وسلم بغسل الراوية ونهاه عن إراقتها هناك.
__________
(1) سورة المائدة،الآية:90.
(2) سورة المائدة، الآية: 91.(11/251)
وقالوا أيضا، الأصل في الأشياء الطهارة حتى يوجد دليل بين يدل على النجاسة، وحيث لم يوجد دليل بين يدل على النجاسة، فإن الأصل أنه طاهر، لكنه خبيث من الناحية العملية المعنوية ولا يلزم من تحريم الشيء أن يكون نجسا، ألا ترى أن السم حراما وليس بنجس، فكل نجس حرام وليس كل حرام نجسا.
وبناء على ذلك نقول في الكولونيا وشبهها: إنها ليست بنجسة لأن الخمر ذاته ليس بنجس على هذا القول الذي ذكرناه أدلته، فتكون الكولونيا وشبهها ليست بنجسة أيضا، وإذا لم تكن نجسة فإنه لا يجب تطهير الثياب منها.
ولكن يبقى النظر: هل يحرم استعمال الكولونيا كطيب يتطيب به الإنسان أو لا يحرم؟
لننظر، يقول الله تعالى في الخمر: (فاجتنبوه) وهذا الاجتناب مطلق لم يقل اجتنبوه شربا أو استعمالا أو ما أشبه ذلك، فالله أمر أمرا مطلقا بالاجتناب، فهل يشمل ذلك مالو استعمله الإنسان كطيب أو نقول: إن الاجتناب المأمور به هو ما علل به الحكم وهو اجتناب شربه، لقوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) (1) .وهذه العلة لا تثبت فيما إذا استعمله الإنسان في غير الشرب.
ولكننا نقول إن الأحوط للإنسان أن يتجنبه حتى للتطيب، وأن يبتعد عنه لأن هذا أحوط وأبرأ للذمة، إلا أننا نرجع مرة ثانية إلى هذه
__________
(1) سورة المائدة، الآية: 91.(11/252)
الأطياب، هل النسبة التي تؤدي إلى الإسكار أو أنها نسبة قليلة لا تؤدي إلى الإسكار؟ لأنه إذا اختلط الخمر بشيء ثم لم يظهر له أثر ولو أكثر الإنسان منه، فإنه لا يوجب تحريم ذلك المخلوط به، لأنه لما لم يظهر له أثر لم يكن له حكم، إذ أن علة الحكم هي الموجبة له، فإذا فقدت العلة فقد الحكم، فإذا كان هذا الخلط لا يؤثر في المخلوط فإنه لا أثر لهذا الخلط، ويكون الشيء مباحا، فالنسبة القليلة في الكولونيا وغيرها إذا كانت لا تؤدي إلى الإسكار ولو أكثر الإنسان مثلا من شربه، فإنه ليس بخمر ولا يثبت له حكم الخمر، كما أنه لو سقطت قطرة من بول في ماء، ولم يتغير بها، فإنه يكون طاهرا، فكذلك إذا سقطت قطرة من خمر في شيء لم يتأثر بها، فإنه لا يكون خمرا، وقد نص على ذلك أهل العلم في باب حد المسكر.
ثم إنني أنبه هنا على مسألة تشتبه على بعض الطلبة، وهي أنهم يظنون أن معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (ما أسكر كثيره فقليله حرام) . يظنون أن معنى الحديث أنه إذا اختلط القليل من الخمر بالكثير من غير الخمر فإنه يكون حراما، وليس هذا معنى الحديث، بل معنى الحديث أن الشيء إذا كان لا يسكر إلا الكثر منه فإن القليل الذي لا يسكر منه يكون حراما، مثل لو فرضنا أن هذا الشراب إن شرب منه الإنسان عشر زجاجات سكر، وإن شرب زجاجة لم يسكر، فإن هذه الزجاجة وإن لم تسكره تكون حراما، هذا معنى: (ما أسكر كثيره فقليله حرام) . وليس المعنى ما أختلط به شيء من المسكر فهو حرام، لأنه إذا اختلط المسكر بالشيء ولم يظهر له أثر فإنه يكون حلالا، لعدم وجود العلة التي هي مناط الحكم، فينبغي أن يتنبه لذلك.
ولكني مع هذا لا أستعمل هذه الأ طياب (الكولونيا) ولا أنهى(11/253)
عنها، إلا إذا أنه أصابني شيء من الجروح أو شبهها واحتجت إلى ذلك فإني أستعمله لأن الاشتباه يزول حكمه مع الحاجة إلى هذا الشيء المشتبه، فإن الحاجة أمر يدعو إلى الفعل، والاشتباه إنما يدعو إلى الترك على سبيل التورع والاحتياط، ولا ينبغي للإنسان أن يحرم نفسه شيئا احتاج إليه وهو لم يجزم بمنعه وتحريمه، وقد ذكر أهل العلم هذه القاعدة بأن المشتبه إذا احتاج إليه فإنه يزول حكم الاشتباه. والله أعلم.
210) وسُئل فضيلته: عن حكم استعمال السوائل الكحولية لأغراض الطباعة والرسوم والخرائط والمختبرات العلمية إلخ؟
فأجاب بقوله: من المعلوم أن مادة الكحول تستخرج غالبا من الخشب وجذور القصب وأليافه، ويكثر جدا في قشور الحمضيات كالبرتقال والليمون، كما هو مشاهد، وهي عبارة عن سائل قابل للاحتراق سريع التبخر، وهو لو استعمل مفردا لكان قاتلا أو ضار أو مسببا للعاهات، لكنه إذا خلط بغيره بنسبة معينة جعل ذلك المخلوط مسكرا، فالكحول نفسها ليست تستعمل للشرب والسكر بها، ولكنها تمزج بغيرها فيحصل السكر بذلك المخلوط. وما كان مسكرا فهو خمر محرم بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين، لكن هل هو نجس العين كالبول والعذرة؟ أو ليس بنجس العين ونجاسته معنوية؟ هذا موضع خلاف بين العلماء، واتفق جمهورهم على أنه نجس العين، والصواب عندي أنه ليس بنجس العين بل نجاسته معنوية وذلك للآتي:
أولا: لأنه لا دليل على نجاسته، وإذا لم يكن دليل على نجاسته فهو طاهر، لأن الأصل في الأشياء الطهارة، وليس كل محرم يكون(11/254)
نجسا، والسم محرم ليس بنجس، وأما قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) (1)
قلنا: إن استعمالها في غير الشرب جائز لعدم انطباق هذه (رجس من عمل الشيطان) فكما أن الميسر والأنصاب والأزلام ليست نجسة العين والذات فكذلك الخمر.
ثانيا: أن الخمر لما نزل تحريمها أريقت في أسواق المدينة، ولو كانت نجسة العين لحرمت إراقتها في طرق الناس كما يحرم إراقة البول في تلك الأسواق.
ثالثا: أن الخمر لما حرمت، لم يأمرهم النبي، صلى الله عليه وسلم، بغسل الأواني منها، كما أمرهم بغسل الأواني من لحوم الحمر الأهلية حين حرمت، ولو كانت نجسة العين لأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بغسل أوانيهم منها.
وإذا تبين أن الخمر ليست نجسة العين، فإنه لا يجب غسل ما أصابته من الثياب والأواني وغيرها، ولا يحرم استعمالها في غير ما حرم استعمالها فيه، وهو الشرب ونحوه مما يؤدي إلى المفاسد التي جعلها الله مناط الحكم في التحريم.
فإن قيل أليس الله تعالى يقول: (فاجتنبوه) وهذا يقتضي اجتنابه على أي حال؟
فالجواب: أن الله تعالى علل الأمر بالاجتناب بقوله: (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة) إلى آخر الآية، وهذه العلة لا تحصل
__________
(1) سورة المائدة، الآية:91.(11/255)
فيما إذا استعمل في غير الشرب ونحوه، فإذا كان لهذه الكحول منافع خالية من هذه المفاسد التي ذكرها الله تعالى علة للأمر باجتنابه، فإنه ليس من حقنا أن نمنع الناس منها. وغاية ما نقول: إنها من الأمور المشتبهة، وجانب التحريم فيها ضعيف، فإذا دعت الحاجة إليها زال ذلك التحريم. وعلى هذا فاستعمال الكحول فيما ذكرتم من الأغراض لا بأس به إن شاء الله تعالى، لأن الله تعالى خلق لنا ما في الأرض جميعا، وسخر لنا ما في السموات وما في الأرض جميعا، منه. وليس لنا أن نتحجز شيئا ونمنع عباد الله منه إلا بدليل من كتاب الله تعالى أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
فإن قيل: أليست الخمر حرمت أريقت؟
قلنا: بلى، وذلك مبالغة في سرعة الامتثال وقطع تعلق النفوس بها، ثم إنه لا يظهر لنا أن لها منفعة في ذلك الوقت تستبقي لها. والله أعلم.
211) وسُئل: عن حكم استعمال الكحول في تعقيم الجروح وخلط بعض الأدوية بشيء من الكحول؟
فأجاب فضيلته بقوله: استعمال الكحول في تعقيم الجروح لا بأس به للحاجة لذلك، وقد قيل إن الكحول تذهب العقل بدون إسكار، فإن صح ذلك فليست خمرا، وإن لم يصح وكانت تسكر فهي خمر، وشربها حرام بالنص والإجماع.
وأما استعمالها في غير الشرب، فمحل نظر، فإن نظرنا إلى قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (1) . قلنا إن استعمالها في(11/256)
غير الشرب حرام، لعموم قوله: (فاجتنبوه) . وإن نظرنا إلى قوله تعالى في الآية التي تليها: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) . قلنا: إن استعمالها في غير الشرب جائز لعدم انطباق هذه العلة عليه، وعلى هذا فإننا نرى أن الاحتياط عدم استعمالها في الروائح، وأما في التعقيم فلا باس به لدعاء الحاجة إليه، وعدم الدليل البين على منعه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى ص 270 جـ 24 من مجموع الفتاوى: التداوي بأكل شحم الخنزير لا يجوز، وأما التداوي بالتلطخ به ثم يغسله بعد ذلك فهذا مبني على جواز مباشرة النجاسة في غير الصلاة وفيه نزاع مشهور، والصحيح أنه يجوز للحاجة، وما أبيح للحاجة جاز التداوي به اهـ. فقد فرق شيخ الإسلام ـ رحمه الله تعالى ـ بين الأكل وغيره في ممارسة الشيء النجس، فكيف بالكحول التي ليست بنجسة؟ لأنها إن لم تكن خمرا فطهارتها ظاهرة، وإن كانت خمرا فالصواب عدم نجاسة الخمر وذلك من وجهين:
الأول: أنه لا دليل على نجاستها، وإذا لم يكن دليل على ذلك فالأصل الطهارة ولا يلزم من تحريم الشيء أن تكون عينه نجسة، فهذا السم حرام وليس بنجس، وأما قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) (2) . فالمراد الرجس المعنوي لا الحسي، لأنه جعل وصفا لما لا يمكن أن يكون رجسه حسيا كالميسر والأنصاب والأزلام، ولأنه وصف هذا الرجس بكونه من عمل الشيطان، وأن الشيطان يريد به إيقاع العداوة والبغضاء فهو رجس عملي معنوي.
__________
(1) سورة المائدة، الآية: 91.
(2) سورة المائدة، الآية:91.(11/257)
الثاني: أن السنة تدل على طهارة الخمر طهارة حسية، ففي صحيح مسلم ص 1206ط الحلبي تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي: عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن رجلا أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم راوية خمر فقال له رسول الله: (هل علمت أن الله قد حرمها؟) . قال: لا، فسار إنسانا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (بم ساررته؟) قال: أمرته ببيعها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الذي حرم شربها حرم بيعها) . قال ففتح المزادة حتى ذهب ما فيها، وفي صحيح البخاري ص 112 جـ 5 من الفتح ط السلفية: عن انس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ أنه كان ساقي القوم في منزل أبي طلحة (وهو زوج أمه) فأمر النبي صلى الله عليه وسلم مناديا ينادي ألا إن الخمر قد حرمت، قال: فقال لي أبو طلحة: أخرج فأهرقها، فخرجت فهرقتها، فجرت في سكك المدينة. ولو كانت الخمر نجسة نجاسة حسية لأمر النبي صلى الله عليه وسلم صاحب الراوية أن يغسل راويته، كما كانت الحال حين حرمت الحمر عام خبير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اهريقوها واكسروها) . (يعني القدور) فقالوا: أونهريقها ونغسلها؟ فقال: (أو ذاك) . ثم لو كانت الخمر نجسة نجاسة حسية ما أراقها المسلمون في أسواق المدينة، لأنه لا يجوز إلقاء النجاسة في طرق المسلمين.
قال الشيخ محمد رشيد رضا في فتاواه ص1631 من مجموعة فتاوى المنار: وخلاصة القول، أن الكحول مادة طاهرة مطهرة وركن من أركان الصيدلة، والعلاج الطبي، والصناعات الكثيرة، وتدخل فيما لا يحصى من الأدوية، وأن تحريم استعمالها على المسلمين يحول دون إتقانهم لعلوم وفنون وأعمال كثيرة، هي من أعظم أسباب تفوق الإفرنج عليهم، كالكيمياء والصيدلة والطب والعلاج والصناعة، وإن تحريم استعمالها في ذلك، قد يكون سببا لموت كثير من المرضى والمجروحين أو لطول(11/258)
مرضهم وزيادة آلامهم اهـ. وهذا كلام جيد متين. رحمه الله تعالى.
وأما خلط بعض الأدوية بشيء من الكحول، فإنه لا يقتضي تحريمها، إذا كان الخلط يسيرا لا يظهر له أثر مع المخلوط، كما أن على ذلك أهل العلم. قال في المغني ص 306 جـ 8ط النار: وإن عجن به (أي بالخمر) دقيقا ثم خبزه وأكله لم يحد، لأن النار أكلت أجزاء الخمر فلم يبق إلا أثره اهـ. وفي الإقناع وشرحه ص 71 جـ 4ط مقبل: ولو خلطه ـ أي المسكر ـ بماء فاستهلك المسكر فيه أي الماء، ثم شربه لم يحد، لأنه باستهلاكه في الماء لم يسلب اسم الماء عنه، أو داوى به ـ أي المسكر ـ جرحه لم يحد، لأنه لم يتناوله شربا ولا في معناه اهـ. وهذا هو مقتضى الأثر والنظر. أما الأثر فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الماء طهور لا ينجسه شيء إلا إن تغير ريحه أو طعمه أو لونه بناجسة تحدث فيه) . وهذا وإن كان الاستثناء فيه ضعيفا إلا أن العلماء أجمعوا على القول بمقتضاه، ووجه الدلالة منه أنه إذا سقط فيه نجاسة لم تغيره فهو باق طهوريته، فكذلك الخمر إذا خلط بغيره من الحلال ولم يؤثر فيه فهو باق على حله، وفي صحيح البخاري تعليقا ص 64جـ 9ط السلفية من الفتح قال: أبو الدرداء في المري ذبح الخمر النينان والشمس جمع نون وهو الحوت، المري أكله تتخذ من السك المملوح يوضع في الخمر ثم يلقى في الشمس فيتغير عن طعم الخمر، فمعنى الأثر أن الحوت بما فيه من الملح، ووضعه في الشمس أذهب الخمر فكان حلالا.
وأما كون هذا مقتضى النظر: فلأن الخمر إنما حرمت من أجل الوصف الذي اشتملت عليه وهو الإسكار، فإذا انتفى هذا الوصف انتفى التحريم، لأن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما إذا كانت العلة(11/259)
مقطوعا بها بنص أو إجماع كما هنا. وقد توهم بعض الناس أن المخلوط بالخمر حرام مطلقا ولو قلت نسبة الخمر فيه، بحيث لا يظهر له أثر في المخلوط، وظنوا أن هذا هو معنى حديث: (ما أسكر كثيره فقليله حرام) . فقالوا: هذا فيه قليل من الخمر الذي يسكر كثيره فيكون حراما، فيقال هذا القليل من الخمر استهلك في غيره فلم يكن له أثر وصفي ولا حكمي، فبقي الحكم لما غلبه في الوصف، وأما حديث: (ما أسكر كثيره فقليله حرام) فمعناه أنه إذا كان الشراب إن أكثر منه الشارب سكر، وإن قلل لم يسكر فإن القليل منه يكون حراما؛ لأن تناول القليل وإن لم يسكر ذريعة إلى تناول الكثير، ويوضح ذلك حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل مسكر حرام وما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام) .
الفرق: مكيال يسع ستة عشر رطلا، ومعنى الحيث أنه إذا وجد شراب لا يسكر منه إلا الفرق، فإن ملء الكف منه حرام فهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (ما أسكر كثيره فقليله حرام) .
212) وسُئل فضيلته: ما رأيكم في هذه الأقوال:
1- أن الدم المسفوح، هو الذي وقع فيه الخلاف، أما غير المسفوح كدم الجروح وسواها فلم يقل أحد بنجاسته.
2- أن المحدثين لم يشيروا أبدا إلى التحريم إلا للدم المسفوح وكذلك أشار المفسرون.
3- أنه لا يوجد دليل واحد صحيح يفيد بنجاسة الدم، إلا ما كان من إشارة بعض الفقهاء، وهؤلاء لا دليل(11/260)
عندهم، وما دام الدليل لم يوجد، فالأصل طهارة الدم فلا تبطل صلاة من صلى وعلى ثوبه بقع دم؟
فأجاب بقوله: ما ذكرتم في رقم 1 فلو رجع القائل إلى كلام أهل العلم لوجد أن الأمر على خلاف ما ذكر، فإن الدم المسفوح لم نعلم قائلا بطهارته كيف وقد دل القرآن على نجاسته كما سيأتي تقريره إن شاء الله تعالى، وقد نقل الاتفاق على نجاسته ابن رشد في بداية المجتهد، فقال ص 76ط الحلبي: وأما أنواع النجاسات فإن العلماء اتفقوا من أعيانها على أربعة، وذكر منها: الدم من الحيوان الذي ليس بمائي انفصل من الحي أو الميت إذا كان مسفوحا أي كثيرا، وقال في ص79 منه: اتفق العلماء على أن دم الحيوان البري نجس. اهـ لكن تفسيره للمسفوح بالكثير مخالف لظاهر اللفظ ولما ذكره البغوي في تفسيره، عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه ما خرج من الحيوان وهو حي وما يخرج من الأوداج عند الذبح، وذلك لأن المسفوح هو المراق السائل لا يقيد كونه كثيرا. اللهم إلا أن يريد ابن رشد بهذا القيد محل الاتفاق حيث عفا كثير من أهل العلم عن يسير الدم المسفوح، لكن العافون عنه لم يجعلوه طاهرا وإنما أرادوا دفع المشقة بوجوب تطهير اليسير منه.
وقد نقل القرطبي في تفسيره ص 221جـ 2ط دار الكاتب اتفاق العلماء على أن الدم حرام نجس، وقال النووي في شرح المهذب ص 511جـ 2ط المطيعي: والدلائل على نجاسة الدم متظاهرة ولا أعلم فيه خلافا عن أحد من المسلمين إلا ما حكاه صاحب الحاوي عن بعض المتكلمين أنه قال طاهر اهـ. والظاهر أن الإطلاق في كلامي القرطبي والنووي مقيد بالمسفوح والله اعلم.
وأما غير المسفوح الذي مثل له بدماء الجروح وسواها وذكر أنه لم(11/261)
يقل أحد بنجاسته مع أن قوله (وسواها) يشمل دم الحيض الذي دلت السنة على نجاسته كما سيأتي إن شاء الله. فلو رجع القائل إلى كلام أهل العلم لوجد أن كلام أهل العلم صريح في القول بنجاسته أو ظاهر.
قال الشافعي ـ رحمه الله ـ في الأم ص67 جـ 1ط دار المعرفة بعد ذكر حديث أسماء في دم الحيض: وفي هذا دليل على أن دم الحيض نجس وكذا كل دم غيره. وفي ص56 منه مثل للنجس بأمثلة منها: العذرة والدم.
وفي المدونة ص38 جـ 1ط دار الفكر عن مالك ـ رحمه الله ـ ما يدل على نجاسة الدم من غير تفصيل.
ومذهب الإمام احمد في ذلك معروف نقله عنه أصحابه.
وقال ابن حزم في المحلى ص102 جـ 1ط المنيرية ك وتطهير دم الحيض أو أي دم كان سواء دم سمك كان أو غيره أو كان في الثوب أو الجسد فلا يكون إلا بالماء حاشا دم البراغيث ودم الجسد فلا يلزم تطهيرهما إلا ما حرج في غسله على الإنسان فيطهر المرء ذلك حسب ما لا مشقة عليه فيه. اهـ.
وقال الفروع (من كتب الحنابلة) ص253 جـ 1ط دار مصر للطباعة: ويعفى على الأصح عن يسير دم وما تولد منه (و) وقيل من بدن اهـ. والرمز بالواو في اصطلاحه إشارة إلى وفاق الأئمة الثلاثة ومقتضىهذا ان الدم نجس عند الأئمة الأربعة لأن التعبير بالعفو عن يسيره يدل على نجاسته.
وقال في الكافي (من كتب الحنابلة أيضا) ص 110/ جـ 1 ط المكتب الإسلامي: والدم نجس لقول النبي صلى الله عليه وسلم لأسماء في الدم (اغسليه بالماء) . متفق عليه، ولأنه نجس لعينه بنص القرآن أشبه الميتة(11/262)
ثم ذكر ما يستثنى منه ونجاسة القيح والصديد، وقال إلا أن أحمد قال: هما أخف حكما من الدم لوقوع الخلاف في نجاستهما وعدم التصريح فيهما. اهـ وقوله لوقوع الخلاف في نجاستهما ما يفيد بأن الدم لا خلاف في نجاسته.
وقال في المهذب (من كتب الشافعية) ص511 جـ 2ط المطيعي: وأما الدم فنجس ثم ذكر في دم السمك وجهين أحدهما نجس كغيره والثاني طاهر.
وقال في جواهر الإكليل (من كتب المالكية) ص9 جـ 1 ط الحلبي في عد النجاسات: ودم مسفوح أي جار بذكاة أو فصد وفي ص11 منه فيما يعفى عنه من النجاسات: ودون درهم من دم مطلقا عن تقييده بكونه من بدن المصلي أو غير حيض وخنزير أو في بدن أو ثوب أو مكان اهـ.
وقال في شرح مجمع الأنهر (من كتب الحنفية) ص51-52 جـ 1 ط عثمانية: وعفى قدر الدرهم من نجس مغلظ كالدم والبول ثم ذكر ص 53 منه أن دم السمك والبق والقمل والبرغوث والذباب طاهر.
فهذه أقوال أهل العلم من أهل المذاهب المتبوعة وغيرهم صريحة في القول بنجاسة الدم واستثناؤهم ما استثنوه دليل على العموم فيما سواه، ولا يمكن إنكار أن يكون أحد قال بنجاسة بعد هذه القول عن أهل العلم.
وأما ما ذكر في رقم 2فالكلام في نجاسة الدم لا في تحريمه، والتحريم لا يلزم منه التنجيس فهذا السم حرام وليس بنجس فكل نجس محرم وليس كل محرم نجسا، فنقل الكلام من البحث في نجاسته إلى تحريمه غير جيد.(11/263)
ثم إن التعبير بأن ثبوت تحريمه كان بإشارة المحدثين والمفسرين مع أنه كان بنص القرآن القطعي غير سديد، فتحريم الدم المسفوح كان بنص القرآن القطعي المجمع عليه لا بإشارة المحدثين والمفسرين كما يعلم.
وأما ما ذكر في رقم 3 فإن سياق كلامكم يدل على أنكم تقصدون بالدم المسفوح فقط أو هو وغيره لأنكم ذكرتم أن غير المسفوح لم يقل أحد بنجاسته، وأن موضع الخلاف هو الدم المسفوح، ولو رجعتم إلى الكتاب والسنة لوجدتم فيهما ما يدل على نجاسة الدم المسفوح ودم الحيض ودم الجرح.
فأما نجاسة الدم المسفوح ففي القرآن قال الله تعالى: (قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ) (1) . فإن قوله (محرما) صفة لموصوف محذوف والتقدير: شيئا محرما، والضمير المستتر في (يكون) يعود على ذلك الشيء المحرم أي إلا أن يكون ذلك الشيء المحرم ميتة إلخ، والضمير البارز في قوله (فإنه) يعود أيضا على ذلك الشيء المحرم أي فإن ذلك الشيء المحرم رجس، وعلى هذا فيكون في الآية الكريمة بيان الحكم وعلته في هذه الأشياء الثلاثة: الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير، ومن قصر الضمير في قوله (فإنه) على لحم الخنزير معللا ذلك بأنه أقرب مذكور فقصره قاصر وذلك لأنه يؤدي إلى تشتيت الضمائر وإلى القصور في البيان القرآني حيث يكون ذاكرا للجميع (الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير) حكما واحدا م يعلل لواحد منها فقط.
__________
(1) سورة الأنعام، الآية: 145.(11/264)
وكذلك من قصره على لحم الخنزير معللا بأنه لو كان الضمير للثلاثة لقال: فإنها أو فإنهن، فجوابه:
أنا لا نقول إن الضمير للثلاثة بل هو عائد إلى الضمير المستتر في ـ يكون ـ المخبر عنه بأحد الأمور الثلاثة.
ويدل على أن وصف الرجس للثلاثة ما دلت عليه السنة من نجاسة الميتة، ففي السنن عن ميمونة ـرضي الله عنها ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بشاة يجرونها، فقال: (لو أخذتم إهابها) . فقالوا: إنها ميتة، فقال: (يطهرها الماء والقرض) أخرجه النسائي وأبو داود، وأخرجا من حديث سلمة بن المحبق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في جلود الميتة: (دباغها طهورها) . وعند النسائي: (دباغها ذكاتها) . وفي صحيح مسلم من حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: وقد سُئل عن اسقية المجوس، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (دباغه طهوره) .
وبهذا تقرر دلالة القرآن على نجاسة الدم المسفوح.
وأما نجاسة دم الحيض، ففي الصحيحين من حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال لفاطمة بنت أبي حبيش: (إذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي) . هذا لفظ البخاري، وقد ترجم عليه باب غسل الدم، وفيهما أيضا من حديث أسماء بنت أبي بكر ـرضي الله عنها ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أصاب ثوب إحداكن الدم من الحيضة فلتقرضه ثم لتنضحه بماء ثم تصلي فيه) . هذا لفظ البخاري في رواية، وفي أخرى: (تحته ثم تقرضه بالماء وتنضحه وتصلي فيه) . وهو لمسلم بهذا اللفظ، لكن بثم في الجمل الثلاث كلها، وكون النبي صلى الله عليه وسلم يرتب الصلاة على غسله بثم، دليل على أن غسله لنجاسته، لا لأجل النظافة فقط.(11/265)
وأما نجاسة دم الجرح: ففي الصحيحين من حديث سهل بن سعد ـ رضي الله عنه ـ في قصة جرح وجه النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد قال: فكانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تغسل الدم، وكان علي بن أبي طالب يسكب عليها بالمجن، هذا لفظ مسلم. وهذا وإن كان قد يدعى مدع أن غسله للتنظيف لا للتطهير الشرعي، أو أنه مجرد فعل والفعل المجرد لا يدل على الوجوب، فإن جوابه أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش بغسل الدم قرينة على ان غسل الدم من وجه النبي صلى الله عليه وسلم كان تطهيرا شرعيا متقررا عندهم.
وأما ما ورد عن بعض الصحابة مما يدل ظاهره على أنه لا يجب غسل الدم والتطهير منه، فإنه على وجهين:
أحدهما: أن يكون يسيرا يعفى عنه مثل ما يروى عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أنه لا يرى بالقطرتين من الدم في الصلاة بأسا، وأنه يدخل أصابعه في أنفه فيخرج عليها الدم فيحته ثم يقوم فيصلي، ذكر ذلك عنه ابن أبي شيبة في مصنفه.
الثاني: أن يكون كثيرا لا يمكن التحرر منه، مثل ما رواه مالك في الموطأ عن المسور بن مخرمة، أن عمر بن الخطاب حين طعن، صلى وجرحه يثغب دما، فإن هذا لا يمكن التحرز منه إذا لو غسل لا ستمر يخرج، فلم يستفد شيئا، وكذلك ثوبه لو غيره بثوب آخر ـ إن كان له ثوب أخر ـ لتلوث الثوب الآخر فلم يستفد من تغييره شيئا، فإذا كان الوارد عن الصحابة لا يخرج عن هذين الوجهين، فإنه لا يمكن إثبات طهارة الدم بمثل ذلك، والذي يتبين من النصوص فيما نراه في طهارة الدم ونجاسته ما يلي:
أ-الدم السائل من حيوان مييته نجسة، فهذا نجس كما تدل عليه الآية(11/266)
الكريمة.
ب ـ دم الحيض، وهو نجس كما يدل عليه حديثا عائشة وأسماء ـ رضي الله عنهما ـ
جـ ـ الدم السائل من بني آدم، وظاهر النصوص وجوب تطهيره إلا ما يشق التحرز منه كدم الجرح المستمر، وإن كان يمكن أن يعارض هذا الظاهر بما أشرنا إليه عند الكلام على غسل جرح النبي، صلى الله عليه وسلم، وبأن أجزاء الآدمي إذا قطعت كانت طاهرة عند أكثر أهل العلم، فالدم من باب أولى، لكن الاحتياط التطهر منه لظاهر النصوص، واتقاء الشبهات التي من اتقاها استبرأ لدينه وعرضه.
دـ دم السمك وهو طاهر لأنه إذا كانت ميتته طاهرة كان ذلك دليلا على طهارته فإن تحريم الميتة من أجل بقاء الدم فيها بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل) . فجعل النبي صلى الله عليه وسلم سبب الحل أمرين:
أحدهما: إنهار الدم
الثاني: ذكر اسم الله تعالى.
الأول حسي، والثاني معنوي.
هـ ـدم الذباب والبعوض وشبهه لأن ميتته طاهرة كمل دل عليه حديث أبي هريرة في الأمر بغمسه إذا وقع في الشراب، ومن الشراب ما هو حار يموت به، وهذا دليل على طهارة دمه لما سبق من علة تحريم الميتة.
وـ الدم الباقي بعد خروج النفس من حيوان مذكى لأنه كسائر أجزاء البهيمة وأجزاؤها حلال طاهرة بالتذكية الشرعية، فكذلك الدم كدم القلب والكبد والطحال.(11/267)
هذا ما ظهر لنا، ونسأل الله تعالى أن يهدينا جميعا صراطه المستقيم.(11/268)
باب الحيض
213) سُئل فضيلة الشيخ ـ رفع الله درجته في المهديين ـ عن تحديد بعض الفقهاء أول الحيض بتسع سنين وتحديد آخره بخمسين سنة، هل عليه دليل؟
فأجاب فضيلته بقوله: تحديد أول الحيض بتسع سنين وآخره بخمسين سنة ليس عليه دليل؟
فأجاب فضيلته بقوله: تحديد أول الحيض بتسع سنين وآخره بخمسين سنة ليس عليه دليل، والصحيح أن المرأة متى رأت الدم المعروف عند النساء بأنه حيض فهو حيض، لعموم قوله الله تعالى: (وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً) (1) . فقد علق الله الحكم على وجود الحيض، ولم يحدد لذلك سناَ معيناً، فيجب الرجوع إلى ما علق عليه الحكم وهو الوجود، فمتى وجد الحيض ثبت حكمه، ومتى لم يوجد لم يثبت له حكم، فمتى رأت المرأة الحيض فهي حائض، وإن كانت دون التسع أو فوق الخمسين؛ لأن التحديد يحتاج إلى دليل ولا دليل على ذلك.
214) وسُئل فضيلة الشيخ: عن امرأة تجاوزت الخمسين يأتيها الدم على الصفة المعروفة، وأخرى تجاوزت الخمسين يأتيها الدم غير الصفة المعروفة، وإنما صفرة أو كدرة؟
فأجاب ـ حفظه الله تعالى ـ بقوله: التي يأتيها دم على صفته
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 222.(11/269)
المعروفة يكون دمها دم حيض صحيح على القول الراجح، إذ لا حد لأكثر سن الحيض وعلى هذا فيثبت لدمها أحكام دم الحيض المعروفة من اجتناب الصلاة والصيام ولزوم الغسل وقضاء الصوم ونحو ذلك.
وأما التي يأتيها صفرة وكدرة فالصفرة والكدرة إن كانت في زمن العادة فحيض، وإن كانت في غير زمن العادة فليست بحيض، وأما إن كان دمها دم الحيض المعروف لكن تقدم أو تأخر فهذا لا تأثير له، بل تجلس إذا أتاها الحيض وتغتسل إذا انقطع عنها. وهذا كله على القول الصحيح من أن سن الحيض لا حد له، أما على المذهب فلا حيض بعد خمسين سنة وإن كان دماً أسود عادياً، وعليه فتصوم وتصلي ولا تغتسل عند انقطاعه لكن هذا القول غير صحيح.
215) وسُئل الشيخ: عن الدم الذي يخرج من الحامل؟
فأجاب فضيلته بقوله: الحامل لا تحيض، كما قال الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ إنما تعرف النساء الحمل بانقطاع الحيض. والحيض ـ كما قال أهل العلم ـ خلقه الله تبارك وتعالى لحكمة غذاء الجنين في بطن أمه، فإذا نشأ الحمل انقطع الحيض، لكن بعض النساء قد يستمر بها الحيض على عادته كما كان قبل الحمل، فيكون هذا الحيض مانعاً لكل ما يمنعه حيض غير الحامل، فيكون هذا الحيض مانعاً لكل ما يمنعه حيض غير الحامل، فيكون هذا الحيض مانعاً لكل ما يمنعه حيض غير الحامل، وموجباً لما يوجبه، ومسقطاً لما يسقطه، والحاصل أن الدم الذي يخرج من الحامل على نوعين:
النوع الأول: نوع يحكم بأنه حيض، وهو الذي استمر بها كما كان قبل الحمل، لأن ذلك دليل على أن الحمل لم يؤثر عليه فيكون حيضاً.(11/270)
والنوع الثاني: دم طرأ على الحامل طروءاً، إما بسبب حادث، أو حمل شيء، أو سقوط من شيء ونحوه، فهذا ليس بحيض وإنما هو دم عرق، وعلى هذا فلا يمنعها من الصلاة ولا من الصيام فهي في حكم الطاهرات.
216) وسُئل: هل لأقل الحيض وأكثره حد معلوم بالأيام؟
فأجاب قائلاً: ليس لأقل الحيض ولا لأكثره حد بالأيام على الصحيح، لقول الله عز وجل: (وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) (1) . فلم يجعل الله غاية المنع أياماً معلومة، بل جعل غاية المنع هي الطهر، فدل هذا على أن علة الحكم هي الحيض وجوداً وعدماً، فمتى وجد الحيض ثبت الحكم، ومتى طهرت منه، زالت أحكامه، ثم إن التحديد لا دليل عليه، مع أن الضرورة داعية إلى بيانه، فلو كان التحديد بسن أو زمن ثابتاً شرعاً لكان مبيناً في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فبناء عليه، فكل ما رأته المرأة من الدم المعروف عند النساء بأنه حيض فهو دم حيض من غير تقدير ذلك بزمن معين، إلا أن يكون الدم مستمراً مع المرأة لا ينقطع أبداً، أو ينقطع مدة يسيرة كاليوم واليومين في الشهر، فإنه حينئذ يكون دم استحاضة.
217) وسُئل الشيخ: هل تجوز صلاة الحائض وإن صلت حياء؟
فأجاب ـ حفظه الله تعالى ـ قائلاً: صلاة الحائض لا تجوز، لقول
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 222.(11/271)
النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد ـ رضي الله عنه ـ (أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟) . والحديث ثابت في الصحيحين فهي لا تصلي، وتحرم عليها الصلاة ولا تصح منها، ولا يجب عليها قضاؤها، لقول عائشة ـ رضي الله عنها ـ كنا نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة. وصلاتها ـ حياء ـ حرام عليها، ولا يجوز لها أن تصلي وهي حائض، ولا أن تصلي وهي قد طهرت ولم تغتسل، فإن لم يكن لديها ماء فإنها تتيمم وتصلي حتى تجد الماء ثم تغتسل. والله الموفق.
218) وسُئل: عن امرأة صلت حياء وهي حائض فما حكم عملها هذا؟
فأجاب بقوله: لا يحل للمرأة إذا كانت حائضاً أو نفساءً أن تصلي، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في المرأة: (أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟) . وقد أجمع المسلمون على أنه لا يحل للحائض أن تصوم ولا يحل لها أن تصلي، وعلى هذه المرأة التي فعلت ذلك أن تتوب إلى الله وأن تستغفر مما وقع منها.
219) وسُئل الشيخ: عن امرأة تسببت في نزول دم الحيض منها بالعلاج، وتركت الصلاة فهل تقضيها أم لا؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا تقضي المرأة الصلاة إذا تسببت لنزول الحيض فنزل، لأن الحيض دم متى وجد وجد حكمه، كما أنها لو تناولت ما يمنع الحيض ولم ينزل الحيض، فإنها تصلي وتصوم ولا تقضي الصوم، لأنها ليست بحائض، فالحكم يدور مع علته، قال الله تعالى: (وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً) (1) . فمتى وجد هذا الأذى ثبت حكمه، ومتى لم يوجد لم يثبت حكمه.
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 222.(11/272)
220) وسُئل فضيلة الشيخ: هل يجوز للحائض أن تقرأ القرآن؟
فأجاب قائلاً: يجوز للحائض أن تقرأ القرآن للحاجة، مثل أن تكون معلمة، فتقرأ القرآن للتعليم، أو تكون طالبة فتقرأ القرآن للتعلم، أو تكون تعلم أولادها الصغار أو الكبار، فترد عليهم وتقرأ الآية قبلهم. المهم إذا دعت الحاجة إلى قراءة القرآن للمرأة الحائض، فإنه يجوز ولا حرج عليها، وكذلك لو كانت تخشى أن تنساه فصارت تقرؤه تذكراً، فإنه لا حرج عليها ولو كانت حائضاً، على أن بعض أهل العلم قال: إنه يجوز للمرأة الحائض أن تقرأ القرآن مطلقاً بلا حاجة.
وقال آخرون: إنه يحرم عليها أن تقرأ القرآن ولو كان لحاجة.
فالأقوال ثلاثة والذي ينبغي أن يقال هو: أنه إذا احتاجت إلى قراءة القرآن لتعليمه أو تعلمه أو خوف نسيانه، فإنه لا حرج عليها.
221) سُئل ـ حفظه الله تعالى ـ: هل يجوز للحائض حضور حلق الذكر في المساجد؟
فأجاب فضيلته قائلاً: المرأة الحائض لا يجوز لها أن تمكث في المسجد.
وأما مرورها بالمسجد فلا بأس به، بشرط أن تأمن تلويث المسجد مما يخرج منها من الدم، وإذا كان لا يجوز لها أن تبقى في المسجد، فإنه لا يحل لها أن تذهب لتستمع إلى حلق الذكر وقراءة القرآن، اللهم إلا أن يكون هناك موضع خارج المسجد يصل إليه الصوت بواسطة مكبر الصوت، فلا بأس أن تجلس فيه لاستماع الذكر، لأنه لا بأس أن تستمع المرأة إلى الذكر وقراءة القرآن كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتكئ(11/273)
في حجر عائشة، فيقرأ القرآن وهي حائض، وأما أن تذهب إلى المسجد لتمكث فيه للاستماع للذكر، أو القراءة، فإن ذلك لا يجوز، ولهذا لما أبلغ النبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع، أن صفية كانت حائضاً قال: (أحابستنا هي؟) ظن، صلى الله عليه وسلم، ـ أنها لم تطف طواف الإفاضة ـ فقالوا إنها قد أفاضت، وهذا يدل على أنه لا يجوز المكث في المسجد ولو للعبادة. عنه أنه أمر النساء أن يخرجن إلى مصلى العيد للصلاة والذكر، وأمر الحيض أن يعتزلن المصلى.
222) وسُئل فضيلة الشيخ: إذا طلب الزوج زوجته في آخر العادة الشهرية فهل توافق على ذلك؟
فأجاب بقوله: هذا السؤال يدل على أن المرأة عارفة أن المرأة إذا كانت عليها العادة الشهرية أنه لا يجوز لزوجها أن يجامعها وهذا أمر معلوم لقوله تعالى: (وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (1) . وقد أجمع العلماء على أنه يحرم على الزوج أن يجامع زوجته في حال الحيض ويجب على الزوجة أن تمنع زوجها من ذلك وأن تخالفه ولا توافقه في طلبه لأن ذلك محرم ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وأما الاستمتاع بالزوجة إذا كان عليها العذر في غير جماع فإنه لا بأس به، كما لو استمتع بها خارج الفرج، ولكن إن حصل إنزال وجب الغسل، وإن لم يحصل إنزال فلا غسل، وإذا أنزل الرجل دون المرأة وجب على الرجل ولم يجب على المرأة، وإذا أنزلت دون الرجل وجب عليها
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 222.(11/274)
الغسل دون الرجل، وإذا أنزل كل من المرأة والرجل وجب عليهما جميعاً لأن الغسل يجب إما بالإنزال بأي سبب يكون وإما بالجماع أي بالإيلاج في الفرج وإن لم يحصل إنزال، وهذه المسألة ـ أعني وجوب الغسل بالجماع إذا لم ينزل ـ هذه مسألة كثير من الناس يجهلها.
وبهذه المناسبة أقول: إن المرأة إذا كان عليها غسل من جنابة فإنه يجب عليها أن تغسل جميع بدنها وشعرها وما تحت الشعر ولا تترك شيئاً من ذلك لأن الله تعالى يقول: (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) (1) . ولم يخص شيئاً من البدن دون شيء، فيجب على المرأة أن تغسل جميع بدنها، وإذا كان على الإنسان لزقة على جرح أو على فتق في الأضلاع أو غيرها فإنه يمسحه بالماء ويكفي ذلك عن غسله ولا يحتاج إلى التيمم لأن مسحه يقوم مقام غسله في هذه الحال.
223) وسُئل فضيلته عن امرأة أصابها الدم لمدة تسعة أيام فتركت الصلاة معتقدة أنها العادة، وبعد أيام قليلة جاءتها العادة الحقيقية فماذا تصنع هل تصلي الأيام التي تركتها أم ماذا؟
فأجاب بقوله: الأفضل أن تصلي ما تركته في الأيام الأولى، وإن
__________
(1) سورة المائدة، الآية: 6.(11/275)
لم تفعل فلا حرج وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر المرأة المستحاضة التي قالت إنها تستحاض حيضة شديدة وتدع فيها الصلاة فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم، أن تتحيض ستة أيام أو سبعة وأن تصلي بقية الشهر ولم يأمرها بإعادة ما تركته من الصلاة، وإن أعادت ما تركته من الصلاة فهو حسن لأنه قد يكون منها تفريط في عدم السؤال وإن لم تعد فليس عليها شيء.
225) وسُئل فضيلة الشيخ: إذا حاضت المرأة بعد دخول وقت الصلاة فما الحكم؟ وهل تقضي الصلاة عن وقت الحيض؟
فأجاب بقوله: إذا حدث الحيض بعد دخول وقت الصلاة كأن حاضت بعد الزوال بنصف ساعة مثلاً فإنها بعد أن تتطهر من الحيض تقضي هذه الصلاة التي دخل وقتها وهي طاهرة لقوله تعالى: (إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً) (1) .
ولا تقضي الصلاة عن وقت الحيض لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الطويل: (أليست إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟) . وأجمع أهل العلم على أنها لا تقضي الصلاة التي فاتتها أثناء مدة الحيض.
أما إذا طهرت وكان باقياً من الوقت مقدار ركعة فأكثر فإنها تصلي ذلك الوقت الذي طهرت فيه لقوله صلى الله عليه وسلم: (من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر) . فإذا طهرت وقت العصر أو قبل طلوع الشمس وكان باقياً على غروب الشمس أو طلوعها مقدار ركعة فإنها تصلي العصر في المسألة الأولى والفجر في المسألة الثانية.
__________
(1) سورة النساء، الآية: 103.(11/276)
226) وسُئل فضيلته: عن امرأة أجرت عملية وبعد العملية وقبل العادة بأربعة أو خمسة أيام رأت دماً أسوداً غير دم العادة وبعدها مباشرة جاءتها العادة مدة سبعة أيام فهل هذه الأيام التي قبل العادة تحسب منها؟
فأجاب بقوله: المرجع في هذا إلى الأطباء لأن الظاهر أن الدم الذي حصل لهذه المرأة كان نتيجة العملية، والدم الذي يكون نتيجة العملية ليس حكمه حكم الحيض لقول النبي صلى الله عليه وسلم في المرأة المستحاضة: (إن ذلك دم عرق) . وفي هذا إشارة إلى أن الدم الذي يخرج إذا كان دم عرق ومنه دم العملية فإن ذلك لا يعتبر حيضاً فلا يحرم به ما يحرم بالحيض وتجب فيه الصلاة والصيام إذا كان في نهار رمضان.
227) وسُئل: عن امرأة كانت عادة حيضها ستة أيام، ثم زادت أيام عادتها؟
فأجاب قائلاً: إذا كانت عادة هذه المرأة ستة أيام ثم طالت هذه المدة وصارت تسعة أو عشرة أو أحد عشر يوماً، فإنها تبقى لا تصلي حتى تطهر، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحد حداً معيناً في الحيض، وقد قال الله تعالى: (وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً) (1) . فمتى كان هذا الدم باقياً، فإن المرأة على حالها حتى تطهر وتغتسل ثم تصلي، فإذا كان جاءها في الشهر الثاني ناقصاً عن ذلك فإنها تغتسل إذا طهرت وإن لم يكن على المدة السابقة، والمهم أن المرأة متى كان الحيض معها موجوداً فإنها لا تصلي، سواء كان الحيض موافقاً للعادة السابقة أو زائداً عنها أو ناقصاً، وإذا طهرت تصلي.
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 222(11/277)
228) وسُئل: عن امرأة كانت تحيض في أول الشهر ثم رأت الحيض في آخر الشهر، فما الحكم؟
فأجاب بقوله: إذا تأخرت عادة المرأة عن وقتها، مثل أن تكون عادتها في أول الشهر فترى الحيض في آخره، فالصواب أنها متى رأت الدم فهي حائض، ومتى طهرت منه فهي طاهر، لما تقدم آنفاً؟
229) وسُئل: عن امرأة كانت تحيض في آخر الشهر ثم رأت الحيض في أول الشهر، فما الحكم؟
فأجاب قائلاً: إذا تقدمت عادة المرأة عن وقتها، مثل أن تكون عادتها في آخر الشهر فترى الحيض في أوله، فهي حائض كما تقدم.
230) وسُئل الشيخ: عن المرأة إذا أتتها العادة الشهرية ثم طهرت واغتسلت وبعد أن صلت تسعة أيام أتاها دم وجلست ثلاثة أيام لم تصل ثم طهرت وصلت أحد عشر يوماً وعادت إليها العادة الشهرية المعتادة فهل تعيد ما صلته في تلك الأيام الثلاثة أم تعتبرها من الحيض؟
فأجاب بقوله: الحيض متى جاء فهو حيض سواء طالت المدة بينه وبين الحيضة السابقة أم قصرت فإذا حاضت وطهرت وبعد خمسة أيام أو ستة أو عشرة جاءتها العادة مرة ثانية فإنها تجلس لا تصلي لأنه حيض وهكذا أبداً، كلما طهرت ثم جاء الحيض وجب عليها أن تجلس، أما إذا استمر عليها الدم دائماً أو كان لا ينقطع إلا يسيراً فإنها تكون مستحاضة وحينئذ لا تجلس إلا مدة عادتها فقط.(11/278)
231) وسُئل الشيخ: عن امرأة كانت تحيض ستة أيام في أول كل شهر ثم استمر الدم معها، فما الحكم؟
فأجاب ـ حفظه الله تعالى ـ بقوله: هذه المرأة التي كان يأتيها الحيض ستة أيام من أول كل شهر، ثم طرأ عليها الدم فصار يأتيها باستمرار، عليها أن تجلس مدة حيضها المعلوم السابق، فتجلس ستة أيام من أول كل شهر ويثبت لها أحكام الحيض، وما عداها استحاضة، فتغتسل وتصلي ولا تبالي بالدم حينئذ، لحديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن فاطمة بنت أبي حبيش قالت: يا رسول الله إني أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ قال: (لا إن ذلك عرق، ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها، ثم اغتسلي وصلي) . رواه البخاري، وعند مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال لأم حبيبة بنت جحش: (امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك، ثم اغتسلي وصلي) .
232) سُئل الشيخ: عن امرأة عادتها عشرة أيام، وفي شهر رمضان جلست العادة أربعة عشر يوماً وهي لم تطهر وبدأ يخرج منها دم لونه أسود أو أصفر ومكثت على هذه الحالة ثمانية أيام وهي تصوم وتصلي في هذه الأيام الثمانية فهل صلاتها وصيامها في هذه الأيام الثمانية صحيح؟ وماذا يجب عليها؟
فأجاب بقوله: الحيض أمره معلوم عند النساء وهن أعلم به من الرجال، فإذا كانت هذه المرأة التي زاد حيضها عن عادتها إذا كانت تعرف أن هذا هو دم الحيض المعروف المعهود فإنه يجب عليها أن تجلس وتبقى فلا تصلي ولا تصوم، إلا إذا زاد على أكثر الشهر فيكون استحاضة(11/279)
ولا تجلس بعد ذلك إلا مقدار عادتها.
وبناءً على هذه القاعدة نقول لهذه المرأة إن الأيام التي صامتها بعد أن طهرت ثم رأت هذا الدم المتنكر الذي تعرف أنه ليس دم حيض وإنما هو صفرة أو كدرة أو سواد أحياناً فإن هذا لا يعتبر من الحيض وصيامها فيه صحيح مجزئ وكذلك صلاتها غير محرمة عليها.
233) سُئل: عن حكم السائل الأصفر الذي ينزل من المرأة قل الحيض بيومين؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان هذا السائل أصفر قبل أن يأتي الحيض فإنه ليس بشيء لقول أم عطية: (كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الطهر شيئاً) . فإذا كانت هذه الصفرة قبل الحيض ثم تنفصل بالحيض فإنها ليست بشيء، أما إذا علمت المرأة أن هذه الصفرة هي مقدمة الحيض فإنها تجلس حتى تطهر.
234) وسُئل الشيخ ـ حفظه الله تعالى ـ: عن امرأة رأت الكدرة قبل حيضها المعتاد، فتركت الصلاة، ثم نزل الدم على عادته، فما الحكم؟
فأجاب بقوله: تقول أم عطية ـ رضي الله عنها ـ: (كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الطهر شيئاً) . وعلى هذا فهذه الكدرة التي سبقت الحيض لا يظهر لي أنها حيض، لا سيما إذا كانت أتت قبل العادة، ولم يكن علامات للحيض من المغص ووجع الظهر ونحو ذلك، فالأولى لها أن تعيد الصلاة التي تركتها في هذه المدة.(11/280)
235) سُئل الشيخ: عن حكم الصفرة والكدرة التي تكون بعد الطهر؟
فأجاب بقوله: مشاكل النساء في الحيض بحر لا ساحل له، ومن أسبابه استعمال هذه الحبوب المانعة للحمل والمانعة للحيض، وما كان الناس يعرفون مثل هذه الإشكالات الكثيرة من قبل، صحيح أن الإشكال ما زال موجوداً منذ وجد النساء، لكن كثرته على هذا الوجه الذي يقف الإنسان حيران في حل مشاكله أمر يؤسف له، ولكن القاعدة العامة: أن المرأة إذا طهرت ورأت الطهر المتيقن في الحيض، وأعني الطهر في الحيض خروج القصة البيضاء، وهو ماء أبيض تعرفه النساء، فما بعد الطهر من كدرة أو صفرة أو نقطة أو رطوبة فهذا كله ليس بحيض، فلا يمنع من الصلاة، ولا يمنع من الصيام، ولا يمنع من جماع الرجل لزوجته، لأنه ليس بحيض. قالت أم عطية: (كنا لا نعد الصفرة والكدرة شيئاً) . أخرجه البخاري وزاد أو داود (بعد الطهر) ، وسنده صحيح.
وعلى هذا نقول: كل ما حدث بعد الطهر المتيقن من هذه الأشياء فإنها لا تضر المرأة، ولا تمنعها من صلاتها وصيامها وجماع زوجها إياها، ولكن يجب أن لا تتعجل حتى ترى الطهر، لأن بعض النساء إذا خف الدم عنها بادرت واغتسلت قبل أن ترى الطهر، ولهذا كان نساء الصحابة يبعثن إلى أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ بالكرسف ـ يعني القطن ـ فيه الدم فتقول لهن لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء.(11/281)
236) وسُئل فضيلة الشيخ: ما حكم الصفرة التي تأتي المرأة بعد الطهر؟
فأجاب قائلاً: القاعدة العامة في هذا وأمثاله، أن الصفرة والكدرة بعد الطهر ليست بشيء، لقول أم عطية ـ رضي الله عنها ـ (كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الطهر شيئاً) ، كما أن القاعدة العامة أيضاً أن لا تتعجل المرأة إذا رأت توقف الدم حتى ترى القصة البيضاء، كما قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ للنساء وهن يأتين إليها بالكرسف ـ يعني القطن ـ (لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء) .
وبهذه المناسبة: أحذر النساء تحذيراً بالغاً من استعمال الحبوب المانعة من الحيض، لأن هذه الحبوب ـ كما تقرر عندي من أطباء سألتهم ـ في المنطقة الشرقية والغربية وهم من السعوديين والحمد لله، وكذلك أطباء من الإخوة المنتدبين إلى هذه المملكة في المنطقة الوسطى ـ وكلهم مجمعون على أن هذه الحبوب ضارة، ومن أعظم ما يكون فيها من المضرة أنها سبب لتقرح الرحم، وأنها سبب لتغير الدم واضطرابه، وهذا مشاهد وما أكثر الإشكالات التي ترد على النساء من أجلها، وأنها سبب لتشوه الأجنة في المستقبل، وإذا كانت الأنثى لم تتزوج فإنه يكون سبباً في وجود العقم أي أنها لا تلد، وهذه مضرات عظيمة، ثم إن الإنسان بعقله ـ وإن لم يكن طبيباً ـ وإن لم يعرف الطب، يعرف أن منع هذا الأمر الطبيعي الذي جعل الله له أوقاتاً معينة، يعرف أن منعه ضرر كما لو حاول الإنسان أن يمنع البول أو الغائط، فإنه هذا ضرر بلا شك، كذلك هذا الدم الطبيعي الذي كتبه الله على بنات آدم، لا شك أن محاولة منعه من الخروج في وقته ضرر على الأنثى، وأنا أحذر نساءنا(11/282)
من تداول هذه الحبوب، وكذلك أحب من الرجال أن ينتبهوا لهذا ويمنعوهن. والله الموفق.
237) وسُئل فضيلته: عن حكم استعمال حبوب منع الحيض؟
فأجاب بقوله: استعمال المرأة حبوب منع الحيض إذا لم يكن عليها ضرر من الناحية الصحية، فإنه لا بأس به، بشرط أن يأذن الزوج بذلك، ولكن حسب ما علمته أن هذه الحبوب تضر المرأة، ومن المعلوم أن خروج دم الحيض خروج طبيعي، والشيء الطبيعي إذا مُنع في وقته، فإنه لا بد أن يحصل من منعه ضرر على الجسم، وكذلك أيضاً من المحذور في هذه الحبوب أنها تخلط على المرأة عادتها، فتختلف عليها، وحينئذ تبقى في قلق وشك من صلاتها ومن مباشرة زوجها وغير ذلك، لهذا أن لا أقول إنها حرام ولكني لا أحب للمرأة أن تستعملها خوفاً من الضرر عليها.
وأقول: ينبغي للمرأة أن ترضى بما قدر الله لها، فالنبي صلى الله عليه وسلم، دخل عام حجة الوداع على أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ وهي تبكي وكانت قد أحرمت بالعمرة فقال: (مالك لعلك نفست؟) . قالت: نعم. قال: (هذا شيء كتبه الله على بنات آدم) . فالذي ينبقي للمرأة أن تصبر وتحتسب، وإذا تعذر عليها الصوم والصلاة من أجل الحيض، فإن باب الذكر مفتوح ولله الحمد، تذكر الله وتسبح الله سبحانه وتعالى، وتتصدق وتحسن إلى الناس بالقول والفعل، وهذا أفضل الأعمال.(11/283)
238) وسُئل فضيلة الشيخ: ما حكم السوائل التي تنزل من بعض النساء، وهل هي نجسة؟ وهل تنقض الوضوء؟
فأجاب ـ جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيراً ـ بقوله: هذه الأشياء التي تخرج من فرج المرأة لغير شهوة لا توجب الغسل، ولكن ما خرج من مخرج الولد فإن العلماء اختلفوا في نجاسته:
فقال بعض العلماء: إن رطوبة فرج المرأة نجسة ويجب أن تتطهر منها طهارتها من النجاسة.
وقال بعض العلماء: إن رطوبة فرج المرأة طاهرة، ولكنها تنقض الوضوء إذا خرجت، وهذا القول هو الراجح، ولهذا لا يغسل الذكر بعد الجماع غسل نجاسة.
أما ما يخرج من مخرج البول فإنه يكون نجساً لأن له حكم البول والله عز وجل قد جعل في المرأة مسلكين: مسلكاً يخرج منه البول، ومسكاً يخرج منه الولد، فالإفرازات التي تخرج من المسلك الذي يخرج منه الولد، إنما هي إفرازات طبيعية وسوائل يخلقها الله عز وجل في هذا المكان لحكمه، وأما الذي يخرج من ما يخرج منه البول، فهذا يخرج من المثانة في الغالب، ويكون نجساً والكل منها ينقض الوضوء، لأنه لا يلزم من الناقض أن يكون نجساً؛ فها هي الريح تخرج من الإنسان وهي طاهرة لأن الشارع لم يوجب منها استنجاء، ومع ذلك تنقض الوضوء.
239) وسُئل الشيخ: هل السائل الذي ينزل من المرأة طاهر أو نجس؟ وهل ينقض الوضوء؟ فبعض النساء يعتقدن أنه لا ينقض الوضوء.
فأجاب قائلاً: الظاهر لي بعد البحث أن السائل الخارج من المرأة(11/284)
إذا كان لا يخرج من المثانة وإنما يخرج من الرحم فهو طاهر، ولكنه ينقض الوضوء وغن كان طاهراً، لأنه لا يشترط للناقض للوضوء أن يكون نجساً، فها هي الريح تخرج من الدبر وليس لها جرم، ومع ذلك تنقض الوضوء، وعلى هذا إذا خرج من المرأة وهي على وضوء، فإنه ينقض الوضوء وعليها تجديده، فإن كان مستمراً، فإنه لا ينقض الوضوء، ولكن لا تتوضأ للصلاة إلا إذا دخل وقتها وتصلي في هذا الوقت الذي تتوضأ فيه فروضاً ونوافل وتقرأ القرآن وتفعل ما شاءت مما يباح لها، كما قال أهل العلم نحو هذا فيمن به سلس البول.
هذا هو حكم السائل من جهة الطهارة فهو طاهر، لا ينجس الثياب ولا البدن.
وأما حكمه من جهة الوضوء، فهو ناقض للوضوء، إلا أن يكون مستمراً عليها، فإن كان مستمراً فإنه ينقض الوضوء، لكن على المرأة أن لا تتوضأ للصلاة إلا بعد دخول الوقت وأن تتحفظ.
أما إن كان متقطعاً وكان من عادته أن ينقطع في أوقات الصلاة، فإنها تؤخر الصلاة إلى الوقت الذي ينقطع فيه ما لم تخش الوقت، فإن خشيت خروج الوقت، فإنها تتوضأ وتتلجم (تتحفظ) وتصلي. ولا فرق بين القليل والكثير، لأنه كله خارج من السبيل فيكون ناقضاً قليله وكثيره.
وأما اعتقاد بعض النساء أنه لا ينقض الوضوء، فهذا لا أعلم له أصلاً إلا قولاً لابن حزم ـ رحمه الله ـ فإنه يقول: إن هذا لا ينقض الوضوء، ولكنه لم يذكر لهذا دليلاً، ولو كان له دليل من الكتاب والسنة أو أقوال الصحابة لكان حجة، وعلى المرأة أن تتقي الله وتحرص على طهارتها، فإن الصلاة لا تقبل بغير طهارة ولو صلت مئة مرة، بل إن(11/285)
بعض العلماء يقول: إن الذي يصلي بلا طهارة يكفر لأن هذا من باب الاستهزاء بآيات الله سبحانه وتعالى.
240) وسُئل: إذا توضأت المرأة التي ينزل منها السائل مستمراً لصلاة فرض، هل يجوز لها أن تصلي النوافل وقراءة القرآن بذلك الوضوء؟
فأجاب بقوله: إذا توضأت لصلاة الفريضة من أول الوقت، فلها أن تصلي ما شاءت من فروض ونوافل وقراءة قرآن إلى أن يدخل وقت الصلاة الأخرى.
241) سُئل فضيلة الشيخ: هل يجوز لتلك المرأة أن تصلي صلاة الضحى بوضوء الفجر؟
فأجاب بقوله: لا يصح ذلك، لأن صلاة الضحى مؤقتة، فلابد من الوضوء لها بعد دخول وقتها، لأن هذه المرأة كالمستحاضة، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم، المستحاضة أن تتوضأ لكل صلاة، ووقت الظهر من زوال الشمس إلى وقت العصر، ووقت العصر من خروج وقت الظهر إلى اصفرار الشمس، والضرورة إلى غروب الشمس، ووقت المغرب من غروب الشمس إلى مغيب الشفق الأحمر، ووقت العشاء من مغيب الشفق الأحمر إلى نصف الليل، ووقت الفجر من طلوع الفجر الثاني إلى طلوع الشمس.
242) وسُئل: هلي يجوز لتلك المرأة أن تصلي قيام الليل إذا انقضى نصف الليل بوضوء العشاء؟
فأجاب قائلاً: هذه المسألة محل خلاف، فذهب بعض أهل العلم(11/286)
إلى أنه إذا انقضى نصف الليل، وجب عليها أن تجدد الوضوء.
وقيل: لا يلزمها أن تجدد الوضوء وهو الراجح.
243) وسُئل: إذا توضأت من ينزل منها ذلك السائل متقطعاً، وبعد الوضوء وقبل الصلاة نزل مرة أخرى فما العمل؟
فأجاب بقوله: إذا كان متقطعاً فلتنتظر حتى يأت الوقت الذي ينقطع فيه، أما إذا كان ليس له حال بينه، حيناً ينزل وحيناً لا، فهي تتوضأ بعد دخول الوقت وتصلي ولا شيء عليها ولو خرج حين الصلاة.
244) وسُئل: إذا أصاب بدنها أو لباسها شيء من ذلك السائل، فما الحكم؟
فأجاب بقوله: إذا كان طاهراً فإنه لا يلزمها شيء، وإذا كان نجساً، وهو الذي يخرج من المثانة، فإنه يجب عليها أن تغسله.
245) وسُئل حفظه الله: إذا كانت المرأة لا تتوضأ من ذلك السائل لجهلها بالحكم فماذا عليها؟
فأجب بقوله: عليها أن تتوب إلى الله عز جل ثم إن كانت في مكان ليس عندها من تسأله كامرأة ناشئة في البادية ولم يطرأ على بالها أن ذلك ناقض للوضوء فلا شيء عليها، وإن كانت في مكان فيه علماء فتهاونت وفرطت في السؤال فعليها قضاء الصلوات التي تركتها.
246) سُئل الشيخ: عمن ينسب إليه القول بعدم نقض الوضوء من ذلك السائل؟
فأجاب ـ جزاه الله خيراً ـ الذي ينسب عني هذا القول غير صادق، والظاهر أنه فهم من قوله أنه طاهر أنه لا ينقض الوضوء.(11/287)
247) وسُئل: ما حكم غسل الحائض رأسها أثناء الحيض؟ فبعض الناس يقولون إنه لا يجوز؟
فأجاب قائلاً: غسل الحائض رأسها أثناء الحيض لا بأس به.
وأما قولهم لا يجوز فلا صحة له، بل لها أن تغسل رأسها وجسدها.
248) سُئل فضيلة الشيخ: عن حكم التزين بالحناء؟ وفعل ذلك والمرأة حائض؟
فأجاب فضيلته بقوله: التزين بالحناء لا بأس به لا سيما للمرأة المتزوجة التي تتزين به لزوجها، وأما غير المتزوجة فالصحيح أنه مباح إلا أنها لا تبديه للناس لأنه من الزينة.
وفعل ذلك في وقت الحيض لا بأس به، وقد كثر السؤال عنه من النساء هل يجوز للمرأة أن تحني رأسها أو يديها أو رجليها وهي حائض؟
والجواب على ذلك: أن هذا لا بأس به والحناء كما نعلم يعقبه أثر تلوين بالنسبة لموضعه واللون هنا لا يمنع من وصول الماء إلى البشرة كما يتوهم، فإذا غسلته المرأة أول مرة زال جرمه وبقيت آثاره الملونة وهذا لا بأس به.
249) سُئل الشيخ: هل يجوز وضع الحناء في يديها ورأسها وهي حائض؟ وهل صحيح أنها إذا ماتت لا تدفن ويدها بيضاء؟
فأجاب بقوله: أما المرأة الحائض فيجوز لها أن تتحنى في يديها ورأسها ورجليها ولا حرج عليها في ذلك.
وأما ما ذكر أن المرأة إذا ماتت ولي سفي يديها حناء ويداها بيضاوان(11/288)
لا تدفن فهذا ليس بصواب ولا أصل له، فالمرأة إذا ماتت فهي كغيرها إذا كانت من المسلمين تدفن مع المسمنين وإذا كانت من غير المسلمين تدفن مع غير المسلمين، سواء كانت متحنية أم لا.
250) سُئل فضيلة الشيخ: عن النفساء إذا اتصل الدم معها بعد الأربعين فهل تصلي وتصوم؟
فأجاب ـ حفظه الله تعالى ـ قائلاً: المرأة النفساء إذا بقي الدم معها فوق الأربعين، وهو لم يتغير، فإن صادف ما زاد على الأربعين عادة حيضها السابقة جلسته، وإن لم يصادف عادة حيضها السابقة فقد اختلف العلماء في ذلك:
فمنهم من قال: تغتسل وتصلي وتصوم ولو كان الدم يجري عليها، لأنها تكون حينئذ كالمستحاضة.
ومنهم من قال: إنها تبقى حتى تتم ستين يوماً، لأنه وجد من النساء من تبقى في النفاس ستين يوماً، وهذا أمر واقع، فإن بعض النساء كانت عادتها في النفاس ستين يوماً، وبناء على ذلك فإنها تنتظر حتى تتم ستين يوماً، ثم بعد ذلك ترجع إلى الحيض المعتاد فتجلس وقت عادتها ثم تغتسل وتصلي، لأنها حينئذ مستحاضة.
251) وسُئل فضيلة الشيخ: عن امرأة انقطع عنها دم النفاس قبل تمام الأربعين بخمسة أيام، فصلت وصامت، ثم بعد الأربعين عاد الدم فما الحكم؟
فأجاب فضيلته قائلاً: إذا طهرت النفساء قبل تمام الأربعين، فإنه يجب عليها أن تصلي، ويجب عليها أن تصوم إذا كان ذلك في رمضان، ويجوز لزوجها أن يجامعها وإن لم تتم الأربعين، وهذه المرأة التي طهرت(11/289)
لخمسة وثلاثين يوماً يجب عليها أن تصوم وأن تصلي، وما صامته أو صلته فإنه واقع موقعه، فإذا عاد عليها الدم بعد الأربعين، فهو حيض، إلا أن يستمر عليها أكثر الوقت فإنها تجلس عادتها فقط، ثم تغتسل وتصلي.
252 252) وسُئل فضيلة الشيخ: إذا طهرت النفساء قبل تمام الأربعين فهل يجامعها زوجها؟ وإذا عاودها الدم بعد الأربعين. فما الحكم؟
فأجاب ـ حفظه الله تعالى ـ بقوله: النفساء لا يجوز لزوجها أن يجامعها، فإذا طهرت في أثناء الأربعين، فإنه يجب عليها أن تصلي، وصلاتها صحيحة، ويجوز لزوجها أن يجامعها في هذه الحال، لأن الله تعالى يقول في المحيض: (وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ) (1) . فما دام الأذى موجوداً وهو الدم، فإنه لا يجوز الجماع، فإذا طهرت منه جاز الجماع، وكما أنه يجب عليها أن تصلي، ولها أن تفعل كل ما يمتنع عليها في النفاس إذا طهرت في أثناء الأربعين، فكذلك الجماع يجوز لزوجها، إلا أنه ينبغي أن يصبر لئلا يعود عليها الدم بسبب الجماع، حتى تتم الأربعين، ولكن لو جامعها قبل ذلك فلا حرج عليها. وإذا رأت الدم بعد الأربعين وبعد أن طهرت، فإنه يعتبر دم حيض، وليس دم نفاس، ودم الحيض معلوم للنساء فمتى أحست به فهو دم حيض، فإن استمر معها وصار لا ينقطع عنها إلا يسيراً من الدهر، فإنها تكون مستحاضة، وحينئذ ترجع إلى عادتها في الحيض، فتجلس وما زاد عن العادة فإنها تغتسل وتصلي. والله أعلم.
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 222(11/290)
253) وسُئل ـ حفظه الله تعالى ـ: عن المرأة ترى دم النفاس لمدة أسبوعين ثم يتحول تدريجياً إلى مادة مخاطية مائلة إلى الصفرة ويستمر كذلك حتى نهاية الأربعين، فهل ينطبق على هذه المادة التي تلت الدم حكم النفاس أم لا؟
فأجاب بقوله: هذه الصفرة أو السائل المخاطي ما دام لم تظهر فيه الطهارة الواضحة البينة فإنه تابع لحكم الدم فلا تكون طاهراً حتى تتخلص من هذا، وإذا طهرت وأرت النقاء البين وجب عليها أن تغتسل وتصلي حتى ولو كان ذلك قبل الأربعين، وأما ما يظنه بعض النساء من أن المرأة تبقى إلى الأربعين ولو طهرت قبل ذلك فهذا ظن خطأ وليس بصواب، بل متى طهرت ولو لعشرة أيام وجب عليها الصلاة وجاز لها ما يجوز للنساء الطاهرات حتى الجماع.
254) وسُئل: عن المرأة إذا أسقطت في الشهر الثالث فهل تصلي أو تترك الصلاة؟
فأجاب فضيلته بقوله: المعروف عند أهل العلم أن المرأة إذا أسقطت لثلاثة أشهر فإنها لا تصلي لأن المرأة إذا أسقطت جنيناً قد تبين فيه خلق إنسان فإن الدم الذي يخرج منها يكن دم نفاس لا تصلي فيه.
قال العلماء: ويمكن أن يتبين خلق الجنين إذا تم له واحد وثمانون يوماً وهذه أقل من ثلاثة أشهر، فإذا تيقنت أنه سقط الدنين لثلاثة أشهر فإن الذي أصابها يكون دم حيض، أما إذا كان قبل الثمانين يوماً فإن هذا الدم الذي أصابها يكون دم فساد لا تترك الصلاة من أجله وهذه السائلة عليها أن تتذكر في نفسها فإذا كان الجنين سقط قبل الثمانين يوماً فإنها(11/291)
تقضي الصلاة وإذا كانت لا تدري كم تركت فإنها تقدر وتتحرى وتقضي على ما يغلب عليها ظنها أنها لم تصله.
255) وسُئل: عن حكم الدم الذي يخرج بعد سقوط الجنين؟
فأجاب قائلاً: إذا نزل الجنين فنزل الدم بعده، فإن كان هذا الجنين قد تبين فيه خلق الإنسان، فتبين يداه ورجلاه وبقية أعضائه، فالدم دم نفاس لا تصلي المرأة ولا تصوم حتى تطهر منه، وإن لم يتبين فيه خلق إنسان فليس الدم دم نفاس فتصلي وتصوم إلا في الأيام التي توافق عادتها الشهرية، فإنها تجلس لا تصلي ولا تصوم حتى تنتهي أيام العادة.
256) وسُئل فضيلة الشيخ: عن حكم الدم الذي يخرج من المرأة بعد سقوط جنينها؟
فأجاب قائلاً: قال أهل العلم: إن خرج وقد تبين فيه خلق إنسان، فإن دمها بعد خروجه يعد نفاساً، تترك فيه الصلاة والصوم ويتجنبها زوجها تطهر.
وإن خرج الجنين وهو غير مخلق، فإنه لا يعتبر دم نفاس بل هو دم فساد لا يمنعها من الصلاة ولا من الصيام ولا من غيرهما.
قال أهل العلم: وأقل زمن يتبين فيه التخطيط واحد وثمانون يوماً، لأن الجنين في بطن أمه ـ كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ـ حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ـ وهو الصادق المصدوق ـ فقال: (إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه الملك ويؤمر بأربع كلمات، فيكتب رزقه وأجله(11/292)
وعمله وشقي أم سعيد) وعلى هذا فإذا وضعت الجنين لأقل من ثمانين يوماً، فإن الدم الذي أصابها لا يكون نفاساً، لأن هذه المدة لا يخلق فيها الجنين، فتصوم وتصلي وتفعل ما تفعله الطاهرات. والله الموفق.
257) سُئل فضيلة الشيخ: عمن أصابها نزيف دم كيف تصلي ومتى تصوم؟
فأجاب ـ حفظه الله تعالى ـ قائلاً: مثل هذه المرأة التي أصابها نزيف الدم، حكمها أن تجلس عن الصلاة والصوم مدة عادتها السابقة قبل الحدث الذي أصابها، فإذا كان من عادتها أن الحيض يأتيها من أول كل شهر لمدة ستة أيام مثلاً، فإنها تجلس من أول كل شهر مدة ستة أيام لا تصلي ولا تصوم، فإذا انقضت اغتسلت وصلت وصامت.
وكيفية الصلاة لهذه المرأة وأمثالها أنها تغسل فرجها غسلاً تاماً وتعصبه وتتوضأ وتفعل ذلك عند دخول وقت صلاة الفريضة لا تفعله قبل دخول الوقت، تفعله بعد دخول الوقت، ثم تصلي، وكذلك تفعله إذا أرادت أن تتنفل في غير أوقات الفرائض، وفي هذه الحال ومن أجل المشقة عليها، يجوز لها أن تجمع صلاة الظهر مع العصر (أو العكس) وصلاة المغرب مع العشاء (أو العكس) حتى يكون عملها هذا واحداً للصلاتين صلاة الظهر والعصر، وواحداً للصلاتين المغرب والعشاء، وواحداً لصلاة الفجر بدلاً من أن تعمل ذلك خمس مرات تعمله ثلاث مرات. والله الموفق.(11/293)
رسالة في الدماء الطبيعية للنساء
قال فضيلة الشيخ جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيراً:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً.
أما بعد: فإن الدماء التي تصيب المرأة وهي الحيض، والاستحاضة، والنفاس، من الأمور المهمة التي تدعو الحاجة إلى بيانها ومعرفة أحكامها، وتمييز الخطأ من الصواب من أقوال أهل العلم فيها، وأن يكون الاعتماد فيها يرجح من ذلك أو يضعف على ضوء ما جاء في الكتاب والسنة:
1ـ لأنهما المصدران الأساسيان اللذان تبنى عليهما أحكام الله تعالى التي تعبد بها عبادة وكلفهم بها.
2ـ في الاعتماد على الكتاب والسنة طمأنينة القلب وانشراح الصدر وطيب النفس وبراءة الذمة.
3ـ ما عداهما فإنما يحتج له ولا يحتج به.
إذ لا حجة في كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وكذلك كلام أهل العلم من الصحابة على القول الراجح، بشرط ألا يكون في الكتاب(11/295)
والسنة ما يخالفه، وأن لا يعارضه قول صحابي آخر، فإن كان في الكتاب والسنة ما يخالفه وجب الأخذ بما في الكتاب والسنة، وإن عارضه قول صحابي آخر طلب الترجيح بين القولين، وأخذ بالراجح منهما، لقوله تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (1) .
وهذه رسالة موجزة فيما تدعو الحاجة إليه من بيان هذه الدماء وأحكامها، وتشتمل على الفصول الآتية:
الفصل الأول: في معنى الحيض وحكمته.
الفصل الثاني: في زمن الحيض ومدته.
الفصل الثالث: في الطوارئ على الحيض.
الفصل الرابع: في أحكام الحيض.
الفصل الخامس: في الاستحاضة وأحكامها.
الفصل السادس: في النفاس وأحكامه.
الفصل السابع: في استعمال ما يمنع الحيض أو يجلبه، وما يمنع الحمل أو يسقطه.
__________
(1) سورة النساء، الآية 59(11/296)
الفصل الأول
في معنى الحيض وحكمته
الحيض لغة: سيلان الشيء وجريانه.
وفي الشرع دم يحدث للأنثى بمقتضى الطبيعة، بدون سبب، في أوقات معلومة.
فهو دم طبيعي ليس له سبب من مرض أو جرح أو سقوط أو ولادة. وبما أنه دم طبيعي فإنه يختلف بحسب حال الأنثى وبيئتها وجوها، ولذلك تختلف فيها النساء اختلافاً متبايناً ظاهراً.
والحكمة فيه أنه لما كان الجنين في بطن أمه لا يمكن أن يتغذى بما يتغذى به من كان خارج البطن، ولا يمكن لأرحم الخلق به أن يوصل إليه شيئاً من الغذاء، حينئذ جعل الله تعالى في الأنثى إفرازات دموية يتغذى بها الجنين في بطن أمه بدون حاجة إلى أكل وهضم تنفذ إلى جسمه عن طريق السرة حيث يتخلل الدم عروقه فيتغذى به، فتبارك الله أحسن الخالقين. فهذه هي الحكمة في هذا الحيض، ولذلك إذا حملت المرأة انقطع الحيض عنها، فلا تحيض إلا نادراً، وكذلك المراضع يقل من تحيض منهن لا سيما في أول زمن الإرضاع.(11/297)
الفصل الثاني
في زمن الحيض ومدته
الكلام في هذا الفصل في مقامين:
المقام الأول: في السن الذي يأتي فيه الحيض.
المقام الثاني: في مدة الحيض.
المقام الأول: فالسن الذي يغلب فيه الحيض هو ما بين اثني عشرة سنة إلى خمسين سنة، وربما حاضت الأنثى قبل ذلك أو بعده بحسب حالها وبيئتها وجوها.
وقد اختلف العلماء رحمهم الله: هل للسن الذي يأتي فيه الحيض حد معين بحيث لا تحيض الأنثى قبله ولا بعده، وأن ما يأتيها قبله أو بعده فهو دم فساد لا حيض؟ اختلف العلماء في ذلك. قال الدرامي بعد أن ذكر الاختلافات: كل هذا عندي خطأ لأن المرجع في جميع ذلك إلى الوجود، فأي قدر وجد في أي حال وسن وجب جعله حيضاً. والله أعلم (1) .
وهذا الذي قاله الدرامي هو الصواب، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، فمتى رأت الأنثى الحيض فهي حائض وإن كانت دون تسع سنين أو فوق خمسين، وذلك لأن أحكام الحيض علقها الله ورسوله على وجوده، ولم يحدد الله ورسوله لذلك سناً معيناً، فوجب الرجوع فيه إلى الوجود الذي علقت الأحكام عليه، وتحديده بسن معين يحتاج إلى دليل من الكتاب أو السنة ولا دليل في ذلك.
__________
(1) المجموع شرح المهذب 1: 386(11/299)
المقام الثاني: وهو مدة الحيض أي مقدار زمنه.
فقد اختلف فيه العلماء اختلافاً كثيراً على نحو ستة أقوال أو سبعة. قال ابن المنذر: وقالت طائفة: (وليس لأقل الحيض ولا لأكثره حد بالأيام) . قلت: وهذا القول كقول الدارمي السابق وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو الصواب لأنه يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار.
فالدليل الأول: قوله تعالى: (وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) (1) . فجعل الله غاية المنع هي الطهر، ولم يجعل الغاية مضي يوم وليلة ولا ثلاثة أيام ولا خمسة عشر يوماً، فدل هذا على أن على الحكم هي الحيض وجوداً وعدماً، فمتى وجد الحيض ثبت الحكم ومتى طهرت منه زالت أحكامه.
الدليل الثاني: ما ثبت في صحيح مسلم (2) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة وقد حاضة وهي محرمة بالعمرة: (افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري) قالت: فلما كان يوم النحر طهرت. (الحديث) . وفي صحيح البخاري (3) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (انتظري فإذا طهرت فاخرجي إلى التنعيم) . فجعل النبي صلى الله عليه وسلم غاية المنع الطهر ولم يجعل الغاية زمناً معيناً، فدل هذا على أن الحكم يتعلق بالحيض وجوداً وعدماً.
الدليل الثالث: أن هذه التقديرات والتفصيلات التي ذكرها من ذكرها من الفقهاء في هذه المسألة ليست موجودة في كتاب الله تعالى ولا
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 222 0
(2) صحيح مسلم ج 4 ص 30.
(3) صحيح البخاري 3: 610 باب أجرة العمرة على قدر النصب.(11/300)
في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أن الحاجة بل الضرورة داعية إلى بيانها، فلو كانت مما يجب على العباد فهمه والتعبد لله به لبينها الله ورسوله، صلى الله عليه وسلم، بياناً ظاهراً لكل أحد، لأهمية الأحكام المترتبة على ذلك من الصلاة والصيام والنكاح والطلاق والإرث وغيرها من الأحكام، كما بين الله ورسوله عدد الصلوات وأوقاتها وركوعها وسجودها، والزكاة: أموالها وأنصباؤها ومقدارها ومصرفها، والصيام: مدته وزمنه، والحج وما دون ذلك، حتى آداب الأكل والشرب والنوع والجماع والجلوس ودخول البيت والخروج منه وآداب قضاء الحاجة، حتى عدد مسحات الاستجمار إلى غير ذلك من دقيق الأمور وجليلها، مما أكمل الله به الدين، وأتم به النعمة على المؤمنين، كما قال تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً ِكُلِّ شَيْءٍ) (1) . وقال تعالى: (مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ) (2) .
فلما لم توجد هذه التقديرات والتفصيلات في كتاب الله تعالى ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم تبين أن لا تعويل عليها، وإنما التعويل على مسمى الحيض الذي علقت عليها الأحكام الشرعية وجوداً وعدماً، وهذا الدليل ـ أعنى أن عدم ذكر الحكم في الكتاب والسنة، دليل على عدم اعتباره ـ ينفعك في هذه المسألة وغيرها من مسائل العلم لأن الأحكام الشرعية لا تثبت إلا بدليل من الشرع من كتاب الله، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو إجماع معلوم، أو قياس صحيح. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في قاعدة له: (ومن ذلك اسم الحيض علق الله به أحكاماً متعددة في الكتاب والسنة، ولم يقدر لا أقله ولا أكثره، ولا الطهر بين الحيضتين مع
__________
(1) سورة النحل، الآية: 89.
(2) سورة يوسف، الآية: 111 0(11/301)
عموم بلوى الأمة بذلك واحتياجهم إليه، واللغة لا تفرق بين قدر وقدر، فمن قدر في ذلك حداً فقد خالف الكتاب والسنة) . انتهى كلامه (1) .
الدليل الرابع: الاعتبار أي القياس الصحيح المطرد، وذلك أن الله تعالى علل الحيض بكونه أذى، فمتى وجد الحيض فالأذى موجود، لا فرق بين اليوم الثاني واليوم الأول، ولا بين الرابع والثالث، ولا فرق بين اليوم السادس عشر والخامس عشر، ولا بين الثامن عشر والسابع عشر، فالحيض هو الحيض، والأذى هو الأذى.
فالعلة موجودة في اليومين على حد سواء، فكيف يصح التفريق في الحكم بين اليومين مع تساويهما في العلة؟ ! أليس هذا خلاف القياس الصحيح؟ ! أوليس القياس الصحيح تساوي اليومين في الحكم لتساويهما في العلة؟ !
الدليل الخامس: اختلاف أقوال المحددين واضطرابها، فإن ذلك يدل على أن ليس في المسألة دليل يجب المصير إليه، وإنما هي أحكام اجتهادية معرضة للخطأ والصواب، ليس أحدهما أولى بالاتباع من الآخر، والمرجع عند النزاع إلى الكتاب والسنة.
فإذا تبين قوة القول إنه لا حد لأقل الحيض ولا لأكثره وإنه القول الراجح، فاعلم أن كل ما رأته المرأة من دم طبيعي ليس له سبب من جرح ونحوه فهو دم الحيض من غير تقدير بزمن أو سن إلا أن يكون مستمراً على المرأة لا ينقطع أبداً أو ينقطع مدة يسيرة كاليوم واليومين في الشهر، فيكون استحاضة، وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان الاستحاضة وأحكامها.
__________
(1) ص 35 من رسالة في الأسماء التي علق الشارع الأحكام بها.(11/302)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والأصل في كل ما يخرج من الرحم أنه حيض، حتى يقوم دليل على أنه استحاضة) (1) . وقال أيضاً: (فما وقع من دم فهو حيض، إذا لم يعلم أنه دم عرق أو جرح) . اهـ (2) .
وهذا القول كما أنه هو الراجح من حيث الدليل، فهو أيضاً أقرب فهماً وإدراكاً وأيسر عملاً وتطبيقاً، مما ذكره المحددون، وما كان كذلك فهو أولى بالقبول لموافقته لروح الدين الإسلامي وقاعدته، وهي اليسر والسهولة. قال الله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (3) . وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا) . رواه البخاري. وكان من أخلاقه صلى الله عليه وسلم، أنه ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً.
حيض الحامل
الغالب الكثير أن الانثى إذا حملت انقطع الدم عنها، قال الإمام أحمد رحمه الله: (إنما تعرف النساء الحمل بانقطاع الدم) . إذا رأت الحامل الدم فإن كان قبل الوضع بزمن يسير كاليومين أو الثلاثة ومعه طلق فهو نفاس، وإن كان قبل الوضع بزمن كثير أو قبل الوضع بزمن يسير لكن ليس معه طلق فليس بنفاس، لكن هل يكون حيضاً تثبت له أحكام الحيض أو يكون دم فساد لا يحكم له بأحكام الحيض؟
في هذا خلاف بين أهل العلم.
__________
(1) المصدر السابق ص 36.
(2) المصدر السابق ص 38.
(3) سورة الحج، الآية: 78.(11/303)
والصواب أنه حيض إذا كان على الوجه المعتاد في حيضها لأن الأصل فيما يصيب المرأة من الدم أنه حيض، إذا لم يكن له سبب يمنه من كونه حيضاً، وليس في الكتاب والسنة ما يمنع حيض الحامل.
وهذا هو مذهب مالك والشافعي واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، قال في الاختيارات ص 30 وحكاه البيهقي رواية عن أحمد، بل حكى أنه رجع إليه أهـ. وعلى هذا فيثبت لحيض الحامل ما يثبت لحيض غير الحامل إلا في مسألتين:
المسألة الأولى: الطلاق، فيحرم طلاق من تلزمها عدة حال الحيض في غير الحامل، ولا يحرم في الحامل، لأن الطلاق في الحيض في غير الحامل مخالف لقوله تعالى: (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) (1) . أما طلاق الحامل حال الحيض فلا يخالفه، لأن من طلق الحامل فقد طلقها لعدتها، سواء كانت حائضاً أم طاهراً، لأن عدتها بالحمل، ولذلك لا يحرم عليه طلاقها بعد الجماع بخلاف غيرها.
المسألة الثانية: عدة الحامل لا تنقضي إلا بوضع الحمل، سواء كانت تحيض أم لا لقوله تعالى: (وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) (2)
__________
(1) سورة الطلاق، الآية: 1.
(2) سورة الطلاق، الآية: 4.(11/304)
الفصل الثالث
في الطوارئ على الحيض
الطوارئ على الحيض أنواع:
النوع الأول: زيادة أو نقص، مثل أن تكون عادة المرأة ستة أيام، فيستمر بها الدم إلى سبعة، أو تكون عادتها في أول الشهر فتراه في آخره. وقد اختلف أهل العلم في حكم هذين النوعين، والصواب أنها متى رأت الدم فهي حائض ومتى طهرت منه فهي طاهر سواء زادت عن عادتها أم نقصت، وسواء تقدمت أم تأخرت، وسبق ذكر الدليل على ذلك في الفصل قبله، حيث علق الشارع أحكام الحيض بوجوده.
وهذا مذهب الشافعي، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وقواه صاحب المغني فيه ونصره، وقال: (1) (ولو كانت العادة معتبرة على الوجه المذكور في المذهب لبينه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، ولما وسعه تأخير بيانه، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقته، وأزواجه وغيرهن من النساء يحتجن إلى بيان ذلك في كل وقت، لم يكن ليغفل بيانه، وما جاء عنه صلى الله عليه وسلم ذكر العادة ولا بيانها إلا في حق المستحاضة لا غير) . أهـ.
النوع الثالث: صفرة أو كدرة، بحيث ترى الدم أصفر، كماء الجروح، أو متكدراً بين الصفرة والسواد، فهذا إن كان في أثناء الحيض
__________
(1) المغني 1: 353 0(11/305)
أو متصلاً به قبل الطهر فهو حيض تثبت له أحكام الحيض، وإن كان بعد الطهر فليس بحيض، لقول أم عطية رضي الله عنها: (كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الطهر شيئاً) . رواه أبو داود بسند صحيح، ورواه أيضاً البخاري بدون قولها بعد الطهر، لكنه ترجم له بقوله باب الصفرة والكدرة في غير أيام الحيض. قال في شرحه فتح الباري: (يشير بذلك إلى الجمع بين حديث عائشة المتقدم في قولها حتى ترين القصة البيضاء وبين حديث أم عطية المذكور في الباب، بأن ذلك أي حديث عائشة محمول على ما إذا رأت الصفرة والكدرة في أيام الحيض، وأما في غيرها فعلى ما قالت أم عطية) . أهـ. وحديث عائشة الذي أشار إليه هو ما علقه البخاري جازماً به قبل هذا الباب، أن النساء كن يبعثن إليها بالدرجة (شيء تحتشي به المرأة لتعرف هل بقي من أثر الحيض شيء) فيها الكرسف (القطن) فيه الصفرة فتقول: (لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء) . والقصة البيضاء ماء أبيض يدفعه الرحم عند انقطاع الحيض.
النوع الرابع: تقطع في الحيض، بحيث ترى يوماً دماً، ويوماً نقاءً ونحو ذلك فهذان حالان:
الحال الأول: أن يكون هذا مع الأنثى دائماً كل وقتها، فهذا دم استحاضة يثبت لمن تراه حكم المستحاضة.
الحال الثاني: ألا يكون مستمراً مع الأنثى بل يأتيها بعض الوقت، ويكون لها وقت طهر صحيح. فقد اختلف العلماء رحمهم الله في هذا النقاء. هل يكون طهراً أو ينسحب عليه أحكام الحيض؟
فمذهب الشافعي في أصح قوليه أنه ينسحب عليه أحكام الحيض(11/306)
فيكون حيضاً، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وصاحب الفائق (1) ومذهب أبي حنيفة، وذلك لأن القصة البيضاء لا ترى فيه، ولأنه لو جعل طهراً لكان ما قبله حيضة، وما بعده حيضة، ولا قائل به، وإلا لانقضت العدة بالقرء بخمسة أيام، ولأنه لو جعل طهراً لحصل به حرج ومشقة بالاغتسال وغيره كل يومين، والحرج منتف في هذه الشريعة ولله الحمد. والمشهور من مذهب الحنابلة أن الدم حيض والنقاء طهر إلا أن يتجاوز مجموعهما أكثر الحيض فيكون الدم المتجاوز استحاضة. وقال في المغني (2) يتوجه أن انقطاع الدم متى نقص عن اليوم فليس بطهر، بناء على الرواية التي حكيناها في النفاس، أنها لا تلتفت إلى ما دون اليوم وهو الصحيح ـ إن شاء الله ـ لأن الدم يجري مرة وينقطع أخرى، وفي إيجاب الغسل على من تطهر ساعة بعد ساعة حرج ينتفي، لقوله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (3) . قال: (فعلى هذا لا يكون انقطاع الدم أقل من يوم طهراً، إلا أن ترى ما يدل عليه، مثل أن يكون انقطاعه في آخر عادتها، أو ترى القصة البيضاء) . أهـ.
فيكون قول صاحب المغني هذا وسطاً بين القولين. والله أعلم بالصواب.
النوع الخامس: جفاف في الدم بحيث ترى المرأة مجرد رطوبة، فهذا إن كان في أثناء الحيض أو متصلاً به قبل الطهر فهذا حيض، وإن كان بعد الطهر فليس بحيض، لأن غاية حاله أن يلحق بالصفرة والكدرة وهذا حكمها.
__________
(1) نقل عنهما في الإنصاف.
(2) المغني ص 355.
(3) سورة الحج، الآية: 78.(11/307)
الفصل الرابع
في أحكام الحيض
للحيض أحكام كثيرة تزيد على العشرين، نذكر منها ما نراه كثير الحاجة، فمن ذلك:
الأول: الصلاة:
فيحرم على الحائض الصلاة فرضها ونفلها ولا تصح منها، وكذلك لا تجب عليها الصلاة إلا أن تدرك من وقتها مقدار ركعة كاملة، فتجب عليها الصلاة حينئذ، سواء أدركت ذلك من أول الوقت أم من آخره.
مثال ذلك من أوله: امرأة حاضت بعد غروب الشمس بمقدار ركعة فيجب عليها إذا طهرت قضاء صلاة المغرب لأنها أدركت من وقتها قدر ركعة قبل أن تحيض.
ومثال ذلك من آخره: امرأة طهرت من الحيض قبل طلوع الشمس بمقدار ركعة فيجب عليها إذا تطهرت قضاء صلاة الفجر، لأنها أدركت من وقتها جزءاً يتسع لركعة.
أما إذا أدركت الحائض من الوقت جزءاً لا يتسع لركعة كاملة، مثل أن تحيض في المثال الأول بعد الغروب بلحظة أو تطهر في المثال الثاني قبل طلوع الشمس بلحظة، فإن الصلاة لا تجب عليها، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة) . متفق عليه، فإن مفهومه أن من أدرك ركعة لم يكن مدركاً للصلاة.
* وإذا أدركت ركعة من وقت صلاة العصر فهل تجب عليها(11/309)
صلاة الظهر مع العصر، أو أدركت ركعة من وقت صلاة العشاء الآخرة، فهل تجب عليها صلاة المغرب مع العشاء؟
في هذا خلاف بين العلماء، والصواب أنه لا يجب عليها إلا ما أدركت وقته، وهي صلاة العصر والعشاء الآخرة فقط. لقوله صلى الله عليه وسلم: (من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر) . متفق عليه، لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: فقد أدرك الظهر والعصر ولم يذكر وجوب الظهر عليه، والأصل براءة الذمة وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك حكاه عنهما في شرح المهذب (1) .
* وأما الذكر والتكبير والتسبيح والتحميد، والتسمية على الأكل وغيره، وقراءة الحديث والفقه والدعاء والتأمين عليه واستماع القرآن فلا يحرم عليها شيء من ذلك، فقد ثبت في الصحيحين وغيرهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتكيء في حجر عائشة (رضي الله عنها) وهي حائض فيقرأ القرآن.
وفي الصحيحين أيضاً عن أم عطية (رضي الله عنها) أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يخرج العواتق وذوات الخدور والحيض ـ يعني إلى صلاة العيدين ـ وليشهدن الخير ودعوة المؤمنين ويعتزل الحيض المصلى) .
• • فأما قراءة الحائض القرآن الكريم بنفسها، فإن كان نظراً بالعين أو تأملاً بالقلب بدون نطق باللسان فلا بأس بذلك، مثل أن يوضع المصحف أو اللوح فتنظر إلى الآيات وتقرأها بقلبها، قال النووي في شرح المهذب: (2) جايز بلا خلاف. وأما إن كانت قراءتها نطقاً باللسان فجمهور العلماء على أنه ممنوع وغير جائز.
__________
(1) شرح المهذب 3: 70.
(2) شرح المهذب 2: 372.(11/310)
وقال البخاري وابن جرير الطبري، وابن المنذر: هو جائز، وحكي عن مالك وعن الشافعي في القول القديم حكاه عنهما في فتح الباري (1) وذكر البخاري تعليقاً عن إبراهيم النخعي لا بأس أن تقرأ الآية.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى مجموعة ابن قاسم: (2) (ليس في منعها من القرآن سنة أصلاً، فإن قوله (لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئاً من القرآن) حديث ضعيف باتفاق أهل المعرفة بالحديث. وقد كان النساء يحضن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فلو كانت القراءة محرمة عليهن كالصلاة، لكان هذا مما بينه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته وتعلمه أمهات المؤمنين وكان ذلك مما ينقلونه في الناس، فلما لم ينقل أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك نهياً لم يجز أن تجعل حراماً، مع العلم أنه لم ينه عن ذلك، وإذا لم ينه عنه مع كثرة الحيض في زمنه علم أنه ليس بمحرم) . اهـ.
* والذي ينبغي بعد أن عرفنا نزاع أهل العلم أن يقال: الأولى للحائض ألا تقرأ القرآن الكريم نطقاً باللسان إلا عند الحاجة لذلك، مثل أن تكون معلمة فتحتاج إلى تلقين المتعلمات، أو في حال الاختبار فتحتاج المتعلمة إلى القراءة لاختبارها أو نحو ذلك.
الحكم الثاني: الصيام:
فيحرم على الحائض الصيام فرضه ونفله، ولا يصح منها لكن يجب عليها قضاء الفرض منه لحديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ (كان يصيبنا ذلك ـ تعني الحيض ـ فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة) . متفق عليه،
وإذا حاضت وهي صائمة بطل صيامها ولو كان
__________
(1) فتح الباري 1: 408.
(2) ج 26: 191.(11/311)
ذلك قبيل الغروب بلحظة، ووجب عليها قضاء ذلك اليوم إن كان فرضاً.
أما إذا أحست بانتقال الحيض قبل الغروب لكن لم يخرج إلا بعد الغروب فإن صومها تام ولا يبطل على القول الصحيح، لأن الدم في باطن الجوف لا حكم له، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سُئل عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل هل عليها من غسل؟ قال: (نعم إذا هي رأت الماء) . فعلق الحكم برؤية المني لا بانتقاله، فكذلك الحيض لا تثبت أحكامه إلا برؤيته خارجاً لا بانتقاله.
وإذا طلع الفجر وهي حائض لم يصح منها صيام ذلك اليوم ولو طهرت بعد الفجر بلحظة.
وإذا طهرت قبيل الفجر فصامت صح صومها، وإن لم تغتسل إلا بعد الفجر، كالجنب إذا نوى الصيام وهو جنب ولم يغتسل إلا بعد طلوع الفجر فإن صومه صحيح، لحديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: (كان النبي، صلى الله عليه وسلم، يصبح جنباً من جماع غير احتلام ثم يصوم في رمضان) . متفق عليه.
الحكم الثالث: الطواف بالبيت:
فيحرم عليها الطواف بالبيت، فرضه ونفله، ولا يصح منها لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة لما حاضت: (افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري) .
وأما بقية الأفعال كالسعي بين الصفا والمروة، والوقوف بعرفة، والمبيت بمزدلفة ومنى، ورمي الجمار وغيرها من مناسك الحج والعمرة فليست حراماً عليها، وعلى هذا فلو طافت الأنثى وهي طاهر ثم خرج الحيض بعد الطواف مباشرة، أو في أثناء السعي فلا حرج في ذلك.(11/312)
الحكم الرابع: سقوط طواف الوداع عنها:
فإذا أكملت الأنثى مناسك الحج والعمرة، ثم حاضت قبل الخروج إلى بلدها واستمر بها الحيض إلى خروجها، فإنها تخرج بلا وداع، لحديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: (أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن المرأة الحائض) . متفق عليه.
* ولا يستحب للحائض عند الوداع أن تأتي إلى باب المسجد الحرام وتدعو، لأن ذلك لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم والعبادات مبنية على الوارد بل الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم يقتضي خلاف ذلك، ففي قصة صفية ـ رضي الله عنها ـ حين حاضت بعد طواف الإفاضة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (فلتنفر إذن) متفق عليه. ولم يأمرها بالحضور إلى باب المسجد ولو كان ذلك مشروعاً لبينه.
وأما طواف الحج والعمرة فلا يسقط عنها بل تطوف إذا طهرت.
الحكم الخامس: المكث في المسجد:
فيحرم على الحائض أن تمكث في المسجد حتى مصلى العيد يحرم عليها أن تمكث فيه، لحديث أم عطية ـ رضي الله عنها ـ: أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يخرج العواتق وذوات الخدور والحيض) . وفيه: (يعتزل الحيض المصلى) . متفق عليه.
الحكم السادس: الجماع:
فيحرم على زوجها أن يجامعها، ويحرم عليها تمكينه من ذلك.
لقوله تعالى: (وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) (1) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 222.(11/313)
والمراد بالمحيض زمان الحيض ومكانه وهو الفرج.
ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اصنعوا كل شيء إلا النكاح) ، يعني الجماع. رواه مسلم.
ولأن المسلمين أجمعوا على تحريم وطء الحائض في فرجها.
فلا يحل لامريء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم على هذا الأمر المنكر الذي دل على المنع منه كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين. فيكون ممن شاق الله ورسوله واتبع غير سبيل المؤمنين، قال في المجموع شرح المهذب ص 374 ج 2 قال الشافعي: (من فعل ذلك فقد أتى كبيرة) . قال أصحابنا وغيرهم: (من استحل وطأ الحائض حكم بكفره) . اهـ كلام النووي.
وقد أبيح له ولله الحمد ما يكسر به شهوته دون الجماع، كالتقبيل والضم والمباشرة فيما دون الفرج، لكن الأولى ألا يباشر فيما بين السرة والركبة إلا من وراء حائل، لقول عائشة ـ رضي الله عنها ـ: كان النبي صلى الله عليه وسلم، يأمرني فأتزر فيباشرني وأنا حائض. متفق عليه.
الحكم السابع: الطلاق:
فيحرم على الزوج طلاق الحائض حال حيضها، لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) (1) ، أي في حال يستقبلن به عدة معلومة حين الطلاق، ولا يكون ذلك إلا إذا طلقها حاملاً أو طاهراً من غير جماع، لأنها إذا طلقت حال الحيض لم تستقبل العدة حيث إن الحيضة التي طلقت فيها لا تحسب من العدة، وإذا طلقت طاهراً بعد الجماع لم تكن العدة التي تستقبلها معلومة حيث إنه لا يعلم هل حملت
__________
(1) سورة الطلاق، الآية 1.(11/314)
من هذا الجماع، فتعتد بالحمل، أو لم تحمل فتعتد بالحيض، فلما لم يحصل اليقين من نوع العدة حرم عليه الطلاق حتى يتبين الأمر.
فطلاق الحائض حال حيضها حرام للآية السابقة، ولما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض فأخبر عمر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فتغيظ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: وقال: (مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء) .
فلو طلق الرجل امرأته وهي حائض فهو آثم، وعليه أن يتوب إلى الله تعالى، وأن يرد المرأة إلى عصمته ليطلقها طلاقاً شرعياً موافقاً لأمر الله ورسوله، فيتركها بعد ردها حتى تطهر من الحيضة التي طلقها فيها، ثم تحيض مرة أخرى، ثم إذا طهرت فإن شاء أبقاها وإن شاء طلقها قبل أن يجامعها.
ويستثنى من تحريم الطلاق في الحيض ثلاث مسائل.
الأولى: إذا كان الطلاق قبل أن يخلو بها، أو يمسها فلا بأس أن يطلقها وهي حائض، لأنه لا عدة عليها حينئذ، فلا يكون طلاقها مخالفاً لقوله تعالى: (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) (1) .
الثانية: إذا كان الحيض في حال الحمل، وسبق بيان سبب ذلك.
الثالثة: إذا كان الطلاق على عوض، فإنه لا بأس أن يطلقها وهي حائض.
__________
(1) سورة الطلاق، الآية: 1 0(11/315)
مثل أن يكون بين الزوجين نزاع وسوء عشرة فيأخذ الزوج عوضاً ليطلقها، فيجوز ولو كانت حائضاً. لحديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (يا رسول الله إني ما اعتب عليه في خلق ولا دين، ولكن أكره الكفر في الإسلام) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتردين عليه حديقته؟) قالت: نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقبل الحديقة وطلقها تطليقة) . رواه البخاري. ولم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم هل كانت حائضاً أو طاهراً، ولأن هذا الطلاق افتداء من المرأة عن نفسها فجاز عند الحاجة إليه على أي حال كان.
قال في المغني معللاً جواز الخلع حال الحيض ص 52 ج 7 ط م (لأن المنع من الطلاق في الحيض من أجل الشرر الذي يلحقها بطول العدة، والخلع لإزالة الضرر الذي يلحقها بسوء العشرة والمقام مع من تكرهه وتبغضه، وذلك أعظم من ضرر طول العدة، فجاز دفع أعلاهما بأدناهما، ولذلك لم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم المختلعة عن حالها) . أهـ كلامه.
وأما عقد النكاح على المرأة وهي حائض فلا بأس به لأن الأصل الحل، ولا دليل على المنع منه، لكن إدخال الزوج عليها وهي حائض ينظر فيه فإن كان يؤمن من أن يطأها فلا بأس، وإلا فلا يدخل عليها حتى تطهر خوفاً من الوقوع في الممنوع.
الحكم الثامن: اعتبار عدة الطلاق به ـ أي الحيض ـ
فإذا طلق الرجل زوجته بعد أن مسها أو خلا بها وجب عليها أن تعتد بثلاث حيض كاملة، إن كانت من ذوات الحيض، ولم تكن حاملاً لقوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) . (1) . أي
__________
(1) سورة البقرة، الآية 228.(11/316)
ثلاث حيض. فإن كانت حاملاً فعدتها إلى وضع الحمل كله، سواء طالت المدة أو قصرت لقوله تعالى: (وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) . (1) . وإن كانت من غير ذوات الحيض لكبر أو عملية استأصلت رحمها أو غير ذلك مما لا ترجو معه رجوع الحيض، فعدتها ثلاثة أشهر لقوله تعالى: (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) (2) . وإن كانت من ذوات الحيض لكن ارتفع حيضها لسبب معلوم كالمرض والرضاع فإنها تبقى في العدة وإن طالت المدة حتى يعود الحيض فتعتد به، فإن زال السبب ولم يعد الحيض بأن برئت من المرض أو انتهت من الرضاع وبقي الحيض مرتفعاً فإنها تعتد بسنة كاملة من زوال السبب، هذا هو القول الصحيح، الذي ينطبق على القواعد الشرعية، فإنه إذا زال السبب ولم يعد الحيض صارت كمن ارتفع حيضها لغير سبب معلوم وإذا ارتفع حيضها لغير سبب معلوم، فإنها تعتد بسنة كاملة تسعة أشهر للحمل احتياطاً غالب الحمل، وثلاثة أشهر للعدة.
* أما إذا كان الطلاق بعد العقد وقبل المسيس والخلوة، فليس فيه عدة إطلاقاً، لا بحيض ولا غيره لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا) (3)
__________
(1) سورة الطلاق، الآية 4.
(2) سورة الطلاق، الآية 4.
(3) سورة الأحزاب، الآية: 49.(11/317)
الحكم التاسع: الحكم ببراءة الرحم:
أي بخلوه من الحمل، وهذا يحتاج إليه كلما احتيج إلى الحكم ببراءة الرحم وله مسائل:
منها: إذا مات شخص عن امرأة يرثه حملها، وهي ذات زوج، فإن زوجها لا يطأها حتى تحيض، أو يتبين حملها، فإن تبين حملها، حكمنا بإرثه، لحكمنا بوجوده حين موت مورثه، وإن حاضت حكمنا بعدم إرثه لحكمنا ببراءة الرحم بالحيض.
الحكم العاشر: وجوب الغسل:
فيجب على الحائض إذا طهرت أن تغتسل بتطهير جميع البدن، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش: (فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي) . رواه البخاري.
* وأقل واجب في الغسل أن تعم به جميع بدنها حتى ما تحت الشعر، والأفضل أن يكون على صفة ما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، حيث سألته أسماء بنت شكل عن غسل المحيض فقال صلى الله عليه وسلم: (تأخذ إحداكن ماءها وسدرتها فتطهر فتحسن الطهور، ثم تصب على رأسها فتدلكه دلكاً شديداً، حتى تبلغ شئون رأسها، ثم تصب عليها الماء، ثم تأخذ فرصة ممسكة ـ أي قطعة قماش فيها مسك فتطهر بها ـ فقالت أسماء كيف تطهر بها؟ فقال سبحان الله فقالت عائشة لها تتبعين أثر الدم) . رواه مسلم (1) .
* ولا يجب نقض شعر الرأس، إلا أن يكون مشدوداً بقوة بحيث يخشى ألا يصل الماء إلى أصوله، لما في صحيح مسلم (2) من حديث أم
__________
(1) صحيح مسلم 1: 179.
(2) المصدر نفسه 1: 178.(11/318)
سلمة ـ رضي الله عنها ـ أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني امرأة أشد شعر رأسي أفأنقضه لغسل الجنابة؟ وفي رواية للحيضة والجنابة؟ فقال: (لا إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين) .
وإذا طهرت الحائض في أثناء وقت الصلاة وجب عليها أن تبادر بالاغتسال لتدرك أداء الصلاة في وقتها، فإن كانت في سفر وليس عندها ماء أو كان عندها ماء ولكن تخاف الضرر باستعماله، أو كانت مريضة يضرها الماء فإنها تتيمم بدلاً عن الاغتسال حتى يزول المانع ثم تغتسل.
وإن بعض النساء تطهر في أثناء وقت الصلاة، وتؤخر الاغتسال إلى وقت آخر تقول: إنه لا يمكنها كمال التطهر في هذا الوقت، ولكن هذا ليس بحجة ولا عذر لأنها يمكنها أن تقتصر على أقل الواجب في الغسل، وتؤدي الصلاة في وقتها، ثم إذا حصل لها وقت سعة تطهرت التطهر الكامل.(11/319)
الفصل الخامس
في الاستحاضة وأحكامها
الاستحاضة: استمرار الدم على المرأة بحيث لا ينقطع عنها أبداً أو ينقطع عنها مدة يسيرة كاليوم واليومين في الشهر.
فدليل الحالة الأولى التي لا ينقطع الدم فيها أبداً ما ثبت في صحيح البخاري عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: (قالت فاطمة بنت حبيش لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يا رسول الله إني لا أطهر. وفي رواية أستحاض فلا أطهر) .
ودليل الحالة الثانية التي لا ينقطع الدم فيها إلا يسيراً حديث حمنة بنت جحش حيث جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (يا رسول الله إني أستحاض حيضة كبيرة شديدة) . الحديث رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه ونقل عن الإمام أحمد تصحيحه وعن البخاري تحسينه.
أحوال المستحاضة
للمستحاضة ثلاثة حالات:
الحالة الأولى: أن يكون لها حيض معلوم قبل الاستحاضة فهذه ترجع إلى مدة حيضها المعلوم السابق فتجلس فيها ويثبت لها أحكام الحيض، وما عداها استحاضة، يثبت لها أحكام المستحاضة.
مثال ذلك امرأة كان يأتيها الحيض ستة أيام من أول كل شهر، ثم طرأت عليها الاستحاضة فصار الدم يأتيها باستمرار، فيكون حيضها ستة أيام من أول كل شهر، وما عداها استحاضة لحديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ (أن فاطمة بنت أبي حبيش قالت: (يا رسول الله(11/321)
إني أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة؟ قال: (لا. إن ذلك عرق، ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ثم اغتسلي وصلي) . رواه البخاري، وفي صحيح مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأم حبيبة بنت جحش: (امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ثم اغتسلي وصلي) . فعلى هذا تجلس المستحاضة التي لها حيض معلوم قدر حيضها ثم تغتسل وتصلي ولا تبالي بالدم حينئذ.
الحالة الثانية: أن لا يكون لها حيض معلوم قبل الاستحاضة بأن تكون الاستحاضة مستمرة بها من أول ما رأت الدم من أول أمرها، فهذه تعمل بالتمييز فيكون حيضها ما تميز بسواد أو غلظة أو رائحة يثبت له أحكام الحيض، وما عداه استحاضة يثبت له أحكام الاستحاضة.
مثال ذلك: امرأة رأت الدم في أول ما رأته، واستمر عليها لكن تراه عشرة أيام أسود وباقي الشهر أحمر. أو تراه عشرة أيام غليظاً وباقي الشهر رقيقاً. أو تراه عشرة أيام له رائحة الحيض وباقي الشهر لا رائحة له فحيضها هو الأسود في المثال الأول، والغليظ في المثال الثاني، وذو الرائحة في المثال الثالث، وما عدا ذلك فهو استحاضة لقول النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش: (إذا كان دم الحيضة فإنه أسود يعرف، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة فإذا كان الآخر فتوضئي وصلي فإنما هو عرق) . رواه أبو داود والنسائي، وصححه ابن حبان والحاكم. وهذا الحديث وإن كان في سنده ومتنه نظر فقد عمل به أهل العلم رحمهم الله، وهو أولى من ردها إلى عادة غالب النساء.
الحالة الثالثة: ألا يكون لها حيض معلوم ولا تمييز صالح بأن تكون الاستحاضة مستمرة من أول ما رأت الدم ودمها على صفة واحدة أو على صفات مضطربة لا يمكن أن تكون حيضاً، فهذه تعمل بعادة غالب(11/322)
النساء فيكو حيضها ستة أيام أو سبعة من كل شهر يبتديء من أو المدة التي رأت فيها الدم، وما عداه استحاضة.
مثال ذلك: أن ترى الدم أو ما تراه في الخامس من الشهر ويستمر عليها من غير أن يكون فيه تمييز صالح للحيض لا بلون ولا غيره فيكون حيضها من كل شهر ستة أيام أو سبعة تبتديء من اليوم الخامس من كل شهر. لحديث حمنة بنت جحش ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت: (يا رسول الله: إني أستحاض حيضة كبيرة شديدة فما ترى فيها قد منعتني الصلاة والصيام، فقال: أنعت لك (أصف لك استعمال) الكرسف (وهو القطن) تضعينه على الفرج، فإنه يذهب الدم، قالت: هو أكثر من ذلك. وفيه قال: (إنما هذا ركضة من ركضات الشيطان فتحيضي ستة أيام أو سبعة في علم الله تعالى، ثم اغتسلي حتى إذا رأيت أنك قد طهرت واستنقيت فصلي أربعاً وعشرين أو ثلاثاً وعشرين ليلة وأيامها وصومي) . الحديث رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه، ونقل عن أحمد أنه صححه، وعن البخاري أنه حسنه.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (ستة أيام أو سبعة) ليس للتخيير وإنما هو للاجتهاد فتنظر فيما هو أقرب إلى حالها ممن يشابهها خلقة ويقاربها سناً ورحماً وفيما هو أقرب إلى الحيض من دمها، ونحو ذلك من الاعتبارات فإن كان الأقرب أن يكون ستة جعلته ستة وإن كان الأقرب أن يكون سبعة جعلته سبعة.
حال من تشبه المستحاضة
قد يحدث للمرأة سبب يوجب نزيف الدم من فرجها كعملية في الرحم أو فيما دونه وهذه على نوعين:
النوع الأول: أن يعلم أنها لا يمكن أن تحيض بعد العملية مثل(11/323)
أن تكون العملية استئصال الرحم بالكلية أو سده بحيث لا ينزل منه دم، فهذه المرأة لا يثبت لها أحكام المستحاضة، وإنما حكمها حكم من ترى صفرة أو كدرة أو رطوبة بعد الطهر، فلا تترك الصلاة ولا الصيام ولا يمتنع جماعها ولا يجب غسل من هذا الدم، ولكن يلزمها عند الصلاة غسل الدم وأن تعصب على الفرج خرقة، ونحوها، لتمنع خروج الدم، ثم تتوضأ للصلاة ولا تتوضأ لها إلا بعد دخول وقتها، إن كان لها وقت كالصلوات الخمس، وإلا فعند إرادة فعل الصلاة كالنوافل المطلقة.
النوع الثاني: ألا يعلم امتناع حيضها بعد العملية بل يمكن أن تحيض، فهذه حكمها حكم المستحاضة. ويدل لما ذكر قوله صلى الله عليه وسلم، لفاطمة بنت أبي حبيش: (إنما ذلك عرق وليس بالحيضة فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة) . فإن قوله (فإذا أقبلت الحيضة) يفيد أن حكم المستحاضة فيمن لها حيض ممكن ذو إقبال وإدبار، أما من ليس لها حيض ممكن فدمها دم عرق بكل حال.
أحكام الاستحاضة
عرفنا مما سبق متى يكون الدم حيضاً ومتى يكون استحاضة فمتى كان حيضاً ثبتت له أحكام الحيض، ومتى كان استحاضة ثبتت له أحكام الاستحاضة.
وقد سبق ذكر المهم من أحكام الحيض.
وأما أحكام الاستحاضة، فكأحكام الطهر، فلا فرق بين المستحاضة وبين الطاهرات إلا فيما يأتي:
الأول: وجوب الوضوء عليها لكل صلاة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم(11/324)
لفاطمة بنت أبي حبيش (ثم توضئي لكل صلاة) . رواه البخاري في باب غسل الدم. معنى ذلك أنها لا تتوضأ للصلاة المؤقتة إلا بعد دخول وقتها. أما إذا كانت الصلاة غير مؤقتة فإنها تتوضأ لها عند إرادة فعلها.
الثاني: إنها إذا أرادت الوضوء فإنها تغسل أثر الدم، وتعصب على الفرج خرقة على قطن ليستمسك الدم لقول النبي صلى الله عليه وسلم لحمنة: (أنعت لك الكرسف فإنه يذهب الدم، قالت: فإنه أكثر من ذلك، قال: فاتخذي ثوباً قالت هو أكثر من ذلك قال: فتلجمي) . الحديث، ولا يضرها ما خرج بعد ذلك، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش: (اجتنبي الصلاة أيام حيضك ثم اغتسلي وتوضئي لكل صلاة، ثم صلي، وإن قطر الدم على الحصير) . رواه أحمد وابن ماجة.
الثالث: الجماع فقد اختلف العلماء في جوازه إذا لم يخف العنت بتركه، والصواب جوازه مطلقاً لأن نساء كثيرات يبلغن العشر أو أكثر استحضن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يمنع الله ولا رسوله من جماعهن. بل في قوله تعالى: (فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيض) (1) . دليل على أنه لا يجب اعتزالهن فيما سواه، ولأن الصلاة تجوز منها، فالجماع أهون. وقياس جماعها على جماع الحائض غير صحيح، لأنهما لا يستويان حتى عند القائلين بالتحريم والقياس لا يصح مع الفارق.
__________
(1) سورة البقرة، الآية 222 0(11/325)
الفصل السادس
في النفاس وحكمه
النفاس: دم يرخيه الرحم بسبب الولادة، إما معها أو بعدها أو قبلها بيومين أو ثلاثة مع الطلق.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ما تراه حين تشرع في الطلق فهو نفاس ولم يقيده بيومين أو ثلاثة، ومراده طلق يعقبه ولادة وإلا فليس بنفاس) . واختلف العلماء هل له حد في أقله وأكثره؟ قال الشيخ تقي الدين في رسالته في الأسماء التي علق الشارع الأحكام بها ص 37: (والنفاس لا حد لأقله ولا لأكثره فلو قدر أن امرأة رأت الدم أكثر من أربعين أو ستين أو سبعين وانقطع فهو نفاس لكن إن اتصل فهو دم فساد وحينئذ فالحد أربعون فإنه منتهى الغالب جاءت به الآثار) . اهـ.
قلت: وعلى هذا فإذا زاد دمها على الأربعين، وكان لها عادة بانقطاعه بعد أو ظهرت فيه امارات قرب الانقطاع انتظرت حتى ينقطع وإلا اغتسلت عند تمام الأربعين، لأنه الغالب إلا أن يصادق زمن حيضها فتجلس حتى ينتهي زمن الحيض، فإذا انقطع بعد ذلك فينبغي أن يكون كالعادة لها فتعمل بحسبة في المستقبل، وإن استمر فهي مستحاضة، ترجع إلى أحكام المستحاضة السابقة، ولو طهرت بانقطاع الدم عنها فهي طاهر ولو قبل الأربعين، فتغتسل وتصلي وتصوم ويجامعها زوجها، إلا أن يكون الانقطاع أقل من يوم فلا حكم له، قاله في المغني.
ولا يثبت النفاس إلا إذا وضعت ما تبين فيه خلق إنسان، فلو وضعت سقطاً صغيراً لم يتبين فيه خلق إنسان فليس دمها دم نفاس، بل(11/327)
هو دم عرق فيكون حكمها حكم المستحاضة، وأقل مدة تبين فيها خلق إنسان ثمانون يوماً من ابتداء الحمل وغالباً تسعون يوماً. قال المجد ابن تيمية: فمتى رأت دماً على طلق قبلها لم تلتفت إليه وبعدها تمسك عن الصلاة والصيام، ثم إن انكشف الأمر بعد الوضع على خلاف الظاهر رجعت فاستدركت، وإن لم ينكشف الأمر استمر حكم الظاهر فلا إعادة. نقله عنه في شرح الإقناع.
أحكام النفاس
أحكام النفاس كأحكام الحيض سواء بسواء، إلا فيما يأتي:
الأول: العدة فتعتبر بالطلاق دون النفاس لأنه إن كان الطلاق قبل وضع الحمل انقضت العدة بوضعه لا بالنفاس، وإن كان الطلاق بعد الوضع انتظرت رجوع الحيض كما سبق.
الثاني: مدة الإيلاء يحسب منها مدة الحيض ولا يحسب منها مدة النفاس.
والإيلاء: أن يحلف الرجل على ترك جماع امرأته أبداً أو مدة تزيد على أربعة أشهر، فإذا حلف وطالبته بالجماع جعل له مدة أربعة أشهر من حلفه، فإذا تمت أجبر على الجماع أو الفراق بطلب الزوجة، فهذه المدة إذا مر بالمرأة نفاس لم يحسب على الزوج، وزيد على الشهور الأربعة بقدر مدته، بخلاف الحيض فإن مدته تحسب على الزوج.
الثالث: البلوغ يحصل بالحيض ولا يحصل بالنفاس، لأن المرأة لا يمكن أن تحمل حتى تنزل فيكون حصول البلوغ بالإنزال السابق للحمل.
الرابع: أن دم الحيض إذا انقطع ثم عاد في العادة فهو حيض(11/328)
يقيناً، مثل أن تكون عادتها ثمانية أيام، فترى الحيض أربعة أيام ثم ينقطع يومين ثم يعود في السابع والثامن، فهذا العائد حيض يقيناً يثبت له أحكام الحيض، وأما دم النفاس، إذا انقطع قبل الأربعين ثم عاد في الأربعين فهو مشكوك فيه فيجب عليها أن تصلي وتصوم الفرض المؤقت في وقته ويحرم عليها ما يحرم على الحائض غير الواجبات وتقضي بعد طهرها ما فعلته في هذا الدم مما يجب على الحائض قضاؤه. هذا هو المشهور عند الفقهاء من الحنابلة والصواب أن الدم إذا عاودها في زمن يمكن أن يكون نفاساً فهو نفاس، وإلا فهو حيض إلا أن يستمر عليها فيكون إستحاضة وهذا قريب مما نقله في المغني (1) عن الإمام مالك حيث قال: وقال مالك: (إن رأت الدم بعد يومين أو ثلاثة يعني من انقطاعه فهو نفاس وإلا فهو حيض) . اهـ وهو مقتضى اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وليس في الدماء شيء مشكوك فيه بحسب الواقع، ولكن الشك أمر نسبي يختلف فيه النساء بحسب علومهم وأفهامهم. والكتاب والسنة فيهما تبيان كل شيء، ولم يوجب الله سبحانه على أحد أن يصوم مرتين، أو يطوف مرتين، إلا أن يكون في الأول خلل لا يمكن تداركه إلا بالقضاء، أما حيث فعل العبد ما يقدر عليه من التكليف بحسب استطاعته فقد برئت ذمته، كما قال تعالى: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) (2) . وقال: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (3) .
__________
(1) المغني 1: 349.
(2) سورة البقرة، الآية 286.
(3) سورة التغابن، الآية 16.(11/329)
الخامس: أنه في الحيض إذا طهرت قبل العادة جاز لزوجها جماعها بدون كراهة. وأما في النفاس إذا طهرت قبل الأربعين فيكره لزوجها جماعها على المشهور في المذهب، والصواب أنه لا يكره له جماعها. وهو قول جمهور العلماء، لان الكراهة حكم الإمام أحمد عن عثمان بن أبي العاص أنها أتته قبل الأربعين، فقال لا تقربيني. وهذا لا يستلزم الكراهة لأنه قد يكون منه على سبيل الاحتياط خوفاً من أنها لم تتيقن الطهر، أو من أن يتحرك الدم بسبب الجماع، أو لغير ذلك من الأسباب. والله أعلم.(11/330)
الفصل السابع
في استعمال ما يمنع الحيض أو يجلبه
وما يمنع الحمل أو يسقطه
* استعمال المرأة ما يمنع حيضها جائز بشرطين:
الأول: ألا يخشى الضرر عليها، فإن خشي الضرر عليها من ذلك فلا يجوز لقوله تعالى: (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (1) . (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً) (2) .
الثاني: أن يكون ذلك بإذن الزوج إن كان له تعلق به مثل أن تكون معتدة منه على وجه تجب عليه نفقتها، فتستعمل ما يمنع الحيض لتطول المدة وتزداد عليه نفقتها، فلا يجوز لها أن تستعمل ما يمنع الحيض حينئذ إلا بإذنه، وكذلك إن ثبت أن منع الحيض يمنع الحمل فلا بد من إذن الزوج، وحيث ثبت الجواز فالأولى عدم استعماله، إلا لحاجة لأن ترك الطبيعة على ما هي عليه أقرب إلى اعتدال الصحة فالسلامة.
* وأما استعمال ما يجلب الحيض فجائز بشرطين أيضاً:
الأول: ألا تتحيل به على إسقاط واجب، مثل أن تستعمله قرب رمضان، من أجل أن تفطر أو لتسقط به الصلاة، ونحو ذلك.
الثاني: أن يكون ذلك بإذن الزوج، لأن حصول الحيض يمنعه من كمال الاستمتاع، فلا يجوز استعمال ما يمنع حقه إلا برضاه، وإن
__________
(1) سورة البقرة، الآية 195.
(2) سورة النساء، الآية 29.(11/331)
كانت مطلقة، فإن فيه تعجيل إسقاط حق الزوج من الرجعة إن كان له رجعة.
* وأما استعمال ما يمنع الحمل فعلى نوعين:
الأول: أن يمنعه منعاً مستمراً فهذا لا يجوز، لأنه يقطع الحمل فيقل النسل، وهو خلاف مقصود الشارع، من تكثير الأمة الإسلامية، ولأنه لا يؤمن أن يموت أولادها الموجودون فتبقى أرملة لا أولاد لها.
الثاني: أن يمنعه منعاً مؤقتاً، مثل أن تكون المرأة كثيرة الحمل، والحمل يرهقها، فتحب أن تنظم حملها كل سنتين مرة أو نحو ذلك فهذا جائز، بشرط أن يأذن به زوجها وألا يكون به ضرر عليها، ودليله أن الصحابة كانوا يعزلون عن نسائهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من أجل ألا تحمل نساؤهم، فلم ينهوا عن ذلك. والعزل أن يجامع زوجته وينزع عند الإنزال فينزل خارج الفرج.
* وأما استعمال ما يسقط الحمل فهو على نوعين:
الأول: أن يقصد من إسقاطه إتلافه، فهذا إن كان بعد نفخ الروح فيه فهو حرام، بلا ريب، لأنه قتل نفس محرمة بغير حق وقتل النفس المحرمة حرام بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين. وإن كان قبل نفخ الروح فيه فقد اختلف العلماء في جوازه، فمنهم من أجازه، ومنهم من منعه، ومنهم من قال يجوز ما لم يكن علقه، أي ما لم يمض عليه أربعون يوماً، ومنهم من قال يجوز ما لم يتبين فيه خلق إنسان.
والأحوط المنع من إسقاطه إلا لحاجة كأن تكون الأم مريضة لا تتحمل الحمل أو نحو ذلك، فيجوز إسقاطه حينئذ إلا إن مضى عليه زمن يمكن أن يتبين فيه خلق إنسان فيمنع. والله أعلم.
الثاني: ألا يقصد من إسقاطه إتلافه بأن تكون محاولة إسقاطه عند(11/332)
انتهاء مدة الحمل وقرب الوضع فهذا جائز، بشرط ألا يكون في ذلك ضرر على الأم، ولا على الولد. وألا يحتاج الأمر إلى عملية، فإن احتاج إلى عملية فله حالات أربع:
الأولى: أن تكون الأم حية والحمل حياَ، فلا تجوز العملة إلا للضرورة، بأن تتعسر ولادتها فتحتاج إلى عملية، وذلك لأن الجسم أمانة عند العبد، فلا يتصرف فيه بما يخشى منه إلا لمصلحة كبرى؛ ولأنه ربما يظن ألا ضرر في العملية فيحصل الضرر.
الثاني: أن تكون الأم ميتة والحمل ميتاً، فلا يجوز إجراء العملية لإخراجه لعدم الفائدة.
الثالثة: أن تكون الأم حية والحمل ميتاً، فيجوز إجراء العملية لإخراجه، إلا أن يخشى الضرر على الأم لأن الظاهر ـ والله أعلم ـ أن الحمل إذا مات لا يكاد يخرج بدون العملية، فاستمراره في بطنها يمنعها من الحمل المستقبل، ويشق عليها، وربما تبقى أيماً إذا كانت معتدة من زوج سابق.
الرابع: أن تكون الأم ميتة والحمل حياً، فإن كان لا ترجى حياته لم يجز إجراء العملية. وإن كان ترجى حياته، فإن كان قد خرج بعضه شق بطن الأم لإخراج باقيه، وإن لم يخرج منه شيء، فقد قال أصحابنا رحمهم الله لا يشق بطن الأم لإخراج الحمل، لأن ذلك مثله، والصواب أنه يشق البطن إن لم يكن إخراجه بدونه، وهذا اختيار ابن خبيرة قال في الإنصاف (1) وهو أولى.
__________
(1) الإنصاف 2: 556.(11/333)
قلت: ولا سيما في وقتنا هذا فإن إجراء العملية ليس بمثله، لأنه يشق البطن ثم يخاط، ولأن حرمة الحي أعظم من حرمة الميت، ولأن إنقاذ المعصوم من الهلكة واجب. والحمل إنسان معصوم فوجب إنقاذه. والله أعلم.
تنبيه: في الحالات التي يجوز فيها إسقاط الحمل فيما لابد من إذن من له الحمل في ذلك كالزوج.
وإلى هنا انتهى ما أردنا كتابته في هذا الموضوع المهم، وقد اقتصرنا فيه على أصول المسائل وضوابطها وإلا ففروعها وجزئياتها وما يحدث للنساء من ذلك بحر لا ساحل له، ولكن البصير يستطيع أن يرد الفروع إلى أصولها والجزئيات إلى كلياتها وضوابطها، ويقيس الأشياء بنظائرها.
وليعلم المفتي بأنه واسطة بين الله وبين خلقه في تبليغ ما جاءت به رسله، وبيانه للخلق، وأنه مسئول عما في الكتاب والسنة، فإنهما المصدران اللذان كلف العبد فهمهما، والعمل بهما، وكل ما خالف الكتاب والسنة فهو خطأ، يجب رده على قائله، ولا يجوز العمل به، وإن كان قائله قد يكون معذوراً مجتهداً فيؤجر على اجتهاده لكن غيره العالم بخطئه لا يجوز له قبوله.
ويجب على المفتي أن يخلص النية لله تعالى، ويستعين به في كل حادثة تقع به، ويسأله تعالى الثبات والتوفيق للصواب.
ويجب عليه أن يكون موضع اعتباره ما جاء في الكتاب والسنة، فينظر ويبحث في ذلك أو فيما يستعان به من كلام أهل العلم على فهمهما.
وإنه كثيراً ما تحدث مسألة من المسائل، فيبحث عنها الإنسان فيما يقدر عليه من كلام أهل العلم، ثم لا يجد ما يطمئن إليه في حكمها،(11/334)
وربما لا يجد لها ذكراً بالكلية، فإذا رجع إلى الكتاب والسنة، تبين له حكمهما قريباً ظاهراً وذلك بحسب الإخلاص والعلم والفهم.
* ويجب على المفتي أن يتريث في الحكم عند الإشكال، وألا يتعجل، فكم من حكم تعجل فيه، ثم تبين له بعد النظر القريب، أنه مخطئ فيه، فيندم على ذلك، وربما لا يستطيع أن يستدرك ما أفتى به.
والمفتي إذا عرف الناس منه التأني والتثبت وثقوا بقوله واعتبروه، وإذا رأوه متسرعاً، والمتسرع كثير الخطأ، لم يكن عندهم ثقة فيما يفتي به فيكون بتسرعه وخطئه قد حرم نفسه وحرم غيره ما عنده من علم وصواب.
نسأل الله تعالى أن يهدينا وإخواننا المسلمين صراطه المستقيم. وأن يتولانا بعنايته. ويحفظنا من الزلل برعايته، إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم، على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
تم بحمد الله تعالى المجلد الحادي عشر
ويليه بمشيئة الله عز وجل
المجلد الثاني عشر
* * *(11/335)
[كتاب الصلاة]
الصلاة(12/9)
1) سئل فضيلة الشيخ أعلى الله درجته: عن حكم الصلاة وعلى من تجب؟
فأجاب بقوله: الصلاة من آكد أركان الإسلام، بل هي الركن الثاني بعد الشهادتين، وهي آكد أعمال الجوارح، وهي عمود الإسلام كما ثبت ذلك عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال (عموده الصلاة) (1) يعني الإسلام، وقد فرضها الله على نبيه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أعلى مكان وصل إليه البشر، وفي أشرف ليلة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبدون واسطة لأحد ن وفرضها الله - عز وجل - على رسوله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خمسين مرة في اليوم والليلة، ولكن الله - سبحانه وتعالى - خفف على عبادة حتى صارت خمساً بالفعل وخمسين في الميزان، وهذا يدل على أهميتها ومحبة الله لها، وأنها جديرة بأن يصرف الإنسان شيئاً كثيراً من وقته فيها، وقد دل على فرضيتها الكتاب، والسنة، وإجماع المسلمين:
ففي الكتاب يقول الله - عز وجل -: (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً 103) (2) . معنى (كتاباً) أي مكتوباً أي مفروضاً.
وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمعاذ بن جبل - رضى الله عنه - حين بعثه إلى اليمن ((أعلمهم أن الله أفترض عليهم خمس صلوات في كل يوم
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد 5/231 والترمذي: كتاب الإيمان / باب ما جاء في حرمة الصلاة (2616) ، والنسائي في (الكبرى) : كتاب التفسير / باب قوله تعالى (تتجافى جنوبهم عن المضاجع ((11394) . وابن ماجة: كتاب الفتن / باب كف اللسان في الفتنة (3973) . وقال الترمذي حديث حسن صحيح.
(2) سورة النساء، الآية 103.(12/11)
وليلة)) (1)
وأجمع المسلمون على فرضيتها، ولهذا قال العلماء رحمهم الله: إن الإنسان إذا جحد فرض الصلوات الخمس، أو فرض واحدة منها فهو كافر مرتد عن الإسلام يباح دمه وماله إلا أن يتوب إلى الله – عز وجل – ما لم يكن حديث عهد بالإسلام لا يعرف من شعائر الإسلام شيئاً فإنه يعذر بجهله في هذه الحال، ثم يعرف فإن أصر بعد علمه بوجوبها على إنكار فرضيتها فهو كافر.
وتجب الصلاة على كل مسلم، بالغ، عاقل، من ذكر أو أنثى.
فالمسلم ضده: الكافر، فالكافر لا تجب عليه الصلاة، بمعنى أنه لا يلزم بأدائها حال كفره ولا بقضائها إذا أسلم، لكنه يعاقب عليها يوم القيامة كما قال الله تعالى (إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّين * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِين * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِين * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّين 46) (2) .
فقولهم (قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) يدل على أنهم عوقبوا على ترك الصلاة مع كفرهم وتكذيبهم بيوم الدين.
وأما البالغ فهو الذي حصل له واحدة من علامات البلوغ وهي ثلاث بالنسبة للرجل، وأربع بالنسبة للمرأة:
أحدها: تمام الخمس عشر سنة
والثانية: إنزال المني بلذة ويقظة كان أم مناماً.
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب الزكاة / باب وجوب الزكاة. ومسلم: كتاب الإيمان / باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام.
(2) سورة المدثر، الآيات: 39-46.(12/12)
والثالثة: إنبات العانة، وهي الشعر الخشن حول القبل، هذه الثلاث العلامات تكون للرجال والنساء، وتزيد المرأة علامة رابعة وهي: الحيض فإن الحيض من علامات البلوغ.
وأما العاقل فضده: المجنون الذي لا عقل له، ومنه الرجل الكبير أو المرأة الكبيرة إذا بلغ به الكبر إلى حد فقد التمييز، وهو ما يعرف عندنا بالمهذري فإنه لا تجب عليه الصلاة حينئذ لعدم وجود العقل في حقه.
وأما الحيض أو النفاس فهو مانع من وجوب الصلاة فإذا وجد الحيض أو النفاس فإن الصلاة لا تجب لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المرأة: ((أليس إذا حاضت لم تصل، ولم تصم)) (1)
* * *
2) سئل فضيلة الشيخ - حفظه الله -: ورد في الحديث ((أنه لا خير في دين ليس فيه صلاة)) (2) ، فهل كانت الصلاة في الأديان السابقة مثل الصلاة في الإسلام أم تختلف عنها؟
فأجاب بقوله: هذا الحديث لا أعلم عنه، ولا أظنه يصح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكن الأديان السابقة قد ثبت فيها الصلاة وثبت فيها الركوع والسجود لقوله تعالى عن إسماعيل (وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب الحيض / باب ترك الحائض الصوم، وكتاب الصوم / باب الحائض تترك الصوم والصلاة.
(2) أخرجه الإمام أحمد 4/218 من حديث عثمان بن أبي العاص مطولاً وفيه: (لا خير في دين لا ركوع فيه) . وأبو داود: في كتاب الخراج / باب خبر الطائف، وضعفه الألباني - ضعيف أبي داود 300.(12/13)
وَالزَّكَاةِ) (1) وقوله (يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ43) (2) . وقوله بعد ذكر طائفة من الأنبياء (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً 58) (3) . والآيات في هذا كثيرة ولابد من الصلاة في كل شريعة لأنها على رأس العبادات العملية فهي أفضل العبادات بعد الشهادتين.
ولهذا كان القول الراجح من أقوال أهل العلم أن من تركها تهاوناً وكسلاً فإنه كافر مرتد عن الإسلام يحكم له بأحكام الكافرين.
* * *
3) وسئل فضيلة الشيخ: متى فرضت الصلاة بأركانها وواجباتها؟
فأجاب قائلاً: فرضت الصلاة في ليلة المعراج حين عرج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذلك قبل الهجرة بنحو ثلاث سنوات (4) ، وفرضت الصلاة أول ما فرضت ركعتين، فلما هاجر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة أقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الفجر، فصارت الظهر أربعاً، والعصر أربعاً، والعشاء أربعاً، وبقيت الفجر على ركعتين لأنه يطول فيها القراءة، وبقيت المغرب على ثلاث لأنها وتر النهار.
والظاهر أنها شرعت على هذا الوجه من قيام وركوع وسجود وقعود، لأن حديث عائشة لم تذكر فيه إلا التغيير في عدد الركعات
__________
(1) _ سورة مريم، الآية: 55.
(2) سورة أل عمران، الآية: 43.
(3) سورة مريم، الآية: 58.
(4) البخاري: كتاب بدء الخلق / باب ذكر الملائكة، ومسلم: كتاب الإيمان / باب الإسراء وفرض الصلوات.(12/14)
فقط، فعلم بذلك أن ما سواه لم يتغير.
* * *
4) وسئل فضيلة الشيخ - حفظه الله - عن فاقد الذاكرة والمغمى عليه هل تلزمهما التكاليف الشرعية؟
فأجاب بقوله: إن الله - سبحانه وتعالى - أوجب على الإنسان العبادات إذا كان أهلاً للوجوب، بأن يكون ذا عقل يدرك به الأشياء، وأما من لا عقل له فإنه لا تلزمه الشرائع، ولهذا لا تلزم المجنون ولا تلزم الصغير الذي لم يميز، بل ولا الذي لم يبلغ أيضاً، وهذا من رحمة الله تعالى، ومثله أيضاً المعتوه الذي أصيب بعقله على وجه لم يلغ حد الجنون، ومثله الكبير الذي بلغ فقدان الذاكرة فإنه لا يجب عليه صلاة ولا صوم، لأنه فاقد الذاكرة وهو بمنزلة الصبي الذي لا يميز فتسقط عنه التكاليف فلا يلزم بها.
وأما الواجبات المالية فإنها تجب في ماله ولو كان فاقد الذاكرة.
فالزكاة مثلاً تجب في ماله ويجب على من تولى أمره أن يخرج الزكاة عنه، لأن وجوب الزكاة يتعلق بالمال كما قال الله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ) (1) . فقال (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ) ولم يقل خذ منهم، وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمعاذ عندما بعثه إلى اليمن: (أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) (2) . وعلى هذا فالواجبات المالية لا تسقط عن فاقد الذاكرة، أما العبادات البدنية كالصلاة، والطهارة والصيام فإنها تسقط عن مثل
__________
(1) سورة التوبة، الآية 103.
(2) تقدم تخريجه ص 12.(12/15)
هذا الرجل لأنه لا يعقل.
وأما من زال عقله بإغماء من مرض ونحوه فإنه لا تجب عليه الصلاة على قول أكثر أهل العلم، فإذا أغمى على المريض لمدة يوم أو يومين فلا قضاء عليه، لأنه ليس له عقل، وليس كالنائم الذي قال فيه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها) (1) . لأن النائم معه إدراك بمعنى أنه يستطيع أن يستيقظ إذا أوقظ، وأما المغمى عليه فلا يستطيع أن يستيقظ إذا أوقظ، هذا إذا كان الإغماء بغير سبب، أما إذا كان الإغماء بسبب منه كالذي أغمى عليه من البنج ونحوه فإنه يقضي الصلاة التي مرت عليه وهو حال الغيبوبة، والله أعلم.
* * *
5) وسئل فضيلته: عن رجل كبير أصبح لا يشعر بنفسه لكبر سنه، فهو يتوضأ في أي وقت من الأوقات ويحسن الوضوء، ولكنه يصلى في غير الوقت، ويقول في صلاته بعض الألفاظ التي لا تمت إلى الصلاة بصلة، ويصلى الفريضة أكثر من مرة في اليوم. فهل صلاته مقبولة؟ وماذا على أهله في ذلك؟
فأجاب بقوله: مادام هذا الرجل قد سقط تمييزه، ولا يدري هل هو في عبادة أم في غير عبادة، فإنه لا صلاة عليه، لأنه قد بلغ سناً سقط به التمييز، فأصبح بمنزلة الطفل الذي ليس عليه صلاة، وهو بهذه الحال مرفوع عنه القلم ولو كان لديه تمييز وعنده من يذكره فإنه في هذه الحال يؤمر
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب المواقيت / باب من نسى صلاة فليصلها إذا ذكرها، ومسلم: كتاب المساجد / باب قضاء الصلاة الفائتة.(12/16)
بالصلاة، ويكون عنده أحدكم، يقول له: كبر، اقرأ الفاتحة، اركع، ارفع من الركوع، اسجد، اجلس بين السجدتين، إلى أخر أركان الصلاة، ويكون لكم بذلك أجر عند الله سبحانه وتعالى، لأن التعاون على البر والتقوى من طاعة الله سبحانه وتعالى.
* * *
6) وسئل فضيلة الشيخ: عن الفرق بين المجنون والمغمى عليه؟ وهل يلزم
المغمى عليه قضاء الصلاة؟
فأجاب بقوله: الفرق بين المجنون والمغمى عليه أن الأول فاقد العقل، والثاني فاقد الإحساس، فالأول تجده يتألم من الأمور المؤذية ويحس بها وينفر بطبيعته منها، ويصيح إذا آلمته لكن لا تمييز له، وأما الثاني فهو لا يتألم من ذلك ولا يصيح بل هو كالميت.
وأما لزوم قضاء الصلاة في حق المغمى عليه فهذا محل خلاف بين أهل العلم: فمنهم من أسقط عنه القضاء كمالك والشافعي، ومنهم من أوجب القضاء عليه كالمشهور من مذهب أحمد، ومنهم من فصل في ذلك بأنه إن أغمي عليه يوماً وليلة قضى، وإن زاد على ذلك لم يقض كمذهب أبي حنيفة، وفي الموطأ عن نافع أن عبد الله بن عمر أغمي عليه فذهب عقله فلم يقض الصلاة (1) ،
وهذا المروي عن ابن عمر هو الصحيح وأنه لا قضاء علي المجنون ولا المغمى عليه، والله الموفق.
* * *
7) وسئل فضيلة الشيخ: عن رجل له مدة شهرين لم يشعر بشيء ولم يصل ولم يصم رمضان فماذا يجب عليه؟
__________
(1) أخرجه مالك / باب ما جاء في جامع الوقت (23) .(12/17)
فأجاب بقوله: لا يجب عليه شيء لفقد شعوره، ولكن إن قدر الله أن يفيق لزمه قضاء رمضان، وإن قضى الله عليه بالموت فلا شيء عليه إلا أن يكون من زوي الأعذار المستمرة كالكبير ونحوه ففرضه أن يطعم وليه عنه عن كل يوم مسكيناً.
أما الصلاة فللعلماء في قضاءها قولان:
أحدهما: وهو قول الجمهور لا قضاء عليه لأن أبن عمر رضي الله عنهما أغمي عليه يوماً وليلة فلم يقض ما فاته (1)
والقول الثاني: عليه القضاء وهو المذهب عند المتأخرين من الحنابلة قال في الإنصاف وهو من مفردات المذهب وهو مروي عن عمار بن ياسر أنه أغمي عليه ثلاثاً وقضى ما فاته (2) . حرر في 24/2/1394 هـ.
* * *
8 وسئل حفظه الله تعالى: هل يحاسب المولود المتخلف عقلياً؟ وهل تعتبر ولادة طفل متخلف عقلياً عقوبة لوالديه؟
فأجاب بقوله: المولود المتخلف عقلياً حكمه حكم المجنون ليس عليه تكليف، ولا يحاسب يوم القيامة، لكنه إذا كان من أبوين مسلمين أو أحدهما مسلماً فإن له حكم الوالد المسلم، أي أن هذا الطفل يكون مسلماً فيدخل الجنة، أما إذا كان من أبوين كافرين فإن أرجح الأقوال أنه يمتحن يوم القيامة بما أراد الله عز وجل فإن أجاب وامتثل أدخل الجنة، وإن عصى أدخل النار.
هذا هو القول الراجح في حق هؤلاء، وهو ما ينطبق على من لم تبلغهم دعوة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كأناس في أماكن بعيدة عن بلاد الإسلام ولم يسمعوا عنه شيئاً، فهؤلاء إذا كان يوم القيامة امتحنهم الله سبحانه بما شاء فمن أطاع منهم دخل الجنة، ومن عصى دخل النار.
__________
(1) تقدم ص17.
(2) أخرجه البيهقي في " السنن الكبرى " 1/387.(12/18)
وقد يقول قائل: كيف يمتحنون وهم في دار الجزاء وليسوا في دار التكليف؟
وجوابنا على هذا:
أولاً: أن الله سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء، وله أن يكلف عباده في الآخرة كما كلفهم في الدنيا.
ثانياً: أن التكليف في الآخرة ثابت بنص القرآن (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ *خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ) (1) . فمثل هذا قد يقع في الآخرة.
إذن هذا المولود المتخلف عقلياً حكمه حكم المجانين وليس عليه تكليف، وحكمه حكم أبويه: إن كانا كافرين، وإن كانا مسلمين، أو أحدهما مسلماً.
أما بالنسبة للشق الثاني من السؤال: فإن المصائب تكون تارة عقوبة وتارة امتحاناً، فهي عقوبة إذا فعل الإنسان محرماً أو ترك واجباً فقد يعجل الله له العقوبة في الدنيا ويصيبه بما يشاء من مصيبة، وقد يصاب الإنسان بالمصيبة لا عقوبة على ترك واجب، أو فعل محرم ولكن من باب الامتحان إذ يمتحن الله بها الإنسان ليعلم أيصبر أم لا
__________
(1) سورة القلم، الآيتان: 42، 43.(12/19)
يصبر؟ فإن صبر كانت المصيبة منحة لا محنة يرتقي بها الإنسان إلى المراتب العليا.
* * *
9) وسئل فضيلته: هل يجوز للإنسان تأخير الصلاة لتحصيل شرط من شروطها كما لو اشتغل باستخراج الماء؟
فأجاب بقوله: الصواب أنه لا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها مطلقاً، وإذا خاف الإنسان خروج الوقت صلى على حسب حاله، وإن كان يمكن أن يحصل الشرط
قريباً لقوله تعالى (إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً) (1) . وكذلك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقت أوقات الصلاة، وهذا يقتضي وجوبها في وقتها، ولأنه لو جاز انتظار الشروط ما صح أن يشرع التيمم، لأن بإمكانه أن يحصل الماء بعد الوقت، ولا فرق بين أن يؤخرها إلى وقت طويل أو إلى وقت قصير، لأن كليهما إخراج للصلاة عن وقتها وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
* * *
10) وسئل فضيلته: إذا كان الإنسان لا يتمكن من الصلاة لا بقلبه ولا بجوارحه لشدة الخوف فهل يجوز له تأخير الصلاة؟
فأجاب قائلاً: إذا كان الإنسان لا يتمكن من الصلاة بوجه من الوجوه لا بقلبه ولا بجوارحه لشدة الخوف فالصحيح أنه يجوز له تأخير الصلاة في هذه الحال، لأنه لو صلى فإنه لا يدري ما يقول وما يفعل، ولأنه يدافع الموت، وقد ورد ذلك عن بعض الصحابة رضي الله عنهم
__________
(1) سورة النساء، الآية: 103.(12/20)
كما في حديث أنس رضي الله عنه في فتح تستر فإنهم أخروا الصلاة عن وقتها إلى الضحى حتى فتح الله عليهم (1) ، وعليه يحمل تأخير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصلاة عن وقتها يوم الخندق حينما شغل عن صلاة العصر إلى أن غربت الشمس كما في حديث جابر (2) ، وغزوة الخندق كانت في السنة الخامسة، وغزوة ذات الرقاع كانت في السنة الرابعة على المشهور، وقد صلى فيها صلاة الخوف فتبين أنه أخرها في الخندق لشدة الخوف.
* * *
11) وسئل أعلى الله درجته: عمن يسهر ولا يستطيع أن يصلي الفجر إلا بعد خروج الوقت فهل تقبل منه؟ وحكم بقية الصلوات التي يصليها في الوقت؟
فأجاب قائلاً: أما صلاة الفجر التي يؤخرها عن وقتها وهو قادر على أن يصليها في الوقت لأن بإمكانه أن ينام مبكراً فإن صلاته هذه لا تقبل منه لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " (3) والذي يؤخر الصلاة عن وقتها عمداً بلا عذر قد عمل عملاً ليس عليه أمر الله ورسوله فيكون مردوداً عليه.
لكن قد يقول إنني أنام، وقد قال النبي صلي الله عليه وسلم: ((من نام عن صلاة أو
__________
(1) أخرجه البخاري: في كتاب الخوف / باب الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدو. معلقاً بصيغة الجزم وقال الحافظ في " الفتح " 2/ 504: وصله ابن سعد وابن أبي شيبة من طريق قتادة عنه.
(2) أخرجه البخاري: كتاب المواقيت / باب قضاء الصلوات الأولى فالأولى، ومسلم: كتاب المساجد / باب الدليل لمن قال الصلاة الوسطى صلاة العصر.
(3) أخرجه مسلم: كتاب الأقضية / باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور.(12/21)
نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك)) (1) .
فنقول: إذا كان بإمكانه أن ينام مبكراً ليستيقظ مبكراً، أو يجعل عنده ساعة تنبهه، أو يوصي من ينبهه فإن تأخيره الصلاة وعدم قيامه يعتبر تعمداً لتأخير الصلاة عن وقتها فلا تقبل منه.
أما بقية الصلوات التي كان يصليها في وقتها فإنها مقبولة.
وإنني بهذه المناسبة أوجه كلمة وهي: أنه يجب على المسلم أن يقوم بعبادة الله على الوجه الذي يرضي الله عز وجل، لأنه في هذه الحياة الدنيا إنما خلق لعبادة الله ولا يدري متى يفجؤه الموت فينتقل إلى عالم الآخرة إلى دار الجزاء التي ليس فيها عمل كما قال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقةً جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له " (2) .
* * *
12) وسئل فضيلته عن حكم من يضع توقيت الساعة لموعد الدوام الرسمي ويصلي الفجر في هذا الوقت سواء السابعة أو السادسة والنصف؟ هل هو آثم في ذلك؟ وما حكم صلاته؟
فأجاب بقوله: هو آثم في ذلك بلا شك وهو ممن آثر الدنيا على الآخرة وقد أنكر الله ذلك في قوله تعالى: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (3) . وصلاته هذه ليست مقبولة منه، ولا تبرأ بها ذمته وسوف يحاسب عنها يوم القيامة، وعليه أن يتوب إلى الله، وأن
__________
(1) تقدم تخريجه ص 16.
(2) أخرجه مسلم: كتاب الوصية / باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته.
(3) سورة الأعلى، الآيتان 16، 17.(12/22)
يصليها مع المسلمين ثم ينام بعد ذلك إلى وقت الدوام إن شاء.
* * *
13) وسئل فضيلته عمن ينام عن صلاة الفجر ولا يصليها إلا بعد طلوع الشمس قبيل ذهابه إلى الدوام وإذا قيل له: هذا أمر لا يجوز قال: " رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ " وهذا ديدنه؟
فأجاب بقوله: هذا الشخص اسأله وقل: ما رأيك لو كان الدوام يبدأ بعد طلوع الفجر بنصف ساعة هل تقوم أو تقول: رفع القلم عن ثلاثة. فسيجيبك بأنه سيقوم.
فقل له إذا كنت تقوم لعملك في الدنيا فلماذا لا تقوم لعملك في الآخرة؟!
ثم إن النائم الذي رفع عنه القلم هو الذي ليس عنده من يوقظه أو يتمكن من إيجاد شيء يستيقظ به، أما شخص عنده من يوقظه أو يتمكن من إيجاد شيء يستيقظ به أما شخص عنده من يوقظه أو يتمكن من إيجاد شيء يستيقظ به كالساعة وغيرها ولم يفعل فإنه ليس بمعذور.
وعلى هذا أن يتوب إلى الله - عز وجل - ويجتهد في القيام لصلاة الفجر ليصليها مع المسلمين.
* * *
14) وسئل فضيلة الشيخ: عن الذين يذهبون إلى رحلات برية ويقيمون المخيمات لعدة أيام وغالباً ما تكون في أيام الشتاء والملاحظ أن هؤلاء يقضون الليل بالسهر حتى قبيل الفجر بنحو ساعة ثم يخلدون إلى النوم ولا يستيقظون إلا بعد الظهر حوالي الساعة الواحدة والنصف ثم يصلون الفجر مع الظهر جمعاً فما الحكم؟ علماً أن بعضهم يحتج بشدة البرد والبعض الآخر يحتج(12/23)
بالتعب بسبب السهر، أفتونا مأجورين وجزاكم الله خيراً؟
فأجاب فضيلته بقوله: مما لا شك فيه أن الصلاة ثانية أركان الإسلام التي بني عليها كما صح ذلك في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وأقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام " (1) . وأن الصلاة مفروضة بأوقات معينة لقوله تعالى: (إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً) (2) فلا تصح الصلاة قبل الوقت ولا بعده إلا بعذر.
أما قبل الوقت فلا تصح مطلقاً حتى لو صلى إنسان ظاناً أن الوقت قد دخل ثم تبين له أنه لم يدخل فإن عليه أن يعيد صلاته بعد دخول الوقت، وتكون الصلاة الأولى نفلاً. أما إذا صلاها بعد الوقت. فإن كان بعذر شرعي كالنسيان والنوم فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك " (3) . ولما نام صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصحبه في السفر ولم يوقظهم إلا حر الشمس قضوا صلاة الفجر (4) .
وإن أخرها عن وقتها بلا عذر شرعي فإنها لا تقبل منه، لأنه إذا أخرجها عن وقتها بلا عذر شرعي عمل عملاً ليس عليه أمر الله ورسوله
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب الإيمان / باب الإيمان وقول النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :" بني الإسلام ". ومسلم: كتاب الإيمان / باب بيان أركان الإسلام ...
(2) سورة النساء، الآية: 103.
(3) تقدم ص16.
(4) أخرجه البخاري: كتاب التيمم / باب الصعيد الطيب، ومسلم: كتاب المساجد / باب قضاء الصلاة الفائتة.(12/24)
فيكون مردوداً، لما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " (1) . أي مردود على العامل.
إذا علم هذا فإن الواجب على الاخوة الذين يخرجون إلى الرحلات أن يشكروا الله تعالى على هذه النعمة حيث جعلهم في رخاء ويسر من العيش، وفي أمن وأمان من الخوف، ويقوموا بما أوجب الله عليهم من الصلاة في أوقاتها، سواء صلاة الفجر أم غيرها، ولا يحل لهم أن يؤخروا صلاة الفجر عن وقتها بحجة أنهم نائمون، لأن هذا النوم لا يعذرون فيه غالباً لكونهم يستطيعون أن يكون لهم منبهات تنبههم للصلاة في وقتها، ويستطيعون أن يناموا مبكرين حتى يقوموا نشيطين، وأما البرد فليس عذراً في تأخير الصلاة عن وقتها وذلك لأنه يوجد ولله الحمد ما يسخن به الماء في هذه الرحلات فعليهم أن يسخنوا الماء ليتوضئوا به، وإذا قدر أنه كان على الإنسان جنابة ولم يتمكن من تسخين الماء بمعني ليس عنده شيء يسخن به الماء وخاف على نفسه من البرد ففي هذه الحالة يتيمم، فإذا أرتفع النهار وجاء الدفء اغتسل، ولا يجوز أن يؤخر الصلاة عن وقتها لمثل هذه الأعذار الواهية.
فنصيحتي للأخوة الذين يخرجون للرحلات أن يتقوا الله سبحانه وتعالى، وأن يخافوا يوم الحساب، وأن يعلموا أنهم سيلاقون ربهم فيحاسبهم على ما عملوا كما قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) (2) . ونسأل الله لنا ولهم
__________
(1) تقدم تخريجه ص 21.
(2) سورة الأنشقاق، الآية:6.(12/25)
الهداية والتوفيق لما يحب ويرضى.
* * *
15) وسئل فضيلة الشيخ: عمن يؤخر صلاة الفجر حتى يخرج وقتها؟
فأجاب بقوله: هؤلاء الذين يؤخرون صلاة الفجر حتى يخرج وقت الفجر إن كانوا يعتقدون حل ذلك فإن هذا كفر بالله عز وجل، لأن من اعتقد حل تأخير الصلاة عن وقتها بلا عذر فإنه كافر لمخالفته الكتاب، والسنة، وإجماع المسلمين.
أما إذا كان لا يرى حل ذلك، ويرى أنه عاص بالتأخير لكن غلبته نفسه وغلبه النوم فعليه أن يتوب إلي الله عز وجل، وأن يقلع عما كان يفعله وباب التوبة مفتوح حتى لأكفر الكافرين، فإن الله يقول: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (1) ، وعلى من علم بهم أن ينصحهم ويوجههم إلي الخير، فإن تابوا وإلا فعليه أن يبلغ الجهات المسؤولة بتأديب هذا وأمثاله. والله الموفق.
* * *
16) وسئل عن حكم من صلى الفجر بعد طلوع الشمس لعدم التمكن من القيام مبكراً؟
فأجاب بقوله: يظهر من سؤال السائل أنه ما صلى الفجر إلا مع طلوع الشمس أو بعد طلوعها، ولا ريب أن هذا عمل محرم، وأنه لا
__________
(1) سورة الزمر، الآية: 53.(12/26)
يجوز للإنسان أن يؤخر الصلاة عن وقتها بدون عذر، والنوم عذر إذا لم يكن فيه تفريط، فإذا كان فيه تفريط بأن تأخر في النوم ولم يجعل عنده شيئاً يوقظه كالمنبه، أو شخصاً يوقظه عند الأذان، فإنه مفرط، ويكون آثماً بهذا الفعل.
أما إذا كان غير مفرط كأن يكون عادته أن يقوم لكنه عجز حتى طلعت الشمس فإنه يصلي الفجر كما يصليها، فيتطهر ثم يصلي سنة الفجر، ثم يصلي الفريضة، كما ثبت ذلك من حديث أبي قتادة رضي الله عنه في قصة نومهم مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث تقدم عن المكان الذي هم فيه وأمر بلالاً فإذن وصلوا ركعتي الفجر، ثم أقيمت الصلاة بعد ذلك وصلي الفجر1، والمهم في ذلك أن الإنسان يتخذ الحيطة لصلاة الفجر من منبه أو شخص موثوق به حتى يؤدي الصلاة على الوجه الذي أمر به.
* * *
17) وسئل فضيلة الشيخ- حفظه الله تعالى - عن فتاة أخرت صلاة المغرب بسبب النوم ولم تصلها إلا في الصباح؟
فأجاب قائلاً: الحكم أن لا يجوز لأحد أن يتهاون في الصلاة حتى يخرج وقتها، وإذا كان الإنسان نائماً فإن بإمكانه أن يوكل من يوقظه حتى يصلي، ولابد من ذلك، ولا يمكن أن تؤخر صلاة المغرب ولا العشاء إلي الفجر، بل الواجب أن تصلي الصلاة في وقتها، فعلى هذه الفتاة أن تحرض أهلها على أن يوقظوها، ولو فرض أن طرأت(12/27)
حاجة أو عارض من العوارض وكان فيها نوم عظيم وصلت المغرب وخافت إن لم تصلى العشاء فسيغلبها النوم حتى لا تقوم إلا مع الفجر، فإنه لا حرج عليها في هذه الحال أن تجمع العشاء مع المغرب لئلا تفوت صلاة العشاء عن وقتها، وهذا لا يكون إلا عند العوارض كما لو كانت سهرت ليالي متعددة، أو كانت عاقبة مرض أو نحوه.
* * *
18) وسئل فضيلة الشيخ: عن امرأة تؤخر صلاة المغرب عن أول وقتها من أجل استماع برنامج نور علي الدرب فهل عليها إثم بهذا التأخير علماً بأنها تصلي الصلاة قبل خروج وقتها؟
فأجاب بقوله: ليس عليها أثم في هذا التأخير ما دامت تصلي الصلاة قبل خروج وقتها، ومن المعلوم أن وقت المغرب يمتد إلي دخول وقت العشاء، أي إلي ما بعد ساعة وربع أو نحوها من غروب الشمس، قد يصل أحياناً إلي ساعة وثلاثين دقيقة، وقد يقصر حتى يكون ساعة وربعاً، والمهم أن تأخير صلاة المغرب عن أول وقتها من أجل الاستماع إلي هذا البرنامج لا بأس به، لأن الاستماع إلي هذا البرنامج وغيره من البرامج الدينية استماع إلي حلقة علم، ولا يخفى على أحد فضل طلب العلم والتماسه، حتى قال النبي عليه الصلاة والسلام: " من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً، سهل الله له به طريقاً إلي الجنة " (1) .
وطلب العلم من أفضل القربات والعبادات حتى قال الإمام أحمد: " العلم لا يعدله شئ لمن صحت نيته ". قالوا: كيف تصلح النية
__________
(1) أخرجه مسلم: كتاب الدعوات / باب فضل الاجتماع علي تلاوة القرآن.(12/28)
يا أبا عبد الله؟ قال: " ينوي رفع الجهل عن نفسه وعن غيره ".
وإذا علم الله من نية هذه المرأة المستمعة أنه لولا طلبها الاستماع إلي هذا البرنامج لصلت في أول الوقت، لأنها إنما أخرت الصلاة عن أول الوقت لمصلحة شرعية قد تكون أفضل من تقديم الصلاة في أول وقتها.
* * *
19) سئل فضيلة الشيخ: قلتم حفظكم الله في الفتوى السابقة إن تأخير الصلاة عن أول وقتها من أجل استماع برنامج (نور علي الدرب) جائز فنأمل من فضيلتكم بيان الدليل؟
فأجاب بقوله: مسألة تأخير الصلاة عن أول وقتها من أجل استماع (نور علي الدرب) فلا أظنه يخفى أن الصلاة جائزة في أول الوقت وآخره بدلالة الكتاب والسنة.
أما الكتاب ففي قوله تعالى: (إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً) (1) . وقد بين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مواقيتها من كذا إلي كذا فمن أداها فيما بين أول الوقت وآخره فقد صلاها في الزمن الموقوت لها.
وأما السنة ففي صحيح مسلم 1/427 من حديث ابن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن وقت الصلاة فقال: " وقت صلاة الفجر ما لم يطلع قرن الشمس الأول، ووقت صلاة الظهر إذا زالت الشمس عن بطن السماء ما لم يحضر العصر، ووقت صلاة العصر ما لم تصفر الشمس ويسقط قرنها الأول، ووقت صلاة المغرب إذا غابت الشمس ما لم يسقط الشفق، ووقت صلاة العشاء إلي نصف
__________
(1) سورة النساء، الآية: 103.(12/29)
الليل " (1) وفيه أيضاً 1/429 حديث بريدة أن النبي صلي الله عليه وسلم أتاه سائل يسأله عن المواقيت فذكر الحديث وفيه أن النبي صلي الله عليه وسلم صلى في اليوم الأول الصلوات في أول الوقت وصلاها في اليوم الثاني في آخره وقال " الوقت بين هذين " (2) .وفي شرح المهذب للنووي 3/58 يجوز تأخير الصلاة إلي آخر وقتها بلا خلاف.فقد دل الكتاب، والسنة، وأقوال أهل العلم على جواز تأخير الصلاة إلي آخر وقتها، ولا أعلم أحداً قال بتحريم ذلك إلا إذا خشي مانعاً يمنعه من فعل الصلاة على الوجه الواجب في آخر الوقت فلا يجوز له التأخير حينئذ، فإذا كان تأخير الصلاة إلي آخر الوقت جائزاً بمقتضى الكتاب، والسنة، وكلام أهل العلم بدون سبب، فأي مانع من استماع الإنسان إلي برنامج علم يستفيد منه ويصلي بعده ما دام الوقت باقياً؟! نعم إذا كان يفوت واجباً كالصلاة مع الجماعة فإنه لا يجوز إسقاط هذا الواجب لاستماع هذا البرنامج لأن الواجب لا يسقط بما دونه.
* * *
20) سئل فضيلة الشيخ: ما الواجب تجاه من يصلى الصلوات بعد فوات أوقاتها كمن يصلى الفجر بعد طلوع الشمس؟ وما حكم عمله هذا؟
فأجاب بقوله: أما الواجب تجاه هذا الرجل النصيحة، أن تنصحوه، وتخوفوه بالله، وتبينوا له ما في المحافظة علي الصلاة من
__________
(1) أخرجه مسلم: كتاب المساجد /باب أوقات الصلوات الخمسة.
(2) أخرجه مسلم: كتاب المساجد /باب أوقات الصلوات الخمسة.(12/30)
الأجر والثواب، فأن اهتدى فلنفسه، وأن لم يهتد فلا يضر إلا نفسه.
أما بالنسبة لفعله، فهو إذا كان يستيقظ ولكنه يتكاسل ويضع رأسه على الوسادة فإن صلاته بعد طلوع الشمس لا تقبل منه ولا تنفعه عند الله، ودليل ذلك قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " (1) .
ومن المعلوم أن من لم يصلى صلاة الفجر إلا بعد طلوع الشمس عامداً ذاكراً قد عمل عملاً ليس عليه أمر الله ورسوله، فيكون عمله هذا مردوداً، ولا تقبل منه صلاته، فإذا كان يوقظ ولكنه يتكاسل ويبقى نائماً، فإن صلاته بعد طلوع الشمس لا تقبل منه، وسوف يحاسب عنها يوم القيامة.
* * *
21) وسئل فضيلة الشيخ: عمن يؤخر صلاة الفجر حتى تطلع الشمس هل يعتبر كافراً؟
فأجاب قائلاً: هذا لا يكفر لأنه لم يترك الصلاة لكن تهاون بها ولا يحل له أن يفعل ذلك، فإن فعل وهو يستطيع أن يقوم فيصلي في الوقت فإنه لا تقبل منه صلاته، لأن القاعدة " أن كل عبادة مؤقتة إذا تركها الإنسان حتى خرج وقتها بدون عذر فإنها لا تقبل منه "، مثال ذلك ترك الصلاة حتى يخرج وقتها ثم يقوم الإنسان كي يصلي لا تقبل منه، كذلك ترك صيام يوم من رمضان عمداً بدون عذر، ثم أراد أن يقضيه بعد ذلك نقول: لا يقبل منه، والدليل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((
__________
(1) تقدم تخريجه ص21.(12/31)
من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) (1)
...
* * *
22) وسئل فضيلة الشيخ: عن حكم تأخير الصلاة من أجل العمل؟
فأجاب بقوله: إذا كان التأخير من أول الوقت إلى آخره فقط ولكن الصلاة وقعت في وقتها فلا شيء عليه، لأن تقديم الصلاة في أول وقتها على سبيل الأفضلية لا على سبيل الوجوب، هذا إذا لم يكن هناك جماعة في المسجد، وإلا وجب عليه حضور الجماعة، إلا أن يكون له عذراً في تركها. وأما إذا كان هذا التأخير إلى ما بعد خروج الوقت فإن ذلك ليس بجائز، اللهم إلا إذا نسي الإنسان واستغرق في الشغل حتى ذهل عن الصلاة فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها " (2) فهذا إذا ذكر يصليها ولا حرج عليه، وأما أن يذكر الصلاة ولكن نظراً لهذا الشغل الذي هو مرتبط به أخرها من أجله فهذا حرام ولا يجوز، ولو صلاها بعد الوقت في هذه الحال لم تقبل منه لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن من تعمد تأخير الصلاة عن وقتها بدون عذر شرعي فإنه لا صلاة له، لأنه أخرجها عن الوقت الذي أمر أن يؤديها فيه بلا عذر فيكون قد عمل عملاً ليس عليه أمر الله ورسوله، والله الموفق.
* * *
__________
(1) تقدم تخريجه ص21.
(2) تقدم تخريجه ص 16.(12/32)
23) وسئل فضيلة الشيخ: عن قول العوام: إن تأخير المرأة الصلاة حتى تنتهي الجماعة في المسجد أفضل فهل لهذا أصل في الشرع؟
فأجاب بقوله: هذا لا أصل له في الشرع، بل المرأة كغيرها الأفضل لها أن تقدم الصلاة في أول وقتها، إلا صلاة العشاء فالأفضل أن تؤخرها إلى ما بعد ثلث الليل، فإذا كانت المرأة في بيتها فإننا نقول لها: ما دام ليس عليك مشقة فأخري صلاة العشاء إلى ما بعد ثلث الليل، لكن لا تؤخريها إلى ما بعد نصف الليل، والمعتبر نصف الليل من الغروب إلى طلوع الفجر، فنصف ما بين الغروب إلى طلوع الفجر هذا هو وقت العشاء، فالمرأة الأفضل لها أن تقدم الصلاة في أول وقتها كالرجل، إلا صلاة العشاء فإن الأفضل لها وللرجال أيضاً إذا لم يشق عليهم الأفضل أن يؤخروا صلاة العشاء لأنه ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه تأخر ذات ليلة في صلاة العشاء فخرج إلى أصحابه فصلى ثم قال: " إن هذا لوقتها لولا أن أشق على أمتي " (1) .
* * *
24) سئل فضيلة الشيخ أعلى الله درجته: عن حكم تأخير الصلاة عن وقتها بسبب عمل ما مثل الطبيب المناوب؟
فأجاب بقوله: تأخير الصلاة عن وقتها بسبب العمل حرام ولا يجوز لأن الله تعالى يقول: (إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً) (2) . والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقت الصلاة بأوقات محددة، فمن أخرها
__________
(1) أخرجه مسلم: كتاب المساجد / باب وقت العشاء.
(2) سورة النساء، الآية: 103.(12/33)
عن هذه الأوقات أو قدمها عليها فقد تعدى حدود الله، ومن يتعدى حدود الله فأولئك هم الظالمون. ولهذا قال الله تعالى: (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً) (1) أي إذا كنتم لا تتمكنون من أداء الصلاة على ما هى عليه وخفتم من العدو فرجالاً أو ركباناً، أي حتى لو كنتم ماشين أو راكبين فصلوا ولا تؤخروها، فلا يجوز للإنسان أن يؤخر الصلاة عن وقتها لأي عمل كان، ولكن إذا كانت الصلاة مما يجمع إلى ما قبلها أو إلى ما بعدها وشق عليه أن يصلي كل صلاة في وقتها فإن له أن يجمع. كما لو كانت نوبة العمل في صلاة الظهر ويشق عليه أن يصلي صلاة الظهر فإنه يجمعها مع صلاة العصر، وهكذا في صلاة العشاء مع المغرب لأنه ثبت في " صحيح مسلم " من حديث بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: " جمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين صلاة الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بالمدينة في غير خوف ولا مطر " فسألوا ابن عباس ما أراد بذلك؟ قال: " أراد ألا يحرج أمته " (2) أي لا يلحقهم الحرج في ترك الجمع.
أما تأخير الصلاة عن وقتها كما لو أراد أن يؤخر الفجر حتى تطلع الشمس أو يؤخر العصر حتى تغرب الشمس أو غيره فإن هذا لا يجوز.
* * *
25) وسئل فضيلة الشيخ: أعمل جزاراً وأغلب أوقات الصلاة تحضرني وأنا في مكان العمل، والملابس التي أرتديها لا تخلو من قطرات دم، أو زبالة غنم، مع العلم أن البيت بعيد عن مكان العمل وبعد انتهاء العمل أقضيها. فما حكم قضائي لتلك الأوقات؟
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 239.
(2) أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين / باب الجمع بين الصلاتين في الحضر.(12/34)
فأجاب بقوله: تأخيرك الصلاة عن وقتها عمل محرم ولا يجوز، فإذا أخللت بها أخللت بدينك، والواجب عليك أن تصلي كل صلاة في وقتها مع الجماعة، ويمكنك أن تجعل عندك ثوباً نظيفاً، فإذا أذن للصلاة خلعت الثوب الذي أصيب بالأوساخ ولبست الثوب النظيف للصلاة، فإذا رجعت لبست الثوب الآخر وهكذا، وبذلك تؤدي الصلاة على الوجه المطلوب وتخرج من الإثم.
أما تأخيرك الصلاة حتى تنتهي من العمل فإنه محرم، ومع ذلك لا يجزئك من الصلوات إلا ما أدركت وقتها، وما لم تدرك وقته فإنه لا يجزئك، لأن القول الراجح أن من أخرج الصلاة عن وقتها بدون عذر فإنها لا تقبل منه، ولو صلاها ألف مرة فانتبه يا أخي لنفسك، واتق الله فيها، وقم بما أوجب الله عليك.
وأعلم أن الطاعة مجلبة للرزق وأن المعصية هي محق الرزق، فالله عز وجل يقول: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً *وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) (1) . والرزق الذي بغير طاعة ما هو إلا استدراج من الله، كما قال تعالى: (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (2) . فاتق الله فاتق الله.
* * *
26) وسئل فضيلة الشيخ – حفظه الله -: عن حكم تارك الصلاة؟ وحكم من يتهاون بالصلاة مع جماعة المسلمين ويصلي في بيته؟ وحكم من يؤخرها عن وقتها؟
__________
(1) سورة الطلاق، الآيتان: 2، 3.
(2) سورة الأعراف، الآيتان: 182، 183.(12/35)
فأجاب بقوله: هذه ثلاث مسائل:
* أما المسألة الأولى: فإن ترك الصلاة كفر مخرج عن الملة، وإذا كان له زوجة انفسخ نكاحه منها، ولا تحل ذبيحته، ولا يقبل منه صوم ولا صدقة، ولا يجوز أن يذهب إلى مكة فيدخل الحرم، وإذا مات فإنه لا يجوز أن يغسل، ولا يكفن، ولا يصلى عليه، ولا يدفن مع المسلمين، وإنما يخرج به إلى البر ويحفر له حفرة يرمس فيها، ومن مات له قريب وهو يعلم أنه لا يصلي فإنه لا يحل له أن يخدع الناس ويأتي به إليهم ليصلوا عليه، لأن الصلاة على الكافر محرمة لقوله تعالى: (وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) (1) . ولأن الله يقول: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) (2) .
* وأما من لا يصلي مع الجماعة ويصلي في بيته فهو فاسق وليس بكافر، لكنه إذا أصر على ذلك التحق بأهل الفسق وانتفت عنه صفة العدالة.
* وأما الذي يؤخرها عن وقتها فإنه أشد إثماً من الذي لا يصلي مع الجماعة، وتأخير الصلاة حتى خروج الوقت بدون عذر شرعي حرام ولا يجوز، ولو صلاها بعد الوقت في هذه الحال لم تقبل منه لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " (3) . وعلى كل حال مسألة الصلاة من الأمور الهامة التي يجب على المؤمن أن يعتني بها وهي
__________
(1) سورة التوبة، الآية: 84.
(2) سورة التوبة، الآية: 113.
(3) تقدم تخريجه ص21.(12/36)
عمود الإسلام كما قال النبي، عليه الصلاة والسلام، ومن لا عمود لبنائه فإن بنائه لا يمكن أن يستقيم أبداً، فعلى المسلمين التناصح فيما بينهم والتآمر بها والحرص عليها.
* * *
27) وسئل فضيلته: عن حكم من ترك صلاة الفجر وهو يسمع المؤذن يقول: الصلاة خير من النوم؟
فأجاب بقوله: ينبغي أن يقال ما حكم من ترك صلاة الجماعة وهو يسمع المؤذن يقول: حي على الصلاة، لأجل أن يكون ذلك شاملاً لصلاة الفجر وغيرها، ولأن قول المؤذن حي على الصلاة أبلغ من قوله: الصلاة خير من النوم، ولأن قول الصلاة خير من النوم ليست ركناً من الأذان، وحي على الصلاة ركن فيه.
والمهم أنه لا يجوز لأحد من الرجال سمع المؤذن يقول حي على الصلاة أن يتأخر إلا بعذر شرعي، وقد ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه جاءه رجل أعمى، فقال: يا رسول الله، إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، وأنا رجل أعمى، فرخص له النبي عليه الصلاة والسلام، فلما ولى دعاه فقال له:" هل تسمع النداء " قال: نعم، قال: " فأجب " (1) . وهذا دليل واضح على أن كل من سمع النداء فعليه أن يجيب المنادي.
* * *
28 وسئل حفظه الله تعالى: عن حكم من ترك صلاة الفجر؟
__________
(1) أخرجه مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة / باب يجب إتيان المسجد على من سمع النداء.(12/37)
فأجاب فضيلته بقوله: ترك صلاة الفجر إن كان المقصود تركها مع الجماعة فإن ذلك محرم وإثم، لأنه يجب على المرء أن يصلي مع الجماعة، وإن كان المقصود أنه لا يصليها أبداً، أو لا يصليها إلا بعد طلوع الشمس فإنه على خطر عظيم، حتى ذهب بعض أهل العلم إلى أنه إذا أخر الصلاة حتى خرج وقتها بدون عذر فإنه يكون بذلك كافراً، والواجب على كل من كانت هذه حاله أن يتوب إلى الله، وأن يقبل على ربه وعبادته.
* * *
29) وسئل فضيلته عن رجل لديه عمال لا يصلون فما نصيحتكم لهؤلاء العمال؟ وما الواجب على صاحب العمل؟
فأجاب بقوله: لا شك أن المسلم ملتزم بجميع أحكام الإسلام: من الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج وغيرها، والواجب عليه أن يقوم بذلك على حسب ما أوجبه الله عليه، وترك الصلاة كفر مخرج عن الملة، فمن تركها وهو مسلم فهو ملتحق – والعياذ بالله – بالكفار المرتدين، ونصيحتي لهؤلاء العمال أن يتقوا الله عز وجل وأن يرجعوا إلى دينهم، وأن يؤدوا الصلاة حسب ما أمر الله بها، هذا بالنسبة لهم. أما بالنسبة لمن كانوا عنده فإن الواجب عليه إلزامهم بالصلاة. فإذا لم يفعلوا فليرفع بهم إلى ولاة الأمور، ليقوموا بما يجب نحوهم. فإن لم يتمكن من ذلك فإن الأولى استبدالهم، لأنه لا ينبغي أن يبقى عندك رجل مرتد عن الإسلام يعمل في ورشة أو غيرها. والله الموفق.
* * *
30) وسئل: عن امرأة توفي زوجها منذ خمس سنوات، ولديها(12/38)
ولدان لا يصليان، فالكبير يبلغ من العمر تسعة عشر عاماً والثاني سبعة عشر عاماً، ولقد أمرتهما بالصلاة ونصحتهما وأخبرتهما عن الصلاة وإثم تاركها، ولكن دون فائدة، مع العلم بأنها مريضة، وكلما رأتهما على ذلك تأثرت، فإذا رأياها كذلك توددا إليها فيصليان ويتركان، فماذا تفعل لهما؟ وهل عليها إثم إذا تركتهما؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا شك أن الإثم على الأولاد لأنهم بالغون، وترك الصلاة كفر مخرج عن الملة إذا تركها الإنسان ولم يصل، لأدلة كثيرة من الكتاب والسنة، وقد حكى بعض أهل العلم إجماع الصحابة على ذلك، ولا شك أن الذي لا يصلي ليس في قلبه إيمان، لأن الإيمان مقتضٍ لفعل الطاعة، وأعظم الطاعات البدنية الصلاة، فإذا تركها فهو دليل أنه ليس في قلبه إيمان، وإن ادعى أنه مؤمن، فإن من كان مؤمناً فإنه بمقتضى هذا الإيمان يكون قائماً بهذه الصلاة العظيمة.
وأما أنت فعليك أن تتقي الله سبحانه وتعالى في نصحهم، وإرشادهم، وأمرهم بالصلاة، ونهيهم عن إضاعتها، وإيقاظهم من النوم، وزجرهم لأدائها، فإذا لم يفعلوا فإنما حسابهم على الله عز وجل، وأكثري أيتها الأخت لهم من الدعاء بالهداية والتوفيق، فلعل الله أن يستجيب لك فيكون بذلك سعادتك وسعادتهم إلى يوم القيامة.
* * *
31) وسئل فضيلة الشيخ: عن رجل خطب من رجل ابنته، ولما سأل عنه إذا هو لا يصلي، وأجاب المسئول عنه بقوله: يهديه الله، فهل يزوج هذا؟(12/39)
فأجاب جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيراً بقوله: أما إذا كان الخاطب لا يصلي مع الجماعة فهذا فاسق عاص الله ورسوله مخالف لما أجمع المسلمون عليه من كون الصلاة جماعة من أفضل العبادات، قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى – ص222 ج 23 من مجموع الفتاوى: " اتفق العلماء على أنها – أي صلاة الجماعة – من أوكد العبادات، وأجل الطاعات، وأعظم شعائر الإسلام " اهـ كلامه رحمه الله تعالى، ولكن هذا الفسق لا يخرجه من الإسلام فيجوز أن يتزوج بمسلمة لكن غيره من ذوي الاستقامة على الدين والأخلاق أولى منه، وإن كانوا أقل مالاً وحسباً كما جاء في الحديث: " إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه " قالوا يا رسول الله وإن كان فيه؟ قال: " إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه " ثلاث مرات، أخرجه الترمذي (1) ، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك " (2) . ففي هذين الحديثين دليل على أنه ينبغي أن يكون أولى الأغراض بالعناية والاهتمام الدين والخلق من الرجل والمرأة، واللائق بالولي الذي يخاف الله تعالى ويرعى مسؤوليته أن يهتم ويعتني بما أرشد إليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه مسؤول عن ذلك يوم القيامة قال الله تعالى: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ
__________
(1) (1) أخرجه الترمذي: كتاب النكاح / باب ما جاء إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه 1085) وقال الترمذي: هذ حديث حسن غريب. وابن ماجة (1967) والحاكم 2/175.
(2) أخرجه البخاري: كتاب النكاح / باب الأكفاء في الدين، ومسلم: كتاب الرضاع / باب استحباب نكاح ذات الدين.(12/40)
فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) (1) .
وقال: (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ* فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ) (2) .أما إذا كان الخاطب لا يصلي أبداً لا مع الجماعة ولا وحده فهذا كافر خارج عن الإسلام، يجب أن يستتاب، فإن تاب وصلى تاب الله عليه إذا كانت توبته نصوحاً خالصةً لله، وإلا قتل كافراً مرتداً، ودفن في غير مقابر المسلمين من غير تغسيل، ولا تكفين، ولا صلاة عليه، والدليل على كفره نصوص من كتاب الله تعالى، ومن سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:فمن الكتاب قوله تعالى: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ) . فقوله (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ) (3) . فقوله: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ) دليل على أنه حين إضاعة الصلاة واتباع الشهوات ليس بمؤمن. وقال تعالى: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) (4) . فدل على أن الأخوة في الدين لا تكون إلا بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، لكن السنة دلت على أن تارك الزكاة لا يكفر إذا كان مقراً بوجوبها لكن بخل بها، فبقيت إقامة الصلاة شرطاً في ثبوت الأخوة الإيمانية وليس فسقاً أو كفراً دون كفر، لأن الفسق والكفر دون الكفر لا يخرج الفاعل من دائرة الأخوة الإيمانية كما
__________
(1) سورة القصص، الآية: 65.
(2) سورة الأعراف، الآيتان: 6، 7.
(3) سورة مريم،الآيتان: 59، 60.
(4) سورة التوبة، الآية: 11.(12/41)
قال الله تعالى في الإصلاح بين الطائفتين المقتتلتين من المؤمنين: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) (1) .
فلم تخرج الطائفتان المقتتلتان من دائرة الأخوة الإيمانية مع أن قتال المؤمن من الكفر كما ثبت في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره عن ابن مسعود – رضي الله عنه – أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " سباب المسلم فسوق وقتاله كفر " (2) .
وأما الأدلة من السنة على كفر تارك الصلاة فمثل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن بين الرجل والشرك والكفر ترك الصلاة " (3) . رواه مسلم عن جابر بن عبد الله عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعن بريدة بن الحصيب قال: سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر " (4) . رواه الخمسة: الإمام أحمد وأصحاب السنن. وعن عبادة بن الصامت – رضي الله عنه – أنهم بايعوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أن لا ينازعوا الأمر أهله، إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان (5) ، والمعنى أن لا ينازعوا
__________
(1) سورة الحجرات، الآية: 10.
(2) أخرجه البخاري: كتاب الإيمان/ باب خوف المؤمن أن يحبط عمله وهو لا يشعر، ومسلم: كتاب الإيمان/ باب قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سباب المسلم فسوق.......".
(3) أخرجه مسلم: كتاب الإيمان/ باب بيان إطلاق الكفر على من ترك الصلاة.
(4) أخرجه الإمام أحمد 5/346، والترمذي: كتاب الإيمان/ باب ما جاء في ترك الصلاة (2621) ، والنسائي: كتاب الصلاة/ باب الحكم في تارك الصلاة. وابن ماجة: كتاب إقامة الصلاة/ باب ما جاء فيمن ترك الصلاة (1079) . وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب.
(5) أخرجه البخاري: كتاب الفتن/ باب ما جاء في قول الله تعالى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) ، ومسلم: كتاب الإمارة/ باب وحوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية.(12/42)
ولاة الأمور فيما ولاهم الله عليه إلا أن يروا كفراً صريحاً عندهم فيه دليل من الله تعالى، فإذا فهمت ذلك فانظر إلى ما رواه مسلم أيضاً من حديث أم سلمة – رضي الله عنها – أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون فمن عرف بريء (وفي لفظ: فمن كره فقد بريء) ومن أنكر سلم ولكن من رضي وتابع "، قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: " لا، ما صلوا " (1) .
فعلم من هذا الحديث أنهم إذا لم يصلوا قوتلوا، وحديث عبادة قبله يدل على أنهم لا ينازعون، ومن باب أولى أن لا يقاتلوا إلا بكفر صريح فيه من الله برهان فمن هذين الحديثين يؤخذ أن ترك الصلاة كفر صريح فيه من الله برهان.
فهذه أدلة من كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أن تارك الصلاة كافر كفراً مخرجاً عن الملة كما جاء ذلك صريحاً فيما رواه ابن أبي حاتم في سننه عن عبادة بن الصامت – رضي الله عنه – قال: أوصانا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تتركوا الصلاة عمداً فمن تركها عامداً متعمداً مخرج من الملة " (2) .
وأما الآثار عن الصحابة – رضي الله عنهم – فقد قال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – " لا إسلام لمن ترك الصلاة " (3) .
وقال عبد الله بن شقيق: " كان أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يرون شيئاً من
__________
(1) أخرجه مسلم: كتاب الإمارة/ باب وجوب الإنكار على الأمراء فيما يخالف الشرع وترك قتالهم ما صلوا، ونحو ذلك.
(2) أخرجه الهيثمي في " المجمع " 4/216، ونحوه عند الحاكم في " المستدرك " 4/44.
(3) أخرجه بن أبي شيبة في " الإيمان " 34.(12/43)
الأعمال تركه كفر غير الصلاة (1) . رواه الترمذي والحاكم وصححه على شرطهما.
وإذا كان الدليل السمعي الأثري يدل على كفر تارك الصلاة فكذلك الدليل النظري، قال الإمام أحمد – رحمه الله تعالى -: " كل مستخف بالصلاة مستهين بها فهو مستخف بالإسلام مستهين به، وإنما حظهم في الإسلام على قدر حظهم من الصلاة، ورغبتهم في الإسلام على قدر رغبتهم في الصلاة "، وقال ابن القيم – رحمه الله تعالى – في كتاب " الصلاة " له ص400 من مجموعة الحديث: " لا يصر على ترك الصلاة إصراراً مستمراً من يصدق بأن الله أمر بها أصلاً، فإنه يستحيل في العادة والطبيعة أن يكون الرجل مصدقاً تصديقاً جازماً أن الله فرض عليه كل يوم وليلة خمس صلوات، وأنه يعاقبه على تركها أشد العقاب وهو مع ذلك مصر على تركها، هذا من المستحيل قطعاً، فلا يحافظ على تركها مصدق بفرضها أبداً، فإن الإيمان يأمر صاحبه بها فحيث لم يكن في قلبه ما يأمر بها فليس في قلبه شيء من الإيمان، ولا تصغ إلى قول من ليس له خبرة ولا علم بأحكام القلوب وأعمالها " اهـ كلامه رحمه الله. ولقد صدق فيما قال، فإن من المستحيل أن يترك الصلاة مع يسرها وسهولتها وعظم ثوابها، وعقاب تركها وفي قلبه شيء من الإيمان.
وحيث تبين من نصوص الكتاب والسنة أن تارك الصلاة كافر كفراً مخرجاً عن ملة الإسلام فإنه لا يحل أن يزوج بمسلمة بالنص والإجماع قال الله تعالى: (َلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ
__________
(1) أخرجه الترمذي: كتاب الإيمان/باب ما جاء في ترك الصلاة.(12/44)
مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) (1) . وقال تعالى في المهاجرات: (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُن ّ) (2) . وأجمع المسلمون على ما دلت عليه هاتان الآيتان من تحريم المسلمة على الكافر، وعلى هذا فإذا زوج الرجل من له ولاية عليها بنته أو غيرها رجلاً لا يصلي لم يصح تزويجه، ولم تحل له المرأة بهذا العقد، لأنه عقد ليس عليه أمر الله تعالى ورسوله، وقد ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من حديث عائشة – رضي الله عنها – أنه قال: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " (3) . أي مردود عليه.
وإذا كان النكاح ينفسخ إذا ترك الزوج الصلاة إلا أن يتوب ويعود إلى الإسلام بفعل الصلاة فما بالك بمن يقدم على تزويجه من جديد؟!
وخلاصة الجواب: أن هذا الخاطب الذي لا يصلي إن كان لا يصلي مع الجماعة فهو فاسق لا يكفر بذلك ويجوز تزويجه في هذه الحال لكن غير أن ذوي الدين والخلق أولى منه.
وإن كان لا يصلي أبداً لا مع الجماعة ولا وحده فهو كافر مرتد خارج عن الإسلام لا يجوز أن يزوج مسلمة بأي حال من الأحوال إلا أن يتوب توبة صادقة ويصلي ويستقيم على دين الإسلام.
وأما ما ذكره السائل من أن والد المخطوبة سأل عنه فقال المسؤول عنه: يهديه الله. فإن المستقبل علمه عند الله تعالى وتدبيره بيده، ولسنا مخاطبين إلا بما نعلمه في الحال الحاضرة، وحال
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 221.
(2) سورة الممتحنة، الآية: 10.
(3) تقدم تخريجه ص21.(12/45)
الخاطب الحاضرة حال كفر لا يجوز أن يزوج بمسلمة، فنرجو الله تعالى له الهداية والرجوع إلى الإسلام حتى يتمكن من الزواج بنساء المسلمين وما ذلك على الله بعزيز.
أجاب بهذا وحرره بيده الفقير إلى الله محمد الصالح العثيمين في 18 ذي الحجة سنة 1400 هـ أربعمائة وألف.
* * *
32) سئل فضيلة الشيخ - أعلى الله درجته -: عن رجل عمله متواصل وهو لا يصلي لذلك، وعنده ماله لا يزكيه لكثرة ديونه وحاجته إليه فما الحكم؟
فأجاب قائلاً: تضمن هذا الفعل أمرين أحدهما: ترك الصلاة، والثاني ترك الزكاة، وهما أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين، فأما الصلاة فإنه لا يعذر أحد بتركها بإي حال من الأحوال بل يجب على المسلم أن يصلي الصلاة لوقتها مهما كان الأمر، حتى لو قدر أن الإنسان يفصل من عمله إلى عمل آخر، أو إلى أن يخرج إلى البر ويحتطب ويبيع الحطب ويأكل ثمنه، فإنه يجب عليه أن يؤدي الصلاة في وقتها، ولا يحل له أن يؤجلها كما يفعله بعض الجهلة إذا جاءوا للنوم صلوا الصلوات الخمس، صلاة ذلك اليوم الذي كانوا يعملون فيه، فهذا محرم ولا يجوز وهو من كبائر الذنوب، بل من أكبر الكبائر، لأنه قد يؤدي إلى الكفر.
وأما الزكاة فإن الإنسان إذا كان عنده مال وبقي عنده إلى أن تم الحول عليه فإن الزكاة تجب فيه، وكون الإنسان في حاجة إليه لا يمنع وجوب الزكاة فيه إذا تم حوله، والزكاة ليست شيئاً صعباً وليست جزءاً(12/46)
كبيراً من المال ما هي إلا واحد في الأربعين فقط، يعني اثنين ونصف في المئة فهو شيء قليل وأمر يسير، وقد أخبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الصدقة لا تنقص المال فالصدقة تزيده بركة ونمواً، ويفتح الله للإنسان من أبواب الخير ما لا يخطر على باله إذا أدى ما أوجب الله عليه في ماله، فعلى المسلم أن يزكي كل مال حال عليه الحول عنده ولو كان عليه دين على القول الراجح.
أما ما أنفق أو قضى الإنسان به دينه قبل أن يتم الحول عليه فإنه لا زكاة فيه.
* * *
33) وسئل فضيلة الشيخ - حفظه الله -: ماذا يفعل الرجل إذا أمر أهله بالصلاة ولكنهم لم يستمعوا إليه، هل يسكن معهم ويخالطهم أو يخرج من البيت؟
فأجاب فضيلته – حفظه الله – بقوله: إذا كان هؤلاء الأهل لا يصلون أبداً فإنهم كفار، مرتدون خارجون عن الإسلام، ولا يجوز أن يسكن معهم ولكن يجب عليه أن يدعوهم ويلح ويكرر لعل الله أن يهديهم، لأن تارك الصلاة كافر – والعياذ بالله – بدليل الكتاب، والسنة، وأقوال الصحابة، والنظر الصحيح.
أما من القرآن فقوله تعالى عن المشركين: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) (1) . مفهوم الآية أنهم إذا لم يفعلوا ذلك فليسوا إخواناً لنا، ولا تنتفي الأخوة الدينية بالمعاصي وإن عظمت ولكن تنتفي بالخروج عن الإسلام.
__________
(1) سورة التوبة، الآية: 11.(12/47)
أما من السنة فقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة " (1) .أخرجه مسلم. وقوله في حديث بريدة – رضي الله عنه – في السنن: " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر " (2) .
أما أقوال الصحابة: فقال أمير المؤمنين عمر – رضي الله عنه -: " لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة " (3) .، والحظ: النصيب وهو هنا نكرة في سياق النفي فيكون عاماً، لا نصيب لا قليل ولا كثير، وقال عبد الله بن شقيق: " كان أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة " (4) .
أما من جهة النظر الصحيح فيقال: هل يعقل أن رجلاً في قلبه حبة خردل من إيمان يعرف عظمة الصلاة وعناية الله بها ثم يحافظ على تركها؟؟! هذا شيء لا يمكن.وقد تأملت الأدلة التي استدل بها من يقول إنه لا يكفر فوجدتها لا تخرج عن أحوال أربع:
1- 1- إما أنها لا دليل فيها أصلاً.
2- 2- أو أنها قيدت بوصف يمتنع معه ترك الصلاة.
3- 3- أو أنها قيدت بحال يعذر فيها بترك هذه الصلاة.
4- 4- أو أنها عامة فتخص بأحاديث كفر تارك الصلاة.
__________
(1) تقدم تخريجه ص42.
(2) تقدم تخريجه ص42.
(3) تقدم تخريجه ص43.
(4) تقدم تخريجه ص44.(12/48)
وليس في النصوص أن تارك الصلاة مؤمن، أو أنه يدخل الجنة، أو ينجو من النار ونحو ذلك مما يحوجنا إلى تأويل الكفر الذي حكم به على تارك الصلاة بأنه كفر نعمة، أو كفر دون كفر.وإذا تبين أن تارك الصلاة كافر كفر ردة فإنه يترتب على كفره أحكام المرتدين ومنها:
أولاً: أنه لا يصح أن يزوج فإن عقد له وهو لا يصلي فالنكاح باطل ولا تحل له الزوجة به لقوله تعالى عن المهاجرات: (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) (1) .
ثانياً:أنه إذا ترك الصلاة بعد أن عقد له فإن نكاحه ينفسخ ولا تحل له الزوجة. للآية التي ذكرناها سابقاً على حسب التفصيل المعروف عند أهل العلم بين أن يكون ذلك قبل الدخول أو بعده.
ثالثاً: أن هذا الرجل الذي لا يصلي إذا ذبح لا تؤكل ذبيحته، لماذا؟ لأنها حرام، ولو ذبح يهودي أو نصراني فذبيحته يحل لنا أن نأكلها، فيكون – والعياذ بالله – ذبحه أخبث من من ذبح اليهود والنصارى.
رابعاً: أنه لا يحل له أن يدخل مكة أو حدود حرمها لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا) (2) .
خامساً: أنه لو مات أحد من أقاربه فلا حق له في الميراث منه، فلو مات رجل عن ابن له لا يصلي (الرجل مسلم يصلي والابن لا يصلي) وعن ابن عم له بعيد (عاصب) فالذي يرثه ابن عمه البعيد دون
__________
(1) سورة الممتحنة، الآية: 10.
(2) سورة التوبة، الآية: 28.(12/49)
ابنه لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث أسامة: " لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم " (1) . متفق عليه. ولقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر " (2) . متفق عليه، وهذا مثال ينطبق على جميع الورثة.
سادساً: أنه إذا مات لا يغسل، ولا يكفن، ولا يصلى عليه ولا يدفن مع المسلمين، إذاً ماذا نصنع به؟ نخرج به إلى الصحراء ونحفر له وندفنه بثيابه، لأنه لا حرمة له.
وعلى هذا فلا يحل لأحد مات عنده ميت وهو يعلم أنه لا يصلي أن يقدمه للمسلمين يصلون عليه.
سابعاً: أنه يحشر يوم القيامة مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف (3) ، أئمة الكفر - والعياذ بالله - ولا يدخل الجنة، ولا يحل لأحد من أهله أن يدعو له بالرحمة والمغفرة، لأنه كافر لا يستحقها لقوله تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) (4)
فالمسألة خطيرة جداً، ومع الأسف فإن بعض الناس يتهاونون في هذا الأمر، ويقرون في البيت من لا يصلي وهذا لا يجوز. والله أعلم. حرر في 6/2/1410 هـ
* * *
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب الفرائض/ باب لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم، ومسلم: كتاب الفرائض.
(2) أخرجه البخاري: كتاب الفرلئض/ باب ميراث الولد من أبيه وأمه (6732) ، ومسلم: كتاب الفرائض/ باب ألحقوا الفرائض بأهلها.
(3) أخرجه الإمام أحمد في" المسند " 2/169.
(4) سورة التوبة، الآية: 113.(12/50)
34) وسئل فضيلة الشيخ: عن رجل يصلي بعض الأوقات ويترك أخرى هل تجوز معاشرته ومصادقته؟
فأجاب بقوله: هذا الرجل المصلي وقتاً والتارك آخر إن كان المقصود بالسؤال الصلاة مع الجماعة فإنه محرم ويفسق به، لأن الجماعة واجبة، فالواجب أداؤها في المساجد ولا يتأخر إلا لعذر شرعي.
وإن كان لا يصلي أبداً، فإن كان ذلك عن إعتقاد فإنه كفر مخرج عن الملة، فإن منكر فريضة الصلاة كافر إلا أن يكون حديث عهد بالإسلام ولا يدري عن فرائض الإسلام وشرائعه، فإنه يوضح له الحق فإن أصر على إنكاره لها كان كافراً مرتداً.
أما إذا كان مقراً بالفريضة ولكن نفسه تغلبه كسلاً وتهاوناً فإن أهل العلم مختلفون في كفره، فمنهم من يرى أن من ترك صلاة مفروضة، حتى يخرج وقتها فإنه يكفر، ومن العلماء من يراه لا يكفر إلا إذا تركها نهائياً، وهذا هو الصحيح إذا تركها تركاً مطلقاً، بحيث أنه لا يهتم بالصلاة، ولذا قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بين الرجل والشرك ترك الصلاة " (1) . فظاهر الحديث هو الترك المطلق، وكذلك حديث بريدة: " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر " (2) . ولم يقل من ترك صلاة، وعلى كل حال فالراجح عندي أنه لا يكفر إلا إذا تركها بالكلية.
أما حال المذكور في السؤال فإنه لا يكفر ولكنه يعتبر فاسقاً خارجاً من العدالة، فلا ولاية له على أقاربه، ولا تقبل شهادته، ولا
__________
(1) تقدم تخريجه ص42.
(2) تقدم تخريجه ص42.(12/51)
يكون إماماً للمسلمين.
وأما معاشرته ومصادقته فإن كان يرجى منه خيراً فلا حرج، وإن كان الأمر بالعكس فلا يعاشر، ولذا أخبر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن جليس السوء " أنه كنافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تنال منه ريحاً خبيثة " (1) . والله الهادي إلى سواء السبيل.
* * *
35) وسئل فضيلته: امرأة تقول هناك قريب لنا يزورنا ومعه زوجته أحياناً، ونحن نشهد بأن زوجته لا تصلي، وإذا أمرناها بالصلاة أبدت لنا أعذاراً ونحن بصفتنا نساء نعلم أن ما اعتذرت به ليس صحيحاً، لأنه لا أثر لذلك عليها. فما حكم دخولها بيتنا ومجالستها ومحادثتها والأكل معها من إناء واحد؟
فأجاب بقوله: هذه المرأة إذا صح ما ذكر عنها وأنها لا تصلي فإن من لا يصلي كافر، وإذا تقرر أنها كافرة فإنها لا تحل لزوجها، لأن الله تعالى يقول: (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ) (2) . بل النكاح منفسخ من حين ثبتت ردة هذه المرأة.
وأما إذا كانت لا تترك الصلاة، وتعتذر بأن عليها مانعاً يمنعها من الصلاة فهذا راجع إليها، وهذا بينها وبين الله عز وجل، والقرائن التي تقولون عنها قد تكون مخطئة، وقد تكون مصيبة، ولا ينبغي اتهام المسلم الذي ظاهره الصلاح في مثل هذه الأمور.
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب الذبائح والصيد/ باب المسك، ومسلم: كتاب البر والصلة /باب إستحباب مجالسة الصالحين.
(2) سورة الممتحنة، الآية: 10.(12/52)
أما إذا علمت علم اليقين أنها لا تصلي فإن الواجب على زوجها مفارقتها ولا يجتمع معها، وكذلك أنتم لا يجوز لكم إيواؤها، لأن المرتد من المسلمين أخبث حالاً من الكافر الأصلي، وأخبث من اليهودي والنصراني الذي لم يزل على يهوديته ونصرانيته.
* * *
36) وسئل فضيلته: عن امرأة تقول: إن لي مشكلة وهي أن زوجي مدمن للخمر وتارك للصلاة، إلا في شهر رمضان، فإنه يترك شرب الخمر ويصلي، ولي منه عدد من الأبناء والبنات. وقد تزوجت منهن بنتاً هو الذي تولى عقد النكاح لها، وحاولت معه ونصحته ولكنه لا يبالي، وخرجت من البيت ولكن حصل الصلح بيننا على شرط إرجاع الخادمة إلى بلدها، ولكنه لم ينفذ الشرط وبقي على عادته السيئة، وله تصرفات خاطئة، منها محادثة الخادمة والجلوس معها، ونحو ذلك كالجلوس مع غير المسلمين، وكنت في بادئ الأمر لا أعلم من الأمر شيئاً، وبعد أن علمت أنه مدمن خمر، حرت في أمري وبقائي معه، فما هو الحل لمثل ذلك بارك الله فيكم؟ أفيدونا جزاكم الله خيراً.
فأجاب بقوله: هذه المسألة محزنة ومشكلة جداً، لأنها تضمنت عدة شرور، منها: وهو أهمها وأعظمها ترك الصلاة، فإن ترك الصلاة على القول الراجح كفر مخرج عن الإسلام، وينفسخ به النكاح من الزوج إلا أن يتوب إلى الله عز وجل، ويعود إلى الإسلام وإلى إقامة الصلاة، والواجب عليك في زوج هذا شأنه أن تبتعدي عنه حتى يتم الأمر، وينظر في شأنه.(12/53)
وإني أوجه إليه النصيحة من قلب مخلص أن يتوب إلى الله سبحانه وتعالى، وأن يقيم الصلاة وكافة أركان الإسلام حتى يموت مسلماً، يلقى الله بحال يرضى بها عنه، وأحذره من التنادي في ترك الصلاة لأنه لا يدري متى يفجأه الموت، فقد يأتيه فجأة في مثل هذه الحال فيكون من أصحاب النار والعياذ بالله.
* * *
37) وسئل فضيلة الشيخ: عن من يصلي أحياناً هل يكون كافراً؟ وكذلك الصيام؟
فأجاب بقوله: إن كان يفعل ذلك إنكاراً للوجوب والفرضية، أو شكاً في الوجوب فهو كافر، كافر من أجل شكه في الوجوب أو إنكاره لوجوب هذا الشيء، لأن فرض الصلاة والصيام معلوم بالكتاب والسنة، وبالإجماع القطعي من المسلمين، ولا ينكر فرضيته أحد من المسلمين إلا رجلاً أسلم حديثاً ولم يعرف من أحكام الإسلام شيئاً فقد يخفى عليه هذا الأمر.
إما إذا كان يترك بعض الصلوات أو بعض أيام رمضان وهو مقر بوجوب الجميع فهذا فيه خلاف بالنسبة لترك الصلاة، أما الصيام فليس بكافر، فلا يكفر بترك بعض الأيام بل يكون فاسقاً.
ولكن الصلاة هي التي نتكلم عنها، فنقول:
اختلف العلماء القائلون بتكفير تارك الصلاة هل يكفر بترك فريضة واحدة، أو فريضتين، أو لا يكفر إلا بترك الجميع؟
والذي يظهر لي أنه لا يكفر إلا إذا ترك الصلاة تركاً مطلقاً بمعنى أنه كان لا يصلي، ولم يعرف عنه أنه صلى وهو مستمر على ترك(12/54)
الصلاة، فأما إذا كان أحياناً يصلي وأحياناً لا يصلي مع إقراره بالفرضية فلا أستطيع القول بكفره، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة " (1) ، فمن كان يصلي أحياناً لم يصدق عليه أنه ترك الصلاة، والحديث الثاني: " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر " (2) . ولم يقل " من ترك صلاة فقد كفر "، ولم يقل " بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك صلاة "، بل قال: " ترك الصلاة "، فظاهره أنه لا يكفر إلا إذا كان تركها تركاً عاماً مطلقاً، وأما إذا كان يترك أحياناً ويصلي أحياناً فهو فاسق ومرتكب أمراً عظيماً، وجاني على نفسه جناية كبيرة، وليس بكافر ما دام يقر بفرضيتها وأنه عاص بتركه ما تركه من الصلوات، أما تاركها بالكلية فهو كافر مرتد عن الإسلام ولو كان تركه إياها تهاوناً وكسلاً كما يدل على ذلك الكتاب، والسنة، وأقوال الصحابة بل حكاه عبد الله بن شقيق إجماع الصحابة، وحكى الإجماع عليه إسحاق بن راهويه.
-
38) وسئل فضيلة الشيخ - حفظه الله - عن الإنسان الذي يصلي أحياناً ويترك الصلاة أحياناً ويترك الصلاة أحياناً أخرى فهل يكفر؟
فأجاب بقوله: الذي يظهر لي أنه لا يكفر إلا بالترك المطلق بحيث لا يصلي أبداً، وأما من يصلي أحياناً فإنه لا يكفر لقول الرسول، عليه الصلاة والسلام: " بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة.
__________
(1) تقدم تخريجه ص42.
(2) تقدم تخريجه ص42.(12/55)
ولم يقل ترك صلاة، بل قال: " ترك الصلاة ". وهذا يقتضي أن يكون الترك المطلق، وكذلك قال:" العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها – أي الصلاة – فقد كفر " (1) . وبناء على هذا نقول: إن الذي يصلي أحياناً ليس بكافر.
-
39) وسئل فضيلة الشيخ عن حكم بقاء المرأة المتزوجة من زوج لا يصلي وله أولاد منها؟ وحكم تزويج من لا يصلي؟
فأجاب بقوله: إذا تزوجت امرأة بزوج لا يصلي مع الجماعة ولا في بيته فإن النكاح ليس بصحيح لأن تارك الصلاة كافر، كما دل على ذلك الكتاب العزيز، والسنة المطهرة، وأقوال الصحابة، كما قال عبد الله بن شقيق، " كان أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة " (2) ، والكافر لا تحل له المرأة المسلمة لقوله تعالى: (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) (3) .
وإذا حدث له ترك الصلاة بعد عقد النكاح فإن النكاح ينفسخ إلا أن يتوب ويرجع إلى الإسلام، وبعض العلماء يقيد ذلك بانقضاء العدة فإذا انقضت العدة لم يحل له الرجوع إذا أسلم إلا بعقد جديد، وعلى المرأة أن تفارقه ولا تمكنه من نفسها حتى يتوب ويصلي، ولو كان معها أولاد منه لأن الأولاد في هذه الحال لا حضانة لأبيهم فيهم.
__________
(1) تقدم تخريجه ص42.
(2) تقدم تخريجه ص 42.
(3) سورة الممتحنة، الآية: 10.(12/56)
وعلى هذا أحذر إخواني المسلمين من أن يزوجوا بناتهم ومن لهم ولاية عليهن بمن لا يصلي لعظم الخطر في ذلك، ولا يحابوا في هذا الأمر قريباً ولا صديقاً. وأسأل الله الهداية للجميع، والله أعلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. حرر في 9/10/1414 هـ.
40) وسئل فضيلته عن امرأة تقول: لي زوج لا يصلي في البيت ولا مع الجماعة، وقد نصحته ولم يجد به نصحي شيئاً، وقد أخبرت أبي وإخواني بذلك الأمر، ولكنهم لم يبالوا بذلك، وأخبركم أني أمنع نفسي منه، فما حكم ذلك؟ وكيف أتصرف؟ مع العلم أنه ليس بيننا أولاد. أفيدوني جزاكم الله خيراً.
فأجاب بقوله: إذا كان حال الزوج لا يصلي في البيت ولا مع الجماعة فإنه كافر ونكاحه منك منفسخ إلا أن يهديه الله فيصلي.
ويجب على أهلك وأبيك وأخوتك أن يعتنوا بهذا الأمر، وأن يطالبوا زوجك إما بالعودة إلى الإسلام أو يفسخ النكاح، وامتناعك هذا في محله لا بالجماع ولا فيما دونه وذلك لأنك حرام عليه حتى يعود إلى الإسلام، والذي أرى لك أن تذهبي إلى أهلك ولا ترجعي، وأن تفتدي منه نفسك بكل ما تملكين حتى تتخلصي منه، ففري منه فرارك من الأسد.
وأما نصيحتي له أن يعود إلى الإسلام، ويتقي ربه، ويقيم الصلاة، فإن لم يصلي فإنه كافر مخلد في نار جهنم، يحشر مع فرعون(12/57)
وهامان وقارون وأبي بن خلف (1) ، وإنه إذا مات على هذه الحال فإنه لا حق له على المسلمين، لا بتغسيل، ولا بتكفين، ولا بصلاة، ولا بدعاء، وإنما يرمى في حفرة لئلا يتأذى الناس برائحته، فعليه أن يخاف الله عز وجل ويرجع إلى دينه، ويقيم الصلاة وبقية أركان الإسلام من زكاة وصيام وحج بيت الله الحرام، وأن يقوم بكل ما أوجب الله عليه، وأن يسأل الله الثبات إلى الممات.
-
__________
(1) تقدم تخريجه ص50.(12/58)
رسالة
من محمد الصالح العثيمين إلى الأخ المكرم. حفظه الله تعالى.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. كتابكم الكريم المؤرخ / وصل وفيه سؤالكم عن كفر تارك الصلاة، فهذه المسألة كبيرة وهامة، وظواهر الأدلة فيها تكاد تكون متكافئة، لكن أدلة تكفيره الكفر الأكبر أقوى أثراً ونظراً:
أما الأثر فقد ساق ابن القيم – رحمه الله تعالى – في كتاب " الصلاة " له من أدلة الكتاب والسنة ما فيه كفاية، وقد فهمت من كتابك أنك قرأتها، لكن ذكرت في كتابك أنه جرت مناظرة بين الإمام الشافعي والإمام أحمد في ذلك (1) وأن سابق ذكرها في فقه السنة مع أن ابن القيم نقل عن الطحاوي أنه حكى عن الشافعي نفسه تكفيره، فلينظر في صحة المناظرة المذكورة.
ومن أوضح الأدلة على أن كفر تارك الصلاة هو الكفر الأكبر المخرج عن الملة قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة " (2) . رواه مسلم، بل في المنتقى رواه الجماعة إلا البخاري والنسائي، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب (اقتضاء الصراط المستقيم) ص70 فقوله " هما بهما كفر " أي هاتان الخصلتان هما كفر قائم بالناس فنفس الخصلتين كفر حيث كانتا من أعمال الكفر، وهما
__________
(1) انظر نص المناظرة في الفتوى التالية.
(2) تقدم تخريجه ص42.(12/59)
قائمتان بالناس، إلى أن قال: " وفرق بين الكفر المعرف باللام كما في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ليس بين العبد وبين الكفر والشرك إلا ترك الصلاة " (1) . وبين كفر منكر في الإثبات " اهـ.
وفي صحيح مسلم عن أم سلمة – رضي الله عنها – أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال " ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون فمن عرف برىء ". وفي لفظ " فمن كره فقد برىء، ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع ". قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: " لا ما صلوا " (2) . فجعل الصلاة مانعة من قتالهم فمفهوم ذلك أنهم إذا لم يصلوا جاز قتالهم لزوال المانع. وفي صحيح مسلم عن عبادة بن الصامت أنهم بايعوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أن لا ينازعوا الأمر أهله قال: "إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان " (3) فإذا جمعنا هذا الحديث إلى الحديث الذي قبله حيث كان يجوز بمقتضاه قتالهم لتركهم الصلاة نتج عن ذلك أن الصلاة من الكفر البواح وهذا واضح لمن تأمله.
فالأدلة النقلية الأثرية تقتضي كفره كفراً أكبر مخرجاً عن الملة.
وأما الأدلة النظرية العقلية فيقال: كيف يكون شيء من الإيمان في قلب رجل يعلم أهمية الصلاة في الإسلام، ويعلم النصوص الواردة في فضلها، والنصوص الواردة في الوعيد على تاركها، ويعلم أن الذي فرضها وأكد فرضيتها من وجوه شتى هو الله تعالى، الذي يدعي هذا التارك لها أنه يؤمن به فأين الإيمان بالله تعالى؟ وأين ثمرته؟ بل أين بينته
__________
(1) تقدم تخريجه ص42.
(2) تقدم تخريجه ص43.
(3) تقدم تخريجه ص42.(12/60)
التي تشهد به، وقد ترك أصل الأعمال في الإسلام وعموده، وليس الإيمان بالله تعالى عند أهل السنة، ولا في حقيقة الشرع مجرد الإيمان بوجود الله تعالى، أو صحة رسالة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو فرضية الصلاة والزكاة، فإن الإقرار بذلك موجود حتى من المشركين فها هو أبو طالب عم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقر بالله ورسوله، وصحة رسالته، وصدقه، ومع ذلك فهو مخلد في النار عليه نعلان من نار يغلي منهما دماغه.
وأما احتجاج من حمل كفر تارك الصلاة على مثل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سباب المسلم فسوق وقتاله كفر " (1) . فقد علمت ضعف حجته مما ذكره شيخ الإسلام في الإقتضاء من الفرق بين (كفر) المنكر و (الكفر) المعرف، ثم إن قتال المسلم فعل معصية، وترك الصلاة تفويت واجب، وتفويت الواجب من حيث هو أعظم من فعل المعصية كما قرر ذلك ابن القيم في كتاب (الفوائد) بأكثر من خمسة وعشرين وجهاً.
وأما دخول من شهد أن لا إله إلا الله خالصاً من قلبه الجنة فالحديث مقيد بكونه خالصاً من قلبه، ولا يمكن لمن قالها خالصاً من قلبه أن يدع الصلاة أبداً، كما لا يمكن أن ينكر القرآن، أو اليوم الآخر، أو نحوه، ولو أخذنا بظاهر الحديث من غير أن نتفطن لقوله " خالصاً من قلبه " وما تتضمنه هذه الجملة من الإذعان والإنقياد والقبول، لقلنا إن من قالها وأنكر القرآن واليوم الآخر ونحوهما يدخل الجنة ولا أحد من المسلمين يقول ذلك.
ومثله حديث: " يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة خردل
__________
(1) تقدم تخريجه ص42.(12/61)
من إيمان (1) . فإننا نقول: ليس الإيمان مجرد التصديق، ولو كان كذلك لكان أبليس مؤمناً لأنه يصدق بالله، ولكان أبو طالب مؤمناً، ولكان كل من أقر بالله مؤمناً، ولكن الإيمان ما استلزم القبول والانقياد.
وأما ما نقلت عن ابن القيم – رحمه الله – من أنه كفر عملي لا يخرجه من الإسلام فيعتبر كالزاني، والسارق، وشارب الخمر حين نفى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الإيمان عنهم، فإن ابن القيم – رحمه الله تعالى – ذكر في الحكم بين الفريقين أصولاً في فصول، فذكر في الفصل الأول: أن من شعب الإيمان القولية ما يزول بزوالها الإيمان قال: فكذلك من شعبه الفعلية ما يوجب زوالها زوال الإيمان. وذكر نحوه في شعب الكفر.
ثم ذكر أصلاً آخراً وهو: أن حقيقة الإيمان مركبة من قول، وعمل، والقول قسمان: قول القلب وقول اللسان، والعمل قسمان عمل القلب، وعمل الجوارح، قال: وإذا زال عمل القلب مع اعتقاد الصدق فأهل السنة مجمعون على زوال الإيمان به، وأنه لا ينفع التصديق مع انتفاء عمل القلب وهو محبته وانقياده، قال: وإذا كان الإيمان يزول بزوال عمل القلب فغير مستنكر أن يزول بزوال أعظم أعمال الجوارح، قال: فإن الإيمان ليس مجرد التصديق وإنما هو التصديق المستلزم للطاعة والانقياد.
ثم ذكر أصلاً آخراً وهو أن الكفر نوعان: كفر عمل، وكفر جحود وعناد، وأن كفر الجحود يضاد الإيمان من كل وجه، قال: وأما كفر العمل فينقسم إلى ما يضاد الإيمان، وما لا يضاده، وذكر أن ترك الصلاة
__________
(1) أخرجه الترمذي: كتاب صفة جهنم/باب ما جاء أن للنار نفسين، وما ذكر من يخرج من النار من أهل التوحيد (2598) وقال: هذا حديث حسن صحيح.(12/62)
من الكفر العملي، ثم قال في آخر الفصل: وهذا الكفر لا يخرجه من الدائرة الإسلامية والملة بالكلية.
ثم ذكر أصلاً آخر وهو: أن الرجل قد يجتمع فيه كفر وإيمان إلى أن قال: وإذا حكم بغير ما أنزل الله، أو فعل ما سماه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كفراً وهو ملتزم للإسلام وشرائعه فقد قام به كفر وإسلام.
ثم ذكر أصلاً آخر وهو: أنه لا يلزم من قيام شعبة من شعب الإيمان بالعبد أن يسمى مؤمناً، ولا من قيام شعبة من شعب الكفر أن يسمى كافراً، ثم قال يبقى أن يقال: فهل ينفعه ما معه من الإيمان في عدم الخلود في النار؟ فيقال: ينفعه إن لم يكن المتروك شرطاً في صحة الباقي واعتباره، وإن كان شرطاً لم ينفعه فيبقى النظر في الصلاة هل هي شرط لصحة الإيمان هذا سر المسألة، والأدلة التي ذكرناها وغيرها تدل على أنه لا يقبل من العبد شيء من أعماله إلا بفعل الصلاة فهي مفتاح ديوانه، ورأس مال ربحه، ومحال بقاء الربح بلا رأس مال، فإذا خسرها خسر أعماله كلها، ثم قال: ومن العجب أن يقع الشك في كفر من أصر على تركها ودعي إلى فعلها على رؤوس الملأ وهو يرى بارقة السيف على رأسه، ويشد للقتل، وعصبت عيناه، وقيل له تصلي وإلا قتلناك فيقول: اقتلوني ولا أصلي أبداً، ومن لا يكفر تارك الصلاة يقول هذا مؤمن مسلم. وبعضهم يقول مؤمن كامل الإيمان أفلا يستحي من هذا قوله من إنكاره تكفير من شهد بكفره الكتاب والسنة واتفاق الصحابة أهـ.
وهذا الكلام من ابن القيم –رحمه الله – يقتضي كفر تارك الصلاة، والمسألة التي فرضها لا تزيد الحكم عما لو تركها ولم يدع إليها على هذا الوجه، ألا ترى أنه لو دعي على هذا الوجه ليصوم رمضان فأبى حتى(12/63)
قتل فإنه لا يحكم بكفره فالقاضي بكفر تارك الصلاة تركه إياها لا دعوته لها على هذا الوجه.
ثم ذكر بن القيم في المسألة الرابعة: أن ترك الصلاة بالكلية لا يقبل معه عمل، كما لا يقبل مع الشرك عمل، وهذا الحكم لا يثبت إلا إذا كان ترك الصلاة كفراً وردة، فإن الأعمال لا تحبط إلا بالردة لقوله تعالى: (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (1) . وقد صرح ابن القيم في هذا المبحث بأنه إذا ترك الصلاة تركاً كلياً لا يصليها أبداً فإن هذا الترك يحبط العمل جميعه، إلا أنه استدرك وقال: فإن قيل: كيف تحبط الأعمال بغير الردة؟ قيل: نعم، ثم حمل معنى الإحباط على المقابلة والمقاصة. وإنما نقلت ملخص كلامه ليتبين أنه رحمه الله لم يعط كلاماً فصلاً في هذا الموضوع بل كلامه يشبه كلام المتردد.
ومهما يكن فالمرجع في هذه المسألة الكبيرة إلى ما تقتضيه الأدلة، ثم كلام السلف الصالح والأئمة، ومن تأمل الأدلة الواردة في تارك الصلاة وجد أنها تدل على أن كفره كفراً أكبر، إما بمقتضى اللفظ، أو بمقتضى الأحكام المرتبة على الترك، والتي لا تكون إلا لكافر، وأن بين إطلاق الكفر فيها وفي نحو " قتاله كفر " فرقاً بينا كما ذكره شيخ الإسلام في كتاب الاقتضاء، وكما هو معلوم من دلالات الألفاظ، وتأمل الدليل الثاني الذي ذكره ابن القيم – رحمه الله تعالى – في أدلة المكفرين حيث يقول فيه: " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 217.(12/64)
ًفقد كفر (1) . ونحن نرى – حسب ما بلغنا من كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تارك الصلاة كافر كفراً أكبر مخرجاً عن الملة يترتب على كفره أحكام المرتدين الدنيوية والأخروية، وهذا قول جمهور السلف من الصحابة والتابعين حتى نقل بعضهم الإجماع عليه، فقد نقل المنذري عن ابن حزم قوله: " وقد جاء عن عمر، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاذ بن جبل، وأبي هريرة وغيرهم من الصحابة – رضي الله عنهم – أن من ترك صلاة فرض واحدة متعمداً حتى يخرج وقتها فهو كافر مرتد، ولا نعلم لهؤلاء مخالفاً من الصحابة " اهـ ترغيب وترهيب ص393 ج1ط مصطفى الحلبي، وقال بن رجب في شرح الأربعين النووية: " حكى إسحاق إجماع أهل العلم عليه "
وعلى هذا فإننا نأمل أن تتأمل النصوص وتقارن بينها، وهل يعقل أن يترك مؤمن بالله ورسوله إيماناً حقيقياً الصلاة مع تأكدها وسهولة فعلها؟! لا أظن أن ذلك يقع. والله المستعان، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
-
41) سئل فضيلة الشيخ – حفظه الله – عن القول بتكفير تارك الصلاة المقر بوجوبها مع أن حديث عبادة بن الصامت لم يصرح فيه بكفر تارك الصلاة، ونص الحديث: " خمس صلوات فرضهن الله تعالى، من أحسن وضؤهن، وصلاتهن لوقتهن، وأتم ركوعهن وخشوعهن، كان له على الله عهد أن يغفر له، ومن لم يفعل
__________
(1) تقدم تخريجه ص 42.(12/65)
فليس له على الله عهد إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه ". رواه أحمد، وأبو داود.
وكذلك تقسيم الكفر إلى: أكبر وأصغر، وكون ترك الصلاة من الكفر الأصغر، كما أن مذهب أهل السنة عدم التكفير بالكبيرة.
وما ذكره السبكي في ترجمة الإمام الشافعي قال: " حكى أن أحمد ناظر الشافعي في تارك الصلاة، فقال له الشافعي: يا أحمد أتقول: إنه يكفر؟ قال نعم، قال: إن كان كافراً فبم يسلم؟ قال: يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، قال: فالرجل مستديم لهذا القول لم يتركه، قال يسلم بأن يصلي، قال: صلاة الكافر لا تصح ولا يحكم بالإسلام بها فانقطع أحمد وسكت "، وكل هذه تدل على عدم كفر تارك الصلاة، فما جوابكم رعاكم الله عن هذه الإشكالات؟
فأجاب بقوله: الحديث لا إشكال فيه مع القول بتكفير تارك الصلاة لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من أحسن وضؤهن، وأتم ركوعهن وخشوعهن " (1) . ثم قال: " ومن لم يفعل " الخ أي ومن لم يحسن الوضوء، ولم يتم الركوع، والخشوع وهذا أخص من مجرد الترك، فيكون المراد به من لم يفعلهن مطلقاً (2) .
وأما كون الكفر يكون أكبر ويكون أصغر دون ذلك: فهذا صحيح، لكن احتمال أن يكون المراد بكفر تارك الصلاة الكفر الأدون
__________
(1) انظر تخريج فضيلة الشيخ له ص72.
(2) انظر ذلك في ص72.(12/66)
تأباه ظواهر النصوص من الكتاب، والسنة، وآثار الصحابة، بل صريحها في البعض.
وأما كون مذهب أهل السنة أن لا يكفر العاصي بالكبيرة فهو حق، وهو عقيدتنا أن العاصي لا يكفر، ولا يخرج من الإيمان بكبيرته، حتى وإن سميت كفراً كقتال المؤمن، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سماه كفراً ومع ذلك فإنه لا يخرج من الإيمان لقوله تعالى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) إلى قوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) (1) . لكن تارك الصلاة ليس من عصاة المؤمنين بل هو خارج عن الإسلام بدلالة النصوص والآثار، فلا يدخل تحت قاعدة مذهب أهل السنة في فاعل الكبيرة.
وأما ما ذكره من محاجة الشافعي لأحمد بن حنبل – رحمهم الله تعالى – فلا أظن هذه المحاجة تصح عند من تأملها، ثم على تقدير صحتها فالمرجع في الحكم إلى الله ورسوله كما قال الله تعالى: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ) (2) . وقال: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (3) .
وأما دخول المرء في الإسلام بالشهادتين فهذا صحيح لكن للشهادتين لوازم بعضها يؤدي عدم الالتزام به إلى الكفر، أرأيت لو شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وكذب بعض ما أخبر الله به
__________
(1) سورة الحجرات، الآيتان: 9، 10.
(2) سورة الشورى، الآية: 10.
(3) سورة النساء، الآية: 59.(12/67)
ورسوله أفلا يكون كافراً كفراً مخرجاً عن الملة؟!
والحاصل أن الحكم بالتكفير وعدمه راجع إلى الله ورسوله فإذا دل كتاب الله تعالى، أو سنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو هما جميعاً على كفر شخص بفعل، أو بترك وجب علينا قبوله، وليس لنا الحق في رد ذلك، أو التوقف فيه مع صحة الدليل ووضوح الدلالة، كما أنه ليس لنا أن نرد أو نتوقف فيما دل على حل شيء أو حرمته لأن الكل حكم الله الذي له الحكم وإليه يرجع الأمر كله.
-
42) سئل فضيلة الشيخ: ما قولكم رعاكم الله فيمن يستدل على أن تارك الصلاة ليس بكافر بحديث: " يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب، حتى لا يدرى ما صيام، ولا صلاة، ولا نسك، ولا صدقة، وليسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز، يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة " لا إله إلا الله " فنحن نقولها " (1) ، وحديث: " خمس صلوات كتبهن الله عز وجل على العباد فمن جاء بهن لم يضيع منهم شيئاً استخفافاً بحقهن كان له عند الله عهداً أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد، إن شاء عذبه، وإن شاء أدخله الجنة " (2) . وحديث أبي ذر: " أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام بآية من القرآن يرددها حتى صلاة الغداة وقال: دعوت لأمتي،
__________
(1) أخرجه ابن ماحه: كتاب الفتن/ باب ذهاب القرآن، والحاكم 4/520 وصححه، قال ابن حجر في الفتح 13/16: إسناده قوي.
(2) انظر ص72.(12/68)
وأجبت بالذي لو اطلع عليه كثير منهم تركوا الصلاة، فقال أبو ذر: أفلا أبشر الناس؟ قال: "بلى" فانطلق، فقال عمر: إنك إن تبعث إلى الناس بهذا يتكلوا عن العبادة، فناداه أن ارجع فرجع (1) ، والآية قوله تعالى: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (2) . أخرجه الإمام أحمد في مسنده.
فأجاب بقوله: جوابنا على ذلك:
الحديث الأول: إن صح فهذا غاية ما يقدرون عليه، لأن معالم الإسلام قد اندسرت فلا يدرون عنها فيشبهون من آمنوا ثم ماتوا في أول الإسلام قبل أن تفرض الفرائض.
الحديث الثاني: قال ابن عبد البر فيه راو مجهول وعلى تقدير صحته فلفظه في أبي داود: " من أحسن وضؤهن، وصلاتهن في وقتهن، وأتم ركوعهن، وخشوعهن كان له على الله عهد أن يغفر له، وإن شاء عذبه " (3) .
فقوله: "ومن لم يفعل " أي يحسن الوضوء ويتم الركوع إلخ وهذا غير مجرد الفعل، وعلى فرض أن يراد به مجرد الفعل فالنصوص الدالة على كفر تارك الصلاة فيها زيادة والأخذ بها واجب.
الحديث الثالث: لعله من عجائب جسرة التي أشار إليها البخاري حيث قال: عند جسرة عجائب. وإذا لم يكن من عجائبها
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في " المسند " 5/170، والنسائي (1009) ، وابن ماجة (1350) مختصراً.
(2) سورة المائدة، الآية: 118.
(3) أنظر ص 72.(12/69)
فقدامة ابن عبد الله الراوي عنها قيل: إنه أفلت أو فليت العامري الذي لم يفلت من كلام الناس بعضهم فيه، فإن لم يكن إياه فليس الحديث بصريح في عدم كفر تارك الصلاة، وإذا لم يكن صريحاً صار من المتشابهة الذي يجب رده إلى المحكم الدال على كفر تارك الصلاة.
هذا ما نراه من الجواب على هذه الأدلة ونرجو الله تعالى أن يوفقنا جميعاً لما يحب ويرضى ويهدينا الحق والصراط المستقيم.
-
43) وسئل فضيلة الشيخ عن الجمع بين قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أقوام يدخلون الجنة ولم يسجدوا لله سجدة، والأحاديث التي جاءت بكفر تارك الصلاة؟
فأجاب قائلاً: يحمل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنهم يدخلون الجنة ولم يسجدوا لله سجدة على أناس يجهلون وجوب الصلاة، كما لو كانوا في بلاد بعيدة عن الإسلام أو في بادية لا تسمع عن الصلاة شيئاً، ويحمل أيضاً على من ماتوا فور إسلامهم دون أن يسجدوا لله سجدة.
وإنما قلنا بذلك لأن هذا الحديث الذي ذكرت من الأحاديث المتشابهة، وأحاديث كفر تارك الصلاة من الأحاديث المحكمة البينة، والواجب على المؤمن في الاستدلال بالقرآن أو السنة أن يحمل المتشابه على المحكم، واتباع المتشابه واطراح المحكم طريقة من في قلوبهم زيغ والعياذ بالله، كما قال الله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ) (1) .
__________
(1) سورة آل عمران، الآية: 7.(12/70)
ولعله بلغك قصة أصيرم بني عبد الأشهل، الذي خرج إلى أحد وقتل فوجده قومه في آخر رمق وقالوا: يا فلان ما الذي جاء بك أحدب على قومك أم رغبة في الإسلام؟ قال: بل رغبة في الإسلام، آمنت بالله ورسوله، فأخبروا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إنه لمن أهل الجنة " (1) . مع أن هذا الرجل ما سجد لله سجدة، لكنه من الله عليه بحسن الخاتمة، نسأل الله أن يحسن لنا ولكم الخاتمة.
-
44) سئل فضيلة الشيخ: استدل بعض العلماء على عدم كفر تارك الصلاة بحديث الشفاعة الطويل الذي أخرجه البخاري ومسلم، وبحديث عبادة ابن الصامت: خمس صلوات كتبهن الله عز وجل على العباد...." فما قولكم حفظكم الله تعالى؟
فأجاب بقوله: حديث الشفاعة الذي استدل به من لا يرى كفر تارك الصلاة عام مخصوص بمن قال لا إله إلا الله وأتى مكفراً مثل أن يقول لا إله إلا الله وهو ينكر تحريم الربا، أو فرضية الصلاة ونحو ذلك، لم يخرج من النار بشفاعة ولا غيرها، فكذلك من قال لا إله إلا الله وترك الصلاة، فإنه لا يخرج من النار بشفاعة ولا غيرها، لأنه كافر فأي فرق بين من كفر بجحد فرضية الصلاة مع نطقه بالشهادة ومن كفر بترك الصلاة مع نطقه بالشهادة؟!! فكما أن الأول لا يدخل في الحديث
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في" المسند " 5/ 428، والهيثمي في " المجمع " 9/362 وقال: "رجاله ثقات ".(12/71)
فكذلك الثاني.
وأيضاً فإن قوله: " لم يعمل خيراً قط " عام يدخل فيه من لم يصل، لأن الصلاة من الخير، ولكن هذا العموم خص بالأدلة الدالة على كفر تارك الصلاة فيخرج تارك الصلاة من عمومه كما هو الشأن في العمومات المخصوصة.
وأما حديث عبادة بن الصامت – رضي الله عنه – فقد رواه مالك في الموطأ 1/254-255 عن عبادة قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " خمس صلوات كتبهن الله عز وجل على العباد، فمن جاء بهن لم يضيع منهن شيئاً استخفافاً بحقهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة ". رواه مالك عن يحي بن سعيد، عن محمد بن يحي بن حبان، عن ابن محيريز أن رجلاً من كنانة يدعى المخدجي، والمخدجي قال ابن عبد البر عنه: هو مجهول لا يعرف بغير هذا الحديث. وقد رواه أبو داود 2/62 من طريق مالك بلفظه. وقد رواه النسائي 1/186 من طريق مالك بلفظه أيضاً. ورواه الإمام أحمد في المسند 5/315 موافقاً لمالك في يحي بن سعيد فمن فوقه بلفظ مالك إلا أنه قال: " إن شاء عذبه وإن شاء غفر له ".ورواه أيضاً 5/319 موافقاً لمالك في يحي بن سعيد فمن فوقه بنحو لفظ مالك.ورواه أيضاً 5/322 موافقاً لمالك في محمد بن يحي بن حبان فمن فوقه بلفظ: " فمن لقيه بهن لم يضيع منهن شيئاً لقيه وله عنده عهد(12/72)
يدخله به الجنة، ومن لقيه وقد انتقص منهن شيئاً استخفافاً بحقهن لقيه ولا عهد له إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له ". ورواه أيضاً 5/317 قال: حدثنا حسين بن محمد، حدثنا محمد بن مطرف، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عبد الله الصنابحي أن عبادة بن الصامت قال: أشهد سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " خمس صلوات افترضهن الله على عباده من أحسن وضؤهن، وصلاهن لوقتهن، فأتم ركوعهن، وسجودهن، وخشوعهن، كان له عند الله عهد أن يغفر له، ومن لم يفعل فليس له عند الله عهد، إن شاء غفر، له وإن شاء عذبه " ورواه أبو داود 1/115 موافقاً لأحمد في محمد بن مطرف فمن فوقه بلفظ أحمد إلا أنه لم يذكر سجودهن.
ورواه ابن ماجه 1/448 موافقاً لمالك في محمد بن يحي بن حبان فمن فوقه بلفظ: " خمس صلوات افترضهن الله على عباده فمن جاء بهن لم ينتقص منهن شيئاً استخفافاً بحقهن فإن الله جاعل له يوم القيامة عهداً أن يدخله الجنة، ومن جاء بهن قد انتقص منهن شيئاً استخفافاً بحقهن لم يكن له عند الله عهد، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له ".
فأنت ترى هذا الحديث واضطراب الرواة في لفظه، وأن أحد رواته في الموطأ مجهول لا يعرف إلا بهذا الحديث كما قال بن عبد البر، وترى رواية المسند 5/317 وأبي داود 1/115 أسلم من حيث الإسناد وفيها أن تعليق المغفرة بالمشيئة فيمن لم يأت بهن على وجه الكمال، فلا يكون فيه دليل على أن تارك الصلاة تركاً مطلقاً داخل(12/73)
تحت المشيئة فلا يعارض النصوص الدالة على كفره.
وأما لفظ رواية مالك: " ومن لم يأت بهن " فيحمل على أن المراد لم يأت بهن غير مضيع منهن شيئاً ويؤيد ذلك لفظ رواية ابن ماجه، وعلى هذا فتكون رواية مالك موافقة لرواية أحمد 5/317.
والحاصل أن هذا الحديث لا يعارض النصوص الدالة على كفر تارك الصلاة لصحتها وصراحتها، وعلى هذا تبقى أدلة الكفر قائمة سالمة من المعارض المقاوم، وحينئذ يجب العمل بمقتضاها، ويحكم بكفر من ترك الصلاة تركاً مطلقاً، سواء جحد وجوبها، أو أقر به ولكن تركها تهاوناً وكسلاً، ولا يصح أن تحمل هذه الأدلة على أن المراد بها كفر دون كفر، أو أن المراد من تركها جاحداً.
أما الأول: فلأننا لا يحل لنا أن نحمل أدلة الكفر على ذلك إلا حيث يقوم دليل صحيح على منع حملها على الكفر المطلق المخرج عن الملة، ولا دليل هنا. ولأنه قد قام الدليل على أن المراد به الكفر المطلق المخرج من الملة فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة " (1) . فذكر الكفر معرفاً بال فدل ذلك أنه الكفر المطلق، ولأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعل ذلك حداً فاصلاً بين الإيمان والكفر، والمتحادان لا يجتمعان لانفصال بعضهما عن بعض.
وأيضاً فإن الله تعالى قال: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) (2) . فجعل ثبوت الاخوة في الدين مشروطاً
__________
(1) تقدم تخريجه ص42.
(2) سورة التوبة، الآية: 11.(12/74)
بالتوبة من الشرك، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، فإذا انتفى الشرط انتفى المشروط، ولا تنتفي الأخوة في الدين إلا بالكفر المخرج من الدين أما المعاصي مهما عظمت فلا تنتفي بها الأخوة الدينية، ولهذا جعل الله تعالى القاتل عمداً أخاً للمقتول مع أن القتل عمداً من كبائر الذنوب.
وأما الثاني: فلأننا لو حملنا نصوص الترك على من تركها جاحداً لوجوبها لكان في ذلك محذوران:
المحذور الأول: إلغاء الوصف الذي علق الشارع الحكم به وهو الترك، وذلك لأن الجحود موجب للكفر سواء صلى الإنسان أم ترك الصلاة فيكون ذكر الشارع للترك لغواً من القول لا فائدة فيه سوى إيجاد الغموض والإشكال.
المحذور الثاني: إدخال قيد في النصوص لم يقم الدليل عليه، وهذا يقتضي تخصيص لفظ الشارع أو تقييده بما لا دليل عليه فيكون قولاً على الله بلا علم والله المستعان. حرر في 8/10/1406 هـ.
-
45) وسئل فضيلة الشيخ: عما ينسب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " من تهاون بالصلاة عاقبه الله بخمسة عشر عقوبة ست منها في الدنيا وثلاث عند الموت، وثلاث في القبر، وثلاث يوم القيامة ".
أما التي تصيبه في الدنيا فهي:
1 - ينزع الله البركة من عمره.
2 - يمسح الله سيم الصالحين من وجهه.
3 - كل عمل لا يؤجر عليه من الله.
4 - لا يرفع الله له دعاءً إلى السماء.(12/75)
5 - تمقته الخلائق في دار الدنيا.
6 - ليس له حظ في دعاء الصالحين.
وأما التي تصيبه عند الموت فهي:
1 - أنه يموت ذليلاً.
2 - أنه يموت جائعاً.
3 - أنه يموت عطشاناً لو سقي مياه بحار الدنيا ما روي من عطشه.
وأما التي تصيبه في قبره فهي:
1 - يضيق الله عليه قبره ويعصره حتى تختلف ضلوعه.
2 - يدق الله عليه في قبره ناراً في جمرها.
3 - يسلط الله عليه ثعبان يسمى الشجاع الأقرع يضربه على ترك صلاة الصبح من الصبح إلى الظهر. وعلى تضييع صلاة الظهر من الظهر إلى العصر. وهكذا كلما ضربه يغوص في الأرض سبعون ذراعاً.
وأما التي تصيبه يوم القيامة فهي:
1 - يسلط الله عليه من يسحبه على وجهه إلى نار جهنم.
2 - ينظر الله تعالى إليه بعين الغضب وقت الحساب فيقع لحم وجهه.
3 - يحاسبه الله عز وجل حساباً شديداً ما عليه من مزيد ويأمر الله به إلى النار وبئس القرار.
فهل هذا الحديث صحيح؟ وهل يجوز نشره بين الناس؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا الحديث موضوع مكذوب على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلا يحل لأحد نشره إلا مقروناً ببيان أنه موضوع حتى يكون الناس على بصيرة منه.
-(12/76)
46) سئل فضيلة الشيخ - حفظه الله تعالى -: عن الحكم فيمن يصلي في رمضان فقط؟
فأجاب بقوله: لا ريب أن الذي يفعل هذا الفعل على خطر عظيم، لأنه لا يفيده صيام رمضان شيئاً، وذلك لأن من لا يصلي فهو كافر - والعياذ بالله - والدليل على كفره من كتاب الله، وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإجماع الصحابة - رضي الله عنهم -:
أما في القرآن فإن الله تعالى يقول: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) (1) . فجعل الأخوة في الدين لا تكون إلا بهذه الأمور الثلاثة: التوبة من الشرك، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، ومقتضى هذا أنه إذا فقد واحد من هذه الثلاثة فقدت الأخوة في الدين، والأخوة في الدين لا تفقد إلا حيث يفقد الدين، فإن المعاصي وإن عظمت لا تفقد بها الأخوة في الدين، قال الله تعالى في آية القصاص فيمن قتل أخاه المؤمن عمداً قال: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) (2) . وقتل المؤمن من أعظم الذنوب وأكبرها، كما في الحديث الصحيح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر " (3. (وقال تعالى: (َإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ(12/77)
فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) (1) . فدل هذا على أن الأخوة الإيمانية باقية مع المعاصي، وأنها مع الكفر لا تبقى، وعلى هذا ففي آية التوبة التي صدرنا بها الجواب دليل على كفر تارك الصلاة.
وقد يقول قائل: كفروه بترك الزكاة.
فنقول: لولا حديث أبي هريرة الذي في صحيح مسلم في عقوبة تارك الزكاة وأنه قال عليه الصلاة والسلام: " ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار " (2) لقلنا بكفر تارك الزكاة كما قال به بعض أهل العلم وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله.
وأما السنة فقد دلت أيضاً عل كفر تارك الصلاة مثل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما رواه مسلم - رحمه الله - من حديث جابر - رضي الله عنه - قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة " (3) . وفي حديث بريدة الذي في السنن: " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر " (4) .
وقد نقل بعض أهل العلم إجماع الصحابة - رضي الله عنهم - على كفر تارك الصلاة.
وعلى هذا فنقول: هذا الذي لا يصلي وهو يصوم لا ينفعه صومه، لأن من شرط صحة الصيام: الإسلام، وتارك الصلاة ليس بمسلم فلا ينفعه صوم ولا زكاة، ولا حج، بل ولا يجوز له دخول المسجد الحرام وحرم مكة ما دام على تركه الصلاة، لأنه - والعياذ بالله –(12/78)
مرتد خارج عن الإسلام ويترتب على ترك الصلاة إضافة لما ذكرنا من عدم قبول أعماله الصالحة يترتب عليه إنه إن كان ذا زوجة فإن زوجته ينفسخ نكاحها منه، وكذلك لا يجوز لأحد أن يزوجه ما دام لا يصلي، وإذا مات فإنه لا يجوز أن يغسل، أو يكفن، أو يصلى عليه، أو يدفن في مقابر المسلمين، بل الواجب على أهله الذين يعلمون منه أنه لا يصلي إذا مات أن يخرجوا به بعيداً ويحفروا له حفرة فيدفنوه فيها، لأنه ليس من المسلمين - نسأل الله العافية - كما أنه أيضاً إذا مات على هذه الحال فإن أقاربه لا يرثون منه ولا يحل لهم أن يرثوا شيئاً من ماله، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في الحديث الصحيح حديث أسامة بن زيد: " لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم " (1) . وهذا عام في الكافر الأصلي والكافر المرتد، ثم إن تارك الصلاة إذا مات على ذلك فإنه يدخل النار - والعياذ بالله - ويخلد فيها كما يروى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أن من لم يحافظ عليهن - أي الصلوات الخمس - لم تكن له نوراً ولا برهاناً، ولا نجاةً يوم القيامة وحشر مع فرعون، وهامان، وقارون، وأبي بن خلف " (2) .
فالمسألة خطيرة في ترك الصلاة ولكنه للأسف الشديد أن كثيراً من المسلمين اليوم يتهاونون بالصلاة فيتركونها عمداً بدون عذر شرعي ثم يتصدقون وينفقون ويحجون وهذه كلها وكل الأعمال لا تقبل مع الكفر، قال الله تعالى: (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ) (3)(12/79)
فنصيحتي لأخواني أن يستعيذوا بالله من الشيطان الرجيم، وأن يعودوا إلى دينهم فيقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) (1) . وهكذا أيضاً من يفرط في الوضوء فلا يتوضأ ويصلي بغير وضوء، أو يفرط في الاستنجاء فلا يستنجي، فإن بعض الناس يبول أو يتغوط ثم يقوم بدون استنجاء ولا استجمار شرعي فقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مر بقبرين فقال: " إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما: فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة فأخذ جريدة رطبة فشقها نصفين فغرز في كل قبر واحدة " فقالوا: يا رسول الله لم فعلت هذا؟ قال: " لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا " (2) . والله المستعان.
-
47 سئل فضيلة الشيخ – حفظه الله – عن امرأة مات زوجها وهو شاب في حادث سيارة وأنه كان في صغره مستقيماً وحتى بعد زواجه لكن قبل وفاته بأربع سنوات كان لا يصلي، ولا يصوم، ولم يحج، وكان جوابه إذا نصحته: اللى ما يهديه الله ما يهديه الناس وتسأل: هل مات كافراً ضالاً؟ وهل تدعوا له بالرحمة والمغفرة؟ وهل تقضي عنه الصلاة، والصيام، والحج؟ وهل تذبح الذبيحة التي حلف أن يذبحها؟ وهل هو شهيد لأنه مات بحادث؟ وحكم تمني(12/80)
الموت لتلحق به، وهل تحد عليه؟
فأجاب بقوله: إذا كان زوجك أيتها السائلة قد مات وهو لا يصلي، ولا يصوم فقد مات كافراً – نعوذ بالله من حاله – لأن ترك الصلاة كفر مخرج عن الملة كما دلت على ذلك نصوص الكتاب، والسنة، وما روي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب – رضي الله عنهما – قال عمر – رضي الله عنه -: " لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة "، وقال علي بن أبي طالب – رضي الله عنه -: " من لم يصل فهو كافر "، وروى مثله عن جابر، وقال بن مسعود: " من ترك الصلاة فلا دين له ". وقال بن عباس: " من ترك الصلاة فقد كفر ". ونقل القول بتكفير تارك الصلاة عن معاذ بن جبل، وعبد الرحمن بن عوف، وأبي هريرة، وأبي الدرداء، وغيرهم من الصحابة. وقال به الإمام أحمد بن حنبل – رحمه الله تعالى -، وعلى هذا فلا يجوز لك أن تدعي له بالرحمة والمغفرة، لأن الله تعالى يقول: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) (1) . ويقول لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنافقين: (وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) (2) . ولا يجوز لوالديه ولا لغيرهم أن يدعوا له بالمغفرة والرحمة، لأن من مات كافراً فهو من أصحاب الجحيم، بقول الله الذي لا يخلف، فسؤال الله أن يغفر له اعتداء في الدعاء، لأنه سؤال ما لا يمكن إجابته.
ولا يجوز العطف والحنو على من مات وهو لا يصلي، ولا أن
__________
(1) سورة التوبة، الآية: 113.
(2) سورة التوبة، الآية 84.(12/81)
يغسل، أو يكفن، أو يصلى عليه، أو يدفن في مقابر المسلمين، لأنه ليس منهم ولا يحشر معهم، وإنما يحشر مع أئمة الكفر فرعون، وهامان، وقارون، وأبي بن خلف كما جاء في ذلك الحديث عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي رواه الإمام أحمد بإسناد جيد (1) .
والمسلم المؤمن بالله واليوم الآخر لا تحمله العاطفة على أن يفعل ما لا يرضي الله، أو أن يحب ما لا يحبه الله. قال الله تعالى (لاتجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) (2) .
وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ألا إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين " (3) .رواه مسلم. وسألت عائشة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن رجل كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين فهل ذلك نافعه؟ قال: " لا ينفعه " (4) . وسأل عمرو بن العاص رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هل يقضي عن أبيه العاص نذراً كان عليه؟ فقال: " أما أبوك فلو كان أقر بالتوحيد فصمت، وتصدقت عنه، نفعه ذلك " (5) .
وبناء على هذين الحديثين فلا تصلين عنه، ولا تصومين، ولا تحجين، لأن الصلاة لا تقضى عن الميت، والصيام، والحج لا يقضيان
__________
(1) تقدم تخريجه ص50.
(2) سورة المجادلة، الآية: 22.
(3) أخرجه مسلم: كتاب الإيمان / باب موالاة المؤمنين ومقاطعة غيرهم والبراءة منهم.
(4) أخرجه مسلم: كتاب الإيمان / باب الدليل على أن من مات على الكفر لا ينفعه عمل.
(5) أخرجه الإمام أحمد 2/182.(12/82)
عمن مات كافراً، لأن العمل الصالح لا ينفع من مات على الكفر، ولو كان من عمله هو، فكيف إذا كان من عمل غيره؟
وخلاصة الجواب عن سؤالك الذي ذكرت فيه أن زوجك مات بحادث وهو لا يصلي ولا يصوم من حوالي أربع سنوات إلى آخر ما ذكرت ما يلي:
1- أنه مات كافراً.
2- أنه لا يجوز لك ولا لغيرك أن تدعي له بالمغفرة والرحمة.
3- أنه لا يجوز أن تصلي عنه، أوتصومي، أو تحجي، أو تقضي عنه الذبيحة التي حلف أن يذبحها
4- أن من مات بحادث وهو لا يصلي فليس بشهيد، لأنه ليس بمسلم فضلاً عن أن يكون شهيداً.
5- أنه لا يجوز لمؤمن يخاف الله تعالى ان يعطف على من مات وهو لا يصلي ولو كان أقرب الناس له.
ولا يجوز لك أن تتمنى الموت لنفسك وأطفالك عن قريب لتلحقي به، بل الواجب عليك الإعراض عن التفكير فيه، وأن تسألي الله لك ولأولادك الصلاح، لأن هذا هو المهم، أما من مات على الحال التي ذكرت فلا ينبغي أن يهتم به المؤمن.
6- أما الإحداد فلا أرى أنه يجب عليك، وذلك لأن أهل العلم يقولون إن الزوج إذا ارتد عن الإسلام ولم يعد إليه قبل مضي زمن العدة بعد ردته فإنه ينفسخ نكاحه من حين ارتد، وقد ذكرت أن لزوجك حوالي أربع سنوات وهو لا يصلي ولا يصوم، وعلى هذا فلست زوجة له شرعاً من حين ترك الصلاة فلا يلزمك الإحداد حينئذ. هذا ما أراه(12/83)
والعلم عند الله تعالى. في 24/2/1403هـ.
-
48) وسئل فضيلة الشيخ: عن شخص ترك الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج وحلف أيماناً كثيرة لا يعلم عددها وكلها يحنث فيها وتكرر منه الطلاق ثم تاب من ذلك، فما الحكم في ذلك كله؟
فأجاب قائلاً: أما بالنسبة للعبادات التي تركها في ذلك الوقت فإنه إذا تاب توبة نصوحاً إلى الله – عز وجل – غفر الله له ما سلف لقوله تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (1) .
وأما بالنسبة للأيمان فإن عليه أن يكفر كفارة يمين واحدة وتجزيء عن جميع الإيمان على المشهور من مذهب الإمام أحمد – رحمه الله – وذلك لأن الإيمان مهما تعددت فإن الواجب فيها شيء واحد وهو إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعة.
وذهب كثير من أهل العلم إلى أن الإيمان إذا كانت على أشياء متعددة فإن عليه لكل يمين كفارة، وعلى هذا القول يجب على ذلك الشخص أن يتحرى الإيمان التي حلف بها وهي متباينة ويخرج عن كل يمين منها كفارة.
وأما بالنسبة للطلاق الذي وقع منه فإن كان الطلاق أكثر من اثنتين فإن زوجته لا تحل له، لأن الإنسان إذا طلق زوجته ثلاثاً فإنها لا تحل له
__________
(1) سورة الزمر، الآية: 53.(12/84)
حتى تنكح زوجاً غيره، لقوله تعالى: (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) (1) . إلى أن قال سبحانه وتعالى: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) (2) . فعليه إذا تيقن أنه طلقها ثلاثاً فأكثر أن يفارقها ولا تحل له حينئذ ومن ترك شيئاً لله عوضه خيراً منه.
-
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 229.
(2) سورة البقرة، الآية: 230.(12/85)
رسالة
من محمد الصالح العثيمين إلى الأخ المكرم حفظه الله تعالى.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد، فقد اطلعت على الصورة التي أرسلتم مع الأخ.. من فتاوى مجلة.. فيمن تزوج بامرأة مسلمة وهو لا يصلي، وأن المفتي ذكر أن الصحيح أن تارك الصلاة يفسق ولا يكفر، وأن هذا ما تؤيده الأدلة الشرعية الواضحة، وأنه لو فرض أن تارك الصلاة كافر فإنه إذا صلى فقد أسلم، والكافر إذا أسلم لا يطلب منه إعادة عقد النكاح بل أنكحة غير المسلمين صحيحة. الخ.
والصواب أن تارك الصلاة يكفر لأدلة أصرحها ما ثبت في صحيح مسلم عن جابر – رضي الله عنه – أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة " (1) . وما رواه أهل السنن عن بريدة – رضي الله عنه – أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر " (2) . وهذا قول عمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاذ بن جبل، وأبي هريرة وغيرهم ذكره عنهم بن حزم وقال: ولا نعلم لهؤلاء مخالفاً من الصحابة. وهذا مذهب الإمام أحمد بن حنبل وأحد قولي الشافعي.
__________
(1) تقدم تخريجه ص42.
(2) تقدم تخريجه ص42.(12/86)
ولم يرد في الكتاب والسنة أن تارك الصلاة يدخل الجنة، أو أنه ينجو من النار، أو أنه مؤمن، أو أنه ليس بكافر، فأين الأدلة الشرعية الواضحة التي تؤيد أنه يفسق ولا يكفر؟! وغاية ما في ذلك عمومات مخصوصة بأدلة التكفير، أو مقيدة بوصف لا يتأتى معه ترك الصلاة، أو بحال يعذر فيها بترك الصلاة. فإذا قلنا أن تارك الصلاة كافر فإن تزوجه بمسلمة حرام بنص القرآن، قال الله تعالى: (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) (1) .
وهذا أعني نكاح الكافر المسلمة محرم بإجماع المسلمين، وقال في المغني 130/8 في باب المرتد: " وإن تزوج لا يصح تزوجه، لأنه لا يقر على النكاح، وما منع الإقرار على النكاح منع انعقاده كنكاح الكافر المسلمة "، وقال في مجمع الأنهر للحنفية 302/1: " ولا يصح تزوج المرتد ولا المرتدة أحداً لإجماع الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - " اهـ.
وهذا ليس كالكافر إذا تزوج كافرة ثم أسلما فإن الصحيح أن أنكحة الكفار صحيحة ويقرون عليها إذا أسلموا ولم يكن مانع النكاح قائماً، والفرق بين هذا وبين تارك الصلاة المتزوج مسلمة: أن الزوج والزوجة في هذا كلاهما كافر من أصله فهو زواج كافر بكافرة، أما تارك الصلاة فهو زواج كافر مرتد بمسلمة فافترقت المسألتان حقيقة، واختلفتا حكماً والله يحفظكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) سورة الممتحنة، الآية: 10.(12/87)
49) وسئل فضيلته: إذا تزوجت امرأة برجل لا يصلي، أو تزوج رجل بامرأة لا تصلي فما الحكم؟
فأجاب بقوله: إذا تزوجت امرأة برجل لا يصلي، أو تزوج رجل بامرأة لا تصلي فإن النكاح بينهما باطل لا تحل به المرأة، لأن تارك الصلاة كافر كما دل على ذلك كتاب الله، وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأقوال الصحابة - رضي الله عنهم - وعلى هذا فلا يحل للمسلمة أن تتزوج بشخص لا يصلي ولا يحل للمسلم أن يتزوج بامرأة لا تصلي. لقوله تعالى في المهاجرات: (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) (1) . فمن تزوجت برجل لا يصلي فهي حرام عليه، ويجب عليها أن تمنعه من نفسها وتحاول التخلص منه بقدر ما تستطيع، فإن تاب وصلى وجب إعادة العقد من جديد إن رضيت الزوجة بذلك.
أما إذا تزوجت برجل يصلي ثم ترك الصلاة فإن النكاح ينفسخ ولا يحل لها أن تبقى معه ولو كان لها أولاد منه، لأن أولادها في هذه الحال يتبعونها ولا حق لأبيهم في حضانتهم، لأنه كافر، ولا حضانة لكافر على مسلم، فإن هداه الله تعالى وصلى عادت إليه زوجته على حسب التفصيل المعروف عند أهل العلم.
وإني أحث جميع إخواني المسلمين على تقوى الله - عز وجل - فيمن ولاهم الله عليهن من النساء، وأن لا يخاطروا فيهن كما يفعله بعض الناس الآن يزوج إبنته أو نحوها بشخص لا يصلي ويقول لعل الله يهديه في المستقبل فإن هذا حرام عليه، والمستقبل غير معلوم، وربما
__________
(1) سورة الممتحنة، الآية: 10.(12/88)
يكون الأمر بالعكس فيجرها إلى التهاون بالصلاة وإضاعتها.
أسأل الله لي ولإخواني المسلمين التوفيق لما يحب ويرضى.
حرر في 20/3/1410 هـ.
-
50) سئل فضيلة الشيخ – أعلى الله درجته -: ماذا يجب على الزوج إذا كانت زوجته تصوم ولا تصلي؟
فأجاب بقوله: يجب على الزوج أن يفارقها وذلك لأن تركها للصلاة موجب للكفر المخرج عن الملة فتكون كافرة بترك الصلاة والكافرة لا تحل للمؤمن لقوله تعالى: (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) (1) . وقال تعالى: (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) (2) . وقال تعالى: (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِر) (3) . فالواجب عليك أيها الزوج أن لا تمسك بعصمة هذه المرأة لأنها كافرة، وليس لها الحق في حضانة أولادها لأنه لا ولاية لكافر على مسلم.
وأنني أقول لتلك المرأة إن صيامها لرمضان غير مقبول وليس لها منه إلا التعب والعناء وذلك لأن الكافر لا يقبل منه أي عمل صالح قال الله تعالى: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً) (4) . وقال تعالى: (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (5) . وقال سبحانه
__________
(1) سورة الممتحنة، الآية: 10.
(2) سورة البقرة، الآية: 221.
(3) سورة الممتحنة، الآية: 10.
(4) سورة الفرقان، الآية: 23.
(5) سورة الأنعام، الآية: 88.(12/89)
وتعالى: (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِه ِ) (1) .فإذا كانت النفقات ونفعها متعدي لا تقبل فكيف بالعبادات الخاصة التي لا تتعدى فاعلها، والحاصل أن تلك المرأة قد انفسخ عقد نكاحها إلا أن تتوب إلى الله وترجع إلى الإسلام وتصلي فإن رجعت وصلت فهي زوجة له.
-
51) وسئل فضيلة الشيخ - حفظه الله -: إذا تاب تارك الصلاة فهل عليه الغسل والتلفظ بالشهادتين؟
فأجاب بقوله: إذا ترك الإنسان الصلاة على وجه يكفر به ثم تاب إلى الله ورجع فإنه يغتسل لأنه تاب من الكفر، وينبغي لمن دخل في الإسلام بعد الكفر أن يغتسل، إما وجوباً، أو استحباباً على الخلاف في ذلك، وأما الشهادتان فلا حاجة لأن يذكرهما لأنه يعترف بهما، والعلماء يقولون من كانت ردته بشيء معين فإن دخوله في الإسلام بفعل ذلك الشيء المعين إن كان كفره بتركه، وبتركه إن كان كفره بفعله.
-
52) سئل فضيلة الشيخ - غفر الله له ورفع درجته -: عن من ترك الصلاة والصيام ثم تاب إلى الله فماذا يلزمه؟
فأجاب قائلاً: هذه المسألة اختلف فيها أهل العلم فيمن ترك العبادات المؤقتة حتى خرج وقتها بدون عذر، فمنهم من قال: إنه يجب عليه القضاء ومنهم من قال: إنه لا يجب عليه القضاء.
مثال ذلك: رجل ترك الصلاة عمداً حتى خرج وقتها بدون عذر
__________
(1) سورة التوبة، الآية: 45.(12/90)
أو لم يصم رمضان عمداً حتى خرج وقته بدون عذر فمن أهل العلم من يقول: إنه يجب عليه القضاء، لأن الله تعالى أوجب على المسافر والمريض القضاء فإذا أوجب الله القضاء على المعذور فغيره من باب أولى، وثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: " من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها " (1) . فأوجب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصلاة على من نسيها حتى خرج وقتها، وأوجب على من نام عنها حتى خرج وقتها أن يقضيها، قالوا: فإذا وجب القضاء على المعذور فغير المعذور من باب أولى.
والقول الثاني في المسألة: أنه لا يجب القضاء على من ترك عبادة مؤقتة حتى خرج وقتها بدون عذر، وذلك لأن العبادة المؤقتة عبادة موصوفة أن تقع في ذلك الزمن المعين، فإذا أخرجت عنه بتقديم أو تأخير فإنها لا تقبل، فكما أن الرجل لو صلى قبل الوقت لم تقبل منه على أنها فريضة، ولو صام قبل رمضان لم يقبل منه على أنه فريضة، فكذلك إذا أخر الصلاة عن وقتها بدون عذر فإنها لا تقبل منه، وكذلك لو أخر صيام رمضان بدون عذر فإنه لا يقبل منه، وهذا القول هو الراجح وذلك لأن الإنسان إذا أخرج العبادة عن وقتها وعملها بعده فقد عمل عملاً ليس عليه أمر الله ورسوله وقد ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " (2) وإذا كان عمله مردوداً فإن تكليفه بقضائه تكليف بما لا فائدة منه، وعلى هذا السائل أن يتوب إلى الله توبة صادقة نصوحاً، ويكثر من الأعمال الصالحة، والتوبة تجب ما قبلها كما ثبت ذلك عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ...
__________
(1) تقدم تخريجه ص16.(12/91)
53) سئل فضيلة الشيخ عن إنسان لا يصلي ولا يصوم وتاب فهل يقضي ما ترك؟
فأجاب بقوله: ما مضى من الطاعات التي تركها من صيام، وصلاة، وزكاة وغيرها لا يلزمه قضاؤها، لأن التوبة تجب ما قبلها، فإذا تاب إلى الله وأناب إليه وعمل عملاً صالحاً فإن ذلك يكفيه عن إعادة هذه الأعمال، وهذا أمر ينبغي أن نعرفه وهو أن القاعدة " أن العبادة المؤقتة بوقت إذا أخرجها الإنسان عن وقتها بلا عذر فإنها لا تنفع ولا تجزيء " مثل الصلاة، والصيام لو تعمد الإنسان أن لا يصلي حتى خرج الوقت فجاء يسأل هل يجب علي القضاء؟ قلنا له: لا يجب عليك، لأنك لن تنتفع به لأنه مردود عليك، ولو أن أحد أفطر يوما من رمضان وجاء يسألنا هل يجب علي ً قضاؤه؟ قلنا له: لا يجب عليك القضاء، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:"من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " (1) . والإنسان إذا أخر العبادة المؤقتة عن وقتها ثم أتى بها بعد الوقت فقد عمل عملاً ليس عليه أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتكون باطلة ولا تنفعه. ولكن قد يقول قائل: إذا كان الشارع أمر بالقضاء عند العذر - كالنوم - فمع عدم العذر من باب أولى.
فنقول في الجواب: الإنسان المعذور يكون وقت العبادة في حقه إذا زال عذره، فهو لا يؤخر العبادة عن وقتها ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام في الصلاة إذا نسيها: " فليصلها إذا ذكرها ".أما من تعمد ترك العبادة حتى خرج وقتها فقد أداها في غير وقتها المحدد فلا تقبل منه.
__________
(1) تقدم تخريجه ص 21.(12/92)
54) سئل فضيلة الشيخ - حفظه الله - عن من ترك الصلاة عمداً ثم تاب هل يقضي ما ترك؟
فأجاب بقوله: من ترك الصلاة عمداً ثم تاب إلى الله ورجع إليه فقد اختلف أهل العلم هل يجب عليه قضاء ما ترك من الصلوات، أو لا يجب؟ على قولين لأهل العلم.
والذي يترجح عندي ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أن من ترك الصلاة متعمداً حتى خرج وقتها فإنه لا ينفعه قضاؤها، وذلك لأن العبادة المؤقتة بوقت لابد أن تكون في نفس الوقت المؤقت، فكما لا تصح قبله لا تصح كذلك بعده، لأن حدود الله يجب أن تكون معتبرة، فهذه الصلاة فرضها الشارع علينا من كذا إلى كذا هذا محلها، فكما لا تصح الصلاة في المكان الذي لم يجعل مكاناً للصلاة، كذلك لا تصح في الزمان الذي لم يجعل زماناً للصلاة، لكن على من ترك الصلاة أن يكثر من التوبة والإستغفار والعمل الصالح وبهذا نرجو أن الله تعالى يعفو عنه ويغفر له ما ترك من صلاة، والله الموفق.
-
55) سئل فضيلة الشيخ: إذا تاب تارك الصلاة فهل تعاد له زوجته؟ وماذا يجب عليه لما مضى؟ وما حكم أولاده قبل ذلك؟
فأجاب قائلاً: هذا السؤال يشتمل على ثلاث نقاط:
الأولى: إذا أسلم تارك الصلاة وتاب وأخلص لله - عز وجل - فهل تعود زوجته إليه؟
نقول: إذا كان تركه الصلاة قبل الدخول والخلوة الموجبة للعدة فإن النكاح ينفسخ ولا تحل له إلا بعقد جديد، وإذا كان حدوث ذلك بعد(12/93)
الدخول أو الخلوة الموجبة للعدة فإن الأمر يقف على انقضاء العدة، إن حصلت له التوبة قبل انقضاء العدة فهي زوجته، وإن حصلت بعد انقضاء العدة فأكثر أهل العلم يرون أنها لا تحل له إلا بعقد جديد، وذهب بعض أهل العلم إلى أنها تحل له إذا رجع إليها، وأن انقضاء العدة يسقط سلطانه عليها ولا يحرمها عليه لو عاد إلى الإسلام، فبناء على هذين الحالين يتبين حكم هذا الرجل بالنسبة لرجوعه إلى زوجته.
النقطة الثانية: ماذا يجب عليه لما مضى؟ نقول: إن التوبة تجب ما قبلها لقوله تعالى: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) (1) . وقال النبي عليه الصلاة والسلام لعمرو بن العاص: " إن الإسلام يهدم ما قبله " (2) .
النقطة الثالثة: في أولاده فإن كان يعتقد أن النكاح باق لكونه مقلداً لمن لا يرى الكفر بترك الصلاة، أو كان لا يعلم أن تارك الصلاة يكفر فإن أولاده يكونون له ويلحقون به، وأما إذا كان يعلم أن ترك الصلاة كفر، وأن الزوجة لا تحل له مع ترك الصلاة، وأن وطأه لها وطء محرم فإن أولاده لا يلحقون به في هذا الحال.
وبعد فإن المسألة من المسائل الكبيرة التي ابتلي بها بعض الناس اليوم نسأل الله لنا ولهم السلامة والعاقبة الحميدة.
-
56) سئل فضيلة الشيخ – حفظه الله تعالى – عن رجل ترك الصلاة
__________
(1) سورة التوبة، الآية: 54.
(2) أخرجه مسلم: كتاب الإيمان / باب كون الإسلام يهدم ما قبله.....(12/94)
ثلاثة أسابيع لعدم استطاعته الوضوء بسبب البرد الشديد والثلج؟
فأجاب بقوله: هذا الفعل الذي صدر منك خطأ وجهل، والواجب عليك أن تصلي على حسب استطاعتك، فإذا كان هناك برد وثلج ولا يمكنك الوضوء فإن الله سبحانه وتعالى قد جعل بدل الماء التراب، قال تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) (1) . وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل" (2) .
فإذا حان وقت الصلاة وجب عليك أن تصلي، إن كنت قادراً على استعمال الماء فذلك هو المطلوب، وإلا فعليك بالتراب فإنه يكفيك، ويجب عليك أن تتوب إلى الله عز وجل، وأن تقضي صلوات الأيام التي تركتها مع الصدق في التوبة والاستغفار.
-
57) سئل فضيلة الشيخ حفظه الله: هل يكفر من ترك صلاة واحدة بغير عذر؟ وإذا تاب هل يقضي ما ترك؟
فأجاب قائلاً: من ترك صلاة عمداً بغير عذر فإنه لا يخرج من الإسلام إلا بترك الصلاة تركاً كلياً، أما في صلاة واحدة فلا يكفر على القول الراجح إلا من تركها تركاً مطلقاً، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بين الرجل وبين
__________
(1) سورة المائدة، الآية: 6.
(2) أخرجه البخاري: كتاب المساجد / باب قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً " ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة.(12/95)
الكفر والشرك ترك الصلاة " (1) .ولم يقل ترك صلاة، وكذلك قوله صلى الله عليه سلم: " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر " (2) . وليس عليه قضاء ما دام تركها بغير عذر، وإنما عليه أن يتوب إلى الله عز وجل، وإذا تاب توبة نصوحاً، فإن الله يقول: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) (3) .
-
58 وسئل فضيلة الشيخ: بعض المرضى يترك الصلاة بحجة عدم استطاعة الوضوء ونجاسة الملابس، فما حكم هذا العمل؟
فأجاب قائلاً: هذا العمل جهل وخطر، فإن الواجب علىالمؤمن أن يقيم الصلاة في وقتها بقدر استطاعته، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعمران بن حصين: " صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب " (4) . وقال الله تعالى في القرآن: (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) (5) . فجعل الله للمريض الذي لا يستطيع استعمال الماء جعل الله له بدلاً بالتيمم، وكذلك بالنسبة للصلاة فالرسول عليه الصلاة والسلام جعلها مراحل، فقال: " صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب ". فيجب على المريض أن يتوضأ أولاً، فإن لم يستطع تيمم،
__________
(1) تقدم تخريجه ص42.
(2) تقدم تخريجه ص42.
(3) سورة الشورى، الآية: 25.
(4) أخرجه البخاري: كتاب تقصير الصلاة / باب إذا لم يطق قاعداً صلى على جنب.
(5) سورة المائدة، الآية: 6.(12/96)
ثم يجب أن يصلي قائماً، فإن لم يستطع فقاعداً يوميء بالركوع والسجود ويجعل السجود أخفض إذا لم يستطع السجود، فإن كان يتمكن من السجود سجد، فإن لم بستطع أن يصلي قاعداً صلى على جنب ويوميء بالركوع والسجود، فإن لم يستطع الحركة إطلاقاً لكن قلبه يعقل فإنه ينوي الصلاة ينوي الأفعال، ويتكلم بالأقوال، فمثلاً يكبر ويقرأ الفاتحة، فإذا وصل إلى الركوع نوى أنه ركع، وقال الله أكبر، وسبح سبحان ربي العظيم، ثم قال سمع الله لمن حمده، ونوى الرفع، وهكذا بقية الأفعال، ولا يجوز له أن يؤخر الصلاة عن وقتها، حتى لو فرض أن عليه نجاسة في بدنه، أو في ثوبه، أو في الفراش الذي تحته ولم يتمكن من إزالتها فإن ذلك لا يضره فيصلي على حسب حاله لقوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (1) . والله الموفق.
-
59) وسئل فضيلة الشيخ: عن مريض قبل وفاته بأربعة أيام ترك الصلاة لعدم قدرته على الحركة، ولعدم قدرته على الوضوء ولعدم قدرته على أداء الصلاة فهل تقضى عنه الصلاة؟
فأجاب بقوله: الصلاة لا تقضى عن المريض إذا مات، ولكن أنصح السائل وغيره فأقول: إن هذه المشكلة تواجه كثيراً من المرضى تجده يكون متعباً من مرضه، ولا يجد ماءً يتوضأ به، ولا يجد تراباً يتيمم به، وربما تكون ثيابه ملوثة بالنجاسة فيفتي نفسه في هذه الحال أنه لا يصلي وأنه بعد أن يبرأ يصلي، وهذا خطأ عظيم، والواجب على المريض أن يصلي بحسب حاله، بوضوء إن أمكن، فإن لم يمكن
__________
(1) سورة التغابن، الآية: 16.(12/97)
فيتيمم، فإن لم يمكن فإنه يصلي ولو بغير تيمم ثم يصلي وثيابه طاهرة، فإن لم يكن صلى بها ولو كانت نجسة، وكذلك بالنسبة للفراش إذا كان طاهراً، فإن لم يكن تطهيره ولا إزالته وإبداله بغيره ولا وضع ثوب صفيق عليه فإنه يصلي عليه وإن كان نجساً. وكذلك بالنسبة لاستقبال القبلة يصلي مستقبل القبلة، فإن لم يكن يستطع صلى بحسب حاله.والمهم أن الصلاة لا تسقط ما دام العقل ثابتاً فيفعل ما يمكنه، حتى ولو فرض أنه لا يستطيع الحركة لا برأسه ولا بعينه فإنه يصلي بقلبه. وأما الصلاة بالإصبع كما يفعله العامة فهذا لا أصل له فإن بعض العوام يصلي بأصبعه، وهذا ليس له أصل لا من السنة، ولا من كلام أهل العلم.
فالمهم أنه يجب على المريض أن يصلي بحسب حاله لأن الله يقول: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (1) . وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " (2) .
-
60) سئل فضيلته: عن حكم بقاء المرأة المتزوجة مع زوج لا يصلي وله أولاد منها؟ وحكم تزويج من لا يصلي؟
فأجاب بقوله: إذا تزوجت امرأة بزوج لا يصلي مع الجماعة ولا مع غير الجماعة فإنه لا نكاح بينهما، ولا تكون زوجة له لتركه للصلاة،
__________
(1) سورة التغابن، الآية: 16.
(2) أخرجه البخاري: كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة / باب الاقتداء بسنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومسلم: كتاب الحج / باب فرض الحج مرة في العمر.(12/98)
ولا يجوز لها أن تمكنه من نفسها، وليس له الحق في أن يستبيح منها ما يستبيحه الرجل من زوجته؛ لأنها امرأة أجنبية منه، ويجب عليها في هذه الحال أن تتركه وتذهب إلى أهلها، وأن تحاول قدر ما تستطيع التخلص من هذا الرجل؛ لأنه كافر بتركه الصلاة.
فعليه نقول ونرجو أن يعلم كافة المسلمين أن أي امرأة زوجها لا يصلي لا يجوز لها أن تبقى معه، حتى لو كان لها أولاد منه؛ فإن الأولاد في هذه الحال سيتبعونها ولا حق لأبيهم بحضانتهم؛ لأنه لا حضانة لكافر على مسلم، وعلى المسلم الذي يخاف الله أن يعلم أن من عقد زواجاً لابنته على رجل لا يصلي فإن العقد باطل وغير صحيح، حتى ولو كان على يد مأذون شرعي، فإن من الناس من يخفي الواقع على المأذون فاتقوا الله في نسائكم ولا تعرضوهن للتجارب كما يفعل بعض الناس الآن، يزوج ابنته على من لا يصلي ويقول لعل الله يهديه فقد قال الله تعالى: (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ
وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنّ) (1) . أما من تاب وأقام الصلاة فإنه يعقد له عقد جديد، والله الهادي إلى سواء السبيل.
-
61) سئل فضيلة الشيخ: عن حكم الشخص الذي لا يصلي إطلاقاً؟
الجواب: الذي لا يصلي مرتد عن الإسلام كافر بالله تعالى كفراً مخرجاً عن الملة لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة " (2) . رواه مسلم. وهناك أدلة أخرى لا نطيل بذكرها.
__________
(1) سورة الممتحنة، الآية: 10.
(2) تقدم تخريجه ص42.(12/99)
ويترتب على تركه الصلاة أمور دنيوية وأمور أخروية:
أما الأمور الدنيوية فمنها:
1 - أنه يجب على ولاة الأمور أن يدعوه إلى الصلاة فإن تاب مخلصاً لله تعالى وصلى تاب الله عليه وإلا وجب قتله كافراً مرتداً 0
2 - لا يحل لأحد أن يزوجه، فإن زوجه فالنكاح باطل لا تحل به الزوجة 0
3 - تحرم عليه زوجته التي معه، وينفسخ نكاحها منه فيجب عليها مفارقته حتى يرجع إلى الإسلام 0
4 - لا تحل ذبيحته ولا تؤكل بينما ذبيحة اليهودي والنصراني تحل وتؤكل 0
5 - إذا مات أحد من أقاربه فإنه لا شيء له من ميراثه، وإذا مات هو لم يرثه أحد من قرابته بل يصرف ماله إلى صندوق الدولة لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم " (1) .
6 - لا يحل له دخول حرم مكة وهو ما كان داخل الأميال 0
7 - لا يقبل له عمل صالح من صدقة، ولا صيام، ولا حج ولا غيره 0
8 - إذا مات لا يغسل، ولا يكفن، ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يدعى له بالرحمة والمغفرة، ولا يحل لأحد من أهله يعلم حاله أن يقدمه إلى المسلمين ليصلوا عليه، أو يدفنه في مقابرهم، وإنما يخرج به إلى مكان فيحفر له ويدفنه 0
وأما الأمور الأخروية المترتبة على ترك الصلاة فمنها:
1 - العذاب الدائم في قبره كما يعذب الكافرون أو أشد
__________
(1) تقدم تخريجه ص50.(12/100)
2 - أنه يحشر يوم القيامة مع فرعون، وهامان، وقارون، وأبي بن خلف.
3 - أنه يدخل النار فيها أبد الآبدين.
-
62) وسئل فضيلته: عن رجل لا يصلي الصلاة إطلاقاً مع إقراره بوجوبها ويصوم رمضان لكنه لا يصلي هل يحكم بإسلامه؟
فأجاب بقوله: الصلاة أمرها عظيم وشأنها كبير، وهي آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين بإجماع أهل العلم، وورد الوعيد الشديد في إضاعتها في الكتاب والسنة، ولا أظن أن أحداً يؤمن بفرضيتها وتأكدها والوعيد على إضاعتها ثم يتركها مع أنها عمل يسير سهل موزع في اليوم والليلة ولا يتركها إلا أحد رجلين:
إما شاك في فرضيتها، أو معاند أعظم عناد لله ورسوله.
ومن زعم أنه مقر بوجوبها، أو قال إنه مقر بوجوبها ولكنه لم يصل فهو كافر وإن كان يصوم ويحج ويزكي لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة " (1) . رواه مسلم. وقال: " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر " (2) . رواه الخمسة، وقال عبد الله بن شقيق: " كان أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة " (3) . رواه الترمذي. وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -:لا حظ في الإسلام لمن ترك
__________
(1) تقدم تخريجه ص42.
(2) تقدم تخريجه ص42.
(3) تقدم تخريجه ص44.(12/101)
الصلاة (1) . – يعني لا نصيب له – وقال الإمام أحمد في حديث: آخر ما تفقدون من دينكم الصلاة. قال: كل شيء ذهب آخره لم يبق منه شيء فإذا ذهبت صلاة المرء ذهب دينه. وقال بن حزم: وقد جاء عن عمر وعبد الرحمن بن عوف، ومعاذ بن جبل، وأبي هريرة وغيرهم من الصحابة – رضي الله عنهم – أن من ترك صلاة فرضٍ واحدة متعمداً حتى يخرج وقتها فهو كافر مرتد، ولا نعلم لهؤلاء من الصحابة مخالفاً. وزاد المنذري: عبد الله بن مسعود، وابن عباس، وجابر بن عبد الله، وأبا الدرداء، وهذا المذكور في هذا الحديث كفر مخرج عن الإسلام. وقال ابن رجب في شرح الأربعين: وأما إقام الصلاة فقد وردت أحاديث متعددة تدل على أن من تركها فقد خرج من الإسلام. قلت: ولهذا لما ذكر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأمراء الذين نعرف منهم وننكر قالوا يا رسول الله ألا نقاتلهم؟ قال: " لا ما صلوا " (2) .
فجعل الصلاة مانعة من قتالهم، فإذا لم يصلوا جاز قتالهم، ولا يجوز قتالهم إلا إذا كفروا كما في حديث عبادة بن الصامت قال: " بايعنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان " (3) . وإذا تبين كفر تارك الصلاة فإنه لا يقبل منه عمل وتنفسخ منه زوجته فلا تحل له لقول الله تعالى في المهاجرات المؤمنات: (فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنّ) (4) . وإذا مات لا يغسل، ولا يكفن، ولا يصلي عليه، ولا يدفن مع المسلمين بل يحفر له في مكان ويدفن، ولا يدعى له بالرحمة
__________
(1) تقدم تخريجه ص 43.
(2) تقدم تخريجه ص43.
(3) تقدم تخريجه ص42.
(4) سورة الممتحنة، الآية: 10.(12/102)
والمغفرة، ولا يورث ماله بل يصرف إلى بيت المال فيجب الحذر كل الحذر من ترك الصلاة والتهاون بها، لأن الأمر عظيم والخطب جسيم نسأل الله السلامة والهداية.
-
63) وسئل فضيلته: عن رجل متزوج من امرأة وله منها أربع بنات ولكنها لا تصلي علماً أنها تصوم رمضان، وحينما طلب منها أن تصلي أفادت بأنها لا تعرف الصلاة، ولا تعرف القراءة، فما الحكم؟
فأجاب بقوله: ذكرت أن زوجتك لا تصلي ولكنها تصوم، وأنك إذا أمرتها بالصلاة تقول إنها لا تعرف القراءة، والواجب عليك حينئذ أن تعلمها القراءة إذا لم يقم أحد بتعليمها، ثم تعلمها كيف تصلي ما دام عذرها الجهل، فإن من كان عذره الجهل فإنه يزول بالتعليم فعلمها وأرشدها إلى ذلك، ثم إن أصرت على ترك الصلاة بعد العلم فإنها تكون كافرة والعياذ بالله، وينفسخ نكاحها، فإن لم تحسن القراءة فإنها تذكر الله وتسبحه وتكبره ثم تستمر في صلاتها ويكون هذا الذكر بدلاً عن القراءة حتى تتعلم ما يجب عليها.
-
64) وسئل فضيلته: عمن ترك الصلاة في السنين الأولى من عمره هل يقضي؟
فأجاب بقوله: هذه المسألة من المسائل الكبيرة الهامة، والعلماء مختلفون فيها:
فجمهورهم قالوا: يجب عليه قضاء جميع الصلوات التي تركها بعد البلوغ ولو كانت أكثر من خمسين سنة، وهذا مذهب مالك، وأبي(12/103)
حنيفة، والشافعي، وأحمد، فجميع هؤلاء الأئمة الأربعة متفقون على أنه يجب عليه قضاء ما فاته بعد بلوغه، وحجتهم: أن هذا الشخص بالغ عاقل مسلم ملتزم لأحكام الإسلام، والصلاة من أوجب واجبات الإسلام، بل هي أعظم أركانه بعد الشهادتين، ولم يقم دليل على أن تأخيرها عن وقتها مسقط لوجوبها، بل لو كان تأخيرها عن الوقت عمداً مسقطاً لوجوبها لكان فيه فتح باب للتلاعب وإضاعة الصلاة، وهذا الشخص إذا صح أنه تائب فإن من تمام توبته أن يقضي ما وجب عليه في ذمته، كالدين لآدمي إذا أنكره ثم ندم وتاب فإنه لا يبرأ منه إلا بدفعه إلى صاحبه، وأيضاً فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر من نام عن الصلاة أو نسيها أن يصليها إذا ذكرها أو استيقظ (1) ، فإذا كان هذا في حق النائم أو الناسي وهما معذوران فكيف بحال المستيقظ الذاكر المتعمد لتركها أفلا يكون أولى بالأمر بالقضاء ممن كان معذوراً؟ وأيضاً فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما شغله المشركون عام الخندق عن الصلاة صلاها بعد الغروب (2) ، فدل ذلك على وجوب قضاء الصلاة إذا فاتت، فهذه أربعة أدلة على وجوب القضاء مجملها كما يلي:
1- أنه شخص بالغ عاقل مسلم ملتزم لأحكام الإسلام فوجب عليه قضاء الصلاة إذا فوتها، كما يجب عليه أداؤها في الوقت.
2- أنه شخص عاص لله ورسوله على بصيرة فلزمته التوبة ومن تتمتها أن يقضي ما فاته من الواجب.
3- أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوجب على المعذور بنوم أو نسيان قضاء ما فاته من
__________
(1) تقدم تخريجه ص16.
(2) تقدم تخريجه ص21.(12/104)
الصلوات فغير المعذور من باب أولى.
4- أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انشغل بالجهاد عن الصلاة في غزوة الخندق فقضاها بعد فوات وقتها فغير المشغول بالجهاد من باب أولى.
وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – إلى عدم وجوب القضاء على من تعمد ترك الصلاة حتى خرج وقتها، وقال: إنه لو صلى آلاف المرات عن الصلاة الماضية التي فوتها باختياره عمداً لم تنفعه شيئاً، ولكن يجب عليه أن يحقق التوبة واللجوء إلى الله ويكثر من الاستغفار والنوافل، والتوبة تجب ما قبلها وتهدمه، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، وفي هذا مصلحة للتائب وتسهيل عليه وترغيب له في التوبة، فإنه ربما يستصعب التوبة إذا علم أنه لا تقبل توبته حتى يقضي صلاة ثلاثين سنة ونحوها والله تعالى يحب من عباده أن يتوبوا إليه، وقد يسر لهم باب التوبة وفتحه لهم، وأزال العوائق دونه، ورغبهم في دخوله غاية الترغيب. واستدل لمذهب شيخ الإسلام رحمه الله تعالى بأدلة منها:
1 - أن الله فرض الصلاة على المؤمنين، ووقتها بوقت محدود لا يصح فعلها قبله بإجماع العلماء، فلو صلى الظهر قبل الزوال، أو المغرب قبل الغروب، أو الفجر قبل طلوع الفجر لم تصح صلاته بإجماع المسلمين، فكذلك إذا صلاها بعد الوقت فقد أخرجها عن وقتها المحدد، فما الذي يجعلها تصح بعد الوقت ولا تصح قبله مع أن الوقت محدد أوله وآخره.
2- وأن جبريل صلى بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أول الوقت وآخره وقال: يا(12/105)
محمد الصلاة ما بين هذين الوقتين (1) يعني أول الوقت وآخره. وقال تعالى: (إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً) (2) .
3- وأنه صح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر " (3) . فمفهوم هذا الحديث أن من أدرك أقل من ركعه فإنه لم يدرك، فكيف بمن أخرج الصلاة كلها عن الوقت فإنه غير مدرك لها فلا تنفعه، وإذا لم تنفعه فلا فائدة من إلزامه بفعلها.
4- وأيضاً فقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " (4) . أي مردود عليه، ومصلي الصلاة بعد خروج وقتها بلا عذر قد عمل عملاً ليس عليه أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل فيه نهيه الشديد، وإذا كان كذلك صارت صلاته بعد الوقت مردودة إذا لم يكن معذوراً بالتأخير لأنها مخالفة لأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمردود لا فائدة منه سوى العناء وإضاعة الوقت بلا فائدة، فهذه أربعة أدلة لما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية في عدم وجوب قضاء الصلاة لمن أخرجها عن وقتها بلا عذر ونجمل هذه الأدلة فيما يأتي:
1-
__________
(1) تقدم تخريجه ص30.
(2) سورة النساء، الآية: 103.
(3) أخرجه البخاري: كتاب مواقيت الصلاة / باب من أدرك من الفجر ركعة، ومسلم: كتاب المساجد / باب من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة.
(4) تقدم تخريجه ص21.(12/106)
قوله تعالى: (إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً) (1) . أي فرضاً محدداً بوقت والمحدد بوقت كما لا يصح قبله لا يصح بعده بلا عذر وإلا لما كان لتحديد آخره فائدة سوى تحريم التأخير.
2- أن جبريل أم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أول الوقت وآخره وقال: " يا محمد الصلاة ما بين هذين الوقتين " (2) .
3- قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر " (3) . وكذلك في الصبح فمفهوم الحديث أن من لم يدرك ركعة لم يدرك الصلاة.
4- قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " (4) . والصلاة بعد الوقت بلا عذر ليس عليها أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بل فيها نهيه الشديد فتكون مردودة.
وقد أجاب شيخ الإسلام عن أدلة الجمهور بما يلي:
1- عن الدليل الأول: بأنه صحيح شخص بالغ مسلم ملتزم لأحكام الإسلام ولكن إلتزامه مقيد بالحدود الشرعية فإذا أتى بالعمل على غير الوجه المشروع لم يكن ملتزماً فلا يكون عمله صحيحاً وإذا لم يكن صحيحاً فأي فائدة في إلزامه به، وليس هناك دليل على إلزام الشخص بعمل مردود لا فائدة فيه؛ لأن إلزامه بمثل هذا عبث تأباه حكمة الشرع. نعم لو قدر أن في إلزامه بذلك مصلحة لردعه عن تكرر
__________
(1) سورة النساء، الآية: 103.
(2) تقدم تخريجه ص30.
(3) تقدم تخريجه ص106.
(4) تقدم تخريجه ص21.(12/107)
الترك لكان إلزامه بقضاء ما فاته لهذه المصلحة قولاً حسناً كما قال الجمهور.
2- وعن الدليل الثاني: أنا لا نسلم أن من تمام التوبة قضاء ما فاته بعد خروج وقته بل تصح توبته وإن لم يقض، لأنه فات وقته، وقد أخبر الله تعالى عمن تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً بأنه تعالى يبدل سيئاته حسنات وكان الله غفوراً رحيماً.
وأيضاً فإن عدم إلزامه بالقضاء قد يكون أقرب إلى تحقيق توبته وتمامها؛ لأنه يجد الباب أمامه مفتوحاً والطريق سهلاً فيتشوق إلى التوبة ويفرح بها ويراها نعمة من الله عليه أن يسر له التوبة وسهلها من غير تعب ولا مشقة، وإذا قدر أن همته كبيرة وعزيمته قوية وأنه سيقدم على قضاء ما فاته فربما تصغر همته وتضعف عزيمته بعد الشروع في القضاء خصوصاً إذا كثرت الفوائت، وكثرت الشواغل فتثقل عليه التوبة وينغلق عليه بابها.
إذن فالقول بعدم وجوب قضاء ما فاته أقرب إلى تمام التوبة وتحقيقها من القول بوجوب القضاء.
وأما قياس ذلك على من عليه دين فأنكره ثم تاب فإنها لا تصح توبته حتى يقضيه: فهذا قياس فاسد غير صحيح لأن قضاء الدين ليس لوقته آخر متى قضاه بريء منه، بخلاف الصلاة فإن وقتها محدود ابتداء ونهاية والقياس الصحيح أن نقول: كما أن الجمعة إذا أخرها الناس حتى خروج وقتها فإنها لا تصح منهم جمعة فكذلك بقية الصلوات؛ لأن الكل مؤقت بوقت ولا دليل للتفريق بين الجمعة وغيرها.
3- وعن الدليل الثالث: أت المعذور بنوم أو نسيان حتى خرج وقت الصلاة يصليها متى زال عذره؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعل حقها في وقت المعذور هو وقت زوال عذره، فالمعذور إذا صلى الصلاة حين زوال(12/108)
عذره فقد صلاها في وقتها الذي حدده رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقوله: " فليصلها إذا ذكرها " (1) . وإذا كانت صلاته إياها في الوقت فقد وقعت على الوجه المأمور به فتكون صحيحة مقبولة.
4- وعن الدليل الرابع: ما فعله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة الخندق حيث أخر صلاة النهار إلى ما بعد الغروب فلأنه كان مشغولاً بالجهاد ولذلك قال: " شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر " (2) ، فيكون تأخيرها حتى خرج الوقت لعذر، فوقتها وقت زوال العذر، وأيضاً ففعله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك كان قبل مشروعية صلاة الخوف على رأي كثير من أهل العلم، ولما شرعت صلاة الخوف صار المسلمون يصلونها في وقتها.
ونحن نفرق بين المعذور وغيره فنقول: المعذور يصليها إذا زال عذره ولو بعد الوقت، وإما غير المعذور فلا تصح منه بعد الوقت، وإلا لما كان لتحديد الوقت فائدة سوى تحريم التأخير؛ ولأنها بعد الوقت غير موافقة لأمر الله ورسوله وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " (3) . من هذا تبين أن للعلماء فيها رأيين:
أحدهما: وجوب القضاء وهو رأي الجمهور وقد ذكرنا أدلتهم التي نعرفها.
الثاني: عدم وجوب القضاء وأنه يكفي تحقيق التوبة، والإكثار من الاستغفار والعمل الصالح، وهو رأي شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو الراجح لقوة دليله. والله أعلم.
-
__________
(1) تقدم تخريجه ص16.
(2) تقدم تخريجه ص21.
(3) تقدم تخريجه ص21.(12/109)
65) وسئل فضيلة الشيخ: ما حكم موالاة الذي لا يصلي إلا يوم الجمعة، وإذا كانت المقاطعة ضرراً على العائلة، فهل يجوز مقاطعته؟
فأجاب بقوله: أولاً: إذا قلنا بأن الرجل لا يكفر إلا بترك الصلاة بالكلية، فإن هذا الذي لا يصلي إلا يوم الجمعة لا يكفر؛ لأنه لم يتركها مطلقاً، وإن قلنا بأنه يكفر بترك الصلاة الواحدة أو الصلاتين يجمع أحدهما إلى الأخرى، فإن هذا يكون كافراً.فمتى حكمنا بالكفر فإنه يجب هجره ومقاطعته، بل يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل، أما إذا لم نحكم بكفره فإنه يبقى غير كافر ويكون هجره وعدم هجره مبنياً على مصلحة، فإن وجدنا مصلحة في هجره هجرناه، وإن لم نجد مصلحة فإننا لا نهجره.
-
66) وسئل فضيلته عن رجل لا يصلي، ولكنه يعمل أعمالاً صالحه فما الحكم؟
فأجاب بقوله: الرجل الذي يفعل الخير فيتصدق ويحسن العشرة، ويحسن الخلق، ويصل الرحم وغير ذلك لكنه لا يصلي فلا ينفعه هذا كله عند الله، قال تعالى: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً) (1) . وقال تعالى: (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِه) (2) . ومع أن النفقات نفعها متعد إلا
__________
(1) سورة الفرقان، الآية: 23.
(2) سورة التوبة، الآية: 54.(12/110)
أنهم لم تقبل منهم؛ لأنهم كفروا بالله. وكل كافر مهما عمل من الخير فلا ينفعه عند الله تعالى.
ويجب أن نعرف الفرق بين المرتد وبين الكافر الأصلي، فالكافر الأصلي يمكن أن نتركه على دينه ولا نقول له شيئاً، أما المرتد فنطالبه بالرجوع إلى الإسلام فإن أبى فقد وجب قتله ولا يجوز أن يبقى على ظهر الأرض، وقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من بدل دينه فاقتلوه " (1) ، والكافر الأصلي قد تكون له أحكام كحل ذبيحته مثل أهل الكتاب، أما تارك الصلاة فلا تحل ذبيحته ولو سمى وأنهر الدم فذبيحته ميتة خبيثة.
-
67) وسئل فضيلته: عن امرأة زوجها لا يصلي فهل تطلب الطلاق منه، مع العلم أنها ليس لها عائل غيره؟
فأجاب بقوله: إذا كان الزوج لا يصلي مع الجماعة فهو فاسق والزوجة تحل له، أما إذا كان لا يصلي أبداً ونصحته زوجته بالصلاة فأصر فهو كافر مرتد عن الملة، لا تحل له زوجته، ولا يجوز أن تبقى معه، ولا يحل هو لها، ويجب عليها الامتناع منه، ولتذهب هي وأولادها إلى أهلها، ولا ولاية له ولا حضانة على الأولاد، لقول الله تعالى: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) (2) . فهذا في الآخرة وكذلك في الدنيا.
وقد نص العلماء على ذلك كما في زاد المستقنع: " ولا حضانة لكافر على مسلم ". وعلاج هذا الداء سهل وهو أن يسلم الرجل ويدخل
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب الجهاد / باب لا يعذب بعذاب الله.
(2) سورة النساء، الآية: 141.(12/111)
في دينه فيصلي، وإلا فالحل الفراق.
والدليل على كفره كتاب الله، وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكلام السلف الصالح والنظر الصحيح؛ فالأدلة في ذلك سمعية وعقلية.
أما الكتاب، فقوله تعالى عن المشركين: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) (1) . أي فإن لم يتوبوا من الشرك ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فليسوا إخواناً لنا في الدين، ومن المعلوم أن الأخوة في الدين لا تنتفي إلا بالكفر، ولا تنتفي بالمعاصي مهما عظمت، حتى قتل المؤمن عمداً فقد قال الله فيه: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) (2) . فجعل القاتل أخاً للمقتول. ومقاتلة المسلمين وهي من أعظم الذنوب قال الله فيه: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) (3) . ولو كان ترك الصلاة معصية وكبيرة فقط لو تنتف به الأخوة الإيمانية، وعلى هذا فترك الصلاة مخرج من الملة بمقتضى هذه الآية الكريمة.
فإن قيل: هذه الآية فيها أيضاً عدم إيتاء الزكاة وأنه ينفي الأخوة الإيمانية، فهل تقول بذلك؟
فالجواب: لولا وجود ما يمنع من ذلك لقلنا به، وهو ما رواه مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار وأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه وظهره، كلما بردت
__________
(1) سورة التوبة، الآية: 11.
(2) سورة البقرة، الآية: 10.
(3) سورة الحجرات، الآية: 10.(12/112)
أعيدت في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضيين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار" (1) . ومن المعلوم أنه إن كان يمكن أن يرى سبيله إلى الجنة فليس بكافر.
ومن السنة: ما رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة " (2) . فجعل ترك الصلاة فاصلاً بين الإيمان والكفر، ومن المعلوم أن الفاصل يخرج المفصول بعضه عن بعض ويقطع الاتصال نهائياً. فإما صلاة وإما كفر.
وكذلك قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر " (3) .ومن كلام الصحابة قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: " لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة " (4) . والحظ هو النصيب، والحظ منفي هنا بلا النافية التي تمنع أي شيء من منفيها، فلاحظ قليل ولا كثير من الإسلام لتارك الصلاة.وكذلك قول عبد الله بن شقيق التابعي الثقة: " كان أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة " (5) .وهذا حكاية إجماع.وقد حكى إجماع الصحابة على كفر تارك الصلاة إسحاق بن راهويه.
__________
(1) تقدم تخريجه ص78.
(2) تقدم تخريجه ص42.
(3) تقدم تخريجه ص42.
(4) تقدم تخريجه ص43.
(5) تقدم تخريجه ص44.(12/113)
أما النظر: فلأن كل إنسان لا يصلي مع علمه بأهمية الصلاة في الإسلام، وأنها ثاني أركانه، وأن لها من العناية حين فرضها، وحين أدائها ما لا يوجد في عبادة أخرى، لا يمكن أن يدعها مع ذلك وفي قلبه شيء من الإيمان.
وليس الإيمان مجرد التصديق بوجود الله وصحة رسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالتصديق بهذا كان موجوداً حتى في الكفار وقد شهد بذلك أبو طالب، لكن لابد أن يستلزم الإيمان القبول للخبر والإذعان، فإذا لم يكن إذعان ولا قبول فلا إيمان. وعلى هذا فتارك الصلاة كافرخارج عن الملة إذا مات فلا يغسل ولا يكفن، ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يدعى له بالرحمة؛ لأنه خالد في نار جهنم، فهو كافر كفراً أكبر، نسأل الله لنا ولكم السلامة.أما الذي يصلي ويترك، فهذا موضع خلاف بين العلماء القائلين بكفر تارك الصلاة:
فمنهم من كفره بفرضين. ومنهم من كفره بترك فرض واحد. ومنهم من قال: إذا كان أكثر وقته لا يصلي فهو كافر.والذي يظهر أنه لا يكفر إلا إذا كان لا يصلي أبداً، فإن كان يصلي الجمعة أو رمضان ننظر: فإن كان يفعل ذلك لعدم اعتقاد وجوب غيرهما فهو كافر، لا لترك الصلاة وإنما لإنكار الوجوب، وإنكار الوجوب لا يشترط فيه الترك، فلو أنكر رجل وجوب الصلاة فهو كافر وإن صلى.(12/114)
وبهذا يتبين خطأ من حمل الأحاديث الواردة في كفر تارك الصلاة على تاركها جحوداً لوجوبها، لأن ذلك لا يصح طرداً ولا عكساً، فمن جحد وجوبها كفر وإن صلى، ومن جهة العكس لا يصح؛ لأن الحديث دل على كفر تاركها فإذا ألغينا هذا الوصف واعتبرنا وصفاً لم يعتبره الشرع بل ألغاه فلا يصح.
وقد أورد البعض على هذا حديث عبادة بن الصامت: " خمس صلوات فرضهن الله على عباده من أتى بهن فأتم ركوعهن وسجودهن ووضوءهن أدخله الله الجنة، ومن لم يأت بهن لم يكن له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء غفر له " (1) وهذا الحديث لا يقابل الأحاديث الدالة على كفره في الصحة ومعلوم أنه عند التعارض يقدم الأقوى. وكذلك فلا يدل هذا الحديث على المراد؛ لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " فأتم ركوعهن وسجودهن ووضوءهن ". ومن لم يأت بهن على هذا الوصف أي وصف التمام فليس له عهد. فنفى الإتيان منصب على الإتيان على وجه التمام؛ لأنه المذكور في أول الحديث، أما من لم يأت بهن أبداً فالأدلة واضحة في كفره.
أما قول المرأة إنها ليس لها من يعولها فهذا من ضعف توكلها على الله، فإن الله تعالى يعول خلقه، وقد قال سبحانه: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِب) (2) . وقال: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ
__________
(1) تقدم تخريجه ص72.
(2) سورة الطلاق، الآيتان: 2، 3.(12/115)
يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً 4) (1) . فلتستعن بالله ولتفارق هذا الزوج الذي لا يصلي وسيجعل الله لها فرجاً ومخرجاً.
-
68) سئل فضيلة الشيخ عن رجل كان لا يصلي مطلقاً لثلاث سنوات مضن وتاب فهل يقضي؟
فأجاب بقوله: لا قضاء عليه فيما مضى لوجهين:
الأول: أن ترك الصلاة ردة عن الإسلام يكون به الإنسان كافراً على القول الراجح الذي تدل عليه نصوص الكتاب والسنة. وعلى هذا فإن رجوعه إلى الإسلام يمحو ما قبله لقوله تعالى: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) (2) .
الوجه الثاني: أن من ترك عبادة مؤقتة حتى خرج وقتها دون عذر شرعي كالصلاة والصيام ثم تاب فإنه لا يقضي ما ترك لأن العبادة المؤقتة محدودة من قبل الشارع بحد أول وآخر.
وقد صح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " (3) . ولا يرد على هذا مثل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها " (4) . وقوله تعالى في الصيام: (وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) (5) . لأن التأخير هنا للعذر وقضاء
__________
(1) سورة الطلاق، الآية: 4.
(2) سورة الأنفال، الآية: 38.
(3) تقدم تخريجه ص21.
(4) تقدم تخريجه ص16.
(5) سورة البقرة، الآية: 185.(12/116)
المعذور بعد الوقت كالأداء في أجره وثوابه.
وعلى هذا فلا يلزمك أيها الأخ قضاء ما تركته من واجبات مدة السنوات الثلاث التي ذكرتها
-
69) وسئل فضيلته: هناك اهتمام خاص عند كثير من الناس بالصلاة خاصة في رمضان دون غيره، فبماذا تنصحهم؟
فأجاب بقوله: أنصحهم بأن يتقوا الله سبحانه وتعالى في جميع أوقاتهم في رمضان وغيره؛ لأن الإنسان مأمور بعبادة الله إلى الموت. قال تعالى: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ 99) (1) .
-
70) وسئل فضيلته: كثير من الآباء لا يهتمون بتربية أولادهم وخاصة من الناحية الدينية، فيقصرون بحجة التعب بعد عناء العمل، وما رأيكم فيمن يدعون الإسلام وهم قلما صاموا رمضان أو تذكروا الصلاة؟
فأجاب قائلاً: الواجب على المؤمن أن يهتم بتربية أولاده اهتماماً بالغاً ليكون ممتثلاً لقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يؤْمَرُونَ) (2) . وليقم بالمسئولية التي حملها إياه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: " الرجل راع في أهله، ومسئول عن رعيته " (3) .
__________
(1) سورة الحجر، الآية: 99.
(2) سورة التحريم، الآية: 6.
(3) أخرجه البخاري: كتاب النكاح / باب المرأة راعية في بيت زوجها، ومسلم: كتاب =(12/117)
ولا يحل له أن يهملهم بل عليه أن يؤدبهم بحسب أحوالهم وبحسب جرائمهم، ولهذا قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر " (1) . وليعلم أن هذه الأمانة التي حملها سوف يسأل عنها يوم القيامة، فليعد الجواب الصواب حتى يتخلص من هذه المسئولية، وسيجني ثمار ما عمل: إن خيراً فخير وإن شراً فشر، وربما يعاقب به في الدنيا فيبتلى بأولاد يسيئون إليه ويعقونه ولا يقومون بحقه.
وأما رأينا فيمن يدعون الإسلام وهم قلما صاموا رمضان أو تذكروا الصلاة: فإن كان هؤلاء الذين لا يصومون رمضان يعتقدون أن الصيام ليس بواجب وأنه إنما هو رياضة بدنية إن شاء الإنسان صامه وإن شاء أفطره فهؤلاء كفار؛ لأنهم جحدوا فريضة من فرائض الإسلام وهم غير معذورين بجهلها لكونهم يعيشون في بيئة إسلامية.
وإما إن كانوا لا يصومون رمضان مع اعتقادهم أنه فريضة وواجب وأنهم بذلك عصاة، فإنهم لا يكفرون على القول الراجح من أقوال أهل العلم.
وأما الصلاة فإن كانوا لا يصلون أبداً فهم كفار، سواء أقروا بوجوبها أو أنكروا وجوبها، والدليل على كفرهم أدلة من كتاب الله، وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأقوال الصحابة رضي الله عنهم وقد سبق شيء من ذلك.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد 2/187، وأبو داود: كتاب الصلاة / باب متى يؤمر الغلام بالصلاة ((495 و496) ، وهو في صحيح الجامع رقم (5868)(12/118)
ولم يرد في الكتاب ولا في السنة أن تارك الصلاة ليس بكافر، أو أنه مؤمن، أو أنه يدخل الجنة، أو أنه لا يدخل النار ونحو ذلك، وغاية ما ورد في ذلك نصوص تدل على فضل التوحيد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وثواب ذلك، وهي إما مقيدة بوصف لا يمكن معه ترك الصلاة، وإما واردة في أحوال معينة يعذر فيها الإنسان بترك الصلاة، وإما عامة فتحمل على أدلة كفر تارك الصلاة؛ لأن أدلة كفر تارك الصلاة خاصة، والخاص مقدم على العام كما هو معروف في أصول الفقه ومصطلح الحديث.
فإن قال قائل: ألا يجوز أن تحمل النصوص الدالة على كفر تارك الصلاة على من تركها جاحداً لوجوبها؟
قلنا: لا يجوز ذلك؛ لأن فيه محذورين:
المحذور الأول: إلغاء وصف اعتبره الشارع وعلق الحكم به، فإن الشارع علق الحكم بالكفر على الترك دون الجحود، ورتب الأخوة في الدين على إقامة الصلاة دون الإقرار بوجوبها. ولم يقل الله تعالى (فإن تابوا وأقروا بوجوب الصلاة) ، ولم يقل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بين الرجل وبين الشرك والكفر جحد وجوب الصلاة، فمن جحد وجوبها فقد كفر) ، ولو كان هذا مراد الله تعالى ورسوله لكان العدول عنه خلاف البيان الذي جاء به القرآن. قال تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ) (1) . وقال تعالى مخاطباً نبيه: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (2) .
__________
(1) سورة النحل، الآية: 89.
(2) سورة النحل، الآية: 44.(12/119)
المحذور الثاني: اعتبار وصف لم يجعله الشارع مناطاً للحكم، فإن جحود وجوب الصلوات الخمس موجب لكفر من لا يعذر بجهله فيه سواء صلى أم ترك، فلو صلى شخص الصلوات الخمس وأتى بكل شروطها وأركانها وواجباتها ومستحباتها لكنه جاحد لوجوبها بدون عذر له فيه كان كافراً مع أنه لم يتركها.
فتبين بذلك أن حمل النصوص على من تركها جاحداً لوجوبها غير صحيح، وأن الحق أن تارك الصلاة كافر كفراً مخرجاً من الملة، كما جاء ذلك صريحاً فيما رواه بن أبي حاتم في سننه عن عبادة بن الصامت – رضي الله عنه – قال: أوصانا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تتركوا الصلاة عمداً، فمن تركها عمداً متعمداً فقد خرج من الملة " (1) . وأيضاً فإننا لو حملناه على ترك الجحود لم يكن لتخصيص الصلاة في النصوص فائدة، لأن هذا الحكم عام في الصلاة والزكاة والحج مما علم وجوبه بالضرورة من الدين، فمن ترك منها واحداً جحداً لوجوبه كفر إن كان غير معذور بجهل.
وكما أن كفر تارك الصلاة مقتضى الدليل السمعي الأثري، فهو مقتضى الدليل العقلي النظري، فكيف يكون عند الشخص إيمان مع تركه للصلاة التي هي عمود الدين، وجاء من الترغيب في فعلها ما يقتضي لكل عاقل مؤمن أن يقوم بها ويبادر إلى فعلها؟! وجاء من الوعيد على تركها ما يقتضي لكل عاقل مؤمن أن يحذر من تركها وإضاعتها، فتركها مع قيام هذا المقتضى لا يبقي إيماناً مع التارك.
__________
(1) تقدم تخريجه ص43.(12/120)
وجمهور الصحابة – رضي الله عنهم – حكى غير واحد إجماعهم على كفر تارك الصلاة، قال عبد الله بن شقيق: " كان أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة " (1) . رواه الترمذي والحاكم وصححه على شرطهما، وقال الإمام اسحاق بن راهويه الإمام المعروف: " صح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تارك الصلاة كافر "
وذكر بن حزم أنه قد جاء عن عمر، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاذ بن جبل، وأبي هريرة وغيرهم من الصحابة – رضي الله عنهم أجمعين -،قال:"ولا نعلم لهؤلاء مخالفاً من الصحابة ". نقله عنه المنذري في الترغيب والترهيب، وزاد من الصحابة عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، وجابر بن عبد الله، وأبا الدرداء – رضي الله عنهم – قال: ومن غير الصحابة: أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وعبد الله بن المبارك، والنخعي، والحكم بن عتيبة، وأيوب السختياني، وأبو داود الطيالسي، وأبو بكر بن أبي شيبة، وزهير بن حرب وغيرهم، قلت: وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد بن حنبل، وهو أحد قولي الشافعي كما ذكره بن كثير في تفسيره لقوله تعالى: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ) (2) . وذكر بن القيم في كتابه الصلاة أنه أحد الوجهين في المذهب الشافعي وأن الطحاوي نقله عن الشافعي نفسه.
فإن قيل: ما الجواب عما استدل به من لا يرى كفر تارك الصلاة؟
قلنا: الجواب عن ذلك أن ما استدل به هؤلاء فإما أن لا يكون فيه
__________
(1) تقدم تخريجه ص44.
(2) سورة مريم، الآية: 59.(12/121)
دلالة أصلاً، وإما أن يكون مقيداً بوصف لا يتأتى معه ترك الصلاة، وإما أن يكون مقيداً بحال يعذر فيها بترك الصلاة، وإما أن يكون عاماً مخصوصاً بأدلة تكفير تارك الصلاة - فلا تخرج الأدلة التي استدل بها من لا يرى كفر تارك الصلاة عن هذه الأحوال الأربع.
وهذه المسألة من أهم المسائل وأعظمها، والواجب على الإنسان أن يتقي الله تعالى في نفسه، وأن يحافظ على الصلاة حتى يكون ممن قال الله فيهم: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) (1) .
-
71) وسئل فضيلة الشيخ: عن شاب مستقيم ولكنه يتعب كثيراً في عمله حتى إنه لا يستطيع أن يصلي الفجر في وقتها من شدة التعب والإرهاق؟
فأجاب بقوله: الواجب عليه أن يدع العمل الذي يكون سبباً في تأخير صلاة الفجر؛ لأن الوسائل لها أحكام المقاصد إذا كان يعرف أنه لو ترك الإجهاد تمكن من صلاة الفجر فالواجب عليه أن لا يجهد نفسه حتى يصلي الفجر في وقتها مع المسلمين.
-
72) وسئل فضيلة الشيخ: عن رجل عنده الاستعداد التام للقيام
__________
(1) سورة المؤمنون، الآيات: 1-6.(12/122)
لصلاة الفجر فيضع جميع الأسباب لكن لا يقوم للصلاة، فما نصيحتكم له؟ وهل هو آثم في ذلك؟
فأجاب قائلاً: يجب عليه أن يعمل كل الأسباب التي تجعله يصلي الفجر جماعة، ومن ذلك أن ينام مبكراً، لأن بعض الناس يتأخر في النوم ولا ينام إلا قبيل الفجر ثم لا يتمكن من القيام، ولو وضع المنبه، ولو أمر من ينبهه، لذلك نحن ننصح هذا وأمثاله بأن يناموا مبكرين حتى يقوموا نشيطين ويصلوا جماعة.
أما هل هو آثم؟ نعم هو آثم إذا كان هذا بسببه سواء كان بتأخره في المنام أو كان ذلك بترك الاحتياط بالاستيقاظ فإنه آثم.
-
73) وسئل فضيلة الشيخ: عن حكم من فاتته صلاة الفجر جماعة مع المسلمين بسبب إيقاظ أبنائه؟ وبماذا تنصحه؟
فأجاب بقوله: أنصحه بأن يوقظ أبنائه قبل الآذان حتى يتمكن من صلاة الجماعة، ولا يحل له أن يدع صلاة الجماعة من اجل إيقاظ أبنائه، وعلاج ذلك أن يتقدم بإيقاظهم في وقت يتمكن من إيقاظهم، وإدراك الجماعة، أما أن يدعهم حتى يؤذن ثم يقوم فيوقظهم، وهم قد يكونون كثيرين، وقد يكونون ثقيلي النوم فهذا تفريط منه.
-
74) سئل فضيلة الشيخ: ما حكم من يؤدي الصلوات في جماعة دون صلاة الفجر؟
فأجاب قائلاً: هو آثم بتركه أداء صلاة الفجر مع الجماعة، ويجب عليه أن يتوب إلى الله، وأن يؤدي صلاة الفجر مع الجماعة(12/123)
ويخشى على من هذه حاله من النفاق، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " أثقل الصلوات على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً " (1) . متفق عليه.
-
75) وسئل فضيلته: ما هي النصيحة العامة التي توجهها للرجال والنساء جميعاً في شأن صلاة الفجر خاصة؟
فأجاب بقوله: أنصح كل إنسان مسلم أن يحافظ على صلاة الفجر وغيرها؛ لأن الصلاة هي عمود الدين وهي أوكد العبادات بعد الشهادتين ومن تركها فقد كفر، ومن أضاعها فهو على خطر، قال تعالى: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً *إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ) (2) . فإن تاب هؤلاء وآمنوا وعملوا صالحاً فإنه يرجى لهم أن يكونوا ممن وعدهم الله بقوله: (فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) (3) .
-
76) وسئل فضيلة الشيخ: إذا كان معي في العمل شخص لا يصلي، وقد حاولت معه كل المحاولات، ولم أستطع، فماذا يجب علي تجاهه؟
فأجاب بقوله: إذا قمت بما يجب عليك من النصيحة فإنما إثمه
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب الآذان / باب فضل العشاء في جماعة، ومسلم: كتاب المساجد / باب فضل صلاة الجماعة....
(2) سورة مريم، الآيتان، 59، 60.
(3) سورة مريم، الآية: 60.(12/124)
على نفسه، وأنت لم تجتمع به في بيتك حتى تقول: إن هذا إكرام له، ولم تجتمع في بيته أيضاً حتى تقول: إن هذه إجابة دعوة له، وإنما اجتمعت به في مكان عام له ولغيره، ولكنني أحثك على أن تواصل نصيحته فلعل الله أن يهديه فتكون سبباً في هدايته، وقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلي بن أبي طالب: " لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم " (1) .
-
77) وسئل فضيلة الشيخ: عن واجب الأسرة نحو الأبناء تاركي الصلاة؟
فأجاب بقوله: إذا كان عندهم أولاد لا يصلون، فالواجب عليهم أن يلزموهم بالصلاة؛ إما بالقول والأمر، وإما بالضرب لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "واضربوهم عليها لعشر " (2) . فإن لم يفد معهم الضرب فإنه يرفع بهم إلى الجهات المسئولة في الدولة - وفقها الله - من أجل إلزامهم بأدائها، ولا يحل السكوت عنهم، فإن ذلك من باب الإقرار على المنكر؛ لأن ترك الصلاة كفر مخرج عن الملة، فتارك الصلاة كافر مخلد في النار، فلا يجوز إذا مات على ذلك أن يغسل، أو يصلى عليه، أو يدفن في مقابر المسلمين. نسأل الله السلامة.
-
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب الجهاد / باب فضل من أسلم على يديه رجل، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة / باب من فضائل علي بن أبي طالب.
(2) تقدم تخريجه ص118.(12/125)
رسالة في حكم تارك الصلاة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، فإن كثيراً من المسلمين اليوم تهاونوا بالصلاة وأضاعوها حتى تركها بعضهم تركاً مطلقاً تهاوناً، ولنا كانت هذه المسألة من المسائل العظيمة الكبرى التي أبتلي بها الناس اليوم واختلف فيها علماء الأمة وأئمتها قديماً وحديثاً أحببت أن أكتب فيها ما تيسر.
ويتلخص في تحرير ثلاث مقامات:
المقام الأول: في حكم تارك الصلاة.
المقام الثاني: في حكم تزويجه بمسلمة.
المقام الثالث: في حكم أولاده منها.
فأما المقام الأول: فإن هذه المسألة من مسائل العلم الكبرى وقد تنازع فيها أهل العلم سلفاً وخلفاً فقال الإمام أحمد بن حنبل: تارك الصلاة كافر كفراً مخرجاً عن الملة يقتل إذا لم يتب ويصلِ. وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي: فاسق ولا يكفر، ثم اختلفوا فقال مالك والشافعي يقتل حداً. وقال أبو حنيفة: يعزر ولا يقتل.(12/126)
وإذا كانت هذه المسألة من مسائل النزاع فالواجب ردها إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقوله تعالى: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ) (1) . وقوله (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (2) . ولأن كل واحد من المختلفين لا يكون قوله حجة على الآخر؛ لأن كل واحد يرى أن الصواب معه، وليس أحدهما أولى بالقبول من الآخر، فوجب الرجوع في ذلك إلى حكم بينهما وهو كتاب الله تعالى وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وإذا رددنا هذا النزاع إلى الكتاب والسنة وجدنا أن الكتاب والسنة كلاهما يدل على كفر تارك الصلاة الكفر الأكبر المخرج عن الملة.
أما الكتاب: فقوله تعالى في سورة التوبة: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) (3) . وقوله في سورة مريم: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) (4) .
فوجه الدلالة من الآية الثانية آية سورة مريم أن الله قال في المضيعين للصلاة المتبعين للشهوات (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَن) َ. فدل على أنهم حين إضاعتهم للصلاة واتباع الشهوات غير مؤمنين.
ووجه الدلالة من الآية الأولى أية سورة التوبة أن الله تعالى اشترط
__________
(1) سورة الشورى، الآية: 10.
(2) سورة النساء، الآية: 59.
(3) سورة التوبة، الآية: 11.
(4) سورة مريم، الآيتان: 59، 60.(12/127)
لثبوت الأخوة بيننا وبين المشركين ثلاثة شروط: أن يتوبوا من الشرك وأن يقيموا الصلاة، وأن يؤتوا الزكاة، فإن تابوا من الشرك ولم يقيموا الصلاة ولم يؤتوا الزكاة فليسوا بإخوة لنا، وإن أقاموا الصلاة ولم يؤتوا الزكاة فليسوا بإخوة لنا، والأخوة في الدين لا تنتفي إلا حيث يخرج المرء من الدين بالكلية فلا تنتفي بالفسوق والكفر دون الكفر.
ألا ترى إلى قوله تعالى في آية القصاص من القتل: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ) (1) . فجعل الله القاتل عمداً أخاً للمقتول، مع أن القتل عمداً من أكبر الكبائر لقوله تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً) (2) .
ثم ألا ترى إلى قوله تعالى في الطائفتين من المؤمنين إذا اقتتلوا: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) إلى قوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُم ْ) (3) . فأثبت الله تعالى الأخوة بين الطائفة المصلحة والطائفتين المقتتلتين مع أن قتال المؤمن من الكفر كما ثبت في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره عن بن مسعود – رضي الله عنه – أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " سباب المسلم فسوق وقتاله كفر " (4) . لكنه كفر لا يخرج من الملة إذ لو كان مخرجاً من الملة ما بقيت الأخوة الإيمانية معه، والآية الكريمة قد دلت على بقاء الأخوة
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 178.
(2) سورة النساء، الآية: 93.
(3) سورة الحجرات، الآيتان: 9،10.
(4) تقدم تخريجه ص42.(12/128)
الإيمانية مع الاقتتال.
وبهذا علم أن ترك الصلاة كفر مخرج عن الملة إذ لو كان فسقاً أو كفراً دون كفر ما انتفت الأخوة الدينية به كما لم تنتف بقتل المؤمن وقتاله.
فإن قال قائل: هل ترون كفر تارك إيتاء الزكاة كما دل عليه مفهوم آية التوبة؟
قلنا: كفر تارك إيتاء الزكاة قال به بعض أهل العلم وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد – رحمه الله تعالى – ولكن الراجح عندنا أنه لا يكفر، لكنه يعاقب بعقوبة عظيمة ذكرها الله تعالى في كتابه، وذكرها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سنته، ومنها ما في حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر عقوبة مانع الزكاة وفي آخره: " ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار " (1) ، وقد رواه مسلم بطوله في باب إثم مانع الزكاة وهو دليل على أنه لا يكفر إذ لو كان كافراً ما كان له سبيل إلى الجنة، فيكون منطوق هذا الحديث مقدماً على مفهوم آية التوبة لأن المنطوق مقدم على المفهوم كما هو معلوم في أصول الفقه.
وأما دلالة السنة على كفر تارك الصلاة فقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة " (2) . رواه مسلم في كتاب الإيمان عن جابر بن عبد الله عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعن بريدة بن الحصيب – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) تقدم تخريجه ص 78.
(2) تقدم تخريجه ص42.(12/129)
يقول: " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر " (1) . رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه.
والمراد بالكفر هنا الكفر المخرج عن الملة؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعل الصلاة فصلاً بين المؤمنين والكافرين، ومن المعلوم أن ملة الكفر غير ملة الإسلام فمن لم يأت بهذا العهد فهو من الكافرين.
وفي صحيح مسلم عن أم سلمة – رضي الله عنها – أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن عرف بريء، ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع ". قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: " لا ما أقاموا فيكم الصلاة " (2) .
وفيه من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم وتصلون عليهم، وشرار ائمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم ". قيل يا رسول الله أفلا ننابذهم بالسيف؟ قال: " لا ما أقاموا فيكم الصلاة " (3) .
ففي هذين الحديثين دليل على منابذة الولاة وقتالهم بالسيف إذا لم يقيموا الصلاة، ولا تجوز منازعة الولاة وقتالهم إلا إذا أتوا كفراً صريحاً عندنا فيه برهان من الله تعالى لقول عبادة بن الصامت – رضي الله عنه -: دعانا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فبايعناه فكان فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا،
__________
(1) تقدم تخريجه ص42.
(2) تقدم تخريجه ص43.
(3) أخرجه مسلم: كتاب الإمارة / باب خيار الأئمة وشرارهم.(12/130)
وأن لا ننازع الأمر أهله.
قال: " إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان " (1) . وعلى هذا فيكون تركهم للصلاة الذي علق عليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منابذتهم وقتالهم بالسيف كفراً بواحاً عندنا فيه من الله برهان.
ولم يرد في الكتاب والسنة أن تارك الصلاة ليس بكافر، أو أنه مؤمن، وغاية ما ورد في ذلك نصوص تدل على فضل التوحيد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وثواب ذلك، وهي إما مقيدة بقيود في نفس النص يمتنع معها أن يترك الصلاة، وإما واردة في أحوال معينة يعذر الإنسان فيها بترك الصلاة، وإما عامة فتحمل على أدلة كفر تارك الصلاة؛ لأن أدلة كفر تارك الصلاة خاصة والخاص مقدم على العام.
فإن قال قائل: ألا يجوز أن تحمل النصوص الدالة على كفر تارك الصلاة على من تركها جاحداً لوجوبها؟
قلنا: لا يجوز ذلك لأن فيه محذورين:
الأول: إلغاء الوصف الذي اعتبره الشارع وعلق الحكم به، فإن الشارع علق الحكم بالكفر على الترك دون الجحود، ورتب الأخوة في الدين على إقام الصلاة دون الإقرار بوجوبها لم يقل الله تعالى: (فإن تابوا وأقروا بوجوب الصلاة) ولم يقل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بين الرجل وبين الشرك والكفر جحد وجوب الصلاة) . (أو العهد الذي بيننا وبينهم الإقرار بوجوب الصلاة فمن جحد وجوبها فقد كفر) . ولو كان هذا مراد الله تعالى ورسوله لكان العدول عنه خلاف البيان الذي جاء به القرآن قال الله تعالى: (ِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْء) (2) . وقال تعالى
__________
(1) تقدم تخريجه ص42.
(2) سورة النحل، الآية: 89.(12/131)
مخاطباً نبيه: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (1) .
المحذور الثاني: اعتبار وصف لم يجعله الشارع مناطاً للحكم فإن جحود وجوب الصلوات الخمس موجب لكفر من لا يعذر بجهله فيه سواء صلى أم ترك، فلو صلى شخص الصلوات الخمس وأتى بكل ما يعتبر لها من شروط وأركان وواجبات ومستحبات لكنه جاحد لوجوبها بدون عذر له فيه لكان كافراً مع أنه لم يتركها. فتبين بذلك أن حمل النصوص على من ترك الصلاة جاحداً لوجوبها غير صحيح، وأن الحق أن تارك الصلاة كافر كفراً مخرجاً عن الملة كما جاء ذلك صريحاً فيما رواه بن أبي حاتم في سننه عن عبادة بن الصامت – رضي الله عنه – قال أوصانا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تشركوا بالله شيئاً ولا تتركوا الصلاة عمداً فمن تركها عمداً متعمداً فقد خرج من الملة " (2) .
وكما أن هذا مقتضى الدليل السمعي الأثري فهو مقتضى الدليل العقلي النظري فكيف يكون عند الشخص إيمان مع تركه للصلاة التي هي عمود الدين وجاء من الترغيب في فعلها ما يقتضي لكل عاقل مؤمن أن يحذر من تركها وإضاعتها؟! فتركها مع قيام هذا المقتضى لا يبقى إيماناً مع التارك.
فإن قال قائل: ألا يحتمل أن يراد بالكفر في تارك الصلاة كفر النعمة لا كفر الملة؟ أو أن المراد به كفر دون الكفر الأكبر؟ فيكون كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" اثنتان في الناس هما بهما كفر: الطعن في النسب، والنياحة على
__________
(1) سورة النحل، الآية: 44.
(2) تقدم تخريجه ص43.(12/132)
الميت " (1) . وقوله: " سباب المسلم فسوق وقتاله كفر " (2) . ونحو ذلك.
قلنا: هذا الاحتمال والتنظير له لا يصح لوجوه:
الأول: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعل الصلاة حداً فاصلاً بين الكفر والإيمان، وبين المؤمنين والكفار، والحد يميز المحدود ويخرجه عن غيره، فالمحدودان متغايران لا يدخل أحدهما في الآخر.
الثاني: أن الصلاة ركن من أركان الإسلام فوصف تاركها بالكفر يقتضي أنه الكفر المخرج من الإسلام؛ لأنه هدم ركناً من أركان الإسلام بخلاف إطلاق الكفر على من فعل فعلاً من أفعال الكفر.
الثالث: أن هناك نصوصاً أخرى دلت على كفر تارك الصلاة كفراً مخرجاً عن الملة فيجب حمل الكفر على ما دلت عليه لتتلاءم النصوص وتتفق.
الرابع: أن التعبير بالكفر مختلف ففي ترك الصلاة قال: " بين الرجل وبين الشرك والكفر " فعبر ب (ال) الدالة على أن المراد بالكفر حقيقة الكفر بخلاف كلمة – كفر – منكراً، أو كلمة – كفر – بلفظ الفعل فإنه دال على أن هذا من الكفر أو أنه كفر في هذه الفعلة، وليس هو الكفر المطلق المخرج عن الإسلام.
قال شيخ الإسلام بن تيمية في كتاب (اقتضاء الصراط المستقيم) ص70 ط السنة المحمدية على قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" اثنتان في الناس هما بهم
__________
(1) أخرجه مسلم: كتاب الإيمان / باب إطلاق اسم الكفر على الطعن في النسب والنياحة.
(2) تقدم تخريجه ص42.(12/133)
كفر " (1) . قال: فقوله: " هما بهم كفر " أي هاتان الخصلتان هما كفر قائم بالناس، فنفس الخصلتين كفر حيث كانتا من أعمال الكفر، وهما قائمتان بالناس، لكن ليس كل من قام به شعبة من شعب الكفر يصير بها كافراً الكفر المطلق حتى تقوم به حقيقة الكفر، كما أنه ليس كل من قام به شعبة من شعب الإيمان يصير بها مؤمناً حتى يقوم به أصل الإيمان وحقيقته، وفرق بين الكفر المعرف باللام كما في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ليس بين العبد وبين الكفر والشرك إلا ترك الصلاة " (2) . وبين كفر منكر في الإثبات اهـ كلامه.
فإذا تبين أن تارك الصلاة بلا عذر كافر كفراً مخرجاً عن الملة بمقتضى هذه الأدلة كان الصواب فيما ذهب إليه الإمام أحمد بن حنبل وهو أحد قولي الشافعي ذكره ابن كثير في تفسير قوله تعالى: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ) (3) . وذكر بن القيم في كتاب الصلاة أنه أحد الوجهين في مذهب الشافعي وأن الطحاوي نقله عن الشافعي نفسه.
وعلى هذا القول جمهور الصحابة بل حكى غير واحد إجماعهم عليه، قال عبد الله بن شقيق: " كان أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة " (4) ، رواه الترمذي والخمسة وصححه على شرطهما. وقال إسحاق بن راهويه الإمام المعروف " صح عن
__________
(1) تقدم تخريجه ص133.
(2) تقدم تخريجه ص42.
(3) سورة مريم، الآية: 59.
(4) تقدم تخريجه ص44.(12/134)
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تارك الصلاة كافر "، وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى يومنا هذا أن تارك الصلاة عمداً من غير عذر حتى يخرج وقتها كافر، وذكر بن حزم أنه قد جاء عن عمر، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاذ بن جبل، وأبي هريرة وغيرهم من الصحابة قال: " ولا نعلم لهؤلاء مخالفاً من الصحابة " نقله عنه المنذري في الترغيب والترهيب وزاد من الصحابة: عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، وجابر بن عبد الله، وأبا الدرداء – رضي الله عنهم – قال: ومن غير الصحابة أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وعبد الله بن المبارك، والنخعي، والحكم بن عتيبة، وأيوب السختياني، وابو داود الطيالسي، وأبو بكر بن أبي شيبة، وزهير بن حرب وغيرهم اهـ.
فإن قال قائل: ما الجواب عن الأدلة التي استدل بها من لا يرى كفر تارك الصلاة؟
قلنا: الجواب أن هذه الأدلة لم يأت فيها أن تارك الصلاة لا يكفر، أو أنه مؤمن، أو أنه لا يدخل النار، أو أنه في الجنة ونحو ذلك، ومن تأملها وجدها لا تخرج عن أربعة أقسام كلها لا تعارض أدلة القائلين بأنه كافر.
القسم الأول: ما لا دليل فيه أصلاً للمسألة مثل استدلال بعضهم بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) (1) . فإن معنى قوله (مَا دُونَ ذَلِكَ) ما هو أقل من ذلك، وليس معناه ما سوى ذلك بدليل أن من كذب بما أخبر الله به ورسوله فهو كافر كفراً لا يغفر وليس ذنبه من الشرك ولو سلمنا أن معنى (مَا دُونَ ذَلِكَ)
__________
(1) سورة النساء، الآية: 48.(12/135)
ما سوى ذلك لكان هذا من باب العام المخصوص بالنصوص الدالة على الكفر بما سوى الشرك، والكفر المخرج عن الملة من الذنب الذي لا يغفر وإن لم يكن شركاً.
القسم الثاني: عام مخصوص بالأحاديث الدالة على كفر تارك الصلاة مثل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث معاذ بن جبل: " ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله إلا حرمه الله على النار " (1) .
وهذا أحد ألفاظه وورد نحوه من حديث أبي هريرة، وعبادة بن الصامت، وعتبان بن مالك – رضي الله عنهم -.
القسم الثالث: عام مقيد بما لا يمكن معه ترك الصلاة مثل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث عتبان بن مالك: " فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله " (2) . كما رواه البخاري. وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث معاذ: " ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صدقاً من قلبه إلا حرمه الله على النار " (3) . كما رواه البخاري، فتقييد الإتيان بالشهادتين بإخلاص القصد وصدق القلب يمنع من ترك الصلاة، إذ ما من شخص يصدق في ذلك ويخلص إلا حمله صدقه وإخلاصه على فعل الصلاة ولابد، فإن الصلاة عمود الإسلام، وهي الصلة بين العبد وربه، فإذا كان صادقاً في ابتغاء وجه الله فلابد أن يفعل ما يوصله إلى ذلك، ويتجنب ما يحول بينه وبينه، وكذلك من شهد أن لا إله إلا الله،
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد 5/229.
(2) أخرجه البخاري: كتاب المساجد / باب المساجد في البيوت، ومسلم: كتاب الإيمان / باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً.
(3) أخرجه البخاري: كتاب الأطعمة، ومسلم: كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً.(12/136)
وأن محمداً رسول الله صدقاً من قلبه فلابد أن يحمله ذلك الصدق على أداء الصلاة مخلصاً بها لله تعالى، متبعاً فيها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن ذلك من مستلزمات تلك الشهادة الصادقة.
القسم الرابع: ما ورد مقيداً بحال يعذر فيها بترك الصلاة كالحديث الذي رواه ابن ماجه عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب ". الحديث، وفيه: " وتبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز يقولون أدركنا آباءنا على هذه الكلمة: لا إله إلا الله فنحن نقولها " فقال له صلة: ما تغني عنهم لا إله إلا الله وهم لا يدرون ما صلاة، ولا صيام، ولا نسك، ولا صدقة؟ فأعرض عنه حذيفة، ثم ردها عليه ثلاثاً كل ذلك يعرض عنه حذيفة، ثم أقبل عليه في الثالثة فقال: " يا صلة تنجيهم من النار " ثلاثاً (1) . فإن هؤلاء الذين أنجتهم الكلمة من النار كانوا معذورين بترك شرائع الإسلام، لأنهم لا يدرون عنها فما قاموا به هو غاية ما يقدرون عليه، وحالهم تشبه حال من ماتوا قبل فرض الشرائع، أو قبل أن يتمكنوا من فعلها كمن مات عقب شهادته قبل أن يتمكن من فعل الشرائع، أو أسلم في دار الكفر قبل أن يتمكن من العلم بالشرائع.
والحاصل أن ما استدل به من لا يرى كفر تارك الصلاة لا يقاوم كفر ما استدل به من يرى كفره؛ لأن ما استدل به أولئك إما أن لا يكون فيه دلالة أصلاً، وإما أن يكون مقيداً بوصف لا يتأتى معه ترك الصلاة، أو مقيداً بحال يعذر فيها بترك الصلاة، أو عاماً مخصوصاً بأدلة تكفيره.
...
__________
(1) تقدم تخريجه ص68.(12/137)
فإذا تبين كفره بالدليل السالم عن المعارض المقاوم وجب أن تترتب أحكام الكفر عليه، ضرورة أن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً وبهذا يتبين:
المقام الثاني: وهو أن تارك الصلاة لا يحل أن يعقد له على امرأة مسلمة؛ لأنه كافر والكافر لا تحل له المرأة المسلمة بالنص والإجماع قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارلا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) (1) . وقال في المغني 592/6: " وسائر الكفار غير أهل الكتاب لا خلاف بين أهل العلم في تحريم نسائهم وذبائحهم " قال: " والمرتدة يحرم نكاحها على أي دين كانت؛ لأنه لم يثبت لها حكم أهل الدين الذي إنتقلت إليه في إقرارها عليه ففي حلها أولى"، وقال في باب المرتد: " وإن تزوج لم يصح تزوجه لأنه لا يقر على النكاح، وما منع الإقرار على النكاح منع انعقاده كنكاح الكافر المسلمة ". وفي مجمع الأنهر للحنفية آخر باب نكاح الكافر ص302/ج1: " ولايصح تزوج المرتد ولا المرتدة أحداً لإجماع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ".
فأنت ترى أنه صرح بتحريم نكاح المرتدة، وأن نكاح المرتد غير صحيح فماذا يكون لو حصلت الردة بعد العقد؟ قال في المغني 298/6: " إذا ارتد أحد الزوجين قبل الدخول انفسخ النكاح في الحال، ولم يرث أحدهما الآخر، وإن كانت ردته بعد الدخول ففيه روايتان: إحداهما تتعجل الفرقة، والثاني: تقف على انقضاء العدة "، وفي ص639 منه أن انفساخ النكاح بالردة قبل الدخول قول عامة أهل العلم واستدل له،
__________
(1) سورة الممتحنة، الآية: 10.(12/138)
وأن انفساخه في الحال إذا كان بعد الدخول قول مالك وأبي حنيفة، وتوقفه على انقضاء العدة قول الشافعي، وهذا يقتضي أن الأئمة الأربعة متفقون على انفساخ النكاح بردة أحد الزوجين، لكن إن كانت الردة قبل الدخول انفسخ النكاح في الحال، وإن كانت بعد الدخول فمذهب مالك وأبي حنيفة الانفساخ في الحال، ومذهب الشافعي الانتظار إلى انقضاء العدة، وعن أحمد روايتان كالمذهبين وفي ص640 منه: " وإن ارتد الزوجان معاً فحكمهما حكم ما لو ارتد أحدهما إن كان قبل الدخول تعجلت الفرقة، وإن كان بعده فهل تتعجل أو تقف على انقضاء العدة؟ على روايتين، وهذا مذهب الشافعي، ثم نقل عن أبي حنيفة أن النكاح لا ينفسخ استحساناً لأنه لم يختلف بهما الدين فأشبه ما لو أسلما، ثم نقض قياساً طرداً وعكساً.
وإذا تبين أن نكاح المرتد لا يصح من مسلم سواء كان أنثى أم رجلاً وأن هذا مقتضى دلالة الكتاب والسنة، وتبين أن تارك الصلاة كافر بمقتضى دلالة الكتاب، والسنة، وقول عامة الصحابة تبين أن الرجل إذا كان لا يصلي وتزوج امرأة مسلمة فإن زواجه غير صحيح، ولا تحل له المرأة بهذا العقد، وأنه إذا تاب إلى الله تعالى ورجع إلى الإسلام وجب عليه تجديد العقد.
وهذا بخلاف أنكحة الكفار حال كفرهم مثل أن يتزوج كافر بكافرة ثم تسلم الزوجة فهذا إن كان إسلامها قبل الدخول إنفسخ النكاح، وإن كان إسلامها بعده لم ينفسخ النكاح ولكن ينتظر فإن أسلم الزوج قبل انقضاء العدة فهي زوجته، وإن انقضت العدة قبل إسلامه فلا حق له فيها لأنه تبين أن النكاح قد انفسخ منذ أن أسلمت.(12/139)
وقد كان الكفار في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسلمون مع زوجاتهم ويقرهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أنكحتهم إلا أن يكون سبب التحريم قائماً مثل أن يكون الزوجان مجوسيين وبينهما رحم محرم فإذا أسلما حينئذ فرق بينهما لقيام سبب التحريم.وهذه المسألة ليست كمسألة المسلم الذي كفر بترك الصلاة ثم تزوج مسلمة، فإن المسلمة لا تحل للكافر بالنص والإجماع كما سبق ولو كان الكافر أصلياً غير مرتد، ولهذا لو تزوج كافر مسلمة فالنكاح باطل ويجب التفريق بينهما فلو أسلم وأراد أن يتزوجها لم يكن له ذلك إلا بعقد جديد.
المقام الثالث: في حكم أولاد تارك الصلاة من مسلمة تزوج بها فأما بالنسبة للأم فهم أولاد لها بكل حال، وأما بالنسبة للمتزوج فعلى قول من لا يرى كفر تارك الصلاة فهم أولاد يلحقون به بكل حال؛ لأن نكاحه صحيح، وأما على قول من يرى كفر تارك الصلاة وهو الصواب على ما سبق تحقيقه في – المقام الأول – فإننا ننظر:
فإن كان الزوج لا يعلم أن نكاحه باطل، أو لا يعتقد ذلك فالأولاد أولاده يلحقون به؛ لأن وطئه في هذه الحال مباح في اعتقاده فيكون وطء شبهة، ووطء الشبهة يلحق به النسب.
وإن كان الزوج يعلم أن نكاحه باطل ويعتقده فإن أولاده لا يلحقون به؛ لأنهم خلقوا من ماء من يرى أن جماعه محرم لوقوعه في امرأة لا تحل له.
هذا هو تحرير القول في هذه المسألة العظيمة التي ابتلي بها كثير من الناس اليوم.(12/140)
والله نسأل أن يهيىء لنا من أمرنا رشدا، وأن يهدينا وإخواننا المسلمين صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
تم تحريره في الثالث عشر من شهر رجب سنة 1405 هـ بقلم محمد الصالح العثيمين.
-(12/141)
فصل (1)
قال فضيلة الشيخ – أعلى الله درجته في المهديين -:
الركن الثاني من أركان الإسلام إقام الصلاة وينبغي أيها المسلمون أن تعلموا أن الصلاة هي أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين، وأن الله تعالى اعتنى بها اعتناءً عظيماً لم يعتن بأي ركن من أركان الإسلام العملية اعتناءه بها، حتى إنه تبارك وتعالى فرضها على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دون واسطة، كلمه بها وبفرضيتها بدون واسطة، لم يرسل بها جبريل إلى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولكنه فرضها عليه منه تعالى إليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفرضها في أعظم ليلة كانت لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهي ليلة المعراج التي هي أعظم ليلة كانت للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفرضها أيضاًَ في أعلى مكان وصل إليه بشر، فرضها على الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو في السماء السابعة، يكلمه سبحانه وتعالى من فوق العرش يفرض عليه الصلاة.
إذاً هذه الصلاة متأكدة من حيث مكان فرضيتها، وزمان فرضيتها، وكيفية وحي الله بها إلى رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم إنها مؤكدة بأن الله فرضها على رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خمسين صلاة في اليوم والليلة، وهذا دليل على محبة الله لها، وأنها جديرة بأن يفني الإنسان معظم وقته فيها؛ لأن خمسين صلاة في اليوم والليلة تستوعب منا وقتاً كبيراً، وهذا دليل على أنها من أهم العبادات بل هي أهم العبادات بعد الشهادتين.(12/142)
أيها الاخوة المسلمون: هذه الصلاة العظيمة التي فيها هذا الفضل والقدر وفيها هذه العناية من ربنا جل ذكره أضاعها كثير من المسلمين اليوم فصدق عليهم قول الله عز وجل: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً) (1) .
أضاعوها فلم يقوموا بواجبها، ولم يربوا أولادهم وأهلهم عليها، مع أن الله يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) (2) . ومع أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " مروا أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر " (3) .
ترى الواحد يخرج من بيته للمسجد وأولاده يلعبون في السوق لا يأمرهم بالصلاة وهم لسبع، ولا يضربهم عليها إذا بلغوا عشراً مع أهميتها وعظمها، حتى إن الصلاة لا تسقط عن الإنسان أبداً ما دام عاقلاً تجب عليه إذا كان قادراً أن يقيمها بأركانها وشروطها وواجباتها، وبما قدر عليه منها إن عجز حتى إنها لا تسقط عن المريض ما دام عقله ثابتاً.
أيها الاخوة المسلمون: يقول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وتقيم الصلاة " (4) ، ولم يقل (وتصلي) وفرق بين قوله " تقيم الصلاة " وبين قوله: (وتصلي) لأنه لابد من إقامة الصلاة بأن يكون الإنسان مقيماً لها إقامة كاملة يأتي بها بشروطها وأركانها وواجباتها غير ناقص منها شيئاً، ونحن نتكلم هنا عن أوقات الصلاة فنقول: إن أوقات الصلاة مذكورة في كتاب الله
__________
(1) سورة مريم، الآية: 59.
(2) سورة التحريم، الآية: 6.
(3) تقدم تخريجه ص78.
(4) أخرجه البخاري: كتاب الزكاة / باب وجوب الزكاة، ومسلم: كتاب الإيمان / باب بيان الإيمان..(12/143)
مجملة، وفي سنة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مفصلة، أما إجمالها في القرآن ففي آيتين من كتاب الله يقول الله سبحانه وتعالى: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ *وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ) (1) .ويقول سبحانه وتعالى: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً) (2)
يقول الله سبحانه وتعالى: (لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) ، دلوك الشمس هو زوال الشمس (إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ) ، غسق الليل منتهى ظلمته وغاية ظلمته وذلك منتصف الليل، وعلى هذا فالصلاة من انتصاف النهار إلى انتصاف الليل كلها أوقات ممتدة يلي بعضها بعضاً لا يفصل بينها بشيء، ولذلك كان وقت صلاة الظهر كما جاء مبيناً مفصلاً في سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من زوال الشمس إلى أن يصير ظل كل شيء مثله، بإسقاط فيء الزوال، وصلاة العصر من أن يصيرظل كل شيء مثله إلى أن تصفر الشمس، والضرورة إلى غروبها، وصلاة المغرب من غروب الشمس إلى مغيب الشفق الأحمر، وصلاة العشاء من مغيب الشفق الأحمر إلى منتصف الليل، ثم ينقطع وقت صلاة الفريضة، وما بين نصف الليل إلى طلوع الفجر ليس وقتاً لصلاة مفروضة، وما ذهب إليه كثير من الفقهاء من أن وقت العشاء يمتد إلى الفجر لا دليل عليه من القرآن ولا من السنة، فالقول الصواب أن وقت العشاء ينتهي بمنتصف الليل، وأن ما بعد منتصف الليل إلى طلوع الفجر ليس وقتاً لصلاة مفروضة، وإنما هو وقت لصلاة الليل، ثم بعد ذلك يدخل وقت صلاة الفجر ويبدأ من طلوع الفجر إلى شروق
__________
(1) سورة الروم، الآيتان: 17، 18.
(2) سورة الإسراء، الآية: 78..(12/144)
الشمس ولهذا فصل الله بينه وبين ما قبله فقال: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً) (1) . ففصل قراءت الفجر عن ما قبله، وذلك لأن بينه وبين العشاء وقت – من منتصف الليل إلى طلوع الفجر – وبينه وبين الظهر وقت – من طلوع الشمس إلى زوالها – هذه الأوقات الخمسة، لا يجوز لأحد أن يصلي الصلاة قبل وقتها، ومن صلى الصلاة قبل وقتها فلا صلاة له، فإذا علم أنه صلاها قبل الوقت فإن الواجب أن يعيدها عند حضور وقتها.
ومثال ذلك: صليت الفجر قبل وقته وظننت أنه دخل وقته ثم تبين لك أن وقت الفجر لم يطلع فالواجب أن تعيد الصلاة في وقتها؛ لأن من صلى الصلاة قبل وقتها صارت نافلة لا تسقط بها الفريضة، إذا كان جاهلاً، أما إذا كان متعمداً فإنه آثم ولا تسقط بها الفريضة ولا يثبت بها أجر النافلة، كذلك أيضاً من أخر الصلاة عن وقتها حتى خرج وقتها فإنه لا صلاة له ولا تقبل منه إلا إذا كان معذوراً، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: " من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة له إلا ذلك " (2) . هذا في حق المعذور، أما الإنسان المتهاون الذي تهاون حتى خرج وقت الصلاة فإنه وإن صلاها لا تقبل منه الصلاة أبداً؛ لأنه أخرجها عن وقتها المحدد فيكون قد عملها على غير الوجه الذي أمر الله به ورسوله. وقد ثبت عن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " (3) . إلا أنه يجوز للإنسان المعذور أن يجمع بين الصلاتين فيجمع بين صلاة الظهر وصلاة العصر جمع تقديم أو تأخير حسب ما هو أيسر له إذا
__________
(1) سورة الإسراء، الآية: 78.
(2) تقدم تخريجه ص16.
(3) تقدم تخريجه ص21.(12/145)
كان معذوراً، وكذلك يجمع بين المغرب والعشاء جمع تقديم أو تأخير إذا كان معذوراً، والأفضل له أن يفعل ما هو أيسر.
فإذا كان الأيسر عليه جمع التقديم فإنه يجمع جمع تقديم، وإذا كان أيسر جمع جمع تأخير، ونضرب لذلك مثلاً: رجل مريض يشق عليه أن يتوضأ لكل صلاة فنقول له: لا بأس أن تجمع بين الظهر والعصر جمع تقديم أو تأخير، ولا بأس أن تجمع بين المغرب والعشاء جمع تقديم أو تأخير، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا زالت الشمس وهو في مكان صلى الظهر والعصر ثم ارتحل، وإذا كان مرتحلاً قبل زوال الشمس فإنه يؤخر الظهر ويصليها مع العصر (1) .
وها هنا مسألة أحب أن أنبه عليها وهي: أن بعض الناس يظنون أنه إذا جاز الجمع للمريض أو المسافر فإنه لابد أن يجمع بين الصلاتين في وسطهما أي في آخر وقت الظهر وأول وقت العصر وهذا ليس بشيء وليس بصحيح، بل أن الإنسان إذا جاز له أن يجمع بين الصلاتين فإنه إن شاء جمع في وقت الأولى، أو في أول وقت الثانية، أو في أخر وقت الثانية، أو في ما بينهما، والمهم أنه إذا جاز الجمع صار الوقتان وقتاً واحداً، ومن المعلوم أن الجمع إنما يجوز بين الظهر والعصر، أو بين المغرب والعشاء، وأنه لا يمكن أن يجمع الإنسان بين الصلوات الأربع الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء جميعاً.
ومما يتعلق بالوقت وأحكامه: أن المرأة إذا طهرت في آخر
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب تقصير الصلاة / باب إذا ارتحل بعدما زاغت الشمس، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين / باب جواز الجمع بين الصلاتين في السفر.(12/146)
الوقت فإنه يجب عليها أن تصلي هذا الوقت الذي طهرت فيه مثال ذلك: امرأة طهرت من الحيض قبل غروب الشمس فإنه يجب عليها أن تصلي صلاة العصر، وقد ذهب كثير من أهل العلم إلى أنه إذا طهرت قبل غروب الشمس وجب عليها صلاة العصر وصلاة الظهر أيضاً فإذا فعلت ذلك وصلت الظهر قبل العصر فإن ذلك خير، وإن لم تفعل واقتصرت على صلاة العصر فلا حرج عليها في ذلك لأنها لم تدرك إلا وقت العصر.
ولو أن امرأة أتاها الحيض بعد دخول الوقت فإنه يجب عليها أيضاً أن تقضي ذلك الفرض الذي دخل وقته عليها وهي طاهرة.
مثال آخر: امرأة حاضت بعد غروب الشمس بدقيقة واحدة قيل يجب عليها إذا طهرت أن تصلي صلاة المغرب؛ لأنها أدركت وقتها ولكن الصواب أنه لا تجب عليها الصلاة إلا إذا أدركت من وقتها مقدار ركعة، وأنها إذا أدركت أقل من ركعة لم تجب عليها، لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: " من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة " (1) . فعلى هذا إذا حاضت المرأة بعد غروب الشمس بنحو دقيقة فإنه لا يجب عليها صلاة المغرب لأنها لم تدرك من وقتها مقدار ركعة.
ومن شروط الصلاة: استقبال القبلة لأن الله تعالى قال للرسول عليه الصلاة والسلام: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَه) (2) . فالواجب في استقبال القبلة إذا كان الإنسان هنا في
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب مواقيت الصلاة / باب من أدرك من الصلاة ركعة، ومسلم: كتاب المساجد / باب من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة.
(2) سورة البقرة، الآية: 144.(12/147)
المسجد الحرام، أو في مكان يشرف على الكعبة الواجب عليه أن يستقبل نفس بناية الكعبة بجميع بدنه، وهنا نشاهد من المصلين اناساً كثيرين لا يستقبلون القبلة تجدهم يكون الصف ممتداً ويكون اتجاهه إلى غير الكعبة وهذا خطأ عظيم، الإنسان الذي في المسجد الحرام يجب أن يتجه بجميع بدنه إلى بناية الكعبة لا يخرج بشيء من بدنه عن بناية الكعبة؛ لأنه أمكنه مشاهدتها، ومن أمكنه مشاهدتها وجب عليه استقبال عينها، أما إذا كان لا يمكنه مشاهدتها فإنه يكفي أن يستقبل جهتها لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما ثبت عنه في الصحيحين من حديث أبي أيوب رضي الله عنه: " إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة بغائط أو بول ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا " (1) .
فأمر النبي عليه الصلاة والسلام أهل المدينة أن يشرقوا أو يغربوا عند قضاء الحاجة لأجل ألا يستقبلوا القبلة أو يستدبروها، فدل هذا على أن قبلة أهل المدينة الجنوب كل الجنوب من طرفه إلى طرفه فيكون فرضهم استقبال الجهة، وهكذا أيضاً من لم تمكنه مشاهدة الكعبة فإنه يجب عليه استقبال جهتها، ولهذا قال بعض أهل العلم من كان في المسجد استقبل عين الكعبة، ومن كان خارج المسجد استقبل المسجد، ومن كان بعيداً استقبل مكة، ومن كان أبعد استقبل الجهة، ولكن هذا التفصيل ليس عليه دليل، ولكن المهم أن من أمكنه أن يشاهد الكعبة وجب عليه استقبالها ومن لم يمكنه وجب عليه استقبال جهتها.
وأنا أحذر كثيراً من المصلين الذين يصلون في المسجد الحرام
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب الوضوء / باب لا تستقبل القبلة بغائط أو بول إلا عند البناء: الجدار أو نحوه، ومسلم: كتاب الطهارة / باب الاستطابة.(12/148)
من أنهم لا يستقبلون الكعبة عن يمينهم أو عن يسارهم ولا يستقبلون عينها وهذا
خطأ عظيم لا تصح معه الصلاة.
والله الموفق.
-(12/149)
رسالة
قال فضيلة الشيخ جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيراً:
الصلاة: هي الركن الثاني من أركان الإسلام وهي آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين.
الصلاة: صلة بين العبد وبين ربه، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن أحدكم إذا صلى يناجي ربه " (1) . وقال الله تعالى في الحديث القدسي: " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين. قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله تعالى حمدني عبدي. وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله تعالى أثني علي عبدي. وإذا قال مالك يوم الدين، قال: مجدني عبدي. فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل. فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين. قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل (2) .
الصلاة: روضة عبادات فيها من كل زوج بهيج، تكبير يفتتح به الصلاة، وقيام يتلو فيه المصلي كلام الله، وركوع يعظم فيه الرب، وقيام من الركوع يملؤه بالثناء على الله، وسجود يسبح الله تعالى فيه بعلوه ويبتهل إليه بالدعاء، وقعود للدعاء والتشهد، وختام بالتسليم.
...
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب مواقيت الصلاة / باب المصلي يناجي ربه عز وجل.
(2) تقدم تخريجه ص 150.(12/150)
الصلاة: عون في المهمات ونهي عن الفحشاء والمنكرات، قال الله تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) (1) . وقال تعالى: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) (2) .
الصلاة: نور المؤمنين في قلوبهم ومحشرهم، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " الصلاة نور " (3) . وقال: " من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاةً يوم القيامة " (4) .
الصلاة: سرور نفوس المؤمنين وقرة أعينهم، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " جعلت قرة عيني في الصلاة " (5) . ...
الصلاة: تمحى بها الخطايا وتكفر السيئات، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه (وسخه) شيء "؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: " فكذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا " (6) . وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ما لم تغش الكبائر " (7) .
"
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 45.
(2) سورة العنكبوت، الآية: 45.
(3) أخرجه مسلم: كتاب الطهارة / باب فضل الوضوء.
(4) تقدم تخريجه ص50.
(5) أخرجه الإمام أحمد في " المسند " 3/199.
(6) خرجه البخاري: كتاب مواقيت الصلاة / باب الصلوات الخمسة كفارة، ومسلم: كتاب المساجد / باب المشي إلى الصلاة..
(7) أخرجه مسلم: كتاب الطهارة / باب الصلوات الخمس....(12/151)
صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة ". رواه ابن عمر عن النبي (1) . وقال ابن مسعود رضي الله عنه: من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن فإن الله تعالى شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنه بها سيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف " (2) .
الخشوع في الصلاة (وهو حضور القلب) والمحافظة عليها من أسباب دخول الجنات، قال الله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ *الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ *إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ *فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (3) .
الإخلاص لله تعالى في الصلاة وأدائها كما جاءت به السنة هما الشرطان الأساسيان لقبولها، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنما الأعمال بالنيات،
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب الجماعة / باب فضل صلاة الجماعة، ومسلم: كتاب المساجد / باب فضل صلاة الجماعة.
(2) أخرجه مسلم: كتاب المساجد / باب صلاة الجماعة من سنن الهدى.
(3) سورة المؤمنون، الآيات: 1-11.(12/152)
وإنما لكل امرىء ما نوى " (1) . وقال: " صلوا كما رأيتموني أصلي " (2) .
فتطهر من الحدث والنجاسة، ثم استقبل القبلة فكبر، ثم استفتح، ثم اقرأ الفاتحة وما تيسر من القرآن ثم كبر حين تهوي للركوع واركع حتى تطمئن راكعاً، وقل سبحان ربي العظيم، ثم ارفع من الركوع قائلاً: سمع الله لمن حمده، وبعد القيام ربنا ولك الحمد، واطمئن قائماً، ثم كبر حين تهوي للسجود واسجد حتى تطمئن ساجداً على الأعضاء السبعة: الجبهة مع الأنف، والكفين والركبتين، وأطراف القدمين، وقل سبحان ربي الأعلى، ثم انهض مكبراً واجلس حتى تطمئن جالساً، وقل: رب اغفر لي، وارحمني، واجبرني، واهدني، وارزقني، ثم اسجد مكبراً حتى تطمئن ساجداً على الأعضاء السبعة وقل: سبحان ربي الأعلى، ثم ارفع مكبراً للركعة الثانية وافعل فيها كالأولى بدون استفتاح، ثم اجلس بعد انتهائها للتشهد ثم سلم.
وإن كنت في ثلاثية أو رباعية فقم بعد التشهد الأول وأتمها مقتصراً على الفاتحة، وإذا انتهيت من الصلاة فاستغفر الله ثلاثاً واذكر الله كما جاءت به السنة.
والله الموفق.
كتبه محمد الصالح العثيمين في 13/4/1406 هـ
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب بدء الوحي / باب كيف كان بدء الوحي ... ، مسلم: كتاب الإمارة / باب قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إنما الأعمال) .
(2) أخرجه البخاري: كتاب الآذان / باب الآذان للمسافر إذا كانوا جماعة ...(12/153)
رسالة
الحمد لله، وبعد فقد اطلعت على ما نشر في جريدة (.) الأثنين 22 من ذي القعدة عام 1417 هـ حول الفتوى الصادرة مني في امرأة تسأل عن زوجها الذي لا يصلي صلاة الجمعة ولا مع الجماعة مع أنه يصلي الأوقات التي تحضره وهو في البيت فإنه يأتي ويقول إني صليت، والله أعلم، فما الحكم هل تبقى معه الزوجة أم تطلب الطلاق؟ اهـ.
وكانت الإجابة: هذا الزوج لا يخرج من الإسلام لأنه لم يترك الصلاة كلياً، لكنه - والعياذ بالله - من أفسق الناس، وفعله هذا أعظم من فعل الفواحش، فإن تمكنت من مفارقته فهو أولى إلا أن يهديه الله تعالى ويتوب، أما إن كان لا يصلي أبداً فإنه لا يجوز لها أن تبقى معه؛ لأنها حرام عليه حينئذ؛ لأن الذي لا يصلي يعتبر كافراً، والمؤمنة لا تحل لكافر. عليك أن تنصحيه وأن تهدديه بطلب الطلاق لعل الله يهديه. اهـ.
وكان الخطأ الذي اقتضى ما نشر هو أن السؤال كتب هكذا: لا يصلي صلاة الجماعة ولا مع الجماعة. والصواب لا يصلي صلاة الجمعة. وحقيقة حال الزوج حسب السؤال:
1 - أنه لا يصلي الجمعة.
2 - أنه لا يصلي مع الجماعة.
3 - أنه يصلي الصلاة التي تحضره في البيت وأما خارجه فهو يقول إنه(12/154)
صلى، والمرأة شاكة فيه وليس ذنبه أنه لا يصلي مع الجماعة فقط.
ومن المعلوم أن من علماء السلف من قال بأن من ترك صلاة واحدة متعمداً حتى خرج وقتها فهو كافر مرتد نقله المنذري في الترغيب والترهيب عن أبي محمد ابن حزم قال -أي ابن حزم - وقد جاء عن عمر، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاذ بن جبل، وأبي هريرة وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم أن من ترك صلاة فرض واحدة متعمداً حتى يخرج وقتها فهو كافر مرتد، ولا نعلم لهؤلاء من الصحابة مخالفاً (1) . اهـ. وثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن من ترك ثلاث جمع تهاوناً بها طبع الله على قلبه (2) . ومما لا شك فيه أن العمل الذي يكون به مرتداً أعظم من الفواحش الموجبة للفسق.
وللبيان حرر بقلم محمد الصالح العثيمين في 24/11/1417 هـ.
__________
(1) الترغيب والترهيب 1/266.
(2) أخرجه الإمام أحمد في " المسند " 3/425.(12/155)
صلى، والمرأة شاكة فيه وليس ذنبه أنه لا يصلي مع الجماعة فقط.
ومن المعلوم أن من علماء السلف من قال بأن من ترك صلاة واحدة متعمداً حتى خرج وقتها فهو كافر مرتد نقله المنذري في الترغيب والترهيب عن أبي محمد ابن حزم قال -أي ابن حزم - وقد جاء عن عمر، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاذ بن جبل، وأبي هريرة وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم أن من ترك صلاة فرض واحدة متعمداً حتى يخرج وقتها فهو كافر مرتد، ولا نعلم لهؤلاء من الصحابة مخالفاً (1) . اهـ. وثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن من ترك ثلاث جمع تهاوناً بها طبع الله على قلبه (2) . ومما لا شك فيه أن العمل الذي يكون به مرتداً أعظم من الفواحش الموجبة للفسق.
وللبيان حرر بقلم محمد الصالح العثيمين في 24/11/1417 هـ.
__________
(1) الترغيب والترهيب 1/266.
(2) أخرجه الإمام أحمد في " المسند " 3/425.(12/156)
الأذان والإقامة(12/157)
78) سئل فضيلة الشيخ: أيهما أفضل الأذان أم الإمامة؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذه المسألة محل خلاف بين أهل العلم، والصحيح أن الأذان أفضل من الإمامة، لورود الأحاديث الدالة على فضله، مثل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا " (1) . وكقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة " (2) .
فإن قال قائل: الإمامة ربطت بأوصاف شرعية مثل " يؤم القوم اقرؤهم لكتاب الله " ومعلوم أن الأقرأ أفضل، فقرنها بأقرأ يدل على أفضليتها؟
فالجواب: أننا لا نقول لا أفضلية في الإمامة بل الإمامة ولاية شرعية ذات فضل، ولكننا نقول: إن الأذان أفضل من الإمامة لما فيه من إعلان ذكر الله تعالى وتنبيه الناس على سبيل العموم، ولأن الأذان أشق من الإمامة، وإنما لم يؤذن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخلفاؤه الراشدون؛ لأنهم اشتغلوا بأهم من المهم، لأن الإمام يتعلق به جميع الناس فلو تفرغ لمراقبة الوقت لانشغل عن مهمات المسلمين.
* * *
79) وسئل فضيلة الشيخ: عن حكم الإقامة للصلاة في حق المرأة؟
...
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب الأذان / باب الاستهام في الأذان، ومسلم: كتاب الصلاة / باب تسوية الصفوف....
(2) أخرجه مسلم: كتاب الصلاة / باب فضل الأذان.(12/159)
فأجاب قائلاً: لا حرج على المرأة أن تقيم الصلاة إذا كانت تصلي في بيتها، وإن لم تقم الصلاة فلا حرج عليها أيضاً، لأن إقامة الصلاة إنما تجب على جماعة الرجال، حتى الرجل المنفرد إذا صلى منفرداً فإن الإقامة لا تجب عليه، وإن أقام فهو أفضل، وإن لم يقم فلا حرج عليه.
* * *
80) وسئل فضيلته: عن حكم الأذان في حق المسافرين؟
فأجاب بقوله: هذه المسألة محل خلاف، والصواب وجوب الأذان على المسافرين، وذلك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لمالك بن الحويرث وصحبه: " إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم " (1) . وهم وافدون على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مسافرون إلى أهليهم، ولأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يدع الأذان ولا الإقامة حضراً ولا سفراً، فكان يؤذن في أسفاره ويأمر بلالاً رضي الله عنه أن يؤذن.
* * *
81) وسئل حفظه الله: هل يلزم المسافر الأذان والإقامة؟
فأجاب فضيلته بقوله: الأذان للصلاة والإقامة لها لا يلزمك إن لم يوجد غيرك بل هما سنة لك، أما إذا كان معك أحد فالأذان والإقامة واجبان عليكما ففي صحيح البخاري عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال: أتى رجلان إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يريدان السفر فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا أنتما خرجتما فأذنا ثم أقيما " (2) . الحديث.
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب الأذان / باب الأذان للمسافرين إذا كانوا جماعة والإقامة، ومسلم: كتاب المساجد / باب من أحق بالإمامة.
(2) أخرجه البخاري: كتاب الأذان / باب الأذان للمسافر....، ومسلم: كتاب المساجد / باب من أحق بالإمامة.(12/160)
82) وسئل فضيلة الشيخ: ما حكم الأذان والإقامة للمنفرد؟
فأجاب بقوله: الأذان والإقامة للمنفرد سنة، وليسا بواجب؛ لأنه ليس لديه من يناديه بالأذان، ولكن نظراً لأن الأذان ذكراً لله عز وجل، وتعظيماً، ودعوة لنفسه إلى الصلاة وإلى الفلاح، وكذلك الإقامة كان سنة، ويدل على استحباب الأذان ما جاء في حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " يعجب ربك من راعي غنم على رأس الشظية للجبل يؤذن للصلاة، فيقول الله: انظروا إلى عبدي هذا يؤذن ويقيم للصلاة يخاف مني قد غفرت لعبدي، وأدخلته الجنة " (1) .
* * *
83) وسئل: إذا جمع الإنسان الظهر والعصر فهل لكل واحدة منهما إقامة؟ وهل للنوافل إقامة؟
فأجاب قائلاً: لكل واحدة إقامة، كما في حديث جابر رضي الله عنه في صفة حج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حيث ذكر جمعه في مزدلفة قال: " أقام فصلى المغرب، ثم أقام فصلى العشاء ولم يسبح بينهما " (2) .
وأما النوافل فليس لها إقامة.
* * *
84) وسئل قضيلة الشيخ: هل الأذان واجب على المنفرد؟ وما
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد 4/145 و157، وأبو داود: كتاب الصلاة / باب الأذان في السفر.
(2) أخرجه البخاري: كتاب الحج / باب الجمع بين الصلاتين بالمزدلفة،، ومسلم: كتاب الحج / باب الإفاضة من عرفات ...(12/161)
صحة الاستدلال بحديث: " إذا قمت إلى الصلاة فتوضأ كما أمرك الله ثم تشهد فأقم " على وجوب الأذان والإقامة على المنفرد؟
فأجاب قائلاً: الأذان للمنفرد إذا كان في مكان ليس فيه مؤذنون مشروع، إما وجوباً، وإما استحباباً على قولين في ذلك هما روايتان عن الإمام أحمد.
وأما الاستدلال بحديث: " فتوضأ كما أمرك الله ثم تشهد فأقم " فيحتمل أن المراد بالتشهد ما يقال بعد الوضوء، والله أعلم.
* * *
85) وسئل فضيلة الشيخ: عن مسجد في مزرعة قريبة من البلد ويسمعون أذان البلد فهل يؤذنون؟
فأجاب بقوله: إذا كان للمسجد مؤذن معين من قبل الأوقاف فلا بأس به وإن كانوا يسمعون أذان البلد.
* * *
86) سئل فضيلة الشيخ: عن إمام دخل المسجد وقد أذن المؤذنون في البلد ولم يؤذن في مسجده فهل يؤذن أن يقيم مباشرة؟
فأجاب قائلاً: إذا دخل الإمام مسجداً لم يؤذن فيه فلا حرج أن يقيم الصلاة بدون أذان، لأن الأذان فرض كفاية، وقد حصل بأذان الآخرين في المساجد المجاورة.
أما إذا دخل الإمام مسجداً ليس حوله مؤذنون فإنه يؤذن، مثل رجل مسافر وكان حال الأذان في البر ولا يسمع النداء فدخل هو وأصحابه المسجد ليصلوا، ورأو الناس قد صلوا فإنه يحسن أن يؤذنوا ثم يقيموا، ولكن يكون الأذان بقدر ما يسمعون هم أنفسهم دون أن(12/162)
يكون فيه مكبر صوت أو بصوت عال، لئلا يشوش على الناس.
* * *
87) وسئل فضيلة الشيخ: هل يجب الأذان للصلاة المقضية؟
فأجاب بقوله: إذا كان الإنسان في بلد قد أذن فيه للصلاة كما لو نام جماعة في البلد ولم يستيقظوا إلا بعد طلوع الشمس فلا يجب عليهم الأذان اكتفاءً بالأذان العام في البلد؛ لأن الأذان العام في البلد حصل به الكفاية وسقطت به الفريضة.
أما إذا كان في مكان لم يؤذن فيه فالأذان واجب؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما نام عن صلاة الفجر في سفره ولم يستيقظ إلا بعد طلوع الشمس أمر بلالاً أن يؤذن (1) وأن يقيم وهذا يدل على وجوبه، ولعموم قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم " (2) . فإنه يشمل حضورها بعد الوقت وفي الوقت.
* * *
88) وسئل فضيلته عن حكم أخذ الأجرة على الأذان؟
فأجاب قائلاً: لا يجوز أخذ الأجرة على الأذان لأنه قربة من القرب وعبادة من العبادات، والعبادات لا يجوز أخذ الأجرة عليها لقوله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ *أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (3) . ولأنه إذا أراد بالأذان
__________
(1) تقدم تخريجه ص27.
(2) تقدم تخريجه ص160.
(3) سورة هود، الآيتان: 15، 16(12/163)
الدنيا بطل عمله، فلم يكن أذانه صحيحاً، وقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " (1) إلا الرزق فلا يحرم أن يعطى المؤذن والمقيم عطاء من بيت المال وهو ما يعرف في وقتنا الحاضر بالراتب؛ لأن بيت المال إنما وضع لمصالح المسلمين، والأذان والإقامة من مصالح المسلمين.
* * *
89) وسئل فضيلة الشيخ – أعلى الله درجته -: عن حكم أخذ المال على فعل الطاعات؟
فأجاب بقوله: العوض الذي يعطاه من قام بطاعة من الطاعات ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أن يكون ذلك بعقد أجرة مثل أن يتفق هذا العامل القائم بهذه الطاعة مع غيره على عقد إجازة ملزمة يكون فيها كل من العوضين مقصوداً، فالصحيح أن ذلك لا يصح كما لو قام أحد بالإمامة والأذان بأجرة، وذلك لأن عمل الآخرة لا يصح أن يكون وسيلة للدنيا؛ لأن عمل الآخرة أشرف وأعلى من أن يكون وسيلة لعمل الدنيا الذي هو أدنى، قال تعالى: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا *وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى *إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى *صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى) (2) .
القسم الثاني: أن يأخذ عوضاً على هذا العمل على سبيل الجعالة مثل أن يقول قائل: من قام بالأذان في هذا المسجد فله كذا وكذا، أو من قام بالإمامة في هذا المسجد فله كذا وكذا فالصحيح من أقوال أهل
__________
(1) تقدم تخريجه ص21.
(2) سورة الأعلى، الآيات: 16-19.(12/164)
العلم في هذه المسألة أن ذلك جائزاً؛ لأن هذا العمل ليس أجرة وليس ملزماً.
القسم الثالث: أن يكون العوض من بيت المال تبذله الدولة لمن قام بهذا العمل فهذا جائز ولا شك فيه؛ لأنه من المصارف الشرعية لبيت المال، وأنت مستحق له بمقتضى هذا العمل فإذا أخذته فلا حرج عليك، ولكن ينبغي أن يعلم أن هذه الأموال التي تباح لمن قام بهذه الوظائف لا ينبغي أن تكون هي مقصود العبد، فإنه إذا كانت مقصودة حرم الأجر، وأما إذا أخذها ليستعين بها على طاعة الله، وعلى القيام بهذا العمل فإنها لا تضره.
* * *
90) وسئل فضيلة الشيخ: عن حكم أخذ الأجرة على قراءة القرآن؟
فأجاب بقوله: قراءة القرآن بالأجرة حرام، لأن قراءة القرآن عمل صالح، والعمل الصالح لا يجوز أن يتخذ وسيلة للدنيا، فإن اتخذ وسيلة لها بطل ثوابه لقوله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ *أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (1) . وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه " (2) . فقاريء القرآن لأخذ الأجرة ليس له ثواب عند الله
__________
(1) سورة هود، الآيتان: 15، 16.
(2) أخرجه البخاري: كتاب الإيمان / باب ما جاء إن الأعمال بالنية والحسبة، ومسلم: كتاب الإمارة / باب قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنما الأعمال بالنيات ".(12/165)
وعلى هذا فلا ينتفع الميت بقراءته.
* * *
91) وسئل فضيلة الشيخ: هل يجوز أذان حالق اللحية إذا كان حسن الصوت؟
فأجاب قائلاً: نقول في هذا: إن أذان حالق اللحية صحيح؛ لأنه أداه على الوجه الذي جاء به الشرع، فإذا كان يؤدي الأذان أداءً صحيحاً سليماً فلا بأس.
وإنني بهذه المناسبة أحب أن أنبه على بعض الأخطاء في الأذان:
1 - فمن ذلك: لو قال المؤذن: " آلله أكبر " بمد الهمزة، فأذانه غير صحيح؛ لأنه إذا مد الهمزة فهو يستفهم قال الله: (قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ) (1) . فهذا الأذان لا يصح من أي إنسان.
2 - ولو قال مؤذن: " الله أكبار " لم يصح أذانه؛ لأن أكبار جمع كبر والكبرالطبل
3 - ولو قال: " أشهد أنِ لا إله إلا الله " قلنا الصواب أن تقول " أنْ لا إله إلا الله " بسكون النون مدغمة، ف (أنْ) هنا مخففة من الثقيلة، وإذا خففت وهي ساكنة ووليتها اللام فإنها تدغم في اللام فيقال أشهد ألاإله إلا الله.
4 - وإذا استمعنا إلى أذان كثير من الناس نجدهم يقولون " أشهد أن محمداً رسولَ الله " بفتح اللام.
فإذا قيل: هل هناك مخرج يمكن أن نتخرج به، حتى لا نبطل أذان كثير من المؤذنين؟
__________
(1) سورة يونس، الآية: 59.(12/166)
قلنا: نعم اللغة العربية - والحمد لله - واسعة ففيه لغة عربية صحيحة تنصب الجزئين مع " أن " و" إن " تنصب المبتدأ والخبر فتقول إن زيداً قائماً، ومنه قول الشاعر عمر بن أبي ربيعة:
إذا اسود جنح الليل فلتأت ولتكن خطاك خفافاً إن حراسنا أسدا
ولو جاء على اللغة المشهورة لقال: " أن حراسنا أسدٌ " بضم أُسد، فما دمنا وجدنا مخرجاً في اللغة العربية لتصحيح أذان المؤذنين فنصححه.
على أن المؤذن لو سألته: ماذا تعني بقول أشهد أن محمداً رسولَ الله؟ لقال أعني أن محمداً رسول الله.
5 - وإذا قال المؤذن " الله وكبر " أي يجعل الهمزة واواً فنقول هذا جائز في اللغة العربية، فإذا وقعت الهمزة بعد ضم جائز قلبها واواً وعلى هذا فالذين يقولون " الله وكبر " أذانهم صحيح، على أن الأولى أن يقولوا " الله أكبر " بتحقيق الهمزة. والمهم أن أذان حالق اللحية، وشارب الدخان وما أشبههم ممن يصرون على المعاصي أذانهم صحيح ما داموا يأتون به على الوجه السليم الذي لا يتغير به المعنى.
* * *
92) وسئل فضيلته: إذا حضرت الصلاة في حال الحرب فهل يرفع المؤذن صوته علماً بأن العدو إذا سمع الأذان اكتشف الموقع؟
فأجاب فضيلته بقوله: الأذان يكفي أن يسمعه من أُذن له، فإذا رفع صوته بقدر ما يسمعه الحاضرون فقد أجزأ.
ولا يجوز أن يرفع صوته بالأذان ليدل العدو على مكانه؛ لأن هذا(12/167)
من الإلقاء بالنفس إلى التهلكة.
* * *
93) وسئل فضيلة الشيخ: عن حكم وضع مكبر الصوت في المنارة للتأذين به؟
فأجاب جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيراً بقوله: لا نرى بأساً بوضع مكبر الصوت الذي يسمى (الميكرفون) في المنارة للتأذين به، وذلك لما يشتمل عليه من المصالح الكثيرة، وسلامته من المحذور، ويدل على ذلك أمور:
الأول: أنه مما خلق الله تعالى لنا في هذه الأرض، وقد قال الله تعالى ممتناً على عباده بإباحته لهم جميع ما في الأرض، وتسخيره لهم ما في السماوات والأرض (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) (1) . وقال: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) (2) . ولا ينبغي للعبد أن يرد نعمة الله عليه فيحرم نفسه منها بغير موجب شرعي فإن الله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (3) ويقول راداً على من يحللون ويحرمون بأهوائهم: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) (4) . ويقول ناهياً عن ذلك: (وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 29.
(2) سورة الجاثية، الآية: 13.
(3) سورة المائدة، الآية: 87.
(4) سورة الأعراف، الآية: 32.(12/168)
عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) (1) . وإذا كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال كما ثبت عنه في صحيح مسلم في شأن البصل والكراث " إنه ليس لي تحريم ما أحل الله " (2) ، فكيف يجوز لغيره أن يحرم ما أحل الله؟!
فإن قال قائل: إن الميكرفون حرام.
قلنا له: ليس لك أن تحرم شيئاً إلا بدليل، ولا دليل لك على تحريمه، بل الدليل كما أثبتنا يدل على حله لأنه مما خلق الله لنا في الأرض وقد أحله لنا كما تفيده الآية السابقة (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) (3) .
الثاني: أن من القواعد المقررة عند أهل العلم أن " الأصل في الأعيان والمنافع الحل والإباحة إلا ما قام الدليل على تحريمه "، وهذه القاعدة مستمدة من نصوص الكتاب، والسنة.
أما الكتاب: فمن قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعا) (4) .
وأما السنة فمن قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها " (5) وأخبر أن " ما سكت عنه فهو عفو " (6) .
__________
(1) سورة النحل، الآية: 116.
(2) أخرجه مسلم: كتاب المساجد / باب نهي من أكل ثوماً أو بصلاً ".
(3) سورة البقرة، الآية: 29.
(4) سورة البقرة، الآية: 29.
(5) أخرجه البيهقي في " السنن " 10/30، وقال النووي في " الأربعين ": " حديث حسن ".
(6) أخرجه الحاكم في " المستدرك " 2/407، وصححه ووافقه الذهبي، والهيثمي في " المجمع " 7/55 وقال: رجاله ثقات.(12/169)
والميكرفون مما خلق الله تعالى في الأرض، وسكت عنه فيكون عفواً مباحاً.
الثالث: أن قاعدة الشرع الأساسية جلب المصالح ودفع المفاسد والميكرفون يشتمل على مصالح كالمبالغة برفع الصوت بتكبير الله تعالى وتوحيده، والشهادة لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالرسالة، والدعوة إلى الله خصوصاً، وإلى الفلاح عموماً، ومن مصالحه تنبيه الغافلين، وإيقاظ النائمين، ومع هذه المصالح ليس فيه مفسدة تقابل أو تقارب هذه المصالح بل ليس فيه مفسدة مطلقاً فيما نعلم.
الرابع: أن من القواعد المقررة في الشريعة الإسلامية أن الوسائل لها أحكام المقاصد، والميكرفون وسيلة ظاهرة إلى إسماع الناس الأذان والدعوة إلى الصلاة، وإبلاغهم ما يلقى فيه من خطب ومواعظ، وإسماع الناس الأذان، والدعوة إلى الصلاة، وإبلاغهم المواعظ والخطب من الأمور المأمور بها بإجماع أهل العلم، فما كان وسيلة إلى تعميمها وإيصالها إلى الناس كان مأموراً بها أيضاً.
الخامس: أن أهل العلم قالوا: ينبغي أن يكون المؤذن صيتاً أي: رفيع الصوت ليكون أشمل لإبلاغ الأذان، وقد روي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لعبد الله بن زيد بن عبد ربه الذي رأي في المنام من يعلمه الأذان: " أذهب فألقه على بلال فإنه أندى منك صوتاً " (1) . فدل هذا على طلب علو الصوت في الأذان، والميكرفون من وسائله بلا شك فيكون مطلوباً.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد 4/43، وأبو داود: كتاب الصلاة / باب كيف الأذان (499) ، والترمذي: أبواب الصلاة / باب ما جاء في بدء الأذان (189) ، وابن ماجه: كتاب الأذان / / باب بدء الأذان (706) ، وقال الترمذي: حديث صحيح(12/170)
السادس: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يتحرى من كان عالي الصوت في إبلاغ الناس كما أمر أبي طلحة أن ينادي عام خيبر: " إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية فإنها رجس " (1) ، وكما أمر العباس أن ينادي في الناس بأعلى صوته حين انصرفوا في حنين يقول مستحثاً لهم على الرجوع: " يا أصحاب السمرة، يا أصحاب صورة البقرة، أو يا أهل " (2) . وهذا يدل على التماس ما هو أبلغ في إيصال الأحكام الشرعية والدعوة إلى الله تعالى. ولقد كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطب الناس على راحلته ليكون أبلغ في إيصال صوته.
السابع: أن الميكرفون آلة لتكبير الصوت وتقويته فكيف نقول إنه محرم ولا نقول إن نظارة العين التي تقوي النظر وتكبر الحرف إنها محرمة؟! هذه تكبر الحرف وتقوي نظر العين، وذاك يقوي الصوت ويضخم الكلمات ولا فرق بين الأمرين.
وأما توهم بعض الناس أن الميكرفون لم يكن معروفاً في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فنقول: ما أكثر الأشياء التي وجدت بعد عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأجمع المسلمون على جوازها، فإن تدوين السنة وتصنيفها في الكتب لم يكن معروفاً في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يعارض في جواز ذلك إلا نفر قليل من الصدر الأول خوفاً من اختلاطها بالقرآن، ثم انعقد الإجماع على الجواز بعد ذلك، وبناء المدارس لم يكن معروفاً على عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد أجمع المسلمون على جوازه، وتصنيف الكتب في علم التوحيد
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب الذبائح والصيد / باب لحوم الحمر الإنسية، ومسلم: كتاب الصيد والذبائح / باب تحريم أكل لحوم الحمر الإنسية.
(2) أخرجه مسلم: كتاب الجهاد / باب في غزوة حنين.(12/171)
والفقه وغيرها لم يكن معروفاً في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد أجمع المسلمون على جوازه، والمطابع التى تطبع الكتب لم تكن معروفة في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد أجمع المسلمون من بعد حدوثها على جواز طباعة كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكلام أهل العلم في التفسير وشرح السنة، وعلم التوحيد، والفقه وغيرها بهذه المطابع، ولم يقل أحد إنا لا نطبع بها لأنها لم تكن موجودة في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الثامن: أن الميكروفون يستعمل في أفضل المساجد المسجد الحرام ومسجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما علمنا أن أحداً ممن يقتدي به من أهل العلم عارض ذلك أو أنكر على ولاة الأمور، وهذا أمر واضح ولله الحمد، ولا حرج عليكم في استعمال الميكروفون في المنارة للتأذين به، وإذا كان أحد من الإخوان يكرهه فلا ينبغي أن يحرمه على غيره كما قال البراء بن عازب رضي الله عنه لمن قال إنه يكره أن يكون في أذن الأضحية أو قرنها نقص فقال له البراء: ما كرهت فدعه ولا تحرمه على غيرك. والله الموفق. في 13/6/1399 هـ.
* * *(12/172)
فائدة (1)
صفات الأذان والإقامة عند العلماء:
قال الإمام أحمد: الأذان خمس عشرة جملة، أربع تكبيرات في أوله، وشهادة الوحدانية لله تعالى، والرسالة لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مثنى مثنى، بدون ترجيع وحيعلة الصلاة مرتين، وحيعلة الفلاح مرتين، وتكبيرتان ولا إله إلا الله.
ومذهب الشافعي كمذهب أحمد، لكن يرجع الشهادتين في الأذان خاصة بأن يأتي بهما خافضاً صوته جميعاً ثم يعيدهما رافعاً صوته، وليس كما نقل عنه يخفض شهادة التوحيد أولاً ثم يأتي بها رافعاً صوته ثم يأتي بشهادة الرسالة كذلك.
وعلى هذا يكون الأذان تسع عشرة جملة.
ومذهب مالك كمذهب الشافعي في الأذان إلا أن التكبير في أوله مرتان فقط، فيكون الأذان سبع عشرة جملة.
أما الإقامة فهي وتر في جميع جملها ما عدا التكبير فمثنى فتكون عشر جمل، الله أكبر مرتين، الشهادتان والحيعلتان وقد قامت الصلاة مرة مرة الله أكبر مرتين لا إله إلا الله.
ومذهب أبي حنيفة كمذهب أحمد في الأذان فيكون خمس عشرة جملة غير مرجع.
وأما الإقامة فهي كالأذان عنده بزيادة قد قامت الصلاة مرتين فتكون سبع عشرة جملة. وذكر في شرح المهذب ص100 ج 3 أقوالاً للشافعية في الإقامة:
__________
(1) انظر المنتقى من فرائد الفوائد لفضيلة الشيخ ص221.(12/173)
منها: أن يكون تسع جمل بإفراد كل جملها ما عدا التكبير في أولها فمرتين.
ومنها: أن تكون ثماني جمل بإفراد جميع جملها.
قلت: وحديث أنس " أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة " (1) . يدل على أن الأذان مثنى مثنى في تكبيره، وتشهده وحيعلته ما عدا التوحيد في آخره فهو مرة ليقطع على وتر، وأن الإقامة مرة مرة ما عدا قد قامت الصلاة.
ويؤيده ما ذكره في شرح المهذب ص102 ج3 عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: " إنما كان الأذان على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرتين مرتين، والإقامة مرة مرة، غير أنه يقول قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة " (2) . رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح فإن كان أحد من أهل العلم قال بذلك فهو أقرب الأقوال إلى الصواب وإلا فلا يمكن الخروج عما أجمعت عليه الأمة. والله أعلم.
* * *
94) وسئل فضيلته: عن حكم من قدم (حي على الفلاح) على (حي على الصلاة) في الأذان مع الدليل؟
فأجاب قائلاً: يجب عليه إذا قدم (حي على الفلاح) على (حي على الصلاة) أن يعيد (حي على الفلاح) بعد (حي على الصلاة) لأنه
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب الأذان / باب الأذان مثنى مثنى ن ومسلم: كتاب الصلاة / باب الأمر بشفع الأذان وإيتار الإقامة.
(2) أخرجه الإمام أحمد 2/85 و87، وأبو داود: كتاب الصلاة / باب في الإقامة (510) ، والنسائي: كتاب الأذان / باب تثنية الأذان (627) .(12/174)
يشترط في الأذان الترتيب، فإن الأذان ورد على هذه الصفة مرتباً فإذا نكسه الإنسان فقد عمل عملاً ليس عليه أمر الله ورسوله، وقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " (1) .
* * *
95) وسئل فضيلته: هل يلتفت المؤذن يميناً ل (حي على الصلاة) في المرة الأولى، وشمالاً للمرة الثانية، ويميناً ل (حي على الفلاح) في المرة الأولى وشمالاً للمرة الثانية، أو يلتفت يميناً لحي على الصلاة، وشمالاً ل (حي على الفلاح) ؟
فأجاب بقوله: قيل: إنه يلتفت يميناً ل (حي على الصلاة) في المرتين جميعاً، وشمالاً ل (حي على الفلاح) للمرتين جميعاً.
وقال بعضهم: يلتفت يميناً ل (حي على الصلاة) في المرة الأولى، وشمالاً للمرة الثانية، و (حي على الفلاح) يميناً للمرة الأولى وشمالاً للمرة الثانية ليعطي كل جهة حظها من (حي على الصلاة) و (حي على الفلاح) ، ولكن المشهور وهو ظاهر السنة أنه يلتفت يميناً ل (حي على الصلاة) في المرتين جميعاً وشمالاً ل (حي على الفلاح) في المرتين جميعاً، ولكن يلتفت في كل الجملة وما يفعل بعض المؤذنين أنه يقول: حي على ثم يلتفت لا أصل له.
* * *
96) سئل فضيلته: إذا كان المؤذن يؤذن عبر مكبر صوت فهل يلتفت عند حي على الصلاة، حي على الفلاح؟
__________
(1) تقدم تخريجه ص21.(12/175)
فأجاب بقوله: إذا كان المؤذن يؤذن عبر مكبر الصوت فإنه لا يلتفت لحي على الصلاة، وحي على الفلاح، لأنه يضعف الصوت.
* * *
97) وسئل فضيلة الشيخ: إذا نسي المؤذن قول " الصلاة خير من النوم " فما الحكم؟
فأجاب قائلاً: إذا نسي المؤذن قول " الصلاة خير من النوم " فإن المعروف عند أهل العلم أن أذانه صحيح لأن قول " الصلاة خير من النوم " في أذان الفجر سنة وليس بواجب بدليل أن عبد الله بن زيد رضي الله عنه لما رأى الأذان في المنام لم تكن فيه هذه الجملة " الصلاة خير من النوم " فيكون قولها ليس بشرط إن قالها الإنسان في أذان الفجر الذي يكون بعد طلوع الفجر فهو أفضل، وإن لم يقلها فلا حرج.
* * *
98) وسئل فضيلته: كلمة (الصلاة خير من النوم) هل هي في الأذان الأول أو في الأذان الثاني؟
فأجاب بقوله: كلمة (الصلاة خير من النوم) في الأذان الأول كما جاء في الحديث: " فإذا أذنت أذان الصبح الأول فقل: (الصلاة خير من النوم) " (1) . فهي في الأذان الأول، لا الثاني.
ولكن يجب أن يُعلم ما هو الأذان الأول في هذا الحديث؟
هو الأذان الذي يكون بعد دخول الوقت، والأذان الثاني هو الإقامة؛ لأن الإقامة تسمى (أذاناً) قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بين كل أذانين صلاة " (2) .
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد 3/408.
(2) أخرجه البخاري: كتاب الأذان / باب بين كل أذانين صلاة لمن شاء، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين / باب بين كل أذانين صلاة.(12/176)
والمراد: الأذان والإقامة.
وفي صحيح البخاري أن أمير المؤمنين عثمان بن عفان زاد الأذان الثالث في الجمعة.
إذن الأذان الأول الذي أمر فيه بلال أن يقول: (الصلاة خير من النوم) هو الأذان لصلاة الفجر.
أما الأذان الذي قبل طلوع الفجر، فليس أذاناً للفجر، فالناس يسمون أذان آخر الليل الأذان الأول لصلاة الفجر، والحقيقة أنه ليس لصلاة الفجر، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن بلالاً يؤذن بليل ليوقظ نائمكم ويرجع قائمكم " (1) . أي لأجل النائم يقوم ويتسحر، والقائم يرجع ويتسحر.
وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أيضاً لمالك بن الحويرث: " إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم " (2) . ومعلوم أن الصلاة لا تحضر إلا بعد طلوع الفجر. إذن الأذان الذي قبل طلوع الفجر ليس أذاناً للفجر.
وعليه فعمل الناس اليوم وقولهم (الصلاة خير من النوم) في الأذان الذي للفجر هذا هو الصواب.
وأما من توهم بأن المراد بالأذان الأول في الحديث هو الأذان الذي قبل طلوع الفجر، فليس له حظ من النظر.
قال بعض الناس: الدليل أن المراد به الأذان الذي يكون في آخر الليل لأجل صلاة النافلة أنه يقال: (الصلاة خير من النوم) وكلمة (خير)
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب الأذان / باب الأذان قبل الفجر، ومسلم: كتاب الصيام / باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل....
(2) تقدم تخريجه ص160.(12/177)
تدل على الأفضل.
فنقول: إن كلمة (خير) تكون في الشيء الواجب الذي هو من أوجب الواجبات، مثل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ *تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (1) . مع أنه إيمان. وقال تعالى في صلاة الجمعة:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) (2) .
فالخيرية تكون في الواجب وتكون في المستحب.
* * *
99) سئل فضيلته: هل يكتفى بالأذان الأول لصلاة الفجر؟
فأجاب بقوله: لا يكتفى بالأذان الأول لصلاة الفجر؛ لأن أذان الصلاة لا يكون إلا بعد دخول وقتها؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم " (3) . والصلاة لا تحضر قبل دخول وقتها.
* * *
100) وسئل فضيلة الشيخ: عن قول المؤذن في أذان الفجر: " الصلاة خير من النوم " هل هو مشروع؟
فأجاب قائلاً: قول المؤذن " الصلاة خير من النوم " في أذان الفجر يقال له (التثويب) وقد اختلف أهل العلم في مشروعيته:
فمنهم من قال: إنه مشروع. ومنهم من قال إنه بدعة.
__________
(1) سورة الصف، الآيتان: 10،11.
(2) سورة الجمعة، الآية: 9.
(3) تقدم تخريجه ص160.(12/178)
والصواب: أنه مشروع في الأذان لصلاة الفجر لكثرة الأحاديث الواردة فيه وهي وإن كانت لا تخلو من مقال فمجموعها يلحق الحديث بالحجة والاستدلال، وقد ورد التثويب في أذان بلال، وأذان أبي محذورة:فأما حديث بلال فرواه الإمام أحمد من حديث سعيد بن المسيب عن عبد الله بن زيد بن عبد ربه وفيه أن بلالاً دعا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات غداة إلى الفجر فقيل: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نائم قال: فصرخ بلال بأعلى صوته:" الصلاة خير من النوم " قال سعيد بن المسيب: فأدخلت هذه الكلمة في التأذين إلى صلاة الفجر " (1) ، وأما حديث أبي محذورة فرواه أبو داود عنه أنه قال: يا رسول الله! علمني الأذان فذكر الحديث، وفيه بعد ذكر حي على الفلاح " فإن كان صلاة الصبح قلت: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم " (2) ، وفي رواية في هذا الحديث: "الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم في الأولى من الصبح " وفي أخرى: "فإذا أذنت بالأول من الصبح فقل: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم " (3) ، وعن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: " من السنة إذا قال المؤذن في الفجر حي على الفلاح قال الصلاة خير من النوم ".
فهذه الأحاديث تبين أن التثويب مشروع في الأذان لصلاة الفجر والأذان لصلاة لا يكون إلا بعد دخول وقتها وحضورها لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمالك بن الحويرث: " إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد 4/24.
(2) أخرجه الإمام أحمد 3/408، وأبو داود: كتاب الصلاة /باب كيف الأذان (501) ، والنسائي: كتاب الأذان / باب الأذان في السفر (632) .
(3) تقدم تخريجه ص176.(12/179)
أحدكم " (1) . وعلى هذا فالأذان لصلاة الصبح لا يكون إلا بعد دخول وقتها، أما الأذان قبل الفجر الذي حصل من بلال – رضي الله عنه – أيام الصيام فليس أذاناً لصلاة الفجر بل هو كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا يمنعن أحدكم أو أحد منكم أذان بلال من سحوره فإنه يؤذن، أو ينادي بليل ليرجع قائمكم، ولينبه نائمكم ". رواه البخاري من حديث عبد الله بن مسعود (2) – رضي الله عنه – فبين صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنصه الصريح أن الأذان قبل الفجر ليس لصلاة الفجر وإنما هو لإرجاع القائم وتنبيه النائم، فلا ينبغي أن ينسب لصلاة الفجر، وعلى هذا فالتثويب في أذان صلاة الفجر إنما يكون في الأذان الذي بعد دخول الوقت؛ لأنه هو أذان صلاة الفجر، أما ما كان قبل وقتها فليس أذاناً لها وإن سماه بعض الناس الأذان الأول للفجر، وأما تقييد الأذان بالأول أو بالأولي في بعض روايات حديث أبي محذورة – رضي الله عنه – فلا يتعين أن المراد به ما قبل الفجر؛ لأنه يحتمل أنه وصف بكونه أولاً بالنسبة إلى الإقامة فإن الإقامة يطلق عليها اسم الأذان إطلاقاً تغليبياً كما في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بين كل أذانين صلاة " (3) . أي بين كل أذان وإقامة. أو إطلاقاً مجازياً أو حقيقياً باعتبار معنى الأذان العام لغة كما في صحيح البخاري عن السائب بن يزيد – رضي الله عنه – قال: " إن الذي زاد التأذين الثالث يوم الجمعة عثمان بن عفان – رضي الله عنه – حين كثر أهل المدينة ". الحديث.
وليس في الجمعة سوى أذانين وإقامة، فسمى الإقامة أذاناً إما تسمية مجازية أو حقيقية باعتبار معنى الأذان العام لغة، فإن الأذان في اللغة الإعلام، والإقامة إعلام
__________
(1) تقدم تخريجه ص160.
(2) تقدم تخريجه ص177.
(3) تقدم تخريجه ص176.(12/180)
بالقيام إلى الصلاة.
ويؤيد هذا الاحتمال أنه لم ينقل أن أبا محذورة كان يؤذن للفجر مرتين مرة قبله ومرة بعده. ثم رأيت في صحيح البخاري في (باب من انتظر الإقامة) حديث عائشة – رضي الله عنها – رقم 626 / 109 فتح أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا سكت المؤذن بالأولى من صلاة الفجر قام فركع ركعتين خفيفتين قبل صلاة الفجر بعد أن يستبين الفجر. ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للإقامة (1) وهذا يؤيد ما ذكرته من الاحتمال. وفي صحيح مسلم في (باب صلاة الفجر) عنها – رضي الله عنها – قالت: كان ينام أول الليل ويحيي آخره. وفيه: فإذا كان عند النداء الأول قالت: وثب فأفاض عليه الماء، وإن لم يكن جنباً توضأ وضوء الرجل للصلاة ثم صلى الركعتين (2) ، صحيح مسلم 1/ 510، والمراد بالنداء الأول أذان الفجر كما دلت عليه روايات أخرى لمسلم 1/508 –509.
وبسلوك هذا الاحتمال تجتمع الأدلة ويحصل الائتلاف بينها حيث يكون حديث أبي محذورة موافقاً لحديث مالك بن الحويرث الدال على أنه لا يؤذن للصلاة إلا عند حضورها بدخول وقتها، ولحديث ابن مسعود الدال على الأذان قبل الفجر ليس أذاناً لصلاة الفجر، ولظاهر حديث عبد الله بن زيد بن عبدربه في أذان بلال ودعائه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لصلاة الغداة حيث لا يكون دعاؤه لها إلا بعد دخول وقتها، وعلى هذا فتكون السنة دالة على أن التثويب في أذان الفجر، وأذان
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب الأذان / باب من انتظر الإقامة.
(2) أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين / باب صلاة الليل ...(12/181)
الفجر لا يكون إلا بعد دخول وقت صلاة الفجر، فالأذان قبل الفجر لا تثويب فيه وهو عمل الناس عندنا من قديم، وأما كلام فقهائنا رحمهم الله فظاهره أن التثويب في أذان الفجر سواء أذن بعذ الفجر أم قبله ولكن ما دلت عليه السنة أولى.
وأما استنباط بعض الناس كون التثويب في الأذان الذي قبل الفجر بقول المثوب " الصلاة خير من النوم " والخيرية ترغيب في الشيء ولا تقتضي الإلزام به، وهذا إنما يكون في النداء الذي قبل الفجر؛ لأن النداء بعد الفجر ملزم بصلاة الفجر. فليس هذا الاستنباط بشيء، وذلك لأن الخير في الواجب الملزم به أبلغ منه في المندوب إليه من غير إلزام؛ لأن الله تعالى يقول في الحديث القدسي: " ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه " (1) . وخيرية الشيء وردت في القرآن في الأمور الواجبة والمندوب إليها من غير إيجاب فقال تعالى في سورة الصف: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (2) . فقد وردت الخيرية في أوجب الأمور وهي العقيدة وحمايتها، وقال تعالى في سورة الجمعة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (3) . والسعي إلى الجمعة وترك البيع بعد ندائها واجب، وقال تعالى: (إِنْ تُبْدُوا
__________
(1) اخرجه البخاري: كتاب الرقاق / باب التواضع.
(2) سورة الصف، الآيتان: 10، 11.
(3) سورة الجمعة، الآية: 9.(12/182)
الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) (1) .
والخيرية هنا واردة فيما هو مندوب وليس بواجب.
وبهذا تبين أن الاستنباط المذكور ليس بشيء والله أعلم.
* * *
101) وسئل فضيلته: عن الأحاديث الواردة في التثويب في أذان الفجر؟
فأجاب بقوله: الأحاديث الواردة في التثويب في أذان الفجر ليس فيها حديث صحيح لذاته، لكن فيها أحاديث كثيرة لا تخلو من مقال، إلا أنها بمجموعها ترتقي إلى درجة الصحة لكثرتها وشهرتها وعمل المسلمين بها، وقد وردت في أذان بلال، وأذان أبي محذورة، فأما حديث بلال فظاهره أنه يقال في الأذان الثاني فإن فيه أن بلالاً دعا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات غداة لصلاة الفجر فقيل إنه نائم فنادى بأعلى صوته: الصلاة خير من النوم، قال سعيد بن المسيب فأدخلت هذه في التأذين إلى صلاة الفجر (2) ، وأما حديث أبي محذورة فظاهره أنه يقال في الأذان الأول فإن فيه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: " فإذا أذنت بالأول من الصبح فقل الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم " (3) ، وفي رواية: " في الأولى من الصبح "، وفي رواية: " فإن كانت صلاة الصبح قلت الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم " (4) ، ولم تقيد بالأذان الأول. وعن
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 271..
(2) تقدم تخريجه ص179.
(3) تقدم تخريجه ص176.
(4) تقدم تخريجه ص176.(12/183)
أنس بن مالك رضي الله عنه قال: " من السنة إذا قال المؤذن في الفجر: حي على الفلاح قال: الصلاة خير من النوم ". ولم يقيده بالأذان الأول.
وتقييد الأذان بالأول في حديث أبي محذورة لا يتعين أن يكون المراد به الأذان الذي يكون في آخر الليل قبل الفجر، بل يحتمل أن يكون المراد بالأذان الذي بعد الفجر وسمي أولاً بالنسبة للإقامة حيث يصح إطلاق اسم الأذان عليها كما في الحديث الصحيح أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بين كل أذانين صلاة " (1) . والمراد بالأذانين الأذان والإقامة، وسميت الإقامة أذاناً لأن الأذان في اللغة الإعلام وهي إعلام بالقيام إلى الصلاة فصح إطلاق الأذان عليها لغة. وفي صحيح البخاري عن السائب بن يزيد رضي الله عنه قال: " إن الذي زاد التأذين الثالث يوم الجمعة عثمان بن عفان رضي الله عنه حين كثر أهل المدينة ". الحديث. وليس في يوم الجمعة سوى أذانين وإقامة فسماها أذاناً، ويؤيد هذا الاحتمال أنه لم ينقل أن أبا محذورة كان يؤذن للفجر مرة قبل طلوعه ومرة بعده، ويؤيده أيضاً أن الأذان قبل الفجر ليس لصلاة الفجر بل قد بين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الغرض منه حيث قال فيما ثبت عنه في صحيح البخاري من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: " لا يمنعن أحدكم أو أحداً منكم أذان بلال من سحوره فإنه يؤذن أو ينادي بليل ليرجع قائمكم، ولينبه نائمكم " (2) فبين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبب هذا الأذان وأنه ليس لصلاة الصبح. والأذان للصلاة لا يكون إلا بعد دخول وقتها لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمالك بن الحويرث والوفد الذين معه: " إذا حضرت الصلاة فليؤذن
__________
(1) تقدم تخريجه ص176.
(2) تقدم تخريجه ص 177.(12/184)
لكم أحدكم " (1) ، وحضور الصلاة إنما يكون بعد دخول وقتها، فإذا أضيف الأذان إلى الصبح أو صلاة الصبح تعين أن يحمل على الأذان الذي يكون لها عند دخول وقتها.
ويدل على تعيينه أيضاً ما رواه مسلم في صحيحه في (باب صلاة الليل) عن عائشة رضي الله عنها قالت:" كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينام أول الليل، ويحي آخره، ثم إن كانت له حاجة إلى أهله قضى حاجته ثم ينام، فإذا كان عند النداء الأول وثب فأفاض عليه الماء، وإن لم يكن جنباً توضأ وضوء الرجل للصلاة ثم صلى الركعتين " (2) . يعني سنة الفجر.
فإن قيل: إن قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم" (3) يدل على أنه لا تثويب في الأذان بعد الفجر إذ لو كان كذلك لم يحصل اشتباه بين الأذانين حتى يحتاج الناس للتنبيه عليه.
فالجواب: أن التثويب لا يكون من أول الأذان حتى يزول الاشتباه به، والإمساك معلق بسماع أول الأذان فكان لابد من التنبيه لئلا يمسكوا من حين أن يسمعوا أول الأذان.
هذا ما تبين لي من السنة أن التثويب إنما يكون في أذان صلاة الفجر وهو ما كان بعد دخول الوقت، أما كلام فقهائنا فظاهره أن التثويب يكون في أذان صلاة الفجر سواء كان قبل الوقت أم بعده ولكن اتباع السنة أولى، والله الموفق.
__________
(1) تقدم تخريجه ص160.
(2) تقدم تخريجه ص181.
(3) أخرجه البخاري: كتاب الأذان / باب الأذان قبل الفجر، ومسلم: كتاب الصيام / باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر(12/185)
102) وسئل فضيلته: متى يقول المؤذن " الصلاة خير من النوم " في الأذان الأول أو الثاني؟
فأجاب قائلاً: قول المؤذن " الصلاة خير من النوم " يكون في الأذان لصلاة الصبح، وهو الأذان الذي يكون بعد طلوع الفجر الذي تحل به صلاة الفجر ويحرم به الأكل على الصائم، ولا يكون في الأذان الذي قبل الفجر، لأن الأذان الذي قبل الفجر ليس أذاناً لصلاة الفجر لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن بلالاً يؤذن بليل ليوقظ نائمكم، ويرجع قائمكم " (1) وأذان الفجر لا يكون إلا بعد طلوع الفجر لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمالك بن الحويرث: " إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم " (2) ، وحضور الصلاة لا يكون إلا بعد دخول وقتها.
وقد توهم بعض الناس فظن أنها تقال في الأذان الذي قبل الفجر لقوله في الحديث:إذا أذنت الأول لصلاة الصبح " (3) فظن أن الأول الذي يكون قبل الفجر، ولكن ليس الأمر كما ظن، لأن ما قبل الفجر ليس أذاناً لصلاة الصبح كما علمت مما سبق وإنما المراد به ما بعد الفجر لكن سماه أذاناً أول باعتبارالإقامة فإن الإقامة تسمى أذاناً لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بين كل أذانين صلاة " (4) أي بين كل أذان وإقامة صلاة، ولأنها إعلام بالقيام إلى الصلاة، والإٌعلام بالشيء يسمى أذاناً لقوله تعالى: (وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
__________
(1) تقدم تخريجه ص177.
(2) تقدم تخريجه ص160.
(3) تقدم تخريجه ص176.
(4) تقدم تخريجه ص176.(12/186)
وَرَسُولُهُ) (1) ، أي إعلام من الله ورسوله. وقوله: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ) (2) ، وعلى هذا يكون الأذان لصلاة الصبح بعد طلوع الفجر أذاناً أول باعتبار الإقامة التي هي الأذان الثاني. وفي صحيح مسلم ص510 ج1 تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي عن عائشة رضي الله عنها في صلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الليل قالت: " كان ينام أول الليل ويحيي آخره ثم إن كانت له حاجة إلى أهله قضى حاجته ثم ينام، فإذا كان عند النداء الأول قالت وثب (ولا والله ما قالت قام) فأفاض عليه الماء، وإن لم يكن جنباً توضأ وضوء الرجل للصلاة ثم صلى الركعتين " (3) . فأنت ترى أنها أطلقت النداء الأول على أذان الصبح الذي بعد طلوع الفجر لقولها " ثم صلى الركعتين " وهما سنة الفجر ولا تكون صلاتهما إلا بعد طلوعه.
هذا وقد تعلل بعض القائلين بأن قول الصلاة خير من النوم في الأذان الذي في آخر الليل بأن قوله خير من النوم يدل على أن الصلاة نافلة وهذا قبل الفجر، لكن هذه علة عليلة، فإن الخيرية تكون في النوافل والواجبات كما في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِه) إلى قوله: (ْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُم) (4) وفق الله الجميع لما فيه الخير والصلاح.
* * *
__________
(1) سورة التوبة، الآية: 3.
(2) سورة الحج، الآية: 27.
(3) تقدم تخريجه ص181.
(4) سورة الصف، الآيتان: 10، 11(12/187)
103) وسئل فضيلة الشيخ: بعض الناس عندما يريد الإقامة للصلاة يقول قد أقامت الصلاة فهل يصح ذلك؟
فأجاب بقوله: لا يصح أن يقول: أقامت بدل قامت؛ لأن المعنى يتغير فإن أقام فعل رباعي مُعَدَ للغير، وأما قام فهو فعل ثلاثي لازم، فكما أنه لا يصح أن يقول القائل: أقام زيد بمعنى قام زيد فلا يصح أن يقول أقامت الصلاة بمعنى قامت الصلاة.
* * *
104) وسئل فضيلته: إذا نسي المؤذن قول (الصلاة خير من النوم) فماذا يلزمه؟
فأجاب قائلاً: إذا نسي المؤذن قوله (الصلاة خير من النوم) فإن المعروف عند أهل العلم أن أذانه صحيح؛ لأن قول (الصلاة خير من النوم) في أذان الفجر سنة وليست واجباً، فإن قالها الإنسان في صلاة الفجر الذي يكون بعد طلوع الفجر فهو أفضل، وإن لم يقلها فلا حرج.
* * *
105) وسئل فضيلة الشيخ: هل يصح الأذان بالمسجل؟
فأجاب فضيلته بقوله: الأذان بالمسجل غير صحيح؛ لأن الأذان عبادة، والعبادة لابد لها من نية.
* * *
106) وسئل فضيلة الشيخ: عن الأذان إذا كان مُلَحناً أو مَلْحُوناً؟
فأجاب بقوله: الأذان الملحن أي المطرب به يجزيء لكنه مكروه.(12/188)
وأما الملحون فإن كان اللحن يتغير به المعنى فإن الأذان لا يصح كما لو قال المؤذن " الله أكبار " فهذا لا يصح، لأنه يحيل المعنى فإن أكبار جمع كبر وهو الطبل.
وأما إذا كان اللحن لا يتغير به المعنى فإن الأذان يصح مع الكراهة.
* * *
107) وسئل فضيلة الشيخ: هل يجزيء الأذان قبل الوقت؟
فأجاب بقوله: الأذان قبل الوقت لا يجزيء لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم " (1) والصلاة لا تحضر إلا بدخول الوقت والحديث عام لا يستثنى منه شيء ولا يعارض حديث " إن بلالاً يؤذن بليل " (2) لأننا نقول إن أذان بلال ليس لصلاة الفجر لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ليرجع قائمكم، ويوقظ نائمكم ".
* * *
108) سئل فضيلة الشيخ: ما رأي فضيلتكم في كلمة " رفع الأذان " أو " يرفع الأذان فلان "؟
فأجاب قائلاً: الأولى أن يعبر بالأذان دون رفع الأذان؛ لأن التعبير بالأذان هو التعبير الشرعي، ولأنه أوضح للناس.
* * *
109) وسئل فضيلته: عن حكم تأخير الأذان عن أول الوقت؟
__________
(1) تقدم تخريجه ص160
(2) تقدم تخريجه ص177.(12/189)
فأجاب بقوله: إذا كان الإنسان في بلد فلا ينبغي أن يتأخر عن أول الوقت؛ لأن ذلك يؤدي إلى الفوضى واختلاف المؤذنين والاشتباه على الناس أيهما أصوب هذا المتقدم أو المتأخر.
أما إذا كان في غير البلد فالأمر إليهم، لكن الأفضل أن يؤذنوا في أول الوقت ويصلوا؛ لأن تقديم الصلاة في أول وقتها أفضل، إلا ما شرع تأخيره، فما شرع تأخيره فإنه يؤخر فيه الأذان ولهذا ثبت في صحيح البخاري أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان في سفر فقام المؤذن ليؤذن فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أبرد " ثم أراد أن يقوم فقال: " أبرد " ثم أراد أن يقوم فقال: " أبرد " (1) حتى ساوى التل ظله ثم أذن، وهذا يدل على أن الأذان مشروع حيث تشرع الصلاة، فإذا كانت الصلاة مما ينبغي تأخيره كصلاة الظهر في شدة الحر، وصلاة العشاء فإنه يؤخر هذا في غير المدن والقرى التي فيها مؤذنون وإلا فلا ينبغي للإنسان أن يتخلف عن الوقت الذي يؤذن فيه الناس.
* * *
110) سئل فضيلة الشيخ: هل كان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحدد وقتاً بين الأذان والإقامة؟
فأجاب قائلاً: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي الصلاة في أول الوقت إلا العشاء الآخرة فإنه كان ينظر إلى اجتماع الناس إذا رآهم اجتمعوا عجل، وإذا رآهم أبطؤوا أخر (2) ، وكان يبقى في البيت حتى يأتيه المؤذن فيعلمه
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب المواقيت / باب الإبراد بالظهر في السفر، ومسلم: كتاب المساجد / باب استحباب الإبراد بالظهر في شدة الحر
(2) أخرجه البخاري: كتاب المواقيت / باب وقت المغرب، ومسلم: كتاب المساجد / باب استحباب التبكير بالصبح.(12/190)
بحضور الصلاة وربما خرج إليها بدون إعلام.
فالسنة تعجيل جميع الصلوات إلا العشاء وإلا الظهر عند اشتداد الحر، ولكن الصلوات التي لها نوافل راتبة كالفجر والظهر ينبغي للإنسان أن يراعي حال الناس بحيث يتمكنون من الوضوء بعد الأذان ومن صلاة هذه الراتبة.
* * *
111) وسئل فضيلته: عن إمام مسجد يتأخر عن الجماعة في صلاتي الفجر والظهر، ويؤخر أحياناً الصلاة حوالي ساعة، بم تنصحونه؟
فأجاب بقوله: يجب على الإمام ألا يتأخر عن الصلاة لا في صلاة الظهر ولا الفجر، ولا في غيرهما من الأوقات؛ لأنه ملزم بذلك، وأما تأخره في الإقامة فإنه لا ينبغي إلا في صلاة العشاء، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا رآهم اجتمعوا عجل، وإذا رآهم أبطؤوا تأخر (1) ، وأما في بقية الصلوات فالتقديم أفضل لكن يراعي في الصلوات التي يكون لها راتبة قبلها، فيمهل الناس حتى يتمكنوا من أداء الراتبة والوضوء والله الموفق.
* * *
112) وسئل فضيلته: مؤذن يقول: عند صلاة الصبح كلما أريد أن أقيم الصلاة لضيق الوقت يطلب مني المصلون أن أجلس حتى يأذن لي الإمام ويقولون أنه لا يجوز أن أقيم الصلاة حتى
__________
(1) تقدم تخريجه ص190.(12/191)
يأذن لي الإمام فهل هذا صحيح؟
فأجاب قائلاً: المؤذن أملك بالأذان فإليه يرجع الأذان، وأما الإقامة فإن الإمام أملك بها فلا يقيم المؤذن إلا بحضور الإمام وإذنه.
وأما قوله: لضيق الوقت فنعم إذا تأخر الإمام حتى كادت الشمس تطلع وضاق الوقت فحينئذ يصلون ولا ينتظرونه، أما ما دام الوقت باقياً فإنهم لا يصلون حتى يحضر الإمام، لكن ينبغي للإمام أن يحدد وقتاً معيناً للناس فيقول مثلاً: إذا تأخرت عن هذا الوقت فصلوا ليكون في هذا الحال أيسر لهم وأصلح له هو أيضاً ولا يقع الناس في حرج أو ضيق.
* * *
113) وسئل فضيلة الشيخ: إذا جمع الإنسان الصلاة فهل يؤذن ويقيم لكل صلاة؟
فأجاب بقوله: إذا جمع الإنسان أذن للأولى وأقام لكل فريضة إلا إذا كان في البلد فإن أذان البلد يكفي وحينئذ يقيم لكل فريضة؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم عرفة أذن ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، وكذلك في مزدلفة حيث أذن وأقام فصلى المغرب ثم أقام فصلى العشاء (1) .
* * *
114) وسئل فضيلته: إذا دخل الإنسان المسجد والمؤذن يؤذن فما الأفضل له؟
__________
(1) تقدم تخريجه ص161.(12/192)
فأجاب قائلاً: الأفضل أن يجيب المؤذن ثم يدعو بعد ذلك بما ورد، ثم يدخل في تحية المسجد، إلا أن بعض العلماء استثنوا من ذلك من دخل المسجد والمؤذن يؤذن يوم الجمعة الأذان الثاني فإنه يصلي تحية المسجد لأجل أن يستمع الخطبة، وعللوا ذلك بأن استماع الخطبة واجب وإجابة المؤذن ليست واجبة، والمحافظة على الواجب أولى من المحافظة على غير الواجب.
* * *
115) وسئل فضيلته: عن حكم أداء تحية المسجد والمؤذن يؤذن مع العلم أنه لا يوجد فترة بين الأذان والإقامة تكفي لأداء التحية؟
فأجاب بقوله: الأولى الإنتظار للإجابة، ثم يقول: " اللهم رب هذه الدعوة التامة." إلا في صلاة الجمعة فالأولى السنة.
* * *
116) وسئل فضيلته: إذا سمع الإنسان مؤذناً ثم سمع آخر فهل يجيب؟
فأجاب فضيلته بقوله: يجيب الأول ويجيب الثاني لعموم قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول المؤذن " (1) .
ولكن لو صلى ثم سمع مؤذناً بعد الصلاة فظاهر الحديث أنه يجيب لعمومه.
وقال بعض العلماء: إنه لا يجيب لأنه غير مدعو بهذا الأذان فلا
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب الأذان / باب ما يقول إذا سمع المنادي، ومسلم: كتاب الصلاة / باب استحباب القول مثل ما يقول المؤذن.(12/193)
يتابعه، ولا يمكن أن يؤذن آخر بعد أن تؤدى الصلاة فيحمل الحديث على المعهود في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنه لا تكرار في الأذان، ولكن لو أخذ أحد بعموم الحديث وقال إنه ذكر وما دام الحديث عاماً فلا مانع من أن أذكر الله عز وجل فهو على خير.
* * *
117) وسئل فضيلته: هل المقام المحمود الذي وعده الله عز وجل لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاص بالشفاعة؟
فأجاب قائلاً: الصحيح أن المقام المحمود عام؛ كل مقام يحمده الناس فيه، ومن ذلك الشفاعة العظمى، حين يتدافع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الشفاعة، حتى تصل إليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيشفع فيشفعه الله عز وجل، فالصحيح أنه عام.
* * *
118) وسئل فضيلته: ورد في الحديث أن الإنسان يقول عند متابعته للمؤذن " رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً " فمتى يقول هذا؟
فأجاب بقوله: ظاهر الحديث أن المؤذن إذا قال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله واجبته تقول بعد ذلك رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً، لأن الحديث جاء فيه: " من قال حين يسمع النداء أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً " (1) ، وفي رواية: " من قال وأنا أشهد " وفي قوله: " وأنا أشهد " دليل على أنه يقولها عقب قول
__________
(1) أخرجه مسلم: كتاب الصلاة / باب استحباب القول مثل قول المؤذن.(12/194)
المؤذن أشهد أن لا إله إلا الله لأن الواو حرف عطف فيعطف قوله على قول المؤذن.
* * *
119) سئل فضيلة الشيخ حفظه الله تعالى: بماذا يجاب المؤذن عندما يقول: "الصلاة خير من النوم "؟
فأجاب فضيلته قائلاً: يجيبه بمثل ما قال فيقول: " الصلاة خير من النوم " لأن المؤذن إذا قال " الله أكبر " قال المجيب " الله أكبر "، وإذا قال: " أشهد أن لا إله إلا الله " قال: " أشهد أن لا إله إلا الله "، وإذا قال: " أشهد أن محمداً رسول الله " قال: " أشهد أن محمداً رسول الله "، ثم يقول المجيب بعد الشهادتين: " رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً "، فإذا قال: " حي على الصلاة " قال المجيب " لا حول ولا قوة إلا بالله " وهكذا حي على الفلاح فإذا قال: " الله أكبر " قال " الله أكبر "، وإذا قال: " لا إله إلا الله "، قال: " لا إله إلا الله "، وإذا قال: " الصلاة خير من النوم " قال المجيب: " الصلاة خير من النوم ".
وقيل: يقول: " صدقت وبررت ". وقيل: يقول: " لا حول ولا قوة إلا بالله ". والصحيح الأول، والدليل على ذلك قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول المؤذن " (1) . وهذا لم يستثن منه في السنة إلا حي على الصلاة، وحي على الفلاح، فيقال: لا حول ولا قوة إلا بالله، فيكون العموم باقياً فيما عدا هاتين الجملتين.
فإذا قال قائل: أليس قول " الصلاة خير من النوم " صدقاً؟
...
__________
(1) تقدم تخريجه ص193.(12/195)
قلنا: بلى، وقول " الله أكبر " صدق وقول " لا إله إلا الله " صدق فهل تقول إذا قال الله أكبر صدقت وبررت؟ ما تقول هذا، إذاً إذا قال " الصلاة خير من النوم " فقل كما يقول هكذا عموم أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
* * *
120) سئل فضيلة الشيخ: عن الأذان في المذياع أو التلفاز هل يُجاب؟
فأجاب قائلاً: الأذان لا يخلو من حالين:
الحال الأولى: أن يكون على الهواء أي أن الأذان كان لوقت الصلاة من المؤذن فهذا يجاب لعموم امر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول المؤذن ". إلا أن الفقهاء رحمهم الله قالوا: إذا كان قد أدى الصلاة التي يؤذن لها فلا يجيب.
الحال الثانية: إذا كان الأذان مسجلاً وليس أذاناً على الوقت فإنه لا يجيبه لأن هذا ليس أذاناً حقيقياً أي أن الرجل لم يرفعها حين أمر برفعه وإنما هو شيء مسموع لأذان سابق. وإن كان لنا تحفظ على كلمة يرفع الأذان ولذا نرى أن يقال أذن فلان لا رفع الأذان (1) .
* * *
121) سئل فضيلة الشيخ - رعاه الله - هل يلزم متابعة كل مؤذن في البلد أو يكتفي بالأول؟
فأجاب بقوله: إجابة المؤذن ليست بلازمة لا في أول مؤذن ولا في آخر مؤذن.
لكن هل يشرع ويستحب فأنا أقول: الفقهاء - رحمهم الله -
__________
(1) انظر الفتوى رقم 108 ص189.(12/196)
يقولون: إنه يجيب المؤذن كلما سمعوا واستدلوا بعموم قول الرسول عليه الصلاة والسلام: " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول المؤذن " (1) . وهذا عام إلا أنهم استثنوا إذا صلى فإنه لا يجيب المؤذن، يعني لو فرضنا أن أحد من المؤذنين تأخر ولم يؤذن إلا بعد أن صليت قالوا: فهنا لا يجيب المؤذن وعللوا ذلك بأنه غير مدعو بهذا الأذان، لأن المؤذن هذا يقول حي على الصلاة وأنت قد صليت. فلا تجيبه في هذه الحال، ولكن لو أجبته فأنت على خير أخذاً بالعموم " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول المؤذن ".
* * *
122) سئل فضيلة الشيخ: عن حكم الزيادة في الأذان؟
فأجاب قائلاً: الأذان عبادة مشروعة بأذكار مخصوصة بينها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأمته بإقراره لها، فلا يجوز للإنسان أن يتعدى حدود الله تعالى فيها، أو يزيد فيها شيئاً من عنده لم يثبت به النص، فإن فعل كان ذلك مردوداً عليه لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " (2) . وفي لفظ: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " (3) . وإذا زاد الإنسان في الأذان شيئاً لم يثبت به النص كان خارجاً عن ما عليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسلمون فيما زاده، والشرع كما يعلم جميع المسلمين توقيفي يتلقى من الشارع، فما جاء به الشرع وجب علينا التعبد به
__________
(1) تقدم تخريجه ص193.
(2) أخرجه البخاري: كتاب الصلح / باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، ومسلم: كتاب الأقضية / باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور.
(3) تقدم تخريجه ص21.(12/197)
استحباباً في المستحبات، وإلزاماً في الواجبات، وما لم يرد به الشرع فليس لنا أن نتقدم بين يدي الله ورسوله بزيادة فيه أو نقص.
* * *
123) وسئل فضيلة الشيخ: إذا أذن المؤذن بدون مكبر الصوت لانقطاع التيار الكهربائي، ثم بعد أذانه مباشرة جاء التيار، فهل يعيد الأذان في مكبر الصوت أو يكتفي بأذانه الأول؟
فأجاب بقوله: يكفي اذانه الأول ولا حاجة للإعادة؛ لأن هناك مساجد أخرى حوله قد سمع الناس التأذين منها، أما لو كان مسجداً منفرداً ليس هناك غيره فهنا يعيد؛ حتى يعلم الناس بدخول وقت الصلاة.
* * *
124) وسئل فضيلته: إذا أتى المؤذن بالدعاء الوارد بعد الأذان بصوت مرتفع في مكبر الصوت هل في ذلك شيء أم لا؟
فأجاب بقوله: نعم في هذا شيء؛ لأن المؤذن إذا أتى بهذا الدعاء المشروع بعد الأذان في مكبر الصوت صار كأنه من الأذان، ثم إن هذا الأمر لم يكن معروفاً في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والخلفاء الراشدين فهو من البدع التي نهي عنها، حتى لو قلت مثلاً إنني أقصد التعليم بهذا ليعرف الناس مشروعية هذا الذكر نقول: إن التعليم يمكن بعد أن تفرغ من الصلاة ويحضر الناس تنبههم إلى هذا ولو عن طريق مكبر الصوت وتقول إنه ينبغي للإنسان إذا فرغ من الأذان أن يقول كذا وكذا، ولا تظهره في الأذان بحيث يظن الظان أنه منه فهذا من البدع.
* * *(12/198)
125) وسئل فضيلته: عن زيادة " إنك لا تخلف الميعاد " في الذكر الذي بعد الأذان؟
فأجاب قائلاً: هذه الزيادة محل خلاف بين علماء الحديث:
فمنهم من قال: إنها غير ثابته لشذوذها، لأن أكثر الذين رووا الحديث لم يرووا هذه الكلمة، والمقام يقتضي ألا تحذف، لأنه مقام دعاء وثناء وما كان على هذا السبيل فإنه لا يجوز حذفه لأنه متعبد به.
ومن العلماء من قال: إن سندها صحيح وأنها تقال ولا تنافي غيرها، وممن ذهب إلى تصحيحها الشيخ عبد العزيز بن باز وقال: إن سندها صحيح حيث أخرجها البيهقي بسند صحيح (1) .
* * *
126) سئل فضيلة الشيخ: يزيد بعض المؤذنين بعد الأذان بصوت مرتفع مثل قولهم: " صلى الله وسلم على نبينا وسيدنا محمد " أو " الصلاة الصلاة يرحمكم الله " أو يقول أثناء الأذان: " الله أكبرَ " بفتحها، أو " الله آكبر " أو " الله أكبار " أو " الله إكبر " فما جوابكم على ذلك؟
فأجاب قائلاً: كل ذكر أو دعوة يلحق بالأذان فإنه بدعة، والأذان كاف عن كل شيء، ومن ذلك قوله " الصلاة الصلاة يرحمكم الله " إذا انتهى من الأذان فهذا من البدع، وحقيقته أن هذا الذي يقول ذلك كأنه غير مقتنع بالأذان الذي جعله الشارع علامة على دخول الوقت.
وأما اللحن الذي ذكره السائل فهو مختلف فإن قول " الله أكبرَ " لا
__________
(1) أخرجه البيهقي في " السنن " 1/410، وانظر: فتاوى اللجنة 6/88.(12/199)
يحيل المعنى فلا يكون محرماً ولا مبطلاً للأذان، وأما " الله آكبر " فهو لحن مغير للمعنى فلا يجوز، وأما " أكبار " فهو لفظ محيل للمعنى فلا يجوز، وأما " إكبر " فهو لحن لكن لا أعلم أنه يحيل المعنى ولكن كلما كان أصح فهو أفضل.
* * *
127) سئل فضيلة الشيخ جزاه الله خيراً: عن حكم الخروج من المسجد بعد الأذان؟
فأجاب بقوله: رأى أبو هريرة رجلاً خرج بعد الأذان من المسجد فقال: " أما هذا فقد عصى أبا القاسم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " (1) ، والمعصية في الأصل للتحريم، قال تعالى: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) (2) .
فلهذا قال أهل العلم: إنه لا يجوز للإنسان أن يخرج من المسجد بعد الأذان إلا لعذر مثل أن يخرج ليتوضأ ويرجع، إلا أنه إذا كان يخشى أن تفوته الجماعة فإنه لا يخرج ما لم يكن مدافعاً للبول أو الغائط، فإن كان مدافعاً للبول أو الغائط فليخرج ولو فاتت الصلاة لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان " (3) . فإذا فرضنا أن أحداً ينتظر الصلاة ثم حصر ببول أو غائط أو بريح أيضاً؛ لأن بعض الناس قد يكون عنده غازات تشغله فلا حرج عليه أن يخرج ويقضي حاجته، ثم يرجع إن أدرك الجماعة فبها ونعمت، وإن لم يدركها فلا حرج عليه.
* * *
__________
(1) اخرجه مسلم: كتاب المساجد / باب النهي عن الخروج من المسجد.
(2) سورة الأحزاب، الآية: 36.
(3) أخرجه مسلم: كتاب المساجد / باب كراهة الصلاة بحضرة الطعام.(12/200)
128) وسئل فضيلته: عن الخروج من المسجد بعد الأذان لأمر واجب كإيقاظ نائم؟ وما حكم اتخاذ المسجد ممراً؟
فأجاب بقوله: الخروج بعد الأذان لعذر لا بأس به كإيقاظ نائم ونحوه بشرط أن يرجع قبل الإقامة، ومثل ذلك إذا أمره والده بالخروج لحاجة وهو يمكن أن يرجع قبل فوات الجماعة.
واتخاذ المسجد ممراً لا ينبغي إلا لحاجة؛ لأن المساجد إنما بنيت للصلاة والقرآن والذكر، لكن مع الحاجة يجوز المرور لقوله تعالى: (وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ) (1) .
* * *
129) وسئل فضيلته: عن المتابعة في الإقامة؟
فأجاب قائلاً: المتابعة في الإقامة فيها حديث أخرجه أبو داود (2) ، لكنه ضعيف لا تقوم به الحجة، والراجح أنه لا يتابع.
* * *
130) وسئل فضيلة الشيخ: نسمع من بعض الناس بعد إقامة الصلاة قولهم: أقامها الله وأدامها، فما حكم ذلك؟
فأجاب بقوله: ورد في هذا الحديث عن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه كان إذا قال المؤذن: " قد قامت الصلاة " قال " أقامها الله وأدامها " (3) ، لكن الحديث ضعيف لا تقوم به حجة.
__________
(1) سورة النساء، الآية: 43.
(2) أخرجه أبو داود: كتاب الصلاة / باب ما يقول إذا سمع الإقامة، قال الحافظ في: التلخيص 1/212: ضعيف.
(3) أخرجه أبو داود: كتاب الصلاة / باب ما يقول إذا سمع الإقامة، والبيهقي 1/411، والبغوي في " شرح السنة " 2/288، قال الحافظ في " التلخيص " 1/211: " ضعيف "، وضعفه الألباني في " الإرواء " 1/258.(12/201)
131) سئل فضيلة الشيخ: عن الرجل إذا جاء المسجد يوم الجمعة والمؤذن يؤذن الأذان الثاني فهل يتابعه أو يصلي تحية المسجد؟
فأجاب قائلاً: ذكر أهل العلم أن الرجل إذا دخل المسجد وهو يسمع الأذان الثاني فإنه يصلي تحية المسجد ولا يشتغل بمتابعة المؤذن وإجابته، وذلك ليتفرغ لاستماع الخطبة لأن استماعها واجب، وإجابة المؤذن سنة، والسنة لا تزاحم الواجب.
* * *
132) وسئل فضيلة الشيخ: إذا أذن المؤذن للصلاة والمرأة شعرها مكشوف وهي في بيتها أو بيت أهلها أو عند الجيران ولا يراها غير المحارم أو النساء، فهل هذا حرام؟ وأن الملائكة تلعنها طوال مدة الأذان؟
فأجاب بقوله: هذا ليس بصحيح، فللمرأة أن تكشف شعرها ولو كان المؤذن يؤذن، إذا لم يرها أحد من الأجانب، ولكنها إذا أرادت أن تصلي فعليها أن تستر جميع بدنها إلا وجهها، مع أن كثير من أهل العلم رخص لها في كشف كفيها وقدميها أيضاً، ولكن الاحتياط سترهما إلا الوجه فلا حرج عليها من كشفه، هذا إذا لم يكن حولها رجال أجانب، فإن كانوا فلابد من ستره؛ لأنها لا يجوز لها كشفه إلا لزوجها ومحارمها.
* * *(12/202)
المواقيت(12/203)
133) سئل فضيلة الشيخ: هل يسن الإبراد بالظهر لمن يصلي وحده وللنساء؟
فأجاب بقوله: الإبراد بالظهر عام للجميع، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة " (1) . والخطاب للجميع ولم يعلل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك بمشقة الذهاب إلى الصلاة بل قال:" فإن شدة الحر من فيح جهنم ". وهذا يحصل لمن يصلي جماعة، ولمن يصلي وحده، ويدخل في ذلك النساء فيسن لهن الإبراد بالظهر في شدة الحر.
* * *
134) وسئل فضيلته: إذا تأخر الحاج في الخروج من عرفة لشدة الزحام وخاف أن يخرج وقت العشاء قبل أن يصل إلى مزدلفة فماذا يصنع؟
فأجاب قائلاً: إذا خاف خروج الوقت وجب عليه أن ينزل فيصلي، وبعض الحجاج لا يصلي المغرب والعشاء حتى يصل إلى مزدلفة ولو خرج وقت صلاة العشاء، وهذا لا يجوز وهو حرام من كبائر الذنوب؛ لأن تأخير الصلاة عن وقتها محرم بمقتضى دلالة الكتاب، والسنة، قال الله تعالى: (إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً) (2) وبين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا الوقت وحدده قال الله تعالى: (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) (3) وقال: (وَمَنْ
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب مواقيت الصلاة / باب الإبراد بالظهر في شدة الحر، ومسلم: كتاب المساجد / باب استحباب الإبراد بالظهر..
(2) سورة النساء، الآية: 103.
(3) سورة الطلاق، الآية: 1.(12/205)
يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (1) .
* * *
135) وسئل فضيلة الشيخ: قلتم في الفتوى السابقة بأن الحاج إذا خاف خروج الوقت وجب عليه أن ينزل فإن كان لا يتمكن من النزول للزحام وحركة السيارات؟
فأجاب قائلاً: إذا لم يتمكن من النزول صلى ولو على راحلته لقوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (2) ، وإن كان عدم تمكنه من النزول في هذه الحال أمراً بعيداً، لأنه بإمكان كل إنسان أن ينزل ويقف على جانب الخط ويصلي، وعلى كل حال فإنه لا يجوز لأحد أن يؤخر صلاة المغرب والعشاء حتى يخرج وقت العشاء بحجة أنه يريد أن يطبق السنة فلا يصلي إلا في مزدلفة فإن تأخيره هذا مخالف للسنة، فإن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخر لكنه صلى الصلاة في وقتها.
* * *
136) وسئل فضيلة الشيخ: عن بلاد يتأخر فيها مغيب الشفق الأحمر الذي به يدخل وقت العشاء ويشق عليهم انتظاره؟
فأجاب بقوله: إن كان الشفق لا يغيب حتى يطلع الفجر، أو يغيب في زمن لا يتسع لصلاة العشاء قبل طلوع الفجر فهؤلاء في حكم من لا وقت للعشاء عندهم فيقدرون وقته بأقرب البلاد إليهم ممن لهم وقت عشاء معتبر، وقيل يعتبر بوقته في مكة لأنها أم القرى.
وإن كان الشفق يغيب قبل الفجر بوقت طويل يتسع لصلاة العشاء
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 229.
(2) سورة التغابن، الآية: 16.(12/206)
فإنه يلزمهم الانتظار حتى يغيب إلا أن يشق عليهم الانتظار فحينئذ يجوز لهم جمع العشاء إلى المغرب جمع تقديم دفعاً للحرج والمشقة لقوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (1) ،ولقوله: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج) (2) . وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما،" أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء في المدينة من غير خوف ولا مطر"،قالوا: ما أراد إلى ذلك؟ قال: " أراد أن لا يحرج أمته " (3) ، أي لا يلحقها الحرج بترك الجمع. وفق الله الجميع لما فيه الخير والصلاح. حرر في 25/11/1411 هـ.
* * *
137) وسئل فضيلته: عن الفرق بين الفجر الأول والفجر الثاني؟
فأجاب قائلاً: ذكر العلماء أن بينهما ثلاثة فروق:
الأول: أن الفجر الأول ممتد لا معترض، أي ممتد طولاً من الشرق إلى الغرب، والثاني معترض من الشمال إلى الجنوب.
الثاني: أن الفجر الأول يظلم أي يكون هذا النور لمدة قصيرة ثم يظلم، والفجر الثاني لا يظلم بل يزداد نوراً وإضاءة.
الثالث: أن الفجر الثاني متصل بالأفق ليس بينه وبين الأفق ظلمة، والفجر الأول منقطع عن الأفق بينه وبين الأفق ظلمة.
* * *
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 185.
(2) سورة الحج، الآية: 78.
(3) تقدم تخريجه ص34.(12/207)
138) وسئل فضيلة الشيخ: عن نهاية وقت صلاة العشاء، وهل يمتد وقتها إلى طلوع الفجر؟
فأجاب بقوله: وقت العشاء إلى نصف الليل ولا يمتد وقتها إلى طلوع الفجر؛ لأنه خلاف ظاهر القرآن وصريح السنة حيث قال الله تعالى: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْل) (1) ولم يقل (إلى طلوع الفجر) ، وصرحت السنة بأن وقت صلاة العشاء ينتهي بنصف الليل كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " وقت الظهر إذا زالت الشمس وكان ظل الرجل كطوله ما لم يحضر العصر، ووقت العصر ما لم تصفر الشمس، ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق، ووقت العشاء إلى نصف الليل الأوسط " وفي رواية: " ووقت العشاء إلى نصف الليل " (2) . ولم يقيده بالأوسط فوقت العشاء ينتهي عند نصف الليل.
* * *
139) وسئل: هل الأفضل تأخير العشاء إلى ثلث الليل؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا سهل فالأفضل تأخيرها إلى ثلث الليل لحديث أبي برزة رضي الله عنه قال: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستحب أن يؤخر من العشاء (3) ، ولحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تأخر ذات ليلة حتى ذهب عامة الليل فقام إليه عمر فقال: يا رسول الله رقد النساء
__________
(1) سورة الإسراء، الآية: 78.
(2) أخرجه مسلم: كتاب المساجد / باب أوقات الصلوات الخمس.
(3) أخرجه البخاري: كتاب المواقيت / باب ما يكره من السمر بعد العشاء.(12/208)
والصبيان، فخرج ورأسه يقطر وقال: " إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي " (1) . لكن ذلك إن سهل، وإن صلى بالناس نقول الأفضل مراعاة الناس إذا اجتمعوا صلى، وإن تأخروا أخر لحديث جابر رضي الله عنه: " إذا رآهم اجتمعوا عجل وإذا اجتمعوا صلى، وإن تأخروا أخر لحديث جابر رضي الله عنه: " إذا رآهم اجتمعوا عجل وإذا رآهم أبطؤوا أخر " (2) .
* * *
140) وسئل فضيلته: هل يجوز تأخير صلاة العشاء أم الأفضل أداؤها في وقتها؟
فأجاب قائلاً: إذا تأخرت صلاة العشاء عن وقتها فإن ذلك حرام، ولا يحل لأحد أن يؤخر صلاة العشاء أو غيرها عن وقتها، فإن أخرها عن وقتها بدون عذر فهي صلاة باطلة غير مقبولة ولو صلاها ألف مرة.
وأما تأخير صلاة العشاء إلى آخر وقتها فإن ذلك أفضل؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج ذات ليلة وقد ذهب عامة الليل فقال: " إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي " (3) . فإذا كانت المرأة في المنزل مشغولة وأخرت صلاة العشاء إلى آخر وقتها فإن ذلك أفضل، وكذلك لو كانوا جماعة في مكان وليس حولهم مسجد، أو هم أهل المسجد أنفسهم، فإن الأفضل لهم التأخير إذا لم يشق عليهم إلى أن يمضي ثلث الليل، فما بين الثلث إلى النصف فهذا أفضل وقت للعشاء، وأما تأخيرها إلى ما بعد النصف فإنه
__________
(1) أخرجه مسلم: كتاب المساجد / باب وقت العشاء وتأخيرها.
(2) تقدم تخريجه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 190.
(3) تقدم تخريجه ص209.(12/209)
محرم؛ لأن آخر صلاة العشاء هو نصف الليل.
والتأخير لا يمتد إلى طلوع الفجر؛ لأن الأحاديث الواردة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تدل على أن وقت صلاة العشاء إلى نصف الليل فقط، وما بين نصف الليل إلى طلوع الفجر فليس وقتاً للصلاة المفروضة، كما أن ما بين طلوع الشمس إلى زوالها ليس وقتاً لصلاة مفروضة، ولهذا قال تعالى: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً) (1) . فقال: (لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) أي: زوالها، وغسق الليل نصفه، وهو الذي يتم به الغسق وهو الظلمة. فمن الزوال إلى نصف الليل كله أوقات صلوات متوالية: فيدخل وقت الظهر بالزوال، ثم ينتهي إذا صار ظل كل شيء مثله، ثم يدخل وقت العصر مباشرة، ثم ينتهي بغروب الشمس، ثم يدخل وقت المغرب مباشرة ثم ينتهي بمغيب الشفق الأحمر، ثم يدخل وقت العشاء وينتهي بنصف الليل، ولهذا فصل الله صلاة الفجر وحدها فقال: (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) لأنها لا يتصل بها وقت قبلها، ولا يتصل بها وقت بعدها.
وقولنا إن صلاة العصر إلى غروب الشمس ذلك أن وقتها يمتد إلى الغروب لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر " (2) . وليس المعنى أنه يجوز تأخيرها إلى الغروب، فإنه لا يجوز تأخيرها إلى ما بعد اصفرار الشمس، والله الموفق.
* * *
__________
(1) سورة الإسراء، الآية: 78.
(2) تقدم تخريجه ص106.(12/210)
141) سئل فضيلة الشيخ: ما حكم تأخير صلاة العشاء إلى وقت متأخر؟
فأجاب بقوله: الأفضل في صلاة العشاء أن تؤخر إلى آخر وقتها وكلما أخرت كان أفضل، إلا أن يكون رجلاً فإن الرجل إذا أخرها فاتته صلاة الجماعة فلا يجوز له أن يؤخرها وتفوته الجماعة، أما النساء في البيت فإنهن كلما أخرن صلاة العشاء كان ذلك أفضل لهن، لكن لا يؤخرنها عن منتصف الليل.
* * *
142) وسئل فضيلته: أيهما أفضل تعجيل الفجر أم تأخيرها؟
فأجاب بقوله: تعجيلها أفضل لقوله تعالى: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَات) (1) وهذا يحصل بالمبادرة بفعل الطاعة، ولأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يعجل بصلاة الفجر ويصليها بغلس وينصرف منها حين يعرف الرجل جليسه وكان يقرأ بالستين إلى المئة (2) ، وقراءة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرتلة يقف عند كل آية مع الركوع والسجود وبقية أفعال الصلاة فدل ذلك على أنه كان يبادر بها جدا.
فإن قيل: جاء في الحديث: " أسفروا بالفجر فإنه أعظم لأجوركم " (3) .
__________
(1) سورة المائدة، الآية: 48.
(2) أخرجه البخاري: كتاب المواقيت / باب وقت الظهر عند الزوال، ومسلم: كتاب الصلاة / باب القراءة في الصبح والمغرب.
(3) أخرجه الإمام أحمد 3/465، 4/140، وأبو داود: كتاب الصلاة / باب في وقت الصبح (424) والترمذي: أبواب الصلاة / باب ما جاء في الإسفار بالفجر (154) ، والنسائي: كتاب المواقيت / باب الإسفار (548) ، وابن ماجه: كتاب الصلاة / باب وقت صلاة الفجر (672) ، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.(12/211)
فالجواب: أن المراد لا تتعجلوا بها حتى يتبين لكم الإسفار وتتحققوا منه، وبهذا نجمع بين هدي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الراتب الذي كان لا يدعه وهو التغليس بالفجر وبين هذا الحديث والله أعلم.
* * *
143) وسئل فضيلته: بما تدرك الصلاة؟
فأجاب بقوله: الصحيح أن الصلاة لا تدرك إلا بإدراك ركعة لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من أدرك ركعة فقد أدرك الصلاة " (1) . ومفهومه أن من أدرك دون ركعة فإنه لم يدرك، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
* * *
144) وسئل فضيلته: عن أفضل وقت تؤدى فيه الصلاة؟ وهل أول الوقت هو الأفضل؟
فأجاب قائلاً: الأكمل أن تكون على وقتها المطلوب شرعاً، ولهذا قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جواب من سأله أي العمل أحب إلى الله عز وجل؟ قال: " الصلاة على وقتها " (2) ولم يقل (الصلاة في أول وقتها) وذلك لأن الصلوات منها ما يسن تقديمه، ومنها ما يسن تأخيره، فصلاة
__________
(1) تقدم تخريجه ص147.
(2) أخرجه البخاري: كتاب المواقيت / باب فضل الصلاة لوقتها، ومسلم: كتاب الإيمان / باب كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال.(12/212)
العشاء مثلاً يسن تأخيرها إلى ثلث الليل، ولهذا لو كانت امرأة في البيت وقالت أيهما أفضل لي أن أصلي صلاة العشاء من حين أذان العشاء أو أؤخرها إلى ثلث الليل؟
قلنا: الأفضل أن تؤخرها إلى ثلث الليل؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تأخر ذات ليلة حتى قالوا: يا رسول الله رقد النساء والصبيان. فخرج وصلى بهم وقال: " إن هذا لوقتها لولا أن أشق على أمتي " (1) . فالأفضل للمرأة إذا كانت في بيتها أن تؤخرها.وكذلك لو فرض أن رجالاً محصورين، يعني رجالاً معينين في سفر فقالوا: نؤخر الصلاة أو نقدم؟ فنقول: الأفضل أن تؤخروا. وكذلك لو أن جماعة خرجوا في نزهة وحان وقت العشاء فهل الأفضل أن يقدموا العشاء أو يؤخروها؟ نقول: الأفضل أن يؤخروها إلا إذا كان في ذلك مشقة.
وبقية الصلوات الأفضل فيها التقديم إلا لسبب، فالفجر تقدم، والظهر تقدم، والعصر تقدم، والمغرب تقدم، إلا إذا كان هناك سبب. فمن الأسباب: إذا اشتد الحر فإن الأفضل تأخير صلاة الظهر إلى أن يبرد الوقت، يعني إلى قرب صلاة العصر؛ لأنه يبرد الوقت إذا قرب وقت العصر، فإذا اشتد الحر فإن الأفضل الإبراد لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم " (2) . وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سفر فقام بلال ليؤذن فقال: " أبرد " ثم قام ليؤذن فقال: " أبرد " (3) ثم قام ليؤذن، فأذن له.
...
__________
(1) تقدم تخريجه ص209.
(2) تقدم تخريجه ص205.
(3) تقدم تخريجه ص190.(12/213)
ومن الأسباب أيضاً أن يكون في آخر الوقت جماعة لا تحصل في أول الوقت، فهنا التأخير أفضل، كرجل أدركه الوقت وهو في البر وهو يعلم أنه سيصل إلى البلد ويدرك الجماعة في آخر الوقت، فهل الأفضل أن يصلي من حين أن يدركه الوقت، أو أن يؤخر حتى يدرك الجماعة؟
نقول: إن الأفضل أن تؤخر حتى تدرك الجماعة، بل قد نقول بوجوب التأخير هنا تحصيلاً للجماعة.
* * *
145) وسئل فضيلته: هل تأدية الصلوات الخمس في أول الوقت أفضل أم في آخره؟
فأجاب بقوله: أما تأدية الصلوات في أول الوقت فهو أفضل إلا في العشاء الآخرة، فإن تأخيرها إلى ثلث الليل أفضل ما لم يشق على المأمومين، وإن كان يشق عليهم أو على بعضهم فتقديمها أفضل؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخر صلاة العشاء حتى ذهب عامة الليل، فقال:"إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي " (1) . قال جابر رضي الله عنه: " كان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صلاة العشاء أحياناً وأحياناً؛ إذا رآهم اجتمعوا عجل وإذا رآهم أبطؤوا أخر " (2) .
وكذلك يستثنى صلاة الظهر في شدة الحر لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم " (3) . والله الموفق.
__________
(1) تقدم تخريجه ص209.
(2) تقدم تخريجه ص109.
(3) تقدم تخريجه ص205.(12/214)
146) وسئل فضيلة الشيخ: عن جماعة لا يعرفون وقت الفجر ويصلون بخبر من يثقون به ولكن بعضهم لديه شك؟
فأجاب قائلاً: ما داموا واثقين منه، ويعرفون أن هذا الرجل عنده علم بدخول الوقت فلا شيء عليهم؛ لأنهم لم يتبينوا أنهم صلوا قبل الوقت، فإذا لم يتبينوا وأخذوا بقول هذا الرجل الذي يثقون به، فلا حرج، لكن ينبغي للإنسان أن يحتاط ما دام شاكاً، فلا يصلي حتى يغلب على ظنه أو يتيقن، وعليه أن ينبه الجماعة على ذلك، يشير عليهم ويقول: انتظروا خمس دقائق أو عشر دقائق ولا يضرهم ذلك؛ لأن انتظار الإنسان عشر دقائق أو ربع ساعة خير من كونه يتقدم بدقيقة واحدة.
* * *
147) وسئل فضيلة الشيخ: إذا صلى الإنسان قبل الوقت جهلاً فما الحكم؟
فأجاب بقوله: صلاة الإنسان قبل الوقت لا تجزئه عن الفريضة لأن الله تعالى يقول: (إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً) (1) ، وبين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذه الأوقات في قوله: " وقت الظهر إذا زالت الشمس " (2) الخ الحديث. وعلى هذا فمن صلى الصلاة قبل وقتها فإن صلاته لا تجزئه عن الفريضة لكنها تقع نفلاً بمعنى أنه يثاب عليها ثواب نفل، وعليه أن يعيد الصلاة بعد دخول الوقت. والله أعلم.
* * *
__________
(1) سورة النساء، الآية: 103.
(2) تقدم تخريجه ص208.(12/215)
148) وسئل فضيلة الشيخ: عن حكم الصلاة قبل وقتها؟
فأجاب فضيلته بقوله: الصلاة قبل وقتها لا تجزيء حتى ولو كانت قبل الوقت بدقيقة واحدة، فلو كبر الإنسان للإحرام قبل الوقت فإنها لا تصح الصلاة، لأن الله تعالى يقول: (إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً) (1) أي مؤقتة محددة فلا تصح الصلاة قبل وقتها ويجب إعادة تلك الصلاة التي صليت قبل وقتها والله الموفق.
* * *
149) وسئل فضيلة الشيخ: عن امرأة صلت بعد سماع أول مؤذن في البلد وعندما شرعت في الركعة الأخيرة سمعت أذاناً من مؤذنين أُخر فما حكم صلاتها؟
فأجاب قائلاً: على المرء المسلم أن يحتاط لدينه فلا يصلي قبل الوقت؛ لأن بعض المؤذنين قد يؤذن قبل الوقت، فلا ينبغي أن يغتر بهم المصلي، وأنتِ إذا كان المؤذن الذي أذن ليس بينه وبين المؤذنين إلا دقيقة أو دقيقتان فليس عليك إعادة الصلاة، ولكن عليك مستقبلاً أن تصبري حتى يكثر أذان المؤذنين، لأن الاحتياط أولى وافضل، والله الموفق.
* * *
150) سئل فضيلة الشيخ: إذا دخلت الطالبة الحصة الدراسية مع دخول وقت الظهر وتستمر الحصة لمدة ساعتين فكيف تصنع؟
__________
(1) سورة النساء، الآية: 103.(12/216)
فأجاب بقوله: إن الساعتين لا يخرج بهما وقت الظهر فإن وقت الظهر يمتد من زوال الشمس إلى دخول وقت العصر، وهذا زمن يزيد على الساعتين فبالإمكان أن تصلي صلاة الظهر إذا انتهت الحصة لأنه سيبقى معها زمن، هذا إذا لم يتيسر أن تصلي أثناء وقت الحصة فإن تيسر فهو أحوط، وإذا قدر أن الحصة لا تخرج إلا بدخول وقت العصر، وكان يلحقها ضرر أو مشقة في الخروج عن الدرس ففي هذه الحال يجوز لها أن تجمع بين الظهر والعصر فتؤخر الظهر إلى العصر لحديث بن عباس رضي الله عنهما قال: " جمع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المدينة بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء من غير خوف ولا مطر "، فقيل له في ذلك. فقال رضي الله عنه: " أراد - يعني النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن لا يحرج أمته " (1) . فدل هذا الكلام من بن عباس رضي الله عنهما على أن ما فيه حرج ومشقة على الإنسان يحل له أن يجمع الصلاتين اللتين يجمع بعضهما إلى بعض في وقت أحدهما، وهذا داخل في تيسير الله عز وجل لهذه الأمة دينه وأساس هذا قوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (2) ، وقوله تعالى: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) (3) وقوله: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (4) . وقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الدين يسر " (5)
إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة الدالة على يسر هذه الشريعة، ولكن هذه القاعدة العظيمة ليست تبعاً لهوى الإنسان
__________
(1) تقدم تخريجه ص34.
(2) سورة البقرة، الآية: 185.
(3) سورة المائدة، الآية: 6.
(4) سورة الحج، الآية: 78.
(5) أخرجه البخاري: كتاب الإيمان / باب الدين يسر..(12/217)
ومزاجه، ولكنها تبع لما جاء به الشرع فليس كل ما يعتقده الإنسان سهلاً ويسراً يكون من الشريعة؛ لأن المتهاونين الذين لا يهتمون بدينهم كثيراً ربما يستصعبون ما هو سهل فيدعونه إلى ما تهواه نفوسهم بناء على هذه القاعدة، ولكن هذا فهم خاطىء، فالدين يسر في جميع تشريعاته وليس يسراً باعتبار أهواء الناس، ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن.
* * *
151) وسئل فضيلته: عن المرأة إذا حاضت أو طهرت وقد أدركت من وقت الصلاة مقدار ركعة فهل تجب عليها تلك الصلاة؟
فأجاب بقوله: المرأة إذا حاضت بعد دخول وقت الصلاة فإنه يجب عليها إذا طهرت أن تقضي تلك الصلاة التي حاضت في وقتها إذا لم تصلها قبل أن يأتيها الحيض وذلك لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة " (1) . فإذا أدركت المرأة من وقت الصلاة مقدار ركعة ثم حاضت قبل أن تصلي فإنها إذا طهرت لزمها القضاء.
وكذلك إذا طهرت من الحيض قبل خروج وقت الصلاة فإنه يجب عليها قضاء تلك الصلاة فلو طهرت قبل أن تطلع الشمس بمقدار ركعة وجب عليها قضاء صلاة الفجر، ولو طهرت قبل غروب الشمس بمقدار ركعة وجب عليها قضاء صلاة العصر لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر " (2) .
__________
(1) تقدم تخريجه ص147.
(2) تقدم تخريجه ص106.(12/218)
* * *
152) سئل فضيلة الشيخ: استيقظت امرأة لصلاة الفجر بعد الإشراق ورأت الدم عليها فماذا عليها؟
فأجاب بقوله: عليها قضاء صلاة الفجر؛ لأن الأصل أن الدم لم يخرج، وإذا كان الأصل عدم خروجه فمقتضى ذلك أنه صادفها الوقت قبل أن تحيض، ولكن يؤسفني أن تكون لم تستيقظ لصلاة الفجر إلا بعد طلوع الشمس؛ لأن الواجب على الإنسان أن يحتاط لنفسه وأن يتخذ الوسائل اللازمة لكي يستيقظ ويصلي في الوقت. والله الموفق.
* * *
153) وسئل فضيلته: عن إمام لم يصلي العصر ناسياً، ودخل في صلاة المغرب، وفي أثناء الصلاة تذكر أنه لم يصل العصر فماذا يفعل في هذه الحالة؟
فأجاب قائلاً: هذا الإمام الذي نسي صلاة العصر ودخل في صلاة المغرب وتذكر في أثناء الصلاة أنه لم يصل العصر يستمر في صلاة المغرب فإذا أتمها أتى بصلاة العصر وتصح منه صلاة العصر حينئذ ولا يلزمه أن يقطع صلاته ولا يجوز له أيضاً؛ وذلك لأنه شرع في فريضة والفريضة إذا شرع فيها الإنسان لزمه إتمامها إلا بعذر شرعي.
* * *
154) وسئل فضيلته: إذا فاتت الإنسان صلاة الفجر بسبب النوم فمتى يقضيها؟
فأجاب بقوله: يقضيها فور قيامه لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من نام عن(12/219)
صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها " (1) . فقوله: " إذا ذكرها " يدل على أنها تقضى فور الذكر وفور الاستيقاظ؛ لأن الأصل في الأمر الوجوب والفورية.
فإن قيل: أليس النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما استيقظ أمرهم أن يرتحلوا من مكانهم إلى مكان آخر؟
فالجواب: بلى ولكنه عليه الصلاة والسلام علل ذلك بأنه " مكان حضر فيه الشيطان " (2) ، فلا ينبغي أن يصلي في أماكن حضور الشياطين.
* * *
155) وسئل فضيلة الشيخ: عن إنسان صلى بعد انتهاء مدة المسح ولم يذكر إلا بعد حضور الصلاة التي بعدها بحيث لو قام لقضاء الصلاة الأولى لفاتته الثانية مع الجماعة فهل يقضي الصلاة الأولى ولو فاتته الجماعة في الثانية، أو يصلي الثانية مع الجماعة ويقضي الأولى بعدها؟
فأجاب بقوله: المشهور من المذهب أنه يلزمه قضاء الفائتة وإن فاتته الجماعة، والصحيح أنه يصلي الحاضرة مع الجماعة ويقضي الفائتة بعد ذلك، وإن شاء صلى مع الجماعة ونواها الفائتة ثم يصلي الحاضرة بعد ذلك.
__________
(1) تقدم تخريجه ص16.
(2) تقدم تحريجه ص27.(12/220)
156) وسئل فضيلته: هل يسقط الترتيب بين الصلوات المقضية بسبب النسيان والجهل؟
فأجاب حفظه الله بقوله: هذه المسألة محل خلاف، والصواب أنه يسقط والدليل عموم قوله تعالى: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) (1) ، وقال عليه الصلاة والسلام: " إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " (2) .
* * *
157) وسئل: عن حكم من نام عن صلاة العشاء ثم قام لصلاة الفجر وصلاها ولكن تذكر صلاة العشاء وهو يصلي الفجر؟ هل يكمل صلاة الفجر أم ماذا يفعل؟
فأجاب فضيلة الشيخ بقوله: نعم، يكمل صلاة الفجر ثم يصلي صلاة العشاء.
* * *
158) سئل فضيلة الشيخ: عن شخص دخل المسجد لصلاة العشاء ثم تذكر أنه لم يصل المغرب فماذا يعمل؟
فأجاب بقوله: إذا دخلت المسجد وصلاة العشاء مقامة ثم تذكرت أنك لم تصل المغرب فتدخل مع الجماعة بنية صلاة المغرب، وإذا قام الإمام إلى الركعة الرابعة، فتجلس أنت في الثالثة وتنتظر الإمام ثم تسلم معه، ولك أن تسلم ثم تدخل مع الإمام فيما بقي من صلاة
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 286.
(2) أخرجه بن ماجه: كتاب الطلاق / باب طلاق المكره والناسي.(12/221)
العشاء، ولا يضر اختلاف النية بين الإمام والمأموم على الصحيح من أقوال أهل العلم، وإن صليت المغرب وحدك ثم صليت مع الجماعة فيما أدركت من صلاة العشاء فلا بأس.
* * *
159) سئل فضيلة الشيخ: كيف تقضي الفوائت؟
فأجاب قائلاً: الفوائت من الفرائض تقضى بكل حال في الوقت الذي يزول فيه العذر ولابد من الترتيب، وكذلك صلاة النوافل المؤقتة بوقت كالوتر والرواتب.
وأما النوافل المطلقة فلا تقضى لأنه لا وقت لها، وإنما يصلي نفلاً متى شاء في غير وقت النهي، وأما النوافل ذوات الأسباب فإنه إذا فاتت أسبابها لا تقضى لأنها مربوطة بسببها فإذا تأخرت عنه لم تكن فعلت من أجله فلا تقضى.
* * *
160) وسئل فضيلته عن مريض أجرى عملية جراحية ففاتته عدة فروض من الصلوات، فهل يصليها مجتمعة بعد شفائه؟ أم يصليها كل وقت مع وقته كالظهر مع الظهر وهكذا؟
فأجاب بقوله: عليه أن يصليها جميعاً في آن واحد، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما فاتته صلاة العصر في غزوة الخندق صلاها قبل المغرب (1) وعلى الإنسان إذا فاتته بعض فروض الصلاة أن يصليها جميعاً ولا يؤخرها.
* * *
__________
(1) تقدم تخريجه ص21.(12/222)
161) وسئل: عن جماعة فاتتهم صلاة العصر نسياناً ولم يتذكروا إلا عند سماع أذان المغرب فصلوا المغرب ثم العصر؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا نسي الإنسان صلاة أو نام عنها وليس عنده من يوقظه أو يذكره حتى خرج وقتها، فإنه كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يصليها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك)) (1) .
وفي هذه الحالة التي وقعت للسائل فإنه ينبغي عليه أن يبدأ أولاً بصلاة العصر ثم المغرب حتى يكون الترتيب على حسب ما فرض الله عز وجل، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما فاتته الصلوات في أحد الأيام في غزوة الخندق قضاها مرتبة. وقد ثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) (2) . وبناء على هذا فلو أنكم حينما جئتم إلى المسجد وهم يصلون المغرب دخلتم معهم بنية العصر، ثم إذا سلم الإمام من صلاة المغرب تأتون ببقية صلاة العصر فتكون الصلاة مغرباً للجماعة، وتكون لكم عصراً، وهذا لا يضر - أعني اختلاف نية الإمام والمأموم - لأن الأفعال واحدة، والذي نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن الاختلاف في على الإمام وهي الأفعال دون النية. وما وقع منكم على سبيل الجهل، حيث قدمتم المغرب على العصرفإنه لا حرج عليكم في ذلك
* * *
162) وسئل فضيلته: إذا فاتت الإنسان الصلاة لعذر فهل يجوز تأخيرها بعد زوال العذر؟
__________
(1) تقدم تخريجه ص 16.
(2) تقدم تخريجه ص 153.(12/223)
فأجاب قائلاً: لا يجوز لك أن تؤخر الصلاة عن وقتها إذا زال العذر، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فليصلها إذا ذكرها)) (1) . فجعل وقت قضائها وقت الذكر، فإن أخرت فأنت آثم.
* * *
163) سئل فضيلة الشيخ: إذا فاتني فرض أو أكثر لنوم أو نسيان، فكيف أقضي الصلاة الفائتة؟ وهل أصليها أولاً ثم الصلاة الحاضرة أم العكس.
فأجاب بقوله: تصلها أولاً، ثم تصل الصلاة الحاضرة، ولا يجوز لك التأخير، وقد شاع عند الناس أن الإنسان إذا فاته فرض فإنه يقضيه مع الفرض الموافق له من اليوم الثاني، فمثلاً لو أنه لم يصل الفجر يوماً فإنه لا يصليه إلا مع الفجر في اليوم الثاني، وهذا غلط، وهو مخالف لهدي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القولي والفعلي، أما القولي: فقد ثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: ((من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها)) (2) . ولم يقل: فليصلها من اليوم الثاني إذا جاء وقتها، بل قال: ((فليصلها إذا ذكرها)) .
وأما الفعلي: فحين فاتته الصلوات في يوم من أيام الخندق صلها قبل الصلاة الحاضرة، فدل هذا على أن الإنسان يصلي الفائتة ثم يصلي الحاضرة، لكن لو نسي فقدم الحاضرة على الفائتة، أو كان جاهلاً لا يعلم فإن صلاته صحيحة، لأن هذا عذر له.وبهذه المناسبة أود أن أقول: إن الصلوات بالنسبة للقضاء على
__________
(1) تقدم تخريجه ص 16.
(2) تقدم تخريجه ص 16.(12/224)
ثلاثة أقسام:
القسم الأول: يقضي متى زال العذر، أي عذر التأخير وهي الصلوات الخمس، فإنه متى زال العذر بالتأخير وجب قضاؤها.
القسم الثاني: إذا فات لا يقضى وإنما يقضى بدله، وهو صلاة الجمعة، إذا جاء بعد رفع الإمام من الركعة الثانية فإنه في هذه الحال يصلي ظهراً، فيدخل مع الإمام بنية الظهر، وكذلك من جاء بعد تسليم الإمام فإنه يصلي ظهراً، وأما من أدرك الركوع من الركعة الثانية فإنه يصلي جمعة، أي يصلي ركعة بعدها إذا سلم الإمام، وهذه يجهلها كثير من الناس، فإن بعض الناس يأتي يوم الجمعة والإمام قد رفع من الركعة الثانية، ثم يصلي ركعتين على أنها جمعة وهذا خطأ، بل إذا جاء بعد رفعه من الركعة الثانية فإنه لم يدرك من الجمعة شيئاً فعليه أن يصلي ظهراً، لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة)) (1) . ومفهومه أن من أدرك أقل فإنه لم يدرك الصلاة، والجمعة تقضى ظهراً، ولهذا يجب على النساء في البيوت وعلى المرضى الذين لا يأتون الجمعة، يجب عليهم أن يصلوا ظهراً ولا يصلوا جمعة، فإن صلوا جمعة في هذه الحال فإن صلاتهم باطلة ومردودة.
القسم الثالث:صلاة إذا فاتت لا تقضى إلا في نظير وقتها وهي صلاة العيد إذا لم يعلم بها إلا بعد زوال الشمس، فإن أهل العلم يقولون: يصلونها من اليوم التالي من نظير وقتها.
إذن فالقضاء على ثلاثة أقسام:
الأول: ما يقضى من حين زوال العذر، وهي الصلوات الخمس.
__________
(1) تقدم تخريجه ص 147.(12/225)
كذلك الوتر، وشبهه من السنن المؤقتة.
الثاني: ما يقضى بدله وهي صلاة الجمعة فإذا فاتت تقضى ظهراً.
الثالث: ما يقضى هو نفسه ولكن في نظير وقته من اليوم التالي، وهو صلاة العيد إذا فاتت بالزوال فإنها تصلى في نظير وقتها من اليوم التالي. والله الموفق.
* * *
164) وسئل فضيلته: عن رجل فاتته صلاة الفجر لعذر شرعي ونسى أن يصليها وصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء ثم تذكر، فماذا يفعل؟ وهل صلاته للظهر والعصر والمغرب والعشاء صحيحة؟
فأجاب بقوله: إذا فاتت الإنسان صلاة الصبح لعذر شرعي ونسى أن يصليها، وصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم ذكر أنه لم يصل صلاة الفجر، فإنه يؤدي صلاة الصبح ولا حرج عليه، وصلاته للظهر والعصر والمغرب والعشاء صحيحة، لأنه ترك الترتيب ناسياً، والإنسان إذا ترك الترتيب ناسياً فصلاته صحيحة.
* * *
165) سئل فضيلة الشيخ: أعلى الله درجته - عمن نسي صلاة أو نام عنها ولم يذكر أو يستيقظ إلا بعد صلاة الفجر أو بعد العصر فهل يقضيها في هذين الوقتين؟
الجواب: من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، فإذا نام الإنسان عن الفريضة أو صلى محدثاً ناسياً أو جاهلاً ثم ذكر ذلك بعد صلاة الفجر أو بعد صلاة العصر فإنه يقضيها لعموم الحديث الآنف الذكر.(12/226)
أما إذا تركها متعمداً حتى خرج وقتها فإن القول الراجح أنها لا تقضي لأن ذلك لا يفيد.
وليعلم أن العلماء اختلفوا فيما إذا وجد سبب صلاة النافلة في وقت النهي هل يجوز فعلها أم لا؟ والصحيح أنه يجوز فعل ذوات الأسباب في الأسباب في أوقات النهي، فإذا دخلت المسجد بعد صلاة الفجر فصل ركعتين، وإذا دخلت المسجد بعد صلاة العصر فصل ركعتين، وهكذا كل نفل وجد سببه في أوقات النهي فإنه يفعل ولا نهي عنه، هذا هو القول الراجح من؟ أقوال أهل العلم، ويكون النهي عن الصلاة في أوقات النهي مخصوصاً بالنوافل المطلقة التي ليس لها سبب، ووجه ترجيح هذا القول أن صلاة ذوات الأسباب جاءت عامة مقيدة بأسبابها فمتي وجد السبب مخصصة لعموم النهي، كما أن في بعض أحاديث النهي ما يدل على أن ذوات الأسباب لا تدخل فيه حيث جاء في بعض ألفاظه: " لا تتحروا الصلاة " (1) . وهذا يدل على أن ما فعل لسبب فلا بأس به لأن ذلك ليس تحرياً للصلاة في هذه الأوقات.
* * *
166) سئل الشيخ حفظه الله تعالى: هناك جماعة من الناس عندهم عادة في رمضان وهي صلاتهم الفروض الخمسة بعد صلاة آخر جمعة ويقولون إنهاء قضاء عن أي فرض من هذه الفروض لم يصله الإنسان أو نسيه في رمضان فما حكم هذه الصلاة؟
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب مواقيت الصلاة / باب لا يتحرى الصلاة قبل غروب الشمس.(12/227)
أفتونا مأجورين.
فأجاب فضيلته بقوله: الحكم في هذه الصلاة أنها من البدع، وليس لها أصل في الشريعة الإسلامية، وهي لا تزيد الإنسان من ربه إلا بعداً، لأن رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: " كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار " (1) . فالبدع وإن استحسنها مبتدعوها ورأوها حسنة في نفوسهم فإنها سيئة عند الله عز وجل لأن نبيه صلي الله عليه وسلم يقول: " كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار ". وهذه الصلوات الخمس التي يقضيها الإنسان في آخر جمعة من رمضان لا أصل لها في الشرع، ثم إننا نقول هل لم يخل هذا الإنسان إلا في خمس صلوات فقط ربما أنه أخل في عدة أيام لا في عدة صلوات، والنهم أن الإنسان ما علم أنه مخل فيه فعليه قضاءه متي علم ذلك لقوله صلي الله عليه وسلم " من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها " (2) . وأما أن الإنسان يفعل هذه الصلوات الخمس احتياطاً - كما يزعمون - فإن هذا منكر ولا يجوز.
* * *
فصل
قال فضيلة لشيخ - جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير جزاء -:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام علي نبينا محمد صلي الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فأن الوقت من أهم شروط الصلاة، لقول الله سبحانه:
(
__________
(1) أخرجه مسلم: كتاب الجمعة / باب تخفيف الصلاة والخطبة
(2) تقدم تخرجه ص 16(12/228)
إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً) (103) (1) . وإذا كانت الصلوات خمساً فأوقاتها خمسة أو ثلاثة، خمسة لغير أهل الأعذار، وثلاثة لأهل الأعذار، الذين يجوز لهم الجمع، فالظهر والعصر يكون وقتهما وقتاً واحداً إذا جاز الجمع، والمغرب والعشاء يكون وقتهما وقتاً واحداً إذا جاز الجمع.
والفجر وقت واحد ولهذا فصلها الله عز وجل:) أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) (2) ولم يقل لدلوك الشمس إلي طلوع الشمس، بل قال إلي (إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ) وغسق الليل يكون عند منتصفه، لأن أشد ما يكون ظلمة في الليل منتصف الليل، لأن منتصف الليل هو أبعد ما تكون الشمس عن النقطة التي فيها هذا المنتصف.
ولهذا كان القول الراجح أن الأوقات خمسة كما يلي:
أولاً: الفجر من طلوع الفجر الثاني وهو البياض المعترض في الأفق إلي أن تطلع الشمس.
وهنا أنبه فأقول إن التقويم – تقويم أم القرى- فيه تقديم خمس دقائق في آذان الفجر على مدار السنة، فالذي يصلي أول ما يؤذن يعتبر صلى قبل الوقت، وهذا شئ اختبرناه في الحساب الفلكي، واختبرناه أيضاً في الرؤية.
فلذلك لا يعتمد هذا بالنسبة لأذان الفجر لأنه مقدم وهذه مسألة خطرة جداً، لو تكبر للإحرام فقط قبل أن يدخل الوقت ما صحت صلاتك فريضة، لكن التقاويم الأخرى الفلكية التي بالحساب بينها
__________
(1) سورة النساء، الآية: 103
(2) سورة الإسراء، الآية: 78(12/229)
وبين هذا التقويم خمس دقائق.
وعلى كل حال وقت صلاة الفجر من طلوع الفجر الثاني إلي طلوع الشمس.
ثانياً: الظهر من زوال الشمس إلي أن يصير ظل كل شئ مثله لكن بعد أن تخصم ظل الزوال، لأن الشمس خصوصاً في أيام الشتاء يكون لها ظل نحو الشمال، هذا ليس بعبرة بل العبرة أنك تنظر الظل ما دام ينقص فالشمس لم تزل، فإذا بدأ يزيد أدني زيادة فإن الشمس قد زالت،
واجعل علامة على ابتداء زيادة الظل فإذا صار ظل الشيء كطوله خرج وقت الظهر ودخل وقت العصر
ثالثاً: وقت العصر إلي أن تصفر الشمس والضرورة إلي غروبها.
رابعاً: وقت المغرب من غروب الشمس إلي مغيب الشفق الأحمر وهو يختلف أحياناً يكون بين الغروب وبين مغيب الشفق ساعة وربع وأحياناً يكون ساعة واثنان وثلاثون دقيقة.
خامساً: وقت العشاء من خروج وقت المغرب إلي منتصف الليل، والمعني: أنك تقدر ما بين غروب الشمس وطلوع الفجر ثم تنصفه، فالنصف هو منتهى صلاة العشاء.
ويترتب على هذا فائدة عظيمة:
لو طهرت المرأة في الثلث الأخير من الليل فليس عليها صلاة العشاء ولا المغرب لأنها طهرت بعد الوقت.
وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: " وقت العشاء إلي نصف(12/230)
الليل " (1) ، ولم يثبت عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديث يدل على أن وقت العشاء يمتد إلي طلوع الفجر أبداً.
ولهذا كان القول الراجح أن وقت العشاء إلي نصف الليل، والآية الكريمة تدل على هذا لأنه فصل الفجر عن الأوقات الأربعة: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) أي زوالها (إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ) جمع الله بينها لأنه ليس هناك بينها فاصل أما الفجر فقال: (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً (78)) (2) فالفجر لا
تتصل بصلاة لا قبلها ولا بعدها، لأن بينها وبين الظهر نصف النهار الأول، وبينها وبين صلاة العشاء نصف الليل الآخر.
واعلم أن الصلاة قبل دخول الوقت لا تقبل حتى لو كبر تكبيرة الإحرام ثم دخل الوقت بعد التكبيرة مباشرة فإنها لا تقبل على أنها فريضة، لأن الشيء المؤقت بوقت لا يصح قبل وقته، كما لو أراد الإنسان أن يصوم قبل رمضان بيوم واحد فإنه لا يجزئه عن رمضان، كذلك الصلاة لكن إن كان جاهلاً لا يدري صارت نافلة ووجب عليه إعادتها فريضة.
أما إذا صلاها بعد الوقت فلا يخلو من حالين:
الحال الأولى: أن يكون معذوراً بجهل أو نسيان أو نوم فهذا تقبل منه.
الجهل: مثل أن لا يعرف أن الوقت قد دخل وقد خرج، فهذا لا شئ عليه، متي علم فإنه يصلي الصلاة وتقبل منه لأنه معذور.
__________
(1) تقدم تخريجه ص 208
(2) سورة الإسراء، الآية:78.(12/231)
والنسيان: مثل أن يكون الإنسان اشتغل بشغل عظيم أشغله وألهاه حتى خرج الوقت فإن هذا يصليها ولو بعد خروج الوقت.
النوم كذلك: فلو أن شخصاً نام على أنه سيقوم عند الآذان ولكن صار نومه ثقيلاً فلم يسمع الأذان ولا المنبه الذي وضعه عند رأسه حتى خرج الوقت فإنه يصلي إذا استيقظ لقول الرسول عليه الصلاة والسلام: " من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك " (1) .
الحال الثانية: أن يؤخر الصلاة عن وقتها عنداً من غير عذر فاتفق العلماء على أنه آثم وعاصي لله ورسوله.
وقال بعض العلماء: أنه يكفر بذلك كفراً مخرجاً عن الملة نسأل الله العافية.
ولكن الصحيح أنه لا يكفر وهذا قول الجمهور، ولكن اختلفوا فيما لو صلاها في هذه الحال، أي بعد أن أخرجها عن وقتها عمداً بلا عذر ثم صلى:
فمنهم من قال: أنها تقبل صلاته لأنه عاد إلي رشده وصوابه، ولأنه إذا كان الناسي تقبل منه الصلاة بعد الوقت فالمتعمد كذلك.
ولكن القول الصحيح الذي تؤيده الأدلة أنها لا تقبل منه إذا أخرها عن وقتها عمداً ولو صلى ألف مرة وذلك لقول النبي عليه الصلاة والسلام: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " (2) . يعني مردود غير مقبول عند الله، وإذا كان مردوداً فلن يقبل، وهذا الذي أخرج الصلاة عن وقتها عمداً إذا صلاها على غير أمر الله ورسوله.
__________
(1) تقدم تخريجه ص 16.
(2) تقدم تخريجه ص 21.(12/232)
وأما المعذور فهو معذور، ولهذا أمره الشارع أن يصليها إذا زال عذره، أما من ليس بمعذور فإنه لو بقي يصلي كل دهره فإنها لا تقبل منه هذه الصلاة التي أخرجها عن وقتها بلا عذر فعليه أن يتوب إلي الله، ويستقيم ويكثر من العمل الصالح والاستغفار ومن تاب تاب الله عليه.
والحمد لله رب العالمين، وصلي الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلي يوم الدين.
* * *(12/233)
رسالة في مواقيت الصلاة
أن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له،وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله. صلي الله عليه وسلم، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان، وسلم تسليماً.
أما بعد: فإن الله تعالى فرض على عباده خمس صلوات في اليوم والليلة موقتة بأوقات اقتضتها حكمة الله تعالي ليكون العبد على صلة بربه تعالي في هذه الصلوات مدة الأوقات كلها، فهي للقلب بمنزلة الماء للشجرة تسقى به وقتاً فوقتاً لا دفعة واحدة ثم يقطع عنها.
ومن الحكمة في تفريق هذه الصلوات في تلك الأوقات أن لا يحصل الملل والثقل على العبد إذا أداها كلها في وقت واحد، فتبارك الله تعالي أحكم الحاكمين.
وهذه رسالة موجزة نتكلم فيها على أوقات الصلوات في الفصول التالية:
الفصل الأول: في بيات المواقيت.
الفصل الثاني: في بيان وجوب فعل الصلاة في وقتها، وحكم تقديمها في أوله أو تأخيرها عنه.
الفصل الثالث: فيما يدرك به الوقت وما يترتب على ذلك.
الفصل الرابع: في حكم الجمع بين الصلاتين في وقت إحداهما.(12/234)
وقد مشينا فيها على ما تقضيه دلالة الكتاب والسنة، وأسندنا المسائل إلي أدلتها ليكون المؤمن سائراً على بصيرة ويزداد ثقة وطمأنينة.
والله المسئول المرجو الإجابة أن يثبتا على ذلك وأن يجعل فيه الخير والبركة للمسلمين، أنه جواد كريم.(12/235)
الفصل الأول
في بيان المواقيت
قال الله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ 44) (1) .
وقال تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (89) (2) .
فما من شئ يحتاج العباد في دينهم أو دنياهم إلي معرفة حكمه إلا بينه الله تعالى في كتابه أو سنة رسوله صلي الله عليه وسلم، فإن السنة تبين القرآن وتفسره وتخصص عمومه وتقيد مطلقه، كما أن القرآن يبين لعضه بعضاً ويفسره ويخص عمومه ويقيد مطلقه، والكل عند الله تعالى، كما قال النبي صلي الله عليه وسلم " ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه " (3) . رواه أحمد وأبو داود وسنده صحيح.
ومن أفراد هذه القاعدة الكلية العامة بيان أوقات الصلوات الخمس أوكد الأعمال البدنية فرضية وأحبها إلي الله عز وجل، فقد بين الله تعالى هذه الأوقات في كتابه وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم بياناً شافياً ولله الحمد.
أما في كتاب الله فقد قال الله تعالى:) أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً (78) (4) .
__________
(1) سورة النحل، الآية: 44
(2) سورة النحل، الآية:89
(3) أخرجه الإمام أحمد 4/131، وأبو داود: كتاب السنة / باب في لزوم السنة (4604) .
(4) سورة الإسراء، الآية:78.(12/236)
فأمر الله تعالى نبيه صلي الله عليه وسلم – والأمر له أمر لأمته معه – أن يقيم الصلاة لدلوك الشمس أي من زوالها عند منتصف النهار إلي غسق الليل وهو اشتداد ظلمته، وذلك عند منتصفه ثم فصل فقال: (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) أي صلاة الفجر وعبر عنها بالقرآن لأنه يطول فيها.
واشتمل قوله تعالى: (لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ) . أوقات صلوات أربع هي: الظهر والعصر، وهما صلاتان نهاريتان في النصف الأخير من النهار.
والمغرب والعشاء، وهما صلاتان ليليتان في النصف الأول من الليل.
أما وقت الفجر ففصله: (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) وعلم تعيين الوقت من إضافته إلي الفجر وهو تبين ضوء الشمس في الأفق.
وإنما جمع الله تعالى الأوقات الأربع دون فصل لأن أوقاتها متصل بعضها ببعض فلا يخرج وقت الصلاة منها إلا بدخول التالية،
وفصل وقت الفجر لأنه لا يتصل بوقت قبله ولا بعده فإن بينه وبين وقت صلاة العشاء نصف الليل الأخير، وبينه وبين صلاة الظهر نصف النهار الأول كما يتبين ذلك من السنة إن شاء الله تعالى.
وأما في سنة رسول الله صلي الله عليه وسلم ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – أن النبي صلي الله عليه وسلم قال " وقت الظهر إذا زالت الشمس وكان ظل الرجل كطوله ما لن يحضر وقت العصر، ووقت العصر ما لم تصفر الشمس،ووقت صلاة المغرب ما لم يغيب الشفق، ووقت العشاء إلي نصف الليل الأوسط، ووقت صلاة الصبح من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس " (1) وفي رواية: وقت العشاء إلي نصف
__________
(1) تقدم تخريجه ص 208(12/237)
الليل " ولم يقيده بالأوسط.
وله من حديث أبي موسى الأشعري- رضي الله عنه – عن الرسول صلي الله عليه وسلم أنه أتاه سائل يسأله عن مواقيت الصلاة فلم يرد عليه شيئاً قال: فأقام الفجر حين انشق الفجر والناس لا يكاد يعرف بعضهم بعضاً ثم أمره (يعني أمر بلال كما في رواية النسائي) فأقام بالظهر حين زالت الشمس.
والقائل يقول: قد انتصف النهار وهو كان أعلم منهم ثم أمره فأقام بالعصر والشمس مرتفعة ثم أمره فأقام بالمغرب حين وقعت (وفي رواية النسائي غربت) ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق، ثم الفجر من الغد حتى انصرف منها والقائل يقول: طلعت الشمس أو كادت. ثم أخر الظهر حتى كان قريباً من وقت العصر بالأمس، ثم أخر العصر حتى انصرف منها والقائل يقول: قد احمرت الشمس ثم أخر المغرب حتى سقوط الشفق، ثم أخر العشاء حتى ثلث الليل الأول، ثم أصبح فدعا السائل فقال: " الوقت بين هذين " (1)
فاتضح بهذه الآية الكريمة والسنة النبوية القولية والفعلية بيان أوقات الصلوات الخمس بياناً كافياً على النحو التالي:
وقت صلاة الظهر من زوال الشمس- وهو تجاوزها وسط السماء إلي أن يصير ظل كل شئ مثله ابتداء من الظل الذي زالت عليه الشمس.
وقت صلاة العصر من كون ظل الشيء مثله إلي أن تصفر الشمس أو تحمر.
ويمتد وقت الضرورة إلي الغروب لحديث إبي هريرة – رضي الله
__________
(1) أخرجه مسلم: كتاب المساجد /باب أوقات الصلوات الخمس.(12/238)
عنه – أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: " من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر " (1) .متفق عليه
وقت صلاة المغرب من غروب الشمس إلي مغيب الشفق وهو الحمرة.
وقت صلاة العشاء الآخرة من مغيب الشفق إلي نصف الليل.
ولا يمتد وقتها ألي طلوع الفجر لنه خلاف ظاهر القرآن وصريح السنة حيث قال الله تعالي (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ) (2) ولم يقل إلي طلوع الفجر. وصرحت السنة بأن وقت صلاة العشاء ينتهي بنصف الليل كما رأيت في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
وقت صلاة الفجر من طلوع الفجر الثاني- وهو البياض المعترض في الأفق الشرقي الذي ليس بعده ظلمة – إلي طلوع الشمس.
وهذه المواقيت المحددة إنما تكون في مكان يتخلله الليل والنهار في أربع وعشرين ساعة سواء تساوى الليل والنهار أم زاد أحدهما على الآخر زيادة قليلة أو كثيرة.
أما المكان الذي لا يتخلله الليل والنهار في أربع وعشرون ساعة فلا يخلو: إما أن يكون ذلك مطرداً في سائر العام، أو في أيام قليلة منه.
فإن كان في أيام قليلة منه مثل أن يكون المكان يتخلله الليل
__________
(1) تقدم تخريجه ص 106.
(2) سورة الإسراء، الآية 78.(12/239)
والنهار في أربع عشرون ساعة طيلة فصول السنة، لكن في بعض الفصول يكون فيه أربعاً وعشرين ساعة أو أكثر والنهار كذلك، ففي هذه الحالة إما أن يكون في الأفق ظاهرة حية يمكن بها تحديد الوقت كابتداء زيادة النور مثلاً أو انطماسه بالكلية، فيعلق الحكم بتلك الظاهرة، وإما أن لا يكون فيه ذلك فتقدر أوقات الصلاة بقدرها في آخر يوم قبل استمرار الليل في الأربع والعشرين ساعة أو النهار.
فإذا قدرنا أن الليل كان قبل أن يستمر عشرين ساعة، والنهار فيما بقي من الأربع والعشرين، جعلنا الليل المستمر عشرين ساعة فقط.
والباقي نهاراً واتبعنا فيه ما سبق في تحدي أوقات الصلوات.
إما إذا كان المكان لا يتخلله الليل والنهار في أربع وعشرين ساعة طيلة العام في الفصول كلها فإنه يحدد لأوقات الصلاة بقدرها لما رواه مسلم من حديث النواس بن سمعان – رضي الله عنه – أن النبي صلي الله عليه وسلم ذكر الدجال الذي يكون في آخر الزمان فسألوه عن لبثه في الأرض فقال: " أربعون يوماً،يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم "
قالوا: يا رسول الله فذلك اليوم كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟
قال: " لا، اقدروا له قدره " (1)
فإذا ثبت أن المكان الذي لا يتخلله الليل والنهار يقدر له قدره فماذا نقدره؟
يري بعض العلماء، أنه يقدر بالزمن المعتدل، فيقدر الليل باثنتي عشرة ساعة وكذلك النهار، لأنه لما تعذر اعتبار هذا المكان بنفسه اعتبر بالمكان المتوسط، كالمستحاضة التي ليس لها عادة ولا تمييز.
__________
(1) أخرجه مسلم: كتاب الفتنه وأشراط الساعة /باب ذكر الدجال وصفته وما معه.(12/240)
ويري آخرون أنه يقدر بأقرب البلاد إلي هذا المكان مما يحدث فيه ليل ونهار في أثناء العام، لأنه لما تعذر اعتباره بنفسه اعتبر بأقرب الأماكن شبهاً به وهو أقرب البلاد إليه التي يتخللها الليل والنهار في أربع وعشرين ساعة.
وهذا القول أرجح لأنه أقوى تعليلاً وأقرب إلي الواقع. والله أعلم.(12/241)
الفصل الثاني
وجوب فعل الصلاة في وقتها وحكم تقديمها في أوله
أو تأخيرها عنه
يجب فعل الصلاة جميعها في وقتها المحدد لها لقوله تعالى: (إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً) (:103) (1) .أي فرضاً ذا وقت. ولقوله تعالي " (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً) (78) . (2) . والأمر للوجوب.
وعن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما - أن النبي صلي الله عليه وسلم ذكر يوماً فقال " من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة،وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف " (3) . قال المنذري: رواه أحمد بإسناد جيد.
فلا يجوز للمسلم أن يقدم الصلاة كلها أو بعضها قبل دخول وقتها، لأن ذلك من تعدي حدود الله تعالى والاستهزاء بآياته.
فإن فعل ذلك معذوراً بجهل أو نسيان أو غفلة فلا إثم عليه، وله أجر ما عمل، وتجب عليه الصلاة إذا دخل وقتها، لأن دخول الوقت هو وقت الأمر فإذا أتى بها قبله لم تقبل منه ولن تبرأ بها ذمته لقول النبي
__________
(1) سورة النساء، الآية: 103
(2) سورة النساء، الآية: 78.
(3) تقدم تحريجه ص 50.(12/242)
صلي الله عليه وسلم " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " (1) . أي: مردود. رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها، ولا يجوز للمسلم أن يؤخر الصلاة وقتها، لأن ذلك من تعدي حدود الله تعالي والاستهزاء بآياته، فإن فعل ذلك بدون عذر فهو آثم وصلاته مردودة غير مقبولة ولا مبرئه لذمته، لحديث عائشة السابق، وعليه أن يتوب إلي الله تعالى ويصلح عمله فيما استقبل من حياته.
وأن أخر الصلاة عن وقتها لعذر من نوم أو نسيان، أوشغل ظن أن يبيح له تأخيرها عن وقتها فإنه يصليها متى زال ذلك العذر لحديث أنس بن مالك – رضي الله عنه – أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: " من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك " (2) . وفي رواية: " من نسي صلاة أو نام عنها ".متفق عليه.
وإذا تعددت الصلوات التي فاتته بعذر فإنه يصليها مرتبة من حين زوال عذره ولا يؤخرها إلي نظيرها من الأيام التالية لحديث جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما – أن النبي صلي الله عليه وسلم في غزوة الخندق توضأ بعدما غربت الشمس فصلى العصر ثم صلى بعدها المغرب (3) . متفق عليه.
وعن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال: حسبنا يوم الخندق عن الصلاة حتى كان بعد المغرب بهوي من الليل قال: فدعا رسول الله صلي الله عليه وسلم بلالاً فأقام الظهر فصلاها فأحسن صلاتها كما كان يصليها في وقتها ثم أمره فأقام العصر فصلاها فأحسن صلاتها كما كان يصليها في وقتها
__________
(1) تقدم تخريجه ص 21.
(2) تقد تخريجه ص 16.
(3) تقدم تخريجه ص 21.(12/243)
ثم أمره فأقام الصلاة للمغرب فصلاها كذلك. (1) . رواه أحمد.
وفي هذا الحديث دليل على أن الفائتة تصلى كما تصلى في الوقت ويؤيده حديث أبي قتادة – رضي الله عنه – في قصة نومهم مع النبي صلي الله عليه وسلم في سفر عن صلاة الفجر حتى طلعت الشمس قال: ثم أذن بلال بالصلاة فصلى رسول الله صلي الله عليه وسلم ركعتين، ثم صلى الغداة فصنع كما كان يصنع كل يوم (2) .الحديث رواه مسلم. وعلى هذا فإذا صلى بالنهار صلاة فائتة من صلاة الليل جهر فيها بالقراءة، وإذا صلى في الليل فائتة من صلاة النهار أسر فيها بالقراءة كما يدل على الأول حديث أبي قتادة، وعلى الثاني حديث أبي سعيد.
وإذا صلى الفوائت غير مرتبة لعذر فلا حرج عليه، فإذا جهل أن عليه صلاة فائتة فصلى ما بعدها ثم علم بالفائتة صلاها ولن يعد التي بعدها، وإذا نسي الصلاة الفائتة فصلى ما بعدها ثم ذكر الفائتة صلاها ولم يعد التي بعدها لقوله تعالى: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) (3) .
قال أهل العلم: وإذا كان عليه فائتة فذكرها أوعلم بها عند خروج وقت الحاضرة صلى الحاضرة أولاً، ثم صلى الفائتة لئلا يخرج وقت الحاضرة قبل أن يصليها فتكون الصلاتين كلتهما فائتتين.
والأفضل تقديم الصلاة في أول وقتها، لأن هذا هو فعل النبي صلي الله عليه وسلم وهو أسبق إلي الخير، وأسرع في إبراء الذمة.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد 3/25.
(2) أخرجه مسلم: كتاب المساجد /باب قضاء الصلاة الفائتة ...
(3) سورة البقرة، الآية:286.(12/244)
ففي صحيح البخاري عن أبي برزة الأسلمي- رضي الله عنه – أنه سئل كيف كان النبي صلي الله عليه وسلم يصلى المكتوبة؟ قال: كان يصلى الهجير التي تدعونها الأولى حين تدحض الشمس. وفي رواية: إذا زالت الشمس، ويصلي العصر ثم يرجع أحدنا إلي رحله في أقصى المدينة والشمس حية.
ونسيت ما قال في المغرب – لكن روى مسلم من حديث سلمة بن الأكوع أن النبي صلي الله عليه وسلم كان يصلي المغرب إذا غربت الشمس وتوارت بالحجاب (1) ، ومن حديث رافع بن خديج: كنا نصلي المغرب مع رسول الله صلي الله عليه وسلم فينصرف أحدنا وأنه ليبصر مواقع نبله (2) . وكان يستحب أن يؤخر من العشاء التي تدعونها العتمة وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها وكان ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه ويقرأ بالستين إلي المئة (3) .
وله من حديث أنس: كان النبي صلي الله عليه وسلم يصلي العصر والشمس مرتفعة حية فيذهب الذاهب إلي العوالي فيأتيهم والشمس مرتفعة وبعض العوالي من المدينة على أربعة أميال أو نحوه. زفي رواية: كنا نصلي العصر ثم يذهب الذاهب منا إلي قباء فيأتيهم والشمس مرتفعة (4)
__________
(1) أخرجه البخاري:كتاب مواقيت الصلاة / باب وقت العصر، ومسلم: كتاب المساجد /باب استحباب التبكير بالعصر.
(2) أخرجه مسلم: كتاب المساجد/باب بيان أن أول وقت المغرب عند غروب الشمس.
(3) أخرجه البخاري: كتاب مواقيت الصلاة /باب وقت المغرب، ومسلم: كتاب المساجد / باب بيان أن أول وقت المغرب عند غروب الشمس.
(4) أخرجه البخاري: كتاب مواقيت الصلاة / باب وقت العصر.(12/245)
ولهما من حديث جابر- رضي الله عنه – أن النبي صلي الله عليه وسلم يصلي صلاة العشاء أحياناً وأحياناً، إذا رآهم اجتمعوا عجل، وإذا رآهم أبطؤوا أخر، والصبح كانوا أو كان النبي صلي الله عليه وسلم يصليها بغلس (1) .
وفي صحيح البخاري عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: كن نساء المؤمنات يشهدن مع رسول الله صلي الله عليه وسلم صلاة الفجر متلفعات بمروطهن ثم ينقلبن إلي بيوتهن حين يقضين الصلاة لا يعرفهن أحد من الغلس (2) .
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – قال: مكثنا ذات ليلة ننتظر رسول الله صلي الله عليه وسلم لصلاة العشاء الآخرة فخرج إلينا حين ذهب ثلث الليل أو بعده فذكر الحديث وفيه: " ولولا أن يثقل على أنتي لصليت بهم هذه الساعة، ثم أمر المؤذن فأقام الصلاة وصلي " (3) .
وفي صحيح البخاري عن أبي ذر الغفاري – رضي الله عنه- قال كنا مع النبي صلي الله عليه وسلم في سفر فأراد المؤذن أن يؤذن للظهر فقال النبي صلي الله عليه وسلم " أبرد " ثم أراد أن يؤذن فقال له " أبرد " حتى رأينا فيء التلول ". وفي رواية حتى ساوى الظل التلول. فقال النبي صلي الله عليه وسلم " إن شدة الحر من فيح جهنم، فإذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة " (4) .
__________
(1) تقدم تخريجه ص 190.
(2) أخرجه البخاري: كتاب مواقيت الصلاة / باب وقت الفجر.
(3) أخرجه مسلم: كتاب المساجد /باب وقت العشاء وتأخيرها.
(4) تقدم تخريجه ص 205.(12/246)
ففي هذه الأحاديث دليل على أن السنة المبادرة بالصلاة في أول وقتها سوى صلاتين:
الأولى: صلاة الظهر في شدة الحر فتؤخر حتى يبرد الوقت وتمتد الأفياء.
الثانية: صلاة العشاء الآخرة فتؤخر إلي ما بعد ثلث الليل إلا أن يحصل في ذلك مشقة فيراعى حال المأمومين إذا رآهم اجتمعوا عجل وإذا رآهم أبطؤوا أخر.(12/247)
الفصل الثالث
فيما يدرك به الوقت وما يترتب على ذلك
يدرك الوقت بإدراك ركعة،بمعني أن الإنسان إذا أدرك من وقت الصلاة مقدار ركعة فقد أدرك تلك الصلاة لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: " من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة " (1) . متفق عليه وفي رواية: " من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر " (2) .
وفي رواية البخاري: " إذا أدرك أحدكم سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فليتم صلاته، وإذا أدرك سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته " (3) .فدلت هذه الروايات بمنطوقها على أن من أدرك ركعة من الوقت بسجدتيها فقد أدرك الوقت، ودلت بمفهومها على أن من أدرك أقل من ركعة لم يكن مدركاً للوقت.
ويترتب على هذا الإدراك أمران:
أحدهما: إنه إذا أدرك من الصلاة ركعة في الوقت صارت الصلاة كلها أداء، ولكن لا يعني ذلك أنه يجوز له أن يؤخر بعض الصلاة
__________
(1) تقدم تخريجه ص 147.
(2) تقدم تخريجه ص 106.
(3) أخرجه البخاري: كتاب مواقيت الصلاة /باب من أدرك ركعة من العصر قبل المغرب.(12/248)
عن الوقت، لأنه يجب فعل الصلاة جميعها في الوقت.
وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: سمعت النبي صلي الله عليه وسلم يقول:" تلك صلاة المنافق يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقرها أربعاً لا يذكر فيها إلا قليلاً " (1) .
الأمر الثاني: إنه إذا أدرك من وقت الصلاة مقدار ركعة وجبت عليه سواء كان ذلك من أول الوقت أم من آخره.
مثال ذلك من أوله: أن تحيض امرأة بعد غروب الشمس بمقدار ركعة فأكثر ولم تصل المغرب، فقد وجبت عليها صلاة المغرب حينئذ فيجب عليها قضاؤها إذا طهرت.
ومثال ذلك آخره: أن تطهر امرأة من الحيض قبل طلوع الشمس بمقدار ركعة فأكثر، فتجب عليها صلاة الفجر.
فإذا حاضت بعد غروب الشمس بأقل من مقدار ركعة أو طهرت قبيل طلوع الشمس بأقل من ركعة لم تجب عليها صلاة المغرب في المسألة الأولي ولا صلاة الفجر في المسألة الثانية،لأن الإدراك فيها أقل من مقدار ركعة.
__________
(1) أخرجه مسلم: كتاب المساجد /باب استحباب التبكير بالعصر(12/249)
الفصل الرابع
في حكم الجمع بين الصلاتين في وقت إحداهما
سبق في الفصل الثاني بيان وجوب فعل كل صلاة في وقتها المحدد لها وهذا هو الأصل، لكن إذا وجدت حالات تستدعي الجمع بين الصلاتين أبيح الجمع، بل كان مطلوباً ومحبوباً 'لي الله تعالى لموافقته لقاعدة الدين الإسلامي التي أشار الله تعالى إليها بقوله " (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (1) .
وقوله (ِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (2) .
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلي الله عليه وسلم قال " إن الدين يسر ولن يشاد أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا " (3) .
وفي الصحيحين عن أبي موسى أن النبي صلي الله عليه وسلم قال حين بعثه ومعاذاً إلي اليمن: " يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا " (4) .
وفي رواية لمسلم عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: كان النبي
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 185.
(2) سورة الحج، الآية: 78.
(3) تقدم تخريجه ص 217.
(4) أخرجه البخاري: كتاب المغازي /باب بعث أبي موسى ومعاذ إلي اليمن قبل حجة الوداع، ومسلم: كتاب الجهاد والسير /باب في الأمر بالتيسير وترك التنفير.(12/250)
صلي الله عليه وسلم إذا بعث أحداً من أصحابه في بعض أمره قال: " بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا " (1) .وفيهما عن أنس – رضي الله عنه – أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: " يسروا ولا تعسروا وبشروا (وفي رواية: سكنوا) ولا تنفروا " (2) .
إذا تبين هذا فقد وردت السنة بالجمع بين الصلاتين: الظهر والعصر، أو المغرب والعشاء في وقت إحداهما في عدة مواضع:
الأول: في السفر سائراً أو نازلاً:
ففي صحيح البخاري عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: كان النبي صلي الله عليه وسلم يجمع بين صلاة المغرب والعشاء في السفر (3) .
وفي صحيح مسلم عنه قال: كان النبي صلي الله عليه وسلم إذا أراد أن يجمع بين الصلاتين في السفر أخر الظهر حتى يدخل أول العصر فيجمع بينهما (4) .
وفيه أيضاً عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أن النبي صلي الله عليه وسلم جمع بين الصلاتين في سفرة سافرها في غزوة تبوك، فجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء (5) .
وفيه عن معاذ بن جبل – رضي الله عنه – قال: خرجنا مع رسول الله صلي الله عليه وسلم في غزوة تبوك فكان يصلي الظهر والعصر جميعاً، والمغرب
__________
(1) أخرجه مسلم: كتاب الجهاد والسير/ باب الأمر بالتيسير وترك التنفير.
(2) أخرجه البخاري: كتاب الأدب /باب قول النبي صلي الله عليه وسلم " يسروا ولا تعسروا "، ومسلم: كتاب الجهاد والسير /باب في الأمر بالتيسير وترك التنفير.
(3) أخرجه البخاري: كتاب التقصير الصلاة / باب الجمع في السفر بين المغرب والعشاء.
(4) أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها / باب جواز الجمع بين الصلاتين في السفر.
(5) أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين / باب الجمع بين الصلاتين في الحضر.(12/251)
والعشاء جميعاً (1) .
وفي صحيح البخاري من حديث أبي جحيفة –رضي الله عنه – حين أتي النبي صلي الله عليه وسلم وهو في الأبطح بمكة في الهاجرة (أي وقت الظهر) قال: فخرج بلال فنادى بالصلاة، ثم دخل فأخرج فضل وضوء رسول الله صلي الله عليه وسلم فوقع الناس عليه يأخذون منه، ثم دخل فأخرج العنزة وخرج النبي صلي الله عليه وسلم (أي من قبة كان فيها أدم) كأني أنظر إلي بياض ساقيه فركز العنزة ثم صلى الظهر ركعتين والعصر ركعتين. (2) .
وظاهر هذه الأحاديث أنه كان يجمع بين الصلاتين وهو نازل، فإما أن يكون ذلك لبيان الجواز، أو أن ثمة حاجة إلي الجمع، لأن النبي صلي الله عليه وسلم لم يجمع في حجته حين كان نازلاً بمنى، وعلى هذا فنقول: الأفضل للمسافر النازل أن لا يجمع، وأن جمع فلا بأس إلا أن يكون في حاجة إلي الجمع إما لشدة تعبه ليستريح، أو لمشقة طلب الماء عليه لكل وقت ونحو ذلك فإن الأفضل له الجمع واتباع الرخصة.
وأما المسافر السائر فلأفضل له الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء – حسب الأيسر له – إما جمع تقديم يقد الثانية في وقت الأولي، وإما جمع تأخير يؤخر الأولي إلي وقت الثانية.
ففي الصحيحين عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: كان رسول الله صلي الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس – أي تزول – أخر الظهر إلي وقت العصر ثم نزل فجمع بينهما، فإذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل
__________
(1) أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين / باب الجمع بين الصلاتين في الحضر.
(2) أخرجه البخاري: كتاب الوضوء / باب استعمال فضل وضوء الناس.(12/252)
صلى الظهر ثم ركب (1) .
وذكر في فتح الباري أن إسحاق بن راهويه روى هذا الحديث عن شبابة فقال: كان إذا في سفر فزالت الشمس صلى الظهر والعصر جميعاً ثم ارتحل. قال: وأعل بتفرد إسحاق به شبابة، ثم تفرد جعفر الغريابي به عن إسحاق قال: وليس ذلك بقادح فإنهما إمامان حافظان (2) .
الثاني: عند الحاجة إلي الجمع بحيث يكون في تركه حرج ومشقة سواء كان ذلك في الحضر أم في السفر.
لما رواه مسلم عن ابن عباس – رضي الله عنهما- أن النبي صلي الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بالمدينة في غير خوف ولا مطر فقيل لم فعل ذلك؟ قال: " كي لا يحرج أمته " (3) .
وروي عن معاذ بن جبل – رضي الله عنه – قال: جمع رسول الله صلي الله عليه وسلم في غزوة تبوك بن الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، فقيل ما حمله على ذلك؟ قال: " أراد أن لا يحرج أمته " (4) .
ففي هذين الحديثين دليل على أنه كلما دعت الحاجة إلي لجمع بين الصلاتين وكان في تركه حرج ومشقة فهو جائز سواء كان ذلك في
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب تقصير الصلاة / باب يؤخر الظهر إلي العصر، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين / باب جواز الجمع بين الصلاتين في السفر.
(2) فتح الباري 2/679.
(3) تقدم تخريجه ص 34.
(4) أخرجه الإمام أحمد في " المسند " 5/ 237، وأبو داود: كتاب الصلاة / باب الجمع بين الصلاتين.(12/253)
حضر أو في سفر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " فالأحاديث كلها تدل على أنه جمع في الوقت الواحد لرفع الحرج عن أمته، فيباح الجمع إذا كان في تركه حرج قد رفعه الله عن الأمة، وذلك يدل على الجمع للمرض الذي يحرج صاحبه بتفريق الصلاة بطريق الأولى والأحرى، ويجمع من لا يمكنه إكمال الطهارة في الوقتين إلا بحرج كالمستحاضة وأمثال ذلك من الصور" اهـ. ونقل في الإنصاف عنه أي عن شيخ الإسلام ابن تيمية جواز الجمع لتحصيل الجماعة إذا كانت لا تحصل له لو صلى في الوقت، قلت: ودليل ذلك ظاهر من حديث ابن عباس حيث دل على جواز الجمع للمطر وما ذلك إلا لتحصيل الجماعة لأنه يمكن لكل واحد أن يصلي في الوقت منفرداً ويسلم من مشقة المطر بدون جمع.
الموضوع الثالث: الجمع في عرفة ومزدلفة أيام الحج:
ففي صحيح مسلم من حديث جابر –رضي الله عنه – في صفة حج النبي صلي الله عليه وسلم قال: فأجاز رسول الله صلي الله عليه وسلم حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له فأتي بطن الوادي فخطب الناس، قال: ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئاً (1) .
وفي الصحيحين من حديث أسامة بن زيد وكان رديف النبي صلي الله عليه وسلم من عرفة إلي المزدلفة قال: فنزل الشعب فبال ثم توضأ ولم يسبغ الوضوء فقلت له: الصلاة أمامك " فركب فلما جاء
__________
(1) أخرجه مسلم: كتاب الحج /باب حجة النبي صلي الله عليه وسلم(12/254)
المزدلفة نزل فتوضأ، فأسبغ الوضوء، ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله ثم أقيمت العشاء فصلاها ولم يصل بينهما شيئاً (1) .
وفي حديث جابر الذي رواه مسلم أنه صلى في المزدلفة المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين (2) .
ففي هذين الحديثين أن النبي صلي الله عليه وسلم جمع في عرفة بين الظهر والعصر جمع تقديم، وجمع في مزدلفة بين المغرب والعشاء جمع تأخير. وإنما أفردنا ذكرهما لأن العلماء اختلفوا في علة الجمع فيهما: فقيل: السفر وفيه نظر، لان النبي صلي الله عليه وسلم لم يجمع في منى قبل عرفة ولا حين رجع منها.
وقيل: النسك، وفيه أيضاً إذ لو كان كذلك لجمع النبي صلي الله عليه وسلم من حين أحرم، وقيل: المصلحة والحاجة وهو الأقرب فجمع عرفة لمصلحة طول زمن الوقوف والدعاء،ولأن الناس يتفرقون في الموقف فإن اجتمعوا للصلاة شق عليهم، وإن صلوا متفرقين فاتت مصلحة كثرة الجمع. أما في مزدلفة فهم أحوج إلي الجمع، لأن الناس يدفعون من عرفة بعد الغروب فلو حبسوا لصلاة المغرب فيها لصلوها من غير خشوع ولو أوقفوا لصلاتها في الطريق لكان ذلك أشق فكانت الحاجة داعية إلي تأخير المغرب لتجمع مع العشاء هناك.
وهذا عين الصواب والمصلحة لجمعه بين المحافظة على
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب الوضوء / باب الجمع بين الصلاتين بمزدلفة، ومسلم: كتاب الحج /باب الإفاضة من عرفات إلي المزدلفة.
(2) تقدم تخريجه ص 161.(12/255)
الخشوع في الصلاة ومراعاة أحوال العباد. ...
فسبحان الحكيم الرحيم، ونسأله تعالى أن يهب لنا من لدنه رحمة وحكمة إنه هو الوهاب،والحمد لله رب العالمين الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على نبينا محمد خير المخلوقات، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان مدى الأوقات.(12/256)
فصل
قال فضيلة الشيخ - جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيراً:
من أهم شروط الصلاة الطهارة من الحدث والنجس وقد ذكرها الله تعالى في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْه) (1) .
فالوضوء تطهير الأعضاء الأربعة: غسل الوجه ومنه المضمضة والاستنشاق، غسل اليدين إلي المرفقين، مسح الرأس ومنه الأذنان، وغسل الرجلين إلي الكعبين، هذا الوضوء وهذا هو الواجب فيه، أما الأكمل فهو أن تسمي الله، والتسمية على الوضوء سنة إن فعلها الإنسان فهو أكمل وأفضل، وإن تركها فوضوءه صحيح لاسيما إذا كان ناسياً، ثم اغسل كفيك ثلاث مرات، ثم تمضمض واستنشق ثلاث مرات بثلاث غرفات، أو بست غرفات يكون المضمضة ثلاثة غرفات والاستنشاق ثلاث غرفات، ثم اغسل وجهك طولاً من منابت الشعر إلي أسفل اللحية، وما استرسل من اللحية فإنه داخل غسل الوجه،ومن الأذن إلي الأذن عرضاً، يجب عليك أن تغسل كل ذلك لأنه داخل في الوجه، ويجب عليك بعد هذا أن تغسل اليدين من أطراف الأصابع إلي المرفقين، والمرفقان داخلان في الغسل فيجب عليك أن تغسل
__________
(1) سورة المائدة، الآية:6.(12/257)
المرفقين حتى تشرع في العضدين، لأن أبا هريرة رضي الله عنه توضأ حتى أشرع في العضد، وقال رأيت النبي صلي الله عليه وسلم يتوضأ.
ثم تمسح رأسك بيديك ابتداء من المقدم إلي أن تصل إلي المؤخرة ثم ترجع إلي المقدم مرة ثانية، ثم تمسح الأذنين تدخل السبابتين في صماخي الأذنين وتمسح بإبهاميهما ظاهر الأذنين، والأفضل ألا تأخذ للأذنين ماءً جديداً لأن الرسول صلي الله عليه وسلم لم يثبت عنه أنه أخذ ماءً جديداً للأذنين وقد قال صلي الله عليه وسلم " الأذنان من الرأس " (1) .،
ثم بعد ذلك تغسل الرجلين إلي الكعبين والكعبان داخلان في الغسل، والسنة أن تثلث في غسل الكفين وغسل الوجه والمضمضة والاستنشاق وفي غسل اليدين إلي المرفقين، وفي غسل الرجلين إلي الكعبين، أما الرأس فلا ينبغي أن تثلث فيه لأن الرسول صلي الله عليه وسلم لم يثلث في الرأس، وإذا كان الإنسان لابساً الشراب أو الكنادر فإنه إذا لبسهما على طهارة يمسح عليهما بدلاً عن غسل الرجلين ثلاث ليال بلياليها إن كان مسافراً، ويوماً وليلة إن كان مقيماً، والمسح يكون من أطراف الأصابع إلي الساق، بشرط ألا يكون عليه جنابة فإن كان عليه جنابة فلابد أن يخلعهما ويغسل رجليه كما يغسل سائر جسده، واعلم أن ابتداء المدة من أول مسحة يمسحها الإنسان بعد الحدث، وليس من اللبس، ولا من الحدث بعد اللبس، فإذا تطهر ولبس خفيه لصلاة الفجر وأحدث في الضحى ولم يمسحهما إلا لصلاة الظهر فإن ابتداء المدة يكون من مسحهما لصلاة الظهر، لأن النبي صلي الله عليه وسلم يقول: " يمسح المقيم "، ويكون المسح إلا بتحققه فعلاً،
__________
(1) أخرجه أبو داود: كتاب الطهارة /باب صفة وضوء النبي صلي الله عليه وسلم (134) ، والترمذي: أبواب الطهارة/باب ما جاء أن الأذنين من الرأس (37) ، وأبن ماجة: كتاب الطهارة /باب الأذنان من الرأس (443) من حديث أبي أمامة.(12/258)
وكذلك إذا كان في الإنسان جرح أو كسر ووضع عليه خرقة بقدر الحاجة فإنه يمسحها بدلاً عن الغسل سواء كان في الجنابة أو الحدث الأصغر، ولا يشترط أن يلبسها على طهارة بخلاف الخف فإنه لابد أن يلبسه على طهارة وذلك لأن الحديث الوارد عن الرسول صلي الله عليه وسلم ي الجبيرة ليس فيه اشتراط أن يلبسها على طهارة، ويمسح الجبيرة مادامت عليه، ولا يحتاج إذا مسح عليها أن يتيمم معها، وذلك لأن المسح قائم مقام الغسل عند الضرورة، وفي آخر الآية الكريمة ذكر الله تعالي أن الإنسان إن كان مريضاً يعني مرضاً يضره معه استعمال الماء، أو كان مسافراً يعني يثقله حمل الماء فإنه في هذه الحال يتيمم، والتيمم هو ضرب الأرض باليدين ثم مسح الوجه والكفين بعضهما ببعض، ويسمى عند العامة العفور لأن الإنسان يعفر وجهه بالتراب تعبداً لله عز وجل، واعلم أيها الأخ
المسلم أن التيمم ينوب مناب الماء عند عدمه، وأنه مطهر طهارة كاملة حتى يجد الإنسان الماء،لأن النبي صلي الله عليه وسلم يقول " جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً " (1) .والطهور ما يتطهر به وكذلك قال الله تعالى لما ذكر التيمم قال " (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) (2) فإذا تيممت لصلاة الفجر مثلاً وبقيت طهارتك إلي صلاة الظهر فإنك تصلي الظهر فإنك تصلى الظهر بتيمم الفجر ولا حرج عليك في ذلك ما دمت لم تنقض طهارتك وكذلك إذا تيممت لصلاة الظهر فلك أن تصلى العصر بذلك التيمم مادامت طهارتك باقية، لأن الله تعالى جعل التيمم مطهراً، فإذا كان مطهراً فإنه رافع الحدث، ولكن رفعه
__________
(1) تقدم تخريجه ص 95.
(2) سورة المائدة، الآية: 6.(12/259)
للحدث مؤقت بزوال موجبه وهو فقد الماء أو المرض، فإذا وجد الإنسان الماء وجب عليه أن يستعمل الماء وإذا برئ من المرض وجب عليه استعمال الماء، وإذا قدر أن رجلاً كان مسافراً وأصابته جنابة وليس معه ماء فإنه يتيمم عن الجنابة ويصلى ولا يعيد التيمم عن الجنابة مرة ثانية عند الصلاة الثانية أو الثالثة لأن تيممه الول عن الجنابة رفع الجنابة، ولكن يتيمم إن طرأ عليه حدث أصغر، يتيمم للحدث الأصغر، ثم إذا وجد الماء أو وصل إليه في البلد وجب عليه أن يغتسل من الجنابة التي أصابته في السفر ويتيمم لها لقول النبي صلي الله عليه وسلم: " الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجده فليتق الله وليمسه بشرته " (1) .
هذه هي الطهارة من الأحداث وهي شرط للصلاة لا تصح إلا بها، فلو صلى المحدث بغير وضوء ناسياً أو صلى من عليه جنابة بغير غسل ناسياً وجب عليه إعادة الصلاة لأن شرط لا يسقط بالنسيان.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد 5/146-147و155و180، وأبو داود: كتاب الطهارة /باب الجنب يتيمم (332و33) ، الترمذي: كتاب الطهارة /باب ما جاء في التيمم للجنب إذا لم يجد الماء (124) ، والنسائي: كتاب الطهارة /باب الصلوات بتيمم واحد (321) ، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.(12/260)
ستر العورة(12/261)
167) سئل فضيلة الشيخ: عن حكم الصلاة بالثياب البيضاء الشفافة وتحتها سراويل قصيرة لا تواري إلا الجزء اليسير من الفخذ والبشرة ظاهرة منها بوضوح تام؟
فأجاب بقوله: إذا لبس المرء سروالاً قصيراً لا يغطي ما بين السرة والركبة، ولبس فوقه ثوباً شفافاً فإنه في الحقيقة لم يستر عورته، لأن الستر لابد فيه التغطية، بحيث لا يتبين لون الجلد من وراء الساتر، وقد قال الله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) (1) .وقال صلي الله عليه وسلم الله عليه وسلم الله عليه وسلم الله عليه وسلم الله عليه وسلم في الثوب" إن كان ضيقاً فأتزر به وإن كان واسعاً فالتحف به" (2) .
وأجمع العلماء على أن من صلى عرياناً وهو يقدر على ستر عورته فإن صلاته لا تصح.
وعلى هؤلاء الذين أنعم الله عليهم بهذه الملابس أن يلبسوا سروالاً يستر ما بين السرة والركبة، أو يلبسوا ثوباً صفيقاً لا يشف عن العورة لكي يقوموا بأمر الله تعالى: ((يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) .
* * *
168) سئل فضيلته: عن حكم الصلاة في الثياب الشفافة؟
فأجاب بقوله: الجواب على هذا السؤال وهو ما يفعله بعض الناس أثناء الصيف من لبس الثياب الخفيفة وتحتها سراويل قصيرة لا
__________
(1) سورة الأعراف، الآية: 31.
(2) أخرجه البخاري: كتاب الصلاة في الثياب /باب إذا كان الثوب ضيقاً، ومسلم: كتاب الزهد والرقائق/باب حديث جابر الطويل(12/263)
تصل إلي الركبة، أن هذا حرام، ولا تجوز الصلاة به، لأن من شرط صحة الصلاة أن يستر الإنسان ما بين سرته وركبته، فإذا كان السروال قصيراً لا يستر ما بين السرة والركبة، والثوب خفيفاً يتبين لون البشرة من ورائه، فإنه حينئذ لا يكون ساتراً لعورته التي يجب سترها، فإنه لو صلى مهما صلى تكون صلاته باطلة، وعلى هذا فعلى إخواننا إما أن يغيروا السروال إلي سروال طويل يستر ما بين السرة والركبة، أو يلبسوا ثياباً صفيقة لا تشف عن البشرة، والله الموفق.
* * *
169) سئل فضيلة الشيخ: كثير من الناس يصلون بثياب خفيفة تصف البشرة ويلبسون تحت هذه الثياب سراويل قصيرة لا تتجاوز منتصف الفخد فيشاهد منتصف الفخذ من وراء الثوب، فما حكم صلاة هؤلاء؟
فأجاب فضيلته بقوله: حكم صلاة هؤلاء حكم من صلى بغير ثوب سوى السراويل القصيرة، لأن الثياب الشفافة التي تصف البشرة غير ساترة ووجودها كعدمها، وبناء على ذلك فإن صلاتهم غير صحيحة على أصح قولي العلماء وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد - رحمه الله - وذلك لأنه يجب على المصلي من الرجال أن يستر ما بين السرة والركبة وهذا أدنى ما يحصل به امتثال قول الله -عز وجل -: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) (1) . فالواجب عليهم أحد أمرين: إما أن يلبسوا سراويل تستر ما بين السرة والركبة، وإما أن يلبسوا فوق هذه السراويل القصيرة ثوباً صفيقاً لا يصف البشرة.
__________
(1) سورة الأعراف، الآية:31.(12/264)
وهذا الفعل الذي ذكر في السؤال خطأ وخطير فعليهم أن يتوبوا إلي الله تعالى منه، وأن يحرصوا على إكمال ستر ما يجب ستره في صلاتهم. نسأل الله تعالى لنا ولإخواننا المسلمين الهداية والتوفيق لما يحبه ويرضاه إنه جواد كريم. حرر في 5 رمضان 1408 هـ.
* * *
170) وسئل فضيلة الشيخ:- حفظه الله تعالى - هل الفخذ عورة؟
فأجاب بقوله: هذه المسألة مختلف فيها:فمن أهل العلم من يرى أن الفخذ ليس بعورة بالنسبة للرجل، وأنه لا يجب على الرجل ستره وظاهر كلامهم الإطلاق في الصلاة وغيرها، ومنهم من يرى أن الفخذ عورة في الصلاة وغير الصلاة، والأحاديث في ذلك: إما صحيحة غير صريحة، وإما صريحة غير صحيحة، ولذلك قال البخاري رحمه الله: إن حديث أنس يعني انكشاف فخد النبي صلي الله عليه وسلم الله عليه الصلاة والسلام وسلم الله عليه الصلاة والسلام الصلاة والسلام وسلم الله عليه الصلاة والسلام الصلاة والسلام الصلاة والسلام وسلم الله عليه الصلاة والسلام الصلاة والسلام الصلاة والسلام الصلاة والسلام وسلم الله وسلم أسند وحديث جرهد أحوط (1) . فكأن البخاري رحمه الله يقول الأحاديث الصحيحة تدل على أن الفخذ ليس بعورة، لأنه بدا من النبي صلي الله عليه وسلم الله، والنبي صلي الله عليه وسلم أشد الناس حياءً، ولو كان الفخذ عورة ما كشفه الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن في حديث علي بن أبي طالب قول النبي صلي الله عليه وسلم: " إن الفخذ عورة " (2) . وقوله:"لا تكشف فخدك ولا تنظر إلي فخذ حي ولا ميت" (3) . ولكن هذه الأحاديث ضعيفة والذي يظهر لي أن الفخذ
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب الصلاة في الثياب / باب ما يذكر في الفخذ.
(2) أخرجه الإمام أحمد 3/478 و479، وأبو داود: كتاب الحمام/ باب النهي عن التعري (4014) ، والترمذي: كتاب الأدب /باب ما جاء أن الفخذ عورة (2795)
(3) أخرجه أبو داود: كتاب الحمام /باب النهي عن التعري (4015) ، وأبن ماجه: كتاب =(12/265)
ليس بعورة إلا إذا خيف من بروزه فتنة فإنه يجب ستره كأفخاذ الشباب.
* * *
171) وسئل فضيلة الشيخ:- حفظه الله تعالى - بعض الناس يقول: إن الصلاة في الفنيلة العلاقية لا تجوز فهل هذا صحيح؟
فأجاب قائلاً: هذا ليس صحيح، لأن عورة الرجل ما بين سرته وركبته في الصلاة، فصدره وظهره وكتفه ليس من العورة، وقد صح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه صلى ووضع رداءه على المشجب وصلى بإزار، وأنكر عليه بعض الناس لم فعلت هذا؟ قال: " فعلته ليراه أحمق مثلك " (1) وهذا دليل على أن مثل هذا جائز، لكن الأفضل أن يستر منكبيه لقول النبي صلي الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة: " لا يصلين أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء " (2) . فهذا أفضل، أما أنها لا تصح الصلاة فليس بصحيح.
وكلمة " شيء " في الحديث نكرة في سياق النفي فتعم الشيء ولو كان يسيراً.
* * *
172) وسئل فضيلته: عن عورة المرأة أمام المرأة؟
فأجاب بقوله: لا أعلم في عورة المرأة أمام المرأة تفصيلاً،
__________
(1) = الجنائز /باب في غسل الميت (1460) ، والحاكم 4/200 وسكت عنه، قال أبو داود: فيه نكارة، وأعله الحافظ في التلخيص بالانقطاع ص 438.
(1) أخرجه الإمام أحمد 3/335.
(2) أخرجه البخاري: كتاب الصلاة /باب إذا صلى بالثوب الواحد فليجعل على عاتقيه، ومسلم: كتاب الصلاة /باب الصلاة في الثوب الواحد وصفة لبسه.(12/266)
وظاهر القرآن أنها تبدي للمرأة ما تبديه لمحارمها، وذكر فقهاؤنا رحمهم الله أنه يجوز للمرأة أن تنظر من المرأة جميع بدنها إلا ما بين السرة والركبة ودليلهم في ذلك ما رواه مسلم عن حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم قال:" لا ينظر الرجل إلي عورة الرجل، ولا تنظر المرأة إلي عورة المرأة " (1) .
* * *
173 وسئل فضيلة الشيخ:- أعلى الله درجته - ما قولكم في حدود عورة المرأة مع المرأة؟
فأجاب بقوله: عورة المرأة مع المرأة، كعورة الرجل مع الرجل أي ما بين السرة والركبة، ولكن هذا لا يعني أن النساء يلبسن أمام النساء ثياباً قصيرة لا تستر إلا ما بين السرة والركبة فإن هذا لا يقله أحد من أهل العلم، ولكن معنى ذلك أن المرأة إذا كان عليها ثياب واسعة فضفاضة طويلة ثم حصل لها أن خرج شيء من ساقها أو من نحرها أو ما أشبه ذلك أمام الأخرى فإن هذا ليس فيه إثم، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن لباس النساء في عهد النبي صلي الله عليه وسلم الله عليه وسلم كان ساتراً من الكف (كف اليد) إلي كعب الرجل، ومن المعلوم أنه لو فتح للنساء الباب في تقصير الثياب للزم من ذلك محاذير متعددة، وتدهور الوضع إلي أن تقوم النساء بلباس بعيد عن اللباس الإسلامي شبيه بلباس الكفار.
* * *
174 وسئل فضيلة الشيخ:- حفظه الله تعالى -: عن حكم لبس
__________
(1) أخرجه مسلم: كتاب الحيض /باب تحريم النظر إلي العورات.(12/267)
المرأة الثوب القصير أمام النساء؟ وعن حدود عورة المرأة عند المرأة؟
فأجاب قائلاً: لا يجوز للمرأة أن تلبس ثوباً قصيراً، اللهم إلا إذا كانت في بيتها وليس في بيتها سوى زوجها، وأما مع الناس فلا يحل لها أن تلبس الثوب القصير أأو الضيق، أو الشفاف الذي يصف ما وراءه، لأن النبي صلي الله عليه وسلم قال:" صنفان من أهل النار لم أرهما " وذكر: "نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها " (1) .فإذا كانت المرأة تلبس القصير، أو الضيق، أو الشفاف الذي ترى من ورائه البشرة فهي في الحقيقة كاسية عارية، كاسية من حيث أن عليها كسوة، وعارية من حيث أن الكسوة لم تفدها شيئاً.
وحدود عورة المرأة عند المرأة ما بين السرة والركبة، فالساق والنحر والرقبة ليس بعورة بالنسبة لنظر المرأة للمرأة، ولكن لا يعني ذلك أننا نجوز للمرأة أن تلبس ثياباً لا تستر إلا ما بين السرة والركبة، ولكن فيما لو أن امرأة خرج ساقها لسبب وأختها تنظر إليها وعليها ثوب سابغ، أو خرج شيء من رقبتها أو من نحرها وأختها تنظر فلا بأس بذلك، فيجب أن نعرف الفرق بين العورة وبين اللباس، اللباس لابد أن يكون سابغاً بالنسبة للمرأة، أما العورة للمرأة مع المرأة فهي ما بين السرة والركبة.
* * *
175 وسئل فضيلة الشيخ:- عن حكم كشف عورة المرأة للرجل عند الحاجة لذلك حال العلاج، وكذلك عورة الرجل
__________
(1) أخرجه مسلم: كتاب اللباس والزينة /باب النساء الكاسيات العاريات.(12/268)
للمرأة؟ وإذا كان لا يوجد إلا طبيبة نصرانية وطبيب مسلم؟
فأجاب بقوله: كشف عورة الرجل للمرأة والمرأة للرجل عند الحاجة لذلك حال العلاج لا بأس به بشرطين:
الشرط الأول: أن تؤمن الفتنة.
الشرط الثاني: أن لا يكون هناك خلوة.
والطبيبة النصرانية المأمونة أولي في علاج المرأة من الرجل المسلم، لأنها من جنسها بخلاف الرجل. والله المسئول أن يصلح أحوال المسلمين.
* * *
176 وسئل فضيلة الشيخ:- رعاه الله تعالى - هل صوت المرأة عورة؟
فأحاب قائلاً: من تأمل نصوص الكتاب والسنة وجدها تدل على أن صوت المرأة ليس بعورة، بل بعضها على ذلك بأدنى نظر:
فمن ذلك قوله تعالى يخاطب نساء النبي صلي الله عليه وسلم: (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً) (1) . فإن النهي عن الخضوع بالقول، وإباحة القول المعروف يدل على أن صوتها ليس بعورة إذ لو كان عورة لكان مطلق القول منها منكراً، ولم يكن منها قول معروف، ولكان تخصيص النهي بالخضوع عديم الفائدة.
وأما السنة فالأدلة على ذلك كثيرة، فالنساء اللاتي يأتين إلي النبي صلي الله عليه وسلم يخاطبنه بحضور الرجال ولا ينهاهن، ولا يأمر الرجال بالقيام ولو كان الصوت عورة لكان سماعه منكراً ووجب أحد الأمرين، لأن النبي
__________
(1) سورة الأحزاب، الآية:32.(12/269)
صلي الله عليه وسلم لا يقر منكر.
وقد صرح فقهاؤنا الحنابلة بأن صوت المرأة ليس بعورة، انظر شرح المنتهى 3/11 وشرح الإقناع 3/8 ط مقبل. وغاية المنتهى 3/8 والفروع 5/157.
وأما قول النبي صلي الله عليه وسلم: " إذا نابكم شيء في الصلاة فليسبح الرجال وليصفق النساء " (1) . فهذا مقيد في الصلاة، وظاهر الحديث أنه لا فرق بين أن تكون مع الرجال أو في بيت لا يحضرها إلا النساء أو محارم، والعلم عند الله تعالى.
* * *
177 وسئل فضيلة الشيخ:- أعلى الله درجته -: عن عورة المرأة مع المرأة؟
فأجاب بقوله: عورة المرأة مع المرأة ما بين السرة والركبة، لأن هذا هو الموضع الذي نهى رسول الله صلي الله عليه وسلم عن النظر إليه، ففي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: " لا ينظر الرجل إلي عورة الرجل، ولا المرأة إلي عورة المرأة " (2) ، ولكن يجب أن نعرف أن النظر شيء وأن اللباس شيء.
فأما النظر فقد علم حكمه من هذا الحديث أنه لا يجوز النظر للعورة.
وأما اللباس فلا يجوز للمرأة أن تلبس لباساً لا يستر إلا العورة وهي ما بين السرة والركبة، ولا أظن أحداً يبيح للمرأة أن تخرج إلي
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب الأحكام /باب الإمام يأتي قوماً فيصلح بينهم.
(2) تقدم تخريجه ص 267.(12/270)
النساء كاشفة صدرها وبطنها فوق السرة وساقها. قال شيخ الإسلام ابن تيمية 22/146 مجموع الفتاوى حين الكلام على قول النبي صلي الله عليه وسلم كاسيات عاريات: بأن تكتسي ما لا يسترها فهي كاسية وهي في الحقيقة عارية، مثل من تكتسي الثوب الرقيق الذي يصف بشرتها، أو الثوب الضيق الذي يبدي تقاطيع خلقها مثل عجيزتها وساعدها ونحو ذلك، وإنما كسوة المرأة ما يسترها ولا يبدي جسمها ولا حجم أعضائها لكونه كثيفاً واسعاً. اهـ.
وعلى هذا ففائدة الحديث أنه لو كانت المرأة تعمل في بيتها، أو ترضع ولدها ونحو ذلك فظهر ثديها، أو شيء من ذراعها، أو عضدها أو أعلي صدرها فلا بأس بذلك، ولا يمكن أن يراد به أن تلبس عند النساء لباساً يستر العورة فقط، وليست العلة في منع اللباس القصير هي التشبه، وإنما العلة الفتنة ولهذا لو لبست ثوباً لا يلبسه إلا الكافرات كان حراماً وإن كان ساتراً.
وإذا قيل تشبه بالكفار فلا يعني ذلك أن لا نستعمل شيئاً من صنائعهم فإن ذلك لا يقوله أحد، وقد كان الناس في عهد النبي صلي الله عليه وسلم وبعده يلبسون ما يصنعه الكفار من اللباس، ويستعملون ما يصنعونه من الأواني.
والتشبه بالكفار هو التشبه بلباسهم، وحلاهم، وعاداتهم الخاصة، وليس معناه أن لا نركب ما يركبون، أو لا نلبس ما يلبسون، لكن إذا كانوا يركبون على صفة معينة خاصة بهم فلا نركب على هذه الصفة، وإذا كانوا يفصلون الثياب على صفة معينة خاصة بهم فلا نفصل على هذا التفصيل، وإن كنا نركب مثل السيارة التي يركبونها، ونفصل من نوع النسيج الذي يفصلون منه. حرر في 25/2/1409 هـ.
* * *(12/271)
178 وسئل فضيلة الشيخ:- عن حكم لبس المرأة اللباس الذي فيه فتحات أمامية وجانبية وخلفية مما يكشف عن جزء من الساق، وحجة هؤلاء أنهن بين النساء فقط؟
فأجاب قائلاً: الذي أري أن المرأة يجب أن تستتر بلباس ساتر، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن النساء في عهد النبي صلي الله عليه وسلم كن يلبسن القمص اللاتي تصل إلي الكعبين في القدمين، وإلي الكفين في اليدين، ولا شك أن الفتحات التي أشار إليها السائل تبدي الساق وربما يتطور الأمر حتى يبدو ما فوق الساق، والواجب على المرأة تحتشم وأن تلبس كل ما يكون أقرب إلي سترها لئلا تدخل في قول النبي صلي الله عليه وسلم " صنفان من أهل النار لم أرهما، قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا " (1) .
* * *
179 وسئل عن حكم لبس القصير مما يسمح بظهور جزء من الساق فهو أعلى من الكعبين؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا السؤال يفهم جوابه مما سبق وأن المرأة كلما كان عليها ثوب ضاف فهو أستر لها وأقرب إلي الحشمة وأبعد من الفتنة.
* * *
__________
(1) تقدم تخريجه ص 268.(12/272)
180 وسئل فضيلته: عن حكم لبس المرأة الملابس الضيقة فعند النساء وعند المحارم؟
فأجاب فضيلته قائلاً: لبس الملابس الضيقة التي تبين مفاتن المرأة وتبرز ما فيه الفتنة محرم، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((صنفان من أهل النار لم أرهما، قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس - يعني ظلماً وعدواناً - ونساء كاسيات عاريات)) بأنهن يلبسن ألبسة قصيرة لا تستر ما يجب ستره من العورة، وفسر: بأنهن يلبسن ألبسة تكون خفيفة لا تمنع من رؤية ما ورائها من بشرة المرأة، وفسر " بأن يلبسن ملابس ضيقة فهي ساترة عن الرؤية لكنها مبدية لمفاتن المرأة، وعلى هذا فلا يجوز للمرأة أن تلبس هذه الملابس الضيقة إلا لمن يجوز لها إبداء عورتها عنده وهو الزوج فإنه ليس بين الزوج وزوجته عورة لقول الله تعالى (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُون 29 إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ 30) (1) وقالت عائشة: ((كنت أغتسل أنا والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعني من الجنابة من إناء واحد تختلف إيدينا فيه)) (2) فالإنسان وزوجته لا عورة بينهما، فالضيق الذي يبين مفاتن المرأة لا يجوز لا عند المحارم ولا عند النساء.
* * *
__________
(1) سورة المعارج، الآيتان: 29، 30
(2) أحرجه البخاري: كتاب الغسل / باب غسل الرجل مع امرأته، وباب هل يدخل الجنب يده في الإناء قبل أن يغسلها. .(12/273)
181 وسئل فضيلته: بعض النساء هداهن الله يلبسن بناتهن الصغيرات ثياباً قصيرة تكشف عن الساقين وإذا نصحنا هؤلاء الأمهات قلن نحن كنا نلبس ذلك من قبل ولم يضرنا ذلك بعد أن كبرنا فمنا رأيكم بذلك؟
فأجاب بقوله: أرى أنه لا ينبغي للإنسان أن يلبس أبنته هذا اللباس وهو صغيرة، لأنها إذا اعتادته بقيت عليه وهان عليها أمره، أما لو تعودت الحشمة من صغرها بقيت على تلك الحال في كبرها، والذي أنصح به أخواتنا المسلمات أن يتركن لباس أهل الخارج من أعداء الدين وأن يعودن بناتهن على اللباس الساتر، وعلى الحياء فالحياء من الإيمان
* * *
182 وسئل فضيلة الشيخ: يوجد ظاهرة عن بعض النساء وهي لبس الملابس القصيرة والضيقة التي تبدي المفاتن وبدون أكمام ومبدية للصدر والظهر وتكون شبه عارية تماماً، وعندما نقوم بنصحهن يقلن أنهن لا يلبسن هذه الملابس إلا عند النساء وأن عورة المرأة مع المرأة من السرة إلى الركبة فما حكم ذلك؟ وما حكم لبس هذه الملابس عند المحارم؟ جزاكم الله خير الجزاء عن المسلمين والمسلمات وأعظم الله مثوبتكم؟
فأجاب بقوله: الجواب على هذا أن يقال إنه صح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال ((صنفان من أهل النار لم أرهما، قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات،(12/274)
لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)) (1)
وفسر أهل العلم الكاسيات العاريات بأنهن اللاتي يلبس ألبسه ضيقة، أو ألبسه خفيفة لا تستر ما تحتها، أو ألبسة قصيرة. وقد ذكر شيخ الإسلام أن لباس النساء في بيوتهن في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما بين كعب القدم وكف اليد كل هذا مستور وهن في البيوت. أم إذا خرجن إلى السوق فقد علم أن نساء الصحابة كن يلبسن ثياباً ضافيات يسحبن على الأرض ورخص لهن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يرخينه إلى ذراع لا تزدن على ذلك، (2) وأما ما أشتبه على بعض النساء من قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((لا تنظر المرأة إلى عورة المرأة ولا الرجل إلى عورة الرجل)) (3) وأن عورة المرأة بالنسبة للمرأة ما بين السرة والركبة من أنه يدل على تقصير المرأة لباسها، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقل لباس المرأة ما بين السرة والركبة حتى يكون في ذلك حجة ولكنه قال: ((لا تنظر المرأة إلى عورة المرأة)) فنهى الناظرة، لأن اللابسة عليها لباس ضافي لكن أحياناً تكشف عورتها لقضاء الحاجة أو غيره من الأسباب فنهى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تنظر المرأة إلى عورة المرأة، ولما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل)) فهل كان الصحابة يلبسون إزراً من السرة إلى الركبة، أو سراويل من السرة إلى الركبة؟! وهل يعقل الآن أن امرأة تخرج إلى النساء ليس عليها من اللباس إلا ما يستر ما بين السرة والركبة، هذا لا يقوله أحد، ولم يكن
__________
(1) تقدم تخريجه ص 268.
(2) أخرجه الإمام أحمد 2/5
(3) تقدم تخريجه ص 267(12/275)
هذا إلا عند نساء الكفار، فهذا الذي فهمه بعض النساء من هذا الحديث لا صحة له، والحديث معناه ظاهر، لم يقل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لباس المرأة ما بين السرة والركبة، لعلى النساء أن يتقين الله، وأن يتحلين بالحاء الذي هو من خلق المرأة والذي هو من الإيمان كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الحياء شعبة من الإيمان)) (1) .
وكما تكون المرأة مضرب للمثل فيقال: (أحيا من العذراء في خدرها) ولم نعلم ولا عن نساء الجاهلية أنهن كن يسترن ما بين السرة والركبة فقط لا عند النساء ولا عند الرجال فهل يردن هؤلاء النساء أن تكون نساء المسلمين أبشع صورة من نساء الجاهلية؟!!.
والخلاصة: أن اللباس شيء، والنظر إلى العورة شيء آخر، أما اللباس فلباس المرأة مع المرأة المشروع فيه أن يستر ما بين كف اليد إلى كعب الرجل هذا هو المشروع، ولكن لو احتاجت المرأة إلى تشمير ثوبها لشغل أو نحوه فلها أن تشمر إلى الركبة، وكذلك لو احتاجت أن تشمر الذراع إلى العضد فإنها تفعل ذلك بقدر الحاجة فقط، وأما أن يكون هذا هو اللباس المعتاد الذي تلبسه فلا. والحديث لا يدل عليه بأي حال من الأحوال، ولهذا وجه الخطاب إلى الناظرة لا إلى المنظورة، ولم يتعرض الرسول عليه الصلاة والسلام لذكر اللباس إطلاقاً، فلم يقل لباس المرأة ما بين السرة والركبة حتى يكون في هذا شبهه لهؤلاء النساء.
وأما محارمهن في النظر فكنظر المرأة إلى المرأة بمعنى أنه يجوز للمرأة أن تكشف عند محارمها ما تكشفه عند النساء، تكشف الرأس
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب الإيمان / باب أمور الإيمان، ومسلم: كتاب الإيمان / باب بيان عدد شعب الإيمان(12/276)
والرقبة والقدم والكف والذراع والساق وما أشبه ذلك، ولكن لا تجعل اللباس قصيراً.
* * *
183) وسئل فضيلة الشيخ: عن مجلات الأزياء وتفصيل الملابس على ما فيها؟
فأجاب بقوله: أطلعت على كثير من المجلات التي تشير إلها السائلة فألفيتها مجلات خليعة فظيعة خبيثة، حقيق بنا ونحن في المملكة العربية السعودية، الدولة التي لا نعلم - ولله الحمد - دولة تماثلها في الحفاظ على شرع الله وعلى الأخلاق الفاضلة، حقيق بنا أن لا توجد مثل هذه المجلات في أسواقنا وفي محلات الخياطة، لأن منظرها أفظع من مخبرها، ولا يجوز لأي امرأة أو رجل أن يشتري هذه المجلات أو ينظر إليها أو يراجعها لأنه فتنة.
قد يشتريها الإنسان وهو يظن أنه سالم منها، ولكن لا تزال به نفسه والشيطان حتى يقع في فخها وشركها، وحتى يختار مما فيها من أشياء لا تناسب مع البيئة الإسلامية.
وأحذر جميع النساء والقائمين عليهن من وجودها في بيوتهم لما فيها من الفتنة العظمية، والخطر على أخلاقنا وديننا، والله المستعان.
* * *
184) سئل فضيلة الشيخ: عن حكم إلباس البنات القصير والضيق من الثياب؟
فأجاب بقوله: يجب على الإنسان مراعاة المسؤولية، وأن يتقي الله تعالى ويمنع كافة من له ولاية عليهن من هذه الألبسة، فقد ثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(12/277)
أنه قال ((صنفان من أهل النار لم أرهما: نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها)) (1) وهؤلاء النسوة اللاتي يستعملن الثياب القصيرة كاسيات، لأن عليهن كسوة لكنهن عاريات لظهور عورتهن، لأن المرأة بالنسبة للنظر كلها عورة، وجهها ويداها ورجلاها، وجميع أجزاء جسمها لغير المحارم.
وكذلك الألبسة الضيقة، وإن كانت كسوة في الظاهر لكنها عري في الواقع، فإن إبانة مقاطع الجسم بالألبسة الضيقة هو تعري، فعلى المرأة أن تتقي ربها ولا تبين مفاتنها، وعليها أن لا تخرج إلى السوق وإلا وهي لابسة ما لا يلفت النظر، ولا تكون متطيبة لئلا تجر الناس إلى نفسها فيخشى أن تكون زانية.
وعلى المرأة المسلمة أن لا تترك بيتها إلا لحاجة لابد منها، ولكن غير متطيبة، ولا متبرجة بزينة، وبدون مشية خيلاء، وليعلم أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء)) (2) . ففتنة النساء عظيمة لا يكاد يسلم منها أحد، وعلينا نحن معشر المسلمين أن لا نتخذ طرق أعداء الله من يهود ونصارى وغيرهم فإن المرعظيم.
وفق الله الجميع للصواب وجنبنا أسباب الشر والفساد إنه جواد كريم.
* * *
__________
(1) تقدم تخريجه ص 268.
(2) أخرجه البخاري: كتاب النكاح / باب ما يُتقى من شؤم المرأة، ومسلم: كتاب الذكر والدعاء (الرقاق) / باب أكثر أهل الجنة الفقراء. . .(12/278)
185) وسئل فضيلة الشيخ: هل يجوز للمرأة أن تكشف شيئاً من صدرها أو ذراعيها أو شيئاً من ساقها عند النساء؟
فأجاب قائلاً: أما الذراعان فلا بأس أن تخرجهما عند النساء، وأما الرقبة فلا بأس أيضاً أن تظهرها عند النساء وكذلك الرأس، ولكننا ننصح نساءنا بنصيحة نرجو الله سبحانه وتعالى أن ينفع بها، فنقول كلما كانت الألبسة أضفى وأستر فهو أنفع لها.
وننهاهن أن يتتبعن ما يكون في هذه المجلات فيصنعن ما يعرض فيها، لأن هذا يجر المرأة إلى أن تتشبه بالنساء الكافرات سواء رضيت أم لم ترض، وكلما كانت النساء أستر فهو أفضل.
وقد ذكر شيخ الإسلام أبن تيمية - رحمه الله - أن نساء الصحابة كن يلبسن دروعاً - يعني القمص - تكون ساترة من الكف إلى الكعب. من كفي اليد إلى كعب الرجل، وهذا هو الأفضل.
* * *
186) وسئل فضيلته: هل يجوز للمرأة أن تخرج أمام النساء بثياب قصيرة، أو ثياب يبدو منها الصدر، أو بثياب خفيفة، أو بثياب ضيقة؟
فأجاب بقوله: لا أرى أن المرأة تخرج أمام النساء بثياب قصيرة أو بثياب يبدو منها صدرها، أو بثياب خفيفة، أو بثياب ضيقة، لأن كل ذلك قد يكون داخلاً في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات)) (1)
__________
(1) تقدم تخريجه ص 268.(12/279)
فإن قال قائل: أليس قد ثبت عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: " لا تنظر المرأة إلي عورة المرأة، ولا الرجل إلي عورة الرجل " (1) . وعورة المرأة للمرأة ما بين السرة والركبة.
قلنا: بلى هذا قد ثبت عن النبي صلي الله عليه وسلم ولكن هذا نهي للمرأة الناظرة لا المنظورة، المنظورة عليها ثياب ضافية مأذون فيها مباحة شرعاً، لكن الناظرة قد تنظر إلي هذه المرأة وهي قد رفعت ثوبها لحاجة، فنهيت المرأة الناظرة عن أن تنظر إلي عورة المرأة وهي ما بين السرة والركبة، ومن المعلوم أنه لا يمكن أن يوجد في نساء المؤمنين من تخرج إلي النساء ليس عليها ستر إلا ما بين السرة والركبة. هذا أمر يكذبه الواقع.
* * *
187) وسئل فضيلته: ما حكم لبس النساء أمام النساء الملابس ذات الأكمام القصيرة أي ما فوق المرفق والفتحات من جهة النحر أو الظهر أو الساقين؟ وما حكم لبس الملابس الضيقة أو الشفافة علماً بأن ذلك كله أمام النساء دون الرجال؟ وكذلك لبس الملابس القصيرة وهو ما يصل إلى نصف الساقين؟
فأجاب بقوله: الذي أراه أنه لا يجوز للمرأة أن تلبس مثل هذا اللباس ولو أمام المرأة الأخرى، لأن ها هو معنى قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((صنفان من أهل النار لم أرهما، نساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات رؤسهن كأسنمة البخث المائلة)) (2) . قال أهل العلم: معنى كونهن
__________
(1) تقدم تخريجه ص 267.
(2) تقدم تخريجه ص 268.(12/280)
كاسيات عاريات أنهن يلبسن ثياباً ضيقة أو ثياباً شفافة، أو ثياباً قصيرة، وكان من هدي نساء الصحابة رضى الله عنهن أنهن يلبسن ثياباً يصلن إلى الكعب في الرجل وإلى مفصل الكف من الذراع في اليد إلا إذا خرجت إلى السوق فإنهن يلبسن ثوباً نازلاً تحت ذلك وضافياً على الكف أو تجعل في الكف قفازين فإن من هدي نساء الصحابة لبس القفازين لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمرأة إذا أحرمت ((لا تلبس القفازين)) (1) ولولا أن لبس القفازين كان معلوماً عند النساء في ذلك الوقت لما احتيج إلى النهي عنه في حال الإحرام.
* * *
188) وسئل فضيلة الشيخ: عن مجلة (البردة) وهي مجلة أزياء نسائية تعرض جميع أنواع الملابس حتى ملابس النوم، والهدف من هذه المجلة اقتباس الأزياء للملابس لقط ن علماً بأن هذه المجلات تكون صادرة من مصادر غربية بحتة وتظهر فيها نساء شبه عاريات، ويعرض فيها ملابس لا تناسب الفتيات المسلمات، وهذا في الغالب وليس دائماً، فما حكم الاعتماد عليها باختيار الأزياء المناسبة فقط بغض النظر عن ما فيها من تبرج؟ وما حكم اقتباس تسريحات الشعر من النساء العارضات للأزياء؟ وهل يدخل ذلكم في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((من تشبه بقوم فهو منهم)) (2) وما حكم لبس القصير للمرأة مثل أن يكون
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب جزاء الصيد / باب ما ينهي من الطيب للمحرم والمحرمة.
(2) أخرجه الإمام أحمد 2/50، وأبو داود: كتاب اللباس / باب لبس الشهرة، والهيثمي في " المجمع " 10/271، وابن عبد البر في " التمهيد " 6/80، قال شيخ الإسلام: " إسناده جيد " الفتاوى 5/331، وقال الحافظ في " الفتح " 6/97: حديث حسن. وكذلك السيوطي في " الجامع الصغير " 1/590 وصححه أحمد شاكر - المسند - 5114.(12/281)
الثوب في نصف الساق أو فوق الكعب قليلاً؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يجوز اقتناء هذه المجلات وأشباهها لما فيها من الصور الخليعة، ولأنها قد تدعو إلى هذه الألبسة البعيدة عن الألبسة الدينية الإسلامية الموجبة للتشبه بالكفار في لبسهم، وقد ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال ((من تشبه بقوم فهو منهم)) . فلا يجوز اقتناء هذه المجلات ولا شرائها، بل يجب على الإنسان إذا رآها أن يحرقها إذا استطاع إلى ذلك سبيلاً.
كذلك مسألة الشعر، فإنه لا يجوز للمرأة أن تصفف شعرها على صفة شعر الكافرات أو الفاجرات لأن من تشبه بقوم فهو منهم.
وبهذه المناسبة فإنني أنصح نساءنا المسلمات المؤمنات وأنصح أولياء أمورهن بالبعد عن هذه المجلات وعن هذه التسريحات التي تدعو للتلقي عن الكفار ومحبة ما هم عليه من الألبسة الخليعة التي تمت إلى الحياء ولا الشريعة الإسلامية بصلة. أو الموضات التي يكون عليها تسريح الشعر، وليكن المسلمون متميزين عن غيرهم لما تقتضيه الشريعة الإسلامية، وبالطابع الإسلامي حتى يعود للأمة الإسلامية عزتها وكرامتها ومجدها وما ذلك على الله بعزيز.
أما بالنسبة للقصير فالذي نرى أن لبس القصير للنساء داخل في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات)) (1) . وأنه لا يجوز للمرأة أن تعاد لبس القصير.أما بالنسبة للعورة: فالعورة شي واللباس شيء آخر، فإذا كان
__________
(1) تقدم تخريجه ص 268.(12/282)
على المرأة ثوب يستر إلى الكعب ثم بدا ساقها لحاجة وليس حولها إلا نساء أو محارم فإنها لا تأثم بذلك.
* * *
189) وسئل فضيلته: عن حكم لبس العباءة الفرنسية وهي عباءة تتميز بالأكمام الواسعة جداً حيث إن المرأة عندما تلبسها وترفع يدها يظهر الذراع، وليس هذا فقط، بل إن هذه العباءة بها العديد من التطريز والفصوص وقطع من الجلد الأسود، فما حكم لبس هذه العباءة؟
فأجاب بقوله: لبس العباءة المطرزة يعتبر من التبرج بالزينة والمرأة منهية عن ذلك كما قال الله تعالى: (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ) (1) . فإذا كان هذا في القواعد وهي العجائز فكيف بالشابات، ولا فرق في هذا بين العباءة الفرنسية الظاهرة وبين اللباس الذي تحتها إذا كانت تتعمد خروجه من تحت العباءة، لعلى من كانت تؤمن بالله واليوم الآخر أن تتجنب كل أسباب الفتنة في اللباس والأطياب وهيئة المشية ومحادثة الرجال وغير ذلك.
* * *
190) وسئل فضيلته: عن حكم لبس العباءة المطرزة أو الطرحة المطرزة وطريقته بأن تضع المرأة العباءة على الكتف ثم تلف الطرحة على رأسها ثم تغطي وجهها مع العلم أن هذه الطرحة ظاهرة للعيان
__________
(1) سورة النور، الآية: 60.(12/283)
ولم تخف تحت العباءة؟
فأجاب بقوله: لا شك أن اللباس المذكور من التبرج بالزينة وقد قال الله تعالى لنساء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) (1) . وقال عز وجل (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) (2) . فإذا كان الله عز وجل نهى نساء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى، ونهى نساء المؤمنين أن يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن دل ذلك على أن كل ما يكون من الزينة فإنه لا يجوز إظهاره ولا إبداؤه، لأنه من التبرج بالزينة، وليعلم أنه كلما كان لباس المرأة أبعد عن الفتنة فإنه أفضل وأطيب للمرأة وأدعى إلى خشيتها لله سبحانه وتعالى والتعلق به.
* * *
191) وسئل فضيلته: عن حكم الملابس التي كتب عليها عبارات تخل بالدين أو الشرف حيث انتشرت تلك الملابس؟
فأجاب بقوله: اللباس الذي يكتب عليه ما يخل بالدين أو الشرف لا يجوز لبسه سواء كتب باللغة العربية أو غيرها، وسواء كان للرجال أو النساء، وسواء كان شاملاً لجميع البدن أو لجزء منه أو عضو من أعضائه مثل أن يكتب عليه عبارة تدل على ديانة اليهود أو النصارى أو غيرهم أو على عيد من أعيادهم أو على شرب الخمر أو فعل الفاحشة أو نحو ذلك. ولا يجوز ترويج مثل هذه الألبسة، أو بيعها، أو شراؤها وثمنها حرام لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((إن الله إذا حرم شيئاً حرم
__________
(1) سورة الأحزاب، الآية: 33.
(2) سورة النور، الآية: 31.(12/284)
ثمنه)) (1) ونصيحتي لإخواني المسلمين أن يتقوا ربهم ويتجنبوا ما حرم عليهم لينالوا سعادة الدنيا والآخرة.
* * *
192) وسئل فضيلته: عن حكم لبس (البنطلون) الذي انتشر في أوساط النساء مؤخراً؟
فأجاب بقوله: قبل الإجابة على هذا السؤال أزجه نصيحة إلى الرجال المؤمنين أن يكونوا رعاة لمن تحت أيديهم من الأهل من بنين وبنات وزوجات وأخوات وغيرهن، وأن يتقوا الله تعالى في هذه الرعية وألا يدعوا الحبل على الغارب للنساء اللاتي قال في حقهن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن)) (2) . وأرى ألا ينساق المسلمون وراء هذه الموضة من أنواع الألبسة التي ترد إلينا من هنا وهناك، وكثير منها لا يتلاءم مع الزي الإسلامي الذي يكون فيه الستر الكامل للمرأة مثل الألبسة القصيرة أو الضيقة جداً أو الخفيفة، ومن ذلك ((البنطلون)) فإنه يصف حجم رجل المرأة وكذلك بطنها وخصرها وثدييها وغير ذلك، فلابسته تدخل تحت الحديث الصحيح: ((صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في المسند 1/322.
(2) أخرجه البخاري: كتاب الحيض / باب ترك الحائض الصوم، ومسلم: كتاب الإيمان / باب بيان نقص الإيمان. .(12/285)
وكذا)) (1) . فنصيحتي لنساء المؤمنين ولرجالهن أن يتقوا الله عز وجل، وأن يحرصوا على الزي الإسلامي الساتر، وألا يضيعوا أموالهم في اقتناء مثل هذه الألبسة والله الموفق.
* * *
193) وسئل فضيلة الشيخ: حجتهم في هذا أن البنطال فضفاض وواسع بحيث يكون ساتراً؟
فأجاب بقوله: حتى وإن كان واسعاً فضفاضاً لأن تميز رجل عن رجل يكون به شيء من عدم الستر، ثم إنه يخشى أن يكون ذلك أيضاً من تشبه النساء بالرجال لأن ((البنطال)) من ألبسه الرجال.
* * *
194) وسئل فضيلة الشيخ: لقد انتشر في الآونة الأخيرة بشكل كبير بيع محلات الملابس النسائي ((البناطيل)) النسائية بشتى أنواعها وتعلمون - حفظكم الله - خطر انتشار لبس البنطلون بالنسبة للنساء حتى صارت من تلبسه تتهم من قبل الشباب المعاكس فهل يأثم من يقوم بتصنيعها أو استيرادها أو بيعها؟ وهل يدخل في عموم قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ) (2) . وقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((نم سن في الإسلام سنة
__________
(1) تقدم تخريجه ص 256.
(2) سورة البروج، الآية 10.(12/286)
سيئة كان عليه وزرها، ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء)) (1) . وهل المال المكتسب من بيعها حرام أم حلال؟ وما نصيحتكم لأصحاب المحلات والعاملين فيها؟
فأجاب بقوله: الذي أراه تحريم لبس المرأة للبنطلون لأنه تشبه بالرجال، وقد لعن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المتشبهات من النساء بالرجال، ولأنه يزيل الحياء من المرأة، ولأنه يفتح باب لباس أهل النار حيث قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((صنفان من أهل النار لم أرهما)) وذكر أحدهما ((نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها)) (2) .
ولا يحل استيرداها ولا صناعتها، والكسب الحاصل منها ومن كل لباس محرم حرام وسحت، لأن الله تعالى إذا حرم شيئاً حرم ثمنه ووسائله.
ونصيحتي لأهل المحلات الذين يبيعونها أن يتقوا الله تعالى في أنفسهم وفي مجتمعهم وأن لا يكونوا سبباً لإيقاعهم في الإثم، وأبواب الرزق الحلال مفتوحة - والحمد لله - والقليل من الحلال خير من الكثير الحرام. أسأل الله تعالى الهداية للجميع. حرر في 14/3/1418 هـ.
* * *
195) وسئل فضيلة الشيخ: عن حكم لبس المرأة للبنطلون؟
فأجاب بقوله: أرى منع لبس المرأة البنطلون مطلقاً وإن لم يكون عندها إلا زوجها، وذلك لأنه تشبه بالرجال، فإن الذين يلبسون
__________
(1) أخرجه مسلم: كتاب الزكاة / باب الحث على الصدقة.. .
(2) تقدم تخريجه ص 268.(12/287)
البنطلونات هم الرجال، وقد لعن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المتشبهات من النساء بالرجال، وأما لباسها غير البنطلون عند محارمها فلها أن تلبس ما يستر جسمها كله إلا ما يظهر غالباً مثل اليدين والرجلين والرأس والوجه فإنه لا بأس بخروجه. والله أعلم.
* * *
196) وسئل فضيلته: عن حكم ذهاب المرأة للطبيب للضرورة عند عدم وجود طبيبة؟ وما يجوز لها أن تكشفه؟
فأجاب بقوله: إن ذهاب المرأة إلى الطبيب عند عدم وجود الطبيبة لا بأس به كما ذكر ذلك أهل العلم، ويجوز أن تكشف للطبيب كل ما يحتاج إلى النظر إليه إلا أنه لابد وأن يكون معها محرم ودون خلوة من الطبيب بها، لأن الخلوة محرمة وهذا من باب الحاجة.
وقد ذكر أهل العلم رحمهم الله أنه إنما أبيح هذا لأنه محرم تحريم الوسائل، وما كان تحريمه تحريم الوسائل فإنه يجوز عند الحاجة إليه.
* * *
197) وسئل فضيلة الشيخ: يوجد بعض النساء هداهن الله تساهلن من ناحية إخراج الأيدي والأرجل عند الخروج للأسواق أو المدرسة أو أي مكان آخر وذلك بشكل يلفت نظر الرجال، وعند نصحهن يقلن: إن إخراج الأيدي والأرجل جائز والدليل قوله تعالى (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) (1) وإن ستر وتغطية
__________
(1) سورة النور، الآية: 31.(12/288)
الأيدي والأرجل ليس بواجب فما رأي فضيلتكم بهذا الموضوع وجزاكم الله خيراً؟
فأجاب فضيلته بقوله: يرى الفقهاء من الحنابلة في المشهور من مذهبهم أنه يجب ستر الكفين والقدمين عن الرجال الأجانب، ولا شك أن ما يفعله بعض النساء اليوم من إخراج أيديهن وعليهن الحلي حرام موجب للفتنة وكذلك الأرجل وقد قال الله تعالى (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) (1) وهذا يدل على أن النساء تنزل ثيابهن إلى ما أسفل الخلخال.
وأما الآية التي ذكرت في السؤال (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) (2) فالمراد بالزينة الثياب واللباس كما قال تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) (3) وقال: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) (4) ولم يرد في القرآن أن الزينة تعني جزءاً من البدن، وليس هذا معروفاً في اللغة العربية. وأما قوله (زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) فالاستثناء هنا منقطع، والمعنى لكن ما ظهر من الزينة كالعباءة ونحوها لا بأس به.
* * *
198 وسئل فضيلته: عن مقياس التشبه بالكفار؟ وحكم المكياج؟ وحكم لبس المرأة للأبيض عند الزواج؟
__________
(1) سورة النور، الآية: 31.
(2) سورة النور، الآية: 31.
(3) سورة الأعراف، الآية: 31.
(4) سورة الأعراف، الآية: 32.(12/289)
فأجاب بقوله:1 - مقياس التشبه أن بعل المتشبه ما يختص به المتشبه به، فالتشبه بالكفار أن يعل المسلم شيئاً من خصائصهم، أما ما أنتشر بين المسلمين وصار لا يتميز به الكفار فإنه لا يكون تشبهاً، فلا يكون حراماً من أجل أنه تشبه إلا أن يكون محرماً من جهة أخرى، وهذا الذي قلناه هو مقتضى مدلول هذه الكلمة، وقد صرح بمثله صاحب الفتح حيث قال ص 272 ج 10: وقد كره بعض السلف لبس البرنس، لأنه كان من لباس الرهبان وقد سئل مالك عنه فقال: لا بأس به، قيل: فإنه من لبوس النصارى، قال كان يلبس ههنا؟ أهـ. قلت: لو استدل مالك بقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين سئل ما يلبس المحرم فقال: لا يلبس القميص ولا السراويل ولا البرانس. الحديث لكان أولى. وفي الفتح أيضاً ص 307 ج 10: وإن قلنا النهي عنها (أي عن المياثر الأرجوان) من أجل التشبه بالأعاجم فهو لمصلحة دينية، لكن كان ذلك شعارهم حينئذ هم كفار ثم لما لم يصير الآن يختص بشعارهم زال ذلك المعنى فتزول الكراهة، والله أعلم. اهـ.
وأما المكياج الذي تتجمل به المرأة لزوجها فلا نرى به بأساً لأن الأصل الحل إلا إذا ثبت أنه يضر بالوجه في المآل فيمنع حينئذ اتقاء لضرره.وأما لبس المرأة للأبيض عند الزواج فلا بأس به إلا أن يكون تفصيل الثوب مشابهاً لتفصيل ثوب الرجل فيحرم حينئذ لأنه من تشبه المرأة بالرجل وقد لعن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المتشبهات بالرجال (1) ، وكذلك لو
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب اللباس / باب المتشبهين بالنساء والمتشبهات بالرجال.(12/290)
كان علي وجه يختص بلباس الكافرات فهو حرام.
* * *
199) وسئل فضيلته: ما رأي فضيلتكم في أن كثير من النساء اللاتي يخرجن إلى الأسواق لقصد الشراء من أصحاب المحلات التجارية يخرجن أكفهن، والبعض الأخر يخرجن الكف من الساعد؟
فأجاب جزاه الله خيراً بقوله: لا شك أن إخراج المرأة كفيها وساعديها في الأسواق أمر منكر، وسبب للفتنة، لاسيما أن بعض هؤلاء السناء يكون على أصابعهن خواتم وعلى سواعدهن أسورة، وقد قال الله تعالى للمؤمنات (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) (1) وهذا يدل على أن المرأة المؤمنة لا تبدي شيئاً من زينتها، وأنه لا يحل لها أن تفعل شيئاً يعلم به ما تخفيه من هذه الزينة فكيف يمن تكشف زينة يديها ليراها الناس؟!!
أنني أنصح النساء المؤمنات بتقوى الله عز وجل، وأن يقدمن الهدى على الهوى ويعتصمن بما أمر الله به نساء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللاتي هن أمهات المؤمنين وأكمل النساء أدباً وعفه حيث قال لهن (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً 33) (2) ليكون لهن نصيب من هذه الحكمة العظيمة (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً 33) .
__________
(1) سورة النور، الآية 31.
(2) سورة الأحزاب، الآية: 33.(12/291)
وأنصح رجال المؤمنين الذين جعلهم الله قوامين على النساء أن يقوموا بالأمانة التي حملوها واسترعاهم الله عليها نحو هؤلاء النساء فيقوموهن بالتوجيه والإرشاد والمنع من أسباب الفتنة، فإنهم عن ذلك مسؤولون، ولربهم ملاقون، فلينظروا بماذا يجيبون (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ 30) (1) .
والله أسأل أن يصلح عامة المسلمين وخاصتهم، رجالهم ونساءهم صغارهم وكبارهم، وأن يرد كيد أعدائهم في نحورهم، إنه جواد كريم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. في 3/4/1409 هـ.
* * *
200) وسئل: عن رجل سقط إحرامه وهو في الصلاة فانكشف ظهره فهل تصح صلاته؟
فأجاب فضيلته بقوله: الإحرام للرجل إزار ورداء، فإذا نزل الرداء عن منكبي الرجل وهو يصلي فلا حرج، لأنه يجوز للرجل أن يصلي بإزار فقط دون رداء، إلا أن الأولى أن يستر بقية البدن لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء)) (2) .
__________
(1) سورة آل عمران، الآية: 30.
(2) تقدم تخريجه ص 266.(12/292)
* * *
201) وسئل فضيلته: هل يجوز على الرجل ستر أحد عاتقيه في الصلاة؟
فأجاب بقوله: ستر أحد العاتقين سنة وليس بواجب لقوله عليه الصلاة والسلام لجابر رضى الله عنه ((إن كان ضيقاً فأتزر به، وإن كان واسعاً فألتحف به)) (1) . وصلى جابر رضى الله عنه في إزار، ورداؤه على المشجب، فذكره رجل بذلك، فقال: ((فعلت هذا ليراه أحمق مثلك)) (2) ، وفي لفظ ((ليرى الجاهلون)) هذا هو القول الراجح وهو مذهب الجمهور.وكونه لابد أن يكون على العاتقين شيء من الثوب ليس لأن العاتقين عورة، بل من أجل تمام اللباس وشد الإزار، لكن الأفضل في ثوبين لأنه أقرب إلى الستر وأحوط، وقد صح عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه قال: ((إذا وسع الله عليكم فأوسعوا)) فدل هذا على أنه إذا كان الإنسان في سعة فالثوبان أفضل، ويؤيد مذهب ما ذهب إليه عمر رضى الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل: أيصلي أحدنا في الثوب الواحد؟ فقال: ((أولكلكم ثوبان)) (3) . وهذا يدل على أن الواحد مجزئ، لكن إذا وسع الله علينا فلنتوسع، لأن قوله: ((أولكلكم ثوبان)) يدل على أنه ليس لكل واحد من الناس ثوبان، بل أكثر الناس في عهد
__________
(1) تقدم تخريجه ص 263.
(2) تقدم تخريجه ص 266.
(3) أخرجه البخاري: كتاب الصلاة / باب الصلاة في الثوب الواحد ملتحفاً به (358) ، بلفظ ((أوكلكم يجد ثوبين)) ، ومسلم: كتاب الصلاة / باب الصلاة في ثوب واحد وصفة لبسه (515) .(12/293)
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ثوب واحد.
* * *
وسئل فضيلته: هل لبس الفترة أو العمامة واجب في الصلاة؟
فأجاب بقوله: لبس هذه الأشياء ليس بواجب في الصلاة، لأن ستر الرأس في الصلاة ليس بواجب، ولكن إذا كنت في بلد يعتاد أهله أن يلبسوا هذا ويكون ذلك من تمام لباسهم فإنه ينبغي أن تلبسه لقوله تعالى (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) (1) .
فإذا كان من الزينة أن يضع الإنسان على رأسه شيئاً من عمامة ن أو غترة، أو طاقية فإنه يستحب له أن يلبسه حال الصلاة، أما إذا كان في بلد لا يعتادون ذلك وليس من زينتهم فليبق على ما هو عليه.
* * *
وسئل فضيلة الشيخ: هل يجوز للإنسان أن يصلي ورأسه مكشوف؟
فأجاب بقوله: يجوز للإنسان أن يصلي بدون أن يكون على رأسه شيء لا غترة ولا طاقية، وذلك لأن ستر الرأس في الصلاة ليس بفرض، فلو صلى الإنسان مكشوف الرأس فإن صلاته صحيحة.
لكن الأفضل أن يغطيه إذا كان في أناس يغطون رؤوسهم، وعادتهم أن غطوا رؤوسهم في لباسهم لعموم قوله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِد) . فإذا كان من قوم يلبسون هذه
__________
(1) (1) سورة الأعراف، الآية 31.(12/294)
الأشياء مثل الغترة أو الشماغ أو الشال، فإن الأفضل أن يلبسها حال صلاته، لأنها من الزينة التي أمر الله بأخذها.
* * *
وسئل عن عورة المرأة في الصلاة؟
فأجاب فضيلته بقوله: العورة في الصلاة ليس فيها عندي نص قاطع أعتمد عليه وأنا فيها مقلد، والمعروف عند الحنابلة أن المرأة الحرة البالغة يجب عليها أن تستر جميع بدنها ما عدا الوجه، والصواب أيضاً أن الكفين ليسا بعورة وكذلك القدمان، وأما إذا كانت دون البلوغ فإنه على ما ذهب هؤلاء إليه فإنه لا يجب عليها إلا أن تستر ما بين السرة والركبة، والمسألة عندي لم تتحرر ولم أصل فيها إلى شيء قاطع، والله أعلم.
* * *
وسئل فضيلة الشيخ: عن حكم ظهور القدمين والكفين من المرأة في الصلاة، مع العلم أنها ليست أمام رجال ولكن في البيت؟
فأجاب فضيلته: المشهور من مذهب الحنابلة - رحمهم الله - أن المرأة البالغة الحرة كلها عورة في الصلاة إلا وجهها،وعلى هذا فلا يحل لها أن تكشف كفيها وقدميها.
وذهب كثير من أهل العلم إلى جواز كشف المرأة كفيها وقدميها.
والاحتياط أن تتحرز المرأة من ذلك، لكن لو فرض أن امرأة فعلت ثم جاءت تستفتي فإن الإنسان لا يجرؤ أن يأمرها بالإعادة.
* * *(12/295)
وسئل فضيلته: عن حكم إخراج المرأة كفيها أو قدميها في الصلاة؟ وعن حكم كشف المرأة لوجهها؟
فأجاب بقوله: إخراج المرأة التي تصلي كفيها وقدميها اختلف فيه أهل العلم:
فذهب بعضهم إلى أن كفيها وقدميها من العورة، وبناء على ذلك فإنه لا يجوز للمرأة أن تكشفهما في حال الصلاة.
وذهب آخرون إلى أنهما ليسا من العورة وأن كشفهما لا يبطل الصلاة.
والأولى أن تحتاط المرأة وألا تكشف قدميها أو كفيها في حال الصلاة، وأما بالنسبة للنظر فإن الوجه بلا شك يحرم على المرأة أن تكشفه إلا لزوجها ومحارمها، وأما الكفان والقدمان فهما أقل فتنة نم الوجه.
* * *
وسئل فضيلة الشيخ: إذا كانت المرأة في نزهة خارج بيتها هل يجوز لها أن تصلي أمام الناس مكشوفة الوجه أو تترك الصلاة وتقضي ما فاتها عند عودتها؟
فأجاب بقوله: على المرأة إذا خرجت للنزهة أن تصلي كما تصلي في بيتها، ولا يحل لها تأخيرها، وإذا خشيت أن يمر الرجال قريباً منها فيجب عليها أن تغطي وجهها في هذه الحال لئلا يروها، وإذا سجدت فإنها تكشفه في هذه الحالة ثم تغطيه بعد ذلك، لأن الأفضل في حال السجود أن تباشر الجبهة المحل الذي يسجد عليه، ولهذا قال أنس بن مالك رضى الله عنه: ((كنا نصلي مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في شدة الحر،(12/296)
فإذا لم يستطع الواحد منا أن يمكن جبهته من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه)) (1) . فدل هذا على أن الإنسان لا ينبغي أن يسجد على شيء متصل به إلا إذا كان هناك حاجة.
وهنا لا تغطي المرأة وجهها لأنها في حال السجود لا يراها أحد، وفي مثل هذه الحال ينبغي لها أن تكون صلاتها خلف الرجال في المكان الذي لا تكون أمامهم، وإن أمكن أن تكون هناك سيارة أن غيرها تحول بين المرأة والرجال فإن ذلك أفضل، والله الموفق.
* * *
وسئل فضيلة الشيخ: هل يجوز للمرأة أن تصلي بالنقاب والقفاز؟
فأجاب بقوله: إذا كانت المرأة تصلي في بيتها أو في مكان لا يطلع عليها إلا الرجال المحارم فالمشروع لها كشف الوجه واليدين لتباشر الجبهة والنف موضع السجود وكذلك الكفان.
أما إذا كانت تصلي وحولها رجال غير محارم فإنه لا بد من ستر وجهها، لأن ستر الوجه من غير المحارم واجب ولا يحل لها كشفه أمامهم كما دل على ذلك كتاب الله - سبحانه وتعالى - وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والنظر الصحيح الذي لا يحيد عنه عاقل فضلاً عن المؤمن.
ولباس القفازين في اليدين أمر مشروع، فإن هذا هو ظاهر فعل نساء الصحابة بدليل أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((لا تنتقب المرحمة، ولا تلبس
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب الصلاة / باب السجود على الثوب في شدة الحر، ومسلم: كتاب المساجد / باب استحباب تقديم الظهر في أول الوقت في غير شدة الحر.(12/297)
القفازين)) (1) . فهذا يدل على أن من عادتهن لبس القفازين، وعلى هذا فلا بأس أن تلبس المرأة القفازين إذا كانت تصلي وعندها رجال أجانب، أما ما يتعلق بستر الوجه فإنها تستره ما دامت قائمة أو جالسة فإذا أرادت السجود فتكشف الوجه لتباشر الجبهة محل السجود.
* * *
وسئل فضيلة الشيخ - أعلى الله درجته في المهديين -: هل يجوز للمرأة أن تصلي وهي لابسة القفاز؟
فأجاب قائلاً: القفاز هو الذي يلبس في اليد وهو حرام على المرأة إذا كانت محرمة لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال في سياق ما يلبسه المحرم: ((لا تنتقب المرحمة ولا تلبس القفازين)) . فيحرم على المرأة المحرمة أن تلبس هذه القفازات، أما في غير الإحرام فلا بأس أن تلبسها في الصلاة وخارج الصلاة، بل إن لبسها للقفازين خارج الصلاة أستر لها وأبعد عن الفتنة.وههنا مسألة ينبغي أن ننبه عليها وهي: أن المرأة إذا كانت تصلي وحلوها رجال غير محارم فإنها تغطي وجهها عن النظر إليه، فإذا سجدت كشفته عند السجود، ودليل ذلك قول أنس بن مالك رضى الله عنه: ((كنا نصلي مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في شدة الحر فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه)) (2) ، فقوله: ((فإذا لم يستطع)) يدل على أن هذا لا يفعل إلا عند الضرورة.
* * *
__________
(1) تقدم تخريجه ص 281.
(2) تقدم تخرجه ص 297.(12/298)
سئل فضيلة الشيخ - حفظه الله تعالى -: عن امرأة مريضة وتتيمم على الوسادة ولا تغطي شعرها فما حكم صلاتها بهذه الحالة؟
فأجاب بقوله: إذا كانت هذه المرأة لا تستطيع أكثر مما فعلت،فلا تستطيع أن تنزل من السرير حتى تتوضأ أو تتيمم، ولا تستطيع أن تستر ما يجب ستره في الصلاة فإنه لا شيء عليها وصلاتها صحيحة لقول الله تعالى (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم) (1) . ولقوله: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) (2) . ولقوه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)) (3) . أما إذا كانت تستطيع أن تفعل من الواجب أكثر مما فعلت فإنه لا يجوز لها ذلك.
* * *
وسئل فضيلة الشيخ: ما معنى قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار)) (4) ؟
فأجاب فضيلته بقوله: المراد بالحائض التي بلغت بالحيض وهذا كقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم)) (5) أي بلغ بالإحتلام، كذلك الحائض لا يمكن أن تصلي، ولكن المعنى أن المرأة إذا بلغت بالحيض فإن الله لا يقبل صلاتها حتى تختمر أي تغطي
__________
(1) سورة التغابن، الآية: 16.
(2) سورة البقرة، الآية 286.
(3) تقدم تخريجه ص 98.
(4) أخرجه الإمام أحمد في " المسند " 6/150.
(5) أخرجه البخاري: كتاب الجمعة / باب فضل الغسل يوم الجمعة، ومسلم: كتاب الجمعة / باب بيان وجوب غسل الجمعة.(12/299)
رأسها، وهذا مما استدل به أهل العلم على قولهم: إن عورة المرأة البالغة في الصلاة جميع البدن إلا الوجه فإنه ليس بعورة في الصلاة، ولكنه عورة في النظر فيجب على المرأة أن تغطي وجهها عن كل الرجال إلا زوجها ومحارمها.
* * *
سئل فضيلة الشيخ: عن رداء الصلاة للمرأة هل يجوز أن يكون قطعة واحدة أم رداء وشيلة؟
فأجاب بقوله: يجوز أن يكون الثوب الذي على المرأة وهي تصلي ثوباً واحداً، لأن الشرط هو ستر العورة، والمرأة الحرة في الصلاة كلها عورة إلا وجهها، واستثنى بعض العلماء الكفين والقدمين أيضاً، وقالوا: إن الوجه والكفين لا يجب سترهما في الصلاة، وعلى هذا فإذا صلت المرأة في ثوب قطعة واحدة وهي ساترة ما يجب ستره، فإن صلاتها جائزة.
ولكن بعض أهل العلم يقول إن الأفضل أن تصلي في درع وخمار وملحفة.
والدرع: هو الثوب الذي يشبه القميص.
والخمار: هو ما تخمر بها رأسها.
والملحفة: ما تلف به جميع بدنها.
* * *
وسئل فضيلته: إذا انكشفت عورة المصلي فما الحكم؟
فأجاب بقوله: هذا لا يخلو من أحوال:
الحال الأولى: إذا كان عمداً بطلت صلاته قليلاً كان أو كثيراً،(12/300)
طال الزمن أو قصر.
الحال الثانية: إذا كان غير عمد وكان يسيراً فالصلاة لا تبطل.
الحال الثالثة: إذا كان غير عمد وكان فاحشاً لكن الزمن قليل كما لو هبت الريح وهو راكع وانكشف الثوب ولكن في الحال أعاده فالصحيح أن الصلاة لا تبطل لأنه ستره عن قرب، ولم يتعمد الكشف وقد قال الله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم) (1) .
الحال الرابعة: إذا كان غير عمد وكان فاحشاً وكال الزمن بأن لم يعلم إلا في آخر صلاته، لأن ستر العورة شرط من شروط الصلاة والغالب عليه أنه مفرط. والله أعلم.
* * *
وسئل: عن رجل يصلي في صوب نجس ناسياً نجاسته فهل يلزمه إعادة الصلاة؟
فأجاب فضيلته بقوله: الصحيح أنه لا إعادة عليه لقوله تعالى: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) (2) قال الله تعالى في الحديث الذي رواه مسلم: ((قد فعلت)) (3) .
* * *
سئل فضيلة الشيخ - حفظه الله تعالى - عن لبس المرأة ثياب الرجل وإذا صلت فيها فما حكم صلاتها؟
فأجاب قائلاً: إذا كان الثوب الذي تلبسه المرأة من الثياب
__________
(1) سورة التغابن، الآية 16.
(2) سورة البقرة، الآية: 286.
(3) أخرجه مسلم: كتاب الإيمان / باب بيان أنه سبحانه لم يكلف إلا ما يطاق.(12/301)
الخاصة بالرجال فإن لبسها إياه حرام، سواء كان ي حال الصلاة، أو ي غير حال الصلاة، وذلك لأنه ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((أنه لعن المتشبهات من النساء بالرجال، ولعن المتشبهين من الرجال بالنساء)) (1) فلا يحل لامرأة أن تلبس ثوباً خاصاً بالرجل، ولا يحل للرجل أن يلبس ثوباً خاصاً بالمرأة، ولكن يجب أن نعرف ما هل الخصوصية؟ ليست الخصوصية في اللون، ولكنها لي اللون والصفة، ولهذا يجوز للمرأة أن تلبي الثوب الأبيض إذا كان تفصيله ليس على تفصيل ثوب الرجل، وإذا تبين أن لبس المرأة ثوباً يختص بالرجل حرام فإن صلاتها فيه لا تصح عند بعض أهل العلم الذين يشترطون في السترة أن يكون الساتر مباحاً، وهذه المسألة محل خلاف بين أهل العلم، فمن العلماء من اشترط في الثوب الساتر أن يكون مباحاً، ومنهم من لم يشترط ذلك، وحجة القائلين باشتراطه: أن ستر العورة من شروط الصلاة، ولابد أن يكون الشرط مما أذن الله فيه فإذن لم يأذن الله فيه لم يكن ساتراً شرعاً لوقوع المخالفة، وحجة من قالوا بصحة الصلاة فيه مع الإثم: أن الستر قد حصل، والإثم خارج عن نطاق الستر وليس خاصاً بالصلاة، لتحريم لبس الثوب المحرم في الصلاة وخارجها، وعلى كل حال فالمصلي بثوب محرم عليه على خطر في أن ترد صلاته ولا تقبل منه.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - حفظه الله تعالى -: عن حكم من صلى في ثياب نجسة وهو لا يعلم؟
فأجاب بقوله: إذا صلى الإنسان في ثياب نجسه ولم يعلم أنه
__________
(1) تقدم تخريجه ص 290.(12/302)
أصابتها نجاسة إلا بعد صلاته، أو كان عالماً بذلك قبل أن يصلي ولم يذكر إلا بعد فراغه من صلاته فإن الصلاة صحيحة، وليس عليه إعادة لهذه الصلاة، وذلك لأنه ارتكب ذلك المحظور جاهلاً أو ناسياً وقد قال الله تبارك وتعالى: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) (1) فقال الله تعالى: ((قد فعلت)) ، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى ذات يوم في تعليه وكان فيهما أذى فلما كان في أثناء الصلاة أخبره جبريل بذلك فخلعهما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يصلي (2) ولم يستأنف الصلاة فدل هذا على أن من علم بالنجاسة في أثناء الصلاة فإنه يزيلها ولو في أثناء الصلاة ويستمر في صلاته إذا كان يمكنه أن يبقى مستور العورة بعد إزالتها، وكذلك من نسي وذكر في أثناء الصلاة فإنه يزيل هذا الثوب النجس إذا كان يبقي عليه ما يستر عورته، وأما إذا فرغ من صلاته ثم ذكر بعد أن فرغ، أو علم بعد أن فرغ من صلاته، فإنه لا إعادة عليه، وصلاته صحيحة، بخلاف الرجل الذي يصلي وهو ناسي أن يتوضأ مثل أن يكون قد أحدث ونسي أن يتوضأ، ثم صلى وذكر بعد فراغه من الصلاة أنه لم يتوضأ، فإنه يجب عليه الوضوء وإعادة الصلاة، وكذلك لو كان عليه جنابة ولم يعلم بها، مثل أن يكون قد احتلم في الليل وصلى الصبح بدون غسل جهلاً منه، ولما كان من النهار رأي في ثوبه منياً من نومه، فإنه يجب عليه أن يغتسل وأن يعيد ما صلى.
والفرق بين هذه المسألة والمسألة الأولى – أعني مسألة النجاسة – أن النجاسة من باب ترك المحظور، وأما الوضوء والغسل فهو من باب
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 286.
(2) أخرجه أبو داود: كتاب الصلاة / باب الصلاة في النعل.(12/303)
فعل المأمور، وفعل المأمور أمر إيجادي لابد أن يقوم به الإنسان، ولا تتم العبادة إلا بوجوده، أما إزالة النجاسة فهي أمر عدمي لا تتم الصلاة إلا بعدمه، فإذا وجد في حال الصلاة نسياناً أو جهلاً فإنه لا يضر، لأنه لم يفوت شيء يطلب حصوله في صلاته. والله أعلم.
* * *
وسئل فضيلة الشيخ: عن إنسان في البر وليس عنده ماء وثيابه نجسه وليس عنده ما يستر به عورته سواه هل يصلي في الثوب النجس أو يصلي عريان؟
فأجاب بقوله: إذا لم يكن عنده إلا ثوب نجس وليس عنده ماء يطهره به فإنه يلزمه أن يصلي بهذا الثوب، ليواري سواته لقدرته على ذلك وصلاته صحيحه، ولا إعادة عليه لعجزه عن إزالة النجاسة التي على ثوبه، وقد قال الله تعالى (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (1) . وهذا قد اتقى الله ما استطاع فيكون قائماً بما أمر الله به، والقائم بما أمر الله به لا يلزمه الإعادة، وقول الأصحاب إنه يلزمه أن يصلي به ويعيد قول ضعيف، وأضعف منه قول بعض العلماء أن يصلي عرياناً، لأنه قادر على السترة. والله أعلم.
* * *
سئل فضيلة الشيخ: عن الغترة والشماخ إذا جعلهما الإنسان خلفه هل يعد ذلك من كف الثوب المنهي عنه؟
فأجاب بقوله: الذي أرى أنه لا يعد من كف الثوب المنهي عنه
__________
(1) سورة التغابن، الآية: 16.(12/304)
لأن هذه من صفات لبس الغترة والشماغ فهي كالثوب القصير كمه، والعمامة الملوية على الرأس.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - حفظه الله تعالى -: عن حديث: ((أمرت ألا أكف ثوباً)) هل صحيح؟ وما معناه؟
فأجاب قائلاً: هذا الحديث صحيح (1) ، والمراد أنه لا يكف الثوب في حال الصلاة، فإن الذي ينبغي للمصلي أن يبقي ثيابه على حالها، ولا يكفها رفعاً عن الأرض، ولا يكف أكمامه أيضاً، لأن النبي صلي الله عليه وسلم قال: " أمرت أن أسجد على سبعة أعظم وأن لا أكف شعراً ولا ثوباً " (2) . والله أعلم.
* * *
سئل فضيلة الشيخ: إذا كان الثوب نازلاً عن الكعبين فهل تصح الصلاة فيه؟
فأجاب بقوله: إذا كان الثوب نازلاً عن الكعبين فإنه محرم لقول النبي صلي الله عليه وسلم:" ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار" (3) . وما قاله النبي صلي الله عليه وسلم في الإزار فإنه يكون في غيره.
وعلى هذا يحب على الإنسان أن يرفع ثوبه وغيره من لباسه عما تحت كعبيه، وإذا صلى وهو نازل تحت الكعبين فقد اختلف أهل
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب صفة الصلاة/باب لا يكف ثوبه في الصلاة، ومسلم: كتاب الصلاة / باب أعضاء السجود والنهي عن كف الشعر والثوب
(2) تقدم تخريجه أعلاه.
(3) أخرجه البخاري: كتاب اللباس، باب ما أسفل الكعبين في النار.(12/305)
العلم في صحته:
فمنهم من يرى أن صلاته صحيحه، لأن الرجل قد قام بالواجب وهو ستر العورة.
ومنهم من يرى أن صلاته ليست بصحيحه، وذلك لأنه ستر عورته بثوب محرم، وجعل هؤلاء من شروط الستر أن يكون الثوب مباحاً، فالإنسان على خطر إذا صلى في ثياب مسبلة فعليه أن يتقي الله عز وجل، وأن يرفع ثيابه حتى تكون فوق كعبيه.
* * *
سئل فضيلة الشيخ: عن رجل يجعل ثيابه تحت الكعبين ولكن ليس بقصد الخيلاء والكبر فهل عليه وزر في ذلك؟
فأجاب بقوله: عليك وزر إذا نزل ثوبك أو سراويلك إلى ما تحت الكعبين لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار)) (1) ولم يقيده بالخيلاء.
* * *
سئل فضيلة الشيخ: هل تبطل صلاة المسبل؟
فأجاب بقوله: الصحيح أنها لا تبطل صلاته، ولكنه آثم معرض نفسه للعذاب، فإن كان مسبلاً خيلاء فإن عقوبته ألا ينظر الله إليه يوم القيامة، ولا يزكيه، وله عذاب أليم، وإن كان قد نزل إزاره إلي ما تحت الكعب من غير خيلاء فإنه يعذب " ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار" (2) ولهذا كان إنزال الثوب والسروال والمشلح إلي ما تحت
__________
(1) تقدم تخريجه ص 305.
(2) تقدم تخريجه ص 305.(12/306)
الكعبين حراماً بكل حال، لكن عقوبته فيما إذا جره خيلاء أعظم مما إذا كان غير خيلاء، وهو من كبائر الذنوب لورود الوعيد عليه.
* * *
223 وسئل فضيلته: عن عقوبة الإسبال إذا قصد به الخيلاء؟
وعقوبته إذا لم يقصد به الخيلاء؟ وكيف يجاب من احتج أبي بكر رضي الله عنه؟
فأجاب بقوله: إسبال الإزار إذا قصد به الخيلاء فعقوبته أن لا ينظر الله تعالى إليه يوم القيامة، ولا يكلمه، ولا يزكيه، وله عذاب أليم.
وأما إذا لم يقصد به الخيلاء فعقوبته أن يعذب ما نزل من الكعبين بالنار، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب)) (1) . وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة)) (2) . فهذا فيمن جر ثوبه خيلاء.
وأما من لم يقصد الخيلاء ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضى الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار)) (3) . ولم يقيد ذلك بالخيلاء، ولا يصح أن يقيد بها يناء على الحديث الذي قبله، لأن أيا سعيد الخدري رضى الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أزره المؤمن إلى نصف الساق ولا حرج - أو قال -:
__________
(1) أخرجه مسلم: كتاب الإيمان / باب بيان غلط تحريم إسبال الإزار.
(2) أخرجه البخاري: كتاب اللباس / باب من جر ثوبه من الخيلاء، ومسلم: كتاب اللباس / باب تحريم جر الثوب خيلاء.
(3) تقدم تخريجه ص 305.(12/307)
لا جناح عليه فما بينه وبين الكعبين، وما كان أسف من ذلك فهو في النار، ومن جر بطراً لم ينظر الله إليه يوم القيامة)) (1) . رواه مالك، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة، وابن حيان في صحيحه ذكره في كتبا الترغيب والترهيب في الترغيب في القميص ص 88 ج 3.
ولأن العملين مختلفان، والعقوبتين مختلفتان، ومتى اختلف الحكم والسبب امتنع حمل المطلق على المقيد، لما يلزم على ذلك من التناقض.
وأما من أحتج علينا بحديث أبي بكر – رضى الله عنه – فنقول له ليس لك حجة فيه من وجهين:
الوجه الأول: أن أبا بكر رضى الله عنه قال: ((إن أحد شقي ثوبي يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه..)) (2) فهو رضى الله عنه لم يرخ ثوبه اختياراً منه، بل كان ذلك يسترخي، ومع ذلك فهو يتعاهده، والذين يسبلون ويزعمون أنهم لم يقصدوا الخيلاء يرخون ثيابهم عن قصد، فنقول لهم: إن قدتم إنزال ثيابكم إلى أسفل من الكعبين بدون قصد الخيلاء عذبتم على ما نزل فقط بالنار، وإن جررتم ثيابكم خيلاء عذبتم بما هو أعظم من ذلكم، لا يكلمكم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليكم، ولا يزكيكم، ولكم عذاب أليم.
الوجه الثاني: أن أبا بكر رضى الله عنه زكاه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشهد له أنه ليس ممن يصنع خيلاء، فهل نال أحد من هؤلاء تلك التزكية
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد 3/5، وأبو داود ك كتاب اللباس / باب في قدر موضع الإزار (4093) ، وابن ماجة: كتاب اللباس / باب موضع الإزار أين هو (3573) ، والنسائي: كتاب الزينة / باب موضع الإزار (بنحوه) ، ومالك 2/217.
(2) أخرجه البخاري: كتاب اللباس / باب من جر إزاره من غير خيلاء.(12/308)
والشهادة؟ ولكن الشيطان يفتح لبعض الناس اتباع المتشابه من نصوص الكتاب والسنة ليبرر لهم ما كانوا يعملون، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، نسأل الله لنا الهداية والعافية. حرر في 29/6/1399 هـ.
* * *
224 وسئل فضيلته: عن حكم الإسبال؟
فأجاب بقوله: إسبال الثوب على نوعين:
أحدهما: أن يكون خيلاء وفخراً فهذا من كبائر الذنوب وعقوبته عظيمة، ففي الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة)) (1) . وعن أبي ذر الغفاري رضى الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم)) قال: فقرأها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاث مرات. قال أبو ذر: خابوا وخسروا، من هم يا رسول الله؟ قال: ((المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف والكذب)) (2) . فهذا النوع هو الإسبال المقرون بالخيلاء، وفيه هذا الوعيد الشديد أن الله لا ينظر إلى فاعله، ولا يكلمه، ولا يزكيه يوم القيامة وله عذاب أليم. وهذا العموم في حديث أبي ذر رضى الله عنه مخصص بحديث ابن عمر رضى الله عنهما فيكون الوعيد فيه على من فعل ذلك خيلاء لاتحاد العمل والعقوبة في الحديثين.
النوع الثاني من الإسبال: أن يكون لغير الخيلاء، فهذا حرام
__________
(1) تقدم تخريجه ص 307.
(2) تقدم تخريجه ص 307.(12/309)
ويخشى أن يكون من الكبائر، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ توعد فيه بالنار، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضى الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار)) (1) . ولا يمكن أن يكون هذا الحديث مخصصاً بحديث أبن عمر رضى الله عنهما، لأن العقوبة مختلفة، ويدل لذلك حديث أبي سعيد الخدري رضى الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أزرة المؤمن إلى نصف الساق ولا حرج، أو قال: لا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين، وما كان أسفل من ذلك فهو في النار، ومن جر إزاره بطراً لم ينظر الله إليه)) (2) . رواه مالك، وأبو دواد، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان في صحيحه. ففرق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين من جر ثوبه خيلاء ومن كان إزاره أسفل من كعبيه.
لكن إن كان السروال ينزل عن الكعبين بدون قصد وهو يتعاهده ويرفعه فلا حرج، ففي حديث ابن عمر السابق أن أبا بكر رضى الله عنه قال: يا رسول الله: إن أحد شقي إزاري يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لست ممن يصنعه خيلاء) (3) . رواه البخاري.
* * *
225 وسئل فضيلة الشيخ: هل يجوز للخياط أن يفصل للرجال ثياباً تنزل عن الكعبين؟
فأجاب بقوله: لا يحل لصاحب محل الخياطة أن يفصل للرجال ثياباً تنزل عن الكعبين، لأن إسبال الثياب عن الكعبين من كبائر الذنوب
__________
(1) تقدم تخريجه ص 307.
(2) تقدم تخريجه ص 308.
(3) تقدم تخريجه ص 308.(12/310)
فقد صح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أن ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار)) (1) . وهذا وعيد وتحذير، وكل ذنب فيه وعيد فإنه من الكبائر، ومن فصل للرجال ثياباً تنزل عن الكعبين فقد شاركهم في هذه الكبيرة وله منها نصيب من ذلك، قال تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ 2) .
سئل فضيلة الشيخ: عن حكم التصوير (2) ؟ وحكم اقتناء الصور؟ وحكم الصور التي تمثل الوجه وأعلى الجسم؟
فأجاب - حفظه الله - بقوله: التصوير نوعان:
أحدهما: تصوير باليد.
والثاني: تصوير بالآلة.
فأما التصوير باليد فحرام، بل هو كبيرة من كبائر الذنوب، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعن فاعله، ولا فرق بين أن يكون للصورة ظل أو تكون مجرد رسم على القول الراجح لعموم الحديث، وإذا كان التصوير هذا من الكبائر، فتمكين الإنسان غيره أن يصور نفسه إعانة على الإثم والعدوان فلا يحل.
وأما التصوير بالآلة وهي (الكاميرا) التي تنطبع الصورة بواسطتها
__________
(1) تقدم تخريجه ص 305.
(2) تقدمت فتاوى التصوير ضمن فتاوى العقيدة، وقد عرضت على فضيلة الشيخ حفظه الله تعالى إعادتها ههنا جرياً على عادة الفقهاء، فوافق فضيلته على ذلك، وقد أضيفت بعض الفتاوى، والله والموفق(12/311)
من غير أن يكون للمصور فيها أثر بتخطيط الصورة وملامحها فهذه موضع خلاف بين المتأخرين: فمنهم من منعها، ومنهم من أجازها، فمن نظر إلى لفظ الحديث منع، لأن التقاط الصورة بالآلة داخل في التصوير، ولولا عمل الإنسان بالآلة بالتحريك والترتيب وتحميض الصورة لم تلتقط الصورة، ومن نظر إلى المعنى والعلة أجازها، لأن العلة هي مضاهاة خلق الله، والتقاط الصورة بالآلة ليس مضاهاة لخلق الله، بل هو نقل للصورة التي خلقها الله تعالى نفسها فهو ناقل لخلق الله لا مضاه له، قالوا ويوضح ذلك: أنه لو قلد شخص كتابة شخص لكانت كتابة الثاني غير كتابة الأول بل هي مشابهة لها، ولو نقل كتابته الصورة الفوتوغرافية لكانت الصورة بالآلة الفوتوغرافية (الكاميرا) الصورة فيه هي تصوير الله نقل بواسطة آله التصوير.
الإحتياط الإمتناع من ذلك، لأنه من المتشابهات، ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، لكن لو احتاج إلى ذلك لأغراض معينة كإثبات الشخصية فلا بأس به، لأن الحاجة ترفع الشبهة، لأن المفسدة لم تتحقق في المشببه فكانت الحاجة رافعة لها.
أما اقتناء الصور فعلى نوعين:
النوع الأول: أن تكون الصورة مجسمة أي ذات جسم فاقتناؤها حرام، وقد نقل ابن العربي الإجماع عليه نقله عنه في فتح الباري ص 388 ج 10ط. السلفية قال: ((وهذا الإجماع محله في غير لعب البنات كما سأذكره في باب من صور صورة)) وقد أحال في الباب المذكور على كتاب الأدب وذكره في كتاب الأدب في باب الانبساط إلى الناس ص 527 من المجلد المذكور على حديث عائشة – رضى الله عنها – قالت:
(((12/312)
كنت ألعب بالبنات عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان لي صواحب يلعبن معي فكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا دخل يتقمعن منه فيسربهن إلي فيلعبن معي)) (1) .
قال في شرحه: ((واستدل بهذا الحديث على جواز اتخاذ صور البنات واللعب، من أجل لعب البنات بهن، وخص ذلك من عموم النهي عن اتخاذ الصور، وبه جزم عياض ونقله عن الجمهور، قال: وذهب بعضهم إلى أنه منسوخ، وخصه بعضهم بالصغار)) .
وإن المؤسف أن بعض قومنا الآن، صاروا يقتنون هذه الصور ويضعونها في مجالسهم أو مداخل بيوتهم، نزلوا بأنفسهم إلى رتبة الصبيان مع اكتساب الإثم والعصيان نسأل الله لنا ولهم الهداية.
النوع الثاني: أن تكون الصورة غير مجسمة بأن تكون رقماً على شيء فهذه أقسام.
القسم الأول: أن تكون معلقة على سبيل التعظيم والإجلال مثل ما يعلق من صور المملوك، والرؤساء، والوزراء، والعلماء، والوجهاء، والآباء، وكبار الإخوة ونحوها، فهذا القسم حرام لما فيه من الغلو بالمخلوق، والتشبه بعباد الأصنام والأوثان، مع أنه قد يجر إلى الشرك فيما إذا كان المعلق صورة عالم أو عابد ونحوه.
القسم الثاني: أن تكون معلقة على سبيل الذكرى مثل من يعلقون صور أصحابهم وأصدقائهم في غرفهم الخاصة فهذه محرمة فيما يظهر لوجهين:
الوجه الأول: أن ذلك يوجب تعلق القلب بهؤلاء الأصدقاء
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب الأدب / باب الإنبساط إلى الناس، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة / باب فضل عائشة رضى الله عنها.(12/313)
تعلقاً لا ينفك عنه، وهذا يؤثر تأثيراً بالغاً على محبة الله ورسوله وشرعه ويوجب تشطير المحبة بين هؤلاء الأصدقاء وما تجب محبته شرعاً، وكأن قارعاً يقرع قلبه كلما دخل غرفته. أنتبه. أنتبه. صديقك. صديقك وقد قيل:
أحبب حبيبك هونا ما فعسى أن يكون بغيضك يوماً ما
الوجه الثاني: أنه ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي طلحة – رضى الله عنه – قال: سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ((لا تدخل الملائكة بيتاً في كلب ولا صورة)) (1) . وهذه عقوبة، ولا عقوبة إلا على فعل محرم.
القسم الثالث: أن تكون معلقة على سبيل التجميل والزينة، فهذه محرمة أيضاً لحديث عائشة – رضى الله عنها – قالت: قدم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هتكه وقال: ((أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله)) (2) . قالت فجعلته وسادة أو وسادتين، رواه البخاري. والقرام / خرقة تفرش في الهودج أو يغطى بها يكون فيها رقوم ونقوش. والسهوة: بيت صغير في جانب الحجرة يجعل فيه المتاع.
وعن عائشة - رضى الله عنه - أنها اشترت نمرقة فيها تصاوير فلما رأها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قم على الباب فلم يدخل فعرفت في وجهه الكراهية
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب بدء الخلق / باب إذا وقع الذباب. ..، ومسلم كتاب اللباس / باب تحريم تصوير صورة الحيوان.
(2) أخرجه البخاري: كتاب اللباس / باب ما وطئ من التصاوير، ومسلم: كتاب اللباس / باب تحريم تصوير صورة الحيوان.(12/314)
قالت: فقلت أتوب إلى الله ماذا أذنبت؟ قال: ((ما هذه النمرقة؟)) قلت: لتجلس عليها وتوسدها، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة يقال لهم: أحيوا ما خلقتم، وإن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه الصور)) (1) . رواه البخاري.
النمرقة: الوسادة العريضة تصلح للإتكاء والجلوس.
القسم الرابع: أن تكون ممتهنة كالصورة التي تكون في البساط والوسادة، وعلى الأواني وسماط الطعام ونحوها، فنقل النووي عن جمهور العلماء من الصحابة والتابعين جوازها، وقال: هو قول الثوري ومالك وأبي حنيفة والشافعي، وهو كذلك مذهب الحنابلة. ونقل في فتح الباري – ص 391 ج 10 ط. السلفية – حاصل ما قيل في ذلك عن ابن العربي فقال: حاصل ما في اتخاذ الصور، أنها إن كانت ذات أجسام حرم الإجماع، وإن كانت رقماً فأربعة أقوال:
الأول: يجوز مطلقاً على ظاهر قوله في حديث الباب ((إلا رقماً في ثوب)) (2) .
الثاني: المنع مطلقاً حتى الرقم.
الثالث: إن كانت الصورة باقية الهيئة قائمة الشكل حرم، وإن قطعت الرأس أو تفرقت الأجزاء جاز قال: وهذا هو الأصح.
الرابع: إن كان مما يمتهن جاز وإن كان معلقاً لم يجز. أهـ.
والذي صححه هو ظاهر حديث النمرقة، والقول الرابع هو ظاهر
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب اللباس / باب من كره القعود على الصور.
(2) أخرجه البخاري: كتاب اللباس / باب من كره القعود على الصور، ومسلم: كتاب اللباس / باب تحريم تصوير صورة الحيوان.(12/315)
حديث القرام، ويمكن الجمع بينهما بأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما هتك الستر تفرقت أجزاء الصورة فلم تبق كاملة، بخلاف النمرقة فإن الصورة كانت فيها كاملة فحرم اتخاذها، وفي حديث أبي هريرة – رضى الله عنه – أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((أتاني جبريل فقال: أتيتك البارحة فلم يمنعني أن أكون دخلت إلا أنه كان على الباب تماثيل، وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل، وكان في البيت كلب، فمر برأس التمثال الذي على باب البيت يقطع فيصير كهيئة الشجرة، ومُر بالستر فليقطع فليجعل منه وسادتان منبوذتان توطآن، ومر بالكلب فليخرج)) (1) . ففعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رواه أهل السنن. وفي رواية النسائي: ((إما أن تقطع رؤوسها، أو تجعل بسطاً توطأ)) . ذكر هذا الحديث في فتح الباري ص 392 من المجلد العاشر السابق وزعم في ص 390 أنه مؤيد للجمع الذي ذكرناه، وعندي أن في ذلك نظراً، فإن هذا الحديث ولاسيما رواية النسائي تدل على أن الصورة إذا كانت في شيء يمتهن فلا بأس بها وإن بقيت كاملة وهو رأي الجمهور كما سبق.
القسم الخامس: أن تكون مما تعم به البلوى ويشق التحرز منه كالذي يوجد في المجلات والصحف وبعض الكتب ولم تكن مقصودة لمقتنيها بوجه من الوجوه بل هي مما يكرهه ويبغضه ولكن لابد له منها والتخلص منها فيه عسر ومشقة، وكذلك ما في النقود من صور الملوك والرؤساء والأمراء ممال ابتليت به الأمة الإسلامية فالذي يظهر لي أن هذا لا حرج فيه على من وقع في يده بغير قصد منه إلى اتخاذه من أجل صوره، بل هو يكرهه أشد الكراهة ويبغضه ويشق عليه التحرز منه فإن
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في " المسند " 2/305.(12/316)
الله تعالى - لم يجعل على عباده في دينهم من حرج، ولا يكلفهم شيئاً لا يستطيعونه إلا بمشقة عظيمة أو فساد مال، ولا يصدق على مثل هذا أنه متخذ للصورة ومقتن لها.
وأما سؤالكم عن الصورة التي تمثل الوجه وأعلى الجسم، فإن حديث أبي هريرة الذي أشرنا إليه يدل على أنه لابد من قطع الرأس وفصله فصلاً تاماً عن بقية الجسم، فأما إذا جمع الصدر فما هو إلا رجل جالس، بخلاف ما إذا أبين الرأس إبانة كاملة عن الجسم، ولهذا قال الإمام أحمد - رحمه الله -: الصورة الرأس. وكان إذا أراد طمس الصورة حك رأسها، فإذا قطع الرأس فليس هو صورة)) . فتهاون بعض الناس في ذلك مما يجب الحذر منه.
نسأل الله لنا ولكم ولإخواننا المسلمين السلامة والعافية مما لا تحمد عقباه، إنه جواد كريم.
* * *
سئل فضيلة الشيخ: عن حكم التصوير؟
فأجاب بقوله: التصوير على أنواع:
النوع الأول: أن يصور ما له ظل وجسم على هيئة إنسان أو حيوان، وهذا حرام ولو فعله عبئاً ولو لم يقصد المضاهاة، لأن المضاهاة لا يشترط فيها القصد، حتى لو وضع هذه التثمال لابنه لكي يدئه به.
فإن قيل: أليس المحرم ما صور لتذكار قوم صالحين كما هو أصل الشرك في قوم نوح؟(12/317)
أجيب: أن الحديث في لعن المصورين عام، لكن إذا أنضاف إلى التصوير هذا القصد صار أشد تحريماً.
النوع الثاني: أن يصور صورة ليس لها جسم بل بالتلوين والتخطيط، فهذا محرم أيضاً لعموم الحديث، ويدل له حديث النمرقة حيث أقبل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى بيته فلما أراد أن يدخل رأي نمرقة فيها تصاوير فوقف وتأثر، وعرفت الكارهة في وجهه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت عائشة – رضى الله عنها -: ما أذنبت يا رسول الله. فقال: ((إن أصحاب هذه الصور يعذبون يقال لهم: أحيوا ما خلقتم)) (1) . فالصور بالتلوين كالصور بالتجسيم على الصحيح، وقوله في صحيح البخاري: ((إلا رقماً في ثوب)) (2) . إن صحت الرواية هذه فالمراد بالاستثناء ما يحل تصويره من الأشجار ونحوها ليتفق مع الأحاديث الأخرى.
النوع الثالث: أن تلتقط الصورة التقاطاً بأشعة معينة بدون أي تعديل أو تحسين من الملتقط، فهذا محل خلاف بين العلماء المعاصرين على قولين:
القول الأول: أنها صورة، وإذا كان كذلك فإن حركة هذا الفاعل تعتبر تصويراً إذ لولا تحريكه إياها ما انطبعت هذه الصورة على هذه الورقة، ونحن متفقون على أن هذه صورة فحركته تعتبر تصويراً، فيكون داخلاً في العموم.
القول الثاني: أنها ليست بتصوير، لأن التصوير فعل المصور، وهذا الرجل ما صورها في الحقيقة وإنما التقطها بالآلة، والتصوير من
__________
(1) تقدم تخريجه ص 315.
(2) تقدم تخريجه ص 315.(12/318)
صنع الله، ومثال ذلك: لو أدخلت كتاباً في آلة التصوير ثم خرج من هذه الآلة فإن رسم الحروف من الكتاب الأول، لا من المحرك بدليل أنه قد يحركها شخص أمي لا يعرف الكتابة إطلاقاً أو أعمى.
وهذا القول أقرب، لأن المصور لا يعتبر مبدعاً، ومخططاً، ومضاهياً لخلق الله تعالى وليس هذا كذلك.
* * *
سئل فضيلة الشيخ: هل يجب إتلاف الرأس في الصور لزوال التحريم؟ أو يكفي فصله عن الجسم؟ وما حكم الصور التي في العلب والمجلات والصحف ورخص القيادة والدراهم؟ وهل تمنع من دخول الملائكة؟
فأجاب بقوله: إذا فصل الرأس عن الجسم فظاهر الحديث: ((مر برأس التمثال فليقطع)) (1) أنه لا يجب إتلاف الرأس، لأنه لم يذكر في الحديث إتلافه وإن كان في ذلك شيء من التردد.
وأما الجسم بلا رأس فهو كالشجرة لا شك في جوازه.
أما بالنسبة لما يوجد في العلب والمجلات والصحف من الصور: فما يمكن التحرز منه فالورع تركه، وأما ما لا يمكن التحرز منه، والصورة فيه غير مقصودة، فالظاهر أن التحريم يرتفع فيه بناء على القاعدة الشرعية (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج) . والمشقة تجلب التيسير، والبعد عنه أولى.
وكذلك بالنسبة لما يوجد في رخص القيادة وحفائظ النفوس،
__________
(1) تقدم تخريجه ص 316.(12/319)
والشهادات والدراهم، فهو ضرورة لا إثم فيه، ولا يمنع ذلك من دخول الملائكة.
وأما قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وأن لا تدع صورة إلا طمستها)) (1) ففيه احتمال قوي، أن المراد كل صورة مقصودة اتخذت لذاتها لاسيما في أوقاتهم، فلا تجد صورة في الغالب إلا مقصودة لذاتها. ولا ريب أن الصور المقصودة لا يجوز اقتناؤها كالصور التي تتخذ للذكرى، أو للتمتع بالنظر إليها، أو للتلذذ بها ونحو ذلك.
* * *
وسئل جزاه الله عنا وعن المسلمين خير الجزاء: عن حكم صنع التماثيل؟
فأجاب قائلاً: صنع التماثيل المجسمة إن كانت من ذوات الأرواح فهي محرمة لا تجوز، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثبت عنه أنه لعن المصورين، وثبت أيضاً عنه أنه قال: ((قال الله عز وجل: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي)) (2) . وهذا محرم.
أما إذا كانت التماثيل ليست من ذوات الأرواح، فإنه لا بأس بها وكسبها حلال، لأنها من العمل المباح. والله الموفق.
* * *
__________
(1) أخرجه مسلم: كتاب الجنائز / باب الأمر بتسوية القبر.
(2) أخرجه البخاري: كتاب التوحيد / باب قول الله تعالى: (والله خلقكم وما تعملون) . ومسلم: كتاب اللباس / باب تحريم تصوير صورة الحيوان.(12/320)
وسئل فضيلته: عن حكم رسم ذوات الأرواح وهل هو داخل في عموم الحديث القدسي ((ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي فليخلقوا ذره، أو ليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة)) ؟
فأجاب قائلا ً: نعم هو داخل في هذا الحديث، لكن الخلق خلقان: خلق جسمي وصفي وهذا في الصور المجسمة، وخلق وصفي لا جسمي وهذا في الصور المرسومة.
وكلاهما يدخل في الحديث المتقدم فإن خلق الصفة كخلق الجسم، وإن كان الجسم أعظم، لأنه جمع بين الأمرين الخلق الخسمي والخلق الوصفي، ويدل على ذلك - أي العموم - وأن التصوير محرم باليد سواء كان تجسيماً أم كان تلويناً عموم لعن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمصورين فعموم لعن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدل على أنه لا فرق بين الصور المجسمة والملونة التي لا يحصل التصوير فيها إلا بالتلوين فقط، ثم إن هذا هو الأحوط. والأولى بالمؤمن أن يكون بعيداً عن الشبه.
ولكن قد يقول قائل: أليس الأحوط في اتباع ما دل عليه النص لا في اتباع الأشد؟
فنقول: صحيح إن الأحوط اتباع ما دل عليه النص لا اتباع الأشد، لكن إذا وجد لفظ عام يمكن أن يتناول هذا وهذا فالأحوط الأخذ بعمومه، وهذا ينطبق تماماً على حديث التصوير، فلا يجوز للإنسان أن يرسم صورة ما فيه روح من إنسان وغيره، لنه داخل في لعن المصورين. والله الموفق.
* * *
وسئل فضيلة الشيخ: عن حكم التصوير الفوتوغرافي؟(12/321)
فأجاب - حفظه الله تعالى - بقوله: الصور الفوتوغرافية الذي نرى فيها، أن هذه الآلة التي تخرج الصورة فوراً، وليس للإنسان في الصورة أي عمل، نرى أن هذا ليس من باب التصوير، وإنما هو من باب نقل صورة صورها الله - عز وجل - بواسطة هذه الآلة، فهي انطباع لا فعل للعبد فيه من حيث التصوير، والأحاديث الواردة إنما هي في التصوير الذي يكون بفعل العبد ويضاهي به خلق الله، ويتبين لك ذلك جيداً بما لو كتب لك شخص رسالة فصورتها في الآلة الفوتوغرافية، فإن هذه الصورة التي تخرج ليست هي من فعل الذي أدار الآلة وحركها، فإن هذا الذي حرك الآلة بما يكون لا يعرف الكتابة أصلاً، والناس يعرفون أن هذا كتابة الأول، والثاني ليس له أي فعل فيها، ولكن إذا صور هذا التصوير الفوتوغرافي لغرض محرم، فإنه يكن كراماً تحريم الوسائل.
* * *
232 وسئل أيضاً: عن حكم التصوير؟ وكيف يفعل من طلب منه التصوير في الامتحان؟ وما حكم مشاهدة الصور التي في المجلات والتلفزيون؟
فأجاب بقوله: سؤالكم عن التصوير، فالتصوير نوعان:
أحدهما: أن يكون تصوير غير ذوات الأرواح كالجبال والأنهار والشمس، والقمر، والأشجار فلا بأس به عند أكثر أهل العلم، وخالف بعضهم فمنع تصوير ما يثمر كالشجر والزروع ونحوها، والصواب قول الأكثر.
الثاني: أن يكون تصوير ذوات الأرواح وهذا على قسمين:(12/322)
القسم الأول: أن يكون باليد فلا شك في تحريمه وأنه من كبائر الذنوب، لما ورد فيه من الوعيد الشديد مثل حديث ابن عباس رضى الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفساً فتعذبه في جهنم)) (1) . رواه مسلم. وحديث أبي جحيفة رضى الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لعن آكل الربا، وموكله، والواشمة، والمستوشمة، والمصور)) (2) ، رواه البخاري. وحديث عائشة – رضى الله عنها – عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله)) (3) . رواه البخاري ومسلم، وفي واية مسلم: ((الذين يشبهون بخلق الله)) . وحديث أبي هريرة رضى الله عنه قال سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ((ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقاً كخلقي فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة)) (4) . رواه البخاري ومسلم. والتصوير المذكور ينطبق على التصوير باليد بأن يخطط الإنسان الصورة بيده حتى يكلمها فتكون مثل الصورة التي خلق الله تعالى، لأنه حاول أن يبدع كإبداع الله تعالى، ويخلق كخلقه وإن لم يقصد المشابهة لكن الحكم إذا علق على وصف تعلق به، فمتى وجد الوصف وجد الحكم، والمصور إذا صنع الصورة تحققت المشابهة بصنعه وإن لم ينوها، والمصور في الغالب لا يخلو من نية المضاهاة، ولذلك تجده يفخر بصنعه كلما كانت الصورة أجود وأتقن.
__________
(1) أخرجه مسلم: كتاب اللباس / باب تحريم تصوير صورة الحيوان.
(2) أخرجه البخاري: كتاب اللباس / باب من لعن المصور.
(3) تقدم تخريجه ص 314.
(4) تقدم تخريجه ص 320.(12/323)
وبهذا تعرف سقوط ما يموه به بعض من يستسيغ التصوير من أن المصور لا يريد مشابهة خلق الله، لأننا نقول له: المشابهة حصلت بمجرد صنعك شئت أم أبيت.
ولهذا لو عمل شخص عملاً يشبه عمل شخص آخر لقنا نحن وجميع الناس: إن عمل هذا يشبه عمل ذاك وإن كان هذا العامل لم يقصد المشابهة.
القسم الثاني: أن يكون تصوير ذوات الأرواح بغير اليد، مثل التصوير بالكاميرا التي تنقل الصور التي خلقها الله تعالى على ما هي عليه، من غير أن يكون للمصور عمل في تخطيطها سوى تحرك الآلة التي تنطبع بها الصورة على الورقة، فهذا محل نظر واجتهاد، لأنه لم يكن معروفاً على عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعهد الخفاء الراشدين، والسلف الصالح، ومن ثم اختلف فيه العلماء المتأخرون:
فمنهم من منعه، وجعله داخلاً فيما نهي عنه نظراً لعموم اللفظ له عرفاً.
ومنهم من أحله نظراً للمعنى، فإن التصوير بالكاميرا لم يحصل فيه من المصور أي عمل يشابه به خلق الله تعالى، وإنما انطبع بالصورة خلق الله تعالى على الصفة التي خلقه الله تعالى عليها، فإنك إذا صورة الصك فخرجت الصورة لم تكن الصورة كتابتك، بل كتابة من كتب الصك انطبعت على الورقة بواسطة الآلة، فهذا الوجه أو الجسم المصور ليست هيئته وصورته وما خلق الله فيه من العينين، والأنف، والشفتين، والصدر، والقدمين وغيرها، ليست هذه الهيئة والصورة بتصويرك أو تخطيطك بل الآلة نقلتها على ما خلقها الله تعالى عليه وصورها، بل زعم أصحاب هذا القول أن التصوير بالكاميرا لا يتناوله(12/324)
لفظ الحديث كما لا يتناوله معناه، فقد قال في القاموس: الصورة الشكل قال: وصور الشيء قطعه وفضله. قالوا وليس في التصوير بالكاميرا تشكيل ولا تفصيل، وإنما هو نقل شكل وتفصيل شكله وفصله الله تعالى، قالوا: والأصل في الأعمال غير التعبدية الحل إلا ما أتي الشرع بتحريمه كما قيل:
والأصل في الأشياء حل وأمنع عبادةً إلا بإذن الشارع
فإن يقع في الحكم شك فأرجع للأصل في النوعين قم أتبع
والقول بتحريم التصوير بالكاميرا أحوط، والقول بحله أقعد لكن القول بالحل مشروط بأن لا يتضمن أمراً محرماً فإن تضمن أمراً محرماً كتصوير امرأة أجنبية، أو شخص ليعلقه في حجرته تذكاراً له، أو يحفظه فيما يسمونه (ألبوم) ، ليتمتع بالنظر إليه وذكراه، كان ذلك محرماً لأن اتخاذ الصور واقتناءها في غير ما يمتهن حرام عند أهل العلم أو أكثرهم، كما دلت على ذلك السنة الصحيحة.
ولا فرق في حكم التصوير بين ما له ظل وهو المجسم، وما لا ظل له لعموم الأدلة في ذلك وعدم المخصص.
ولا فرق أيضاً في ذلك بين ما يصور لعباً ولهواً وما يصور على السبورة لترسيخ المعنى في أفهام الطلبة كما زعموا، وعلى هذا فلا يجوز للمدرس أن يرسم على السبورة صورة إنسان أو حيوان.
وإن دعت الضرورة إلى رسم شيء من البدن فليصور منفرداً، بأن يصور الرجل وحدها، ثم يشرح ما يحتاج إلى شرح منها، ثم يمسحها ويصور البد كذلك ثم يمسحها، ويصور الرأس وهكذا كل جزء وحده، فهذا لا بأس به إن شاء الله تعالى.
وأما من طلب منه التصوير في الامتحان: فليصور شجرة أو(12/325)
جبلاً أو نهراً، لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، مع أني لا أظن ذلك يطلب منه إن شاء الله تعالى.
وأما مشاهدة الصور في المجلات والصحف والتليفزيون: فإن كانت صور غير آدمي فلا بأس بمشاهدتها، لكن لا يقتنيها من أجل هذه الصور.
وإن كانت صور آدمي: فإن كان يشاهدها تلذذاً أو استمتاعاً بالنظر فهو حرام، وإن كان غير تلذذ ولا استمتاع ولا يتحرك قلبه ولا شهوته بذلك، فإن كان ممن يحل النظر إليه كنظر الرجل إلى الرجل ونظر المرأة إلى المرأة أو إلى الرجل أيضاً على القول الراجح فلا بأس به، لكن لا يقتنيه من أجل هذه الصور، وإن كان ممن لا يحل له النظر إليه كنظر الرجل إلى المرأة الأجنبية فهذا موضع شك وتردد، والاحتياط أن لا ينظر خوفاً من الفتنة، وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها)) (1) . والنعت بالصورة أبلغ من النعت بالوصف إلا أن هذا الحديث رواه الإمام أحمد من وجه آخر بلفظ: ((لتنعتها لزوجها)) وذكر في فتح الباري ص 338 ج 9 الطبعة السلفية أن النسائي زاد في روايته: ((في الثوب الواحد)) وهو مفهوم من قوله: ((لا تباشر)) ومجموع الروايات يقتضي أن الزوجة عمدت إلى مباشرة المرأة لتصف لزوجها ما تحت الثياب منها، ومن أجل هذا حصل عندنا الشك والتردد في جواز نظر الرجل إلى صورة المرأة في الصحف والمجلات والتليفزيون، والبعد عن وسائل الفتن مطلوب، والله المستعان.
* * *
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب النكاح / باب لا تباشر المرأة المرأة.(12/326)
233 سئل فضيلة الشيخ: جاء في الفتوى السابقة فيما يتعلق بمشاهدة الصور ما نصه: ((وإن كان ممن لا يحل له النظر إليه كنظر الرجل إلى المرأة الأجنبية فهذا موضع شك وتردد والاحتياط أن لا ينظر خوفاً من الفتنة)) فهذا يفهم منه أن فضيلتكم لا يرى بأساً في نظر الرجل إلى الصورة ولو كانت صورة امرأة أجنبية فنرجو التوضيح؟
فأجاب فضيلته: النقطة التي أشار إليها السائل وهي أنه يفهم من كلامنا أننا لا نرى بأساً في نظر الرجل إلى الصورة ولو كانت صورة امرأة أجنبية فنقول هذه النقطة فيها تفصيل:
فإن كانت امرأة معينة ونظر إليها نظر تلذذ وشهوة فهذا حرام، لأن نفسه حينئذ تتعلق بها وتتبعها وربما يحصل بذلك شر وفتنة، فإن لم ينظر إليها نظر تلذذ وشهوة وإنما هي نظرة عابرة لم تحرك له ساكناً، ولم توجب له تأملاً فتحريم هذه النظر فيه نظر، فإن إلحاق نظر الصورة بنظر الحقيقة غير صحيح، لما بينهما من الفرق العظيم في التأثير، لكن الأولى البعد عنه لأنه قد يفضي إلى نظر التأمل ثم التلذذ والشهوة، ولهذا قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها)) (1) . رواه البخاري، ورواه أحمد وأبو داود بلفظ: ((لتنعتها لزوجها)) . واللام للتعليل.
وأما إن كانت الصورة لامرأة غير معينة فلا بأس بالنظر إليها إذا لم يخش من ذلك محذور شرعي.
* * *
234 ...
__________
(1) تقدم تخريجه ص 327.(12/327)
وسئل فضيلة الشيخ: عن تهاون كثير من الناس في النظر إلى صور النساء الأجنبيات بحجة أنها صورة لا حقيقة لها؟
فأجاب - حفظه الله تعالى - بقوله: هذا تهاون خطير جداً وذلك أن الإنسان إذا نظر للمرأة سواء كان ذلك بوساطة وسائل الإعلام المرئية، أو بواسطة الصحف أو غر ذلك، فإنه لابد أن يكون من ذلك فتنة على قلب الرجل تجره إلى أن يتعمد النظر إلى المرأة مباشرة، وهذا شيء مشاهد.
ولقد بلغنا أن من الشباب من يقتني صور النساء الجميلات ليتلذذ بالنظر إليهن، أو يتمتع بالنظر إليهن، وهذا يدل على عظم الفتنة في مشاهدة هذه الصور، فلا يجوز للإنسان أن يشاهد هذه الصور، سواء كانت في مجلات أو صحف أو غير ذلك، إن كان يرى من نفسه التلذذ والتمتع بالنظر إليهن، لأن ذلك فتنة تضره في دينه، وفي اتجاهاته، ويتعلق قلبه بالنظر إلى النساء، فيبقى ينظر إليهن مباشرة.
* * *
سئل فضيلة الشيخ: لقد كثر عرض الصور الكبيرة والصغيرة في المحلات التجارية وهي صور إما للمثلين عالميين، أو أناس مشهورين، وذلك للتعريف بنوع أو أصناف من البضائع. وعند إنكار هذا المنكر يجيب أصحاب المحلات بأن هذه الصور غير مجسمة وهذا يعني أنها ليست محرمة، وهي ليست تقليداً لخلق الله باعتبارها بدون ظل ويقولون إنهم قد اطلعوا على فتوى لفضيلتكم بجريدة " المسلمون " مفادها أن التصوير المجسم هو المحرم وغير ذلك فلا، فنرجوا من فضيلتكم توضيح ذلك؟(12/328)
فأجاب فضيلته بقوله: من نسب إلينا أن المحرم من الصور هو المجسم وأن غير ذلك غير حرام فقد كذب علينا، ونحن نرى أنه لا يجوز لبس ما فيه صورة سواء كان من لباس الصغار أو من لباس الكبار، وأنه لا يجوز اقتناء الصور للذكرى أو غيرها إلا ما دعت الضرورة أو الحاجة إليه مثل التابعية والرخصة. والله الموفق.
* * *(12/329)
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فقد كثر السؤال حول ما نشر في المقابلة التي جرت بين وبين مندوب جريدة " المسلمون " يوم الجمعة 29/11/1410 هـ بالعدد 281 حول حكم التصوير " الفوتوغرافي " الفوري - الذي تخرج فيه الصورة فوراً دون تحميض - دخل في التصوير الذي نهى عنه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولعن فاعله.
وذكرت عله ذلك، ثم قلت: ولكن ينبغي أن يقال ما الغرض من هذا العمل؟
" إذا كان الغرض شيئاً مباحاً صار هذا العمل مباحاً بإباحة الغرض المقصود منه،وإن كان الغرض غير مباح صار هذا العمل حراماً، لا لأنه من التصوير، ولكن لأنه قصد به شيء حرام ".
وحيث إن الذي يخاطبني رجل صحفي، ذكرت مثالاً من المحرم يتعلق بالصحافة، وهو تصوير النساء على صفحات الجرائد والمجلات، ولم استطرد بذكر الأمثلة اكتفاء بالقاعدة الآنفة الذكر، وهي أنه متى كان الغرض مباحاً كان هذا العمل مباحاً، ومتى كان الغرض غير مباح كان هذا العمل حراماً.
ولكن بعض السائلين عن هذه المقابلة رغبوا في ذكر المزيد من(12/330)
الأمثلة للمباح والمحرم. وإجابة لرغبتهم أذكر الآن من الأمثلة المباحة:
إن يقصد بهذا التصوير ما تدعو الحاجة إلى إثباته كإثبات الشخصية، والحادثة المرورية والجنائية، والتنفيذية مثل أن يطلب منه تنفيذ شيء فيقوم بهذا التصوير لإثباته.
1 – التصوير للذكرى، كتصوير الأصدقاء، وحفلات الزواج، ونحوها، لأن ذلك يستلزم اقتناء الصور بلا حاجة وهو حرام، لأنه ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة، ومن ذلك أن يحتفظ بصورة ميت حبيب إليه كأبيه، وأمه، وأخيه يطالعها بين الحين والآخر، لأن ذلك يجدد الأحزان عليه، ويوجب تعلق قلبه بالميت.
2 – التصوير للتمتع النفسي أو التلذذ الجنسي برؤية الصورة، لأن ذلك يجر إلى الفاحشة.
والواجب على من عنده شيء من هذه الصور لهذا الأغراض، أن يقوم بإتلافها لئلا يلحقه الإثم باقتنائها.
هذه أمثلة للقاعدة الآنفة الذكر، ليست على سبيل الحصر، ولكن من أعطاه الله فهماً فسوف يتمكن من تطبيق بقية الصور على هذه القاعدة.
هذا والله أسأل للجميع الهداية والتوفيق لما يحب ويرضى.(12/331)
236 سئل فضيلة الشيخ: يحتاج بعض الطلبة إلى رسم بعض الحيوانات لغرض التعليم والدراسة فما حكم ذلك؟
فأجاب بقوله: لا يجوز أن تصور هذه الحيوانات لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعن المصورين وقال: ((أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون)) (1) . وهذا يدل على أن التصوير من كبائر الذنوب، لأن اللعن لا يكون إلا على كبيرة، والوعيد بشدة العذاب لا يكون إلا على كبيرة، ولكن من الممكن أن تصور أجزاء من الجسم كاليد والرجل وما أشبه ذلك، لأن هذه الأجزاء لا تحلها الحياة، وظاهر النصوص أن الذي يحرم ما يمكن أن تحله الحياة لقوله في بعض الأحاديث: ((كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ)) (2) .
* * *
237 سئل فضيلة الشيخ: يطلب من الطالب في بعض المدارس أن يرسم صورة لذات روح، أو يعطي مثلاً بعض دجاجة ويقال: أكمل الباقي، وأحياناً يطلب منه أن يقص هذه الصورة ويلزقها على الورق،، أو يعطى صورة فيطلب منه تلوينها فيما رأيكم في هذا؟
فأجاب فضيلته بقوله: الذي أرى ي هذا أنه حرام يجب منعه، وأن المسئولين عن التعليم يلزمهم أداء الأمانة في هذه الباب، ومنع هذه
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب اللباس / باب من صور صورة كلف يوم القيامة..، ومسلم كتاب اللباس / باب تحريم تصوير صورة الحيوان.
(2) أخرجه البخاري: كتاب اللباس / باب عذاب المصورين يوم القيامة، ومسلم: كتاب اللباس / باب تحريم تصوير صورة الحيوان.(12/332)
الأشياء، وإذا كانوا يريدون أن يثبتوا ذكاء الطالب، بإمكانهم أن يقولوا أصنع صورة سيارة أو شجرة، أو ما أشبه ذلك مما يحيط به علمه، ويحصل بذلك معرفة مدى ذكائه وفطنته للأمور، وهذا مما ابتلى به الناس بواسطة الشيطان، وإلا فلا فرق - بلا شك - في إجادة الرسم والتخطيط بين أن يخطط الإنسان صورة شجرة، أو سيارة، أو قصر، أو إنسان.
فالذي أرى أنه يجب على المسئولين منع هذه الأشياء، وإذا ابتلي الطالب ولابد فليصور حيواناً ليس له رأس.
* * *
238 وسئل فضيلة الشيخ: قلتم - حفظكم الله - في الفتوى السابقة: ((إذا ابتلي الطالب ولابد فليصور حيواناً ليس له رأس)) ولكن قد يرسم الطالب إذا لم يرسب الرأس فما العمل؟
فأجاب قائلاً: إذا كان هذا فقد يكون الطالب مضطراً لهذا الشيء، ويكون الإثم على من أمره وكلفه بذلك، ولكني آمل من المسئولين ألا يصل بهم الأمر إلى هذا الحد، فيضطروا عباد الله إلى معصية الله.
* * *
239 وسئل - حفظه الله -: عن حكم لبس الثياب التي فيها صورة حيوان أو إنسان؟
فأجاب بقوله: لا يجوز للإنسان أن يلبس ثياباً فيها صورة حيوان أو إنسان، ولا يجوز أيضاً أن يلبس غترة أو شماغاً أو ما أشبه ذلك وفيه صورة إنسان أو حيوان وذلك لأنه ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: ((إن(12/333)
الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة)) (1) .
ولهذا لا نرى لأحد أن يقتني الصور للذكرى كما يقولون، وأن من عنده صور للذكرى فإن الواجب عليه أن يتلفها، سواء كان قد وضعها على الجدار، أو وضعها في ألبوم، أو في غير ذلك، لأن بقاءها يقتضي حرمان أهل البيت من دخول الملائكة بيتهم، وهذا الحديث الذي أشرت إليه قد صح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والله أعلم.
* * *
240 سئل فضيلة الشيخ: عن حكم إلباس الصبي الثياب التي فيها صور لذوات الأرواح؟
فأجاب قائلاً: يقول أهل العلم: إنه يحرم إلباس الصبي ما يحرم إلباسه الكبير، وما كان فيه صورة فإلباسه الكبير حرام، فيكون إلباسه الصغير حراماً أيضاً، وهو كذلك، والذي ينبغي للمسلمين أن يقاطعوا مثل هذه الثياب وهذه الأحذية حتى لا يدخل علينا أهل الشر والفساد من هذه النواحي، وهي إذا قوطعت فلن يجدوا سبيلاً إلى إيصالها إلى هذه البلاد وتهوين أمرها بينهم.
* * *
241 سئل فضيلة الشيخ: هل استثناء بعض العلماء لعب الأطفال من التصوير صحيح؟ وهل قول الشيخ. .. بجواز الصورالتي ليس لها ظل وإنما هي نقوش بالألوان قول صحيح؟
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب اللباس / باب ما كره القعود على الصور، ومسلم: كتاب اللباس / باب تحريم تصوير صورة الحيوان.(12/334)
فأجاب بقوله: استثناء لعب الأطفال صحيح، لكن ما هي اللعب المستثناة أهي اللعب التي كانت معهودة من قبل وليست على هذه الدقة في التصوير، فإن اللعب المعودة من قبل ليس فيها تلك العيون والشفاه والأنوف كما هو المشاهد الآن في لعب الأطفال، أم أن الرخصة عامة فيما هو لعب أطفال ولو كان على الصور المشاهدة الآن؟
هذا محل تأمل، والاحتياط تجنب هذه الصور الشائعة الآن والاقتصار على النوع المعود من قبل.
وأما الصور التي ليس لها ظل وإنما هي نقوش بالألوان فإن دعوى الجواز فيها نظر حيث استند في ذلك إلى أنه كان ممنوعاً ثم أجيز، لأن من شروط النسخ تعذر إمكان الجمع بين النصين، والعلم بتأخر الناسخ، وأما مع إمكان الجمع فلا تقبل دعوى النسخ، لأن الجمع يكون فيه العمل بالدليلين، والنسخ يكون فيه إبطال أحد الدليلين، ثم إن طريق العلم بالمتأخر ليس الاستنساخ والتخمين، بل النقل المجرد هو الطريق إلى العلم بالمتأخر، ثم إن قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة)) (1) خبر، والخبر ل يدخله النسخ إلا إذا أريد به الإنشاء وليس هذا مما أريد به الإنشاء، نعم الخبر يدخله التخصيص فينظر هل هذا الحديث مخصص بالصور التي ذكرها؟ هذا محل خلاف بين أهل العلم، فمنهم من يرى أن هذا الحديث مخصص بقوله: ((إلا رقماً في ثوب)) (2) وبحديث عائشة – رضى الله عنه - في الستر الذي فيه تمثال طائر وقد ذكر الشيخ. .. أن حديث ((إلا رقماً في ثوب)) رواه
__________
(1) تقدم تخريجه ص 334.
(2) تقدم تخريجه ص 315(12/335)
الخمسة، وقد رواه البخاري ومسلم أيضاً، ومن العلماء من يرى أن هذا الترخيص في الرقم في الثوب وتمثال الطائر كان في أول الأمر ثم نهي عنه على العكس من قول الشيخ.
والذي يظهر لي أن الجمع ممكن وهو أن يحمل قوله: ((إلا رقماً في ثوب)) على ما ورد حله مما يتكأ عليه ويمتهن، فيكون الرقم في الثوب المراد به ما كان في مخدة ونحوها، لأنه الذي ورد حله، وأن زيد بن خالد ألحق به الستر ونحوه وهو إلحاق غير صحيح، لن حديث عائشة – رضى الله عنها – في السهوة صريح في المنع منه حيث هتكه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتلون من أجله وجهه.
وأما حديث مسلم في تمثال الطائر فيحمل على أنه تمثال لا رأس، وعلى أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كرهه لا من أجل أنه صورة ولكن من أجل أنه من باب الترف الزائد، ولهذا قال: ((حوليه فإني كلما دخلت ورأيته ذكرت الدنيا)) (1) . ويؤيد هذا الحمل ما رواه مسلم من حديث عائشة – رضى الله عنها – قالت: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج في غزاته فأخذت نمطاً فسترته على الباب، فلما قدم فرأي النمط عرفت الكراهية في وجهه فجذبته حتى هتكه أو قطعه، وقال: ((إن الله لم يأمرنا أن نكسوا الحجارة والطين)) (2) . وعلى هذا فتكون النتيجة في هذا تحريم اقتناء الصور المجسمة، والملونة والمنقورة، والمزبورة إلا الملونة إذا كانت في شيء يمتهن كالفراش ونحوه فلا تحرم لكن الأولى التنزه عنها أيضاً لما في الصحيحين من حديث عائشة أنها اشترت نمرقة للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها
__________
(1) أخرجه مسلم ك كتاب اللباس / باب تحريم تصوير صورة الحيوان.
(2) أخرجه مسلم: كتاب اللباس / باب تحريم تصوير صورة الحيوان.(12/336)
تصاوير ليقعد عليها ويتوسدها، فلما رآها قام على الباب ولم يدخل وعرفت الكراهية في وجهه ثم أخبر أن أصحاب هذه الصور يعذبون يقال: أحيوا ما خلقتم ثم قال: ((إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة)) (1) . والله الموفق.
* * *
سئل فضيلة الشيخ: هناك أنواع كثيرة من العرائس منها ما هو مصنوع من القطن، وهو عبارة عن كيس مفصل برأس ويدين ورجلين، ومنها ما يشبه الإنسان تماماً، ومنها ما يتكلم أو يبكي أو يمشي، فما حكم صنع أو شراء مثل هذه الأنواع للبنات الصغار للتعليم والتسلية؟
فأجاب بقوله: أما الذي لا يوجد فيه تخطيط كامل وإنما يوجد فيه شيء من الأعضاء والرأس ولكن لم تتبين فيه الخلقة فهذا لا شك في جوازه وأنه من جنس البنات اللاتي كانت عائشة - رضى الله عنها - تلعب بهن.
وأما إذا كان كامل الخلقة وكأنما تشاهد إنساناً ولا سيما إن كان له حركة أو صوت فإن في نفسي من جواز هذه شيئاً، لأنه يضاهي خلق الله تماماً، والظاهر أن اللعب التي كانت عائشة تلعب بهن ليست على هذا الوصف، فاجتنابها أولى، ولكني لا أقطع بالتحريم نظراً لأن الصغار يرخص لهم ما لا يرخص للكبار في مثل هذه الأمور، فإن الصغير مجبول على اللعب والتسالي، وليس مكلفاً بشيء من العبادات حتى نقول: إن وقته يضيع عليه لهواً وعبثاً، وإذا أراد الإنسان الاحتياط في
__________
(1) تقدم تخريجه ص 334.(12/337)
مثل هذا فليقلع الرأس أو يحميه على النار حتى يلين ثم يضغطه حتى تزول معالمه.
* * *
وسئل فضيلة الشيخ: هل هناك فرق بين أن يصنع الأطفال تلك اللعب وبين أن نصنعها نحن لهم أو نشتريها لهم؟
فأجاب فضيلته بقوله: أنا أرى أن صنعها على وجه يضاهي خلق الله حرام، لأن هذا من التصوير الذي لا شك في تحريمه، لكن إذا جاءتنا من النصارى أو غيرهم من غير المسلمين فإن اقتناءها كما قلت أولاً.
لكن بالنسبة للشراء بدلاً من أن نشتريها ينبغي أن نشتري أشياء ليست فيها صور، كالدراجات أو السيارات أو الرافعات وما أشبهها.
أما مسألة القطن والذي ما تتبين له صورة على الرغم مما هناك من أنه أعضاء ورأس ورقبة ولكن ليس فيه عيون ولا أنف فما فيه بأس، لأن هذه لا يضاهي خلق الله.
* * *
وسئل فضيلته: عن حكم صنع ما يشبه هذه العرائس بمادة الصلصال ثم عجنها في الحال؟
فأجاب بقوله: كل ما صنع شيئاً يضاهي خلق الله فهو داخل في الحديث، وهو لعن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المصورين ظ وقوله: ((أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون)) (1) . لكن كما قلت: إنه إذا لم تكن الصورة
__________
(1) تقدم تخريجه ص 332.(12/338)
واضحة أي ليس فيها عين أو أنف ولا فهم لا أصابع فهذه ليست صورة كاملة ولا مضاهية لخلق الله - عز وجل.
* * *
245 سئل فضيلة الشيخ: كثير من الألعاب تحوي صوراً مرسومة باليد لذوات الأرواح والهدف منها غالباً التعليم مثل هذه الموجودة في الكتاب الناطق فهل هي جائزة؟
فأجاب بقوله: إذا كانت لتسلية الصغار فإن من أجاز اللعب للصغار يجيز مثل هذه الصور، على أن هذه الصور ليست - أيضاً - مطابقة للصورة التي خلق الله عليها هذه المخلوقات المصورة كما يتضح مما هو أمامي. والخطب في هذا سهل.
* * *
246 سئل فضيلة الشيخ: ما حكم صور الكرتون التي تخرج في التليفزيون؟ وما قولكم في ظهور بعض المشايخ فيه؟ وما حكم استصحاب الدراهم التي فيها صور؟
فأجاب قائلاً: أما صور الكرتون التي ذكرتم أنها تخرج ي التليفزيون فإن كانت على شكل آدمي فحكم النظر فيها محل تردد، هل يلحق بالصور الحقيقية أو لا؟
والأقرب أنه لا يلحق بها.
وإن كانت على شكل غير آدمي فلا بأس بمشاهدتها إذا لم يصحبها أمر منكر من موسيقى أو نحوها ولم تله عن واجب.
وأما ظهر بعض المشايخ في التليفزيون: فهو محل اجتهاد إن أصاب الإنسان فيه فله أجران، وإن أخطأ له أجر واحد، ولا شك أن(12/339)
المحب للخير منهم قصد نشر العلم وأحكام الشريعة، لأن التليفزيون أبلغ وسائل الإعلام وضوحاً، وأعمها شمولاً، أشدها من الناس تعلقاً فهم يقولون إن تكلمنا في التليفزيون وإلا تكلم غيرنا، وربما كان كلام غيرنا بعيداً من الصواب، فننصح الناس، ونوصد الباب ونسد الطريق أمام من يتكلم بغير علم فيضل ويضل.
وأما استصحاب الرجل ما ابتلى به المسلمون اليوم من الدراهم التي عليها صور الملوك والرؤساء فهذا أمر قديم، وقد تكلم عليه أهل العلم، ولقد كان الناس هنا يحملون الجنية الفرنجي وفيه صورة فرس وفارس، ويحملون الريال الفرنسي وفيه صورة رأس ورقية وطير. والذي نرى في هذا أنه لا إثم على ما ستصحبه لدعاء الحاجة إلى حمله إذ الإنسان لابد له من حمل شيء من الدراهم في جيبه، ومنع الناس من ذلك فيه حرج وتعسير وقد قال الله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (1) . وقال تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (2) . وصح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال ((إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا)) (3) . رواه البخاري. وقال لمعاد بن جبل وأبي موسى عند بعثهما إلى اليمن: ((يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا)) (4) . وقال للناس حين زجروا الأعرابي الذي بال في المسجد ك ((دعوه فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 185.
(2) سورة الحج، الآية: 78.
(3) تقدم تخريجه ص 217.
(4) تقدم تخريجه ص 250.(12/340)
معسرين)) (1) . رواهما البخاري أيضاً.
فإذا حمل الرجل الدراهم التي فيها صورة، أو التابعية، أو الرخصة وهو محتاج إليها أو يخشى الحاجة فلا حرج في ذلك، ولا إثم - إن شاء الله تعالى - إذا كان الله تعالى يعلم أنه كاره لهذا التصوير وإقراراه وأنه لولا الحاجة إليه ما حمله.
والله أسأل أن يعصمنا جميعاً والمسلمين من أن تحيط بنا خطايانا وأن يرزقنا الثبات والاستقامة على دينه، إنه جواد كريم.
* * *
سئل فضيلة الشيخ: عن حكم إقامة مجسم لقلب الإنسان لجل التذكير بقدرة الله وعظمته عز وجل؟
فأجاب بقوله: صورة القلب أو غيره من الأجزاء ليس من الصور المحرمة، لأنه بعض صوره، وعلى هذا فيجوز رسم القلب، أو اليد، أو الرجل أو الرأس كل واحد على حدة، ولكن المشكل في السؤال صرف الأموال في مثل هذا، لأن النفع الحاصل به لا يساوي الأموال المصروفة فيه ولا يقرب منها، فجواز صرف الأموال في هذا محل نظر والسلامة أسلم. والله تعالى الموفق.
* * *
سئل فضيلة الشيخ: كيف نجمع بين قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أن أشد الناس عذاباً يوم القيامة يضاهون بخلق الله) (2) وبين كون المشرك أشد الناس عذاباً يوم القيامة؟
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب الوضوء / باب صب الماء على البول في المسجد
(2) تقدم تخريجه ص 314.(12/341)
فأجاب حفظه الله بقوله: ذكر في الجمع بينهما وجوه:
الوجه الأول: أن الحديث على تقدير " من: أي إن من أشد الناس عذاباً، بدليل أنه قد جاء بلفظ ((إن من أشد الناس عذاباً) فيحمل ما حذفت منه على ما ثبتت فيه.
الوجه الثاني: أن الأشدية لا تعني أن غيرهم لا يشاركون بل يشاركهم غيرهم، قال تعالى: (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ 46) (1) . فيكون الجميع مشتركين في الأشد.
ولكن يرد على هذا أن المصور فاعل كبيرة فقط، فكيف يسوى بمن هو كافر مستكبر؟
الوجه الثالث: أن الأشدية نسبية يعني أن المصورين أشد الناس عذاباً بالنسبة للعصاة الذين لم تبلغ معصيتهم الكفر، لا بالنسبة لجميع الناس. وهذا أقرب الوجوه، والله أعلم (2) .
* * *
وسئل: عن حكم تعليق الصور على الجدران؟
فأجاب بقوله: تعليق الصور على الجدران ولاسيما الكبيرة منها حرام حتى وإن لم يخرج إلا بعض الجسم والرأس، وقصد التعظيم فيها ظاهر، وأصل الشرك هو هذا الغلو، كما جاء ذلك عن أبن عباس
__________
(1) سورة غافر، الآية: 46.
(2) أضاف فضيلة الشيخ وجهاً رابعاً في شرحه لكتاب التوحيد فقال حفظه الله تعالى: " الرابع أن هذا من باب الوعيد الذي يطلق لتنفير النفوس عنه، ولم أر من قال بهذا، ولو قيل بهذا لسلمنا من هذه الإيرادات،وعلى كل حال ليس لنا أن نقول إلا كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذي يضاهون بخلق الله ".(12/342)
رضى الله عنه - أنهه قال في أصنام قوم نوح التي يعبدونها: ((إنها كانت أسماء رجال صالحين صوروا صورهم ليتذكروا العبادة،ثم طال عليهم الأمد فعبدوها)) (1) .
* * *
وسئل أيضاً: عن حكم اقتناء الصور للذكرى؟
فأجاب الشيخ بقوله: اقتناء الصور للذكرى محرم، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبر أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة، وهذا يدل على تحريم اقتناء الصور في البيوت. والله المستعان.
* * *
سئل فضيلة الشيخ: هل يلزم طمس الصورة التي في الكتب؟ وهل وضع خط بين الرقبة والجسم يزيل الحرمة؟
فأجاب - حفظه الله تعالى - بقوله: لا أرى أنه يلزم طمسها، لأن في ذلك مشقة كبيرة، ولأنها أي هذه الكتب ما قصد بها هذه الصورة إنما قصد ما فيها من العلم.
ووضع خط بين الرقبة والجسم هذا لا يغير الصورة عما هي عليه.
* * *
سئل فضيلة الشيخ: عن حكم تصوير المحاضرات والندوات بأجهزة الفيديو؟
فأجاب بقوله: الذي أرى أنه لا بأس بتصوير المحاضرات والندوات بأجهزة الفيديو إذا دعت الحاجة إلى ذلك أو
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب التفسير / باب (ولا تذرن وداً ولا سواعاً. .)(12/343)
اقتضته المصلحة لأمور:
أولاً: أن التصوير الفوتوغرافي الفوري لا يدخل في مضاهاة خلق الله كما يظهر للمتأمل.
ثانياً: أن الصورة لا تظهر على الشريط فلا يكون فيه اقتناء للصورة.
ثالثاً: إن الخلاف في دخول التصوير الفوتوغرافي الفوري في مضاهاة خلق الله - وإن كان يورث شبهه - فإن الحاجة أو المصلحة المحققة لا تترك لخلاف لم يتبين فيه وجه المنع. هذا ما أراه في هذه المسألة. والله الموفق.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - حفظه الله -: عن معنى جملة ((إلا رقماً في ثوب)) التي وردت في الحديث هل تدل على حل الصور التي في الثوب؟
فأجاب - حفظه الله - بقوله: إن رأينا في الحديث: ((إلا رقماً في ثوب)) (1) من النصوص المتشابهة والقاعدة السليمة: يرد إلى المحكم. ولقوله تعالى (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) (2) .
ويرد المتشابه إلى المحكم ولا يبقى فيه اشتباه.
فهذا الحديث: ((إلا رقماً في ثوب)) يحتمل أنه عام، رقماً:
__________
(1) تقدم تخريجه ص 315.
(2) سورة آل عمران، الآية: 7.(12/344)
يشمل صورة الحيوان وصورة الأشجار وغير ذلك، فإنه كان محتملاً لهذا فإنه يحمل على النصوص المحكمة التي تبين أن المراد برقم الثوب ما ليس بصورة حيوان أو إنسان حتى تبقى النصوص متطابقة متفقة.
ونحن لا نرى ذلك والتفصيل فيما له ظل وما ليس له ظل، لأن حديث علي بن أبي طالب - رضى الله عنه - في صحيح مسلم. أنه قال: ((يا أبا الهياج ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ألا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته)) (1) .
* * *
سئل فضيلة الشيخ - حفظه الله -: عن التصوير باليد؟
فأجاب - حفظه الله - بقوله: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، التصوير باليد حرام بل هو من كبائر الذنوب، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعن المصورين، واللعن لا يكون إلا على كبيرة من كبائر الذنوب وسواء رسم الصورة يختبر إبداعه أو رسمها للتوضيح للطلاب أو لغير ذلك فإنه حرام، لكن لو رسم أجزاء من البدن كاليد وحدها أو الرأس وحده فهذا لا بأس به.
* * *
سئل فضيلة الشيخ: عن التصوير بالآلة الفوتوغرافية الفورية وحكم تعليق الصور على الجدران؟
فأجاب قائلاً: التقاط الصورة بالآلة الفوتوغرافية الفورية التي لا تحتاج إلى عمل بيد فإن هذا لا بأس به، لأنه لا يدخل في التصوير،
__________
(1) تقدم تخريجه ص 320.(12/345)
ولكن يبقى النظر، ما هو الغرض من هذه الالتقاط: إذا كان الغرض من هذا الالتقاط هو أن يقتنيها الإنسان ولو للذكرى صار ذلك الالتقاط حراماً، وذلك لأن الوسائل لها أحكام المقاصد، واقتناء الصور للذكرى محرم، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبر أن ((الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة)) (1) وهذا يدل على تحريم اقتناء الصور في البيوت.
وأما تعليق الصور على الجدران فإنه محرم ولا يجوز والملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة.
* * *
سئل فضيلة الشيخ: عما ابتلى به الناس اليوم من وجود الصور بأشياء من حاجاتهم الضرورية.
فأجاب قائلاً: ما ابتلى الناس البوم من وجود الصور بأشياء من حاجاتهم الضرورية، فأرى أنه إذا أمكن مدافعتها فذاك، وإن لم يكن فإن فيها من الحرج والمشقة والعسر مما ارتفع عن هذه الأمة، بمعنى أنه يوجد في بعض المجلات وفي بعض الصحف التي يقتنيها الإنسان لما فيها من المنافع والإرشاد والتوجيه فأرى أن مثل هذا ما دام لم يقصد الصورة نفسها فلا بأس أن يقتنيها لاسيما إذا كانت الصورة مغلقة لا تبرز ولا تبين.
* * *
سئل فضيلة الشيخ: عن نشر صور المشوهين الأفغان؟
فأجاب بقوله: نشر صور المشوهين الأفغان مصلحة في الحقيقة وهي أنها اندفاع الناس بالتبرع لهم، لكن أقول إن هذا قد
__________
(1) تقدم تخريجه ص 334.(12/346)
يحصل بدون نشر هذه الأشياء، أو ربما يمكن أن نضع شيئاً على الوجه بحيث لا يتبين الرأس، لأن الرأس إذا قطع لا تبقى صورة كما جاء في الحديث: ((ألا تدع صورة إلا طمستها ولا قبراً مشرفاً إلا سويته)) (1) وهذا ظاهرة أن المراد بالصورة حتى صورة التلوين وإن لم يكن لها ظل، لأنه لم يقل إلا كسرتها، والطمس إنما يكون لما كان ملوناً.
وكذلك أيضاً حديث عائشة في البخاري حينما دخل عليه الصلاة والسلام فوجد نمرقة فيها صورة فوقف على الباب وعرفت في وجهه الكراهية، وقال عليه الصلاة والسلام: ((إن أصحاب هؤلاء الصور يعذبون)) (2) ، فهذا دليل على أنه يشمل الصورة التي لها ظل والتي ليس لها ظل وهذا هو الصحيح.
* * *
وسئل فضيلة الشيخ: يوجد بعض البضائع عليها صور اللاعبين، فما حكم ذلك؟ وإذا كانت هذه الصورة عبارة عن ملصق إذا قام المشتري بإزالته وجد تحتها جائزة فما الحكم؟
فأجاب بقوله: أرى أن هذه البضاعة التي عليها صور اللاعبين تهجر وتقاطع، لأننا نسأل: ما فائدة الإسلام والمسلمين من بروز هذا اللاعب وظهوره على غيره؟ أعتقد أن كل إنسان سيكون جوابه بالنفي إذا لا فائدة من ذلك، فكيف نعلن عن أسماء هؤلاء، وننشر صورهم وما أشبه ذلك.وكان الذي ينبغي أن يعدل عن هذا إلى مناصحة اللاعبين بالتزام
__________
(1) تقدم تخريجه ص 320.
(2) تقدم تخريجه ص 315.(12/347)
الآداب الإسلامية، من ستر العورة، والمحافظة على الصلاة في الجماعة، وعدم التنافر فيما بينهم، وعدم الشتائم، وألا يستولي عليهم تعظيم الكافر إذا نجح في هذه اللعبة على غيره، هذا الذي ينفع.
فأرى أن تهجر هذه البضاعة وأن تقاطع، ثم إن الغالب أن هذه الشركة لم تضع هذه الجوائز إلا لأنها تعرف أنها ستربح أضعافاً مضاعفة بالنسبة لما وضعت، فنسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم من أهل البصيرة في دين الله عز وجل، وأن يحمي بلادنا وشبابنا وديننا من كل مكروه وسوء. إنه على كل شيء قدير.
* * *
وسئل فضيلته: عن حكم التصوير بكاميرا الفيديو في الرحلات البرية والاحتفالات من غير الضرورة؟
فأجاب قائلاً: أرى ألا يصور مع أنه حلال، لأن هذا التصوير يؤدي إلى ضياع مال بغير فائدة، وربما يكون الإنسان كلما أراد أن يتلهى ذهب يراجع هذا المصور، فأرى ألا يصور وإن صور فلا بأس ما دام الشيء المصور حلالاً.
* * *
سئل فضيلة الشيخ: عن حكم اقتناء المجلات الإسلامية التي تحتوي على الصور؟
فأجاب بقوله: المجلات عموماً إذا اقتناها الإنسان من أجل ما فيها من الصور، فهذا حرام ولا إشكال فيه.
وإن اقتناها من أجل ما فيها من الفوائد بما فيها من صور فأرجو ألا يكون به بأس، لأن مشقة التحرز من الصور في كل جريدة وفي كل مجلة(12/348)
ظاهرة، والمشقة تجلب التيسير.
لكن الاستغناء عنها أحسن، وفي الكتب الشرعية ما هو خير وأوفى.
* * *
سئل فضيلة الشيخ: هناك بعض أنواع الرخام المظلل بالأسود والأبيض تزين به جدران المساجد من الداخل، وهو مع الأسف يجلب من بلاد الشرك والكفر، ولهذا فهو يحتوى على كثير من الصور الظاهرة والخفية التي تستبين بتدقيق النظر، وهي صور لأشخاص وحيوانات، فما حكم الصلاة في هذه المساجد، وحكم وضع هذا الرخام بالمساجد؟
فأجاب بقوله: حكم وضع هذا الرخام الذي تظهر فيه الصور محرم، يعني أنه يحرم أن نضع في مساجد المسلمين رخاماً فيه الصور، ويجب على أهل الحي الذين سترت جدران مساجدهم بهذا أن يطالبوا بإزالتها، فإن لم يمن فلا يصلوا في هذا المسجد، بل يطلبوا مسجداً آخر، ولهذا امتنع عمر رضى الله عنه من دخول الكنائس، لأن فيها الصور.
* * *
262 وسئل فضيلة الشيخ: نعمل في قسم الحوادث المرورية، ونحتاج في بعض الأحيان إلى تصوير بعض الحوادث المرورية للحفاظ على حق إخواننا المواطنين، ويدخل بعض الناس الموجودين أثناء الحادث داخل الصور فما حكم هذا؟
فأجاب بقوله: هذا العمل ليس فيه بأس، لأنه تصوير لمصلحة(12/349)
بل لحاجة أو ضرورة، ولا يضر إذا كان تصوير هذا المكان يدخل فيه من ليس طرفاً في الحادث، ومن المعلوم أن التصوير بالكاميرا ليس هو الذي أراده النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما نرى، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما لعن المصورين الذين يضاهئون بخلق الله مما هو مصور يعني فاعل الصورة.
أما التقاط الصور بالآلة الفوتوغرافية فليس من الفعل فهو لم يخطط للعين، ولا الأنف، ولا الشفه، ولا الجبهة، ولا الرأس، غاية ما هنالك أنه حبس هذه الصورة التي هي من فعل الله عز وجل في هذا البطاقة.
ويدلك لهذا أنك لو كتبت إلى شخص كتاباً بيدك ثم أدخل في آلة التصوير ثم خرج هل يقال إن هذه الكتابة من صنع الآلة؟ لا إنما هي كتابة الأول، ولكنها حفظت بواسطة المواد التي طورها الناس الآن في هذه البطاقة، فلا تدخل في التصوير أصلاً.
لكن إذا كان الإنسان يصور بالآلة الفوتوغرافية الفورية التي يحبسها عنده ويقتنيها فهذا ممنوع، لا لذاته، ولكن للغرض المقصود منه، وهو اقتناء الصورة لغير ضرورة، والمقصود الذي تريدونه أنتم بتصوير الحوادث مقصود صحيح وأمر لابد منه.
* * *
263 وسئل فضيلة الشيخ: ما حكم التصوير بكاميرا الفيديو، مثل تصوير سباق الخيل، وما أشبه ذلك؟
فأجاب بقوله: إذا لم يكن فيه مضرة فلا بأس به، وأما تصوير(12/350)
سباق الخيل فقد يكون فيه مصلحة وهي الاهتمام بالخيل وركوبها، وهو أمر مشروع.
* * *
264 سئل فضيلة الشيخ: عن حكم التصوير وخاصة النساء لقصد الذكريات؟
فأجاب بقوله: التصوير للنساء ولغير النساء للذكرى ولغيرها حرام ولا يجوز، وذلك لأنه لغرض محرم، وما كان لغرض محرم كان له حكم ذلك الغرض، ولأن اقتناء الصور محرم لما ورد في الحديث عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة (1) .
إلا أن جمهور العلماء قالوا: إذا كانت الصور ممتهنة مثل أن تكون في الفرش، أو الوسائد، أو المخاد فإن ذلك لا بأس به، على أن الاحتياط ألا يقتني ذلك ولو في حال الامتهان. والله الموفق.
* * *
265 وسئل فضيلته: هل الرسم حرام؟
فأجاب بقوله: إن كنت تعني به رسم الأشجار والبحار والأنهار والنجوم، وما أشبه ذلك مما ليس له روح، فإن رسم ذلك جائز ولا حرج فيه، وإن كنت تعني بالرسم رسم ذوات الأرواح كالبعير، والحمار، والشاة، والبقرة، والإنسان وما أشبه ذلك، فإن ذلك محرم لا يجوز، بل هو من كبائر الذنوب.
وقد ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه لعن المصورين (2) وأن من صور
__________
(1) تقدم تخريجه ص 334.
(2) تقدم تخريجه ص 323.(12/351)
صورة فإنه يجعل له نفس تعذبه في جهنم (1) ، وثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال عن ربه تبارك وتعالى: ((ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا حبة، أو ليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا شعيرة)) (2) .
وقد ابتلى بعض الناس بهذا الأمر، وجعلوه فناً من الفنون يهوونه ويحاولون إنفاقه بكل ما يستطيعون، وهذا من تلبيس الشيطان عليهم، زين لهم سوء أعمالهم، فالواجب الحذر من الرسم باليد لأي صورة فيها روح، لأن اللعن - والعياذ بالله - هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله، والمؤمن لا يمكن أن يختار لنفسه هذه العقوبة الأليمة، بل يجب عليه أن يفر منها فراره من الأسد. والله الموفق.
* * *
266 وسئل فضيلته: عن شاب يهوى الرسم فما توجيهكم حفظكم الله تعالى؟
فأجاب قائلاً: الرسم ينقسم إلى قسمين:
أحدهما: أن يرسم أنهاراً وجبالاً وشجراً وشمساً وقمراً ونجوماً وآلات وغير ذلك مما لا روح فيه، فهذا جائز ولا حرج فيه.
والثاني: أن يرسم حيواناً، مثل البعير، والفرس، أو الإنسان ونحوها من ذوات الأرواح فإنه حرام ولا يجوز، بل هو من كبائر الذنوب، وقد ثبت عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه لعن المصورين، فهل ترضى لنفسك أن تطرد من رحمة الله؟! لا أحد يرضى بذلك.
وأظنك إذا رسمت ما لا روح فيه كالشمس والقمر والنجوم
__________
(1) تقدم تخرجه ص 323.
(2) تقدم تخريجه ص 320.(12/352)
والجبال والشجر والأنهار والآلات، فإنك سوف تجد نفسك حاذقاً، وسوف تجد متعة عظيمة لهوايتك هذه، ولتقتصر على هذه الهواية المباحة، ولتتجنب ما حرم الله عليك، فإن فيما أحل الله غنى عما حرم على عباده. والله الموفق.
* * *
267 وسئل فضيلة الشيخ: هل تعليق الصور في المنزل حرام سواء كانت صور إنسان أو حيوان؟ وما حكم التماثيل في البيوت كزينة؟ أفيدونا جزاكم الله خيراً.
فأجاب بقوله: نعم تعليق الصور على الجدران محرم ولا يجوز، ومن علق شيئاً من ذلك فعليه أن يزيله ويحرقه، ولا يجوز الاحتفاظ بها في البوم، ولا صندوق، ولا غير ذلك، لأن اقتناء الصور لا يجوز، ولم يرخص فيه إلا ما كان يمتهن، كالفرش والوسائد والمخدات على خلاف في ذلك أيضاً.
وأما التماثيل المجسمة من صور الإنسان والحيوان فهي أعظم وأشد، فالواجب إتلافها وإلا على الأقل تقطع رؤوسها، وإني لأعجب من أناس يضعونها في مقدمة بيوتهم فيمنعون الملائكة من دخول بيوتهم، ولهذا قال علي رضى الله عنه لأبي الهياج: ((ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ألا تدع صورة إلا طمستها ولا قبراً مشرفاً إلا سويته)) (1) . والله الموفق.
* * *
__________
(1) تقدم تخريجه ص 320.(12/353)
وسئل فضيلته: عن امرأة تقول: لي خمس أو ست سنوات ما رأيت أهلي ولا رأوني. فهل إذا تصورت وأرسلت لهم صورة علي شيء؟ أفيدونا جزاكم الله خيراً.
فأجاب بقوله: التصوير لهذا الغرض محرم ولا يجوز، وذلك لأن اقتناء الصور للذكرى حرام، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة)) (1) . وما لا تدخله الملائكة فلا خير فيه.
وأنت من الممكن إذا كان لدى أهلك هاتف أن تتصلي بهم في الهاتف، وهذا أبلغ في الاطمئنان على صحتهم، وعلى صحتك أيضاً من أن يرسلوا إليك الصور أو ترسلي الصور إليهم. والله الموفق.
* * *
وسئل فضيلة الشيخ: عن حكم شراء الحيوانات المصنوعة من المطاط كألعاب الأطفال؟
فأجاب بقوله: استعمال الصور الكاملة محظور شرعاً، أما لعب الأطفال فالأولى تشويهها إذا كانت مع الطفل، ولكن عدم شرائها أولى لكي لا تشجع صانعيها. والله الموفق.
* * *
وسئل فضيلته: عن حكم الحلي التي على هيئة التماثيل؟
فأجاب بقوله: هذه الأنواع من الحلي التي تكون على هيئة ثعبان أو فراشة أو حيوان أو إنسان أو غير ذلك كلها حرام، ولا يحل بيعها ولا شراؤها، ويحرم على أهل المعارض بيعها، ويحرم على الصناع أن
__________
(1) تقدم تخريجه ص 334.(12/354)
يصنعوها، والذين يصنعونها قد وقعوا في الوعيد الذي ثبت عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أن الله تعالى يجعل له بكل صورة صورها نفساً يعذب بها في نار جهنم (1) .
فعلى صانعي هذه التماثيل أن يتقوا الله عز وجل في أنفسهم، وفي إخوانهم المسلمين، ويجب على ولاة الأمر والمسؤولون عن ذلك منعها، وعدم التعامل بها، لأنها محرمة، ولا يجوز للنساء أن يلبسنها لا في الصلاة ولا في غير الصلاة، وعلى من عنده شيء من ذلك أن يغيرها، بإزالة رأسها أو حكه حتى يصبح كبدنها لا يتميز عنه. والله الموفق.
* * *
وسئل فضيلته: أنا أعمل في مجال التصوير الفوتوغرافي الذي ينشر في الصحف أو الكتيبات، ما مدى صحة هذا العمل حفظكم الله؟
فأجاب بقوله: إذا كان فيه مصلحة دينية فلا بأس، وأما إذا لم يكن فيه مصلحة فالأورع والأحسن أن تتركه وتطلب عملاً آخر، أو تمتنع عن تصوير ذوات الروح.
* * *
وسئل فضيلة الشيخ: هل يلزم طمس الصورة من المجلات حتى الإسلامية أو لا؟ وحكم اقتناء التماثيل؟
فأجاب بقوله: ثبت في صحيح مسلم عن أبي الهياج رضى الله عنه
__________
(1) تقدم تخريجه ص 323.(12/355)
أنه قال له علي بن أبي طالب رضى الله عنه: ((ألا أبعثك على ما بعثي عليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألا تدع صورة إلا طمستها ولا قبراً مشرفاً إلا سويته)) (1) .
وعلى هذا فإن هدي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تطمس جميع الصور، لكن ما شق التحرز منه، وشق على الإنسان طمسه فإن هذا الدين ليس فيه حرج، لكن لا يجوز لأحد أن يقتني المجلات من أجل الصور التي فيها، لأن اقتناءها محرم، حتى الصور الفوتوغرافية سواء للذكرى أو للتمتع بها حيناً بعد حين أو لغير ذلك.
اللهم إلا ما دعت الضرورة إليه أو الحاجة، مما يكون في التابعية (حفيظة النفوس) والرخصة والجواز وما أشبه ذلك مما لا مناص عنه، فهذا يعذر فيه الإنسان لقوله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (2) .
وأما التماثيل الموضوعة في المنازل، من حيوانات أو طيور وما إلى ذلك فإنه ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة (3) فإن ذلك محرم لا يجوز، بل هو من كبائر الذنوب.
وقد ثبت عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه لعن المصورين (4) ، وأن من صور صورة كلف يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ (5) .
__________
(1) تقدم تخريجه ص 320.
(2) سورة الحج، الآية: 78.
(3) تقدم تخريجه ص 334.
(4) تقدم تخريجه ص 320.
(5) تقدم تخريجه ص 323.(12/356)
وثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((أن كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفساً تعذبه في جهنم)) (1) .
وثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال عن ربه تبارك وتعالى: ((ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي.) الحديث (2) .
وكما قلنا فهي سبب لمنع دخول الملائكة إلى المنازل، وكل بيت لا تدخله الملائكة لا خير فيه.
ومن العجيب أن مثل هذه التماثيل الموجودة كان لا يهتم بها إلا الصبيان فيما مضى، تجد عند الإنسان صورة جمل، أو صورة حصان، أو صورة أسد، أو صورة ذئب، أو صورة أرنب، ما كان يهتم لها في الماضي إلا الصبيان، لكن تحولت الأمور الآن، فصار يهتم بها صبيان العقول لا صبيان السن، ويشترونها بالدراهم ويضعونها في بيوتهم.
وأني أنصح هؤلاء بالتوبة إلى الله من هذه الأمر، وأن يدعوه، ومن كان عنده شيء فليقص رأسه حتى لا يكون حيواناً كاملاً، نسأل الله لنا ولهم الهداية.
* * *
وسئل فضيلة الشيخ: عن حكم اقتناء مجلات الأزياء؟
فأجاب بقوله: الذي أرى أنه لا يجوز اقتناء مجلات الأزياء لأنها تشتمل على صور ليس فيها ما يفيد، واقتناء ما يشتمل على ذلك حرام لدخوله في الوعيد الدال عليه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا تدخل الملائكة بيتاً فيه
__________
(1) تقدم تخريجه ص 323.
(2) تقدم تخريجه ص 320.(12/357)
صورة)) (1) . ولأن في هذه الأزياء ما لا يتفق مع الزي الإسلامي فيخشى أن يزين الشيطان للمرأة زياً لا يتفق مع الزي الإسلامي فتهلك، ولا يجوز للمرأة أن تتخذ من هذه الأزياء زياً لا يتفق مع الزي الإسلامي لكونه قصيراً أو كاشفاً لما لا يجوز كشفه من المرأة، أو خاصاً بلباس الكافرات ونحو ذلك، فإن اتخاذ ذلك حرام لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((من تشبه بقوم فهو منهم)) (2) . وقوله ((صنفان من أهل النار لم أرهما بعد: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وأن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)) (3) . ولا ينبغي للمرأة أن تكون منقادة لكل ما يرد على البلاد من أزياء وموضات، لأن ذلك يرهقها أو يرهق من ينفق عليها من زوج أو قريب، ويوجب تشتت فكرها وأنسيابها وراء كل جديد نافعاً كان أم ضاراً.
نسأل الله لنا ولإخواننا المسلمين الحماية والكفاية. حرر في 20 /12/1410 هـ.
* * *
وسئل فضيلة الشيخ: عن حكم شراء الحيوانات والطيور المحنطة؟ وحكم وضعها لغرض الزينة؟ وحكم الإتجار بها؟
فأجاب بقوله: الحيوانات المحنطة نوعان:
الأول: محرمة الأكل كالكلاب والأسود والذئاب فهذه حرام
__________
(1) تقدم تخريجه ص 334.
(2) تقدم تخريجه ص 281.
(3) تقدم تخريجه ص 268.(12/358)
بيعها وشراؤها لأنها ميتة، وقد نهى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن بيع الميتة، ولأنه لا فائدة منها فبذل المال لتحصيلها إضاعة له، وقد نهى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن إضاعة المال.
الثاني: مباحة الأكل فهذه إن أميتت بغير ذكاة شرعية فبيعها وشراؤها حرام لأنها ميتة، وإن ماتت بذكاة شرعية فبيعها وشراؤها حلال، لكن أخشى أن يكون بذل المال فيها لهذا الغرض من إضاعة المال المنهي عنه خصوصاً إذا كان كثيراً.
والله أسأل أن يوفق المسلمين لبذل أموالهم فيما تصلح به أحوالهم ويرضى به مولاهم إنه على كل شيء قدير. حرر في 28/1/1417 هـ.
* * *
سئل فضيلة الشيخ: عن طمس الوجه في الصورة هل يكفي؟
فأجاب بقوله: إذا طمس الوجه من الصورة فقد حصل المقصود، لأن الصورة حقيقة لا تكون إلا بالوجه، والوجه هو الرأس، فإذا طمسه فلا حرج.
* * *
276 سئل فضيلة الشيخ: عن حكم الدمى والمجسمات؟ وما هو الضابط في تحريمها؟
فأجاب بقوله: اقتناء الصور حرام إذا كانت مجسمة، لأن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة كما أخبرنا بذلك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحذيراً من ذلك.
والضابط في تحريمها أن تكون على شكل إنسان، أو حيوان في الوجه والرأس وبقية الأعضاء.(12/359)
أما المجسمات القطنية التي ليست على هذا الشكل وإنما هي كظل الشمس فهذه لا بأس بها كما انتشرت أخيراً. حرر في 28/5/1415 هـ.
* * *
277 وسئل فضيلته عن حكم صلاة من صلى وعلى ملابسه صور ذوات أرواح منسوجة أو مطبوعة؟
فأجاب بقوله: إذا كان جاهلاً فلا شيء عليه، وإن كان عالماً فإن صلاته صحيحه مع الإثم على أصح قولي العلماء رحمهم الله، ومن العلماء من يقول صلاته تبطل، لأنه صلى في ثوب محرم عليه.
* * *
278 سئل فضيلة الشيخ: عن حكم لبس الساعة المطلية بالذهب؟
فأجاب بقوله: من المعلوم أن لبس الذهب حرام على الرجال، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأي رجلاً وفي يده خاتم من ذهب فنزعه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من يده وطرحه وقال: ((يعمد أحدكم إلى جمرة من نار ويضعها في يده)) (1) . فلما انصرف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قيل للرجل: خذ خاتمك وانتفع به،قال: والله لا آخذ خاتماً طرحه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال النبي عليه الصلاة والسلام في الذهب والحرير: ((هذان حرام على ذكور أمتي حل لإناثها)) (2) . فلا يجوز للرجل أن يلبس أي شيء من الذهب لا خاتماً ولا زراراً ولا غيره،
__________
(1) أخرجه مسلم: كتاب اللباس / باب تحريم خاتم الذهب على الرجال. . .
(2) أخرجه الإمام أحمد 1/96/و 115، وأبو داود: كتاب اللباس / باب في الحرير للنساء (4057) ، والنسائي: كتاب الزينة / باب تحريم الذهب على الرجال، وابن ماجه: كتاب اللباس / باب لبس الحرير والذهب للنساء (3595) .(12/360)
والساعة من هذا النوع إذا كانت ذهباً، أما إذا كانت طلاء أو كانت عقاربها من ذهب أن فيها حبات من ذهب يسيره، فإن ذلك جائز لكن مع هذا لا نشير على الرجل أن يلبسها - أعني الساعة المطلية بالذهب - لأن الناس يجهلون أن هذا طلاء أو أن يكون خلطاً في مادة هذه الساعة، ويسيئون الظن بهذا الإنسان، وقد يقتدون به إذا كان من الناس الذين يقتدى بهم فيلبسون الذهب الخالص أو المخالط.
ونصيحتي ألا يلبس الرجال مثل هذه الساعات المطلية وإن كانت حلالاً، وفي الحلال الواضح الذي لا لبس فيه غنية عن هذا فقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه)) (1) . ولكن إذا كان الطلاء خلطاً من الذهب لا مجرد لون فالأقرب التحريم.
* * *
279 سئل فضيلة الشيخ: امرأة عندها مجوهرات فيها صور حيوانات فهل تجوز الصلاة وهي عليها؟
فأجاب بقوله: المجوهرات التي عليها رسوم حيوان أو إنسان لا يجوز لبسها لا في حال الصلاة ولا في غيرها، لأنها صور مجسمة، والصور المجسمة يحرم اقتناؤها واستعمالها، والملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة، والواجب على من عندها مجوهرات على هذه الصفة أن تذهب إلى الصواغ لأجل أن يقطعوا رؤوس هذه الحيوانات، وإذا قطع الرأس زال التحريم، ولا يحل لها أن تبقي هذه المجوهرات عندها إلا أن تقطع رؤوسها، أو تحيها حتى لا يتبين أنه رأس.
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب الإيمان / باب فضل من استبرأ لدينه، ومسلم: كتاب المساقاة / باب أخذ الحلال وترك الشبهات.(12/361)
280 سئل فضيلة الشيخ - حفظه الله تعالى - عن السجاد التي بها صور مساجد هل يصلى عليها؟
فأجاب بقوله: الذي نرى أنه لا ينبغي أن يوضع للإمام سجاد فيه تصاوير مساجد، لأنه ربما يشوش عليه ويلفت نظره وهذا يخل بالصلاة، ولهذا لما صلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خميصة لها أعلام، ونظر إلى أعلامها نظرة فلما أنصرف قال: ((اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم، وائتوني بأنبجانية أبي جهم فإنها آلهتني آنفاً عن صلاتي)) (1) . متفق عليه من حديث عائشة رضى الله عنها.
فإذ قدر أن الإمام لا ينشغل بذلك لكونه أعمى، أو لكون هذا الأمر مر عليه كثيراً حتى صار لا يهتم به ولا يلتفت إليه فإننا لا نرى بأساً أن يصلي عليها. والله الموفق.
* * *
281 سئل فضيلة الشيخ: عن حكم الصلاة بثياب النوم وحضور الجماعات بها؟
فأجاب بقوله: لا بأس بالصلاة بثياب النوم إذا كانت طاهرة سواء أتي بها إلى المسجد أم لم يأت بها، اللهم إلا إذا كانت تلك الثياب تلفت للنظر بحيث يعتب عليه، ويكون شهرة يتكلم به في المجالس من أجلها فإنه ينبغي للإنسان أن يتجنب كل أمر يكون سبباً لاغتيابه بين الناس.
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب الصلاة / باب إذا صلى في ثوب له أعلام ونظر إلى علمها، ومسلم: كتاب المساجد / باب كراهة الصلاة في ثوب له أعلام.(12/362)
* * *
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن الصالح العثيمين إلى أخيه المكرم الشيخ. .. . حفظه الله تعالى وجعله من عباده الصالحين، وأوليائه المؤمنين المتقين، وحزبه الملحين، آمين.
وبعد فقد وصلني كتابكم الذي تضمن السلام والنصيحة فعليكم السلام، ورحمة الله وبركاته، وجزاكم الله عني على نصحتكم البالغة التي أسال الله تعالى أن ينفعني بها.
ولا ريب أن الطريقة التي سلكتموها في النصيحة هي الطريقة المثلى للتناصح بين الإخوان، ولا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.
ولقد بلغت نصيحتكم مني مبلغاً كبيراً بما تضمنته من العبارات الواعظة والدعوات الصادقة، أسأل الله أن يتقبلها، وأن يكتب لكم مثلها.
وما أشرتم إليه - حفظكم الله - من تكرر جوابي على إباحة الصورة المأخوذة بالآلة: فإني أفيد أخي أنني لم أبح اتخاذ الصورة - والمراد صورة ما فيه روح من إنسان أو غيره - إلا ما دعت الضرورة أو الحاجة إليه، كالتابعية، والرخصة، وإثبات الحقائق ونحوها.
وأما اتخاذ الصورة للتعظيم، أو للذكرى، أو للتمتع بالنظر إليها، أو التلذذ بها فإني لا أبيح ذلك، سواء كان تمثالاً أو رقماً، وسواء كان(12/363)
مرقوماً باليد أو بالآلة لعموم قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة)) (1) . وما زالت أفتي بذلك، وآمر من عنده صور للذكرى بإتلافها، وأشدد كثيراً إذا كانت الصورة صورة ميت.
وأما تصوير ذوات الأرواح من إنسان أو غيره فلا ريب في تحريمه، وإنه من كبائر الذنوب، لثبوت لعن فاعله على لسان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهذا ظاهر فيما إذا كان تمثالاً - أي مجسماً - أو كان باليد، أما إذا كان بالآلة الفورية التي تلتقط الصورة ولا يكون فيها أي عمل من الملتقط من تخطيط الوجه وتفصيل الجسم ونحوه، فإن التقطت الصورة لأجل الذكرى ونحوها من الأغراض التي لا تبيح اتخاذ الصورة فإن التقاطها بالآلة محرم تحريم الوسائل، وإن التقطت الصورة للضرورة أو الحاجة فلا بأس بذلك.
هذا خلاصة رأيي في هذه المسألة، فإن كان صواباً فمن الله وهو المان به، وإن كان خطأ فمن قصوري أو تقصيري، وأسأل الله أن يعفو عني منه، وأن يهديني إلى الصواب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) تقدم تخريجه ص 334.(12/364)
اجتناب النجاسة(12/365)
سئل فضيلة الشيخ - حفظه الله تعالى -: عن حكم صلاة من نسى وصلى بثياب نجسة؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا صلى الإنسان في ثياب نجسة وقد نسى أن يغسلها قبل أن يصلي، ولم يذكر إلا بعد فراغه من صلاته، فإن صلاته صحيحة، وليس عليه إعادة لهذه الصلاة، وذلك لأنه ارتكب هذا المحظور نسياناً، وقد قال الله تبارك وتعالى: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) (1) ، فقال الله تعالى قد فعلت (2) ، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى ذات يوم في تعليه وكان فيهما أذى ولما كان في أثناء الصلاة خلعهما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يصلي ولم يستأنف الصلاة (3) ، فدل ذلك على أن من علم بالنجاسة في أثناء الصلاة فإنه يزيلها ولو في أثناء الصلاة ويستمر في صلاته إذا كان يمكن أن يبقي مستور العورة بعد إزالتها، وكذلك من نسى وذكر في أثناء الصلاة فإنه يزيل هذا الثوب النجس إن كان يبقي عليه ما يستر به عورته، وأما إذا فرغ من صلاته ثم ذكر بعد أن فرغ، أو علم بعد أن فرغ من صلاته فإنه لا إعادة عليه وصلاته صحيحه، بخلاف الرجل الذي يصلي وهو ناس أن يتوضأ مثل أن يكون قد أحدث ونسي أن يتوضأ ثم صلى وذكر بعد فراغه من الصلاة أنه لم يتوضأ فإنه يجب عليه الوضوء وإعادة الصلاة، وكذلك لو كان عليه جنابة ولم يعلم بها مثل أن يكون قد احتلم في الليل وصلى الصبح بدون غسل جهلاً منه، ولما كان في النهار رأى في ثوبه منياً من نومه فإنه يجب عليه أن يغتسل وأن يعيد ما صلى.
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 286.
(2) تقدم تخريجه ص 301.
(3) تقدم تخريجه ص 303.(12/367)
والفرق بين هذه والمسألة الأولى - أعني مسألة النجاسة _ أن النجاسة من باب ترك المحظور، وأما الوضوء والغسل فهو من باب فعل المأمور، وفعل المأمور أمر إيجادي لابد أن يقوم به الإنسان، ولا تتم العبادة إلا بوجوده، أما إزالة النجاسة فهي أمر عدمي لا تتم الصلاة إلا بعدمه فإذا وجد في حال الصلاة نسياناً أو جهلاً فإنه لا يضر، لأنه لم يفوت شيئاً يطلب حصوله في صلاته.
* * *
وسئل فضيلته: عمن أتي عليه وقت الصلاة وهو في سفر وثيابه نجسة ولا يمكنه أن يطهرها ويخشى من خروج وقت الصلاة؟
فأجاب بقوله: إذا كانت النجاسة في سؤال السائل الذي يقول أنه أتي عليه وقت الصلاة وهو في سفر وثيابه نجسة ولا يمكنه أن يطهرها ويخشى من خروج وقت الصلاة فإننا نقول له: خفف عنك ما أمكن من هذه النجاسة، فإذا كانت ي ثوبه وعليه ثوب آخر فاخلع هذا الثوب النجس وصل بالطاهر، وإذا كان عليك ثوبان أو ثلاثة وكل منها نجس فخفف ما أمكن من النجاسة، وما لا يمكن إزالته أو تخفيفه من النجاسة فإنه لا حرج عليه فيه. يقول الله تعالى (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (1) . فتصلي بالثوب ولو كان نجساً ولا إعادة عليك على القول الراجح، فإن هذا من تقوى الله تعالى ما استطعت فالإنسان إذا اتقى الله ما استطاع فقد أتي بما أوجب عليه، ومن أتي بما أوجب عليه فقد أبرأ ذمته.
* * *
__________
(1) سورة التغابن، الآية: 16.(12/368)
وسئل فضيلته: عن بعض الناس عندما يريدون الوضوء يتوضؤن داخل الحمامات المخصصة لقضاء الحاجة فيخرجون وقد ابتلت ملابسهم ولا شك أن الحمامات لا تخلو من النجاسات فهل تصح الصلاة في ملابسهم تلك؟ وهي يجوز لهم فعل ذلك؟
فأجاب بقوله: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد.
فقبل أن أجيب على هذا السؤال أقول: إن هذه الشريعة ولله الحمد كاملة في جميع الوجوه، وملائمة لفطرة الإنسان التي فطر الله الخلق عليها،وحيث إنها جاءت باليسر والسهولة، بل جاءت بإبعاد الإنسان عن المتاهات في الوساوس والتخيلات التي لا أصل لها، وبناء على هذا فإن الإنسان بملابسه الأصل أن يكون طاهراً ما لم يتيقن ورود النجاسة على بدنه أو ثيابه، وهذا الأصل يشهد له قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين شكا إليه الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في صلاته يعني الحدث،فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((لا ينصرف حتى يسمع صوتاً، أو يجد ريحاً)) (1) . فالأصل بقاء ما كان على ما كان، فثيابهم التي دخلوا بها الحمامات التي يقضون بها الحاجة كما ذكر السائل إذا تلوثت بماء فمن الذي يقول إن هذه الرطوبة هي رطوبة النجاسة من بول أو غائط أو نحو ذلك، وإذا كنا لا نجزم بهذا الأمر فإن الأصل الطهارة، صحيح إنه قد يغلب على الظن أنها تلوثت بشيء نجس، ولكنا مادمنا لم نتيقن، فإن الأصل بقاء الطهارة، ولا يجب عليهم غسل ثيابهم ولهم أن يصلوا بها ولا حرج.
* * *
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب الوضوء / باب لا يتوضأ من الشك حتى يستيقن، ومسلم: كتاب الحيض / باب الدليل على أن من تيقن الطهارة.(12/369)
وسئل: عمن صلى وبعد عودته لمنزله وخلع ثيابه وجد بسرواله منياً فماذا عليه؟
فأجاب بقوله: إذا كان الرجل الذي وجد المني على لباسه لم يغتسل فإنه يجب عليه أن يغتسل، ويعيد الصلوات التي صلاها وهو على جنابة، لكن أحياناً يرى الإنسان أثر الجنابة على لباسه ولا يدري أكان في الليلة الماضية أم في الليلة التي قبلها. فإنه في هذه الحال يعتبره من الليلة الماضية القريبة، لأن ما قبل الليلة الماضية مشكوك فيه، والأصل الطهارة، وكذا لو نام بعد صلاة الصبح، واستيقظ عند الظهر، وجد في لباسه أثر الجنابة، ولا يدرى أهو من النوم الذي بعد صلاة الفجر أو من النوم في الليل، فإنه في هذه الحال لا يلزمه إعادة الفجر، وهكذا. ((كلما شككت هل هذه الجنابة من نومة سابقة أو لاحقة فأجعها من اللاحقة)) .
* * *
وسئل فضيلته: عن الدم إذا وقع على الثوب فهل يصلي فيه.
فأجاب بقوله: إذا كان الدم نجساً وكثيراً فإنه لا يصلي فيه، وإذا كان طاهراً كدم الكبد واللحم بعد الذكاة فإنه لا يضر.
* * *
وسئل فضيلة الشيخ: عن التطيب بالكلونيا؟ وإذا طيب الإنسان ملابسه بها فهل يصلي بتلك الملابس؟
فأجاب بقوله: إن كانت نسبة الكحول فيها كبيرة فالأولى تجنب الطيب بها، وإن كانت قليلة فلا حرج، أما الصلاة فيها فصحيحة بكل حال.
* * *(12/370)
وسئل فضيلته: عمن صلى وتبين بعد الصلاة أنه محدث حدثاً يوجب الغسل؟
فأجاب قائلاً: كل إنسان يصلي ثم بعد الصلاة يتبين أن عليه حدثاً أكبر، أو أصغر فالواجب عليه أن يتطهر من هذا الحدث وأن يعيد الصلاة، لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ((لا يقبل الله صلاة بغير طهور)) (1) . وسئل: عن الصلاة في ثوب به مني علماً بأن الرجل قد اغتسل؟
فأجاب فضيلته بقوله: المني طاهر، فلو صلى الإنسان في ثوب فيه مني فصلاته صحيحه، سواء كان عمداً أو نسياناً، ولو كان فيه بول ثم صلى وهو ناس أو جاهل ولم يعلم إلا بعد الصلاة فصلاته صحيحة وسئل فضيلته: إذا حصل للإنسان رعاف في أثناء الصلاة فما الحكم؟ وهل ينجس الثوب؟
فأجاب بقوله: الرعاف ليس بناقض للوضوء سواء كان كثيراً أم قليلاً وكذلك جميع ما يخرج من البدن من غير السبيلين فإنه لا ينقض الوضوء، مثل القيء، والمادة التي تكون في الجروح فإنه لا ينقض الوضوء سواء كان قليلاً أم كثيراً، لأن ذلك لم يثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والأصل بقاء الطهارة، فإن هذه الطهارة ثبتت بمقتضى دليل شرعي، وما
__________
(1) أخرجه مسلم: كتاب الطهارة / باب وجوب الطهارة للصلاة.(12/371)
ثبت بمقتضى دليل شرعي فإنه لا يمكن أن يرتفع إلا بمقتضى دليل شرعي،وليس هنالك دليل على أن الخارج من غير السبيلين من البدن ينقض الوضوء، وعلى هذا فلا ينتقض الوضوء بالرعاف أو القيء سواء كان قليلاً أو كثيراً، ولكن إذا كان يزعجك في صلاتك ولم تتمكن من إتمامها بخشوع فلا حرج عليك أن تخرج من الصلاة حينئذ،وكذلك لو خشيت أن تلوث المسجد إذا كنت تصلي في المسجد فإنه يجب عليك الانصراف لئلا تلوث المسجد بهذا الدم الذي يخرج منك، أما ما يقع على الثياب من هذا الدم وهو يسير فإنه لا ينجس الثوب.
* * *
وسئل فضيلة الشيخ: - حفظه الله تعالى -: هل تصح صلاة من حمل معه قارورة فيها براز أو بول لأجل التحليل؟
فأجاب فضيلته بقوله: صلاته لا تصح لأنه حمل نجاسة لا يعفي عنها.
فإن قيل:إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حمل أمامه بنت زينب وهو يصلي.
فالجواب: إن النجاسة في معدنها لا حكم لها ولا يحكم بالنجاسة حتى تنفصل كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
* * *
وسئل فضيلة الشيخ: عن حكم الصلاة في مسجد فيه قبر؟
فأجاب فضيلته بقوله: الصلاة في مسجد فيه قبر على نوعين:
الأول: أن يكون القبر سابقاً على المسجد، بحيث يبنى المسجد على القبر، فالواجب هجر هذا المسجد وعدم الصلاة، وعلى من بناه(12/372)
أن يهدمه، فإن لم يفعل وجب على ولي أمر المسلمين أن يهدمه.
والنوع الثاني: أن يكون المسجد سابقاً على القبر، بحيث يدفن الميت فيه بعد بناء المسجد، فالواجب نبش القبر، وإخراج الميت منه، ودفنه مع الناس.
وأما المسجد فتجوز الصلاة فيه بشرط أن لا يكون القبر أما المصلي، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن الصلاة إلى القبور.
أما قبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي شمله المسجد النبوي فمن المعلوم أن مسجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بني قبل موته فلم يبن على القبر، ومن المعلوم أيضاً أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يدفن فيه، وإنما دفن في بيته المنفصل عن المسجد، وفي عهد الوليد بن عبد الملك كتب إلى أميره على المدينة وهو عمر بن عبد العزيز في سنة 88 من الهجرة أن يهدم المسجد النبوي ويضيف إليه حجر زوجات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجمع عمر وجوه الناس والفقهاء وقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين الوليد فشق عليهم ذلك، وقالوا: تركها على حالها أدعى للعبرة، ويحكى أن سعيد بن المسيب أنكر إدخال حجرة عائشة، كأنه خشي أن يتخذ القبر مسجداً فكتب عمر بذلك إلى الوليد فأرسل الوليد إليه يأمره بالتنفيذ فلم يكن لعمر بد من ذلك، فأنت ترى أن قبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يوضع في المسجد ولم يبن عليه المسجد فلا حجة يه لمحتج على الدفن في المساجد أو بنائها على القبور، وقد ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) (1) ، قال ذلك وهو في سياق الموت تحذيراً لأمته مما صنع
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب المساجد / باب الصلاة في البيعة، ومسلم: كتاب المساجد / باب النهي عن بناء المساجد على القبور.(12/373)
هؤلاء. ولما ذكرت له أم سلمة رضى الله عنها كنيسة رأتها في أرض الحبشة وما فيها من الصور قال: ((أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح، أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجداً، أولئك شرار الخلق عند الله)) (1) . وعن ابن مسعود رضى الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون من القبور مساجد)) (2) . أخرجه الإمام أحمد بسند جيد. والمؤمن لا يرضى أن يسلك مسلك اليهود والنصارى ولا أن يكون من شرار الخلق. حرر في 7/4/1414 هـ.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - حفظه الله تعالى -: عن حكم الصلاة في مسجد في قبلته قبر؟
فأجاب بقوله: لا يجوز أن يوضع في المسجد قبر، لا في قبلته ولا خلف المصلين، ولا عن إيمانهم، ولا عن شمائلهم، وإذا دفن أحد في المسجد ولو كان هو المؤسس له فإنه يجب أن ينبش هذا القبر وأن يدفن مع الناس، أما إذا كان القبر سابقاً على المسجد وني المسجد عليه فإنه يجب أن يهدم المسجد وأن يبعد عن القبر، لأن فتنة القبور في المساجد عظيمة جداً فربما يدعو إلى عبادة هذا المقبور ولو بعد زمن بعيد، وربما يدعو إلى الغلو فيه، وإلى التبرك به وهذا خطر عظيم على المسلمين، لكن إن كان القبر سابقاً وجب أن يهدم المسجد ويغير
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب الجنائز / باب بناء المساجد على القبر، ومسلم: كتاب المساجد / باب النهي عن بناء المساجد على القبور.
(2) أخرجه الإمام أحمد 1/405 و435.(12/374)
مكانه، وإن كان المسجد هو الأول فإنه يجب أن يخرج هذا الميت من قبره ويدفن مع المسلمين، والصلاة إلى القبر محرمة ولا تصح الصلاة إلى القبر لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا تصلوا إلى القبور)) (1) . والله المستعان.
* * *
294 وسئل فضيلة الشيخ: ما حكم الصلاة في المقبرة والصلاة إلى القبر؟
فأجاب فضيلته بقوله: ورد في ذلك حديث عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخرجه الترمذي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام)) (2) . وروى مسلم عن أبي مرثد الغنوي رضى الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها)) (3) . وعلى هذا فإن الصلاة في المقرة لا تجوز، والصلاة إلى البر لا تجوز، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أن المقبرة ليست محلاً للصلاة، ونهى عن الصلاة إلى القبر، والحكمة من ذلك أن الصلاة في المقبرة، أو إلى القبر ذريعة إلى الشرك، وما كان ذريعة إلى الشرك كان محرماً، لأن الشارع قد سد كل طريق يوصل إلى الشرك، والشيطان يجري من أبن أدم مجرى الدم، فيبدأ به أولاُ في الذرائع والوسائل، ثم يبلغ به الغايات، فلو أن أحداً من الناس صلى صلاة فريضة أو صلاة تطوع في مقبرة أو على قبر فصلاته غير صحيحه
__________
(1) أخرجه مسلم: كتاب الجنائز / باب النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه.
(2) أخرجه الإمام أحمد 3/83 و96، وأبو داود: كتاب الصلاة / باب في المواضع التي لا تجوز فيها الصلاة (492) ، والترمذي: كتاب الصلاة / باب ما جاء أن الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام (317) ، وابن ماجة: كتاب المساجد / باب المواضع التي تكره فيها الصلاة (745) .
(3) تقدم تخريجه برقم (1)(12/375)
أما الصلاة على الجنازة فلا بأس بها، فقد ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه صلى على القبر في قصة المرأة أو الرجل الذي كان يقم المسجد فمات ليلاً فلم يخبر الصحابة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بموته، فلما أصبح الصبح قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((دلوني على قبره أو قبرها لصلى عليه)) (1) .
صلوات الله وسلامه عليه، فيستثنى من الصلاة في المقبرة الصلاة على القبر، وكذلك الصلاة على الجنازة قبل دفنها، لأن هذه صلاة خاصة تتعلق بالميت، فكما جازت الصلاة على القبر على الميت فإنها تجوز الصلاة عليه قبل الدفن.
* * *
295 وسئل فضيلته: عن رجل قام ببناء مسجد وأوصى قبل موته بأن يدفن في المسجد، وبعد موته دفن ملاصقاً لجدار المسجد خلف المحراب فما حكم الوفاء بهذه الوصية؟ وما حكم الصلاة في هذا المسجد؟ وقد سألنا فضيلة الشيخ. . . فقال: لا تصلوا في المسجد؟
فأجاب بقوله: هذه الوصية لا يلزم الوفاء بها أعني وصية باني المسجد أن يدفن فيه، بل ولا يجوز الوفاء بها، لأنها لما أوقف المسجد خرج من ملكه وليس له الحق بأن يدفن فيه، ودفنه فيه بمنزلة دفنه في أرض مغصوبة إن لم يكن أعظم، وعلى هذا فيجب على أولياء الميت من وصي أو غيره أن ينبشوه ويدفنوه في مقابر المسلمين.
وأما بالنسبة للصلاة في هذا المسجد فإن وجدتم غيره فهو أولى منه، وإن لم تجدوا غيره فلا تصلوا إلى القبر، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن الصلاة إلى القبور، ولكن اجعلوه عن اليمين، أو الشمال، ولا مانع من
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب الصلاة / باب كنس المسجد.(12/376)
الصلاة في هذا المسجد، لأنه سابق على القبر، ووضع القبر فيه عدوان عليه، والعدوان عليه لا يستلزم بطلان الصلاة فيه ولا يحوله إلى مقبرة، لكن إذا خشي من فتنة في المستقبل بحيث تظن الأجيال المقبلة أن هذا المسجد بني على القبر فهجر المسجد هذا أولى، ويكون الآثم من حرم المسلمين الصلاة فيه وهم أولياء هذا الميت من وصى أو غيره.
لذا فإني أكرر نصيحتي لهم أن ينبشوا الميت من المسجد ويدفنوه مع المسلمين. وفق الله الجميع لما يجب ويرضى.
ملاحظة: إذا كنتم سألتم الشيخ العلامة. . . . . على وجه الاستفادة والأخذ بما يفتي فالتزموا بما أفتى به، لأنكم سألتموه معتقدين أن ما يقوله هو الحق الذي تدينون الله به، وإن كنتم سألتموه لمجرد استطلاع رأيه ومعرفة ما عنده فلا حرج بالعدول عما أجابكم به.
* * *
وسئل فضيلته: ورد في الحديث النهي عن الصلاة بين القبور، فما المراد بالصلاة بين القبور علماً بأن الناس يصلون على الجنازة بين القبور إذا فاتتهم في المساجد؟
فأجاب بقوله: المراد بالصلاة بين القبور ما سوى الصلاة على الجنازة، أما الصلاة على الجنازة فلا بأس بها فقد صلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على قبر من مات وهو يقم المسجد، وأيضاً فإن النهي عن الصلاة بين القبور إنما هو لخوف الفتنة والشرك بأهل القبور، والصلاة على الجنازة أو القبر بعيد من ذلك كل البعد. حرر في 3/12/1402 هـ.
* * *(12/377)
وسئل فضيلة الشيخ: يوجد قبر خارج القرية، فنبتت على هذا القبر شجرة، فجاءت الإبل تأكل من هذه الشجرة وتدوس على هذا القبر، وحفاظاً على هذا القبر وضعوا عليه سوراً فهل هذا العمل جائز؟
فأجاب بقوله: هذه الشجرة تقلع من أصلها، وإذا قلعناها من أصلها لم تأت الإبل وسلما من شرها، وبقي القبر على ما هو عليه، وأما البناء حفاظاً عليه فأخشى إن طال بالناس زمان أن يضلوا بهذا فيعتقدون أنه قبر ولي أو صالح ثم تعود مسألة القبور إلى هذه البلاد بعد أن طهرها الله منها على يد الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى.
فالآن لابد أن تبلغ القاضي الموضوع، خصوصاً إذا كان البناء كأنه حجرة فهذا لابد أن يزال، والقبر ينقل إلى مكان آخر إن خيف عليه في مكانه.
* * *
سئل فضيلة الشيخ: عن الصلاة في البيت المغصوب؟
فأجاب بقوله: البيت المغصوب هو الذي أخذ من مالكه قهراً بغير حق، وقد اختلف أهل العلم في صحة الصلاة فيه.
فمنهم من قال: إن الصلاة فيه صحيحه، لأن النهي إنما هو عن سكنى البيت وليس عن الصلاة، فالنهي لا يختص بهذه العبادة، وكل نهي لا يختص بالعبادة فإنه لا يبطلها، ولهذا إذا اغتاب الصائم أحداً فإن هذا الفعل محرم ولا يبطل به الصوم، لأنه لم يحرم من أجل الصوم ولو أنه أكل أن شرب لفسد صومه، لأن النهي يختص بالصوم فهنا(12/378)
الصلاة في المكان المغصوب ليس منهياً عنها لذاتها، بل لكونه استعمل هذا البيت الذي غصبه، ولهذا فالمكث في هذا البيت للصلاة أو غيرها يكون حراماً، وهذا رأي كثير من أهل العلم أن الصلاة في المكان المغصوب صحيحة، ولكنه آثم بمكثه واستيلائه على هذا بغير حق.
والقول الثاني لأهل العلم في هذه المسألة: أن صلاته تكون باطلة لأنها وقعت في مكان مغصوب، فكانت الصلاة التي تقع في زمان محرم فعلها فيه، فصلاة النفل المطلقة لو وقعت في وقت النهي تكون باطلة، وذلك لأن الزمن يحرم فيه إيقاع هذه الصلاة، فكذلك هذا المكان المغصوب لما كان يحرم المكث فيه مطلقاً فالمكث فيه للصلاة يكون مكثاً في مكان يحرم المكث فيه فتقع الصلاة محرمة باطلة وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله.
لكن من حبس في مكان مغصوب ولم يتمكن من الخلاص منه وصلى فإنه صلاته صحيحة ولا إعادة عليه. ...
* * *(12/379)
سئل الشيخ: ما حكم الصلاة فوق سطح الحمام؟ وحكم الصلاة فوق سطح مجامع الفضلات النجسة؟
فأجاب فضيلته بقوله: الصلاة فوق سطوح حماماتنا المعروفة لا بأس بها، لأن الحمامات عندنا لا تستقل ببناء خاص ويكون سطحها سطح جميع البيوت، والصلاة فوق سطح مجامع الفضلات النجسة لا بأس بها أيضاً لدخولها في عموم قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً)) (1) .
* * *
وسئل فضيلته: هل تجوز الصلاة إلى الحمام إذا كان بيننا وبينه جدار؟
فأجاب بقوله: ثبت عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: ((جعلت لي الأرض مسجداً طهوراً)) . إلا أنه يستثنى من ذلك ما ثبت به النص من تحريم الصلاة فيه، والصلاة إلى الحمام ليس مما ورد فيه النهي، فإذا كان الحمام بينك وبينه جدار فإن ذلك لا يؤثر، أما إذا كان الجدار هو جدار الحمام فقد كره بعض أهل العلم الصلاة إليه، وقالوا لا ينبغي أن يصلي إلى الحمام، وعلى هذا فليتخذ الإنسان مكاناً آخر يصلي فيه.
* * *
وسئل فضيلة الشيخ: عن حكم الصلاة على الإسفلت المرشوش بالماء؟
فأجاب قوله: يجوز للإنسان أن يسجد على كل شيء من الأرض، وعلى غير الأرض أيضاً، كفراش القطن والصوف، المهم فقط أن يمكن جبهته من الأرض، سواء سجد على فراش، أو عليه الصلاة والسلام حصير، أو على الأرض، على رمل أو على غير الرمل.
* * *
وسئل فضيلته: عن الأماكن التي لا تصح فيها الصلاة؟
فأجاب: الأصل جواز الصلاة في جميع الأماكن لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((جعلت لي الأرض مسجداً)) (2) ويستثنى من ذلك ما يلي:
أولاً: المقبرة: لقول النبي فيما رواه الترمذي: ((الأرض كلها
__________
(1) تقدم تخريجه ص 95.
(2) تقدم تخريجه ص 95.(12/380)
مسجد إلا المقبرة والحمام)) (1) . ولقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (2) . ولآن الصرة في المقبرة فد تتخذ ذريعة إلى عبادة القبور، أو إلى التشبه بمن يعبد القبور، ويستثنى من ذلك الصلاة على الجنازة، فقد ثبت عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث المرأة التي كانت تقم المسجد أنها ماتت بليل فكرهوا أن يخبروا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفي الصباح سأل عنها فقاوا: إنها ماتت فقال: ((دلوني على قبرها)) (3) فخرج الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى البقيع ودلوه على قبرها فصلى عليها.
ثانياً: الحمام: ودليله قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام)) . والحمام مكان المغتسل، والعلة في ذلك أن الحمام تكشف فيه العورات ولا يخلو من بعض النجاسة.
ثالثاً: الحش: وهو مكان فضاء الحاجة لأنه أولى من الحمام، ولا يخلو من النجاسة، ولأنه نجس خبيث، ولأنه مأوى الشياطين والشياطين خبيثة، فلا ينبغي أن يكون هذا المكان الخبيث الذي هو مأوى الخبائث مكاناً لعبادة الله عز وجل.
رابعاً: أعطان الإبل: وهو عبارة عن المكان الذي تبيت فيه الإبل وتأوي إليه، والمكان الذي تبرك فيه عند صدورها من الماء، أن انتظار الماء وذلك لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن الصلاة فيه فقال: ((لا تصلوا في أعطان الإبل)) (4) والأصل في النهي التحريم، مع العلم أن
__________
(1) تقدم تخريجه ص 375.
(2) تقدم تخريجه ص 373.
(3) تقدم تخريجه ص 376.
(4) أخرجه الإمام أحمد / 4/86، وابن ماجه: كتاب المساجد / باب الصلاة في أعطان الإبل ومراح الغنم (768، 769، 770)(12/381)
أبوال الإبل وروثها طاهر.
والعلة في التحريم أن السنة وردت به، والواجب في النصوص الشرعية التسليم، قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (1) .
وقال بعض العلماء: لأن أرواثها وأبوالها نجسة، وهذا مبنى على أن الأبوال والأرواث نجسة ولو من الحيوان الطاهر، والصحيح خلافه، ولكن هذه العلة باطلة، إذ لو كانت هذه هي العلة ما جازت الصلاة في مرابض الغنم، لأن القائلين بنجاسة أبوال الإبل وأرواثها يقولون بنجاسة أرواث الغنم وأبوالها.
وقيل: لأن الإبل شديدة النفورة وريما تنفر وهو يصلي فإذا نفرت ربما تصيبه بأذى، حتى وإن لم تصبه فإنه ينشغل قلبه إذا كانت هذه الإبل تهيج، ليكون النهي عنها لئلا ينشغل قلبه، لكن هذه العلة أيضاً فيها نظر، لأن مقتضاها ألا يكون النهي إلا والإبل موجودة، ثم قد تنتقض بمرابض الغنم، فالغنم تهيج وتشغل، فهل نقول إنها مثلها؟ لا.
وقال بعض أهل العلم: إنما نهى عن الصلاة في مبارك الإبل أو أعطانها لأنها خلقت من الشياطين، كما جاء ذلك في الحديث الذي رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح (2) ، فإذا كانت مخلوقة من الشياطين فلا يبعد أن تصحبها الشياطين، وتكون هذه الأماكن مأوى للإبل ومعها الشياطين، وتكون الحكمة في النهي عن الصلاة في الحش، وهذا الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهو أقرب ما يقال في
__________
(1) سورة الأحزاب، الآية: 36.
(2) أخرجه الإمام أحمد 5/55، والنسائي في المساجد 2/56، وابن ماجه في المساجد (769)(12/382)
الحكمة ومع ذلك فالحكمة هي التعبد لله بذلك.
خامساً المغصوب: وهو الذي أخذ من صاحبه قهراً بغير حق وقد اختلقف العلماء فيه:
فذهب بعض العلماء إلى أن الصلاة غير صحيحة، وأن الإنسان منهي عن المقام في هذا المكان، لأنه ملك غيره، فإذا صلى فصلاته منهي عنها، والصلاة المنهي عنها لا تصح، لأنها مضادة للتعبد، فكيف تتعبد لله بمعصيته؟ وذهب بعضهم إلى أن الصلاة في المكان المغصوب صحيحة مع الإثم واستدلوا بقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((جعلت لي الأرض مسجداً)) (1) . فلا يوجد دليل على إخراج المغصوب من عموم هذا الحديث، وإنما مأمور بهذا وهذا هو الأرجح، ولأن الصلاة لم ينه عنها في المكان المغصوب بل نهي عن الغصب، والغصب أمر خارج.
* * *
سئل فضيلة الشيخ: عن حكم الصلاة في غرفة فيها خمر؟
فأجاب بقوله: يجوز للإنسان أن يصلي في غرفة فيها خمر، وذلك لأنه إذا صلى في هذه الغرفة ولم يخل بشيء من شروط الصلاة وأركانها وواجباتها ولم يوجد شيء من مبطلاتها فإن الصلاة تصح لتوفر أسباب الصحة وانتفاء مبطلها، ولكني أقول:
هل يمكن لمؤمن أن تكون في بيته خمرة وقد علم من الدين الإسلامي بالضرورة أن الخمر محرم حيث دل كتاب الله، وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإجماع المسلمين على أن الخمر حرام، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا
__________
(1) تقدم تخريجه ص 95.(12/383)
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ* وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (1) . وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كل مسكر خمر وكل مسكر حرام)) (2) . وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((ما أسكر كثيرة فقليله حرام)) (3) . وعلى هذا فلا يحل لمسلم بل لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يكون في بيته خمرة، كما أنه لا يحل له بيع الخمر، ولا شراؤه، ولا المعاونة فيه بأي نوع من أنواع المعاونة، ولا شريه، ومن شريه مستحلاً لشربه، أن استحل شربه وإن لم يشربه فإنه يكفر كفراً مخرجاً من الملة وإذا كان ممن عاش بين المسلمين، لأنه أنكر تحريم ما علم بالضرورة من دين الإسلام تحريمه.
ونصيحتي لأخواني المسلمين عموماً أن يتقوا الله تعالى في أنفسهم وفي أهليهم، وفي مجتمعهم، وأن يجتنبوا مثل هذه القاذورات التي لا تزيدهم من الله إلا بعداً، ولا تزيد في حياتهم إلا قلقاً وتعباً، ونقصاً في الدين والعقل والمال.
* * *
304 سئل فضيلة الشيخ: عن حكم الصلاة في مسجد بني من مال حرام؟ وإذا كانت الأرض مغصوبة؟
__________
(1) سورة المائدة، الآيات: 90- 92.
(2) أخرجه مسلم: كتاب الأشربة / بباب بيان أن كل مسكر خمر.
(3) أخرجه الإمام أحمد 2/167.(12/384)
فأجاب بقوله: الصلاة فيه جائزة ولا حرج فيها، لأن الذي بناه من مال حرام ريما يكون أراد في بنائه أن يتخلص من المال الحرام الذي اكتسبه، وحينئذ يكون بناؤه لهذا المسجد حلالاً إذا قصد به التخلص من المال الحرام، وإن كان التخلص من المال الحرام لا يتعين ببناء المساجد، بل إذا بذله الإنسان في مشروع خيري حصلت به البراءة.
أما إذا كانت أرض المسجد مغصوبة فهذا محل نزاع بين العلماء، فمن العلماء من قال: إن الصلاة في الأرض المغصوبة باطلة لا تصح ومنهم من قال: إنها صحيحة والإثم على الغاصب.
* * *
305 وسئل الشيخ: هل ما قيل إنه يجب على المرأة أن تخلف السروال عند كل صلاة صحيح؟
فأجاب فضيلته قائلاً: ليس صحيحاً أن المرأة يجب عليها أن تخلع السروال عند كل صلاة، مادام السروال طاهر فإنها تصلي به وهو أستر من غيره، أما إذا كان السروال نجساً فإنه يجب عليها أن تخلعه وتطهره، وإذا طهرته فلا بأس أن تصلي فيه.
وهنا مسألة بهذه المناسبة أود أن أذكر بها: وهي أن بعض الناس ينقض الوضوء قبل وقت الصلاة، ثم يستنجي بالماء فيغسل فرجه قبلاً كان أو دبراً، فإذا جاء وقت الصلاة فإن بعض الناس يظن أنه يجب عليه غسل فرجه مرة أخرى وإن لم يحصل بول أو غائط، ولكن هذا ليس بصحيح، بل إذا تبول الإنسان أو تغوط ثم غسل المحل واستنجى استنجاء شرعياً، ثم جاء الوقت فإنه لا يلزمه إعادة الاستنجاء، بل يتوضأ ولو كان الاستنجاء قبل ساعتين أو ثلاث، والوضوء هو غسل(12/385)
الوجه، واليدين، ومسح الرأس، وغسل الرجلين.
* * *
306 سئل فضيلة الشيخ: عن حكم الصلاة في الحذاء؟
فأجاب بقوله: الصلاة في الحذاء من السنة، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصلي في نعليه، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عن أنس بن مالك رضى الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصل في نعليه (1) ، كما أنه أمر الناس أن يصلوا في نعالهم (2) ، ولكن لا يصلي المرء فيهما إلا بعد التأكد من نظافتهما، فينظر فيهما فإن رأي فيهما أذى حكهما بالتراب حتى يزول ثم يصلي فيهما.
* * *
307 سئل فضيلة الشيخ: ما الحكم فيمن يمشون بأحذيتهم على أرض المسجد الحرام؟
فأجاب فضيلته بقوله: المشي على أرض المسجد الحرام بالحذاء لا ينبغي، وذلك لأنه يفتح باباً للعامة الذين لا يقدرون المسجد فيأتون بأحذية وهي ملوثة بالمياه، وريما تكون ملوثة بالأقذار يدخلون بها المسجد الحرام فيلوثونه بها، والشيء المطلوب شرعاً إذا خيف أن يترتب عليه مفسدة فإنه يجب مراعاة هذه المفسدة وأن يترك، والقاعدة المقررة عند أهل العلم: ((أنه إذا تعارضت المصالح والمفاسد مع
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب الصلاة / باب الصلاة في النعال، ومسلم: كتاب المساجد / باب جواز الصلاة في النعال.
(2) أخرجه أبو داود: كتاب الصلاة / باب الصلاة في النعل، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي 1/280.(12/386)
التساوي، أو مع ترجح المفاسد فإن درء المفسدة أولى من جلب المصلحة)) ، وهذا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أراد أن يهدم الكعبة وأن يجدد بناءها على قواعد إبراهيم، ولكن لما كان الناس حديثي عهد بكفر ترك هذا الأمر المطلوب خوفاً من المفسدة فقال لعائشة رضى الله عنها: ((لولا أن قومك حديثوا عهد لهدمت الكعبة، وبنيتها على قواعد إبراهيم، وجعلت لها بابين باباً يدخل منه الناس، وباباً يخرجون منه)) (1) .
* * *
سئل فضيلة الشيخ: عن حكم الصلاة بالنعال؟ وهل وجود السجاد في المساجد الآن يمنع من الصلاة في النعال؟
فأجاب بقوله: الصلاة في النعال مشروعة، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصلي في نعليه كما رواه أنس بن مالك رضى الله عنه أخرجه البخاري ومسلم، وعن شداد بن أوس رضى الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم)) (2) . رواه أبو داود وله شواهد.
وأما السجاد فلا تمنع من الصلاة في النعال، لكن المهم الذي أغفله كثير من الناس هو تفقد النعال قبل دخول المسجد، وهذا خلاف ما أمر به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فق قال: ((إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر فإن رأي في نعليه قذراً، أو أذى فليمسحه، وليصل فيهما) (3) . فلو عمل
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب الحج / باب فضل مكة وبنيانها، ومسلم: كتاب الحج / باب نقض الكعبة وبنائها.
(2) أخرجه أبو داود: كتاب الصلاة / باب الصلاة في النعل (652) .
(3) أخرجه الإمام أحمد 3/20، وأبو داود: كتاب الصلاة / باب الصلاة في النعل (650) .(12/387)
الناس بهذا الحديث لم يكن على السجاد ضرراً إذا صلى الناس عليها في نعالهم.
* * *
وسئل فضيلته: يحصل عند بعض الناس إشكال في الصلاة بالنعال ويحصل منهم الإنكار على من فعل ذلك فما قولكم؟
فأجاب قائلاً: لا ريب أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى في نعليه كما في صحيح البخاري أن أنس بن مالك رضى الله عنه سئل: أكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي في نعليه؟ فقال: نعم (1) .
وقد اختلف العلماء رحمهم الله تعالى سلفاً وخلفاً هل الصلاة فيهما من باب المشروعات فيكون مستحباً، أو من باب الرخص فيكون مباحاً، والظاهر أن ذلك من باب المشروعات فيكون مستحباً، ودليل ذلك من الأثر والنظر:
أما الأثر: فقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم)) (2) . أخرجه أبو داود وابن حبان في صحيحه، قال الشوكاني في شرح المنتقي: ولا مطعن في إسناده.
ومخالفة اليهود أمر مطلوب شرعاً.
وأما النظر: فإن النعال والخفاف زينة الأقدام، وقد قال الله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) (3) . ولا يعارض هذا المصلحة إلا أن القدمين في النعال ترتفع أطرافها عن الأرض،
__________
(1) تقدم تخريجه ص 386.
(2) تقدم تخريجه ص 376.
(3) سورة الأعراف، الآية: 31.(12/388)
وأطراف القدمين مما أمرنا بالسجود عليه، لكن يجاب عن ذلك، بأن النعلين متصلان بالقدم وهما لباسه، فاتصالهما بالأرض اتصال لأطراف القدمين، ألا ترى أن الركبتين مما أمرنا بالسجود عليا وهما مستوران بالثياب، ولو لبس المصلي قفازين في يديه وسجد فيهما أجزأه السجود مع أن اليدين مستوران بالقفازين.
ولكن الصلاة بالنعلين غير واجبة لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: رأيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي حافياً ومنتعلاً (1) . أخرجه أبو داود وابن ماجه. ولحديث أبي هريرة رضى الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((إذا صلى أحدكم فخلع نعليه فلا يؤذ بهما أحداً، ليجعلهما بين رجليه، أو ليصل فيهما)) (2) . أخرجه أبو داود. قال العراقي: صحيح الإسناد. وعن أبي هريرة رضى الله عنه أيضاً أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((إذا صلى أحدكم فلا يضع نعليه عن يمينه ولا عن يساره فتكون عن يمين غيره، إلا أن لا يكون عن يساره أحد، وليضعهما بين رجليه)) (3) . رواه أبو داود وفي إسناده من اختلف فيه ويشبه أن يكون موقوفاً. وعن عبد الله بن السائب رضى الله عنه قال: رأيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الفتح ووضع نعليه عن يساره (4) .
__________
(1) أخرجه أبو داود: كتاب الصلاة / باب الصلاة في النعل (653) ، وابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة / باب الصلاة في النعال (1038) .
(2) (1) أخرجه أبو داود: كتاب الصلاة / باب المصلي إذا خلع نعليه أين يضعهما؟ (655) .
(3) (2) أخرجه أبو داود: كتاب الصلاة / باب المصلي إذا خلع نعليه أين يضعهما؟ (654) .
(4) أخرجه الإمام أحمد 3/410، وأبو داود: كتاب الصلاة / باب الصلاة في النعل (648) ، والنسائي: كتاب القبلة / باب أين يضع الإمام نعليه إذا صلى بالناس (775) ، وابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة / باب ما جاء في أين توضع النعل إذا خلعت في الصلاة (1431) .(12/389)
وبهذا علم أن الصلاة بالنعال مشروعة كالصلاة في الخفين، إلا أن يكون في ذلك أذية لمن بجوارك من المصلين، مثل أن تكون النعال قاسية ففي هذه الحال يتجنب المصلي ما فيه أذية لإخوانه، لأن كف الأذى عن المسلمين واجب، لاسيما إذا كان ذلك الأذى يشغلهم عن كمال صلاتهم، لأن المفسدة في هذه الحال تتضاعف حيث تحصل الأذية والإشغال عن الخشوع في الصلاة.
وأما من قال: إن الصلاة في النعال حيث لا يكون المسجد مفروشاً فليس قوله بسديد، لأن الحكمة في الصلاة في النعل مخالفة اليهود، وكون النعلين من لباس القدمين، وهذه الحكمة لا تختلف باختلاف المكان، نعم لو كانت الحكمة وقاية الرجل من الأرض لكان قوله متجهاً. وأما قول من قال: إنك إذا صليت في نعليك أمامي فقد أهنتني أشد الإهانة.
فلا أدرى كيف كان ذلك إهانة له، ولقد كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي في نعليه وأصحابه خلفه، أفيقال إن ذلك إهانة لهم؟
قد يقول قائل: إن ذلك كان معروفاً عندهم فكان مألوفاً بينهم لا يتأثرون به، ولا يتأذون به.
فيقال له: وليكن ذلك معروفاً عندنا ومألوفاً بيننا حتى لا نتأثر به ولا نتأذى به.
وأما قول من قال لمن صلى بنعليه: أأنت خير من الناس جميعاً، أو من فلان وفلان، لو كان خيراً لسبقوك إليه.
فيقال له: إن الشرع لا يوزن بما كان الناس عليه عموماً أو خصوصاً، وإنما الميزان كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكم من(12/390)
عمل قولي، أو فعلي عمله الناس وليس له أصل في الشرع، وكم من عمل قولي أو فعلي تركه الناس وهو ثابت في السنة، كما يعلم ذلك من استقرأ أحوال الناس، ومن ترك الصلاة بالنعلين من أهل العلم فإنما ذلك لقيام شبهة أو مراعاة مصلحة.
ومن المصالح التي يراعيها بعض أهل العلم ما يحصل من العامة من امتهان المساجد، حيث يدخلون المساجد دون نظر في نعالهم وخفافهم اقتداء بمن دخل المسجد في نعليه ممن هو محل قدوه عندهم، فيقتدون به في دخول المسجد بالنعلين دون النظر فيهما والصلاة فيهما فتجد العامي يدخل المسجد بنعليه الملوثتين بالأذى والقذر حتى يصل إلى الصف ثم يخلعهما ويصلي حافياً فلا هو الذي احترم المسجد، ولا هو الذي أتى بالسنة.
فمن ثم رأي بعض أهل العلم درء هذه المفسدة بترك هذه السنة، والأمر في هذا واسع – إن شاء الله – فإن لمثل هذه المراعاة أصلاً في كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أما في كتاب الله تعالى فقد نهى الله تعالى عن سبحانه وتعالى آلهة المشركين مع كونه مصلحة، لئلا يترتب عليه مفسده وهي سبهم لإلهنا جل وعلا فقال تعالى (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ) (1) .
وأما في سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فشواهده كثيرة:
منها: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لعائشة رضى الله عنه وهو يتحدث عن شأن الكعبة: ((لولا أن قومك حديث عهدهم بالجاهلية فأخاف أن تنكر
__________
(1) سورة الأنعام، الآية: 108.(12/391)
قلوبهم أن أدخل الجدر في البيت وأن ألصق بابه في الأرض)) (1) .
ومنها: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ترك قتل قوم من المنافقين مع علمه بهم، مراعاة للمصلحة، وتشريعاً للأمة أن يحكموا بالظواهر، ويدعوا السرائر إلى عالمها جل وعلا. ومنها: ترك الصيام في السفر.
ومنها: إيثار النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المؤلفة قلوبهم مع استحقاق جميع المقاتلين لها مراعاة للمصالح.
فعلى المرء أن يتأمل سيرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهديه، ومراعاة للمصالح ويتبعه في ذلك ويعمل بسنته ما استطاع، التزاماً بالواجب، واغتناماً بالتطوع، حتى يكون بذلك عالماً ربانياً وداعياً مصلحاً.
نسأل الله أن يوفقنا جميعاً لما فيه الخير، والصلاح، والفلاح، والإصلاح، وأن لا يزيغ قلوبنا بع إذ هدانا، وأن يهب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. في 10/8/1406 هـ.
* * *
وسئل فضيلة الشيخ: عن حكم التزام الإنسان مكان معين في المسجد الحرام لغير المعتكف ليصلي فيه طيلة شهر رمضان؟
فأجاب فضيلته بقوله: المسجد الحرام كغيره من المساجد يكون لمن سبق، ولا يحل لأحد خارج المسجد أن يتحجر مكاناً له في المسجد.
أما إذا كان في نفس المسجد، ولكنه أحب أن يبتعد عن ضوضاء
__________
(1) تقدم تخريجه ص 387.(12/392)
الناس، وجلس في مكان واسع فإذا قربت الصلاة جاء ليصلي في مكانه الذي احتجزه فهذا لا بأس به، لأن له الحق في أن يجلس في أي مكان في المسجد، ولكن إذا ذهب ليصلي في مكان آخر أوسع له ثم لحقته الصفوف فإنه يجب عليه أن يتقدم إلى مكانه، أو يتأخر لمكان أوسع، لأنه إذا وصلته الصفوف وكان في مكانه هذا فقد اتخذ لنفسه مكاناً آخر من المسجد، والإنسان لا يملك أن يتخذ مكانين له.
وإما التزام مكان معين لا يصلي إلا فيه فإن هذا منهي عنه بل ينبغي للإنسان أن يصلي حيث ما وجد المكان.
* * *
311 سئل فضيلة الشيخ - حفظه الله تعالى -: عن حكم حجز المكان في المسجد؟
فأجاب قائلاً: إن حجر الأماكن إذ كان الذي حجزها خرج من المسجد فهذا حرام عليه، ولا يجوز، لأنه ليس له حق في هذا المكان، فالمكان إنما يكون للأول فالأول، حتى إن بعض فقهاء الحنابلة يقول: إن الإنسان إذا حجز مكاناً وخرج من المسجد فإنه إذا رجع وصلى فيه فصلاته باطلة، لأنه قد غصب هذا المكان لأنه ليس من حقه أن يكون فيه وقد سبقه أحد أليه، والإنسان إنما يتقدم ببدنه لا بسجادته أو منديله أو عصاه، ولكن إذا كان الإنسان في المسجد ووضع هذا وهو في المسجد لكن يحب أن يكون في مكان آخر يسمع درساً، أو يتقي عن الشمس ونحو ذلك فهذا لا بأس به بشرط أن لا يتخطى الناس عند رجوعه إلى مكانه، فإن كان يلزم من رجوعه تخطي الناس وجب عليه أن يتقدم إلى مكانه إذا حاذاه الصف الذي يليه لئلا يؤذي الناس.
* * *(12/393)
سئل فضيلة الشيخ حفظه الله تعالى: إذا ضاق المسجد فما حكم الصلاة في السوق وما يحيط بالمسجد؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا بأس بذلك إذا اضطر الإنسان إلى الصلاة في السوق أو في الساحات التي حول المسجد فإن هذا لا بأس به، حتى الذين يقولون إن الصلاة لا تصح في الطريق يستثنون من ذلك صلاة الجمعة وصلاة العيد إذا امتلأ المسجد وخرج الناس إلى الأسواق، والصحيح أنه يستثنى من ذلك كل ما دعت الحاجة إليه فإذا امتلأ المسجد فإنه لا بأس أن يصلوا في الأسواق.
* * *
313 وسئل فضيلة الشيخ: عن الفرق بين المسجد والمصلي؟ وما ضابط المسجد؟
فأجاب بقوله: أما بالمعنى العام فكل الأرض مسجد لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً)) (1) . وأما بالمعنى الخاص فالمسجد: ما أعد للصلاة فيه دائماً وجعل خاصاً بها سواء بني بالحجارة والطين والإسمنت أم لم يبن، وأما المصلى فهو ما اتخذه الإنسان ليصلي فيه، ولكن لم يجعله موضعاً للصلاة دائماً، إنما يصلي فيه إذا صادف الصلاة ولا يكون هذا مسجداً، ودليل ذلك أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصلي في بيته النوافل، ولم يكن بيته مسجداً، وكذلك دعاه عتبان بن مالك إلى بيته ليصلي في مكان يتخذه عتبان مصلى ولم يكن ذلك المكان مسجداً (2) . فالمصلى ما أعد للصلاة فيه دون أن يعين مسجداً
__________
(1) تقدم تخريجه ص 95.
(2) أخرجه البخاري: كتاب المساجد / باب المساجد في البيوت، ومسلم: كتاب المساجد / باب الرخصة في التخلف عن الجماعة بعذر.(12/394)
عاماً يصلي فيه الناس ويعرف أنه قد خصص لهذا الشيء.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - حفظه الله تعالى -: هل مساجد مكة فيها من الأجر كما في المسجد الحرام؟
فأجاب فضيلته بقوله: قول السائل: هل مساجد مكة فيها من الأجر كما في المسجد الحرام جوابه: لا ليست مساجد مكة كالمسجد الحرام في الأجر، بل المضاعفة إنما تكون في المسجد الحرام نفسه القديم والزيادة لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا مسجد الكعبة)) (1) . أخرجه مسلم. فخص الحكم بمسجد الكعبة، ومسجد الكعبة واحد، وكما أن التفضيل خاص في مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام فهو خاص بالمسجد الحرام أيضاً، ويدل لهذا أيضاً قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى)) (2) . ومعلوم أننا لو شددنا الرحال إلى مسجد من مساجد مكة غير المسجد الحرام لم يكن هذا مشروعاً بل كان منهياً عنه، فما يشد الرحل إليه هو الذي فيه المضاعفة، لكن الصلاة في مساجد مكة بل في الحرم كله أفضل من الصلاة في الحل، ودليل ذلك أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما نزل الحديبية، والحديبية بعضها في الحل وبعضها في الحرم كان يصلي في الحرم مع
__________
(1) أخرجه مسلم: كتاب الحج / باب فضل الصلاة مسجدي مكة والمدينة.
(2) أخرجه البخاري: كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، ومسلم: كتاب الحج / باب لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مسجد.(12/395)
أنه نازل في الحل، وهذا يدل على أن الصلاة في الحرم أفضل، لكن لا يدل على حصول التضعيف الخاص في مسجد الكعبة.
فإن قيل: كيف تجيب عن قول الله تعالى (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) (1) . وقد أسرى به من مكة من بيت أم هاني؟
فالجواب: أنه ثبت في صحيح البخاري أنه أسرى به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الحجر، قال: ((بينا أنا نائم في الحجر أتاني آت. . .)) (2) إلخ الحديث، والحجر في المسجد الحرام، وعلى هذا فيكون الحديث الذي فيه أنه أسرى به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بيت أم هاني - إن صحت الرواية - يراد ابتداء الإسراء ونهايته من الحجر، كأنه نبه وهو في بيت أم هاني، ثم قام فنام في الحجر فأسرى به من الحجر.
* * *
سئل فضيلة الشيخ: عن حكم هدم المساجد لصالح الشوارع؟ وهل يختلف الحكم فيما إذا كان يوجد مسجد آخر قريب منه يقوم مقامه؟
فأجاب بقوله: هدم المساجد لمصلحة الشارع جائز إذا كان سيعمر بدله في مكان قريب منه بحيث لا يضر على أهل المسجد الأولين، وقد ذكر الإمام أحمد وغيره عن عمر رضى الله عنه أنه أذن في نقل مسجد الكوفة لمصلحة بيت المال، حيث إن بيت المال نقب وسرق، فأمر عمر رضى الله
__________
(1) سورة الإسراء، الآية: 1.
(2) أخرجه البخاري: كتاب فضائل الصحابة / باب المعراج، ومسلم: كتاب الإيمان / باب الإسراء.(12/396)
عنه بنقل المسجد (1) ، وجعل بيت المال في قبلته، معللاً ذلك بأنه ما زال في المسجد مصل، فيمتنع من هم بالسرقة منها بسبب وجود المصلين في المسجد، فصار المسجد في مكان سوق التمارين، وسوق التمارين في مكان المسجد، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - حكم هذه المسألة في الفتاوى ص 215- 238 مجلد 31 مجموعة ابن قاسم.
* * *
سئل فضيلة الشيخ: عن حكم إحضار الأولاد الصغار للمسجد إذا كانوا يشوشون على المصلين؟
فأجاب بقوله: لا يجوز إحضار الأولاد للمسجد إذا كانوا يشوشون على المصلين، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج على أصحابه وهم يصلون ويجهرون فقال: ((لا يجهر بعضكم على بعض في القرآن أو قال في القراءة)) (2) . وإذا كان التشويش منهياً عنه حتى في قراءة القرآن فما بالك بلعب الصبيان؟! .
أما إذا كانوا لا يشوشون فإحضارهم إلى المسجد خير، لأنه يمرنهم على حضور الجماعة ويرغبهم في المساجد فيألفونها.
* * *
317 سئل فضيلة الشيخ: حفظه الله تعالى -: عن حكم منع الصبيان من الجلوس في الصف الأول؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يمنع الصبيان من الصلاة في الصف
__________
(1) ذكر هذا الأثر كثير من الفقهاء، أنظر المغني 5/632، المبدع 5/353، والكشاف 4/324. وذكره شيه الإسلام في الموضع الذي أشار إليه الشيخ أعلاه.
(2) أرحه الإمام أجمد 2/36.(12/397)
الأول من المسجد إلا إذا حصل منهم أذية، أما ما داموا لا مؤدبين فإنه لا يجوز إخراجهم من الصف الأول لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به)) (1) . وهؤلاء سبقوا إلى ما لم يسبقهم إليه أحد، فكانوا أحق به من غيرهم.
فإذا قيل: قد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((ليليني منكم أولوا الأحلام والنهى)) (2) .
فالجواب: إن المراد بهذا الحديث حث أولي الأحلام والنهى على أن يتقدموا، نعم لو قال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا يليني إلا أولوا الأحلام والنهى)) .لكان هذا نهياً عن تقدم الصبيان للصف الأول، ولكنه إذا قال: ((ليليني أولوا الأحلام والنهى)) . فالمعنى حيث هؤلاء البالغين العقلاء على أن يتقدموا ليكونوا هم الذين يلون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولأننا لو أخرنا الصبيان عن الصف الأول سيكونون وحدهم في الصف الثاني، ويترتب على لعبهم ما لا يترتب لو كانوا في الصف الأول وفرقناهم وهذا أمر ظاهر. والله الموفق.
* * *
318 وسئل فضيلته: قال بعض الفقهاء إن من شروط الصلاة اجتناب النجاسة في البدن، والثوب، والبقعة، وهو شرط عدمي، فما الفرق بين الشرط الإيجابي والعدمي؟
فأجاب بقوله: الفرق بين الشرط الإيجابي والعدمي أن الأول يجب فعله والثاني يجب اجتنابه، فإذا صلى الإنسان في ثوب نجس
__________
(1) أخرجه أبو داود: 3/177.
(2) أخرجه مسلم: كتاب الصلاة / باب تسوية الصفوف وإقامتها.(12/398)
ناسياً، أو جاهلاً فإن صلاته صحيحة، وليس عليه إعادة الصلاة، مثال ذلك: أصاب ثوبك بول ولم تغسله ثم صليت بعد ذلك ناسياً غسله، أو أنه أصابك فإن صلاتك صحيحه ولا إعادة عليك، لأنك معذور بالنسيان، قال تعالى (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) (1) . وقد روى أهل السنة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يصلي بأصحابه ذات يوم فخلع نعليه، فخلع الصحابة نعالهم، فلما سلم سألهم، فقالوا: يا رسول الله رأيناك خلعت نعليك فخلعنا نعالنا، فقال: ((إن جبريل أتاني وأخبرني أن فيهما أذى أو قذراً)) (2) . فدل هذا على أن من صلى بنجاسة جاهلاً بها فإن صلاته لا تبطل، فإن علم بها أثناء الصلاة أزالها ومضى في صلاته ولا حرج عليه.فإذا قال قائل: ألستم تقولون: إن الإنسان إذا صلى بغير وضوء ناسياً فإن صلاته باطلة غير صحيحة، فكيف تقولون إنه إذا صلى بالنجاسة ناسياً غسلها تكون صلاته صحيحة فما الفرق إذاً؟
نقول: إن الوضوء شرط إيجابي أي أنه شرط وجودي والشرط الوجودي لابد من وجوده فإذا عدم عدمت الصحة، وأما اجتناب النجاسة فهو شرط عدمي، وقد قال أهل العلم: إنه يفرق بين ترك المأمور وفعل المحذور، فترك المأمور لا يعذر فيه الإنسان بالجهل أو النسيان، وفعل المحذور يعذر فيه الإنسان بالجهل أو النسيان، وهذه قاعدة مقررة عند أهل العلم دل عليها كتاب الله، وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 286.
(2) تقدم تخريجه ص 303.(12/399)
فصل
قال فضيلة الشيخ - جزاه الله خيراً -:من إقام الصلاة الطهارة، فإنها لا تقبل صلاة بغير طهور، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)) (1) .
فلابد أن يقوم الإنسان بالطهارة على الوجه الذي أمر به، فإن أحدث حدثاً أصغر مثل البول، والغائط، والريح، والنوم، وأكل لحم الإبل فإنه يتوضأ.
وفروض الوضوء كما يلي: غسل الوجه، واليدين إلى المرفقين ومسح الرأس، وغسل الرجلين إلى الكعبين، كما أمر الله بذلك في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) (2) . ومن الوجه: المضمضة والإستنشاق، ومن الرأس: الأذان، فلابد في الوضوء من غسل هذه الأعضاء الأربعة، غسل في ثلاثة،ومسح في واحد.
وأما الاستنجاء أو الاستجمار فهو: إزالة نجاسة ولا علاقة له بالوضوء، لو أن الإنسان بال أو تغوط واستنجى، ثم ذهب لشغله ثم دخل الوقت فإنه يتوضأ بتطهيره الأعضاء الأربعة، ولا حاجة إلى أن يستنجي، لأن الاستنجاء إزالة نجاسة، ومتى أزيلت فإنه لا يعاد الغسل مرة ثانية إلا إذا رجعت مرة ثانية.
__________
(1) (1) أخرجه البخاري: كتاب الحيل / باب في الصلاة، ومسلم: كتاب الطهارة / باب وجوب الطهارة للصلاة.
(2) سورة المائدة، الآية: 6.(12/400)
والصحيح: أنه لو نسي أن يستجمر استتجماراً شرعياً ثم توضأ فإن وضوءه صحيح، لأنه ليس هناك علاقة بين الاستنجاء وبين الوضوء.
أما إذا كان محدثاً حدثاً أكبر مثل الجنابة فعليه أن يغتسل، فيعم جميع بدنه بالماء لقوله تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) (1) . ومن ذلك المضمضة والاستنشاق لأنهما داخلان في الوجه فيجب تطهيرهما كما يجب تطهير الجبهة والخد واللحية.
والغسل الواجب الذي يكفي هو أن تعم جميع بدنك بالماء سواء بدأت بالرأس، أو بالصدر، أو بالظهر، أو أسفل البدن،أو انغمست في بركة وخرجت منها بنية الغسل.
والوضوء قبل الغسل سنة وليس واجب، وإذا اغتسل فلا حاجة إلى الوضوء مرة ثانية لأنه لم يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه توضأ بعد اغتساله.
فإذا لم يجد الماء، أو كان مريضاً يخشى من استخدام الماء، أن كان برد شديد وليس عنده ما يسخن به الماء فإنه يتيمم لقوله تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) (2) .
فبين الله حال السفر والمرض أنه يتيمم فيهما، إذا لم يجد الماء في السفر.
أما خوف البرد فدليله قصة عمرو بن العاص رضى الله عنه قال:
__________
(1) سورة المائدة، الآية: 6.
(2) سورة المائدة، الآية 6.(12/401)
احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل فأشفقت إن أغتسلت أن أهلك فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح فذكروا ذلك للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: ((يا عمرو أصليت بأصحابك وأنت جنب؟)) (1) فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت: إني سمعت الله عز وجل يقول: (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً) (2) . فضحك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يقل شيئاً. فأقره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ذلك ولم يأمره بالإعادة، لأن من خاف الضرر كمن فيه الضرر، لكن بشرط أن يكون الخوف غالباً أو قاطعاً، أما مجرد الوهم فهذا ليس بشيء.
وأعلم أن طهارة التيمم تقوم مقام طهارة الماء، ولا تنتقض إلا بما تنتقض به طهارة الماء، أو بزوال العذر المبيح للتيمم.
فمن تيمم لعدم وجود الماء ثم وجده فإنه لابد أن يتطهر بالماء، لأن الله تعالى إنما جعل التراب طهارة إذا عدم الماء، وفي الحديث الذي أخرجه أهل السنن عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: ((الصعيد الطيب وضوء المسلم أو قال: طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإن وجده فليتق الله وليمس بشرته)) (3) .
وفي صحيح البخاري من حديث عمران بن حصين الطويل في قصة الرجل الذي اعتزل فلم يصل مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسأله فقال: ((ما منعك أت تصلي معنا)) ؟ قال: أصابتني جنابة ولا ماء فقال: ((عليك بالصعيد
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في " المسند " 4/203، وأبو داود: كتاب الطهارة / باب إذا خاف الجنب البرد يتيمم، وعلقه البخاري / كتاب التيمم وصححه الحافظ في " الفتح " 1/354.
(2) سورة النساء، الآية: 29.
(3) تقدم تخريجه ص 260.(12/402)
فإنه يكفيك)) ، ثم حضر الماء فأعطى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا الرجل ماء وقال: ((أفرغه على نفسك)) (1) أي اغتسل به، فدل هذا على أنه إذا وجد الماء بطل التيمم، أما إذا لم يحضر الماء، ولم يزل العذر فإنه يقوم مقام طهارة الماء ولا يبطل بخروج الوقت، فلو تيمم الإنسان وهو مسافر ولا ماء عنده لصلاة الظهر مثلاً وبقي لم يحدث إلى العشاء فإنه لا يلزمه إعادة التيمم، لأن التيمم لا يبطل بخروج الوقت، لأنه طهارة شرعية كما قال الله في القرآن الكريم: (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) (2) . فبين الله أن طهارة التيمم طهارة، وقال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً)) بفتح الطاء أي أنها تطهر ((فإيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل)) (3) وفي حديث آخر: ((فعنده مسجده وطهوره)) (4) يعني ليتطهر وليصل.
ومن المحافظة على الطهارة إزالة النجاسة من ثوبك، ومصلاك وبدنك، فلابد من الطهارة في هذه المواضع الثلاثة. ودليل هذا في الثوب أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أمر الحائض إذا أصابها الحيض أن تغسله ثم تصلي فيه)) (5) .
ولما صلى ذات يوم بأصحابه وعليه نعاله خلع نعليه فخلع الناس
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب التيمم / باب الصعيد الطيب وضوء المسلم، ومسلم: كتاب المساجد / باب قضاء الصلاة الفائتة.
(2) سورة المائدة / باب قضاء الصلاة الفائتة.
(3) تقدم تخريجه ص 95.
(4) أخرجه الإمام أحمد 5/248.
(5) أخرجه البخاري: كتاب الحيض / باب غسل دم الحيض.(12/403)
نعالهم فلما سلم سألهم لماذا خلعوا نعالهم؟ قالوا: رأيناك خلعت نعليك فخلعنا نعالنا، قال: ((إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما قذراً)) (1) .
فدل هذا على أنه لابد من اجتناب النجاسة في الملبوس.
أما المكان: فدليله أن أعرابياً جاء فبال في طائفة المسجد أي في طرف منه، فصاح به الناس وزجروه ولكن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحكمته نهاهم وقال: اتركوه فلما قضي بوله دعاه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال له: ((إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من الأذى أو القذر إنما هي للصلاة والتسبيح، وقراءة القرآن)) (2) .
فدل هذا على أنه لابد من التنزه من البول وهكذا بقية النجاسات ولكن لو فرض أن الإنسان في البر وتنجس ثوبه وليس معه ما يغسله به فهل يتيمم من أجل صلاته في هذا الثوب.
__________
(1) تقدم تخريجه ص 303.
(2) أخرجه البخاري: كتاب الوضوء / باب ترك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والناس الأعرابي، ومسلم: كتاب الطهارة / باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات.(12/404)
لا يتيمم، وكذلك لو أصاب بدنه نجاسه، رجله، أو يده، أو ساقه، أو ذراعه وليس عنده ما يغسله فإنه لا يتيمم، لأن التيمم إنما هو لطهارة الحدث فقط.
أما النجاسة فلا يتيمم لها لأن النجاسة عين قذرة، وتطهيرها بإزالتها، إن أمكن فذاك، وإن لم يمكن تبقى حتى يمكن إزالتها، والله أعلم(12/405)
استقبال القبلة(12/407)
سئل فضيلة الشيخ - أعلى الله درجته في المهديين -: يقع مشكلة بين بعض المصلين في المساجد حول الدفايات الكهربائية ووضعها أمام المصلين هل هذا حرام أو مكروه يتنزه عنه؟ وهل الصلاة أمام النار محرمة أو مروهة؟ أفيدونا جزاكم الله خيراً.
فأجاب بقوله: اختلف العلماء ورحمهم الله تعالى في الصلاة إلى النار: فمنهم من كرهها، ومنهم من لم يكرهها، والذين كرهوها عللوا ذلك بمشابهة عباد النار، والمعروف أن عبدة النار يعبدون النار ذات اللهب، أما ما ليس لهب فإن مقتضى التعليل أن لا تكره الصلاة إليها.
ثم إن الناس في حاجة إلى هذه الدفايات في أيام الشتاء للتدفئة فإن جعلوها خلفهم فاتت الفائدة منها أو قلت، وإن جعلوها عن إيمانهم أو شمائلهم لم ينتفع بها إلا القليل منهم وهم الذين يلونها فلم يبق إلا أن تكون أمامهم ليتم انتفاعهم بها، والقاعدة المعروفة عند أهل العلم أن المكروه تبيحه الحاجة.
ثم إن الدفايات في الغالب لا تكون أمام الإمام وإنما تكون أمام المأمومين وهذا يخفف أمرها، لأن الإمام هو القدوة ولهذا كانت سترته سترة للمأموم. الله أعلم. في 22/6/1409 هـ.
* * *
320 وسئل فضيلة الشيخ - أعلى الله درجته في المهديين -: ما حكم وضع مدخنه البخور أما المصلين في المسجد؟
فأجاب بقوله: لا حرج في ذلك ولا يدخل هذا فيما ذكره بعض الفقهاء من كراهة استقبال النار، فإن الذين قالوا بكراهة استقبال النار(12/409)
عللوا هذا بأنه يشبه المجوس في عبادتهم للنيران، فالمجوس لا يعبدون النار على هذا الوجه، وعلى هذا فلا حرج من وضع حامل البخور أمام المصلي، ولا من وضع الدفايات الكهربائية أمام المصلي أيضاً لاسيما إذا كانت أمام المأمومين وحدهم دون الإمام.
* * *
321 سئل فضلية الشيخ: عندما ذهبنا إلى المدينة دخلنا مسجد القبلتين قيل لنا ونحن في المسجد صولا هكذا أي إلى بيت المسجد، وصلوا ركعتين إلى الكعبة ما صحة هذا العمل؟ وما أصل تسمية مسجد القبلتين بهذا الاسم؟ وهل هو المسجد الموجود الآن؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا من تزوير المزورين، ولهذا قال بعض العلماء: إن المزورين بعضهم يكون مشتقاً من الزور لأ من الزيارة.
يكذب على البسطاء من الناس ويقول هذا محل كذا، وهذا محل كذا وأحياناً يقول: هذا مبرك ناقة الرسول عليه الصلاة والسلام حينما قدم المدينة وهكذا.
وهذه الأمور تحتاج إلى إثبات أولاً وقبل كل شيء، ثم إذا ثبتت فهل نحن نتخذها مزاراً؟
الجواب: لا، لأن الصاحبة الذين هم أشرف الخلق بعد الأنبياء لم يتخذوها مزاراً، فلم يبلغنا أن أحداً من الصحابة يذهب إلى ما يسمى مسجد القبلتين ليصلي فيه، وأنا لا أعلم أن هذا المسجد ذا قبلتين أو لا، وكلن حتى لو صح إنه كان ذا قبلتين فإنه لا يجوز أن يصلي فيه أحد إلى الشام.
* * *(12/410)
وسئل فضيلته: هل تصح صلاة العاجز بدون استقبال القبلة؟
فأجاب بقوله: العاجز تصح صلاته بدون استقبال القبلة، ودليل ذلك قوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (1) . وقوله تعالى: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) (2) . وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)) (3) . فالعاجز لا يلزمه استقبال القبلة لعجزه، مثل أن يكون مريضاً لا يستطيع الحركة، وليس عنده أحد يوجهه إلى القبلة فهنا يتجه حيث كان وجهه لأنه عاجز.
* * *
وسئل: هل يجب على المتنفل في السفر أن يتجه إلى القبلة عند افتتاح الصلاة؟
فأجاب فضيلته بقوله: ذهب بعض العلماء إلى الوجوب، ولكن الصحيح في هذه المسألة أن الأفضل أن يبتدئ الصلاة متجهاً إلى القبلة ثم يتجه حيث كان وجهه.
* * *
وسئل فضيلته: عن حكم صلاة من كان في الحرم ولم يستطع مشاهدة الكعبة واتجه كاتجاه المصلين، وبعد انقضاء الصلاة اتضح له أنه لم يتجه إلى عين الكعبة؟
__________
(1) سورة التغابن، الآية 16.
(2) سورة البقرة، الآية: 286.
(3) تقدم تخريجه ص 98.(12/411)
فأجاب بقوله: الذي أرى أن هؤلاء يجب عليهم إعادة الصلاة إذا لم يتحروا التحري الكامل، والغالب أن الإنسان يمكنه أن يتحرى تحرياً كاملاً، ولو كان في مكان لا يشاهد الكعبة إذا قام الناس فإنه ربما تتبين له الكعبة، ولو قيل إنه في هذا الحال معذور لمشقة ذلكم عليه، ولا سيما إذا جاء والناس قد ابتدأوا الصلاة ومكانه في الصف بعيد فإنه في هذه الحال يصعب عليه جداً، بل قد يتعذر عليه أن يشاهد عين الكعبة فيكفي الاتجاه إلى جهة الكعبة في هذه الحال للمشقة.
* * *
وسئل فضيلة الشيخ: نشاهد بعض المصلين في الحرم لا يتجهون إلى عين الكعبة مع قدرتهم على ذلك فما حكم صلاتهم؟
فأجاب فضيلته بقوله: صلاتهم باطلة، لأنه إذا أمكن مشاهدة الكعبة وجب عليه استقبال عينها قد وضعت الحكومة - جزاهم الله خيراً - أخيراً علامات على الاتجاه الصحيح، وذلك بمد خطين على الحصى فإذا اتجهت نحو هذا الاتجاه كان اتجاهك صحيحاً.
* * *
326 وسئل فضيلته: عن حكم اتخاذ المحاريب في المساجد؟ وما الجواب عما روي من النهي عن مذابح كمذابح النصارى؟
فأجاب بقوله: اختلف العلماء - رحمهم الله _ في اتخاذ المحراب هل هو سنة، أو مستحب، أو مباح؟
والذي أرى أن اتخاذ المحاريب مباح، وهذا هـ المشهود من المذهب ولو قيل باستحبابه لغيره لما فيه من المصالح الكثيرة، ومنها تعليم الجاهل القبلة لكان حسناً.(12/412)
وأما ما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((النهي عن مذابح كمذابح النصارى)) (1) أي: المحاريب، فهذا النهي وارد على ما إذا اتخذت محاريب كمحاريب النصارى، أما إذا اتخذت محاريب متميزة للمسلمين فإن هذا لا ينهى
عنه.
* * *
327 سئل فضيلة الشيخ: عد بعض أهل العلم المحاريب في المساجد من البدع ومن التشبه بالكافرين فهل هذا القول صحيح؟
فأجاب بقوله: هذا القول فيما أرى غير صحيح، وذلك لأن الذين يتخذونه إنما يتخذونه علامة على القبلة ودليلاً على جهتها.
وما ورد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن اتخاذ مذابح كمذابح النصارى، فإن المراد به أن نتخذ محاريب كمحاريب النصارى، فإذا تميزت عنها زال الشبه.
* * *
وسئل فضيلة الشيخ: إذا تبين للمصلي أنه انحرف عن القبلة قليلاً فهل يعيد الصلاة؟
فأجاب بقوله: الانحراف القليل لا يضر، وهذا في غير ما كان في المسجد الحرام، لأن المسجد الحرام قبلة المصل فيه هي عين الكعبة، ولهذا قال العلماء: من أمكنه مشاهدة الكعبة فإن الواجب أن يستقبل عينها، فإذا قدر أن المصلي في الحرم اتجه إلى جهتها لا إلى عينها فإنه يعيد الصلاة لأن صلاته لم تصح، قال عز وجل (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) (2) .
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في " المصنف " 2/55.
(2) سورة البقرة، الآية: 144.(12/413)
أما إذا كان الإنسان بعيداً عن الكعبة لا يمكنه مشاهدتها ولو في مكة فإن الواجب استقبال الجهة، ولا يضر الانحراف اليسير، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام لأهل المدينة، ((ما بين المشرق والمغرب قبلة)) (1) ، لأن أهل المدينة يستقبلون الجنوب، فكل ما بين المشرق والمغرب فهو في حقهم قبله، كذلك مثلاً نقول للذين يصلون إلى الغرب نقول ما بين الجنوب والشمال قبله.
* * *
329 وسئل فضيلته: عن مسجد تنحرف فيه القبلة عن اتجاهها الصحيح بجوالي ثلاث درجات حسب البوصلة المعدة لتحديد جهة الكعبة، وقد دأب الناس على الصلاة حسب اتجاه المسجد لعدم علم الكثيرين منهم بانحراف المسجد عن القبلة فهل هذا الأمر يؤثر على الصحة للصلاة؟ وهل يجب تعديل المسجد؟
فأجاب بقوله: إذا كان الانحراف لا يخرج الإنسان عن الجهة فإن ذلك لا يضر، والاستقامة أولى بلا ريب، أما إذا كان هذا الانحراف يخرج الإنسان عن جهة القبلة، مثل أن يكون متجهاً إلى الجنوب، والقبلة شرقاً، أو إلى الشمال والقبلة شرقاً، أو إلى الشرق والقبلة جنوباً فلا ريب أنه يجب تعديل المسجد، أو يجب الاتجاه إلى جهة القبلة وإن خالف جهة المسجد.
* * *
__________
(1) أخرجه الترمذي: كتاب الصلاة / باب ما جاء أن ما بين المشرق والمغرب قبله، وابن ماجة (1011) ، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي " المستدرك " 14/225.(12/414)
330 سئل فضيلة الشيخ: إذا صلى جماعة إلى غير القبلة فما الحكم في تلك الصلاة؟
فأجاب بقوله: هذه المسألة لا تخلو من حالين:
الحال الأولى: أن يكونوا في موضع لا يمكنهم العلم بالقبلة مثل أن يكونوا في سفر، وتكون السماء مغيمة، ولم يهتدوا إلى جهة القبلة فإنهم إذا صلوا بالتحري، ثم تبين أنهم على خلاف القبلة فلا شيء عليهم، لأنهم اتقوا الله ما استطاعوا، وقد قال تعالى (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (1) . وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)) (2) . وقال الله تعالى في خصوص هذه المسألة: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (3) .
الحال الثانية: أن يكونوا في موضع يمكنهم فيه السؤال عن القبلة ولكنهم فرطوا وأهملوا ففي هذه الحال يلزمهم قضاء الصلاة التي صلوها إلى غير القبلة سواء علموا بخطئهم قبل خروج وقت الصلاة أم بعده، لأنهم في هذه الحال مخطئون خاطئون، مخطئون في شأن القبلة، لأنهم لم يتعمدوا الانحراف عنها، لكنهم خاطئون في تهاونهم وإهمالهم السؤال عنها، إلا أنه ينبغي أن نعلم أن الانحراف اليسير عن جهة القبلة لا يضر، كما لو انحرف إلى جهة اليمين أو إلى جهة الشمال يسيراً لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أهل المدينة: ((ما بين المشرق والمغرب
__________
(1) سورة التغابن، الآية: 16.
(2) تقدم تخريجه ص 98.
(3) سورة البقرة، الآية: 115.(12/415)
قبلة)) (1) . فالذين يكونون شمالاً عن الكعبة نقول لهم ما بين المشرق والمغرب قبلة، وكذلك من يكونون جنوباً عنها، ومن كانوا شرقاً عنها، أو غرباً نقول لهم: ما بين الشمال والجنوب قبلة، فالانحراف اليسير لا يؤثر ولا يضر.
وهاهنا مسألة أحب أن أنبه عليها وهي: أن من كان في المسجد الحرام يشاهد الكعبة فإنه يجب أن يتجه إلى عين الكعبة لا إلى جهتها، لأنه إذا انحرف عن عين الكعبة لم يكن متجهاً إلى القبلة، وأرى كثيراً من الناس في المسجد الحرام لا يتجهون إلى عبن الكعبة تجد الصف مستطيلاً طويلاً، وتعلم علم اليقين أن كثيراً منهم لم يكن متجهاً إلى عين الكعبة، وهذا خطأ عظيم يجب على المسلمين أن ينتبهوا له، وأن يتلافوه لأنهم إذا صلوا على هذه الحال صلوا إلى غير القبلة.
* * *
وسئل حفظه الله: عن امرأة صلت إلى غير القبلة، وبعد مضي مدة تبين لها أنها صلت على خلاف القبلة فهل صلاتها صحيحة أو تعيد الصلاة؟
فأجاب بقوله: إذا صلى إنسان إلى غير القبلة وهو يظنها قبلة فإن كان في البلد فعيه إعادة الصلاة،لأنه يستطيع أن يسأل أهل البيت، أو يبحث عن مسجد ليعلم قبلتها، وإن كان في السفر فإن كان مجتهد وهذا هو الذي أداه إليه الاجتهاد وليس عنده أحد يسأله فإنه لا يجب عليه الإعادة.
* * *
__________
(1) تقدم تخريجه ص 414.(12/416)
وسئل فضيلة الشيخ: هل هناك طريقة لمعرفة اتجاه القبلة؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم هناك طريقة لمعرفة القبلة، إن كان الإنسان في البر وذلك بمشاهدة الشمس، والقمر، والنجوم، فإنها تشرق من المشرق وتغرب من المغرب، فإذا كان الإنسان غرباً عن مكة اتجه شرقاً، وإذا كان عنها شرقاً اتجه إلى الغرب، وإذا كان عنها شمالاً اتجه إلى الجنوب، وإذا كان عنها جنوباً اتجه إلى الشمال، هذه من أكبر العلامات.
وإذا صلى الإنسان بالتحري، ثم تبين له خطأ فعله، فإنه لا إعادة عليه إذا كان في مكان لا يستطيع فيه سؤال الناس.
وقد يسر الله في زماننا هذا ما يعرف به جهة القبلة بواسطة دلائل القبلة (البوصلة) ، فإذا أراد الإنسان أن يسافر إلى جهة ما، فليأخذ معه هذه الآلة حتى يكون على بصيرة من أمره، والله الموفق.
* * *
وسئل فضيلته عمن كان في سفر ولم تتبين له جهة القبلة فماذا يعمل؟
فأجاب بقوله: إذا كان الإنسان في سفر ولم يتبين جهة القبلة فإنه يتحرى أي الجهات أقرب إلى القبلة فيتجه إليها، وإذا فعل ذلك واتقى الله ما استطاع فإنها لا تجب عليه الإعادة لو أخطأ لقول الله تعلى: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) (1) . قوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (2) . ولقوله تعالى: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 286.
(2) سورة التغابن، الآية: 16.(12/417)
وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) (1) .
ولقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) (2) . والله الموفق.
* * *
وسئل فضيلته: عن جماعة حددوا القبلة بالبوصلة وعملوا بموجبها إلا شخصاً واحد خالف في ذلك وينحرف فما الحكم؟
فأجاب بقوله: هذا الرجل الذي يخالف إخوانه بالاتجاه إلى القبلة لا أظن أنه يفعل ذلك إلا لأنه يعتقد أن الصواب معه فيكون مأجوراً على عمله، لكنه مخطئ في فعله، وذلك لأنه خالف جماعته وشذ عنهم، وإذا كانت البواصل - جمع بوصلة - تؤيد وتؤكد ما قام عليه الجماعة فقد وقع في محذورين:
الأول: أن يكون غير متجه إلى القبلة، وهذا يخل بصلاته وبما يبطلها إذا كان الانحراف عن جهة القبلة.
الثاني: مخالفته للجماعة، وإذا كان الرسول رأي يوماً وهو يصلي بالناس رجلاً بادياً صدره فقال: ((عباد الله لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم) (3) . فيتفرقوا وتتفرق كلمتهم، فإذا كان هذا تقدم يسيراً فكيف بمن خالف الجماعة واتجه إلى ناحية هو مخطئ فيها؟!
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 115.
(2) تقدم تخريجه ص 98.
(3) أخرجه البخاري: كتاب الجماعة والإمامة / باب تسوية الصفوف. ..، ومسلم: كتاب الصلاة / باب تسوية الصفوف وإقامتها.(12/418)
فعلى هذا الرجل أن يتقي الله سبحانه وتعالى، وأن لا يخالف ما أيدته هذه الدلائل – دلائل القبلة – لأن هذه الدلائل أصبحت قوية الدلالة لقوة العلم ودقته، فإذ أصبحت تشير إلى جهة فإن الصواب غالباً فيها إن لم يكن المؤكد، ولا أرى لهذا الرجل أن يخالف أصحابه، وإذا قدر أن يكون إماماً فليتجه إلى جهة المسجد لا إلى ما يظنه هو، والله أعلم
* * *(12/419)
فصل
في شرح حديث عبد الله بن عمر رضى الله عنهما ((أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يسبح في راحلته حيث كان وجهه يومئ برأسه)) (1) ، وكان أبن عمر يفعله. وفي رواية: ((كان يوتر على بعيره)) ، وللبخاري ومسلم ((غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة)) ، وللبخاري ((الفرائض)) .
القبلة هل الكعبة، وكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أول ما قدم المدينة يستقبل بين المقدس، لأنه كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر بخلافه، ثم بعد ذلك كان يكره موافقة أهل الكتاب، ويأمر بمخالفتهم، فكان يستقبل بين المقدس لمدة ستة عشر شهراً، وأو سبعة عشر شهراً إلا أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يتشوف إلى أن يأمره الله تعالى باستقبال الكعبة كما قال الله تعالى: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) (2) .
ولكن ما الذي يستقبل؟ قال أهل العلم: إذا كان بإمكانك مشاهدة الكعبة فالواجب استقبال عينها، وإذا كان لا يمكنك فالواجب استقبال جهتها.
ونحن نشاهد مع الأسف أن كثيراً من المصلين في المسجد الحرام لا يتجهون إلى عين الكعبة، وهذا خطر عظيم، لأنه يقتضي أن
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب تقصير الصلاة / باب ينزل للمكتوبة، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين / باب جواز صلاة النافلة على الدابة
(2) سورة البقرة، الآية: 144.(12/420)
تبطل صلاتهم، أما من كان لا يمكنه مشاهدة الكعبة فالواجب استقبال الجهة، والجهات الأربع: شمال، وجنوب، وشرق، وغرب. قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأهل المدينة: ((ما بين المشرق والمغرب قبلة)) (1) . لأن المدينة تقع شمالاً عن مكة، فإذا وقع الشمال عن مكة فإن جهة القبلة تكون ما بين المشرق والمغرب، وعلى هذا فلو انحرفت ولكنك لم تخرج عن مسامته الجهة فإن ذلك لا يضر، لأن الجهة واسعة، وكلما أبعدت عن الكعبة اتسعت الجهة وكلما قربت ضاقت الجهة.
فإذا كان البلد يقع شرقاً عن مكة فنقول: ما بين الشمال والجنوب قبلة.
وإذا لم يقع غرباً نقول: ما بين الشمال والجنوب قبلة، وهذا من تيسير الله، لأن إصابة عين الكعبة مع البعد متعذر أو متعسر، وإذا كان متعذراً أو متعسراً فإن الله قد يسر لعباده، وجعل الواجب استقبال الجهة.
وقد استثنى بعض العلماء – رحمهم الله – مسجد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: إن قبلته مبنية على إصابة العين، وذلك لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصلي قيه، ولكن في هذا نظر لأننا لو قلنا كل مسجد صلى فيه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو كان مكان صلى فيه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو استقبال عين، لقلنا إن مسجد قباء أيضاً قبلته إلى عين الكعبة، ولقنا إن بيت عتبان بن مالك الذي صلى فيه الرسول عليه الصلاة والسلام تكون قبلته عين الكعبة، وكذلك نقول في بيت أنس بن مالك وغير ذلك.
ولكن الصواب أن مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام وغيره من
__________
(1) تقدم تخريجه ص 414.(12/421)
مساجد المدينة سواء صلى فيه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أم لم يصل، كلها قبلتها جهة الكعبة لا عين الكعبة.
واستقبال القبلة شرط لصحة الصلاة إلا في ثلاث مواضع:
الأول: العجز:
مثاله أن يكون الإنسان مريضاً ولا يستطيع أن يتوجه إلى القبلة بنفسه، وليس عنده من يوجهه إلى القبلة فهذا يتجه حيث كان وجهه ودليل ذلك قوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم) (1) . وقوله: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) (2) .وقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)) (3) .
الثاني: الخوف:
إذا كان الإنسان في شدة الخوف وهو هارب من عدوه مثلاً واتجاه سيره في حال فراره معاكس للقبلة، كأن يكون عدوه لحقه من جهة القبلة ففي هذه الحال نقول: إن استقبال القبلة ساقط عن هذا الخائف لقول الله تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ 238 فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً) (4)
ويمكن أن ندخل هذا في النصوص الدالة على إسقاط الاستقبال في حال العجز، لأن الخائف عاجز عن استقبال القبلة إذ لو وقف لاستقبال القبلة لأدركه عدوه الذي كان فاراً منه.
__________
(1) سورة التغابن، الآية: 16.
(2) سورة البقرة، الآية 286.
(3) تقدم تخريجه ص 98.
(4) سورة البقرة، الآيتان: 238، 239.(12/422)
الثالث: النافلة في السفر:
فإنه لا يشترط فيها استقبال القبلة بل يصلي الإنسان إلى جهة سيره، ودليل ذلك فعل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإنه كان يصلي على راحلته حيثما توجهت به، ويوتر عليها، ولكنه لا يصلي عليها الفريضة.
والحكمة من هذا: تيسير النافلة على العباد.
فإذا قال قائل: إذا كان السفر في قطار فهل يسقط استقبال القبلة في هذا القطار، أو نقول إن القطار كالبناء لا يشق على الإنسان أن يستقبل القبلة؟
فالجواب: إن صعب الاستقبال يتنفل إلى جهة سيره،وإن لم يصعب وجب عليه استقبال القبلة لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً.
كيف يستدل الإنسان على القبلة؟
الجواب: نقول إذا كان في البلد يستدل عليها بالمساجد، فإن مساجد المسلمين كلها متجهة إلى القبلة، وإن كان في السفر يستدل بالشمس والقمر، لأن الشمس والقمر يشرقان من المشرق ويغربان في المغرب، فإذا كانت المنطقة التي هو فيها شمالاً عن مكة فإنه إذا أراد استقبال القبلة يجعل الشمس أو مشرق الشمس على يساره، وإذا كان جنوباً يجعل مشرق الشمس عن يمينه، وإذا كان غرباً يجعل مشرق الشمس أمامه، وإذا كان شرقاً يجعله خلفه، ويستدل عليها في الليل بالنجوم، فيستدل عليها بالقطب، والقطب: يقول العلماء إنه نجم خفي لا يراه إلا حديد البصر في ليلة ليس فيها قمر، ولكن هناك نجم بين(12/423)
بجانب القطب، وهو نجم الجدي فإنه يجم واضح ومداره قريب من مدار القطب، ويمكن أن يستدل به على القبلة، فمثلاً إذا كنت شرقي مكة فإن الجدي يكون خلف أذنك اليمنى فتجعله خلف أذنك اليمنى، وإذا كنت شمالاً فإن الجدي يكون خلفك وهكذا تفعل في أي جهة.
وهنا مسألة: إذا قال سائل إنه استأجر بيتاً وصلى فيه لمدة عشر أيام وبعدها تبين له أنه صلى إلى غير القبلة؟
فالجواب: يعيد الصلاة لأنه ترك مأموراً، والقاعدة: ((أن تارك المأمور لا يأثم بتركه إذا كان جاهلاً، لكن يجب عليه إعادة الصلاة)) حينئذ نقول: يلزم إعادة الصلاة لأنه مفرط بعدم السؤال.
* * *(12/424)
فصل
في شرح حديث عبد الله بن عمر رضى الله عنه قال: بينما الناس في قباء في صلاة الصبح إذ الصبح إذ جاءهم آت فقال: إن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة (1) .
قوله: بينما الناس في قباء (قباء) مكان معروف عند المدينة فيه المسجد الذي قال الله فيه: (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) (2) .
كان الناس يصلون فيه صلاة الصبح فجاءهم رجل خارج من المدينة وقال لهم: ((إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها فكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة)) . (وجوههم إلى الشام) : فإذا كانت وجوههم إلى الشام صارت ظهورهم إلى الكعبة (فاستداروا إلى الكعبة)) ، أي: صارت وجوههم إلى الكعبة، وظهورهم إلى الشام، وصار إمامهم في موضع المأمومين منهم يعني حتى الإمام تنحى عن مكانه، أو المأمومين تنحوا عن أمكنتهم، أو الجميع تنحى عن مكانه.
في هذا الحديث دليل على مسألتين:
الأولى: وهي من أهم ما دل عليه الحديث أن القرآن كلام الله عز
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب القبلة، باب ما جاء في القبلة، ومسلم: كتاب المساجد / باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة.
(2) سورة التوبة، الآية: 108.(12/425)
وجل تكلم به حقيقة يؤخذ ذلك من: (أنزل عليه الليلة قرآن) والنزول لا يكون إلا من أعلى والله تعالى فوق كل شيء.
الثانية: إثبات علو الله ويؤخذ من قوله: ((أنزل عليه الليلة قرآن)) فالنزول لا يكون إلا من أعلى.
الثالثة: أن القرآن يتحدد نزوله (الليلة) يعني لا فيما مضى فيكون دليلاً على أن القرآن يتحدد نزوله، والقرآن نفسه دل على أن الله يتكلم بالقرآن بعد وقوع الحوادث قال تعالى: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي) (1) قال: ((قد سمع)) وسمع فعل ماض يدل على أن هذا الخبر بعد وقوع المخبر عنه، والآيات في هذا كثيرة.
الرابعة: قبول خبر الواحد، لأن الصحابة تحولوا بخير الصحابي وهو وجل واحد، ولكن العلماء يقولون هذا في الأمور الدينية فالأخبار الدينية يكفي فيها رجل واحد، فإذا قال لك إنسان قد غربت الشمس وهو ثقة فخذ بخبره وأفطر إذا كنت صائماً ن وصل المغرب، لأن خبر الواحد في الأمور الدينية مقبول.
الخامسة: دقة تعبير الصحابة رضى الله عنهم ويؤخذ من قوله (وقد أمر أن يستقبل الكعبة) لو قال (أمر أن يستقبل القبلة) لقالوا نحن على قبلة فلم يحصل التحديد فلما قال ((أن يستقبل الكعبة)) صار هذا أدق مما لو قال القبلة.
ونحن الآن نقول في عبارتنا وكتبنا استقبال القبلة، ولا نقول استقبال الكعبة، لأن القبلة الآن تقررت وتحددت بأنها الاتجاه إلى الكعبة.
__________
(1) سورة المجادلة، الآية: 1.(12/426)
السادسة: جواز الحركة لمصلحة الصلاة، وتؤخذ من كون الصحابة تحركوا وصار أقدمهم آخرهم، ,هي حركة واجبة، لأنه لابد من استقبال القبلة.
وتنقسم الحركات في الصلاة إلى خمسة أقسام:
1 - واجبة.
2 - مستحبة.
3 - محرمة.
4 - مكروهة.
5 - مباحة.
فتكون الحركة واجبة: إذا توقف عليها فعل واجب، أو اجتناب محرم مثل المسألة التي معنا وهي إذا أخبر الإنسان بأن القبلة عن يمينه مثلاً فحينئذ يجب أن يتحرك ليكون مستقبل القبلة.
ومثل إذا وصف الإنسان وحده خلف الصف ثم تبين أن في الصف فرجه، فالحركة هنا واجبة من أجل أن يدخل في الصف.
كذلك إذا توقف عليها اجتناب محرم صارت واجبة، مثل رجل وهو يصلي رأي في غترته نجاسة، هنا يجب أن يتحرك لإلقاء الغترة التي فيها النجاسة، ومن ذلك الحديث الذي ورد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن جبريل أتاه وهو يصلي بالناس فاخبره أن في نعليه قذراً فخلع نعليه (1) ، فهذا الخلع واجب.
وتكون الحركة مستحبة إذا توقف عليها فعل مستحب، مثال ذلك أقام الجماعة ثلاثة رجال فوقف رجلان أحدهما عن يمين الإمام،
__________
(1) تقدم تخريجه ص 303.(12/427)
والثاني عن شماله فهنا يدفعهما الإمام ليكونا خلفه فهذا الدفع مستحب، لأن تقدم الإمام مع الاثنين، وما زاد سنة وليس بواجب، أن يتوقف على الحركة المستحبة اجتناب مكروه مثل الإنسان أمامه شيء مشغل له كالنقوش مثلاً فهنا نقول: يستحب لك أن تزيل هذا المشغل لأنك بإزالته تتخلص من مكروه، ومن ذلك أيضاً لو أصيب الإنسان بحكة وشغلته فيستحب أن يحكها لترد وهذا يقع كثيراً.
وتكون الحركة حراماً إذا كثرت، متوالية، من غير ضرورة، فهنا ثلاث قيود: إذا كثرت، متوالية، من غير ضرورة.
والكثرة: قال بعض العلماء: تكون بثلاث حركات، فإذا تحرك المصلي ثلاث حركات متوالية لغير ضرورة فهذه حركة كثيرة تبطل الصلاة، وقال بعض العلماء ليس لنا أن نحدد، لأن التحديد أمر توقيفي يحتاج إلى دليل، ولكن الحركة الكثيرة ما عده الناس كثيراً، بحيث إذا شوهد المصلي شوهد وكأنه لا يصلي لكثرة حركته.
المتوالية: يعني التي يلي بعضها بعضاً.
لغير ضرورة: احترازاً من الضرورة. مثال هذا الرجل نراه يتحرك كثيراً مرة يصلح الثوب، ومرة يصلح الطافية، ومرة يخرج القلم، ومرة يكتب ما تفطن له في الصلاة فهذه حركة كثيرة متوالية لغير ضرورة.
وإذا كان الإنسان يصلي فسمع جلبة وراءه فإذا هي سبع يرد أن يأكله فهرب وهو يصلي، فهذه حركة كثيرة لكنها لضرورة ولذلكم لا تبطل صلاته.
الحركة المكروهة: هي الحركة اليسيرة لغير حاجة ولا ضرورة، وما أكثرها عند الناس اليوم إلى حد أنني رأيت بعض الناس ينظر في الساعة وهو يصلي لأنه حريص على ضبط وقته ويخشى أن تزيد(12/428)
الصلاة دقيقة واحدة، أو لأنه عابث وهذا هو الظاهر لأنه عابث، وإلا فتجد الرجل يضيع أوقاتاً لا نهاية لها لكن الشيطان يأمر الإنسان بأن يتحرك في صلاته.
الحركة المباحة: هي الحركة اليسيرة لحاجة، أو الكثيرة لضرورة. هذه حركة البدن.
وبقي علينا حركة أخرى هي لب الصلاة وهي:
حركة القلب: القلب إذا كان متجهاً إلى الله عز وجل، ويشعر المصلي بأنه بين يدي الله، ويشعر بأنه بين يدي من يعلم ما توسوس به نفسه، وعنده رغبة صادقة في التقرب إلى الله بهذه الصلاة، وعنده خوف من الله فسوق يكون قلبه حاضراً خاشعاً لله، وهذا أكمل ما يكون، أما إذا كان على خلاف ذلك فسوف يجول قلبه، وتجول القلب حركة مخلة جاء في الحديث: ((إن الرجل ينصرف من صلاته ما كتب له إلا نصفها، أو ربعها، أو عشرها، أن أقل من ذلك)) (1) .
فحركة القلب مخلة بالصلاة لكن هل هي مخلة بصحتها بمعنى أن الإنسان إذا كثرت هواجيسه في صلاته بطلت؟
الجواب: لا، لأن من نعمة الله علينا – ولله الحمد – أن ما حدث الإنسان به نفسه لا يؤاخذ به، وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم)) (2) . فحديث النفس لا يبطل الصلاة لكنه ينقص الصلاة ويخل بكمالها.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد 4/264، 319، 321، وأبو داود: كتاب الصلاة / باب فيما جاء في نقصان الصلاة (796) ، والنسائي في " الكبرى ": كتاب السهو / باب في نقصان الصلاة (611، 612) .
(2) أخرجه البخاري: كتاب الإيمان / باب تجاوز الله عن حديث النفس.(12/429)
المسألة السابعة: أن للأمة الإسلامية قبلة سابقة، وقبلة لاحقة.
نسمع تعبيراً عن المسجد الأقصى: (إنه ثالث الحرمين وأولى القبلتين) وهذا التعبير يحتاج إلى فهم إذا قلنا ثالث الحرمين فإنه ربما يفهم السامع أن المسجد الأقصى له حرم، أو أنه حرم، وليس كذلك فإن المسلمين أجمعوا على أنه لا حرم إلا في مكة والمدينة، واختلفوا في وادي وج وهو واد في الطائف، والصحيح أنه ليس بحرم، أما المسجد الأقصى فليس بحرم، لكنه مسجد معظم تشد الرحال إليه، وأما أولى القبلتين فإنه قد يفهم السامع أن هناك قبلتين باقيتين، وأن أولاهما المسجد الأقصى فيظن السامع أن الاتجاه إلى المسجد الأقصى ليس بمنسوخ من أنه منسوخ، والذي ينبغي أن يتجنب الإنسان كل عبارة فيها إبهام، ونقول في المسجد الأقصى إنه أحد المساجد الثلاثة التي تشد الرحال إليها وكفى به شرفاً أن تشد الرحال إليه.
* * *
سئل فضيلة الشيخ حفظه الله تعالى: ما توجيهكم لمن يصلي في المسجد الحرام إلى جهة الكعبة لا إلى عينها وهم كثير؟
فأجاب بقوله: نعم نجد كثيراً من المصلين في المسجد الحرام يخطئون كثيراً في استقبال القبلة، لأن الذي يمكنه مشاهدة الكعبة يجب عليه أن يستقبل عين الكعبة لا جهتها، وكثير من المصلين تشاهدهم في المسجد الحرام يستقبلون جهة الكعبة ويصلون إلى غير القبلة، وصلاتهم حينئذ لا تصح، ولهذا يجب أن ينتبهوا لهذا الأمر وينبههم أهل العلم في هذا، لكن يستثنى من استقبال القبلة:
أولاً: العاجز عن استقبال القبلة، فالإنسان المريض الذي لا(12/430)
يستطيع أن يتحرك وليس عنده من يوجهه إلى القبلة فإنه يصلي ولو كانت القبلة خلف ظهره، أو على يمينه، أو على يساره لقول الله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم) (1) .
ثانياً: المسافر إذا تنفل، فإن المسافر إذا تنفل يجوز أن يستقبل جهة سيره، وإن كانت القبلة على يمينه، أو يساره، أو خلف ظهره، لأنه ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يصلي النافلة في سفره حيثما توجهت راحلته (2) ، ولكن الأفضل أن يفتتح الصلاة باستقبال القبلة فيكبر إلى القبلة ثم يتجه جهة سيره، وإن صلى على جهة سيرة من أول صلاته فر حرج عليه، لأن استقبال القبلة عند تكبيرة الإحرام إنما للاستحباب، هذا في النافلة، أما في الفريضة فلا تصح إلا إلى القبلة في السفر والحضر، وعلى هذا فمن كان في الطائرة وأراد أن يتنفل فإنه يتنقل وهو على كرسيه إلى أي جهة كان استقبال الطائرة، أما إذا أراد أن يصلي الفريضة وكانت الطائرة لا تصل إلى المطار قبل خروج الوقت فإنه يصلي في الطائرة ويتجه إلى القبلة ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، ولا يؤخر الصلاة عن وقتها، لأن تأخير الصلاة عن وقتها محرم ولا يجوز، مثال ذلك لنفرض أنك متجه بعد دخول وقت صلاة العصر إلى جهة المشرق من جهة المغرب وأنت تخشى إذا أخرجت الصلاة أن تغيب الشمس قبل أن تصل إلى المطار فنقول لك صلى الصلاة على وقتها واتجه إلى القبلة إن استطعت، وإذا لم تستطع فعلى حسب ما تستطيع لقول الله تعالى (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم) (3) .
__________
(1) سورة التغابن، الآية: 16.
(2) تقدم تخرجه ص 420.
(3) سورة التغابن، الآية: 16.(12/431)
ثالثاً: إذا اشتبهت القبلة على الإنسان كإنسان في البر والسماء مغيمة، أو في الليل ولا يعرف منازل النجوم، واشتبهت عليه القبلة فإنه يتحرى ويصلي، وإذا تبين له بعد ذلك أنه إلى غير القبلة فإن صلاته صحيحة ولا إعادة عليه لقول الله تعالى: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (1) . ولقوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم) .
* * *
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 115.(12/432)
فصل
وقال فضيلة الشيخ - أعلى الله درجته في المهديين:
من شروط صحة الصلاة استقبال القبلة ولا تصح الصلاة إلا به، لأن الله تعالى أمر به وكرر الأمر به في القرآن الكريم، قال تعالى: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ) (1) أي جهته.
وكان النبي عليه الصلاة والسلام أول ما قدم المدينة يصلي إلى بيت المقدس، فيجعل الكعبة خلف ظهره والشام قبل وجهه، ولكنه بعد ذلك ترقب أن الله سبحانه وتعالى يشرع له خلاف ذلك، فجعل يقلب وجهه في السماء ينتظر متى ينزل عليه جبريل بالوحي في استقبال الكعبة كما قال الله: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) (2) .
فأمره الله أن يستقبل شطر المسجد الحرام أي جهته، إلا أنه يستثنى من ذلك ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: إذا كان عاجزاً كمريض وجهه إلى غير القبلة ولا يستطيع أن يتوجه إلى القبلة فإن استقبال القبلة يسقط عنه في هذه الحال لقوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم) (3) . وقوله تعالى: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) (4) . وقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((إذا أمرتكم بأمر فأتوا
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 150.
(2) سورة البقرة، الآية: 144.
(3) سورة التغابن، الآية: 16.
(4) سورة البقرة، الآية: 286.(12/433)
منه ما استطعتم)) (1) .
المسألة الثانية: إذا كان في شدة الخوف كإنسان هارب من عدو، أو هارب من سبع، أو هارب من سيل يغرقه، فهنا يصلي حيث كان وجهه، ودليله قوله تعالى: (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ 239) (2) . فإن قوله: (فَإِنْ خِفْتُمْ) عام يشمل أي خوف وقوله: (فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ 239) يدل على أن أي ذكر تركه الإنسان من أجل الخوف فلا حرج عليه فيه ومن ذلك استقبال القبلة.
ويدل عليه أيضاً ما سبق من الآيتين الكريمتين، والحديث النبوي في أن الوجوب معلق بالاستطاعة.
المسألة الثالثة: في النافلة في السفر سواء كان على طائرة أو على سيارة، أو على بغير فإنه يصلي حيث كان وجهه في صلاة النفل مثل الوتر، وصلاة الليل، والضحى وما أشبه ذلك.
والمسافر ينبغي له أن يتنفل بجميع النوافل كالمقيم تماماً إلا في الرواتب كراتبة الظهر، والمغرب، والعشاء فالسنة تركها.
فإذا أراد أن يتنفل وهو مسافر فليتنفل حيث كان وجهه ذلك هو الثابت في الصحيحين عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فهذه ثلاث مسائل لا يجب فيها استقبال القبلة.
أما الجاهل فيجب عليه أن يستقبل القبلة، لكن إذا اجتهد وتحرى ثم تبين له الخطأ بعد الاجتهاد فإنه لا إعادة عليه، ولا نقول: إنه يسقط
__________
(1) تدم تخريجه ص 98.
(2) سورة البقرة، الآية: 239.(12/434)
عنه الاستقبال بل يجب عليه الاستقبال ويتحرى بقدر استطاعته، فإذا تحرى بقدر استطاعته ثم تبين له الخطأ فإنه لا يعيد صلاته، ودليل ذلك أن الصحابة الذين لم يعلموا بتحويل القبلة إلى الكعبة كانوا يصلون ذات يوم صلاة الفجر في مسجد قباء فجاءهم رجل فقال: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنزل عليه قرآن وأمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها فاستداروا (1) ، بعد أن كانت الكعبة وراءهم جعلوها أمامهم، فاستداروا واستمروا على صلاتهم وهذا في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يكون إنكار له فيكون ذلك مشروعاً، يعني أن الإنسان إذا أخطأ في القبلة جاهلاً فإنه ليس عليه إعادة، ولكن إذا تبين له ولو في أثناء الصلاة وجب عليه أن يستقبل القبلة، فاستقبال القبلة شرط من شروط الصلاة لا تصح الصلاة إلا به في المواضع الثلاثة، وإلا إذا أخطأ الإنسان بعد الاجتهاد والتحري.
وهنا مسألة: يحب على من تزل على شخص ضيفاً، وأراد أن يتنفل أن يسأل عن القبلة فإذا أخبره اتجه إليها، لأن بعض الناس تأخذه العزة بالإثم ومنعه الحياء وهو في غير محله عن السؤال عن القبلة، بل أسال عن القبلة حتى يخبرك صاحب البيت.
أحياناً بعض الناس تأخذه العزة بالإثم ويتجه بناء على ظنه إلى جهة ما، ويتبين أنها ليست القبلة، وفي هذه الحال يجب عليه أن يعيد الصلاة، لأنه استند إلى غير مستند شرعي، والمستند إلى غير مستند شرعي لا تقبل عبادته لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) (2) . أخرجه مسلم.
* * *
__________
(1) تقدم تخريجه ص 425.
(2) تقدم تخريجه ص 21.(12/435)
وسئل فضيلته: عن جماعة مسجد يصلون وفي قبلة المسجد دورة مياه فهل تصح الصلاة؟
فأجاب بقوله: الصلاة صحيحة، لعموم قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً)) (1) . ولكن قد يكون في الحمام رائحة كريهة تؤثر على المصلي وتشوش عليه، فإذا تجنب استقباله من أجل هذا فهو أفضل،لأن كل شيء يؤثر على المصلي فالمشروع للمصلي أن يبتعد عنه، وقد ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه صلى ذات يوم بخميصة لها أعلام، فنظر إلى أعلامها نظرة فلما انصرف من صلاته قال: ((اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم، وأتوني بإنبجانية أبي جهم)) (2) ، لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نظر إليها نظرة، وكان في هذا انشغال في الصلاة، ومن ثم أم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن تعطى هذه الخميصة لأبي جهم، وتؤخذ أنبجانيته.
ويستفاد من هذا الحديث أن كل شيء يلهي المصلي عن صلاته ويشغله فإنه ينبغي اجتنابه.
* * *
__________
(1) تقدم تخريجه ص 95.
(2) تقدم تخريجه ص 362.(12/436)
فائدة (1)
استشكل قول الأصحاب - رحمهم الله - في المجتهدين في القبلة إذا اختلفا جهة، حيث قالوا: لا يصح اقتداء أحدهما بالآخر.
ووجهة: أن اختلافهما في الاجتهاد إلى القبلة كاختلافهما في الاجتهاد في الأحكام الشرعية، وقد نصوا على أن هذا غير مانع من الإقتداء، فله أن يصلي خلف آكل حلم إبل لا يرى الوضوء منه، وإن كان هو ممن يرى نقض الوضوء به.
وهذا التفريق في الحكم بين المسألتين قد يكون خفياً في بادي الأمر، ولذلك قال الموفق - رحمه الله -: إن قياس المذهب صحة الاقتداء.
ولكن عند التأمل تجد الصواب عدم صحة اقتداء أحدهما بالآخر، وذلك أن الجميع متفقون على اشتراط القبلة في هذه المسألة، لكن أحدهما يقول: هذه هي، والثاني يخالفه، وكل واحد منهما يعتقد أن الثاني إلى غير القبلة فصلاة الآخر عنده باطلة، فكيف يصح اقتداء أحدهما بالآخر؟ فإنه إن كان الصواب مع المأموم فصلاة الإمام باطلة، فيكون مقتدياً بمن يرى أنه لم يستقبل القبلة.
وإن كان الصواب مع الإمام فصلاة المأموم باطلة! فكيف ينوي الإمامة بمن صلاته باطلة.
ونظير ذلك إذا سمعا صوتاً من أحدهما لا بعينه، فإن صلاة كل واحد بالنسبة إليه صحيحة،ولا يصح أن يقتدي أحدهما بالآخر، وقد خالف الموفق في هذا وقال: إنه لا سواء بينهما، بل بينهما فرق، وهو
__________
(1) أنظر المنتقى من فرائد الفوائد لفضيلة الشيخ حفظه الله تعالى ص 109.(12/437)
أن من باب المحدث في الأخيرة لزمه الإعادة، ومن بان أنه هو المخطئ للقبلة فلا إعادة عليه فصلاته صحيحة بكل حال، بخلاف مسألة الحدث.
ولكن هذا الفرق غير مؤثر هنا، فإن ذلك إنما يؤثر بالنسبة إلى صلاة الواحد بنفسه، أما بالنسبة إلى الجماعة بينهما فلا فرق فإن كل واحد منهما يعتقد أن الآخر مخطئ أو محدث يقيناً ولا فرق بينهما. والله أعلم.(12/438)
النية(12/440)
سئل فضيلة الشيخ - حفظه الله تعالى -: عن حكم التلفظ بالنية في الصلاة وغيرها؟
فأجاب بقوله: التلفظ بالنية لم يكن معروفاً في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعهد السلف الصالح، فهو مما أحدثه الناس، ولا داعي له، لأن النية محلها القلب، والله تعالى عليم بما في قلوب عباده، ولست تريد أن تقوم بين يدي من لا يعلم حتى تقول أتكلم بما أنوي ليعلم به، وإنما تريد أن تقف بين يدي من يعلم ما توسوس به نفسك، ويعلم متقلبك، وماضيك، وحاضرك، فالتكلم بالنية من الأمور التي لم تكن معروفة عند السلف الصالح، ولو كانت خيراً لسبقونا إليه، فلا ينبغي للإنسان أن يتكلم بنيته لا في الصلاة ولا في غيرها من العبادات لا سراً ولا جهراً.
* * *
وسئل فضيلته: عن التلفظ بالنية؟
فأجاب بقوله: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)) (1) . والنية محلها القلب ولا يحتاج إلى نطق، وأنت إذا قمت تتوضأ فهذه هي النية، ولا يمكن لإنسان عاقل غير مكره على عمل أن يفعل ذلك العمل إلا وهو ناو له، ولهذا قال بعض أهل العلم: لو كلفنا الله عملاً بلا نية لكان من التكليف ما لا يطاق.
ولم يرد عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا عن أصحابه - رضوان الله عليهم - أنهم كانوا يتلفظون بالنية، والذين تسمعهم يتلفظون بالنية تجد ذلك إما جلاهً منهم، أو تقليداً لمن قال بذلك من أهل العلم، حيث قالوا إنه
__________
(1) تقدم تخريجه ص 153.(12/442)
ينبغي أن يتلفظ بالنية من أجل أن يطابق القلب اللسان، ولكننا نقول إن قولهم هذا ليس بصحيح، فلو كان أمراً مشروعاً لبينه الرسول صلي الله عليه وسلم للأمة، إما بقوله وإما بفعله. والله الموفق.
* * *
وسئل فضيلة الشيخ: عن رجل دخل مع الإمام بنية صلاة الوتر ثم تذكر وهو يصلي أنه لم يصل العشاء فقلب النية عشاء فهل يصح؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يصح، لأن من القواعد: ((إن الانتقال من معين إلى معين لا يصح)) مثل أن يدخل إنسان في صلاة العصر ثم ذكر أنه صلى الظهر بلا وضوء،ففي أثناء الصلاة قلب العصر إلى ظهر فلا يصح، لأن العبادة المعينة لابد أن ينويها من أولها قبل أن يدخل فيها، لأنه لو نوى من أثنائها لزم أن يكون الجزء السابق على النية الجديدة خالياً من نية الصلاة التي انتقل إليها، وقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)) (1) . ففي المثال السابق لا تصح لا الظهر ولا العصر، العصر لا تصح، لأنه أبطلها بانتقاله إلى الظهر، ولا تصح الظهر لأنه لم ينوها من أولها.
وهناك انتقال من مطلق إلى معين، ولا يصح أيضاً مثل: رجل قام يصل تطوعاً، ثم ذكر أنه لم يصل الفجر فنواها عند صلاة الفجر فلا يصح تطوعاً، لأنه انتقل من مطلق إلى معين، والمعين لابد أن ينويه من أوله.
وهناك انتقال من معين إلى مطلق فيصح مثل: رجل دخل يصلي بنية الفجر ثم بدا له أن يجعلها سنة مطلقة - ليست السنة الراتبة لأن
__________
(1) تقدم تخريجه ص 153.(12/443)
الراتبة معينة - فيصح لأن نية الصلاة المعينة تتضمن في الواقع نيتين: نية مطلق الصلاة، ونية التعيين، فإذا ألغي نية التعيين بقي مطلق الصلاة، فهذا الرجل الذي حول نيته الفريضة التي هي الفجر إلى نفل مطلق عمله صحصح، لأن نية الصلاة المفروضة تشتمل على تعيين وإطلاق فإذا ألفي التعيين بقي الإطلاق، وبناء على ذلك ننظر إلى المسألة التي سأل عنها السائل، فالسائل دخل مع الإمام بنية الوتر ثم ذكر أنه لم يصل العشاء فحول النية إلى صلاة العشاء فلا تصح، وعلى السائل أن يعيد صلاة العشاء وكذلك الوتر إن أحب إعادته لكن يعيده شفعاً.
* * *
وسئل فضيلته: عن حكم صلاة الفريضة خلف المتنفل كمن صلى العشاء مع الذين يصلون التراويح؟
فأجاب بقوله: لا بأس أن يصلي العشاء خلف من يصلي التراويح، وقد نص على ذلك الإمام أحمد رحمه الله، فإن كان مسافراً وأدرك الإمام من أول الصلاة سلم معه، وإلا أتم ما بقي إذا سلم الإمام.
* * *
وسئل فضيلة الشيخ: عن حكم صلاة الفرض خلف من يصلي نافلة؟
فأجاب بقوله: يجوز أن يصلي الإنسان فرضاً خلف من يصلي نافلة، ويدل لذلك حديث معاذ بن جبل رضى الله عنه أنه كان يصلي مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العشاء ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة (1) ، فتكون
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب الجماعة والإمامة / باب إذا صلى ثم أم قوماً، ومسلم: كتاب الصلاة / باب القراءة في العشاء.(12/444)
له نافلة فريضة، وهذا وقع في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فإن قال قائل: لعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يعلم به.
فالجواب على ذلك من وجهين:
الأول: أن نقول يبعد أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يعلم به، لسيما وأنه قد شكى إليه في الإطالة حين صلى بهم ذات ليلة فأطال، ثم دعاه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ووعظه والقصة معروفه، فيبعد أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يعلم بحال معاذ رضى الله عنه.
الوجه الثاني: إنه على فرض أن يكون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يعلم بصنيع معاذ هذا، فإن الله سبحانه وتعالى قد علم به ولم ينزل وحي من الله تعالى بإنكار هذا العمل، ولهذا نقول: كل ما يجرى في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه حجة بإقرار الله له، والله سبحانه وتعالى لا يقر أحداً على باطل، وإن خفي على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدليل قوله تعالى: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً 108) (1) . فلما كان هؤلاء القوم يبيتون ما لا يرضى الله عز وجل، والناس لا يعلمون به، بينه الله عز وجل ولم يقرهم عليه، فدل هذا على أن ما وقع في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام فهو حجة، وإن لم نعلم أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علم به فهو حجة بإقرار الله له، ولهذا استدل جابر رضى الله عنه على جواز العزل بإقرار الله له حيث قال رضى الله عنه: ((كنا نعزل والقرآن ينزل)) (2) ، فالمهم أن فعل هذا حجة بكل تقدير، وهو يصلي نافلة وأصحابه يصلون وراءه فريضة، إذن فإذا صلى
__________
(1) سورة النساء، الآية: 105.
(2) أخرجه مسلم: كتاب النكاح / باب حكم العزل.(12/445)
شخص وراء رجل يصلي نافلة وهو يصلي فريضة فلا حرج في ذلك، ولهذا نص الإمام احمد رحمه الله على أن الرجل إذا دخل المسجد في رمضان وهم يصلون التراويح فإنه يصلي خلف الإمام بنية العشاء، فإذا سلم الإمام من الصلاة التي هي التراويح أتي بما عليه من صلات العشاء وهذا فرض خلف نافلة.
* * *
343 وسئل فضيلته: إذا صلى شخص صلاة الظهر خلف إمام يصلي العصر فهل صلاته صحيحة؟
فأجاب بقوله: إذا صلى شخص صلاة الظهر خلف إمام يصلي العصر فلا حرج في ذلك وصلاته صحيحه على القول الراجح لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)) (1) . ولم يثبت عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يدل على وجوب اتحاد نيتي الإمام والمأموم، فيكون لكل واحد منهما نيته كما يدل عليه الحديث: ((وإنما لكل امرئ ما نوى)) .
* * *
344 سئل فضيلة الشيخ: عن الرجل يصلي وحده فيدخل معه آخر ويكون إماماً له فهل تصح صلاتهما؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم تصح صلاتهما، ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس أنه بات عند خالته ميمونة فقام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي في الليل ثم جاء ابن عباس فدخل معه ومضى في
__________
(1) تقدم تخريجه ص 153.(12/446)
صلاته (1) ، وهذا في صلاة الليل، وما جاز في النفل جاز في الفرض إلا بدليل، ولا دليل على التفريق بين الفرض والنفل في هذه المسألة، بل روى الإمام أحمد عن جابر رضى الله عنه قال: قام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي المغرب فجئت فقمت عن يساره فجعلني عن يمينه (2) . الحديث، وهذا في الفرض، وذهب بعض العلماء إلى أن ذلك لا يصح لا في الفرض ولا في النفل وهو المشهور من المذهب، وقيل: يصح في النفل دون الفرض. حرر في 24/2/1387 هـ.
* * *
345 وسئل فضيلته: إذا رأي إنسان رجلاً يصلي لوحده فهل يأتم به؟ وهل يسأله هل يصلي فريضة أو نافلة؟ وكيف يجيب؟
فأجاب بقوله: يجوز أن تدخل مع رجل يصلي وحده وتنوي أن يكون إماماً لك، ولا حاجة أن تسأله ماذا يصلي بل تدخل على نية التي تريد، ثم إن كانت صلاته موافقة لصلاتك فذاك، وإلا فأكمل صلاتك على حسب ما نويت، فإذا تبين أنه يصلي العشاء،وأنت قد نويت المغرب ودخلت معه في أول ركعة فإذا قام للرابعة فأجلس وتشهد وسلم، ثم أدخل معه فيما بقي من صلاة العشاء إن كان يجوز لك أن تجمع.
وأما سؤال المصلي إذا سألته عن شيء وهو يصلي فلا بأس إن يجيبك بالإشارة.
* * *
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب الأذان / باب إذا قام الرجل عن يسار الإمام، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين / باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه.
(2) أخرجه الإمام أحمد 3/326، وابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة / باب الاثنان جماعة (974) .(12/447)
وسئل فضيلة الشيخ - حفظه الله تعالى -: عما يدركه المسبوق من الصلاة هل هو أولها أو آخرها؟
فأجاب بقوله: الصحيح أن ما أدرك من صلاته فهو أولها، وما يقضيه فهو آخرها، فإذا أدرك ركعتين من الظهر وأمكنه أن يقرأ مع الإمام الفاتحة وسورة قرأ وإذا سلم الإمام، وقام يقضي يقتصر على الفاتحة فقط لأن ما يقضيه هو آخر صلاته لقول الرسول صلى الله عليه الصلاة والسلام: ((ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموه)) (1) .
* * *
سئل فضيلة الشيخ: عن تغيير النية في الصلاة؟
فأجاب بقوله: تغيير النية إما أن يكون من معين لمعين، أو من مطلق لمعين، فهذا لا يصح، وإذا كان من معين لمطلق فلا بأس، مثال ذلك.
من معين لمعين، أراد أن ينتقل من سنة الضحى إلى راتبة الفجر التي يريد أن يقضيها، كبر بنية أن يصلي ركعتي الضحى، ثم ذكر أنه لم يصل راتبة الفجر فحولها إلى راتبة الفجر فهنا لا يصح، لأن راتبة الفجر ركعتان ينويهما من أول الصلاة.
كذلك أيضاً رجل دخل في صلاة العصر وفي أثناء الصلاة ذكر أنه لم يصلي الظهر فنواها الظهر، هذا أيضاً لا يصح، لأن المعين لابد أن تكون نيتهمن أول الأمر.
وأما من مطلق لمعين، فمثل أن يكون شخص يصلي صلاة مطلقة
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب الأذان / باب لا يسعى إلى الصلاة. ..، ومسلم: كتاب المساجد / باب استحباب إتيان. ..(12/448)
نوافل - ثم ذكر أنه لم يصل الفجر، أن لم يصل سنة الفجر فحول هذه النية إلى صلاة الفجر أو إلى سنة الفجر، فهذا أيضاً لا يصح.
أما الانتقال من معين لمطلق، فمثل أن يبدأ الصلاة على أنها راتبة الفجر، وفي أثناء الصلاة تبين أنه قد صلاها فهنا يتحول من النية الأولى إلى نية الصلاة فقط.
ومثال آخر: إنسان شرع في صلاة فريضة وحده ثم حضر جماعة، فأراد أن يحول الفريضة إلى نافلة ليقصر فيها على الركعتين، فهذا جائز لأنه حول من معين إلى مطلق. هذه القاعدة، من معين لمعين لا يصح، ومن مطلق لمعين لا يصح، من معين لمطلق يصح.
* * *
وسئل فضيلة الشيخ: هل يجوز تغيير النية من معين إلى معين؟
فأجاب بقوله: لا يجوز تغيير النية من معين إلى معين، أو من مطلق إلى ميعن، وإنما يجوز تغيير النية من معين إلى مطلق.
مثال الأول: من معين إلى ميعن، تغير النية من صلاة الظهر إلى صلاة العصر، ففي هذه الحالة تبطل صلاة الظهر، لأنه تحول عنها، ولا تنعقد صلاة العصر، لأنه لم ينوها من أولها وحينئذ يلزمه قضاء الصلاتين.
ومثال الثاني: من مطلق إلى معين، أن يشرع في صلاة نفل مطلق ثم يحول النية إلى نفل معين فيحولها إلى الراتبة، يعنى أن رجلاً دخل في الصلاة بنية مطلقة، ثم أراد أن يحولها إلى راتبة الظهر مثلاً فلا تجزئه عن الراتبة، لأنه لم ينوها من أولها.(12/449)
ومثال الثالث: من معين إلى مطلق أن ينوي راتبة المغرب ثم بدا له أن يجعلها سنة مطلقة فهذا صحيح لا تبطل به الصلاة، وذلك لأنه نية الصلاة المعينة متضمنة لنية مطلق الصلاة، فإذا ألغى التعيين بقي مطلق الصلاة لكن لا يجزئه ذلك عن الراتبة لأنه تحول عنها.
* * *
سئل فضيلة الشيخ: إذا قطع الإنسان النية في أثناء الصلاة فما الحكم؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا قطع المصلي النية في أثناء الصلاة بطلت الصلاة لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)) (1) . وهذا قد نوى القطع فانقطعت.
* * *
وسئل الشيخ: إذا سمع المصلي طارقاً يطرق الباب فتردد، هل يقطع الصلاة فهل تبطل الصلاة؟
فأجاب فضيلته بقوله: ذهب بعض أهل العلم إلى بطلان الصلاة وإن لم يعزم على القطع، وقال بعض أهل العلم لا تبطل الصلاة بالتردد،لأن الأصل بقاء النية، والتردد لا يبطلها، وهذا القول هو الصحيح فما دام أنه لم يعزم على القطع فهو في الصلاة.
وسئل فضيلة الشيخ: هل يصح أن ينتفل المنفرد إلى إمامة في صلاة الفرض؟
__________
(1) تقدم تخريجه ص 153.(12/450)
فأجاب بقوله: نعم يصح أن ينتفل من انفراد إلى إمامه في الفرض والنفل، ودليل ذلك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام ذات ليلة يصلي وقام ابن عباس فوقف عن يساره، فأخذ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برأسه من وراءه فجعله عن يمينه (1) ، وما ثبت في النفل ثبت في الفرض إلا بدليل.
وهنا مسألة: إذا كان المأموم مسافراً والإمام مقيماً فهل للمسافر أن ينفرد إذا صلى ركعتين ثم يسلم؟
فالجواب: ليس للمأموم المسافر إذا اقتدى بمقيم أن ينفرد إذا صلى ركعتين، لأن المأموم المسافر إذا اقتدى بإمام مقيم وجب عليه الإتمام لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إنما جعل الإمام ليؤتم به)) (2) . وقوله: ((ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا)) (3) .
* * *
وسئل فضيلة الشيخ: هل تبطل صلاة المأموم ببطلان صلاة الإمام؟
فأجاب بقوله: لا تبطل صلاة المأموم ببطلان صلاة الإمام، لأن صلاة المأموم صحيحه، والأصل بقاء الصحة، ولا يمكن أن تبطل إلا بدليل صحيح، فالإمام بطلت صلاته بمقتضى الدليل الصحيح، ولكن المأموم دخل بأمر الله فلا يمكن أن تفسد صلاته إلا بأمر الله، القاعدة: ((أن من دخل في عبادة حسب ما أمر به فإننا لا نبطلها إلا بدليل)) ويستثنى
__________
(1) تقدم تخريجه ص 446.
(2) أخرجه البخاري: كتاب الجماعة والإمامة / باب إقامة الصف من تمام الصلاة، ومسلم: كتاب الصلاة / باب إئتمام المأموم بالإمام.
(3) تقدم تخريجه ص 447.(12/451)
من ذلك ما يقوم به مقام المأموم مثل السترة، فالسترة للإمام ستره لمن خلفه، فإذا مرت امرأة بين الإمام وسترته بطلت صلاة الإمام وبطلت صلاة المأموم، لأن هذه السترة مشتركة،ولهذا لا نأمر المأموم أن يتخذ سترة، بل لو اتخذ سترة لعد متنطعاً مبتدعاً.
* * *
سئل فضيلته: إذا أخر الإنسان صلاة الظهر إلى صلاة العصر ودخل المسجد فهل يصلي معهم العصر بنية الظهر؟
فأجاب فضيلته بقوله: لم يتبين في السؤال سبب تأخير صلاة الظهر إلى العصر، فإن كان السبب عذراً شرعياً فإن له حكماً، وإن كان السبب غير شرعي فإن صلاة الظهر لا تجزئ إذا أخرها عن وقتها بدون عذر شرعي،وعليه أن يتوب إلى الله عز وجل مما وقع منه، ولا تنفعه الصلاة حينئذ، لأنه تعمد تأخيرها عن وقتها.
أما إذا كان السبب شرعياً وأتى إلى المسجد وهم يصلون العصر فهو بالخيار إن شاء صلى معهم بنية العصر، فإذا فرغوا صلى الظهر، ويسقط الترتيب حينئذ لئلا تفوت الجماعة، وإن شاء صلى معهم العصر بنية الظهر، ولا يضر اختلاف النية لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه فإذا كبر فكبروا)) (1) . فبين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معنى الاختلاف عليه ولهذا جاءت ((لا تختلفوا عليه)) ولم يقل ((لا تختلفوا عنه)) بل بال ((عليه)) مما يدل على أن المراد المخالفة في الأفعال وقد فسر ذلك في نفس الحديث فقال: ((فإذا كبر فكبروا)) وإذا ركع فأركعوا. .)) إلخ، أما النية فإنها عمل باطن لا يظهر فيها الاختلاف على
__________
(1) تقدم تخريجه ص 450(12/452)
الإمام ولو اختلفت، وعلى هذا فإنه يدخل معهم بنية الظهر وإن كانوا يصلون العصر ثم إذا انتهوا من الصلاة يأتي بصلاة العصر، وهذا عندي أولى من الوجه الذي قبله.
* * *
سئل فضيلة الشيخ - حفظه الله تعالى -: إذا أدرك المسافر مع الإمام المقيم الركعتين الأخيرتين فهل يسلم معه بنية القصر؟
فأجاب بقوله: لا يجوز للمسافر إذا إئتم بالمقيم أن يقصر الصلاة لعموم قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا)) (1) . وعلى هذا إذا أدرك المسافر مع الإمام المقيم الركعتين الأخيرتين وجب عليه أن يأتي بركعتين بعد سلام إمامه، ولا يجوز أن يسلم مع الإمام مقتصراً على الركعتين. والله أعلم.
* * *
سئل فضيلة الشيخ: إذا أحدث الإنسان في صلاته فما العمل إذا كان إماماً أو مأموماً؟ وإذا كانت به غازات؟
فأجاب قائلاً: إذا احدث الإنسان في صلاته فإنه بجب عليه أن يخرج من الصلاة، ولا يجوز أن يبقى فيها حتى وإن كان إماماً أو مأموماً، فإن كان مأموماً انصرف وتوضأ ورجع، وإن كان إماماً انصرف أيضاً وقال لمن خلفه: تقدم يا فلان أكمل الصلاة بالناس، وصلاة المأموم لا تبطل حينئذ، وكذلك لو أن الإمام دخل في الصلاة وفي أثناء الصلاة ذكر أنه على غير وضوء فإن الواجب عليه أن ينصرف ويستخلف من يتم الصلاة بهم.
__________
(1) تقدم تخريجه ص 447.(12/453)
وإذا كان في الإنسان غازات ولا يتمكن من حبسها بمعنى أنه منطلق وتخرج بغير اختياره،فإذا كانت مستمرة معه فإن حكمة حكم من به سلس البول يتوضأ بعد دخول وقتها، ويتحفظ ويصلي، وإذا خرج منه شيء أثناء الصلاة فإن الصلاة لا تبطل.
* * *
365 سئل فضيلة الشيخ: هل يجوز للإنسان أن يصلي الفريضة خلف من يصلي نافلة؟
فأجاب بقوله: الصحيح أنه لا يضر اختلاف نية الإمام والمأموم، وأنه يجوز للإنسان المفترض أن يصلي خلف الإنسان المتنفل، كما كان معاذ بن جبل يفعل ذلك في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه كان يصلي مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاة العشاء، ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة (1) ، وهي له نافلة، ولهم فريضة، فإذا دخل إنسان المسجد وأنت تصلي فريضة، أو نافلة وقام معك لتصليا جماعة فلا حرج، وصلاتكما صحيحة فيدخل معك ويصلي ما يدركه معك، وبعد انتهاء صلاتك تقوم فيقضي ما بقي عليه إن كان فاته شيء سواء كنت تصلي نافلة أو فريضة.
* * *
__________
(1) تقدم تخريجه ص 443.(12/454)
فصل
قال فضيلة الشيخ حفظه الله تعالى: ومن شروط الصلاة: النية:
فالصلاة لا تصح إلا بها لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إنما الأعمال بالنيات)) الحديث (1) .
وقد دلت الآيات الكريمة على اعتبار النية في العبادات مثل قوله تعالى في وصف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه (تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً) (2) . وقال تعالى (وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّه) (3) وقال تعالى (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ً) (4) . والآيات في هذا كثيرة. فالنية شرط من شروط الصلاة لا تصح الصلاة إلا بها.
وهي في الحقيقة ليست بالأمر الصعب فكل إنسان عاقل مختار بفعل فعلاً فإنه قد نواه، فلا تحتاج إلى تعب ولا إلى نطق فمحلها القلب ((إنما الأعمال بالنيات)) ولأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم ينطق بالنية، ولا أمر أمته بالنطق بها، ولا فعلها أحد من أصحابه فأقره على ذلك، فالنطق بالنية بدعة، هذا هو القول الراجح.
وما أظرف قصة ذكرها لي بعض الناس عليه رحمه الله قال لي: إن شخصاً في المسجد الحرام قديماً أراد أن يصلي فأقيمت الصلاة فقال: اللهم إني نويت أن أصلي الظهر أربع ركعات لله تعالى، خلف
__________
(1) تقدم تخريجه ص 153.
(2) سورة الفتح، الآية: 29.
(3) سورة البقرة، الآية: 272.
(4) سورة النساء، الآية: 100.(12/455)
إمام المسجد الحرام.
فلما أراد أن يكبر قال له: أصبر بقي عليك، قال: ما الباقي؟ قال له: قل في اليوم الفلاني، وفي التاريخ الفلاني،ومن الشهر والسنة حتى لا تضيع، هذه وثيقة، فتعجب الرجل، والحقيقة أنها محل التعجب هل أنت تعلم الله عز وجل بما تريد؟ الله يعلم ما توسوس به نفسك.
هل تعلم الله بعدد الركعات والأوقات؟ لا داعي له، هو يعلم هذا، فالنية محلها القلب.
والصلوات تنقسم إلى أقسام نفل مطلق، ونفل معين، وفريضة.
الفرائض الخمس: الفجر، والظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء فإذا جاء الإنسان إلى المسجد في وقت الفجر فإن من المعلوم أنه يريد الفجر.
وهناك مسألة: إذا جئت وكبرت وغاب عن ذهنك أي صلاة هي، وهذا يقع كثيراً إذا جاء بسرعة يخشى أن تفوته الركعة، فهنا وقوع الصلاة في وقتها دليل على أنه إنما أراد هذه الصلاة، ولهذا لو سألك أي واحد هل أردت الظهر، أو العصر، أو المغرب، أو العشاء، لقلت أبداً ما أردت إلا الفجر فيكون تعيينها بالوقت.
إذاً الفرائض يكون تعيينها على وجهين.
الوجه الأول: أن يعينها بعينها فينوي بقلبه أنها الظهر وهذا واضح.
الوجه الثاني: الوقت فما دمت تصلي الصلاة في هذا الوقت فهي هي الصلاة.
هذا الوجه الثاني إنما يكون في الصلاة المؤداة في وقتها، أما لو فرض أن على إنسان صلوات مقضية كما لو نام يوماً كاملاً عن الظهر(12/456)
والعصر والمغرب. فهنا إذا أراد أن يقضي لابد أن يعين بعينها لأنه لا يوقت لها.
ومن النوافل المعينة الوتر، وركعتي الضحى، والرواتب فهذه لابد أن تعينها بالاسم، لكن بالقلب لا باللسان، فإذا أردت أن تصلي مثلاً وكبرت، ولكن ما نويت الوتر، وفي أثناء الصلاة نويتها الوتر فهاذ لا يصح، لأن الوتر نفل معين، والنوافل المعينة لابد أن تعين بعينها.
وهنا مسألة: إذا أراد الإنسان أن ينتفل في الصلاة من نية إلى نية فهل هذا ممكن؟
فالجواب أن الانتفال أنواع:
النوع الأول: من مطلق إلى معين فلا يصح، ومثاله: إنسان قام يصلي صلاة نافلة مطلقة وفي أثناء الصلاة ذكر أنه لم يصل راتبه الفجر فنواها لراتبة الفجر.
نقول لا تصح لراتبة الفجر، لأنه انتفل من مطلق إلى معين، والمعين لابد أن تنويه من أوله فراتبه الفجر من التكبير إلى التسليم.
النوع الثاني: من معين إلى معين فلا يصح، ومثاله رجل قام يصلي العصر وفي أثناء صلاته ذكر أنه لم يصل الظهر أو أنه صلاها بغير وضوء، فقال: الآن نويتها للظهر.
هنا لا تصح للظهر لأنه من معين إلى معين، ولا تصح أيضاً صلاة العصر التي ابتدأها لأنه قطعها بانتفاله إلى الظهر.
النوع الثالث: من معين إلى مطلق فإنه لا يصح مثل: إنسان شرع(12/457)
في صلاة راتبة الفجر، ثم ذكر أنه صلاها فنواها نفلاً مطلقاً فيصح.
فصارت الحالات ثلاث:
الحال الأولى: من مطلق إلى معين لا يصح المعين ويبقى المطلق.
الحال الثانية: من معين إلى معين يبطل الأول ولا ينعقد الثاني.
الحال الثالثة: من معين إلى مطلق.
* نية الإمامة والائتمام:
الجماعة تحتاج إلى إمام ومأموم، وأقلها اثنان إمام ومأموم، وكلما كان أكثر فهو أحب إلى الله.
ولابد من نية المأموم الائتمام وهذا شئ متفق عليه، يعني دخلت في جماعة فلابد أن تنوي الائتمام بإمامك الذي دخلت عليه.
ولكن النية لا تحتاج إلى كبير عمل لأن من أتي إلى المسجد فإنه نوى أن يأتم، ومن قال لشخص صلي بي فإنه قد نوى أن يأتم.
أما الإمام فقد اختلف العلماء رحمهم الله هل يجب أن تنوي أن يكون إماماً أو لا يجب؟
فقال بعض أهل العلم: لابد أن ينوي أنه الإمام.
وقال بعضهم: لا يشترط، وعلى هذا فلو جاء رجلان ووجدا رجلاً يصلي ونويا أن يكون الرجل إماماً لهما فصفا خلفه وهو لا يدري بهما، فمن قال إنه لابد للإمام أن ينوي الإمامة، قال: إن صلاة الرجلين لا تصح، وذلك لأن الإمام يم ينو الإمامة.
ومن قال: إنه لا يشترط، قال إن صلاة هذين الرجلين صحيحة لأنهما ائتما به.(12/458)
فالأول هو المشهور من مذهب الإمام أحمد، والثاني هو مذهب الإمام مالك (1) واستدل بأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى ذات ليلة في رمضان وحده فدخل أناس المسجد فصلواخلفه (2) ، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان أول من دخل الصلاة لم ينو أن يكون إماماً، واستدلوا كذلك بأن ابن عباس رضى الله عنها بات عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات ليلة فلما قام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي من الليل، قام يصلي وحده، فقام ابن عباس فتوضأ ودخل معه الصلاة (3) .
ولكن لا شك أن هذا الثاني ليس فيه دلالة، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نوى الإمامة، ولكن نواها في أثناء الصلاة ولا بأس أن ينويها في أثناء الصلاة.
وعلى كل حال الاحتياط في هذه المسألة أن نقول: إنه إذا جاء رجلان إلى شخص يصلي فلينبهاه على أنه إمام لهما، فإن سكت فقد أقرهما، وإن رفض وأشار بيده أن لا تصليا خلفي، فلا يصليا خلفه، هذا هو الأحوط والأولى ,
* ثانياً: هل يشترط أن تتساوى صلاة الإمام مع صلاة المأموم في جنس المشروعة؟
بمعنى هل يصح أن يصلي الفريضة خلف من يصلي النافلة، أو أن يصلي النافلة خلف من يصلي الفريضة؟
أما الإنسان الذي يصلي نافلة خلف من يصلي فريضة فلا بأس بهذا، لأن السنة قد دلت على ذلك فإن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انفلت من صلاة الفجر ذات يوم في مسجد الخيف بمنى فوجد رجلين لم يصليا فقال: ((
__________
(1) قال الشيخ في شرح زاد المستقنع ج 2 ص 300 وهو أصح.
(2) أخرجه البخاري: كتاب الجمعة / باب من قال في الخطبة بعد الثناء: أما بعد ومسلم: كتاب صلاة المسافرين / باب الترغيب في قيام رمضان.
(3) تقدم تخريجه ص 446.(12/459)
ما منعكما أن تصليا في القوم؟)) قالا: يا رسول الله صلينا في رحالنا – يحتمل أنهما صليا في رحالهما لظنهما أنهما لا يدركان صلاة الجماعة أو لغير ذلك من الأسباب – فقال: ((إذا صليتما في رحالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا فإنها لكما نافلة)) (1) . أي الثانية، والأولى حصلت بها الفريضة وانتهت وبرئت الذمة.
أما إذا كان الإمام يصلي النافلة والمأموم يصلي الفريضة، وأقرب مثال لذلك في أيام رمضان إذا دخل الإنسان وقد فاتته صلاة العشاء ووجد الناس يصلون التراويح فهل يدخل معهم بنية العشاء، أو يصلي الفريضة وحده ثم يصلي التراويح؟
هذا محل خلاف بين العلماء:
فمنهم من قال: لا يصح أن يصلي الفريضة خلف النافلة، لأن الفريضة أعلى، ولا يمكن أن تكون صلاة المأموم أعلى من صلاة الإمام.
ومنهم من قال: بل يصح أن يصلي الفريضة خلف النافلة، لأن السنة وردت بذلك وهي أن معاذ بن جبل رضى الله عنه كان يصلي مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العشاء ثم يذهب إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة (2) ، فهي له نافلة ولهم فريضة ولم ينكر عليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فإن قال قائل: لعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يعلم؟
فالجواب عن ذلك أن نقول: إن كان قد علم فقد تم الاستدلال.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد 4/160، وأبو داود: كتاب الصلاة / باب في الجمع في المسجد مرتين، والنسائي: كتاب الإمامة / باب إعادة الفجر مع الجماعة لمن صلى وحده، والترمذي: كتاب الصلاة / باب: ما جاء في الرجل يصلي ثم يدرك الجماعة.
(2) تقدم تخريجه ص 343.(12/460)
لأن معاذ بن جبل رضى الله عنه قد شكي إلى الرسول في كونه يطول صلاة العشاء، فالظاهر أن الرسول اخبر بكل القضية وبكل القصة.
وإذا قدر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يعلم أن معاذاً يصلي معه ثم يذهب إلى قومه ويصلي بهم، فإن رب الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد علم، والله جل وعلا لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وإذا كان الله قد علم ولم ينزل على نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنكاراً لهذا العمل دل ذلك على جوازه، لأن الله لا يقر عباده على شئ غير مشروع لهم إطلاقاً، فتم الاستدلال حينئذ على كل تقدير.
إذاً فالصحيح أنه يجوز أن يصلي الإنسان صلاة الفريضة خلف من يصلي النافلة، والقياس الذي ذكر استدلالاً على المنع قياس في مقابلة نص فيكون مطروحاً فاسداً لا يعتبر.
إذا ً فإذا أتيت في أيام رمضان والناس يصلون صلاة التراويح ولم تصل العشاء فادخل معهم بنية صلاة العشاء، ثم إن كنت قد خلت في أول ركعة فإذا سلم الإمام فصل ركعتين لتتم الأربع ركعات، وإن كنت دخلت في الثانية فصل إذا سلم الإمام ثلاث ركعات لأنك صليت مع الأمام ركعة.
وهذا هو منصوص الإمام أحمد مع أن مذهبة خلاف ذلكم، ولكن منصوصه الذي نص عليه شخصياً أن هذا جائز.
إذاً تخلص الآن:
1 - من صلى فريضة خلف فريضة فجائز.
2 - فريضة خلف نافلة فيها خلاف.
3 - نافلة خلف فريضة جائزة قلولاً واحداً.
المسألة الثالثة: في جنس الصلاة هل يشترط أن تتفق صلاة(12/461)
الإمام والمأموم في نوع الصلاة أي ظهر مع ظهر، وعصر مع عصر أو لا؟
الجواب: هذه المسألة محل خلاف:
فمن العلماء من قال: يجب أن تتفق الصلاتان فيصلي الظهر خلف من يصلي الظهر، ويصلي العصر خلف من يصلي العصر، ويصلي المغرب خلف من يصلي المغرب، وهكذا لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((إنما جعلت الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه)) (1) .
ومن العلماء من قال: لا يشترط فيجوز أن تصلي العصر خلف من يصلي الظهر، أو الظهر خلف من يصلي العصر، أو العصر خلف من يصلي العشاء، لأن الإتمام في هذا الحال لا يتأثر، وإذا جاز أن يصلي الفريضة خلف النافلة مع اختلاف الحكم، فكذلك اختلاف الاسم لا يضر وهذا القول أصح.
فإن قال قائل: كيف يصلي الظهر خلف من يصلي العشاء؟
فنقول: يتصور ذلك بأن يحضر لصلاة العشاء بعد أن أذن ولما أقيمت الصلاة تذكر أنه صلى الظهر بغير وضوء.
فنقول له: أدخل مع الإمام أنت نيتك الظهر، والإمام نيته العشاء ولا يضر، ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)) (2) . وأما قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه)) . فليس معناه فلا تختلفوا عليه في النية لأنه فصل وبين فقال ((فإذا كبر فكبروا، ولا تكبروا حتى يكبر)) . أي تابعوه ولا تسبقوه وكلام الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفسر
__________
(1) تقدم تخريجه ص 450.
(2) تقدم تخريجه ص 153.(12/462)
بعضه بعضاً.
هذا البحث يتفرع عليه بحث آخر إذا اتفقت الصلاتان في العدد والهيئة فلا إشكال في هذا مثل ظهر خلف عصر فالعدد واحد، والهيئة واحدة، هذا لا إشكال فيه.
لكن إذا اختلفت الصلاتان بأن كانت صلاة المأموم ركعتين والإمام أربع أو العكس، أو المأموم ثلاث، والإمام أربع، أو بالعكس.
فنقول:
أولاً: إن كانت صلاة المأموم أكثر فلا إشكال، مثل لو صلى العصر خلف من يصلي المغرب مثل رجل دخل المسجد يصلي المغرب ولما أقيمت الصلاة تذكر أنه صلى العصر بلا وضوء فهنا صار عليه صلاة العصر.
نقول: ادخل مع الإمام بنية صلاة العصر، وإذا سلم الإمام فإنك تأتي بواحدة لتتم لك الأربع، هذا لا إشكال فيه.
ثانياً: إذا كانت صلاة الإمام أكثر من صلاة المأموم، فهنا نقول: إن دخل المأموم في الركعة الثانية فما بعدها فلا إشكال، وإن دخل في الركعة الأولى فحينئذ يأتي الإشكال، ولنمثل: إذا جئت والإمام يصلي العشاء وهذا يقع كثيراً في أيام الجمع، يأتي الإنسان من البيت، والمسجد جمع للمطر وما أشبه فإذا جاء وجدهم يصلون العشاء جمع تقديم، لكن وجدهم يصلون في الركعتين الأخيرتين نقول: أدخل معهم بنية المغرب، صلي الركعتين، وإذا سلم الإمام تأتي بركعة ولا إشكال.
وإذا جئت ووجدتهم يصلون العشاء الآخر لكنهم في الركعة الثانية نقول: ادخل معهم بنية المغرب وسلم مع الإمام ولا يضر لأنك ما(12/463)
زدت ولا نقصت هذا أيضاً لا إشكال فيه.
وعند البعض فيه إشكال ويقول: إذا دخلت معه في الركعة الثانية ثم جلست في الركعة التي هي للإمام الثانية وهي لك الأولى فتكون جلست في الأولى للتشهد.
نقول هذا لا يضر، ألست إذا دخلت مع الإمام في صلاة الظهر في الركعة الثانية فالإمام سوف يجلس للتشهد وهي لك الأولى فهذا مثله ولا إشكال.
الإشكال إذا جئت إلى المسجد ووجدتهم يصلون العشاء وهم في الركعة الأولى، ودخلت معهم فيها حينئذ ستصلي ثلاثاً مع الإمام والإمام سيقوم للرابعة فماذا تصنع؟
نقول: اجلس وإذا كنت تريد أن تجمع فانو المفارقة وأقرأ التحيات وسلم، ثم ادخل من الإمام فيما بقي من صلاة العشاء لأنك يمكن أن تدركه.
أما إذا كنت لا تنوي الجمع، أو ممن لا يحق له الجمع فإنك في هذه الحال تخير إن شئت فأجلس للتشهد وانتظر الإمام حتى يكمل الركعة ويتشهد وتسلم معه، وإن شئت فانو الانفراد وسلم.
وهذا الذي ذكرناه هو القول الراجح، وهو اختيار شيخ الإسلام رحمه الله.
ونية الانفراد هنا للضرورة، لأن الإنسان لا يمكن أن يزيد في صلاة المغرب على ثلاث فالجلوس لضرورة شرعية ولا بأس.
* * *
357 ...(12/464)
سئل فضيلة الشيخ: عن شروط الصلاة بعامة وبيان ما يترتب عليها؟
فأجاب فضيلته بقوله: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله أصحابه أجمعين. أما بعد:
شروط الصلاة ما يتوقف عليه صحة الصلاة من أمور خارجة عن ماهيتها، لأن الشرط في اللغة العلامة كما قال الله تعالى: (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ) (1) أي علاماتها، والشرط في الشرع في اصطلاح أهل الأصول: ما يلزم عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده الوجود.
وأهم شروط الصلاة الوقت، كما قال الله تعالى: (فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً 103) (2) ولهذا تسقط كثير من الواجبات مراعاة للوقت، وينبغي بل يجب على الإنسان أن يحافظ على أن تكون الصلاة في وقتها.
وأوقات الصلاة ذكرها الله تعالى مجملة في كتابه، وذكرها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مفصلة في سنته، أما في الكتاب العزيز فقد قال الله تعالى: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً) (3) . فقوله تعالى: (لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) أي زوالها. وقوله: (إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ) أي انتصاف الليل، لأن أقوى غسق في الليل نصفه، وهذا
__________
(1) سورة محمد، الآية: 18.
(2) سورة النساء، الآية: 103.
(3) سورة الإسراء، الآية: 78.(12/465)
الوقت من نصف النهار إلى نصف الليل يشتمل على أوقات أربع صلوات: الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء وهذه الأوقات كلها متتالية ليس بينها فاصل، فوقت الظهر: من زوال الشمس إلى أن يصير ظل الشيء كطوله، ووقت العصر: من هذا الوقت إلى اصفرار الشمس الوقت الاختياري، وإلى غروب الشمس الوقت الاضطراري، ووقت المغرب: من غروب الشمس إلى مغيب الشفق، وهو الحمرة التي تكون في الأفق بعد غروب الشمس، ووقت العشاء: من هذا الوقت إلى منتصف الليل هذه هي الأوقات الأربعة المتصلة بعضها ببعض، وأما من نصف الليل إلى طلوع الفجر ليس وقتاً لصلاة فريضة، ووقت صلاة الفجر من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ولهذا فضله الله تعالى عما قبله فقال: (لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ) . ثم قال (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً 78) (1) . والسنة جاءت مبينة لهذا على ما وصفته أنفاً.
هذه الأوقات التي فرضها الله تعالى على عباده، فلا يجوز للإنسان أن يقدم الصلاة عن وقتها، ولا يجوز أن يؤخرها عن وقتها فإن قدمها عن وقتها ولو بقدر تكبيرة الإحرام لم تصح، لأنه يجب أن تكون الصلاة في نفس الوقت، لأن الوقت ظرف فلابد أن يكون المظروف داخله، ومن أخر الصلاة عن وقتها فإن كان لعذر من نوم، أو نسيان أو نحوه فإنه يصليها إذا زال العذر لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك)) (2) . ثم تلا.
__________
(1) سورة الإسراء، الآية: 78.
(2) تقدم تخريجه ص 16.(12/466)
قوله تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي 14) وإن لم يكن له عذر فإن صلاته لا تصح ولو صلى ألف مرة، فإذا ترك الإنسان الصلاة فلم يصلها في وقتها فإنها لا تنفعه، ولا تبرأ به ذمته إذا كان تركه إياها لغير عذر ولو صلاها آلاف المرات ودليل ذلك قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) (1) . ومن ترك الصلاة حتى خرج وقتها لغير عذر فقد صلاها على غير أمر الله ورسوله فتكون مردودة عليه، لكن من رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده أن وسع لهم فيما إّا كان لهم عذر يشق عليهم أن يصلوا الصلاة في وقتها، رخص لهم في الجمع بين الظهر والعصر، أن بين المغرب والعشاء، فإذا شق على الإنسان أن يصلي كل صلاة في وقتها من الصلاتين المجموعتين فإنه يجوز أن يجمع بينهما إما جمع تقديم، وإما جمع تأخير على حسب ما يتيسر له لقوله الله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (2)
وثبت في صحيح مسلم من حديث ابن عباس – رضى الله عنهما – أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جمع في المدينة بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء من غير خوف ولا مطر، وسئل ابن عباس لماذا صنع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا قال: ((أراد أن لا يحرج أمته)) (3) . ففي هذا دليل على أن الإنسان إذا لحقه مشقة بترك الجمع بين الظهر والعصر، أو بين المغرب والعشاء فإنه يجوز له أن يجمع بينهما.
ومن شروط الصلاة أيضاً: ستر العورة لقوله تعالى: (يَا بَنِي
__________
(1) تقدم تخريجه ص 21.
(2) سورة البقرة، الآية: 185..
(3) تقدم تخريجه ص 34.(12/467)
آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا) (1) . وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجابر بن عبد الله في الثوب ((إن كان ضيقاً فاتزر به وإن كان واسعاً فالتحف به)) (2) . وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما رواه أبو هريرة – رضى الله عنه -: ((لا يصلين أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شئ)) (3) .وهذا يدل على أنه يجب الإنسان أن يكون متستراً في حال الصلاة، وقد نقل ابن عبد البر – رحمه الله – إجماع العلماء على ذلك، وأن من صلى عرياناً مع قدرته على السترة فإن صلاته لا تصح. وفي هذا المجال قسم العلماء العورة إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: مغلظة.
القسم الثاني: مخففة.
القسم الثالث: متوسطة.
فالمغلظة: عورة المرأة الحرة البالغة قالوا: إن جميع بدنها عورة في الصلاة إلا وجهها واختلفوا في الكفين والقدمين.
والمخففة: عورة الذكر من سبع سنين إلى عشر سنين، فإن عورته الفرجان، القبل والدبر، فلا يجب عليه أن يستر فخذه لأنه صغير.
والمتوسطة: ما عدا ذلك قالوا: فالواجب فيها ستر ما بين السرة والركبة فيدخل في ذلك الرجل البالغ عشراً فما فوق، ويدخل في ذلك المرأة التي لم تبلغ، ويدخل في ذلك الأمة والمملوكة، ومع هذا فإننا نقول للمشروع في حق كل إنسان أن يأخذ زينته عند كل مسجد، وأن
__________
(1) سورة الأعراف، الآية: 31.
(2) تقدم تخريجه ص 263.
(3) تقدم تخريجه ص 266.(12/468)
يلبس اللباس الكامل، لكن لو فرض أنه كان هناك خرق في ثوبه على ما يكون داخلاً ضمن العورة فإنه حينئذ يناقش فيه هل تصح صلاته أو لا تصح؟ إذ أنه يفرق بين اليسير والكثير، ويفرق بين ما كان على حذاء العورة المغلظة كالفرجين، وما كان متطرفاً، كالذي يكون في طرف الفخذ وما أشبه ذلك، أن يكون في الظهر من فوق الآليتين، أو في البطن من دون السرة وفوق السوأة، المهم أن كل مكان له حظه من تغليظ العورة.
ثم إن المرأة إذا كان حولها رجال غير محارم فإنه يجب عليها أن تستر وجهها ولو في الصلاة، لأن المرأة لا يجوز لها كشف وجهها عند غير محارمها.
ومن المناسب التنبيه على مسألة يفعلها بعض الناس في أيام الصيف: يلبس سراويل بصيرة، ثم يلبس فوقها ثوباً شفافاً يصف البشرة ويصلي، فهذا لا تصح صلاته، لأن السراويل القصيرة التي لا تستر ما بين السرة والركبة إذا لبس فوقها ثوباً خفيفاً يصف البشرة فإنه لم يكن ساتراً لعورته التي يجب عليه أن يسترها في الصلاة، ومعنا قولنا: ((يصف البشرة)) أي يبين من وراءه لون الجلد هل هو أحمر، أو أسود، أو بين ذلك.
ومن شروط الصلاة: الطهارة وهي نوعان: طهارة من الحدث، وطهارة من النجس. والحدث نوعان: حدث أكبر وهو ما يوجب الغسل، وحدث أصغر: وهو ما يوجب الوضوء.
ومن المهم هنا أن نبين أن الطهارة من الحدث شرط، وهو من باب الأوامر التي يطلب فعلها، لا التي يطلب اجتنابها والقاعدة المعروفة عند أهل العلم ((أن ترك المأمور لا يعذر فيه بالنسيان والجهل)) . وبناء على ذلك لو أن أحداً من الناس صلى بغير وضوء ناسياً فإنه يجب عليه أن يعيد صلاته بعد أن يتوضاً، لأنه أخل بشرط إيجابي مأمور بفعله، وصلاته بغير وضوء ناسياً ليس فهيا إثم لقوله تعالى: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) (1) لكنها صلاة غير صحيحة فلا تبرأ بها الذمة، فيكون مطالباً بها، ولا فرق في هذا بين أن يكون الإنسان منفرداً، أو مأموماً، أو إماماً فكل من صلى بغير وضوء، أو بغير غسل من حدث أكبر ناسياً فإنه يجب عليه إعادة الصلاة بعد الطهارة متى ذكر، حتى وإن كان إماماً، إلا أنه إذا كان إماماً وذكر في أثناء الصلاة فإنه ينصرف ويأمر من خلفه أن يتموا الصلاة، فيقول لأحدهم: تقدم أتم الصلاة بهم، فإن لم يفعل أي لم يعين من يتم الصلاة بهم، قدموا واحداً منهم يتم بهم، فإن لم يفعلوا أتم كل واحد لنفسه، ولا يلزمهم أن يستأنفوا الصلاة من جديد، ولا أن يعيدوا الصلاة لو لم يعلموا إلا بعد ذلك، لأنهم معذورون، حيث إنهم لا يعلمون حال إمامهم، وكذلك لو صلى بغير وضوء جاهلاً فلو قدم إليه طعام فيه لحم إبل، وأكل من لحم الإبل وهو لا يدري أنه لحم إبل، ثم قام فصلى ثم علم بعد ذلك أنه لحم إبل فإنه يجب عليه أن يتوضأ ويعيد صلاته، ولا إثم عليه حين صلى وقد انتفض وضوءه وهو لا يدري بانتقاضه لقوله تعالى: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) (2) .
ولا يخفى أيضاً أننا إذا قلنا أنه صلى بغير وضوء، أو بغير غسل من
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 286.
(2) سورة البقرة، الآية: 286.(12/469)
الجنابة أنه كان معذوراً لا يتمكن من استعمال الماء فإنه يتيمم بدلاً عنه، فالتيمم عند تعذر استعمال الماء يقوم مقام الماء، فإذا قدر أن هذا الرجل لم يجد الماء وتيمم وصلى فصلاته صحيحة ولو بقي أشهراً لي عنده ماء، أن بقي أشهراً مريضاً لا يستطيع أن يستعمل الماء فإن صلاته بالتيمم صحيحة، فالتيمم يقوم مقام الماء عند تعذر استعماله، وإذا قلنا: إنه يقوم مقامه عند تعذر استعماله، فإنه إذا تطهر بالتيمم بقي على طهارته حتى تنتقض الطهارة، حتى لو خرج الوقت وهو على تيممه فإنه لا يلزمه إعادة التيمم للصلاة الثانية، لأن التيمم مطهر كما قال الله تعالى في سورة المائدة لما ذكر التيمم قال: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) (1) .وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً)) (2) .
أما النوع الثاني من الطهارة: فهو الطهارة من النجاسة ومواضعها ثلاثة: البدن، والثوب، والبقعة. فلابد أن يتنزه الإنسان عن النجاسة في بدنه، وثوبه، وبقعته، ودليل ذلك في البدن: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مر بقبرين فقال: ((إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير ن إما أحدهما فكان لا يستتر من البول)) (3) . وأما الثوب فقد أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحائض إذا أصاب الحيض ثوبها أن تغسله ثم تصلي فيه، ففيه دليل على وجوب تطهير الثوب من النجاسة، وقد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه أتى بصبي لم يأكل الطعام فوضعه في حجره فبال عليه فدعا بماء فأتبعه إياه (4) ،
وأما البقعة
__________
(1) سورة المائدة، الآية: 6.
(2) تقدم تخريجه ص 95.
(3) تقدم تخريجه ص 80.
(4) أخرجه البخاري: كتاب الوضوء / باب بول الصبيان، ومسلم: كتاب الطهارة / باب حكم بول الطفل الرضيع..(12/470)
ففي حديث أنس – رضى الله عنه - قال: جاء أعرابي فبال في طائفة المسجد فزجره الناس فنهاهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلما قضى بوله أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذنوب من ماء فأهريق عليه (1) .
إذن لابد أن يتجنب الإنسان النجاسة في بدنه، وثوبه، وبقعته التي يصلى عليها، فإن صلى وبدنه نجس أي قد أصابته نجاسة لم يغسلها أو ثوبه نجس، أن بقعته نجسه فصلاته غير صحيحة عند جمهور العلماء لكن لو لم يعلم بهذه النجاسة، أن علم بها ثم نسي أن يغسلها حتى تمت صلاته فإن صلاته صحيحة ولا يلزمه أن يعيد، ودليل ذلك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى بأصحابه ذاب يوم فخلع نعليه، فخلع الناس نعالهم، فما انصرف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سألهم لماذا خلعوا نعالهم قالوا: رأيناك خلعت نعليك فخلعنا نعالنا، فقال: ((إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما خبثاً)) (2) . ولو كانت الصلاة تبطل باستصحاب النجاسة حال الجهل لا ستأنف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصلاة.
إذن اجتناب النجاسة في البدن، والثوب، والبقعة شرط لصحة الصلاة، لكن إذا لم يتجنب الإنسان النجاسة جاهلاً، أو ناسياً فإن صلاته صحيحه سواء علم بها قبل الصلاة ثم نسي أن يغلسها، أو لم يعلم بها إلا بعد الصلاة.
فإن قلت: ما الفرق بين هذا وبين ما إذا صلى بغير وضوء ناسياً أن جاهلاً، حيث أمرنا من صلى بغير وضوء ناسياً أو جاهلاً بالإعادة، ولم
__________
(1) تقدم تخريجه ص 404.
(2) تقدم تخريجه ص 303.(12/471)
نأمر الذي صلى بالنجاسة ناسياً أو جاهلاً بالإعادة؟
قلنا: الفرق بينهما أن الوضوء أو الغسل من باب فعل المأمور، واجتناب النجاسة من باب ترك المحظور، وترك المأمور لا يعذر فيه بالجهل والنسيان بخلاف فعل المحظور.
ومن شروط الصلاة: استقبال القبلة لقوله تعالى (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) (1) فاستقبال القبلة شرط لصحة الصلاة ن ومن صلى إلى غير القبلة فصلاته باطلة غير صحيحة، ولا مبرئة لذمته إلا في أحوال أربع:
الحال الأولى: إذا كان عاجزاً عن استقبال القبلة، مثل أن يكون مريضاً ووجهه إلى غير القبلة، ولا يتمكن من الانصراف إلى القبلة فإن صلاته تصح على أي جهة كان لقول الله تعالى (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (2) . وهذا الرجل لا يستطيع أن يتحول إلى القبلة لا بنفسه ولا بغيره.
الحال الثانية: إذا كان خائفاً من عدو وكان هارباً واتجاهه إلى غير القبلة ففي هذه الحال يسقط عنه استقبال القبلة لقوله تعالى: (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً) (3) . ومعلوم أن الخائف قد يكون اتجاهه إلى القبلة، وقد يكون اتجاهه إلى غير القبلة فإذا رخص الله له في الصلاة راجلاً أو راكباً فمقتضى ذلك أن يرخص له في الاتجاه إلى غير القبلة إذا
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 144.
(2) سورة التغابن، الآية: 16.
(3) سورة البقرة، الآية: 239.(12/472)
يخاف على نفسه إذا أتجه للقبلة.
الحال الثالثة: إذا كان في سفر أراد أن يصل النافلة فإنه يصلي حيث كانت جهة سفره، فقد ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يصلي في السفر على راحلته حيث كان وجهه، إلا أنه لا يصلي عليها المكتوبة، ففي النافلة يصلي المسافر حيث كان وجهه بخلاف الفريضة، فإن الفريضة يجب عليه أن يستقبل القبلة فيها في السفر كما يجب عليه ذلك في الحضر.
الحال الرابعة: إذا كان قد اشتبهت عليه القبلة فلا يدري أي الجهات تكون القبلة، ففي هذه الحال يتحرى بقدر ما يستطيع ويتجه حيث غلب على ظنه أن تلك الجهة هـ القبلة ولا إعادة عليه لو تبين له فيما بعد أنه مصل إلى غير القبلة.
وقد يقول قائل: إن هذه الحال لا وجه لاستثنائها لأننا نلزمه أن يصلي إلى الجهة التي يغلب على ظنه أنها القبلة ولا يضره إذا لم يوافق القبلة، لأن هذا منتهى قدرته واستطاعته وقد قال الله تعالى: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) (1) . وقال تعالى (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم) (2) .
وعلى كل حال فإننا سواء جعلناها مما يستثنى، أن مما لا يستثنى فإن الإنسان فيها يجب عليه أن يتقي الله ما استطاع وأن يتحرى الصواب ويعمل به.
ولكن هاهنا مسألة وهي: إنه يجب أن نعرف أن استقبال القبلة يكون إما إلى عين القبلة وهي الكعبة، وإما إلى جهتها، فإن كان الإنسان
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 286.
(2) سورة التغابن، الآية: 16.(12/473)
قريباً من الكعبة يمكنه مشاهدتها ففرضه أن يستقبل عن الكعبة لأنها هي الأصل، وأما إذا كان بعيداً لا يمكنه مشاهدة الكعبة، فإن الواجب عليه أن يستقبل الجهة وكلما بعد الإنسان عن مكة كانت الجهة في حقه أوسع، لأن الدائرة كلما تباعدت اتسعت ولهذا قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أهل المدينة: ((ما بين المشرق والمغرب قبلة)) (1) . وذكر أهل العلم أن الانحراف اليسير في الجهة لا يضر، والجهات معروف أنها أربع: الشمال، والجنوب، والشرق، والغرب، فإذا كان الإنسان عن الكعبة شرقاً أو غرباً كانت القبلة في حقه ما بين الشمال والجنوب، وإذا كان عن الكعبة شمالاً أو جنوباً صارت القبلة في حقه ما بين الشرق والغرب، لأن الواجب استقبال الجهة، فلو فرض أن الإنسان كان شرقاً من مكة واستقبل الشمال فإن ذلك لا يصح، لأنه جعل القبلة عن يمينه، وكذلك لو كان من أهل الشمال واستقبل الغرب فإن صلاته لا تصح، لنه جعل القبلة عن يساره، ولو استقبل الشرق فإن ذلك لا يصح، لأنه جعل القبلة عن يمينه.
وقد يسر الله لعباده في هذا الوقت وسائل تبين القبلة بدقه ومجربة فينبغي للإنسان أن يصطحب هذه الوسائل معه في السفر لأنها تدله على القبلة إذا كان في حال لا يتمكن فيها من معرفة القبلة، وكذلك ينبغي لمن أراد إنشاء مسجد أن يتبع ما تقتضيه هذه الوسائل المجرية والتي عرف صوابها.
ومن شروط الصلاة: النية، والنية محلها القلب، واشتراط النية
__________
(1) تقدم تخريجه ص 414.(12/474)
إنما يذكر من أجل التعيين والتخصيص، أما من حيث الإطلاق فإنه لا يمكن لأحد عاقل مختار أن يقوم فيتوضأ ثم يذهب ويصلي لا يمكن أن يفعل ذلك إلا وقد نوى الصلاة، لكن الكلام على التعيين، فالتعيين لابد منه في النية، فينوي الظهر ظهراً، والعصر عصراً، والمغرب مغرباً، والعشاء عشاءً، والفجر فجراً، ولا تكفي نية الصلاة المطلقة، لأن نية الصلاة المطلقة أعم من نية الصلاة المعينة، فمن نوى الأعم لم يكن ناوياً للأخص، ومن نوى الأخص كان ناوياً الأعم لدخوله فيه ولهذا نقول: إذا انتقل الإنسان من مطلق إلى معين، أو من معين إلى معين بقيت نية الإطلاق، وإن كان من معين إلى معين بطل الأول ولم ينعقد الثاني، وإن انتقل من معين إلى مطلق بطل المعين وصح المطلق، لأن المعين متضمن للإطلاق فإذا ألغي التعيين بقي الإطلاق، ونوضح ذلك بالأمثلة:
رجل يصلي ناوياً نفلاً مطلقاً، ثم أراد أن يقلب النية في أثناء الصلاة إلى نفل معين، أراد أن يجعل هذا النفل المطلق راتبة فهنا نقول: لا تصح الراتبة، لأن الراتبة لابد أن تكون منية من قبل تكبيرة الإحرام وإلا لم تكن راتبة، لأن الجزء الأول الذي خلا من نية الراتبة وقع بغير نية الراتبة.
لكن لو كان يصلي راتبة ثم نواها نفلاً مطلقاً وألغى نية التعيين صح ذلك، وذلك لأن الصلاة المعينة تتضمن نية التعيين، ونية الإطلاق فإذا ألغى نية التعيين بقيت نية الإطلاق.
مثال آخر: رجل دخل بنية العصر ثم ذكر أثناء الصلاة(12/475)
أنه لم يصل فيحول نيته من العصر إلى الظهر فهنا لا تصح لا صلاة الظهر، ولا صلاة العصر، أما صلاة العصر فلا تصح لأنه قطعها، وأما صلاة الظهر فلا تصح لأنه لم ينوها من أولها، لكن إذا كان جاهلاً صارت هذه الصلاة في حقه نفلاً، لأنه لما ألغى التعيين بقي الإطلاق.
مثال ثالث: صلى بنية الراتبة ثم بدا له في أثنائها أن يجعلها نفلاً مطلقاً صح، لأن نية الراتبة تتضمن الإطلاق والتعيين، فإذا ألغى التعيين بقي الإطلاق.
والخلاصة: أنني أقول إن النية المطلقة في العبادات لا أظن أحداً لا ينويها أبداً، وإذ ما من شخص يقوم فيفعل إلا وقد نوى، لكن الذي لا بد منه هو نية التعيين والتخصيص.
ومن المسائل التي تدخل في النية: نية الإمامة بعد أن كان منفرداً أو الائتمام بعد أن كان منفرداً وهذا فيه خلاف بين العلماء، والصحيح أنه لا بأس به، فنية الإمام بعد أن كان منفرداً مثل أن يشرع الإنسان في الصلاة وهو منفرد ثم يأتي رجل آخر يدخل معه ليصيرا جماعة فلا بأس بذلك، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام يصلي من الليل وكان ابن عباس – رضى الله عنهما – نائماً ثم قام ابن عباس فتوضأ ودخل مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) وأقره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والأصل أن ما ثبت في النفل ثبت في الفرض إلا بدليل، لو شرع الإنسان يصلي وحده ثم جاء آخر فدخل معه ليجعله إماماً له فلا بأس، فيكون الأول إماماً والثاني مأموماً، وكذلك بالعكس لو أن أحداً شرع في الصلاة منفرداً ثم جاء جماعة فصلوا جماعة فانضم إليهم فقد انتقل من
__________
(1) تقدم تخريجه ص 446.(12/476)
انفراد إلى ائتمام وهذا أيضاً لا بأس به، لأن الانتقال هنا ليس إبطالاً للنية الأولى ولكنه انتقال من وصف إلى وصف فلا حرج فيه.
فهذه الشروط التي ذكرناها أهم الشروط التي ينبغي الكلام عليها وإلا فهناك شروط أخرى كالإسلام والتمييز والعقل لكن هذه شروط في كل عبادة.
* * *(12/477)
فصل (1)
الحمد لله رب العالمين، وأصلي واسلم على نبينا محمد خاتم النبيين، وإمام المتقين، وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد:
الصلاة: تلك العبادة العظيمة، التي استهان بها كثير من الناس اليوم حتى حق عليهم قول الله تعالى: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً 59) (2) .
وإنه ليحدث للإنسان العجب الذي لا ينقضي أن تجد بعض الناس يحرصون غاية الحرص على الصيام، ولكنهم لا يحرصون على الصلاة، حتى إنه قيل لي إن بعض الناس يصوم ولا يصلي.
وإنني أشهد الله أن هذا الذي يصوم ولا يصلي أن صومه باطل غير مقبول منه بما أعلمه من دلالة الكتاب، والسنة، وأقوال الصحابة، والنظر الصحيح من أن تارك الصلاة كافراً مخرجاً من الملة، وإذا كان كافراً كفراً مخرجاً من الملة، لم ينفعه صومه، ولا صدقته، ولا حجه، ولا أي عمل صالح، يقول الله تبارك وتعالى (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً 23) (3) . ويقول تعالى (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ) (4) . النفقات التي نفعها متعد، لا تقبل إذا صدرت من كافر مع أن نفعها متعد،فكيف بالعبادات القاصرة كالصوم؟ فإنه لا يقبل من باب أولى.
__________
(1) من دروس المسجد الحرام.
(2) سورة مريم، الآية: 59.
(3) سورة الفرقان، الآية: 23.
(4) سورة التوبة، الآية: 54.(12/478)
هذه الصلاة التي هي أعمال يسيرة، وذات آثار حميدة لو أننا أحصينا المدة التي يكون فيها أداء الصلاة بشرائطها وفروضها فكم تكون نسبة وقتها إلى أوقاتنا؟
تكون على أقصى تقدير 6.25% من اليوم، فهذا جزء بسيط في عمل عظيم جليل له آثار حميدة على الإنسان في حياته، وفي قبره، وفي حشرة، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الصلاة نور)) (1) . أي نور على القلب، وإذا استنار القبل استنار الوجه وانشرح الصدر، ولهذا قال الله تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) (2) .
وإذا حزب الإنسان أمر وضاق عليه فإنه يفزع إلى الصلاة،وذلك لأن القلب يستنير بالصلاة، فيستنير الوجه وينشرح الصدر، ويجد الإنسان الدنيا أمامه سعة ولا نهاية لها.
والصلاة نور في القبر، والقبر ظلمة لا يرى الإنسان شمساً ولا قمراً ن فإذن كان الإنسان من المصلين كان قبره نوراً، وكذلك هي نور في الحشر، قال تعالى: (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ) (3)
وكانت الصلاة نوراً، لأن الإنسان يتصل بها بالله – عز وجل – فالإنسان عندما يقف ليصلي، فإنه يناجي ربه عز وجل، وهو على عرشه يسمعه ويجيبه، كما قال عز وجل في الحديث القدسي " ((قسمت
__________
(1) أخرجه مسلم: كتاب الطهارة / باب فضل الوضوء.
(2) سورة البقرة، الآية: 45.
(3) سورة الحديد، الآية: 12.(12/479)
الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال: الحمد لله رب العالمين، قال الله حمدني عبدي. فإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله عز وجل، أثني علي عبدي. فإذا قال مالك يوم الدين، قال الله: مجدني عبدي. فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين قال الله: هذا بيني وبين عبدي نصفين. فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم. قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل (1) .
والله إن أثر هذه المناجاة عظيم لا يعدله شيء، ولكن نشكو إلى الله – عز وجل – ما نجده في قلوبنا من الغفلة واللهو، ولا سيما إذا وقفنا بين يديه في الصلاة لا نجد الوساوس والهواجس التي تعتبر لغواً من التفكيرات، إلا إذا دخلنا الصلاة، لأن الشيطان في تلك الحال يحرص غاية الحرص على أن يصدنا عن الله – عز وجل -، وعن الصلة به، من أجل هذه الصلة كانت الصلاة نوراً يكتسب بها الإنسان نوراً في قلبه، ويبدو ذلكم على وجهه، ثم في قبره وحشرة.
إقام الصلاة
وهو أن يأتي بها الإنسان مستقيمة على الوجه الذي جاءت به الشريعة ويدخل في ذلك أمور:
أولاً: الصلاة على وقتها:
وأوقات الصلاة خمسة: أشار إليها الله في القرآن إجمالاً، وجاءت بها السنة تفصيلاً فقال تعالى: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ) (2) ، لدلوك الشمس أي لزوالها، ((إلى غسق
__________
(1) تقدم تخريجه ص 150.
(2) سورة الإسراء، الآية:78.(12/480)
الليل)) أي إلى نصف الليل، لأن تمام الغسق – وهو الظلمة – يكون في وسط الليل، فهذا الوقت من نصف النهار إلى نصف الليل لا تخلو لحظة من وقت الصلاة.
وتفصيل ذلك جاءت به السنة، فوقت الظهر: من الزوال إلى أن يصير ظل كل شيء مثله، ووقت العصر: من هذا الوقت إلى اصفرار الشمس اختيارياً، وإلى الغروب اضطراراً، ووقت المغرب: من غروب الشمس إلى مغيب الشفق، وهو الحمرة التي تعقب غروب الشمس، ووقت العشاء: من مغيب الشفق إلى نصف الليل.
وهذه الأوقات الأربعة المتصل بعضها ببعض قد دل عليها حديث عبد الله بن عمرو بن العاص الثابت في حديث مسلم، أما الوقت الخامس فقال الله تعالى: (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) لكن الله – عز وجل – عبر عن الفجر بقرآنه، لأن القراءة تطول في صلاة الفجر.
وبهذا نعرف أن ما بين الليل إلى طلوع الفجر ليس وقتاً لصلاة مفروضة، فلو أن امرأة طهرت من الحيض بعد منتصف الليل فلا تلزمها صلاة العشاء، لأنها طهرت بعد الوقت، كما أنها لو طهرت بعد طلوع الشمس لم تلزمها صلاة الفجر، لأنها طهرت بعد الوقت. هذه الأوقات الخمسة، لو صلى الإنسان الصلاة قبل وقتها بقدر(12/481)
تكبيرة الإحرام، فلا تصح صلاته، لأنه ابتدأها قبل دخول الوقت، ولو أن أحداً أخر الصلاة عن وقتها بلا عذر شرعي، فلا تصح صلاته، كما لو تعمد رجل أن لا يصلي الفجر إلا بعد طلوع الشمس وصلى الفجر، فإن الصلاة لا تقبل منه ولا يشرع له قضاؤها، لأنه لا فائدة له من القضاء، وعليه التوبة إلى الله، عز وجل – فإن التوبة تجب ما قبلها وهذا الكلام مبني على قاعدة مؤسسة على دليل وهي: ((كل عبادة مؤقتة إذا فعلها الإنسان في غير وقتها سواء قبله أو بعده فإنها لا تصح ولا تقبل منه)) ، لأن الله أمر بجعلها في هذا الوقت – ما بين الوقتين أول الوقت وآخره، فإذا أخرتها عن الوقت أو قدمتها على الوقت، فإنك حينئذ لم تكن قد فعلت ما أمرت به، وقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) (1) . وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – أن الإنسان إذا تعمد تأخير الصلاة عن وقتها لم تقبل منه، وإن صلاها ألف مرة.
بخلاف من أخرها عن وقتها لعذر، فقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك)) (2) . ولهذا لما نام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن صلاة الصبح في أحد أسفاره، فلم يستيقظ إلا بعد ارتفاع الشمس، أمر بلال فأذن ثم صليت النافلة، ثم صليت الفريضة، فصلى بهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جماعة (3) ، لأنه إنما يقضي شيئاً فائتاً فيقضيه على صفته.
__________
(1) تقدم تخريجه ص 21.
(2) تقدم تخريجه ص 16.
(3) تقدم تخريجه ص 27.(12/482)
ثانياً الطهارة لها:
ومن إقامة الصلاة أن يقوم الإنسان بما يجب لها من الطهارة، ويدل لذلك الكتاب، والسنة، والإجماع.
فمن الكتاب قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ 6) (1) .
ومن السنة قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا يقبل الله صلاة بغير طهور)) (2) ، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)) (3) .
وقد بين الله تعالى في الآية الكرمية أن الطهارة نوعان: أصل، وبدل، فالأصل طهارة الماء، والبدل طهارة التيمم، وبين الله – عز وجل – أن طهارة الماء تنقسم إلى قسمين: كبرى، وصغرى، أما طهارة التيمم فهي على صفة واحدة في الكبرى والصغرى.
الطهارة الصغرى بالماء تطهير أربعة أعضاء فقط هي:
أولاً: الوجه وحده طولاً من منحنى الجبهة، إلى أسفل اللحية، وعرضاً من الأذن إلى الأذن.
__________
(1) سورة المائدة، الآية: 6.
(2) تقدم تخريجه ص 371.
(3) تقدم تخريجه ص 400.(12/483)
ثانياً: اليد وقد حددها الله – عز وجل – فقال: (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) (1) و (إلى) هنا بمعنى (مع) مثل قوله تعالى (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ) (2) أي مع أموالكم،ولا شك أن المرفق داخل في الغسل كما بينت ذلك السنة فإن أبا هريرة – رضى الله عنه – توضأً فغسل يديه حتى أشرع في العضد، وغسل رجليه حتى أشرع في الساق، قال رأيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعل هكذا (3) .
وهنا أقف لأنبه على مسألة يفعلها بعض الناس، إذا جاء يغسل يده لا يغسل إلا الذراع، خصوصاً إذا جعلها تحت البزبوز – أي صنبور الماء – تجده يغسل الذراع ويدع الكف وهذا خطأ عظيم، لأنه إذا غسل الذراع فقط دون الكف، فإنه لا يصدق عليه أنه غسل يده، لأنه سبحانه وتعالى قال (وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ) .
ثالثاً: (وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ) ، ومسح الرأس يعم جميع الرأس، ولا يمسح بعضه إلا إذا كان عليه عمامة، فإنه يمسح العمامة وما خرج من الرأس، وحينئذ يكون مسح على بعض الرأس مع مسح العمامة.
رابعاً: (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) والكعبان هما العظمان النائتان أسف الساق، ويدخل الكعبان في الغسل مع الأرجل، وفي الآية الكريمة (وَأَرْجُلَكُمْ) قراءتان الأولى بالكسر (وَأَرْجُلَكُمْ) والثانية بالنصب (وَأَرْجُلَكُمْ) وعلى هذه القراءة تكون الأرجل معطوفة على (
__________
(1) سورة المائدة، الآية: 6.
(2) سورة النساء، الآية: 2.
(3) أخرجه مسلم: كتاب الطهارة، باب استحباب إطالة الغرة.(12/484)
وُجُوهَكُمْ) ولا إشكال.
أما على القراءة الأولى وهي الكسر (وَأَرْجُلَكُمْ) فإنها تكون معطوفة على الرأس (وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ) .
كيف يتطهر الجنب؟
قال الله تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) ولم يبين شيئاً أكثر من قوله (فَاطَّهَّرُوا) .
إذن فالجنب يغسل جميع جسمه، ولو كان غير مرتب.
فإن قال قائل: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان في اغتساله يبدأ فيتوضأ، ثم يحثو على رأيه الماء ثلاثاً، ثم يغسل بقية بدنه، أفلا يمكن أن يقال: إن الآية مجملة والسنة قد فصلت ذلك، فيحمل المجمل على الفصل.
فيجاب على ذلك: بأنه قد ثبت في صحيح البخاري من حديث عمران بن الحصين في قصة نقص الماء عليهم، حتى وجدوا الماء مع امرأة مشركة، وجئ به إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعه الصحابة، فاستقوا وسقوا الإبل، وكان في الصحابة رجل، رآه انبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معتزلاً لم يصل مع القوم، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((ما منعك أن تصلي معنا؟ فقال يا رسول الله: أصابتني جنابة ولا ماء، فقال: عليك بالصعيد، فإنه يكفيك)) ولما جاء الماء وبقي منه بقية قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للرجل: ((خذ هذا فإفرغه على نفسك)) (1) .
ولم يقل له أفعل كذا وكذا في اغتسالك، فدل هذا على أن الجنب لا يلزمه الترتيب في الغسل.
__________
(1) تقدم تخريجه ص 403.(12/485)
كيف يتيمم مع عدم الماء؟
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (1) .
فإذا لم يجد الإنسان الماء فإنه يتيمم.
وكيفيته: أن يضرب التراب بيديه، أو الأرض، وإن لم يكن تراباً ويمسح وجهه كاملاً ويديه الكفين فقط، لأن اليد إذا أطلقت يراد بها الكف فقط، قال تعالى (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) (2) .
ومعلوم أن السارق إنما يقطع من مفصل الكف.
ولا يختلف كيفية التيمم سواء بالنسبة للحدث الأصغر أو الأكبر، ولهذا قال عز وجل: (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) . بعد ذكر الطهارتين الصغرى والكبرى.
وفي قوله تعالى: (مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) دليل على أن التيمم مطهر وليس مبيحاً كما ذهب إليه بعض العلماء، والفرق بين القولين أن الذين قالوا إنه مبيح يقولون: إنه مقيد بالزمن والنوع، أي إذا تيمم الإنسان للصلاة وخرج الوقت بطل
__________
(1) سورة المائدة، الآية: 6.
(2) سورة المائدة، الآية: 38.(12/486)
التيمم، وإذا تيمم الإنسان للنافلة، فلا يصلي الفريضة، لأن نوع الفرائض أعلى من نوع النوافل، ولكن الصحيح أن التيمم مطهر، وعلى هذا إذا تيممت للنافلة فصل به الفريضة، وإذا تيممت للصلاة وخرج وقتها ولم يحدث، فإن التيمم لا يبطل، لهذا يمكن للإنسان أن يصلي بالتيمم الواحد جميع الصلوات الخمس إذا لم يحدث.
لكن هذا التطهير مخصوص بما إذا لم يجد الماء فإذا وجد الماء فإنه لابد أن يستعمله، فإن كان تيممه عن جنابة، ثم وجد الماء وجب عليه أن يغتسل، والدليل على ذلك حديث عمران بن الحصين الذي ذكرناه آنفاً فإن هذا الرجل قد تيمم عن الجنابة، ومع ذلك أمره الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يغتسل لما وجد الماء، وكذلك أيضاً حديث أبي هريرة: ((الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجب فليتق الله ولمسه بشرته)) (1) .
فعلى هذا نقول: إذا وجد الماء،أو برئ من المرض، وجب عليه إعادة الطهارة، لو أن مريضاً صار عليه الجنابة، وقال له الأطباء بأن الغسل يضرك، فإنه يتيمم، فإذا شفاه الله – عز وجل – من المرض، وجب عليه أن يغتسل، لأن هذه الطهارة مؤقتة.
فإذا قدر أن رجلاً لم يجد ماء ولا تراباً ن مثل أن يكون محبوساً، أو مأسوراً على سرير وما أشبه ذلك، فإننا نقول له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على حسب حالك، لأن الوقت من أهم شروط الصلاة.
وهنا مسألة يجب التنبيه لها، ولاسيما بالنسبة للمرضى حيث إن
__________
(1) تقدم تخريجه ص 260.(12/487)
كثيراً من المرضى لا يستطيعون الوضوء، وليس عندهم تراب، ولا يستطيعون التيمم، وربما على ثيابهم نجاسة، فنجد الواحد منهم يقول: أصبر حتى يعافيني الله – عز وجل – وأتوضأ وأغسل ثيابي وما أشبه ذلك.
نقول لهذا: إن تأخير الصلاة حرام عليك، وما يدريك فلعلك تموت من هذا المرض قبل أن تصلي؟ فالواجب أن تصلي على حسب حالك، ولو كان عليك نجاسة لا تستطيع إزالتها، ولو لم يكن عندك ماء تتوضأ به، ولا يمكن أن تتيمم.
المحافظة على ستر العورة في الصلاة:
الواجب على الإنسان عند الصلاة أن يلبس ثيابه لقوله تعالى (: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) (1) .
وذكر ابن عبد البر – رحمه الله – أن العلماء أجمعوا على فساد من صلى عرياناً وهو قادر على ستر عورته، وعورة الرجل ما بين السرة والركبة، وكذلك الأنثى غير البالغة، أما المرأة الحرة البالغة فكلها عورة في الصلاة إلا وجهها، وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد عند أصحابه – إلا إذا كان حولها رجال أجانب، فلا يحل لها كشف الوجه ووجب عليها أن تغطيه.
وعورة الصبي من سبع سنين إلى عشر سنين الفرجان فقط، وتصح إمامته الصبيان مثله، وكذلك تصح إمامته لرجال بالغين، ففي صحيح البخاري أن عمر بن سلمة الجرمي أم قومه وهو ابن ست، أو
__________
(1) سورة الأعراف، الآية: 31.(12/488)
ابن سبع سنين (1) ، لأنه كان أقرأهم. وتسمى هذه العورة بالعورة المخففة.
ويجب أن تستر العورة بثوب طاهر مباح، لا يصف البشرة، فإذا كان الثوب نجساً، فلا يجوز أن تستر به العورة، ولو صلى به الإنسان فصلاته باطلة، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى بأصحابه ذات يوم وكان عليه الصلاة والسلام يلبس نعليه في الصلاة، فجاءه جبريل فأخبره أن في نعليه أذى، فخلعهما، وخلع الصحابة نعالهم، فلما انصرف من صلاته قال: ((ما شأنكم)) ؟ قالوا: رأيناك خلعت نعالك فخلعنا نعالنا، فقال: ((إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيها أذى فخلعتها)) (2) .
وهذا يدل على أنه لا يجوز للإنسان إن يلبس شيئاً نجساً، ولكن لو أن أحداً صلى بثوب نجس وهو لا يدري أنه نجس، فصلاته صحيحه، مثل أن لا يعلم بالنجاسة إلا بعد أن صلى فصلاته صحيحة، ودليل ذلك قوله تعالى (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) (3) .
وكذلك الحديث السابق، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يستأنف الصلاة.
ولو علم الإنسان بالنجاسة وهو يصلي، فإن كان يمكن أن يخلعه مع بقاء العورة مستور فليفعل، أما إذا كان لا يمكن أن يخلعه إلا بانكشاف العورة، فيجب عليه أن ينصرف من صلاته، وأن يلبس ثوباً آخر.
ومن شروط الساتر أن يكون الثوب مباحاً، فيحرم على
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب المغازي / باب من شهد الفتح.
(2) تقدم تخريجه ص 303.
(3) سورة البقرة، الآية: 286.(12/489)
الرجل أن يلبس ثوب حرير، فإن الحرير محرم على الرجال، فإذا صلى الإنسان بثوب حرير فإن صلاته لا تصح، لأنه غير مأذون في لبسه، وكذلك لا تصح الصلاة في ثوب مغصوب أو مسروق، أو ثوب فيه تصاوير.
ومن الشروط أيضاً أن لا يصف البشرة، أي لا يكون خفيفاً بحيث يرى من ورائه لون الجلد، وهنا أنبه على مسألة خطيرة يفعلها بعض الناس في أيام الصيف، يلبس ثوباً خفيفاً وسروالاً قصيراً إلى نصف الفخذ يرى من ورائه لون الجلد،فإذا صلى الإنسان على هذا الوجه فصلاته باطلة، لأنه لم يتم الستر، ولا يتم الستر إلا بثوب صفيق.
ثالثاً استقبال القبلة:
ومن إقامة الصلاة استقبال القبلة لقول الله تعالى: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) (1) .
قال أهل العلم: فمن أمكنه مشاهدة الكعبة، وجب عليه أن يتجه إلى نفس الكعبة، ومن لا يمكنه وجب عليه أن يتجه إلى جهتها، فالبعيد عن الكعبة ولو كان في مكة فرضه أن يتجه إلى جهة الكعبة، لأنه لا يمكنه مشاهدتها.
وهنا أنبه على ما نشاهده في المسجد الحرام: نشاهد كثيراً من المصلين في المصابيح – أي في الجانب المسقوف بل ويصلون أحياناً في الصحن – أي الجانب المكشوف – فتجدهم يتجهون إلى غير
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 150.(12/490)
عين الكعبة، وهذا يقتضي أن تكون صلاتهم باطلة، لأنه لابد أن يتجهوا إلى عين الكعبة – أي إلى البناية نفسها. .
وهنا سؤال هل يصح الاتجاه إلى الحجر.
قال العلماء: الحجر ليس كله من الكعبة بل الذي من الكعبة مقدار ستة أذرع ونصف تقريباً، الزائد ليس من الكعبة، فإذا اتجهت إلى طرف الحجر مما يلي البناية القائمة، فإن اتجاهك صحيح وسليم.
هذا الحجر يسميه كثير من العوام حجر إسماعيل، ولكن هذه التسمية خطأ ليس لها أصل، فإن إسماعيل لم يعلم عن هذا الحجر، لأن سبب هذا الحجر أن قريشاً لما بنت الكعبة، وكانت في الأول على قواعد إبراهيم ممتدة نحو الشمال، فلما جمعت نفقة الكعبة وأرادت البناء، قصرت النفقة فصارت لا تكفي لبناء الكعبة على قواعد إبراهيم، فقالوا نبني ما تحتمله النفقة، والباقي نجعله خارجاً ونحجر عليه حتى لا يطوف أحد من دونه، ومن هنا سمى حجراً، لأن قريشاً حجرته حين قصرت بها النفقة، ولهذا قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعائشة – رضى الله عنها -: لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لبنيت الكعبة على قواعد إبراهيم، ولجعلت لها بابين، باب يدخل منه الناس، وباباً يخرجون منه)) (1) .
ولكن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ توفي وهي على ما كانت عليه، لها باب مرتفع من جانب واحد، ولها هذا الحجر.
والحمد لله الذي كان الأمر على ما كان عليه، لأنه لو بنيت الكعبة على ما أراده النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لولا المانع – لكان في هذا مشقة عظيمة على
__________
(1) تقدم تخريجه ص 387.(12/491)
الناس، لاسيما في مثل زماننا هذه، أزمان الجهل والغشم وعدم المبالاة بعاد الله، ولو كانت الكعبة كما أراد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لها بابان يدخل منه الناس وباب يخرجون منه لتقاتل الناس عند الخروج والدخول.
ولكن ما أراده النبي عليه الصلاة والسلام من كون الكعبة يكون لها بابان أحدهما للدخول والآخر للخروج، فإنه قد تحقق في الواقع، فالحجر الآن له بابان، أحدهما للدخول والآخر للخروج، مع أنه مكشوف واسع، وهذا من نعمة الله.
واستقبال القبلة شرط لصحة الصلاة ولكن بشروط:
الأول: أن يكون الإنسان قادراً عليها، فإن كان عاجزاً لم يجب عليه استقبال القبلة، مثل أن يكون مريضاً وليس عنده من يوجهه إلى القبلة، فنقول له: اتجه حيثما كان وجهك؟
الثاني: إذا كان الإنسان خائفاً لو استقبل القبلة، مثل أن يكون هارباً من عدون، أو هارباً من سيل، أو هارباً من نار، فحان وقت الصلاة وهو هارب على وجهه، ففي هذه الحال نقول: صلى على حسب حالك، وأتجه حيثما كان وجهك، والسبب في ذلك أنه يعتبر عاجزاً عن القبلة في هذه الحال.
الثالث: أن يكون في تطوع في سفر، فإن كان متطوعاً في سفر، فإنه يصلي حيث كان وجهه، ولا يجب عليه استقبال القبلة.
وبناء على ذلك فإن كنت في السيارة وأردت أن تطوع، فلك أن تصلي حيث كان وجهك، ولا حرج عليك سواء كنت راكباً أو سائقاً، إلا أن السائق يخشى إذا اشتغل بالصلاة أن يغفل عن واجب الانتباه في القيادة، ويكون معرضاً نفسه ومن معه للخطر.(12/492)
وإذا كان الإنسان في الطائرة، وحان وقت الفريضة، فإن أمكن أن يأتي بالفريضة مستقبلاً القبلة، يقوم في القيام، ويركع في الركوع، ويسجد في السجود، فليصل في الطائرة ولا حرج، أما إذا كان لا يمكنه الاستقبال، ولا يمكن القيام، والركوع، ولا السجود، فإنه يصلي الفريضة، إلا إذا خاف الوقت، فإذا لم يخف فوات الوقت، فلينظر حتى يهبط ويصلي الفريضة على الأرض.
وأما النافلة، فله أن يصليها على الطائرة، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصلي على راحلته حيثما توجهت به.
وإذا كان الإنسان في بلد وهو لا يعرف القبلة فليسأل، ولا يجتهد كما قال بعض العلماء، لأن الاجتهاد إنما يصار إليه عند الحاجة إليه.
وإن صلى الإنسان باجتهاده ثم تبين الخطأ فإن المعروف عند أهل العلم أنه يعيد، قالوا: لأن الحضر ليس محلاً للاجتهاد، بخلاف ما إذا كان في السفر واجتهد متحرياً القبلة وتبين الخطأ فإنه لا يعيد لقول الله تعالى: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (1) .
رابعاً: الطمأنينة:
ومن إقامة الصلاة أن يأتي بها الإنسان مطمئناً في القيام، والقعود والركوع والسجود.
ومعنى الطمأنينة: التأني بحيث يستقر كل فقار في مفصله، فإن أسرع في الصلاة على وجه لا طمأنينة فيها، فإن صلاته باطلة، ودليل ذلك قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للرجل الذي صلى ثم جاء فسلم على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان الرجل لا يطمئن في صلاته قال له: ((أرجع فصل فإنك لم تصل)) . فرجع
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 115.(12/493)
الرجل وصلى ثم رجع إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فسلم عليه فقال له: ((أرجع فصل فإنك لم تصل)) فرجع فصلى ثم جاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال له: ((أرجع فصل فإنك لم تصل)) . فرجع الرجل فصلى، ثم جاء إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا فعلمني، فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إذا قمت للصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر، ثم أقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم أركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تطمئن قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها)) (1) .
والشاهد من ذلك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول له في كل ركن: ((حتى تطمئن)) إذن لابد من الطمأنينة.
ونحن نشاهد كثيراً من الناس لا يطمئنون، ولاسيما في القيام بعد الركوع، أو في الجلوس بين السجدتين، هؤلاء لو صلوا ألف مرة على وجه لا طمأنينة فيه، فإنه لا صلاة لهم، ولذلك من حقهم علينا إذا رأيناهم أن نبين لهم، لأنهم قد يكونون على جهل، فنبين لهم الحق.
ثم إن الواجب في حال الصلاة أن يتدبر الإنسان أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم ينف الصلاة في قوله: ((لم تصل)) إلا لأنتقاء واجب فيها، لأن الشئ لا يمكن أن ينفى إلا بانتفاء واجب فيه، فلا ينفى لانتفاء مستحب)) اللهم إلا بدليل يدل على ذلك.
__________
(1) أحرجه البخاري: كتاب الصلاة / باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها، ومسلم كتاب الصلاة / باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة.(12/494)
وقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث: ((أقرأ ما تيسر معك من القرآن)) ليس معناه أن يقرأ الإنسان آية أو آيتين، ثم يركع، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((أقرأ ما تيسر معك من القرآن)) وبين في أحاديث أخرى أنه لابد من قراءة الفاتحة حيث قال: ((لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن)) (1) . وفي حديث آخر: ((كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج)) (2) . والخداج: الشيء الفاسد الذي لا نفع فيه.
ولا تسقط الفاتحة إلا في صورة واحدة فقط، وهي ما إذا جاء الإنسان إلى المسجد ووجد الإمام راكعاً، فإنه في هذه الحال يكبر تكبيرة الإحرام، ثم يركع وتسقط عنه الفاتحة في هذه الصورة.ودليل ذلك ما ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي بكرة – رضى الله عنه - أنه دخل المسجد والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ راكع، فأسرع ثم ركع قبل أن يدخل في الصف، ثم دخل في الصف، فلما أنصرف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سأل من الذي فعل ذلك؟ فقال أبو بكرة: أنا، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (زادك الله حرصاً ولا تعد)) (3) . والشاهد قوله: (لا تعد) ولم يأمره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقضي الركعة التي أسرع إليها ليدرك ركوعها، ولو كان لم يدركها لبين له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يؤخر البيان عن وقت الحاجة.
ولهذا لما صلى الرجل الذي لا يطمئن قال له: ((أرجع فصل فإنك
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب صفة الصلاة / باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها،ومسلم: كتاب الصلاة / باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة.
(2) أخرجه مسلم: كتاب الصلاة / باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة.
(3) أخرجه البخاري: كتاب صفة الصلاة / باب إذا ركع دون الصف.(12/495)
لم تصل)) (1) . وهذا القول هو مقتضى الحديث من حيث الدلالة كما أنه مقتضى النظر من حيث القياس، لأن قراءة الفاتحة إنما تجب في حال القيام، والقيام في هذه الصورة قد سقط من أجل متابعة الإمام، فإذا سقط القيام سقط ماوجب فيه، وهو قراءة الفاتحة، وهذا هو القول الراجح من أقوال أهل العلم في هذه المسألة.
أما إذا كان الإنسان مأموماً فهل يكتفي بقراءة الإمام؟
الجواب: إن فيه خلافاً بين العلماء فمنهم من قال: إن قراءة الإمام تكفي عن قراءة المأموم مطلقاً، في السرية والجهرية، ومنهم من قال: إنها لا تكفي عن قراءة المأموم،لا في السرية ولا في الجهرية، ومنهم من قال: إنها تكفي عن قراءة المأموم، في الجهرية والسرية.
والذي يظهر لي من الأدلة أن قراءة الإمام لا تسقط القراءة عن المأموم لا في السرية ولا في الجهرية، وأن الواجب على المأموم أن يقرأ الفاتحة في الصلاة السرية والجهرية، لعموم الأدلة الدالة على ذلك التي ذكرناها آنفاً، مثل حديث ((كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج)) (2) وهذا مطلق.
فإن قال قائل: لماذا لا نختار القول الوسط في هذه المسألة ونقول إن الإمام يتحملها في الصلاة الجهرية لقول الله تعالى: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ 204) (3) . فإذا قرأ الإمام فأنا مأمور بالإنصات وقراءتي على خلاف هذا الأمر؟
__________
(1) تقدم تخريجه ص 494.
(2) تقدم تخريجه ص 495.
(3) سورة الأعراف، الآية: 204.(12/496)
فالجواب: أن هذا القول يجب المصير إليه، لولا أن أهل السنن رووا من حديث عبادة بن الصامت أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى بأصحابه صلاة الفجر، فلما انصرف قال: ((لعلكم تقرءون خلف إمامكم؟ قالوا: نعم. قال: ((لا تفعلوا إلا بأم القرآن، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها)) (1) .
وهذا الحديث نص في أن الإمام لا يتحمل قراءة الفاتحة عن المأموم في الصلاة الجهرية، ومادام الحديث قد دل على ذلك فإن الآية المشار إلها تحمل على غير قراءة الفاتحة، وإن الإمام إذا كان يقرأ فإنه لا يجوز للمأموم أن يقرأ سوى الفاتحة، كالآيات أو السور التي يقرؤها الإمام أو غيرها.
خامساً: صلاة الجماعة:
ومن إقامة الصلاة إن يصليها الإنسان في جماعة، فإن الجماعة واجبة على الرجال في الحضر وفي السفر، لأن الأدلة الدالى على وجوبها لم تقيد ذلك في الحضر، بل إن الله أمر بإقامة الجماعة في حال القتال فقال الله تعالى لنبيه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ) (2) .
ومعلوم أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان قتاله خارج المدينة في سفر، ولم يسقط الله سبحانه وتعالى الجماعة عنهم في حال القتال، فدل هذا على
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد 5/313، و321 و322، وأبو داود: كتاب الصلاة، باب من ترك القراءة في صلاته بفاتحة الكتاب (824) ، والترمذي: أبواب الصلاة، باب ما جاء في القراءة خلف الإمام (311) وقال: هذا حديث حسن.
(2) سورة النساء، الآية: 102.(12/497)
وجوب الجماعة على المسافر كما تجب على المقيم.
وما نشاهده كثيراً من وجود أناس مسافرين عند المساجد في الأسواق فإذا قلت له: هيا للصلاة قال لك إنه مسافر. يظن أن الجماعة تسقط عن المسافر، هذا خطأ، بل الواجب أن يصلي المسافر وغير المسافر مع جماعة المسلمين.
حال المأموم مع الإمام
حال المأموم مع إمامه تنقسم إلى أربعة أقسام:
الأول: مسابقة.
الثاني: تخلف.
الثالث. موافقة.
الرابع. متابعة.
القسم الأول: المسابقة:
وهي أن يصل المأموم إلى الركن قبل أن يصل إليه الإمام مثل أن يركع قبل ركوع الإمام، أو يسجد قبل سجود الإمام، أو يرفع من الركوع قبل رفع الإمام، أو يرفع من السجود قبل رفع الإمام.
وهذا الذي يسبق الإمام قد عرض نفسه للعقوبة التي حذر منها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهي: ((أن يحول الله رأسه رأس حمار، أو يحول صورته صورة حمار)) (1) . وظاهر الحديث أنه حسا يعني أن يكون رأسه رأس حمار، أو صورته صورة حمار.
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب الجماعة والإمامة، باب إثم من رفع رأسه قبل الإمام، ومسلم: كتاب الصلاة، باب تحريم سبق الإمام بركوع أو سجود ونحوهما.(12/498)
وذهب بعض العلماء إلى أن المراد بذلك التحويل المعنوي بأن يجعل رأسه رأس حمار أي رأساً بليداً، لأن الحمار من أبلد الحيوانات، ولهذا وصف الله اليهود الذين حملوا التوارة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً.
ووصف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي يتكلم يوم الجمعة والإمام يخطب بأنه مثل الحمار يحمل أسفاراً.
وعلى كل حال فالحديث دال على أن مسابقة الإمام محرمة بل يوشك أن تكون من كبائر الذنوب.
ولكن هل تبطل الصلاة بذلك أو لا؟
الصحيح أنه إذا تعمد السبق فإن صلاته تبطل سواء سبقه بركن أو سبقه إلى الركن، فإذا تعمد السبق مع علمه بالنهي فإن صلاته تبطل، لأنه أتى محظوراً من محظورات العبادات على وجه يختص بها، والقاعدة أن من فعل محظوراً من محظورات العبادة على وجه يختص بها فإنها تبطل.
القسم الثاني: التخلف:
يعني أن يتأخر عن إمامه، مثل أن يركع الإمام ويبقى المأموم قائماً إلى أن يقرب الإمام من الرفع من الركوع، أو يسجد الإمام ويبقى المأموم قائماً إلى أن يقرب الإمام من الرفع من السجود أو يقوم الإمام من السجود ويبقى المأموم ساجداً حتى ربما ينتصف الإمام بقراءة الفاتحة أو يكلمها.
وحكم التخلف أنه حرام، لأنه خلاف أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: ((إذا(12/499)
ركع فأركعوا، وإذا سجد فأسجدوا)) (1) . فإن الفاء في قوله ((فأركعوا)) وقوله: ((فاسجدوا)) تدل على التعقيب، أي على أن فعل المأموم يقع عقب فعل الإمام لأن قوله: ((فاركعوا فاسجدوا)) جواب الشرط، وجواب الشرط يلي المشروط مباشرة ولا يجوز أن يتخلف عنه.
القسم الثالث: الموافق:
بمعنى أن يشرع المأموم مع الإمام في أفعاله يركع معه، ويسجد معه ويقوم معه، وهذا أقل أحواله أن يكون مكروهاً، وتحتمل أن يكون محرماً لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا تركعوا حتى يركع، ولا تسجدوا حتى يسجد)) (2) . والأصل في النهي والتحريم، إلا الموافقة في تكبيرة الإحرام فإن أهل العلم يقولون إنه إذا وافقه في تكبيرة الإحرام لم تنعقد صلاته فتكون باطلة، بل يجب أن ينتظر حتى يكمل الإمام تكبيرة الإحرام، ولا يجوز أن يشرع في تكبيرة الإحرام قبل أن يكمل الإمام تكبيرة الإحرام، ويستثنى أيضاً التسليم فإن بعض أهل العلم يقول إذا سلم الإمام التسليمة الأولى وهي التي على اليمين فللمأموم أن يسلم التسليمة الأولى وإن لم يسلم الإمام التسليمة الثانية، ثم يتابع التسليمة الثانية.
القسم الرابع: المتابعة:
بأن يفعل المأموم ما فعله الإمام بعد الأمام مباشرة، بدون تخلف، وهذا هو الموافق للسنة ولأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو الذي ينبغي أن يكون عليه المؤمن، لأن صفة المؤمن إذا أمر الله ورسوله بأمر أن يقول سمعنا وأطعنا.
__________
(1) (1) تقدم تخريجه ص 450.
(2) تقدم تخريجه.(12/500)
كما قال الله تعالى (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) (1) . كما قال الله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (2) .
بيان كيف يأتم مفترض بمتنفل:
هناك مسألة يسأل عنها الناس كثيراً وهي إذا جاء شخص والإمام يصلي صلاة التراويح، وهذا الشخص لم يصل صلاة العشاء فهل يدخل مع الإمام بنية صلاة العشاء أو يصلي وحده؟
والجواب: على ذلك أن نقول إنه يدخل مع الإمام بنية صلاة العشاء فإذا دخل معه في أول ركعة وسلم الإمام فإن كان مسافراً سلم معه، لأن المسافر يصلي العشاء ركعتين، وإن كان مقيماً فإنه إذا سلم الإمام وقد صلى معه ركعتين يقوم فيأتي بما تبقى أي بالركعتين الباقيتين، وقد نص الإمام أحمد رحمه الله على هذه المسألة.
فإن قال قائل: كيف يأتم مفترض بمتنفل؟ الفرض أعلى من النفل.
قلنا: هذا لا يؤثر إنما الذي يؤثر هو الاختلاف على الإمام في الأفعال كالموافقة، والتأخر والمسابقة. وأما الاختلاف في النية فلا يؤثر.
وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما عن معاذ بن جبل – رضى الله عنه – أنه كان يصلي مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاة العشاء ثم يذهب إلى قومه
__________
(1) سورة النور، الآية: 51.
(2) سورة الأحزاب، الآية: 26.(12/501)
فيصلي بهم تلك الصلاة (1) فهي له نافلة ولهم فريضة وهذا في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما فعل في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأره الله فهو حجة.
ولا يقول قائل من الناس لعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يعلم به؟
فإننا نجيب على ذلك بأنه على فرض بأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يعلم به فإن الله قد علم به فإذا لم ينكره الله علم أنه موافق لشريعة الله.
ودل على أن إقرار الله للشئ حجة أن الصحابة – رضى الله عنهم – استدلوا على جواز العزل بأنهم كانوا يفعلونه والقرآن ينزل. ويدل على ذلك أيضاً قوله تعالى: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ) (2) . فإن هؤلاء الذين يبيتون ما لا يرضى من القول يستخفون من الناس ولا يظهرون للناس ولا يعلم بهم الناس ولما كانوا يخفون المنكر فضحهم الله فقال تعالى (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً 108) .
سادساً: الخشوع في الصلاة:
ومن إقامة الصلاة أن يكون الإنسان فيها خاشعاً لله تعالى بظاهره وباطنه، فالخشوع في الباطن حضور القلب، والخشوع في الظاهر السكون وعدم الحركة.
أقسام الحركة في الصلاة:
وهنا نبين أن الحركة في الصلاة تنقسم إلى خمسة أقسام:
__________
(1) تقدم تخريجه ص 443.
(2) سورة النساء، الآية: 108.(12/502)
أولاً: الحركة الواجبة: وتجب الحركة إذا كان يتوقف عليها صحة الصلاة، أي إذا كان ترك الحركة مبطلاً للصلاة، فإن الحركة تكون حينئذ واجبة.
مثال: رجل كان يصلي إلى غير القبلة فجاءه آخر فقال: إن القبلة على يمينك، فهنا يجب أن ينحرف إلى اليمين، لأنه لو بقي على اتجاهه الأول، لكانت صلاته باطلة، فيجب أن يتجه إلى اليمين.
مثال آخر: رجل ذكر أن في غترته نجاسة فيجب عليه أن يتحرك لخلع الغترة، ونظير ذلك ما فعله الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين جاءه جبريل فأخبره أن في نعليه أذى فخلعهما (1) .
ثانياً: الحركة المستحبة: وهي الحركة التي يتوقف عليها فعل مستحب.
مثال: أن يتقدم الإنسان إلى الصف الذي أمامه إذا انفرج فهذه حركة مستحبة، لأن فيه وصلاً للصف وسداً للفرج وتقدماً إلى المكان الفاضل.
مثال آخر: كذلك أيضاً لو أن الصف قرب بعضه من بعض فإنك تقرب إلى الصف وهذه الحركة نعتبرها مستحبة،لأنه يتوقف عليها فعل مستحب.
ثالثاً: الحركة المكروهة: وهي الحركة اليسيرة بلا حاجة، هي مكروهة لأنها عبث مناف للخشوع، كما نشاهده في كثير من الناس ينظر إلى الساعة وهو يصلي، أو يصلح غترته، أو يذكره الشيطان وهو في
__________
(1) تقدم تخريجه ص 303.(12/503)
صلاته أمراً نسيه فيخرج القلم ويكتب الذي نسيه لئلا يضيعه بعد ذلك، وأمثلتها كثيرة.
رابعاً: الحركة المحرمة: وهي الحركة الكثيرة المتوالية لغير ضرورة.
فقولنا (الحركة الكثيرة) خرج به الحركة اليسيرة، فإنها من المكروهات.
وقولنا (المتوالية) خرج به الحركة المتفرقة، فلو تحرك الإنسان في الركعة الأولى حركة يسيرة، وفي الثانية حركة يسيره، وكذلك الثالثة والرابعة لو جمعنا هذه الحركات لوجدناها كثيرة لكن لتفرقها صارت يسيرة، فر تأخذ حكم الحركة الكثيرة.
وقولنا (لغير ضرورة) احترازاً من الحركة التي للضرورة، مثل أن يكون الإنسان في حالة أهبة للقتال، يحتاج إلى حركة كثيرة في حمل السلاح وتوجيهه إلى العدو، وما أشبه ذلك. وقد قال الله تبارك وتعالى: (فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) (1) وهذا أمر لابد منه للمجاهد في سبيل الله.
ومن ذاك لو أن عدواً لحقه وهو هارب منه، فإن هذه الحركة الكثيرة مغتفرة، لأنها للضرورة.
وكذلك أيضاً لو هاجمته حية وهو يصلي، وحاول مدافعتها عن نفسه فإن هذه الحركة وإن كثرت فلا بأس بها، لأنها ضرورة.
__________
(1) صورة النساء، الآية: 102.(12/504)
خامساً: الحركة المباحة: وهي الحركة اليسيرة للحاجة أو الحركة الكثيرة للضرورة.
مثال: لو كانت الأم عندها صبي ويصيح، فإذا حملته سكت، فلا خرج عليها حينئذ أن تحمله حال القيام، وتضعه في حال السجود، فهذه الحركة يسيره ولحاجة فهي مباحة ويدل لذلك أن النبي كان يصلي وهو حامل أمامه بنت زينب فإذا قام حملها، وإذا سجد وضعها (1) . والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
تم بحمد الله تعالى المجلد الثاني عشر
ويليه بمشية الله عز وجل المجلد الثالث عشر
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب سترة المصلي / باب إذا حمل جارية صغيرة على عاتقه في الصلاة، ومسلم: كتاب المساجد / باب جواز حمل الصبيان في الصلاة.(12/505)
باب صفة الصلاة
*(13/5)
آداب الخروج إلى المسجد
* القيام للصلاة.
* أحكام الصفوف.(13/6)
آداب الخروج إلى المسجد
358 سئل فضيلة الشيخ - حفظه الله تعالى - عن حكم الإسراع في المشي إلى الصلاة؟
فأجاب فضيلته بقوله: إسراع الإنسان في مشيه إلى الصلاة منهي عنه؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أمرنا أن نمشي وعلينا السكينة والوقار ونهانا أن نسرع، إلا أن بعض أهل العلم قال: لا بأس أن يسرع سرعة لا تقبح إذا خاف أن تفوته الركعة مثل إن دخل والإمام راكع فأسرع سرعة ليست قبيحة كما يصنع بعض الناس تجده يأتي يركض شديداً، فإن هذا منهي عنه، مع أن الإتيان بالسكينة والوقار مع عدم الإسراع أفضل حتى وإن خاف أن تفوته الركعة لعموم الحديث.
359 وسئل: هل يجوز الإسراع لإدراك الركعة مع الإمام في صلاة الجماعة؟ أفتونا حفظكم الله ورعاكم؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا دخلت والإمام راكع فلا تسرع، ولا تدخل في الصلاة قبل أن تصل إلى الصف الأول؛ لأن النبي قال لأبي بكرة رضي الله عنه حين فعل ذلك:"زادك الله حرصاً ولا تعد" (1) .
360 سئل فضيلة الشيخ: ما حكم الركوع دون الصف، ثم
__________
(1) رواه البخاري في الأذان باب 114، إذا ركع دون الصف (783) .(13/7)
المشي إليه، مع العلم بأنه قد ثبت عن ابن مسعود - رضي الله عنه - فعله، فعن زيد بن وهب قال: دخلت المسجد أنا وابن مسعود فأدركنا الإمام وهو راكع، فركعنا ثم مشينا حتى استوينا في الصف، فلما قضى الإمام الصلاة قمت لأقضي، فقال عبد الله: قد أدركت الصلاة" (1) .
وعن ابن الزبير - رضي الله عنه - الأمر به على منبر الجمعة، وأخبر أنه السنة، فعن عطاء بن رباح أنه سمع عبد الله بن الزبير على المنبر يقول للناس: إذا دخل أحدكم المسجد والناس ركوع فليركع حين يدخل ثم ليدب راكعاً حتى يدخل في الصف فإن ذلك السنة. قال عطاء: وقد رأيته هو يفعل ذلك (2) .
وأيضاً قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث أبي بكرة: "زادك الله حرصاً ولا تعد" ليس بقاطع في أن المراد هو الركوع دون الصف؛ بل يحتمل أن المراد هو المجيء إلى المسجد مسرعاً؟
فأجاب فضيلته بقوله: الصواب أنه لا يركع قبل أن يصل إلى الصف؛ لأن الحديث عام "لا تعد" ولا يخصص منه إلا الركوع المأموم إذا أدرك الإمام راكعاً فإنه يركع لقوله عليه الصلاة والسلام: "ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا" (3) .
__________
(1) شرح معاني الآثار 3/207.
(2) البيهقي في"السنن" 2/106.
(3) رواه البخاري في الأذان باب 21، لا يسعى إلى الصلاة (636) ، ومسلم في المساجد باب 28، استحباب إتيان الصلاة بوقار ح151 (602) .(13/8)
وأما فعل ابن مسعود - رضي الله عنه - فلا يحتج به لأنه خالف الحديث، وذلك أن كل من خالف النص مهما كانت منزلته في الدين فإنه يعتذر عنه، ولا يحتج بقوله، ولا يعارض به سنة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأما حديث ابن الزبير فيحتاج إلى النظر في صحته وسياقه حتى يعرف هل صح عنه أم لا؟ وهل المراد بسياقه في قوله: "أثر السنة" هذه السنة أو مجموع الهيئة التي يقوم بها الإنسان.
وأما قول السائل: إن حديث أبي بكرة ليس بقاطع.
فيقال نعم هو ليس بقاطع؛ ولكن ليس من شرط الاستدلال بالنص أن تكون دلالته قاطعة بل يكتفي بالظاهر، فإذا وجد نص آخر يخالفه - أي يقتضي ما يخالف ظاهره - فحينئذ نؤول الظاهر.
361 سئل فضيلة الشيخ - جزاه الله خيراً -: بعض الناس إذا بدأت صلاة التراويح أو القيام انتظر حتى إذا ركع الإمام دخل في الصلاة وركع معه، فهل فعله صحيح؟
وكذلك إذا انتهى الإمام من ركعته وقام للثانية فإن بعض الناس يجلس، حتى إذا قارب الإمام الركوع قام وركع معه، فهل يجوز ذلك؟(13/9)
فأجاب فضيلته بقوله: أما تأخير الإنسان الدخول مع الإمام حتى يكبر للركوع، فهذا تصرف ليس بسليم، بل إنني أتوقف، هل تصح ركعته هذه أو لا تصح؟ لأنه تعمد التأخير الذي لا يتمكن معه من قراءة الفاتحة – وقراءة الفاتحة ركن، فلا تسقط عن الإمام ولا المأموم ولا المنفرد – فكونه يبقى حتى يركع الإمام ثم يقوم فيركع معه هذا خطأ بلا شك، وخطر على صلاته، أو على الأقل على ركعته ألا يكون أدركها.
وأما التكبير مع الإمام جالساً فإذا قارب الركوع قام فركع، فلا بأس به؛ لأن التراويح نافلة، وقد كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين كبر وثقل يفعله، فيبدؤها جالساً، ويقرأ، فإذا قارب الركوع، قام وقرأ ما تيسر من القرآن ثم ركع (1) .
وكذلك إذا ركع مع الإمام، ثم قام الإمام إلى الثانية، وجلس هو، فإذا قارب الإمام الركوع في الركعة الثانية قام فركع معه، كل هذا لا بأس به.
__________
(1) نص الحديث: عن عائشة – رضي الله عنها -: "أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصلي جالساً، فيقرأ وهو جالس، فإذا بقي من قراءته نحو من ثلاثين أو أربعين قام، فقرأها وهو قائم، ثم ركع، ثم سجد، يفعل في الركعة الثانية مثل ذلك.." رواه البخاري في تقصير الصلاة/ باب إذا صلى قاعداً (1068) ، ومسلم في صلاة المسافرين/ باب جواز النافلة قائماً أو قاعداً (731) .(13/10)
362 وسئل فضيلته: ما حكم التكبير دون الصف والركوع ثم المشي إلى الصف لإدراك الركوع؟
فأجاب فضيلته بقوله: التكبير قبل الدخول إلى الصف ثم المشي نهى عنه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن أبا بكرة الثقفي - رضي الله عنه - دخل المسجد، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ راكع فأسرع وركع قبل أن يدخل في الصف، ثم دخل في الصف، فلما انصرف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من صلاته سأل من الذي فعل ذلك؟ فقال أبو بكرة أنا، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "زادك الله حرصاً، ولا تعد" (1) .
و (تَعُد) بضم العين، من العود، أي: لا تعد إلى ما فعلت، وهذا اللفظ "لا تعد" يغني عن قول ولا (تعد) ، وعن قول ولا (تعد) ولذلك الرواية الصحيحة التي في الصحيحين (ولا تعد) بضم العين، وإنما قلت إنها تغني عنهما؛ لأنه إذا نهاه عن العود وسكت عن أمره بالإعادة دل على أن الإعادة غير واجبة، وإذا نهاه عن العود دخل فيه النهي عن العدو، وعلى هذا فلا حاجة إلى أن نورد هاتين الروايتين الخارجتين عن الصحيحين وهي (لا تعِدْ) و (لا تَّعْدُ) هذا إن صحت الرواية.
والحاصل أن الذي يفعل ذلك ينهى عنه، ويقال له: امش وعليك السكينة حتى تصل إلى الصف، فما أدركت فصل، وما لم تدرك فأتمه.
وإذا قال قائل: إذا وصلت إلى الصف وكبرت تكبيرة
__________
(1) رواه البخاري، وتقدم تخريجه في ص"7".(13/11)
الإحرام، وركعت ورفع الإمام، وأنا لا أدري هل أدركت الإمام في الركوع، أو رفع قبل أن أدركه، فماذا أصنع؟
الجواب: فنقول إن كان يغلب على ظنه أنه أدركه فقد أدركه، ثم إن كانت هذه أول ركعة، فإن الإمام يتحمل عنه سجود السهو؛ لأنه سيسلم مع الإمام، وإن كانت هذه الركعة الثانية أو ما بعدها، فإنه يسجد إذا قضى الصلاة سجدتين بعد السلام؛ لأن القاعدة في الشك إذا كان فيه غلبة الظن، أن يبنى عليه - أي على غلبة الظن - ويسجد بعد السلام.
وإذا كان لم يغلب على ظنه أنه أدرك الإمام، ولا أنه لم يدركه وتردد فإنه يلغي هذه الركعة، ليبني على اليقين ويسجد قبل السلام.
363 وسئل فضيلة الشيخ: عن حكم قول إن الله مع الصابرين لمن دخل والإمام راكع لينبه الإمام؟
فأجاب بقوله: هذا لا ينبغي أن يفعل، سواء قال: اصبر إن الله مع الصابرين، أو تنحنح، أو ضرب بقدميه وما أشبه ذلك من الأمور التي يعلم بها الإمام أنه داخل.
والواجب عليه في هذه الحال أن يأتي بهدوء وطمأنينة وبدون إسراع لقول النبي، عليه الصلاة والسلام: "إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم بالسكينة والوقار ولا تسرعوا، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا" (1) .
__________
(1) رواه البخاري في الأذان، باب لا يسعى إلى الصلاة (636) ، ومسلم في المساجد باب استحباب إتيان الصلاة بوقار؛ 151 (602) .(13/12)
فهذا الحديث يوجب أن تأتي مطمئناً، وتقف في الصف وتدخل مع الإمام وما أدركت فصل وما فاتك فاقض. هذا ما أمر به النبي عليه الصلاة والسلام، وأما هذا التشويش والإزعاج للإمام والمأمومين وإحداث أمر ما كان في عهد الصحابة فهذا لا ينبغي.
364 وسئل فضيلته - حفظه الله تعالى -: ما حكم قراءة القرآن في المسجد بصوت مرتفع مما يسبب التشويش على المصلين؟
فأجاب بقوله: حكم قراءة الرجل في المسجد في الحال التي يشوش بها على غيره من المصلين، أو الدارسين، أو قارئ القرآن، حكم ذلك حرام؛ لوقوعه فيما نهى عنه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد روى مالك في الموطأ (1) عن البياضي (هو فروة بن عمرو) أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج على الناس وهم يصلون وقد علت أصواتهم بالقراءة، فقال: "إن المصلي يناجي ربه فلينظر بما يناجيه به ولا يجهر بعضكم على بض بالقرآن".وروى نحوه أبو داود (2) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -.
365 سئل فضيلة الشيخ - حفظه الله -: بعض الناس عندما يدخل المسجد والإمام راكع يقول: إن الله مع الصابرين، فما حكم هذا القول؟
__________
(1) في الصلاة باب العمل في القراءة 1/86 (225) .
(2) في الصلاة باب رفع الصوت بالقراءة في صلاة الليل (1332) .(13/13)
فأجاب فضيلته بقوله: هذا لا أصل له ولم يكن في عهد الصحابة ولا من هديهم، وفيه أيضاً تشويش على المصلين الذين مع الإمام، والتشويش على المصلين منهي عنه؛ لأنه يؤذيهم كما خرج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات ليلة على أصحابه وهم يصلون ويرفعون أصواتهم بالقراءة فنهاهم عن ذلك، وقال: "لا يجهرن بعضكم على بعض في القرآن" (1) . وفي حديث آخر: "لا يؤذين بعضكم بعضاً في القرآن" (2) ، وهذا يدل على أن كل ما يشوش على المأمومين في صلاتهم فإنه منهي عنه لما في ذلك من الإيذاء والحيلولة بين المصلي وبين صلاته.
أما بالنسبة للإمام فإن الفقهاء - رحمهم الله - يقولون: إذا أحس الإمام بداخل في الصلاة فإنه ينبغي انتظاره ما لم يشق على المأمومين، فإن شق عليهم فلا ينتظر؛ ولا سيما إذا كانت الركعة الأخيرة؛ لأن الركعة الأخيرة بها تدرك الجماعة، لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة" (3) .
__________
(1) هذا جزء من حديث رواه مالك وتقدم في السؤال السابق ص"13".
(2) هذا جزء من حديث أبي سعيد الخدري وفي أوله: "ألا إن كلكم مناج ربه فلا يؤذين.." رواه أبو داود في الصلاة باب رفع الصوت بالقراءة في الليل ح (1332) وصححه ابن خزيمة 2/190 (1162) .
(3) متفق عليه من حديث أبي هريرة، فرواه البخاري في مواقيت الصلاة باب من أدرك من الصلاة ركعة (580) ، ورواه مسلم في المساجد باب من أدرك ركعة ح161 (607) .(13/14)
366 سئل فضيلة الشيخ: عما يفعله بعض الناس إذا دخلوا المسجد قرب وقت الإقامة وقفوا ينتظرون قدوم الإمام وتركوا تحية المسجد فما حكم هذا العمل؟
فأجاب بقوله: إذا كانت المدة قصيرة بحيث لا يفوت فعل تحية المسجد فلا حرج عليهم، وأما إذا كانوا لا يدرون متى يأتي الإمام فالأفضل أن يصلوا تحية المسجد ثم إن جاء الإمام وأقيمت الصلاة وأنت في الركعة الأولى فاقطعها، وإن كنت في الركعة الثانية فأتمها خفيفة.
367 وسئل فضيلة الشيخ - حفظه الله ورعاه -: ما رأيكم فيما يفعله بعض المصلين من الاشتغال بالسواليف والكلام حتى تقام الصلاة؟
فأجاب بقوله: إذا دخل هؤلاء المسجد صلوا تحية المسجد، أو صلوا الراتبة إن كانت الصلاة مما لها راتبة قبلها، فإذا فعلوا ذلك فالأفضل أن يشتغلوا بالقرآن أو يشتغلوا بالتسبيح؛ لأنهم لا يزالون في صلاة ما انتظروا الصلاة، فإن تشاغلوا بكلام آخر نظرنا، إن كان مما يحرم، فإن تحدثهم به وهم في المسجد وفي انتظار الصلاة يكون أشد إثماً، وإن كان من الأمور المباحة، فلا بأس بذلك ما لم يشوشوا على غيرهم، فإن شوشوا على غيرهم فإنه لا يحل لهم التشويش على المصلين.(13/15)
368 وسئل فضيلة الشيخ - أعلى الله درجته في المهديين -: عن قول بعض الناس عند قول المؤذن: "قد قامت الصلاة" "أقامها الله وأدامها"؟
فأجاب بقوله: قوله عند إقامة الصلاة "أقامها الله وأدامها" قد ورد فيه حديث، ولكن في صحته نظر (1) ، فمن قالها لا ينكر عليه، ومن تركها لا ينكر عليه.
369 وسئل فضيلة الشيخ: هل ورد في السنة وقت محدد للقيام للصلاة عند الإقامة؟
فأجاب بقوله: لم ترد السنة محددة لموضع القيام؛ إلا أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لا تقوموا حتى تروني" (2) فمتى قام الإنسان في أول الإقامة، أو في أثنائها، أو عند انتهائها فكل ذلك جائز.
370 سئل الشيخ - وفقه الله تعالى -: ما درجة حديث: "صلاة بسواك تفضل سبعين صلاة بغير سواك"؟
...
__________
(1) رواه أبو داود في الصلاة باب 37 ما يقول إذا سمع الإقامة (528) ، والبيهقي 1/411، والبغوي في "شرح السنة" 2/288، قال الحافظ في "التلخيص" 111/211: "ضعيف" وضعفه شيخنا - حفظه الله ورعاه - في هذا المجموع 12/201 فتوى رقم (130) .
(2) رواه البخاري في الأذان باب متى يقوم الناس إذا رأوا الإمام (637) ، ومسلم في المساجد باب 29 متى يقوم الناس للصلاة 156 (604) .(13/16)
فأجاب بقوله: هذا الحديث ضعيف (1) ، والصلاة بالسواك أفضل؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة". متفق عليه (2) .
فينبغي للإنسان أن يستاك عند كل صلاة وعند الوضوء أيضاً، ومحله في الوضوء عند المضمضة، وينبغي أيضاً أن يغسل السواك وينظفه لقول عائشة – رضي الله عنها – حين حضر أخوها إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو قد نزل به الموت صلوات الله وسلامه عليه ومع عبد الرحمن بن أبي بكر أخي عائشة سواك يستن به فأبده رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بصره – أي جعل ينظر إليه – قالت: فعرفت أنه يحب السواك – وهو في سياق الموت صلوات الله وسلامه عليه – فقلت آخذه لك؟ فأشار برأسه أن نعم، قالت: فأخذته فقضمته فطيبته ثم دفعته إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاستن به (3) ، وفي هذا دليل على أنه ينبغي العناية بالسواك لا كما يفعله كثير من الناس اليوم تجده يستاك بسواكه ولا يغسله فتبقى الأوساخ متراكمة في هذا السواك فلا يزيده التسوك إلا تلويثاً. والله أعلم.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد 6/272، وابن خزيمة في "صحيحه" 1/71 (137) ، والحاكم 1/245، قال في العلل المتناهية: "حديث لا يصح" 1/337، وقد أطال الكلام عليه العلامة ابن القيم في "المنار المنيف" برقم (1) .
(2) رواه البخاري في الجمعة باب 8 السواك يوم الجمعة (887) ، ومسلم في الطهارة باب 15 السواك ح42 (252) .
(3) رواه البخاري في الموضع السابق باب 9 ح (890) .(13/17)
371 سئل فضيلة الشيخ: عن بعض المصلين الذين يصطحبون معهم أطفالهم إلى بيوت الله مما يترتب عليه إحداث الفوضى، وإشغال المصلين عن صلاتهم، وإحداث الخلل بين الصفوف، وذلك بخروج الأطفال من الصف بعد وقوفهم فيه خاصة في رمضان حيث تأتي المرأة بأطفالها، فما حكم ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان الأطفال مميزين، ولا يحدث منهم تشويش على المصلين فإنه لا يجوز إخراجهم من المساجد أو إقامتهم من أماكنهم التي سبقوا إليها، ولكن يفرق بينهم في الصف إذا خيف لعبهم.
وإذا كان يحدث من الأطفال صياح وركض في المسجد، وحركات تشوش على المصلين، فإنه لا يحل لأوليائهم إحضارهم في المساجد، فإن أحضروهم في هذه الحال أمروا بالخروج بهم، وتبقى أمهاتهم معهم في البيوت وبيت المرأة خير لها من حضورها إلى المسجد.
فإن لم يعرف أولياؤهم أخرجوا من المسجد لكن بالرفق واللين لا بالزجر والمطاردة والملاحقة التي تزعجهم ولا يزيد الأمر بها إلا شدة وفوضى. والله الموفق. حرر في 22 شعبان سنة 1413هـ.(13/18)
372 سئل فضيلة الشيخ: يلاحظ من بعض الرجال في المسجد الحرام أنهم يصفون خلف صفوف النساء في الصلاة المفروضة، فهل تقبل صلاتهم؟ وهل من توجيه لهم؟
فأجاب بقوله: إذا صلى الرجال خلف النساء فإن أهل العلم يقولون لا بأس، لكن هذا خلاف السنة؛ لأن السنة أن تكون النساء خلف الرجال، إلا أنه كما هو مشاهد في المسجد الحرام يكون هناك زحام وضيق فتأتي النساء وتصف، ويأتي رجال بعدهن فيصفون وراءهن، ولكن ينبغي للمصلي أن يحترز عن هذا بقدر ما يستطيع؛ لأنه ربما يحصل من ذلك فتنة للرجال فليتجنب الإنسان الصلاة خلف النساء وإن كان هذا جائزاً حسب ما قرره الفقهاء، لكننا نقول ينبغي للإنسان أن يتجنب هذا بقدر المستطاع. وينبغي للنساء أيضاً ألا يصلين في موطن يكون قريباً من الرجال.
373 وسئل فضيلته: كثير من المصلين في المسجد الحرام يتساهلون في تسوية الصفوف والتراص، وقد قرأت قوله عليه الصلاة والسلام: "لتسوون صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم" فما توجيهكم؟
فأجاب بقوله: الواقع أن الصفوف في المسجد الحرام غير منتظمة على الوجه الشرعي وهذا مما يؤسف له.
والمشروع أن يكمل الصف الأول فالأول كما أمر بذلك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث قال: "ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟ قالوا:(13/19)
وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: يتراصون ويكملون الأول فالأول" (1) .
ولكن نشاهد في هذا المسجد مع أنه افضل مسجد على وجه الأرض أن الناس يصلون أوزاعاً قل أن تجد صفاً تاماً، وهذا لاشك أنه من الخطأ، وأن الذي يجب تسوية الصف، ولهذا قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديثه الذي أخرجه البخاري وغيره، قال: "لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم" (2) . أي بين وجهة نظركم حتى تتفرقوا وتتنازعوا وتفشلوا.
وفي هذا المسجد أيضاً ملاحظة شاهدتها أن الناس في صلاة الجنازة يصف الواحد منفرداً خلف الصف وهذا لا يجوز؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لا صلاة لمنفرد خلف الصف" (3) .
وشاهدت أيضاً أناساً يصلون أمام الإمام – أعني بين الإمام وبين الكعبة – وهذا أيضاً حرام ولا يجوز، وصلاتهم غير صحيحة، والمشكل أنهم يصلون صلاة فريضة من فرائض الإسلام أمام الإمام، وقد نص العلماء – رحمهم الله – على أن الصلاة أمام الإمام غير صحيحة فإذا كانت غير صحيحة لم تكن مقبولة فلينتبهوا لذلك.
...
__________
(1) رواه مسلم في الصلاة باب 27 الأمر بالسكون في الصلاة، ح116 - (430) .
(2) رواه البخاري في الأذان، باب 71 تسوية الصفوف (717) ، ومسلم في الصلاة باب 28 تسوية الصفوف ح127 (436) .
(3) رواه الإمام أحمد 4/24، ولفظه: "لا صلاة لرجل فرد خلف الصف"، وابن ماجة في إقامة الصلاة، باب صلاة الرجل خلف الصف وحده، وابن خزيمة 3/30، والبيهقي 3/105) .(13/20)
وهنا مسألة: يسأل كثير من الناس أين الصف الأول في المسجد الحرام؟
والجواب: الأول ما كان خلف الإمام ونمشي حتى ندور كل الكعبة، أما من كان على يمين الإمام أو يساره فإن له حكم الصلاة على يمين الإمام وعلى يساره.
374 وسئل الشيخ - غفر الله له -: هل يأثم المصلي في المسجد الحرام إذا صلى في الصف وفي الصف الذي أمامه فرجة مع العلم أن هذه الفرجة ربما تكون كبيرة؟
فأجاب بقوله: الحقيقة أن هذه من الأمور المؤسفة في هذا المسجد الحرام وهي تقطع الصفوف وعدم وصلها، والسنة وصل الصفوف بعضها ببعض هذا هو السنة، ولكن إذا انقطع الصف الذي أمامك فإن كانت الفرجة قليلة بحيث تسدها إذا تقدمت إليها فتقدم وسدها وسييسر الله تبارك وتعالى للصف الذي انقطع بسبب تقدمه من يسده، أما إذا كانت الفرجة كبيرة لا تسدها إذا تقدمت فإنك تبقى في صفك لأنك لو تقدمت لم يحصل سد الصف المتقدم ويكون الصف الذي تركه منقطعاً فيحصل مضرة على الصف الذي تركت بدون فائدة للصف الذي تقدمت إليه.
فحاصل الجواب أنه إذا كانت الفرجة التي ظهرت في الصف الذي أمامك تنسد بتقدمك إليه فتقدم إليه وسدها، وإذا كانت الفرجة كبيرة فإنك تبقى في الصف الذي أنت فيه حتى لا ينقطع.(13/21)
375 وسئل الشيخ: عن حكم تسوية الصفوف؟
فأجاب بقوله: السنة تسوية الصفوف، بل قال بعض العلماء إن تسوية الصف واجبة؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما رأى رجلاً بادياً صدره قال: "عباد الله لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم" (1) . وهذا وعيد، ولا وعيد إلا على فعل محرم أو ترك واجب. والقول بوجوب تسوية الصفوف قول قوي، وقد ترجم البخاري - رحمه الله - على ذلك بقوله: "باب إثم من لم يتم الصفوف" (2) .
376 سئل فضيلة الشيخ: عن حكم تسوية الصفوف في صلاة الجنازة؟
فأجاب بقوله: عموم الأدلة تدل على تسوية الصفوف في كل جماعة، في الفريضة، أو النافلة كصلاة القيام، أو الجنازة، أو جماعة النساء. فمتى شرع الصف شرعت فيه المساواة.
وكثير من الناس يتهاونون في تسوية الصفوف مع أن الأدلة تدل أن تسوية الصفوف واجبة، ومن ذلك حرص النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخلفائه على تسوية الصفوف، حتى إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يمسح بصدور أصحابه ومناكبهم ويقول: "استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم" (3) .
__________
(1) تقدم تخريجه ص20.
(2) في كتاب الأذان باب 75 ح (724) وفيه ما قيل لأنس: ما أنكرت منا منذ يوم عهدت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: "ما أنكرت شيئاً إلا أنكم لا تقيمون الصفوف".
(3) تقدم تخريجه ص20.(13/22)
وكان الخلفاء الراشدون كعمر وعثمان يوكلون رجالاً يسوون الصفوف فإذا أخبروهم أن الصفوف استوت كبروا للصلاة.
ويجب على الإمام أن يعتني بتسوية الصف ولا تأخذه في الله لومة لائم؛ لأن كثيراً من الجهلة إذا تأخر الإمام في التكبير لتسوية الصفوف أخذهم الحمق والغضب، فلا ينبغي أن يبالي الإمام بأمثال هؤلاء لأن صلته بالله ما دامت وثيقة فستقوى الصلة بالناس بإذن الله.
ويرد كثيراً سؤال عن أفضل صفوف النساء أولها أم آخرها؟
وقد جاء في الحديث: أن "خير صفوف النساء آخرها وشرها أولها" (1) . والظاهر أن هذا ليس عاماً وأن النساء إذا كن في مكان منفرد عن الرجال فالأفضل في حقهن أن يبدأن بالأول فالأول، لأن الحكمة من كون آخر صفوف النساء خيرها هو البعد عن الرجال، فإذا لم يكن هناك رجال بقين على الأصل وهو أن يكمل الصف الأول فالأول.
377 سئل فضيلة الشيخ: هناك من المصلين من يقدم إحدى قدميه على الأخرى فما حكم هذا العمل؟
فأجاب فضيلته بقوله: تقديم إحدى القدمين على الأخرى لا ينبغي، بل السنة أن تكون القدمان متساويتين، بل وجميع أقدام المصلين متساوية متحاذية، بل إن تسوية الصفوف أمر واجب لابد منه وإذا تركه الناس كانوا آثمين عاصين للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان
__________
(1) رواه مسلم في الصلاة باب 28 - تسوية الصفوف 1/326؛132 - (440) .(13/23)
يسوي أصحابه فيمسح صدورهم ومناكبهم ويقول: "لا تختلفوا فتختلف قلوبكم" (1) ، وقد رأى يوماً بعدما عقلوا عنه رجلاً بادياً صدره فقال: "عباد الله لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم" (2) . والمهم أن تسوية الصف أمر واجب وهو من مسئوليات الإمام والمأمومين أيضاً فعليه تفقد الصف وتسويته، وعليهم تسوية صفوفهم وتراصهم.
378 سئل فضيلة الشيخ حفظه الله: أيهما أفضل الصلاة في الدور العلوي أم في الدور الأرضي من المسجد؟
فأجاب بقوله: الصلاة في الأسفل أفضل من الصلاة في الأعلى؛ لأنها أقرب إلى الإمام، والدنو من الإمام أفضل من البعد عنه، لكن إذا اقترن بالصلاة في الأعلى نشاط الإنسان فنشط، ويرى أنه يخشع أكثر فإن هذا أفضل، وذلك لأن المحافظة على الفضيلة المتعلقة بالعبادة أولى من المحافظة على الفضيلة المتعلقة بمكانها، هكذا قال العلماء، وضربوا لذلك مثلاً بالرمل، والدنو من الكعبة، الرمل في طواف القدوم أو الدنو من الكعبة، لو قال قائل: أنا إن دنوت من الكعبة لم يحصل لي الرمل، وإن أبعدت عن الكعبة حصل لي الرمل فأيهما أفضل، أن أدنو من الكعبة، أو أن أبتعد وأرمل، فأيهما أفضل؟
...
__________
(1) الموضع السابق 1/323 ح122 (432) .
(2) بهذا اللفظ رواه مسلم في الموضع السابق 1/324؛128 (436) .(13/24)
يقول العلماء: الأفضل أن تبتعد وترمل؛ لأن الفضيلة المتعلقة بذات العبادة أولى بالمحافظة من الفضيلة المتعلقة بمكانها.
379 وسئل حفظه الله: هل يجوز إبعاد الصبي عن مكانه في الصف؟
فأجاب بقوله: الصحيح عدم جواز إبعاد الصبي عن مكانه في الصف لحديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لا يقيم الرجل،الرجل من مقعده ثم يجلس فيه" (1) . ولأنه فيه اعتداء على حق الصبي، وكسراً لقلبه، وتنفيراً له عن الصلاة، وزرعاً للبغضاء والحقد في قلبه.
ولأننا لو قلنا بجواز تأخير الصبيان إلى آخر الصفوف لاجتمعوا في صف واحد وحصل منهم اللعب والعبث في الصلاة، لكن لا بأس بزحزحته عن مكانه للتفريق بينهم إذا خيف منهم اللعب.
380 سئل الشيخ - وفقه الله تعالى: ـ ما حكم منع الصبيان من الجلوس في الصف الأول؟
__________
(1) رواه البخاري في الجمعة باب: لا يقيم الرجل أخاه من مقعده ويجلس فيه ح (911) بنحوه. ورواه مسلم في السلام باب 11: تحريم إقامة الإنسان من موضعه المباح الذي سبق إليه، ح27 (2177) .(13/25)
فأجاب بقوله: لا يمنع الصبيان من الصلاة في الصف الأول من المسجد إلا إذا حصل منهم أذية، أما ما داموا مؤدبين فإنه لا يجوز إخراجهم من الصف الأول؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به" (1) . وهؤلاء سبقوا إلى ما لم يسبقهم إليه أحد فكانوا أحق به من غيرهم.
فإن قيل: قد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ليليني منكم أولوا الأحلام والنهى" (2) .
فالجواب: أن المراد بهذا الحديث حث أولي الأحلام والنهى على أن يتقدموا، نعم لو قال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يليني إلا أولوا الأحلام والنهى" لكن هذا نهياً عن تقدم الصبيان للصف الأول، ولكنه قال: "ليليني أولوا الأحلام والنهى"، فالمعنى حث هؤلاء البالغين العقلاء على أن يتقدموا ليكونوا هم الذين يلون رسول الله، ولأننا لو أخرنا الصبيان عن الصف الأول سيكونون وحدهم في الصف الثاني ويترتب على لعبهم ما لا يترتب لو كانوا في الصف الأول وفرقناهم وهذا أمر ظاهر.
__________
(1) رواه أبو داود في الخراج باب إقطاع الأرضين 3/452 (3071) ومن طريقة رواه البيهقي في إحياء الموات، باب من أحيا أرضاً ميتة 6/142، والطبراني 1/280 (814) .
(2) رواه مسلم في الصلاة باب 28- تسوية الصفوف 1/323 ح122 (432) .(13/26)
381 وسئل فضيلة الشيخ: إذا رأى المصلي فرجة أمامه وهو في فريضة أو نافلة هل الأفضل أن يتقدم لسد هذه الفرجة؟
وإذا لم تكن أمامه تماماً فهل يجوز إبعاد من أمامه لسد تلك الفرجة ومن ثم يحل محله، وهل ينافي هذا الطمأنينة في الصلاة؟
فأجاب بقوله: إذا رأى المصلي فرجة أمامه فالأفضل أن يتقدم إليها ليسدها، سواء كان في فريضة أو نافلة؛ لأن هذا عمل يسير لحصول شيء مأمور به لمصلحة الصلاة، وقد ثبت أن ابن عباس - رضي الله عنهما - صلى مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوقف عن يساره فأخذ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برأسه من ورائه فجعله عن يمينه (1) ، وهذا عمل من الطرفين لمصلحة الصلاة، لكن إن حصل فرجة ثانية أمامك ثم ثالثة وهكذا فهنا قد يكون العمل كثيراً فلا تتقدم لكل الفرج التي أمامك؛ لأن العمل الكثير المتوالي يبطل الصلاة إلا إذا كان بين ظهور الفرجتين زمن يقطع الموالاة في المشي فلا بأس في التقدم.
وإذا كانت الفرجة بحذاء جارك فلا بأس أن تزحزح من أمامك إذا كنت تزحزحه إلى مكان أفضل من مكانه مثل أن تكون في يمين الصف فتزحزحه عن اليسار إلى اليمين، وكل هذه الأعمال اليسيرة التي هي من مكملات المصافة لا تنافي الطمأنينة في الصلاة.
__________
(1) متفق عليه، رواه البخاري في الأذان باب 57 يقوم على يمين الإمام (697) وباب 58 (698) وباب 77 (726) ، ورواه مسلم في صلاة المسافرين باب 26 الدعاء في صلاة الليل وقيامه 1/526 ح181 (763) .(13/27)
382 وسئل فضيلته: يوجد جماعة يفرجون بين أرجلهم في الصلاة قدر ذراع، فقال لهم أحد الجماعة لو تقربون أرجلكم حتى يكون بين الرجلين بسطة كف اليد لكان أحسن، فردوا عليه بقولهم: إنك راد للحق لأن فعلنا هذا قد أمر به الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، آمل منك جزاك الله خيراً أن توضح لنا هذه المسألة توضيحاً وافياً؟
فأجاب بقوله: التفريج بين الرجلين إذا كان يؤدي إلى فرجة في الصف، بحيث يكون ما بين الرجل وصاحبه منفتحاً من فوق فإنه مكروه لما يلزم عليه من مخالفة أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالتراص؛ ولأنه يفتح فرجة تدخل منها الشياطين.
وكان بعض الناس يفعله أخذاً مما رواه البخاري عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنه قال: "وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه" (1) ، وهذا معناه: تحقيق المحاذاة والمراصة، والإنسان إذا فرج بين قدميه بمقدار ذراع سوف ينفتح ما بين المنكبين مع صاحبه، فيكون الفاعل مخالفاً لما ذكره أنس - رضي الله عنه - عن فعل الصحابة رضي الله عنهم.
وأما قول من يفرج: إن هذا قد أمر به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما أمر بالمحاذاة فقال: "أقيموا الصفوف (2) ، وحاذوا بين المناكب، وسدوا الخلل، ولا تذروا فرجات الشيطان، ومن وصل
__________
(1) رواه البخاري في الأذان باب 74 - إلزاق المنكب بالمنكب (725) .
(2) روى البخاري اللفظ الأول منه فقط في الأذان باب 71 تسوية الصفوف (718) أما الحديث كاملاً فرواه أبو داود في الصلاة باب تسوية الصفوف (666) .(13/28)
صفاً وصله الله، ومن قطع صفاً قطعه الله". ولم يقل: "فرجوا بين أرجلكم"، ولم يقل: "ألزقوا المنكب بالمنكب والقدم بالقدم"، ولكن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا يفعلونه تحقيقاً للمحاذاة ولكن إذا لزم من إلزاق الكعب بالكعب انفراج ما بين المنكبين صار وقوعاً فيما نهى عنه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من فرج الشيطان.
وأما قول أحد الجماعة خلوا بين أرجلكم بسطة كف فلا أعلم له أصلاً من السنة، والله أعلم. حرر في 16/1/1404هـ.
383 سئل فضيلة الشيخ وفقه الله تعلى عن قدر المسافة بين القدمين في القيام والسجود؟
فأجاب بقوله: المسافة في القيام لا أعرف في هذا سنة، فتكون المسافة بحسب الطبيعة، لأن كل شيء لم يرد به صفة شرعية فإنه يبقى على ما تقتضيه الطبيعة.
وأما المسافة بين القدمين في حال السجود فإنه لا مسافة بينهما، فالسنة أن يلصق إحدى القدمين بالأخرى كما جاء ذلك في صحيح ابن خزيمة (1) .
وكما هو ظاهر حديث عائشة - رضي الله عنها - حين فقدت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالت: "فالتمسته فوقعت يدي على قدميه وهو ساجد". فإن وقوع اليد الواحدة على القدمين جميعاً يدل على أن بعضها
__________
(1) في الصلاة باب ضم العقبين في السجود 1/328 (654) .(13/29)
لاصق ببعض وقد جاء صريحاً في صحيح ابن خزيمة (1) ، فيكون المشروع في حال السجود أن يضم بعض القدمين إلى بعض.
384 وسئل فضيلته: أيهما أفضل للمصلي في الحرم قرب الإمام أو في الأدوار العلوية؟
وما قولكم فيما نشاهده من التسابق على الصف الأول في المطاف قبل الأذان بنصف ساعة أو أكثر ويحصل من جلوسهم في الصف الأول والذي يليه مضايقة على الطائفين؟
فأجاب قائلاً: لا شك أن الدنو من الإمام في المسجد الحرام أو غيره أفضل من البعد عنه، وأما الذين يجلسون إلى جنب الكعبة في انتظار الصلاة فليسوا على حق في أن يجلسوا في هذا المكان والطائفون يحتاجون إليه؛ لأن الطائفين في حاجة إلى هذا المكان، فالتضيق عليهم فيه إهدار لحقهم، وجناية عليهم، بل ينتظر الناس حتى إذا جاء الإمام صف كل إنسان في مكانه.
385 وسئل فضيلته: سمعنا أن الصلاة في الطابق السفلي من المسجد الحرام أفضل من الصلاة في الطابق العلوي، فهل هذا صحيح من حيث العلو على الإمام؟
فأجاب بقوله: الطابق السفلي قد يكون أفضل من حيث قربه
__________
(1) الموضع السابق ح (655) . وعند مسلم في الصلاة باب ما يقال في الركوع والسجود ح222 (486) : "فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد وهما منصوبتان".(13/30)
من الإمام؛ لأنه بلا شك أقرب إلى الإمام، والصف الأول أفضل لأنه أقرب من الإمام.
وأما من حيث علو المأموم على الإمام فهذه المسألة فيها خلاف، مع أن كثير من أهل العلم يقيد هذه المسألة بما إذا صلى الإمام وحده بالأسفل وصلى بقية الجماعة كلهم فوقه فهذه هي التي تكره، وأما إذا كان مع الإمام أحد فإنه لا كراهة في علو المأموم على الإمام، والآن معروف في الحرم أن غالب المصلين يصلون في الأسفل، فعلى هذا فالذين يصلون فوق ليس في صلاتهم كراهة بل ذلك جائز ولكن كما قلت الأسفل أقرب إلى الإمام فيكون أولى.
386 سئل فضيلة الشيخ: عن رجل دخل المسجد الحرام لصلاة العشاء في أيام رمضان ووجد الصفوف مختلطة من الرجال والنساء فتجد صف نساء وخلفه مجموعة من الرجال والعكس، أفتونا في ذلك مأجورين.
فأجاب بقوله: الحكم الذي ينبغي هو أن تكون النساء في محل خاص في المسجد، وأن يكون الرجال بعيدين عن النساء؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها" (1) وهذا يدل دلالة واضحة على أن الرجال والنساء في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كل منهم متميز عن الآخر، كل منهم له مكان غير مكان الآخر، وهذا هو الذي
__________
(1) رواه مسلم في الصلاة باب 28 - تسوية الصفوف ح132 (440) .(13/31)
ينبغي، ولكن في المسجد الحرام يصعب أن ينضبط فيه الرجال والنساء بحيث يميز بعضهم عن بعض.
وعلى هذا فإن وقف إنسان في الصف وأمامه نساء فإن صلاته صحيحة وليس فيها شيء، وكذلك لو جاءت امرأة وهو يصلي ووقفت إلى جانبه، وإن كان هذا لا ينبغي منها وأن تبتعد عن الرجل ولو فاتتها الصلاة ولو لم تصل، لكن لو فرض أن امرأة جاهلة وقفت إلى جانب رجل فإنه لا حرج على الرجل أن يكمل صلاته، فإن خاف من فتنة فإنه لا بأس أن ينصرف من الصلاة ويستأنف الصلاة في محل آخر.
387 وسئل فضيلة الشيخ عن حكم إقامة وتسوية الصفوف، هل هو واجب أو مندوب؟ وما الحكم إذا كان الصف مائلاً؟ وهل يستحب الانتقال منه؟
فأجاب بقوله: أكثر العلماء على أن تسوية الصف سنة وليس بواجبة، لكن إذا اختلف الصف بحيث لا يكون صفاً، بأن يكون كل واحد خلف الآخر يعني يكون يمين الرجل إلى يسار الرجل من خلفه وهكذا كالدرج، فإنه لا شك أن هذا العمل محرم، وأن الصلاة تبطل به؛ لأن حقيقة الأمر أن كل واحد صلى وحده.
...(13/32)
أما الانتقال من الصف المائل إلى الصف المستقيم الذي خلفه فهذا محل نظر. مثال ذلك: لو كان الصف الأول مائلاً فدخل فيه والصف الثاني مستقيماً فهل نقول انتقل للصف الثاني لأنه مستقيم، أو يكون في الصف الأول لأنه الأول، وقد أمر الناس أن يكملوا الأول فالأول؟ نقول هذا محل نظر.
388 وسئل فضيلة الشيخ عن المقصود بإتمام الصلاة في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "سووا صفوفكم فإن تسوية الصفوف من تمام الصلاة" (1) ؟
فأجاب بقوله: المقصود بالتمام هنا تمام الكمال على القول الراجح.
389 وسئل فضيلته: ما حكم الصلاة بين الأعمدة والسواري؟
فأجاب بقوله: إذا كان لحاجة فلا بأس، وإن لم يكن لحاجة فإنه مكروه؛ لأن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا يتقون ذلك.
390 وسئل الشيخ: عما ورد من أن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا يطردون عن الصف بين السواري طرداً، وكانوا يتقون الصف فيها، فهل الصف بينها محرم كما هو ظاهر النهي؟ وإذا ترتب على ترك الصف بين السواري إنكار من قبل العامة
__________
(1) رواه البخاري في الأذان باب 74 إقامة الصف من تمام الصلاة، (723) . ورواه مسلم في الصلاة باب 28 (تسوية الصفوف..) ح124 - (433) .(13/33)
والمقلدين، الأمر الذي قد يؤدي إلى مشكلة في المسجد، فهل يجوز الصف بينها درءاً للفتنة، أفتونا أثابكم الله خيراً وحفظكم؟
فأجاب فضيلته بقوله: الصف بين السواري جائز إذا ضاق المسجد، حكاه بعض العلماء إجماعاً، وأما عند السعة ففيه خلاف، والصحيح: أنه منهي عنه؛ لأنه يؤدي إلى انقطاع الصف لا سيما مع عرض السارية، وأما ترك الصف بينها إذا خيفت الفتنة فلا أظن ذلك وارداً، لإمكان الرجل أن يقف في الصف الذي يليه ويبين للناس حكم الصف بين السواري بدليله ومن أراد الحق سهل الله له قبوله بين الناس أو امتحنه بما يتبين به صدقه حتى يكون إماماً، قال الله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ) .
كتبه محمد الصالح العثيمين في 16/6/1418هـ.
391 ...(13/34)
وسئل فضيلته - وفقه الله تعالى -: عن حكم الصلاة بين السواري؟
فأجاب فضيلته بقوله: الصلاة بين السواري جائزة عند الضيق.
أما في حال السعة فلا يصلى بين السواري؛ لأنها تقطع الصفوف. حرر في 29/1/1419هـ.
392 وسئل فضيلته: بماذا تكون المحاذاة في الصف؟ برؤوس الأقدام أم بالأكعب أم بغير ذلك؟
فأجاب بقوله: المحاذاة تكون بالأكعب والمناكب، فإن لم يمكن بأن كان فيهم أحدب بالعبرة بالأكعب؛ لأنها هي التي يتركب عليها البدن.
393 وسئل فضيلة الشيخ: ما حكم مصافة الصغير؟ وما الحكم إذا كان جميع المأمومين صغاراً؟
فأجاب بقوله: لا بأس بمصافة الصغير الذي لم يبلغ سواء كان مع الإمام وحده، أو كان مع الصف خلف الإمام.
وكذلك لا بأس أن يصف الصغار وحدهم، إلا أن يخاف منهم العبث واللعب فلا يتركهم وحدهم. ومصافة الصغير لا بأس بها في صلاة الفرض وصلاة النفل على القول الراجح.
394 وسئل حفظه الله: ما حكم إكمال الصفوف وتسويتها في صلاة الجنائز؟
فأجاب بقوله: الصفوف في صلاة الجنازة كغيرها إلا أن بعض العلماء استحب أن لا تقل الصفوف عن ثلاثة وإن لم يتموا الصف الأول فالأول.(13/35)
395 وسئل فضيلة الشيخ: ما الحكم في صفوف النساء؟ هل شرها أولها وخيرها آخرها على الإطلاق، أو في حالة عدم وجود ساتر بين الرجال والنساء؟
فأجاب بقوله: المراد إذا كان الرجال مع النساء في مكان واحد فإن آخر صفوف النساء أفضل من أولها كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها" (1) . وإنما كان كذلك لأن آخرها أبعد عن الرجال وأولها أقرب إلى الرجال.
وأما إذا كان لهن مكان خاص كما يوجد الآن في أكثر المساجد فإن خير صفوف النساء أولها كالرجال.
396 وسئل فضيلة الشيخ: هل الأولى في حق النساء البقاء في الصفوف الأخيرة مع وجود فرج في الصفوف الأولى أم تتقدم وتسد الفرج؟
فأجاب بقوله: الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبه على خيرية الصفوف في الصلاة في صفوف الرجال، وخير صفوف النساء آخرها. والأولى بالنساء إذا لم يكن ثمة حاجز أن يبدأن بالأخيرة ثم التكملة حسب الحضور، أما إذا كان هناك جدار أو حاجز فلا بأس بالتقدم.
397 وسئل فضيلة الشيخ: ما حكم الصلاة في الشارع والطرقات المجاورة للمسجد إذا امتلأ المسجد واتصلت
__________
(1) رواه مسلم في الصلاة باب 28 (تسوية الصفوف ... ) 1/326 ح132 - (440) .(13/36)
الصفوف فيه؟ وهل يلزم فرش السجاد؟
فأجاب بقوله: لا بأس بالصلاة في الشارع والطرقات التي حول المسجد إذا امتلأ المسجد واتصلت الصفوف، ولا يلزم أن تفرش الأسواق والأرصفة لأنها طاهرة.
398 وسئل فضيلته - حفظه الله ورعاه -: ما حكم صلاة من يصلي خارج المسجد كمن يصلي في الطرقات المتصلة بالمسجد؟
فأجاب بقوله: إذا كان المسجد لا يسع المصلين وصلوا بالطرقات المتصلة به فلا بأس؛ ماداموا يتمكنون من متابعة الإمام لأن هذا ضرورة. حرر في 6/6/1413هـ.
399 سئل الشيخ - وفقه الله تعالى -: إذا ضاق المسجد فما حكم الصلاة في السوق وما يحيط بالمسجد؟
فأجاب بقوله: لا بأس بذلك إذا اضطر الإنسان إلى الصلاة في السوق أو في الساحة التي حول المسجد فإن هذا لا بأس به، حتى الذين يقولون: إن الصلاة لا تصح في الطريق، يستثنون من ذلك صلاة الجمعة، وصلاة العيد؛ إذا امتلأ المسجد وخرج الناس إلى الأسواق، والصحيح أنه يستثنى من ذلك كل ما دعت الحاجة إليه، فإذا امتلأ المسجد فإنه لا بأس أن يصلوا في الأسواق.(13/37)
400 وسئل فضيلة الشيخ: في الصفوف الخلفية من المسجد يحصل شدة خلاف بين المصلين في الغالب، وذلك في حالة وجود خلل أو فراغ في الصف فتنازع المصليان من الذي عليه أن يسد الخلل ويقترب من الآخر فيبقى المكان خالياً فما الحكم؟
فأجاب بقوله: من وجد فرجة في الصف المقدم فليتقدم إليها، ومن تقدم على هذه الفرجة فقد حاز الفضيلة لأن الصفوف أفضلها الأولى فالأولى. والمعلوم أن الدنو إنما يكون من نحو الإمام سواء من اليمين أو من اليسار. فالذي من اليمين يكون دنوه إلى اليسار والعكس بالعكس.
401 وسئل فضيلة الشيخ: ما حكم صلاة المنفرد خلف الصف؟ وهل يحق له أن يجذب أحداً من الصف المقابل لكي يقوم معه في الصف الجديد؟
فأجاب بقوله: إذا تم الصف الذي قبله فإنه يصف وحده خلف الصف ويتابع الإمام، وليس له الحق في أن يجذب أحداً من الصف الذي قبله؛ لأنه يشوش عليه صلاته، وينقله من فاضل إلى مفضول، ويفتح فرجة في الصف، وحديث الجذب ضعيف (1) .
__________
(1) رواه الطبراني في الأوسط 7/374 (7764) وقال عنه الهيثمي في المجمع 2/96: فيه بشر بن إبراهيم وهو ضعيف جداً. ولفظه: "إذا انتهى أحدكم إلى الصف وقد تم، فليجذب إليه رجلاً يقيمه إلى جنبه".(13/38)
402 وسئل فضيلته: ما حكم صلاة المرأة المنفردة؟
فأجاب بقوله: إذا كانت المرأة مع نساء فإن صلاتها وحدها خلف الصف لا تصح، وإذا لم يكن معها إلا رجال فإن صلاتها وحدها خلف الصف تصح وهذا هو المشروع في حقها.
403 وسئل فضيلة الشيخ: من الأولى بالصف الأول؟
فأجاب بقوله: الأولى بالصف الأول من سبق، لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به" (1) .
404 وسئل فضيلة الشيخ: ما حكم تأخير الصبيان عن الصف الأول إذا كانوا قد سبقوا إليه؟
فأجاب بقوله: لا يجوز؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى أن يقيم الرجل أخاه فيجلس في مكانه (2) ، إلا إذا حصل من هؤلاء الصبيان أذية فإنه يكلم أولياء أمورهم بهذا ليمنعهم من المسجد.
405 وسئل فضيلة الشيخ: عن حكم صلاة المأموم على يسار الإمام إذا كان لوحده مع الإمام؟
فأجاب بقوله: إذا صف عن يسار الإمام فالأفضل أن يفعل
__________
(1) رواه أبو داود في الخراج باب إقطاع الأرضين 3/452 (3071) .
(2) راجع تخريجه في ص"25".(13/39)
كما فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعبد الله بن عباس (1) يديره من ورائه فيجعله عن يمينه وتصح صلاته.
406 وسئل فضيلة الشيخ: ما حكم الصلاة في الدور الثاني في سطح المسجد مع وجود سعة في الدور الأول سواء في المسجد الحرام أو في غيره من المساجد؟
فأجاب بقوله: الصلاة في الدور الثاني من المسجد جائزة إذا كان معه أحد في مكانه يعني لم ينفرد بالصف وحده، لكن الأفضل أن يكون مع الناس في مكانهم؛ لأنه إذا كان مع الناس في مكانهم كان أقرب للإمام، وما كان أقرب إلى الإمام فهو أفضل.
407 وسئل فضيلة الشيخ: في المسجد الحرام يفرش الفرش غالباً بعد الكعبة بما يقرب عشرة صفوف فتبدأ صفوف المصلين من حيث الفرش. لكن يتقدم بعض المصلين في الصفين الأول والثاني مما يلي الكعبة فيسبب ذلك وجود تفاوت كبير بين الصفوف. فهل يلزم أهل الصف المفروش التقدم لأجل موالاة الصفوف أم لا؟ وما الصف الأول في المسجد الحرام؟
فأجاب بقوله: الصف الأول هو الذي يلي الإمام من خلفه والدائر حوله. وأما الذي في جهة غير الإمام فلهم أن يتقدموا إلى
__________
(1) متفق عليه، وتقدم تخريجه ص"27".(13/40)
الكعبة ولا حرج كما نص على هذا أهل العلم لكن جهة الإمام لا يجوز لأحد أن يتقدم عليه فيها.
408 وسئل فضيلته: هل يعد المصلي في الجهة المقابلة للإمام مما يلي الكعبة مصلياً في الصف الأول وحاصلاً على ثواب الصف الأول أم لا؟
فأجاب بقوله: الصف الأول هو الذي خلف الإمام ودائرته هي الصف الأول. وعلى هذا فما بين يدي هذا الصف مع الجهات الأخرى لا يعتبر الصف الأول.
409 وسئل فضيلة الشيخ: في المسجد الحرام يصلي بعض الناس في المصابيح مع وجود صفوف خالية في ساحة الكعبة فهل يجوز ذلك؟ وما حكم موالاة الصفوف؟
فأجاب بقوله: الأولى أن تتوالى الصفوف يكمل الأول فالأول لأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك. فعن أنس بن مالك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "أتموا الصف المقدم، ثم الذي يليه، فما كان من نقص فليكن في الصف المؤخر" (1) . لكن لو لم يفعلوا وصف أناس خلف الصف بعيداً فالصلاة صحيحة لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا صلاة لمنفرد خلف
__________
(1) رواه أبو داود في الصلاة باب: تسوية الصفوف ح (671) ، ورواه النسائي في الإمامة باب: الصف المؤخر 2/428 (817) .(13/41)
الصف" (1) . وهذا ليس فيه انفراد، لكنه لا شك انه مخالف للسنة؛ لأن السنة أن يكمل الأول فالأول.
410 وسئل فضيلة الشيخ/ هل الأفضل في صلاة الراتبة قبل المكتوبة أن تصلى قرب الإمام بدون سترة أو بعيداً عن الإمام مع وجود سترة؟
فأجاب بقوله: السترة يمكن أن ينقلها معه إذا كانت مما ينقل وإلا فليضع في مكانه في الصف الأول علامة على أنه محجوز ثم يذهب ويصلي في المكان الذي فيه سترة.
411 وسئل فضيلته: بعض الناس المجاورين للحرم يصلون بمتابعة المذياع أو عن طريق سماع الصوت مباشرة فيصلون في محلاتهم أو في الطرق وعلى الأرصفة، فما حكم صلاتهم؟
فأجاب بقوله: صلاتهم لا تصح، والواجب عليهم أن يصلوا في المسجد فإن صلوا في أماكنهم بناء على سماع المذياع، أو على صوت مكبر الصوت "الميكروفون" فإن صلاتهم لا تصح؛ لأن من المقصود في صلاة الجماعة أن يجتمع الناس في مكان واحد ليعرف بعضهم بعضاً فيتآلفون ويتعلم بعضهم من بعض.
__________
(1) تقدم تخريجه ص"20".(13/42)
412 سئل فضيلة الشيخ: في بعض الأحيان يحصل شدة زحام في الحرم مما يؤدي إلى صلاة الرجل خلف النساء أو أن يصلي الرجل بجوار امرأة. فهل تصح الصلاة؟ وإن أتت امرأة أو نسوة فجاورنه وهو يصلي فماذا يفعل؟
فأجاب بقوله: إذا صلى الرجل خلف صف النساء فإن هذا لا بأس به كما ذكره الفقهاء؛ لأن الناس في حاجة إلى ذلك.
وأما إذا صلت إلى جنبه امرأة فأخشى عليه من الفتنة فليطردها إن كان هو الذي جاء قبلها، أما إذا كانت هي التي جاءت قبله فينقل إلى مكان آخر، وإن أتت امرأة أو نسوة فجاورنه وهو يصلي فليشر إليهن بالابتعاد عنه.
413 وسئل فضيلته: ما حكم صلاة الإمام مرتفعاً عن المأمومين؟ وما حكم العكس؟
فأجاب بقوله: لا بأس أن يعلو الإمام على المأمومين إذا كان معه أحد، كما لو صلى جماعة في السطح ومعهم الإمام وآخرون في الأسفل. أما إذا لم يكن معه أحد فقد كره العلماء – رحمهم الله – أن يعلو الإمام أكثر من ذراع، وأجازوه إذا كان ذراعاً أو نحوه فقد ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه صلى بأصحابه – رضوان الله(13/43)
عليهم – على المنبر (1) ، وأما علو المأموم فلا بأس به لكن لا يصلي وحده منفرداً.
414 وسئل فضيلة الشيخ: هل يجوز تقدم المأموم على إمامه في الصف؟ وهل المعمول به في الحرم من تقدم المأمومين في الجهة المقابلة للإمام من التقدم على الإمام أم لا؟
فأجاب بقوله: أما إذا كان الإمام والمأموم في جهة واحدة فإنه لا يجوز تقدم المأموم على الإمام إلا عند الضرورة على قول شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله.
وأما إذا كان الإمام في جهة والمأموم في جهة كما في صف الناس حول الكعبة في المسجد الحرام فلا بأس أن يكون المأمومون أقرب إلى الكعبة من الإمام في جهتهم.
415 وسئل فضيلة الشيخ: - جزاه الله خيراً -: هل يجوز تقدم المأموم على الإمام؟
فأجاب قائلاً: الصحيح أن تقدم الإمام واجب، وأنه لا يجوز أن يتقدم المأموم على إمامه، لأن معنى كلمة إمام أن يكون إماماً
__________
(1) نص الحديث: قال سهل بن سعد: ثم رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى عليها وكبر وهو عليها ثم ركع وهو عليها، ثم نزل القهقرى، فسجد في أصل المنبر ثم عاد، فلما فرغ أقبل على الناس فقال: "أيها الناس إنما صنعت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي". رواه البخاري، وهذا لفظه في الجمعة باب: الخطبة على المنبر ح (917) ، ورواه مسلم في المساجد باب: جواز الخطوة والخطوتين في الصلاة ح44 (544) .(13/44)
يعني يكون قدوة ويكون مكانه قدام المأمومين فلا يجوز أن يصلي المأموم قدام إمامه، وقد كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي قدام الصحابة – رضي الله عنهم – وعلى هذا فالذين يصلون قدام الإمام ليس لهم صلاة ويجب عليهم أن يعيدوا صلاتهم إلا أن بعض أهل العلم استثنى من ذلك ما دعت الضرورة إليه مثل أن يكون المسجد ضيقاً وما حواليه لا يسع الناس فيصلي الناس عن اليمين واليسار والأمام والخلف لأجل الضرورة.
416 سئل فضيلة الشيخ: ورد في بعض الأحاديث: إن الملائكة تصلي على ميامن الصفوف، فهل الصلاة في الصف الأيمن أفضل من الصلاة في الصف الأيسر؟
فأجاب بقوله: هذا الحديث "إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف" (1) ضعيف وإن كان بعض العلماء حسنه، وأما الأيمن فلا شك أنه أفضل إذا تساوى مع الأيسر، أما إذا كان الأيسر اقرب إلى الإمام بفرق واضح فالأيسر أفضل.
417 سئل فضيلة الشيخ: هل يشرع للمصلي أن يلصق قدمه بجاره؟ وهل صح في ذلك حديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
فأجاب بقوله: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمر الصحابة بتسوية الصفوف والتراص. فكان أحدهم يلصق كعبه بكعب أخيه تحقيقاً لهذه
__________
(1) رواه أبو داود في الصلاة باب من يستحب أن يلي الإمام 1/437 (676) .(13/45)
المساواة والتراص (1) . فإلصاق الكعب بالكعب مقصود لغيره.
418 وسئل فضيلة الشيخ: إذا ازدحم المصلون في المسجد فهل يجوز لبعضهم أن يصلي عن يمين الإمام ويساره. وهل يعتبر المصلي عن يمين الإمام مدركاً لأجر الصف الأول؟
فأجاب بقوله: إذا ازدحم المصلون في المسجد فلا بأس أن يصلوا عن يمين الإمام وعن يساره أو عن يمينه فقط، ولا يعتبر الذين إلى جانبه الصف الأول؛ لأن الصف الأول هو أول صف يلي الإمام من وراءه.
419 وسئل فضيلة الشيخ: ما حكم توسيط الإمام؟
فأجاب بقوله: توسيط الإمام هو السنة وهو الأفضل لأجل أن لا يميل مع أحد الجانبين، ولذلك إذا احتيج أن يصلي المأمومون إلى جانب الإمام فالأفضل أن يكون بعضهم عن يمينه وبعضهم عن يساره (2) .
420 وسئل فضيلة الشيخ: هل تسوية جميع الصفوف وإقامتها من واجب الإمام بعينه أو هو واجب فردي على كل مصل؟
...
__________
(1) تقدم تخريجه ص28 وهو في البخاري.
(2) الإشارة هنا إلى حديث: "وسطوا الإمام وسدوا الخلل". رواه أبو داود في الصلاة باب مقام الإمام من الصف 1/439 (681) .(13/46)
فأجاب بقوله: المسئول الأول عن ذلك هو الإمام، فإن كان لا يستطيع أن يفعل ذلك بنفسه وكل من يقوم مقامه. ومع ذلك فعلى المأمومين نصيب من ذلك فليساعدوه.
421 وسئل فضيلة الشيخ: هل المرور بين صفوف المصلين يقطع الصلاة أو ينقص من أجر المصلي؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يضر إذا مر بين يدي الصفوف؛ لأن سترة الإمام سترة لهم، وقد أقر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبد الله بن عباس – رضي الله عنهما – حين مر بين يدي بعض الصف وهم يصلون في منى (1) .
422 وسئل فضيلة الشيخ: ماذا يسن للإمام أن يقول للمأمومين عند تسوية الصفوف؟
فأجاب بقوله: يقول ما يناسب الحال إذا رآهم لم يستووا قال: استووا، وإذا رآهم لم يتراصوا قال: تراصوا، وإذا رآهم لم يكملوا الصف الأول فالأول قال: أكملوا الصف الأول فالأول؛ لأن هذا القول ليس متعبداً به بذاته ولكنه يقال إذا دعت الحاجة إليه.
423 وسئل فضيلة الشيخ: يحرص بعض المصلين على الجهة اليمنى من الصف بينما يقل عدد المصلين في الجهة
__________
(1) روى حديثه البخاري في العلم باب متى يصح سماع الصغير (76) ومسلم في الصلاة، باب سترة المصلي 1/361 – 254 (504) .(13/47)
اليسرى فما حكم ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: من المعلوم أن يمين الصف أفضل من يساره، لكن هذا مع التقارب أو التساوي، أما إذا بعد اليمين فاليسار أفضل؛ لأنه يمتاز بقرب الإمام.
424 سئل فضيلة الشيخ: إذا كان في الصف طفل لم يبلغ السابعة، أو غير متوضئ أو يلعب ويأتي بحركات تبطل الصلاة، هل هذا يكون قاطعاً لاتصال الصف؟ وهل تشرع تنحيته من الصف؟ وهل يكون هذا الصف كالمقطوع بالسارية أم ماذا؟
فأجاب بقوله: قيام الطفل في الصف ليس قطعاً للصف، لكن إذا كان يشوش على المصلين فإنه يمنع. فيتصل بوليه ويقال له لا تأت به.
425 وسئل فضيلة الشيخ: هل يكفي أمر الإمام بتسوية الصفوف بدون توجيه المصلين والإشارة إلى بعض الأفراد المخالفين بالتقدم أو التأخر، خصوصاً وأن كثيراً من المصلين لا يلفت انتباهه إلى ما يقول الإمام نظراً لجهله أو نحو ذلك؟
فأجاب بقوله: لا يكفي ذلك، بل لابد أن يتفقدهم بعد أن يأمرهم بالتسوية. ويأمر من خالف السنة في التسوية والمراصة أن يوافقها. حرر في 29/2/1418هـ.
426 ...(13/48)
وسئل فضيلة الشيخ: عن قوم لا يسوون الصفوف في الصلاة ويتركون ثغرات بينهم؟
فأجاب بقوله: عدم تسوية الصفوف وترك ثغرات خطأ عظيم، فإن تسوية الصف من تمام الصلاة وقد أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتسويتها والتراص فيها (1) .
427 وسئل فضيلة الشيخ: أنا إمام مسجد أشكو من عدم تسوية المصلين صفوفهم عند إقامة الصلاة، فعندما أقول تراصوا يغضبون بل والعياذ بالله ترتفع أصواتهم في المسجد ويزعمون أن الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله لم يفعل ذلك فنرجو من فضيلتكم إرشادهم ونصحهم؟
فأجاب بقوله: المشروع للإمام إذا أقيمت الصلاة أن يستقبل المأمومين بوجهه ويأمرهم بإقامة الصفوف والتراص، ودليل ذلك حديث أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: أقيمت الصلاة فأقبل علينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بوجهه فقال: "أقيموا صفوفكم وتراصوا". أخرجه البخاري ومسلم (2) . ولما رأى رجلاً بادياً صدره في الصف
__________
(1) ولفظ الحديث: "سووا صفوفكم فإن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة". رواه البخاري في الأذان باب 74 إقامة الصف من تمام الصلاة (722) ، وفي رواية مسلم: "من تمام الصلاة". رواه في الصلاة باب 28 تسوية الصفوف 1/324 ح124 (433) .
(2) رواه البخاري في الأذان باب 72، إقبال الإمام على الناس عند تسوية الصفوف (719) ، ومسلم في الصلاة، باب 28 تسوية الصفوف 1/324 ح124 (433) بلفظ: "سووا صفوفكم".(13/49)
قال: "عباد الله لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم" (1) أي بين قلوبكم كما في رواية لأبي داود (2) فتوعدهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا لم يسووا صفوفهم أن يخالف الله بين قلوبهم، وقال النعمان بن بشير – رضي الله عنه -: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسوي – يعني الصفوف – إذا قمنا للصلاة فإذا استوينا كبر. رواه أبو داود (3) ، وفي الموطأ – موطأ الإمام مالك بن أنس – أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – كان يأمر بتسوية الصفوف فإذا جاؤوا فأخبروه أن الصفوف قد استوت كبر (4) ، وكان قد وكل رجالاً بتسوية الصفوف. وقال مالك بن أبي عامر: كنت مع عثمان بن عفان فقامت الصلاة وأنا أكلمه يعني في حاجة حتى جاء رجال كان قد وكلهم بتسوية الصفوف فأخبروه أن الصفوف قد استوت فقال لي استوفي الصف ثم كبر (5) .
فهذا عمل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعمل الخليفتين الراشدين عمر وعثمان – رضي الله عنهما – لا يكبرون للصلاة حتى تستوي الصفوف، وقد قال الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) وإذا فرط في هذا الأمر من فرط من بعض أئمة المساجد فإن السنة أحق بالاتباع.
...
__________
(1) رواه البخاري في الموضع السابق باب 71 تسوية الصفوف من قوله: "لتسون صفوفكم ... " (717"، ورواه مسلم بهذا اللفظ في الموضع السابق ح128 – (436) .
(2) رواه أبو داود في الصلاة، باب تسوية الصفوف 1/431 ح (662) ، (665) .
(3) تقدم تخريجه 41.
(4) رواه مالك في الصلاة، باب تسوية الصفوف 1/163 (422) و (423) .
(5) تقدم تخريجه أعلاه.(13/50)
وأما من قال: إن الشيخ عبد الرحمن السعدي – رحمه الله – لا يفعل كذلك.
فأنا أشهد على الشيخ – رحمه الله – أنه كان يتلفت إذا أقيمت الصلاة يميناً وشمالاً فإذا رأى تقدماً أو تأخراً قال: تقدموا يا طرف الصف أو تأخروا.
هذا وأسأل الله للجميع التوفيق لما يرضيه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. حرر في 10/7/1412هـ.
428 سئل فضيلة الشيخ – أعلى الله درجته – عن المعتمد في إقامة الصفوف؟ وهل يشرع للمصلي أن يلصق كعبه بكعب من بجانبه؟ أفتونا مأجورين.
فأجاب حفظه الله بقوله: الصحيح أن المعتمد في تسوية الصف محاذاة الكعبين بعضهما بعضاً لا رؤوس الأصابع، وذلك لأن البدن مركب على الكعب، والأصابع تختلف الأقدام فيها فهناك القدم الطويل، وهناك القدم القصير فلا يمكن ضبط التساوي إلا بالكعب.
وأما إلصاق الكعبين بعضهما ببعض فلا شك أنه وارد عن الصحابة – رضي الله عنهم – فإنهم كانوا يسوون الصفوف بإلصاق الكعبين بعضهما ببعض (1) ، أي أن كل واحد منهم يلصق كعبه
__________
(1) فيه إشارة لقول أنس بن مالك: وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه. رواه البخاري في الأذان باب 76 إلزاق المنكب ح (725) .(13/51)
بكعب جاره لتحقق المحاذاة وتسوية الصف، فهو ليس مقصوداً لذاته لكنه مقصود لغيره كما ذكر ذلك أهل العلم، ولهذا إذا تمت الصفوف وقام الناس ينبغي لكل واحد أن يلصق كعبه بكعب صاحبه لتحقق المساواة، وليس معنى ذلك أن يلازم هذا الإلصاق ويبقى ملازماً له في جميع الصلاة.
ومن الغلو في هذه المسألة ما يفعله بعض الناس من كونه يلصق كعبه بكعب صاحبه ويفتح قدميه فيما بينهما حتى يكون بينه وبين جاره في المناكب فرجة فيخالف السنة في ذلك، والمقصود أن المناكب والأكعب تتساوى.
429 وسئل فضيلة الشيخ: بعض المصلين خوفاً من وجود فرجة بينه وبين الذي بجانبه في الصلاة يضع إصبع رجليه على من بجانبه نرجو النصيحة؟
فأجاب بقوله: بعض الناس يظنون أن معنى قول الصحابة – رضي الله عنهم-: "وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه، وقدمه بقدمه" (1) أن أهم شيء أن تلزق الكعب، فتجده يلزق رجله ثم يحاول أيضاً أن يفركها؛ لأن الكعب لا يمكن يلزق في الكعب إلا إذا فركته، ولو تركها طبيعية لا يمكن.
ويقول ابن حجر في فتح الباري (2) : "إنهم يفعلون ذلك
__________
(1) رواه البخاري ح (725) ص51.
(2) الفتح 2/247.(13/52)
مبالغة في المراصة والتسوية" حتى يعرف الواحد منا أنه مساو لصاحبه؛ لأن الكعب هو الذي عليه البدن، فإذا تساوى الكعبان بحيث إن وضعنا كل واحد على الثاني معناه تساوينا، فهذا التساوي، والمناكب أيضاً إذا تساوت فهذا هو التساوي.
لكن بعض الناس تجده يحاول أن يلصق كعبه بكعب صاحبه، وأما من فوق فبينهما فرجة؛ لأن يفتح رجليه، وبالضرورة سوف ينفتح ما بين الكتفين.
والسنة هي التراص والتساوي بقدر الإمكان، وعلى وجه لا يؤذي؛ لأن التراص الذي يؤذي أيضاً لاشك أنه غير وارد شرعاً لكن التراص الذي يحصل به سد الخلل هذا هو المطلوب.
واعلموا أن الصحابة كانوا يتراصون، فعن جابر بن سمرة – رضي الله عنه – قال: خرج علينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: "مالي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شمس، أسكنوا في الصلاة". قال ثم خرج علينا فرآنا خلقاً، فقال: "مالي أراكم عزين". قال ثم خرج علينا فقال: "ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها" فقلنا: يا رسول الله! وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: "يتمون الصفوف الأول ويتراصون في الصف". رواه مسلم (1) .
ولا شك أنه يوجد في المسجد الحرام وفي غيره صفوف الفرج فيها ظاهرة جداً، وهذا خطأ والمبالغة التي ذكرها الأخ إلى حد أن يضع رجله على رجله هي خطأ أيضاً، وإنما يتراص الناس
__________
(1) في الصلاة باب 27 الأمر بالسكون في الصلاة 1/322 ح119 (430) .(13/53)
بحيث يمس المنكب، المنكب والقدم القدم حتى يتضح الأمر من التراص والتساوي.
430 سئل فضيلة الشيخ: ما معنى قول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يزال قوم يتأخرون عن الصلاة حتى يؤخرهم الله"؟
فأجاب بقوله: الحديث ليس كما قال السائل: "لا يزال قوم يتأخرون عن الصلاة" وإنما رأى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوماً يتأخرون في المسجد يعني: لا يتقدمون إلى الصفوف الأولى فقال: "لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله" (1) . ولا شك أيضاً أن التأخر عن الصلاة أشد من التأخر عن الصف الأول، وعلى هذا فيخشى على الإنسان إذا عود نفسه التأخر في العبادة أن يبتلى بأن يؤخره الله عز وجل في جميع مواطن الخير.
431 وسئل الشيخ: هل المصافة في الصلاة والمساواة بالأكعب أو بأطراف الأصابع، وسد الخلل في الصف؟ نرجو من فضيلتكم توضيح ذلك؟
فأجاب بقوله: المساواة إنما هي بالأكعب لا بالأصابع؛ لأن الكعب هو الذي عليه اعتماد الجسم؛ حيث إنه في أسفل الساق، والساق يحمل الفخذ، والفخذ يحمل الجسم، وأما الأصابع فقد تكون رجل الرجل طويلة فتتقدم أصابع الرجل
__________
(1) رواه مسلم في الصلاة باب 28 تسوية الصفوف 1/325 ح130 (438) .(13/54)
على أصابع الرجل الذي بجانبه وقد تكون قصيرة وهذا الاختلاف لا يضر، وليس التساوي بأطراف الأصابع بل بالأكعب، أكرر ذلك لأني رأيت كثيراً من الناس يجعلون مناط التسوية رؤوس الأصابع وهذا غلط.
وهناك أمر آخر يخطئ فيه المأمومون كثيراً، ألا وهو تكميل الصف الأول فالأول ولاسيما في المسجدين: المسجد الحرام والمسجد النبوي، فإنهم لا يبالون أن يصلوا أوزاعاً؛ أربعة هنا، وأربعة هناك، أو عشرة هنا وعشرة هناك، أو ما أشبه ذلك، وهذا لا شك أنه خلاف السنة.
والسنة إتمام الصف الأول فالأول حتى إن صلاة الرجل وحده خلف الصف والصف الذي أمامه لم يتم غير صحيحة وباطلة، ويجب عليه أن يعيدها؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى رجلاً يصلي وحده خلف الصف، فأمره أن يعيد الصلاة، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا صلاة لمنفرد خلف الصف" (1) .
فإن قال قائل: إذا ذهبت إلى طرف الصف فاتتني الركعة فهل أصلي وحدي خلف الصف اغتناماً لإدراك الركعة؟
نقول: لا، اذهب إلى طرف الصف ولو فاتتك الركعة، ولو كانت الركعة الأخيرة، لعموم قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما أدرتكم فصلوا وما فاتكم فأتموا" (2) ، وأنت مأمور بتكميل الصف الأول فالأول، فافعل ما أمرت به وما أدرك فصل وما فاتك فأتم.
وهنا تنبيه أرجو الله سبحانه وتعالى أن يجد آذاناً مصغية من
__________
(1) تقدم تخريجه ص"20".
(2) جزء من حديث أبي هريرة المتفق عليه، وتقدم تخريجه في ص8.(13/55)
إخواننا الأئمة والمأمومين وهو أن قول بعض الأئمة: إن الله لا ينظر إلى الصف الأعوج؛ لا يصح؛ حيث إن هذا الحديث لا يصح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
432 وسئل فضيلة الشيخ: هل المراد بقول الإمام: استووا واعتدلوا استقامة الصف واعتداله، أو أنه متضمن لسد الفرجات، وإلصاق القدم بالقدم، والمنكب بالمنكب؟ وما صحة الحديث الذي ورد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "لتسوون بين صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم" (1) فنرجو التوضيح والله يحفظكم؟
فأجاب بقوله: أولاً: يجب أن نعلم أن على الإمام مسئولية تسوية الصفوف، وأن يأمر الناس بذلك، وإذا لم يمتثلوا تقدم هو بنفسه إلى من تأخر عن الصف أو تقدم ليعدله؛ لأن نبينا وإمامنا وقدوتنا محمداً رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى آله وسلم كان يسوي الصفوف كأنما يسوي القداح، وكان يمر بالصف يمسح المناكب والصدور، ويأمرهم بالاستواء. والأئمة اليوم لا يفعلون ذلك، ولو فعلوا لقام الناس عليهم وصاحوا بهم، ولكن سنة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحق أن تتبع.
فعلى الإمام أن يعتني بتسوية الصفوف فيلتفت يميناً، ويستقبل الناس بوجهه، ويلتفت يساراً ويقول: استووا، سووا
__________
(1) متفق عليه من حديث النعمان بن بشير، وتقدم تخريجه في ص50.(13/56)
صفوفكم، لا تختلفوا قلوبكم، تراصوا، سدوا الخلل، كل هذه الكلمات وردت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى آله وسلم.
وقد خرج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوماً من الأيام بعد أن عقل الناس عنه تسوية الصفوف، وصاروا يسوونها بأنفسهم، فرأى رجلاً بادياً صدره، يعني متقدماً بعض الشيء، فقال: "عباد الله لتسون بين صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم" (1) . وهو حديث صحيح، وفيه وعيد شديد؛ لأن مخالفة الله بين الوجوه قيل فيها معنيان:
إما أن الله يدير وجه الإنسان فيكون وجهه إلى كتفه والعياذ بالله.
وإما أن المراد ليخالفن الله بين وجهات نظركم فتفترق القلوب وتختلف لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تختلفوا فتختلف قلوبكم" (2) . وأياً كان الأمر سواء لي الرقبة حتى يكون الوجه إلى جانب البدن، أو أن المراد اختلاف القلوب، فكله وعيد شديد، ويدل على وجوب تسوية الصفوف وأنه يجب على الإمام أن يعنى بتسوية الصف، لكن لو التفت ووجد الصف مستقيماً متراصاً والناس متساوون في أماكنهم، فالظاهر أنه لا يقول لهم استووا لأنه أمر بما قد حصل إلا أن يريد اثبتوا على ذلك.
لأن هذه الكلمات لها معناها، ليست كلمات تقال هكذا بلا فائدة، فالإمام إذا قال: استووا ورآهم لم يستووا، يجب أن يعيد القول وألا يكبر إلا وقد استوت الصفوف.
__________
(1) هذا بقية حديث النعمان وقد تقدم في الصفحة السابقة.
(2) رواه مسلم وتقدم تخريجه في ص22.(13/57)
ومما يدل على أهمية تسوية الصفوف في الصلاة أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، وكذلك عثمان رضي الله عنه لما كثر الناس جعل وكيلاً يمر بالصوف يسويها، حتى إذا جاء وقال إنها استوت كبر (1) .
وهذا يدل على عناية الشرع بتسوية الصف.
فإلصاق القدم بالقدم والمنكب بالمنكب لأمرين:
الأمر الأول: التسوية.
الأمر الثاني: سد الفرج والخلل. كما قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) : "المراد بذلك المبالغة في تعديل الصف وسد خلله" (2) . وبذلك يعلم خطأ من فهم من فعل الصحابة أنهم يفرجون بين أرجلهم حتى يلزق أحدهم قدمه بقدم صاحبه مع تباعد ما بين مناكبهم فإن هذا بدعة لا يحصل بها اتباع الصحابة – رضي الله عنهم – ولا يحصل بها سد الخلل.
433 وسئل فضيلة الشيخ: إذا أقيمت الصلاة وبدأ المصلون يعتدلون للصلاة يحصل في الصف الأول مثلاً بعض الفرج، فيأتي من كان في الصف الثاني ليقف في الصف الأول وربما حجز الناس بيديه لتوسعة المكان الذي يريد الوقوف فيه، فهل يمنع أهل الصف الأول مثل هذا الداخل أم يتركونه مع أنه قد يضيق بهم المكان؟
...
__________
(1) الإشارة إلى حديث رواه مالك سبق تخريجه في ص50.
(2) فتح الباري 2/247 مع شرح حديث أنس رقم (725) .(13/58)
فأجاب بقوله: لا يجوز لهذا الداخل أن يحجز الناس بيديه ليدخل في الفرجة التي كانوا يتهيئون لسدها؛ لأن في ذلك عدواناً على الغير والعدوان محرم.
أما إذا كانت هناك فرجة كبيرة ولم يسدها من هم بالصف الأول فلا بأس حينئذ أن يتقدم هذا ويقف في ذلك الموضع بشرط أن يسعه المكان ولا يحصل بذلك ضغط على الذين يقفون في الصف الأول.
434 وسئل فضيلة الشيخ: عن قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا صلاة لمنفرد خلف الصف" (1) فلو جاء أكثر من رجل، وأدركوا الإمام وهو راكع، ووقفوا في الصف الثاني لإدراك الركعة مع وجود فجوات من اليمين والشمال، هل نقول إن صلاتهم لا تصح وعليهم الإعادة؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا وقف اثنان خلف الصف الذي لم يتم، سواء خافوا فوات الركعة أم لم يخافوا، فصلاتهم صحيحة، لكنهم تركوا الأفضل، وهو إتمام الأول فالأول. ...
وأما صلاة المنفرد خلف الصف فالقول الراجح؛ إنك إذا وجدت الصف تاماً، فلا حرج عليك أن تصلي منفرداً (2) .
وأما أيهما أفضل الصلاة عن يمين الإمام أم عن يساره؟
__________
(1) تقدم تخريجه في ص20.
(2) يأتي حكم صلاة المنفرد خلف الصف مفصلاً إن شاء الله تعالى في المجلد الخامس عشر ص186.(13/59)
فجوابه: إذا كان يصلي مع الإمام إلا رجل واحد فإن المأموم يقف عن يمينه ولا يقف عن يساره، لحديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه بات عند خالته ميمونة - رضي الله عنها - فقام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالليل فقام ابن عباس عن يساره فأخذه ورائه وأقامه عن يمينه، فهذا دليل على أن المأموم إذا كان واحداً فإنه يكن عن اليمين ولا يكون عن اليسار، أما إذا كان المأموم أكثر من واحد فإنه يكون خلفه ويمين الصف أفضل من يساره وهذا إذا كانا متقاربين، فإذا بعد اليمين بعداً بيناً فإن اليسار والقرب من الإمام أفضل.
وعلى هذا فلا ينبغي للمأمومين أن يكونوا عن يمين الإمام حتى لا يبقى في اليسار إلا رجل أو رجلان، وذلك لأنه لما كان المشروع في حق الثلاثة أن يكون إمامهم بينهم كان أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره، ولم يكونوا كلهم عن اليمين، فدل هذا على أن يكون الإمام متوسطاً في الصف أو مقارباً.
والخلاصة: أن اليمين أفضل إذا كان متساويين أو متقاربين، وأما مع بعد اليمين فاليسار أفضل، لأنه أقرب إلى الإمام.
*(13/60)
التكبير ومواضع رفع اليدين في الصلاة.
* موضع اليدين في الصلاة.
*استعمال مكبرات الصوت في الصلاة.(13/61)
435 وسئل فضيلة الشيخ: هل ثبت رفع اليدين في الصلاة في غير المواضع الأربعة؟ وكذلك في صلاة الجنازة والعيدين؟
فأجاب فضيلته بقوله: المواضع الأربعة التي ترفع فيها اليدان يجب أولاً أن نعرفها وهي: عند تكبيرة الإحرام، وعند الركوع، وعند الرفع من الركوع، وعند القيام من التشهد الأول، فهذه المواضع صح بها الحديث عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من حديث ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: "كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرفع يديه إذا كبر للصلاة، وإذا كبر للركوع، وإذا قال سمع الله لمن حمده". قال: "وكان لا يفعل ذلك في السجود" (1) .
وإذا كان ابن عمر – رضي الله عنهما – الحريص على تتبع فعل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد تتبعه فعلاً فرآه يرفع يده في التكبير، وفي الركوع وفي الرفع منه، والقيام من التشهد الأول وقال: "وكان لا يفعل ذلك في السجود" ولا يقال: إن هذا من باب المثبت والنافي، وأن من أثبت الرفع فهو مقدم على النافي في حديث ابن عمر؛ لأن حديث ابن عمر صريح بأنه تأكد من عدم الرفع، فالذي يشاهده إذا رفع للركوع والرفع من الركوع ثم يقول لا يفعل ذلك في السجود، فهل نقول إنه يمكن غفل ولم ينتبه؟ لا يمكن ذلك؛ لأنه جزم بأنه لم يفعله في السجود وجزم بأنه كان يفعله في الركوع وفي الرفع منه.
__________
(1) رواه البخاري في الأذان، باب 83 رفع اليدين في التكبيرة الأولى مع الافتتاح سواء. ح (735) ، ورواه مسلم في الصلاة باب 9، "استحباب رفع اليدين ... " ح21 و22 (390) .(13/63)
436 سئل فضيلة الشيخ: هل ورد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يفرق بين الفظة التكبير "الله أكبر" بزيادة مد أو نقصان في القيام أو الجلوس للتشهد الأول أو الأخير، كما تعارف عليه الناس.
فإن كان لم يرد فما موقف الإمام بالنسبة للمأمومين هل يوافقهم على ما اعتادوا عليه أو يجعل ألفاظ التكبير "الله أكبر" على وتيرة واحدة؟
وما الجواب على هذه الإشكالات:
1- ما يحدث للناس من مخالفة الإمام بسبب التعود على إطالة المد خاصة عند التشهد الأول والأخير.
2- ما يحدث للمسبوق من مخالفة الإمام.
3- هناك من النساء من تخالف الإمام وذلك سبب عدم "مد التكبير" وغالباً يكون ذلك عند التشهد الأول أو التشهد الأخير، خاصة والنساء لا يتسنى لهن رؤية الإمام.
4- بعض المساجد يكون فيها الصف طويلاً فلا يتسنى للمصلي رؤية الإمام.
5- ما يحدث للأعمى في أي حالة من الحالات السابقة.
كما نرجو يا فضيلة الشيخ إيضاح الأصل فيما لم يرد عن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهل يتوقف فيه أو ينظر للمصلحة العامة؟
فأجاب فضيلته بقوله: لم يرد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا عن خلفائه الراشدين ولا عن الصحابة فيما أعلم، ولا عن أئمة وأتباعهم التفريق بين تكبيرات الانتقال، بحيث يجعل للجلوس هيئة معينة(13/64)
كمد التكبير وللقيام هيئة أخرى مخالفة، ولا رأيت هذا في كتب الفقهاء – رحمهم الله – وغاية ما رأيت أن بعض الفقهاء استحب مد تكبير السجود من القيام والقيام من السجود حتى يستوعب التكبير ما بين الركنين القيام والقعود، ولم أجد لذلك دليلاً سوى هذا التعليل.
وبناء على ذلك فإن الأولى عدم التفريق بين التكبيرات اتباعاً للسنة؛ ولأن في عدم التفريق حملاً للمأمومين على الانتباه وحضور القلب، وضبط عدد الركعات؛ لأنه يعتمد على نفسه فيكون منتبهاً وقلبه حاضراً، أما إذا كان الإمام يفرق بين التكبير فإنه يعتمد على الفرق بين التكبيرات فيسهو قلبه.
وأما مشكلة النساء فإن أكثر الأوقات لا يكون في المسجد نساء، وإذا كان فيه نساء واعتدن على عدم التفريق زال عنهن الإشكال.
وأما المسبوق فهو يشاهد الناس إن قاموا قام، وإن قعدوا قعد والأعمى ينبهه من كان بجانبه على أن مشكلة الأعمى قليلة ولله الحمد.
وأما مخالفة بعض المأمومين للإمام إذا لم يفرق وذلك لعدم انتباههم وسهوهم فهم الذين أخلوا على أنفسهم ولو انتبهوا لعلموا أن الإمام قاعد أو قائم بدون أن يفرق بين التكبير.
وأما عدم رؤية الإمام فليس من شرط إمكان المتابعة رؤية الإمام فالداخل مع الإمام يعرف ما الإمام فيه بانتباهه لا برؤية الإمام، والمسبوق يعرف ذلك بجاره ولو طال الصف.
...(13/65)
والأصل فيما لم يرد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من العبادات وهيئاتها أو صفاتها الإمساك حتى يرد ذلك، والمصلحة كل المصلحة في اتباع ما ورد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك.
وأرجو من إخواني إذا عثروا على دليل من قوله أو فعله حجة في التفريق بين التكبير أن يدلوني عليه فإني لهم عليه شاكر وله منقاد إن شاء الله. والله الموفق. حرر في 13/6/1409هـ.
437 وسئل فضيلة الشيخ: عن حكم رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام، وعند الركوع، وعند الرفع منه، وعند القيام من التشهد الأول؟
فأجاب فضيلته بقوله: رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام، وعند الركوع، وعند الرفع منه، وعند القيام من التشهد الأول سنة.
438 سئل فضيلة الشيخ: إذا أدرك الإنسان الإمام وهو راكع فهل يلزمه تكبيرة للإحرام وتكبيرة للركوع؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا دخل المسبوق في الصلاة والإمام راكع فإنه يلزمه تكبيرة الإحرام وهو قائم، ثم تكبيرة الركوع إن شاء كبر وإن شاء لم يكبر، تكون تكبيرة الركوع في هذه الحال مستحبة، هكذا قال أهل العلم – رحمهم الله -.(13/66)
439 سئل فضيلة الشيخ – حفظه الله -: إذا أدرك المأموم الإمام راكعاً فهل يكبر تكبيرتين؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا دخل الإنسان والإمام راكع ثم كبر للإحرام فليركع فوراً وتكبيره للركوع حينئذ سنة وليس بواجب، فإن كبر للركوع فهو أفضل، وإن تركه فلا حرج عليه ثم بعد ذلك لا يخلو من حالات:
* الحال الأولى:
أن يتيقن أنه وصل إلى الركوع قبل أن ينهض الإمام منه، فيكون حينئذ مدركاً للركعة وتسقط عنه الفاتحة في هذه الحال.
* الحال الثانية:
أن يتيقن أن الإمام رفع من الركوع قبل أن يصل هو إلى الركوع وحينئذ تكون الركعة قد فاتته ويلزمه قضاؤها.
* الحال الثالثة:
أن يتردد ويشك هل أدرك الإمام في ركوعه أو أن الإمام رفع قبل أن يدركه في الركوع وفي هذه الحال يبني على غالب ظنه فإن ترجح عنده أنه أدرك الإمام في الركوع فقد أدرك الركعة وإن ترجح عنده أنه لم يدرك الإمام في الركوع فقد فاتته الركعة وفي هذه الحال إن كان قد فاته شيء من الصلاة فإنه يسجد للسهو بعد السلام وإن لم يفته شيء من الصلاة بأن كانت الركعة المشكوك فيها هي الركعة الأولى وغلب على ظنه أنه أدركها فإن سجود السهو في هذه الحال يسقط عنه لارتباط صلاته بصلاة الإمام، والإمام يتحمل سجود(13/67)
السهو عن المأموم إذا لم يفت المأموم شيء من الصلاة.
وهناك حال أخرى في حال الشك يكون الإنسان متردداً في إدراك الإمام راكعاً بدون ترجيح، ففي هذه الحال يبني على المتيقن وهو عدم الإدراك لأنه الأصل وتكون هذه الركعة قد فاتته ويسجد للسهو قبل السلام.
وهاهنا مسألة أحب أن أنبه لها في هذه المناسبة وهي أن كثيراً من الناس إذا دخل المسجد والإمام راكع صار يتنحنح بشدة وتتابع، وربما يتكلم "إن الله مع الصابرين" وربما يخبط بقديمه وكل هذا خلاف السنة، وفيه إحداث التشويش على الإمام وعلى المأمومين، ومن الناس من إذا دخل والإمام راكع أسرع إسراعاً قبيحاً، وقد نهى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم السكينة والوقار ولا تسرعوا، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا" (1) .
440 سئل فضيلة الشيخ وفقه الله تعالى: إذا نسي المصلي أن يرفع يديه عند تكبيرة الإحرام فماذا عليه؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا نسي المصلي أن يرفع يديه عند تكبير الإحرام فلا شيء عليه؛ لأن رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام
__________
(1) متفق عليه من حديث أبي هريرة, رواه البخاري في الأذان باب 21 – لا يسعى إلى الصلاة وليأت بالسكينة والوقار ح (636) ، ورواه مسلم في المساجد باب 28 – استحباب إتيان الصلاة بوقار ح151 (602) .(13/68)
سنة إن فعله الإنسان كان مأجوراً وإن تركه فليس عليه شيء.
ورفع اليدين يكون في أربعة مواضع:
1- عند تكبيرة الإحرام.
2- عند الركوع.
3- عند الرفع منه.
4- عند القيام من التشهد الأول.
وأما السجود والقيام منه فليس فيه رفع يدين.
441 وسئل فضيلته: ما حكم رفع اليدين في الصلاة؟ ومتى يكون؟ وهل يشرع رفع اليدين في صلاة الجنازة؟
فأجاب فضيلته بقوله: رفع اليدين في الصلاة له أربعة مواضع: عند تكبيرة الإحرام، وعند الركوع، وعند الرفع منه، وعند القيام من التشهد الأول.
ويكون ابتداء الرفع مع ابتداء التكبير، وله أن يرفع ثم يكبر، أو يكبر ثم يرفع.
أما عند الركوع فإذا أراد أن يهوي إلى الركوع رفع يديه ثم أهوى ووضع يديه على ركبتيه.
وعند الرفع من الركوع يرفع يديه عن ركبتيه رافعاً لها حتى يستوي قائماً ثم يضعهما على صدره.
وفي القيام من التشهد الأول إذا قام رفع يديه إلى حذو(13/69)
المنكبين كما يكون كذلك عند تكبيرة الإحرام. وما عدا هذه المواضع الأربعة فإنه لا يرفع يديه.
أما رفع اليدين في صلاة الجنازة فإنه مشروع في كل تكبيرة.
442 سئل فضيلة الشيخ: هل ثبت رفع اليدين في الصلاة في غير المواضع الأربعة؟ وما الجواب عما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يرفع يديه في كل خفض ورفع؟
فأجاب فضيلته بقوله: قال السائل رفع اليدين في غير المواضع الأربعة وهذا يحتاج إلى بيان، فالمواضع الأربعة:
عند تكبيرة الإحرام، وعند الركوع، وعند الرفع من الركوع، وعند القيام من التشهد الأول فهذه المواضع صح بها الحديث عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من حديث ابن عمر – رضي الله عنهما (1) – أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "كان يرفع يديه إذا كبر للصلاة، وإذا كبر للركوع، وإذا قال سمع الله لمن حمده، وإذا قام من التشهد الأول، قال: وكان لا يفعل ذلك في السجود".
فهذه المواضع صح بها الحديث عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أما ما عداها فلم يثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يرفع يديه لا إذا سجد، ولا إذا قام من السجود، وعلى هذا فلا يسن للإنسان أن يرفع يديه إذا سجد، ولا إذا قام من السجود.
وأما ما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أنه يرفع يديه في كل خفض
__________
(1) رواه البخاري ومسلم، وتقدم في ص63.(13/70)
ورفع" فقد حقق ابن القيم – رحمه الله – في زاد المعاد (1) أن ذلك وهم من الراوي، أراد أن يقول: "كان يكبر في كل خفض ورفع" فقال: "كان يرفع يديه في كل خفض ورفع". ...
وإذا كان ابن عمر – رضي الله عنهما – وهو الحريص على تتبع فعل الرسول عليه الصلاة والسلام وقد تتبعه فعلاً فرآه يرفع يديه في التكبير، والركوع، والرفع منه، والقيام من التشهد الأول وقال: "لا يفعل ذلك في السجود". فهذا أصح من حديث أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "كان يرفع يديه كلما خفض وكلما رفع" (2) ، ولا يقال: إن هذا من باب المثبت والنافي، وأن من أثبت الرفع فهو مقدم على النافي في حديث ابن عمر – رضي الله عنهما – لأن حديث ابن عمر صريح في أن نفيه ليس لعدم علمه بالرفع، بل لعلمه بعدم الرفع، فقد تأكد ابن عمر من عدم الرفع وجزم بأنه لم يفعله في السجود، مع أنه جزم بأنه فعله في الركوع، والرفع منه وعند تكبيرة الإحرام، والقيام من التشهد الأول.
فليست هذه المسألة من باب المثبت والنافي التي يقدم فيها المثبت لاحتمال أن النافي كان جاهلاً بالأمر، لأن النافي هنا كان نفيه عن علم وتتبع وتقسيم فكان نفيه نفي علم لا احتمال للجهل فيه فتأمل هذا فإنه مهم مفيد، والله أعلم.
__________
(1) زاد المعاد 1/223.
(2) رواه أبو داود في الصلاة باب رفع اليدين في الصلاة (723) .(13/71)
443 وسئل فضيلة الشيخ: هل رفع اليدين في الصلاة منسوخ؟
فأجاب فضيلته بقوله: رفع اليدين في المواضع الأربعة التي أشرنا إليها (1) ليس منسوخاً، فهو باق ولا دليل على نسخه. وإذا لم يكن هناك دليل على نسخ ما ثبت فيجب اعتباره، ودعوى النسخ تحتاج إلى شرطين أساسيين:
الأول: أن لا يمكن الجمع بين الدليلين.
الثاني: أن يعلم التاريخ.
فإن أمكن الجمع بين الدليلين عمل به، لأن الجمع بين الدليلين أعمال لهما جميعاً وهو واجب متى أمكن، وإن لم يمكن الجمع ولم نعلم التاريخ رجعنا إلى المرجح وإن لم يوجد مرجح وجب التوقف حتى يتبين الأمر.
444 وسئل فضيلته: بعض الناس عند تكبيرة الإحرام لا يرفع يديه إلى المنكبين بل يرفع يديه قريباً من السرة أو فوقها بقليل فهل هذا الرفع مشروع؟
فأجاب بقوله: هذا الرفع الذي ذكر السائل ليس رفعاً مشروعاً، بل هو عبث منهي عنه؛ لأن الرفع المشروع إما إلى المنكبين، وإما إلى فروع الأذنين، وما تقاصر عن ذلك فهو قصور عن السنة فينهى عنه، ويقال: إما أن ترفع كاملاً وإما أن تتركه فينبه ويعلم بالسنة.
__________
(1) انظر ص63.(13/72)
445 وسئل فضيلة الشيخ – جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيراً -: هل ورد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وضع اليدين أثناء الوقوف في الصلاة على أعلى الصدر؟ وعن حديث وضع اليدين تحت السرة؟
فأجاب فضيلته بقوله: وضع اليدين أثناء القيام ليس فيه حديث صحيح بين في هذا الأمر، وأمثل ما فيه حديث وائل بن حجر (1) أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "كان يضعهما على صدره" لا أعلى الصدر. وأما حديث أنه "يضعها تحت السرة" فإنه حديث ضعيف (2) .
446 سئل فضيلة الشيخ وفقه الله وغفر الله: هل يجب الجهر في صلاة الفجر، والمغرب، والعشاء؟ وإذا تعمد الإمام ترك الجهر في الصلاة الجهرية؟ وإذا صلى الإنسان منفرداً فهل يجهر؟ وإذ ترك الجهر فهل يسجد للسهو؟ وهل يشرع للمرأة رفع يديها في مواضع الرفع؟
فأجاب فضيلته بقوله: الجهر بالقراءة في الصلاة الجهرية ليس على سبيل الوجوب بل هو على سبيل الأفضلية، فلو أن الإنسان قرأ سراً فيما يشرع فيه الجهر لم تكن صلاته باطلة، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن" (3) ولم يقيد هذه
__________
(1) رواه ابن خزيمة في الصلاة، باب وضع اليمين على الشمال (479) ، والبيهقي 2/30.
(2) رواه الإمام أحمد 1/110، وأبو داود في الصلاة، باب وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة (756) .
(3) متفق عليه من حديث عبادة بن الصامت، رواه البخاري في الأذان باب 95 – وجوب القراءة للإمام و (756) ، ومسلم في الصلاة باب 11 – وجوب قراءة الفاتحة 1/295 ح34 (394) كلاهما من حديث عبادة بن الصامت.(13/73)
القراءة بكونها جهراً أو سراً، فإذا قرأ الإنسان ما يجب قراءته سراً أو جهراً فقد أتى بالواجب، لكن الأفضل الجهر فيما يسن فيه الجهر مما هو معروف كصلاة الفجر والجمعة.
ولو تعمد الإنسان وهو إمام ألا يجهر فصلاته صحيحة لكنها ناقصة.
أما المنفرد إذا صلى الصلاة الجهرية فإنه يخير بين الجهر والإسرار وينظر ما هو أنشط له وأقرب إلى الخشوع فيقدم به. ...
أما لو ترك القراءة في الصلاة الجهرية سهواً فإنه يسجد للسهو، ولكن لا على سبيل الوجوب؛ لأنه لا يبطل الصلاة عمده، وكل قول أو فعل لا يبطل الصلاة عمده لا تركاً ولا فعلاً فإنه لا يوجب سجود السهو.
وأما رفع اليدين فإنه مشروع في حق النساء كما هو مشروع في حق الرجال لأن الأصل أن ما ثبت في حق الرجال ثبت في حق النساء، وما ثبت في حق النساء ثبت في حق الرجال إلا بدليل يدل على خلاف ذلك.
447 سئل فضيلة الشيخ: كثر في الآونة الأخيرة استعمال أئمة المساجد لمكبرات الصوت الخارجية والتي غالباً ما تكون في المئذنة وبصوت مرتفع جداً وفي هذا العمل تشويش بعض المساجد على بعض في الصلاة الجهرية لاستعمالهم المكبرات(13/74)
في القراءة. فما حكم استعمال مكبرات الصوت في الصلاة الجهرية إذا كان مكبر الصوت في المئذنة ويشوش على المساجد الأخرى؟ نرجو من فضيلتكم الإجابة على هذا السؤال حيث إن كثير من أئمة المساجد في حرج من ذلك. والله يحفظكم ويرعاكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فأجاب بقوله: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته: ما ذكرتم من استعمال مكبر الصوت في الصلاة الجهرية على المنارة فإنه منهي عنه؛ لأنه يحصل به كثير من التشويش على أهل البيوت والمساجد القريبة، وقد روى الإمام مالك رحمه الله في الموطأ 1/167 من شرح الزرقاني في (باب العمل في القراءة) عن البياضي فروة بن عمرو – رضي الله عنه – أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج على الناس وهم يصلون وقد علت أصواتهم بالقراءة فقال: "إن المصلي يناجي ربه فلينظر بما يناجيه به ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن" (1) . وروى أبو داود 2/38 (2) تحت عنوان: (رفع الصوت بالقراءة في صلاة الليل) عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال: اعتكف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة فكشف الستر وقال: "ألا إن كلكم مناج ربه فلا يؤذين بعضكم بعضاً، ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة، أو قال في الصلاة". قال ابن عبد البر: حديث البياضي وأبي سعيد ثابتان صحيحان.
...
__________
(1) تقدم تخريجه ص14.
(2) تقدم تخريجه ص14.(13/75)
ففي هذين الحديثين النهي عن الجهر بالقراءة في الصلاة حيث يكون فيه التشويش على الآخرين وأن في هذا أذية ينهى عنها. قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله 23/61 من مجموع الفتاوى: ليس لأحد أن يجهر بالقراءة بحيث يؤذي غيره كالمصلين.
وفي جواب له 1/350 من الفتاوى الكبرى ط قديمة: ومن فعل ما يشوش به على أهل المسجد، أو فعل ما يفضي إلى ذلك منع منه. أهـ.
...
وأما ما يدعيه من يرفع الصوت من المبررات فجوابه من وجهين:
الأول: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى أن يجهر بعض الناس على بعض في القرآن وبين أن ذلك أذية، ومن المعلوم أنه لا اختيار للمؤمن ولا خيار له في العدول عما قضى به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال الله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) .
ومن المعلوم أيضاً أن المؤمن لا يرضى لنفسه أن تقع منه أذية لإخوانه.
الوجه الثاني: أن ما يدعيه من المبررات – إن صح وجودها – فهي معارضة بما يحصل برفع الصوت من المحذورات فمن ذلك:
1- الوقوع فيما نهى عنه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من النهي عن جهر المصلين بعضهم على بعض.(13/76)
2- أذية من يسمعه من المصلين وغيرهم ممن يدرس علماً أو يتحفظه بالتشويش عليهم.
3- شغل المأمومين في المساجد المجاورة عن الاستماع لقراءة إمامهم التي أمروا بالاستماع إليها.
4- أن بعض المأمومين في المساجد المجاورة قد يتابعون في الركوع والسجود الإمام الرافع صوته، لاسيما إذا كانوا في مسجد كبير كثير الجماعة حيث يلتبس عليهم الصوت الوافد بصوت إمامهم، وقد بلغنا أن ذلك يقع كثيراً.
5- أنه يفضي إلى تهاون بعض الناس في المبادرة إلى الحضور إلى المسجد؛ لأنه يسمع صلاة الإمام ركعة ركعة، وجزءاً جزءاً فيتباطأ اعتماداً على أن الإمام في أول الصلاة فيمضي به الوقت حتى يفوته أكثر الصلاة أو كلها.
6- أنه يفضي إلى إسراع المقبلين إلى المسجد إذا سمعوا الإمام في آخر قراءته كما هو مشاهد، فيقعون فيما نهى عنه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الإسراع بسبب سماعهم هذا الصوت المرفوع.
7- أنه قد يكون في البيوت من يسمع هذه القراءة وهم في سهو ولغو كأنما يتحدون القارئ وهذا على عكس ما ذكره رافع الصوت من أن كثيراً من النساء في البيوت يسمعن القراءة ويستفدن منها وهذه الفائدة تحصل بسماع الأشرطة التي سجل عليها قراءة القراءة المجيدين للقراءة.
وأما قول رافع الصوت إنه قد يؤثر على بعض الناس فيحضر ويصلي لاسيما إذا كان صوت القارئ جميلاً، فهذا قد يكون حقاً،(13/77)
ولكنه فائدة فردية منغمرة في المحاذير السابقة.
والقاعدة العامة المتفق عليها: أنه إذا تعارضت المصالح والمفاسد، وجب مراعاة الأكثر منها والأعظم، فحكم بما تقتضيه فإن تساوت فدرء المفاسد أولى من جلب المصالح.
فنصيحتي لإخواني المسلمين أن يسلكوا طريق السلامة، وأن يرحموا إخوانهم المسلمين الذين تتشوش عليهم عباداتهم بما يسمعون من هذه الأصوات العالية حتى لا يدري المصلي ماذا قال ولا ماذا يقول في الصلاة من دعاء وذكر وقرآن.
ولقد علمت أن رجلاً كان إماماً وكان في التشهد وحوله مسجد يسمع قراءة إمامه فجعل السامع يكرر التشهد لأنه عجز أن يضبط ما يقول فأطال على نفسه وعلى من خلفه.
ثم إنهم إذا سلكوا هذه الطريق وتركوا رفع الصوت من على المنارات حصل لهم مع الرحمة بإخوانهم امتثال قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يجهر بعضكم على بعض في القرآن" (1) . وقوله: "فلا يؤذين بعضهم بعضاً، ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة" (2) . ولا يخفى ما يحصل للقلب من اللذة الإيمانية في امتثال أمر الله ورسوله وانشراح الصدر لذلك وسرور النفس به.
وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان. كتبه الفقير إلى ربه محمد الصالح العثيمين.
__________
(1) تقدم تخريجه ص14.
(2) تقدم تخريجه ص14.(13/78)
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد الصالح العثيمين إلى....
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
فقد فشا في الآونة الأخيرة استعمال كثير من الأئمة لمكبر الصوت الذي فوق المنارة لتسمع منه الصلاة تكبيرها وقراءتها في الصلوات الخمس.
وهذا أمر لا تدعو الحاجة إليه، فإن الإمام إنما يصلي بأهل المسجد لا بمن كان خارجه وهو مع ذلك يوقع في أمور منها:
* أن بعض الناس قد يتهاون في المبادرة إلى حضور المسجد؛ لأنه يسمع الصلاة ركعة ركعة، وجزءاً جزءاً، فيتباطأ اعتماداً على أن الإمام في أول الصلاة، فيمضي به الوقت حتى ربما تفوته الصلاة.
* ومنها: أن المقبل إلى المسجد وهو يسمع قراءة الإمام قريبة الانتهاء تجده يسرع إسراعاً يوقعه في النهي رغبة في إدراك الركوع.
* ومنها: أن في ذلك تشويشاً وأذية لمن يسمعه من المصلين في البيوت والمساجد كما اشتكى من ذلك بعض الناس، حتى أخبرني أحدهم أن بعض المصلين في مسجد أمن بتأمين إمام مسجد آخر سمع صوته، وكبر آخر بتكبيره، وعلمت أن رجلاً تشوش عليه التشهد لسماعة قراءة إمام مسجد آخر.
...(13/79)
ولا يخفى ما رواه الإمام مالك في الموطأ (1) 1/167 شرح الزرقاني في باب العمل في القراءة عن البياضي (فروة بن عمرو) – رضي الله عنه – أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج على الناس وهم يصلون وقد علت أصواتهم بالقراءة فقال: "إن المصلي يناجى ربه فلينظر بما يناجيه به، ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن". وما رواه أبو داو (2) 2/38 تحت عنوان: رفع الصوت بالقراءة في صلاة الليل، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: اعتكف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة فكشف الستر وقال: "ألا إن كلكم مناج ربه فلا يؤذين بعضكم بعضاً ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة، أو قال في الصلاة". وقد نقل الزرقاني في شرح الموطأ عن ابن عبد البر أنه قال: حديث البياضي وأبي سعيد ثابتان صحيحان.
وفي مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيميه لابن قاسم 23/64: ليس لأحد أن يجهر بالقراءة بحيث يؤذي غيره كالمصلين. ومن جواب له 1/305 من الفتاوى المطبوعة قديماً: ومن فعل ما يشوش به على أهل المسجد أو فعل ما يفضي إلى ذلك منع منه. أهـ.
وما ذكره الشيخ – رحمه الله تعالى – موافق لما دل عليه الحديثان المذكوران. ويزداد المنع قوة حين يكون التشويش أعظم إذا فتحت نوافذ المساجد أو كان الناس يصلون في الرحبات وفي
__________
(1) تقدم تخريجه في ص14.
(2) تقدم تخريجه في ص14.(13/80)
إغلاقها درء لما يحصل من التشويش والأذية ولا مانع أن يستثنى من ذلك المسجدان المكي والنبوي، وكذلك الجوامع في صلاة الجمعة؛ لأنه ربما يكون بعض المصلين خارج المسجد فيحتاجون إلى سماع صوت الإمام بشرط أن لا تكون الجوامع متقاربة يشوش بعضها على بعض، فإن كانت كذلك فإنه توضع سماعات على جدار المسجد تسمع منها الخطبة والصلاة وتلفى حينئذ سماعات المنارة لتحصل الفائدة بدون أذية للآخرين.
هذا وأسأل الله تعالى للجميع التوفيق لما يحبه ويرضاه وأن يجعلنا جميعاً صالحين مصلحين وهداة مهتدين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. حرر في 7/7/1407هـ.
448 ...(13/81)
وسئل فضيلة الشيخ: عن حكم استعمال مكبر الصوت في الصلاة الجهرية؟ وما رأي فضيلتكم فيمن يكره الصلاة في المسجد الذي فيه مكبر صوت ويتعرض لعرض من يستعمله؟ وبعض الناس يرى تحريمه؟
فأجاب بقوله: الذي أرى أن استعمال مكبر الصوت أثناء الصلاة إذا كان فيه تشويش على أهل البيوت أو المساجد التي حوله فإنه منهي عنه، لما فيه من أذية المسلمين والتشويش عليهم في صلواتهم، وقد بلغني أن بعض المصلين في المساجد التي حول من يستعملون مكبر الصوت ربما يؤمنون على قراءة المسجد الذي فيه مكبر الصوت، وربما يتابعونه دون إمامهم وفي هذا من الإخلال بصلاة الآخرين ما يقتضي المنع من استعمال مكبر الصوت، وقد أخرج الإمام مالك في الموطأ (1) 1/167 من شرح الزرقاني في (باب العمل في القراءة) عن البياضي فروة بن عمرو – رضي الله عنه – أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج على الناس وهم يصلون وقد علت أصواتهم بالقراءة، فقال: "إن المصلي يناجي ربه فلينظر بما يناجيه به ولا يجهر بعضهم على بعض في القرآن". وأخرج أبو داود 2/38 (2) تحت عنوان: (رفع الصوت بالقراءة في صلاة الليل) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: اعتكف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسمعهم يجهرون بالقراءة فكشف الستر وقال: "ألا إن كلكم مناج ربه فلا
__________
(1) تقدم تخريجه ص13.
(2) تقدم تخريجه ص14.(13/82)
يؤذين بعضكم بعضاً ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة، أو قال في الصلاة". قال ابن عبد البر: حديث البياضي، وأبي سعيد، ثابتان، صحيحان.
وقال شيخ الإسلام ابن تيميه 23/61 مج الفتاوى: ليس لأحد أن يجهر بالقراءة بحيث يؤذي غيره كالمصلين. وفي جواب له 1/305 من الفتاوى الكبرى: ومن فعل ما يشوش به على أهل المسجد، أو فعل ما يفضي إلى ذلك منع منه. أهـ.
أما إذا كان استعمال مكبر الصوت لا يشوش على أحد، ولا يؤذي أحداً بحيث تكون السماعات داخل المسجد، فهذا إن كان فيه مصلحة كتنشيط القارئ والمصلين، أو كان له حاجة مثل: أن يكون المسجد كبيراً، أو يكون صوت الإمام ضعيفاً فلا بأس به، وقد يترجح جانب استعماله على جانب تركه.
وإن لم يكن في ذلك مصلحة ولا له حاجة فلا يستعمل لأن في ذلك استهلاكاً للكهرباء، واستعمالاً بلا مصلحة ولا حاجة وفي ذلك ما فيه.
وأما ما ذكرتهم من أن بعض الناس يكره الصلاة في المسجد الذي فيه مكبر الصوت وربما تحول عنه إلى مسجد آخر، وربما تعرض لعرض من يستعمله، فلا وجه لكراهته هذه، ولا ينبغي له أن يتحول عن المسجد من أجل هذا السبب؛ لأن الأحكام الشرعية لا تتبع أذواق الناس وما يهوونه، بل هي مضبوطة بحدود من قبل الله ورسوله، ولهذا يعبر الله تعالى عن كثير من الأحكام بأنها حدوده، فإن كانت أوامر قال: "فلا تعتدوها" وإن كانت نواهي قال: "فلا تقربوها".
...(13/83)
وأما تعرضه لعرض من يستعمله فإنه في الحقيقة إنما يضر نفسه بانتهاك عرض أخيه، ولا يخفى أن الغيبة من كبائر الذنوب كما يدل على ذلك ظاهر القرآن والسنة، وقد نص الإمام أحمد على أنها من الكبائر.
قال صاحب النظم ابن عبد القوي:
وقد قيل صغرى غيبة ونميمة وكلتاهما كبرى على نص أحمد
وأما ما ذكرتهم من أن بعض الناس يرى تحريم استعمال مكبر الصوت، فهذا إن كان يرى ذلك في الحال التي يكون فيها تشويش أو أذية، فرأيه قريب؛ لأن الأصل أن أذية المسلمين والتشويش عليهم في عباداتهم التحريم لقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً) . ولنهي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المصلين عن أذية بعضهم بعضاً والتشويش عليهم بالجهر بالقراءة كما سبق.
وإن كان يرى تحريم استعمال مكبر الصوت بكل حال فلا وجه لرأيه؛ لأن التحريم لا يثبت إلا بدليل شرعي، والأصل في غير العبادات الحل حتى يقوم دليل التحريم لقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) .
ولا يحل لأحد أن يقول عن شيء إنه حلال أو حرام إلا بدليل لقوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) . وقوله تعالى: (وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ* مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) .
...(13/84)
فتحريم ما أحل الله كتحليل ما حرم الله إن لم يكن أعظم، لما يحصل في التحريم من الإشقاق على الناس والتضييق عليهم، والرب عز وجل يريد بعباده اليسر ولا يريد بهم العسر، وهو سبحانه يحب أن تؤتى رخصه التي فيها إسقاط لما أصله واجب، أو تحليل لما أصله محرم لما في ذلك من التخفيف والتيسير، فكما أن على المسلم أن يحترز في تحليل الحرام فعليه أن يحترز في تحريم الحلال أولى.
449 سئل فضيلة الشيخ: أنا إمام مسجد في وسط حي وعندما أقوم بقراءة القرآن بمكبر الصوت في الصلاة الجهرية يوجد عندي من الإخوان المأمومين من يعارض ذلك ويقول إنه لا يصلح ذلك الشيء، علماً بأن من سمع القراءة في صلاة الفجر يحاول إدراك الصلاة مع الجماعة، أرجو الجواب من فضيلتكم حفظكم الله لما فيه الخير والسداد للإسلام والمسلمين؟ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فأجاب فضيلته بقوله: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، الصواب معهم، ولا ينبغي لك أن تصلي بمكبر الصوت الخارجي لا صلاة الفجر ولا غيرها؛ لأن ذلك يشوش على من حولك من المصلين في المساجد أو في البيوت من النساء أو المعذورين.
والصلاة جماعة لأهل المسجد لا لمن كان خارجه. حرر في 17/7/1412هـ.(13/85)
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد الصالح العثيمين إلى المكرم إمام مسجد. حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فإنكم – بارك الله فيكم – تظهرون الصلاة والقراءة فيها في مكبر الصوت (الميكرفون) من سماعات المنارة. وهذا أمر لا تدعوا الحاجة إليه؛ لأن الإمام إنما يصلي بمن كان داخل المسجد لا من كان خارجه، وحينئذ يكون إظهار الصوت من سماعات المنارة عديم الفائدة، ومع كونه عديم الفائدة فإن فيه تشويشاً على من يسمعه من أهل البيوت والمساجد، كما اشتكى من ذلك بعض الناس. وقد روى الإمام مالك في موطئه (1) 1/167 أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج على الناس وهم يصلون وقد علت أصواتهم بالقراءة فقال: "إن المصلي يناجي ربه فلينظر بما يناجيه به، ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن". وروى أبو داود 2/97 (2) (مختصر الخطابي) ، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سمعهم يجهرون بالقراءة فقال: "ألا إن كلكم مناج ربه فلا يؤذين بعضكم بعضاً، ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة أو قال في الصلاة".
...
__________
(1) تقدم تخريجه في ص14.
(2) تقدم تخريجه في ص14.(13/86)
وفي مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيميه 23/64: ليس لأحد أن يجهر بالقراءة بحيث يؤذي غيره كالمصلين.
ومن جواب له 1/305 من الفتاوى ط قديمة: ومن فعل ما يشوش به على أهل المسجد أو فعل ما يفضي إلى ذلك منع منه أهـ.
وفي إظهار الصوت من سماعات المنارة – بالإضافة إلى التشويش والتأذي – تهاون الناس بالمسارعة إلى الحضور؛ لأنهم يسمعون الصلاة ركعة،ركعة وجزءاً جزءاً فيتباطئون اعتماداً على أن الإمام في أول الصلاة فلا يزال بهم التباطؤ حتى تفوتهم الصلاة.
وفيه أيضاً أن المقبل إلى المسجد قد تحدوه رغبته في الإدراك إلى السرعة فيقع فيما نهى عنه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث قال: "إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم السكينة والوقار، ولا تسرعوا" (1) .
والإنسان إذا علم أن فعله يترتب عليه أذية لإخوانه وتشويش عليهم في عبادتهم، ووقوع فيما نهى عنه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أذية المصلين بعضهم بعضاً بالجهر، وأن فعله عديم الفائدة، أو قليلها فلن يتردد في تركه طاعة لله تعالى ورسوله، وتفادياً لأذية إخوانه والتشويش عليهم، والله الموفق.
كتبه محمد الصالح العثيمين في 24/5/1407هـ. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) متفق عليه وهذا لفظ البخاري رواه في الأذان باب 21 – لا يسعى إلى الصلاة (636) ، ورواه مسلم في المساجد باب 28 – استحباب إتيان الصلاة بوقار 1/420 ح151 (602) .(13/87)
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد الصالح العثيمين إلى المكرم إمام مسجد. حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فإن الداعي لتحريره أنه اتصل بي اليوم أحد جماعة المساجد القريبة منكم يذكر أن الميكرفون في مسجدكم مفتوح على سماعة المنارة، وأنه يشوش عليهم صلاتهم في استماع قراءة إمامهم وتسبيح ركوعهم وسجودهم ودعائهم.
ولقد كنا البارحة ونحن في الجامع نسمع القراءة في الميكرفون نسمعها بوضوح، حيث كان القارئ يقرأ في سورة مريم فلما وصل آية السجد مدها وسجد، ونسمعه كذلك في دعاء القنوت فإذا كنا نسمع ذلك ونحن في الجامع فما بالك في المساجد التي هي أقرب إلى الصوت من الجامع.
ثم ما بالك بمن يتهجد في بيته من شيخ كبير وعجوز، ومن لا يرغب الحضور إلى المسجد في آخر الليل؟ أظن أنهم لا يستطيعون إتقان قراءتهم، وتسبيحهم لله، ودعائهم له وهم يسمعون هذا الصوت الرفيع حولهم.
وفي ظني أن الذي يقرأ في الميكرفون في سماعة المنارة المرتفعة صوتاً ومكاناً ظني أنه إنما قصد خيراً – إن شاء الله – ولم(13/88)
يقصد الإضرار بإخوانه، لكن هو في الحقيقة قد أضر بهم من حيث لا يشعر حيث شوش عليهم في صلاتهم ودعائهم، كما أنه وقع أيضاً فيما نهى عنه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد خرج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أصحابه وهم يصلون ويجهرون بالقراءة فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كلكم يناجي ربه فلا يجهر بعضكم على بعض في القرآن". رواه الإمام مالك في الموطأ (1) . قال ابن عبد البر: وهو حديث صحيح.
وإذا كان الجهر بالقرآن حيث يشوش على من حوله من المصلين والذاكرين والداعين وقوعاً فيما نهى عنه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأذية على المسلمين فإنكم تعلمون ما يترتب على مخالفة أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأذية المؤمنين.
وقد سئل شيخ الإسلام بن تيميه – رحمه الله – عمن يجهر بقراءته فيحصل به أذى على المصلين فأجاب بقوله: ليس لأحد أن يجهر بالقراءة بحيث يؤذي غيره كالمصلين. انتهى.
فالواجب على المسلم الابتعاد عن الوقوع فيما نهى عنه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفيما فيه أذية إخوانه المسلمين لاسيما المتعبدون منهم بالصلاة والدعاء، وأن يقدر حال إخوانه ويعرف مدى الأذية التي تلحقهم في عبادتهم من أجل جهره في قراءته، فإن لو قدرت مسجداً حولك قد رفع إمامه، أو المحدث فيه صوته عالياً على المنارة حتى صار يشوش عليك، لا تدري ما تقول في صلاتك، يخلط عليك في قراءتك ودعائك، وتسبيحك في ركوعك
__________
(1) برقم (225) وسبق تخريجه في ص14.(13/89)
وسجودك، أفلا ترى أنه أساء إليك وأن الواجب عليه كف هذه الإساءة، فما بال الإنسان يستسيغ هذا الفعل من نفسه ويرى أنه من غيره إساءة؟
والمؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، فكما أن المرء يحب أن يقبل على صلاته ويعرف ما يقول فيها، ويكره أن يسمع ما يشوش عليه فيها، فإخوانه المسلمون يحبون ما يحب، ويكرهون ما يكره، يحبون أن يقبلوا على صلاتهم ويعرفوا ما يقولون فيها، ويكرهون أن يسمعوا ما يشوش عليهم، فاتقوا الله فيهم وابتعدوا عما يشوش عليهم، وكونوا عوناً لهم على كمال صلاتهم فإن الله سبحانه في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.
ولا طريق لكم إلى ذلك إلا باتباع أحد أمرين:
إما بوضع سماعة داخلية لأهل المسجد خاصة تكون داخل المسجد كما صنع الناس في مساجدهم.
وإما بإلغاء الميكرفون والاكتفاء بصوتكم وفيه كفاية إن شاء الله ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه.
وأما فتح الصوت على سماعة المنارة ففيه تشويش على من يسمعه من المصلين والذاكرين والداعين وقد علمتم ما في ذلك من المخالفة للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأذية المؤمنين، ومثلكم لا يرضى بذلك.
وفق الله الجميع لما فيه الخير والصلاح، وجعلنا جميعاً من دعاة الخير، وأنصار الحق، السائرين على نور من الله وبصيرة في أمرهم إنه جواد كريم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(13/90)
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد الصالح العثيمين إلى الأخ المكرم.. حفظه الله تعالى.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
وبعد، فإننا لا نرى بأساً بوضع مكبر الصوت الذي يسمى (الميكرفون) في المنارة للتأذين به، وذلك لما يشتمل عليه من المصالح الكثيرة وسلامته من المحذور، ويدل على ذلك أمور:
الأول: أنه مما خلق الله تعالى لنا في هذه الأرض، وقد قال الله تعالى ممتناً على عباده بإباحته لهم جميع ما في الأرض وتسخيره لهم ما في السموات والأرض (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) . وقال: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْه) .
ولا ينبغي للعبد أن يرد نعمة الله عليه فيحرم نفسه منها بغير موجب شرعي، فإن الله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) . ويقول راداً على من يحللون ويحرمون بأهوائهم: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) . ويقول ناهياً عن ذلك: (وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) . وإذا كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال كما ثبت عنه في صحيح مسلم(13/91)
- في شأن البصل والكراث -: "إنه ليس بي تحريم ما أحل الله" فكيف يجوز لغيره أن يحرم ما أحل الله.
فإن قال قائل: إن الميكرفون حرام.
قلنا له: ليس لك أن تحرم شيئاً إلا بدليل، ولا دليل لك على تحريمه، بل الدليل كما أثبتنا يدل على حله؛ لأنه مما خلق الله لنا في تحريمه، وقد أحله لنا كما تفيده الآية السابقة: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) .
وأما السنة فمن قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها وأخبر أن ما سكت عنه فهو عفو" (1) . والميكرفون مما خلق تعالى في الأرض وسكت عنه فيكون عفواً مباحاً.
الثالث: أن قاعدة الشرع الأساسية: "جلب المصالح، ودفع المفاسد".
__________
(1) رواه الدارقطني في الرضاع 4/183، والبيهقي في الضحايا 10/12، والطبراني في الكبير 22/221 (589) وحسنه النووي في "رياض الصالحين" 457.(13/92)
والميكرفون يشتمل على مصالح كالمبالغة برفع الصوت بتكبير الله تعالى وتوحيده، والشهادة لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالرسالة، والدعوة إلى الصلاة خصوصاً، وإلى الفلاح عموماً.
ومن مصالحة: تنبيه الغافلين، وإيقاظ النائمين، ومع هذه المصالح ليس فيه مفسدة تقابل أو تقارب هذه المصالح، بل ليس فيه مفسدة مطلقاً فيما نعلم.
الرابع: أن من القواعد المقررة في الشريعة الإسلامية: "أن الوسائل لها أحكام المقاصد".
والميكرفون وسيلة ظاهرة إلى إسماع الناس الأذان والدعوة إلى الصلاة، وإبلاغهم ما يلقى في المساجد من خطب ومواعظ، وإسماع الناس الأذان، والدعوة إلى الصلاة، وإبلاغهم المواعظ والخطب من الأمور المأمور بها بإجماع أهل العلم، فما كان وسيلة إلى تعميمها وإيصالها إلى الناس كان مأموراً به أيضاً.
الخامس: أن أهل العلم قالوا ينبغي أن يكون المؤذن صيتاً – أي رفيع الصوت – ليكون أشمل لإبلاغ الأذان، وقد روي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال لعبد الله بن زيد بن عبد ربه الذي رأى في المنام من يعمل الأذان: "اذهب فألقه على بلال فإنه أندى صوتاً منك" (1) . فدل هذا على طلب علو الصوت في الأذان، والميكرفون من وسائله بلا شك فيكون مطلوباً.
__________
(1) رواه الإمام أحمد 4/42 – 43، وأبو داود في الصلاة/ باب كيف الأذان (499) ، والترمذي في الصلاة/ باب ما جاء في الأذان (189) ، وابن ماجة في الأذان/ باب كيف بدء الأذان (706) .(13/93)
السادس: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يتحرى من كان عالي الصوت في إبلاغ الناس، كما أمر أبا طلحة أن ينادي عام خيبر: "إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية؛ فإنها رجس" (1) ، وكما أمر العباس أن ينادي في الناس بأعلى صوته حين انصرفوا في حنين يقول مستحثاً لهم على الرجوع: "يا أصحاب السمرة (2) ، يا أصحاب سورة البقرة، أو يا أهل".
وهذا يدل على التماس ما هو أبلغ في إيصال الأحكام الشرعية والدعوة إلى الله تعالى. ولقد كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطب الناس على راحلته ليكون أبلغ في سماع صوته.
السابع: أن الميكروفون آلة لتكبير الصوت وتقويته فكيف نقول إنه محرم ولا نقول إن نظارة العين التي تقوي النظر وتكبر الحرف إنها محرمة، هذه تكبر الحرف وتقوي نظر العين، وذاك يقوي الصوت ويضخم الكلمات ولا فرق بين الأمرين.
وأما توهم بعض الناس أن الميكروفون لم يكن معروفاً في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
فنقول:
ما أكثر الأشياء التي وجدت بعد عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأجمع المسلمون على جوازها، فإن تدوين السنة وتصنيفها في الكتب لم يكن معروفاً في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يعارض في جواز ذلك إلا نفر
__________
(1) رواه البخاري في المغازي باب 40 – غزوة خيبر (4199) . ومسلم في الصيد باب 5 – تحريم أكل لحوم الحمر الإنسية 3/1540ح.
(2) رواه مسلم في الجهاد باب 28 – غزوة حنين 3/1398 ح76 – (1775) .(13/94)
قليل من الصدر الأول خوفاً من اختلاطها بالقرآن، ثم انعقد الإجماع على الجواز بعد ذلك، وبناء المدارس لم يكن معروفاً على عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد أجمع المسلمون على جوازه. وتصنيف الكتب في علم التوحيد والفقه وغيرها لم يكن معروفاً في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد أجمع المسلمون على جوازه، والمطابع التي تطبع الكتب لم تكن معروفة في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد أجمع المسلمون من بعد حدوثها على جواز طباعة كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكلام أهل العلم في التفسير، وشرح السنة، وعلم التوحيد والفقه وغيرها بهذه المطابع ولم يقل أحد: إنا لا نطبع بها، لأنها لم تكن موجودة في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الثامن: أن الميكرفون يستعمل في أفضل المساجد المسجد الحرام، ومسجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما علمنا أن أحداً ممن يقتدى به من أهل العلم عارض ذلك أو أنكر على ولاة الأمور.
وهذا أمر واضح ولله الحمد ولا حرج عليكم في استعمال الميكرفون في المنارة للتأذين به، وإذا كان أحد من الإخوان يكرهه فلا ينبغي أن يحرمه على غيره، كما قال البراء بن عازب – رضي الله عنه – لمن قال إنه يكره أن يكون في أذن الأضحية أو قرنا نقص، فقال له البراء: "ما كرهت فدعه ولا تحرمه على غيرك".
والله الموفق. قاله كاتبه محمد الصالح العثيمين في 13/6/1399هـ.(13/95)
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين حفظه الله ورعاه.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
فآمل من فضيلتكم التكرم ببيان حكم استعمال مكبر الصوت "الميكروفون" في الخطبة؟ وكذلك حكم استعمال المكبر في صلاة الجمعة وغيرها؟ والله يحفظكم ويرعاكم ويمدكم بعونه وتوفيقه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المكرم إمام جامع. حفظه الله تعالى
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته وبعد:
استعمل الميكرفون في الخطبة لينتفع بها من يسمعها خارج المسجد؛ إلا أن يكون حولك مساجد تشوش عليهم بذلك.
أما في الصلاة فلا تستعمله لا يوم الجمعة، ولا غيرها.
كتبه محمد الصالح العثيمين في 22/6/1414هـ.
450 ...(13/96)
وسئل فضيلة الشيخ: ما حكم وضع اليد اليمنى على اليد اليسرى على الصدر أو فوق القلب؟ وما حكم وضع اليدين تحت السرة؟ وهل هناك فرق بين الرجل والمرأة؟
فأجاب فضيلته بقوله: حكم وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة سنة، لحديث سهل بن سعد – رضي الله عنه – قال: "كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة". أخرجه البخاري (1) .
ولكن أين يكون الوضع؟
الجواب: أقرب الأقوال إلى الصحة في ذلك أن الوضع يكون على الصدر لحديث وائل بن حجر – رضي الله عنه – أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "كان يضع يده اليمنى على اليسرى على صدره" (2) . والحديث وإن كان فيه شيء من الضعف، لكنه أقرب من غيره إلى الصحة.
وأما وضعها على القلب على الجانب الأيسر فهو بدعة لا أصل لها.
وأما وضعها تحت السرة فقد روى ذلك أثراً عن علي – رضي الله عنه (3) – لكنه ضعيف، وحديث وائل بن حجر أقوى منه.
ولا فرق في هذا الحكم بين المرأة والرجل؛ لأن الأصل اتفاق النساء والرجال في الأحكام إلا أن يقوم دليل على التفريق أو على الفرق بينهما ولا أعلم دليلاً صحيحاً يفرق بين الرجل والمرأة في هذه السنة.
__________
(1) رواه في الأذان، باب وضع اليمنى على اليسرى ح (740) .
(2) تقدم تخريجها ص73.
(3) تقدم تخريجها ص73.(13/97)
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
من محبكم محمد الصالح العثيمين إلى الأخ المكرم الشيخ.. حفظه الله تعالى.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
فقد تشرفت بكتابكم الكريم المؤرخ في 29 من الشهر الماضي، وسررت بصحتكم الحمد لله على ذلك. سؤالكم عن فصل الخطاب في موضوع وضع اليدين في الصلاة حال القيام.
جوابه: فصل الخطاب هو: أن من السنة الثابتة عن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وضع اليد اليمنى على اليسرى، جاء عنه ذلك في الصحيحين وغيرهما.
ولكن أين يكون محل اليدين؟
حكى في نيل الأوطار قولين:
أحدهما: تحت السرة، استناداً إلى ما رواه الإمام أحمد (1) وأبو داود عن علي – رضي الله عنه – "أن ذلك من السنة"، والحديث في إسناده مقال.
الثاني: فوق السرة إما تحت الصدر، أو فوق السرة نفسها، وفيه أثر عن علي – رضي الله عنه - "أنه كان يمسك شماله بيمينه فوق السرة" (2) . ذكر صاحب نيل الأوطار أن في إسناده أبا طالوت
__________
(1) تقدم تخريجه ص73.
(2) رواه أبو داود في الصلاة، باب وضع اليمنى على اليسرى ح (757) .(13/98)
عبد السلام بن أبي حازم يكتب حديثه (1) ، ثم ذكر بعد ذلك حديث وائل بن حجر قال: "صليت مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره" (2) ، وقال: لا شيء في الباب أصح من حديث وائل المذكور.
وقد حكى الأقوال الثلاثة القرطبي في تفسيره.
وإذا تبين أن حديث وائل أصح شيء في الباب كان العمل به أولى، وقد قال الشيخ الألباني في رسالته (صفة صلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ص79 ط7) : "وضعهما على الصدر هو الذي ثبت في السنة، وخلافه إما ضعيف، أو لا أصل له". أهـ.
أما ما ذكره ابن القيم – رحمه الله – في البدائع عن مسائل الإمام أحمد، فلا أدري ما وجهه وقد فسر التكفير بوضع اليدين على الصدر، ولكن صاحب النهاية فسره: بأن ينحني الإنسان ويطأطئ رأسه قريباً من الركوع (3) .
وأما ما أشرتم إليه من كلام ابن القيم في أعلام الموقعين فقد راجعته في طبعتين عندي فلم أجده، ولعلي أبحث في طبعة ثالثة إن شاء الله عسى أن أظفر به.
وأما انفراد مؤمل عن سفيان برواية "وضع اليدين على الصدر" فينظر في مؤمل، فإن كان ثقة لم يضر انفراده، وإن كان غير ثقة فهو مردود، وينظر هل له طريق آخر.
...
__________
(1) نيل الأوطار 2/188.
(2) رواه ابن خزيمة وتقدم في ص73.
(3) النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 4/188.(13/99)
هذا وقد ذكر صاحب الفروع أنه يكره وضع اليدين على الصدر وقال: نص عليه مع أنه رواه أحمد فكأنه استغرب ذلك.
ثم إني وجدت كلامه في أعلام الموقعين ص9 ج3 وتحققت من حال مؤمل بن إسماعيل فإذا العلماء مختلفون فيه: فمنهم من وثقه، ومنهم من ضعفه، ومقتضى صنيع ابن القيم في الأعلام تعليل الحديث بانفراده بذلك والله أعلم.
وقد ذكر الحديث في بلوغ المرام وعزاه لابن خزيمة وسكت عنه، وقد راجعت كثيراً من كتب الحديث التي عندي فوجدت كلاماً كثيراً حول هذه المسألة ووجدت حديثاً مرسلاً في أبي داود سنده حسن عن طاووس قال: "كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يضع يده اليمنى على يده اليسرى، ثم يشد بينهما على صدره وهو في الصلاة" (1) . وهذا يؤيد حديث مؤمل ابن إسماعيل، والأمر في ذلك واسع إن شاء الله، لكن القول بكراهة وضعها على الصدر يحتاج إلى دليل تنبني عليه الكراهة. حرر في 4/3/1396هـ.
451 وسئل فضيلته: هل ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه أسدل يديه في الصلاة؟
فأجاب فضيلته بقوله: لم يثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه سدل يديه في الصلاة، ولا أنه أمر به، وإنما السنة في الصلاة أن يضع الرجل يده اليمنى على يده اليسرى فوق صدره، فإن شاء وضع اليد اليمنى على
__________
(1) رواه أبو داود في الصلاة باب وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة (759) .(13/100)
الرسغ – أي على المفصل الذي بين الكف والذراع – وإن شاء وضع اليد اليمنى على الذراع نفسه، قال سهل بن سعد – رضي الله عنه-: "كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة" (1) .
وأما السدل فإنه ليس بسنة لا قبل الركوع ولا بعد الركوع، وإنما السنة قبل الركوع وبعده أن يضع الرجل يده اليمنى على يده اليسرى كما ذكرنا.
452 وسئل أيضاً: هل يجب وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة؟
فأجاب قائلاً: لا يجب ذلك، ولا أعلم أحداً قال بوجوبه. ولعل أحداً يقول بوجوبه مستدلاً بقوله: "كان الناس يؤمرون"، والأصل في الأمر الوجوب ولكن رأي الجمهور أنه ليس بواجب إنما ذلك من السنة.
453 سئل فضيلة الشيخ وفقه الله وحفظه: هل الأفضل لمن يصلي في الحرم أن ينظر إلى الكعبة أم إلى موضع السجود؟
فأجاب فضيلته بقوله: الأفضل لمن يصلي أن ينظر إلى موضع سجوده لا إلى الكعبة؛ لأنه لم يرد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر المصلي أن ينظر إلى الكعبة إذا كان يشاهدها؛ ولأن نظره إلى الكعبة وهو
__________
(1) رواه البخاري في الأذان باب 87 وضع اليمنى على اليسرى (740) .(13/101)
يصلي يستلزم أن ينشغل بصره بالطائفين؛ لأن الطائفين بالكعبة كثيرون ويلفتون النظر، وربما ينشغل بالنظر إلى الكعبة بهؤلاء الطائفين ويبعد عن صلاته، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان عليه ذات يوم خميصة، فنظر إلى أعلامها وهو يصلي نظرة، فلما انصرف من صلاته قال: "اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم، وائتوني بأنبجانية أبي جهم، فإنها ألهتني – أي الخميصة – آنفاً عن صلاتي" (1) .
فكل ما يلهي المصلي ينبغي له أن يبتعد عنه.
454 وسئل فضيلة الشيخ: ما هو الأفضل للمتمكنين من رؤية الكعبة في الصلاة خصوصاً في المطاف، النظر إلى الكعبة أم إلى مكان السجود؟
فأجاب بقوله: الأفضل للمصلي أن ينظر إلى موضع سجوده، لا إلى الكعبة، لأنه لم يرد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر المصلي أن ينظر إلى الكعبة إذا كان يشاهدها؛ ولأن نظره إلى الكعبة وهو يصلي يستلزم أن ينشغل بصره بالطائفين؛ لأن الطائفين حول الكعبة كثيرون ويلفتون النظر، فربما ينشغل بالنظر إلى الكعبة وبهؤلاء الطائفين ويبعد عن صلاته.
والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان عليه ذات يوم وهو يصلي خميصة فنظر إلى أعلامها وهو يصلي نظرة فلما انصرف من صلاته قال: "اذهبوا
__________
(1) رواه البخاري في الصلاة باب 14 – إذا صلى في ثوب له أعلام. (373) . ورواه مسلم في المساجد باب 15 – كراهة الصلاة في ثوب له أعلام 1/391 ح62 (556) .(13/102)
بخميصتي هذه إلى أبي جهم، وائتوني بأنبجانية أبي جهم، فإنها ألهتني - أي الخميصة - آنفاً عن صلاتي" (1) . فكل ما يلهي المصلي فإنه ينبغي أن يبتعد عنه، ولكن ما تقولون في مصل يتعمد اللهو حيث ينظر إلى الساعة وهو يصلي، وينظر إلى القلم، وهو يصلي، وإذا تذكر حاجة وهو يصلي أخرج القلم والورقة وكتبه، فلا شك أن هذا خطأ عظيم؛ ولأن الشيطان يأتي إلى الإنسان وهو يصلي يقول: اذكر كذا، أو اذكر كذا، فيذكره بشيء نسيه (2) ، حتى إنه ذكر أن رجلاً جاء لأبي حنيفة رحمه الله؛ وأبو حنيفة إمام عالم جليل إمام من الأئمة الأربعة، وكان رجلاً قد أعطاه الله علماً وذكاء، والذكاء مع العقل، والعلم يفيد صاحبه، جاءه رجل فقال له: إني نسيت حاجة أهمتني وشغلتني فماذا تأمرني؟ قال: اذهب فتوضأ وصل ثم أتني بعد صلاتك، فذهب الرجل فتوضأ وصلى، وفي أثناء الصلاة ذكره الشيطان إياها، ثم جاء إلى أبي حنيفة بعد ذلك وأخبره أنه ذكرها حين شرع في الصلاة، لكنني أقول هذا ولست أريد منكم عبرة، إنما الإنسان إذا أقبل على صلاته فينبغي أن يقبل على ربه؛ لأنه واقف بين يديه.
*
__________
(1) تقدم تخريجه ص102.
(2) هذا جزء من حديث أبي هريرة المتفق عليه، رواه البخاري في الأذان باب فضل التأذين ح (608) ، ومسلم في الصلاة باب فضل الأذان وهرب الشيطان عند سماعه 1/291 ح19 (389) .(13/103)
بخميصتي هذه إلى أبي جهم، وائتوني بأنبجانية أبي جهم، فإنها ألهتني - أي الخميصة - آنفاً عن صلاتي" (1) . فكل ما يلهي المصلي فإنه ينبغي أن يبتعد عنه، ولكن ما تقولون في مصل يتعمد اللهو حيث ينظر إلى الساعة وهو يصلي، وينظر إلى القلم، وهو يصلي، وإذا تذكر حاجة وهو يصلي أخرج القلم والورقة وكتبه، فلا شك أن هذا خطأ عظيم؛ ولأن الشيطان يأتي إلى الإنسان وهو يصلي يقول: اذكر كذا، أو اذكر كذا، فيذكره بشيء نسيه (2) ، حتى إنه ذكر أن رجلاً جاء لأبي حنيفة رحمه الله؛ وأبو حنيفة إمام عالم جليل إمام من الأئمة الأربعة، وكان رجلاً قد أعطاه الله علماً وذكاء، والذكاء مع العقل، والعلم يفيد صاحبه، جاءه رجل فقال له: إني نسيت حاجة أهمتني وشغلتني فماذا تأمرني؟ قال: اذهب فتوضأ وصل ثم أتني بعد صلاتك، فذهب الرجل فتوضأ وصلى، وفي أثناء الصلاة ذكره الشيطان إياها، ثم جاء إلى أبي حنيفة بعد ذلك وأخبره أنه ذكرها حين شرع في الصلاة، لكنني أقول هذا ولست أريد منكم عبرة، إنما الإنسان إذا أقبل على صلاته فينبغي أن يقبل على ربه؛ لأنه واقف بين يديه.
*
__________
(1) تقدم تخريجه ص102.
(2) هذا جزء من حديث أبي هريرة المتفق عليه، رواه البخاري في الأذان باب فضل التأذين ح (608) ، ومسلم في الصلاة باب فضل الأذان وهرب الشيطان عند سماعه 1/291 ح19 (389) .(13/104)
الاستعاذة والبسملة.
* دعاء الاستفتاح.
* قراءة الفاتحة.
* السكوت بعد قراءة الفاتحة.(13/105)
الاستعاذة والبسملة
455 وسئل فضيلة الشيخ: هل تكفي الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم عند قراءة الفاتحة في الصلاة أو لابد من الإتيان بالبسملة؟ وإذا استعذت وبسملت للفاتحة هل أبسمل للسورة التي بعدها في الصلاة وإن تعددت السور؟
فأجاب فضيلته بقوله: التعوذ بالله من الشيطان الرجيم مشروع عند كل قراءة، كلما أراد الإنسان أن يقرأ شيئاً من القرآن في الصلاة أو غير الصلاة فإنه مشروع له أن يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لقوله سبحانه وتعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) .
أما البسملة، فإن كان القارئ يريد أن يبتدئ السورة من أولها فبسمل؛ لأن البسملة آية فاصلة بين السور يؤتى بها في ابتداء كل سورة ما عدا سورة البراءة؛ فإن سورة براءة ليس في أولها بسملة.
وعلى هذا فإذا أراد الإنسان قراءة الفاتحة في الصلاة فيستعيذ بالله من الشيطان الرجيم أولاً ثم يقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم.
وقد اختلف أهل العلم في البسملة في الفاتحة هل هي من الفاتحة أو لا؟
فذهب بعض أهل العلم إلى أنها من الفاتحة، ولكن الصحيح أنها ليست منها، وأن أول سورة الفاتحة (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ(13/107)
الْعَالَمِينَ) ؛ لحديث أبي هريرة – رضي الله عنه – الثابت في الصحيح أن الله سبحانه وتعالى قال: "قسمت الصلاة بينى وبين عبدي نصفين، فإذا قال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) قال الله تعالى: أثنى علي عبدي. وإذا قال: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) قال الله تعالى: مجدني عبدي، وإذا قال: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) قال الله: هذا بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، وإذا قال: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) قال الله تعالى: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل" (1) .
وعلى هذا فتكون الفاتحة أولها: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) وهي سبع آيات، الأولى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) ، الثانية: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ، الثالثة: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ، والرابعة: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ، الخامسة: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) ، السادسة: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) . السابعة: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ) .
أما على القول بأن البسملة منها؛ فأول آية هي البسملة والثانية هي: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) . والثالثة: (الرَّحْمَنِ
__________
(1) رواه مسلم في الصلاة باب 11 – وجوب قراءة الفاتحة 1/296 ح38 (395) ، وأبو داود في الصلاة باب من ترك القراءة في صلاته (821) ، والترمذي في التفسير باب ومن سورة فاتحة الكتاب (2953) ، والنسائي في الافتتاح باب ترك قراءة بسم الله الرحمن الرحيم (908) .(13/108)
الرَّحِيمِ) . والرابعة: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) . الخامسة: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) . والسادسة: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) . والسابعة: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ) .
ولكن الراجح أن البسملة ليست من الفاتحة، كما أنها ليست من غيرها من السور إلا في سورة النمل؛ فإنها بعض آية منها.
456 وسئل فضيلة الشيخ: ما حكم الجهر بالبسملة؟
فأجاب فضيلته بقوله: الراجح أن الجهر بالبسملة لا ينبغي، وأن السنة الإسرار بها؛ لأنها ليست من الفاتحة، ولكن لو جهر بها أحياناً فلا حرج؛ بل قد قال بعض أهل العلم: إنه ينبغي أن يجهر بها أحياناً؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد روي عنه "أنه كان يجهر بها" (1) .
ولكن الثابت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أنه كان لا يجهر بها" (2) وهذا هو الأولى أن لا يجهر بها.
ولكن لو جهر بها تأليفاً لقوم مذهبهم الجهر فأرجو أن لا يكون به بأس.
__________
(1) رواه النسائي في الافتتاح/ باب قراءة بسم الله الرحمن الرحيم (904) ، وابن حبان 1788، وابن خزيمة 499، والدارقطني 1/305، والبيهقي 2/46، 58.
(2) لما رواه أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "صليت خلف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وخلف أبي بكر، وخلف عمر، فلم أسمع أحد منهم يقرأ ببسم الله الرحمن الرحيم"، رواه مسلم في الصلاة، باب حجة من قال لا يجهر بالبسملة (399) .(13/109)
457 وسئل فضيلته: هل الاستعاذة في كل ركعة أو في الأولى فقط؟
فأجاب: الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم في الصلاة سنة.
واختلف العلماء - رحمهم الله - هل يستعيد في كل ركعة، أم في الركعة الأولى فقط بناء على القراءة في الصلاة هل هي قراءة واحدة أم لكل ركعة قراءة منفردة؟
والجواب: الذي يظهر لي: أن قراءة الصلاة واحدة، فتكون الاستعاذة في أول ركعة، إلا إذا حدث ما يوجب الاستعاذة، كما لو انفتح عليه باب الوساوس، فإن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر الإنسان إذا انفتح عليه باب الوساوس أن يتفل عن يساره ثلاثاً، ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم. فقد روى مسلم أن عثمان بن أبي العاص أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله! إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها عليَّ، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ذاك شيطان يقال له خنزب، فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه، واتفل على يسارك ثلاثاً" (1) .
458 سئل فضيلة الشيخ وفقه الله تعالى: ما حكم دعاء الاستفتاح؟
فأجاب فضيلته بقوله: الاستفتاح سنة وليس بواجب، لا في الفريضة ولا في النافلة.
والذي ينبغي أن يأتي الإنسان في الاستفتاح بكل ما ورد عن
__________
(1) رواه مسلم في السلام باب 25 - التعوذ من شيطان الوسوسة في الصلاة 4/1728 ح68 (2203) .(13/110)
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأتي بهذا أحياناً، وبهذا أحياناً، ليحصل له بذلك فعل السنة على جميع الوجوه، وإن كان لا يعرف إلا وجهاً واحداً من السنة واقتصر عليه فلا حرج؛ لأن الظاهر أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان ينوع هذه الوجوه في الاستفتاح، وفي التشهد من أجل التيسير على العباد، وكذلك في الذكر بعد الصلاة كان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينوعها لفائدتين:
الفائدة الأولى: أن لا يستمر الإنسان على نوع واحد، فإن الإنسان إذا استمر على نوع واحد صار إتيانه بهذا النوع كأنه أمر عادي، ولذلك لو غفل وجد نفسه يقول هذا الذكر، وإن كان من غير قصد؛ لأنه صار أمراً عادياً فإذا كانت الأذكار متنوعة وصار الإنسان يأتي أحياناً بهذا، وأحياناً بهذا صار ذلك أحضر لقلبه، وأدعى لفهم ما يقوله.
الفائدة الثانية: التيسير على الأمة، بحيث يأتي الإنسان تارة بهذا، وتارة بهذا، على حسب ما يناسبه.
فمن أجل هاتين الفائدتين صارت بعض العبادات تأتي على وجوه متنوعة مثل دعاء الاستفتاح، والتشهد، والأذكار بعد الصلاة.
459 سئل فضيلة الشيخ: هل يجمع الإنسان بين نوعين من دعاء الاستفتاح؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يجمع بين نوعين من دعاء الاستفتاح، لما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة – رضي(13/111)
الله عنه - قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا كبر للصلاة سكت هنيهة قبل أن يقرأ فسألته فقال: أقول: "اللهم باعد بيني وبين خطاياي، كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء، والثلج، والبرد" (1) .
فالنبي عليه الصلاة والسلام ما أجابه عندما سأله ما يقول إلا بواحد فقط، فدل هذا على أنه ليس من المشروع الجمع بين الأنواع.
460 وسئل فضيلة الشيخ: إذا جاء المصلي والإمام قد شرع في الصلاة وهو يعلم أنه إن شرع في دعاء الاستفتاح ركع الإمام ولم يتمكن من قراءة الفاتحة فما العمل؟
فأجاب بقوله: إذا جاء الإنسان ودخل مع الإمام فإنه يكبر تكبيرة الإحرام، ويستفتح ويشرع بقراءة الفاتحة ثم إن تمكن من إتمامها قبل أن يفوته الركوع فعل، فإن لم يتمكن فإنها تسقط عنه ما لم يتمكن منه؛ لأنه مسبوق في القيام، وحينئذ يكون قد أتى بالصلاة على ترتيبها المشروع حسبما أمر به.
__________
(1) رواه البخاري في الأذان باب 89: ما يقول بعد التكبير (744) ، ومسلم في المساجد باب 27: ما يقال بين تكبيرة الإحرام والقراءة 1/419 ح147 (598) .(13/112)
461 وسئل فضيلته: لقد عقدت دورة لتلاوة القرآن الكريم وحفظه في دولة ... ، وقد أوفدت لنا الجهة المختصة رجلاً فاضلاً من علماء القرآن لتعليم الناس كيفية التلاوة الصحيحة – جزاه الله خيراً – وقد أثار هذا الشيخ المدرس منذ اللحظة الأولى مسألة وجوب الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، ثم قال: إننا في هذا البلد نقرأ القرآن على رواية حفص، وبما أن هذه الرواية تعتبر البسملة آية من الفاتحة إذن لابد من الجهر بها في الصلاة الجهرية، والذي لا يجهر بها تبطل صلاته حتى لو قرأها سراً. فكنت يا شيخنا من الذين ناقشوه حول هذه المسألة بفرعيها الأول: وهو قوله "بوجوب الجهر بالبسملة" والثاني: عن قوله ببطلان صلاة من أسر بها. لكنه لم يناقش الأمر بموضوعية ولم يأت بأدلة على كلامه وطلب إنهاء النقاش حول المسألة مع إصراره على قوله. فقمت من باب تبيان الحق للناس – إن شاء الله – بكتابة رد على أقواله ووزعته على بعض الناس وأعطيته نسخة من الرد معتذراً إليه، وقائلاً له: هذه وجهة نظر أرجو منك الإطلاع عليها، وكنت قد اتصلت بالشيخ ... ، قبل توزيع الرد عارضاً عليه المسألة فوافقني على ما كتبت جزاه الله خيراً، وقد أرفقت صورة عما كتبت مع هذه الرسالة لفضيلتكم أرجو منكم توجيهي حول ذلك، فما كان من ذلك الشيخ في الحصة التي بعدها إلا أن قام بالتهجم عليَّ بالكلام، واتهمني بسوء الأدب وغير ذلك، وهذا لا يهم، ثم أصر على كلامه السابق بالقول ببطلان صلاة من لم يجهر بالبسملة. لذا نرجو من(13/113)
فضيلتكم أن تفتونا مأجورين حول ما ذكرت بهذه الرسالة وبارك الله فيكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فأجاب بقوله: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته وبعد:
القول الراجح أن البسملة ليست من الفاتحة فلا يجهر بها في الجهرية ودليل ذلك ما ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: "الحمد لله رب العالمين" قال الله: "حمدني عبدي" أخرجه مسلم في صحيحه (1) . وتمام الحديث فيه.
فبدأ بقوله الحمد لله رب العالمين ولم يذكر البسملة.
ويدل لذلك أيضاً ما رواه مسلم في صحيحه (2) عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: "صليت مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبي بكر، وعمر، وعثمان فلم أسمع أحداً منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم"، وفي لفظ: "صليت خلف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخلف أبي بكر، وعمر، وعثمان فكانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم". رواه أحمد (3) والنسائي (4) بإسناد على شرط الصحيح. قال الحافظ الدارقطني: إنه لم يصح بالجهر بها حديث.
...
__________
(1) وقد سبق تخريجه في ص108.
(2) في الصلاة باب 13: حجة من قال لا يجهر بالبسملة 1/299 ح50 (399) وهو في البخاري بمعناه في الأذان باب 89: ما يقول بعد التكبير (743) .
(3) في مسند أنس 3/111.
(4) في الافتتاح باب: ترك الجهر بـ (بسم الله الرحمن الرحيم) (906) .(13/114)
ولما ذكر في نيل الأوطار الخلاف في المسألة قال: وأكثر ما في المقام الاختلاف في مستحب أو مسنون، فليس شيء من الجهر وتركه يقدح في الصلاة ببطلان بالإجماع أهـ (1) .
فتبين بهذا:
أولاً: أن البسملة ليست من الفاتحة لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
ثانياً: أن السنة عدم الجهر بالبسملة؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبا بكر وعمر، وعثمان لم يكونوا يجهرون بها، لحديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -.
ثالثاً: أن الصلاة لا تبطل بترك الجهر بالإجماع، وأن من قال تبطل فقد خالف الإجماع.
فاجتمع في ترك الجهر بالبسملة سنة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسنة الخلفاء الثلاثة، وقد حث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على اتباع سنته وسنة الخلفاء الراشدين من بعده.
كتبه محمد الصالح العثيمين في 10 من محرم سنة 1418هـ.
462 وسئل فضيلة الشيخ: هل التأمين سنة؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم، التأمين سنة مؤكدة، لاسيما إذا أمن الإمام، لما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إذا أمن الإمام فأمنوا، فإن من وافق تأمينه
__________
(1) نيل الأوطار 2/205.(13/115)
تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه" (1) .
ويكون تأمين الإمام والمأموم في آن واحد، لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله وسلم: "إذا قال الإمام ولا الضالين فقولوا آمين" (2) .
463 وسئل فضيلة الشيخ: ورد في الحديث: "إذا أمن الإمام فأمنوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه"، فهل من سبق إمامه يدخل في هذا الفضل؟
فأجاب فضيلته بقوله: من سبق إمامه في التأمين فإنه لا يدخل في هذا الفضل، لأنه قال: "إذا أمن الإمام فأمنوا فمن وافق" (3) .
لكن لو فرض أن الإمام تأخر فحينئذ لا حرج على المأموم أن يؤمن.
464 سئل فضيلة الشيخ: إذا فرغ المصلي في الصلاة السرية من قراءة الفاتحة وسورة والإمام لم يركع فهل يسكت؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يسكت المأموم إذا فرغ من قراءة الفاتحة وسورة قبل أن يركع الإمام، بل يقرأ حتى يركع الإمام، حتى لو كان في الركعتين اللتين بعد التشهد الأول وانتهى من الفاتحة ولم يركع الإمام فإنه يقرأ سورة أخرى حتى يركع الإمام؛ لأنه ليس في
__________
(1) أخرجه البخاري في الأذان باب 111: جهر الإمام بالتأمين (780) ، ومسلم في الصلاة باب 18: التسميع والتحميد والتأمين 1/307 ح72 (410) .
(2) أخرجه البخاري في الأذان باب 113: جهر المأموم بالتأمين (782) ، ومسلم في الموضع السابق ح76 (410) .
(3) أخرجه البخاري في الموضع السابق، ومسلم في الموضع السابق ح72 (410) .(13/116)
الصلاة سكوت مشروع إلا في حال استماع المأموم لقراءة إمامه.
465 وسئل فضيلة الشيخ: إذا دخل الإنسان في صلاة سرية وركع الإمام ولم يتمكن هذا الشخص من إكمال الفاتحة فما العمل؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان مسبوقاً بمعنى أنه جاء والإمام قد شرع في الصلاة ثم كبر، واستفتح، وقرأ الفاتحة، وركع الإمام قبل انتهائه منها، فإنه يركع مع الإمام ولو فاته بعض الفاتحة؛ لأنه كان مسبوقاً فسقط عنه ما لم يتمكن من إدراكه قبل ركوع الإمام، وأما إذا كان دخل مع الإمام في أول الصلاة وعرف من الإمام أنه لا يتأنى في صلاته، وأنه لا يمكنه متابعة الإمام، إلا بالإخلال بأركان الصلاة ففي هذه الحال يجب عليه أن يفارق الإمام، وأن يكمل الصلاة وحده؛ لأن المتابعة هنا متعذرة إلا بترك الأركان، وترك الأركان مبطل للصلاة.
466 وسئل فضيلة الشيخ: بعض المأمومين إذا قرأ (إياك نعبد وإياك نستعين) قال: استعنا بالله، فما حكم ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: المشروع في حق المأموم أن ينصت لإمامه، فإذا فرغ من الفاتحة أمن الإمام، وأمن المأموم، وهذا التأمين يغني على كل شيء يقوله الإنسان في أثناء قراءة الإمام للفاتحة.(13/117)
467 وسئل فضيلة الشيخ: بعض المأمومين حين يقرأ الإمام في الفاتحة (إياك نعبد وإياك نستعين) يقولون: استعنا بالله، وبعضهم يقول ذلك جهراً، فما الحكم في ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: الحكم في ذلك أنه لا ينبغي للمأموم هذا القول ولا وجه له، لأن قارئ الفاتحة حين يقول (إياك نعبد وإياك نستعين) فذلك خبر عما في نفسه وضميره من أنه لا يعبد إلا الله، ولا يستعين إلا به، والمطلوب من المأموم أن يؤمن على قراءة الإمام حين يقول (ولا الضالين) ذلك هو المطلوب فقط.
أما هذا الذي يقولونه فليس بمشروع، وأيضاً فهو يؤذي من حوله بالتشويش عليهم.
468 وسئل فضيلته: عن قول بعض الناس إذا قال الإمام (إياك نعبد وإياك نستعين) "استعنا بالله"؟
فأجاب فضيلة الشيخ بقوله: قول المأموم إذا قال الإمام (إياك نعبد وإياك نستعين) "استعنا بالله" لا أصل له، وينهى عنه؛ لأنه إذا انتهى الإمام من الفاتحة أمن المأموم، فتأمينه هذا كاف عن قوله استعنا بالله.(13/118)
قراءة الفاتحة
469 سئل فضيلة الشيخ - حفظه الله تعالى-: ما حكم قراءة الفاتحة في الصلاة؟
فأجاب فضيلته بقوله: اختلف العلماء في قراءة الفاتحة على أقوال متعددة:
القول الأول: أن الفاتحة لا تجب لا على الإمام، ولا المأموم، ولا المنفرد، لا في الصلاة السرية، ولا الجهرية، وأن الواجب قراءة ما تيسر من القرآن ويستدلون بقول الله تعالى في سورة المزمل: (فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) . وبقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للرجل: "اقرأ ما تيسر معك من القرآن" (1) .
القول الثاني: أن قراءة الفاتحة ركن في حق الإمام، والمأموم، والمنفرد، في الصلاة السرية والجهرية، وعلى المسبوق وعلى الداخل في جماعة من أول الصلاة.
القول الثالث: أن قراءة الفاتحة ركن في حق الإمام والمنفرد، وليست واجبة على المأموم مطلقاً لا في السرية، ولا في الجهرية.
القول الرابع: أن قراءة الفاتحة ركن في حق الإمام والمنفرد في الصلاة السرية والجهرية، وركن في حق المأموم في الصلاة السرية دون الجهرية.
...
__________
(1) رواه البخاري في الأذان/ باب وجوب القراءة للإمام والمأموم (757) ، ومسلم في الصلاة/ باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة (397) .(13/119)
والراجح عندي: أن قراءة الفاتحة ركن في حق الإمام، والمأموم، والمنفرد في الصلاة السرية والجهرية، إلا المسبوق إذا أدرك الإمام راكعاً فإن قراءة الفاتحة تسقط عنه في هذه الحال، ويدل لذلك عموم قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" (1) . وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج" (2) – بمعنى فاسدة – وهذا عام، ويدل لذلك أيضاً حديث عبادة بن الصامت أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انصرف من صلاة الصبح فقال لأصحابه: "لعلكم تقرؤون خلف إمامكم؟ قالوا: نعم يا رسول الله، قال: "لا تفعلوا إلا بأم القرآن، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها" (3) ، وهذا نص في الصلاة الجهرية.
وأما سقوطها عن المسبوق فدليله: حديث أبي بكرة رضي الله عنه أنه أدرك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ راكعاً، فأسرع وركع قبل أن يدخل في الصف، ثم دخل في الصف، فلما انصرف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من صلاته سأل عمن فعل ذلك، فقال أبو بكرة: أنا يا رسول الله، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "زادك الله حرصاً ولا تعد" (4) ، فلم يأمره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإعادة الركعة التي أسرع من أجل ألا تفوته، ولو كان ذلك واجباً عليه لأمره به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
__________
(1) متفق عليه من حديث عبادة بن الصامت وتقدم تخريجه في ص73.
(2) رواه مسلم في الصلاة/ باب وجوب قراءة الفاتحة (395) .
(3) رواه الإمام أحمد 5/316، وأبو داود في الصلاة/ باب من ترك القراءة في الصلاة (823) ، والترمذي في الصلاة/ باب ما جاء في القراءة خلف الإمام، والحاكم 1/238 – 239 والدارقطني 1/120.
(4) رواه البخاري وتقدم في ص7.(13/120)
كما أمر الذي يصلي بلا طمأنينة أن يعيد صلاته، هذا من جهة الدليل الأثري.
أما من جهة الدليل النظري فنقول:
إن هذا الرجل المسبوق لم يدرك القيام الذي هو محل قراءة الفاتحة، فلما لم يدرك المحل سقط ما يجب فيه، بدليل أن الأقطع الذي تقطع يده لا يجب عليه أن يغسل العضد بدل الذراع، بل يسقط عنه الفرض لفوات محله، كذلك تسقط قراءة الفاتحة على من أدرك الإمام راكعاً؛ لأنه لم يدرك القيام الذي هو محل قراءة الفاتحة، وإنما سقط عنه القيام هنا من أجل متابعة الإمام.
فهذا القول عندي هو الصحيح، ولولا حديث عبادة بن الصامت الذي أشرت إليه قبل قليل – وهو أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انصرف من صلاة الصبح – لولا هذا لكان القول بأن قراءة الفاتحة لا تجب على المأموم في الصلاة الجهرية هو القول الراجح؛ لأن المستمع كالقارئ في حصول الأجر، ولهذا قال الله تعالى لموسى: (قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا) ، مع أن الداعي موسى وحده، قال تعالى: (وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ) . فهل ذكر الله لنا أن هارون دعا؟ فالجواب لا، ومع ذلك قال: (قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا) . قال العلماء في توجيه التثنية بعد الإفراد: إن موسى كان يدعو وهارون كان يؤمن.
...(13/121)
وأما حديث أبي هريرة الذي فيه: "من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة" (1) فلا يصح؛ لأنه مرسل كما قاله ابن كثير في مقدمة تفسيره، ثم إن هذا الحديث على إطلاقه لا يقول به من استدل به، فإن الذين استدلوا به بعضهم يقول: إن المأموم تجب عليه القراءة في الصلاة السرية فلا يأخذون به على الإطلاق. ...
فإن قيل: إذا كان الإمام لا يسكت فمتى يقرأ المأموم الفاتحة؟
فنقول: يقرأ الفاتحة والإمام يقرأ؛ لأن الصحابة كانوا يقرءون مع الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يقرأ، فقال: "لا تفعلوا إلا بأم القرآن، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها" (2) .
470 سئل فضيلة الشيخ وفقه الله تعالى: ما وجه الجمع بين قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" وكذلك قول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم الكتاب فهي خداج، فهي خداج، فهي خداج غير تمام" وبين قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة"، وحديث: "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا"، ما وجه الجمع؟ وما الحكم إذا قرأ المصلي في الركعة الأولى (قل هو الله أحد) وفي الثانية: العاديات؟ أو في الأولى بسورة البقرة كلها، وفي الثانية بسورة آل عمران؟
...
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد 3/339، وابن ماجة في إقامة الصلاة/ باب إذا قرأ (850) .
(2) رواه البخاري في الجماعة/ باب إنما جعل الإمام ليؤتم به (657) ، ومسلم في الصلاة/ باب ائتمام المأموم بالإمام (412) ، وزيادة: "وإذا قرأ فأنصتوا" عند أبي داود في الصلاة/ باب الإمام يصلي من قعود (604) ، والنسائي في الافتتاح (920) وابن ماجة (846) ، والإمام أحمد 1/420.(13/122)
فأجاب فضيلته بقوله: الحمد لله رب العالمين وبعد:
فإن من المهم لطالب العلم خاصة أن يعرف الجمع بين النصوص التي ظاهرها التعارض، ليتمرن على الجمع بين الأدلة، ويتبين له عدم المعارضة؛ لأن شريعة الله لا تتعارض، فإنها من وحي الله عز وجل. ...
وكلام الله تبارك وتعالى، وما صح عن رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يتعارض، وما ذكره السائل من الأحاديث الأربعة التي قد يظهر منها التعارض فيما بينها فإن الجمع بينها – ولله الحمد – ممكن متيسر وذلك أن نحمل الحديثين الأخيرين "من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة" (1) ، إن صح فإن بعض أهل العلم ضعفه، وقال: لا يصح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنه مرسل، فإن هذا العموم وهو قوله: "من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة" يخصص بحديث الفاتحة: "لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن" (2) . فتكون قراءة الإمام في ما عدا سورة الفاتحة له قراءة.
وكذلك قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا قرأ فأنصتوا" يحمل على ما عدا الفاتحة فيقال: إذا قرأ في غير الفاتحة وأنت قد قرأتها فأنصت له ولا تقرأ معه؛ لأن قراءة الإمام قراءة لك هذا هو الجمع بين الحديثين. والأخذ بالحديثين الأولين وهو "لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن" (3) .
__________
(1) تقدم تخريجه ص122.
(2) رواه البخاري ومسلم وتقدم ص73.
(3) تقدم تخريجه ص73.(13/123)
وحديث: "كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج". الأخذ بهما أحوط؛ لأن القاري يكون قد أدى صلاته بيقين دون شك إذا قرأ الفاتحة ولو كان الإمام يقرأ ففي السنة من حديث عبادة بن الصامت أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى بأصحابه الصبح فلما انصرف قال: لعلكم تقرءون خلف إمامكم؟ قالوا: نعم، قال: "لا تفعلوا إلا بأم القرآن فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها".
وأما قول السائل: ما حكم قراءة قل هو الله أحد في الركعة الأولى وفي الثانية سورة العاديات؟
فهذا لا ينبغي، والذي ينبغي أن تقرأ القرآن في الركعتين مرتباً، فإذا قرأت سورة فالأولى أن تقرأ بما بعدها لا بما قبلها، فإذا قرأ الإنسان (قل يا أيها الكافرون) في الركعة الأولى، فليقرأ في الركعة الثانية (إذا جاء نصر الله والفتح) أو (قل هو الله أحد) ولا يقرأ (أرأيت الذي يكذب بالدين) أو ما كان قبلها وهكذا.
وأما قوله: هل يقرأ في الركعة الأولى بسورة البقرة كلها، والثانية بسورة آل عمران؟
فجوابه: أنه لا يجوز لك أن تفعل هذا إذا كنت إماماً، أن تقرأ بسورة البقرة كاملة وآل عمران كاملة، بل ولا بسورة البقرة وحدها، اللهم إلا أن تكون الجماعة عدداً محصوراً ويوافقوا على ذلك فلا حرج، ووجه هذا أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زجر معاذاً – رضي الله عنه – ووعظه موعظة عظيمة حينما أطال بأصحابه وقال: "أتريد يا معاذ أن تكون فتاناً". وليس للإمام أن يقرأ بأصحابه أكثر مما جاءت به السنة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن صلاة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتم الصلاة، وأحسنها، وأوفقها، وأرفقها بالخلق. والله الموفق.(13/124)
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد: فلا شك أنه ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" (1) ، وأن هذا النفي نفي للصحة لا نفي للكمال كما يدل عليه حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند مسلم "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج" (2) وأن ذلك واجب في كل صلاة، وفي كل ركعة من الركعات لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمسيء في صلاته حين ذكر له ما يفعل بالركعة من قراءة وغيرها قال: "ثم افعل ذلك في صلاتك كلها" (3) .
وأنه لا فرق بين الإمام والمأموم والمنفرد لعموم الحديث، وأما الأحاديث الواردة في إخراج المأموم من ذلك فلا يصح الاستدلال بها إما لضعفها، وإما لضعف دلالتها على ذلك (4) .
كما أن ظاهر الحديث أنه لا فرق بين أن تكون الصلاة جهرية سمع فيها المأموم قراءة الإمام الفاتحة، أم سرية لعموم الحديث، ولحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: صلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصبح فتفلتت عليه القراءة، فلما انصرف قال: "إني أراكم تقرءون
__________
(1) متفق عليه وتقدم ص73.
(2) تقدم في ص120.
(3) رواه البخاري في الأذان، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم (757) ، ومسلم في الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة (397) .
(4) تقدم تخريجها ص122.(13/125)
وراء إمامكم" قال: قلنا يا رسول الله أي والله، قال: "لا تفعلوا إلا بأم القرآن فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها". رواه أبو داود والترمذي (1) . وفي لفظ: "فلا تقرأوا بشيء من القرآن إذا جهرت به إلا بأم القرآن". رواه أبو داود والنسائي (2) .
لكن من جاء والإمام راكع فإنها تسقط عنه في هذه الركعة التي أدرك ركوعها لما في صحيح البخاري عن أبي بكرة رضي الله عنه أنه انتهى إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو راكع فركع قبل أن يصل إلى الصف، فذكر ذلك للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: "زادك الله حرصاً ولا تعد" (3) . وفي رواية لأحمد أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سمع صوت نعل أبي بكرة وهو يحضر (أي يسعى عجلاً) يريد أن يدرك الركعة، فلما انصرف قال: "من الساعي"؟ قال أبو بكرة أنا. وعند الطبراني أنه قال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خشيت أن تفوتني الركعة معك. وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تعد" بفتح التاء وضم العين، وسكون الدال، من العود وهو يتضمن الدلالة على النهي عن السعي، وعن الركوع قبل الوصول إلى الصف، وعلى إدراك أبي بكرة للركعة. ووجه الدلالة منه على إدراكها ما يأتي:
1- أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يأمره بقضائها، ولو لم يدركها لأمره بقضائها، كما أمر المسيء في صلاته بإعادة صلاته حين لم يصلها بطمأنينة، ولم يتم ركوعها، ولا سجودها، ولو أمره بقضائها لنقل إلينا قطعاً لأنه من الشريعة، وقد تكفل الله بحفظها فلا يمكن أن يترك
__________
(1) تقدم تخريجه ص120.
(2) تقدم تخريجه ص120.
(3) رواه البخاري وتقدم تخريجه في ص7.(13/126)
منها ثابت بدون نقل، فلما لم ينقل علم أنه لم يكن.
وهذه قاعدة هامة ينبغي مراعاتها.
2- أن سعي أبي بكرة وركوعه قبل أن يصل إلى الصف دليل على أنه ليدرك الركعة بذلك، وقد صرح للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك في رواية الطبراني، وهو معلوم، وإن لم يصرح به إذ لا يمكن للعاقل أن يفعل مثل ذلك إلا لفائدة يحصل عليها وهي إدراك الركعة هنا، ولو لم يكن بينه وبين من فاته الركوع فرق في عدم الإدراك، لما كان يحسن أن يسعى ويركع قبل أن يصل إلى الصف.
3- أنه لما كان يفهم من فعل أبي بكرة قصد إدراك الركعة ولم يبين له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه لم يدركها مع قيام هذا المقتضى القوي للبيان كان دليلاً واضحاً على إقرار النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا بكرة لما قصده، وأنه قد أدرك الركعة، وهذا أقوى دلالة من الإقرار المجرد الذي لم يسبق بما يقتضي وجوب الإنكار، لو كان العمل مما يجب إنكاره.
هذا من حيث الدليل الأثري على إدراك الركعة إذا أدرك المأموم إمامه راكعاً، وأنه تسقط عنه الفاتحة في هذه الركعة حينئذ.
أما من حيث الدليل النظري فنقول: الفاتحة قرآن واجب حال القيام، وقد سقط القيام عنه حينئذ لوجوب متابعة الإمام، فسقط ما كان واجباً فيه؛ لسقوط محله، كما يسقط التشهد الأول عن المأموم إذا أدرك إمامه في الركعة الثانية من الرباعية، ويزيده في الركعة الأولى مع أنه لو تعمد ذلك في حال غير متابعة الإمام لبطلت صلاته. قال ذلك كاتبه محمد الصالح العثيمين في 29/4/1398هـ.(13/127)
471 وسئل فضيلة الشيخ: في حالة الصلاة الجهرية كالفجر مثلاً هل يلزم المأموم قراءة الفاتحة مع العلم بأن بعض الأئمة بعد انتهائه من قراءة الفاتحة يقرأ سورة أخرى بسرعة لا تتيح للمأموم قراءة الفاتحة؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذه المسألة تنبني على خلاف العلماء – رحمهم الله – في وجوب قراءة الفاتحة، وذلك أن أهل العلم اختلفوا في هذه المسألة:
فمنهم من قال: لا قراءة على المأموم مطلقاً لا في الصلاة السرية ولا في الصلاة الجهرية، لا الفاتحة ولا غيرها.
ومنهم من قال: بل يجب على المأموم أن يقرأ الفاتحة في السرية والجهرية، ولا تسقط الفاتحة إلا في حق المسبوق الذي أدرك الإمام وهو راكع، وهذا القول أقرب إلى ظواهر النصوص، أعني أن الفاتحة واجبة على الإمام والمأموم والمنفرد، وأنها واجبة على المأموم في الصلاة السرية والجهرية إلا المسبوق إذا دخل مع الإمام وهو راكع أو قبل ركوعه في حال لا يتمكن فيها من قراءة الفاتحة، ففي هذه الحالة تسقط عنه.
وعلى هذا فإذا كنت خلف إمام يشرع في قراءة السورة بعد الفاتحة مباشرة، فاقرأ الفاتحة ولو كان إمامك يقرأ، وقد يحصل من ذلك مشقة في أنك تقرأ وإمامك يقرأ، ولاسيما إن كان الإمام من الذين يقرأون بواسطة مكبر الصوت، ولكن نقول: تحمل واصبر ومن صبر ظفر.(13/128)
472 وسئل أيضاً: رجل يصلي الفريضة، قرأ الفاتحة ثم ركع دون أن يقرأ سورة معها ناسياً، فما حكم صلاته؟
فأجاب بقوله: لا شيء عليه، لأن قراءة ما زاد على الفاتحة في الصلاة ليس بواجب، وإنما هو سنة، إذا أتى به الإنسان فهو أفضل، وإن لم يأت به فلا حرج عليه، ولا فرق في ذلك بين الصلاة الجهرية والسرية وبين المأموم والإمام، والمأموم في الصلاة الجهرية إنما يقرأ الفاتحة فقط ثم يستمع لقراءة الإمام.
473 سئل فضيلة الشيخ: متى يقرأ المأموم الفاتحة في الصلاة مع قراءة الإمام للفاتحة أو عندما يقرأ في السورة؟
فأجاب فضيلته بقوله: الأفضل أن تكون قراءة الفاتحة للمأموم بعد قراءة الإمام لها؛ لأجل أن ينصت للقراءة المفروضة الركن؛ لأنه لو قرأ الفاتحة والإمام يقرأ الفاتحة لم ينصت للركن، وصار إنصاته لما بعد الفاتحة وهو التطوع، فالأفضل أن ينصت لقراءة الفاتحة؛ لأن الاستماع إلى القراءة التي هي ركن أهم من الاستماع إلى السنة، هذه من جهة، ومن جهة أخرى أن الإمام إذا قال: (ولا الضالين) وأنت لم تتابع فلن تقول "آمين" وحينئذ تخرج عن الجماعة فالأفضل هو هذا.
474 وسئل حفظه الله: هل تجب قراءة الفاتحة في كل الركعات، أو يكفي لو قرأها في بعض الركعات؟
...(13/129)
فأجاب فضيلته بقوله: يجب أن يقرأ الفاتحة في كل الركعات؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علم المسيء في صلاتِه صلاتَه وقال له: "افعل ذلك في صلاتك كلها" (1) ، فما وجب في الركعة الأولى فإنه يجب في الركعات التي بعدها.
أما ما كان سنة في الركعة الأولى، كالاستفتاح والتعوذ فإنه لا يشرع في الركعات التي بعدها.
475 وسئل فضيلة الشيخ: ما حكم قراءة الفاتحة في صلاة التراويح؟ وما حكم من تركها؟ هل ينقص ثواب الصلاة أو تبطل؟ وكيف نقرأها مع الإمام وهو يقرأ القرآن؟
فأجاب فضيلته بقوله: قراءة الفاتحة قد تقدم الكلام عليه، وبينا أن الراجح من كلام أهل العلم أنها ركن في كل صلاة سواء كان إماماً أو مأموماً أو منفرداً، وأنه إذا كان خلف الإمام الذي يجهر بالقراءة فإنه يقرأ الفاتحة ولو كان الإمام يقرأ، لحديث عبادة بن الصامت – رضي الله عنه – أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" (2) . وهذا ثابت في الصحيحين وغيرهما، وعام ليس في استثناء، وفي السنن أيضاً من حديث عبادة بن الصامت – رضي الله عنه – أنهم صلوا مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاة الفجر وهي صلاة جهرية فلما انصرف قال: "لعلكم تقرأون خلف إمامكم" قالوا:
__________
(1) متفق عليه وتقدم ص125.
(2) متفق عليه وتقدم تخريجه ص73.(13/130)
نعم، قال: "لا تفعلوا إلا بأم القرآن فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها" (1) .
وأما حديث أبي هريرة الذي في السنن أيضاً، وهو أنه ذكر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لا تفعلوا إلا بأم القرآن، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها"، قال: فانتهى الناس عن القراءة فيما يجهر به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) .
فالمراد بالقراءة التي انتهى الناس عنها هي قراءة غير الفاتحة لأنه لا يمكن أن ينتهوا عن قراءة سورة قال فيها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لا تفعلوا إلا بأم القرآن، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها".
ولهذا كان الصواب أن قول من أدعى أنه منسوخ، أي أن القراءة خلف الإمام الذي يجهر منسوخة. قوله هذا ليس بصواب لأنه لا يمكن ادعاء النسخ مع إمكان الجمع، ومن المعلوم أنه إذا أمكن الجمع بطريق التخصيص فإنه لا يصار إلى النسخ.
476 سئل فضيلة الشيخ: هل تصح الصلاة بدون قراءة الفاتحة؟ وهل يجوز للمأموم ترك قراءة سورة الفاتحة خلف الإمام؟ وهل يجوز للمنفرد والإمام ترك قراءة الفاتحة في الركعتين الأخيرتين من الفريضة؟ وهل يجوز ترك الفاتحة في صلاة الجنازة؟
فأجاب فضيلته بقوله: الجواب على هذا السؤال أن الصلاة لا تصح بدون قراءة الفاتحة وذلك لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا صلاة لمن لم
__________
(1) تقدم تخريجه ص120.
(2) رواه أبو داود والنسائي وتقدم في ص120.(13/131)
يقرأ بفاتحة الكتاب". متفق عليه (1) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، ولقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن، أو قال بفاتحة الكتاب فهي خداج، فهي خداج، فهي خداج". أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه (2) ، وخداج معناه الشيء الفاسد الذي لا نفع فيه، وهذا البيان من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيان للمجمل في قوله تعالى: (فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) . وعلى هذا فمن لم يقرأ بها فإنه لا صلاة له، وعليه إعادة الصلاة، فإن لم يفعل فإن ذمته لا تبرأ بذلك، وظاهر الأدلة وعمومها يدل على أنها ركن في حق الإمام والمأموم والمنفرد، وذلك لعدم التفصيل في هذا، ولو كان أحدهم يختلف عن الآخر لبينه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأما ما يذكر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قوله فيما ينسب إليه: "من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة" (3) .
فإن هذا لا يصح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم إن ظاهر الأدلة أنها تجب على المأموم حتى في الصلاة الجهرية وذلك لعدم التفصيل، ولأن أهل السنن رووا من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى بهم صلاة الصبح، فلما انصرف سألهم من الذي يقرأ خلفه أو قال: "هل تقرأون خلف إمامكم؟ " قالوا: نعم، قال: "لا تفعلوا إلا بأم القرآن، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها" (4) . فاستثنى النبي عليه
__________
(1) تقدم تخريجه في ص73.
(2) تقدم تخريجه في ص120.
(3) تقدم تخريجه في ص122.
(4) تقدم تخريجه في ص120.(13/132)
الصلاة والسلام أم القرآن من النهي، مع أن الصلاة صلاة الفجر وهي صلاة جهرية، فدل هذا على وجوب قراءة الفاتحة على المأموم حتى في الصلاة الجهرية، وفي هذه الحال يقرأ، ولو كان إمامه يقرأ فيكون هذا مخصصاً لعموم قوله تعالى: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) .
وأما قول السائل: هل يجوز ترك قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة؟
فجوابه: أن صلاة الجنازة صلاة مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم، فتدخل في عموم قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" (1) ، فإذا صلى أحد على الجنازة ولم يقرأ بفاتحة الكتاب فإن الصلاة لا تصح، ولا تبرأ بها الذمة، ولا تقوم بما يجب قيامه جهة أخينا الميت من حق، وقد ثبت في صحيح البخاري أن ابن عباس – رضي الله عنهما – قرأ سورة الفاتحة في صلاة الجنازة وقال: "لتعلموا أنها سنة أو ليعلموا أنها سنة" (2) ، ومراده بالسنة هنا الطريقة، وليست السنة الاصطلاحية عند الفقهاء، وهي التي يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها؛ لأن السنة في عرف المتقدمين تطلق على طريقة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سواء كانت واجبة أم مستحبة، كما في حديث أنس بن مالك – رضي الله عنه – أنه قال (أي أنس) : "من السنة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعاً" (3) والمراد بالسنة هنا السنة الواجبة.
...
__________
(1) متفق عليه وتقدم تخريجه في ص73.
(2) رواه البخاري في الجنائز باب 65: قراءة فاتحة الكتاب على الجنازة (1335) .
(3) رواه البخاري في النكاح باب 102 – إذا تزوج الثيب على البكر (5214) ورواه مسلم في الرضاع باب قدر ما تستحقه البكر.. ح44 و45 (1461) .(13/133)
وعلى هذا فعلى المرء أن يتقي الله عز وجل في نفسه، وأن يرجع فيما يتعبد به لله، أو يعامل به عباد الله إلى كتاب الله، وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ففيهما الكفاية، وفيهما الهدى والنور والشفاء.
477 سئل فضيلة الشيخ: ما حكم من ترك الفاتحة سهواً في بعض ركعات الصلاة؟ وما الحكم إذا أدرك الإمام راكعاً؟ وإذا تركها المصلي عمداً فما الحكم؟ وما الحكم في رجل صلى مع جماعة صلاة رباعية من أول الصلاة فلما سلم الإمام قام هذا الرجل وأتى بركعة خامسة فلما سأله الإمام قال: إنني في الركعة الثالثة لم أتمكن من قراءة الفاتحة فأتيت بهذه الركعة بدلاً عنها؟
فأجاب فضيلته بقوله: جواب المسألة الأولى: إذا ترك المأموم الفاتحة سهواً في بعض ركعات الصلاة، فإن قلنا، إنها سنة في حق المأموم كما هو المذهب فلا يعيد الركعة التي ترك منها الفاتحة، وإن قلنا، إنها ركن وهو الراجح وجبت إعادتها كما لو كان منفرداً أو إماماً.
وأما إذا أدرك الإمام راكعاً فإن قراءة الفاتحة تسقط عنه حينئذ؛ لأن محل قراءة الفاتحة القيام، وقد سقط عنه هنا من أجل متابعة الإمام فسقطت عنه الفاتحة لفوات محلها.
أما إذا تركها عمداً وهو إمام أو منفرد أو مأموم وقلنا بأنها ركن في حقه، فإنها تبطل الصلاة كلها لا الركعة فقط.
جواب المسألة الثانية: هذا صحيح، وخير من ذلك أنه لما(13/134)
قام وركع الإمام قبل أن يكمل قراءة الفاتحة أن يكمل الفاتحة ويتابع الإمام ولو رفع الإمام من الركوع.
478 وسئل فضيلة الشيخ: هل تجب قراءة الفاتحة على المأموم في صلاة القيام والتهجد؟ وهل تعتبر قراءة الإمام قراءة له؟
فأجاب فضيلته بقوله: الصحيح من أقوال أهل العلم أن قراءة الفاتحة واجبة على الإمام والمأموم والمنفرد في الصلاة السرية والجهرية، فإذا قال قائل: ما الدليل على قولك هذا؟
فالجواب: حديث عبادة بن الصامت: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" (1) ، والنفي هنا للصحة.
وهناك قاعدة أصولية تقول: (إذا ورد النفي فالأصل أنه نفي للشيء بعينه، فإن لم يمكن ذلك فهو نفي للصحة، فإن لم يمكن ذلك فهي نفي للكمال) ، وهذه القاعدة متفق عليها بين العلماء، لكن التطبيق يختلف بناء على تحقيق المناط في هذه المسألة. ...
وحديث "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" ليس فيه استثناء.
فإن قلت: هذا العموم معارض في القرآن بقوله: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) فمادام أنني أقرأ فأنصت.
__________
(1) متفق عليه وتقدم تخريجه في ص73.(13/135)
فانصرف، فقال: "لعلكم تقرأون خلف إمامكم؟ " فقالوا: نعم، قال: "لا تفعلوا إلا بأم القرآن، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها" (1) .
وصلاة الفجر جهرية، إذن فهذا الحديث يرجع عموم قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب"، ويكون مخصصاً لقول الله عز وجل: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) فيكون (وَإِذَا قُرِئَ) في غير الفاتحة، فالفاتحة لابد من قراءتها.
وبناء على هذا نقول: إن من صلى خلف الإمام في التراويح أو القيام، وجب عليه أن يقرأ الفاتحة ولو كان إمامه يقرأ.
وأما قول السائل: هل يقرأ سورة بعد الفاتحة في الركعة الثالثة والرابعة؟
فجوابه: الصحيح أنه في الثلاثية والرباعية يقرأ في الركعتين الأوليين الفاتحة وسورة، وما بعد التشهد الأول يقتصر فيه على الفاتحة، ولا بأس في صلاة الظهر والعصر أن يزيد على الفاتحة أحياناً لا دائماً، فلو زاد على الفاتحة في الظهر والعصر في الثالثة والرابعة فإنه لا بأس به، والأفضل أن يكون الأكثر أن لا يقرأ شيئاً بعد الفاتحة في الركعة التي بعد التشهد الأول. والله الموفق.
__________
(1) رواه أبو داود والترمذي وتقدم في ص120.(13/136)
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد الصالح العثيمين إلى الأخ المكرم حفظه الله تعالى.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
أشكركم على نشر العلم بين زملائكم، وأسأل الله تعالى أن يثيبكم على ذلك.
وأما ما ذكرتم من جهة قراءة الفاتحة فأفيدكم بأن العلماء مختلفون في وجوب قراءتها على المأموم.
فمن العلماء من قال لا تجب قراءة الفاتحة على المأموم مطلقاً، لا في الصلاة السرية ولا في الصلاة الجهرية.
ومن العلماء من قال تجب قراءتها على المأموم في الصلاة السرية دون الجهرية.
ومن العلماء من قال تجب قراءتها على المأموم في الصلاة السرية والجهرية، وهذا هو القول الراجح لعموم قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب". متفق عليه (1) ، وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصبح فثقلت عليه القراءة، فلما انصرف قال: "إني أراكم تقرأون وراء إمامكم"، قالوا: أي والله، قال: "لا تفعلوا إلا بأم القرآن فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها". رواه أبو داود
__________
(1) تقدم في ص73.(13/137)
والنسائي بمعناه (1) ، وقال الدارقطني: رجاله كلهم ثقات، وهذا نص في أن الصلاة لا تصح إلا بقراءة الفاتحة حتى في حق المأموم في الصلاة الجهرية، ولكنها تسقط عن المسبوق حين يدخل والإمام في الركوع، لحديث أبي بكرة رضي الله عنه أنه انتهى إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو راكع فركع قبل أن يصل إلى الصف فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: "زادك الله حرصاً ولا تعد". رواه البخاري (2) ، ولم يأمره أن يقضي الركعة التي أدرك ركوعها ولم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب، فدل ذلك على أن الفاتحة تسقط عمن أدرك الإمام راكعاً، لأنه لم يدرك القيام الذي هو محل القراءة لكنها لا تسقط عنه في بقية الركعات.
كتب ذلك محمد الصالح العثيمين ليلة 17/7/1415هـ.
__________
(1) تقدم تخريجه ص120.
(2) تقدم تخريجه في ص7.(13/138)
479 سئل فضيلة الشيخ: ما حكم التأمين خلف الإمام؟
فأجاب بقوله: إذا كان المراد التأمين على قراءة الفاتحة فالتأمين على قراءة الفاتحة ثبت به النص، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا أمن الإمام فأمنوا"، وفي لفظ "إذا قرأ (ولا الضالين) فقولوا آمين" (1) ، والسنة فيه الجهر بالتأمين على الفاتحة، ومعنى "آمين" اللهم استجب، والله عز وجل قال في الحديث القدسي: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال: (الحمد لله رب العالمين) قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: (الرحمن الرحيم) قال الله تعالى: أثنى عليّ عبدي، وإذا قال: (مالك يوم الدين) قال: مجدني عبدي، وإذا قال: (إياك نعبد وإياك نستعين) قال: هذا بيني وبين عبدي نصفين، وإذا قال: (اهدنا الصراط المستقيم) إلى آخره قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل" (2) . إذن يكون قول الإمام (اهدنا الصراط المستقيم) دعاء والمأموم مستمع فالمشروع في حقه أن يؤمن.
أما التأمين على دعاء القنوت فإنه أيضاً بالقياس على التأمين على قراءة الفاتحة يكون مشروعاً؛ لأن القانت يدعو لنفسه ولغيره، ولهذا جاء في الحديث "ثلاث لا يحل لأحد أن يفعلهن: لا يؤم رجل قوماً فيخص نفسه بالدعاء دونهم، فإن فعل فقد خانهم ... " (3) . ...
__________
(1) متفق عليه وتقدم في ص116.
(2) رواه مسلم تقدم تخريجه في ص108.
(3) رواه أبو داود في الطهارة/ باب أيصلي الرجل وهو حاقن (90) ، والترمذي في الصلاة/ باب ما جاء في كراهية أن يخص الإمام نفسه بالدعاء (357) وابن ماجة في إقامة الصلاة (853) ، والإمام أحمد 5/280.(13/139)
والمراد بالدعاء الدعاء الذي يؤمن عليه المأموم، فإن الإمام لا يخص به نفسه، أما الدعاء الذي لا يؤمن عليه المأموم فله أن يخص نفسه به، فيقول اللهم اغفر لي، اللهم ارحمني.
480 وسئل فضيلة الشيخ: عن حكم الجهر بالتأمين؟ وهل ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التأمين سراً في الصلاة الجهرية؟
فأجاب فضيلته بقوله: الجهر بالتأمين في الصلاة الجهرية سنة؛ لأنه تبع للقراءة، وقد وردت في ذلك أحاديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أنه كان يجهر بهذا حتى إن المسجد يرتج من أصوات المأمومين بالجهر" (1) ؛ ولأن المأموم يؤمن على قراءة إمامه التي يجهر بها، فالدعاء مجهور به فناسب أن يكون التأمين مجهوراً به أيضاً، هذا من الناحية النظرية، ولكن مع هذا فلا ينبغي أن تكون هذه المسألة مثاراً للجدل، والحقد بين المسلمين، فإن ذلك ليس من طريق السلف الصالح، فالسلف الصالح يختلفون في أمور كهذه، ولا يضلل بعضهم بعضاً من أجل هذا، فإذا أمن الإنسان ورفع صوته بالتأمين في الصلاة الجهرية كان ذلك خيراً وأفضل.
__________
(1) رواه أبو داود في الصلاة/ باب التأمين وراء الإمام (934) ، والبيهقي 2/9، والحاكم 1/23، وعند ابن ماجة بلفظ: "فيرتج المسجد" (853) .(13/140)
481 وسئل فضيلة الشيخ: عن حكم من يسخر بالذي يرفع يديه في صلاته، ويؤمن بجهر، ويقرأ سورة الفاتحة خلف الإمام، ويصلي التراويح إحدى عشرة ركعة، وأن طلاق الثلاث واحدة، ويعامله معاملة عداوة، ولا يصلي خلفه، ويلقبه بأنه وهابي وأنه خارج عن أهل السنة والجماعة؟
فأجاب فضيلته بقوله: الذي يسخر بمن يقوم بهذه الأعمال المشروعة لا يخلو من حالين:
إما أن يسخر به لكونه طبق الأمر المشروع، ولهذا على خطر عظيم؛ لأنه إذا سخر به من أجل اتباع المشروع كان ساخراً بالمشروع نفسه، والسخرية بشرع الله كفر – والعياذ بالله – كما قال الله تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ* لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) .
وأما إن كان يسخر به لسوء فهم عنده، ولعدم معرفة بالشرع عنده، فإنه لا يكفر، لكنه يكون قد أتى معصية حيث احتقر أخاه المسلم، وقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم" (1) .
فتبين أن السخرية بمن يقوم بشرائع الله تنقسم إلى هذين القسمين:
إن سخر به من أجل تطبيق ما يراه شرعاً فهو كافر؛ لأن
__________
(1) رواه مسلم في البر باب 10 – تحريم ظلم المسلم 4/1986 ح 32 – (2564) وفي أوله: لا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخواناً إلخ.(13/141)
سخريته به سخرية بالشرع.
وإن سخر به معتقداً أنه ناقص الفهم، قليل العلم، حيث خالف رأي أئمة عنده، فهذا لا يكفر، لكنه يكون فاعلاً لمعصية عظيمة، عليه أن يتوب إلى الله سبحانه وتعالى، ولا ينبغي أن يكون مثل هذا الخلاف سبباً للعداوة والبغضاء بين المسلمين، فإن هذه الأمور من الأمور الاجتهادية التي إذا بذل الإنسان فيها الجهد بقصد الوصول للحق من كتاب الله، وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم أخطأ فيها فإن له أجراً واحداً، وإن أصاب فإن له أجرين، كما ثبت ذلك في صحيح البخاري وغيره عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إذا اجتهد الحاكم فحكم فأخطأ فله أجر، وإن أصاب فله أجران" (1) .
وأما تلقيب من فعل هذه السنن وهذه الأمور المشروعة بأنه مبتدع، وأنه وهابي، وأنه خارج عن السنة والجماعة، فإن هذا منكر وذلك لأن الذي يفعل الأمور المشروعة التي ثبتت بها السنة أقرب إلى الحق ممن يعتمد على تقليد فلان وفلان ممن هم عرضة للخطأ، ومن العجب أن هؤلاء المقلدين يضللون من خالفهم في تقليدهم وهم يتناقضون، فإننا إذا أبحنا لمن يقلد واحداً من الأئمة الأربعة أن يقدح بمن يقلد الإمام الثاني، فإننا نبيح لمن يقلد الإمام أن يقدح بمن يقلدون الإمام الأول، وهكذا يعرف المسلمون كلهم لا يعرفون إلا بقدح بعضهم لبعض، ومثل هذا لا تأتي به الشريعة أبداً، وليس أبو حنيفة بأولى بالصواب من مالك، ولا مالك بأولى بالصواب من
__________
(1) متفق عليه، رواه البخاري في الاعتصام باب 21 – أجر الحاكم إذا اجتهد. ح (7352) ، ورواه مسلم في القضاء (الأقضية) باب 6 – بيان أجر الحاكم 3/1342 ح15 (1716) .(13/142)
أبي حنيفة، ولا هذان بأولى بالصواب من الإمام أحمد، ولا الإمام أحمد بأولى بالصواب منهما ولا هؤلاء بأولى بالصواب من الشافعي، ولا الشافعي أولى بالصواب منهم، بل كلهم مجتهدون، والمصيب منهم من وافق الشريعة.
وأما قول السائل: بأن من فعل هذا كان وهابياً، فإني أبلغ السامعين جميعاً بأن الوهابية ليست مذهباً مستقلاً أو مذهباً خارجاً عن المذاهب الإسلامية، بل إنها حركة لتجديد ما اندثر من الحق، وخفي على كثير من الناس، فهم في عقيدتهم متبعون للسلف، وفي مذهبهم في الفروع مقلدون للإمام أحمد – رحمه الله – ولا يعني ذلك أنه إذا تبين الصواب لا يدعون من قلدوه، بل هم إذا تبين لهم الصواب، ذهبوا إليه وإن كان مخالفاً لمن قلدوه؛ لأنهم يؤمنون بأن المقلد عرضة للخطأ، ولكن النصوص الشرعية ليس فيها خطأ.
وبهذا تبين أن هذه الدعوى التي يقصد بها التشويه لا حقيقة لها، وأن الوهابية ما هي إلا حركة لتجديد ما اندثر من علم السلف في شريعة الله سبحانه وتعالى، وهي لا تخلو أن تكون دعوة سلفية محضة كما يعرف ذلك من تتبعها بعلم وإنصاف.
حرر في 20/4/1407هـ.
482 وسئل فضيلة الشيخ: إذا انتهى الإنسان من الفاتحة في الصلاة السرية هل يؤمن أم لا؟ وهل يجهر بالتأمين؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا انتهى من الفاتحة يقول: آمين في(13/143)
الصلاة السرية والجهرية، لكن لا يجهر بها في الصلاة السرية، ويجهر بها في الصلاة الجهرية.
483 وسئل فضيلة الشيخ: كيف يمكننا الخشوع في الصلاة، وعند قراءة القرآن في الصلاة وخارجها؟
فأجاب فضيلته بقوله: الخشوع هو لب الصلاة ومخها، ومعناه حضور القلب، وألا يتجول قلب المصلي يميناً وشمالاً، وإذا أحس الإنسان بشيء يصرفه عن الخشوع فليستعذ بالله من الشيطان الرجيم كما أمر بذلك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) ، ولا شك أن الشيطان حريص على إفساد جميع العبادات لاسيما الصلاة التي هي أفضل العبادات بعد الشهادتين، فيأتي المصلي ويقول: اذكر كذا، اذكر كذا (2) ، ويجعله يسترسل في الهواجس التي ليس منها فائدة والتي تزول عن رأسه بمجرد انتهائه من الصلاة.
فعلى الإنسان أن يحرص غاية الحرص على الإقبال على الله – عز وجل – وإذا أحسن بشيء من هذه الهواجس والوساوس فليستعذ بالله من الشيطان الرجيم سواء كان راكعاً، أو في التشهد، أو القعود، أو في غير ذلك من صلاته.
ومن أفضل الأسباب التي تعينه على الخشوع في صلاته أن يستحضر أنه واقف بين يدي الله وأنه يناجي ربه عز وجل.
__________
(1) سبق تخريجه في ص110 من حديث عثمان بن أبي العاص.
(2) تقدم في ص103.(13/144)
484 وسئل فضيلته الشيخ – أعلى الله درجته في المهديين -: إني أصلي صلاة الظهر والعصر بصوت عالٍ حتى لا أخرج من جو الصلاة فما حكم ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا غلط؛ لأن السنة في صلاة الظهر والعصر الإسرار، وكون الإنسان لا يخشع إلا بمخالفة السنة غلط. بل يمرن نفسه على موافقة السنة، ويحاول أن يخشع بقدر ما يستطيع.
485 وسئل فضيلة الشيخ – غفر الله له -: عندما يصلي الإنسان لوحده في صلاة جهرية، هل يجهر بالقراءة؟ أو هو مخير؟ وما حكم إقامة بعض الشباب صلاة التهجد جماعة في كل ليلة؟
فأجاب فضيلته بقوله: يقول العلماء رحمهم الله تعالى: إن الإنسان إذا صلى وحده في صلاة الليل فهو مخير بين أن يجهر بالقراءة، أو يسر بها، ولكن إذا كان معه أحد يصلي فلابد من الجهر، ودليل ذلك حديث حذيفة بن اليمان أنه صلى مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات ليلة، فقرأ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشرع في سورة البقرة، وكان لا تمر به آية رحمة إلا سأل، ولا آية عذاب إلا تعوذ، قال حذيفة: فظننت أنه يركع عند المائة آية فمضى حتى أتمها، ثم قرأ بعدها سورة النساء، وآل عمران ثم ركع (1) .
__________
(1) رواه مسلم في صلاة المسافرين باب 27 – استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل 1/536 ح203 (772) .(13/145)
وهذا يدل على أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يجهر بذلك، ولولا هذا ما علم حذيفة بما كان يقف له عند آية الرحمة، وآية العذاب، وآية تسبيح، وأنه كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا مر بآية تسبيح سبح.
وهنا إشكالان في هذا الحديث:
الأول: هل تشرع صلاة التهجد جماعة أم لا؟
الجواب على هذا الإشكال أن يقال: لا تشرع صلاة التهجد على وجه الاستمرار، أما أحياناً فلا بأس، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى معه حذيفة بن اليمان كما في هذا الحديث، ومرة أخرى صلى معه العباس – رضي الله عنهما – ومرة ثالثة صلى معه عبد الله بن مسعود، ولكنه عليه الصلاة والسلام لا يتخذ هذا دائماً، ولا يشرع ذلك إلا في أيام رمضان، فإذا كان أحياناً يصلي جماعة في التهجد فلا بأس، وهو من السنة.
وأما ما يفعله بعض الأخوة من الشباب الساكنين في مكان واحد من إقامة التهجد جماعة في كل ليلة هذا خلاف السنة.
الإشكال الثاني: في حديث حذيفة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ سورة النساء بعد سورة البقرة، ثم آل عمران، والذي بين أيدينا أن سورة آل عمران بعد البقرة، والنساء بعد آل عمران، فكيف يكون الأمر؟
الجواب: أن يقال استقر الأمر على أن تكون سورة آل عمران بعد البقرة، ولهذا تأتي الأحاديث في فضائل القرآن بجمع سورة البقرة وسورة آل عمران، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اقرأوا الزهراوين: البقرة وآل عمران، فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غيايتان، أو غمامتان، أو فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما يوم(13/146)
القيامة" (1) . فكان الأمر على الترتيب الموجود الآن.
486 وسئل فضيلة الشيخ: ما هي السكتات التي يسكتها الإمام في القراءة الجهرية؟ وكذلك ما حكم قراءة الفاتحة خلف الإمام؟
فأجاب فضيلته بقوله: للاستفتاح، وهذه ثابتة في الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه قال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بأبي وأمي يا رسول الله، إسكاتك بين التكبير والقراءة، ما تقول؟ قال: "أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي، كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد" (2) .
والسكتة الثانية: بعد قراءة الفاتحة أخرجها أبو داود وغيره (3) من أهل السنن، وقال الحافظ في الفتح إنها ثابتة، ولكنها سكتة
__________
(1) رواه مسلم في صلاة المسافرين باب 42 - فضل قراءة القرآن وسورة البقرة 1/553 ح252 - (804) .
(2) متفق عليه من حديث أبي هريرة رواه البخاري في الأذان باب 89 - ما يقول بعد التكبير (744) ، ومسلم في المساجد باب 27 - ما يقال بين تكبيرة الإحرام والقراءة 1/419 ح147- (598) .
(3) من حديث سمرة بن جندب، رواه أبو داود في الصلاة باب السكتة عند الافتتاح (777 – 780) . ورواه الترمذي وحسنه في الصلاة باب: ما جاء في السكتتين ح (251) وصححه الشيخ أحمد شاكر.(13/147)
ليست كما قاله بعض الفقهاء، إنها طويلة بحيث يتمكن المأموم من قراءة الفاتحة بل هي سكتة يسيرة يتأمل الإمام فيها ما سيقرأ بعد الفاتحة، وينتظر شروع المأموم في قراءتها.
والسكتة الثالثة: وهي سكتة لا تكاد تذكر بعد القراءة التي بعد سورة الفاتحة قبل الركوع، لكنها سكتة يسيرة جداً ولهذا حذفت من بعض الأحاديث.
وأما قراءة المأموم خلف إمامه: فإن كان في صلاة سرية فإنه يقرأ الفاتحة وما تيسر حتى يركع الإمام، وإن كان في صلاة جهرية فإنه لابد من قراءة الفاتحة، ثم ينصت لقراءة إمامه لحديث عبادة بن الصامت أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انصرف من صلاة الصبح فقال لهم: "لعلكم تقرأون خلف إمامكم"، قالوا: نعم، قال: "لا تفعلوا إلا بأم القرآن، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها" (1) ، وهذا القول هو مذهب الإمام الشافعي رحمه الله، وهو الذي يدل عليه حديث عبادة بن الصامت الذي ذكرته آنفاً، إلا أن الفاتحة تسقط إذا جاء المأموم ودخل مع الإمام في حال لم يتمكن فيها من قراءة الفاتحة، كما لو أدرك الإمام راكعاً، أو أدركه قريباً من الركوع بحيث لم يتمكن من قراءة الفاتحة، فإنه في هذه الحال تسقط عنه لحديث أبي بكرة رضي الله عنه حين دخل مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الركوع واعتد بتلك الركعة ولم يأمره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقضائها حين قال له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "زادك الله حرصاً ولا تعد" (2) .
__________
(1) رواه أبو داود والترمذي وسبق تخريجه في ص120.
(2) رواه البخاري وتقدم ص7.(13/148)
487 وسئل فضيلة الشيخ: يرى شيخ الإسلام ابن تيميه – رحمه الله – أن قراءة الفاتحة لا تجب على المأموم في الصلاة الجهرية، ويميل إلى تضعيف حديث عبادة بن الصامت – رضي الله عنه – "لعلكم تقرأون خلف إمامكم" فما تعليقكم على ذلك؟
فأجاب فضيلته: شيخ الإسلام – رحمه الله تعالى – كما قال السائل يرى أنها لا تجب على المأموم في الجهرية، ولا ريب أن شيخ الإسلام – رحمه الله – له ثقله ولكلامه وزنه، ولكن فيما أرى أن الصواب مع الإمام الشافعي – رحمه الله تعالى – في هذه المسألة، والحديث وإن ضعفه شيخ الإسلام فقد صححه غيره، ويؤيده عموم الحديث "لا صلاة لمن لم يقرأ بأم الكتاب" وهو في الصحيحين (1) .
488 وسئل فضيلة الشيخ: هناك بعض الأئمة يسكت سكتتين: سكتة قبل قراءة الفاتحة وسكتة بعد القراءة كلها فما هو تعليقكم على هذا؟
فأجاب فضيلته بقوله: تعليقي على هذا يفهم من جوابي الأول في موضع السكتات والذي ذكرته هو الأقرب، وفي بعض ألفاظ حديث سمرة بن جندب فإذا قال (ولا الضالين) (2) .
__________
(1) متفق عليه من حديث عبادة بن الصامت تقدم في ص73.
(2) حديث سمرة بن جندب رواه أبو داود وتقدم في ص147.(13/149)
489 وسئل فضيلة الشيخ: هل ورد أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسكت بين الفاتحة والسورة بعدها؟
فأجاب فضيلته بقوله: السكتة بين قراءة الفاتحة وقراءة السورة لم ترد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، على حسب ما ذهب إليه بعض الفقهاء من أن الإمام يسكت سكوتاً يتمكن به المأموم من قراءة الفاتحة، وإنما هو سكوت يسير يرتد به النفس من جهة، ويفتح الباب للمأموم من جهة أخرى، حتى يشرع في القراءة ويكمل ولو كان الإمام يقرأ، فهي سكتة يسيرة ليست طويلة.
490 وسئل فضيلة الشيخ: ما حكم السكتة التي يفعلها بعض الأئمة بعد قراءة الفاتحة؟ وهل يجب على المأموم قراءة الفاتحة في الصلاة الجهرية؟
فأجاب فضيلته بقوله: السكتة التي يسكتها الإمام بعد الفاتحة سكتة يسيرة، للتمييز بين قراءة الفاتحة التي هي ركن، وبين القراءة التي بعدها وهي نفل، ويشرع فيها المأموم في قراءة الفاتحة.
ويجب على المأموم أن يقرأ الفاتحة في الصلاة السرية والجهرية لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" (1) . ولأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انصرف ذات يوم من صلاة الصبح فقال: "لعلكم تقرأون خلف إمامكم؟ " قالوا: نعم. قال: "لا تفعلوا إلا بأم الكتاب، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ
__________
(1) متفق عليه وتقدم تخريجه ص73.(13/150)
بها" (1) . وهذا نص في أن قراءة الفاتحة واجبة حتى في الصلاة الجهرية. والنفي هنا نفي للصحة ويدل على ذلك قول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث أبي هريرة: "كل صلاة لا يقرأ فيها بأم الكتاب فهي خداج فهي خداج" (2) . يعني فاسدة، فالنفي هنا نفي للصحة. و"من" في حديث: "لا صلاة لمن لم يقرأ.." اسم موصول، والاسم الموصول للعموم، في "لمن لم يقرأ" عام، يشمل الإمام، والمأموم، والمنفرد، فإذا كانت الصلاة سرية فواضح أن المأموم سيقرأ، أما إذا كانت جهرية فهل يقرأ المأموم الفاتحة والإمام يقرأ؟ الجواب: نعم، ولكن لا يقرأ غيرها.
491 وسئل فضيلة الشيخ – غفر الله له -: إذا نسي المصلي قراءة سورة مع الفاتحة فما الحكم؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا نسي المصلي قراءة سورة مع الفاتحة فلا شيء عليه؛ لأن السورة التي بعد الفاتحة لا تجب قراءتها، فغاية أمره أن يكون قد ترك سنة، وترك السنة لا شيء فيه، ولا سجود عليه للسهو.
492 سئل فضيلة الشيخ: هل يسن تطويل صلاة الفجر وخاصة القراءة؟
...
__________
(1) تقدم تخريجه في ص120.
(2) رواه مسلم وغيره وتقدم في ص120.(13/151)
فأجاب فضيلته بقوله: نعم. السنة في صلاة الفجر أن تطول القراءة فيها وأن تكون من طوال المفصل وهي من (ق) إلى (عم) فيطيلها أي قراءتها، ويطيل كذلك الركوع والسجود أكثر من غيرها.
493 سئل فضيلة الشيخ: كثير من الأئمة يداومون على قراءة بعض السور التي فيها سجدة وخاصة يوم الجمعة، هل ورد في ذلك شيء أم لا؟
فأجاب فضيلته بقوله: أما قراءة السور التي فيها السجدة فلا بأس بها لقوله تعالى: (فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) .
أما قراءة السجدة في يوم الجمعة فالمشروع أن يقرأ الإنسان (آلم* تَنْزِيل) السجدة في الركعة الأولى، و (هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَان) في الركعة الثانية، وليس المقصود بقراءة (آلم السجدة) السجدة التي فيه بل المقصود نفس السورة، فإن تيسر له أن يقرأ هذه السورة في الركعة الأولى، (هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَان) في الثانية فهذا هو المطلوب والمشروع، وإلا فلا يتقصد أن يقرأ سورة فيها سجدة عوضاً عن آلم تنزيل السجدة.
494 وسئل فضيلة الشيخ: عن رجل فاتته ركعة من صلاة الفجر، هل يكمل جهراً أو سراً؟
فأجاب فضيلته بقوله: هو مخير، ولكن الأفضل أن يتمها(13/152)
سراً، لأنه قد يكون هناك أحد يقضي فيشوش عليه لو جهر.
495 سئل فضيلة الشيخ: عن شخص له جدة حريصة على أداء الصلاة في وقتها، ولكن لتقدم سنها لا تقرأ قراءة صحيحة، فجميع الآيات تحرفها وذلك ليس من هواها، وأحياناً تقدم آية على آية، أو تحذف بعض الحروف، فكلما أراد أن يعلمها تأبى وتقول أنا أعرف، فتركها لعجزه عن إقناعها، فهل يأثم بذلك؟ وهل تأثم هي أيضاً؟ علماً بأنها ليس في سن الخرف؟
فأجاب فضيلته بقوله: الواجب عليه أن يعلم هذه المرأة باللطف واللين، وأنا أخشى أن قولها: أنا أعرف، وأنا أعلم أنها تقول ذلك؛ لأنه يؤذيها بالتوجيه والتعليم، فالواجب أن يعلمها باللطف، فيقول أذن الظهر مثلاً، ثم يقول صل الظهر، وإذا كانت تسنى كم صلت فليكن حولها حتى يعلمها أن هذه هي الركعة الأولى، وكذلك في الثانية والثالثة وهكذا.
ويتقي الله تعالى ما استطاع، وما عجز عنه فإن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها.
496 وسئل فضيلة الشيخ: إذا فاتت الركعة الأولى أو الثانية مع الجماعة فهل يقرأ القاضي لصلاته سورة مع الفاتحة باعتبارها قضاء لما فاته أو يقتصر على قراءة الفاتحة؟
فأجاب فضيلته بقوله: الصحيح أن ما يقضيه المأموم من(13/153)
الصلاة بعد سلام إمامه هو آخر صلاته، وعلى هذا فلا يقرأ فيه إلا الفاتحة إذا كان الفائت ركعتين، أو ركعة في الرباعية أو ركعة في المغرب، أما الفجر فيقرأ الفاتحة وسورة؛ لأن كلتا الركعتين تقرأ فيهما الفاتحة وسورة.
497 وسئل فضيلة الشيخ: إذا كان الإمام يصل القراءة بعد الفاتحة، فهل لي أن استمع إلى القراءة أو أقرأ الفاتحة؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان الإمام يصل القراءة بالفاتحة فاقرأ الفاتحة ولو كان يقرأ؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" (1) . وفي حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج" (2) . وخداج يعني فاسدة، فقيل لأبي هريرة: "إذا كان الإمام يقرأ فكيف اقرأ"؟ قال: "اقرأ بها في نفسك".
فالإنسان إذا كان لم يقرأ، يقرأ في نفسه سراً، وفي السنن من حديث عبادة بن الصامت – رضي الله عنه – أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى بأصحابه صلاة الصبح فلما انصرف، قال: "مالي أنازع القرآن، لعلكم تقرأون خلف إمامكم؟ " قالوا: نعم، قال: "لا تفعلوا إلا بأم القرآن، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها" (3) .
__________
(1) متفق عليه، وقد تقدم في ص73.
(2) رواه مسلم وتقدم في ص120.
(3) رواه أبو داود والترمذي وحسنه، وتقدم تخريجه في ص120.(13/154)
وعلى هذا فنقول: اقرأ القرآن ولو كان إمامك يقرأ، وإذا كانت السورة التي يقرأها الإمام قصيرة ولا تتمكن من قراءة الفاتحة فلا حرج أن تقرأها، ولو كان الإمام يقرأ الفاتحة.
498 سئل فضيلة الشيخ – وفقه الله تعالى -: ما حكم صلاة ركعتي سنة الفجر بالفاتحة في الركعتين بدون قراءة سورة أخرى مع الفاتحة؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا حرج أن تقتصر على الفاتحة في ركعتي الفجر، لكن الأفضل أن تقرأ مع الفاتحة في الركعة الأولى: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) ، وفي الركعة الثانية: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ، أو في الأولى (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا) الآية في سورة البقرة، و (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) ، الآية في سورة آل عمران، فأحياناً بسورتي الإخلاص، وأحياناً بآية البقرة، وآية آل عمران.
499 وسئل فضيلة الشيخ – أعلى الله درجته في المهديين -: عن رجل يصلي الفريضة قرا الفاتحة ثم ركع دون أن يقرأ سورة معها ناسياً فما حكم صلاته؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا شيء عليه؛ لأن قراءة ما زاد على الفاتحة في الصلاة ليس بواجب، وإنما هو سنة إذا أتى به الإنسان فهو أفضل، وإن لم يأت به فلا حرج عليه، ولا فرق في ذلك بين(13/155)
الصلاة الجهرية والسرية، وبين المأموم والإمام، والمأموم في الصلاة الجهرية لا يقرأ إلا الفاتحة فقط ثم يستمع لقراءة الإمام.
500 وسئل فضيلة الشيخ: هل يجب تحريك اللسان بالقرآن في الصلاة أو يكفي بالقلب؟ وهل يجوز تكرار سورة واحدة بعد الفاتحة؟ وهل تجوز القراءة من أواسط السور في الركعة الأولى وفي الثانية بسورة قصيرة أو العكس؟
فأجاب فضيلته بقوله: القراءة لابد أن تكون باللسان فإذا قرأ الإنسان بقلبه في الصلاة فإن ذلك لا يجزئه، وكذلك أيضاً سائر الأذكار، لا تجزئ بالقلب، بل لابد أن يحرك الإنسان بها لسانه وشفتيه؛ لأنها أقوال، ولا تتحقق إلا بتحريك اللسان والشفتين.
ويجوز للإنسان أن يقرأ بعد الفاتحة سورتين، أو ثلاثاً، وله أن يقتصر على سورة واحدة، أو يقسم السورة إلى نصفين وكل ذلك جائز لعموم قوله تعالى: (فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) (المزمل، الآية: 20) ولقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن" (1) .
والأولى أن يقرا الإنسان في صلاته ما ورد عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأن المحافظة على ما كان يقرؤه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل، وأما مسألة الجواز فالأمر في هذا واسع والله الموفق.
ويجوز للمصلي أن يقرأ في الركعة الأولى من أواسط السور، وفي الركعة الثانية سورة قصيرة.
وأما أن يقرأ في الركعة الأولى سورة قصيرة وفي الركعة الثانية سورة أطول فهذا خلاف الأفضل؛ لأن هدي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تكون القراءة في الركعة الأولى أطول منها في الركعة الثانية، إلا أن أهل العلم استثنوا ما إذا كان الفرق يسيراً، كما في سورة سبح والغاشية فإنه لا بأس به، فإن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقرأ بسبح والغاشية في الجمعة والعيدين.
*
__________
(1) تقدم تخريجه ص125.(13/156)
صفة الركوع.
* صفة السجود.
* تقديم الركبتين على اليدين عند السجود.
* صفة الجلوس بين السجدتين.(13/157)
501 وسئل فضيلة الشيخ: جزاه الله تعالى خيراً -: عن حكم من ترك الركوع والطمأنينة عمداً؟
فأجاب فضيلته بقوله: الركوع ركن لابد منه، فمن لم يركع فإن صلاته باطلة، والطمأنينة في الأركان ركن لابد منه، فمن لم يطمئن لم يطمئن فيها، ثم جاء فسلم على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ارجع فصل فإنك لم تصل"، فرجع الرجل فصلى كما صلى أولاً، ثم رجع إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال له: "ارجع فصل فإنك لم تصل"، فرجع الرجل فصلى كصلاته الأولى، ثم أتى فسلم على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال له: "ارجع فصل فإنك لم تصل"؛ وذلك لأنه كان لا يطمئن في صلاته.
فقال: والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا فعلمني. فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة، فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تطمئن قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن رافعاً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها" (1) . فمن ترك الركوع، أو السجود، أو لم يطمئن في ذلك فلا صلاة له.
__________
(1) حديث المسيء في صلاته: رواه البخاري في الأذان باب - وجوب القراءة للإمام والمأموم ح (757، 793) ، ومسلم في الصلاة باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة 1/298 ح45 (397) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(13/159)
502 سئل فضيلة الشيخ – حفظه الله تعالى -: قرأت في أحد الكتب عن كيفية صلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن وضع اليدين على الصدر بعد الرفع من الركوع بدعة ضلالة، فما الصواب جزاكم الله عنا وعن المسلمين خيراً؟
فأجاب فضيلته بقوله:
أولاً: أنا أتحرج من أن يكون مخالف السنة على وجه يسوغ فيه الاجتهاد مبتدعاً، فالذين يضعون أيديهم على صدورهم بعد الرفع من الركوع إنما يبنون قولهم هذا على دليل من السنة، فكوننا نقول: إن هذا مبتدع؛ لأنه خالف اجتهادنا، هذا ثقيل على الإنسان، ولا ينبغي للإنسان أن يطلق كلمة بدعة في مثل هذا؛ لأنه يؤدي إلى تبديع الناس بعضهم بعضاً في المسائل الاجتهادية التي يكون الحق فيها محتملاً في هذا القول أو ذاك، فيحصل به من الفرقة والتنافر ما لا يعلمه إلا الله.
فأقول: إن وصف من يضع يده بعد الركوع على صدره بأنه مبتدع، وأن عمله بدعة هذا ثقيل على الإنسان، ولا ينبغي أن يصف به إخوانه.
والصواب: أن وضع اليد اليمنى على اليسرى بعد الرفع من الركوع هو السنة، ودليل ذلك ما ثبت في صحيح البخاري عن سهل بن سعد – رضي الله عنه – قال: "كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة" (1) .
__________
(1) رواه البخاري في الأذان باب 87 – وضع اليمنى على اليسرى ح (740) .(13/160)
ووجه الدلالة من الحديث: الاستقراء والتتبع؛ لأننا نقول: أي توضع اليد حال السجود؟.
فالجواب: على الأرض.
ونقول أين توضع حال الركوع؟
والجواب: على الركبتين.
ونقول أين توضع اليد حال الجلوس؟
والجواب: على الفخذين، فيبقى حال القيام قبل الركوع أو بعد الركوع داخلاً في قوله رضي الله عنه: "كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة" فيكون الحديث دالاً على أن اليد اليمنى توضع على اليد اليسرى في القيام قبل الركوع وبعد الركوع، وهذا هو الحق الذي تدل عليه سنة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فصار الجواب على هذا السؤال مكوناً من فقرتين:
الفقرة الأولى: أنه لا ينبغي لنا أن نتساهل في إطلاق بدعة على عمل فيه مجال للاجتهاد.
الفقرة الثانية: أن الصواب أن وضع اليد اليمنى على اليد اليسرى بعد الرفع من الركوع سنة وليس ببدعة، بدليل الحديث الذي ذكرناه وهو حديث سهل بن سعد – رضي الله عنه -.
503 وسئل فضيلة الشيخ – غفر الله له -: المروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن طول ركوعه مثل أو مقارب لطول قيامه، وطول رفعه مقارب لركوعه، وطول سجوده مقارب لطول ركوعه، بمعنى أن طول(13/161)
الركوع أقصر قليلاً من القيام، والرفع من الركوع أقصر قليلاً من الركوع، والسجود أقصر قليلاً من الركوع فهل هذا صحيح؟
وإذا كانت السنة كذلك، فهل إذا قرأت بعد الفاتحة سورة الحجرات وسورة ق وسورة الملك وسورة القلم مثلاً، هل سيكون ركوعي قريباً من مدة هذا القيام؟ وماذا ستكون أذكار الرفع من الركوع، هل أقتصر على ذكر: ربنا ولك الحمد، ثم أكرر هذا الذكر عدة مرات إلى أن أتيقن أنه قارب زمن قيامي وطوله، أو أكرر ذكر: ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه عدة مرات، أو أذكر أنواعاً أخرى خاصة بالرفع من الركوع وأجمعها في وقفة واحدة، وباختصار هل آتي بجميع أذكار الركوع، وأذكار الرفع منه، أو أقتصر على نوع واحد وأكرره حتى يكون ركوعي ورفعي منه متقارباً؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا السؤال يشتمل على وهمين:
الوهم الأول: أنه ذكر أن الركوع أطول من القيام بعده، وأن القيام بعده أطول من السجود وهكذا. وهذا خطأ؛ فإن صلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكون الركوع والقيام منه، والسجود، والجلوس بين السجدتين قريباً من السواء كما صح ذلك عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) ، فهذه الأركان الأربعة
__________
(1) متفق عليه من حديث البراء بن عازب ولفظه عند البخاري، "كان سجود النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وركوعه وقعوده بين السجدتين قريباً من....". رواه في الأذان باب المكث بين السجدتين ح (720) وبأطول من هذا ح (.....) ورواه مسلم في الصلاة باب اعتدال أركان الصلاة ح193 (471) .(13/162)
قريبة من السواء: الركوع والقيام منه، والسجود، والجلوس بين السجدتين، هذه قريبة من السواء وليست مقرونة بالقيام قبل الركوع، وهذا هو الوهم الثاني في سؤاله؛ حيث ظن أن القيام الذي قبل الركوع يكون مساوياً للركوع وليس الأمر كذلك؛ بل إن القيام قبل الركوع له سنة خاصة به ويكون أطول من الركوع.
والحاصل أننا نقول: إن من هدي الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الركوع والرفع منه، والسجود، والجلوس بين السجدتين، أن هذه الأركان الأربعة متقاربة كما ثبت هذا عنه صلاة الله وسلامه عليه، وليست مساوية للقيام قبل الركوع، وحينئذ لا إشكال، ولكن إذا كان الرجل يطيل الركوع كما في صلاة الليل، فإنه ينبغي له أن يطيل القيام بعده بحيث يكون قريباً منه، وحينئذ يقول ما ورد في الحمد، "ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه (1) ملء السموات والأرض، وما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد.." إلى آخر ما هو معروف.
ثم إن كان القيام يقصر عن الركوع، إما أن يكرر هذا الحمد مرة أخرى أو يأتي بما وردت به السنة أيضاً في هذا المقام، وكذلك في الجلوس بين السجدتين يدعو الله تعالى بما ورد، ثم يدعوه بما شاء من أدعية.
__________
(1) قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ربنا ولك الحمد حمداً إلى. مباركاً فيه" رواه البخاري في أثناء حديث رفاعة بن رافع في الأذان باب 126 ح (799) ، وأما لفظ "ربنا ولك الحمد ملء السموات ... " فرواه مسلم في الصلاة باب 40 – ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع 1/347 ح205 (477) .(13/163)
504 سئل فضيلة الشيخ: عن حكم وضع اليد اليمنى على اليد اليسرى بعد الرفع من الركوع؟
فأجاب فضيلته بقوله: وضع اليد اليمنى على اليسرى بعد القيام من الركوع سنة، كما دل على ذلك حديث سهل بن سعد – رضي الله عنه – الذي رواه البخاري في صحيحه قال: "كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة" (1) ، فإذا تأملت هذا الحديث وهو أن الناس مأمورون بوضع اليد اليمنى على ذراع اليسرى تبين لك: أن القيام بعد الركوع يشرع فيه هذا الفعل وهو وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة؛ لأن الحديث عام يخرج منه الركوع؛ لأن اليدين على الركبتين، ويخرج منه السجود؛ لأن اليدين على الأرض، ويخرج منه الجلوس؛ لأن اليدين على الفخذين أو على الركبتين، فيبقى ما عدا ذلك وهو: القيام قبل الركوع وبعد الركوع تكون اليد اليمنى توضع على اليد اليسرى، إما على الذراع، وإما على الرسغ وهو المفصل الذي بين الكف وبين الذراع، والأفضل أن يكون وضعهما على الصدر؛ لأن حديث وائل بن حجر هو أحسن ما روى في ذلك، قال: "صليت مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره" (2) .
__________
(1) تقدم تخريجه في ص160.
(2) رواه ابن خزيمة وتقدم في ص73.(13/164)
505 سئل فضيلة الشيخ – جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيراً -: أين توضع اليد بعد الركوع؟
فأجاب فضيلته بقوله: وضع اليدين بعد الركوع كوضعهما قبل الركوع، أي أن الإنسان إذا رفع من الركوع يضع يده اليمنى على ذراعه اليسرى، ودليل ذلك حديث سهل بن سعد الثابت في صحيح البخاري قال: "كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة" (1) . فسهل رضي الله عنه لم يفصل بين ما قبل الركوع وبعده، وعلى هذا فيكون حديث سهل واضح الدلالة على أن اليد اليمنى توضع على اليد اليسرى بعد الركوع كما توضع قبله؛ لأنه عام، لكن يستثنى منه حال الركوع، والسجود، والقعود؛ لأن السنة جاءت بصفة خاصة في وضع اليد في هذه الأحوال.
506 سئل فضيلة الشيخ: ما حكم وضع اليد اليمنى على اليسرى بعد القيام من الركوع؟
فأجاب فضيلته بقوله: وضع اليد اليمنى على اليسرى بعد القيام من الركوع ليس فيه نص صحيح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولذلك رأى الإمام أحمد – رحمه الله – أن المصلي يخير بينه وبين إرسالهما، ولكن الظاهر ترجيح وضعهما؛ لأن ظاهر حديث سهل بن سعد الذي رواه البخاري يدل على ذلك ولفظه: "كان الناس يؤمرون أن
__________
(1) تقدم في ص160.(13/165)
يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة (1) ، فإذا أخرج من هذا العموم حال الركوع، والسجود، والجلوس تعين أن يكون في القيام، وليس في الحديث تفريق بين القيام قبل الركوع وبعده.
فإن قيل: إن حديث وائل بن حجر في صحيح مسلم يدل على عدم الوضع ولفظه: "أنه رأى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رفع يديه حين دخل في الصلاة كبر، ثم التحف بثوبه، ثم وضع يده اليمنى على اليسرى، فلما أراد أن يركع أخرج يديه من الثوب ثم رفعهما ثم كبر وركع، فلما قال: سمع الله لمن حمده رفع يديه، فلما سجد،سجد بين كفيه". فإنه ذكر الوضع قبل الركوع وسكت عنه بعده.
فالجواب: أن نقول إن السكوت ليس ذكراً للعدم، فلا يكون هذا الظاهر الذي مستنده السكوت معارضاً للظاهر الذي مستنده العموم في حديث سهل، نعم لو صرح بإرسالهما كان مقدماً على ظاهر العموم في حديث سهل، وقد روى النسائي حديث وائل بن حجر بلفظ: "رأيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا كان قائماً في الصلاة قبض بيمينه على شماله" (2) ، وهو صحيح ولم يفرق فيه بين القيام قبل الركوع وبعده فيكون عاماً. والعموم يكون في العبادات، والمعاملات وغيرهما؛ لأنه من عوارض الألفاظ، فأي لفظ جاء بصيغة العموم في العبادات أو المعاملات، أو غيرهما، أخذ بعمومه ألا ترى أن
__________
(1) تقدم تخريجه ص160.
(2) رواه في الافتتاح باب وضع اليمين على الشمال في الصلاة (886) .(13/166)
قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن" (1) يعم كل صلاة وهو في العبادات، وأن قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل" يعم كل شرط وهو في المعاملات وغيرها. وهذا ظاهر وأمثلته كثيرة لا يمكن حصرها.
507 وسئل فضيلة الشيخ: عن المنفرد هل يقول سمع الله لمن حمده، أو يقول ربنا ولك الحمد؟
فأجاب فضيلته بقوله: الإمام والمنفرد يقولان: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد. والمأموم يقول: ربنا ولك الحمد ولا يقول "سمع الله لمن حمده، لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا قال – يعني الإمام – سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد" (2) .
508 سئل فضيلة الشيخ: بعض الناس يزيد كلمة "والشكر" بعد قوله ربنا ولك الحمد فما رأي فضيلتكم؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا شك أن التقيد بالأذكار الواردة هو الأفضل، فإذا رفع الإنسان من الركوع فليقل: ربنا ولك الحمد، ولا يزد والشكر لعدم ورودها.
...
__________
(1) متفق على صحته من حديث عبادة بن الصامت وتقدم ص73.
(2) متفق عليه من حديث أبي هريرة رواه البخاري في الأذان باب 124 وباب 125 – فضل اللهم ربنا لك الحمد ح (795) وح (796) ورواه مسلم في الصلاة باب 18- التسميع والتحميد والتأمين 1/306 ح71- (409) .(13/167)
وبهذه المناسبة فإن الصفات الواردة في هذا المكان أربع:
1- 1- ربنا ولك الحمد.
2- 2- ربنا لك الحمد.
3- 3- اللهم ربنا لك الحمد.
4- 4- اللهم ربنا ولك الحمد.
فهذه الصفات الأربع تقولها لكن لا جميعاً، ولكن تقول هذه مرة وهذه مرة، ففي بعض الصلوات تقول: ربنا ولك الحمد، وفي بعض الصلوات تقول: ربنا لك الحمد، وفي بعضها: اللهم ربنا لك الحمد، وفي بعضها: اللهم ربنا ولك الحمد.
وأما الشكر فليست واردة فالأولى تركها.
509 وسئل فضيلة الشيخ: عن معنى هذا الدعاء "أحق ما قال العبد"؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا الدعاء تابع لما قبله وهو "ربنا ولك الحمد ملء السماوات، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد" (1) فأحق خبر لمبتدأ محذوف تقديره: ذلك أحق ما قال العبد – أي: ما سبق من الثناء والحمد، أحق ما قال العبد – أي أصدقه وأثبته.
__________
(1) رواه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري وابن عباس في الصلاة باب 4 ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع 1/347 ح205 (477) و406 (478) وفي آخره زيادة: لا مانع لما أعطيت إلخ.(13/168)
510 وسئل فضيلة الشيخ: ما حكم رفع اليدين حذو المنكبين عند الركوع، وعند الرفع منه، وعند القيام للركعة الثالثة؟
فأجاب فضيلته بقوله: رفع اليدين في هذه المواضع الثلاثة سنة كما ثبت في حديث ابن عمر (1) – رضي الله عنهما – "أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يرفع يديه – أي حذو منكبيه – إذا كبر للصلاة، وإذا كبر للركوع، وإذا قال سمع الله لمن حمده"، وكذلك في صحيح البخاري (2) : "أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قام للتشهد الأول رفع يديه إلى حذو منكبيه" وهذا الرفع سنة، إذا فعله الإنسان كان أكمل لصلاته، وإن لم يفعله لا تبطل صلاته، لكن يفوته أجر هذه السنة، والذي ينبغي للمرء المحافظة على هذه السنة؛ لأن فيه من اتباع سنة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي ندب إليها في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (3) . ولأن في هذا الرفع إشارة إلى تعظيم الله سبحانه وتعالى، فإذا كان عبادة وتعظيماً لله فينبغي للمؤمن أن يحافظ عليه ولا يدعه.
511 وسئل فضيلة الشيخ – حفظه الله -: إذا كان الإنسان يصلي
__________
(1) متفق عليه وتقدم ص63.
(2) في الأذان باب 86- رفع اليدين إذا قام من الركعتين (739) . ولفظه: "أن ابن عمر كان إذا دخل في الصلاة كبر ورفع يديه، وإذا ركع رفع يديه، وإذا قال سمع الله لمن حمده رفع يديه، وإذا قام من الركعتين رفع يديه. ورفع ذلك ابن عمر إلى نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
(3) رواه البخاري في الأذان باب: 18- الأذان للمسافر.. (630) ، وفي الأدب باب 27- رحمة الناس بالبهائم (6008) وفيه زيادة في أوله وآخره.(13/169)
وأراد السجود وما زال واقفاً، هل يكبر ثم يسجد؟ أو يسجد ثم يكبر؟ أو يكبر وهو نازل للسجود؟ أفيدونا جزاكم الله خيراً.
فأجاب فضيلته بقوله: التكبير للانتقال في الصلاة من ركن إلى آخر، يكون فيما بين الركنين، فإذا أراد السجود فليكبر ما بين القيام والسجود، وإذا أراد القيام من السجود فليكبر ما بين السجود والقيام، هذا هو الأفضل.
وإن قدر أنه ابتدأ التكبير قبل أن يهوي إلى السجود وكمله في حال الهبوط فلا بأس، وكذلك لو ابتدأ في حال الهبوط ولم يكمله إلا وهو ساجد فلا بأس.
512 سئل فضيلة الشيخ: ما معنى قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليبدأ بيديه قبل ركبتيه" (1) ؟
فأجاب بقوله: هذا الحديث معناه أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى أن يبرك الإنسان في سجوده كما يبرك البعير؛ لأن الله تعالى فضل بني آدم على الحيوانات، ولاسيما في العبادة التي هي من أجل العبادات وهي الصلاة، فتشبه الإنسان بالبهائم مخالف لمقصود الصلاة ومخالف للحقيقة التي عليها بنو آدم من التفضيل على البهائم والحيوانات، ولهذا لم يذكر الله تعالى مشابهة الإنسان للحيوان إلا
__________
(1) رواه الإمام أحمد 2/381 وأبو داود في الصلاة/ باب كيف يضع ركبتيه قبل يديه (840) ، والنسائي في التطبيق (الصلاة) باب أول ما يصل إلى الأرض من الإنسان في سجوده (1090) ، والبيهقي 2/98، وانظر زاد المعاد 1/230.(13/170)
في مقام الذم كما في قوله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارا) . وكما في قوله تعالى: (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا) . وكما في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفاراً" (1) . وكقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "العائد في هبته كالكلب يقي ثم يعود في قيئه" (2) .
فالتشبيه بالحيوان في أداء العبادة يكون النهي عنه أشد وأعظم، والبعير إذا برك كما نشاهده يبدأ بيديه، فأول ما يثني يديه ويخر عليهما، ثم يتمم بروكه، فنهى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الساجد أن يبرك كما يبرك البعير، وذلك بأن يقدم يديه قبل ركبتيه فإذا قدم يديه قبل ركبتيه في حال السجود فقد برك كما يبرك البعير وعلى هذا يكون المشروع: أن يبدأ بركبتيه قبل يديه، كما في حديث وائل بن حجر قال: "رأيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا سجد وضع ركبته قبل يديه" (3) ، وكما أن هذا هو الموافق للنزول باعتبار البدن فتنزل الأسافل أولاً بأول، كما ترتفع الأعالي أولاً بأول، ولهذا عند النهوض من السجود يبدأ بالجبهة والأنف، ثم باليدين، ثم بالركبتين، ففي
__________
(1) رواه أحمد 3/475 (2033) .
(2) رواه البخاري في الهبة باب 30- لا يحل لأحد أن يرجع في هبته (2621) و (2622) ، ومسلم في الهبات باب 2- تحريم الرجوع في الصدقة والهبة 3/1240 ح5- (1622) .
(3) رواه أبو داود في الصلاة باب كيف يضع ركبتيه قبل يديه (838) ، والترمذي في الصلاة باب ما جاء في وضع الركبتين قبل اليدين في السجود (268) ، والنسائي في التطبيق (الصلاة) باب أول ما يصل إلى الأرض من الإنسان في سجوده (1088) و (1153) .(13/171)
النزول كذلك يبدأ بالأسفل الركبتين، ثم باليدين، ثم الجبهة، والأنف.
وأما قوله في الحديث: "وليبدأ بيديه قبل ركبتيه" فهذا مما انقلب على الراوي، كما حقق ذلك ابن القيم – رحمه الله – في زاد المعاد (1) ، وكما هو ظاهر من اللفظ، لأنه لو قدر أن الحديث ليس فيه انقلاب، لكن آخره مخالفاً لأوله؛ لأنه إذا بدأ بيديه قبل ركبتيه فقد برك كما يبرك البعير، والنهي "لا يبرك كما يبرك البعير" مقدم على المثال لأن النهي محكم، والتمثيل قد يقع فيه الوهم من الراوي، وحينئذ نقول صواب الحديث: "وليبدأ بركبتيه قبل يديه" ليكون المثال مطابقاً للقاعدة، وهي: النهي عن البروك كما يبرك البعير.
فإن قال قائل: إن البعير يبرك على ركبتيه؛ لأن ركبتيه في يديه فإذا وضع الإنسان ركبتيه قبل يديه فقد برك على ما يبرك عليه البعير.
قلنا: نعم ركبتا البعير في يديه ولا إشكال في ذلك، ولكن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقل: "فلا يبرك على ما يبرك عليه البعير" حتى نقول إنك إذا بدأت بالركبتين عند السجود فقد بركت على ما يبرك عليه البعير، وهو الركبتان، وإنما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كما يبرك البعير" فالنهي عن الكيفية والصفة، وليس عن العضو المسجود عليه، وبهذا يتبين جلياً أن حديث أبي هريرة رضي الله عنه في النهي عن بروك كبروك
__________
(1) زاد المعاد 1/215 – 223.(13/172)
البعير موافق لحديث وائل بن حجر المروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يبدأ بركبتيه قبل يديه. والله أعلم.
513 وسئل فضيلة الشيخ: عن كيفية الهوي للسجود؟
فأجاب فضيلته بقوله: يكون السجود على الركب أولاً، ثم على الكفين؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى أن يسجد على كفيه، حيث قال: "إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه" (1) ، هذا لفظ الحديث.
لكن سنتكلم عليه، فالجملة الأولى "فلا يبرك كما يبرك البعير" والنهي عن صفة السجود؛ لأنه أتى بالكاف الدالة على التشبيه، وليس نهياً عن العضو الذي يسجد عليه، فلو كان النهي هنا عن العضو الذي يسجد عليه لقال (فلا يبرك على ما يبرك عليه البعير) ، وحينئذ نقول: لا تبرك على الركبتين؛ لأن البعير يبرك على ركبتيه، لكن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقل: "لا يبرك على ما يبرك عليه"، لكن قال: "لا يبرك كما يبرك" فالنهي عن الكيفية والصفة لا عن العضو الذي يسجد عليه.
ولهذا جزم ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد (2) بأن آخر الحديث منقلب على الراوي، وآخر الحديث (وليضع يديه قبل
__________
(1) هذا حديث أبي هريرة، رواه أبو داود والنسائي والترمذي بمعناه وتقدم تخريجه في السؤال السابق.
(2) زاد المعاد 1/215.(13/173)
ركبتيه) وقال: إن الصواب "وليضع ركبتيه قبل يديه"؛ لأنه لو وضع يديه قبل ركبتيه لبرك كما يبرك البعير، فإن البعير إذا برك يقدم يديه، ومن شهد البعير عند البروك تبين له هذا.
فحينئذ يكون الصواب إذا أردنا أن يتطابق آخر الحديث وأوله "وليضع ركبتيه قبل يديه"؛ لأنه لو وضع اليدين قبل الركبتين كما قلت لبرك كما يبرك البعير. وحينئذ يكون أول الحديث وآخره متناقضان.
وقد ألف بعض الأخوة رسالة سماها (فتح المعبود في وضع الركبتين قبل اليدين في السجود) وأجاد فيه وأفاد.
وعلى هذا فإن السنة التي أمر بها الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في السجود أن يضع الإنسان ركبتيه قبل يديه.(13/174)
تقديم الركبتين على اليدين عند السجود
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
من أخيكم محمد الصالح العثيمين إلى الأخ المكرم الشيخ:. حفظه الله تعالى
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
فأشكركم على عنايتكم بهذه الأمور، وحرصكم على إبلاغ النصيحة، وأسأل الله تعالى لي ولكم التوفيق، وأن يجعلنا ممن رأى الحق حقاً واتبعه، ورأى الباطل باطلاً واجتنبه.
وأقول: إن طريقكم هذا هو سبيل أهل العلم الناصحين، وقد فهمت ما ذكرتم في حكم المسألة (مسألة تقديم اليدين، أو الركبتين عند السجود) ودليلها.
والحقيقة أن من تأمل حديث أبي هريرة (1) تبين له أن لا معارضة بينه وبين حديث وائل (2) حتى يحتاج إلى ترجيح، فإن حديث أبي هريرة فيه النهي أن يبرك كما يبرك البعير، فهو نهي عن الهيئة، والبعير يقدم يديه فينحط مقدمه قبل مؤخره، وإذا قدم الساجد يديه كان باركاً كما يبرك البعير، حيث قدم يديه فانحط
__________
(1) رواه أبو داود ولفظه: "إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليبدأ بيديه قبل ركبتيه". وتقدم في السؤال السابق والذي قبله.
(2) رواه أبو داود ولفظه: "رأيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه". وتقدم في السؤال السابق والذي قبله.(13/175)
مقدمه قبل مؤخره، وبهذا نعرف توافق الحديثين ولله الحمد.
نعم لو كان لفظ حديث أبي هريرة (فلا يبرك على ما يبرك عليه) لكان معارضاً لحديث وائل؛ لأن البعير يبرك على ركبتيه.
وأما ما ذكرتم من أن دعوة القلب لا تقبل بلا دليل، فهذا حق، ولكن في هذا الحديث ما يدل عليها وهو أوله "فلا يبرك كما يبرك البعير" الموافق لحديث وائل.
هذا ما نراه في المسألة، فإن كان خطأ فمنا، ونستغفر الله تعالى، وإن كان صواباً فمن الله، وله الفضل أولاً وأخراً. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. حرر في 10/8/1402هـ.
514 ...(13/176)
سئل فضيلة الشيخ – حفظه الله تعالى -: ما القول الراجح في الهوي إلى الأرض بعد الركوع؟
فأجاب فضيلته بقوله: القول الراجح في الهوي إلى الأرض بعد الركوع: أن الإنسان يبدأ بركبتيه ثم يديه، وذلك لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن البداءة باليدين حيث قال: "إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير" (1) فنهى أن يبرك الإنسان كما يبرك البعير، وبروك البعير كما هو معلوم لكل من شاهدها وهي تبرك أنها تقدم اليدين، وقد ظن بعض أهل العلم – رحمهم الله – من السابقين، ومن المعاصرين أن هذا نهي عن البروك على الركب، وقال: إن ركبة البعير في يديه، وإن نهي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يبرك الإنسان كما يبرك البعير معناه: النهي أن يبرك على ركبتيه.
ولكن من تأمل الحديث وجد أنه لا يدل على هذا، فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقل: (فلا يبرك على ما يبرك عليه البعير) ، فلو قال: (لا يبرك على ما يبرك عليه البعير) لقلنا: نعم، لا تبدأ بالركبتين قبل؛ لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عنه، ولكنه قال: "فلا يبرك كما يبرك البعير". فجعل النهي منصباً على الهيئة، ولاشك أن البعير ينزل مقدم جسمه قبل مؤخره فيهبط على يديه وهذا شيء معلوم لمن شاهده وتأمله، وقد بحث ابن القيم – رحمه الله – هذا في كتابه: "زاد المعاد" (2) بحثاً وافياً شافياً، وبين أن آخر الحديث "وليضع يديه قبل ركبتيه"
__________
(1) حديث أبي هريرة رواه أبو داود، وتقدم ص170.
(2) زاد المعاد 1/215 – 223.(13/177)
مناقض لأوله وحكم – رحمه الله – بأنه منقلب على الراوي وأن الصواب: "وليضع ركبتيه قبل يديه" لأجل أن يوافق آخر الحديث أوله، لأن كلام الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يتناقض، ومن المعلوم أن الإنسان منهي عن التشبه بالحيوان ولاسيما في أجل العبادات البدنية وهي الصلاة، ولهذا قال الرسول عليه الصلاة والسلام: "لا يبسط أحدكم ذراعية انبساط الكلب" (1) .
ولم يرد فيما أعلم في النصوص تشبيه الإنسان بالحيوان إلا على سبيل الذم، كما قال الله تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ* وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (2) . وقال سبحانه وتعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (3) . وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الذي يتكلم والإمام يخطب كمثل الحمار يحمل أسفاراً (4) . وقال في الذي يعود في هبته: "كالكلب يقيء، ثم يعود في قيئه" (5) .
__________
(1) متفق عليه من حديث أنس بن مالك وفي قوله: "اعتدلوا في السجود"، رواه البخاري في الأذان باب 141- لا يفترش ذراعيه في السجود (822) ، ومسلم في الصلاة، باب 45- الاعتدال في السجود 1/355 ح233 (493) .
(2) سورة الأعراف، الآيتان: 175، 176.
(3) سورة الجمعة، الآية: 5.
(4) رواه أحمد بلفظ: "من تكلم والإمام يخطب فهو كمثل الحمار" 3/475.
(5) متفق عليه وتقدم ص171.(13/178)
فإذا كان كذلك فإننا نقول: إن البعير إذا برك يقدم يديه، فإذا كان كذلك كان الحديث كما قال ابن القيم فيه انقلاب على الراوي.
وهذه المسألة وإن كنت أنا أعتقد أن هذا هو الصواب، وأنه ينهى أن يقدم الإنسان يديه قبل ركبتيه لحديث أبي هريرة هذا، فأنا لا أحب أن تكون مثل هذه المسألة مثاراً للجدل، أو العداوة، أو البغضاء أو التضليل وما أشبه ذلك، لا هذه ولا غيرها من مسائل الاجتهاد، فكل المسائل الاجتهادية التي يعذر فيها الإنسان باجتهاده يجب أن يعذر الإنسان أخاه فيها، فكما أنه هو ينتصر لما يرى أن النصوص دلت عليه، فكذلك أيضاً يجب عليك أن تعامله بمثل ما تحب أن يعاملك به، كما أنه لو انتقدك لرأيته مخطئاً عليك، فأنت إذا انتقدته تكون مخطئاً عليه، أما ما لا يقبل الاجتهاد فلا تسكت عنه وأنكره وبين الحق، والصحابة رضي الله عنهم كانوا يختلفون في مسائل أعظم من هذه، ومع ذلك فالقلوب واحدة، والهدف واحد، والتآلف موجود. والله الموفق.
515 سئل فضيلة الشيح: كيف يتم الجمع بين حديث وائل بن حجر – رضي الله عنه – أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقدم ركبتيه في السجود قبل يديه، وبين حديث أبي هريرة عندما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه". مع أن الحافظ ابن حجر رجح في بلوغ المرام حديث(13/179)
أبي هريرة وهو موقوف، والحافظ ابن القيم تكلم عليه من عشرة وجوه ما قولكم في ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: قولي في ذلك أنه ليس بينهما تعارض، وأن معناهما متفق، فحديث وائل بن حجر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يضع ركبتيه قبل يديه (1) يوافق حديث أبي هريرة تماماً؛ لأن حديث أبي هريرة يقول: "إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير" (2) ، والبعير إذا برك يقدم يديه كما يعرفه من شاهده، فكان مطابقاً تماماً لحديث وائل بن حجر، لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى في حديث أبي هريرة أن يضع يديه قبل ركبتيه؛ لأنه إذا فعل ذلك صار كالبعير.
وقد توهم بعض الناس فقال: إن ركبتي البعير في يديه، وصدق فإن ركبتي البعير في يديه، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقل: (فلا يبرك على ما يبرك عليه البعير) ، بل قال: "فلا يبرك كما يبرك البعير"، فإنه في الحقيقية نهي عن الهيئة والصفة، وكل من شاهد البعير عند بروكه يجد أنه يقدم يديه أولاً، وبذلك يتطابق حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – مع حديث وائل بن حجر، ويبقى النظر في قوله في آخر الحديث: "وليضع يديه قبل ركبتيه" (3) . فإن هذا لا شك وهم من الراوي، وانقلاب عليه، إذ أنه لا يتطابق مع أول الحديث، وأول الحديث هو العمدة وهو الأساس، وآخره فرع عليه، وإذا كان فرعاً عليه وجب أن يكون
__________
(1) حديث وائل بن حجر رواه أبو داود والترمذي والنسائي وتقدم ص171.
(2) رواه أبو داود والنسائي والترمذي وتقدم ص170.
(3) هو حديث أبي هريرة، تقدم ص170.(13/180)
الفرع مطابقاً للأصل، وحينئذ لا يطابق الأصل إلا إذا كان لفظه: "وليضع ركبتيه قبل يديه".
516 وسئل فضيلة الشيخ: لقد ظهر من بعض المصلين حركة جديدة في الصلاة ما كانت تفعل من قبل، فبعض الناس إذا أراد السجود نزل على يديه أولاً قبل ركبتيه، وذلك بوضع ظاهر أصابعه كأنه يعجن، وكذا إذا قام من السجدة الثانية، وأما البعض الآخر من هؤلاء المصلين فإنه إذا قام من جلسة الاستراحة وضع كذلك ظهر أصابع يديه يعتمد على يديه، ثم يرفع يديه ويضعهما على ركبتيه، ويعتمد على ركبتيه في القيام، فما حكم هذه الحركات الزائدة في الصلاة؟
فأجاب بقوله: المشروع للإنسان أن يصلي كما صلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (1) . وقد ذكر مالك بن الحويرث – رضي الله عنه -: "أنه رأى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي، فإذا كان في وتر من صلاته، لم ينهض حتى يستوي قاعداً" (2) ، يعني يجلس في الركعة الأولى، ثم يقوم للثانية، ويجلس في الركعة الثالثة، ثم يقوم للرابعة، وهذه الجلسة سماها العلماء: جلسة الاستراحة، وروى مالك بن الحويرث – أيضاً – أن
__________
(1) رواه البخاري وتقدم ص169.
(2) رواه البخاري في الأذان/ باب من استوى قاعداً في وتر من صلاته ثم نهض (789) .(13/181)
النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "إذا رفع رأسه من السجدة الثانية جلس، واعتمد على الأرض ثم قام" (1) .
ولكن هل هو على صفة العاجن أم لا؟
والجواب: هذا ينبني على صحة الحديث الوارد في ذلك، وقد أنكر النووي – رحمه لله – في المجموع صحة هذا الحديث، أي أنه يقوم كالعاجن (2) ، وبعض المتأخرين صححه، وعلى كل حال فالذي يظهر من حال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه كان يجلس لأنه كبر وأخذه اللحم، فكان لا يستطيع النهوض من السجود إلى القيام مرة واحدة، فكان يجلس ثم إذا أراد أن ينهض ويقوم اعتمد على يديه ليكون ذلك أسهل له، هذا هو الظاهر من حال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى آله وسلم، ولهذا كان القول الراجح في هذه الجلسة – أعني الجلسة التي يسميها العلماء جلسة الاستراحة – أنه إن احتاج إليها لكبر، أو ثقل، أو مرض، أو ألم في ركبتيه أو ما أشبه ذلك فليجلس، ثم إذا احتاج أن يعتمد عند القيام على يديه فليعتمد على أي صفة كانت، سواء اعتمد على ظهور الأصابع، أي جميع أصابعه، أو على راحته، أو غير ذلك، المهم أنه إذا احتاج إلى الاعتماد فليعتمد، وإن لم يحتج فلا يعتمد.
أما النزول للسجود فالصحيح أن الإنسان يبدأ بركبتيه قبل
__________
(1) رواه البخاري في الأذان/ باب كيف يعتمد على الأرض إذا قام من الركعة (790) .
(2) ولفظ الحديث: عن ابن عباس: "أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا قام في صلاته وضع يديه على الأرض كما يضع العاجن"، أخرجه الطبراني في "الأوسط" (3371) وأورده ابن حجر في "التلخيص" 1/265.(13/182)
يديه؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى أن يضع الإنسان يديه قبل ركبتيه حيث قال: "إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير" (1) . ونحن نشاهد البعير إذا برك يقدم يديه، هذا شيء واضح، وقد فهم بعض العلماء أن المراد من ذلك أنه لا يقدم ركبتيه فقال: إن ركبتي البعير في يديه، فإذا قدم ركبتيه عند السجود فقد برك كما يبرك البعير، وهذا فهم فيه نظر، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يقل: (فلا يبرك على ما يبرك عليه البعير) ، فلوا قال ذلك لقلنا: لا تبرك على الركبتين، بل قال: "فلا يبرك كما يبرك البعير"، فالنهي عن الكيفية والهيئة، وعليه فيكون الرجل إذا قدم يديه قبل ركبتيه فقد برك كما يبرك البعير.
فإن قال قائل: يؤيد الفهم الثاني أن الحديث "وليضع يديه قبل ركبتيه" فالجواب عن هذا: أن هذه الجملة لا تصح، لأنها لا تتلاءم مع أول الحديث، بل هي منقلبة على الراوي وصوابها: "وليضع ركبتيه قبل يديه"، كما حقق ذلك ابن القيم – رحمه الله – في زاد المعاد (2) ، وعلى هذا فالسجود يكون على الركبتين، فإن احتاج الإنسان إلى أن يضع يديه قبل ركبتيه، كما لو كان يشق عليه النزول على الركبتين فلا بأس حينئذ بأن يضع اليدين قبل الركبتين.
__________
(1) أخرجه أبو داود وتقدم تخريجه ص170.
(2) زاد المعاد 1/215.(13/183)
517 سئل فضيلة الشيخ – حفظه الله -: انتشر في الآونة الأخيرة فرش المساجد الجديدة أو المجددة بنوع من الإسفنج الأبيض المتين، يوضع تحت السجاد الموضوع للصلاة مما يجعل المصلي يمشي على أرض لينة جداً، وأيضاً تمنع المصلي من ثبوت جبهته وأنفه وركبتيه في سجوده، فنرجو من فضيلتكم بيان الحكم في هذا الأمر، حيث أصبح ينتشر بين المساجد وقد يرفع السجاد الأول ويجدد مع وضع هذا الإسفنج الجديد؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان الإسفنج خفيفاً ينكبس عند السجود عليه فلا بأس، لكن تركه أولى لئلا يتباهى الناس بذلك. حرر في: 27/4/1414هـ.
518 وسئل فضيلة الشيخ – حفظه الله -: عن امرأة تعاني من ألم في المفاصل، وتصلي وهي جالسة، هل يجب عليها عند السجود أن تضع شيئاً تسجد عليه مثل وسادة أو غيرها؟
فأجاب فضيلته بقوله: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعمران بن حصين: "صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب" (1) .
فإذا كانت هذه المرأة لا تستطيع القيام، قلنا لها: صلي جالسة وتكون في حال القيام متربعة، كما صح ذلك عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) ، ثم تومئ بالركوع وهي متربعة، ثم إن استطاعت السجود
__________
(1) رواه البخاري في تقصير الصلاة باب 19- إذا لم يطق قاعداً صلى على جنب (1117) .
(2) رواه النسائي في قيام الليل/ باب كيف صلاة القاعد (1660) ولفظه: عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: "رأيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي متربعاً".(13/184)
سجدت وإلا أومأت برأسها أكثر من إيماء الركوع، وليس في السنة أن تضع وسادة أو شيئاً تسجد عليه، بل هذا إلى الكراهة أقرب؛ لأنه من التنطع والتشدد في دين الله، وقد ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون" (1) .
519 سئل فضيلة الشيخ – وفقه الله تعالى -: إذا سجد المصلي وجعل عمامته وقاية بينه وبين الأرض فما حكم صلاته؟
فأجاب فضيلته بقوله: صلاة ذلك المصلي صحيحة، ولكن لا ينبغي أن يتخذ العمامة وقاية بينه وبين الأرض إلا من حاجة، مثل: أن تكون الأرض صلبة جداً، أو فيه حجارة تؤذيه، أو شوك ففي هذه الحال لا بأس أن يتقي الأرض بما هو متصل به من عمامة، أو ثوب لقول أنس بن مالك رضي الله عنه: "كنا نصلي مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في شدة الحر فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه" (2) . فهذا دليل على أن الأولى أن تباشر الجبهة مكان السجود، وأنه لا بأس أن يتقي الإنسان الأرض بشيء متصل به من ثوب، أو عمامة إذا كان محتاجاً لذلك لحرارة الأرض، أو لبرودتها، أو لشدتها، إلا أنه يجب أن يلاحظ أنه لابد أن يضع أنفه
__________
(1) رواه مسلم في العلم باب 4- هاك المتنطعون 4/2055 ح7 (2670) .
(2) متفق عليه، وهذا لفظ مسلم رواه البخاري في مواقيت الصلاة باب 11- وقت الظهر عند الزوال (542) ومسلم في المساجد باب 33- استحباب تقديم الظهر في أول الوقت في غير شدة الحر 1/433 ح191 (620) .(13/185)
على الأرض في هذه الحال، لحديث ابن عباس – رضي الله عنهما – أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة وأشار بيده إلى أنفه، والكفين، والركبتين، وأطراف القدمين" (1) .
520 وسئل فضيلة الشيخ – حفظه الله تعالى-: عمن يلبس نظارات كبيرة جداً، لا تمكنه من السجود كاملاً على الأعضاء السبعة فقد تحول دون الأنف، كما أن البعض قد يلبس عقالاً سميكاً لا تتمكن جبهته من السجود، ويقولون إن مجرد ملامسة النظارة والعقال للأرض كافيان عن ملامسة الأنف أو الجبهة للأرض لأنهما ملتصقان بهما، فما قولكم – وفقكم الله تعالى-؟
فأجاب فضيلته بقوله: أما العقال: فإن كان نازلاً إلى الجبهة فإن السجود عليه كاف، لكنه مكروه للحيلولة دون اتصال جبهته بمكان السجود.
وأما إذا كان العقال ليس على الجبهة كما هو الغالب، ولكنه على أسفل الرأس، أو على المنحنى من الجبهة وارتفعت الجبهة على الأرض فإن ذلك لا يجزئه، لأن الجبهة لم تمس الأرض ولا ما اتصل بالأرض.
أما بالنسبة للنظارة فإن كانت تمنع من وصول طرف الأنف إلى الأرض فإن السجود لا يجزئ، وذلك لأن الذي يحمل الوجه
__________
(1) متفق عليه، رواه البخاري في الأذان باب 134- السجود على الأنف ح (812) ، ومسلم في الصلاة باب 44- أعضاء السجود ح230 (490) 1/354.(13/186)
هما النظارتان، وهما ليستا على طرف الأنف بل هما بحذاء العينين وعلى هذا فلا يصح السجود، ويجب على من عليه نظارة تمنعه من وصول أنفه إلى مكان السجود أن ينزعها في حال السجود.
521 سئل فضيلة الشيخ – حفظه الله -: لقد رأينا بعض المصلين – هدانا الله وإياهم – إذا سجدوا رفعوا جباههم عن الأرض حتى تلامس الأرض أوقد لا تلامسها، وإذا نصحوا عللوا ذلك بعلل واهية (كإفساد الشماغ وغير ذلك) فما صحة صلاتهم؟ وما هي نصيحتكم لهم؟ نفع الله بعلمكم وجزاكم الله خيراً.
فأجاب فضيلته بقوله: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين، ومن ابتعهم بإحسان إلى يوم الدين.
يجب عليهم أن يمكنوا جباههم من الأرض، وإذا كانوا لا يسجدون إلا بمجرد الملامسة فإن سجودهم غير صحيح، وإذا كان السجود غير صحيح صارت الصلاة غير صحيحة أيضاً، والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد. حرر في 23/5/1417هـ.
522 وسئل فضيلة الشيخ – جزاه الله خيراً-: عن حكم الامتداد الزائد أثناء السجود؟
فأجاب فضيلته بقوله: الامتداد الزائد أثناء السجود خلاف السنة، فإن الواصفين لصلاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقل أحد منهم أنه كان يمد ظهره(13/187)
في السجود، كما قالوا أنه يمد ظهره حال الركوع (1) ، وإنما المشروع في حال السجود أن يرفع الإنسان بطنه عن فخذيه ويعلو بذلك، لا أن يمده كما يفعله بعض الناس.
523 وسئل فضيلة الشيخ: هل ورد أن العلامة التي يحدثها السجود في الجبهة من علامات الصالحين؟
فأجاب فضيلته بقوله: ليس هذا من علامات الصالحين، وإنما هو النور الذي يكون في الوجه، وانشراح الصدر، وحسن الخلق وما أشبه ذلك، أما الأثر الذي يسببه السجود في الوجه فقد تظهر في وجوه من لا يصلون إلا الفرائض لرقة الجلد، وقد لا تظهر في وجه من يصلي كثيراً ويطيل السجود.
524 وسئل فضيلة الشيخ: ما حكم الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في السجود؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم، تجوز الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في السجود لأنها دعاء، والسجود من مواضع الدعاء.
__________
(1) أخرج البخاري في صحيحه عن أبي حميد قال: "ركع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم هصر ظهره" في صفة الصلاة/ باب استواء الظهر في الركوع (758) وعند مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: " وكان إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه ولكن بين ذلك ... " في الصلاة/ باب صفة الركوع والاعتدال منه (498) .(13/188)
525 سئل فضيلة الشيخ – وفقه الله وعفا عنه -: هل يجوز أن يسجد المسلم على ظهر أخيه عند الزحام؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذه المسألة للعلماء فيها ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه يسجد على ظهر أخيه إذا كان زحام.
القول الثاني: قال بعض العلماء إنه يومئ إيماء.
القول الثالث: أنه ينتظر حتى يرفع من السجود ثم يسجد.
فهذه ثلاثة أقوال، والمشهور من المذهب أنه يسجد على ظهر أخيه أو رجله.
ولننظر ما الراجح من هذه الأقوال:
إذا قلنا: إنه يسجد على ظهره ففيه مشكلة وهي: التصرف في الغير، والتشويش عليه، ثم إن السجود لا يتم في الواقع؛ لأنه إذا سجد عليه لا يكون على هيئة الساجد لأن الظهر مرتفع.
وإذا قلنا: إنه يومئ، فإن الإيماء له أصل في الشرع وهو: أن العاجز عن السجود يومئ، وهذا في الحقيقة عاجز عن السجود؛ لأن السجود إنما يكون على الأرض وهنا لم يمكن.
وإذا قلنا: إنه ينتظر فله وجه؛ لأنه تخلف عن الإمام لعذر، فهو كالنائم، فإنه يوجد بعض الناس ينام وهو يصلي إذا سجد السجدة الأولى بقي، فيقوم الإمام ويجلس بين السجدتين ويسجد للثانية وهو على نومه فماذا يصنع إذا استيقظ؟
نقول: يقوم من السجود ويجلس بين السجدتين، ويسجد الثانية، ويلحق الإمام؛ لأنه تخلف لعذر، هذا إن كان نومه غير(13/189)