{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث كان عبدا لله، قائما بإبلاغ الرسالة وإنذار الخلق.
ونستفيد أيضا: أن النبي عليه الصلاة والسلام آخر الرسل، فلا نصدق بأي دعوى للنبوة من بعده؛ لقوله: {لِلْعَالَمِينَ} ، ولو كان بعده رسول، لكان تنتهي رسالته بهذا الرسول، ولا كانت للعالمين كلهم.
الآية التاسعة والعاشرة: قوله: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون:91-92] .
ينفي الله تعالى في هذه الآية أن يكون اتخذ ولدا، أو أن يكون معه إله.
ويتأكد هذا النفي بدخول من في قوله من ولد، وقوله: من إله؛ لأن زيادة حرف الجر في سياق النفي ونحوه تفيد التوكيد.
فقوله: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} ، يعني: ما اصطفى أحدا يكون ولدا له، لا عزير، ولا المسيح، ولا الملائكة ولا غيرهم؛ لأنه الغني عما سواه.
وإذا انتفى اتخاذه الولد فانتفاء أن يكون والدا من باب أولى.
وقوله: {مِنْ إِلَهٍ} : إله، بمعنى: مألوه، مثل: بناء، بمعنى: مبني، وفراش، بمعنى: مفروش، فالإله بمعنى المألوه، أي: المعبود المتذلل له.(8/308)
يعني: ما كان معه من إله حق، أما الآلهات الباطلة، فهي موجودة، لكن لكونها باطلة، كانت كالعدم، فصح أن يقال: ما كان مع الله من إله.
إذا، يعني: لو كان معه إله.
{لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} : لو كان هناك إله آخر يساوي الله عز وجل، لكان له ملك خاص ولله ملك خاص، يعني: لانفرد كل واحد منهم بما خلق، قال: هذا خلقي لي، وكذلك الآخر.
وحينئذ، يريد كل منهما أن يسيطر على الآخر كما جرت به العادة، فملوك الدنيا كل واحد منهم يريد أن يسيطر على الآخر، وتكون المملكة كلها له، وحينئذ:
إما أن يتمانعا، فيعجز كل واحد منهما عن الآخر، وإذا عجز كل واحد منهما عن الآخر، ما صح أن يكون واحد منهما إلها؛ لأن الإله لا يكون عاجزا.
وإما أن يعلو أحدهما على الآخر، فالعالي هو الإله.
فترجع المسألة إلى أنه لا بد أن يكون للعالم إله واحد، ولا يمكن أن يكون للعالم إلهان أبدا؛ لأن القضية لا تخرج من هذين الاحتمالين.
كما أننا أيضا إذا شاهدنا الكون علويه وسفليه، وجدنا أنه كون يصدر عن مدبر واحد، وإلا لكان فيه تناقض، فأحد الإلهين يقول مثلا: أنا أريد الشمس تخرج من المغرب! والثاني يقول: أريدها تطلع من المشرق! واتفاق الإرادتين بعيد جدا، ولا سيما أن المقام مقام سلطة، فكل واحد(8/309)
يريد أن يفرض رأيه.
ومعلوم أننا لا نشاهد الآن الشمس تطلع يوما مع هذا ويوما مع هذا، أو يوما تتأخر؛ لأن الثاني منعها ويوما تتقدم؛ لأن الأول أمر الثاني بإخراجها، فلا نجد هذا، نجد الكون كله واحدا متناسبا متناسقا، مما يدل دلالة ظاهرة على أن المدبر له واحد، وهو الله عز وجل.
فبين الله سبحانه وتعالى بدليل عقلي أنه لا يمكن التعدد، إذ لو أمكن التعدد، لحصل هذا، لانفصل كل واحد عن الثاني، وذهب كل إله بما خلق، وحينئذ إما أن يعجز أحدهما عن الآخر، وإما أن يعلو أحدهما الآخر، فإن كان الأول، لم يصلح أي واحد منهما للألوهية، وإن كان الثاني، فالعالي هو الإله، وحينئذ يكون الإله واحدا.
فإن قيل: ألا يمكن أن يصطلحا وينفرد كل واحد بما خلق؟
فالجواب: أنه لو أمكن ووقع، لزم أن يختل نظام العالم.
ثم إن اصطلاحهما لا يكون إلا لخوف كل واحد منهما من الآخر، وحينئذ لا تصلح الربوبية لواحد منهما، لعجزه عن مقاومة الآخر.
ثم قال تعالى: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} ، أي: تنزيها لله عز وجل عما يصفه به الملحدون المشركون الذين يقولون في الله سبحانه ما لا يليق به.
{عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} : الغيب: ما غاب عن الناس، والشهادة: ما شهده الناس.
{فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ: فَتَعَالَى} ، يعني: ترفع وتقدس وتنزه.(8/310)
{فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}
ـــــــــــــــــــــــــــــ
{عَمَّا يُشْرِكُونَ} : عن الأصنام التي جعلوها آلهة مع الله تعالى.
وفي هاتين الآيتين من صفات النفي: تنزه الله تعالى عن اتخاذ الولد الذي وصفه به الكافرون، وعن الشريك له في الألوهية الذي أشرك به المشركون.
وهذا النفي لكمال غناه وكمال ربوبيته وإلهيته.
ونستفيد منهما من الناحية المسلكية: أن الإيمان بذلك يحمل الإنسان على الإخلاص لله عز وجل.
الآية الحادية عشرة: قوله: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 74] .
يعني: لا تجعلوا لله مثلا، فتقولون: مثل الله كمثل كذا وكذا أو تجعلوا له شريكا في العبادة.
يعني {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} ، بمعنى: أنه سبحانه وتعالى يعلم بأنه ليس له مثل، وقد أخبركم بأنه لا مثل له، في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] ، وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] ، وقوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] ... وما أشبه ذلك، فالله يعلم وأنتم لا تعلمون.
وقد يقال: إن هذه الجملة تتضمن الدليل الواضح على أن الله ليس له مثل، وأنها كضرب المثل في امتناع المثل؛ لأننا نحن لا نعلم والله يعلم، فإذا انتفى العلم عنا، وثبت لله، فأين المماثلة؟ ! هل يماثل الجاهل من كان عالما؟ !(8/311)
ويدلك على نقص علمنا: أن الإنسان لا يعلم ما يفعله في اليوم التالي: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لقمان: 34] ، وأن الإنسان لا يعلم روحه التي بين جنبيه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] .
وما زال الفلاسفة والمتفلسفة وغيرهم يبحثون عن حقيقة هذه الروح، ولم يصلوا إلى حقيقتها، مع أنها هي مادة الحياة، وهذا يدل على نقصان العلم في المخلوق، ولهذا قال تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85] .
فإن قلت: كيف تجمع بين هذه الآية: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 74] وبين قوله تعالى {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22] ؟
الجواب: أنه هناك يخاطب الذين يشركون به في الألوهية فيقول: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} في العبادة والألوهية {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أنه لا ند له في الربوبية، بدليل قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} الَّذِي {جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21-22] . أما هنا: ففي باب الصفات: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} ، فتقولوا: مثلا: إن يد الله مثل يد كذا! وجه الله مثل وجه كذا! وذات الله مثل الذات الفلانية ... وما أشبه هذا؛ لأن الله تعالى يعلم وأنتم لا تعلمون وقد أخبركم بأنه لا مثيل له.
أو يقال: إن إثبات العلم لهم خاص في باب الربوبية، ونفيه عنهم خاص في باب الألوهية، حيث أشركوا بالله فيها، فنزلوا منزلة الجاهل.(8/312)
{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وهذه الآية تتضمن من الكمال، كمال صفات الله عز وجل، حيث إنه لا مثيل له.
أما الفائدة المسلكية التي تؤخذ من هذه الآية، فهي: كمال تعظيمنا للرب عز وجل؛ لأننا إذا علمنا أنه لا مثيل له، تعلقنا به رجاء وخوفا، وعظمناه، وعلمنا أنه لا يمكن أن يماثله سلطان ولا ملك ولا وزير ولا رئيس، مهما كانت عظمة ملكيتهم ورئاستهم ووزارتهم؛ لأن الله سبحانه ليس له مثل.
الآية الثانية عشرة: قوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] .
{قُلْ} : الخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي: قل معلنا للناس.
{إِنَّمَا} : أداة حصر، وذلك لمقابلة تحريم من حرم ما أحل الله.
{حَرَّمَ} ، بمعنى: منع، وأصل هذه المادة (ح ر م) تدل على المنع، ومنه حريم البئر: للأرض التي تحميه حوله؛ لأنه يمنع من التعدي عليه.
{الْفَوَاحِشَ} : جمع فاحشة، وهي الذنب الذي يستفحش، مثل: الزنى واللواط.
والزنى، قال الله فيه: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} [الإسراء: 32] .
وفي اللواط، قال لوط لقومه: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} [الأعراف: 80] .
ومن الزنى أن يتزوج الإنسان امرأة لا تحل له لقرابة أو رضاع(8/313)
أو مصاهرة، قال الله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} [النساء: 22] ، بل إن هذا أشد من الزنى؛ لأنه وصفه بثلاثة أوصاف: فاحشة، ومقت، وساء سبيلا، وفي الزنى وصفه الله بوصفين: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32] .
وقوله: {مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} : قيل: إن المعنى ما ظهر فحشه وما خفي، وقيل: المعنى ما ظهر للناس وما بطن عنهم، باعتبار فعل الفاعل، لا باعتبار العمل، أي: ما أظهره الإنسان للإنسان وما أبطنه.
قوله: {وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} ، يعني: حرم الإثم والبغي بغير الحق.
والإثم: المراد به ما يكون سببا له من المعاصي.
والبغي: العدوان على الناس، قال الله تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الشورى: 42] .
وفي قوله: {وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} : إشارة إلى أن كل بغي فهو بغير حق، وليس المراد أن البغي ينقسم إلى قسمين: بغي بحق، وبغي بغير حق؛ لأن البغي كله بغير حق.
وعلى هذا فيكون الوصف هنا من باب الوصف الكاشف، ويسميها العلماء صفة كاشفة، أي: مبينة، وهي التي تكون كالتعليل لموصوفها.
قوله: {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} : هذه معطوفة على ما سبق، يعني: وحرم ربي أن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا، يعني: أن تجعلوا له شريكا لم ينزل به سلطانا، أي حجة، وسميت الحجة سلطانا؛ لأنها سلطة للمحتج بها.(8/314)
وهذا القيد: {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} : نقول فيه كما قلنا في: {وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} ، أي: أنه قيد كاشف؛ لأن كل من أشرك بالله، فليس له سلطان بشركه.
قوله: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} ، يعني: وحرم أن تقولوا على الله ما لا تعلمون، فحرام علينا أن نقول على الله ما لا نعلم، سواء كان في ذاته أو أسمائه أو صفاته أو أفعاله أو أحكامه.
فهذه خمسة أشياء حرمها الله علينا.
وفيها رد على المشركين الذين حرموا ما لم يحرمه الله.
إذا قال قائل: أين الصفة السلبية في هذه الآية؟
قلنا: هي {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} ، فالاثنتان جميعا من باب الصفات السلبية: {وَأَنْ تُشْرِكُوا} ، يعني: لا تجعلوا لله شريكا لكماله. {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} كذلك، لكماله، فإنه من تمام سلطانه أن لا يقول عليه أحد ما لا يعلم.
الفائدة المسلكية من هذه الآية هي: أن تتجنب هذه الأشياء الخمسة التي صرح الله تعالى بتحريمها.
وقد قال أهل العلم: إن هذه المحرمات الخمسة مما أجمعت الشرائع على تحريمها.
ويدخل في القول على الله بغير علم تحريف نصوص الكتاب والسنة في الصفات وغيرها، فإن الإنسان إذا حرف نصوص الصفات، مثل أن يقول: المراد باليدين النعمة فقد قال على الله ما لا يعلم من وجهين:
الوجه الأول: أنه نفى الظاهر بلا علم.
والثاني: أثبت لله خلافه بغير دليل.(8/315)
وقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} في سبعة مواضع في سورة الأعراف، قوله: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فهو يقول: لم يرد الله كذا، وأراد كذا، فنقول: هات الدليل على أنه لم يرد، وعلى أنه أراد كذا! فإن لم تأت بالدليل، فإنك قد قلت على الله ما لا تعلم.
استواء الله على عرشه
ذكر المؤلف رحمه الله ثبوت استواء الله على عرشه وأنه في سبعة مواضع من القرآن:
الموضع الأول: قوله في سورة الأعراف: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] .
الله خبر إن.
{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} : أوجدهما من العدم على وجه الإحكام والإتقان.
{فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} : ومدة هذه الأيام كأيامنا التي نعرف؛ لأن الله سبحانه وتعالى ذكرها منكّرة، فتحمل على ما كان معروفا.
وأول هذه الأيام يوم الأحد، وآخرها يوم الجمعة.
منها أربعة أيام للأرض، ويومان للسماء، كما فصل الله ذلك في سورة فصلت:
{قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ}(8/316)
[فصلت: 9-10] ، فصارت أربعة: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 11-12] .
وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} : ثم: للترتيب.
استوى، بمعنى: علا.
والعرش: هو ذلك السقف المحيط بالمخلوقات، ولا نعلم مادة هذا العرش؛ لأنه لم يرد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديث صحيح يبين من أين خلق هذا العرش، لكننا نعلم أنه أكبر المخلوقات التي نعرفها.
وأصل العرش في اللغة: السرير الذي يختص به الملك، ومعلوم أن السرير الذي يختص به الملك سيكون سريرا عظيما فخما لا نظير له.
وفي هذه الآية من صفات الله تعالى عدة صفات، لكن المؤلف ساقها لإثبات صفة واحدة، وهي الاستواء على العرش.
وأهل السنة والجماعة يؤمنون بأن الله تعالى مستو على عرشه استواء يليق بجلاله ولا يماثل استواء المخلوقين.
فإن سألت: ما معنى الاستواء عندهم؟ فمعناه العلو والاستقرار.
وقد ورد عن السلف في تفسيره أربعة معان: الأول: علا، والثاني: ارتفع، والثالث: صعد. والرابع: استقر.
لكن (علا) و (ارتفع) و (صعد) معناها واحد، وأما (استقر) ، فهو يختلف عنها.
ودليلهم في ذلك: أنها في جميع مواردها في اللغة العربية لم تأت إلا لهذا المعنى إذا كانت متعدية بـ (على) :(8/317)
قال الله تعالى: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} [المؤمنون: 28] .
وقال تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} [الزخرف: 12-13] .
وفسره أهل التعطيل بأن المراد به الاستيلاء، وقالوا: معنى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] ، يعني: ثم استولى عليه.
واستدلوا لتحريفهم هذا بدليل موجب وبدليل سالب:
- أما الدليل الموجب، فقالوا: إننا نستدل بقول الشاعر:
قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف أو دم مهراق
(بشر) : ابن مروان، (استوى) ، يعني: استولى على العراق.
قالوا: وهذا بيت من رجل عربي، ولا يمكن أن يكون المراد به استوى على العراق، يعني علا على العراق! لا سيما أنه في ذلك الوقت لا طائرات يمكن أن يعلو على العراق بها.
أما الدليل السلبي، فقالوا لو أثبتنا أن الله عز وجل مستو على عرشه بالمعنى الذي تقولون، وهو العلو والاستقرار، لزم من ذلك أن يكون محتاجا إلى العرش، وهذا مستحيل، واستحالة اللازم تدل على استحالة الملزوم.
ولزم من ذلك أن يكون جسما؛ لأن استواء شيء على شيء بمعنى علوه عليه، يعني أنه جسم. ولزم أن يكون محدودا؛ لأن المستوي على الشيء يكون محدودا، وإذا استويت على البعير، فأنت محدود في منطقة معينة محصور بها وعلى محدود أيضا.
هذه الأشياء الثلاثة التي زعموا أنها تلزم من إثبات أن الاستواء بمعنى(8/318)
العلو والارتفاع.
والرد عليهم من وجوه:
أولا: تفسيركم هذا مخالف لتفسير السلف الذي أجمعوا عليه، والدليل على إجماعهم أنه لم ينقل عنهم أنهم قالوا به وخالفوا الظاهر، ولو كانوا يرون خلاف ظاهره، لنقل إلينا، فما منهم أحد قال: إن (استوى) بمعنى (استولى) أبدا.
ثانيا: أنه مخالف لظاهر اللفظ؛ لأن مادة الاستواء إذا تعدت بـ (على) ، فهي بمعنى العلو والاستقرار، هذا ظاهر اللفظ، وهذه مواردها في القرآن وفي كلام العرب.
ثالثا: أنه يلزم عليه لوازم باطلة:
1 - يلزم أن يكون الله عز وجل حين خلق السماوات والأرض ليس مستوليا على عرشه؛ لأن الله يقول: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] ، وثم تفيد الترتيب، فيلزم أن يكون العرش قبل تمام خلق السماوات والأرض لغير الله.
2 - أن الغالب من كلمة (استولى) أنها لا تكون إلا بعد مغالبة! ولا أحد يغالب الله.
أين المفر والإله الطالب ... والأشرم المغلوب ليس الغالب
3 - من اللوازم الباطلة أنه يصح أن نقول: إن الله استوى على الأرض والشجر والجبال؛ لأنه مستول عليها.
وهذه لوازم باطلة، وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم.(8/319)
وأما استدلالهم بالبيت، فنقول:
1 - أثبتوا لنا سند هذا البيت وثقة رجاله، ولن يجدوا إلى ذلك سبيلا.
2 - من هذا القائل؟ أفلا يمكن أن يكون قاله بعد تغير اللسان؟ لأن كل قول يستدل به على اللغة العربية بعد تغير اللغة العربية فإنه ليس بدليل؛ لأن العربية بدأت تتغير حين اتسعت الفتوح ودخل العجم مع العرب فاختلف اللسان، وهذا فيه احتمال أنه بعد تغير اللسان.
3 - أن تفسيركم "استوى بشر على العراق" بـ (استولى) تفسير تعضده القرينة؛ لأنه من المعتذر أن بشرا يصعد فوق العراق فيستوي عليه، كما يستوي على السرير أو على ظهر الدابة فلهذا نلجأ إلى تفسيره بـ (استولى) .
هذا نقوله من باب التنزل، وإلا، فعندنا في هذا جواب آخر:
أن نقول: الاستواء في البيت بمعنى العلو؛ لأن العلو نوعان:
1 - علو حسي، كاستوائنا على السرير.
2 - وعلو معنوي، بمعنى السيطرة والغلبة.
فيكون معنى "استوى بشر على العراق" يعني: علا علو غلبة وقهر.
وأما قولكم: إنه يلزم من تفسير الاستواء بالعلو أن يكون الله جسما.
فجوابه: كل شيء يلزم من كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو حق، ويجب علينا أن نلتزم به، ولكن الشأن كل الشأن أن يكون هذا من لازم كلام الله ورسوله؛ لأنه قد يمنع أن يكون لازما، فإذا ثبت أنه لازم، فليكن، ولا حرج علينا إذا قلنا به.(8/320)
ثم نقول: ماذا تعنون بالجسم الممتنع؟
إن أردتم به أنه ليس لله ذات تتصف بالصفات اللازمة لها اللائقة بها، فقولكم باطل؛ لأن لله ذاتا حقيقية متصفة بالصفات، وأن له وجها ويدا وعينا وقدما، وقولوا ما شئتم من اللوازم التي هي لازم حق.
وأن أردتم بالجسم الذي قلتم يمتنع أن يكون الله جسما:
الجسم المركب من العظام واللحم والدم وما أشبه ذلك، فهذا ممتنع على الله، وليس بلازم من القول بأن استواء الله على العرش علوه عليه.
وأما قولهم: إنه يلزم أن يكون محدودا.
فجوابه أن نقول بالتفصيل: ماذا تعنون بالحد؟
إن أردتم أن يكون محدودا، أي: يكون مباينا للخلق منفصلا عنهم، كما تكون أرض لزيد وأرض لعمر، فهذه محدودة منفصلة عن هذه، فهذا حق ليس فيه شيء من النقص.
وإن أردتم بكونه محدودا: أن العرش محيط به، فهذا باطل، وليس بلازم، فإن الله تعالى مستوٍ على العرش، وإن كان عز وجل أكبر من العرش ومن غير العرش، ولا يلزم أن يكون العرش محيطا به، بل لا يمكن أن يكون محيطا به؛ لأن الله سبحانه وتعالى أعظم من كل شيء وأكبر من كل شيء والأرض جميعا قبضته يوم القيامة، والسماوات مطويات بيمينه.
وأما قولهم: يلزم أن يكون محتاجا إلى العرش.
فنقول: لا يلزم؛ لأن معنى كونه مستويا على العرش: أنه فوق العرش(8/321)
لكنه علو خالص، وليس معناه أن العرش يقله أبدا، فالعرش لا يقله، والسماء لا تقله، وهذا اللازم الذي ادعيتموه ممتنع؛ لأنه نقص بالنسبة إلى الله عز وجل، وليس بلازم من الاستواء الحقيقي؛ لأننا لسنا نقول: إن معنى {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} ، يعني: أن العرش يقله ويحمله، فالعرش محمول: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة: 17] ، وتحمله الملائكة الآن، لكنه ليس حاملا لله عز وجل؛ لأن الله سبحانه وتعالى ليس محتاجا إليه، ولا مفتقرا إليه، وبهذا تبطل حججهم السلبية.
وخلاصة ردنا لكالمهم من عدة أوجه:
الأول: أن قولهم هذا مخالف لظاهر النص.
ثانيا: مخالف لإجماع الصحابة وإجماع السلف قاطبة.
ثالثا: أنه لم يرد في اللغة العربية أن (استوى) بمعنى (استولى) ، والبيت الذي احتجوا به على ذلك لا يتم به الاستدلال.
رابعا: أنه يلزم عليه لوازم باطلة منها:
1 - أن يكون العرش قبل خلق السماوات والأرض، ملكا لغير الله.
2 - أن كلمة (استولى) تعطي في الغالب أن هناك مغالبة بين الله وبين غيره، فاستولى عليه وغلبه.
3 - أنه يصح أن نقول على زعمكم: إن الله استوى على الأرض والشجر والجبال والإنسان والبعير؛ لأنه (استولى) على هذه الأشياء، فإذا صح أن نطلق كلمة (استولى) على شيء، صح أن نطلق (استوى) على ذلك الشيء، لأنهما مترادفان على زعمكم.(8/322)
وقال في سورة يونس عليه السلام: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} وقال في سورة الرعد: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فبهذه الأوجه يتبين أن تفسيرهم باطل.
ولما كان أبو المعالي الجويني -عفا الله عنه- يقرر مذهب الأشاعرة، وينكر استواء الله على العرش، بل وينكر علو الله بذاته، قال:
"كان الله تعالى ولم يكن شيء غيره، وهو الآن على ما كان عليه". وهو يريد أن ينكر استواء الله على العرش، يعني: كان ولا عرش، وهو الآن على ما كان عليه، إذا: لم يستو على العرش.
فقال له أبو العلاء الهمذاني: يا أستاذ دعنا من ذكر العرش والاستواء على العرش، يعني: لأن دليله سمعي، ولولا أن الله أخبرنا به ما علمناه أخبرنا عن هذه الضرورة التي نجد في نفوسنا: ما قال عارف قط: يا الله! إلا وجد من قلبه ضرورة بطلب العلو. فبهت أبو المعالي، وجعل يضرب على رأسه: حيرني الهمذاني، حيرني الهمذاني! وذلك لأن هذا دليل فطري لا أحد ينكره.
الموضع الثاني: في سورة يونس، قال الله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [يونس: 3] .
نقول فيها ما قلنا في الآية الأولى.
الموضع الثالث: في سورة الرعد قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الرعد: 2] .
{رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ} : بغير عمد: هل يعني: ليس لها عمد(8/323)
وقال في سورة طه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وقال في سورة الفرقان: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ}
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مطلقا؟ أو لها عمد لكنها غير مرئية لنا؟
فيه خلاف بين المفسرين، فمنهم من قال: إن جملة ترونها صفة لـ عمد، أي: بغير عمد مرئية لكم، ولها عمد غير مرئية. ومنهم من قال: إن جملة ترونها جملة مستأنفة، معناها: ترونها كذلك بغير عمد. وهذا الأخير أقرب، فإن السماوات ليس لها عمد مرئية ولا غير مرئية، ولو كان لها عمد، لكانت مرئية في الغالب، وإن كان الله تعالى قد يحجب عنا بعض المخلوقات الجسمية لحكمة يريدها.
وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} : هذا الشاهد، ويقال في معناها ما سبق.
الموضع الرابع: في سورة طه قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اِسْتَوَى} [طه: 5] .
قدم على العرش وهو معمول لـ استوى لإفادة الحصر والتخصيص وبيان أنه سبحانه وتعالى لم يستو على شيء سوى العرش.
وفي ذكر الرحمن إشارة إلى أنه مع علوه وعظمته موصوف بالرحمة.
الموضع الخامس: في سورة الفرقان قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} [الفرقان: 59] .
{الرَّحْمَنُ} : فاعل استوى.(8/324)
وقال في سورة آلم السجدة: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} وقال في سورة الحديد: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الموضع السادس: في سورة آلم السجدة قال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} السجدة: 4] .
نقول فيها مثل ما قلنا في آيتي الأعراف ويونس، لكن هنا فيه زيادة:
وما بينهما؛ يعني: بين السماء والأرض، والذي بينهما مخلوقات عظيمة استحقت أن تكون معادلة للسماوات والأرض، وهذه المخلوقات العظيمة منها ما هو معلوم لنا كالشمس والقمر والنجوم والسحاب، ومنها ما هو مجهول إلى الآن.
الموضع السابع: في سورة الحديد قال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الحديد:4] .
فهذه سبعة مواضع؛ كلها يذكر الله تعالى فيها الاستواء معدى بـ على.
وبعد؛ فقد قال العلماء: إن أصل هذه المادة (س وي) تدل على الكمال {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} [الأعلى:2] ؛ أي: أكمل ما خلقه؛ فأصل السين والواو والياء تدل على الكمال.
ثم هي على أربعة أوجه في اللغة العربية: معداة بـ (إلى) ، ومعداة بـ (على) ، ومقرونة بالواو، ومجردة:
-فالمعداة بـ (على) مثل: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الحديد: 4] ، ومعناها:(8/325)
علا واستقر.
والمعداة بـ (إلى) : مثل قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [البقرة: 29] .
فهل معناها كالأولى المعداة بـ (على) ؟
فيها خلاف بين المفسرين:
منهم من قال: إن معناها واحد، وهذا ظاهر تفسير ابن جرير رحمه الله؛ فمعنى استوى إلى السماء؛ أي: ارتفع إليها.
ومنهم من قال: بل الاستواء هنا بمعنى القصد الكامل؛ فمعنى: استوى إليها؛ أي: قصد إليها قصدا كاملا، وأيدوا تفسيرهم هذا بأنها عديت بما يدل على هذا المعنى، وهو (إلى) ، وإلى هذا ذهب ابن كثير رحمه الله؛ ففسر قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} ؛ أي: قصد إلى السماء، والاستواء ها هنا مضمن معنى القصد والإقبال؛ لأنه عدي بـ (إلى) .ا. هـ كلامه.
والمقرونة بالواو؛ كقولهم: استوى الماء والخشبة؛ بمعنى: تساوى الماء والخشبة.
والمجردة؛ كقوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} [القصص:14] ، ومعناها: كمل.
تنبيه:
إذا قلنا: استوى على العرش؛ بمعنى: علا؛ فها هنا سؤال، وهو: إن الله خلق السماوات، ثم استوى على العرش؛ فهل يستلزم أنه قبل ذلك ليس عاليا؟(8/326)
وقوله: {يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ}
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فالجواب: لا يستلزم ذلك؛ لأن الاستواء على العرش أخص من مطلق العلو؛ لأن الاستواء على العرش علو خاص به، والعلو شامل على جميع المخلوقات؛ فعلوه عز وجل ثابت له أزلا وأبدا، لم يزل عاليا على كل شيء قبل أن يخلق العرش، ولا يلزم من عدم استوائه على العرش عدم علوه، بل هو عال، ثم بعد خلق السماوات والأرض علا علوا خاصا على العرش.
فإن قلت: نفهم من الآية الكريمة أنه حين خلق السماوات والأرض ليس مستويا على العرش، لكن قبل خلق السماوات والأرض، هل هو مستو على العرش أو لا؟
فالجواب: الله أعلم بذلك.
فإن قلت: هل استواء الله تعالى على عرشه من الصفات الفعلية أو الذاتية؟
فالجواب: أنه من الصفات الفعلية؛ لأنه يتعلق بمشيئته، وكل صفة تتعلق بمشيئته؛ فهي من الصفات الفعلية.
إثبات علو الله على مخلوقاته
ذكر المؤلف رحمه الله في إثبات علو الله على خلقه ست آيات..
الآية الأولى: قوله: {يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55] .
الخطاب لعيسى ابن مريم الذي خلقه الله من أم بلا أب، ولهذا ينسب إلى أمه، فيقال: عيسى ابن مريم.
يقول الله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} : ذكر العلماء فيها ثلاثة أقوال:
القول الأول: {مُتَوَفِّيكَ} ؛ بمعنى قابضك، ومنه قولهم: توفى حقه؛(8/327)
أي: قبضه.
القول الثاني: {مُتَوَفِّيكَ} : منيمك؛ لأن النوم وفاة؛ كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى} [الأنعام: 60] .
القول الثالث: أنه وفاة موت: {مُتَوَفِّيكَ} : مميتك، ومنه قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 42] .
والقول بأن {مُتَوَفِّيكَ} متوفيك بمعنى مميتك بعيد؛ لأن عيسى عليه السلام لم يمت، وسينزل في آخر الزمان؛ قال الله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159] ؛ أي: قبل موت عيسى على أحد القولين، وذلك إذا نزل في آخر الزمان. وقيل: قبل موت الواحد؛ يعني: ما من أحد من أهل الكتاب إلا إذا حضرته الوفاة؛ آمن بعيسى، حتى وإن كان يهوديا. وهذا القول ضعيف.
بقي النظر بين وفاة القبض ووفاة النوم، فنقول: إنه يمكن أن يجمع بينهما فيكون قابضا له حال نومه؛ أي أن الله تعالى ألقى عليه النوم؛ ثم رفعه، ولا منافاة بين الأمرين.
قوله: {وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} : الشاهد هنا؛ فإن إلي تفيد الغاية، وقوله: {وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} يدل على أن المرفوع إليه كان عاليا، وهذا يدل على علو الله عز وجل.
فلو قال قائل: المراد: رافعك منزلة؛ كما قال الله تعالى: {وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [آل عمران: 45] .(8/328)
قلنا هذا لا يستقيم؛ لأن الرفع هنا عدَّى بحرف يختص بالرفع الذي هو الفوقية؛ رفع الجسد، وليس رفع المنزلة.
واعلم أن علو الله عز وجل ينقسم إلى قسمين: علو معنوي، وعلو ذاتي:
1 -أما العلو المعنوي؛ فهو ثابت لله بإجماع أهل القبلة؛ أي: بالإجماع من أهل البدع وأهل السنة؛ كلهم يؤمنون بأن الله تعالى عال علوا معنويا.
2 -وأما العلو الذاتي؛ فيثبته أهل السنة، ولا يثبته أهل البدعة؛ يقولون: إن الله تعالى ليس عاليا علوا ذاتيا.
فنبدأ أولا بأدلة أهل السنة على علو الله سبحانه وتعالى الذاتي فنقول: إن أهل السنة استدلوا على علو الله تعالى علوا ذاتيا بالكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة:
أولا: فالكتاب تنوعت دلالته على علو الله؛ فتارة بذكر العلو، وتارة بذكر الفوقية، وتارة بذكر نزول الأشياء من عنده، وتارة بذكر صعودها إليه، وتارة بكونه في السماء.
(1) فالعلو مثل قوله: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255] ، {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] .
(2) والفوقية: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18] ، {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل:50] .
(3) ونزول الأشياء منه؛ مثل قوله: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ} [السجدة: 5] ، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} [الحجر: 9] . وما أشبه ذلك.
(4) وصعود الأشياء إليه؛ مثل قوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10](8/329)
ومثل قوله: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4] .
(5) كونه في السماء؛ مثل قوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} [الملك: 16] .
ثانيا: وأما السنة فقد تواترت عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قوله وفعله وإقراره:
(1) فأما قول الرسول عليه الصلاة والسلام:
فجاء بذكر العلو والفوقية، ومنه قوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «سبحان ربي الأعلى» ، وقوله لما ذكر السماوات؛ قال: «والله فوق العرش» . . (1)
وجاء بذكر أن الله في السماء؛ مثل قوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء» . .
(2) وأما الفعل؛ فمثل رفع أصبعه إلى السماء، وهو يخطب الناس في أكبر جمع، وذلك في يوم عرفة، عام حجة الوداع؛ فإن الصحابة لم يجتمعوا اجتماعا أكبر من ذلك الجمع؛ إذ إن الذي حج معه بلغ نحو مئة ألف، والذين مات عنهم نحو مئة وأربعة وعشرين ألفا: يعني: عامة المسلمين حضروا ذلك الجمع، فقال عليه الصلاة والسلام: «ألا هل بلغت؟ ". قالوا: نعم. "ألا هل»
__________
(1) رواه ابن خزيمة في كتاب "التوحيد" (1/ 244) ، واللالكائي في "شرح السنة" (659) ، والطبراني في "الكبير" (9/228) ، وقال الهيثمي في "المجمع" (1/86) : "رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح".(8/330)
«بلغت؟ ". قالوا: نعم. "ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم. وكان يقول: "اللهم أشهد"؛ يشير إلى السماء بأصبعه، وينكتها إلى الناس» . .
ومن ذلك رفع يديه إلى السماء في الدعاء.
وهذا إثبات للعلو بالفعل.
(3) وأما التقرير؛ فإنه في «حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه؛ أنه أتى بجارية يريد أن يعتقها، فقال لها النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أين الله؟ ". قالت: في السماء. فقال: "من أنا؟ ". قالت: رسول الله. قال: "أعتقها؛ فإنها مؤمنة» . .
فهذه جارية لم تتعلم، والغالب على الجواري الجهل، لا سيما وهي أمة غير حرة، لا تملك نفسها، تعلم أن ربها في السماء، وضلال بني آدم ينكرون أن الله في السماء، ويقولون: إما أنه لا فوق العالم ولا تحته ولا يمين ولا شمال! أو أنه في كل مكان!! .
فهذه من أدلة الكتاب والسنة.
ثالثا: وأما دلالة الإجماع؛ فقد أجمع السلف على أن الله تعالى بذاته في السماء، من عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، إلى يومنا هذا.
إن قلت: كيف أجمعوا؟
نقول: إمرارهم هذه الآيات والأحاديث مع تكرار العلو فيها، والفوقية ونزول الأشياء منه وصعودها إليه دون أن يأتوا بما يخالفها إجماع منهم على مدلولها.(8/331)
ولهذا لما قال شيخ الإسلام: "إن السلف مجمعون على ذلك"؛ قال: "ولم يقل أحد منهم: إن الله ليس في السماء، أو: إن الله في الأرض، أو: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه ولا متصل ولا منفصل، أو: إنه لا تجوز الإشارة الحسية إليه".
رابعا: وأما دلالة العقل؛ فنقول: لا شك أن الله عز وجل إما أن يكون في العلو أو في السفل، وكونه في السفل مستحيل؛ لأنه نقص يستلزم أن يكون فوقه شيء من مخلوقاته، فلا يكون له العلو التام والسيطرة التامة والسلطان التام، فإذا كان السفل مستحيلا؛ كان العلو واجبا.
وهناك تقرير عقلي آخر، وهو أن نقول: إن العلو صفة كمال باتفاق العقلاء، وإذا كان صفة كمال؛ وجب أن يكون ثابتا لله؛ لأن كل صفة كمال مطلقة؛ فهي ثابتة لله.
وقولنا: "مطلقة": احترازا من الكمال النسبي، الذي يكون كمالا في حال دون حال؛ فالنوم مثلا نقص، ولكن لمن يحتاج إليه ويستعيد قوته به كمال.
خامسا: وأما دلالة الفطرة: فأمر لا يمكن المنازعة فيها ولا المكابرة؛ فكل إنسان مفطور على أن الله في السماء، ولهذا عندما يفجؤك الشيء الذي لا تستطيع دفعه، وإنما تتوجه إلى الله تعالى بدفعه؛ فإن قلبك ينصرف إلى السماء حتى الذين ينكرون علو الذات لا يقدرون أن ينزلوا أيديهم إلى الأرض.
وهذه الفطرة لا يمكن إنكارها.
حتى إنهم يقولون: إن بعض المخلوقات العجماء تعرف أن الله في(8/332)
السماء كما في الحديث الذي يروى «أن سليمان بن داود عليه الصلاة والسلام وعلى أبيه خرج يستسقي ذات يوم بالناس، فلما خرج؛ رأى نملة مستلقية على ظهرها، رافعة قوائمها نحو السماء، تقول: "اللهم! إنا خلق من خلقك، ليس بنا غنى عن سقياك". فقال: "ارجعوا؛ فقد سقيتم بدعوة غيركم".» وهذا إلهام فطري.
فالحاصل أن: كون الله في السماء أمر معلوم بالفطرة.
ووالله؛ لولا فساد فطرة هؤلاء المنكرين لذلك؛ لعلموا أن الله في السماء بدون أن يطالعوا أي كتاب؛ لأن الأمر الذي تدل عليه الفطرة لا يحتاج إلى مراجعة الكتب.
والذين أنكروا علو الله عز وجل بذاته يقولون: لو كان في العلو بذاته؛ كان في جهة، وإذا كان في جهة؛ كان محدودا وجسما، وهذا ممتنع!
والجواب عن قولهم: "إنه يلزم أن يكون محدودا وجسما؛ نقول:
أولا: لا يجوز إبطال دلالة النصوص بمثل هذه التعليلات، ولو جاز هذا؛ لأمكن كل شخص لا يريد ما يقتضيه النص أن يعلله بمثل هذه العلل العليلة.
فإذا كان الله أثبت لنفسه العلو، ورسوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أثبت له العلو، والسلف الصالح أثبتوا له العلو؛ فلا يقبل أن يأتي شخص ويقول: لا يمكن أن يكون علو ذات؛ لأنه لو كان علو ذات؛ لكان كذا وكذا.
ثانيا: نقول: إن كان ما ذكرتم لازما لإثبات العلو لزوما صحيحا؛ فلنقل به؛ لأن لازم كلام الله ورسوله حق؛ إذ إن الله تعالى يعلم ما يلزم من(8/333)
{بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ}
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كلامه. فلو كانت نصوص العلو تستلزم معنى فاسدا لبينه، ولكنها لا تستلزم معنى فاسدا.
ثالثا: ثم نقول: ما هو الحد والجسم الذي أجلبتم علينا بخيلكم ورجلكم فيها.
أتريدون بالحد أن شيئا من المخلوقات يحيط بالله؟! فهذا باطل ومنتف عن الله، وليس بلازم من إثبات العلو لله أو تريدون بالحد أن الله بائن من خلقه غير حال فيهم؟ فهذا حق من حيث المعنى، ولكن لا نطلق لفظه نفيا ولا إثباتا، لعدم ورود ذلك.
وأما الجسم، فنقول: ماذا تريدون بالجسم؟ أتريدون أنه جسم مركب من عظم ولحم وجلد ونحو ذلك؟ فهذا باطل ومنتف عن الله؛ لأن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. أم تريدون بالجسم ما هو قائم بنفسه متصف بما يليق به؟ فهذا حق من حيث المعنى، لكن لا نطلق لفظه نفيا ولا إثباتا، لما سبق.
وكذلك نقول في الجهة، هل تريدون أن الله تعالى له جهة تحيط به؟ فهذا باطل، وليس بلازم من إثبات علوه. أم تريدون جهة علو لا تحيط بالله؟ فهذا حق لا يصح نفيه عن الله تعالى.
الآية الثانية: قوله: {بل رفعه الله إليه} [النساء: 158] .
بل: للإضراب الإبطالي، لإبطال قولهم: {إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 157-158] .(8/334)
{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} {يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا}
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فكذبهم الله بقوله: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} .
والشاهد قوله: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} ، فإنه صريح بأن الله تعالى عال بذاته، إذ الرفع إلى الشيء يستلزم علوه.
الآية الثالثة: قوله: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} [فاطر: 10] .
إليه: إلى الله عز وجل.
{يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} : والكلم هنا اسم جمع، مفرده كلمة، وجمع كلمة كلمات، والكلم الطيب يشمل كل كلمة يتقرب بها إلى الله، كقراءة القرآن والذكر والعلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكل كلمة تقرب إلى الله عز وجل، فهي كلمة طيبة، تصعد إلى الله عز وجل، وتصل إليه، والعمل الصالح يرفعه الله إليه أيضا.
فالكلمات تصعد إلى الله، والعمل الصالح يرفعه الله، وهذا يدل على أن الله عال بذاته؛ لأن الأشياء تصعد إليه وترفع.
الآية الرابعة: قوله: {يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر:36-37] .
هامان وزير فرعون، والآمر بالبناء فرعون.
صرحا، أي بناء عاليا.
{لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} ، يعني: لعلي أبلغ الطرق التي توصل إلى السماء.(8/335)
{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ}
ـــــــــــــــــــــــــــــ
{فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} ، يعني: أنظر إليه، وأصل إليه مباشرة؛ لأن موسى قال له: إن الله في السماء. فموه فرعون على قومه بطلب بناء هذا الصرح العالي ليرقى عليه، ثم يقول: لم أجد أحدا، ويحتمل أنه قاله على سبيل التهكم، يقول: إن موسى قال: إن إلهه في السماء، اجعلونا نرقى لنراه!! تهكما.
وأيا كان، فقد قال: {وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} ، للتمويه على قومه، وإلا فهو يعلم أنه صادق، وقد قال له موسى: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء: 102] ، فلم يقل: ما علمت! بل أقره على هذا الخبر المؤكد باللام و (قد) والقسم. والله عز وجل يقول في آية أخرى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14] .
الشاهد من هذا: أن أمر فرعون ببناء صرح يطلع به على إله موسى يدل على أن موسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لفرعون وآله: إن الله في السماء. فيكون علو الله تعالى ذاتيا، قد جاءت به الشرائع السابقة.
الآية الخامسة والسادسة: قوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك: 16-17] .
والذي في السماء هو الله عز وجل، لكنه كنى عن نفسه بهذا؛ لأن المقام مقام إظهار عظمته، وأنه فوقكم، قادر عليكم، مسيطر عليكم، مهيمن عليكم؛ لأن العالي له سلطة على من تحته.
{فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} ، أي: تضطرب.(8/336)
والجواب: لا نأمن والله! بل نخاف على أنفسنا إذا كثرت معاصينا أن تخسف بنا الأرض.
والانهيارات التي يسمونها الآن: انهيارا أرضيا، وانهيارا جبليا.. وما أشبه ذلك هي نفس التي هدد الله بها هنا، لكن يأتون بمثل هذه العبارات ليهونوا الأمر على البسطاء من الناس.
{أَمْ أَمِنْتُمْ} ، يعني بل أأمنتم، و (أم) هنا بمعنى (بل) والهمزة.
{أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} : الحاصب عذاب من فوق يحصبون به، كما فعل بالذين من قبلهم، كقوم لوط وأصحاب الفيل، والخسف من تحت.
فالله عز وجل هددنا من فوق ومن تحت، قال الله تعالى: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} [العنكبوت:40] ، أربعة أنواع من العذاب.
وهنا ذكر الله نوعين منها: الحاصب والخسف.
والشاهد من هذه الآية هو قوله: {مَنْ فِي السَّمَاءِ} .
والذي في السماء هو الله عز وجل وهو دليل على علو الله بذاته.
لكن هاهنا إشكال، وهو أن (في) للظرفية، فإذا كان الله في السماء، و (في) للظرفية، فإن الظرف محيط بالمظروف! أرأيت لو قلت: الماء في الكأس، فالكأس محيط بالماء وأوسع من الماء! فإذا كان الله يقول: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} ، فهذا ظاهره أن السماء محيطة بالله، وهذا الظاهر باطل، وإذا كان الظاهر باطلا، فإننا نعلم علم اليقين أنه غير مراد(8/337)
لله؛ لأنه لا يمكن أن يكون ظاهر الكتاب والسنة باطلا.
فما الجواب على هذا الإشكال؟
قال العلماء: الجواب أن نسلك أحد طريقين:
فإما أن نجعل السماء بمعنى العلو، والسماء بمعنى العلو وارد في اللغة، بل في القرآن، قال تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد: 17] ، والمراد بالسماء العلو؛ لأن الماء ينزل من السحاب لا من السماء التي هي السقف المحفوظ، والسحاب في العلو بين السماء والأرض، كما قال الله تعالى: {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: 164] .
فيكون معنى {مَنْ فِي السَّمَاءِ} ، أي: من في العلو.
ولا يوجد إشكال بعد هذا، فهو في العلو. ليس يحاذيه شيء، ولا يكون فوقه شيء.
2 - أو نجعل (في) بمعنى (على) ، ونجعل السماء هي السقف المحفوظ المرفوع، يعني: الأجرام السماوية، وتأتي (في) بمعنى (على) في اللغة العربية، بل في القرآن الكريم، قال فرعون لقومه السحرة الذين آمنوا: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] ، أي: على جذوع النخل.
فيكون معنى {مَنْ فِي السَّمَاءِ} ، أي: من على السماء.
ولا إشكال بعد هذا.
فإن قلت: كيف تجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84] .(8/338)
وقوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} [الأنعام: 3] ؟ .
فالجواب: أن نقول:
أما الآية الأولى، فإن الله يقول: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} ، فالظرف هنا لألوهيته، يعني: أن ألوهيته ثابتة في السماء وفي الأرض، كما تقول: فلان أمير في المدينة ومكة، فهو نفسه في واحدة منهما، وفيهما جميعا بإمارته وسلطته، فالله تعالى ألوهيته في السماء وفي الأرض، وأما هو عز وجل ففي السماء.
أما الآية الثانية: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} فنقول فيها كما قلنا في التي قبلها: وهو الله، أي: وهو الإله الذي ألوهيته في السماوات وفي الأرض، أما هو نفسه، ففي السماء. فيكون المعنى: هو المألوه في السماوات المألوه في الأرض، فألوهيته في السماوات وفي الأرض. فتخرج هذه الآية كتخريج التي قبلها.
وقيل المعنى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ} ، ثم تقف، ثم تقرأ: {وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} ، أي أنه نفسه في السماوات، ويعلم سركم وجهركم في الأرض، فليس كونه في السماء مع علوه بمانع من علمه بسركم وجهركم في الأرض.
وهذا المعنى فيه شيء من الضعف؛ لأنه يقتضي تفكيك الآية وعدم ارتباط بعضها ببعض، والصواب الأول: أن نقول: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} ، يعني أن ألوهيته ثابتة في السماوات وفي الأرض، فتطابق الآية الأخرى.(8/339)
{هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}
ـــــــــــــــــــــــــــــ
من الفوائد المسلكية في هذه الآيات:
أن الإنسان إذا علم بأن الله تعالى فوق كل شيء، فإنه يعرف مقدار سلطانه وسيطرته على خلقه، وحينئذ يخافه ويعظمه، وإذا خاف الإنسان ربه وعظمه، فإنه يتقيه ويقوم بالواجب ويدع المحرم.
إثبات معية الله لخلقه
شرع المؤلف بسوق أدلة المعية؛ أي: أدلة معية الله تعالى لخلقه، وناسب أن يذكرها بعد العلو؛ لأنه قد يبدو للإنسان أن هناك تناقضا بين كونه فوق كل شيء وكونه مع العباد، فكان من المناسب جدا أن يذكر الآيات التي تثبت معية الله للخلق بعد ذكر آيات العلو.
وفي معية الله تعالى لخلقه مباحث:
المبحث الأول في أقسامها:
معية الله عز وجل تنقسم إلى قسمين: عامة، وخاصة.
والخاصة تنقسم إلى قسمين: مقيدة بشخص، ومقيدة بوصف.
أما العامة؛ فهي التي تشمل كل أحد من مؤمن وكافر وبر وفاجر. ودليلها قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] .
أما الخاصة المقيدة بوصف؛ فمثل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128] .(8/340)
وأما الخاصة المقيدة بشخص معين؛ فمثل قوله تعالى عن نبيه: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة 40، وقال لموسى وهارون: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] .
وهذه أخص من المقيدة بوصف.
فالمعية درجات: عامة مطلقة، وخاصة مقيدة بوصف، وخاصة مقيدة بشخص.
فأخص أنواع المعية ما قيد بشخص، ثم ما قيد بوصف، ثم ما كان عاما.
فالمعية العامة تستلزم الإحاطة بالخلق علما وقدرة وسمعا وبصرا وسلطانا، وغير ذلك من معاني ربوبيته، والمعية الخاصة بنوعيها تستلزم مع ذلك النصر والتأييد.
المبحث الثاني: هل المعية حقيقية أو هي كناية عن علم الله عز وجل وسمعه وبصره وقدرته وسلطانه وغير ذلك من معاني ربوبيته؟
أكثر عبارات السلف رحمهم الله يقولون: إنها كناية عن العلم وعن السمع والبصر والقدرة وما أشبه ذلك، فيجعلون معنى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ} أي: وهو عالم بكم سميع لأقوالكم، بصير بأعمالكم، قادر عليكم حاكم بينكم. . . . وهكذا، فيفسرونها بلازمها.
واختار شيخ الإسلام رحمه الله في هذا الكتاب وغيره أنها على حقيقتها، وأن كونه معنا حق على حقيقته، لكن ليست معيته كمعية الإنسان للإنسان التي يمكن أن يكون الإنسان مع الإنسان في مكانه؛ لأن معية الله عز وجل ثابتة له وهو في علوه؛ فهو معنا، وهو عال على عرشه فوق كل شيء، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون معنا في الأمكنة التي(8/341)
نحن فيها.
وعلى هذا، فإنه يحتاج إلى الجمع بينها وبين العلو.
والمؤلف عقد لها فصلا خاصا سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، وأنه لا منافاة بين العلو والمعية؛ لأن الله تعالى ليس كمثله شيء في جميع صفاته، فهو عليّ في دنوه، قريب في علوه.
وضرب شيخ الإسلام رحمه الله لذلك مثلا بالقمر، قال: إنه يقال: ما زلنا نسير والقمر معنا، وهو موضوع في السماء، وهو من أصغر المخلوقات، فكيف لا يكون الخالق عز وجل مع الخلق، الذي الخلق بالنسبة إليه ليسوا بشيء، وهو فوق سماواته؟!
وما قاله رحمه الله فيه دفع حجة بعض أهل التعطيل حيث احتجوا على أهل السنة، فقالوا: أنتم تمنعون التأويل، وأنتم تئولون في المعية، تقولون: المعية بمعنى العلم والسمع والبصر والقدرة والسلطان وما أشبه ذلك.
فنقول: إن المعية حق على حقيقتها، لكنها ليست في المفهوم الذي فهمه الجهمية ونحوهم، بأنه مع الناس في كل مكان، وتفسير بعض السلف لها بالعلم ونحوه، تفسير باللازم.
المبحث الثالث: هل المعية من الصفات الذاتية أو من الصفات الفعلية؟
فيه تفصيل:
- أما المعية العامة، فهي ذاتية؛ لأن الله لم يزل ولا يزال محيطا بالخلق علما وقدرة وسلطانا وغير ذلك من معاني ربوبيته.
وأما المعية الخاصة، فهي صفة فعلية؛ لأنها تابعة لمشيئة الله، وكل(8/342)
صفة مقرونة بسبب هي من الصفات الفعلية، فقد سبق لنا أن الرضى من الصفات الفعلية؛ لأنه مقرون بسبب، إذا وجد السبب الذي به يرضى الله، وجد الرضى، وكذلك المعية الخاصة إذا وجدت التقوى أو غيرها من أسبابها في شخص، كان الله معه.
المبحث الرابع في المعية: هل هي حقيقة أو لا؟
ذكرنا ذلك، وأن من السلف من فسرها باللازم، وهو الذي لا يكاد يرى الإنسان سواه. ومنهم من قال: هي على حقيقتها، لكنها معية تليق بالله، خاصة به.
وهذا صريح كلام المؤلف هنا في هذا الكتاب وغيره، لكن تصان عن الظنون الكاذبة، مثل أن يظن أن الله معنا في الأرض ونحو ذلك، فإن هذا باطل مستحيل!
المبحث الخامس في المعية: هل بينها وبين العلو تناقض؟
الجواب: لا تناقض بينهما، لوجوه ثلاثة:
الوجه الأول: أن الله جمع بينهما فيما وصف به نفسه، ولو كانا يتناقضان ما صح أن يصف الله بهما نفسه.
الوجه الثاني: أن نقول: ليس بين العلو والمعية تعارض، أصلا، إذ من الممكن أن يكون الشيء عاليا وهو معك، ومنه ما يقوله العرب: القمر معنا ونحن نسير، والشمس معنا ونحن نسير، والقطب معنا ونحن نسير، مع أن القمر والشمس والقطب كلها في السماء، فإذا أمكن اجتماع العلو والمعية في المخلوق، فاجتماعهما في الخالق من باب أولى.
أرأيت لو أن إنسانا على جبل عالٍ، وقال للجنود: اذهبوا إلى مكان(8/343)
بعيد في المعركة، وأنا معكم، وهو واضع المنظار على عينيه، ينظر إليهم من بعيد، فصار معهم؛ لأنه الآن يبصر كأنهم بين يديه، وهو بعيد عنهم، فالأمر ممكن في حق المخلوق، فكيف لا يمكن في حق الخالق؟!
الوجه الثالث: أنه لو تعذر اجتماعهما في حق المخلوق، لم يكن متعذرا في حق الخالق؛ لأن الله أعظم وأجل، ولا يمكن أن تقاس صفات الخالق بصفات المخلوقين، لظهور التباين بين الخالق والمخلوق.
والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في سفره: «اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل» ، فجمع بين كونه صاحبا له وخليفة له في أهله، مع أنه بالنسبة للمخلوق غير ممكن، لا يمكن أن يكون شخص ما صاحبا لك في السفر وخليفة لك في أهلك.
وثبت في الحديث الصحيح: أن الله عز وجل يقول إذا قال المصلي: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} : «حمدني عبدي» . كم من مصل يقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ؟ لا يحصون، وكم من مصليين، أحدهما يقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، والثاني يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، وكل واحد منهما له رد، الذي يقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} : يقول الله له: «حمدني عبدي» . والذي يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} : يقول الله له: «هذا بيني وبين عبدي نصفين» ...(8/344)
إذا، يمكن أن يكون الله معنا حقا وهو على عرشه في السماء حقا، ولا يفهم أحد أنهما يتعارضان، إلا من أراد أن يمثل الله بخلقه، ويجعل معية الخالق كمعية المخلوق.
ونحن بينا إمكان الجمع بين نصوص العلو ونصوص المعية، فإن تبين ذلك، وإلا، فالواجب أن يقول العبد: آمنت بالله ورسوله، وصدقت بما قال الله عن نفسه ورسوله، ولا يقول: كيف يمكن؟! منكرا ذلك!
إذا قال: كيف يمكن؟! قلنا: سؤالك هذا بدعة، لم يسأل عنه الصحابة، وهم خير منك، ومسئولهم أعلم من مسئولك وأصدق وأفصح وأنصح، عليك أن تصدق، لا تقل: كيف؟ ولا لم؟ ولكن سلم تسليما.
تنبيه:
تأمل في الآية، تجد كل الضمائر تعود على الله سبحانه وتعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ} ، فكذلك ضمير {وَهُوَ مَعَكُمْ} ، فيجب علينا أن نؤمن بظاهر الآية الكريمة، ونعلم علم اليقين أن هذه المعية لا تقتضي أن يكون الله معنا في الأرض، بل هو معنا مع استوائه على العرش.
هذه المعية، إذا آمنا بها، توجب لنا خشية الله عز وجل وتقواه، ولهذا جاء في الحديث: «أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيثما كنت» . . (1)
أما أهل الحلول، فقالوا: إن الله معنا بذاته في أمكنتنا، إن كنت في المسجد، فالله معك في المسجد، والذين في السوق الله معهم في السوق!! والذين في الحمامات الله معهم في الحمامات! .
__________
(1) أخرجه أبو نعيم (6/124) ، والهيثمي في "المجمع" (1/60) .(8/345)
ما نزهوه عن الأقذار والأنتان وأماكن اللهو والرفث!!.
المبحث السادس: في شبهة القائلين بأن الله معنا في أمكنتنا والرد عليهم:
شبهتهم: يقولون: هذا ظاهر اللفظ: {وَهُوَ مَعَكُمْ} ؛ لأن كل الضمائر تعود على الله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ ثُمَّ اسْتَوَى يَعْلَمُ وَهُوَ مَعَكُمْ} ، وإذا كان معنا؛ فنحن لا نفهم من المعية إلا المخالطة أو المصاحبة في المكان!!.
والرد عليهم من وجوه:
أولا: أن ظاهرها ليس كما ذكرتم؛ إذ لو كان الظاهر كما ذكرتم؛ لكان في الآية تناقض: أن يكون مستويا على العرش، وهو مع كل إنسان في أي مكان! والتناقض في كلام الله تعالى مستحيل.
ثانيا: قولكم: "إن المعية لا تعقل إلا مع المخالطة أو المصاحبة في المكان! هذا ممنوع؛ فالمعية في اللغة العربية اسم لمطلق المصاحبة، وهي أوسع مدلولا مما زعمتم؛ فقد تقتضي الاختلاط، وقد تقتضي المصاحبة في المكان، وقد تقتضي مطلق المصاحبة وإن اختلف المكان؛ هذه ثلاثة أشياء:
1 -مثال المعية التي تقتضي المخالطة: أن يقال: اسقوني لبنا مع ماء؛ أي: مخلوطا بماء.
2 -ومثال المعية التي تقتضي المصاحبة في المكان: قولك: وجدت فلانا مع فلان يمشيان جميعا وينزلان جميعا.
3 -ومثال المعية التي لا تقتضي الاختلاط ولا المشاركة في المكان: أن يقال:(8/346)
فلان مع جنوده. وإن كان هو في غرفة القيادة، لكن يوجههم. فهذا ليس فيه اختلاط ولا مشاركة في مكان.
ويقال: زوجة فلان معه. وإن كانت هي في المشرق وهو في المغرب.
فالمعية إذا كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وكما هو ظاهر من شواهد اللغة: مدلولها مطلق المصاحبة، ثم هي بحسب ما تضاف إليه.
فإذا قيل: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا} [النحل: 128] ؛ فلا يقتضي ذلك لا اختلاطا ولا مشاركة في المكان، بل هي معية لائقة بالله، ومقتضاها النصر والتأييد.
ثالثا: نقول: وصفكم الله بهذا من أبطل الباطل وأشد التنقص لله عز وجل، والله عز وجل ذكر ها هنا عن نفسه متمدحا؛ أنه مع علوه على عرشه؛ فهو مع الخلق، وإن كانوا أسفل منه، فإذا جعلتم الله في الأرض؛ فهذا نقص.
إذا جعلتم الله نفسه معكم في كل مكان، وأنتم تدخلون الكنيف؛ هذا أعظم النقص، ولا تستطيع أن تقوله ولا لملك من ملوك الدنيا: إنك أنت في الكنيف! لكن كيف تقوله لله عز وجل؟! وهل هذا إلا أعظم النقص والعياذ بالله.
رابعا: يلزم على قولكم هذا أحد أمرين لا ثالث لهما، وكلاهما ممتنع: إما أن يكون الله متجزئا، كل جزء منه في مكان.
وإما أن يكون متعددا؛ يعني: كل إله في جهة ضرورة تعدد الأمكنة.
خامسا: أن نقول: قولكم هذا أيضا يستلزم أن يكون الله حالا في الخلق؛ فكل مكان في الخلق؛ فالله تعالى فيه، وصار هذا سلما لقول أهل(8/347)
{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وحدة الوجود.
فأنت ترى أن هذا القول باطل، ومقتضى هذا القول الكفر.
ولهذا نرى أن من قال: إن الله معنا في الأرض؛ فهو كافر؛ يستتاب، ويبين له الحق، فإن رجع، وإلا وجب قتله.
وهذه آيات المعية:
الآية الأولى: قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4] .
والشاهد فيها قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} ، وهذه من المعية العامة؛ لأنها تقتضي الإحاطة بالخلق علما وقدرة وسلطانا وسمعا وبصرا وغير ذلك من معاني الربوبية.
الآية الثانية: قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة: 7] .
{مَا يَكُونُ} : يكون؛ تامة يعني: ما يوجد.
وقوله: {مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ} : قيل: إنها من باب إضافة الصفة إلى(8/348)
الموصوف، وأصلها: من ثلاثة نجوى، ومعنى نجوى؛ أي: متناجين.
وقوله: {إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} ولم يقل: إلا هو ثالثهم؛ لأنه من غير الجنس، وإذا كان من غير الجنس، فإنه يؤتى بالعدد التالي، أما إذا كان من الجنس؛ فإنه يؤتى بنفس العدد، انظر قوله تعالى عن النصارى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} [المائدة: 73] ، ولم يقولوا: ثالث اثنين؛ لأنه من الجنس على زعمهم، فعندهم كل الثلاثة آلهة، فلما كان من الجنس على زعمهم؛ قالوا فيه: ثالث ثلاثة.
قوله: {وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} ذكر العدد الفردي ثلاثة وخمسة، وسكت عن العدد الزوجي، لكنه داخل في قوله: {وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ} : الأدنى من ثلاثة اثنان، {وَلَا أَكْثَرَ} من خمسة، ستة فما فوق.
ما من اثنين فأكثر يتناجيان بأي مكان من الأرض؛ إلا والله عز وجل معهم.
وهذه المعية عامة؛ لأنها تشمل كل أحد: المؤمن، والكافر، والبر، والفاجر، ومقتضاها الإحاطة بهم علما وقدرة وسمعا وبصرا وسلطانا وتدبيرا وغير ذلك.
وقوله: {ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ؛ يعني: أن هذه المعية تقتضي إحصاء ما عملوه؛ فإذا كان يوم القيامة؛ نبأهم بما عملوا؛ يعني: أخبرهم به وحاسبهم عليه؛ لأن المراد بالإنباء لازمه، وهو المحاسبة، لكن إن كانوا مؤمنين؛ فإن الله تعالى يحصي أعمالهم، ثم يقول: «سترتها»(8/349)
وقوله: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم» .
وقوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} : كل شيء موجود أو معدوم، جائز أو واجب أو ممتنع، كل شيء؛ فالله عليم به.
وقد سبق لنا الكلام على صفة العلم، وأن عِلم الله يتعلق بكل شيء، حتى بالواجب والمستحيل والصغير والكبير، والظاهر والخفي.
الآية الثالثة: {لا تحزن إن الله معنا} [التوبة: 40] .
الخطاب لأبي بكر من النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:؛ قال الله تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] .
أولا: نصره حين الإخراج و {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} .
ثانيا: وعند المكث في الغار {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} .
ثالثا: عند الشدة حينما وقف المشركون على فم الغار: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ} .
فهذه ثلاثة مواقع بين الله تعالى فيها نصره لنبيه، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وهذا الثالث حين وقف المشركون عليهم؛ يقول أبو بكر: «يا رسول الله! لو نظر أحدهم إلى قدمه؛ لأبصرنا» ؛ يعني: إننا على خطر؛ كقول أصحاب موسى لما وصلوا إلى البحر: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61] ، فقال: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62] وهنا قال(8/350)
{إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى}
ـــــــــــــــــــــــــــــ
النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأبي بكر رضي الله عنه: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} . فطمأنه وأدخل الأمن في نفسه، وعلل ذلك بقوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} .
وقوله: {لَا تَحْزَنْ} : نهي يشمل الهم مما وقع وما سيقع؛ فهو صالح للماضي والمستقبل.
والحزن: تألم النفس وشدة همها.
{إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} : وهذه المعية خاصة، مقيدة بالنبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبي بكر، وتقتضي مع الإحاطة التي هي المعية العامة النصر والتأييد.
ولهذا وقفت قريش على الغار، ولم يبصروهما! أعمى الله أبصارهم.
وأما قول من قال: فجاءت العنكبوت فنسجت على باب الغار، والحمامة وقعت على باب الغار، فلما جاء المشركون، وإذا على الغار، حمامة وعش عنكبوت، فقالوا: ليس فيه أحد؛ فانصرفوا. فهذا باطل.
الحماية الإلهية والآية البالغة أن يكون الغار مفتوحا صافيا؛ ليس فيه مانع حسي، ومع ذلك لا يرون من فيه، هذه هي الآية!!.
أما أن تأتي حمامة وعنكبوت تعشش؛ فهذا بعيد، وخلاف قوله: «لو نظر أحدهم إلى قدمه، لأبصرنا» .
المهم أن بعض المؤرخين -عفا الله عنهم -يأتون بأشياء غريبة شاذة منكرة لا يقبلها العقل ولا يصح بها النقل.
الآية الرابعة: قوله: {إنني معكما أسمع وأرى} [طه: 46] .
هذا الخطاب موجه لموسى وهارون، لما أمرهما الله عز وجل أن يذهبا إلى فرعون؛ قال: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:43-46] .(8/351)
{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} وقوله: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فقوله: {أَسْمَعُ وَأَرَى} : جملة استئنافية لبيان مقتضى هذه المعية الخاصة، وهو السمع والرؤية، وهذا سمع ورؤية خاصان تقتضيان النصر والتأييد والحماية من فرعون الذي قالا عنه: {إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى}
الآية الخامسة: قوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128] .
هذه جاءت بعد قوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل: 126-127] .
عقوبة الجاني بمثل ما عوقب به من باب التقوى، وبأكثر ظلم وعدوان، والعفو إحسان، ولهذا قال: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} .
والمعية هنا خاصة مقيدة بصفة: كل من كان من المتقين المحسنين؛ فالله معه.
وهذا يثمر لنا بالنسبة للحالة المسلكية: الحرص على الإحسان والتقوى؛ فإن كل إنسان يحب أن يكون الله معه.
الآية السادسة: قوله: {واصبروا إن الله مع الصابرين} [الأنفال:46] .(8/352)
{كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}
ـــــــــــــــــــــــــــــ
سبق لنا أن الصبر حبس النفس على طاعة الله، وحبسها عن معصية الله، وحبسها عن التسخط على أقدار الله؛ سواء باللسان أو بالقلب أو بالجوارح.
وأفضل أنواع الصبر: الصبر على طاعة الله، ثم عن معصية الله؛ لأن فيهما اختيارا: إن شاء الإنسان فعل المأمور، وإن شاء لم يفعل، وإن شاء ترك المحرم وإن شاء ما تركه، ثم على أقدار الله؛ لأن أقدار الله واقعة شئت أم أبيت؛ فإما أن تصبر صبر الكرام وإما أن تسلو سلو البهائم.
والصبر درجة عالية لا تنال إلا بشيء يصبر عليه، أما من فرشت له الأرض ورودا، وصار الناس ينظرون إلى ما يريد؛ فإنه لا بد أن يناله شيء من التعب النفسي أو البدني الداخلي أو الخارجي.
ولهذا جمع الله لنبيه عليه الصلاة والسلام بين الشكر والصبر.
فالشكر؛ كان يقوم حتى تتورم قدماه، فيقول: «أفلا أكون عبدا شكورا؟» .
والصبر: صبر على ما أوذي، فقد أوذي من قومه ومن غيرهم من اليهود والمنافقين، ومع ذلك؛ فهو صابر.
الآية السابعة: قوله: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249] .
كم: خبرية، تفيد التكثير؛ يعني: فئة قليلة غلبت فئة كثيرة عدة مرات، أو فئات قليلة متعددة غلبت فئات كثيرة متعددة، لكن لا(8/353)
بحولهم ولا بقوتهم، بل بإذن الله، أي: بإرادته وقدرته.
ومن ذلك: أصحاب طالوت غلبوا عدوهم وكانوا كثيرين.
ومن ذلك: أصحاب بدر غلبوا قريشا وهم كثيرون.
أصحاب بدر خرجوا لغير قتال، بل لأخذ عير أبي سفيان، وأبو سفيان لما علم بهم؛ أرسل صارخا إلى أهل مكة يقول: أنقذوا عيركم، محمد وأصحابه خرجوا إلينا يريدون أخذ العير. والعير فيها أرزاق كثيرة لقريش.
فخرجت قريش بأشرافها وأعيانها وخيلائها وبطرها، يظهرون القوة والفخر والعزة، حتى قال أبو جهل: والله؛ لا نرجع حتى نقدم بدرا، فنقيم فيها ثلاثا؛ ننحر الجزور، ونسقي الخمور، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب؛ فلا يزالون يهابوننا أبدا.
فالحمد لله، غنوا على قتله هو ومن معه!.
كان هؤلاء القوم ما بين تسعمائة وألف، كل يوم ينحرون من الإبل تسعا إلى عشر، والنبي عليه الصلاة والسلام هو وأصحابه ثلاثمائة وأربعة عشر رجلا، معهم سبعون بعيرا وفرسان فقط يتعاقبونها، ومع ذلك قتلوا الصناديد العظماء لقريش حتى جيفوا وانتفخوا من الشمس وسحبوا إلى قليب من قلب بدر خبيثة.
فـ {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} ؛ لأن الفئة القليلة صبرت، {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} ؛ صبرت كل أنواع الصبر؛ على طاعة الله، وعن معصية الله، وعلى ما أصابها من الجهد والتعب والمشقة في تحمل أعباء الجهاد، {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} .
انتهت آيات المعية، وسيأتي للمؤلف رحمه الله فصل كامل في(8/354)
قوله: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} ، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا}
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تقريظها.
فما هي الثمرات التي نستفيدها بأن الله معنا؟
أولا: الإيمان بإحاطة الله عز وجل بكل شيء، وأنه مع علوه فهو مع خلقه، لا يغيب عنه شيء من أحوالهم أبدا.
ثانيا: أننا إذا علمنا ذلك وآمنا به؛ فإن ذلك يوجب لنا كمال مراقبته بالقيام بطاعته وترك معصيته؛ بحيث لا يفقدنا حيث أمرنا، ولا يجدنا حيث نهانا، وهذه ثمرة عظيمة لمن آمن بهذه المعية.
إثبات الكلام لله تعالى وأن القرآن من كلامه تعالى
ذكر المؤلف رحمه الله الآيات الدالة على كلام الله تعالى، وأن القرآن من كلامه تعالى.
الآية الأولى والثانية: قوله: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء: 87] {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء: 122] .
ومن: اسم استفهام بمعنى النفي، وإتيان النفي بصيغة الاستفهام أبلغ من إتيان النفي مجردا؛ لأنه يكون بالاستفهام مشربا معنى التحدي؛ كأنه يقول: لا أحد أصدق من الله حديثا، وإذا كنت تزعم خلاف ذلك؛ فمن أصدق من الله؟
وقوله: حديثا وقيلا: تمييز لـ أصدق.
وإثبات الكلام في هاتين الآيتين يؤخذ من: قوله: أصدق؛ لأن الصدق يوصف به الكلام، وقوله: حديثا؛ لأن الحديث هو الكلام(8/355)
{وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ}
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ومن قوله في الآية الثانية: قيلا؛ يعني: قولا، والقول لا يكون إلا باللفظ.
ففيهما إثبات الكلام لله عز وجل، وأن كلامه حق وصدق، ليس فيه كذب بوجه من الوجوه.
الآية الثالثة: قوله: {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم} [المائدة: 116] .
قوله: يا عيسى: مقول القول، وهي جملة من حروف: {يا عيسى ابن مريم} .
ففي هذا إثبات أن الله يقول: وأن قوله مسموع، فيكون بصوت، وأن قوله كلمات وجمل، فيكون بحرف.
ولهذا كانت عقيدة أهل السنة والجماعة: أن الله يتكلم بكلام حقيقي متى شاء، كيف شاء، بما شاء، بحرف وصوت، لا يماثل أصوات المخلوقين.
"متى شاء": باعتبار الزمن.
"بما شاء": باعتبار الكلام؛ يعني: موضوع الكلام من أمر أو نهي أو غير ذلك.
"كيف شاء": يعني على الكيفية والصفة التي يريدها سبحانه وتعالى.
قلنا: إنه بحرف وصوت لا يشبه أصوات المخلوقين.
الدليل على هذا من الآية الكريمة: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} : هذا حروف.
وبصوت؛ لأن عيسى يسمع ما قال.(8/356)
{وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} .
وقوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لا يماثل أصوات المخلوقين؛ لأن الله قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] .
الآية الرابعة: قوله: {وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا} [الأنعام: 115] .
كلمة بالإفراد، وفي قراءة (كلمات) ؛ بالجمع، ومعناها واحد؛ لأن كلمة مفرد مضاف فيعم.
تمت كلمات الله عز وجل على هذين الوصفين: الصدق والعدل، والذي يوصف بالصدق الخبر، والذي يوصف بالعدل الحكم، ولهذا قال المفسرون: صدقا في الأخبار، وعدلا في الأحكام.
فكلمات الله عز وجل في الأخبار صدق لا يعتريها الكذب بوجه الوجوه، وفي الأحكام عدل لا جور فيها بوجه من الوجوه.
هنا وصفت الكلمات بالصدق والعدل. إذا؛ فهي أقوال؛ لأن القول هو الذي يقال فيه: كاذب أو صادق.
الآية الخامسة: قوله: {وكلم الله موسى تكليما} النساء:164] .
الله: فاعل؛ فالكلام واقع منه.
{تَكْلِيمًا} : مصدر مؤكد، والمصدر المؤكد -بكسر الكاف -؛ قال العلماء: إنه ينفي احتمال المجاز. فدل على أنه كلام حقيقي؛ لأن المصدر المؤكد ينفي احتمال المجاز.(8/357)
{مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} وقوله: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} . {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا}
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أرأيت لو قلت: جاء زيد. فيفهم أنه جاء هو نفسه، ويحتمل أن يكون المعنى جاء خبر زيد، وإن كان خلاف الظاهر، لكن إذا أكدت فقلت: جاء زيد نفسه. أو: جاء زيد زيد. انتفى احتمال المجاز.
فكلام الله عز وجل لموسى كلام حقيقي بحرف، وصوت سمعه، ولهذا جرت بينهما محاورة؛ كما في سورة طه وغيرها.
الآية السادسة: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة:253] .
منهم؛أي: من الرسل.
{مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} : الاسم الكريم الله فاعل كلم، ومفعولها محذوف يعود على من، والتقدير: كلمه الله.
الآية السابعة: قوله: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143] .
أفادت هذه الآية أن الكلام يتعلق بمشيئته، وذلك؛ لأن الكلام صار حين المجيء. لا سابقا عليه، فدل هذا على أن كلامه يتعلق بمشيئته.
فيبطل به قول من قال: إن كلامه هو المعنى القائم بالنفس، وإنه لا يتعلق بمشيئته، كما تقول الأشاعرة.
وفي هذه الآية إبطال زعم من زعم أن موسى فقط هو الذي كلم الله، وحرف قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} إلى نصب الاسم الكريم؛ لأنه في هذه الآية لا يمكنه زعم ذلك ولا تحريفها.
الآية الثامنة: قوله: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم:52] .(8/358)
{وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
{وَنَادَيْنَاهُ} : ضمير الفاعل يعود إلى الله، وضمير المفعول يعود إلى موسى؛ أي: نادى الله موسى.
{نَجِيًّا} : حال، وهو فعيل بمعنى مفعول؛ أي: مناجي.
والفرق بين المناداة والمناجاة أن المناداة تكون للبعيد، والمناجاة تكون للقريب وكلاهما كلام.
وكون الله عز وجل يتكلم مناداة ومناجاة داخل في قول السلف: "كيف شاء".
فهذه الآية مما يدل على أن الله يتكلم كيف شاء مناداة كان الكلام أو مناجاة.
الآية التاسعة: قوله: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الشعراء:10] .
{وَإِذْ نَادَى} ؛ يعني: واذكر إذ نادى.
والشاهد قوله: {رَبُّكَ مُوسَى} : فسر النداء بقوله: {أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} .
فالنداء يدل على أنه بصوت، و {أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} : يدل على أنه بحرف.
الآية العاشرة: قوله: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} [الأعراف:22] .
{وَنَادَاهُمَا} : ضمير المفعول يعود على آدم وحواء.
{أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} : يقرر أنه نهاهما عن تلكما(8/359)
{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الشجرة، وهذا يدل على أن الله كلمهما من قبل، وأن كلام الله بصوت وحرف، ويدل على أنه يتعلق بمشيئته؛ لقوله: {أَلَمْ أَنْهَكُمَا} ؛ فإن هذا القول بعد النهي، فيكون متعلقا بالمشيئة.
الآية الحادية عشرة: قوله: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:65] .
يعني: واذكر يوم يناديهم، وذلك يوم القيامة، والمنادي هو الله عز وجل: فيقول.
وفي هذه الآية إثبات الكلام من وجهين: النداء والقول.
وهذه الآيات تدل بمجموعها على أن الله يتكلم بكلام حقيقي، متى شاء، بما شاء، بحرف وصوت مسموع، لا يماثل أصوات المخلوقين.
وهذه هي العقيدة السلفية عقيدة أهل السنة والجماعة.
إثبات أن القرآن كلام الله تعالى
ذكر المؤلف رحمه الله الآيات الدالة على أن القرآن كلام الله.
وهذه المسألة وقع فيها النزاع الكثير بين المعتزلة وأهل السنة، وحصل بها شر كثير على أهل السنة، وممن أوذي في الله في ذلك الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله إمام أهل السنة، الذي قال فيه بعض العلماء: "إن الله سبحانه وتعالى حفظ الإسلام (أو قال: نصره) بأبي بكر يوم الردة، وبالإمام أحمد يوم المحنة".
والمحنة: هو أن المأمون عفا الله عنا وعنه أجبر الناس على أن يقولوا بخلق القرآن، حتى إنه صار يمتحن العلماء ويقتلهم إذا لم يجيبوا، وأكثر(8/360)
العلماء رأوا أنهم في فسحة من الأمر، وصاروا يتأولون:
-إما بأن الحال حال إكراه، والمكره إذا قال الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان؛ فإنه معفو عنه.
- وإما بتنزيل اللفظ على غير ظاهره؛ يتأولون، فيقولون مثلا: القرآن والتوراة والإنجيل والزبور؛ هذه مخلوقة. وهو يتأول أصابعه.
أما الإمام أحمد ومحمد بن نوح (1) رحمهما الله؛ فأبيا ذلك، وقالا: القرآن كلام الله منزل غير مخلوق. ورأيا أن الإكراه في هذا المقام لا يسوغ لهما أن يقولا خلاف الحق؛ لأن المقام مقام جهاد، والإكراه يقتضي العفو إذا كانت المسألة شخصية؛ بمعنى أن تكون على الشخص نفسه، أما إذا كانت المسألة لحفظ شريعة الله، فالواجب أن يتبرع الإنسان برقبته لحفظ شريعة الله عز وجل.
لو قال الإمام أحمد في ذلك الوقت: إن القرآن مخلوق، ولو بتأويل أو لدفع الإكراه؛ لقال الناس كلهم: القرآن مخلوق! وحينئذ يتغير المجتمع الإسلامي من أجل دفع الإكراه، لكنه صمم، فصارت العاقبة له، ولله الحمد.
المهم أن القول في القرآن جزء من القول في كلام الله على العموم، لكن لما وقعت فيه المحنة، وصار محك النزاع بين المعتزلة وأهل السنة؛ صار الناس يفردون القول في القرآن بكلام خاص، والمؤلف رحمه الله من الآن ساق الآيات الدالة على أن القرآن كلام الله في آيات متعددة.
__________
(1) هو محمد بن نوح المضروب: العجلي أحد المشهورين بالسنة، أثنى عليه الإمام أحمد ابن حنبل وامتحن في مسألة خلق القرآن وأخرج من بغداد ومات في طريق خروجه سنة 218-هـ. أنظر: تذكرة الحفاظ 3-826، وسير أعلام النبلاء 15-34.(8/361)
{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ}
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الآية الأولى: قوله: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة:6] .
أحد: هذه اسم، ووإن: أداة الشرط، والاسم إذا ولي أداة الشرط؛ فقد ولي أداة لا يليها إلا الفعل، فاختلف النحويون في هذا:
فقال بعضهم: إنه فاعل لفعل محذوف يفسره ما بعده، وعليه يكون أحد فاعل لفعل محذوف، والتقدير: وإن استجارك أحد من المشركين؛ فأجره، ومثلها: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] ؛ فـ السماء فاعل لفعل محذوف، والتقدير: إذا انشقت السماء انشقت.
القول الثاني: وهو قول الكوفيين وهم في الغالب أسهل من البصريين: أن أحد فاعل مقدم، والفعل استجارك مؤخر، ولا حاجة للتقدير.
القول الثالث: أن ورود الأسماء بعد أدوات الشرط في القرآن كثيرا يدل على عدم امتناعه، وعلى هذا القول يكون الاسم الواقع بعد أداة الشرط مبتدأ إذا كان مرفوعا، فيكون أحد: مبتدأ، واستجارك: خبر المبتدأ.
والقاعدة عندي أن ما كان أسهل من أقوال النحويين؛ فهو المتبع، حيث لا مانع شرعا من ذلك.
قوله: استجارك؛ أي: طلب جوارك، والجوار: بمعنى العصمة والحماية.
حتى يسمع: حتى: للغاية؛ والمعنى: إن أحد استجارك ليسمع كلام الله؛ فأجره حتى يسمع كلام الله؛ أي: القرآن، وهذا بالاتفاق.(8/362)
وإنما قال: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} ؛ لأن سماع كلام الله عز وجل مؤثر ولا بد كما قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37] ، وكم من إنسان سمع كلام الله فآمن، لكن بشرط أن يكون يفهمه تماما.
وقوله: {كَلَامَ اللَّهِ} : أضاف الكلام إلى نفسه، فقال: {كَلَامَ اللَّهِ} ، فدل هذا على أن القرآن كلام الله، وهو كذلك.
وعقيدة أهل السنة والجماعة في القرآن؛ يقولون: إن القرآن كلام الله، منزل، غير مخلوق منه بدأ، وإليه يعود.
- قولهم " كلام الله ": دليله: قوله تعالى هنا: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] ، وبما يأتي من الآيات.
- وقولهم: "منزل": دليلة قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185] ، وقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] ، وقوله: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} [الإسراء:106] .
- وقولهم: " غير مخلوق ": دليله: قوله تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف:54] ؛ فجعل الخلق شيئا والأمر شيئا آخر؛ لأن العطف يقتضي المغايرة، والقرآن من الأمر؛ بدليل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى:52] ؛ فإذا كان القرآن أمرا، وهو قسيم للخلق؛ صار غير مخلوق؛ لأنه لو كان مخلوقا؛ ما صح التقسيم. وهذا دليل سمعي.
أما الدليل العقلي؛ فنقول: القرآن كلام الله، والكلام ليس عينا قائمة(8/363)
بنفسها حتى يكون بائنا من الله، ولو كان عينا قائمة بنفسها بائنة من الله؛ لقلنا: إنه مخلوق، لكن الكلام صفة للمتكلم به، فإذا كان صفة للمتكلم به، وكان من الله؛ كان غير مخلوق؛ لأن صفات الله عز وجل كلها غير مخلوقة.
وأيضا؛ لو كان مخلوقا؛ لبطل مدلول الأمر والنهي والخبر والاستخبار؛ لأن هذه الصيغ لو كانت مخلوقة. لكانت مجرد أشكال خلقت على هذه الصورة لا دلالة لها على معناها؛ كما يكون شكل النجوم والشمس والقمر ونحوها.
وقولهم: " منه بدأ "؛ أي: هو الذي ابتدأ به، وتكلم به أولا.
والقرآن أضيف إلى الله وإلى جبريل وإلى محمد، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
مثال الأول: قول الله عز وجل: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة:6] ، فيكون منه بدأ؛ أي: من الله جل جلاله، ومنه: حرف جر وضمير قدم على عامله لفائدة الحصر والاختصاص.
ومثال الثاني-إضافته إلى جبريل -: قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير: 19 - 20] .
ومثال الثالث- إضافته إلى محمد عليه الصلاة والسلام -: قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ} [الحاقة: 40-41] ، لكن أضيف إليها لأنهما يبلغانه، لا لأنهما ابتدآه..
وقولهم: " وإليه يعود ": في معناه وجهان:
الأول: أنه كما جاء في بعض الآثار: «يسري عليه في ليلة، فيصبح»(8/364)
«الناس ليس بين أيديهم قرآن؛ لا في صدورهم، ولا في مصاحفهم، يرفعه الله عز وجل» (1) .
وهذا- والله أعلم- حينما يعرض عنه الناس إعراضا كليا؛ لا يتلونه لفظا ولا عقيدة ولا عملا؛ فإنه يرفع؛ لأن القرآن أشرف من أن يبقى بين يدي أناس هجروه وأعرضوا عنه فلا يقدرونه قدره، وهذا- والله أعلم- نظير هدم الكعبة في آخر الزمان؛ حيث يأتي رجل من الحبشة قصير أفحج أسود، يأتي بجنوده من البحر إلى المسجد الحرام، وينقض الكعبة حجرا حجرا، كلما نقض حجرا؛ مده للذي يليه ... وهكذا يتمادون الأحجار إلى أن يرموها في البحر، والله عز وجل يمكنهم من ذلك، مع أن أبرهة جاء بخيله ورجله وفيله فقصمه الله قبل أن يصل إلى المسجد؛ لأن الله علم أنه سيبعث هذا النبي، وتعاد إلى المسجد هيبته وعظمته.
ولكن في آخر الزمان لن يبعث نبي بعد محمد عليه الصلاة والسلام، وإذا أعرض الناس عن تعظيم هذا البيت نهائيا؛ فإنه يسلط عليه هذا الرجل من الحبشة؛ فهذا نظير رفع القرآن. والله أعلم.
الوجه الثاني: في معنى قولهم: " وإليه يعود ": أنه يعود إلى الله وصفا؛ أي أنه لا يوصف به أحد سوى الله، فيكون المتكلم بالقرآن هو الله عز وجل، وهو الموصوف به.
ولا مانع من أن نقول: إن المعنيين كلاهما صحيح.
__________
(1) أخرجه ابن ماجه/ كتاب الفتن/ باب ذهاب القرآن والعلم.(8/365)
هذا كلام أهل السنة والجماعة في القرآن الكريم.
ويرى المعتزلة أن القرآن مخلوق، وليس كلام الله!
ويستدلون لذلك بقول الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر:62] ، والقرآن شيء، فيدخل في عموم قوله: كل شيء، ولأنه ما ثم إلا خالق ومخلوق، والله خالق، وما سواه مخلوق.
والجواب من وجهين:
الأول: أن القرآن كلام الله تعالى، وهو صفة من صفات الله، وصفات الخالق غير مخلوقة.
الثاني: أن مثل هذا التعبير كل شيء عام قد يراد به الخاص؛ مثل قوله تعالى عن ملكة سبأ: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل:23] ، وقد خرج شيء كثير لم يدخل في ملكها منه شيء؛ مثل ملك سليمان.
فإن قال قائل: هل هناك فرق كبير بين قولنا: إنه منزل، وقولنا:إنه مخلوق؟
فالجواب: نعم؛ بينهما فرق كبير، جرت بسببه المحنة الكبرى في عصر الإمام أحمد.
فإذا قلنا: إنه منزل. فهذا ما جاء به القرآن؛ قال الله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان:1] .
وإذا قلنا: إنه مخلوق. لزم من ذلك:
أولا: تكذيب للقرآن؛ لأن الله يقول: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى:52] .(8/366)
فجعله الله تعالى موحى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، ولو كان مخلوقا؛ ما صح أن يكون موحى؛ فإذا كان وحيا لزم ألا يكون مخلوقا؛ لأن الله هو الذي تكلم به.
ثانيا: إذا قلنا: إنه مخلوق؛ فإنه يلزم على ذلك إبطال مدلول الأمر والنهي والخبر والاستخبار؛ لأن هذه الصيغ لو كانت مخلوقة؛ لكانت مجرد شكل خلق على هذه الصورة؛ كما خلقت الشمس على صورتها، والقمر على صورته، والنجم على صورته. . وهكذا، ولم تكن أمرا ولا نهيا ولا خبرا ولا استخبارا؛ فمثلا: كلمة (قل) ، (لا تقل) ، (قال فلان) ، (هل قال فلان) كلها نقوش على هذه الصورة، فتبطل دلالتها على الأمر والنهي والخبر والاستخبار، وتبقى كأنها صور ونقوش لا تفيد شيئا.
ولهذا قال ابن القيم في "النونية": "إن هذا القول يبطل به الأمر والنهي؛ لأن الأمر كأنه شيء خلق على هذه الصورة دون أن يعتبر مدلوله، والنهي خلق على هذه الصورة دون أن يقصد مدلوله، وكذلك الخبر والاستخبار".
ثالثا: إذا قلنا: إن القرآن مخلوق، وقد أضافه إلى نفسه إضافة خلق؛ صح أن نطلق على كل كلام من البشر وغيرهم أنه كلام الله؛ لأن كل كلام الخلق مخلوق، وبهذا التزم أهل الحلول والاتحاد؛ حيث يقول قائلهم:
وكل كلام في الوجوه كلامه ... سواء علينا نثره ونظامه
وهذا اللازم باطل، وإذا بطل اللازم بطل الملزوم.
فهذه ثلاثة أوجه تبطل القول بأنه مخلوق.
والوجه الرابع: أن نقول: إذا جوزتم أن يكون الكلام-وهو معنى لا(8/367)
{وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يقوم إلا بمتكلم - مخلوقا؛ لزمكم أن تجوزوا أن تكون جميع صفات الله مخلوقة؛ إذ لا فرق؛ فقولوا إذا: سمعه مخلوق، وبصره مخلوق ... وهكذا.
فإن أبيتم إلا أن تقولوا: إن السمع معنى قائم بالسامع لا يسمع منه ولا يرى، بخلاف الكلام؛ فإنه جائز أن الله يخلق أصواتا في الهواء فتسمع!.
قلنا لكم: لو خلق أصواتا في الهواء، فسمعت؛ لكان المسموع وصفا للهواء، وهذا أنتم بأنفسكم لا تقولوه؛ فكيف تعيدون الصفة إلى غير موصوفها؟!.
هذه وجوه أربعة كلها تدل على أن القول بخلق القرآن باطل، ولو لم يكن منه إلا إبطال الأمر والنهي والخبر والاستخبار؛ لكان ذلك كافيا.
الآية الثانية: قوله: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:75] .
هذا في سياق قوله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} ؛ يعني: لا تطمعوا أن يؤمنوا لكم؛ أي: اليهود.
فريق منهم: طائفة منهم، وهم علماؤهم.
{يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ} : يحتمل أن يراد به القرآن، وهو ظاهر صنيع المؤلف، فيكون دليلا على أن القرآن كلام الله.
ويحتمل أن يراد به كلام الله تعالى لموسى حين اختار موسى سبعين رجلا لميقات الله تعالى، فكلمه الله وهم يسمعون، فحرفوا كلام الله تعالى من بعد ما عقلوه وهم يعلمون. ولم أر الاحتمال الأول لأحد من المفسرين.(8/368)
{يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ}
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أيا كان؛ ففيه إثبات أن كلام الله بصوت مسموع، والكلام صفة المتكلم، وليس شيئا بائنا منه؛ فوجب أن يكون القرآن كلام الله لا كلام غيره.
{ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} : يحرفونه: أي: يغيرون معناه.
وقوله: {مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} هذا أشد في قبح عملهم وجرأتهم على الله سبحانه وتعالى: أن يحرفوا الشيء من بعد ما عقلوه ووصل إلى عقولهم وهم يعلمون أنهم محرفون له؛ لأن الذي يحرف المعنى عن جهل أهون من الذي يحرفه بعد العقل والعلم.
الآية الثالثة: قوله: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} [الفتح:15] .
في هذه الآية إثبات أن القرآن كلام الله؛ لقوله: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} .
والضمير يعود على الأعراب الذين قال الله فيهم: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ} [الفتح: 15] ؛ فهؤلاء أرادوا أن يبدلوا كلام الله، فيخرجوا مع الرسول عليه الصلاة والسلام، ولكن الله تعالى إنما كتب المغانم لقوم معينين، للذين غزوا في الحديبية، وأما من تبعوه لأخذ الغنائم فقط؛ فلا حق لهم فيها.
وفي الآية أيضا إثبات القول لله تعالى؛ لقوله: {كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} .(8/369)
: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الآية الرابعة: قوله: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [الكهف: 27] .
قوله: {مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ} ؛ يعني: القرآن، والوحي لا يكون إلا قولا؛ فهو إذا غير مخلوق.
وقوله: {مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ} : أضافه إليه سبحانه وتعالى؛ لأنه هو الذي تكلم به، أنزله على محمد، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بواسطة جبريل الأمين.
{لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} ؛ يعني: لا أحد يبدل كلمات الله، أما الله عز وجل؛ فيبدل آية مكان آية؛ كما قال تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [النحل: 101] .
وقوله: {لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} : يشمل الكلمات الكونية والشرعية:
- أما الكونية: فلا يستثنى منها شيء، لا يمكن لأحد أن يبدل كلمات الله الكونية:
إذا قضى الله على شخص بالموت؛ ما استطاع أحد أن يبدل ذلك.
إذا قضى الله تعالى بالفقر؛ ما استطاع أحد أن يبدل ذلك.
إذا قضى الله تعالى بالجدب؛ ما استطاع أحد أن يبدل ذلك.
وكل هذه الأمور التي تحدث في الكون؛ فإنها بقوله؛ لقوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] .
- أما الكلمات الشرعية؛ فإنها قد تبدل من قبل أهل الكفر والنفاق، فيبدلون الكلمات: إما بالمعنى، وإما باللفظ إن استطاعوا، أو بهما.(8/370)
{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} .
{وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وفي قوله: (لكلماته) دليل على أن القرآن كلام الله تعالى.
الآية الخامسة: قوله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النمل:76] .
الشاهد قوله: (يقص) ، والقصص لا يكون إلا قولا؛ فإذا كان القرآن هو الذي يقص؛ فهو كلام الله؛ لأن الله تعالى هو الذي قص هذه القصص؛ قال الله سبحانه وتعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} [يوسف:3] ، وحينئذ يكون القرآن كلام الله عز وجل.
إثبات أن القرآن منزل من الله تعالى
ذكر المؤلف رحمه الله الآيات التي فيها أن القرآن منزل من الله تعالى:
الآية الأولى: قوله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام:155] .
(وهذا كتاب) : المشار إليه القرآن.
(كتاب) أي: مكتوب؛ لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ، ومكتوب في الصحف التي بأيدي السفرة، ومكتوب في المصاحف التي بأيدينا.
وقوله: (مبارك) ؛ أي: ذو بركة.
فهو مبارك؛ لأنه شفاء لما في الصدور، إذا قرأه الإنسان بتدبر وتفكر؛ فإنه يشفي القلب من المرض، وقد قال الله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء:82] .(8/371)
: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مبارك في اتباعه؛ إذ به صلاح الأعمال الظاهرة والباطنة.
مبارك في آثاره العظيمة؛ فقد جاهد المسلمون به بلاد الكفر؛ لأن الله يقول: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:52] ، والمسلمون فتحوا مشارق الأرض ومغاربها بهذا القرآن حتى ملكوها، ولو رجعنا إليه؛ لملكنا مشارق الأرض ومغاربها، كما ملكها أسلافنا، ونسأل الله ذلك.
مبارك في أن من قرأه؛ فله بكل حرف عشر حسنات؛ فكلمة (قال) مثلا فيها ثلاثون حسنة، وهذا من بركة القرآن؛ فنحن نحصل خيرات كثيرة لا تحصى بقراءة آيات وجيزة من كلام الله عز وجل.
والحاصل: أن القرآن كتاب مبارك؛ فكل أنواع البركة حاصلة بهذا القرآن العظيم.
والشاهد في قوله: أنزلناه.
وثبوت نزوله من الله دليل على أنه كلامه.
الآية الثانية: قوله: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر:21] .
الجبل من أقسى ما يكون، والحجارة التي منها تتكون الجبال هي مضرب المثل في القساوة؛ قال الله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: 74] ، ولو نزل هذا القرآن على جبل؛ لرأيت هذا الجبل خاشعا متصدعا من خشية الله.(8/372)
خاشعا؛ أي: ذليلا.
ومن شدة خشيته لله يكون متصدعا يتفلق ويتفتق.
وهو ينزل على قلوبنا، وقلوبنا -إلا أن يشاء الله -تضمر وتقسو لا تتفتح ولا تتقبل.
فالذين آمنوا إذا نزلت عليهم الآيات؛ زادتهم إيمانا، والذين في قلوبهم مرض؛ تزيدهم رجسا إلى رجسهم؛ والعياذ بالله.
ومعنى ذلك: أن قلوبهم تتصلب وتقسو أكثر وتزداد رجسا إلى رجسها، نعوذ بالله من ذلك.
وهذا القرآن لو أنزل على جبل؛ لتصدع الجبل وخشع؛ لعظمة ما أنزل عليه من كلام الله.
وفي هذا دليل على أن للجبل إحساسا؛ لأنه يخشع ويتصدع، والأمر كذلك، قال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أحد: «هذا أحد جبل يحبنا ونحبه» .
وبهذا الحديث نعرف الرد على المثبتين للمجاز في القرآن، والذين يرفعون دائما علمهم مستدلين بهذه الآية: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [الكهف:77] ؛ يقول: كيف يريد الجدار؟!.
فنقول: يا سبحان الله! العليم الخبير يقول: {يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} ، وأنت تقول: لا يريد! أهذا معقول؟ .
فليس من حقك بعد هذا أن تقول: كيف يريد؟!.
وهذا يجعلنا نسأل أنفسنا: هل نحن أوتينا علم كل شيء؟(8/373)
{وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ}
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فنجيب بالقول بأننا ما أوتينا من العلم إلا قليلا.
فقول من يعلم الغيب والشهادة: {يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} : لا يسوغ لنا أن نعترض عليه، فنقول: لا إرادة للجدار! ولا يريد أن ينقض.
وهذا من مفاسد المجاز؛ لأنه يلزم منه نفي ما أثبته القرآن.
أليس الله تعالى يقول: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] ؛ هل تسبح بلا إرادة؟!
يقول: تسبح له: اللام للتخصيص؛ إذا هي مخلصة، وهل يتصور إخلاص بلا إرادة؟! إذا هي تريد وكل شيء يريد؛ لأن الله يقول: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ} ، وأظنه لا يخفى علينا جميعا أن هذا من صيغ العموم؛ فـ (إن) : نافية بمعنى (ما) ، ومن شيء: نكرة في سياق النفي، {إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} ، فيعم كل شيء.
فيا أخي المسلم! إذا رأيت قلبك لا يتأثر بالقرآن؛ فاتهم نفسك؛ لأن الله أخبر أن هذا القرآن لو أنزل على جبل لتصدع، وقلبك يتلى عليه القرآن، ولا يتأثر. أسأل الله أن يعينني وإياكم.
الآية الثالثة والرابعة والخامسة: قوله: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 101-103] .(8/374)
قوله عز وجل {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} : قوله: بدلنا؛ أي: جعلنا آية مكان آية، وهذا إشارة إلى النسخ المذكور في قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة:106] ، فالله سبحانه إذا نسخ آية؛ جعل بدلها آية، سواء نسخها لفظا، أو نسخها حكما.
وقوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} : هذه جملة اعتراضية، وهي من أحسن ما يكون في هذا الموضع، والمعنى أن تبديلنا للآية ليس سفها وعبثا، بل هو صادر عن علم بما يصلح الخلق، فنبدل آية مكان آية؛ لعلمنا أن ذلك أصلح للخلق وأنفع لهم.
وفيها أيضا فائدة أخرى، وهي أن هذا التبديل ليس من عمل الرسول عليه الصلاة والسلام. بل هو من الله، أنزله بعلمه، وأبدل آية مكان آية بعلمه، وليس منك أيها الرسول.
قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} [يونس: 15] ؛ فماذا كان الجواب؟ كان الجواب بأن أجاب عن شيء من كلامهم وترك شيئا فقال تعالى: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} [يونس:15] ، ولم يقل: ولا أتي بقرآن غيره. لماذا؟ لأنه قد يأتي بتبديل من عنده، وإذا كان لا يمكنه تبديله؛ فالإتيان بغيره أولى بالامتناع.(8/375)
فالمهم: أن الذي يبدل آية مكان آية، سواء لفظها أو حكمها، هو الله سبحانه.
قوله: {إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} : الجملة جواب وإذا.
قوله: إنما أنت: الخطاب هنا لمحمد، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قوله: مفتر؛ أي: كذاب، بالأمس تقول لنا كذا، واليوم تقول لنا كذا، هذا كذب، إنما أنت مفتر!!
لكن هذا القول الذي يقولونه إزاء إتيانه بآية مكان آية هو قول سفه، ولو أمعنوا النظر؛ لعلموا علم اليقين أن الذي يأتي بآية مكان آية هو الله سبحانه، وذلك يدل على صدقه، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن الكذاب يحذر غاية الحذر أن يأتي بكلام غير كلامه الأول؛ لأنه يخشى أن يطلع على كذبه، فلو كان كاذبا، كما يدعون أن ذلك من علامة الكذب؛ ما أتى بشيء يخالف الأول؛ لأنه إذا أتى بشيء يخالف الأول على زعمهم تبين كذبه بل إتيانه بما يخالف الأول دليل على صدقه بلا شك.
ولهذا قال هنا: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} ، وهذا إضراب إبطالي؛ معناه: بل لست مفتريا، ولكن أكثرهم لا يعلمون، ولو أنهم كانوا من ذوي العلم لعلموا أنه إذا بدلت آية مكان آية، فإنما ذلك دليل على صدق الرسول عليه الصلاة والسلام.
قوله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} : رُوحُ الْقُدُسِ: هو جبريل، ووصفه بذلك لطهارته من الخيانة عليه الصلاة والسلام. ولهذا قال في آية أخرى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:19-21] .
قوله: من ربك قال: من ربك، ولم يقل: من رب العالمين؛(8/376)
إشارة إلى الربوبية الخاصة؛ ربوبية الله للنبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهي ربوبية أخص الخاصة.
وقوله: بالحق: إما أن يكون وصفا للنازل أو للمنزول به.
فإن كان وصفا للنازل؛ فمعناه: أن نزوله حق، وليس بكذب.
وإن كان وصفا للمنزول به؛ فمعناه: أن ما جاء به فهو حق.
وكلاهما مراد؛ فهو حق من عند الله، ونازل بالحق.
قال الله تعالى: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} [الإسراء:105] .
فالقرآن حق، وما نزل به حق.
قوله: {لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا} : هذا تعليل وثمرة عظيمة يثبت الذين آمنوا به ويمكنهم من الحق ويقويهم عليه.
قوله: {وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} ؛ أي: هدى يهتدون به، ومنارا يستنيرون به، وبشارة لهم يستبشرون به.
بشارة؛ لأن من عمل به، واستسلم له كان ذلك دليلا على أنه من أهل السعادة، قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل:5-7] .
ولهذا ينبغي للإنسان أن يفرح إذا رأى من نفسه الخير والثبات عليه والإقبال عليه، يفرح؛ لأن هذه بشارة له؛ فإن الرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما حدث أصحابه؛ قال «ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار ". قالوا: أفلا ندع العمل ونتكل؟ قال: "لا؛ اعملوا؛ فكل ميسر لما خلق له"، ثم قرأ:: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} » [الليل:5-10] . .(8/377)
فإذا رأيت من نفسك أن الله عز وجل قد من عليك بالهداية، والتوفيق والعمل الصالح ومحبة الخير وأهل الخير؛ فأبشر؛ فإن في هذا دليلا على أنك من أهل اليسرى، الذين كتبت لهم السعادة.
ولهذا قال هنا: {وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} .
قوله: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} ؛ قال: ولقد نعلم، ولم يقل: لقد علمنا؛ لأن قولهم هذا يتجدد، فكان التعبير بالمضارع أولى من التعبير بالماضي؛ لأنه لو قال: لقد علمنا؛ لتبادر إلى ذهن بعض الناس أن المعنى: علمنا أنهم قالوا ذلك سابقا، لا أنهم يستمرون عليه.
وسبب نزول هذه الآية أن قريشا قالت: إن هذا القرآن الذي يأتي به محمد ليس من عند ربه، وإنما هو من شخص يعلمه ويقص عليه من قصص الأولين، ويأتي ليقول لنا: هذا من عند الله! أعوذ بالله!!
ادعوا أنه كلام البشر! والعجيب أنهم يدعون أنه كلام بشر، ويقال لهم: ائتوا بمثله، ولا يستطيعون!!
وقد أبطل الله افتراءهم هذا بقوله تعالى: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ} ، ومعنى يلحدون أي: يميلون؛ لأن قولهم هذا ميل عن الصواب بعيد عن الحق.
والأعجمي: هو الذي لا يفصح بالكلام، وإن كان عربيا، والعجمي بدون همزة هو: المنسوب إلى العجم وإن كان يتكلم العربية.(8/378)
فلسان هذا الذي يلحدون إليه أعجمي لا يفصح بالكلام العربي.
وأما القرآن؛ فإن الله قال فيه: {وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} . بين في نفسه مبين لغيره.
فالقرآن كلام عربي، وهو أفصح الكلام، كيف يأتي من هذا الرجل الأعجمي، الذي لسانه لا يفصح بالكلام؟!
والشاهد هو قوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} ، وقوله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} ، وقوله: {وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} .
وكل هذه تدل على أن القرآن كلام الله تعالى منزل من عنده.
والمؤلف ترك الآية التي بعدها؛ لأنه ليس فيها شاهد، ولكنها مفيدة؛ فنذكرها: قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النحل:104-105] .
ومعنى هذه الآية: أن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله ولا ينتفعون بآياته، والعياذ بالله؛ فالهداية مسدودة عليهم.
وهذه الحقيقة فيها فائدة كبيرة، وهي: أن من لم يؤمن بآيات الله لا يهديه الله، ومفهوم المخالفة فيها: أن من آمن بآيات الله؛ هداه الله.
مثال ذلك: أننا نجد من لم يؤمن بالآيات؛ لم يهتد لبيان وجهها؛ مثل قول بعضهم: كيف ينزل الله إلى السماء الدنيا وهو في العلو؟!
فنقول: آمن تهتد! فإذا آمنت بأنه ينزل حقيقة علمت أن هذا ليس بمستحيل: لأنه في جانب الله عز وجل، ولا يماثله شيء.(8/379)
وقوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ونجد من يقول في قوله تعالى: {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ} [الكهف:77] : كيف يريد الجدار؟
فنقول: آمن بأن الجدار يريد يتبين لك أن هذا ليس بغريب.
وهذه قاعدة ينبغي أن تكون أساسية عندك، وهي: آمن تهتد!
والذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله، ويبقى القرآن عليهم عمى-والعياذ بالله - ولا يستطيعون الاهتداء به، نسأل الله لنا ولكم الهداية.
ما نستفيده من الناحية المسلكية من هذه الآيات:
نستفيد أننا إذا علمنا أن هذا القرآن تكلم به رب العالمين؛ أوجب لنا ذلك تعظيم هذا القرآن، واحترامه، وامتثال ما جاء فيه من الأوامر، وترك ما فيه من المنهيات والمحذورات، وتصديق ما جاء فيه من الأخبار عن الله تعالى وعن مخلوقاته السابقة واللاحقة.
إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة
ذكر المؤلف رحمه الله آيات إثبات رؤية الله تعالى.
الآية الأولى: قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] .
قوله: وجوه يومئذ؛ يعني بذلك اليوم الآخر.
قوله: ناضرة؛ أي: حسنة، من النضارة؛ بالضاد، وهي: الحسن، يدل على ذلك قوله تعالى: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان:11] ؛ أي: حسنا في وجوههم، وسرورا في قلوبهم.
قوله: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} : ناظرة؛ بالظاء، من النظر، وهنا عدي النظر بـ (إلى) الدالة على الغاية، وهو نظر صادر من الوجوه، والنظر الصادر(8/380)
من الوجوه يكون بالعين؛ بخلاف النظر الصادر من القلوب؛ فإنه يكون بالبصيرة والتدبر والتفكر؛ فهنا صدر النظر من الوجوه إلى الرب عز وجل؛ لقوله: (إلى ربها) .
فتفيد الآية الكريمة: أن هذه الوجوه الناضرة الحسنة تنظر إلى ربها عز وجل، فتزداد حسنا إلى حسنها.
وانظر كيف جعل هذه الوجوه مستعدة متهيئة للنظر إلى وجه الله عز وجل؛ لكونها نضرة حسنة متهيئة للنظر إلى وجه الله.
ففي هذه الآية دليل على أن الله عز وجل يُرى بالأبصار وهذا هو قول أهل السنة والجماعة.
واستدلوا لذلك بالآيات التي ساقها المؤلف، واستدلوا أيضا بالأحاديث المتواترة عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والتي نقلها عنه صحابة كثيرون ونقلها عن هؤلاء الصحابة تابعون كثيرون، ونقلها عن التابعين من تابع التابعين كثيرون. وهكذا.
والنصوص فيها قطعية الثبوت والدلالة؛ لأنها في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المتواترة.
وأنشدوا في هذا المعنى:
مما تواتر حديث من كذب ... ومن بنى لله بيتا واحتسب
ورؤية شفاعة والحوض ... ومسح خفين وهذي بعض
فالمراد بقوله: " ورؤية " رؤية المؤمنين لربهم.
وأهل السنة والجماعة يقولون: إن النظر هنا بالبصر حقيقة.
ولا يلزم منه الإدراك؛ لأن الله تعالى يقول: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام:103] .(8/381)
{عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ}
ـــــــــــــــــــــــــــــ
؛ كما أن العلم بالقلب أيضا لا يلزم منه الإدراك؛ قال الله تعالى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110] .
ونحن نعلم ربنا بقلوبنا، لكن لا ندرك كيفيته وحقيقته، وفي يوم القيامة نرى ربنا بأبصارنا، ولكن لا تدركه أبصارنا.
الآية الثانية: قوله: {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} [المطففين:23] .
الأرائك: جمع أريكة، وهي السرير الجميل المغطى بما يشبه الناموسية.
ينظرون: لم يذكر المنظور إليه، فيكون عاما لكل ما يتنعمون بالنظر إليه.
وأعظمه وأنعمه النظر إلى الله تعالى؛ لقوله تعالى: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطففين:24] ؛ فسياق الآية يشبه قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ؛ فهم ينظرون إلى كل ما يتنعمون بالنظر إليه.
ومنه النظر إلى قرناء السوء يعذبون في الجحيم؛ كما قال تعالى: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ} قَالَ أي: لأصحابه: {هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} : هل. للتشويق يطلعون على ماذا؟! على هذا القرين، {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} !! أعوذ بالله! رآه في سوائها، أي: في أصلها، وقعرها، سبحان الله! هذا في أعلى عليين، وهذا في أسفل سافلين، وينظر إليه مع بعد المسافة العظيمة!
لكن نظر أهل الجنة ليس كنظر أهل الدنيا، هناك ينظر الإنسان في ملكه في الجنة مسيرة ألفي عام ينظر أقصاه كما ينظر أدناه، من كمال النعيم؛ لأن(8/382)
الإنسان لو كان نظره كنظره في الدنيا؛ ما استمتع بنعيم الجنة؛ لأنه ينظر إلى مدى قريب، فيخفى عليه شيء كثير منه.
اطلع من أعلى عليين إلى أسفل سافلين، فرآه في سواء الجحيم، قال يخاطبه: {تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} ؛ وهذا يدل على أنه كان دائما يحاول أن يضله، ولهذا قال: إن كدت؛ يعني: إنك قاربت، ووإن هذه المخففة لا الثقيلة، {وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ} إلى آخر الآيات [الصافات: 54-58] .
أقول: إن الناس سابقا يمارون في مثل هذا؛ كيف يكون في أعلى مكان ويخاطب من ينظر إليه ويكلمه في أسفل مكان؟!
ولكن ظهرت الآن أشياء من صنع البشر؛ كالأقمار الصناعية، والهواتف التليفزيونية. ... وغير ذلك؛ يرى الإنسان من خلالها من يكلمه وينظر إليه وهو بعيد.
مع أنه لا يمكن أن نقيس ما في الآخرة على ما في الدنيا.
إذا؛ ينظرون: عامة: ينظرون إلى الله، وينظرون ما لهم من النعيم، وينظرون ما يحصل لأهل النار من العذاب.
إذا قال قائل: هذا فيه إشكال!! كيف ينظرون إلى أهل النار ينكتون عليهم ويوبخونهم؟!
فنقول: والله؛ ما أكثر ما أذاق أهل النار أهل الجنة في الدنيا من العذاب والبلاء والمضايقة، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} : يضحكون سواء في مجالسهم، أو معهم، {وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ}(8/383)
{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أي: انقلبوا متنعمين بأقوالهم، {وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ} ! قال الله تعالى: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} [المطففين: 29-35] ؛ ينظرون إليهم وهم- والعياذ بالله - في سواء الجحيم.
إذا؛ يكون هذا من تمام عدل الله عز وجل؛ بأن جعل هؤلاء الذين كانوا يضايقون في دار الدنيا، جعلهم الآن يفرحون بنعمة الله عليهم، ويوبخون هؤلاء الذين في سواء الجحيم.
الآية الثالثة: قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] .
قوله: للذين: خبر مقدم.
والحسنى: مبتدأ مؤخر، وهي الجنة.
زيادة: هي النظر إلى وجه الله.
هكذا فسره النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كما ثبت ذلك في "صحيح مسلم " وغيره.
ففي هذه الآية دليلة على ثبوت رؤية الله من تفسير الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو أعلم الناس بمعاني القرآن بلا شك، وقد فسرها بالنظر إلى وجه الله، وهي زيادة على نعيم الجنة.
إذا؛ فهي نعيم ليس من جنس النعيم في الجنة؛ لأن جنس النعيم في الجنة نعيم بدن، أنهار، وثمار، وفواكه، وأزواج مطهرة. .. وسرور القلب فيها تبع، لكن النظر إلى وجه الله نعيم قلب، لا يرى أهل الجنة نعيما أفضل منه، نسأل الله أن يجعلنا ممن يراه.(8/384)
{لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ}
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وهذا نعيم ما له من نظير أبدا؛ لا فواكه، ولا أنهار، ولا غيرها أبدا، ولهذا قال: وزيادة؛ أي: زيادة على الحسنى.
الآية الرابعة: قوله: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: 35] .
قوله: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا} ؛ أي: في الجنة كل ما يشاءون.
وقد ورد في الحديث الصحيح أن «رجلا قال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا رسول الله: أفي الجنة خيل؛ فإني أحب الخيل؟ فقال: " إن يدخلك الله الجنة فلا تشاء أن تركب فرسا، من ياقوتة حمراء، تطير بك في الجنة شئت إلا فعلت". وقال الأعرابي: يا رسول الله: أفي الجنة إبل؛ فإني أحب الإبل؟ قال: " يا أعرابي: إن يدخلك الله الجنة؛ أصبت فيها ما اشتهت نفسك ولذت عينك ".»
فإذا اشتهى أي شيء؛ فإنه يكون ويتحقق، حتى إن بعض العلماء يقول: لو اشتهى الولد لكان له ولد؛ فكل شيء يشتهونه فهو لهم. قال تعالى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف:71] .
وقوله: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} ؛ أي: مزيد على ما يشاءون.
يعني: أن الإنسان إذا شاء شيئا يعطى إياه، ويعطى زيادة؛ كما جاء في الحديث الصحيح في «آخر أهل الجنة دخولا، يعطيه الله عز وجل نعيما،»(8/385)
«ونعيما ... ويقول: رضيت. يقول له: " لك مثله وعشرة أمثاله» فهو أكثر مما يشاء.
وفسر المزيد كثير من العلماء بما فسر به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزيادة وهي: النظر إلى وجه الله الكريم.
فتكون الآيات التي ساقها المؤلف لإثبات رؤية الله تعالى أربعا.
وهناك آية خامسة استدل بها الشافعي رحمه الله، وهي قوله تعالى في الفجار: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] .
ووجه الدلالة أنه ما حجب هؤلاء في الغضب؛ إلا رآه أولئك في الرضى؛ فإذا كان أهل الغضب محجوبين عن الله؛ فأهل الرضى يرون الله عز وجل.
وهذا استدلال قوي جدا؛ لأنه لو كان الكل محجوبين؛ لم يكن مزية لذكر هؤلاء.
وعلى هذا؛ فنقول: الآيات خمس، ويمكن أن نلحق بها قول الله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام: 103] ؛ على ما سنقرره في الرد على النفاة إن شاء الله.
فهذا قول أهل السنة في رؤية الله تعالى وأدلتهم، وهي ظاهرة جلية، لا ينكرها إلا جاهل أو مكابر.
وخالفهم في ذلك طوائف من أهل التعطيل من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة وغيرهم، واستدلوا بأدلة سمعية متشابهة، وأدله عقلية متداعية:(8/386)
أما الأدلة السمعية:
فالأول: قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف: 143] .
ووجه الدلالة أن [لن] للنفي المؤبد، والنفي خبر، وخبر الله تعالى صدق، لا يدخله النسخ.
والرد عليهم من وجوه:
- الأول: منع كون [لن] للنفي المؤبد؛ لأنه مجرد دعوى: قال ابن مالك في " الكافية ":
ومن رأى النفي بلن مؤبدا ... فقوله اردد وسواه فاعضدا
الثاني: أن موسى عليه الصلاة والسلام لم يطلب من الله الرؤية في الآخرة؛ وإنما طلب رؤية حاضرة؛ لقوله: {أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} ؛ أي: الآن. فقال الله تعالى له: لَنْ تَرَانِي؛ يعني: لن تستطيع أن تراني الآن، ثم ضرب الله تعالى له مثلا بالجبل حيث تجلى الله تعالى له فجعله دكا، فقال: {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} ، فلما رأى موسى ما حصل للجبل؛ علم أنه هو لا طاقة له برؤية الله، وخر صعقا لهول ما رأى.
ونحن نقول: إن رؤية الله تعالى في الدنيا مستحيلة؛ لأن الحال البشرية لا تستطيع تحمل رؤية الله عز وجل؛ كيف وقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ربه عز وجل: «حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه»(8/387)
أما رؤية الله تعالى في الآخرة فممكنة؛ لأن الناس في ذلك اليوم يكونون في عالم آخر تختلف فيه أحوالهم عن حالهم في الدنيا؛ كما يعلم ذلك من نصوص الكتاب والسنة فيما يجري للناس في عرصات القيامة وفي مقرهم في دار النعيم أو الجحيم.
- الوجه الثالث: أن يقال: استحالة رؤية الله في الآخرة عند المنكرين لها مبنية على أن إثباتها يتضمن نقصا في حق الله تعالى! كما يعللون نفيهم بذلك، وحينئذ يكون سؤال موسى لربه الرؤية دائرا بين الجهل بما يجب لله ويستحيل في حقه، أو الاعتداء في دعائه حين طلب من الله ما لا يليق به إن كان عالما بأن ذلك مستحيل في حق الله، وحينئذ يكون هؤلاء النافون أعلم من موسى فيما يجب لله تعالى ويستحيل في حقه!! وهذا غاية الضلال! وبهذا الوجه يتبين أن في الآية دليلا عليهم لا دليلا لهم. وهكذا؛ كل دليل من الكتاب والسنة الصحيحة يستدل على باطل أو نفي حق فسيكون دليلا على من أورده، لا دليلا له.
الدليل الثاني لنفاة رؤية الله تعالى: قوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:103] .
والرد عليهم: أن الآية فيها نفي الإدراك، والرؤية لا تستلزم الإدراك، ألا ترى أن الرجل يرى الشمس ولا يحيط بها إدراكا؟!
فإذا أثبتنا أن الله تعالى يرى؛ لم يلزم أن يكون يدرك بهذه الرؤية؛ لأن الإدراك أخص من مطلق الرؤية.
ولهذا نقول: إن نفي الإدراك يدل على وجود أصل الرؤية؛ لأن نفي الأخص يدل على وجود الأعم، ولو كان الأعم منتفيا؛ لوجب نفيه، وقيل: لا تراه الأبصار؛ لأن نفيه يقتضي نفي الأخص، ولا عكس، ولأنه؛ لو كان الأعم منتفيا؛ لكان نفي الأخص إيهاما وتلبيسا ينزه عنه كلام(8/388)
الله عز وجل.
وعلى هذا؛ يكون في الآية دليل عليهم لا دليل لهم.
وأما أدلة نفاة الرؤية العقلية: فقالوا: لو كان الله يرى؛ لزم أن يكون جسما، والجسم ممتنع على الله تعالى؛ لأنه يستلزم التشبيه والتمثيل.
والرد عليهم: أنه إن كان يلزم من رؤية الله تعالى أن يكون جسما؛ فليكن ذلك، لكننا نعلم علم اليقين أنه لا يماثل أجسام المخلوقين؛ لأن الله تعالى يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] .
على أن القول بالجسم نفيا أو إثباتا مما أحدثه المتكلمون، وليس في الكتاب والسنة إثباته ولا نفيه.
وقد أجاب النفاة عن أدلة أهل الإثبات بأجوبة باردة، فحرفوها تحريفا لا يخفى على أحد، وليس هذا موضوع ذكرها، وهذه مذكورة في الكتب المطولة.
ما نستفيده من الناحية المسلكية من هذه الآيات:
أما في مسألة الرؤية؛ فما أعظم أثرها على الاتجاه المسلكي؛ لأن الإنسان إذا وجد أن غاية ما يصل إليه من الثواب هو النظر إلى وجه الله كانت الدنيا كلها رخيصة عنده؛ وكل شيء يرخص عنده في جانب الوصول إلى رؤية الله عز وجل؛ لأنها غاية كل طالب، ومنتهى المطالب.
فإذا علمت أنك سوف ترى ربك عيانا بالبصر؛ فوالله لا تساوي الدنيا عندك شيئا.
فكل الدنيا ليست بشيء؛ لأن النظر إلى وجه الله هو الثمرة التي يتسابق فيها المتسابقون، ويسعى إليها الساعون، وهي غاية المرام من كل شيء.
فإذا علمت هذا؛ فهل تسعى إلى الوصول إلى ذلك أم لا؟!(8/389)
وهذا الباب في كتاب الله كثير ومن تدبر القرآن طالبا للهدى منه تبين له طريق الحق
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والجواب: نعم؛ أسعى إلى الوصول إلى ذلك بدون تردد.
وإنكار الرؤية في الحقيقة حرمان عظيم، لكن الإيمان بها يسوق الإنسان سوقا عظيما إلى الوصول إلى هذه الغاية، فهو يسير ولله الحمد؛ فالدين كله يسر، حتى إذا وجد الحرج تيسر الدين؛ فأصله ميسر، وإذا وجد الحرج تيسر ثانية، وإذا لم يكن القيام به أبدا سقط؛ فلا واجب مع العجز، ولا حرام مع الضرورة.
قوله: " وهذا الباب ": الإشارة هنا إلى باب الأسماء والصفات.
قوله: " في كتاب الله كثير ": ولذلك؛ ما من آية من كتاب الله؛ إلا وتجد فيها غالبا اسما من أسماء الله، أو فعلا من أفعاله، أو حكما من أحكامه، بل لو شئت لقلت: كل آية في كتاب الله فهي صفة من صفات الله؛ لأن القرآن الكريم كلام الله عز وجل؛ فكل آية منه؛ فهي صفة من صفات الله عز وجل. تدبر الشيء؛ معناه: التفكير فيه؛ كأن الإنسان يستدبره مرة ويستقبله أخرى؛ فهو يكرر اللفظ ليفهم المعنى.
فالذي يتدبر القرآن بهذا الفعل، وأما النية؛ فهي أن يكون " طالبا للهدى منه "؛ فليس قصده بتدبر القرآن أن ينتصر لقوله، أو أن يتخذ منه مجادلة بالباطل، ولكن قصده طلب الحق؛ فإنه سوف تكون النتيجة قول المؤلف: " تبين له طريق الحق ".
وما أعظمها من نتيجة!! لكنها مسبوقة بأمرين: التدبر، وحسن النية؛ بأن يكون الإنسان طالبا للهدى من القرآن؛ فحينئذ يتبين له طريق الحق.
والدليل على ذلك عدة آيات؛ منها:(8/390)
قول الله تبارك وتعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44] .
وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [صّ:29] .
وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون:68] .
وقال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:32] .
والآيات في هذا كثيرة، تدل على أن من تدبر القرآن لكن بهذه النية، وهي طلب الهدى منه؛ لا بد أن يصل إلى النتيجة، وهي تبين طريق الحق.
أما من تدبر القرآن ليضرب بعضه ببعض، وليجادل بالباطل، ولينصر قوله؛ كما يوجد عند أهل البدع وأهل الزيغ فإنه يعمى عن الحق والعياذ بالله.
لأن الله تعالى يقول: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7] ؛ على تقدير [أما] ؛ أي: وأما الراسخون في العلم؛ فـ {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران:7] ، وإذا قالوا هذا القول؛ فسيهتدون إلى بيان هذا المتشابه، ثم قال: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7] .
وقال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 44] .(8/391)
فصل: في سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
السنة في اللغة: الطريقة، ومنه قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لتركبن سنن من كان قبلكم» يعني: طريقتهم.
وفي الاصطلاح هي: " قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفعله وإقراره ". فتشمل الواجب والمستحب.
والسنة هي المصدر الثاني في التشريع.
ومعنى قولنا: " المصدر الثاني ": يعني: في العدد، وليس في الترتيب؛ فإن منزلتها إذا صحت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كمنزلة القرآن.
لكن الناظر في القرآن يحتاج إلى شيء واحد، وهو صحة الدلالة على الحكم، والناظر في السنة يحتاج إلى شيئين: الأول: صحة نسبتها إلى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والثاني: صحة دلالتها على الحكم؛ فكان المستدل بالسنة يعاني من الجهد أكثر مما يعانيه المستدل بالقرآن؛ لأن القرآن قد كفينا سنده؛ فسنده متواتر، ليس فيه ما يوجب الشك؛ بخلاف ما ينسب إلى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فإذا صحت السنة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ كانت بمنزلة القرآن تماما في تصديق الخبر والعمل بالحكم، كما قال تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء:113] .(8/392)
ف السنة تفسر القرآن وتبينه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته؛ يأتيه الأمر من أمري؛ يقول: لا ندري! ما وجدنا في كتاب الله؛ اتبعناه، ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه» .
ولهذا كان القول الصحيح أن القرآن ينسخ بالسنة إذا صحت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن ذلك جائز عقلا وشرعا، ولكن ليس له مثال مستقيم.
تفسر القرآن يعني: توضح المعنى المراد منه: كما في تفسير قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] ؛ حيث فسرها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنها النظر إلى وجه الله عز وجل.
وكما فسر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] ، فقال: «ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي» .
يعني: تبين المجمل منه؛ حيث إن في القرآن آيات مجملة، لكن السنة بينتها ووضحتها؛ مثل: قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البقرة:43] أمر الله بإقامتها، وبينت السنة كيفيتها.
وقوله سبحانه: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء:78] .(8/393)
{لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} ؛ يعني: من دلوك الشمس إلى غسق الليل؛ أي: غاية ظلمته، وهو نصفه؛ لأن أشد ما يكون في ظلمة الليل نصفه.
فظاهر الآية أن هذا وقت واحد، ولكن السنة فصلت هذا المجمل: فللظهر: من دلوك الشمس إلى أن يصير ظل كل شيء مثله.
وللعصر: من ذلك إلى اصفرار الشمس في الاختيار، ثم إلى غروبها في الضرورة.
وللمغرب: من غروب الشمس إلى مغيب الشفق الأحمر.
وللعشاء: من مغيب الشفق الأحمر إلى نصف الليل، وليس هناك وقت ضرورة للعشاء، ولهذا لو طهرت الحائض في منتصف الليل الأخير؛ لم يجب عليها صلاة العشاء ولا صلاة المغرب؛ لأن صلاة العشاء تنتهي بانتصاف الليل، ولم يأت في السنة دليل على أن وقت صلاة العشاء يمتد إلى طلوع الفجر.
وللفجر: من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس؛ ولهذا قال في نفس الآية: {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} ، ثم فصل وقت الفجر، فقال: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} (الإسراء: 78) ؛ لأن وقت الفجر بينه وبين الأوقات الأخرى فاصل من قبله ومن بعده؛ فنصف الليل الثاني قبله، ونصف النهار الأول بعده. هذا من بيان السنة حيث بينت الأوقات.
كذلك: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} ؛ بينت السنة الأنصبة والأموال الزكوية.(8/394)
وتدل عليه وتعبر عنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هذه كلمة تعم التفسير والتبيين والتعبير؛ فالسنة تفسر القرآن وتبين القرآن.
يعني: تأتي بمعان جديدة أو بأحكام جديدة ليست في القرآن، وهذا كثير؛ فإن كثيرا من الأحكام الشرعية استقلت بها السنة، ولم يأت بها القرآن.
لكن دل على أن لها حكم ما جاء في القرآن مثل قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80] ، وقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] ، وقوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36] .
أما الحكم المعين؛ فالسنة استقلت بأحكام كثيرة عن القرآن، ومن ذلك ما سيأتينا في أول حديث ذكره المؤلف في هذا الفصل: «ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر» ... "؛ فإن هذا ليس في القرآن.
إذًا السنة مقامها مع القرآن على هذه الأنواع الأربعة: تفسير مشكل، وتبيين مجمل، ودلالة عليه، وتعبير عنه.(8/395)
وما وصف الرسول به ربه عز وجل من الأحاديث الصحاح التي تلقاها أهل المعرفة بالقبول؛ وجب الإيمان بها كذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هذه قاعدة مهمة ساقها المؤلف رحمه الله:
قوله: " وما ": هذه شرطية. وفعل الشرط: " وصف ". " وجب الإيمان بها ": هذا جواب الشرط.
فما وصف الرسول به ربه، وكذلك ما سمى به ربه؛ لأن هناك أسماء مما سمى به الرسول ربه لم تكن موجودة في القرآن؛ مثل (الشافي) ؛ قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك» .
" الرب ": لم يأت في القرآن بدون إضافة لكن في السنة قال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أما الركوع فعظموا فيه الرب» .
وقال في السواك: «مطهرة للفم مرضاة للرب» .
وظاهر كلام المؤلف أنه يشترط لقبولها شرطان:
الأول: أن تكون الأحاديث صحيحة.
الثاني: أن يكون أهل المعرفة يعني بالأحاديث تلقوها بالقبول، ولكن ليس هذا هو المراد، بل مراد الشيخ -رحمه الله- أن الأحاديث الصحاح تلقاها أهل المعرفة بالقبول فتكون الصفة هذه صفة كاشفة لا صفة مقيدة.
فقوله: " التي تلقاها ": هذا بيان لحال الأحاديث الصحيحة أي أن(8/396)
أهل المعرفة تلقوها بالقبول لأنه من المستحيل أن تكون الأحاديث صحيحة، ثم يرفضها أهل المعرفة، بل سيقبلونها.
صحيح أن هناك أحاديث ظاهرها الصحة، ولكن قد تكون معلولة بعلة؛ كانقلاب على الراوي ونحوه، وهذه لا تعد من الأحاديث الصحيحة.
قال: " وجب الإيمان بها ": لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء:136] ، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء:59] ، وقوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ} [القصص: 65 - 66] ... والنصوص في هذا كثيرة معلومة.
واعلم أن موقف أهل الأهواء والبدع تجاه الأحاديث المخالفة لأهوائهم يدور على أمرين: إما التكذيب، وإما التحريف.
فإن كان يمكنهم تكذيبه؛ كذبوه؛ كقولهم في القاعدة الباطلة: أخبار الآحاد لا تقبل في العقيدة!!
وقد رد ابن القيم رحمه الله هذه القاعدة وأبطلها بأدلة كثيرة في آخر " مختصر الصواعق ".
وإن كان لا يمكنهم تكذيبه؛ حرفوه؛ كما حرفوا نصوص القرآن.
أما أهل السنة؛ فقبلوا كل ما صح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الأمور العلمية والأمور العملية؛ لقيام الدليل على وجوب قبول ذلك.
وقوله: " كذلك "؛ يعني: كما يجب الإيمان بما في القرآن؛ من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل.(8/397)
مثل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ينزل ربنا إلى سماء الدنيا كل ليلة، حين يبقى ثلث الليل الآخر. فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟» متفق عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فصل في أحاديث الصفات
هذا الحديث في إثبات نزول الله إلى السماء الدنيا:
وهذا الحديث قال بعض أهل العلم: إنه من الأحاديث المتواترة، واتفقوا على أنه من الأحاديث المشهورة المستفيضة عند أهل العلم بالسنة.
قوله: «ينزل ربنا إلى السماء الدنيا» : نزوله تعالى حقيقي؛ لأنه كما مر علينا من قبل: أن كل شيء كان الضمير يعود إلى الله؛ فهو ينسب إليه حقيقة.
فعلينا أن نؤمن به ونصدق ونقول: ينزل ربنا إلى السماء الدنيا، وهي أقرب السماوات إلى الأرض، والسماوات سبع، وإنما ينزل عز وجل في هذا الوقت من الليل للقرب من عباده جل وعلا؛ كما يقرب منهم عشية عرفة؛ حيث يباهي بالواقفين الملائكة.
وقوله: " كل ليلة " يشمل جميع ليالي العام.
«حين يبقى ثلث الليل الآخر» والليل يبتدئ من غروب الشمس اتفاقا لكن حصل الخلاف في انتهائه هل يكون بطلوع الفجر أو بطلوع الشمس؛ والظاهر أن الليل الشرعي ينتهي بطلوع الفجر، والليل الفلكي ينتهي بطلوع الشمس.(8/398)
وقوله " فيقول: من يدعوني ": " من ": استفهام للتشويق؛ كقوله تعالى: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف:10] .
و" يدعوني " أي: يقول: يا رب.
وقوله: " فأستجيب له ": بالنصب؛ لأنها جواب الطلب.
" من يسألني ": يقول: أسألك الجنة، أو نحو ذلك.
" من يستغفرني ": فيقول: اللهم اغفر لي، أو: أستغفرك اللهم.
" فأغفر له ": والمغفرة ستر الذنب والتجاوز عنه.
بهذا يتبين لكل إنسان قرأ هذا الحديث أن المراد بالنزول هنا نزول الله نفسه، ولا نحتاج أن نقول: بذاته؛ ما دام الفعل أضيف إليه؛ فهو له، لكن بعض العلماء قالوا: ينزل بذاته؛ لأنهم لجئوا إلى ذلك، واضطروا إليه؛ لأن هناك من حرفوا الحديث وقالوا: الذي ينزل أمر الله. وقال آخرون: بل الذي ينزل رحمة الله. وقال آخرون: بل الذي ينزل ملك من ملائكة الله.
وهذا باطل؛ فإن نزول أمر الله دائما وأبدا، ولا يختص نزوله في الثلث الأخير من الليل؛ قال الله تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة:5] ، وقال: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} [هود:123] .
وأما قولهم: تنزل رحمة الله إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر. فسبحان الله. الرحمة لا تنزل إلا في هذا الوقت. قال الله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل:53] ؛ كل النعم من الله، وهي من(8/399)
آثار رحمته، وهي تترى كل وقت.
ثم نقول: أي فائدة لنا بنزول الرحمة إلى السماء الدنيا؟
ثم نقول لمن قال: إنه ملك من ملائكته: هل من المعقول أن الملك من ملائكته الله يقول: من يدعوني فأستجيب له ... إلخ؟
فتبين بهذا أن هذه الأقوال تحريف باطل يبطله الحديث.
ووالله؛ ليسوا أعلم بالله من رسول الله، وليسوا أنصح لعباد الله من رسول الله، وليسوا أفصح في قولهم من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
يقولون: كيف تقولون: إن الله ينزل؟ إذا نزل؛ أين العلو؟ وإذا نزل؛ أين الاستواء على العرش؟ إذا نزل؛ فالنزول حركة وانتقال. إذا نزل؛ فالنزول حادث، والحوادث لا تقوم إلا بحادث.
فنقول: هذا جدال بالباطل، وليس بمانع من القول بحقيقة النزول. هل أنتم أعلم بما يستحقه الله عز وجل من أصحاب الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
فأصحاب الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما قالوا هذه الاحتمالات أبدا؛ قالوا: سمعنا وآمنا وقبلنا وصدقنا.
وأنتم أيها الخالفون المخالفون تأتون الآن وتجادلون بالباطل وتقولون: كيف؟ وكيف؟
نحن نقول: ينزل، ولا نتكلم عن استوائه على العرش؛ هل يخلو منه العرش أو لا يخلو؟
أما العلو؛ فنقول: ينزل، ولكنه عال عز وجل على خلقه؛ لأنه ليس(8/400)
معنى النزول أن السماء تقله، وأن السماوات الأخرى تظله؛ إذ إنه لا يحيط به شيء من مخلوقاته.
فنقول: هو ينزل حقيقة مع علوه حقيقة، وليس كمثله شيء.
أما الاستواء على العرش فهو فعل، ليس من صفات الذات، وليس لنا حق -فيما أرى- أن نتكلم هل يخلو منه العرش أو لا يخلو، بل نسكت كما سكت عن ذلك الصحابة رضي الله عنهم.
وإذا كان علماء أهل السنة لهم في هذا ثلاثة أقوال: قول بأنه يخلو، وقول بأنه لا يخلو، وقول بالتوقف.
وشيخ الإسلام رحمه الله في " الرسالة العرشية " يقول: إنه لا يخلو منه العرش؛ لأن أدلة استوائه على العرش محكمة، والحديث هذا محكم، والله عز وجل لا تقاس صفاته بصفات الخلق؛ فيجب علينا أن نبقي نصوص الاستواء على إحكامها، ونص النزول على إحكامه، ونقول: هو مستو على عرشه، نازل إلى السماء الدنيا، والله أعلم بكيفية ذلك، وعقولنا أقصر وأدنى وأحقر من أن تحيط بالله عز وجل.
القول الثاني: التوقف؛ يقولون: لا نقول: يخلو، ولا: لا يخلو.
والثالث: أنه يخلو منه العرش. وأورد المتأخرون الذين عرفوا أن الأرض كروية وأن الشمس تدور على الأرض إشكالا؛ قالوا: كيف ينزل في ثلث الليل؟ وثلث الليل إذا انتقل عن المملكة العربية السعودية؛ ذهب إلى أوربا وما قاربها؟ أفيكون نازلا دائما؟(8/401)
فنقول: آمن أولا بأن الله ينزل في هذا الوقت المعين، وإذا آمنت؛ ليس عليك شيء وراء ذلك، لا تقل كيف؟ وكيف؟ بل قل: إذا كان ثلث الليل في السعودية؛ فالله نازل، وإذا كان في أمريكا ثلث الليل؛ يكون نزول الله أيضا، وإذا طلع الفجر؛ انتهى وقت النزول في كل مكان بحسبه.
إذًا؛ موقفنا أن نقول: إنا نؤمن بما وصل إلينا عن طريق محمد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ «بأن الله ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى الثلث الآخر من الليل، ويقول: " من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له"؟»
من فوائد هذا الحديث:
أولا: إثبات العلو لله من قوله: " ينزل ".
ثانيا: إثبات الأفعال الاختيارية التي هي الصفات الفعلية من قوله: «ينزل حين يبقى ثلث الليل الآخر» .
ثالثا: إثبات القول لله من قوله: " يقول ".
رابعا: إثبات الكرم لله عز وجل من قوله: " من يدعوني ... من يسألني ... من يستغفرني ... ".
وفيه من الناحية المسلكية:
أنه ينبغي للإنسان أن يغتنم هذا الجز من الليل، فيسأل الله عز وجل ويدعوه ويستغفره، ما دام الرب سبحانه يقول: " من يدعوني ... من يستغفرني ... " و"من": للتشويق؛ فينبغي لنا أن نستغل هذه الفرصة؛(8/402)
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لله أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم براحلته ... » الحديث. متفق عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لأنه ليس لك من العمر إلا ما أمضيته في طاعة الله، وستمر بك الأيام فإذا نزل بك الموت؛ فكأنك ولدت تلك الساعة، وكل ما مضى ليس بشيء.
هذا الحديث في إثبات الفرح «لله أشد فرحا بتوبة عبده ... » ؟
" لله ": اللام هذه لام الابتداء. " الله " مبتدأ.
" أشد ": خبر المبتدأ.
" فرحا ": تمييز.
قال المؤلف: " الحديث "؛ أي: أكمل الحديث.
والحديث أن هذا الرجل كان معه راحلته، عليها طعامه وشرابه، فضلت عنه، فذهب يطلبها، فلم يجدها، فأيس من الحياة ثم اضطجع تحت شجرة ينتظر الموت؛ فإذا بخطام ناقته متعلقا بالشجرة، ولا أحد يستطيع أن يقدر هذا الفرح؛ إلا من وقع فيه، فأمسك بخطام الناقة، وقال: اللهم أنت عبدي، وأنا ربك؛ أخطأ من شدة الفرح؛ لم يملك كيف يتصرف في الكلام.
فالله عز وجل أفرح بتوبة عبده إذا تاب إليه من هذا الرجل براحلته، وليس الله عز وجل بمحتاج إلى توبتنا، بل نحن مفتقرون إليه في كل أحوالنا لكن لكرمه جل وعلا ومحبته للإحسان والفضل والجود يفرح هذا الفرح الذي لا نظير له بتوبة الإنسان إذا تاب إليه.(8/403)
في هذا الحديث: إثبات الفرح لله عز وجل؛ فنقول في هذا الفرح: إنه فرح حقيقي، وأشد فرح، ولكنه ليس كفرح المخلوقين.
الفرح بالنسبة للإنسان هو نشوة وخفة يجدها الإنسان من نفسه عند حصول ما يسره، ولهذا تشعر بأنك إذا فرحت بالشيء كأنك تمشي على الهواء، لكن بالنسبة لله عز وجل لا نفسر الفرح بمثل ما نعرفه من أنفسنا؛ نقول: هو فرح يليق به عز وجل؛ مثل بقية الصفات؛ كما أننا نقول: لله ذات، ولكن لا تماثل ذواتنا؛ فله صفات لا تماثل صفاتنا؛ لأن الكلام عن الصفات فرع عن الكلام في الذات.
فنؤمن بأن الله تعالى له فرح كما أثبت ذلك أعلم الخلق به، محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنصح الخلق للخلق، وأفصح الخلق فيما ينطق به عليه الصلاة والسلام.
ونحن على خطر إذا قلنا: المراد بالفرح الثواب؛ لأن أهل التحريف يقولون: إن الله لا يفرح، والمراد بفرحه: إثباته التائب، أو: إرادة الثواب؛ لأنهم هم يثبتون أن لله تعالى مخلوقا بائنا منه هو الثواب، ويثبتون الإرادة؛ فيقولون في الفرح: إنه الثواب المخلوق، أو إرادة الثواب.
ونحن نقول: المراد بالفرح: الفرح حقيقة؛ مثلما أن المراد بالله عز وجل: نفسه حقيقة، ولكننا لا نمثل صفاتنا بصفات الله أبدا.
ويستفاد من هذا الحديث مع إثباته الفرح لله عز وجل، كمال رحمته جل وعلا ورأفته بعباده؛ حيث يحب رجوع العاصي إليه هذه المحبة العظيمة، هارب من الله، ثم وقف ورجع إلى الله، يفرح الله به هذا الفرح العظيم.(8/404)
ومن الناحية المسلكية: يفيدنا أن نحرص على التوبة غاية الحرص، كلما فعلنا ذنبا؛ تبنا إلى الله.
قال الله تعالى في وصف المتقين: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} ؛ أي فاحشة؛ مثل: الزنى، واللواط، ونكاح ذوات المحارم ... قال الله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} [النساء:22] ، {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء:32] ، وقال لوط لقومه: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} [الأعراف:80] .
إذًا؛ {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ} ؛ ذكروا الله تعالى في نفوسهم؛ ذكروا عظمته، وذكروا عقابه، وذكروا ثوابه للتائبين؛ {فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} ؛ فعلوا ما فعلوا لكنهم ذكروا الله تعالى في نفوسهم، واستغفروا لذنوبهم، فغفر لهم، والدليل: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:135] .
فأنت إذا علمت أن الله يفرح بتوبتك هذا الفرح الذي لا نظير له؛ لا شك أنك سوف تحرص غاية الحرص على التوبة.
وللتوبة شروط خمسة:
الأول: الإخلاص لله عز وجل؛ بأن لا يحملك على التوبة مراءاة الناس، أو نيل الجاه عندهم، أو ما أشبه ذلك من مقاصد الدنيا.
الثاني: الندم على المعصية.
الثالث: الإقلاع عنها، ومن الإقلاع إذا كانت التوبة في حق من حقوق الآدميين؛ أن ترد الحق إلى صاحبه.(8/405)
الرابع: العزم على أن لا تعود في المستقبل.
الخامس: أن تكون التوبة في وقت القبول، وينقطع قبول التوبة بالنسبة لعموم الناس بطلوع الشمس من مغربها، وبالنسبة لكل واحد بحضور أجله.
قال الله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} [النساء:18] .
وصح «عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن زمن التوبة ينقطع إذا طلعت الشمس من مغربها،» والناس يؤمنون حينئذ، ولكن؛ {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158] .
هذه خمسة شروط؛ إذا تمت؛ صحت التوبة.
ولكن؛ هل يشترط لصحة التوبة أن يتوب من جميع الذنوب؟
فيه خلاف، ولكن الصحيح أنه ليس بشرط، وأنها تصح التوبة من ذنب مع الإصرار على غيره، لكن هذا التائب لا يصدق عليه وصف التائبين المطلق؛ فيقال: تاب توبة مقيدة، لا مطلقة.
فلو كان أحد يشرب الخمر ويأكل الربا، فتاب من شرب الخمر؛ صحت توبته من الخمر، وبقي إثمه في أكل الربا، ولا ينال منزلة التائبين على الإطلاق؛ لأنه مصر على بعض المعاصي.
رجل تمت الشروط في حقه، وعاد إلى الذنب مرة أخرى؛ فلا(8/406)
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة» " متفق عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تنتقض توبته الأولى؛ لأنه عزم على أن لا يعود، ولكن سولت له نفسه، فعاد؛ إنما يجب عليه أن يتوب مرة ثانية، وهكذا؛ كلما أذنب؛ يتوب، وفضل الله واسع.
هذا الحديث في إثبات الضحك، وهو قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يضحك الله إلى رجلين؛ يقتل أحدهما الآخر؛ كلاهما يدخل الجنة» ".
وفي بعض النسخ: " يدخلان "، وهي صحيحة؛ لأن (كلا) يجوز في خبرها -سواء كان فعلا أو اسما- مراعاة اللفظ ومراعاة المعنى، وقد اجتمعا في قول الشاعر يصف فرسين:
كلاهما حين جد الجري بينهما ... قد أقلعا وكلا أنفيهما رابي
الحديث يخبر فيه النبي عليه الصلاة والسلام أن الله يضحك إلى رجلين؛ عند ملاقاتهما يقتل أحدهما الآخر؛ كلاهما يدخلان الجنة، وأحدهما لم يقتل الآخر إلا لشدة العداوة بينهما، ثم يدخلان الجنة بعد ذلك، فتزول تلك العداوة؛ لأن أحدهما كان مسلما، والآخر كان كافرا، فقتله الكافر، فيكون هذا المسلم شهيدا، فيدخل الجنة، ثم من الله على هذا الكافر، فأسلم، ثم قتل شهيدا، أو مات بدون قتل؛ فإنه يدخل الجنة، فيكون هذا القاتل والمقتول كلاهما يدخل الجنة، فيضحك الله إليهما.
ففي هذا إثبات الضحك لله عز وجل، وهو ضحك حقيقي، لكنه لا يماثل ضحك المخلوقين؛ ضحك يليق بجلاله وعظمته، ولا يمكن أن(8/407)
نمثله؛ لأننا لا يجوز أن نقول: إن لله فمًا أو أسنانا أو ما أشبه ذلك، لكن نثبت الضحك لله على وجه يليق به سبحانه وتعالى.
فإذا قال قائل: يلزم من إثبات الضحك أن يكون الله مماثلا للمخلوق.
فالجواب: لا يلزم أن يكون مماثلا للمخلوقين؛ لأن الذي قال: " يضحك ": هو الذي أنزل عليه قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] .
ومن جهة أخرى؛ فالنبي عليه الصلاة والسلام لا يتكلم في مثل هذا إلا عن وحي؛ لأنه من أمور الغيب، ليس من الأمور الاجتهادية التي قد يجتهد فيها الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم يقره الله على ذلك أو لا يقره، ولكنه من الأمور الغيبية التي يتلقاها الرسول عليه الصلاة والسلام عن طريق الوحي.
لو قال قائل: المراد بالضحك الرضى؛ لأن الإنسان إذا رضي عن الشيء؛ سر به وضحك، والمراد بالرضى الثواب أو إرادة الثواب؛ كما قال ذلك أهل التعطيل.
فالجواب أن نقول: هذا تحريف للكلم عن مواضعه؛ فما الذي أدراكم أن المراد بالرضى الثواب؟
فأنتم الآن قلتم على الله ما لا تعلمون من وجهين:
الوجه الأول: صرفتم النص عن ظاهره بلا علم.
الوجه الثاني: أثبتم له معنى خلاف الظاهر بلا علم.
ثم نقول لهم: الإرادة؛ إذا قلتم: إنها ثابتة لله عز وجل؛ فإنه تنتقض(8/408)
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عجب ربنا من قنوط عباده وقرب غيره؛ ينظر إليكم أزلين قنطين، فيظل يضحك؛ يعلم أن فرجكم قريب» حديث حسن.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قاعدتكم؛ لأن للإنسان إرادة؛ كما قال تعالى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران:152] ؛ فللإنسان إرادة، بل للجدار إرادة؛ كما قال تعالى: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [الكهف:77] ؛ فأنتم إما أن تنفوا الإرادة عن الله عز وجل كما نفيتم ما نفيتم من الصفات، وإما أن تثبتوا لله عز وجل ما أثبته لنفسه، وإن كان للمخلوق نظيره في الاسم لا في الحقيقة.
والفائدة المسلكية من هذا الحديث:
هو أننا إذا علمنا أن الله عز وجل يضحك؛ فإننا نرجو منه كل خير. ولهذا «قال رجل للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا رسول الله أو يضحك ربنا؟ قال: " نعم ". قال: لن نعدم من رب يضحك خيرا» .
إذا علمنا ذلك؛ انفتح لنا الأمل في كل خير؛ لأن هناك فرقا بين إنسان عبوس لا يكاد يرى ضاحكا، وبين إنسان يضحك.
وقد كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دائم البشر كثير التبسم عليه الصلاة والسلام.
هذا الحديث: في إثبات العجب وصفات أخرى.
العجب: هو استغراب الشيء، ويكون ذلك لسببين:
السبب الأول: خفاء الأسباب على هذا المستغرب للشيء المتعجب منه، بحيث يأتيه بغتة بدون توقع، وهذا مستحيل على الله تعالى؛ لأن الله بكل(8/409)
شيء عليم، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
والثاني: أن يكون السبب فيه خروج هذا الشيء عن نظائره وعما ينبغي أن يكون عليه؛ بدون قصور من التعجب؛ بحيث يعمل عملا مستغربا لا ينبغي أن يقع من مثله.
وهذا ثابت لله عز وجل؛ لأنه ليس عن نقص من المتعجب، ولكنه عجب بالنظر إلى حال المتعجب منه.
قوله: «عجب ربنا من قنوط عباده» : القنوط: أشد اليأس. يعجب الرب عز وجل من دخول اليأس الشديد على قلوب العباد.
" وقرب غيره ": الواو بمعنى (مع) ؛ يعني: مع قرب غيره.
و (الغير) : اسم جمع غيرة؛ كطير: اسم جمع طيرة، وهي اسم بمعنى التغيير، وعلى هذا؛ فيكون المعنى: وقرب تغييره.
فيعجب الرب عز وجل؛ كيف نقنط وهو سبحانه وتعالى قريب التغيير، يغير الحال إلى حال أخرى بكلمة واحدة، وهي كن فيكون.
وقوله: «ينظر إليكم أزلين» ؛ أي: ينظر الله إلينا بعينه.
" أزلين قنطين ": الأزل: الواقع في الشدة. و"قنطين": جمع قانط، والقانط: اليائس من الفرج وزوال الشدة.
فذكر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حال الإنسان وحال قلبه؛ حاله أنه واقع في شدة، وقلبه قانط يائس مستبعد للفرج.
" فيظل يضحك ": يظل يضحك من هذه الحال العجيبة الغريبة؛ كيف تقنط من رحمة أرحم الراحمين الذي يقول للشيء: كن. فيكون؟(8/410)
" يعلم أن فرجكم قريب "؛ أي: زوال شدتكم قريب.
في هذا الحديث عدة صفات:
- أولا: العجب؛ لقوله: " «عجب ربنا من قنوط عباده» .
- وقد دل على هذه الصفة القرآن الكريم؛ قال الله تعالى: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} [الصافات:12] ؛ على قراءة ضم التاء.
- ثانيا: وفيه أيضا بيان قدرة الله عز وجل؛ لقوله: " وقرب غيره "، وأنه عز وجل تام القدرة، إذا أراد غير الحال من حال إلى ضدها في وقت قريب.
- ثالثا: وفيه أيضا من إثبات النظر؛ لقوله: " ينظر إليكم ".
- رابعا: وفيه إثبات الضحك؛ لقوله: " فيظل يضحك ".
- خامسا: وكذلك العلم؛ " يعلم أن فرجكم قريب ".
- سادسا: والرحمة؛ لأن الفرج من الله دليل على رحمة الله بعباده.
- وكل هذه الصفات التي دل عليها الحديث يجب علينا أن نثبتها لله عز وجل حقا على حقيقتها، ولا نتأول فيها.
والفائدة المسلكية في هذا: أن الإنسان إذا علم ذلك من الله سبحانه وتعالى؛ حذر من هذا الأمر، وهو القنوط من رحمة الله، ولهذا كان القنوط من رحمة الله من الكبائر:
قال الله تعالى: {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:56] .(8/411)
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تزال جهنم يلقى فيها، وهى تقول: هل من مزيد؛ حتى يضع رب العزة فيها رجله (وفي رواية: عليها قدمه) فينزوي بعضها إلى بعض، فتقول: قط قط.» متفق عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وقال تعالى: {وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87] .
فالقنوط من رحمة الله، واستبعاد الرحمة من كبائر الذنوب، والواجب على الإنسان أن يحسن الظن بربه؛ إن دعاه أحسن الظن به بأنه سيجيبه، وإن تعبد له بمقتضى شرعه؛ فليحسن الظن بأن الله سوف يقبل منه، وإن وقعت به شدة؛ فليحسن الظن بأن الله سوف يزيلها؛ لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا» .
بل قد قال الله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5-6] ، ولن يغلب عسر يسرين؛ كما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما.
هذا الحديث في إثبات الرجل أو القدم:
قوله: «لا تزال جهنم يلقى فيها» : هذا يوم القيامة؛ يعني: يلقى فيها الناس والحجارة؛ لأن الله تعالى يقول: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [البقرة:24] ، وقد يقال: يلقى فيها الناس فقط، وأن الحجارة لم تزل موجودة فيها، والعلم عند الله.(8/412)
"يلقى فيها": في هذا دليل على أن أهلها -والعياذ بالله- يلقون فيها إلقاء لا يدخلون مكرمين، بل يدعون إلى نار جهنم دعا؛ {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} [الملك:8] .
قوله: " وهي تقول: هل من مزيد؟ ": (هل) : للطلب؛ يعني: زيدوا. وأبعد النجعة من قال: إن الاستفهام هنا للنفي، والمعنى على زعمه: لا مزيد على ما في، والدليل على بطلان هذا التأويل:
قوله: «حتى يضع رب العزة فيها رجله» وفي رواية: " عليها قدمه ": لأن هذا يدل على أنها تطلب زيادة، وإلا لما وضع الله عليها رجله حتى ينزوي بعضها إلى بعض؛ فكأنها تطلب بشوق إلى من يلقى فيها زيادة على ما فيها.
قوله: " حتى يضع رب العزة ": عبر برب العزة؛ لأن المقام مقام عزة وغلبة وقهر.
وهنا "رب" بمعنى: صاحب، وليست بمعنى خالق، لأن العزة صفة من صفات الله، وصفات الله تعالى غير مخلوقة.
وقوله: "فيها رجله"، وفي رواية: " عليها قدمه ": "في" و"على": معناهما واحد هنا، والظاهر أن (في) بمعنى (على) ؛ كقوله: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:71] ؛ أي: عليها.
أما الرجل والقدم؛ فمعناهما واحد، وسميت رجل الإنسان قدما؛ لأنها تتقدم في المشي؛ فإن الإنسان لا يستطيع أن يمشي برجله إلا إذا قدمها.
قوله: "فينزوي بعضها إلى بعض"؛ يعني: ينضم بعضها إلى بعض من عظمة قدم الباري عز وجل.(8/413)
قوله: " وتقول قط قط "؛ بمعنى: حسبي حسبي؛ يعني: لا أريد أحدا.
في هذا الحديث من الصفات:
أولا: إثبات القول من الجماد، لقوله: "وهي تقول"، وكذلك: " فتقول: قط قط "، وهو دليل على قدرة الله الذي أنطق كل شيء.
ثانيا: التحذير من النار؛ لقوله: «لا تزال جهنم يلقى فيها، وهي تقول: هل من مزيد؟»
" ثالثا: إثبات فضل الله عز وجل؛ فإن الله تعالى تكفل للنار بأن يملأها كما قال: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود:119] ؛ فإذا دخلها أهلها، وبقي فيها فضل، وقالت: هل من مزيد؟ وضع الله عليها رجله، فانزوى بعضها إلى بعض، وامتلأت بهذا الانزواء.
وهذا من فضل الله عز وجل؛ وإلا فإن الله قادر على أن يخلق أقواما ويكمل ملأها بهم، ولكنه عز وجل لا يعذب أحدا بغير ذنب؛ بخلاف الجنة، فيبقى فيها فضل عمن دخلها من أهل الدنيا، فيخلق الله أقواما يوم القيامة ويدخلهم الجنة بفضله ورحمته.
رابعا: أن لله تعالى رجلا وقدما حقيقية، لا تماثل أرجل المخلوقين، ويسمي أهل السنة هذه الصفة: الصفة الذاتية الخبرية؛ لأنها لم تعلم إلا بالخبر، ولأن مسماها أبعاض لنا وأجزاء، لكن لا نقول بالنسبة لله: إنها أبعاض وأجزاء؛ لأن هذا ممتنع على الله عز وجل.
وخالف الأشاعرة وأهل التحريف في ذلك، فقالوا: " يضع عليها(8/414)
رجله "؛ يعني: طائفة من عباده مستحقين للدخول، والرجل تأتي بمعنى الطائفة؛ كما في «حديث أيوب عليه الصلاة والسلام؛ أرسل الله إليه رجل جراد من ذهب؛» يعني: طائفة من جراد.
وهذا تحريف باطل؛ لأن قوله: " عليها ": يمنع ذلك.
وأيضا؛ لا يمكن أن يضيف الله عز وجل أهل النار إلى نفسه؛ لأن إضافة الشيء إلى الله تكريم وتشريف.
وقالوا في القدم: قدم؛ بمعنى: مقدم؛ أي: يضع الله تعالى عليها مقدمه؛ أي: من يقدمهم إلى النار.
وهذا باطل أيضا؛ فإن أهل النار لا يقدمهم الباري عز وجل، ولكنهم {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [الطور:13] ، ويلقون فيها إلقاء، فهؤلاء المحرفون فروا من شيء ووقعوا في شر منه؛ فروا من تنزيه الله عن القدم والرجل، لكنهم وقعوا في السفه ومجانبة الحكمة في أفعال الله عز وجل.
والحاصل أنه يجب علينا أن نؤمن بأن لله تعالى قدما، وإن شئنا؛ قلنا: رجلا؛ على سبيل الحقيقة؛ مع عدم المماثلة، ولا نكيف الرجل؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبرنا بأن لله تعالى رجلا أو قدما، ولم يخبرنا كيف هذه الرجل أو القدم، وقد قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33] .
والفائدة المسلكية من هذا الحديث: هو الحذر الشديد من عمل أهل النار؛ خشية أن يلقى الإنسان فيها كما يلقى غيره.(8/415)
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يقول الله تعالى: يا آدم. فيقول: لبيك وسعديك. فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار....» متفق عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الحديث: في إثبات الكلام والصوت:
يخبر النبي عليه الصلاة والسلام عن ربه أنه يقول: " يا آدم " وهذا يوم القيامة، فيجيب آدم: " لبيك وسعديك ".
" لبيك "؛ بمعنى: إجابة مع إجابة، وهو مثنى لفظا، ومعناه: الجمع، ولهذا يعرب على أنه ملحق بالمثنى.
و" سعديك "، يعني: إسعادا بعد إسعاد؛ فأنا ألبي قولك وأسألك أن تسعدني وتعينني.
قال: " فينادي "؛ أي الله؛ فالفاعل هو الله عز وجل.
وقوله: " بصوت ": هذا من باب التأكيد؛ لأن النداء لا يكون إلا بصوت مرتفع؛ فهو كقوله تعالى: {وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام:38] ؛ فالطائر الذي يطير؛ إنما يطير بجناحيه، وهذا من باب التأكيد.
وقوله: «إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار» : ولم يقل: إني آمرك، وهذا من باب الكبرياء والعظمة؛ حيث كنى عن نفسه تعالى بكنية الغائب، فقال: " إن الله يأمرك "؛ كما يقول الملك لجنوده: إن الملك يأمركم بكذا وكذا؛ تفاخرا وتعاظما، والله سبحانه هو المتكبر وهو العظيم.(8/416)
قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه، ليس بينه وبينه ترجمان» 1
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وجاء في القرآن مثل هذا: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] ، ولم يقل: إني آمركم.
وقوله: " «أن تخرج من ذريتك بعثًا إلى النار» ؛ أي مبعوثًا.
والحديث الآخر؛ قال: «يا رب وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون» .
هذا الحديث في إثبات الكلام أيضًا.
قوله: "ما": نافية.
قوله: "من أحد": مبتدأ؛ دخلت عليه من الزائدة للتوكيد؛ يعني: ما منكم من أحد.
قوله: «إلا سيكلمه ربه» ؛ يعني: هذه حاله؛ سيكلمه الله عز وجل؛ «ليس بينه وبينه ترجمان» ، وذلك يوم القيامة.
والترجمان: هو الذي يكون واسطة بين متكلمين مختلفين في اللغة، ينقل إلى أحدهما كلام الآخر باللغة التي يفهمها.
ويشترط في المترجم أربعة شروط: الأمانة، وأن يكون عالمًا باللغة التي يترجم منها، وباللغة التي يترجم إليها، وبالموضوع الذي يترجمه.
وفي هذا الحديث من صفات الله: الكلام، وأنه بصوت مسموع مفهوم.
"الفوائد المسلكية في الحديث الأول: "يقول الله: يا آدم. ": فيه بيان(8/417)
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في رقية المريض: «ربنا الله الذي في السماء، تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض؛ كما رحمتك في السماء؛ اجعل رحمتك في الأرض، اغفر لنا حوبنا وخطايانا، أنت رب الطيبين، أنزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك على هذا الوجع؛ فيبرأ» حديث حسن رواه أبو داود وغيره.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أن الإنسان إذا علم بذلك، فإنه يحذر ويخاف أن يكون من التسعمائة والتسعة والتسعين.
وفي الحديث الثاني: يخاف الإنسان من ذلك الكلام الذي يجري بينه وبين ربه عز وجل أن يفتضح بين يدي الله إذا كلمه تعالى بذنوبه فيقلع عن الذنوب، ويخاف من الله عز وجل.
هذا الحديث (1) في إثبات العلو لله وصفات أخرى.
قوله: " في رقية المريض ": من باب إضافة المصدر إلى المفعول؛ يعني في الرقية إذا قرأ على المريض.
قوله: «ربنا الله الذي في السماء» : تقدم الكلام على قوله: "في السماء" في الآيات.
وقوله: "تقدس اسمك"؛ أي: طهر، والاسم هنا مفرد، لكنه مضاف، فيشمل كل الأسماء؛ أي تقدست أسماؤك من كل نقص.
«أمرك في السماء والأرض» : أمر الله نافذ في السماء والأرض؛ كما قال تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ} [السجدة: 5] ، وقال: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54] .
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد جـ6 ص20، وأبو داود (3892) .(8/418)
وقوله: «كما رحمتك في السماء اجعل رحمتك في الأرض» : الكاف هنا للتعليل، والمراد بها التوسل؛ توسل إلى الله تعالى بجعل رحمته في السماء أن يجعلها في الأرض.
فإن قلت: أليس رحمة الله في الأرض أيضًا؟
قلنا: هو يقرأ على المريض، والمريض يحتاج إلى رحمة خاصة يزول بها مرضه.
وقوله: " «اغفر لنا حوبنا وخطايانا» . الغفر: ستر الذنب والتجاوز عنه. والحوب: كبائر الإثم. والخطايا: صغائره. هذا إذا جمع بينهما، أما إذا افترقا؛ فهما بمعنى واحد؛ يعني اغفر لنا كبائر الإثم وصغائره؛ لأن في المغفرة زوال المكروب وحصول المطلوب، ولأن الذنوب قد تحول بين الإنسان وبين توفيقه؛ فلا يوفق ولا يجاب دعاؤه.
قوله: «أنت رب الطيبين» : هذه ربوبية خاصة، وأما الربوبية العامة؛ فهو رب كل شيء، والربوبية قد تكون خاصة وعامة.
واستمع إلى قول السحرة الذين آمنوا: {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف: 121-122] ؛ حيث عموا ثم خصوا. واستمع إلى قوله تعالى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ} [النمل: 91] ؛ فـ {رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ} خاص، {وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ} عام.
والطيبون: هم المؤمنون؛ فكل مؤمن فهو طيب، وهذا من باب التوسل بهذه الربوبية الخاصة، إلى أن يستجيب الله الدعاء ويشفي المريض.
قوله: «أنزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك على هذا الوجع»(8/419)
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء» حديث صحيح.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الدعاء وما سبقه من باب التوسل.
«أنزل رحمة من رحمتك» : الرحمة نوعان:
- رحمة هي صفة الله؛ فهذه غير مخلوقة وغير بائنة من الله عز وجل، مثل قوله تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ} [الكهف: 58] ، ولا يطلب نزولها.
- ورحمة مخلوقة، لكنها أثر من آثار رحمة الله؛ فأطلق عليها الرحمة؛ مثل قوله تعالى في الحديث القدسي عن الجنة: «أنت رحمتي أرحم بك من أشاء» ."
كذلك الشفاء؛ فالله شاف، ومنه الشفاء؛ فوصفه الشفاء، وهو فعل من أفعاله، وهو بهذا المعنى صفة من صفاته، وأما باعتبار تعديه إلى المريض؛ فهو مخلوق من مخلوقاته؛ فإن الشفاء زوال المرض.
قوله: "فيبرأ": بفتح الهمزة منصوبًا؛ لأنه جواب الدعاء: أنزل رحمة؛ فيبرأ. أما إذا قرئ بالضم مرفوعًا؛ فإنه مستأنف، ولا يتبع الحديث، بل يوقف عند قوله: "الوجع"، وتكون "فيبرأ": جملة خبرية تفيد أن الإنسان إذا قرأ بهذه الرقية؛ فإن المريض يبرأ، ولكن الوجه الأول أحسن بالنصب.
هذا الحديث في إثبات العلو أيضًا.
قوله: "ألا تأمنوني": فيها إشكال لغوي، وهو حذف نون الفعل(8/420)
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «والعرش فوق الماء، والله فوق العرش وهو يعلم ما أنتم عليه» حديث حسن رواه أبو داود وغيره.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بدون ناصب ولا جازم.
والجواب عن هذا: إنه إذا اتصلت نون الوقاية بفعل من الأفعال الخمسة؛ جاز حذف نون الرفع.
"ألا تأمنوني" أي: ألا تعتبروني أمينًا.
«وأنا أمين من في السماء» والذي في السماء هو الله عز وجل، وهو أمينه عليه الصلاة والسلام على وحيه، وهو سيد الأمناء عليه الصلاة والسلام، والرسول والذي ينزل عليه جبريل هو أيضًا أمين: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ}
وهذا الحديث له سبب، وهو أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قسم ذهيبة بعث بها علي من اليمن بين أربعة نفر، فقال له رجل: نحن أحق بهذا من هؤلاء. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء» .
"ألا": للعرض، كأنه يقول: ائمنوني؛ فإني أمين من في السماء، ويحتمل أن تكون الهمزة لاستفهام الإنكار، و"لا" نافية.
والشاهد قوله: "من في السماء"، ونقول فيها ما قلناه فيما سبق في الآيات.
هذا الحديث في إثبات العلو أيضًا.
لما ذكر النبي عليه الصلاة والسلام المسافات التي بين السماوات؛ قال: «"والعرش فوق الماء» .(8/421)
«وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للجارية: "أين الله؟ " قالت: في السماء. قال: "من أنا؟ " قالت: أنت رسول الله. قال: "اعتقها فإنها مؤمنة» رواه مسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ويشهد لهذا قوله تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7] .
قال: «والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه» : هو فوق العرش، ومع ذلك لا يخفى عليه شيء من أحوالنا وأعمالنا، بل قد قال الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق:16] يعني: الشيء الذي في ضميرك يعلمه الله؛ مع أنه ما بان لأحد.
وقوله: «وهو يعلم ما أنتم عليه» : يفيد إحاطة علم الله بكل ما نحن عليه.
الفائدة المسلكية من هذا الحديث:
إذا آمنا بهذا الحديث؛ فإننا نستفيد منه فائدة مسلكية، وهي تعظيم الله عز وجل، وأنه في العلو، وأنه يعلم ما نحن عليه، فنقوم بطاعته؛ بحيث لا يفقدنا حيث أمرنا، ولا يجدنا حيث نهانا.
هذا الحديث: في إثبات العلو أيضًا.
قوله: "أين الله؟ ". أين: يستفهم بها عن المكان.
"قالت: في السماء"؛ يعني: على السماء، أو في العلو؛ على حسب الاحتمالين السابقين.
«قال: "من أنا؟ " قال: أنت رسول الله. قال: "أعتقها فإنها مؤمنة".»(8/422)
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيثما كنت» حديث حسن.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وعند أهل التعطيل هي بقولها: "في السماء": إذا أرادت أنه في العلو؛ هي كافرة؛ لأنهم يرون أن من أثبت أن الله في جهة؛ فهو كافر؛ إذ يقولون: إن الجهات خالية منه.
واستفهام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأين يدل على أن لله مكانًا.
ولكن يجب أن نعلم أن الله تعالى لا تحيط به الأمكنة؛ لأنه أكبر من كل شيء، وأن ما فوق الكون عدم، ما ثم إلا الله؛ فهو فوق كل شيء.
وفي قوله: «أعتقها؛ فإنها مؤمنة» دليل على أن عتق الكافر ليس بمشروع، ولهذا لا يجزئ عتقه في الكفارات؛ لأن بقاء الكافر عندك رقيقًا؛ فيه نوع حماية وسلطة وإمرة وتقريب من الإسلام؛ فإذا أعتقته؛ تحرر، وإذا تحرر؛ فيخشى منه أن يرجع إلى بلاد الكفر؛ لأن أصل الرق هو الكفر، ويبقى معينًا للكافرين على المؤمنين.
هذا الحديث: في إثبات المعية.
أفاد الحديث معية الله عز وجل، وقد سبق في الآيات أن معية الله لا تستلزم أن يكون في الأرض، بل يمتنع غاية الامتناع أن يكون في الأرض، لأن العلو من صفاته الذاتية التي لا ينفك عنها أبدًا، بل هي لازمة له سبحانه وتعالى.
وسبق أيضًا أنها قسمان:
وقول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أفضل الإيمان أن تعلم» : يدل على أن الإيمان(8/423)
وقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصق قبل وجهه، ولا عن يمينه ولكن عن يساره أو تحت قدمه» متفق عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يتفاضل؛ لأنك إذا علمت أن الله معك حيثما كنت؛ خفت منه عز وجل وعظمته.
لو كنت في حجرة مظلمة ليس فيها أحد؛ فاعلم أن الله معك، لا في الحجرة؛ لكنه سبحانه وتعالى معك؛ لإحاطته بك علمًا وقدرة وسلطانًا وغير ذلك من معاني ربوبيته.
هذا الحديث في إثبات كون الله قبل وجه المصلي.
(قبل وجهه) يعني أمامه.
قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] .
(يمينه) ورد فيه الحديث: (فإن عن يمينه ملكا) ؛ ولأن اليمين أفضل من اليسار؛ فيكون اليسار أولى بالبصاق ونحوه؛ ولهذا قال: «ولكن عن يساره أو تحت قدمه» .
فإن كان في المسجد قال العلماء: فإنه يجعل البصاق في خرقة أو منديل أو ثوبه ويحك بعضه ببعض حتى تزول صورة البصاق وإذا كان الإنسان في المسجد عند الجدار، والجدار قصير عن يساره فإنه يمكن أن يبصق عن يساره إذا لم يؤذ أحدا من المارة.
يستفاد من الحديث: أن الله تبارك وتعالى أمام وجه المصلي، ولكن يجب أن نعلم أن الذي قال: إنه أمام وجه المصلي. وهو الذي قال:(8/424)
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللهم رب السماوات السبع والأرض ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والقرآن، أعوذ بك من شر نفسي، ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها، أنت الأول؛ فليس قبلك شيء، وأنت الأخير؛ فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر؛ فليس فوقك شيء، وأنت الباطن؛ فليس دونك شيء اقض عني الدين، وأغنني من الفقر» . رواه مسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إنه في السماء، ولا تناقض في كلامه هذا وهذا؛ إذ يمكن الجمع من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أن الشرع جمع بينهما ولا يجمع بين متناقضين.
الوجه الثاني: أنه يمكن أن يكون الشيء عاليا، وهو قبل وجهك؛ فهاهو الرجل يستقبل الشمس أول النهار، فتكون أمامه، وهي في السماء، ويستقبلها في آخر النهار، تكون أمامه، وهي في السماء؛ فإذا كان هذا ممكنا في المخلوق؛ ففي الخالق من باب أولى بلا شك.
الوجه الثالث: هب أن هذا ممتنع في المخلوق؛ فإنه لا يمتنع في الخالق؛ لأن الله تعالى ليس كمثله شيء في جميع صفاته.
يستفاد من هذا الحديث من الناحية المسلكية وجوب الأدب مع الله عز وجل، ويستفاد أنه متى آمن المصلي بذلك فإنه يحدث له خشوعا وهيبة من الله عز وجل.
هذا الحديث: في إثبات العلو وصفات أخرى.
وهو حديث عظيم، توسل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الله تعالى بربوبيته في قوله: «اللهم رب السماوات السبع والأرض، ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء» ، وهذا من باب التعميم بعد التخصيص في قوله: " ورب(8/425)
كل شيء " وهذا التعميم بعد التخصيص؛ لئلا يتوهم واهم اختصاص الحكم بما خصص به. وانظر إلى قوله تعالى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ} [النمل:91] ؛ حيث قال: {وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ} ؛ حتى لا يظن ظان أنه ليس ربا إلا لهذه البلدة.
" فالق الحب والنوى "؛ حب الزرع. و" النوى "؛ نوى الغرس؛ فالأشجار التي تخرج: إما زروع أصلها الحب، وإما أشجار أصلها النوى؛ فما للأشجار يسمى نوى، وما للزروع يسمى حبا؛ {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} [الأنعام:95] .
هذا الحب والنوى اليابس الذي لا ينمو ولا يزيد، يفلقه الرب عز وجل؛ أي: يفتحه حتى تخرج منه الأشجار والزروع، ولا يستطيع أحد أن يفعل ذلك؛ مهما بلغ الناس في القدرة؛ ما استطاعوا أن يفلقوا حبة واحدة أبدا والنوى كذلك الذي كالحجر؛ لا ينمو، ولا يزيد؛ يفلقه الله عز وجل، وينفرج، ثم منه الغريسة التي تنمو، ولا أحد يستطيع ذلك؛ إلا الذي فلقها سبحانه وتعالى.
ولما ذكر الآية الكونية العظيمة؛ ذكر الآيات الشرعية، وهي:
قوله: «منزل التوراة والإنجيل والقرآن» : وهذه أعظم كتب أنزلها الله عز وجل، وبدأها على الترتيب الزمني: التوراة على موسى، والإنجيل على عيسى، والقرآن على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفي هذا نص صريح على أن التوراة منزلة كما جاء في القرآن: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} [المائدة:44] ، وقال في أول سورة آل عمران: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} [آل عمران: 3 - 4] .(8/426)
قوله: " «أعوذ بك من شر نفسي» أعتصم بالله من شر نفسي.
إذًا؛ في نفسك شر؛ {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف:53] .
لكن النفس نفسان:
1 - نفس مطمئنة طيبة تأمر بالخير.
2 - نفس شريرة أمارة بالسوء.
والنفس اللوامة؛ هل هي ثالثة، أو وصف للثنتين السابقتين؟ فيه خلاف: بعضهم يقول: إنها نفس ثالثة. وبعضهم يقول: هي وصف للثنتين السابقتين؛ فالمطمئنة تلومك، والأمارة بالسوء تلومك؛ فيكون قوله تعالى: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة:2] ؛ يشمل النفسين جميعا.
فالمطمئنة تلومك على التقصير في الواجب؛ إذا أهملت واجبا؛ لامتك، وإذا فعلت محرما؛ لامتك.
والأمارة بالعكس؛ إذا فعلت الخير؛ لامتك وتلومك إذا فوت ما تأمرك به من السوء.
إذًا؛ صارت اللوامة على القول الراجح وصفا للنفسين معا.
وقوله هنا: «أعوذ بك من شر نفسي» : المراد بها النفس الأمارة بالسوء.
قوله: «ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها» : الدابة: كل ما يدب(8/427)
على الأرض، حتى الذي يمشي على بطنه داخل في هذا الحديث؛ كقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} [النور:45] ، وقوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6] .
وإن كانت الدابة تطلق في العرف على ذوات الأربع، وفي عرف أخص تطلق على الحمار فقط، لكنها في مثل هذا الحديث يراد بها كل ما يدب على الأرض، وما يدب على الأرض فيه شرور، أما بعضه فشر محض بالنسبة لذاته، وأما بعضه ففيه خير وفيه شر، وحتى الذي فيه خير؛ لا يسلم من الشر.
قوله: «أنت آخذ بناصيتها» ؛ مقدم الرأس، وإنما نص على الناصية؛ لأنه هو المقدم، وهو الذي يمسك به لقيادة البعير وشبهه. وقيل: خص ذلك؛ لأن المخ الذي فيه التصور والتلقي يكون في مقدمة الرأس، والعلم عند الله.
قوله: «أنت الأول؛ فليس قبلك شيء» : هذا تفسير من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لقوله: " الأول "، والأول من أسماء الله.
وقد ذكرنا عند تفسير الآية أن أهل الفلسفة يسمون الله: القديم، وذكرنا أن القديم ليس من أسماء الله الحسنى، وأنه لا يجوز أن يسمى به، لكن يجوز أن يخبر به عنه، وباب الخبر أوسع من باب التسمية؛ لأن القديم ليس من الأسماء الحسنى، والقديم فيه نقص؛ لأن القدم قد يكون قدما نسبيا؛ ألم تر إلى قوله تعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس:39] ، والعرجون القديم حادث، لكنه قديم بالنسبة لما بعده.(8/428)
قوله: «وأنت الظاهر؛ فليس فوقك شيء» : الظاهر من الظهور، وهو العلو؛ كما قال تعالى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} [الكهف:97] ؛ {يَظْهَرُوهُ} ؛ أي يعلو عليه.
وأما من قال: الظاهر بآياته؛ فهذا خطأ؛ لأنه لا أحد أعلم بتفسير كلام الله من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد قال: " «الظاهر؛ فليس فوقك شيء» ؛ بل هو فوق كل شيء سبحانه.
قوله: «وأنت الباطن؛ فليس دونك شيء» : المعنى: ليس دون الله شيء، لا أحد يدبر دون الله، ولا أحد ينفرد بشيء دون الله، ولا أحد يخفى على الله؛ كل شيء فالله محيط به؛ ولهذا قال: " ليس دونك شيء "؛ يعني: لا يحول دونك شيء، ولا يمنع دونك شيء، ولا ينفع ذا الجد منك الجد ... وهكذا.
قوله: «اقض عني الدين» الدين: ما يستحق على الإنسان من مال أو حق؛ اشتريت منك حاجة، ولم أنقدك الثمن؛ فهذا يسمى دينا، وإن كان غير مؤجل.
قوله: «واغنني من الفقر» : الفقر: خلو ذات اليد، ولا شك أن الفقر فيه إيلام للنفس، والدين فيه ذل؛ المدين ذليل للدائن، والفقير معوز ربما يجره الفقر إلى أمر محرم.
ألم يأتكم نبأ الثلاثة الذين انطبق عليهم الغار، فتوسل كل واحد منهم بصالح عمله، وكان لأحدهم ابنة عم أعجبته، وكان يراودها عن نفسها، ولكنها كانت تأبى ذلك، فألمت بها سنة من السنين، واحتاجت، وجاءت إليه تطلب منه أن يعينها، فأبى عليها إلا أن تمكنه من نفسها، ومن أجل(8/429)
ضرورتها؛ وافقت على هذا، فلما جلس منها مجلس الرجل من امرأته؛ قالت له: يا هذا اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، وأثرت هذه الكلمة في الرجل عندما كانت نابعة من القلب، فقام عنها. قال: فقمت عنها وهي أحب الناس إلي. لكن ذكرته هذه الموعظة الكريمة؛ فاقلع.
فانظر إلى الفقر؛ فإن هذه المرأة أرادت أن تبيع عرضها بسبب الفقر.
إذًا؛ قول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أغنني من الفقر» : سأل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربه أن يغنيه من الفقر؛ لأن الفقر له آفات عظيمة.
وفي هذا الحديث أسماء وصفات.
- فمن الأسماء: الأول، والآخر، والظاهر، والباطن.
- ومن الصفات: الأولية والآخرية، وفيهما الإحاطة الزمانية. والظاهرية والباطنية، وفيهما الإحاطة المكانية. ومنها: العلو، وعموم ربوبيته، وتمام قدرته، ومنها: كمال رحمته وحكمته بإنزال الكتب؛ لتحكم بين الناس وتهديهم صراط الله.
ومن غير الأسماء والصفات: التوسل إلى الله بصفات الله، والتحذير من شر النفوس. وسؤال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقضي الله دينه ويغنيه من الفقر، وبيان ضعف الحديث الذي فيه سؤال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يحييه ربه مسكينا.(8/430)
«وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما رفع الصحابة أصواتهم بالذكر: " أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنما تدعون سميعا بصيرا؛ إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته» متفق عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وفيه من الفوائد المسلكية: التحذير من شر النفس، وتعظيم شأن الدين، وأن يحرص على تلافي الدِّين بقدر الإمكان، ويقتصد في ماله طلبا وتصرفا؛ لأنه إذا اقتصد في ذلك؛ سلم غالبا من الفقر والدين.
هذا الحديث في إثبات قرب الله تعالى.
كان الصحابة رضي الله عنهم مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ إذا علوا نشزا؛ كبروا، وإذا نزلوا واديا؛ سبحوا؛ لأن الإنسان إذا ارتفع؛ قد يتعاظم في نفسه، ويرى أنه مرتفع عظيم؛ فناسب أن يقول: الله أكبر تذكيرا لنفسه بكبرياء الله عز وجل، وأما إذا نزل؛ فهذا سفول ونزول، فيقول: سبحان الله تذكيرا لنفسه بتنزه الله عن السفل. فكان الصحابة رضي الله عنهم يرفعون أصواتهم بالذكر جدا، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: «أيها الناس اربعوا على أنفسكم» يعني: هونوا عليها. «فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا» ؛ لا تدعون أصم لا يسمع، ولا غائبا لا يرى.
«إنما تدعون سميعا» ؛ يسمع ذكركم، " بصيرا "؛ يرى أفعالكم.
«إن الذي تدعونه أقرب إلي أحدكم من عنق راحلته» : عنق الراحلة للراكب قريب جدا، فالله تعالى أقرب من هذا إلى الإنسان، ومع هذا؛(8/431)
فهو فوق سماواته على عرشه.
ولا منافاة بين القرب والعلو؛ لأن الشيء قد يكون بعيدا قريبا؛ هذا بالنسبة للمخلوق؛ فكيف بالخالق؟ فالرب عز وجل قريب مع علوه، أقرب على أحدنا من عنق راحلته.
هذا الحديث فيه فوائد.
فيه شيء من الصفات السلبية: نفي كونه أصم أو غائبا؛ لكمال سمعه ولكمال بصره وعلمه وقربه.
وفيه أيضا أنه ينبغي للإنسان ألا يشق على نفسه في العبادة؛ لأن الإنسان إذا شق على نفسه؛ تعبت النفس وملت، وربما يتأثر البدن، ولهذا قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اكلفوا من العمل ما تطيقون؛ فإن الله لا يمل حتى تملوا» .
فلا ينبغي للإنسان أن يشق على نفسه، بل ينبغي أن يسوس نفسه. إذا وجد منها نشاطا في العبادة؛ عمل واستغل النشاط، وإذا رأى فتورا في غير الواجبات، أو أنها تميل إلى شيء آخر من العبادات؛ وجهها إليه.
حتى أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر من نعس في صلاته أن ينام ويدع الصلاة؛ قال: «فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لا يدري لعله يستغفر فيسب نفسه» .
ولهذا كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصوم حتى يقول القائل: لا يفطر، ويفطر حتى(8/432)
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر، لا تضامون في رؤيته؛ فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها؛ فافعلوا؛» متفق عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يقول القائل: لا يصوم، وكذلك في القيام والنوم.
وفيه أيضا: أن الله قريب، وقد دل عليه قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] .
ونستفيد من هذا الحديث من الناحية المسلكية:
- أنه لا ينبغي لنا أن نشق على أنفسنا بالعبادات، وأن يكون سيرنا إلى الله وسطا؛ لا تفريط ولا إفراط.
- وفيه أيضا: الحذر من الله؛ لأنه سميع وقريب وبصير، فنبتعد عن مخالفته.
- وفيه أيضا من الناحية الحكمية: جواز تشبيه الغائب بالحاضر للإيضاح؛ حيث قال: «إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته» .
- وفيه أيضا أنه ينبغي أن يراعي الإنسان في المعاني ما كان أقرب إلى الفهم؛ لأن هؤلاء مسافرون، وكل منهم على راحلته، وإذا ضرب المثل بما هو قريب؛ فلا أحسن من هذا المثل الذي ذكره النبي عليه الصلاة والسلام.
هذا الحديث: في إثبات رؤية المؤمنين لربهم.(8/433)
قوله: «إنكم سترون ربكم» : السين للتحقيق، وتخلص الفعل المضارع إلى الاستقبال بعد أن كان صالحا للحال والاستقبال؛ كما أن (لم) تخلصه للماضي، والخطاب للمؤمنين.
قوله: " كما ترون القمر ": هذه رؤية بصرية؛ لأن رؤيتنا للقمر بصرية، وهنا شبه الرؤية بالرؤية؛ فتكون رؤية بصرية.
قوله: " كما ترون ": (ما) هذه مصدرية، فيحول الفعل بعدها إلى مصدر، ويكون التقدير: كرؤيتكم القمر؛ فالتشبيه حينئذ للرؤية بالرؤية، وليس للمرئي بالمرئي، لأن الله تعالى ليس كمثله شيء.
والنبي عليه الصلاة والسلام يقرب المعاني أحيانا بذكر الأمثلة الحسية الواقعية، «كما سأله أبو رزين العقيلي لقيط بن عامر؛ قال: يا رسول الله: أكلنا يرى ربه يوم القيامة، وما آية ذلك في خلقه؟ فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كلكم ينظر إلى القمر مخليا به ". قال: بلى. قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فالله أعظم ".»
وقوله: " مخليا به "؛ يعني: خاليا به.
وكما ثبت به الحديث في " صحيح مسلم " من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «إن الله يقول: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين؛ فإذا قال: الحمد لله رب العالمين. قال: حمدني عبدي ... » إلخ.
وهذا يشمل كل مصل، ومن المعلوم أنه قد يتفق المصلون في هذه الآية جميعا، فيقول الله لكل واحد: " حمدني عبدي "؛ في آن واحد.
قال: «كما ترون القمر ليلة البدر» : أي: ليلة إبداره، وهي الليلة(8/434)
الرابعة عشرة والخامسة عشرة والثالثة عشرة أحيانا، والوسط الرابعة عشرة؛ كما قال ابن القيم: كالبدر ليل الست بعد ثمان.
قوله: " لا تضامون في رؤيته "، وفي لفظ: " لا تضارون ".
- " لا تضامون ": بضم التاء وتخفيف الميم؛ أي لا يلحقكم ضيم، والضيم الظلم، والمعنى: لا يحجب بعضكم بعضا عن الرؤية فيظلمه بمنعه إياه؛ لأن كل واحد يراه.
- " لا تضامون ": بتشديد الميم وفتح التاء وضمها: يعني: لا ينضم بعضكم إلى بعض في رؤيته؛ لأن الشيء إذا كان خفيا؛ ينضم الواحد إلى صاحبه ليريه إياه.
- أما " لا تضارون " أو " لا تضارون" فالمعنى: لا يلحقكم ضرر؛ لأن كل إنسان يراه سبحانه وتعالى وهو في غاية ما يكون من الطمأنينة والراحة.
قوله: «فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها؛ فافعلوا» ؛ الصلاة قبل طلوع الشمس هي الفجر، وقبل غروبها هي العصر.
والعصر هو أفضل من الفجر؛ لأنها الصلاة الوسطى التي خصها الله بالأمر بالمحافظة عليها بعد التعميم، والفجر أفضل من العصر من وجه؛ لأنها الصلاة المشهودة؛ كما قال تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78] ، وجاء في الحديث الصحيح: «من صلى البردين؛ دخل الجنة» ، وهما: الفجر والعصر.(8/435)
إلى أمثال هذه الأحاديث التي يخبر فيها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ربه بما يخبر به
فإن الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في هذا الحديث من صفات الله: إثبات أن الله يرى، وقد سبق شرح هذه الصفة عند ذكر الآيات الدالة عليها، وهي أربع آيات، والأحاديث في هذا متواترة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فثبوتها قطعي، ودلالتها قطعية؛ ولهذا ذهب بعض العلماء إلى أن من أنكر رؤية الله تعالى؛ فهو كافر مرتد، وأن الواجب على كل مؤمن أن يقر بذلك. قال: وإنما كفرناه؛ لأن الأدلة قطعية الثبوت وقطعية الدلالة، ولا يمكن لأحد أن يقول: أن قول الرسول عليه الصلاة والسلام: «إنكم سترون ربكم» ؛ إنه ليس قطعي الدلالة؛ إذ ليس هناك شيء أشد قطعا من مثل هذا التركيب.
لو كان الحديث: " إنكم ترون ربكم ": لربما تحتمل التأويل، وأنه عبر عن العلم اليقيني بالرؤية البصرية، ولكنه صرح بأنا نراه كما نرى القمر، وهو حسي.
وسبق لنا أن أهل التعطيل يؤولون هذه الأحاديث ويفسرون الرؤية برؤية العلم، وسبق بطلان قولهم.
قوله: " إلى أمثال هذه الأحاديث ... " إلخ؛ يعني: انظر إلى أمثال هذه الأحاديث التي يخبر بها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ربه؛ فما كان مثلها ثبوتا ودلالة؛ فحكمه حكمها.
" الفرقة "؛ أي: الطائفة.
" الناجية ": التي نجت في الدنيا من البدع، وفي الآخرة من النار.
أي: الذين أخذوا بالسنة واجتمعوا عليها.(8/436)
يؤمنون بذلك كما يؤمنون بما أخبر الله به في كتابه العزيز من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أي: بما أخبر به الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
لأن ما أخبر به الرسول عليه الصلاة والسلام يجب علينا أن نؤمن به كما يجب علينا أن نؤمن بما أخبر الله به في كتابه؛ إلا أنه يختلف عن القرآن في الثبوت؛ فإن لنا نظرين بالنسبة لما جاءت به السنة:
النظر الأول: في ثبوته.
النظر الثاني: في دلالته.
أما في القرآن؛ فلنا نظر واحد، وهو النظر في الدلالة. وقد سبق لنا بيان الأدلة الدالة على وجوب قبول ما أخبر به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
سبق شرح هذا.(8/437)
بل هم الوسط في فرق الأمة كما أن الأمة هي الوسط في الأمم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فصل:
مكانة أهل السنة والجماعة بين فرق الأمة
واتصافهم بالوسطية
يعني: الأمم السابقة، وذلك من عدة أوجه:
- ففي حق الله تعالى: كانت اليهود تصف الله تعالى بالنقائص، فتلحقه بالمخلوق. وكانت النصارى تلحق المخلوق الناقص بالرب الكامل. أما هذه الأمة؛ فلم تصف الرب بالنقائص ولم تلحق المخلوق به.
- وفي حق الأنبياء؛ كذبت اليهود عيسى ابن مريم، وكفرت به. وغلت النصارى فيه، حتى جعلته إلها. أما هذه الأمة؛ فآمنت به بدون غلو، وقالت: هو عبد الله ورسوله.
- وفي العبادات؛ النصارى يدينون لله عز وجل بعدم الطهارة؛ بمعنى أنهم لا يتطهرون من الخبث؛ يبول الواحد منهم، ويصيب البول ثيابه، ويقوم، ويصلي في الكنيسة. واليهود بالعكس؛ إذا أصابتهم النجاسة؛ فإنهم يقرضونها من الثوب؛ فلا يطهرها الماء عندهم؛ حتى إنهم يبتعدون عن الحائض لا يؤاكلونها ولا يجتمعون بها.
أما هذه الأمة فهم وسط؛ فيقولون: لا هذا ولا هذا؛ لا يشق الثوب، ولا يصلى بالنجاسة، بل يغسل غسلا حتى تزول النجاسة منه، ويصلى به، ولا يبتعدون عن الحائض؛ بل يؤاكلونها ويباشرها زوجها في غير الجماع.
- وكذلك أيضا في باب المحرمات من المآكل والمشارب؛ النصارى استحلوا الخبائث وجميع المحرمات، واليهود حرم عليهم كل ذي ظفر؛(8/438)
فهم وسط في باب صفات الله سبحانه وتعالى بين أهل التعطيل الجهمية وأهل التمثيل المشبهة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كما قال تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الأنعام:146] ، أما هذه الأمة؛ فهم وسط؛ أحلت لهم الطيبات؛ وحرمت عليهم الخبائث.
- وفي القصاص؛ القصاص فرض على اليهود، والتسامح عن القصاص فرض على النصارى. أما هذه الأمة؛ فهي مخيرة بين القصاص والدية والعفو مجانا.
فكانت الأمة الإسلامية وسطا بين الأمم بين الغلو والتقصير.
فأهل السنة والجماعة بين فرق الأمة كالأمة بين الديانات الأخرى؛ يعني: أنهم وسط.
ثم ذكر المؤلف -رحمه الله- أصولا خمسة كان أهل السنة والجماعة فيها وسطا بين فرق الأمة.
الأصل الأول: باب الأسماء والصفات
هذان طرفان متطرفان: أهل التعطيل الجهمية، وأهل التمثيل المشبهة.
- فالجهمية: ينكرون صفات الله عز وجل، بل غلاتهم ينكرون الأسماء ويقولون: لا يجوز أن نثبت لله اسما ولا صفة؛ لأنك إذا أثبت له اسما؛ شبهته بالمسميات، أو صفة؛ شبهته بالموصوفات. إذًا؛ لا نثبت اسما ولا صفة وما أضاف الله إلى نفسه من الأسماء؛ فهو من باب(8/439)
المجاز، وليس من باب التسمي بهذه الأسماء.
- والمعتزلة ينكرون الصفات ويثبتون الأسماء.
- والأشعرية يثبتون الأسماء وسبعا من الصفات.
كل هؤلاء يشملهم اسم التعطيل، لكن بعضهم معطل تعطيلا كاملا؛ كالجهمية، وبعضهم تعطيلا نسبيا؛ مثل المعتزلة والأشاعرة.
وأما أهل التمثيل المشبهة؛ فيثبتون لله الصفات، ويقولون: يجب أن نثبت لله الصفات؛ لأنه أثبتها لنفسه، لكن يقولون: إنها مثل صفات المخلوقين.
فهؤلاء غلوا في الإثبات، وأهل التعطيل غلوا في التنزيه.
فهؤلاء قالوا: يجب عليك أن تثبت لله وجها، وهذا الوجه مثل وجه أحسن واحد من بني آدم. قالوا: لأن الله خاطبنا بما نعقل ونفهم؛ قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن:27] ، ولا نعقل ونفهم من الوجه إلا ما نشاهد، وأحسن ما نشاهد الإنسان.
فهو على زعمهم -والعياذ بالله- على أحسن واحد من الشباب الإنساني، ويدعون أن هذا هو المعقول معقول.
وأما أهل السنة والجماعة؛ فقالوا: نحن نأخذ بالحق الذي مع الجانبين؛ فنأخذ بالحق في باب التنزيه؛ فلا نمثل، ونأخذ بالحق في جانب الإثبات؛ فلا نعطل؛ بل إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل؛ نحن نثبت ولكن بدون تمثيل، فنأخذ بالأدلة من هنا ومن هنا.
والخلاصة: هم وسط في باب الصفات بين طائفتين متطرفتين: طائفة(8/440)
وهم وسط في باب أفعال الله تعالى بين القدرية والجبرية
ـــــــــــــــــــــــــــــ
غلت في التنزيه والنفي، وهم أهل التعطيل من الجهمية وغيرهم، وطائفة غلت في الإثبات، وهم الممثلة.
وأهل السنة والجماعة يقولون: لا تغلوا في الإثبات ولا في النفي، ونثبت بدون تمثيل؛ لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] .
الأصل الثاني: أفعال العباد
في باب القدر انقسم الناس إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: آمنوا بقدر الله عز وجل وغلوا في إثباته، حتى سلبوا الإنسان قدرته واختياره، وقالوا: إن الله فاعل كل شيء، وليس للعبد اختيار ولا قدرة، وإنما يفعل الفعل مجبرا عليه، بل إن بعضهم ادعى أن فعل العبد هو فعل الله، ولهذا دخل من بابهم أهل الاتحاد والحلول، وهؤلاء هم الجبرية.
القسم الثاني قالوا: إن العبد مستقل بفعله، وليس لله فيه مشيئة ولا تقدير، حتى غلا بعضهم، فقال: إن الله لا يعلم فعل العبد إلا إذا فعله، أما قبل؛ فلا يعلم عنه شيئا، وهؤلاء هم القدرية، مجوس هذه الأمة.
فالأولون غلوا في إثبات أفعال الله وقدره وقالوا: إن الله عز وجل يجبر الإنسان على فعله، وليس للإنسان اختيار.
والآخرون غلوا في إثبات قدرة العبد، وقالوا: إن القدرة الإلهية والمشيئة الإلهية لا علاقة لها في فعل العبد؛ فهو الفاعل المطلق الاختيار.
القسم الثالث: أهل السنة والجماعة، قالوا: نحن نأخذ بالحق الذي مع(8/441)
وفي باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية من القدرية وغيرهم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الجانبين؛ فنقول: إن فعل العبد واقع بمشيئة الله وخلق الله، ولا يمكن أن يكون في ملك الله ما لا يشاؤه أبدا، والإنسان له اختيار وإرادة، ويفرق بين الفعل الذي يضطر إليه والفعل الذي يختاره؛ فأفعال العباد باختيارهم وإرادتهم، ومع ذلك، فهي واقعة بمشيئة الله وخلقه.
لكن سيبقى عندنا إشكال: كيف تكون خلقا لله وهي فعل الإنسان؟
والجواب: أن أفعال العبد صدرت بإرادة وقدرة، والذي خلق فيه الإرادة والقدرة هو الله عز وجل، لو شاء الله تعالى؛ لسلبك القدرة؛ فلم تستطع، ولو أن أحدا قادرا لم يرد فعلا؛ لم يقع الفعل منه.
كل إنسان قادر يفعل الفعل، فإنه بإرادته، اللهم إلا من أكره.
فنحن نفعل باختيارنا وقدرتنا، والذي خلق فينا الاختيار والقدرة هو الله.
الأصل الثالث: الوعيد
المرجئة: اسم فاعل من أرجأ؛ بمعنى: أخر، ومنه قوله تعالى: {قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} [الأعراف:111] ، وفي قراءة: "أرجئه"؛ أي: أخره وأخر أمره، وسموا مرجئة: إما من الرجاء؛ لتغليبهم أدلة الرجاء على أدلة الوعيد، وإما من الإرجاء؛ بمعنى التأخير؛ لتأخيرهم الأعمال عن مسمى الإيمان.
ولهذا يقولون: الأعمال ليست من الإيمان، والإيمان هو الاعتراف بالقلب فقط.(8/442)
ولهذا يقولون: إن فاعل الكبيرة كالزاني والسارق وشارب الخمر وقاطع الطريق لا يستحق دخول النار لا دخولا مؤبدا ولا مؤقتا؛ فلا يضر مع الإيمان معصية؛ مهما كانت صغيرة أم كبيرة؛ إذا لم تصل إلى حد الكفر.
وأما الوعيدية؛ فقابلوهم، وغلبوا جانب الوعيد، وقالوا: أي كبيرة يفعلها الإنسان ولم يتب منها؛ فإنه مخلد في النار بها: إن سرق؛ فهو من أهل النار خالدا مخلدا، وإن شرب الخمر؛ فهو في النار خالدا مخلدا ... وهكذا.
والوعيدية يشمل طائفتين: المعتزلة، والخوارج؛ ولهذا قال المؤلف: " من القدرية وغيرهم "؛ فيشمل المعتزلة -والمعتزلة قدرية؛ يرون أن الإنسان مستقل بعلمه، وهم وعيدية- ويشمل الخوارج.
فاتفقت الطائفتان على أن فاعل الكبيرة مخلد في النار، لا يخرج منها أبدا، وأن من شرب الخمر مرة؛ كمن عبد الصنم ألف سنة؛ كلهم مخلدون في النار؛ لكن يختلفون في الاسم؛ كما سيأتي إن شاء الله في الباب الثاني.
وأما أهل السنة والجماعة؛ فيقولون: لا نغلب جانب الوعيد كما فعل المعتزلة والخوارج، ولا جانب الوعد كما فعل المرجئة، ونقول: فاعل الكبيرة مستحق للعذاب، وإن عذِّب؛ لا يخلد في النار.
وسبب الخلاف بين الوعيدية وبين المرجئة: أن كل واحد منهما نظر إلى النصوص بعين عوراء؛ ينظر من جانب واحد.
- هؤلاء نظروا نصوص الوعد، فأدخلوا الإنسان في الرجاء، وقالوا:(8/443)
وفي باب أسماء الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة، وبين المرجئة والجهمية
ـــــــــــــــــــــــــــــ
نأخذ بها، وندع ما سواها، وحملوا نصوص الوعيد على الكافر.
- والوعيدية بالعكس؛ نظروا إلى نصوص الوعيد، فأخذوا بها، وغفلوا عن نصوص الوعد.
فلهذا اختل توازنهم لما نظروا من جانب واحد.
وأهل السنة والجماعة أخذوا بهذا وهذا، وقالوا: نصوص الوعيد محكمة؛ فنأخذ بها، ونصوص الوعد محكمة؛ فنأخذ بها. فأخذوا من نصوص الوعد ما ردوا به على الوعيدية، ومن نصوص الوعيد ما ردوا به على المرجئة، وقالوا: فاعل الكبيرة مستحق لدخول النار؛ لئلا نهدر نصوص الوعيد؛ غير مخلد فيها؛ لئلا نهدر نصوص الوعد. فأخذوا بالدليلين ونظروا بالعينين..
الأصل الرابع: أسماء الإيمان والدين
هذا في باب الأسماء والدين، وهو غير باب الأحكام الذي هو الوعد والوعيد؛ ففاعل الكبيرة ماذا نسميه؟ أمؤمن أم كافر؟
وأهل السنة وسط فيه بين طائفتين: الحرورية والمعتزلة من وجه، والمرجئة الجهمية من وجه:
- فالحرورية والمعتزلة أخرجوه من الإيمان، لكن الحرورية قالوا: إنه كافر يحل دمه وماله، ولهذا خرجوا على الأئمة، وكفروا الناس.
- وأما المرجئة الجهمية، فخالفوا هؤلاء وقالوا: هو مؤمن كامل الإيمان يسرق ويزني ويشرب الخمر ويقتل النفس ويقطع الطريق؛ ونقول(8/444)
له: أنت مؤمن كامل الإيمان كرجل فعل الواجبات والمستحبات وتجنب المحرمات أنت وهو في الإيمان واحد.
فهؤلاء وأولئك على الضد في الاسم وفي الحكم.
وأما المعتزلة؛ فقالوا: فاعل الكبيرة خرج من الإيمان، ولم يدخل في الكفر؛ فهو في منزلة بين منزلتين؛ لا نتجاسر أن نقول: إنه كافر. وليس لنا أن نقول: إنه مؤمن؛ وهو يفعل الكبيرة؛ يزني ويسرق ويشرب الخمر. وقالوا: نحن أسعد الناس بالحق.
حقيقة أنهم إذا قالوا: أن هذا لا يتساوى مع مؤمن عابد؛ فقد صدقوا. لكن كونهم يخرجونه من الإيمان، ثم يحدثون منزلة بين منزلتين: بدعة ما جاءت لا في كتاب الله ولا في سنة رسوله، كل النصوص تدل على أنه لا يوجد منزلة بين منزلتين: كقوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سبأ:24] .
وقوله: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس:32] . وقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن:2] . وفي الحديث: «القرآن حجة لك أو عليك» .
فأين المنزلة بين المنزلتين؟
هم يقولون: في منزلة بين منزلتين. وفي باب الوعيد ينفذون عليه الوعيد، فيوافقون الخوارج في أن فاعل الكبيرة مخلد في النار، أما في الدنيا؛ فقالوا: تجرى عليه أحكام الإسلام؛ لأنه هو الأصل؛ فهو عندهم في الدنيا بمنزلة الفاسق العاصي.(8/445)
وفي أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين الروافض والخوارج
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فيا سبحان الله كيف نصلي عليه، ونقول: اللهم اغفر له. وهو مخلد في النار؟
فيجب عليهم أن يقولوا في أحكام الدنيا: إنه يتوقف فيه؛ لا نقول: مسلم، ولا: كافر، ولا نعطيه أحكام الإسلام، ولا أحكام الكفر؛ إذا مات لا نصلي عليه، ولا نكفنه، ولا نغسله، ولا يدفن مع المسلمين، ولا ندفنه مع الكفار؛ إذًا؛ نبحث له عن مقبرة بين مقبرتين!!
- وأما أهل السنة والجماعة؛ فكانوا وسطا بين هذه الطوائف؛ فقالوا: نسمي المؤمن الذي يفعل الكبيرة مؤمنا ناقص الإيمان، أو نقول: مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، وهذا هو العدل؛ فلا يعطى الاسم المطلق، ولا يسلب مطلق الاسم.
ويترتب على هذا: أن الفاسق لا يجوز لنا أن نكرهه كرها مطلقا، ولا أن نحبه حبا مطلقا، بل نحبه على ما معه من الإيمان، ونكرهه على ما معه من المعصية.
الأصل الخامس: في الصحابة رضي الله عنهم
" أصحاب ": جمع صاحب، والصحب اسم جمع صاحب، والصاحب: الملازم للشيء.
والصحابي: هو الذي اجتمع بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مؤمنا به ومات على ذلك. وهذا خاص في الصحابة، وهو من خصائص النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ أن الإنسان يكون من أصحابه، وإن لم يجتمع به إلا لحظة واحدة؛ لكن بشرط أن يكون مؤمنا به.(8/446)
وأهل السنة والجماعة وسط فيهم بين الرافضة والخوارج.
- فالرافضة: هم الذين يسمون اليوم: شيعة، وسموا رافضة؛ لأنهم رفضوا زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، الذي ينتسب إليه الآن الزيدية؛ رفضوه لأنهم سألوه: ما تقول في أبي بكر وعمر؟ يريدون منه أن يسبهما ويطعن فيهما ولكنه رضي الله عنه قال لهم: نعم الوزيران وزيرا جدي. يريد بذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فأثنى عليهما، فرفضوه، وغضبوا عليه، وتركوه فسموا رافضة.
هؤلاء الروافض -والعياذ بالله- لهم أصول معروفة عندهم، ومن أقبح أصولهم: الإمامة التي تتضمن عصمة الإمام، وأنه لا يقول خطأ، وأن مقام الإمامة أرفع من مقام النبوة؛ لأن الإمام يتلقى عن الله مباشرة، والنبي بواسطة الرسول، وهو جبريل، ولا يخطئ الإمام عندهم أبدا، بل غلاتهم يدعون أن الإمام يخلق؛ يقول للشيء: كن فيكون.
وهم يقولون: أن الصحابة كفار، وكلهم ارتدوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ حتى أبو بكر وعمر عند بعضهم كانا كافرين وماتا على النفاق والعياذ بالله، ولا يستثنون من الصحابة إلا آل البيت، ونفرا قليلا ممن قالوا: إنهم أولياء آل البيت.
وقد قال صاحب كتاب " الفصل ": " إن غلاتهم كفروا علي بن أبي طالب؛ قالوا: لأن عليا أقر الظلم والباطل حين بايع أبا بكر وعمر، وكان الواجب عليه أن ينكر بيعتهما، فلما لم يأخذ بالحق والعدل، ووافق على الظلم؛ صار ظالما كافرا ".
- أما الخوارج؛ فهم على العكس من الرافضة؛ حيث إنهم كفروا علي(8/447)
بن أبي طالب، وكفروا معاوية بن أبي سفيان، وكفروا كل من لم يكن على طريقتهم، واستحلوا دماء المسلمين، فكانوا كما وصفهم النبي عليه الصلاة والسلام: «يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» ، وإيمانهم لا يتجاوز حناجرهم.
فالشيعة غلوا في آل البيت وأشياعهم، وبالغوا في ذلك، حتى أن منهم من ادعى ألوهية علي، ومنهم من ادعى أنه أحق بالنبوة من محمد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والخوارج بالعكس.
- أما أهل السنة والجماعة؛ فكانوا وسطا بين الطائفتين؛ قالوا: نحن ننزل آل البيت منزلتهم، ونرى أن لهم حقين علينا: حق الإسلام والإيمان، وحق القرابة من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقالوا: قرابة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لها الحق علينا، لكن من حقها علينا أن ننزلها منزلتها، وأن لا نغلو فيها.
ويقولون في بقية أصحاب الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لهم الحق علينا بالتوقير والإجلال والترضي، وأن نكون كما قال الله تعالى: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10] ، ولا نعادي أحدا منهم أبدا؛ لا آل البيت، ولا غيرهم؛ فكل منهم نعطيه حقه؛ فصاروا وسطا بين جفاة وغلاة.(8/448)
فصل: وقد دخل فيما ذكرناه من الإيمان بالله: الإيمان بما أخبر الله به في كتابه، وتواتر عن رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأجمع عليه سلف الأمة من أنه سبحانه فوق سماواته على عرشه عليّ على خلقه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فصل
في المعية وبيان الجمع بينها
وبين علو الله واستوائه على عرشه
سبق أن مما يدخل في الإيمان بالله: الإيمان بأسمائه وصفاته ومن ذلك الإيمان بعلو الله واستوائه على عرشه، والإيمان بمعيته وفي هذا الفصل بين المؤلف رحمه الله الجمع بين العلو والمعية، فقال: وقد دخل فيما ذكرناه من الإيمان بالله: الإيمان بما أخبر الله به في كتابه، وتواتر عن رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأجمع عليه سلف الأمة من أنه سبحانه فوق سماواته على عرشه عليّ على خلقه.
هذه ثلاثة أدلة على علو الله تعالى: الكتاب والسنة والإجماع.
ومر علينا دليل رابع وخامس، وهما العقل والفطرة.
" من أنه سبحانه فوق سماواته على عرشه علي على خلقه " تقدم لنا أن علو الله عز وجل نوعان: علو صفة، وعلو ذات. وأن علو الذات دل عليه الكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة وكذلك علو الصفة.
فالكتاب مملوء من ذلك: تارة بالتصريح بالفوقية، وتارة بالتصريح بالعلو وتارة بالتصريح بأنه في السماء، وتارة بنزول الأشياء من عنده، وتارة بصعودها إليه ونحو ذلك.(8/449)
وهو سبحانه معهم أينما كانوا، يعلم ما هم عاملون
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والسنة جاءت بالقول والفعل والإقرار وسبق ذكر ذلك.
أما الإجماع فقد أجمع السلف على ذلك وطريق العلم بإجماعهم عدم نقل ضد ما جاء في الكتاب والسنة؛ فإنهم كانوا يقرؤون القرآن وينقلون الأخبار ويعلمون معانيها، ولما لم ينقل عنهم ما يخالف ظاهرها علم أنهم لا يعتقدون سواه وأنهم مجمعون على ذلك، وهذا طريق حسن لإثبات إجماعهم فاستمسك به ينفعك في مواطن كثيرة.
وأما العقل، فمن وجهين:
الوجه الأول: أن العلو صفة كمال، والله تعالى قد ثبت له كل صفات الكمال، فوجب إثبات العلو له سبحانه.
الوجه الثاني: إذا لم يكن عاليا فإما أن يكون تحت أو مساويا وهذا صفة نقص، لأنه يستلزم أن تكون الأشياء فوقه أو مثله، فلزم ثبوت العلو له.
أما الفطرة فلا أحد ينكرها إلا من انحرفت فطرته، فكل إنسان يقول: يا الله، يتجه قلبه إلى السماء، لا ينصرف عنه يمنة ولا يسرة لأن الله تعالى في السماء.
هذا من الإيمان بالله وهو الإيمان بمعيته لخلقه.
وقد سبق أن معية الله تنقسم إلى عامة، وخاصة، وخاصة الخاصة.
فالعامة: التي تشمل كل أحد من مؤمن وكافر، وبر وفاجر ومثالها قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4](8/450)
كما جمع بين ذلك في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والخاصة مثل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128] .
والتي أخص: مثل قوله تعالى لموسى وهارون: {قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] . وقوله عن رسوله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] .
وسبق أن هذه المعية حقيقية، وأن من مقتضى المعية العامة العلم والسمع والبصر والقدرة والسلطان، وغير ذلك، ومن مقتضى الخاصة النصر والتأييد.
قوله: " بين ذلك "؛ أي: بين العلو والمعية ففي قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} ، إثبات العلو، وفي قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} إثبات المعية، فجمع بينهما في آية واحدة، ولا منافاة بينهما كما سبق ويأتي.
ووجه الجمع من وجوه ثلاثة:
الأول: أنه ذكر استواءه على العرش، ثم قال: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} ، وإذا جمع الله لنفسه بين وصفين، فإننا نعلم علم اليقين أنهما لا يتناقضان؛ لأنهما لو تناقضا لاستحال اجتماعهما؛ إذ المتناقضان لا يجتمعان ولا يرتفعان؛ فلا بد من وجود أحدهما وانتفاء الثاني، ولو كان هناك تناقض، لزم أن يكون أول الآية مكذبا لآخرها أو بالعكس.
الثاني: أنه قد يجتمع العلو والمعية في المخلوقات، كما سيذكره المؤلف في قول الناس: ما زلنا نسير والقمر معنا.(8/451)
وليس معنى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ} أنه مختلط بالخلق فإن هذا لا توجبه اللغة وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة وخلاف ما فطر الله عليه الخلق
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الثالث: لو فرض تعارضهما بالنسبة للمخلوق، لم يلزم ذلك بالنسبة للخالق، لأن الله ليس كمثله شيء.
قوله: " وليس معنى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ} أنه مختلط بالخلق ": لأن هذا المعنى نقص، وقد سبق أنه لو كان هذا هو المعنى لزم أحد أمرين: إما تعدد الخالق أو تجزؤه، مع ما في ذلك أيضا من كون الأشياء تحيط به وهو سبحانه محيط بالأشياء.
قوله: " فإن هذا لا توجبه اللغة " يعني: وإذا كانت اللغة لا توجبه لم يتعين، وهذا أحد الوجوه الدالة على بطلان مذهب الحلولية من الجهمية وغيرهم؛ القائلين بأن الله مع خلقه مختلطا بهم.
ولم يقل: لا تقتضيه اللغة؛ لأن اللغة قد تقتضيه، وفرق بين كون اللغة تقتضي ذلك، وبين كونها توجب ذلك.
فالمعية في اللغة قد تقتضي الاختلاط مثل الماء واللبن، تقول ماء مع لبن مخلوطا.
قوله: " وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة وخلاف ما فطر الله عليه الخلق ": وذلك لأن الإنسان مفطور على أن الخالق بائن من المخلوق، ليس أحد إذا قال: يا الله. إلا ويعتقد أن الله تعالى بائن من خلقه، لا يعتقد أنه حال في خلقه، فدعوى أنه مختلط بالخلق مخالف(8/452)
بل القمر آية من آيات الله من أصغر مخلوقاته، وهو موضوع في السماء، وهو موضوع في السماء وهو مع المسافر وغير المسافر أينما كان
ـــــــــــــــــــــــــــــ
للشرع ومخالف للعقل ومخالف للفطرة.
بل: للإضراب الانتقالي. هذا مثل ضربه المؤلف رحمه الله تقريبا للمعنى، وتحقيقا لصحة كون الشيء مع الإنسان حقيقة مع تباعد ما بينهما؛ وذلك أن القمر من أصغر المخلوقات وهو في السماء ومع المسافر وغيره أينما كان.
فإذا كان هذا المخلوق وهو من أصغر المخلوقات، نقول: إنه معنا وهو في السماء ولا يعد ذلك تناقضا ولا يقتضي اختلاطا فلماذا لا يصح أن نجري آيات المعية على ظاهرها، ونقول: هو معنا حقيقة، وإن كان هو في السماء فوق كل شيء؟
وكما قلنا سابقا: لو فرض أن هذا ممتنع في الخلق لكان في الخالق غير ممتنع فالرب عز وجل هو في السماء حقيقة وهو معنا حقيقة ولا تناقض في ذلك، حتى وإن كان بعيدا عز وجل في علوه، فإنه قريب في علوه.
وهذا الذي حققه شيخ الإسلام في كتبه، وقال: إنه لا حاجة إلى أن نؤول الآية بل الآية على ظاهرها، لكن مع اعتقادنا بأن الله تعالى في السماء على عرشه فهو معنا حقا وهو على عرشه حقا، كما نقول: إنه ينزل إلى السماء الدنيا حقا وهو في العلو ولا أحد من أهل السنة ينكر هذا أبدا، كل أهل السنة يقولون: هو ينزل حقا، متفقون على أنه في العلو؛ لأن صفات الخالق ليس مثل صفات المخلوق.
وقد عثرت على تقرير للشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله يبين هذا المعنى تماما، أي إن المعية حق على حقيقتها، ولا تستلزم أن يكون مختلطا(8/453)
بالخلق أو أنه في الأرض، قال جوابا على قول بعض السلف: " معهم بعلمه ".
" إذا جاءت هذه الكلمة فهي تفسير للمعية بالمقتضى، ليس تفسيرا لحقيقة الكلمة، والذي يحمل ويحدو على التفسير بهذا أن المنازع في هذا المبتدعة الذين يقولون: إنه مختلط بهم، فيأتي البعض من السلف بالمراد بالسياق وهو أنه بكمال علمه ولكن لا يريدون أن كلمة " مع" مدلولها بكل شيء عليم، بل اجتمعت معها في العلم، وزادت المعية في المعنى وهو كونه معهم، فتفسيرها بالمقتضى لا يدل على أن معناها باطل، فالكل حق ... ".
إلى أن قال: " ولهذا، شيخ الإسلام في عقيدته الأخرى المباركة المختصرة، بين أن قوله: معهم، حق على حقيقته، فمن فسرها من السلف بالمقتضى فلحاجة دعت إلى ذلك وهو الرد على أهل الحلول الجهمية الذين ينكرون العلو كما تقدم، والقرآن يفسر بالمطابقة وبالمفهوم وبالاستلزام والمقتضى وغير ذلك من الدلالات، وهؤلاء العلماء الذين روي عنهم التفسير بالمقتضى لا ينكرون المعية، بل هي عندهم كالشمس " اهـ من "الفتاوى"، تقريرا على الحموية. (مجموع فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم 1 \12) .
سؤال: هل يصح أن نقول: هو معنا بذاته؟
الجواب: هذا اللفظ يجب أن يبعد عنه، لأنه يوهم معنى فاسدا يحتج به من يقول بالحلول، ولا حاجة إليه، لأن الأصل أن كل شيء أضافه الله إلى نفسه فهو له نفسه؛ ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} هل(8/454)
وهو سبحانه فوق العرش رقيب على خلقه مهيمن عليهم مطلع عليهم إلى غير ذلك من معاني ربوبيته وكل هذا الكلام الذي ذكره الله من أنه فوق العرش، وأنه معنا حق على حقيقته، لا يحتاج إلى تحريف، ولكن يصان عن الظنون الكاذبة مثل أن يظن أن ظاهر قوله: {فِي السَّمَاءِ} أن السماء تقله أو تظله وهذا باطل بإجماع أهل العلم والإيمان
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يحتاج أن نقول جاء بذاته؟ وإلى قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ينزل إلى السماء الدنيا هل يحتاج أن نقول ينزل بذاته؟ إننا لا نحتاج إلى ذلك، اللهم إلا في مجادلة من يدعي أنه جاء أمره أو ينزل أمره؛ لرد تحريفه.
يقول رحمه الله: " وهو سبحانه فوق عرشه " مع أنه مع الخلق لكنه فوق عرشه.
يعني: مراقبا حافظا لأقوالهم وأفعالهم وحركاتهم وسكناتهم.
أي: حاكم مسيطر على عباده فله الحكم وإليه يرجع الأمر كله، وأمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون.
يعني بذلك ما تضمنه معنى الربوبية من ملك وسلطان وتدبير وغير ذلك فإن معاني الربوبية كثيرة؛ لأن الرب هو الخالق المالك المدبر، وهذه تحمل معاني كثيرة جدا.
. هذه الجملة تأكيد لما سبق، وإنما كرر معنى ما سبق لأهمية الموضوع؛ فبين رحمه الله أن ما ذكره الله من كونه فوق العرش حق على حقيقته، وكذلك ما ذكره من كونه معنا حق على حقيقته لا يحتاج إلى(8/455)
تحريف يعني: لا يحتاج أن نصرف معنى الفوقية إلى فوقية القدر كما ادعاه أهل التحريف والتعطيل بل هي فوقية ذات وقدر كما لا يحتاج أن نصرف معنى المعية عن ظاهرها، بل نقول: هي حق على ظاهرها، ومن فسرها بغير حقيقتها فهو محرف، لكن ما ورد من تفسيرها بلازمها ومقتضاها وارد عن السلف لحاجة دعت إلى ذلك وهو لا ينافي الحقيقة؛ لأن اللازم الحق حق.
ثم استدرك المؤلف رحمه الله فقال: " ولكن يصان عن الظنون الكاذبة " مثل أن يظن أن ظاهر قوله: {فِي السَّمَاءِ} [الملك: 17] أن السماء تقله أو تظله، وهذا باطل بإجماع أهل العلم والإيمان.
الظنون الكاذبة هي الأوهام التي ليس لها أساس من الصحة فيجب أن يصان عنها كلام الله تعالى ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
مثال ذلك أن يظن أن ظاهر قوله: {فِي السَّمَاءِ} أن السماء تقله أي: تحمله كما يحمل سقف البيت من كان على ظهره، أو تظله، يعني تكون فوقه، كالسقف على الإنسان.
إذا ظن الإنسان هذا فهو كاذب يجب صون الأدلة الدالة على أن الله في السماء عن ذلك.
قال المؤلف: وهذا باطل بإجماع أهل العلم والإيمان.
تنبيه:
قد يقول قائل: كان على المؤلف أن يقول: ومثل أن يظن أن ظاهر قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ} [الحديد: 4] أنه مختلط بالخلق، لأن هذا الظن كاذب أيضا.(8/456)
فإن الله قد {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} وهو الذي {يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا} {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ}
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وجوابه أن نقول: إن المؤلف رحمه الله ذكر ذلك سابقا في قوله: وليس معنى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ} ، أنه مختلط بالخلق.
الكرسي: كما يروى عن ابن عباس: موضع القدمين.
وسع كرسيه السماوات والأرض، يعني: أحاط بالسماوات والأرض السماوات السبع والأرضين السبع.
فكيف يظن ظان أن السماء تظل الله أو تقله؟
فإذا كان قد وسع كرسيه السماوات والأرض فلا يظن أحد أبدا هذا الظن الكاذب وهو أن السماء تقله أو تظله.
يمسكهما أن تزولا عن أماكنهما ولولا إمساك الله لهما لاضطربتا ومادتا وزالتا، ولكن الله عز وجل بقدرته وقوته يمسك السماوات والأرض أن تزولا بل قال تعالى: {وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 41] ما أمسكهما أحد بعد الله أبدا.
لو تزول نجمة من النجوم لا يستطيع أحد أن يمسكها فكيف لو زالت السماوات والأرض؟ ما يمسكهما إلا الله الذي خلقهما الذي يقول للشيء: كن فيكون، سبحانه وتعالى بيده ملكوت السماوات والأرض.
قوله: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} . السماء فوق(8/457)
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الأرض، ووالله لولا إمساك الله لها لوقعت على الأرض، لأنها أجرام عظيمة كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} [الأنبياء: 32] وقال: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات: 47] فلولا أن الله يمسكها لوقعت على الأرض وإذا وقعت على الأرض أتلفتها.
فالذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا، ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه هل يتصور متصور أن السماء تقله أو تظله؟
لا أحد يتصور ذلك.
يعني: من العلامات الدالة على كماله عز وجل من كل وجه.
{أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} [الروم: 25] الكوني والشرعي لأن أمره مبني على الحكمة والرحمة والعدل والإحسان، {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71] والأهواء فساد للسماوات والأرض، وهي مخالفة للأمر الشرعي.
إذًا فالسماوات والأرض تقوم بأمر الله الكوني والشرعي، ولو أن الحق اتبع أهواء الخلق لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن؛ ولهذا قال العلماء في قوله تعالى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} [الأعراف: 56] أي: لا تفسدوا فيها بالمعاصي.(8/458)
فصل
وقد دخل في ذلك الإيمان بأنه قريب من خلقه مجيب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فصل
في قرب الله تعالى وإجابته وأن ذلك
لا ينافي علوه وفوقيته
يعني: فيما وصف به نفسه. الإيمان بأنه قريب في نفسه ومجيب؛ يعني: لعباده.
ودليل ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] .
في هذه الآية ستة ضمائر تعود على الله، وعلى هذا؛ فيكون القرب قربه عز وجل، ولكن نقول في {قَرِيبٌ} كما قلنا في المعية؛ أنه لا يستلزم أن يكون في المكان الذي فيه الإنسان.
وإذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: «إنه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته» ، ولا يلزم أن يكون الله عز وجل نفسه في الأرض بينه وبين عنق راحلته.
وإذا كان قول الرسول عليه الصلاة والسلام: «فإن الله قبل وجه المصلي» : لا يستلزم أن يكون الله بينه وبين الجدار، إن كان يصلي إلى الجدار، ولا بينه وبين الأرض إن كان ينظر إلى الأرض.
فكذلك لا يلزم من قربه أن يكون في الأرض؛ لأن الله ليس كمثله(8/459)
شيء في جميع صفاته، وهو محيط بكل شيء.
واعلم أن من العلماء من قسم قرب الله تعالى إلى قسمين؛ كالمعية، وقال: القرب الذي مقتضاه الإحاطة قرب عام، والقرب الذي مقتضاه الإجابة والإثابة قرب خاص.
ومنهم يقول: إن القرب خاص فقط؛ مقتض لإجابة الداعي وإثابة العابد، ولا ينقسم.
ويستدل هؤلاء بقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] ، وبقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» ، وأنه لا يمكن أن يكون الله تعالى قريبا من الفجرة الكفرة.
وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله تعالى.
ولكن أورد على هذا القول قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [قّ:16] ؛ فالمراد بـ (الإنسان) : كل إنسان، ولهذا قال في آخر الآية: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} إلى أن قال: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} [ق: 22 - 24] ؛ فهو شامل.
وأورد عليه أيضا قوله تعالى: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ} [الواقعة: 83 - 85] ، ثم قسم هؤلاء الذين بلغت أرواحهم الحلقوم إلى ثلاثة أقسام، ومنهم الكفار.(8/460)
كما جمع بين ذلك في قوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} الآية. «وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للصحابة لما رفعوا أصواتهم بالذكر: " أيها الناس اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته» .
وما ذكر في الكتاب والسنة من قربه ومعيته لا ينافي ما ذكر من علوه وفوقيته؛ فإنه سبحانه ليس كمثله شيء في جميع نعوته، وهو علي في دنوه، قريب في علوه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وأجيب عن ذلك بأن قوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [قّ:16] ؛ يعني: بملائكتنا، واستدل لذلك بقوله: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ} [قّ:17] ؛ فإن (إذ) ظرف متعلق بـ (أقرب) ؛ يعني: ونحن أقرب إليه حين يتلقى المتلقيان، وهذا يدل على أن المراد بقربه تعالى قرب ملائكته.
وكذلك قوله في المحتضر: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ} : المراد: قرب الملائكة، ولهذا قال: {وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ} [الواقعة: 85] ، وهذا يدل على أن هذا القريب موجود عندنا، لكن لا نبصره، وهذا يمتنع غاية الامتناع أن يكون المراد به الله عز وجل؛ لأن الله في السماء.
وما ذهب إليه شيخ الإسلام؛ فهو عندي أقرب، ولكنه ليس في القرب بذاك.
قوله: " كما جمع بين ذلك ": المشار إليه القرب الإجابة.
"نعوته"؛ يعني: صفاته. هو علي مع أنه داني، قريب مع أنه عال، ولا تناقض في ذلك، وقد سبق بيان ذلك قريبا في الكلام على المعية.(8/461)
فصل:
ومن الإيمان بالله وكتبه: الإيمان بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فصل:
في الإيمان بأن القرآن
كلام الله حقيقة
وجه كون الإيمان بالقرآن على هذا الوجه من الإيمان بالله أن القرآن من كلام الله، وكلام الله صفة من صفاته، وأيضا؛ فإن الله وصف القرآن بأنه كلامه، وأنه منزل؛ فتصديق ذلك من الإيمان بالله.
والدليل على ذلك قوله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة:6] .
قول المؤلف: "منزل"؛ أي: من عند الله تعالى: لقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] . وقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1] .
أي: ليس من مخلوقات الله التي خلقها.
والدليل على ذلك قوله تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف:54] . والقرآن من الأمر؛ لقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى:52] ، ولأن الكلام صفة المتكلم، والمخلوق مفعول للخالق، بائن منه؛ كالمصنوع؛ بائن من الصانع.(8/462)
منه بدأ وإليه يعود
وأن الله تعالى تكلم به حقيقة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يعني: أن ابتداء تنزيله من الله، لا من جبريل ولا غيره؛ فجبريل نازل به من عند الله تعالى:؛ كما قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} [الشعراء: 192 - 193] ، وقال: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} [النحل:102] ، وقال تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزمر:1] .
سبق الكلام عن معناها والدليل عليها في شرح الآيات عند البحث عن كلام الله.
قوله: " وأن الله تكلم به حقيقة ": بناء على الأصل؛ أن جميع الصفات حقيقية، وإذا كان كلام الله حقيقة؛ فلا يمكن أن يكون مخلوقا؛ لأنه صفته، وصفة الخالق غير مخلوقة؛ كما أن صفة المخلوق مخلوقة.
وقد قال الإمام أحمد: " من قال: لفظي بالقرآن مخلوق؛ فهو جهمي، ومن قال: غير مخلوق؛ فهو مبتدع ".
فنقول: اللفظ يطلق على معنيين: على المصدر الذي هو فعل الفاعل، وعلى الملفوظ به.
أما على المعنى الأول الذي هو المصدر؛ فلا شك أن ألفاظنا بالقرآن وغير القرآن مخلوقة.
لأننا إذا قلنا: أن اللفظ هو التلفظ؛ فهذا الصوت الخارج من حركة الفم واللسان والشفتين مخلوق.
فإذا أريد باللفظ التلفظ؛ فهو مخلوق، سواء كان الملفوظ به قرآنا أو حديثا أو كلاما أحدثته من عندك.(8/463)
وأن هذا القرآن الذي أنزله على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو كلام الله حقيقة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أما إذا قصد باللفظ الملفوظ به؛ فهذا منه مخلوق، ومنه غير مخلوق.
وعليه؛ إذا قصد باللفظ الملفوظ به؛ فهذا منه مخلوق، ومنه غير مخلوق، وعليه؛ إذا كان الملفوظ به هو القرآن؛ فليس بمخلوق.
هذا تفصيل القول في هذه المسألة.
لكن الإمام أحمد رحمه الله قال: " من قال: لفظي بالقرآن مخلوق؛ فهو جهمي " قال ذلك لأحد احتمالين:
إما أن هذا القول من شعار الجهمية؛ كان الإمام أحمد يقول: إذا سمعت الرجل يقول: لفظي بالقرآن مخلوق؛ فاعلم أنه جهمي.
وإما أن يكون ذلك حين يريد القائل باللفظ الملفوظ به، وهذا أقرب؛ لأن الإمام أحمد نفسه فسره؛ قال: " من قال: لفظي بالقرآن مخلوق؛ يريد القرآن؛ فهو جهمي ".
وحينئذ يتضح معنى قوله: " من قال: لفظي بالقرآن مخلوق؛ فهو جهمي "؛ لأنه أراد الملفوظ به، ولا شك أن الذي يريد باللفظ هنا الملفوظ به جهمي.
أما من قال: غير مخلوق؛ فالإمام أحمد يقول: مبتدع؛ لأن هذا ما عهد عن السلف، وما كانوا يقولون مثل هذا القول؛ يقولون: القرآن كلام الله، فقط.
كرر المؤلف هذا؛ لأن المقام مقام عظيم؛ فإن هذه المسألة حصل فيها على علماء المسلمين من المحن ما هو معلوم، وهلك فيها أمم كثيرة، ولكن حمى الله الحق بالإمام أحمد وأشباهه، الذين أبوا أن يقولوا إلا أن القرآن كلام الله غير مخلوق.(8/464)
لا كلام غيره
ولا يجوز إطلاق القول بأنه حكاية عن كلام الله أو عبارة عنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: " لا كلام غيره ": خلافا لمن قال: أن القرآن من كلام جبريل؛ ألهمه الله إياه، أو من محمد ... أو ما أشبه ذلك.
فإن قلت: قول المؤلف هنا: " لا كلام غيره ": معارض بقول الله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} [الحاقة: 40 - 41] ، وقوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير: 19 - 20] ، والأول محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والثاني جبريل؟!
فالجواب عن ذلك نقول: لا يمكن أن نحمل الآيتين على أن الرسولين تكلما به حقيقة، وأنه صدر منهما؛ لأن كلاما واحدا لا يمكن أن يصدر من متكلمين.
قال: " لا يجوز إطلاق القول ": ولم يقل: لا يجوز القول؛ يعني: لا يجوز أن نقول: هذا القرآن عبارة عن كلام الله؛ على سبيل الإطلاق.
والذين قالوا: إنه حكاية: هم الكلابية، والذين قالوا: إنه عبارة: هم الأشعرية.
والكل اتفقوا على أن هذا القرآن الذي في المصحف ليس كلام الله، بل هو إما حكاية أو عبارة، والفرق بينهما:
أن الحكاية المماثلة؛ يعني: كأن هذا المعنى الذي هو الكلام عندهم حكي بمرآة؛ كما يحكي الصدى كلام المتكلم.(8/465)
بل إذا قرأه الناس أو كتبوه في المصاحف؛ لم يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله تعالى حقيقة، فإن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئا لا إلى من قاله مبلغا مؤديا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أما العبارة؛ فيعني بها أن المتكلم عبر عن كلامه النفسي بحروف وأصوات خلقت.
فلا يجوز أن نطلق أنه حكاية أو عبارة، لكن عند التفصيل؛ قد يجوز أن نقول: إن القارئ الآن يعبر عن كلام الله أو يحكي كلام الله؛ لأن لفظه بالقرآن ليس هو كلام الله.
وهذا القول على هذا التقييد لا بأس به، لكن إطلاق أن القرآن عبارة أو حكاية عن كلام الله لا يجوز.
وكان المؤلف رحمه الله دقيقا في العبارة حيث قال: " لا يجوز إطلاق القول "؛ بل لا بد من التقييد والتعيين.
يعني: مهما كتبه الناس في المصاحف أو حفظوه في صدورهم أو قرؤوه بألسنتهم؛ فإنه لا يخرج عن كونه كلام الله، ثم علل ذلك، فقال: " فإن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئا".
وهذا تعليل واضح؛ فالكلام يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئا، أما إضافته إلى من قاله مبلغا مؤديا؛ فعلى سبيل التوسع؛ فلو قرأنا الآن مثلا:
حكم المحبة ثابت الأركان ... ما للصدود بفسخ ذاك يدان
فإن هذا البيت ينسب حقيقة إلى ابن القيم.
ولو قلت:
كلامنا لفظ مفيد كاستقم ... واسم وفعل ثم حرف الكلم(8/466)
وهو كلام الله حروفه ومعانيه ليس كلام الله الحروف دون المعاني ولا المعاني دون الحروف.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فهذا ينسب حقيقة إلى ابن مالك.
إذًا؛ الكلام يضاف حقيقة إلى القائل الأول.
ف القرآن كلام من تكلم به أولا، وهو الله تعالى لا كلام من بلغه إلى غيره.
قوله: " وهو كلام الله؛ حروفه ومعانيه "
هذا مذهب أهل السنة والجماعة؛ قالوا: إن الله تعالى تكلم بالقرآن بحروفه ومعانيه.
قوله: " ليس كلام الله الحروف دون المعاني. "
وهذا مذهب المعتزلة والجهمية؛ لأنهم يقولون: إن الكلام ليس معنى يقوم بذات الله، بل هو شيء من مخلوقاته؛ كالسماء والأرض والناقة والبيت وما أشبه ذلك فليس معنى قائما في نفسه؛ فكلام الله حروف خلقها الله عز وجل، وسماها كلاما له؛ كما خلق الناقة وسماها ناقة الله، وكما خلق البيت وسماه بيت الله.
ولهذا كان الكلام عند الجهمية والمعتزلة هو الحروف؛ لأن كلام الله عندهم عبارة عن حروف وأصوات خلقها الله عز وجل ونسبها إليه تشريفا وتعظيما.
قوله: " ولا المعاني دون الحروف ": وهذا مذهب الكلابية والأشعرية؛ فكلام الله عندهم معنى في نفسه،(8/467)
ثم خلق أصواتا وحروفا تدل على هذا المعنى؛ إما عبارة أو حكاية.
واعلم أن ابن القيم رحمه الله ذكر أننا إذا أنكرنا أن الله يتكلم؛ فقد أبطلنا الشرع والقدر.
- أما الشرع؛ فلأن الرسالات أنما جاءت بالوحي، والوحي كلام مبلغ إلى المرسل إليه، فإذا نفينا الكلام؛ انتفى الوحي، وإذا انتفى الوحي؛ انتفى الشرع.
أما القدر؛ فلأن الخلق يقع بأمره بقوله: كن فيكون؛ كما قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] .(8/468)
فصل
وقد دخل أيضا فيما ذكرناه من الإيمان به وبكتبه وبرسله: الإيمان بأن المؤمنين يرونه يوم القيامة عيانا بأبصارهم، كما يرون الشمس صحوا ليس دونها سحاب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فصل:
في الإيمان برؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة
ومواضع الرؤية
وجه كون الإيمان بأن المؤمنين يرونه يوم القيامة من الإيمان بالله ظاهر؛ لأن هذا مما أخبر الله به؛ فإذا آمنا به؛ فهو من الإيمان بالله.
ووجه كونه من الإيمان بالكتب؛ لأن الكتب أخبرت بأن الله يرى؛ فالتصديق بذلك تصديق بالكتب.
ووجه كونه من الإيمان بالملائكة؛ لأن نقل الوحي بواسطة الملائكة؛ فإن جبريل ينزل بالوحي من الله تعالى؛ فكان الإيمان بأن الله يرى من الإيمان بالملائكة.
وكذلك نقول: من الإيمان بالرسل؛ لأن الرسل هم الذين بلغوا ذلك للخلق؛ فكان الإيمان بذلك من الإيمان بالرسل.
بمعنى: معاينة. والمعاينة هي: الرؤية بالعين.
دليل ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: «ترونه كما ترون الشمس صحوا ليس دونها سحاب» . "(8/469)
وكما يرون القمر ليلة البدر لا يضامون في رؤيته
يرونه سبحانه وهم في عرصات القيامة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والمراد بالرؤية: بالعين؛ كما يدل عليه تشبيه الرؤية برؤية الشمس صحوا ليس دونها سحاب. سبق الكلام في ذلك.
" عرصات ": جمع عرصة، وهو المكان الواسع الفسيح، الذي ليس فيه بناء؛ لأن الأرض تمد مد الأديم؛ كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام؛ يعني: مد الجلد.
فالمؤمنون يرون الله في عرصات يوم القيامة قبل أن يدخلوا الجنة؛ كما قال الله تعالى عن المكذبين بيوم الدين: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] ؛ {يَوْمَئِذٍ} : يعني يوم الدين؛ {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] ، ويرونه كذلك بعد دخول الجنة.
أما في عرصات القيامة؛ فالناس في العرصات ثلاثة أجناس:
1 - مؤمنون خلص ظاهرا وباطنا.
2 - وكافرون خلص ظاهرا وباطنا.
3 - ومؤمنون ظاهرا كافرون باطنا، وهم المنافقون.
فأما المؤمنون؛ فيرون الله تعالى في عرصات القيامة وبعد دخول الجنة.
وأما الكافرون؛ فلا يرون ربهم مطلقا، وقيل: يرونه؛ لكن رؤية(8/470)
ثم يرونه بعد دخول الجنة كما يشاء الله سبحانه وتعالى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
غضب وعقوبة، ولكن ظاهر الأدلة يدل على أنهم لا يرون الله؛ كما قال الله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] .
وأما المنافقون: فإنهم يرون الله عز وجل في عرصات القيامة، ثم يحتجب عنهم، ولا يرونه بعد ذلك.
يعني: يرون الله كما يشاء سبحانه وتعالى في كيفية رؤيتهم إياه، وكما يشاء الله في زمن رؤيتهم إياه، وفي جميع الأحوال؛ يعني: على الوجه الذي يشاؤه الله عز وجل في هذه الرؤية.
وحينئذ؛ فإن هذه الرؤية لا نعلم كيفيتها؛ بمعنى أن الإنسان لا يعلم كيف يرى ربه، ولكن معنى الرؤية معلوم؛ أنهم يرون الله كما يرون القمر؛ لكن على أي كيفية؟ هذه لا نعلمها، بل كما يشاء الله، وقد سبق التفصيل في الرؤية.(8/471)
فصل: ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكل ما أخبر به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مما يكون بعد الموت
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فصل:
في الإيمان باليوم الآخر
شرع المؤلف رحمه الله تعالى في الكلام عن اليوم الآخر وعقيدة أهل السنة والجماعة فيه، فقال:
" فصل: ومن الإيمان باليوم الآخر: الإيمان بكل ما أخبر به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مما يكون بعد الموت. "
حكم الإيمان باليوم الآخر فريضة واجب، ومرتبته في الدين أنه أحد أركان الإيمان الستة.
وكثيرا ما يقرن الله تعالى بين الإيمان به تعالى والإيمان باليوم الآخر؛ الإيمان بالمبدأ والإيمان بالمعاد؛ لأن من لم يؤمن باليوم الآخر؛ لا يمكن أن يؤمن بالله؛ إذ أن الذي لا يؤمن باليوم الآخر؛ لن يعمل؛ لأنه لا يعمل إلا لما يرجوه من الكرامة في اليوم الآخر، وما يخافه من العذاب والعقوبة؛ فإذا كان لا يؤمن به؛ صار كمن حكى الله عنهم: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24] .
وسمي اليوم الآخر باليوم الآخر؛ لأنه يوم لا يوم بعده؛ فهو آخر المراحل.
والإنسان له خمس مراحل: مرحلة العدم، ثم الحمل، ثم الدنيا،(8/472)
ثم البرزخ، ثم الآخرة.
فأما مرحلة العدم فقد دل عليها قوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:1] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج:5] .
وأما مرحلة الحمل؛ فقال الله عنها: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} [الزمر:6] .
وأما مرحلة الدنيا؛ فقال الله عنها: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78] .
وهذه المراحل هي التي عليها مدار السعادة والشقاء وهي دار الامتحان والابتلاء؛ كما قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك:2] .
وأما مرحلة البرزخ؛ فقال الله عنها: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100] .
وأما مرحلة الآخرة؛ فهي غاية المراحل، ونهاية الراحل؛ قال الله تعالى بعد ذكر المراحل: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 15 - 16] .(8/473)
فيؤمنون بفتنة القبر، وبعذاب القبر، وبنعيمه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله رحمه الله: " الإيمان بكل ما أخبر به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مما يكون بعد الموت: كل هذا داخل في الإيمان باليوم الآخر.
وذلك لأن الإنسان إذا مات؛ دخل في اليوم الآخر، ولهذا يقال: من مات؛ قامت قيامته؛ فكل ما يكون بعد الموت؛ فإنه من اليوم الآخر.
إذًا؛ ما أقرب اليوم الآخر لنا؛ ليس بيننا وبينه إلا أن يموت الإنسان، ثم يدخل في اليوم الآخر ليس فيه إلا الجزاء على العمل.
ولهذا يجب علينا أن ننتبه لهذه النقطة.
فكر أيها الإنسان؛ تجد أنك على خطر؛ لأن الموت ليس له أجل معلوم عندنا؛ قد يخرج الإنسان من بيته ولا يرجع إليه، وقد يكون الإنسان على كرسي مكتبه ولا يقوم منه، وقد ينام الإنسان على فراشه ولكنه يحمل من فراشه إلى سرير غسله؛ وهذا أمر يستوجب منا أن ننتهز فرصة العمر بالتوبة إلى الله عز وجل، وأن يكون الإنسان دائما يستشعر بأنه تائب إلى الله وراجع ومنيب حتى يأتيه الأجل وهو على خير ما يرام.
الفتنة هنا: الاختبار، والمراد بفتنة القبر: سؤال الميت إذا دفن عن ربه ودينه ونبيه.
والضمير في " يؤمنون ": يعود على أهل السنة؛ أي أن أهل السنة والجماعة يؤمنون بفتنة القبر، وذلك لدلالة الكتاب والسنة عليها.
أما الكتاب؛ ففي قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم:27] ؛ فإن هذا في فتنة القبر؛ كما(8/474)
ثبت في " الصحيحين " وغيرهما من حديث البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وأما السنة؛ فقد تظافرت بأن الإنسان يفتن في قبره، وهي فتنة قال فيها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنه قد أوحي إلى أنكم تفتنون في قبوركم مثل (أو: قريبا من) فتنة الدجال» .
وفتنة الدجال أعظم فتنة منذ خلق الله آدم إلى أن تقوم الساعة؛ كما في "صحيح مسلم " عن عمران بن حصين رضي الله عنه؛ قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة أمر أكبر من الدجال» .
ولكن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لأصحابه، بل قال لأمته: «إن يخرج وأنا فيكم؛ فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج ولست فيكم؛ فامرؤ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم» .
ومع ذلك؛ فإن نبينا محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كيف نحاجه، وأعلمنا بأوصافه وميزاته حتى كأنا نشاهده رأي عين، وبهذه الأوصاف والميزات نستطيع أن نحاجه.
ولهذا نقول: أن فتنة الدجال أعظم فتنة، والرسول عليه الصلاة(8/475)
فأما الفتنة فإن الناس يفتنون
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والسلام قال: «إنكم تفتنون في قبوركم مثل -أو قريبا من- فتنة الدجال» .
وما أعظمها من فتنة لأن الإنسان يتلقى فيها السؤال الذي لا يمكن الجواب عليه؛ إلا على أساس متين من العقيدة والعمل الصالح.
هذا شروع في بيان كيفية فتنة الميت في قبره.
وكلمة " الناس " عامة، وظاهر كلام المؤلف أن كل أحد، حتى الأنبياء والصديقون والشهداء والمرابطون وغير المكلفين من الصغار والمجانين، وفي هذا تفصيل؛ فنقول:
أولا: أما الأنبياء؛ فلا تشملهم الفتنة، ولا يسألون، وذلك لوجهين:
الأول: أن الأنبياء أفضل من الشهداء، وقد أخبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الشهيد يوقى فتنة القبر، وقال: «كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة» ؛ أخرجه النسائي.
الثاني: أن الأنبياء يسأل عنهم؛ فيقال للميت: من نبيك؟ فهم مسؤول عنهم، وليسوا مسؤولين، ولهذا قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنه أوحي إلي أنكم تفتنون في قبوركم» ، والخطاب للأمة المرسل إليهم؛ فلا يكون الرسول داخلا فيهم.
ثانيا: وأما الصديقون؛ فلا يسألون؛ لأن مرتبة الصديقين أعلى من مرتبة الشهداء؛ فإذا كان الشهداء لا يسألون؛ فالصديقون من باب أولى،(8/476)
ولأن الصديق على وصفه مصدق وصادق؛ فهو قد علم صدقه؛ فلا حاجة إلى اختباره؛ لأن الاختبار لمن يشك فيه؛ هل هو صادق أو كاذب، أما إذا كان صادقا؛ فلا حاجة تدعو لسؤاله، وذهب بعض العلماء إلى أنهم يسألون؛ لعموم الأدلة، والله أعلم.
ثالثا: وأما الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله؛ فإنهم لا يسألون؛ لظهور صدق إيمانهم بجهادهم.
قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} [التوبة:111] .
وقال: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] .
وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة» .
وإذا كان المرابط؛ إذا مات؛ أمن الفتان؛ لظهور صدقه؛ فهذا الذي قتل في المعركة مثله أو أولى منه؛ لأنه بذل وعرض رقبته لعدو الله؛ إعلاء لكلمة الله، وانتصارا لدينه، وهذا من أكبر الأدلة على صدق إيمانه.
رابعا: وأما المرابطون؛ فإنهم لا يفتنون؛ ففي " صحيح مسلم "؛ أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات؛ جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن الفتان» .
خامسا: الصغار والمجانين؛ هل يفتنون أو لا يفتنون؟(8/477)
في قبورهم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قال بعض العلماء: إنهم يفتنون؛ لدخولهم في العموم، ولأنهم إذا سقط التكليف عنهم في حالة الحياة؛ فإن حال الممات تخالف حال الحياة.
وقال بعض العلماء: إن المجانين والصغار لا يسألون؛ لأنهم غير مكلفين، وإذا كانوا غير مكلفين؛ فإنه لا حساب عليهم؛ إذ لا حساب إلا على من كان مكلفا يعاقب على المعاصي، وهؤلاء لا يعاقبون، وليس لهم إلا الثواب؛ إن عملوا عملا صالحا يثابون عليه.
إذًا؛ خرج من قول المؤلف: " فإن الناس ": خمسة أصناف: الأنبياء، والصديقون، والشهداء، والمرابطون، ومن لا عقل له؛ كالمجانين والصبيان.
تنبيه: الناس ثلاثة أقسام: مؤمنون خلص، ومنافقون، وهذان القسمان يفتنون، والثالث كفار خلص؛ ففي فتنتهم خلاف، وقد رجح ابن القيم في كتاب " الروح " أنهم يفتنون.
وهل تسأل الأمم السابقة؟
ذهب بعض العلماء -وهو الصحيح- إلى أنهم يسألون؛ لأنه إذا كانت هذه الأمة -وهي أشرف الأمم- تسأل؛ فمن دونها من باب أولى.
قوله: " في قبورهم ": جمع قبر، وهي مدفن الأموات، والمراد ما هو أعم؛ فيشمل البرزخ، وهو ما بين موت الإنسان وقيام الساعة، سواء دفن الميت أو أكلته السباع في البر أو الحيتان في البحر أو أتلفته الرياح.
والظاهر أن الفتنة لا تكون إلا إذا انتهت الأحوال الدنيوية، وسلم إلى(8/478)
فيقال للرجل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عالم الآخرة؛ فإذا تأخر دفنه يوما أو أكثر؛ لم يكن السؤال حتى يدفن.
قوله: " فيقال للرجل ": القائل ملكان يأتيان إلى الإنسان في قبره، ويجلسانه، ويسألانه، حتى إنه ليسمع قرع نعال المنصرفين عنه، وهما يسألانه، ولهذا كان من هدي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ أنه إذا دفن الميت؛ وقف عليه، وقال: «استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل» .
وورد في بعض الآثار أن اسمهما: منكر، ونكير.
وأنكر بعض العلماء هذين الاسمين؛ قال: كيف يسمى الملائكة وهم الذين وصفهم الله تعالى بأوصاف الثناء بهذين الاسمين المنكرين، وضعف الحديث الوارد في ذلك.
وذهب آخرون إلى أن الحديث حجة، وأن هذه التسمية ليس لأنهما منكران من حيث ذواتهما، ولكنهما منكران من حيث إن الميت لا يعرفهما، وليس له بهما علم سابق، وقد قال إبراهيم لأضيافه الملائكة: {قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} [الذريات:25] ؛ أنه لا يعرفهم، فهذان منكر ونكير؛ لأنهما غير معروفين للميت.
ثم هذان الملكان هل هما ملكان جديدان، موكلان بأصحاب القبور أو هما الملكان الكاتبان عن اليمين وعن الشمال قعيد؟
منهم من قال: إنهما الملكان اللذان يصحبان المرء؛ فإن لكل إنسان ملكين في الدنيا يكتبان أعماله، وفي القبر يسألانه هذه الأسئلة الثلاثة.(8/479)
من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فـ {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ}
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ومنهم من قال: بل هما ملكان آخران، والله عز وجل يقول: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] ، والملائكة خلق كثير؛ قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أطت السماء، وحق لها أن تئط (والأطيط: صرير الرحل) ؛ ما من موضع شبر (أو قال: أربع أصابع) ؛ إلا وفيه ملك قائم لله أو راكع أو ساجد» ، والسماء واسعة الأرجاء؛ كما قال الله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات:47] .
فالمهم أنه لا غرابة أن ينشئ الله عز وجل لكل مدفون ملكين يرسلهما إليه، والله على كل شيء قدير.
يعني: من ربك الذي خلقك وتعبده وتخصه بالعبادة؟ لأجل أن تنتظم هذه الكلمة توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية.
يعني: ما عملك الذي تدين به لله عز وجل، وتتقرب به إليه؟
يعني: من النبي الذي تؤمن به وتتبعه؟
أي: يجعلهم ثابتين لا يترددون ولا يتلعثمون في الجواب.
والقول الثابت: هو التوحيد؛ كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم:24] .
وقوله: {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} يحتمل أنها متعلقة بـ يثبت؛ يعني: أن الله يثبت المؤمنين في الدنيا وفي الآخرة ويحتمل....(8/480)
فيقول المؤمن ربي الله، والإسلام ديني، ومحمد نبيي
وأما المرتاب فيقول هاه هاه لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أنها متعلقة بالثابت؛ فتكون وصفًا للقول؛ يعني: أن هذا القول ثابت في الدنيا وفي الآخرة.
ولكن المعنى الأول أحسن وأقرب؛ لأن الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [الأنفال: 45] ؛ وقال الله عز وجل: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال: 12] ، فهم يثبتون في الحياة الدنيا وفي الآخرة بالقول الثابت.
فيقول المؤمن: ربي الله. عندما يقال له: من ربك؟ ويقول إذا قيل له: ما دينك؟ فيقول: الإسلام ديني. ويقول كذلك: محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبيي. إذا قيل له: من نبيك؟
وحينئذ يكون الجواب صوابا، فينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابا إلى الجنة.
قوله: " وأما المرتاب فيقول هاه هاه! لا أدري؛ سمعت الناس يقولون شيئا فقلته ":
المرتاب: الشاك والمنافق وشبههما، " فيقول: هاه! هاه! لا أدري؛ سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته "؛ يعني: لم يلج الإيمان قلبه، وإنما كان يقول كما يقول الناس من غير أن يصل الإيمان إلى قلبه.
وتأمل قوله: " هاه! هاه! "؛ كأن شيئا غاب عنه؛ يريد أن يتذكره، وهذا أشد في التحسر؛ أن يتخيل أنه يعرف هذا الجواب، ولكن يحال بينه وبينه، ويقول هاه! هاه! ثم يقول: سمعت الناس يقولون شيئا فقلته.(8/481)
فيضرب بمرزبة من حديد فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان ولو سمعها الإنسان لصعق
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ولا يقول: ربي الله! ولا: ديني الإسلام! ولا: نبيي محمد! لأنه في الدنيا مرتاب شاك!
هذا إذا سئل في قبره وصار أحوج ما يكون إلى الجواب الصواب؛ يعجز ويقول: لا أدري؛ سمعت الناس يقولون شيئا فقلته.
إذا؛ إيمانه قول فقط!!
يعني: الذي لم يجب، سواء كان الكافر أو المنافق والضارب له الملكان اللذان يسألانه.
المرزبة: هي مطرقة من حديد، وقد ورد في بعض الروايات أنه لو اجتمع عليها أهل منى؛ ما أقلوها.
فإذا ضرب، يصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان
أي: صياحا مسموعا، يسمعه كل شيء، يكون حوله مما يسمع صوته، وليس كل شيء في أقطار الدنيا يسمعه، وأحيانا يتأثر به ما يسمعه؛ كما مر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأقبر للمشركين على بغلته؛ فحادت به، حتى كادت تلقيه؛ لأنها سمعت أصواتهم يعذبون.
قوله: " إلا الإنسان "؛ يعني: أنه لا يسمع هذا الصياح، وذلك لحكم عظيمة؛ منها: أولا: ما أشار إليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: «لولا أن لا تدافنوا؛ لدعوت الله أن»(8/482)
«يسمعكم من عذاب القبر» .
ثانيا: أن في إخفاء ذلك سترًا للميت.
ثالثًا: أن فيه عدم إزعاج لأهله؛ لأن أهله إذا سمعوا ميتهم يعذب ويصيح؛ لم يستقر لهم قرار.
رابعا: عدم تخجيل أهله؛ لأن الناس يقولون: هذا ولدكم! هذا أبوكم! هذا أخوكم! وما أشبه ذلك.
خامسا: أننا قد نهلك؛ لأنها صيحة ليست هينة، بل صيحة قد توجب أن تسقط القلوب من معاليقها، فيموت الإنسان أو يغشى عليه.
سادسا: لو سمع الناس صراخ هؤلاء المعذبين؛ لكان الإيمان بعذاب القبر من باب الإيمان بالشهادة، لا من باب الإيمان بالغيب، وحينئذ تفوت مصلحة الامتحان؛ لأن الناس سوف يؤمنون بما شاهدوه قطعا؛ لكن إذا كان غائبا عنهم، ولم يعلموا به إلا عن طريق الخبر؛ صار من باب الإيمان بالغيب.
تنبيه: قول المؤلف رحمه الله: " فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسان؛ لصعق "؛ إنما ورد قوله: " يسمعها كل شيء إلا الإنسان. . . . " إلخ في قول الجنازة إذا احتملها الرجال على أعناقهم؛ كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فإن كانت صالحة؛ قالت: قدموني! وإن كانت غير صالحة؛»(8/483)
ثم بعد هذه الفتنة إما نعيم وإما عذاب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«قالت يا ويلها! أين يذهبون بها؟ ! يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعه؛ لصعق» . أما الصيحة في القبر؛ فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين» . أخرجه البخاري بهذا اللفظ، والمراد بالثقلين: الإنس والجن.
" ثم ": هذه لمطلق الترتيب، وليست للتراخي؛ لأن الإنسان يعذب أو ينعم فورا؛ كما سبق أنه إذا قال: لا أدري! يضرب بمرزبة، وأن ذاك الذي أجاب بالصواب؛ يفتح له باب الجنة، ويوسع له في قبره.
* وهذا النعيم أو العذاب؛ هل هو على البدن أو على الروح أو يكون على البدن والروح جميعا؟
نقول: المعروف عند أهل السنة والجماعة أنه في الأصل على الروح، والبدن تابع لها، كما أن العذاب في الدنيا على البدن، والروح تابعة له، وكما أن الأحكام الشرعية في الدنيا على الظاهر، وفي الآخرة بالعكس، ففي القبر يكون العذاب أو النعيم على الروح، لكن الجسم يتأثر بهذا تبعا، وليس على سبيل الاستقلال، وربما يكون العذاب على البدن والروح تتبعه، والنعيم للروح والبدن تبع. لكن هذا لا يقع إلا نادرا؛ إنما الأصل العذاب على الروح والبدن تبع.
وقوله: " إما نعيم وإما عذاب ": فيه إثبات النعيم والعذاب في القبر، وقد دل ذلك كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل لنا أن نقول: وإجماع المسلمين:(8/484)
-أما من كتاب الله؛ فالثلاثة أصناف التي في آخر الواقعة ظاهرة في ثبوت عذاب القبر ونعيمه.
قال تعالى: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} [الواقعة: 83 - 94] .
وهذا أمر مشاهد؛ يسمع المحتضر يرحب بالقادمين عليه من الملائكة، ويقول: مرحبًا! وأحيانا يقول: مرحبًا؛ أجلس هنا! كما ذكره ابن القيم في كتاب " الروح "، وأحيانا يحس بأن هذا الرجل أصيب بشيء مخيف، فيتغير وجهه عند الموت إذا نزلت عليه ملائكة العذاب والعياذ بالله.
ومن أدلة القرآن قوله تعالى في آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} ، وهذا قبل قيام الساعة؛ بدليل قوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46] .
ومن أدلة القرآن أيضا قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} ، وهم شاحون بأنفسهم، لا يريدونها أن تخرج؛ لأنهم قد بشروا بالعذاب والعقوبة، فتجد الروح تأبى الخروج، ولهذا قال: {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} [الأنعام: 93] : {الْيَوْمَ} : (الـ) : للعهد الحضوري؛ كقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3] يعني: اليوم الحاضر.(8/485)
وكذلك {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ} : (الـ) للعهد الحضوري، والمراد به: يوم حضور الملائكة لقبض أرواحهم، وهذا يقتضي أنهم يعذبون من حين أن تخرج أرواحهم، وهذا هو عذاب القبر.
ومن أدلة القرآن أيضا قوله تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ} [النحل:32] ، وذلك في حال الوفاة.
ولهذا جاء في الحديث الصحيح: " يقال لنفس المؤمن: اخرجي أيتها النفس المطمئنة إلى مغفرة من الله ورضوان "؛ فتفرح بهذه البشرى، وتخرج منقادة سهلة، وإن كان البدن قد يتألم، لكن الروح منقادة مستبشرة.
وأما السنة في عذاب القبر ونعيمه؛ فمتواترة، ومنها ما ثبت في " الصحيحين " من حديث ابن عباس رضي الله عنهما؛ أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مر بقبرين؛ فقال: «إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير.» . . " الحديث.
وأما الإجماع؛ فكل المسلمين يقولون في صلاتهم: أعوذ بالله من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر. . . ولو أن عذاب القبر غير ثابت؛ ما صح أن يتعوذوا بالله منه؛ إذ لا تعوذ من أمر ليس موجودا، وهذا يدل على أنهم يؤمنون به.
فإن قال قائل: هل العذاب أو النعيم في القبر دائم أو ينقطع؟
فالجواب أن يقال:(8/486)
أما العذاب للكفار؛ فإنه دائم، ولا يمكن أن يزول العذاب عنهم؛ لأنهم مستحقون لذلك، ولأنه لو زال العذاب عنهم؛ لكان هذا راحة لهم، وهم ليسوا أهلا لذلك؛ فهم باستمرار في عذاب إلى يوم القيامة، ولو طالت المدة؛ فقوم نوح الذين أغرقوا ما زالوا يعذبون في هذه النار التي أدخلوا فيها، ويستمر عذابهم إلى يوم القيامة، وكذلك آل فرعون يعرضون على النار غدوا وعشيا.
وذكر بعض العلماء أنه يخفف عن الكفار ما بين النفختين، واستدلوا بقوله تعالى: {قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس:52] ، ولكن هذا ليس بلازم؛ لأن قبورهم مرقد لهم، وإن عذبوا فيها.
أما عصاة المؤمنين الذين يقضي الله تعالى عليهم بالعذاب؛ فهؤلاء قد يدوم عذابهم وقد لا يدوم، وقد يطول وقد لا يطول؛ حسب الذنوب، وحسب عفو الله عز وجل.
والعذاب في القبر أهون من عذاب يوم القيامة؛ لأن العذاب في القبر ليس خزي وعار، لكن في الآخرة فيه الخزي والعار؛ لأن الأشهاد موجودون: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51] .
* فإن قال قائل: لو أن هذا الرجل تمزق أوصالا، وأكلته السباع، وذرته الرياح؛ فكيف يكون عذابه، وكيف يكون سؤاله؟ !
فالجواب: أن الله عز وجل على كل شيء قدير، وهذا أمر غيبي؛ فالله عز وجل قادر على أن يجمع هذه الأشياء في عالم الغيب، وإن كنا نشاهدها في الدنيا متمزقة متباعدة، لكن في عالم الغيب ربما يجمعها الله.(8/487)
فأنظر إلى الملائكة تنزل لقبض روح الإنسان في المكان نفسه؛ كما قال تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ} [الواقعة: 85] ، ومع ذلك لا نبصرهم.
وملك الموت يكلم الروح، ونحن لا نسمع.
وجبريل يتمثل أحيانا للرسول عليه الصلاة والسلام، ويكلمه بالوحي في نفس المكان، والناس لا ينظرون ولا يسمعون.
فعالم الغيب لا يمكن أبدا أن يقاس بعالم الشهادة، وهذه من حكمة الله عز وجل؛ فنفسك التي في جوفك ما تدري كيف تتعلق ببدنك؟! كيف هي موزعة على البدن؟! وكيف تخرج منك عند النوم؟! هل تحس بها عند استيقاظك بأنها ترجع؟! ومن أين تدخل لجسمك؟ !
فعالم الغيب ليس فيه إلا التسليم، ولا يمكن فيه القياس إطلاقا؛ فالله عز وجل قادر على أن يجمع هذه المتفرقات من البدن المتمزق الذي ذرته الرياح، ثم يحصل عليه المساءلة والعذاب أو النعيم؛ لأن الله سبحانه على كل شيء قدير.
* فإن قال قائل: الميت يدفن في قبر ضيق؛ فكيف يوسع له مد البصر؟ !
فالجواب: أن عالم الغيب لا يقاس بعالم الشهادة، بل إننا لو فرض أن أحدا حفر حفرة مد البصر، ودفن فيه الميت، وأطبق عليه التراب؛ فالذي لا يعلم بهذه الحفرة؛ هل يراها أو لا يراها؟ ! لا شك أنه لا يراها؛ مع أن هذا في عالم الحس، ومع ذلك لا يرى هذه السعة، ولا يعلم بها؛ إلا من شاهدها.(8/488)
فإذا قال قائل: نحن نرى الميت الكافر إذا حفرنا قبره بعد يوم أو يومين؛ نرى أضلاعه لم تختلف وتتداخل من الضيق؟ !
فالجواب كما سبق: أن هذا من عالم الغيب، ومن الجائز أن تكون مختلفة؛ فإذا كشف عنها؛ أعادها الله، ورد كل شيء إلى مكانه؛ امتحانا للعباد؛ لأنها لو بقيت مختلفة ونحن قد دفناه وأضلاعه مستقيمة؛ صار الإيمان بذلك إيمان شهادة.
* فإن قال قائل كما قال الفلاسفة: نحن نضع الزئبق على الميت، وهو أسرع الأشياء تحركا ومروقا، وإذا جئنا من الغد؛ وجدنا الزئبق على ما هو عليه، وأنتم تقولون: إن الملائكة يأتون ويجلسون هذا الرجل، والذي يجلس؛ كيف يبقى عليه الزئبق؟ !
فنقول أيضا كما قلنا سابقا: هذه من عالم الغيب، وعلينا الإيمان والتصديق، ومن الجائز أيضا أن الله عز وجل يرد هذا الزئبق إلى مكانه بعد أن تحول بالجلوس.
ونقول أيضا: انظروا إلى الرجل في المنام؛ يرى أشياء لو كان على حسب رؤيته إياها؛ ما بقي في فراشه على السرير، وأحيانا تكون رؤيا حق من الله عز وجل، فتقع كما كان يراها في منامه، ومع ذلك؛ نحن نؤمن بهذا الشيء.
والإنسان إذا رأى في منامه ما يكره؛ أصبح وهو متكدر، وإذا رأى ما يسره؛ أصبح وهو مستبشر؛ كل هذا يدل على أن أمور الروح ليست من الأمور المشاهدة، ولا تقاس أمور الغيب بالمشاهد، ولا ترد النصوص الصحيحة؛ لاستبعادنا ما تدل عليه حسب المشاهد.(8/489)
فصل
إلى أن تقوم القيامة الكبرى فتعاد الأرواح إلى الأجساد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فصل
في القيامة الكبرى
القيامة الكبرى هي التي يقوم فيها الناس من قبورهم لرب العالمين.
* وأفادنا المؤلف رحمه الله بقوله: " القيامة الكبرى ": أن هناك قيامة صغرى، وهي قيامة كل إنسان بعينه؛ فإن كل إنسان له قيامة؛ فمن مات؛ قامت قيامته.
* وسكت المؤلف رحمه الله عن أشراط الساعة؛ فلم يذكرها؛ لأن المؤلف إنما يريد أن يتكلم عن اليوم الآخر، وما أشراط الساعة إلا مجرد علامات وإنذارات لقرب قيام الساعة؛ ليستعد لها من يستعد.
وبعض أهل العلم الذين صنفوا في العقائد ذكروا أشراط الساعة هنا، والحقيقة أنه لا تعلق لها في الإيمان باليوم الآخر، وإن كانت هي من الأمور الغيبية التي أشار الله إليها في القرآن وفصلها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في السنة.
الأمر الأول: مما يكون في القيامة:
ما أشار إليه المؤلف بقوله: " فتعاد الأرواح إلى الأجساد ".
هذا أول الأمور: ويكون بعد النفخة الثانية في الصور، وذلك بعد أن فارقتها بالموت، وهذه غير الإعادة التي تكون في البرزخ حين سؤال الميت عن ربه ودينه ونبيه، وذلك أن الله يأمر إسرافيل فينفخ في الصور، فيصعق من في السماوات والأرض؛ إلا من شاء الله، ثم ينفخ فيه مرة أخرى فتتطاير الأرواح من الصور إلى أجسادها، وتحل فيها.
* وفي قول المؤلف: " إلى الأجساد ": إشارة أن الأرواح لا تخرج من(8/490)
الصور؛ إلا بعد أن تتكامل الأجساد مخلوقة؛ فإذا كملت خلقتها؛ نفخ في الصور، فأعيدت الأرواح إلى أجسادها.
* وفي قوله: " تعاد الأرواح إلى الأجساد ": دليل على أن البعث إعادة وليس تجديدًا، بل هو إعادة لما زال وتحول؛ فإن الجسد يتحول إلى تراب، والعظام تكون رميما؛ يجمع الله تعالى هذا المتفرق، حتى يتكون الجسد، فتعاد الأرواح إلى أجسادها، وأما من زعم بأن الأجساد تخلق من جديد؛ فإن هذا زعم باطل يرده الكتاب والسنة والعقل:
- أما الكتاب؛ فإن الله عز وجل يقول: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:27] ؛ أي: يعيد ذلك الخلق الذي ابتدأه.
وفي الحديث القدسي: «يقول الله تعالى: ليس أول الخلق بأهون علي من إعادته» فالكل على الله هين.
وقال تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء:104] .
وقال تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 15 - 16] .
وقال تعالى: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 78 - 79] .
- وأما السنة؛ فهي كثيرة جدًا في هذا؛ حيث بين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أن الناس يحشرون فيها حفاة عراة غرلا» ؛ فالناس هم الذين يحشرون، وليس سواهم.(8/491)
وتقوم القيامة التي أخبر الله بها في كتابه، وعلى لسان رسوله، وأجمع عليها المسلمون
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فالمهم؛ أن البعث إعادة للأجساد السابقة.
* فإذا قلت: ربما يؤكل الإنسان من قبل السباع، ويتحول جسمه الذي أكله السبع إلى تغذية لهذا الآكل تختلط بدمه ولحمه وعظمه وتخرج في روثه وبوله؛ فما الجواب على ذلك؟
فالجواب: أن الأمر هين على الله؛ يقول: كن! فيكون، ويتخلص هذا الجسم الذي سيبعث من كل هذه الأشياء التي اختلط بها، وقدرة الله عز وجل فوق ما نتصوره؛ فالله على كل شيء قدير.
هذه ثلاثة أنواع من الأدلة: كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإجماع المسلمين:
- فأما كتاب الله تعالى؛ فقد أكد الله تعالى في كتابه هذه القيامة، وذكرها الله عز وجل بأوصاف عظيمة، توجب الخوف والاستعداد لها:
فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 1- 2] .
وقال تعالى: {الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة: 1 - 3] .
وقال تعالى: {الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} [القارعة: 1 - 5] .(8/492)
والأوصاف لها في القرآن كثيرة؛ كلها مروعة مخوفة؛ لأنها عظيمة، وإذا لم نؤمن بها؛ فلن نعمل لها؛ إذ لا يمكن للإنسان أن يعمل لهذا اليوم حتى يؤمن به وحتى يذكر له أوصافه التي توجب العمل لهذا اليوم.
- وأما السنة؛ فالأحاديث في ذكر القيامة كثيرة، بين الرسول عليه الصلاة والسلام بها ما يكون فيها؛ كما سيأتي إن شاء الله في ذكر الحوض والصراط والكتاب وغير ذلك مما بينه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
- وأما الإجماع - وهو النوع الثالث -؛ فقد أجمع المسلمون إجماعا قطعيا على الإيمان بيوم القيامة، ولهذا كان من أنكره؛ فهو كافر؛ إلا إذا كان غريبا عن الإسلام وجاهلا؛ فإنه يعرف؛ فإن أصر على الإنكار بعد ذلك؛ فهو كافر.
- وهناك نوع رابع من الأدلة، وهو الكتب السماوية؛ حيث اتفقت على إثبات اليوم الآخر، ولهذا كان اليهود والنصارى يؤمنون بذلك، وحتى الآن يؤمنون به، ولهذا تسمعونهم يقولون: فلان المرحوم، أو: رحمه الله، أو: ما أشبه ذلك؛ مما يدل على أنهم يؤمنون باليوم الآخر إلى يومنا هذا.
- وثم نوع خامس، وهو العقل، ووجه ذلك أنه لو لم يكن هذا اليوم؛ لكان إيجاد الخلائق عبثًا، والله عز وجل منزه عن العبث؛ فما الحكمة من قوم يُخلقون ويؤمرون ويُنهون ويُلزمون بما يلزمون به ويُندبون إلى ما يُندبون إليه، ثم يموتون، ولا حساب، ولا عقاب؟ !
ولهذا قال الله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 115 - 116] .(8/493)
فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة غرلًا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص:85] .
كيف يفرض القرآن ويفرض العمل به؛ ثم لا يكون هناك معاد؛ نحاسب على ما نفذنا من القرآن الذي فرض علينا؟ ! فصارت أنواع الأدلة على ثبوت اليوم الآخر خمسة.
الأمر الثاني مما يكون في القيامة:
ما أشار إليه بقوله: " فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة غرلًا ".
قوله: " من قبورهم ": هذا بناء على الأغلب وإلا؛ فقد يكون الإنسان غير مدفون.
قوله: " لرب العالمين "؛ يعنى: لأن الله عز وجل يناديهم.
قال الله تعالى: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِي الْمُنَادِي مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} [ق: 41 - 42] ؛ فيقومون لهذا النداء العظيم من قبورهم لربهم عز وجل.
قال الله تبارك وتعالى: {أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 4 - 6] .
قوله: " حفاة عراة غرلا ": " حفاة ": ليس عليهم نعال ولا خفاف؛ يعني: أنه ليس عليهم للرجل.
" عراة ": ليس عليهم لباس للجسد.(8/494)
وتدنو منهم الشمس
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" غرلا ": لم ينقص من خلقهم شيء، والغرل: جمع أغرل، وهو الذي لم يختن؛ أي أن القلفة التي قطعت منه في الدنيا تعود يوم القيامة؛ لأن الله يقول: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء:104] ؛ فيعاد كاملا، لم ينقص منه شيء؛ يعودون على هذا الوصف مختلطين رجالا ونساء.
ولما «حدث النبي عليه الصلاة والسلام بذلك؛ قالت عائشة: يا رسول الله الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟! فقال: " الأمر أشد من أن يهمهم ذلك " (وفي رواية: من أن ينظر بعضهم إلى بعض) » .
فكل إنسان له شأن يغنيه: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 34 - 37] .
لا رجل ينظر إلى امرأة، ولا امرأة تنظر إلى رجل، حتى إن ابنه أو أباه يفر منه؛ خوفًا من أن يطالبه بحقوق له، وإذا كان هذا هو الواقع؛ فإنه لا يمكن أن تنظر المرأة إلى الرجل، ولا الرجل إلى المرأة؛ الأمر أشد وأعظم.
ولكن؛ مع ذلك؛ يكسون بعد هذا، وأول من يكسى إبراهيم عليه الصلاة والسلام؛ كما ثبت ذلك عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الأمر الثالث مما يكون يوم القيامة:
ما أشار إليه بقوله: " وتدنو منهم الشمس ".
* " تدنو ": أي تقرب منهم الشمس، وتقرب منهم مقدار ميل.(8/495)
وهذا الميل سواء كان المسافة أو ميل المكحلة؛ فإنها قريبة، وإذا كانت هذه حرارتها في الدنيا، وبيننا وبينها من البعد شيء عظيم؛ فكيف إذا كانت عن الرؤوس بمقدار ميل؟!
* قد يقول قائل: المعروف الآن أن الشمس لو تدنو بمقدار شعرة عن مستوى خطها؛ لأحرقت الأرض؛ فكيف يمكن أن تكون في ذلك اليوم بهذا المقدار من البعد، ثم لا تحرق الخلق؟
فالجواب على ذلك: أن الناس يحشرون يوم القيامة؛ ليسوا على القوة التي هم عليها الآن، بل هم أقوى وأعظم وأشد تحملا.
ولو أن الناس الآن وقفوا خمسين يوما في شمس لا ظل ولا أكل ولا شرب؛ فلا يمكنهم ذلك، بل يموتون! لكن يوم القيامة يبقون خمسين ألف سنة؛ لا أكل ولا شرب ولا ظل؛ إلا من أظله الله عز وجل، ومع ذلك؛ يشاهدون أهوالا عظيمة؛ فيتحملون.
واعتبر بأهل النار؛ كيف يتحملون هذا التحمل العظيم؛ {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} [النساء:56] .
وبأهل الجنة؛ ينظر الإنسان إلى ملكه مسيرة ألف عام إلى أقصاه؛ كما ينظر إلى أدناه؛ كما روي ذلك عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
* فإن قيل: هل أحد يسلم من الشمس؟
فالجواب: نعم هناك «أناس يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله؛ كما»(8/496)
ويلجمهم العرق
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«أخبر بذلك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إمام عادل، وشاب نشأ في طاعة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا؛ ففاضت عيناه» .
وهناك أيضا أصناف أخرى يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
* وقوله: " لا ظل إلا ظله "؛ يعني: إلا الظل الذي يخلقه، وليس كما توهم بعض الناس أنه ظل ذات الرب عز وجل؛ فإن هذا باطل؛ لأنه يستلزم أن تكون الشمس حينئذ فوق الله عز وجل.
ففي الدنيا؛ نحن نبني الظل لنا، لكن يوم القيامة؛ لا ظل إلا الظل الذي يخلقه سبحانه وتعالى ليستظل به من شاء من عباده.
الأمر الرابع مما يكون يوم القيامة:
ما ذكره المؤلف رحمه الله بقوله: " ويلجمهم العرق ".
" يلجمهم "؛ أي يصل منهم إلى موضع اللجام من الفرس، وهو الفم، ولكن هذه غاية ما يصل إليه العرق، وإلا؛ فبعضهم يصل العرق إلي كعبيه، وإلى ركبتيه، وإلى حقويه، ومنهم من يلجمه؛ فهم يختلفون في هذا العرق، ويعرقون من شدة الحر؛ لأن المقام مقام زحام. وشدة ودنو شمس؛ فيعرق الإنسان مما يحصل في ذلك اليوم؛ لكنهم على حسب أعمالهم.(8/497)
فتنصب الموازين فتوزن بها أعمال العباد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
* فإن قلت: كيف يكون ذلك وهم في مكان واحد؟
* فالجواب: أننا أصلنا قاعدة يجب الرجوع إليها، وهي: أن الأمور الغيبية يجب علينا أن نؤمن بها ونصدق دون أن نقول: كيف؟ ! ولم؟ ! لأنها شيء وراء عقولنا، ولا يمكن أن ندركها أو نحيط بها.
أرأيت لو أن رجلين دفنا في قبر واحد: أحدهما مؤمن، والثاني كافر، فإنه ينال المؤمن من النعيم ما يستحق، وينال الكافر من العذاب ما يستحق، وهما في قبر واحد، وهكذا نقول في العرق يوم القيامة.
* فإن قلت: هل تقول: إن الله سبحانه وتعالى يجمع من يلجمهم العرق في مكان ومن يصل إلى كعبيه في مكان، وإلى ركبتيه في مكان، وإلى حقويه في مكان؟
فالجواب: لا نجزم بهذا، والله أعلم، بل نقول: من الجائز أن يكون الذي يصل العرق إلى كعبه إلى جانب الذي يلجمه العرق، والله على كل شيء قدير، وهذا نظير النور الذي يكون للمؤمنين؛ يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، والكفار في ظلمة؛ فيوم القيامة يجب علينا أن نؤمن به وبما يكون فيه، أما كيف؟ ! ولم؟ ! فهذا ليس إلينا.
الأمر الخامس مما يكون يوم القيامة:
ما ذكره بقوله: " فتنصب الموازين فتوزن بها أعمال العباد ".
والمؤلف يقول: " الموازين ": بالجمع، وقد وردت النصوص بالجمع والإفراد:
فمثال الجمع: قول الله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}(8/498)
[الأنبياء:47] ، وقال تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} [الأعراف: 8 - 9] .
- وأما الإفراد؛ فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم» .
فقال: " في الميزان "؛ فأفرد؛
فكيف نجمع بين الآيات القرآنية وبين هذا الحديث؟ !
فالجواب أن نقول:
إنها جمعت باعتبار الموزون؛ حيث إنه متعدد، وأفردت باعتبار أن الميزان واحد، أو ميزان كل أمة، أو أن المراد بالميزان في قوله عليه الصلاة والسلام: " ثقيلتان في الميزان "؛ أي: في الوزن.
ولكن الذي يظهر - والله أعلم - أن الميزان واحد، وأنه جمع باعتبار الموزون؛ بدليل قوله: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} [الأعراف:8] .
لكن يتوقف الإنسان: هل يكون ميزانا واحدا لجميع الأمم أو لكل أمة ميزان؛ لأن الأمم كما دلت عليه النصوص تختلف باعتبار أجرها؟ !
وقوله: " تنصب الموازين ": ظاهره أنها موازين حسية، وأن الوزن يكون على حسب المعهود بالراجح والمرجوح، وذلك لأن الأصل في(8/499)
الكلمات الواردة في الكتاب والسنة حملها على المعهود المعروف؛ إلا إذا قام دليل على أنها خلاف ذلك، والمعهود المعروف عند المخاطبين منذ نزول القرآن الكريم إلى اليوم أن الميزان حسي، وأن هناك راجح ومرجوح.
وخالف في ذلك جماعة:
فالمعتزلة قالوا: إنه ليس هناك ميزان حسي، ولا حاجة له؛ لأن الله تعالى قد علم أعمال العباد وأحصاها، ولكن المراد بالميزان: الميزان المعنوي الذي هو العدل.
ولا شك أن قول المعتزلة باطل؛ لأنه مخالف لظاهر اللفظ وإجماع السلف، ولأننا إذا قلنا: إن المراد بالميزان: العدل؛ فلا حاجة إلى أن نعبر بالميزان، بل نعبر بالعدل؛ لأنه أحب إلى النفس من كلمة (ميزان) ، ولهذا قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [ (النحل:90] .
وقال بعض العلماء: إن الرجحان للعالي؛ لأنه يحصل فيه العلو، لكن الصواب أن نجري الوزن على ظاهره، ونقول: إن الراجح هو الذي ينزل، ويدل لذلك حديث صاحب البطاقة؛ فإن فيه أن السجلات تطيش وتثقل البطاقة، وهذا واضح؛ بأن الرجحان يكون بالنزول.
* وقوله: " فتوزن بها أعمال العباد ": كلام المؤلف رحمه الله صريح بأن الذي يوزن: العمل.
* وهنا مبحثان:
المبحث الأول: كيف يوزن العمل؛ والعمل وصف قائم بالعامل، وليس جسما فيوزن؟ !(8/500)
والجواب على ذلك: أن يقال: إن الله سبحانه وتعالى يجعل هذه الأعمال أجساما، وليس هذا بغريب على قدرة الله عز وجل، وله نظير، وهو الموت؛ فإنه يجعل على صورة كبش، ويذبح بين الجنة والنار، مع أن الموت معنى، وليس بجسم، وليس الذي يذبح ملك الموت، ولكنه نفس الموت حيث يجعله الله تعالى جسما يشاهد ويرى، كذلك الأعمال يجعلها الله عز وجل أجساما توزن بهذا الميزان الحسي.
المبحث الثاني: صريح كلام المؤلف أن الذي يوزن العمل؛ سواء كان خيرا أم شرا:
وهذا هو ظاهر القرآن؛ كما قال الله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 6 - 8] ؛ فهذا واضح أن الذي يوزن العمل؛ سواء كان خيرا أم شرا.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: «كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان» ، وهذا ظاهر أيضا، بل صريح، في أن الذي يوزن العمل، والنصوص في هذا كثيرة.
ولكن هناك نصوص قد يخالف ظاهرها هذا الحديث:
منها حديث صاحب البطاقة؛ «رجل يؤتى به على رؤوس الخلائق، وتعرض عليه أعماله في سجلات تبلغ تسعة وتسعين سجلا؛ كل سجل»(8/501)
«منها يبلغ مد البصر، فيقر بها، فيقال له: ألك عذر أو حسنة؟ فيقول: لا؛ يا رب! فيقول الله: بلى؛ إن لك عندنا حسنة. فيؤتى ببطاقة صغيرة، فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله. فيقول: يا رب! ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ ! فيقال: إنك لا تظلم. قال: فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة. .» الحديث.
وظاهر هذا أن الذي يوزن صحائف الأعمال.
وهناك نصوص أخرى تدل على أن الذي يوزن العامل؛ مثل: قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 105] ؛ مع أنه قد ينازع في الاستدلال بهذه الآية؛ فيقال: إن معنى قوله: {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} ؛ يعني: قدرا.
ومثل ما «ثبت من حديث ابن مسعود رضي الله عنه؛ أنه كان يجتني سواكا من الأراك، وكان رضي الله عنه دقيق الساقين، جعلت الريح تحركه، فضحك الصحابة رضي الله عنهم، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مم تضحكون؟ " قالوا: من دقة ساقيه. قال: " والذي نفسي بيده؛ لهما في الميزان أثقل من أحد ".»
فصار هاهنا ثلاثة أشياء: العمل، والعامل، والصحائف.
فقال بعض العلماء: إن الجمع بينها أن يقال: إن من الناس من يوزن(8/502)
{فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عمله، ومن الناس من يوزن صحائف عمله، ومن الناس من يوزن هو بنفسه.
وقال بعض العلماء: الجمع بينها أن يقال: إن المراد بوزن العمل أن العمل يوزن وهو في الصحائف، ويبقى وزن صاحب العمل، فيكون لبعض الناس.
ولكن عند التأمل نجد أن أكثر النصوص تدل على أن الذي يوزن هو العمل، ويخص بعض الناس، فتوزن صحائف أعماله، أو يوزن هو نفسه.
وأما ما ورد في حديث ابن مسعود وحديث صاحب البطاقة؛ فقد يكون هذا أمرا يخص الله به من يشاء من عباده.
فَمَنْ: شرطية. وجواب الشرط جملة: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .
وأتت الجملة الجزائية جملة اسمية بصفة الحصر {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ، والجملة الاسمية تفيد الثبوت والاستمرار.
وجاءت باسم الإشارة الدال على البعد فَأُولَئِكَ، ولم يقل: فهم المفلحون: إشارة إلى علو مرتبتهم.
وجاءت بصفة الحصر في قوله: (هُمُ) ، وهو ضمير فصل يفيد الحصر والتوكيد، والفصل بين الخبر والصفة.(8/503)
{وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ}
ـــــــــــــــــــــــــــــ
* والمفلح: هو الذي فاز بمطلوبه ونجا من مرهوبه؛ فحصل له السلامة مما يكره، وحصل له ما يحب.
* والمراد بثقل الموازين رجحان الحسنات على السيئات.
* وقوله: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} : فيه إشكال من جهة العربية؛ فإن مَوَازِينُهُ الضمير فيه مفرد، و {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الضمير فيه جمع.
وجوابه: أن (من) الشرطية صالحة للإفراد والجمع؛ فباعتبار اللفظ يعود الضمير إليها مفردا، وباعتبار المعنى يعود الضمير إليها جمعًا.
وكلما جاءت (من) ؛ فإنه يجوز أن تعيد الضمير إليها بالإفراد أو بالجمع، وهذا كثير في القرآن؛ قال الله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا} [الطلاق:11] ؛ فتجد الآية الكريمة فيها مراعاة اللفظ ثم المعنى ثم اللفظ.
الإشارة هنا للبعد؛ لانحطاط مرتبتهم، لا لعلو مرتبتهم.
قوله: {خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} : الكافر قد خسر نفسه وأهله وماله: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر:15] ، بينما المؤمن العامل للصالحات قد ربح نفسه وأهله وماله وانتفع به.
فهؤلاء الكفار خسروا أنفسهم؛ لأنهم لم يستفيدوا من وجودهم في(8/504)
وتنشر الدواوين وهي صحائف الأعمال.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الدنيا شيئا، بل ما استفادوا إلا الضرر، وخسروا أموالهم؛ لأنهم لم ينتفعوا بها، حتى ما أعطوه للخلق لينتفع به؛ فإنه لا ينفعهم؛ كما قال تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} [التوبة:54] ، وخسروا أهليهم؛ لأنهم في النار؛ فصاحب النار لا يأنس بأهله، بل إنه مغلق عليه في تابوت، ولا يرى أن أحدا أشد منه عذابا.
* والمراد بخفة الموازين: رجحان السيئات على الحسنات، أو فقدان الحسنات بالكلية، إن قلنا بأن الكفار توزن أعمالهم؛ كما هو ظاهر هذه الآية الكريمة وأمثالها وهو أحد القولين لأهل العلم.
* والقول الثاني: أن الكفار لا توزن أعمالهم؛ لقوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 103 - 105] . والله أعلم.
الأمر السادس مما يكون يوم القيامة:
وهو ما ذكره المؤلف بقوله: " وتنشر الدواوين ".
* " وتنشر "؛ أي: تفرق وتفتح لقارئها.
* و" الدواوين ": جمع ديوان، وهو السجل الذي تكتب فيه الأعمال، ومنه دواوين بيت المال، وما أشبه ذلك.
يعني: التي كتبتها الملائكة الموكلون بأعمال بني آدم؛ قال الله تعالى: {كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 9 - 12] .(8/505)
فيكتب هذا العمل، ويكون لازما للإنسان في عنقه؛ فإذا كان يوم القيامة؛ أخرج الله هذا الكتاب.
قال تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 13 - 14] .
قال بعض السلف: لقد أنصفك من جعلك حسيبا على نفسك.
* والكتابة في صحائف الأعمال: إما للحسنات، وإما للسيئات، والذي يكتب من الحسنات ما عمله الإنسان، وما نواه، وما هم به؛ فهذه ثلاثة أشياء:
فأما ما عمله؛ فظاهر أنه يكتب.
وأما ما نواه؛ فإنه يكتب له، لكن يكتب له أجر النية فقط كاملا؛ كما في الحديث الصحيح في قصة «الرجل الذي كان له مال ينفقه في سبيل الخير، فقال الرجل الفقير: لو أن عندي مالا؛ لعملت فيه بعمل فلان؛ قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فهو بنيته؛ فأجرهما سواء ".»
ويدل على أنهما ليسا سواء في الأجر من حيث العمل: «أن فقراء المهاجرين لما أتوا إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقالوا: يا رسول الله! إن أهل الدثور سبقونا. فقال لهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين ". فلما سمع الأغنياء بذلك؛ فعلوا مثله، فرجع الفقراء يشكون»(8/506)
«إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فقال لهم: " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء» ، ولم يقل: إنكم بنيتكم أدركتم عملهم.
ولأن هذا هو العدل؛ فرجل لم يعمل لا يكون كالذي عمل، لكن يكون مثله في أجر النية فقط.
-وأما الهم؛ فينقسم إلى قسمين:
الأول: أن يهم بالشيء ويفعل ما يقدر عليه، منه، ثم يحال بينه وبين إكماله.
فهذا يكتب له الأجر كاملا؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء:100] .
وهذه بشرى لطلبة العلم: إذا نوى الإنسان أنه يطلب العلم وهو يريد أن ينفع الناس بعلمه ويذب عن سنة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وينشر دين الله في الأرض، ثم لم يقدر له ذلك؛ بأن مات مثلا، وهو في طلبه؛ فإنه يكتب له أجر ما نواه وسعى إليه.
بل إن الإنسان إذا كان من عادته العمل، وحيل بينه وبينه لسبب؛ فإنه يكتب له أجره، قال النبي عليه الصلاة والسلام: «إذا مرض العبد أو سافر؛ كتب له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا» .(8/507)
القسم الثاني: أن يهم بالشيء ويتركه مع القدرة عليه؛ فيكتب له به حسنة كاملة؛ لنيته.
وأما السيئات؛ فإنه يكتب على الإنسان ما عمله، ويكتب عليه ما أراده وسعى فيه ولكن عجز عنه، ويكتب عليه ما نواه وتمناه.
فالأول: واضح.
والثاني: يكتب عليه كاملا؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما؛ فالقاتل والمقتول في النار ". قالوا: يا رسول الله! هذا القاتل؛ فما بال المقتول؟! قال: " لأنه كان حريصا على قتل صاحبه» ، ومثله من هم أن يشرب الخمر، ولكن حصل له مانع؛ فهذا يكتب عليه الوزر كاملا؛ لأنه سعى فيه.
والثالث: الذي نواه وتمناه يكتب عليه، لكن بالنية، ومنه الحديث الذي أخبر النبي عليه الصلاة والسلام عن رجل أعطاه الله مالا؛ فكان يتخبط فيه، فقال رجل فقير: لو أن لي مالا؛ لعملت فيه بعمل فلان. قال النبي عليه الصلاة والسلام: «فهو بنيته؛ فوزرهما سواء» .
ولو هم بالسيئة، ولكن تركها؛ فهذا على ثلاثة أقسام:
1 - إن تركها عجزًا؛ فهو كالعامل إذا سعى فيها.(8/508)
فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله أو من وراء ظهره
ـــــــــــــــــــــــــــــ
2 - وإن تركها لله؛ كان مأجورا.
3 - وإن تركها لأن نفسه عزفت عنها، أو لم تطرأ على باله؛ فهذا لا إثم عليه ولا أجر.
والله عز وجل يجزي بالحسنات أكثر من العمل، ولا يجزي بالسيئات إلا مثل العمل؛ قال تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الأنعام: 160] ، وهذا من كرمه عز وجل ومن كون رحمته سبقت غضبه.
* قوله: " فآخذ كتابه بيمينه ": " آخذ ": مبتدأ، وخبره محذوف، والتقدير: فمنهم آخذ.
وجاز الابتداء به وهو نكرة؛ لأنه في مقام التفصيل؛ أي أن الناس ينقسمون؛ فمنهم من يأخذ كتابه بيمينه، وهم المؤمنون، وهذه إشارة إلى أن لليمنى الإكرام، ولذلك يأخذ المؤمن كتابه بها، والكافر يأخذ كتابه بشماله أو من وراء ظهره؛ كما قال المؤلف: " وآخذ كتابه بشماله ".
* وقوله: " أو من وراء ظهره ": "أو" للتنويع، وليست للشك.
فظاهر كلام المؤلف أن الناس يأخذون كتبهم على ثلاثة أوجه: باليمين، وبالشمال، ومن وراء الظهر.
ولكن الظاهر أن هذا الاختلاف اختلاف صفات؛ فالذي يأخذ كتابه من وراء ظهره هو الذي يأخذ كتابه بشماله؛ فيأخذ بالشمال، وتجعل يده من الخلف؛ فكونه يأخذه بالشمال؛ لأنه من أهل الشمال، وكونه من وراء(8/509)
كما قال سبحانه وتعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ظهره؛ لأنه لما استدبر كتاب الله، وولى ظهره إياه في الدنيا؛ صار من العدل أن يجعل كتاب أعماله يوم القيامة خلف ظهره؛ فعلى هذا؛ تخلع اليد الشمال حتى تكون من الخلف. والله أعلم.
{طَائِرَهُ} : أي عمله؛ لأن الإنسان يتشاءم به أو يتفاءل به، ولأن الإنسان يطير به فيعلو أو يطير به فينزل.
* {فِي عُنُقِهِ} ؛ أي: رقبته، وهذا أقوى ما يكون تعلقا بالإنسان؛ حيث يربط في العنق؛ لأنه لا يمكن أن ينفصل إلا إذا هلك الإنسان؛ فهذا يلزم عمله.
* وإذا كان يوم القيامة؛ كان الأمر كما قال الله تعالى: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} ؛ أي: مفتوحا؛ لا يحتاج إلى تعب ولا إلى مشقة في فتحه.
* ويقال له: {اقْرَأْ كِتَابَكَ} وانظر ما كتب عليك فيه.
* {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} : وهذا من تمام العدل والإنصاف: أن يوكل الحساب إلى الإنسان نفسه.
والإنسان العاقل لا بد أن ينظر ماذا كتب في هذا الكتاب الذي سوف يجده يوم القيامة مكتوبا.
ولكن؛ نحن أمامنا باب يمكن أن يقضي على كل السيئات، وهو التوبة، وإذا تاب العبد إلى الله مهما عظم ذنبه؛ فإن الله يتوب عليه،(8/510)
ويحاسب الله الخلائق
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وحتى لو تكرر الذنب منه، وهو يتوب؛ فإن الله يتوب عليه، فما دام الأمر بأيدينا الآن، فعلينا أن نحرص على أن لا يكتب في هذا الكتاب إلا العمل الصالح.
الأمر السابع مما يكون يوم القيامة:
وهو ما ذكره المؤلف بقوله: " ويحاسب الله الخلائق ":
* المحاسبة: إطلاع العباد على أعمالهم يوم القيامة.
وقد دل عليه الكتاب والسنة والإجماع والعقل:
-أما الكتاب؛ فقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق: 7 - 8] ، {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى سَعِيرًا} [الانشقاق: 10 - 12] .
-وأما السنة؛ فقد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام بعدة أحاديث أن الله تعالى يحاسب الخلائق.
-وأما الإجماع؛ فإنه متفق عليه بين الأمة: أن الله تعالى يحاسب الخلائق.
-وأما العقل؛ فواضح؛ لأننا كلفنا بعمل فعلا وتركا وتصديقا، والعقل والحكمة تقتضيان أن من كلف بعمل؛ فإنه يحاسب عليه ويناقش فيه.
* وقول المؤلف: " الخلائق ": جمع خليقة؛ يشمل كل مخلوق.
إلا أنه يستثنى من ذلك من يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب؛ كما(8/511)
ثبت ذلك في " الصحيحين ": «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى أمته ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب، وهم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون» .
وقد روى الإمام أحمد بسند جيد: أن مع كل واحد سبعين ألفا.
فتضرب سبعين ألفا بسبعين ألفا، ويزاد سبعون ألفا. هؤلاء فتضرب سبعين ألفا بسبعين ألفا، ويزداد سبعون ألفا، هؤلاء كلهم يدخلون الجنة لا حساب ولا عذاب.
* وقوله: " الخلائق ": يشمل أيضا الجن؛ لأنهم مكلفون، ولهذا يدخل كافرهم النار بالنص والإجماع؛ كما قال تعالى: {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ} [الأعراف: 38] ، ويدخل مؤمنهم الجنة على قول جمهور أهل العلم، وهو الصحيح؛ كما يدل عليه قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} إلى قوله: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن: 46 - 56] .
* وهل تشمل المحاسبة البهائم؟
أما القصاص؛ فيشمل البهائم؛ لأنه ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام «أنه يقتص للشاة الجلحاء من الشاة القرناء» ، وهذا قصاص، لأنها لا تحاسب حساب تكليف وإلزام؛ لأن البهائم ليس لها ثواب ولا عقاب.(8/512)
ويخلو بعبده المؤمن فيقرره بذنوبه كما وصف ذلك في الكتاب والسنة وأما الكفار؛ فلا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته وسيئاته؛ فإنهم لا حسنات لهم، ولكن تعد أعمالهم فتحصى فيوقفون عليها ويقررون بها ويخزون بها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
/ قوله: " ويخلو بعبده المؤمن فيقرره بذنوبه ":
* هذا صفة حساب المؤمن:
يخلو به الله عز وجل دون أن يطلع عليه أحد، ويقرره بذنوبه؛ أي: يقول له: عملت كذا، وعملت كذا. . . حتى يقر ويعترف، ثم يقول: «سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم» .
ومع ذلك؛ فإنه سبحانه وتعالى يضع عليه ستره؛ بحيث لا يراه أحد، ولا يسمعه أحد، وهذا من فضل الله عز وجل على المؤمن؛ فإن الإنسان إذا قررك بجناياتك أما الناس وإن سمح عنك؛ ففيه شيء من الفضيحة، لكن إذا كان ذلك وحدك؛ فإن ذلك ستر منه عليك.
"ذلك": المشار إليه الحساب؛ يعنى: كما وصف الحساب في الكتاب والسنة، لأن هذا من الأمور الغيبية المتوقفة على الخبر المحض، فوجب الرجوع فيه إلى ما وصف في الكتاب والسنة.
هكذا جاء معناه في حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حينما ذكر حساب الله تعالى لعبده المؤمن، وأنه يخلو به، ويقرره بذنوبه. قال: «وأما الكفار والمنافقون؛ فينادى بهم»(8/513)
«على رؤوس الخلائق: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين» . متفق عليه.
وفي " صحيح مسلم "، عن أبي هريرة رضي الله عنه، في حديث طويل عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «فيلقى العبد، أي: يلقى الله العبد، يعني: المنافق، فيقول: يا فل، أي: يا فلان، ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع؟! فيقول: بلى، قال: فيقول: أظننت أنك ملاقي؟ فيقول: فإني أنساك كما نسيتني، ثم يلقى الثاني فيسأله فيجيب كما أجاب الأول، فيقول الله، فإني أنساك كما نسيتني، ثم يلقى الثالث فيقول له مثل ذلك، فيقول: يا رب آمنت بك وبكتابك وبرسلك وصليت وصمت وتصدقت، ويثني بخير ما استطاع، فيقول: هاهنا إذن، قال: ثم يقال له: الآن نبعث شاهدنا عليك، ويفكر في نفسه من ذا الذي يشهد علي؟ فيختم على فيه، ويقال لفخذه ولحمه وعظامه: انطقي، فتنطق بعمله، وذلك ليعذر من نفسه، وذلك المنافق وذلك الذي يسخط الله عليه» .
تنبيه:
في قول المؤلف رحمه الله محاسبة من توزن حسناته وسيئاته. . إلخ، إشارة إلى أن المراد بالمحاسبة المنفية عنهم هي محاسبة الموازنة بين الحسنات والسيئات، وأما محاسبة التقرير والتقريع فثابتة كما يدل على ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(8/514)
وفي عرصات القيامة: الحوض المورود لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل، آنيته عدد نجوم السماء، طوله شهر، وعرضه شهر، من يشرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبدا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فائدة:
أول ما يحاسب عليه العبد من الأعمال الصلاة، وأول ما يقضي فيه بين الناس الدماء؛ لأن الصلاة أفضل العبادات البدنية، والدماء أعظم ما يعتدى به في حقوق الآدميين.
الأمر الثامن مما يكون يوم القيامة:
وهو ما ذكر المؤلف بقوله: " وفي عرصات القيامة الحوض المورود لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ".
* العرصات: جمع عرصة، وهي المكان المتسع بين البنيان، والمراد به هنا مواقف القيامة.
* والحوض في الأصل: مجمع الماء، والمراد به هنا: حوض النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
* والكلام على الحوض من عدة وجوه:
أولا: هذا الحوض موجود الآن؛ لأنه ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه خطب ذات يوم في أصحابه، وقال: «وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن» .
وأيضا؛ ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام؛ أنه قال: «ومنبري على حوضي» .(8/515)
وهذا يحتمل أنه في هذا المكان، لكن لا نشاهده؛ لأنه غيبي، ويحتمل أن المنبر يوضع يوم القيامة على الحوض.
ثانيا: هذا الحوض يصب فيه ميزابان من الكوثر، وهو النهر العظيم، الذي أعطيه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الجنة؛ ينزلان إلى هذا الحوض.
ثالثا: زمن الحوض قبل العبور على الصراط؛ لأن المقام يقتضي ذلك؛ حيث إن الناس في حاجة إلى الشرب في عرصات القيامة قبل عبور الصراط.
رابعا: يرد هذا الحوض المؤمنون بالله ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، المتبعون لشريعته، وأما من استنكف واستكبر عن اتباع الشريعة؛ فإنه يطرد منه.
خامسًا: في كيفية مائه: فيقول المؤلف رحمه الله: " ماؤه أشد بياضا من اللبن ": هذا في اللون، أما في الطعم؛ فقال: " وأحلى من العسل "، وفي الرائحة أطيب من ريح المسك؛ كما ثبت به الحديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
سادسا: في آنيته: يقول المؤلف: " آنيته عدد نجوم السماء ".
هذا كما ورد في بعض ألفاظ الحديث، وفي بعضها: «آنيته كنجوم السماء» ، وهذا اللفظ أشمل؛ لأنه يكون كالنجوم في العدد وفي الوصف بالنور واللمعان؛ فآنيته كنجوم السماء كثرة وإضاءة.
سابعا: آثار هذا الحوض: قال المؤلف: " من يشرب منه شربة؛ لا يظمأ بعدها أبدا ": حتى على الصراط وبعده.
وهذه من حكمة الله عز وجل؛ لأن الذي يشرب من الشريعة في الدنيا(8/516)
والصراط منصوب على متن جهنم وهو الجسر الذي بين الجنة والنار
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لا يخسر أبدا كذلك.
ثامنا: مساحة هذا الحوض: يقول المؤلف: " طوله شهر وعرضه شهر ": هذا إذًا يقتضي أن يكون مدورا؛ لأنه لا يكون بهذه المساحة من كل جانب؛ إلا إذا كان مدورًا، وهذه المسافة باعتبار ما هو معلوم في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من سير الإبل المعتاد.
تاسعا: يصب في الحوض ميزابان من الكوثر الذي أعطاه الله تعالى محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
عاشرا: هل للأنبياء الآخرين أحواض؟
فالجواب: نعم؛ فإنه جاء في حديث رواه الترمذي - وإن كان فيه مقال: «إن لكل نبي حوضا» .
لكن هذا يؤيده المعنى، وهو أن الله عز وجل بحكمته وعدله كما جعل للنبي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حوضا يرده المؤمنون من أمته؛ كذلك يجعل لكل نبي حوضا، حتى ينتفع المؤمنون بالأنبياء السابقين، ولكن الحوض الأعظم هو حوض النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
الأمر التاسع مما يكون يوم القيامة: الصراط:
وقد ذكره المؤلف بقوله: " والصراط منصوب على متن جهنم، وهو الجسر الذي بين الجنة والنار ".
وقد اختلف العلماء في كيفيته:(8/517)
يمر الناس عليه على قدر أعمالهم: فمنهم من يمر كلمح البصر، ومنهم يمر كالبرق، ومنهم يمر كالريح، ومنهم من يمر كالفرس الجواد، ومنهم من يمر كركاب الإبل، ومنهم من يعدو عدوا، ومنهم من يمشى مشيا، ومنهم من يزحف زحفا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فمنهم من قال: طريق واسع يمر الناس على قدر أعمالهم؛ لأن كلمة الصراط مدلولها اللغوي هو هذا؛ ولأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبر بأنه دحض ومزلة، والدحض والمزلة لا يكونان إلا في طريق واسع، أما الضيق؛ فلا يكون دحضا ومزلة.
ومن العلماء من قال: بل هو صراط دقيق جدا؛ كما جاء في حديث أبي سعيد الخدري الذي رواه مسلم بلاغا، أنه أدق من الشعر، وأحد من السيف.
* على هذا يرد سؤال: وهو كيف يمكن العبور على طريق كهذا؟
والجواب: أن أمور الآخرة لا تقاس بأمور الدنيا؛ فالله تعالى على كل شيء قدير، ولا ندري؛ كيف يعبرون؟ ! هل يجتمعون جميعا في هذا الطريق أو واحد بعد واحد؟
وهذه المسألة لا يكاد الإنسان يجزم بأحد القولين؛ لأن كليهما له وجهة قوية.
* وقوله: " منصوب على متن جهنم "؛ يعنى: على نفس النار.
قوله: " يمر الناس ": المراد بـ (الناس) هنا: المؤمنون؛ لأن الكفار(8/518)
ومنهم من يخطف خطفا فيلقى في جهنم فإن الجسر عليه كلاليب تخطف الناس بأعمالهم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قد ذهب بهم إلى النار.
فيمر الناس عليه على قدر أعمالهم؛ منهم من يمر كلمح البصر، ومنهم من يمر كالبرق، ولمح البصر أسرع من البرق، ومنهم من يمر كالريح؛ أي: الهواء، ولا شك أن الهواء سريع، لا سيما قبل أن يعرف الناس الطائرات، والهواء المعروف يصل أحيانا إلى مئة وأربعين ميلاً في الساعة، ومنهم من يمر كالفرس الجواد، ومنهم ممن يمر كركاب الإبل، وهي دون الفرس الجواد بكثير، ومنهم من يعدو عدوا؛ أي: يسرع، ومنهم من يمشي مشيا، ومنهم من يزحف زحفا؛ أي: يمشي على مقعدته، وكل منهم يريد العبور.
وهذا بغير اختيار الإنسان، ولو كان باختياره؛ لكان يحب أن يكون بسرعة، ولكن السير على حسب سرعته في قبول الشريعة في هذه الدنيا، فمن كان سريعا في قبول ما جاءت به الرسل؛ كان سريعا في عبور الصراط، ومن كان بطيئا في ذلك؛ كان بطيئا في عبور الصراط؛ جزاء وفقا، والجزاء من جنس العمل.
وقوله: " ومنهم من يخطف "؛ أي: يؤخذ بسرعة، وذلك بالكلاليب التي على الجسر؛ تخطف الناس بأعمالهم.
" فيلقى في جهنم ": يفهم منه أن النار يلقى فيها العصاة هي النار التي يلقى فيها الكفار، ولكنها لا تكون بالعذاب كعذاب الكفار، بل قال بعض العلماء: إنها تكون بردًا وسلاما عليهم كما كانت النار بردا وسلاما على إبراهيم، ولكن الظاهر خلاف ذلك، وأنها تكون حارة مؤلمة لكنها ليست كحرارتها بالنسبة للكافرين.(8/519)
فمن مر على الصراط دخل الجنة
فإذا عبروا عليه وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ثم إن أعضاء السجود لا تمسها النار؛ كما ثبت ذلك عن النبي عليه الصلاة والسلام في " الصحيحين "، وهي الجبهة والأنف والكفان والركبتان وأطراف القدمين.
* قوله: " فمن مر على الصراط؛ دخل الجنة "؛ أي: لأنه نجا.
" القنطرة " هي الجسر، لكنها جسر صغير، والجسر في الأصل ممر على الماء من نهر ونحوه.
واختلف العلماء في هذه القنطرة؛ هل هي طرف الجسر الذي على متن جهنم أو هي جسر مستقل؟ !
والصواب في هذا أن نقول: الله أعلم، وليس يعنينا شأنها، لكن الذي يعنينا أن الناس يوقفون عليها.
قوله " فيقتص لبعضهم من بعض ": وهذا القصاص غير القصاص الأول الذي في عرصات القيامة؛ لأن هذا قصاص أخص؛ لأجل أن يذهب الغل والحقد والبغضاء التي في قلوب الناس، فيكون هذا بمنزلة التنقية والتطهير، وذلك لأن ما في القلوب لا يزول بمجرد القصاص.
فهذه القنطرة التي بين الجنة والنار؛ لأجل تنقية ما في القلوب، حتى يدخلوا الجنة وليس في قلوبهم غل، كما قال الله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر: 47] .(8/520)
فإذا هُذبوا ونقُوا؛ أذن لهم في دخول الجنة
وأول من يستفتح باب الجنة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
/ هكذا رواه البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
إذا هذبوا مما في قلوبهم من العداوة والبغضاء ونقوا منها، فإنه يؤذن لهم في دخول الجنة؛ فإذا أذن لهم في الدخول؛ فلا يجدون الباب مفتوحا، ولكن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشفع إلى الله في أن يفتح لهم باب الجنة؛ كما سيأتي في أقسام الشفاعة إن شاء الله.
الأمر العاشر مما يكون يوم القيامة: دخول الجنة:
وأشار إليه المؤلف بقوله: " وأول من يستفتح باب الجنة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ".
ودليله ما ثبت في " صحيح مسلم " أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «أنا أول شفيع في الجنة» ، وفي لفظ: «أنا أول من يقرع باب الجنة» ، وفي لفظ: «آتي باب الجنة يوم القيامة، فأستفتح، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد. فيقول: بك أمرت لا أفتح لأحد من قبلك» .
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فأستفتح "؛ أي: أطلب فتح الباب.
* وهذا من نعمة الله على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فإن الشفاعة الأولى التي يشفعها في عرصات القيامة لإزالة الكروب والهموم والغموم، والشفاعة الثانية لنيل الأفراح والسرور؛ فيكون شافعا للخلق عليه الصلاة والسلام في دفع(8/521)
وأول من يدخل الجنة من الأمم أمته
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ما يضرهم وجلب ما ينفعهم.
* ولا دخول إلى الجنة إلا بعد شفاعة الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأن ذلك ثبت في السنة كما سبق، وأشار إليه الله عز وجل بقوله: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر:73] ؛ فإنه لم يقل: حتى إذا جاؤوها؛ فتحت! وفيه إشارة إلى أن هناك شيئا قبل الفتح، وهو الشفاعة، أما أهل النار؛ فقال فيهم: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 71] ؛ لأنهم يأتونها مهيأة فتبغتهم؛ نعوذ بالله منها.
هذا حق ثابت؛ دليله ما ثبت في " صحيح مسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، ونحن أول من يدخل الجنة» ، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة» .
وهذا يشمل كل مواقف القيامة، وانظر: " حادي الأرواح " لابن القيم.
* تتمة:
أبواب الجنة لم يذكرها المؤلف، لكنها معروفة أنها ثمانية؛ قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر:73] ؛ «وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيمن توضأ وأسبغ الوضوء وتشهد: " إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية؛ يدخل من أيها شاء ".»
وهذه الأبواب كانت ثمانية بحسب الأعمال؛ لأن كل باب له عمال؛(8/522)
وله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في القيامة ثلاث شفاعات
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فأهل الصلاة ينادون من باب الصلاة، وأهل الصدقة، من باب الصدقة، وأهل الجهاد من باب الجهاد، وأهل الصيام من باب الريان.
وقد يوفق الله عز وجل بعض الناس لأعمال صالحة شاملة؛ فيدعى من جميع الأبواب؛ كما في " الصحيحين "عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من أنفق زوجين في سبيل الله؛ نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله! هذا خير. . .» وذكر الحديث، وفيه: «فقال أبو بكر رضي الله عنه: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة؛ فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال: " نعم، وأرجو أن تكون منهم» .
* فإن قلت: إذا كانت الأبواب بحسب الأعمال؛ لزم أن يدعى كل أحد من كل تلك الأبواب إذا عمل بأعمالها؛ فما هو الجواب؟
فالجواب: أن يقال: يدعى من الباب المعين من كان يكثر من العمل المخصص له؛ مثلا: إذا كان هذا الرجل كثير الصلاة؛ فيدعى من باب الصلاة، كثير الصيام من باب الريان، وليس كل إنسان تحصل له الكثرة في كل عمل صالح؛ لأنك تجد في نفسك بعض الأعمال أكثر وأنشط من بعض، لكن قد يمن الله على بعض الناس، فيكون نشيطا قويًّا في جميع الأعمال؛ كما سبق في قصة أبي بكر رضي الله عنه.
الأمر الحادي عشر مما يكون يوم القيامة: الشفاعة:
وقد ذكرها المؤلف بقوله: " وله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في القيامة ثلاث شفاعات ".(8/523)
* " له ": الضمير يعود للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
* والشفاعات: جمع شفاعة، والشفاعة في اللغة: جعل الشيء شفعا. وفي الاصطلاح: التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة، ومناسبتها للاشتقاق ظاهرة؛ لأنك إذا توسطت له؛ صرت معه شفعا تشفعه.
* والشفاعة تنقسم إلى قسمين: شفاعة باطلة، وشفاعة صحيحة.
- فالشفاعة الباطلة: ما يتعلق به المشركون في أصنامهم؛ حيث يعبدونهم ويزعمون أنهم شفعاء لهم عند الله؛ كما قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس:18] ، ويقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] .
لكن هذه الشفاعة باطلة لا تنفع؛ كما قال تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48] .
- والشفاعة الصحيحة ما جمعت شروطا ثلاثة:
الأول: رضي الله عن الشافع.
الثاني: رضاه عن المشفوع له، لكن الشفاعة العظمى في الموقف عامة لجميع الناس من رضي الله عنهم ومن لم يرض عنهم.
الثالث: إذنه في الشفاعة.
والإذن لا يكون إلا بعد الرضى عن الشافع والمشفوع له.
ودليل ذلك قوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26] ، ولم يقل: عن الشافع، ولا: المشفوع له؛ ليكون أشمل.(8/524)
أما الشفاعة الأولى: فيشفع في أهل الموقف حتى يقضى بينهم بعد أن يتراجع الأنبياء: آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى ابن مريم عن الشفاعة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه: 109] .
وقال سبحانه: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28] .
فالآية الأولى تضمنت الشروط الثلاثة، والثانية: تضمنت شرطين، والثالثة تضمنت شرطا واحدا.
* فللنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاث شفاعات:
1 - الشفاعة العظمى.
2 - الشفاعة لأهل الجنة ليدخلوا الجنة.
3 - الشفاعة فيمن استحق النار ألا يدخلها، وفيمن دخلها أن يخرج منها.
قوله: " حتى يقضى بينهم ": (حتى) هذه تعليلية، وليست غائية؛ لأن شفاعة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تنتهي قبل أن يقضى بين الناس؛ فإنه إذا شفع؛ نزل الله عز وجل للقضاء بين عباده وقضى بينهم.
ونظيرها قوله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون:7] ؛ فإن قوله: {حَتَّى يَنْفَضُّوا} : للتعليل؛ أي: من أجل أن ينفضوا، وليست للغاية؛ لأن المعنى يفسد ذلك.
أي: يردها كل واحد منهم إلى الآخر.(8/525)
* شرح هذه الجملة ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون فيم ذلك؟ يجمع الله الناس الأولين والآخرين في صعيد واحد؛ يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، وتدنو منهم الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول الناس: ألا ترون ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعضهم لبعض: عليكم بآدم! فيأتونه، فيقولون له: أنت أبو البشر خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك؛ ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة، فعصيته؛ نفسي نفسي نفسي! اذهبوا إلى نوح! فيأتون نوحا، فيقولون: يا نوح! إنك أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وقد سماك الله عبدا شكورا؛ اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول كما قال آدم في غضب الله، وإنه قد كانت لي دعوة دعوتها على قومي؛ اذهبوا إلى إبراهيم! فيأتون إبراهيم، فيقولون: يا إبراهيم! أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض؛ اشفع لنا إلى ربك؛ ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول كما قال آدم في غضب الله، وإني قد كذبت ثلاث كذبات؛ اذهبوا إلى موسى! فيأتون موسى، فيقولون: يا موسى! أنت رسول الله، فضلك الله برسالته وبكلامه على الناس؛ اشفع لنا إلى ربك؛ ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول كما قال آدم في غضب الله، وإني قد قتلت نفسا لم أومر بقتلها؛ اذهبوا إلى عيسى فيأتون عيسى، فيقولون: يا عيسى! أنت رسول الله وكلمته إلى مريم وروح منه»(8/526)
«وكلمت الناس في المهد صبيا؛ اشفع لنا إلى ربك؛ ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول كما قال آدم في غضب الله، ولم يذكر ذنبا، وكلهم يقول كما قال آدم: نفسي نفسي نفسي! اذهبوا إلى محمد! فيأتون محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيقولون: يا محمد أنت رسول الله، وخاتم الأنبياء، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؛ اشفع لنا إلى ربك؛ ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فأنطلق، فأتى تحت العرش، فأقع ساجدا لربي عز وجل، ثم يفتح الله علي من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه على أحد قبلي، ثم يقال: يا محمد! ارفع رأسك؛ سل تعطه، واشفع تشفع. . .» وذكر تمام الحديث.
* والكذبات الثلاث التي ذكرها إبراهيم عليه السلام فسرت بما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: لم يكذب إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث كذبات؛ اثنين منهن في ذات الله: قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} ، وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} ، وذكر قوله عن امرأته سارة: إنها أختي.
وفي " صحيح مسلم " في حديث الشفاعة السابق أن الثالثة قوله في الكوكب {هَذَا رَبِّي} ، ولم يذكر قصة سارة.
لكن قال ابن حجر في " الفتح ": " الذي يظهر أنها وهم من بعض الرواة "، وعلل لذلك.
وإنما سمى إبراهيم عليه السلام هذه كذبات؛ تواضعا منه؛ لأنها بحسب مراده صدق مطابق للواقع؛ فهي من باب التورية، والله أعلم.(8/527)
حتى تنتهي إليه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أي: إلى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسبق في الحديث ما يكون بعد ذلك.
وهذه الشفاعة العظمى لا تكون لأحد أبدًا إلا للرسول عليه الصلاة والسلام، وهي أعظم الشفاعات؛ لأن فيها إراحة الناس من هذا الموقف العظيم والكرب والغم.
وهؤلاء الرسل الذين ذكروا في حديث الشفاعة كلهم من أولي العزم، وقد ذكرهم الله تعالى في موضعين من القرآن: في سورة الأحزاب، وفي سورة الشورى.
أما في سورة الأحزاب؛ ففي قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الأحزاب:7] .
وأما في سورة الشورى؛ فقوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} [الشورى:13] .
تنبيه:
قوله: " الأنبياء؛ آدم ونوح. . . " إلى آخره: جزم المؤلف رحمه الله بأن آدم نبي، وهو كذلك؛ لأن الله تعالى أوحى إليه بشرع أمره ونهاه.
وروى ابن حبان في " صحيحه ": «أن أبا ذر سأل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: هل كان آدم نبيا؟ قال: " نعم» .
فيكون آدم أول الأنبياء الموحى إليهم، وأما أول الرسل؛ فنوح؛ كما(8/528)
وأما الشفاعة الثانية: فيشفع في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هو صريح في حديث الشفاعة وظاهر القرآن في قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163] ، وقوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [الحديد:26] .
وذلك أن أهل الجنة إذا عبروا الصراط؛ وقفوا على قنطرة، فيقتص لبعضهم من بعض، وهذا القصاص غير القصاص الذي كان في عرصات القيامة، بل هو قصاص أخص، يطهر الله فيه القلوب، ويزيل ما فيها من أحقاد وضغائن؛ فإذا هذبوا ونقوا؛ أذن لهم في دخول الجنة.
ولكنهم إذا أتوا إلى الجنة؛ لا يجدونها مفتوحة كما يجد ذلك أهل النار؛ فلا تفتح الأبواب، حتى يشفع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأهل الجنة أن يدخلوها، فيدخل كل إنسان من باب العمل الذي يكون أكثر اجتهادا فيه من غيره، وإلا؛ فإن المسلم قد يدعى من كل الأبواب.
* وهذه الشفاعة يشير إليها القرآن؛ لأن الله قال في أهل الجنة: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر:73] ، وهذا يدل أن هناك شيئا بين وصولهم إليها وبين فتح الأبواب.
وهو صريح فيما رواه مسلم «عن حذيفة وأبي هريرة رضي الله عنهما، قالا: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يجمع الله تبارك وتعالى الناس، فيقوم المؤمنون حتى تزلف لهم الجنة، فيأتون آدم، فيقولون: يا أبانا! استفتح لنا الجنة. . .» وذكر الحديث، وفيه: «فيأتون محمدا، فيقوم فيؤذن له.» . . " الحديث.(8/529)
وهاتان الشفاعتان خاصتان له
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يعني: الشفاعة في أهل الموقف أن يقضى بينهم، والشفاعة في دخول الجنة.
أي: للنبي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولذلك يعتذر عنهما آدم وأولو العزم من الرسل.
* وهناك أيضا شفاعة ثالثة خاصة بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا تكون لغيره، وهي الشفاعة في عمه أبي طالب، وأبو طالب -كما في " الصحيحين "وغيرهما- مات على الكفر. فأعمام الرسول عليه الصلاة والسلام عشرة، أدرك الإسلام منهم أربعة؛ فبقي اثنان على الكفر وأسلم اثنان:
- فالكافران هما:
أبو لهب: وقد أساء إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إساءة عظيمة، وأنزل الله تعالى فيه وفي امرأته حمالة الحطب سورة كاملة في ذمهما ووعيدهما.
والثاني: أبو طالب، وقد أحسن إلى الرسول عليه الصلاة والسلام إحسانا كبيرا مشهورا، وكان من حكمة الله عز وجل أن بقي على كفره؛ لأنه لولا كفره؛ ما حصل هذا الدفاع عن الرسول عليه الصلاة، بل كان يؤذي كما يؤذى الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن بجاهه العظيم عند قريش وبقائه على دينهم صاروا يعظمونه وصار للنبي عليه الصلاة والسلام جانب من الحماية بذلك.
-واللذان أسلما هما العباس وحمزة، وهو أفضل من العباس، حتى(8/530)
وأما الشفاعة الثالثة؛ فيشفع فيمن استحق النار، وهذه الشفاعة له ولسائر النبيين والصديقين وغيرهم، فيشفع فيمن استحق النار أن لا يدخلها، ويشفع فيمن دخلها أن يخرج منها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لقبه الرسول عليه الصلاة والسلام أسد الله، وقتل شهيدا في أحد رضي الله عنه وأرضاه، وسماه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيد الشهداء.
فأبو طالب أذن الله لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يشفع فيه، مع أنه كافر، فيكون هذا مخصوصا من قوله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48] ، ولكنها شفاعة لم تخرجه من النار، بل كان في ضحضاح من نار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه؛ قال الرسول عليه الصلاة والسلام: «ولولا أنا؛ لكان في الدرك الأسفل من النار» ، وليس هذا من أجل شخصية أبي طالب، لكن من أجل ما حصل من دفاعه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعن أصحابه.
قوله: " وأما الشفاعة الثالثة؛ فيشفع؛ فيمن استحق النار "؛ أي: من عصاة المؤمنين.
وهذه لها صورتان: يشفع فيمن استحق النار أن لا يدخلها، وفيمن دخلها أن يخرج منها.
أما فيمن دخلها أن يخرج منها؛ فالأحاديث في هذا كثيرة جدا، بل متواترة.
وأما فيمن استحقها أن لا يدخلها؛ فهذه قد تستفاد من دعاء الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمؤمنين بالمغفرة والرحمة على جنائزهم؛ فإنه من لازم ذلك أن لا يدخل النار؛ كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «اللهم اغفر لأبي سلمة،»(8/531)
ويخرج الله من النار أقواما بغير شفاعة، بل بفضله ورحمته
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«وارفع درجته في المهديين» . " الحديث.
* لكن هذه شفاعة في الدنيا؛ كما في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «ما من رجل مسلم يموت، فيقوم على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا؛ إلا شفعهم الله فيه» .
* وهذه الشفاعة ينكرها من أهل البدع طائفتان؛ المعتزلة والخوارج؛ لأن المعتزلة والخوارج مذهبهما في فاعل الكبيرة أنه مخلد في نار جهنم، فيرون من زنى كمن أشرك بالله؛ لا تنفعه الشفاعة، ولن يأذن الله لأحد بالشفاعة له.
وقولهم مردود بما تواترت به الأحاديث في ذلك.
* قوله: " وهذه الشفاعة له ولسائر النبيين والصديقين وغيرهم "؛ فيشفع فيمن استحق النار أن لا يدخلها، ويشفع فيمن دخلها أن يخرج منها، يعني: أنها ليست خاصة بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل تكون للنبيين؛ حيث يشفعون في عصاة قومهم، وللصديقين يشفعون في عصاة أقاربهم وغيرهم من المؤمنين، وكذلك تكون لغيرهم من الصالحين، حتى يشفع الرجل في أهله وفي جيرانه وفيما أشبه ذلك.
يعني: أن الله تعالى يخرج من عصاة المؤمنين من شاء بغير شفاعة، وهذا من نعمته؛ فإن رحمته سبقت غضبه، فيشفع الأنبياء والصالحون والملائكة وغيرهم، حتى لا يبقى إلا رحمة أرحم الراحمين،(8/532)
ويبقى في الجنة فضل عمن دخلها من أهل الدنيا فينشئ الله لها أقواما فيدخلهم الجنة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فيخرج من النار من يخرج بدون شفاعة، حتى لا يبقى في النار إلا أهلها الذين هم أصحاب النار، فقد روى الشيخان البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أن الله تعالى يقول؛ شفعت الملائكة، وشفع النبيون؛ وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار، فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط؛ قد عادوا حمما. . . .» الحديث.
الأمر الثاني عشر مما يكون يوم القيامة:
وهو ما ذكره المؤلف بقوله: " ويبقى في الجنة فضل عمن دخلها من أهل الدنيا ".
* الجنة عرضها السماوات والأرض، وهذه الجنة التي عرضها السماوات والأرض يدخلها أهلها، ولكن لا تمتلئ.
وقد تكفل الله عز وجل للجنة وللنار لكل واحدة ملؤها:
" فالنار لا تزال يلقى فيها وهى تقول: هل من مزيد؟ فلا تمتلئ، فيضع الله عز وجل عليها قدمه، فينزوي بعضها إلى بعض، وتقول: قط قط ".
وأما الجنة؛ فينشئ لها أقواما، فيدخلون الجنة بفضل الله ورحمته:
ثبت ذلك في " الصحيحين "من حديث أنس بن مالك رضي الله(8/533)
وأصناف ما تضمنته الدار الآخرة من الحساب والثواب والعقاب والجنة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عنه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهذا مقتضى قوله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54] ، وقول النبي عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربه سبحانه وتعالى: «إن رحمتي سبقت غضبي» .
ولهذا قال المؤلف: " فينشئ الله لها أقواما، فيدخلهم الجنة ".
الأصناف: الأنواع.
سبق معنى الحساب.
الثواب: جزاء الحسنات؛ الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مئة ضعف إلى أضعاف كثيرة.
العقاب: جزاء السيئات، ومن جاء بالسيئة؛ فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون.
الجنة: هي الدار التي أعدها الله تعالى لأوليائه، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وفيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر؛ {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17] ؛ أي: لا تعلم حقيقته وكنهه.
والجنة موجودة الآن؛ لقوله تعالى: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} ، والأحاديث في هذا المعنى متواترة.(8/534)
والنار وتفاصيل ذلك مذكور في الكتب المنزلة من السماء
والآثار من العلم المأثور عن الأنبياء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ولا تزال باقية أبد الآبدين؛ لقوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 108] ، وقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} ؛ في آيات متعددة.
النار: هي الدار التي أعدها الله تعالى لأعدائه، وفيها من أنواع العذاب والعقاب ما لا يطاق.
وهي موجودة الآن؛ لقوله تعالى: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران:131] ، والأحاديث في هذا المعنى مستفيضة مشهورة.
وأهلها خالدون فيها أبدا؛ لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الأحزاب: 64 - 65] .
وقد ذكر الله خلودهم أبدا في ثلاث آيات من القرآن؛ هذه أحدها، والثانية في آخر سورة النساء، والثالثة في سورة الجن، وهي ظاهرة في أن النار لا تزال باقية أبد الآبدين.
يعني: مثل التوراة والإنجيل وصحف إبراهيم وموسى وغيرها من الكتب المنزلة؛ فقد ذكر فيها ذلك مبينًا مفصلا لحاجة الناس، بل ضرورتهم إلى بيانه وتفصيله؛ إذ لا يمكنهم الاستقامة إلا بالإيمان باليوم الآخر الذي يجازي فيه كل عامل بما عمل من خير وشر.
اعلم أن العلم المأثور عن الأنبياء قسمان:
القسم الأول: قسم ثبت بالوحي، وهو ما ذكر في القرآن والسنة الصحيحة، وهذا لا شك في قبوله واعتقاد مدلوله.(8/535)
وفي العلم الموروث عن محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ذلك ما يشفي ويكفي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
القسم الثاني: قسم أتى عن طريق النقل غير الوحي، وهذا هو الذي دخل فيه الكذب والتحريف والتبديل والتغيير.
ولهذا لا بد أن يكون الإنسان حذرا مما ينقل بهذه الطريقة عن الأنبياء السابقين، حتى قال الرسول عليه الصلاة والسلام: «إذا حدثكم أهل الكتاب؛ فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، قولوا: آمنا بما أنزل إلينا وما أنزل إليكم» ؛ لأنك إن صدقت؛ قد تصدق بباطل، وإن كذبته؛ قد تكذب بحق؛ فلا تصدق ولا تكذب؛ قل: إن كان هذا من عند الله؛ فقد آمنت به.
وقد قسم العلماء ما أثر عمن سبق ثلاثة أقسام:
الأول: ما شهد شرعنا بصدقه.
الثاني: ما شهد شرعنا بكذبه.
والحكم في هذين واضح.
الثالث: ما لم يحكم بصدقه ولا كذبه.
فهذا مما يجب فيه التوقف؛ لا يصدق ولا يكذب.
العلم الموروث عن محمد صلوات الله وسلامه عليه سواء في كتاب الله أو في سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه من ذلك ما يشفي ويكفي.
فلا حاجة إلى أن نبحث عن مواعظ ترقق القلوب من غير الكتاب والسنة، بل نحن في غنى عن هذا كله؛ ففي العلم الموروث عن محمد(8/536)
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يشفي ويكفي في كل أبواب العلم والإيمان.
ثم المنسوب إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في باب الوعظ والفضائل ترغيبا أو ترهيبا ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
صحيح مقبول، وضعيف، وموضوع؛ فليس كله صحيحا مقبولا، ونحن في غنى عن الضعيف والموضوع.
فالموضوع اتفق العلماء رحمهم الله على أنه لا يجوز ذكره ونشره بين الناس؛ لا في باب الفضائل والترغيب والترهيب، ولا في غيره؛ إلا من ذكره ليبين حاله.
والضعيف اختلف فيه العلماء، والذين قالوا بجواز نشره ونقله اشترطوا ثلاثة شروط:
الشرط الأول: أن لا يكون الضعف شديدا.
الشرط الثاني: أن يكون أصل العمل الذي رتب عليه الثواب أو العقاب ثابتا بدليل صحيح.
الشرط الثالث: أن لا يعتقد أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاله، بل يكون مترددا غير جازم، لكنه راج في باب الترغيب، خائف في باب الترهيب.
أما صيغة عرضه؛ فلا يقول: قال رسول الله عليه وسلم، بل يقول: روي عن رسول الله، أو ذكر عنه. . . وما أشبه ذلك.
فإن كنت في عوام لا يفرقون بين ذكر وقيل وقال؛ فلا تأت به أبدا؛ لأن العامي يعتقد أن الرسول عليه الصلاة والسلام قاله؛ فما قيل في المحراب؛ فهو عنده الصواب!(8/537)
فمن ابتغاه وجده.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تنبيه:
هذا الباب -أي: باب اليوم الآخر وأشراط الساعة- ذكرت فيه أحاديث كثيرة فيها ضعف وفيها وضع، وأكثر ما تكون هذه في كتب الرقائق والمواعظ؛ فلذلك يجب التحرز منها، وأن تحذر العامة الذين يقع في أيديهم مثل هذه الكتب.
قوله: " فمن ابتغاه "؛ أي: طلبه: " وجده ".
وهذا صحيح؛ فالقرآن بين أيدينا، وكتب الأحاديث بين أيدينا، لكنها تحتاج إلى تنقيح وبيان الصحيح منها والضعيف، حتى يبني الناس ما يعتقدونه في هذا الباب على أساس سليم.(8/538)
فصل
وتؤمن الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة بالقدر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فصل
في الإيمان بالقدر
" الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة ": سبق تعريفها. .
والكلام عنها في أول الكتاب.
- القدر في اللغة؛ بمعنى: التقدير؛ قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] ، وقال تعالى: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} [المرسلات: 23] .
وأما القضاء؛ فهو في اللغة: الحكم.
ولهذا نقول: إن القضاء والقدر متباينان إن اجتمعا، ومترادفان إن تفرقا؛ على حد قول العلماء: هما كلمتان: إن اجتمعتا افترقتا، وإن افترقتا اجتمعتا.
فإذا قيل: هذا قدر الله؛ فهو شامل للقضاء، أما إذا ذكرا جميعا؛ فلكل واحد منهما معنى.
فالتقدير: هو ما قدره الله تعالى في الأول أن يكون في خلقه.
وأما القضاء؛ فهو ما قضى به الله سبحانه وتعالى في خلقه من إيجاد أو إعدام أو تغيير، وعلى هذا يكون التقدير سابقا.
* فإن قال قائل: متى؟ قلنا: إن القضاء هو ما يقضيه الله سبحانه وتعالى في خلقه من إيجاد أو إعدام أو تغيير، وإن القدر سابق عليه إذا(8/539)
اجتمعا؛ فإن هذا يعارض قوله تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2] ؛ فإن هذه الآية ظاهرها أن التقدير بعد الخلق؟
فالجواب على ذلك من أحد وجهين:
إما نقول: إن هذا من باب الترتيب الذكري لا المعنوي، وإنما قدم الخلق على التقدير لتتناسب رؤوس الآيات.
ألم تر أن موسى أفضل من هارون، لكن قدم هارون عليه في سورة طه في قوله تعالى عن السحرة: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} [طه: 70] ؛ لتتناسب رؤوس الآيات.
وهذا لا يدل على أن المتأخر في اللفظ متأخر في الرتبة.
-أو نقول: إن التقدير هنا بمعنى التسوية؛ أي خلقه على قدر معين؛ كقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} [الأعلى: 2] ؛ فيكون التقدير بمعنى التسوية.
وهذا المعنى أقرب من الأول؛ لأنه يطابق تماما لقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} ؛ فلا إشكال.
* والإيمان بالقدر واجب، ومرتبته في الدين أنه أحد أركان الإيمان الستة؛ كما قال النبي عليه الصلاة والسلام لجبريل حين قال: ما الإيمان؟ قال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره» .
* وللإيمان بالقدر فوائد؛ منها:(8/540)
أولا: أنه من تمام الإيمان، ولا يتم الإيمان إلا بذلك.
ثانيا: أنه من تمام الإيمان بالربوبية؛ لأن قدر الله من أفعاله.
ثالثا: رد الإنسان أموره إلى ربه؛ لأنه إذا علم أن كل شيء بقضائه وقدره؛ فإنه سيرجع إلى الله في دفع الضراء ورفعها، ويضيف السراء إلى الله، ويعرف أنها من فضل الله عليه.
رابعا: أن الإنسان يعرف قدر نفسه، ولا يفخر إذا فعل الخير.
خامسا: هون المصائب على العبد؛ لأن الإنسان إذا علم أنها من عند الله؛ هانت عليه المصيبة؛ كما قال تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11] ؛ قال علقمة رحمه الله: " هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله، فيرضى ويسلم ".
سادسا: إضافة النعم إلى مسديها؛ لأنك إذا لم تؤمن بالقدر؛ أضفت النعم إلى من باشر الإنعام، وهذا يوجد كثيرا في الذين يتزلفون إلى الملوك والأمراء والوزراء؛ فإذا أصابوا منهم ما يريدون؛ جعلوا الفضل إليهم، ونسوا فضل الخالق سبحانه.
صحيح أنه يجب على الإنسان أن يشكر الناس؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: «من صنع إليكم معروفا؛ فكافئوه» ، ولكن يعلم أن الأصل كل الأصل هو فضل الله عز وجل جعله على يد هذا الرجل.
سابعا: أن الإنسان يعرف به حكمة الله عز وجل؛ لأنه إذا نظر في هذا الكون وما يحدث فيه من تغييرات باهرة؛ عرف بهذا حكمة الله عز وجل؛(8/541)
خيره وشره
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بخلاف من نسي القضاء والقدر؛ فإنه لا يستفيد هذه الفائدة.
الخير: ما يلائم طبيعة الإنسان؛ بحيث يحصل له به خير أو ارتياح وسرور، وكل ذلك من الله عز وجل.
والشر في القدر: ما لا يلائم طبيعة الإنسان؛ بحيث يحصل له به أذية أو ضرر.
* ولكن؛ إن قيل: كيف يقال: إن في قدر الله شرا؛ وقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الشر ليس إليه» ؟
فالجواب على ذلك أن يقال: الشر في القدر ليس باعتبار تقدير الله له، لكنه باعتبار المقدور له؛ لأن لدينا قدرا هو التقدير ومقدورا؛ كما أن هناك خلقا ومخلوقا وإرادة ومرادا؛ فباعتبار تقدير الله له ليس بشر، بل هو خير، حتى وإن كان لا يلائم الإنسان ويؤذيه ويضره، لكن باعتبار المقدور؛ فنقول: المقدور إما خير وإما شر؛ فالقدر خيره وشره يراد به المقدور خيره وشره.
ونضرب لهذا مثلا في قوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} [الروم:41] .
ففي هذه الآية بين الله عز وجل ما حدث من الفساد وسببه والغاية منه؛ فالفساد شر، وسببه عمل الإنسان السيئ، والغاية منه: {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} .
فكون الفساد يظهر في البر والبحر فيه حكمة؛ فهو نفسه شر، لكن(8/542)
لحكمة عظيمة، بها يكون تقديره خيرا.
كذلك المعاصي والكفر شر، وهو من تقدير الله، لكن لحكمة عظيمة، لولا ذلك لبطلت الشرائع، ولولا ذلك لكان خلق الناس عبثا.
* والإيمان بالقدر خيره وشره لا يتضمن الإيمان بكل مقدور، بل المقدور ينقسم إلى كوني وإلى شرعي:
فالمقدور الكوني؛ إذا قدر الله عليك مكروها؛ فلا بد أن يقع؛ رضيت أم أبيت.
والمقدور الشرعي: قد يفعله الإنسان وقد لا يفعله، ولكن باعتبار الرضى به فيه تفصيل:
إن كان طاعة لله؛ وجب الرضى به، وإن كان معصية؛ وجب سخطه وكراهته والقضاء عليه؛ كما قال الله عز وجل: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104] .
وعلى هذا؛ يجب علينا الإيمان بالمقضي كله؛ من حيث كونه قضاء لله عز وجل، أما من حيث كونه مقضيا؛ فقد نرضى به وقد لا نرضى؛ فلو وقع الكفر من شخص فلا نرضى بالكفر منه، لكن نرضى بكون الله أوقعه.(8/543)
فصل
والإيمان بالقدر على درجتين كل درجة تتضمن شيئين فالدرجة الأولى: الإيمان بأن الله علم ما الخلق عاملون بعلمه القديم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فصل
في درجات الإيمان بالقدر
* إنما قسم المؤلف هذا التقسيم من أجل الخلاف؛ لأن الخلاف في القدر ليس شاملا لكل مراتبه، وباب القدر من أشكال أبواب العلم والدين على الإنسان، وقد كان النزاع فيه من عهد الصحابة رضي الله عنهم، لكنه ليس مشكلا لمن أراد الحق.
* قوله: " فالدرجة الأولى: الإيمان بأن الله علم ما الخلق عاملون ":
ولم يذكر المؤلف أن الله علم ما يفعله هو؛ لأن هذه المسألة ليس فيها خلاف، إنما ذكر ما فيه الخلاف، وهو: هل الله يعلم ما الخلق عاملون أو لا يعلمه إلا بعد وقوعه منهم؟
ومذهب السلف والأئمة أن الله تعالى عالم بذلك.
* القديم في اصطلاحهم: هو الذي لا أول لابتدائه؛ أي أنه لم يزل فيما مضى من الأزمنة التي لا نهاية لها عالما بما يعمله الخلق؛ بخلاف القديم في اللغة؛ فقد يراد به ما كان قديما نسبيا، كما في قوله تعالى: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس:39] ، ومعلوم أن عرجون النخلة ليس بقديم أزلي، بل قديم بالنسبة لما بعده.
* فالله تعالى موصوف بأنه عالم بما الخلق عاملون بعلمه القديم الأزلي،(8/544)
الذي هو موصوف به أزلا وأبدا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الذي لا نهاية لأوله، عالم جل وعلا بأن هذا الإنسان سيعمل كذا في يوم كذا مكان كذا بعلمه القديم الأولى؛ فيجب أن نؤمن بذلك:
* ودليل ذلك من الكتاب والسنة والعقل:
أما الكتاب؛ فما أكثر الآيات التي فيها العموم في علم الله؛ مثل: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282] ، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [النساء:32] {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر:7] ، {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} [الطلاق:12] ... إلى غير ذلك من الآيات التي لا تحصى كثرة.
أما في السنة فإن الرسول عليه الصلاة والسلام أخبر بأن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وبأن ما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن الأقلام قد جفت وطويت الصحف. . . والأحاديث في هذا كثيرة.
وأما العقل؛ فإن من المعلوم بالعقل أن الله تعالى هو الخالق، وأن ما سواه مخلوق، ولا بد عقلا أن يكون الخالق عالما بمخلوقه، وقد أشار الله تعالى إلى ذلك بقوله: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14] .
فالكتاب والسنة والعقل كلها تدل على أن الله تعالى عالم بما الخلق عاملون بعلمه الأولي.
* قوله: " الذي هو موصوف به أزلا وأبدا ": ففي كونه موصوفا به أزلا نفي للجهل، وفي كونه موصوفا به أبدا نفي النسيان.
ولهذا كان علم الله عز وجل غير مسبوق بجهل ولا ملحوق بنسيان؛(8/545)
علم جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال
ثم كتب الله في اللوح المحفوظ مقادير الخلق
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كما قال موسى عليه الصلاة والسلام لفرعون: {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} [طه: 52] ؛ بخلاف علم المخلوق المسبوق بالجهل والملحوق بالنسيان.
إذا؛ يجب علينا أن نؤمن بأن الله عالم بما الخلق عاملون بعلم سابق موصوف به أزلا وأبدا.
* دليل ذلك ما ثبت في " الصحيحين «عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ قال: حدثنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو الصادق المصدوق: " إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه. . . " وذكر أطوار الجنين، وفيه: " ثم يبعث الله ملكًا، فيؤمر بأربع كلمات، ويقال له: اكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد. . .» وذكر تمام الحديث.
فالله عالم بذلك قبل أن يخلق الإنسان.
فطاعتنا معلومة لله، ومعاصينا معلومة لله، وأرزاقنا معلومة له، وآجالنا معلومة له، إذا مات الإنسان بسبب أو بغير سبب معلوم؛ فإنه لله معلوم، ولا يخفى عليه؛ بخلاف علم الإنسان بأجله؛ فإنه لا يعرف أجله؛ فلا يعرف أين يموت، ولا متى يموت، ولا يعرف بأي سبب يموت، ولا يعرف على أي حال يموت؛ نسأل الله تعالى حسن الخاتمة.
وهذا هو الشيء الأول من الدرجة الأولى.
هذا الشيء الثاني من الدرجة الأولى، وهو أن الله كتب في اللوح المحفوظ مقادير الخلق.(8/546)
* اللوح المحفوظ: لا نعرف ماهيته؛ من أي شيء؛ أمن خشب، أم من حديد، أم من ذهب، أم من فضة، أم من زمرد،؟ فالله أعلم بذلك؛ إنما نؤمن بأن هناك لوحا كتب الله فيه مقادير كل شيء، وليس لنا الحق في أن نبحث وراء ذلك، لكن لو جاء في الكتاب والسنة ما يدلنا على شيء؛ فالواجب أن نعتقده.
ووصف بكونه محفوظا؛ لأنه محفوظ من أيدي الخلق؛ فلا يمكن أن يلحق أحد به شيئًا، أو يغير به شيئًا أبدا.
ثانيا: محفوظ من التغيير؛ فالله عز وجل لا يغير فيه شيئًا؛ لأنه كتبه عن علم منه؛ كما سيذكره المؤلف، ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله: " إن المكتوب في اللوح المحفوظ لا يتغير أبدًا "، وإنما يحصل التغيير في الكتب التي بأيدي الملائكة.
* قوله: " مقادير الخلق "؛ أي: مقادير المخلوقات كلها، وظاهر النصوص أنه شمل ما يفعله الإنسان، وما يفعله البهائم، وأنه عام وشامل.
* ولكن؛ هل هذه الكتابة إجمالية أو تفصيلية؟
قد نقول: إننا لا نجزم بأنها تفصيلية أو إجمالية.
فمثلا: القرآن الكريم: هل هو مكتوب في اللوح المحفوظ بهذه الآيات والحروف أو أن المكتوب في اللوح ذكره وأنه سينزل على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنه سيكون نورًا وهدى للناس وما أشبه ذلك؟
ففيه احتمال: إن نظرنا إلى ظاهر النصوص؛ قلنا: إن ظاهرها أن القرآن كله مكتوب جملة وتفصيلا، وإن نظرنا إلى أن الله سبحانه وتعالى يتكلم بالقرآن حين نزوله، قلنا: إن الذي كتب في اللوح المحفوظ ذكر(8/547)
فأول ما خلق الله القلم قال له: أكتب. قال: ما أكتب؟
ـــــــــــــــــــــــــــــ
القرآن، ولا يلزم من كون ذكره في اللوح المحفوظ أن يكون قد كتب فيه؛ كما قال الله تعالى عن القرآن: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء: 196] ؛ يعني: كتب الأولين، ومعلوم أن القرآن لم يوجد نصه في الكتب السابقة، وإنما وجد ذكره، ويمكن أن نقول مثلها في قوله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج: 21: 22] ؛ أي: ذكره في هذا اللوح.
فالمهم أن نؤمن بأن مقادير الخلق مكتوبة في اللوح المحفوظ، وأن هذا اللوح لا يتغير ما كتب فيه؛ لأن الله أمره أن يكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة.
* قوله: «فأول ما خلق الله القلم؛ قال له: أكتب» : فأمره أن يكتب؛ مع أن القلم جماد.
* فكيف يوجه الخطاب إلى الجماد؟ !
والجواب عن ذلك: أن الجماد بالنسبة إلى الله عاقل يصح أن يوجه إليه الخطاب: قال الله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] ؛ فوجه الخطاب إليهما، وذكر جوابهما، وكان الجواب بجمع العقلاء طائعين دون طائعات.
وقال تعالى: {قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69] ؛ فكانت كذلك.
وقال تعالى: {يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} [سبأ:10] ؛ فكانت الجبال تؤوب معه.(8/548)
قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة
فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
* والحاصل أن الله أمر القلم أن يكتب، وقد امتثل القلم، لكنه أشكل عليه ماذا يكتب؛ لأن الأمر مجمل، فقال: " ما أكتب؟ "؛ أي: أي شيء أكتب؟
أي: الله.
* «أكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة» : فكتب القلم بأمر الله ما هو كائن إلى يوم القيامة.
فانظر كيف علم القلم ماذا يكون إلى يوم القيامة، فكتبه؛ لأن أمر الله عز وجل لا يرد.
* وقوله: «ما هو كائن إلى يوم القيامة» : يشمل ما كان من فعل الله تعالى وما كان من أفعال الخلق.
* إذا آمنت بهذه الجملة؛ اطمأننت: ما أصاب الإنسان؛ لم يكن ليخطئه أبدا.
* ومعنى " ما أصاب ": يحتمل أن المعنى: ما قدر أن يصيبه؛ فإنه لن يخطئه، ويحتمل أن ما أصابه بالفعل لا يمكن أن يخطئه، حتى لو تمنى الإنسان، وهما معنيان صحيحان لا يتنافيان.
وما أخطأه لم يكن ليصيبه أي: ما قدر أن يخطئه فإنه لم يكن ليصيبه، أو المعنى: ما أخطأه بالفعل، لأنه معروف أنه غير صائب، ولو تمنى الإنسان، وهما معنيان صحيحان لا يتنافيان.(8/549)
جفت الأقلام وطويت الصحف، كما قال سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}
ـــــــــــــــــــــــــــــ
* " الأقلام ": هي أقلام القدر التي كتب الله بها المقادير؛ جفت وانتهت.
* وطويت الصحف، وهذه كناية عن أن الأمر انتهى.
وفي " صحيح مسلم " «عن جابر رضي الله عنه؛ قال: جاء سراقة بن مالك بن جعشم؛ قال: يا رسول الله! بين لنا ديننا كأننا خلقنا الآن: فيم العمل اليوم؛ أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير؟ أم فيما نستقبل؟ قال: " لا؛ بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير ". قال: ففيم العمل؟ قال: " اعملوا؛ فكل ميسر» .
" كما ": الكاف في مثل هذا التعبير للتعليل.
* {أَلَمْ تَعْلَمْ} : أيها المخاطب.
* {أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} : وهذا عام؛ علم لما فيهما من أعيان وأوصاف وأعمال وأحوال.
{إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} : وهو اللوح المحفوظ.
* {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} : أي: الكتابة على الله أمر يسير.(8/550)
وقال {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} وهذا التقدير التابع لعلمه سبحانه يكون في مواضع جملة وتفصيلا، فقد كتب في اللوح المحفوظ ما شاء، وإذا خلق جسد الجنين قبل نفخ الروح فيه بعث إليه ملكا فيؤمر بأربع كلمات، فيقال له: اكتب، رزقه وعمله وشقي أم سعيد ونحو ذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
{فِي الْأَرْضِ} : كالجدب والزلازل والفيضانات وغيرها.
{وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ} : كالمرض والأوبئة المهلكة وغير ذلك.
{إِلَّا فِي كِتَابٍ} : هو اللوح المحفوظ.
* (نَبْرَأَهَا) أي: من قبل أن نخلقها، والضمير في (نَبْرَأَهَا) : يحتمل أن يعود على المصيبة، ويحتمل أن يعود على الأنفس، ويحتمل أن يعود على الأرض، والكل صحيح؛ فالمصيبة قد كتبت قبل أن يخلقها الله عز وجل، وقبل أن يخلق النفس المصابة، وقبل أن يخلق الأرض.
وفي " صحيح مسلم " عن عبد الله بن عمرو؛ قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة. قال: وكان عرشه على الماء» .
* قوله: " في مواضع "؛ مواضع غير اللوح المحفوظ.
ثم بين هذه المواضع بقوله: «فقد كتب في اللوح المحفوظ ما شاء. وإذا خلق جسد الجنين قبل نفخ الروح فيه؛ بعث إليه ملكا، فيؤمر بأربع كلمات، فيقال له: اكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد ونحو ذلك» .
* فهذان موضعان:
الأول: اللوح المحفوظ، وسبق دليل ذلك(8/551)
فهذا التقدير قد كان ينكره غلاة القدرية قديما ومنكروه اليوم قليل
وأما الدرجة الثانية فهي مشيئة الله النافذة، وقدرته الشاملة، وهو الإيمان بأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه ما في السماوات وما في الأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله سبحانه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وتفصيل القول فيه.
والثاني: الكتابة العمرية التي تكون للجنين في بطن أمه، وسبق دليلها في حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
والوضع الثالث: ما أشار إليه بقوله: " ونحو ذلك "، وهو التقدير الحولي الذي يكون في ليلة القدر، فإن ليلة القدر يكتب فيها ما يكون في تلك السنة؛ كما قال تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [الدخان: 4-5] .
* " هذا التقدير "؛ يعني: العلم والكتابة، وينكره غلاة القدرية قديما، ويقولون: إن الله لا يعلم أفعال العبد إلا بعد وجودها، وأنها لم تكتب، ويقولون: إن الأمر أنف؛ أي: مستأنف، لكن متأخروهم أقروا بالعلم والكتابة، وأنكروا المشيئة والخلق، وهذا بالنسبة لأفعال المخلوقين.
أما بالنسبة لأفعال الله؛ فلا أحد ينكر أن الله عالم بها قبل وقوعها.
وهؤلاء الذين ينكرون علم الله بأفعال العبد حكمهم في الشرع أنهم كفار؛ لأنهم كذبوا قول الله تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:282] ، وغيرها من الآيات، وخالفوا المعلوم بالضرورة من الدين.
* يعني: من درجات الإيمان بالقدر.
* يعني: أن نؤمن بأن مشيئة الله نافذة في كل شيء، سواء كان مما(8/552)
يتعلق بفعله أو يتعلق بأفعال المخلوقين، وأن قدرته شاملة، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر:44] .
وهذه الدرجة تتضمن شيئين؛ المشيئة والخلق:
أما المشيئة؛ فيجب أن نؤمن بأن مشيئة الله تعالى في كل شيء، وأن قدرته شاملة لكل شيء من أفعاله وأفعال المخلوقين.
وأما كونها شاملة لأفعاله؛ فالأمر فيها ظاهر.
وأما كونها شاملة لأفعال المخلوقين فلأن الخلق كلهم ملك لله تعالى، ولا يكون في ملكه إلا ما شاء.
* والدليل على هذا:
قوله تعالى: {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:149] .
وقوله سبحانه: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} [هود:118] .
وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} [البقرة 253] .
فهذه الآيات تدل على أن أفعال العباد متعلقة بمشيئة الله.
وقال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30] .
وهذه تدل على أن مشيئة العبد داخلة تحت مشيئة الله وتابعة لها.(8/553)
لا يكون في ملكه ما لا يريد وأنه سبحانه على كل شيء قدير من الموجودات والمعدومات
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هذه العبارة تحتاج إلى تفصيل: لا يكون في ملكه ما لا يريد بالإرادة الكونية، أما بالإرادة الشرعية؛ فيكون في ملكه ما لا يريد.
وحينئذ؛ نحتاج إلى أن نقسم الإرادة إلى قسمين: إرادة كونية، وإرادة شرعية:
- فالإرادة الكونية بمعنى المشيئة، ومثالها قول نوح عليه السلام لقومه: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود:34] .
- والإرادة الشرعية بمعنى المحبة، مثلها قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء:27] .
وتختلف الإرادتان في موجبهما وفي متعلقهما:
ففي المتعلق: الإرادة الكونية تتعلق فيما وقع، سواء أحبه أم كرهه، والإرادة الشرعية تتعلق فيما أحبه، سواء وقع أم لم يقع.
وفي موجبهما: الإرادة الكونية يتعين فيها وقوع المراد، والإرادة الشرعية لا يتعين فيها وقوع المراد.
وعلى هذا يكون قول المؤلف: " ولا يكون في ملكه ما لا يريد "؛ يعني به: الإرادة الكونية.
* فإن قال قائل: هل المعاصي مرادة لله؟
فالجواب: أما بالإرادة الشرعية؛ فليست مرادة له؛ لأنه لا يحبها، وأما بالإرادة الكونية؛ فهي مرادة سبحانه؛ لأنها واقعة بمشيئته.
كل شيء؛ فالله قادر عليه من الموجودات؛ فيعدمهما أو يغيرها،(8/554)
ومن المعدومات؛ فيوجدها.
فالقدرة تتعلق في الموجود بإيجاده أو إعدامه أو تغييره، وفي المعدوم بإعدامه أو إيجاده.
فمثلا؛ كل موجود؛ فالله قادر أن يعدمه، وقادر أن يغيره؛ أي: ينقله من حال إلى حال، وكل معدوم؛ فالله قادر على أن يوجده؛ مهما كان؛ كما قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:20] .
* ذكر بعض العلماء استثناء من ذلك، وقال: إلا ذاته؛ فليس عليها بقادر! وزعم أن العقل يدل على ذلك.
فنقول: ماذا تريد بأنه غير قادر على ذاته؟
إن أردت أنه غير قادر على أن يعدم نفسه أو يلحقها نقصا؛ فنحن نوافقك على أن الله لا يلحقه النقص أو العدم، لكننا لا نوافقك على أن هذا مما تتعلق به القدرة؛ لأن القدرة إنما تتعلق بالشيء الممكن، أما الشيء الواجب أو المستحيل؛ فهذا لا تتعلق به القدرة أصلا؛ لأن الواجب مستحيل العدم، والمستحيل مستحيل الوجود.
وإن أردت بقولك: إنه غير قادر على ذاته: أنه غير قادر على أنه يفعل ما يشاء؛ فلا يقدر أن يجيء أو نحوه! فهذا خطأ، بل هو قادر على ذلك، وفاعل له، ولو قلنا: إنه ليس بقادر على مثل هذه الأفعال؛ لكان ذلك من أكبر النقص الممتنع على الله سبحانه.
وبهذا علم أن هذا الاستدراك من عموم القدرة في غير محله على كل تقدير.(8/555)
فما من مخلوق في الأرض ولا في السماء إلا الله خالقه سبحانه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
* وإنما نص المؤلف على هذا ردا على القدرية الذين قالوا: إن الله ليس بقادر على فعل العبد!! وإن العبد مستقل بعمله!
ولكن ما في الكتاب والسنة من شمول قدرة الله يرد عليهم.
هذا صحيح بلا شك ولهذا دليل أثري ودليل نظري:
أما الدليل الأثري: فقد قال الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:62] .
وقال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ} [الطور: 35-36] .
فلا يمكن أن يوجد شيء في السماء والأرض إلا الله خالقه وحده.
ولقد تحدى الله العابدين للأصنام تحديا أمرنا أن نستمع له، فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} ، ومعلوم أن الذين يدعون من دون الله في القمة عندهم؛ لأنهم اتخذوا أربابا، فإذا عجز هؤلاء القمة عن أن يخلقوا ذبابا، وهو أخس الأشياء وأهونها؛ فما فوقه من باب أولى، بل قال: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ} [الحج:73] ؛ فيعجزون حتى عن مدافعة الذباب وأخذ حقهم منه.
فإن قيل: كيف يسلب هذه الأصنام شيئا؟ !
فالجواب: قال بعض العلماء: إن هذا على سبيل الفرض؛ يعني: على فرض أن يسلبهم الذباب شيئا؛ لا يستنقذوه منه. وقال بعضهم: بل(8/556)
على سبيل الواقع؛ فيقع الذباب على هذه الأصنام، ويمتص ما فيها من أطياب؛ فلا تستطيع الأصنام أن تخرج ما امتصه الذباب.
وإذا كانت عاجزة عن الدفع عن نفسها، واستنقاذ حقها؛ فهي عن الدفع عن غيرها واستنقاذ حقه أعجز.
والمهم أن الله تعالى خالق كل شيء، وأن لا خالق إلا الله، فيجب الإيمان بعموم خلق الله عز وجل، وأنه خالق كل شيء، حتى أعمال العباد؛ لقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16] ، وعمل الإنسان من الشيء، وقال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2] . . . والآيات في هذا كثيرة.
وفيه آية خاصة في الموضوع، وهو خلق أفعال العباد:
فقال إبراهيم لقومه: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] .
فـ (ما) مصدرية، وتقدير الكلام: خلقكم وعملكم، وهذا نص في أن عمل الإنسان مخلوق لله تعالى.
فإن قيل: ألا يحتمل أن تكون (ما) اسما موصولا، ويكون المعنى: خلقكم وخلق الذي تعملونه؟
فكيف يمكن أن نقول إن الآية دليل على خلق أفعال العباد على هذا التقدير أن [ما] موصولة؟
فالجواب: أنه إذا كان المعمول مخلوقا لله؛ لزم أن يكون عمل الإنسان مخلوقا؛ لأن المعمول كان بعمل الإنسان؛ فالإنسان هو الذي باشر العمل(8/557)
لا خالق غيره
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في المعمول؛ فإذا كان المعمول مخلوقا لله، وهو فعل العبد؛ لزم أن يكون فعل العبد مخلوق، فيكون في الآية دليل على خلق أفعال العباد على كلا الاحتمالين.
وأما الدليل النظري على أن أفعال العبد مخلوقة لله؛ فتقريره أن نقول: إن فعل العبد ناشئ عن أمرين: عزيمة صادقة وقدرة تامة.
مثال ذلك: أردت أن أعمل عملا من الأعمال؛ فلا يوجد هذا العمل حتى يكون مسبوقا بأمرين هما:
أحدهما: العزيمة الصادقة على فعله؛ لأنك لو لم تعزم ما فعلته.
الثاني: القدرة التامة؛ لأنك لو لم تقدر؛ ما فعلته؛ فالذي خلق فيك هذه القدرة هو الله عز وجل، وهو الذي أودع فيك العزيمة، وخالق السبب التام خالق للمسبب.
ووجه ثان نظري: أن نقول: الفعل وصف الفاعل، والوصف تابع للموصوف؛ فكما أن الإنسان بذاته مخلوق لله؛ فأفعاله مخلوقة؛ لأن الصفة تابعة للموصوف.
فتبين بالدليل أن عمل الإنسان مخلوق لله، وداخل في عموم الخلق أثريا ونظريا، والدليل الأثري قسمان عام وخاص، والدليل النظري له وجهان.
* قوله: " لا خالق غيره ":
* إن قلت: هذا الحصر يرد عليه أن هناك خالقا غير الله؛ فالمصور يعد نفسه خالقا، بل جاء في الحديث أنه خالق: " «فإن المصورين يعذبون؛»(8/558)
ولا رب سواه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«يقال لهم: أحيوا ما خلقتم» ، وقال عز وجل: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14] ؛ فهناك خالق، لكن الله تعالى هو أحسن الخالقين؛ فما الجواب عن قول المؤلف؟
الجواب: أن الخلق الذي ننسبه إلى الله عز وجل هو الإيجاد وتبديل الأعيان من عين لأخرى؛ فلا أحد يوجد إلا الله عز وجل، ولا أحد يبدل عينا إلى عين؛ إلا الله عز وجل، وما قيل: إنه خلق؛ بالنسبة للمخلوق؛ فهو عبارة عن تحويل شيء من صفة إلى صفة؛ فالخشبة مثلا بدلا من أن كانت في الشجرة، تحول بالنجارة إلى باب، فتحويلها إلى باب يسمى خلقا، لكنه ليس الخلق الذي يختص به الخالق، وهو الإيجاد من العدم، أو تبديل العين من عين إلى أخرى.
* أي: أن الله وحده هو الرب المدبر لجميع الأمور، وهذا حصر حقيقي.
* ولكن ربما يرد عليه أنه جاء في الأحاديث إثبات الربوبية لغير الله:
ففي لقطة الإبل قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دعها؛ معها سقاؤها وحذاؤها، ترد الماء وتأكل الشجر، حتى يجدها ربها» ، وربها: صاحبها.
وجاء في بعض ألفاظ حديث جبريل؛ يقول: «حتى تلد الأمة ربها» .
فما هو الجمع بين هذا وبين قول المؤلف: " لا رب سواه "؟(8/559)
ومع ذلك فقد أمر العباد بطاعته وطاعة رسله، ونهاهم عن معصيته
وهو سبحانه يحب المتقين والمحسنين والمقسطين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
نقول: إن ربوبية الله عامة كاملة؛ كل شيء؛ فالله ربه، لا يسأل عما يفعل في خلقه؛ لأن فعله كله رحمة وحكمة، ولهذا يقدر الله عز وجل الجدب والمرض والموت والجروح في الإنسان وفي الحيوان، ونقول: هذا غاية الكمال والحكمة. أما ربوبية المخلوق للمخلوق؛ فربوبية ناقصة قاصرة، لا تتجاوز محلها، ولا يتصرف فيها الإنسان تصرفا تاما، بل تصرفه مقيد: إما بالشرع، وإما بالعرف.
* يعني: ومع عموم خلقه وربوبيته لم يترك العباد هملا، ولم يرفع عنهم الاختيار، بل أمرهم بطاعته وطاعة رسله، ونهاهم عن معصيته.
وأمره بذلك أمر يمكن؛ فالمأمور مخلوق لله عز وجل، وفعله مخلوق لله، ومع ذلك؛ يؤمر وينهى.
ولو كان الإنسان مجبرا على عمله؛ لكان أمره أمرا بغيره ممكن، والله عز وجل يقول: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] ، ويقول تعالى {لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الأنعام:152] ، وهذا يدل على أنهم قادرون على فعل الطاعة، وعلى تجنب المعصية، وأنهم غير مكرهين على ذلك.
يعني أن الله عز وجل يحب المحسنين؛ لقوله تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195] ، والمتقين؛ لقوله: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:7] والمقسطين؛ لقوله:(8/560)
ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا يحب الكافرين
ولا يرضى عن القوم الفاسقين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
{وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات:9] .
فهو عز وجل يحب هؤلاء، ومع ذلك هو الذي قدر لهم هذا العمل الذي يحبه، فكان فعلهم محبوبا إلى الله مرادا له كونا وشرعا؛ فالمحسن قام بالواجب والمندوب، والمتقي قام بالواجب، والمقسط اتقى الجور في المعاملة.
الدليل قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100] ، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة: 7-8] .
* قوله: " ولا يحب " الله عز وجل " الكافرين ".
والدليل قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:32] .
مع أن الكفر واقع بمشيئته، لكن لا يلزم من وقوعه بمشيئته، أن يكون محبوبا له سبحانه وتعالى.
الدليل قوله تعالى: {فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:96] .
* والفاسق -وهو الخارج عن طاعة الله- قد يراد به الكافر، وقد يراد به العاصي.(8/561)
ولا يأمر بالفحشاء ولا يرضى لعباده الكفر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ففي قوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [السجدة: 18 - 20] فالمراد بالفاسق الكافر.
وأما قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] ؛ فالمراد بالفاسق العاصي.
* فالله عز وجل لا يرضى عن القوم الفاسقين، لا هؤلاء ولا هؤلاء، لكن الفاسقين بمعنى الكافرين لا يرضى عنهم مطلقا، وأما الفاسقون بمعنى العصاة؛ فلا يرضى عنهم فيما فسقوا فيه، ويرضى عنهم فيما أطاعوا فيه.
الدليل قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} ؛ لأنهم إذا فعلوا فاحشة: {قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} ؛ فاحتجوا بأمرين، فقال تعالى: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} ، وسكت عن قولهم: {وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا} ؛ لأنه حق لا ينكر، لكن {وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} كذب، ولهذا كذبهم وأمر نبيه أن يقول: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} [الأعراف: 28] ، ولم يقل: ولم يجدوا عليها آباءهم؛ لأنهم قد وجدوا عليها آباءهم.
* لقوله تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7] ، لكن يقدر أن يكفروا، ولا يلزم من تقديره الكفر أن يكون راضيا به سبحانه وتعالى، بل يقدره وهو يكرهه ويسخطه.(8/562)
ولا يحب الفساد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
دليل ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205] .
* كرر المؤلف مثل هذه العبارات ليبين أنه لا يلزم من إرادته الشيء أن يكون محبوبا له، ولا يلزم من كراهته للشيء أن لا يكون مرادا بالإرادة الكونية، بل هو عز وجل يكره الشيء ويريده بالإرادة الكونية، ويوقع الشيء ولا يرضى عنه، ولا يريده بالإرادة الشرعية.
* فإن قلت: كيف يوقع ما لا يرضاه وما لا يحبه؟ ! وهل أحد يكرهه على أن يوقع ما لا يحبه ولا يرضاه؟ !
فالجواب: لا أحد يكرهه على أن يوقع ما لا يحبه ولا يرضاه، وهذا الذي يقع من فعله عز وجل وهو مكروه له، هو مكروه له من وجه، محبوب له من وجه آخر؛ لما يترتب عليه من المصالح العظيمة.
فمثلا؛ الإيمان محبوب لله، والكفر مكروه له، فأوقع الكفر وهو مكروه له؛ لمصالح عظيمة؛ لأنه لولا وجود الكفر؛ ما عرف الإيمان، ولولا وجود الكفر؛ ما عرف الإنسان قدر نعمة الله عليه بالإيمان، ولولا وجود الكفر؛ ما قام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الناس كلهم يكونون على المعروف، ولولا وجود الكفر؛ ما قام الجهاد، ولولا وجود الكفر لكان خلق النار عبثا؛ لأن النار مثوى الكافرين، ولولا وجود الكفر؛ لكان الناس أمة واحدة، ولم يعرفوا معروفا ولم ينكروا منكرا، وهذا لا شك أنه مخل بالمجتمع الإنساني، لولا وجود الكفر؛ ما عرفت ولاية الله؛ لأن من ولاية الله أن تبغض أعداء الله وأن تحب أولياء الله.
وكذلك يقال في الصحة والمرض؛ فالصحة محبوبة للإنسان؛ وملائمة(8/563)
والعباد فاعلون حقيقة، والله خالق أفعالهم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
له، ورحمة الله تعالى فيها ظاهرة، لكن المرض مكروه للإنسان، وقد يكون عقوبة من الله له، ومع ذلك يوقعه؛ لما في ذلك من المصالح العظيمة.
كم من إنسان إذا أسبغ الله عليه النعمة بالبدن والمال والولد والبيت والمركوب؛ ترفع ورأى أنه مستغن بما أنعم الله به عليه عن طاعة الله عز وجل؛ كما قال تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6-7] ، وهذه مفسدة عظيمة؛ فإذا أراد الله أن يرد هذا الإنسان إلى مكانه؛ ابتلاه، حتى يرجع إلى الله، وشاهد هذا قوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41] .
وأنت أيها الإنسان إذا فكرت هذا التفكير الصحيح في تقديرات الله عز وجل؛ عرفت ما له سبحانه وتعالى من الحكمة فيما يقدره من خير أو شر، وأن الله سبحانه وتعالى يخلق ما يكرهه ويقدر ما يكرهه لمصالح عظيمة؛ قد تحيط بها، وقد لا تحيط بها ويحيط بها غيرك، وقد لا يحيط بها لا أنت ولا غيرك.
* فإن قيل: كيف يكون الشيء مكروها لله ومرادا له؟
فالجواب: أنه لا غرابة في ذلك؛ فها هو الدواء المر طعما، الخبيث رائحة يتناوله المريض وهو مرتاح؛ لما يترتب عليه من مصلحة الشفاء، وهاهو الأب يمسك بابنه المريض ليكويه الطبيب، وربما كواه هو بنفسه، مع أنه يكره أشد الكره أن يحرق ابنه بالنار.
هذا صحيح؛ فالعبد هو المباشر لفعله حقيقة، والله خالق فعله حقيقة، وهذه عقيدة أهل السنة، وقد سبق تقريرها بالأدلة.(8/564)
والعبد هو المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والمصلي والصائم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
* وخالفهم في هذا الأصل طائفتان:
الطائفة الأولى: القدرية من المعتزلة وغيرهم؛ قالوا إن العباد فاعلون حقيقة، والله لم يخلق أفعالهم.
الطائفة الثانية: الجبرية من الجهمية وغيرهم؛ قالوا: إن الله خالق أفعالهم، وليسوا فاعلين حقيقة، لكن أضيف الفعل إليهم من باب التجوز، وإلا فالفاعل حقيقة هو الله.
وهذا القول يؤدي إلى القول بوحدة الوجود، وأن الخالق هو الله، ثم يؤدي إلى قول من أبطل الباطل؛ لأن العباد منهم الزاني ومنهم السارق ومنهم شارب الخمر ومنهم المعتدى بالظلم؛ فحاشا أن تكون هذه الأفعال منسوبة إلى الله!! وله لوازم باطلة أخرى.
* وبهذا تبين أن في قول المؤلف: " والعباد فاعلون حقيقة، والله خالق أفعالهم ": ردا على الجبرية والقدرية.
* يعني: أن الوصف بالإيمان والكفر والبر والفجور والصلاة والصيام وصف للعبد، لا لغيره؛ فهو المؤمن، وهو الكافر، وهو البار، وهو الفاجر، وهو المصلي، وهو الصائم. . . وكذلك هو المزكي، وهو الحاج، وهو المعتمر. . . وهكذا، ولا يمكن أن يوصف بما ليس من فعله حقيقة.
* وهذه الجملة تتضمن الرد على الجبرية.
* والمراد بالعبودية هنا العبودية العامة؛ لأن العبودية نوعان: عامة وخاصة:(8/565)
وللعباد قدرة على أعمالهم، ولهم إرادة، والله خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فالعامة: هي الخضوع لأمر الله الكوني؛ كقوله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93] .
والعبودية الخاصة: هي الخضوع لأمر الله الشرعي، وهي خاصة بالمؤمنين، كقوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان:63] ، وقوله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان:1] ، وهذه أخص من الأولى.
* قوله: " وللعباد قدرة على أعمالهم ولهم إرادة "؛ خلافا للجبرية القائلين بأنهم لا قدرة لهم ولا إرادة، بل هم مجبرون عليها.
* قوله: " والله خالقهم وخالق إرادتهم وقدرتهم "؛ خلافا للقدرية القائلين بأن الله ليس خالقا لفعل العبد ولا لإرادته وقدرته.
* وكان المؤلف يشير بهذه العبارة إلى وجه كون فعل العبد مخلوقا لله تعالى؛ بأن فعله صادر عن قدرة وإرادة، وخالق القدرة والإرادة هو الله؛ وما صدر عن مخلوق، فهو مخلوق.
ويشير بها أيضا إلى كون فعل العبد اختيارا لا إجباريا؛ لأنه صادر عن قدرة وإرادة؛ فلولا القدرة والإرادة؛ لم يصدر منه الفعل، ولولا الإرادة؛ لم يصدر منه الفعل، ولو كان الفعل إجباريا، ما كان من شرطه القدرة والإرادة.(8/566)
كما قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} وهذه الدرجة من القدر يكذب بها عامة القدرية الذين سماهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مجوس هذه الأمة ويغلو فيها قوم من أهل الإثبات حتى سلبوا العبد قدرته واختياره.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ثم استدل المؤلف لذلك، فقال: " كما قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير 28-29] .
* فقوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} : فيها رد على الجبرية.
* وفي قوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} : رد على القدرية.
أي: درجة المشيئة والخلق.
أي: أكثرهم يكذبون بهذه الدرجة، ويقولون: إن الإنسان مستقل بعمله، وليس لله فيه مشيئة ولا خلق.
لأن المجوس يقولون: إن للحوادث خالقين: خالقا للخير، وخالقا للشر! فخالق الخير هو النور، وخالق الشر هو الظلمة؛ فالقدرية يشبهون هؤلاء المجوس من وجه؛ لأنهم يقولون: إن الحوادث نوعان: حوادث من فعل الله؛ فهذه خلق الله، وحوادث من فعل العباد؛ فهذه للعباد استقلالا، وليس لله تعالى فيها خلق.
أي: في هذه الدرجة.
أي: إثبات القدر.
* وهؤلاء القوم هم الجبرية؛ حيث إنهم سلبوا العبد قدرته واختياره، وقالوا: إنه مجبر على علمه؛ لأنه مكتوب عليه.(8/567)
ويخرجون عن أفعال الله وأحكامه حكمها ومصالحها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
* قوله: " ويخرجون عن أفعال الله وأحكامه حكمها ومصالحها ":
" يخرجون ": معطوفة على قوله: " يغلو ".
* ووجه كونهم يخرجون الحكم والمصالح عن أفعال الله وأحكامه: أنهم لا يثبتون لله حكمة أو مصلحة؛ فهو يفعل ويحكم لمجرد مشيئته، ولهذا يثيب المطيع، وإن كان مجبرا على الفعل، ويعاقب العاصي، وإن كان مجبرا على الفعل.
ومن المعلوم أن المجبر لا يستحق الحمد على محمود، ولا الذم على مذموم؛ لأنه بغير اختياره.
* وهنا مسألة يحتج بها كثير العصاة: إذا أنكرت عليه المنكر؛ قال: هذا هو ما قدره الله علي؛ أتعترض على الله؟ ! فيحتج بالقدر على معاصي الله، ويقول: أنا عبد مسير! ثم يحتج أيضا بحديث: «" تحاج آدم وموسى، فقال له موسى: أنت أبونا، خيبتنا وأخرجتنا من الجنة؟ ! فقال له آدم: أنت موسى اصطفاك الله بكلامه، وكتب لك التوراة بيده! أتلومني على أمر قدره علي قبل يخلقني بأربعين سنة؟ ! . قال النبي عليه الصلاة والسلام: " فحج آدم موسى "؛ قالها ثلاثا» . وعند أحمد: «فحجه آدم» . وهي صريحة في أن آدم غلب موسى بالحجة.
قال: فهذا آدم لما اعترض عليه موسى؛ احتج عليه بالقدر، وآدم نبي، وموسى رسول، فسكت موسى؛ فلماذا تحتج عليَّ؟(8/568)
والجواب على حديث آدم:
أما على رأي القدرية؛ فإن طريقتهم أن أخبار الآحاد لا توجب اليقين؛ قالوا: وإذا عارضت العقل؛ وجب أن ترد وبناء على ذلك قالوا: هذا لا يصح ولا نقبله ولا نسلم به.
وأما الجبرية؛ فقالوا: إن هذا هو الدليل، ودلالته حق، ولا يلام العبد على ما قدر عليه.
أما أهل السنة والجماعة؛ فقالوا: إن آدم عليه الصلاة والسلام فعل الذنب، وصار ذنبه سببا لخروجه من الجنة، لكنه تاب من الذنب، وبعد توبته اجتباه الله وتاب عليه وهداه، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، ومن المحال أن موسى عليه الصلاة والسلام -وهو أحد أولي العزم من الرسل- يلوم أباه على شيء تاب منه ثم اجتباه الله بعده وتاب عليه وهداه، وإنما اللوم على المصيبة التي حصلت بفعله، وهي إخراج الناس ونفسه من الجنة؛ فإن سبب هذا الإخراج هو معصية آدم؛ على أن آدم عليه الصلاة والسلام لا شك أنه لم يفعل هذا ليخرج من الجنة حتى يلام؛ فكيف يلومه موسى؟ !
وهذا وجه ظاهر في أن موسى عليه السلام لم يرد لوم آدم على فعل المعصية، إنما على المصيبة التي هي من قدر الله، وحينئذ يتبين أنه لا حجة بهذا الحديث للجبرية.
فنحن نقبله ولا ننكره كما فعل القدري، ولكننا لا نحتج به على المعصية؛ كما فعل الجبري.(8/569)
وهناك جواب آخر أشار إليه ابن القيم رحمه الله، وقال: الإنسان إذا فعل المعصية واحتج بالقدر عليها بعد التوبة منها؛ فلا بأس به.
ومعناه: أنه لو لامك أحد على فعل المعصية بعد أن تبت منها، وقلت: هذا بقضاء الله وقدره، وأستغفر الله وأتوب إليه. . . . وما أشبه ذلك؛ فإنه لا حرج عليك في هذا.
فآدم احتج بالقدر بعد أن تاب منه، وهذا لا شك أنه وجه حسن، لكن يبعده أن موسى لا يمكن أن يلوم آدم على معصية تاب منها.
ورجح ابن القيم قوله هذا بما «جرى للنبي عليه الصلاة والسلام حين طرق عليا وفاطمة رضي الله عنهما ليلة، فقال: " ألا تصليان؟ ". فقال علي رضي الله عنه: يا رسول الله! أنفسنا بيد الله؛ فإذا شاء أن يبعثنا؛ بعثنا. فانصرف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يضرب فخذه وهو يقول: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف: 54] » .
وعندي أن في الاستدلال بهذا الحديث نظرا، لأن عليا رضي الله عنه احتج بالقدر على نومه، والإنسان النائم له أن يحتج بالقدر؛ لأن فعله لا ينسب إليه، ولهذا قال الله تعالى في أصحاب الكهف: {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} [الكهف:18] ، فنسب التقليب إليه، مع أنهم هم الذين يتقلبون، لكن لما كان بغير إرادة منهم، لم يضفه إليهم.
والوجه الأول في الجواب عن حديث آدم وموسى -وهو ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية - هو الصواب.
* فإذا؛ لا حجة للجبري بهذا الحديث، ولا للعصاة الذين يحتجون(8/570)
بهذا الحديث لاحتجاجهم بالقدر.
فنقول له: إن احتجاجك بالقدر على المعاصي يبطله السمع والعقل والواقع:
فأما السمع؛ فقد قال الله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا} [الأنعام:148] ؛ قالوا ذلك احتجاجا بالقدر على المعصية، فقال الله تعالى: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} ؛ يعنى: كذبوا الرسل واحتجوا بالقدر {حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا} ، وهذا يدل على أن حجتهم باطلة؛ إذ لو كانت حجة مقبولة، ما ذاقوا بأس الله.
ودليل سمعي آخر: قال الله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء:163] إلى قوله: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165] ، ووجه الدلالة من هذه الآية أنه لو كان القدر حجة؛ ما بطلت بإرسال الرسل، وذلك لأن القدر لا يبطل بإرسال الرسل، بل هو باق.
فإذا قال قائل: يرد عليك في الدليل الأول قول الله تبارك وتعالى في سورة الأنعام: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} [الأنعام: 106- 107] ؛ فهناك قال الله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} ؛ فنقول: إن قول الإنسان عن الكفار: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} : قول صحيح وجائز، لكن قول المشرك: {مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام: 148] ؛ يريد أن يحتج بالقدر على المعصية قول باطل، والله عز وجل إنما قال لرسوله هكذا تسلية له وبيانا أن ما وقع فهو بمشيئة الله.(8/571)
وأما الدليل العقلي على بطلان احتجاج العاصي بالقدر على معصية الله أن نقول له: ما الذي أعلمك بأن الله قدر لك أن تعصيه قبل أن تعصيه؟ فنحن جميعا لا نعلم ما قدر الله إلا بعد أن يقع؛ أما قبل أن يقع، فلا ندري ماذا يراد بنا؛ فنقول للعاصي: هل عندك علم قبل أن تمارس المعصية أن الله قدر لك المعصية؟ سيقول: لا. فنقول: إذا؛ لماذا لم تقدر أن الله قدر لك الطاعة وتطع الله؛ فالباب أمامك مفتوح، فلماذا لم تدخل من الباب الذي تراه مصلحة لك؛ لأنك لا تعلم ما قدر لك. واحتجاج الإنسان بحجة على أمر فعله قبل أن تتقدم حجته على فعله احتجاج باطل؛ لأن الحجة لا بد أن تكون طريقا يمشي به الإنسان؛ إذ أن الدليل يتقدم المدلول.
ونقول له أيضا: ألست لو ذكر لك أن لمكة طريقين أحدهما طريق معبد آمن، والثاني طريق صعب مخوف؛ ألست تسلك الآمن؟ سيقول: بلى. فنقول: إذا؛ لماذا تسلك في عبادتك الطريق المخوف المحفوف بالأخطار، وتدع الطريق الآمن الذي تكفل الله تعالى بالأمن لمن سلكه؛ فقال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ} [الأنعام:82] ، وهذه حجة واضحة.
ونقول له: لو أعلنت الحكومة عن وظيفتين: إحداهما بالمرتبة العالية، والثانية بالمرتبة السفلى؛ فأيهما تريد؟ بلا شك سيريد المرتبة العالية، وهذا يدل على أنك تأخذ بالأكمل في أمور دنياك؛ فلماذا لم تأخذ بالأكمل في أمور دينك؟ ! وهل هذا إلا تناقض منك؟ !
وبهذا يتبين أنه لا وجه أبدا لاحتجاج العاصي بالقدر على معصية الله عز وجل.(8/572)
فصل
ومن أصول أهل السنة والجماعة أن الدين والإيمان
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فصل
في الإيمان
* " الدين ": هو ما يدان به الإنسان، أو يدين به؛ فيطلق على العمل ويطلق على الجزاء:
ففي قوله تعالى: {ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 18، 19] ؛ فالمراد بالدين في هذه الآية: الجزاء.
وفي قوله تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة:3] ؛ أي: عملا تتقربون به إلى الله.
ويقال: كما تدين تدان؛ أي: كما تعمل تجازى.
والمراد بالدين في كلام المؤلف: العمل.
* " الإيمان "؛ أكثر أهل العلم يقولون: إن الإيمان في اللغة التصديق.
ولكن في هذا نظر؛ لأن الكلمة إذا كانت بمعنى الكلمة؛ فإنها تتعدى بتعديتها، ومعلوم أن التصديق يتعدى بنفسه، والإيمان لا يتعدى بنفسه؛ فنقول مثلا: صدقته، ولا تقول: آمنته! بل تقول: آمنت به. أو آمنت له. فلا يمكن أن نفسر فعلا لازما لا يتعدى إلا بحرف الجر بفعل متعد ينصب المفعول به نفسه، ثم إن كلمة (صدقت) لا تعطي معنى كلمة (آمنت)(8/573)
قول وعمل، قول القلب واللسان وعمل القلب واللسان والجوارح
ـــــــــــــــــــــــــــــ
؛ فإن (آمنت) تدل على طمأنينة بخبره أكثر من (صدقت) .
ولهذا؛ لو فسر الإيمان بالإقرار؛ لكان أجود؛ فنقول: الإيمان: الإقرار، ولا إقرار إلا بتصديق؛ فتقول: أقر به؛ كما تقول: آمن به، وأقر له؛ كما تقول: آمن له. هذا في اللغة.
* وأما في الشرع؛ فقال المؤلف: " قول وعمل ".
* وهذا تعريف مجمل فصله المؤلف بقوله: " قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح ".
* فجعل المؤلف للقلب قولا وعملا، وجعل للسان قولا وعملا.
أما قول اللسان؛ فالأمر فيه واضح، وهو النطق، وأما عمله؛ فحركاته، وليست هي النطق، بل النطق ناشئ عنها إن سلمت من الخرس.
وأما قول القلب، فهو اعترافه وتصديقه. وأما عمله؛ فهو عبارة عن تحركه وإرادته؛ مثل الإخلاص في العمل؛ فهذا عمل قلب، وكذلك التوكل والرجاء والخوف؛ فالعمل ليس مجرد الطمأنينة في القلب، بل هناك حركة في القلب.
وأما عمل الجوارح؛ فواضح؛ ركوع، وسجود، وقيام، وقعود، فيكون عمل الجوارح إيمانا شرعا، لأن الحامل لهذا العمل هو الإيمان.
* فإذا قال قائل: أين الدليل على أن الإيمان يشمل هذه الأشياء؟
قلنا: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره» ؛ فهذا قول القلب. أما عمل القلب(8/574)
واللسان والجوارح؛ فدليله قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الإيمان بضع وسبعون شعبة: أعلاها: قول: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان» ؛ فهذا قول اللسان وعمله وعمل الجوارح، والحياء عمل قلبي، وهو انكسار يصيب الإنسان ويعتريه عند وجود ما يستلزم الحياء.
فتبين بهذا أن الإيمان يشمل هذه الأشياء كلها شرعا.
ويدل لذلك أيضا قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] ؛ قال المفسرون: أي: صلاتكم إلى بيت المقدس؛ فسمى الله تعالى الصلاة إيمانا؛ مع أنها عمل جوارح وعمل قلب وقول لسان.
هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة.
* وشموله لهذه الأشياء الأربعة لا يعني أنه لا يتم إلا بها، بل قد يكون الإنسان مؤمنا مع تخلف بعض الأعمال، لكنه ينقص إيمانه بقدر ما نقص من عمله.
* وخالف أهل السنة في هذا طائفتان بدعيتان متطرفتان:
الطائفة الأولى: المرجئة: يقولون: إن الإيمان هو الإقرار بالقلب، وما عدا ذلك؛ فليس من الإيمان.
ولهذا كان الإيمان لا يزيد ولا ينقص عندهم؛ لأنه إقرار القلب، والناس فيه سواء؛ فالإنسان الذي يعبد الله آناء الليل والنهار كالذي يعصي الله آناء الليل والنهار عندهم، ما دامت معصيته لا تخرجه من الدين!!
فلو وجدنا رجلا يزني ويسرق ويشرب الخمر ويعتدي على الناس،(8/575)
وأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ورجلا آخر متقيا لله بعيدا عن هذه الأشياء كلها؛ لكانا عند المرجئة في الإيمان والرجاء سواء؛ كل منهما لا يعذب؛ لأن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان.
الطائفة الثانية: الخوارج والمعتزلة؛ قالوا: إن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، وأنها شرط في بقائه، فمن فعل معصيته من الكبائر خرج من الإيمان. لكن الخوارج يقولون: إنه كافر، والمعتزلة يقولون: هو في منزلة بين منزلتين؛ فلا نقول: مؤمن، ولا نقول: كافر، بل نقول: خرج من الإيمان، ولم يدخل في الكفر، وصار في منزلة بين منزلتين.
هذه أقوال الناس في الإيمان.
* هذا معطوف على قوله: " أن الدين. . . " إلخ؛ أي: أن من أصول أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد وينقص.
* ويستدلون لذلك بأدلة من الكتاب والسنة:
فمن الكتاب: قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة:124] ، وقوله تعالى: {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر:31] ، وهذا صريح في ثبوت الزيادة.
وأما النقص؛ فقد ثبت في " الصحيحين «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعظ النساء وقال لهن: " ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن» ؛ فأثبت نقص الدين.(8/576)
ثم لو فرض أنه لم يوجد نص في ثبوت النقص؛ فإن إثبات الزيادة مستلزم للنقص؛ فنقول: كل نص يدل على زيادة الإيمان؛ فإنه متضمن للدلالة على نقصه.
وأسباب زيادة الإيمان أربعة:
الأول: معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته؛ فإنه كلما ازداد الإنسان معرفة بالله وأسمائه وصفاته؛ ازداد إيمانه.
الثاني: النظر في آيات الله الكونية والشرعية:
قال الله تعالى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية: 17 - 20] .
وقال تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101] .
وكلما ازداد الإنسان علما بما أودع الله تعالى في الكون من عجائب المخلوقات ومن الحكم البالغات؛ ازداد إيمانا بالله عز وجل، وكذلك النظر في آيات الله الشرعية يزيد الإنسان إيمانا بالله عز وجل؛ لأنك إذا نظرت إلى الآيات الشرعية، وهي الأحكام التي جاءت بها الرسل؛ وجدت فيها ما يبهر العقول من الحكم البالغة والأسرار العظيمة التي تعرف بها أن هذه الشريعة نزلت من عند الله، وأنها مبنية على العدل والرحمة، فتزداد بذلك إيمانا.
الثالث: كثرة الطاعات وإحسانها؛ لأن الأعمال داخلة في الإيمان، وإذا كانت داخلة فيه؛ لزم من ذلك أن يزيد بكثرتها.(8/577)
السبب الرابع: ترك المعصية تقربا إلى الله عز وجل؛ فإن الإنسان يزداد بذلك إيمانا بالله عز وجل.
أسباب نقص الإيمان أربعة:
الأول: الإعراض عن معرفة الله تعالى وأسمائه وصفاته.
الثاني: الإعراض عن النظر في الآيات الكونية والشرعية؛ فإن هذا يوجب الغفلة وقسوة القلب.
الثالث: قلة العمل الصالح، ويدل لذلك قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في النساء: «ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن. قالوا: يا رسول الله! كيف نقصان دينها؟ قال: أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟» .
الرابع: فعل المعاصي؛ لقوله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14] .
وخالف أهل السنة والجماعة في القول بالزيادة والنقصان طائفتان: الطائفة الأولى المرجئة، والطائفة الثانية: الخوارج والمعتزلة.
الطائفة الأولى: المرجئة: قالوا: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص؛ لأن الأعمال ليست من الإيمان، حتى يزيد بزيادتها وينقص بنقصانها؛ فالإيمان هو إقرار القلب، والإقرار لا يزيد ولا ينقص.
ونحن نرد عليهم فنقول: أولا: إخراجكم الأعمال من الإيمان ليس بصحيح؛ فإن الأعمال داخلة(8/578)
في الإيمان، وقد سبق ذكر الدليل.
ثانيا: قولكم: إن الإقرار بالقلب لا يختلف زيادة ونقصا: ليس بصحيح، بل الإقرار بالقلب يتفاضل؛ فلا يمكن لأحد أن يقول: إن إيماني كإيمان أبي بكر!! بل يتعدى ويقول: إن إيماني كإيمان الرسول عليه الصلاة والسلام!!
ثم نقول: إن الإقرار بالقلب يقبل التفاضل؛ فإقرار القلب بخبر الواحد ليس كإقراره بخبر اثنين، وإقراره بما سمع كإقراره بما شاهد ألم تسمعوا قول إبراهيم: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260] ؛ فهذا دليل على أن الإيمان الكائن في القلب يقبل الزيادة والنقص.
ولهذا قسم العلماء درجات اليقين ثلاثة أقسام: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين؛ قال الله تعالى: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} [التكاثر: 5 - 7] ، وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ} [الحاقة: 51] .
الطائفة الثانية المخالفة لأهل السنة طائفة الوعيدية، وهم الخوارج والمعتزلة، وسموا وعيدية؛ لأنهم يقولون بأحكام الوعيد دون أحكام الوعد، أي يغلبون نصوص الوعيد على نصوص الوعد، فيخرجون فاعل الكبيرة من الإيمان، لكن الخوارج يقولون: إنه خارج من الإيمان داخل في الكفر، والمعتزلة يقولون: خارج من الإيمان غير داخل في الكفر، بل هو في منزلة بين منزلتين.
ومناقشة هاتين الطائفتين المرجئة والوعيدية في الكتب المطولات.(8/579)
وهم مع ذلك لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر كما يفعله الخوارج بل الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي كما قال سبحانه في آية القصاص: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ}
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أي: مع قولهم: إن الإيمان قول وعمل.
أهل القبلة هم المسلمون، وإن كانوا عصاة؛ لأنهم يستقبلون قبلة واحدة، وهي الكعبة.
فالمسلم عند أهل السنة والجماعة لا يكفر بمطلق المعاصي والكبائر.
وتأمل قول المؤلف: ((بمطلق المعاصي)) ، ولم يقل: بالمعاصي والكبائر؛ لأن المعاصي منها ما يكون كفرا، وأما مطلق المعصية؛ فلا يكون كفرا.
والفرق بين الشيء المطلق ومطلق الشيء: أن الشيء المطلق يعني الكمال، ومطلق الشيء؛ يعني: أصل الشيء.
فالمؤمن الفاعل للكبيرة عنده مطلق الإيمان؛ فأصل الإيمان موجود عنده، لكن كماله مفقود.
فكلام المؤلف رحمه الله دقيق جدا.
يعني: الذين يقولون: إن فاعل الكبيرة كافر، ولهذا خرجوا على المسلمين، واستباحوا دماءهم وأموالهم.
يعني: أن الأخوة بين المؤمنين ثابتة ولو مع المعصية؛ فالزاني أخ للعفيف، والسارق أخ للمسروق منه، والقاتل أخ للمقتول، ثم استدل المؤلف لذلك فقال: ((كما قال سبحانه في آية القصاص: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:178] :(8/580)
وقال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}
ـــــــــــــــــــــــــــــ
آية القصاص هي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} إلى قوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} الآية، والمراد بـ (أَخِيهِ) هو المقتول.
ووجه الدلالة من هذه الآية على أن فاعل الكبيرة لا يكفر أن الله سمى المقتول أخا للقاتل، مع أن قتل المؤمن كبيرة من كبائر الذنوب.
هذا دليل آخر لقول أهل السنة: إن فاعل الكبيرة لا يخرج من الإيمان.
(اقتتلوا) جمع، و (بينهما) مثنى، و (طَائِفَتَان) مثنى؛ فكيف يكون مثنى وجمع ومثنى آخر والمرجع واحد؟! نقول: لأن قوله: (طَائِفَتَان) : الطائفة عدد كبير من الناس، فيصح أن أقول: اقتتلوا، وشاهد هذا قوله تعالى: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} [النساء 102] ، ولم يقل: لم تصل. فالطائفة أمة وجماعة، ولهذا عاد الضمير إليها جمعا فيكون الضمير في قوله: (اقتتلوا) عائدا إلى المعنى، وفي قوله: (بينهما) عائدا إلى اللفظ.
فهاتان الطائفتان من المؤمنين اقتتلوا، وحمل السلاح بعضهم على بعض، وقتال المؤمن للمؤمن كفر، ومع هذا قال الله تعالى بعد أن أمر بالصلح بينهما للطائفة الثالثة التي لم تدخل القتال:(8/581)
ولا يسلبون الفاسق الملي الإسلام بالكلية
ـــــــــــــــــــــــــــــ
{فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 9 - 10] ؛ فجعل الله تعالى الطائفة المصلحة إخوة للطائفتين المقتتلتين.
وعلى هذا؛ ففي الآية دليل على أن الكبائر لا تخرج من الإيمان.
وعلى هذا؛ لو مررت بصاحب كبيرة؛ فإني أسلم عليه؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر من حقوق المسلم على المسلم: «إذا لقيته؛ فسلم عليه» ، وهذا الرجل ما زال مسلما، فأسلم عليه؛ إلا إذا كان في هجره مصلحة؛ فحينئذ أهجره للمصلحة؛ كما جرى لكعب بن مالك وصاحبيه الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، فهجرهم المسلمون خمسين ليلة حتى تاب الله عليهم)) .
وهل نحبه على سبيل الإطلاق أو نكرهه على سبيل الإطلاق؟
نقول: لا هذا ولا هذا؛ نحبه بما معه من الإيمان، ونكرهه بما معه من المعاصي، وهذا هو العدل.
((الفاسق)) : هو الخارج عن الطاعة.
والفسق - كما أشرنا إليه سابقا - ينقسم إلى فسق أكبر مخرج عن الإسلام، ومنه قوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} [السجدة:20] ، وفسق أصغر ليس مخرجا عن الإسلام؛ كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} [الحجرات: 6] .(8/582)
ولا يخلدونه في النار كما تقول المعتزلة بل الفاسق يدخل في اسم الإيمان المطلق كما في قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والفاسق الذي لا يخرج من الإسلام هو الفاسق الملي، وهو من فعل كبيرة، أو أصر على صغيرة.
ولهذا قال المؤلف: ((الملي)) ؛ يعني: المنتسب إلى الملة الذي لم يخرج منها.
فأهل السنة والجماعة لا يسلبون الفاسق الملي الإسلام بالكلية؛ فلا يمكن أن يقولوا: إن هذا ليس بمسلم؛ لكن يمكن أن يقولوا: إن هذا ناقص الإسلام أو ناقص الإيمان.
قوله: ((ولا يخلدونه في النار)) : معطوف على قوله: ((ولا يسلبون)) : وعلى هذا يكون قوله: ((كما تقول المعتزلة)) : عائدا للأمرين؛ لأن المعتزلة يسلبونه الإسلام ويخلدونه في النار، وإن كانوا لا يطلقون عليه الكفر.
مراد المؤلف بـ ((المطلق)) هنا؛ يعني: إذا أطلق الإيمان؛ فالوصف يعود إلى الاسم لا إلى الإيمان؛ كما سيتبين من كلام المؤلف رحمه الله؛ فيكون المراد به مطلق الإيمان الشامل للفاسق والعدل.
قوله: ((كما في قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92] ؛ فإن المؤمنة هنا يدخل فيه الفاسق.
فلو أن إنسانا اشترى رقيقا فاسقا وأعتقه في كفارة؛ أجزأه؛ مع أن الله قال: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} ؛ فكلمة {مُؤْمِنَةٍ} تشمل الفاسق وغيره.(8/583)
وقد لايدخل في اسم الإيمان المطلق كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أي: في مطلق اسم الإيمان.
قوله: ((كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال:2] ؛ فـ إِنَّمَا أداة حصر؛ يعني: ما المؤمنون إلا هؤلاء، والمراد بالمؤمنين؛ يعني: ذوي الإيمان المطلق الكامل.
فلا يدخل في المؤمنين هنا الفساق؛ لأن الفاسق لو تلوت عليه آيات الله؛ ما زادته إيمانا، ولو ذكرت الله له؛ لم يوجل قلبه.
فبين المؤلف أن الإيمان قد يراد به مطلق الإيمان، وقد يراد به الإيمان المطلق.
فإذا رأينا رجلا: إذا ذكر الله؛ لم يوجل قلبه، وإذا تليت عليه آياته؛ لم يزد إيمانا؛ فيصح أن نقول: إنه مؤمن، ويصح أن نقول: ليس بمؤمن؛ فنقول: مؤمن؛ أي: معه مطلق الإيمان؛ يعني: أصله، وليس بمؤمن؛ أي: ليس معه الإيمان الكامل.
هذا مثال ثان للإيمان الذي يراد به الإيمان المطلق؛ أي الكامل.
وقوله: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» : هنا نفى عنه(8/584)
«ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الإيمان الكامل حين زناه، أما بعد أن يفرغ من الزنى؛ فقد يؤمن؛ فقد يلحقه الخوف من الله بعد أن يتم الزنى فيتوب، لكن حين إقدامه على الزنى لو كان عنده إيمان كامل؛ ما أقدم عليه، بل إيمانه ضعيف جدا حين أقدم عليه.
وتأمل قوله: ((حين يزني)) : احترازا من أنه قبل الزنى وبعده تختلف حاله؛ لأن الإنسان ما دام لم يفعل الفاحشة، ولو هم بها؛ على أمل ألا يقدم عليها.
وقوله: «ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن» : أي: كامل الإيمان؛ لأن الإيمان يردعه عن سرقته.
وقوله: «ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن» ؛ أي: كامل الإيمان.
((ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم)) : ((ذات شرف)) ؛ أي: ذات قيمة عند الناس، ولهذا يرفعون إليه أبصارهم؛ فلا ينتهبها حين ينتهبها وهو مؤمن؛ أي: كامل الإيمان.
هذه أربعة أشياء: الزنى (وهو الجماع في فرج حرام) ، والسرقة (وهي أخذ المال المحترم على وجه الخفية من حرز مثله) ، وشرب الخمر (والمراد تناوله بأكل أو شرب، والخمر كل ما أسكر على وجه اللذة والطرب) ، والنهبة التي لها شرف وقيمة عند الناس (قيل: الانتهاب: أخذ المال على وجه الغنيمة) ؛ لا يفعل هذه الأشياء الأربعة أحد وهو مؤمن بالله حين فعله(8/585)
ويقولون هو مؤمن ناقص الإيمان أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته فلا يعطى الاسم المطلق، ولا يسلب مطلق الاسم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لها. فالمراد بنفي الإيمان هنا: نفي تمام الإيمان.
هذا بيان للوصف الذي يستحقه الفاسق الملي عند أهل السنة والجماعة.
والفرق بين مطلق الشيء والشيء المطلق: أن الشيء المطلق هو الشيء الكامل، ومطلق الشيء؛ يعني: أصل الشيء، وإن كان ناقصا.
فالفاسق الملي لا يعطى الاسم المطلق في الإيمان، وهو الاسم الكامل، ولا يسلب مطلق الاسم؛ فلا نقول: ليس بمؤمن، بل نقول: مؤمن ناقص الإيمان، أو: مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته.
هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، وهو المذهب العدل الوسط.
وخالفهم في ذلك طوائف:
- المرجئة؛ يقولون: مؤمن كامل الإيمان.
- والخوارج؛ يقولون: كافر.
- والمعتزلة؛ يقولون: في منزلة بين منزلتين.(8/586)
فصل
ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فصل
في موقف أهل السنة والجماعة
من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أي: أسس عقيدتهم.
قوله: " سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ": ولم يقل: وأفعالهم، لأن الأفعال متعذرة بعد موت الصحابة، حتى لو فرض أن أحدا نبش قبورهم وأخرج جثثهم، فإن ذلك لا يؤذيهم ولا يضرهم، لكن الذي يمكن أن يكون بعد موت الصحابة نحوهم هو ما يكون في القلب وما ينطق به اللسان.
فمن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سلامة القلب من البغض والغل والحقد والكراهة، وسلامة ألسنتهم من كل قول لا يليق بهم.
فقلوبهم سالمة من ذلك، مملوءة بالحب والتقدير والتعظيم لأصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ما يليق بهم.
فهم يحبون أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويفضلونهم على جميع الخلق، لأن محبتهم من محبة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومحبة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من محبة الله، وألسنتهم أيضا سالمة من السب والشتم واللعن والتفسيق والتكفير وما أشبه ذلك مما يأتي به أهل البدع، فإذا سلمت من هذا، ملئت من الثناء(8/587)
عليهم والترضي عنهم والترحم والاستغفار وغير ذلك. وذلك للأمور التالية:
أولا: أنهم خير القرون في جميع الأمم، كما صرح بذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين قال: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» .
ثانيا: أنهم هم الواسطة بين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين أمته، فمنهم تلقت الأمة عنه الشريعة.
ثالثا: ما كان على أيديهم من الفتوحات الواسعة العظيمة.
رابعا: أنهم نشروا الفضائل بين هذه الأمة من الصدق والنصح والأخلاق والآداب التي لا توجد عند غيرهم، ولا يعرف هذا من كان يقرأ عنهم من وراء جدر، بل لا يعرف هذا إلا من عاش في تاريخهم وعرف مناقبهم وفضائلهم وإيثارهم لله ولرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فنحن نشهد الله عز وجل على محبة هؤلاء الصحابة، ونثني عليهم بألسنتنا بما يستحقون، ونبرأ من طريقين ضالين: طريق الروافض الذين يسبون الصحابة ويغلون في آل البيت، ومن طريق النواصب الذين يبغضون آل البيت، وترى أن لآل البيت إذا كانوا صحابة ثلاثة حقوقة: حق الصحابة، وحق الإيمان، وحق القرابة من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقوله: " لأصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ": سبق أن أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كل من اجتمع به مؤمنا به ومات على ذلك، وسمي صاحبا، لأنه إذا اجتمع بالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مؤمنا به، فقد التزم اتباعه، وهذا من خصائص صحبة(8/588)
كما وصفهم الله به في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أما غير الرسول، فلا يكون الشخص صاحبا له حتى يلازمه ملازمة طويلة يستحق أن يكون بها صاحبا.
استدل المؤلف رحمه الله لموقف أهل السنة بقوله: " كما وصفهم الله به في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10] ".
هذه الآية بعد آيتين سابقتين هما قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر: 8] ، وعلى رأس هؤلاء المهاجرين أبو بكر وعمر وعثمان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين.
ففي قوله: {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} : إخلاص النية، وفي قوله: {وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} : تحقيق العمل، وقوله: {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} ، أي: لم يفعلوا ذلك رياء ولا سمعة، ولكن عن صدق نية.
ثم قال في الأنصار: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] ، فوصفهم الله بأوصاف ثلاثة:(8/589)
وطاعة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: " لا تسبوا "
ـــــــــــــــــــــــــــــ
{يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} .
ثم قال تعالى بعد ذلك: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} الآية، وهم التابعون لهم بإحسان وتابعوهم إلى يوم القيامة، فقد أثنوا عليهم بالأخوة، وبأنهم سبقوهم بالإيمان، وسألوا الله أن لا يجعل في قلوبهم غلا لهم، فكل من خالف في ذلك وقدح فيهم ولم يعرف لهم حقهم، فليس من هؤلاء الذين قال الله عنهم: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا} .
ولما سئلت عائشة رضي الله عنها عن قوم يسبون الصحابة، قالت: لا تعجبون! هؤلاء قوم انقطعت أعمالهم بموتهم، فأحب الله أن يجري أجرهم بعد موتهم!!
وقوله: {وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} ، ولم يقل: للذين سبقونا بالإيمان، ليشمل هؤلاء السابقين وغيرهم إلى يوم القيامة.
{رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} : ولرأفتك ورحمتك نسألك المغفرة لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان.
" طاعة ": معطوف على قوله: " سلامة "، أي: من أصول أهل السنة والجماعة: طاعة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... إلخ.
السب: هو القدح والعيب، فإن كان في غيبة الإنسان، فهو غيبة.(8/590)
أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه "
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أي: الذين صحبوه، وصحبة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا شك أنها تختلف: صحبه قديمة قبل الفتح، وصحبة متأخرة بعد الفتح.
والرسول عليه الصلاة والسلام كان يخاطب خالد بن الوليد حين حصل بينه وبين عبد الرحمن بن عوف ما حصل من المشاجرة في بني جذيمة، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لخالد: «لا تسبوا أصحابي» ، والعبرة بعموم اللفظ.
ولا شك أن عبد الرحمن بن عوف وأمثاله أفضل من خالد بن الوليد رضي الله عنه من حيث سبقهم إلى الإسلام، لهذا قال: «لا تسبوا أصحابي» ، يخاطب خالد بن الوليد وأمثاله.
وإذا كان هذا بالنسبة لخالد بن الوليد وأمثاله، فما بالك بالنسبة لمن بعدهم.
أقسم النبي عليه الصلاة والسلام، وهو الصادق البار بدون قسم: «لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» .
" أحد ": جبل عظيم كبير معروف في المدينة.
المد: ربع الصاع.
" ولا نصيفه "، أي نصفه. قال بعضهم: من الطعام، لأن الذي يقدر بالمد والنصيف هو الطعام، أما الذهب فيوزن، وقال بعضهم: من الذهب، بقرينة السياق، لأنه قال: «لو أنفق مثل أحد ذهبا، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» ، يعني: من الذهب.(8/591)
ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع من فضائلهم ومراتبهم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وعلى كل حال، فإن قلنا: من الطعام، فمن الطعام، وإن قلنا: من الذهب، فليكن من الذهب، ونسبة المد أو نصف المد من الذهب إلى جبل أحد من الذهب لا شيء.
فالصحابة رضي الله عنهم إذا أنفق الإنسان مثل أحد ذهبا، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه، والإنفاق واحد، والمنفق واحد، والمنفق عليه واحد، وكلهم بشر، لكن لا يستوي البشر بعضهم مع بعض، فهؤلاء الصحابة رضي الله عنهم لهم من الفضائل والمناقب والإخلاص والاتباع ما ليس لغيرهم، فإخلاصهم العظيم، واتباعهم الشديد، كانوا أفضل من غيرهم فيما ينفقون.
وهذا النهي يقتضي التحريم، فلا يحل لأحد أن يسب الصحابة على العموم، ولا أن يسب واحدا منهم على الخصوص، فإن سبهم على العموم، كان كافرا، بل لا شك في كفر من شك في كفره، أما إن سبهم على سبيل الخصوص، فينظر في الباعث لذلك، فقد يسبهم من أجل أشياء خلقية أو دينية، ولكل واحد من ذلك حكمه.
أي: أهل السنة.
قوله: " ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع من فضائهم ومراتبهم ":
الفضائل: جمع فضيلة، وهو ما يفضل به المرء غيره ويعد منقبة له.
والمراتب: الدرجات، لأن الصحابة درجات ومراتب، كما سيذكرهم المؤلف رحمه الله.(8/592)
ويفضلون من أنفق من قبل الفتح وهو صلح الحديبية وقاتل على من أنفق من بعد وقاتل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
50 فما جاء من فضائل الصحابة ومراتبهم، فإن أهل السنة والجماعة يقبلون ذلك:
فمثلا ما جاء عنهم من كثرة صلاة أو صدقة أو صيام أو حج أو جهاد أو غير ذلك من الفضائل.
ويقبلون مثلا ما جاء في أبي بكر رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حث على الصدقة، فجاء أبو بكر بجميع ماله (1) ، وهذه فضيلة.
ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة من أن أبا بكر رضي الله عنه كان وحده صاحب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هجرته في الغار.
ويقبلون ما جاء به النص من قول الرسول عليه الصلاة والسلام في أبي بكر: «إن من أمن الناس علي في ماله وصحبته أبو بكر» .
وكذلك ما جاء في عمر وفي عثمان وفي علي رضي الله عنهم وما جاء في غيرهم من الصحابة من الفضائل، يقبلون هذا كله.
وكذلك المراتب، فيقبلون ما جاء في مراتبهم، فالخلفاء الراشدون هم القمة في هذه الأمة في المرتبة، وأعلاهم مرتبة أبو بكر، ثم عمر ثم عثمان ثم علي، كما سيذكره المؤلف.
دليل ذلك قول تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10] .
__________
(1) رواه أبو داود (1678) ، والترمذي (3675) ، وقال: " حديث حسن صحيح".(8/593)
ويقدمون المهاجرين على الأنصار
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فالذين أنفقوا وقاتلوا قبل صلح الحديبية أفضل من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا، وكان صلح الحديبية في السنة السادسة من الهجرة في ذي القعدة، فالذين أسلموا قبل ذلك، وأنفقوا وقاتلوا أفضل من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا.
فإذا قال قائل: كيف نعرف ذلك؟
فالجواب: أن ذلك يعرف بتاريخ إسلامهم، كأن نرجع إلى " الإصابة في تمييز الصحابة " لابن حجر أو " الاستيعاب في معرفة الأصحاب " لابن عبد البر أو غير ذلك من الكتب المؤلف في الصحابة رضي الله عنهم، ويعرف أن هذا أسلم من قبل أو أسلم من بعد.
وقول المؤلف: " وهو صلح الحديبية ":
- هذا أحد القولين في الآية، وهو الصحيح، ودليله قصة خالد مع عبد الرحمن بن عوف، وقول البراء بن عازب: تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحا، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية. رواه البخاري.
- وقيل: المراد فتح مكة، وهو قول كثير من المفسرين أو أكثرهم.
المهاجرون: هم الذين هاجروا إلى المدينة في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل فتح مكة.
الأنصار: هم الذين هاجر إليهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المدينة.(8/594)
ويؤمنون بأن الله قال لأهل بدر - وكانوا ثلاث مئة وبضعة عشر - «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وأهل السنة يقدمون المهاجرين على الأنصار لأن المهاجرين جمعوا بين الهجرة والنصرة، والأنصار أتوا بالنصرة فقط.
- فالمهاجرون تركوا أهلهم وأموالهم، وتركوا أوطانهم، وخرجوا إلى أرض هم فيها غرباء، كل ذلك هجرة إلى الله ورسوله، ونصرة لله ورسوله.
- والأنصار أتاهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بلادهم، ونصروا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا شك أنهم منعوه مما يمنعون منه أبناءهم ونساءهم.
ودليل تقديم المهاجرين: قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100] ، فقدم المهاجرين على الأنصار، وقوله: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} [التوبة: 117] ، فقدم المهاجرين، وقوله في الفيء: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} [الحشر: 8] ، ثم قال: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الحشر: 9] .
أهل بدر مرتبتهم أعلى من مراتب الصحابة.
وبدر مكان معروف، كانت فيه الغزوة المشهورة، وكانت في السنة الثانية من الهجرة في رمضان، وسمى الله تعالى يومها يوم الفرقان.
وسببها أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سمع أن أبا سفيان قدم بعير من الشام إلى مكة، فندب أصحابه من أجل هذه العير فقط، فانتدب منهم ثلاث مئة وبضعة عشر رجلا، معهم سبعون بعيرا وفرسان وخرجوا من المدينة لا يريدون(8/595)
قتالا، لكن الله عز وجل بحكمته جمع بينهم وبين عدوهم.
فلما سمع أبو سفيان بذلك، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام خرج إليه لتلقي العير، أخذ بساحل البحر، وأرسل صارخا إلى أهل مكة يستنجدهم، فانتدب أهل مكة لذلك، وخرجوا بأشراف وكبرائهم وزعمائهم، خرجوا على الوصف الذي ذكر الله عز وجل: {بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال: 47] .
وفي أثناء ذلك جاءهم الخبر أن أبا سفيان نجا بالعير، فتآمروا بينهم في الرجوع، لكن أبا جهل قال: والله، لا نرجع حتى نقدم بدرا، فنقيم فيها ننحر الجزور، ونسقي الخمور، وتضرب علينا القيان، وتسمع بنا العرب، فلا يزالون يهابوننا أبدا.
وهذا الكلام يدل على الفخر والخيلاء والاعتزاز بالنفس، ولكن ولله الحمد كان الأمر على عكس ما يقول، سمعت العرب بهزيمتهم النكراء فهانوا في نفوس العرب.
قدموا بدرا، والتقت الطائفتان، وأوحى الله تعالى إلى الملائكة: {أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ} [الأنفال: 12 - 14] .
حصل اللقاء بين الطائفتين، وكانت الهزيمة - ولله الحمد - على المشركين، والنصر المبين للمؤمنين، انتصروا، وأسروا منهم سبعين رجلا، وقتلوا سبعين رجلا، منهم أربعة وعشرون رجلا من كبرائهم وصناديدهم، سحبوا، فألقوا في قليب من قلب بدر خبيثة قبيحة.(8/596)
ثم إن «النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد انتهاء الحرب بثلاثة أيام ركب ناقته، ووقف عليهم يدعوهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: " يا فلان ابن فلان! أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا ". فقالوا: يا رسول الله! ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟ فقال: " والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم» ، والنبي عليه الصلاة والسلام وقف عليهم توبيخا وتقريعا وتنديما، وهم قد وجدوا ما وعد الله حقا، قال الله تعالى: {ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ} [الأنفال: 14] ، فوجدوا النار من حين ماتوا وعرفوا أن الرسول حق، ولكن أنى لهم التناوش من مكان بعيد.
فأهل بدر الذين جعل الله على أيدهم هذا النصر المبين والفرقان الذي هاب العرب به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، وكان لهم منزلة عظيمة بعد هذا النصر، اطلع الله عليهم، وقال: «اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم» ، فكل ما يقع منهم من ذنوب، فإنه مغفور، لهم، بسبب هذه الحسنة العظيمة الكبيرة التي جعلها الله تعالى على أيديهم.
وفي هذا الحديث دليل على أن ما يقع منهم من الكبائر مهما عظم، فهو مغفور لهم.
- إما أنهم لا يمكن أن يكفروا بعد ذلك.(8/597)
وبأنه لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة؛ كما أخبر به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بل لقد رضي الله عنهم ورضوا عنه وكانوا أكثر من ألف وأربع مئة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
- وإما أنهم إن قدر أن أحدهم كفر، فسيوفق للتوبة والرجوع وإلى الإسلام.
وأيا كان، ففيه بشارة عظيمة لهم، ولم نعلم أن أحدا منهم كفر بعد ذلك.
أصحاب الشجرة هم أصحاب بيعة الرضوان.
وسبب هذه البيعة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج من المدينة إلى مكة يريد العمرة، ومعه أصحابه والهدي، وكانوا نحو ألف وأربع مئة رجل، لا يريدون إلا العمرة، فلما بلغوا الحديبية، وهي مكان قرب مكة، في طريق جدة الآن، بعضها من الحل وبعضها من الحرم، وعلم بذلك المشركون، منعوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، لأنهم يزعمون أنهم أهل البيت وحماة البيت، {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} [الأنفال: 34] ، وجرت بينهم وبينهم مفاوضات.
وأرى الله تعالى من آياته في هذه الغزوة ما يدل على أن الأولى تنازل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه لما يترتب على ذلك من الخير والمصلحة، فإن «ناقة الرسول عليه الصلاة والسلام بركت وأبت أن تسير، حتى قالوا: " خلأت القصواء "، يعني: حرنت وأبت المسير. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مدافعا عنها: " والله ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل ". ثم قال: " والذي نفسي بيده، لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله، إلا أعطيتهم إياها» .(8/598)
وجرى التفاوض، وأرسل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عثمان بن عفان، لأن له رهطا بمكة يحمونه، أرسله إلى أهل مكة، يدعوهم إلى الإسلام، ويخبرهم أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما جاء معتمرا للبيت، فشاع الخبر بأن عثمان قد قتل، وكبر ذلك على المسلمين، فدعا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى البيعة، يبايع أصحابه على أن يقاتلوا أهل مكة الذين قتلوا رسول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكانت الرسل لا تقتل، فبايع الصحابة رضي الله عنهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أن يقاتلوا ولا يفروا إلى الموت.
وكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحت شجرة يبايع الناس، يمد يده فيبايعونه على هذا البيعة المباركة التي قال الله عنها: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] ، وكان عثمان رضي الله عنه غائبا، «فبايع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيده عن يد عثمان، وقال بيده اليمنى: " هذه يد عثمان ".
» ثم تبين أن عثمان لم يقتل، وصارت الرسل تأتي وتروح بين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقريش، حتى انتهى الأمر على الصلح الذي صار فتحا مبينا للرسول عليه الصلاة والسلام.
هؤلاء الذين بايعوا قال الله عنهم: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [الفتح 18 - 19] .
وكان من جملة المبايعين أبو بكر وعمر وعثمان وعلي.
فوصفهم الله تعالى بالإيمان، وهذه شهادة من الله عز وجل بأن كل من بايع تحت الشجرة، فهو مؤمن مرضي عنه، والنبي عليه الصلاة والسلام(8/599)
قال: «لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة» ، فالرضى ثابت بالقرآن، وانتفاء دخول النار ثبت بالسنة.
وقوله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة» ، قد يقول قائل: كيف نجمع بينه وبين قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم: 71] ؟
فالجمع من أحد وجهين:
الأول: أن يقال: إن المفسرين اختلفوا في المراد بالورود، فقال بعضهم: هو المرور على الصراط، لأن هذا نوع ورود بلا شك، كما في قوله تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} [القصص: 23] ، ومعلوم أنه لم ينزل وسط الماء، بل كان حوله وقريبا منه، وبناء على هذا، لا إشكال ولا تعارض أصلا.
والوجه الثاني: أن من المفسرين من يقول: المراد بالورود الدخول، وأنه ما من إنسان إلا ويدخل النار، وبناء على هذا القول، فيحمل قوله: «لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة» . لا يدخلها دخول عذاب وإهانة، وإنما يدخلها تنفيذا للقسم: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} ، أو يقال: إن هذا من باب العام المخصوص بأهل بيعة الرضوان.
وقوله: " الشجرة ": الشجرة هذه شجرة سدر، وقيل: شجرة سمر، ولا طائل تحت هذا الخلاف، كانت ذات ظل، فجلس النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحتها يبايع الناس، وكانت موجودة في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام وعهد أبي بكر رضي الله عنه وأول خلافه عمر، فلما قيل له: إن الناس يختلفون إليها - أي: يأتونها - يصلون عندها، أمر رضي الله عنه بقطعها، فقطعت.(8/600)
ويشهدون بالجنة لمن شهد له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قال في " الفتح " (1) : " وجدته عند ابن سعد بإسناد صحيح، لكن في " صحيح البخاري " عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: رجعنا من العام المقبل يعني: بعد صلح الحديبية فما اجتمع منا اثنان على الشجرة التي بايعنا تحتها، كانت رحمة من الله. وهكذا قال المسيب والد سعيد: فلما خرجنا من العام المقبل، نسيناها، فلم نقدر عليها ".
وهذا لا ينافي ما ذكره ابن حجر عن ابن سعد، لأن نسيانها لا يستلزم عدمها ولا عدم تذكرها بعد والله أعلم.
وهذه من حسنات عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لأننا نظن أن هذه الشجرة لو كانت باقية إلى الآن، لعبدت من دون الله.
أي أهل السنة والجماعة.
والشهادة بالجنة نوعان: شهادة معلقة بوصف، وشهادة معلقة بالشخص.
- أما المعلقة بالوصف، فأن نشهد لكل مؤمن أنه في الجنة، وكل متق أنه في الجنة، بدون تعيين شخص أو أشخاص.
وهذه شهادة عامة، يجب علينا أن نشهد بها، لأن الله تعالى أخبر به، فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [لقمان 8 - 9] ، وقال: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133] .
- وأما الشهادة المعلقة بشخص معين، فأن نشهد لفلان أو لعدد معين
__________
(1) " فتح الباري " (7/448) .(8/601)
كالعشرة وثابت بن قيس بن شماس
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أنهم في الجنة.
وهذه شهادة خاصة، فنشهد لمن شهد له الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سواء شهد لشخص معين واحد أو لأشخاص معينين.
مثال ذلك ما ذكره المؤلف بقوله: " كالعشرة "، يعني بهم: العشرة المبشرين بالجنة، لقبوا بهذا الاسم لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جمعهم في حديث واحد وهم: الخلفاء الأربعة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وسعيد بن زيد، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وأبو عبيدة عامر بن الجراح، وانظر تراجمهم في المطولات.
وقد جمع الستة الزائدة عن الخلفاء الأربعة في بيت واحد، فاحفظه:
سعيد وسعد وابن عوف وطلحة ... وعامر فهر والزبير الممدوح
هؤلاء بشرهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في نسق واحد، فقال: " أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة ... " (1) ، ولهذا لقبوا بهذا القلب، فيجب أن نشهد أنهم في الجنة لشهادة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك.
«ثابت بن قيس رضي الله عنه أحد خطباء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان جهوري الصوت، فلما نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2] ، خاف أن يكون عمله وهو لا يشعر، فاختفى في بيته، ففقده النبي عليه الصلاة والسلام، فبعث إليه رجلا يسأله»
__________
(1) رواه أحمد (1/187، 188، 189) ، وأبو داود (4649) ، والترمذي (3748)(8/602)
وغيرهم من الصحابة
ويقرون بما تواتر به النقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره، من أن خير هذه الأمة بعد نبيها: أبو بكر ثم عمر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«عن اختفائه فقال: إن الله أنزل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} ، وأنا الذي أرفع صوتي فوق صوت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حبط عملي، أنا من أهل النار!! فأتى الرجل إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره بما قال ثابت، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اذهب إليه، فقل له إنك لست من أهل النار، ولكنك من أهل الجنة» ، فبشره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالجنة.
مثل أمهات المؤمنين، لأنهن في درجة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومنهم بلال، وعبد الله بن سلام، وعكاشة بن محصن، وسعد بن معاذ، رضي الله عنهم.
التواتر: خبر يفيد العلم اليقيني، وهو الذي نقله طائفة لا يمكن تواطؤهم على الكذب.
ففي " صحيح البخاري " وغيره عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: كنا نخير بين الناس في زمن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنخير أبا بكر، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان.
وفي " صحيح البخاري " أيضا أن محمد ابن الحنفية قال: قلت(8/603)
ويثلثون بعثمان ويربعون بعلي رضي الله عنهم كما دلت عليه الآثار وكما أجمع الصحابة على تقديم عثمان في البيعة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: أبو بكر. قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر. وخشيت أن يقول: عثمان، قلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين.
فإذا كان علي رضي الله عنه يقول وهو في زمن خلافته: إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر، فقد اندحضت حجة الرافضة الذين فضلوه عليهما.
قوله: " وغيره "، يعني: غير علي من الصحابة والتابعين.
وهذا متفق عليه بين الأئمة.
- وقال الإمام مالك: ما رأيت أحدا يشك في تقديمهما.
- وقال الشافعي: لم يختلف الصحابة والتابعون في تقديم أبي بكر وعمر.
ومن خرج عن هذا الإجماع، فقد اتبع غير سبيل المؤمنين.
" يثلثون "، يعني: أهل السنة، يجعلون عثمان هو الثالث.
" ويربعون " بعلي " أي: يجعلون عليا هو الرابع.
وعلى هذا، فأفضل هذه الأمة هؤلاء الأربعة: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي.
استدل المؤلف لهذا الترتيب بدليلين:
الأول: قوله: " كما دلت عليه الآثار ": وقد سبق ذكر شيء منها.(8/604)
مع أن بعض أهل السنة كانوا قد اختلفوا في عثمان وعلي رضي الله عنهما بعد اتفاقهم على تقديم أبي بكر وعمر أيهما أفضل؟ فقدم قوم عثمان وسكتوا أو ربعوا بعلي، وقدم قوما عليا، وقوم توقفوا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والثاني: قوله: " وكما أجمع الصحابة على تقديم عثمان في البيعة ":
فصار في تقديم عثمان على علي رضي الله عنهما آثار نقلية، وفيه أيضا دليل عقلي، وهو إجماع الصحابة على تقديم عثمان في البيعة، فإن إجماعهم على ذلك يستلزم أن عثمان أفضل من علي، وهو كذلك، لأن حكمة الله عز وجل تأبى أن يولي على خير القرون رجلا وفيه من هو أفضل منه، كما جاء في الأثر: «كما تكونون يولي عليكم، فخير القرون لا يولي الله عليهم إلا من هو خيرهم» .
فيقولون: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ويسكتون، أو يقولون: ثم علي.
فقالوا: أبو بكر، ثم عمر، ثم علي، ثم عثمان. وهذا رأي من آراء أهل السنة.
فقالوا: أبو بكر، ثم عمر. وتوقفوا أيهما أفضل: عثمان أو علي؟ وهذا غير الرأي الأول.
فالآراء أربعة:
- الرأي المشهور: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي.
- الرأي الثاني: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم السكوت.
- الرأي الثالث: أبو بكر، ثم عمر، ثم علي، ثم عثمان.
- الرأي الرابع: أبو بكر، ثم عمر، ثم نتوقف أيهما أفضل: عثمان أو علي، فهم يقولون: لا نقول: عثمان أفضل، ولا علي أفضل، لكن(8/605)
لكن استقر أمر أهل السنة على تقديم عثمان وإن كانت هذه المسألة - مسألة عثمان وعلي - ليست من الأصول التي يضلل المخالف فيها عند جمهور أهل السنة ولكن المسألة التي يضلل فيها مسألة الخلافة وذلك أنهم يؤمنون أن الخليفة بعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي ومن طعن في خلافة أحد من هؤلاء الأئمة فهو أضل من حمار أهله
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لا نرى أحدا يتقدم على عثمان وعلي في الفضيلة بعد أبي بكر وعمر.
هذا الذي استقر عليه أمر أهل السنة، فقالوا: أفضل هذه الأمة بعد نبيها: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، على ترتيبهم في الخلافة. وهو الصواب، كما سبق دليله.
يعني: المفاضلة بين عثمان وعلي رضي الله عنهما ليست من أصول أهل السنة التي يضلل فيها المخالف، فمن قال: إن عليا أفضل من عثمان، فلا نقول: إنه ضال، بل نقول: هذا رأي من آراء أهل السنة، ولا نقول فيه شيئا.
فيجب أن نقول: الخليفة بعد نبينا في أمته أبو بكر، ثم عمر ثم عثمان، ثم علي. ومن قال إن الخلافة لعلي دون هؤلاء الثلاثة، فهو ضال، ومن قال: إنها لعلي بعد أبي بكر وعمر، فهو ضال، لأنه مخالف لإجماع الصحابة رضي الله عنهم.
وهذا ما أجمع عليه أهل السنة في مسألة الخلافة.
الذي يطعن في خلافة أحد من هؤلاء، ويقول: إنه لا يستحق الخلافة! أو: إنه ممن سبقه! فهو أضل من حمار أهله.(8/606)
وعبر المؤلف بهذا التعبير، لأنه تعبير الإمام أحمد رحمه الله، ولا شك أنه أضل من حمار أهله، وإنما ذكر الحمار، لأنه أبلد الحيوانات على الإطلاق، فهو أقل الحيوانات فهما، فالطعن في خلافة أحد من هؤلاء أو في ترتيبه طعن في الصحابة جميعا.
فيجب علينا أن نعتقد بأن الخليفة بعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، وأنهم في أحقية الخلافة على هذا الترتيب، حتى لا نقول: إن هناك ظلما في الخلافة، كما ادعته الرافضة حين زعموا أن أبا بكر وعمر وعثمان والصحابة كلهم ظلمة، لأنهم ظلموا على بن أبي طالب، حيث اغتصبوا الخلافة منه.
أما من بعدهم، فإننا لا نستطيع أن نقول: إن كل خليفة استخلفه الله على الناس، فهو أحق بالخلافة من غيره، لأن من بعدهم ليسوا في خير القرون، بل حصل فيهم من الظلم والانحراف والفسوق ما استحقوا به أن يولى عليهم من ليس أحق بالخلافة منهم، كما قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام: 129] .
واعلم أن الترتيب في الأفضلية على ما سبق لا يعني أن من فضل غيره، فإنه يفضله في كل شيء، بل قد يكون للمفضول فضيلة لم يشاركه فيها أحد، وتميز أحد هؤلاء الأربعة أو غيرهم بميزة يفضل بها غيره لا يدل على الأفضلية المطلقة، فيجب التفريق بين الإطلاق والتقييد.(8/607)
ويحبون أهل بيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أي: ومن أصول أهل السنة والجماعة أنهم يحبون آل بيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يحبونهم لأمرين: للإيمان، وللقرابة من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يكرهونهم أبدا.
ولكن لا يقولون كما قال الرافضة: كل من أحب أبا بكر وعمر، فقد أبغض عليا، وعلى هذا فلا يمكن أن تحب عليا حتى نبغض أبا بكر وعمر، وكأن، أبا بكر وعمر أعداء لعلي بن أبي طالب مع أنه تواتر النقل عن علي رضي الله عنه أنه كان يثني عليهما على المنبر.
فنحن نقول: إننا نشهد الله على محبة آل بيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقرابته، نحبهم لمحبة الله ورسوله.
- ومن أهل بيته أزواجه بنص القرآن، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب، 28 - 33] ، فأهل البيت هنا يدخل فيها أزواج الرسول عليه الصلاة والسلام بلا ريب.(8/608)
ويتولونهم ويحفظون فيهم وصية رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث قال يوم غدير خم: " أذكركم الله في أهل بيتي "
ـــــــــــــــــــــــــــــ
- وكذلك يدخل فيه قرابته، فاطمة وعلي والحسن والحسين وغيرهم كالعباس بن عبد المطلب وأبنائه.
- فنحن نحبهم لقرابتهم من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولإيمانهم بالله.
فإن كفروا، فإننا لا نحبهم، ولو كانوا من أقارب الرسول عليه الصلاة والسلام، فأبو لهب عم الرسول عليه الصلاة والسلام لا يجوز أن نحبه بأي حال من الأحوال، بل يجب أن نكرهه لكفره ولإيذائه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكذلك أبو طالب، يجب علينا أن نكرهه لكفره، لكن نحب أفعاله التي أسداها إلى الرسول عليه الصلاة والسلام من الحماية والذب عنه.
أي: يجعلونهم من أوليائهم، والولي: يطلق على عدة معان، يطلق على الصديق، والقريب، والمتولي للأمر، وغير ذلك من الموالاة والنصرة، وهنا يشمل النصرة والصداقة والمحبة.
أي: عهده الذي عهد به إلى أمته.
هو اليوم الثامن عشر من ذي الحجة. وهذا الغدير ينسب إلى رجل يسمى (خم) ، وهو في الطريق الذي بين مكة والمدينة، قريب من الجحفة، نزل الرسول عليه الصلاة والسلام فيه منزلا في رجوعه من حجة الوداع، وخطب الناس، وقال: «أذكركم الله في أهل بيتي» ، ثلاثا، يعني: اذكروا الله، اذكروا خوفه وانتقامه إن أضعتم حق آل البيت، واذكروا رحمته وثوابه إن قمتم في حقهم.(8/609)
وقال أيضا للعباس عمه وقد اشتكى إليه أن بعض قريش يجفو بني هاشم فقال: " والذي نفسي بيده لا يؤمنون حتى يحبوكم لله ولقرابتي "
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" أيضا ": مصدر آض يئيض، أي: رجع، وهو مصدر لفعل محذوف، والمعنى: عودا على ما سبق.
" يجفو " يترفع ويكره.
" هاشم ": هو جد أبي الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أقسم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنهم لا يؤمنون، أي: لا يتم إيمانهم، حتى يحبوكم لله، وهذا المحبة يشاركهم فيها غيرهم من المؤمنين، لأن الواجب على كل إنسان أن يحب كل مؤمن لله، لكن قال: " ولقرابتي ": فهذا حب زائد على المحبة لله، ويختص به آل البيت قرابة النبي عليه الصلاة والسلام.
وفي قول العباس: " إن بعض قريش يجفو بني هاشم ": دليل على أن جفاء آل البيت كان موجودا منذ حياة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذلك لأن الحسد من طبائع البشر، إلا من عصمه الله عز وجل، فكانوا يحسدون آل بيت الرسول عليه الصلاة والسلام على ما من الله عليهم من قرابة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيجفونهم ولا يقومون بحقهم.
فعقيدة أهل السنة والجماعة بالنسبة لآل البيت: أنهم يحبونهم ويتولونهم، ويحفظون فيهم وصية الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في التذكير بهم، ولا ينزلونهم فوق منزلتهم، بل يتبرؤون ممن يغلون فيهم، حتى يوصلوهم إلى حد الألوهية، كما فعل عبد الله بن أبي طالب حين قال له: أنت الله! والقصة مشهورة.
"(8/610)
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله اصطفى بني إسماعيل، واصطفى من بني إسماعيل كنانة، واصطفى من كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» ويتولون أزواج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمهات المؤمنين ويؤمنون بأنهن أزواجه في الآخرة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إسماعيل ": هو ابن إبراهيم الخليل، وهو الذي أمر الله إبراهيم بذبحه، وقصته في سورة الصافات.
" كنانة ": هو الأب الرابع عشر لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى آله وسلم.
" قريش ": هو الأب الحادي عشر لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو فهر بن مالك، وقيل: الأب الثالث عشر، وهو النضر بن كنانة.
" هاشم " هو الأب الثالث لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قوله: " أمهات المؤمنين ": هذه صفة لـ " أزواج " فأزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمهات لنا في الإكرام والاحترام والصلة، قال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] ، فنحن نتولاهن بالنصرة والدفاع عنهن واعتقاد أنهن أفضل أزواج أهل الأرض، لأنهن زوجات الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وهذا دليل على أن بني هاشم مصطفون عند الله مختارون من خلقه.
لأحاديث وردت في ذلك، ولقوله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [غافر: 7 - 8](8/611)
خصوصا خديجة رضي الله عنها أم أكثر أولاده وأول من آمن به
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فقال: وأزوجهم، فأثبت الزوجية لهن بعد دخول الجنة، وهذا يدل على أن زوجة الإنسان في الدنيا تكون زوجته في الآخرة إذا كانت من أهل الجنة.
" خصوصا ": مصدر محذوف العامل، أي: أخص خصوصا.
" L10640 خديجة بنت خويلد ": تزوجها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أول ما تزوج، وكان عمره حينذاك خمسا وعشرين سنة، وعمرها أربعين سنة، وكانت امرأة عاقلة، وانتفع بها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انتفاعا كثيرا، لأنها امرأة ذات عقل وذكاء، ولم يتزوج عليها أحدا.
فكانت كما قال المؤلف: " أم أكثر أولاده ": البنين والبنات، ولم يقل المؤلف: أم أولاده، لأن من أولاده من ليس منها، وهو إبراهيم، فإنه كان من مارية القبطية.
وأولاده الذين من خديجة هم ابنان وأربع بنات: القاسم، ثم عبد الله، ويقال له: الطيب، والطاهر. وأما البنات، فهن: زينب، ثم أم كلثوم، ثم فاطمة، ثم رقية. وأكبر أولاده القاسم، وأكبر بناته زينب.
لا شك أنها أول من آمن به، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما جاءها وأخبرها بما رأى في غار حراء، قالت: كلا، والله لا يخزيك الله أبدا. وآمنت به، وذهبت به إلى ورقة بن نوفل، وقصت عليه الخبر، وقال له: إن هذا الناموس الذي كان ينزل على موسى. " الناموس " أي: صاحب السر. فآمن به ورقة.(8/612)
وعاضده على أمره وكان لها منه المنزلة العالية
والصديقة بنت الصديق رضي الله عنها التي قال فيها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ولهذا نقول: أول من آمن به من النساء خديجة، ومن الرجال ورقة بن نوفل.
أي: ساعده، ومن تدبر السيرة، وجد لأم المؤمنين خديجة رضي الله عنها من معاضدة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما لم يحصل لغيرها من نسائه.
قوله: " وكان لها منه المنزلة العالية ": حتى إنه كان يذكرها بعد موتها صلوات الله وسلامه عليه، ويرسل بالشيء إلى صديقاتها، ويقول: «إنها كانت وكانت وكان لي منها ولد» ، فكان يثني عليها، وهذا يدل على معظم منزلتها عند الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أما كونها صديقة، فلكمال تصديقها لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكمال صدقها في معاملته، وصبرها على ما حصل من الأذى في قصة الإفك، ويدلك على صدقها وصدق إيمانها بالله أنه لما نزلت براءتها، قال: إني لا أحمد غير الله. وهذا يدل على كمال إيمانها وصدقها.
وأما كونها بنت الصديق، فكذلك أيضا، فإن أباها رضي الله عنه هو الصديق في هذه الأمة، بل صديق الأمم كلها، لأن هذه الأمة أفضل الأمم، فإذا كان صديق هذه الأمة، فهو صديق غيرها من الأمم.
قوله: " على النساء ": ظاهره العموم، أي: على جميع النساء.
وقيل: إن المراد: فضل عائشة على النساء، أي من أزواجه اللاتي على قيد الحياة، فلا تدخل في ذلك خديجة.(8/613)
لكن ظاهر الحديث العموم، لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» ، وقد أخرجه الشيخان بدون ذكر خديجة. وهذا يدل على أنها أفضل النساء مطلقا.
ولكن ليست أفضل من فاطمة باعتبار النسب، لأن فاطمة بلا شك أشرف من عائشة نسبا.
وأما منزلة، فإن عائشة رضي الله عنها لها من الفضائل العظيمة ما لم يدركه أحد غيرها من النساء.
وظاهر كلام المؤلف رحمه الله أن هاتين الزوجين رضي الله عنهما في منزلة واحدة، لأنه قال: " خصوصا خديجة ... والصديقة "، ولم يقل: ثم الصديقة.
والعلماء اختلفوا في هذه المسألة:
فقال بعض العلماء: خديجة أفضل، لأن لها مزايا لم تلحقها عائشة فيها.
وقال بعض العلماء: بل عائشة أفضل، لهذا الحديث، ولأن لها مزايا لم تلحقها خديجة فيها.
وفصل بعض أهل العلم، فقال: إن لكل منهما مزية لم تلحقها(8/614)
ويتبرءون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الأخرى فيها، ففي أول الرسالة لا شك أن المزايا التي حصلت عليها خديجة لم تلحقها فيها عائشة، ولا يمكن أن تساويها، وبعد ذلك، وبعد موت الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حصل من عائشة من نشر العلم ونشر السنة وهداية الأمة ما لم يحصل لخديجة، فلا يصح أن تفضل إحداهما على الأخرى تفضيلا مطلقا، بل نقول: هذه أفضل من وجه، وهذه أفضل من وجه، ونكون قد سلكنا مسلك العدل، فلم نهدر ما لهذه من المزية، ولا ما لهذه من المزية، وعند التفصيل يحصل التحصيل. وهما وبقية أزواج الرسول في الجنة معا.
الروافض: طائفة غلاة في علي بن أبي طالب وآل البيت، وهم من أضل أهل البدع، وأشدهم كرها للصحابة رضي الله عنهم، ومن أراد معرفة ما هم عليه من الضلال، فليقرأ في كتبهم وفي كتب من رد عليهم.
وسموا روافض لأنهم رفضوا زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عندما سألوه عن أبي بكر وعمر، فأثنى عليهما وقال: هما وزيرا جدي.
أما النواصب، فهم الذين ينصبون العداء لآل البيت، ويقدحون فيهم، ويسبونهم، فهم على النقيض من الروافض.
فالروافض اعتدوا على الصحابة بالقلوب والألسن.
- ففي القلوب يبغضون الصحابة ويكرهونهم، إلا من جعلوهم وسيلة لنيل مآربهم وغلوا فيهم، وهم آل البيت.
- وفي الألسن يسبونهم فيلعنونهم ويقولون: إنهم ظلمة ويقولون: إنهم ارتدوا بعد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا قليلا، إلى غير ذلك من الأشياء المعروفة في كتبهم.(8/615)
ومن طريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وفي الحقيقة إن سب الصحابة رضي الله عنهم ليس جرحا في الصحابة رضي الله عنهم فقط بل هو قدح في الصحابة وفي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفي شريعة الله وفي ذات الله عز وجل:
- أما كونه قدحا في الصحابة، فواضح.
- وأما كونه قدحا في رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فحيث كان أصحابه وأمناؤه وخلفاؤه على أمته من شرار الخلق، وفيه قدح في رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من وجه آخر، وهو تكذيبه فيما أخبر به من فضائلهم ومناقبهم.
- وأما كونه قدحا في شريعة الله، فلأن الواسطة بيننا وبين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في نقل الشريعة هم الصحابة، فإذا سقطت عدالتهم، لم يبق ثقة فيما نقلوه من الشريعة.
- وأما كونه قدحا في الله سبحانه، فحيث بعث نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في شرار الخلق، واختارهم لصحبته وحمل شريعته ونقلها لأمته.
- فانظر ماذا يترتب من الطوام الكبرى على سب الصحابة رضي الله عنهم.
- ونحن نتبرأ من طريقة هؤلاء الروافض الذين يسبون الصحابة ويبغضونهم، ونعتقد أن محبتهم فرض، وأن الكف عن مساوئهم فرض، وقلوبنا ولله الحمد مملوءة من محبتهم، لما كانوا عليه من الإيمان والتقوى ونشر العلم ونصرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
يعني: يتبرأ أهل السنة والجماعة من طريقة النواصب.
وهؤلاء على عكس الروافض، الذين يغلون في آل البيت حتى يخرجوهم عن طور البشرية إلى طور العصمة والولاية.(8/616)
ويمسكون عما شجر بين الصحابة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أما النواصب، فقابلوا البدعة، فلما رأوا الرافضة يغلون في آل البيت، قالوا: إذا، نبغض آل البيت ونسبهم، مقابلة لهؤلاء في الغلو في محبتهم والثناء عليهم، ودائما يكون الوسط هو خير الأمور، ومقابلة البدعة ببدعة لا تزيد البدعة إلا قوة.
يعني: عما وقع بينهم من النزاع.
فالصحابة رضي الله عنهم وقعت بينهم بعد مقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه نزاعات، واشتد الأمر بعد مقتل عثمان، فوقع بينهم ما وقع، مما أدى إلى القتال.
وهذه القضايا مشهورة، وقد وقعت بلا شك عن تأويل واجتهاد كل منهم يظن أنه على حق، ولا يمكن أن نقول: إن عائشة والزبير بن العوام قاتلا عليا رضي الله عنهم أجمعين وهم يعتقدون أنهم على باطل، وأن عليا على حق.
واعتقادهم أنهم على حق لا يستلزم أن يكونوا قد أصابوا الحق.
ولكن إذا كانوا مخطئين، ونحن نعلم أنهم لن يقدموا على هذا الأمر إلا عن اجتهاد، فإنه ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ، فله أجر» ، فنقول: هم مخطئون مجتهدون، فلهم أجر واحد.
فهذا الذي حصل موقفنا نحن منه له جهتان: الجهة الأولى: الحكم على الفاعل. والجهة الثانية: موقفنا من الفاعل.(8/617)
ويقولون: إن هذه الآثار المروية في مساويهم؛ منها ما هو كذب، ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغير عن وجه الصريح، والصحيح منه هم فيه معذورون: إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون
ـــــــــــــــــــــــــــــ
- أما الحكم على الفاعل، فقد سبق، وأن ما ندين الله به أن ما جرى بينهم، فهو صادر عن اجتهاد، والاجتهاد إذا وقع فيه الخطأ، فصاحبه معذور مغفور له.
- وأما موقفنا من الفاعل، فالواجب علينا الإمساك عما شجر بينهم لماذا نتخذ من فعل هؤلاء مجالا للسب والشتم والوقيعة فيهم والبغضاء بيننا، ونحن في فعلنا هذا إما آثمون وإما سالمون ولسنا غانمين أبدا.
فالواجب علينا تجاه هذه الأمور أن نسكت عما جرى بين الصحابة وأن لا نطالع الأخبار أو التأريخ في هذه الأمور، إلا المراجعة للضرورة.
قسم المؤلف الآثار المروية في مساويهم ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ما هو كذب محض لم يقع منهم، وهذا يوجد كثيرا فيما يرويه النواصب في آل البيت وما يرويه الروافض في غير آل البيت.
القسم الثاني: شيء له أصل، ولكن زيد فيه ونقص وغير عن وجهه.
وهذان القسمان كلاهما يجب رده.
القسم الثالث: ما هو صحيح، فماذا نقول فيه؟ بينه المؤلف بقوله:
" والصحيح منه هم فيه معذورون: إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون ".
والمجتهد إن أصاب، فله أجران، وإن أخطأ، فله أجر واحد، لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إذا حكم الحاكم، فاجتهد، ثم»(8/618)
وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«أصاب، فله أجران، وإذا حكم، فاجتهد، ثم أخطأ فله أجر» .
فما جرى بين معاوية وعلي رضي الله عنهما صادر عن اجتهاد وتأويل.
لكن لا شك أن عليا أقرب إلى الصواب فيه من معاوية، بل قد نكاد نجزم بصوابه، إلا أن معاوية كان مجتهدا.
ويدل على أن عليا أقرب إلى الصواب أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ويح عمارا تقتله الفئة الباغية» ، فكان الذي قتله أصحاب معاوية، وبهذا عرفنا أنها فئة باغية خارجة على الإمام، لكنهم متأولون، والصواب مع علي إما قطعا وإما ظنا.
وهناك قسم رابع: وهو ما وقع منهم من سيئات حصلت لا عن اجتهاد ولا عن تأويل: فبينه المؤلف بقوله:
" وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره.
لا يعتقدون ذلك، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون» . (1)
__________
(1) رواه الإمام أحمد في " المسند " (3/198) ، والترمذي (2499) .(8/619)
بل تجوز عليهم الذنوب في الجملة ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر عنهم إن صدر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ولكن العصمة في إجماعهم؛ فلا يمكن أن يجمعوا على شيء من كبائر الذنوب وصغائرها فيستحلوها أو يفعلوا.
لكن الواحد منهم قد يفعل شيئا من الكبائر، كما حصل من مسطح بن أثاثه وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش في قصة الإفك (1) ، ولكن هذا الذي حصل تطهروا منه بإقامة الحد عليهم.
يعني: كغيرهم من البشر، لكن يمتازون عن غيرهم بما قال المؤلف رحمه الله: " ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر ".
هذا من الأسباب التي يمحو الله بها عنهم ما فعلوه من الصغائر أو الكبائر، وهو ما لهم من السوابق والفضائل التي لم يلحقهم فيها أحد، فهم نصروا النبي عليه الصلاة والسلام، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم، وبذلوا رقابهم لإعلاء كلمة الله، فهذه توجب مغفرة ما صدر منهم، ولو كان من أعظم الذنوب، إذا لم يصل إلى الكفر.
ومن ذلك قصة حاطب بن أبي بلتعة حين أرسل إلى قريش يخبرهم عن مسير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليهم، حتى أطلع الله نبيه على ذلك، فلم يصلهم الخبر، فاستأذن عمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يضرب عنق حاطب، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنه شهد بدرا، وما يدريك؟ لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما»
__________
(1) حديث الإفك، رواه البخاري/ كتاب التفسير، ومسلم/ كتاب التوبة/ باب في حديث الإفك.(8/620)
حتى أنه يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم، لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم، وقد ثبت بقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنهم خير القرون، وأن المد من أحدهم إذا تصدق به، كان أفضل من جبل أحد ذهبا ممن بعدهم، ثم إن كان قد صدر من أحدهم ذنب فيكون قد تاب منه، أو أتى بحسنات تمحوه أو غفر له بفضل سابقته
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«شئتم، فقد غفرت لكم» .
وذلك في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خير الناس قرني» ، وفي قوله: «لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» .
يعني: وإذا تاب منه، ارتفع عنه وباله ومعرته، لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} إلى قوله: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 68 - 70] ، ومن تاب من الذنب كمن لا ذنب له، فلا يؤثر عليه.
لقوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] .
لقوله تعالى في الحديث القدسي في أهل بدر: «اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم» .(8/621)
أو بشفاعة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذين هم أحق الناس بشفاعته أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفر به عنه فإذا كان هذا في الذنوب المحققة، فكيف بالأمور التي كانوا فيها مجتهدين: إن أصابوا، فلهم أجران، وإن أخطئوا فلهم أجر واحد، والخطأ مغفور. ثم إن القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل نزر مغمور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وقد سبق أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشفع في أمته، والصحابة رضي الله عنهم أحق الناس في ذلك.
فإن البلاء في الدنيا يكفر الله به السيئات، كما أخبر بذلك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: «ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه، إلا حط الله به سيئاته، كما تحط الشجرة ورقها» صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والأحاديث في هذا مشهورة كثيرة.
سبق دليله، فتكون هذه من باب أولى ألا تكون سببا للقدح فيهم والعيب.
فهذه الأسباب التي ذكرها المؤلف ترفع القدح في الصحابة، وهي قسمان:
الأول: خاص بهم، وهو ما لهم من السوابق والفضائل.
والثاني: عام، وهي التوبة، والحسنات الماحية، وشفاعة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والبلاء.
القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل جدا نزر أقل القليل، ولهذا(8/622)
من الإيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيله، والهجرة، والنصرة، والعلم النافع، والعمل الصالح ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة، وما من الله عليهم به من الفضائل، علم يقينا أنهم خير الخلق بعد الأنبياء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قال: " مغمور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم ".
ولا شك أنه حصل من بعضهم سرقة وشرب خمر وقذف وزنى بإحصان وزنى بغير إحصان، لكن كل هذه الأشياء تكون مغمورة في جنب فضائل القوم ومحاسنهم، وبعضها أقيم فيه الحدود، فيكون كفارة.
فكل هذه مناقب وفضائل معلومة مشهورة، تغمر كل ما جاء من مساوئ القوم المحققة، فكيف بالمساوئ غير المحققة أو التي كانوا فيها مجتهدين متأولين.
هذا بالإضافة إلى ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من قوله: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» أخرجه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
وعلى هذا تثبت خيريتهم على غيرهم من أتباع الأنبياء بالنص والنظر في أحوالهم.
فإذا نظرت بعلم وبصيرة وإنصاف في محاسن القوم وما أعطاهم الله من الفضائل، علمت يقينا أنهم خير الخلق بعد الأنبياء، فهم خير من الحواريين أصحاب عيسى، خير من النقباء أصحاب موسى، وخير من الذين آمنوا من نوح ومع هود وغيرهم، لا يوجد أحد في أتباع الأنبياء أفضل من الصحابة رضي الله عنهم، والأمر في هذا ظاهر معلوم، لقوله تعالى:(8/623)
لا كان ولا يكون مثلهم وأنهم هم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم وأكرمها على الله تعالى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] ، وخيرنا الصحابة، ولأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خير الخلق، فأصحابه خير الأصحاب بلا شك.
هذا عند أهل السنة والجماعة، أما عند الرافضة، فهم شر الخلق، إلا من استثنوا منهم.
أي: ما وجد ولا يوجد مثلهم، لقوله عليه الصلاة والسلام: «خير الناس قرني» فلا يوجد على الإطلاق مثلهم رضي الله عنهم لا سابقا ولا لاحقا.
أما كون هذه الأمة خير الأمم، فلقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [ال عمران: 110] وقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] ، ولأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خير الرسل، فلا جرم أن تكون أمته خير الأمم.
- وأما كون الصحابة صفوة قرون الأمة، فلقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خير الناس قرني» ، وفي لفظ: «خير أمتي قرني» ، والمراد بقرنه: الصحابة، وبالذين يلونهم: التابعون، وبالذين يلونهم: تابعو التابعين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " والاعتبار بالقرون الثلاثة بجمهور أهل القرن، وهم وسطه، وجمهور الصحابة انقرضوا بانقراض خلافة الخلفاء(8/624)
الأربعة، حتى إنه لم يكن بقي من أهل بدر إلا نفر قليل، وجمهور التابعين بإحسان انقرضوا في أواخر عصر أصاغر الصحابة في إمارة ابن الزبير وعبد الملك وجمهور تابعي التابعين في أواخر الدولة الأموية وأوائل الدولة العباسية " اهـ.
وكان آخر الصحابة موتا أبو الطفيل عامر بن واثلة الليثي سنة مئة من الهجرة، وقيل: مئة وعشر.
قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " (1) : " واتفقوا على أن آخر من كان من أتباع التابعين ممن يقبل قوله من عاش إلى حدود العشرين ومئتين ".
__________
(1) فتح الباري: (6/7) .(8/625)
فصل
ومن أصول أهل السنة والجماعة: التصديق بكرامات الأولياء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فصل
في كرامة الأولياء
كرامات الأولياء مسألة هامة ينبغي أن يعرف الحق فيها من الباطل، هل هي حقيقة ثابتة، أو هي من باب التخيلات؟
فبين المؤلف رحمه الله قول أهل السنة فيها بقوله:
" ومن أصول أهل السنة والجماعة: التصديق بكرامات الأولياء ".
فمن هم الأولياء؟
والجواب: أن الله بينهم بقوله: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 62، 63] .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " من كان مؤمنا تقيا، كان الله وليا ".
ليست الولاية بالدعوى والتمني، الولاية إنما هي بالإيمان والتقوى، فلو رأينا رجلا يقول: إنه ولي ولكنه غير متق لله تعالى، فقوله مردود عليه.
أما الكرامات، فهي جمع كرامة، والكرامة أمر خارق للعادة، يجريه الله تعالى على يد ولي، تأييدا له، أو إعانة، أو تثبيتا، أو نصرا للدين.
- فالرجل الذي أحيا الله تعالى له فرسه، وهو صلة بن أشيم، بعد أن ماتت، حتى وصل إلى أهله، فلما وصل إلى أهله، قال لابنه: ألق السرج(8/626)
عن الفرس، فإنها عرية! فلما ألقى السرج عنها، سقطت ميتة. فهذه كرامة لهذا الرجل إعانة له.
- أما التي لنصرة الإسلام، فمثل الذي جرى للعلاء بن الحضرمي رضي الله عنه في عبور ماء البحر، وكما جرى لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في عبور نهر دجلة، وقصتها مشهورة في التاريخ.
فالكرامة أمر خارق للعادة.
أما ما كان على وفق العادة، فليس بكرامة.
وهذا الأمر إنما يجريه الله على يد ولي، احترازا من أمور السحر والشعوذة، فإنها أمور خارقة للعادة، لكنها تجري على يد غير أولياء الله، بل على يد أعداء الله، فلا تكون هذه كرامة.
وقد كثرت هذه الكرامات التي تدعى أنها كرامات في هؤلاء المشعوذين الذين يصدون عن سبيل الله، فالواجب الحذر منهم ومن تلاعبهم بعقول الناس وأفكارهم.
فالكرامة ثابتة بالقرآن والسنة، والواقع سابقا ولاحقا.
- فمن الكرامات الثابتة بالقرآن والسنة لمن سبق قصة أصحاب الكهف، الذين عاشوا في قوم مشركين، وهم قد آمنوا بالله، وخافوا أن يغلبوا على آمرهم، فخرجوا من القرية مهاجرين إلى الله عز وجل، فيسر الله لهم غارا في جبل، وجه هذا الغار إلى الشمال، فلا تدخل الشمس عليهم فتفسد أبدانهم ولا يحرمون منها، إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين، وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال، وهم في فجوه منه، وبقوا في هذا الكهف ثلاث مئة سنين وازدادوا تسعا، وهم نائمون، يقلبهم الله ذات(8/627)
اليمن وذات الشمال، في الصيف وفي الشتاء، لم يزعجهم الحر، ولم يؤلمهم البرد، ما جاعوا وما عطشوا وما ملوا من النوم. فهذه كرامة بلا شك، بقوا هكذا حتى بعثهم الله وقد زال الشرك عن هذه القرية، فسلموا منه.
- ومن ذلك قصة مريم رضي الله عنها، أكرمها الله حيث أجاءها المخاض إلى جذع النخلة، وأمرها الله أن تهز بجذعها لتتساقط عليها رطبا جنيا.
- ومن ذلك قصة الرجل الذي أماته الله مئة عام ثم بعثه، كرامة له، ليتبين له قدرة الله تعالى، ويزداد ثباتا في إيمانه.
- أما في السنة، فالكرامات كثيرة، وراجع (كتاب الإنبياء، باب ما ذكر عن بن إسرائيل) في " صحيح البخاري "، وكتاب " الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان " لشيخ الإسلام ابن تيمية.
- وأما شهادة الواقع بثبوت الكرامات، فظاهر، يعلم به المرء في عصره، إما بالمشاهدة، وإما بالأخبار الصادقة.
فمذهب أهل السنة والجماعة التصديق بكرامات الأولياء.
وهناك مذهب مخالف لمذهب أهل السنة، وهو مذهب المعتزلة ومن تبعهم، حيث إنهم ينكرون الكرامات، ويقولون: إنك لو أثبت الكرامات، لاشتبه الساحر بالولي بالنبي، لأن كل واحد منهم يأتي بخارق.
فيقال: لا يمكن الالتباس، لأن الكرامة على يد ولي، والولي لا يمكن أن يدعي النبوة، ولو ادعاها، لم يكن وليا. آية النبي تكون على يد نبي،(8/628)
والشعوذة والسحر على يد عدو بعيد من ولاية الله، وتكون بفعله باستعانته بالشياطين، فينالها بكسبه، بخلاف الكرامة، فهي من الله تعالى، لا يطلبها الولي بكسبه.
قال العلماء: كل كرامة لولي، في آية للنبي الذي اتبعه، لأن الكرامة شهادة من الله عز وجل أن طريق هذا الولي طريق صحيح.
وعلى هذا، ما جرى من الكرامات للأولياء من هذه الأمة فإنها آيات لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولهذا قال بعض العلماء: ما من آية لنبي من الأنبياء السابقين، إلا ولرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثلها.
- فأورد عليهم أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يلق في النار فيخرج حيا، كما حصل ذلك لإبراهيم.
فأجيب بأنه جرى ذلك لأتباع الرسول عليه الصلاة والسلام، كما ذكره المؤرخون عن أبي مسلم الخولاني، وإذا أكرم أتباع الرسول عليه الصلاة والسلام بجنس هذا لأمر الخارق للعادة، دل ذلك على أن دين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حق، لأنه مؤيد بجنس هذه الآية التي حصلت لإبراهيم.
وأورد عليهم أن البحر لم يفلق للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد فلق لموسى!
فأجيب بأنه حصل لهذه الأمة فيما يتعلق في البحر شيء أعظم مما حصل لموسى، وهو المشي على الماء، كما في قصة العلاء بن الحضرمي، حيث مشوا على ظهر الماء، وهذا أعظم مما حصل لموسى، مشى على أرض يابسة.(8/629)
وما يجري الله على أيديهم من خوارق العادات
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وأورد عليهم أن من آيات عيسى إحياء الموتى، ولم يقع ذلك لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فأجيب بأنه حصل وقع لأتباع الرسول عليه الصلاة والسلام، كما في قصة الرجل الذي مات حماره في أثناء الطريق، فدعا الله تعالى أن يحييه، فأحياه الله تعالى.
وأورد عليهم إبراء الأكمة والأبرص.
فأجيب بأنه حصل من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن قتادة بن النعمان لما جرح في أحد، ندرت عينه حتى صارت على خده، فجاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأخذها بيده، ووضعها في مكانها، فصارت أحسن عينيه. فهذه من أعظم الآيات.
فالآيات التي كانت للأنبياء السابقين كان من جنسها للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو لأمته، ومن أراد المزيد من ذلك، فليرجع إلى كتاب " البداية والنهاية في التاريخ " لابن كثير.
تنبيه:
الكرامات، قلنا: إنها تكون تأييدا أو تثبيتا أو إعانة للشخص أو نصرا للحق، ولهذا كانت الكرامات في التابعين أكثر منها في الصحابة، لأن الصحابة عندهم من التثبيت والتأييد والنصر ما يستغنون به عن الكرامات فإن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان بين أظهرهم، وأما التابعون، فإنهم دون ذلك، ولذلك كثرت الكرامات في زمنهم تأييدا لهم وتثبيتا ونصرا للحق الذي هم عليه.
" خوارق ": جمع خارق.
و" العادات ": جمع عادة.(8/630)
في أنواع العلوم والمكاشفات، وأنواع القدرة والتأثيرات
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والمراد بـ " خوارق العادات ": ما يأتي على خلاف العادة الكونية.
وهذه الكرامات لها أربع دلالات:
أولا: بيان كمال قدرة الله عز وجل، حيث حصل هذا الخارق للعادة بأمر الله.
ثانيا: تكذيب القائلين بأن الطبيعة هي التي تفعل، لأنه لو كانت الطبيعة هي التي تفعل، لكانت الطبيعة على نسق واحد لا يتغير، فإذا تغيرت العادات والطبيعة، دل على أن للكون مدبرا وخالقا.
ثالثا: أنها آية للنبي المتبوع كما أسلفنا قريبا.
رابعا: أن فيها تثبيتا وكرامة لهذا الولي.
يعني: أن الكرامة تنقسم إلى قسمين: قسم يتعلق بالعلوم والمكاشفات، وقسم آخر يتعلق بالقدرة والتأثيرات.
- أما العلوم، فأن يحصل للإنسان من العلوم ما لا يحصل لغيره.
- وأما المكاشفات، فأن يظهر له من الأشياء التي يكشف له عنها ما لا يحصل لغيره.
- مثال الأول - العلوم: ما ذكر عن أبي بكر: أن الله أطلعه على ما في بطن زوجته - الحمل -، أعلمه الله أنه أنثى. (1)
- ومثال الثاني - المكاشفات -: ما حصل لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث كان يخطب الناس يوم الجمعة على المنبر، فسمعوه يقول: يا سارية! الجبل! فتعجبوا من هذا الكلام، ثم سألوه عن ذلك؟
__________
(1) الإصابة في تمييز الصحابة (4/261) .(8/631)
كالمأثور عن سالف الأمم في سورة الكهف وغيرها، وعن صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين وسائر قرون الأمة وهي موجودة فيها إلى يوم القيامة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فقال: إنه كشف له عن سارية بن زنيم وهو أحد قواده في العراق، وأنه محصور من عدوه، فوجهه إلى الجبل، وقال له: يا سارية! الجبل! فسمع سارية صوت عمر، وانحاز إلى الجبل، وتحصن به. (1)
هذه من أمور المكاشفات، لأنه أمر واقع، لكنه بعيد.
- أما القدرة والتأثيرات، فمثل ما وقع لمريم من هزها لجذع النخل وتساقط الرطب عليها، ومثل ما وقع للذي عنده علم من الكتاب، حيث قال لسليمان: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} .
الكرامات موجودة فيما سبق من الأمم، ومنها قصة أصحاب الغار الذين انطبقت عليهم الصخرة، وموجودة في عهد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كقصة أسيد بن حضير، وتكثير الطعام عند بعض الصحابة، وموجودة في التابعين، مثل قصة صلة بن أشيم الذي أحيا الله له فرسه.
يقول شيخ الإسلام في كتاب " الفرقان ": " وهذا باب واسع، قد بسط الكلام على كرامات الأولياء في غير هذا الموضع، وأما ما نعرفه نحن عيانا ونعرفه في هذا الزمان، فكثير ".
الدليل على أنها موجودة إلى يوم القيامة: سمعي وعقلي:
__________
(1) البداية والنهاية (7/131) .(8/632)
- أما السمعي، فإن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبر في قصة الدجال أنه يدعو رجلا من الناس من الشباب، يأتي، ويقول له: كذبت! إنما أنت المسيح الدجال الذي أخبرنا عنك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيأتي الدجال، فيقتله قطعتين، فيجعل واحدة هنا وواحدة هنا رمية الغرض (يعني: بعيد ما بينهما) ، ويمشي بينهما، ثم يدعوه، فيقوم يتهلل، ثم يدعوه ليقر له بالعبودية، فيقول الرجل: ما كنت فيك أشد بصيرة مني اليوم! فيريد الدجال أن يقتله، فلا يسلط عليه.
فهذه أي: عدم تمكن الدجال من قتل ذلك الشاب من الكرامات بلا شك.
- وأما العقلي، فيقال: ما دام سبب الكرامة هي الولاية، فالولاية لا تزال موجودة إلى قيام الساعة (1)
__________
(1) انظر جـ 7 ص 135 من هذا الكتاب.(8/633)
فصل
ثم من طريقة أهل السنة والجماعة اتباع آثار الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فصل
في طريقة أهل السنة العملية
لما فرغ المؤلف مما يريد ذكره من طريقة أهل السنة العقدية، شرع في ذكر طريقتهم العملية.
قوله: " اتباع الآثار ": لا اتباع إلا بعلم، إذا، فهم حريصون على طلب العلم، ليعرفوا آثار الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم يتبعونها فهم يتبعون آثار الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في العقيدة والعبادة والأخلاق والدعوة إلى الله تعالى، يدعون عباد الله إلى شريعة الله في كل مناسبة، وكلما اقتضت الحكمة أن يدعوا إلى الله، دعوا إلى الله، ولكنهم لا يخبطون خبط عشواء، وإنما يدعون بالحكمة، يتبعون آثار الرسول عليه الصلاة والسلام في الأخلاق الحميدة في معاملة الناس باللطف واللين، وتنزيل كل إنسان منزلته، يتبعونه أيضا في أخلاقه مع أهله، فتجدهم يحرصون على أن يكونوا أحسن الناس لأهليهم، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي» . (1)
ونحن لا نستطيع أن نحصر آثار الرسول عليه الصلاة والسلام، ولكن نقول على سبيل الإجمال في العقيدة والعبادة والخلق والدعوة: في العبادة لا يتشددون ولا يتهاونون ويتبعون ما هو أفضل.
وربما يشتغلون عن العبادة بمعاملة الخلق للمصلحة، كما كان الرسول يأتيه الوفود يشغلونه عن الصلاة، فيقضيها فيما بعد.
__________
(1) رواه الترمذي (3895) ، والدارمي (2177) ، وابن ماجه (1977) .(8/634)
باطنا وظاهرا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: " باطنا وظاهرا ": الظهور والبطون أمر نسبي: ظاهرا فيما يظهر للناس، وباطنا فيما يسرونه بأنفسهم. ظاهرا في الأعمال الظاهرة، وباطنا في أعمال القلوب.........
فمثلا، التوكل والخوف والرجاء والإنابة والمحبة وما أشبه ذلك، هذه من أعمال القلوب، يقومون بها على الوجه المطلوب، والصلاة فيها القيام والقعود والركوع والسجود والصدقة والحج، والصيام، وهذه من أعمال الجوارح، فهي ظاهرة.
ثم اعلم أن آثار الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تنقسم إلى ثلاثة أقسام أو أكثر:
أولا: ما فعله على سبيل التعبد، فهذا لا شك أننا مأمورون باتباعه، لقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] ، فكل شيء لا يظهر فيه أنه فعله تأثرا بعادة أو بمقتضى جبلة وفطرة أو حصل اتفاقا، فإنه على سبيل التعبد، ونحن مأمورون به.
ثانيا: ما فعله اتفاقا، فهذا لا يشرع لنا التأسي فيه، لأنه غير مقصود، كما لو قال قائل: ينبغي أن يكون قدومنا إلى مكة في الحج في اليوم الرابع من ذي الحجة لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قدم مكة في اليوم الرابع من ذي الحجة. (1)
فنقول: هذا غير مشروع، لأن قدومه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا اليوم وقع اتفاقا.
ولو قائل قال: ينبغي إذا دفعنا من عرفة ووصلنا إلى الشعب الذي نزل فيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبال أن ننزل ونبول ونتوضأ وضوء خفيفا كما فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! فنقول: هذا لا يشرع.
__________
(1) كما رواه الإمام أحمد في " المسند " (3/366) .(8/635)
وكذلك غيرها من الأمور التي وقعت اتفاقا، فإنه لا يشرع التأسي فيه بذلك، لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعله لا على سبيل القصد للتعبد، والتأسي به تعبد.
ثالثا: ما فعله بمقتضى العادة، فهل يشرع لنا التأسي به؟
الجواب: نعم، ينبغي لنا أن نتأسى به، لكن بجنسه لا بنوعه.
وهذه المسألة قل من يتفطن لها من الناس، يظنون أن التأسي به فيما هو على سبيل العادة بالنوع، ثم ينفون التأسي به في ذلك.
ونحن نقول: نتأسى به، لكن باعتبار الجنس، بمعنى أن نفعل ما تقتضيه العادة التي كان عليها الناس، إلا أن يمنع ذلك مانع شرعي.
رابعا: ما فعله بمقتضى الجبلة، فهذا ليس من العبادات قطعا، لكن قد يكون عبادة من وجه، بأن يكون فعله على صفة معينة عبادة: كالنوم، فإنه بمقتضى الجبلة، لكن يسن أن يكون على اليمين، والأكل والشرب جبلة وطبيعة، ولكن قد يكون عبادة من جهة أخرى، إذا قصد به الإنسان امتثال أمر الله والتنعم بنعمه والقوة على عبادته وحفظ البدن، ثم إن صفة أيضا تكون عبادة كالأكل باليمين، والبسملة عند البداءة، والحمدلة عند الانتهاء.
وهنا نسأل: هل اتخاذ الشعر عادة أو عبادة؟
يرى بعض العلماء أنه عبادة، وأنه يسن للإنسان اتخاذ الشعر.
ويرى آخرون أن هذا من الأمور العادية، بدليل قول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي رآه قد حلق بعض رأسه وترك بعضه، فنهاهم عن ذلك، وقال: «احلقوا»(8/636)
واتباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«كله أو ذروا كله» ، وهذا يدل على أن اتخاذ الشعر ليس بعبادة، وإلا، لقال: أبقه، ولا تحلق منه شيئا!
وهذه المسألة ينبغي التثبت فيها، ولا يحكم على شيء بأنه عبادة، إلا بدليل، لأن الأصل في العبادات المنع، إلا ما قام الدليل على مشروعيته.
أي: ومن طريقة أهل السنة اتباع ... إلخ، فهي معطوفة على " اتباع الآثار ".
يعني: إلى الأعمال الصالحة.
يعني: من هذه الأمة.
المهاجرون: من هاجروا إلى المدينة.
الأنصار: أهل المدينة في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وإنما كان اتباع سبيلهم من منهج أهل السنة والجماعة، لأنهم أقرب إلى الصواب والحق ممن بعدهم، وكلما بعد الناس عن عهد النبوة، بعدوا من الحق، وكلما قرب الناس من عهد النبوة، قربوا من الحق، وكلما كان الإنسان أحرص على معرفة سيرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخلفائه الراشدين، كان أقرب إلى الحق.
ولهذا ترى اختلاف الأمة بعد زمن الصحابة والتابعين أكثر انتشارا وأشمل لجميع الأمور، لكن الخلاف في عهدهم كان محصورا.
فمن طريقة أهل السنة والجماعة أن ينظروا في سبيل السابقين الأولين(8/637)
واتباع وصية رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
من المهاجرين والأنصار، فيتبعوها، لأن اتباعها يؤدي إلى محبتهم، مع كونهم أقرب إلى الصواب والحق، خلافا لمن زهد في هذه الطريقة، وصار يقول: هم رجال ونحن رجال! لا يبالي بخلافهم!! وكأن قول أبي بكر وعمر وعثمان وعلي كقول فلان وفلان من أواخر هذه الأمة!! وهذا خطأ وضلال، فالصحابة أقرب إلى الصواب، وقولهم مقدم على قول غيرهم من أجل ما عندهم من الإيمان والعلم، وما عندهم من الفهم السليم التقوى والأمانة، وما لهم من صحبة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
" اتباع ": معطوف على " اتباع الآثار ".
" الوصية " العهد إلى غيره بأمر هام.
معنى: " عليكم بسنتي ... " إلخ: الحث على التمسك بها، وأكد هذا بقوله: «وعضوا عليها بالنواجذ» ، وهي أقصى الأضراس، مبالغة في التمسك بها.
والسنة: هي الطريقة ظاهرا وباطنا.
والخلفاء الراشدون: هم الذين خلفوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أمته علما وعملا ودعوة.
وأول من يدخل في هذا الوصف وأولى من يدخل فيه: الخلفاء الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي.
ثم يأتي رجل في هذا العصر، ليس عنده من العلم شيء، ويقول: أذان الجمعة الأول بدعة، لأنه ليس معروفا على عهد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويجب(8/638)
وإياكم ومحدثات الأمور
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أن نقتصر على الأذان الثاني فقط!
فنقول له: إن سنة عثمان رضي الله عنه سنة متبعة إذا لم تخالف سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يقم أحد من الصحابة الذين هم أعلم منك وأغير على دين الله بمعارضته، وهو من الخلفاء الراشدين المهديين، الذين أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باتباعهم.
ثم إن عثمان رضي الله عنه اعتمد على أصل، وهو أن بلالا يؤذن قبل الفجر في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا لصلاة الفجر، ولكن ليرجع القائم ويوقظ النائم، كما قال ذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمر عثمان بالأذان الأول يوم الجمعة، لا لحضور الإمام، ولكن لحضور الناس، لأن المدينة كبرت واتسعت واحتاج الناس أن يعلموا بقرب الجمعة قبل حضور الإمام، من أجل أن يكون حضورهم قبل حضور الإمام.
فأهل السنة والجماعة يتبعون ما أوصى به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الحث على التمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده وعلى رأسهم الخلفاء الأربعة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، إلا إذا خالف كلام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونعتذر عن هذا الصحابي، ونقول: هذا من باب الاجتهاد المعذور فيه.
إياكم للتحذير، أي: أحذركم.
" والأمور ": بمعنى: الشؤون، والمراد بها أمور الدين، أما أمور الدنيا، فلا تدخل في هذا الحديث، لأن الأصل في أمور الدنيا الحل، فما(8/639)
فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة "
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ابتدع منها، فهو حلال، إلا أن يدل الدليل على تحريمه. لكن أمور الدين الأصل فيها الحظر، فما ابتدع منها، فهو حرام بدعة، إلا بدليل من الكتاب والسنة على مشروعيته.
قال النبي عليه الصلاة السلام: «فإن كل بدعة ضلالة» (1) : الجملة مفرعة على الجملة التحذيرية، فيكون المراد بها هنا توكيد التحذير وبيان حكم البدعة.
هذا كلام عام مسور بأقوى لفظ دال على العموم، وهو لفظ (كل) ، فهو تعميم محكم صدر من الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والرسول عليه الصلاة والسلام أعلم الخلق بشريعة الله، وأنصح الخلق لعباد الله، وأفصح الخلق بيانا، وأصدقهم خبرا، فاجتمعت في حقه أربعة أمور: علم ونصح وفصاحة وصدق، نطق بقوله: «كل بدعة ضلالة» .
فعلى هذا: كل من تعبد لله بعقيدة أو قول أو فعل لم يكن من شريعة الله، فهو مبتدع.
فالجهمية يتعبدون بعقيدتهم، ويعتقدون أنهم منزهون لله، والمعتزلة كذلك. والأشاعرة يتعبدون بما هم عليه من عقيدة باطلة.
- والذين أحدثوا أذكارا معينة يتعبدون لله بذلك، ويعتقدون أنهم مأجورون على هذا.
- والذين أحدثوا أفعالا يتعبدون لله بها ويعتقدون أنهم مأجورون على هذا.
__________
(1) رواه الإمام أحمد (4-126) ، وأبو داود (4607) ، والترمذي (2676) ، وابن ماجه (43) .(8/640)
كل هذه الأصناف الثلاثة الذين ابتدعوا في العقيدة أو في الأقوال أو في الأفعال، كل بدعة من بدعهم، فهي ضلالة، ووصفها الرسول عليه الصلاة والسلام بالضلالة، لأنها مركب، ولأنها انحراف عن الحق.
والبدعة تستلزم محاذير فاسدة:
فأولا: تستلزم تكذيب قول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] ، لأنه إذا جاء ببدعة جديدة يعتبرها دينا، فمقتضاه أن الدين لم يكمل.
ثانيا: تستلزم القدح في الشريعة، وأنها ناقصة، فأكملها هذا المبتدع.
ثالثا: تستلزم القدح في المسلمين الذين لم يأتوا بها، فكل من سبق هذه البدع من الناس دينهم ناقص! وهذا خطير!!
رابعا: من لوازم هذه البدعة أن الغالب أن من اشتغل ببدعة، انشغل عن سنة، كما قال بعض السلف: " ما أحدث قوم بدعة، إلا هدموا مثلها من السنة ".
خامسا: أن هذه البدع توجب تفرق الأمة، لأن هؤلاء المبتدعة يعتقدون أنهم أصحاب الحق، ومن سواهم على ضلال!! وأهل الحق يقولون: أنتم الذين على ضلال! فتتفرق قلوبهم.
فهذه مفاسد عظيمة، كلها تترتب على البدعة من حيث هي بدعة، مع أنه يتصل بهذه البدعة سفه في العقل وخلل في الدين.
وبهذا نعرف أن من قسم البدعة إلى ثلاثة أقسام أو خمسة أو ستة، فقد أخطأ، وخطؤه من أحد وجهين:(8/641)
- إما أن لا ينطبق شرعا وصف البدعة على ما سماه بدعة.
- وإما أن لا يكون حسنا كما زعم.
فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «كل بدعة ضلالة» ، فقال: " كل "، فما الذي يخرجنا من هذا السور العظيم حتى نقسم البدع إلى أقسام؟
فإن قلت: ما تقول في قول أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه حين خرج إلى الناس وهم يصلون بإمامهم في رمضان، فقال: نعمت البدعة هذه. فأثنى عليها، وسماها بدعة؟!
فالجواب أن نقول: ننظر إلى هذه البدعة التي ذكرها، هل ينطبق عليها وصف البدعة الشرعية أو لا.
فإذا نظرنا لم يخرج وجدنا أنه لا ينطبق عليها وصف البدعة الشرعية، فقد ثبت أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى بأصحابه في رمضان ثلاث ليال، ثم تركه خوفا من أن تفرض عليهم، فثبت أصل المشروعية، وانتفى أن تكون بدعة شرعية، ولا يمكن أن نقول: إنها بدعة، والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد صلاها.
وإنما سماها عمر رضي الله عنه بدعة، لأن الناس تركوها، وصاروا لا يصلون جماعة بإمام واحد، بل أوزاعا، الرجل وحده والرجلان والثلاثة والرهط، فلما جمعهم على إمام واحد، صار اجتماعهم بدعة بالنسبة لما كانوا عليه أولا من هذا التفرق.
فإنه خرج رضي الله عنه ذات ليلة، فقال: لو أني جمعت الناس على إمام واحد، لكان أحسن، فأمر أبي بن كعب وتميما الداري أن يقوما للناس(8/642)
بإحدى عشرة ركعة، فقاما للناس بإحدى عشرة ركعة، فخرج ذات ليلة والناس يصلون بإمامهم، فقال: نعمت البدعة هذه.
إذا، هي بدعة نسبية، باعتبار أنها تركت ثم أنشئت مرة أخرى.
فهذا وجه تسميتها ببدعة.
وأما أنها بدعة شرعية، ويثني عليها عمر، فكلا.
وبهذا نعرف أن كلام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يعارضه كلام عمر رضي الله عنه.
فإن قلت: كيف تجمع بين هذا وبين قول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة» ، فأثبت أن الإنسان يسن سنة حسن في الإسلام؟
فنقول: كلام الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصدق بعضه بعضا، ولا يتناقض، فيريد بالسنة الحسنة السنة المشروعة، ويكون المراد بسنها المبادرة إلى فعلها.
يعرف هذا ببيان سبب الحديث، وهو أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاله حين جاء أحد الأنصار بصرة (يعني: من الدراهم) ، ووضعها بين يدي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين دعا أصحابه أن يتبرعوا للرهط الذين قدموا من مضر مجتابي النمار، وهم من كبار العرب، فتمعر وجه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما رأى من حالهم، فدعا إلى التبرع لهم، فجاء هذا الرجل أول ما جاء بهذه الصرة، فقال: «من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة» .(8/643)
ويعلمون أن أصدق الكلام كلام الله
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أو يقال: المراد بالسنة الحسنة ما أحدث ليكون وسيلة إلى ما ثبتت مشروعيته، كتصنيف الكتب وبناء المدارس ونحو ذلك.
وبهذا نعرف أن كلام الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يناقض بعضه بعضا، بل هو متفق، لأنه عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى.
هذا علمنا واعتقادنا، وأن ليس في كلام الله من كذب، بل هو أصدق الكلام، فإذا أخبر الله عن شيء بأنه كائن، فهو كائن، وإذا أخبر عن شيء بأنه سيكون، فإنه سيكون، وإذا أخبر عن شيء بأن صفته كذا وكذا، فإن صفته كذا وكذا، فلا يمكن أن يتغير الأمر عما أخبر الله به، ومن ظن التغير، فإنما ظنه خطأ، لقصوره أو تقصيره.
مثال ذلك لو قال قائل: إن الله عز وجل أخبر أن الأرض قد سطحت، قال: {وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية: 20] ، ونحن نشاهد أن الأرض مكورة، فكيف يكون خبره خلاف الواقع؟
فجوابه أن الآية لا تخالف الواقع، ولكن فهمه خاطئ إما لقصوره أو تقصيره، فالأرض مكورة مسطحة، وذلك لأنها مستديرة، ولكن لكبر حجمها لا تظهر استدارتها إلا في مساحة واسعة تكون بها مسطحة، وحينئذ يكون الخطأ في فهمه، حيث ظن أن كونها قد سطحت مخالف لكونها كروية.
فإذا كنا نؤمن أن أصدق الكلام كلام الله، فلازم ذلك أنه يجب علينا أن نصدق بكل ما أخبر به كتابه، سواء كان ذلك عن نفسه أو عن مخلوقاته.(8/644)
وخير الهدي هدي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" الهدي ": هو الطريق التي كان عليها السالك.
والطرق شتى، لكن خيرها طريق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنحن نعلم ذلك ونؤمن به، نعلم أن خير الهدي هدي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في العقائد والعبادات والأخلاق والمعاملات، وأن هدي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس بقاصر، لا في حسنه وتمامه وانتظامه موافقته لمصالح الخلق، ولا في أحكام الحوداث التي لم تزل ولا تزال تقع إلى يوم القيامة، فإن هدي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كامل تام، فهو خير الهدي، أهدى من شريعة التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وجميع الهدي.
فإذا كنا نعتقد ذلك، فوالله، لا نبغي به دليلا.
وبناء على هذه العقيدة لا نعارض قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقول أحد من الناس، كائنا من كان، حتى لو جاءنا قول لأبي بكر، وهو خير الأمة، وقول لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أخذنا بقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأهل السنة والجماعة بنوا هذا الاعتقاد على الكتاب والسنة.
- قال الله تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء: 87] .
- وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يخطب الناس على المنبر: «خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» .
ولهذا تجد الذين اختلفوا في الهدي وخالفوا فيه: إما مقصرين عن شريعة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإما غالين فيها، بين متشددين وبين متهاونين، بين مفرط ومفرط، وهدي الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكون بين هذا وهذا.(8/645)
ويؤثرون كلام الله على غيره من كلام أصناف الناس ويقدمون هدي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على هدي كل أحد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أي: يقدمون.
أي يقدمون كلام الله على كلام غيره من سائر أصناف الناس في الخبر والحكم، فأخبار الله عندهم مقدمة على خبر كل أحد.
فإذا جاءتنا أخبار عن أمم مضت وصار القرآن يكذبها، فإننا نكذبها.
مثال ذلك: اشتهر عند كثير من المؤرخين أن إدريس قبل نوح، وهذا كذب، لأن القرآن يكذبه، كما قال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163] ، وإدريس من النبيين، كما قال الله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} [مريم: 56] إلى أن قال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} [مريم: 58] ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [الحديد: 26] فلا نبي قبل نوح إلا آدم فقط.
أي: طريقته وسنته التي عليها.
في العقائد والعبادات والأخلاق والمعاملات والأحوال وفي كل شيء، لقوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] ، وقوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31] .(8/646)
ولهذا سموا أهل الكتاب والسنة وسموا أهل الجماعة لأن الجماعة في الاجتماع وضدها الفرقة وإن كان لفظ الجماعة قد صار أسما لنفس القوم المجتمعين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: " ولهذا ": اللام في قول: " ولهذا " للتعليل، أي: ومن أجل إيثارهم كلام الله وتقديم هدي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
لتصديقهما والتزامهما وإيثارهما على غيرهما. ومن خالف الكتاب والسنة، وادعى أنه من أهل الكتاب والسنة، فهو كاذب، لأن من كان من أهل شيء لا بد أن يلزمه ويلتزم به.
الجماعة اسم مصدر يجتمع اجتماعا وجماعة، فالجماعة هي الاجتماع، فمعنى أهل الجماعة أهل الاجتماع، لأنهم مجتمعون على السنة، متالفون فيها، لا يضلل بعضهم بعضا، ولا يبدع بعضهم بعضا، بخلاف أهل البدع.
هذا استعمال ثان، حيث صار لفظ (الجماعة) عرفا: اسما للقوم المجتمعين.
وعلى ما قرره المؤلف تكون (الجماعة) في قولنا: " أهل السنة والجماعة ": معطوفة على (السنة) ، ولهذا عبر المؤلف بقوله: " سموا أهل الجماعة "، ولم يقل: سموا جماعة، فكيف يكونون أهل الجماعة وهم جماعة؟
نقول: الجماعة في الأصل: الاجتماع، فأهل الجماعة، يعني: أهل الاجتماع، لكن نقل اسم الجماعة إلى القوم المجتمعين نقلا عرفيا.(8/647)
والإجماع هو الأصل الثالث الذي يعتمد عليه في العلم والدين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يعني به الدليل الثالث، لأن الأدلة أصول الأحكام، حيث تبنى عليها.
والأصل الأول: هو الكتاب، والثاني: السنة، والإجماع هو: الأصل الثالث، ولهذا يسمون: أهل الكتاب والسنة والجماعة.
فهذه ثلاثة أصول يعتمد عليها في العلم والدين، وهي: الكتاب، والسنة، والإجماع.
أما الكتاب والسنة، فأصلان ذاتيان، وأما الإجماع، فأصل مبني على غيره، إذ لا إجماع إلا بكتاب أو سنة.
أما كون الكتاب والسنة يرجع إليه، فأدلته كثيرة، منها:
- قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] . وقوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [المائدة: 92] .
- وقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] .
ومن أنكر أن تكون السنة أصلا في الدليل، فقد أنكر أن يكون القرآن أصلا.
ولا شك عندنا في أن من قال: إن السنة لا يرجع إليها في الأحكام الشرعية، أنه كافر مرتد عن الإسلام، لأنه مكذب ومنكر للقرآن، فالقرآن في غير ما موضع جعل السنة أصلا يرجع إليه.
وأما الدليل على أن الإجماع أصل، فيقال:
أولا: هل الإجماع موجود أو غير موجود؟
قال بعض العلماء: لا إجماع موجود، إلا على ما فيه نص، وحينئذ؛(8/648)
يستغنى بالنص عن الإجماع.
فمثلا، لو قال قائل: العلماء مجمعون على أن الصلوات المفروضة خمس، فهذا صحيح، لكن ثبوت فرضيتها بالنص.
ومجمعون على تحريم الزنى، فهذا صحيح، لكن ثبوت تحريمه بالنص.
ومجمعون على تحريم نكاح ذوات المحارم فهذا صحيح، لكن ثبوت تحريمه بالنص.
ولهذا قال الإمام أحمد: من ادعى الإجماع، فهو كاذب، وما يدريه؟ لعلهم اختلفوا.
والمعروف عن عامة العلماء أن الإجماع موجود، وأن كونه دليلا ثابت بالقرآن والسنة:
- فمن ذلك قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] ، فإن قوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ} : يدل على أن ما أجمعنا عليه لا يجب رده إلى الكتاب والسنة، اكتفاء بالإجماع! وهذا الاستدلال فيه شيء!!
- ومن ذلك قوله: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115] ، فقال {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} .
- واستدلوا أيضا بحديث: «لا تجتمع أمتي على ضلالة» . (1)
- وهذا الحديث حسنه بعضهم وضعفه آخرون، لكن قد نقول: إن هذا، وإن كان ضعيف السند، لكن يشهد لمتنه ما سبق من النص القرآني.
فجمهور الأمة على أن الإجماع دليل مستقل، وأننا إذا وجدنا مسألة
__________
(1) رواه الترمذي (3/207) ، وابن ماجه (2/1303) .(8/649)
وهم يزنون بهذه الأصول الثلاثة جميع ما عليه الناس من أقوال وأعمال باطنة أو ظاهرة مما له تعلق بالدين والإجماع الذي ينضبط هو ما كان عليه السلف الصالح، إذا بعدهم كثر الاختلاف وانتشرت الأمة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فيها إجماع، أثبتناها بهذا الإجماع.
وكأن المؤلف رحمه الله يريد من هذه الجملة إثبات أن إجماع أهل السنة حجة.
" الأصول الثلاثة ": هي الكتاب والسنة والإجماع.
يعني: أن أهل السنة والجماعة يزنون بهذه الأصول الثلاثة جميع ما عليه الناس من قول أو عمل، باطن أو ظاهر، لا يعرفون أنه حق، إلا إذا وزنوه بالكتاب والسنة والإجماع، فإن وجد له دليل منها، فهو حق، وإن كان على خلافه، فهو باطل.
يعني أن الإجماع الذي يمكن ضبطه والإحاطة به هو ما كان عليه السلف الصالح وهم القرون الثلاثة، الصحابة والتابعون وتابعوهم.
ثم علل المؤلف ذلك بقوله: " إذ بعدهم كثر الاختلاف وكثرت الأمة " يعني: أنه كثر الاختلاف ككثرة الأهواء، لأن الناس تفرقوا طوائف، ولم يكونوا كلهم يريدون الحق، فاختلفت الآراء، وتنوعت الأقوال، " وانتشرت الأمة ": فصارت الإحاطة بهم من أصعب الأمور.
فشيخ الإسلام رحمه الله كأنه يقول: من ادعى الإجماع بعد السلف الصالح، وهم القرون الثلاثة، فإنه لا يصح دعواه الإجماع، لأن الإجماع الذي ينضبط ما كان عليه السلف الصالح، وهل يمكن أن يوجد إجماع بعد الخلاف؟ فنقول: لا إجماع مع وجود خلاف سابق ولا عبرة بخلاف بعد تحقق الإجماع.(8/650)
فصل
ثم هم مع هذه الأصول يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر
على ما توجبه الشريعة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فصل
في منهج أهل السنة والجماعة
في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها من الخصال
أي: أهل السنة والجماعة.
" مع هذه الأصول ": السابقة التي ذكرها قبل هذا، وهو اتباع آثار الرسول عليه الصلاة والسلام، واتباع الخلفاء الراشدين وإيثارهم كلام الله وكلام رسوله على غيره واتباع إجماع المسلمين، مع هذه الأصول: يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
" المعروف ": كل ما أمر به الشرع، فهم يأمرون به.
" المنكر ": كل ما نهى عن الشرع، فهم ينهون عنه.
لأن هذا هو ما أمر الله به في قوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104] .
وكذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: «لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا» . (1)
فهم يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ولا يتأخرون عن ذلك.
ولكن يشترط للأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر أن يكونا على ما توجبه الشريعة وتقتضيه.
__________
(1) رواه أبو داود (4336) ، وابن ماجه (4006) .(8/651)
ولذلك شروط:
الشرط الأول: أن يكون عالما بحكم الشرع فيما يأمر به أو ينهى عنه، فلا يأمر إلا بما علم أن الشرع أمر به: ولا ينهى إلا عما علم أن الشرع نهى عنه، ولا يعتمد في ذلك على ذوق ولا عادة.
لقوله تعالى لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 48] .
وقوله: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36] .
وقوله: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [النحل: 116] .
فلو رأى شخصا يفعل شيئا الأصل فيه الحل، فإنه لا يحل له أن ينهاه عنه حتى يعلم أنه حرام أو منهي عنه.
- ولو رأى شخصا ترك شيئا يظنه الرائي عبادة، فإنه لا يحل له أن يأمره بالتعبد به حتى يعلم أن الشرع أمر به.
- الشرط الثاني: أن يعلم بحال المأمور: هل هو ممن يوجه إليه الأمر أو النهي أم لا؟ فلو رأى شخصا يشك هل هو مكلف أم لا، لم يأمره بما لا يؤمر به مثله حتى يستفصل.
الشرط الثالث: أن يكون عالما بحال المأمور حال تكليفه، هل قال بالفعل أم لا؟(8/652)
- فلو رأى شخصا دخل المسجد ثم جلس، وشك هل صلى ركعتين، فلا ينكر عليه، ولا يأمره بهما، حتى يستفصل.
ودليل ذلك «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يخطب يوم الجمعة، فدخل رجل، فجلس، فقال له النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: " أصليت؟ " قال: لا قال: " قم فصل ركعتين وتجوز فيهما» .
- ولقد نقل لي أنه بعض الناس يقول: يحرم أن يسجل القرآن بأشرطة، لأن ذلك إهانة للقرآن على زعمه! فينهى الناس أن يسجلوا القرآن على هذه الأشرطة، لظنه أنه منكر!!
فنقول له: إن المنكر أن تنهاهم عن شيء لم تعلم أنه منكر!! فلا بد أن تعلم أن هذا منكر في دين الله.
وهذا في غير العبادات، أما العبادات، فإننا لو رأينا رجلا يتعبد بعبادة، لم يعلم أنها مما أمر الله به، فإننا ننهاه، لأن الأصل في العبادات المنع.
الشرط الرابع: أن يكون قادرا على القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلا ضرر يلحقه، فإن لحقه ضرر، لم يجب عليه، لكن إن صبر وقام به، فهو أفضل؛ لأن جميع الواجبات مشروطة بالقدرة والاستطاعة، لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] ، وقوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] .
فإذا خاف إذا أمر شخصا بمعروف أن يقتله، فإنه لا يلزمه أن يأمره، لأنه(8/653)
لا يستطيع ذلك، بل قد يحرم عليه حينئذ. وقال بعض العلماء: بل يجب عليه الأمر والصبر، وإن تضرر بذلك ما لم يصل إلى حد القتل. لكن القول الأول أولى، لأن هذا الأمر إذا لحقه الضرر بحبس ونحوه، فإن غيره قد يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خوفا مما حصل، حتى في حال لا يخشى منها ذلك الضرر.
وهذا ما لم يصل الأمر إلى حد يكون الأمر حد يكون الأمر بالمعروف من جنس الجهاد، كما لو أمر بسنة ونهى عن بدعة، ولو سكت، لاستطال أهل البدعة على أهل السنة، ففي هذه الحال يجب إظهار السنة وبيان البدعة؛ لأنه من الجهاد في سبيل الله، ولا يعذر من تعين عليه بالخوف على نفسه.
الشرط الخامس: أن لا يترتب على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مفسدة أعظم من السكوت، فإن ترتب عليها ذلك، فإنه لا يلزمه، بل لا يجوز له أن يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر.
ولهذا قال العلماء: إن إنكار المنكر ينتج منه إحدى أحوال أربعة: إما أن يزول المنكر، أو يتحول إلى أخف منه، أو إلى مثله، أو إلى أعظم منه.
- أما الحالة الأولى والثانية، فالإنكار واجب.
- أما في الثالثة، فهي في محل نظر.
- وأما في الرابعة، فلا يجوز الإنكار، لأن المقصود بإنكار المنكر إزالته أو تخفيفه.
- مثال ذلك: إذا أراد أن يأمر شخصا بفعل إحسان، لكن يستلزم فعل هذا الإحسان ألا يصلي مع الجماعة، فهنا لا يجوز الأمر بهذا المعروف،(8/654)
لأنه يؤدي إلى ترك واجب من أجل فعل مستحب.
وكذلك في المنكر لو كان إذا نهى عن هذا المنكر، تحول الفاعل له إلى فعل منكر أعظم، فإنه في هذه الحال لا يجوز أن ينهى عن هذا المنكر دفعا لأعلى المفسدتين بأدناهما.
ويدل لهذا قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 108] فإن سب آلهة المشركين، لا شك أنه أمر مطلوب، لكن لما كان يترتب عليه أمر محظور أعظم من المصلحة التي تكون بسب آلهة المشركين، وهو سبهم لله تعالى عدوا بغير علم، نهى الله عن سب آلهة المشركين في هذه الحال.
ولو وجدنا رجلا يشرب الخمر، وشرب الخمر منكر، فلو نهيناه عن شربه، لذهب يسرق أموال الناس ويستحل أعراضهم، فهنا لا ننهاه عن شرب الخمر، لأنه يترتب عليه مفسدة أعظم.
الشرط السادس: أن يكون هذا الآمر أو الناهي قائما بما يأمر به منتهيا عما ينهى عنه، وهذا على رأي بعض العلماء، فإن كان غير قائم بذلك، فإنه لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر، لأن الله تعالى قال لبني إسرائيل: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44] ، فإذا كان هذا الرجل لا يصلي، فلا يأمر غيره بالصلاة، وإن كان يشرب الخمر، فلا ينهى غيره عنها، ولهذا قال الشاعر:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم
فهم استدلوا بالأثر والنظر.(8/655)
ولكن الجمهور على خلاف ذلك، وقالوا: يجب أن يأمر بالمعروف، وإن كان لا يأتيه، وينهى عن المنكر، وإن كان يأتيه، وإنما وبخ الله تعالى بني إسرائيل، لا على أمرهم بالبر، ولكن على جمعهم بين الأمر بالبر ونسيان النفس.
وهذا القول هو الصحيح، فنقول: أنت الآن مأمور بأمرين: الأول: فعل البر، والثاني: الأمر بالبر. منهي عن أمرين: الأول: فعل المنكر، والثاني: ترك النهي عن فعله. فلا تجمع بين ترك المأمورين وفعل المنهيين، فإن ترك أحدهما لا يستلزم سقوط الآخر.
فهذه ستة شروط، منها أربعة للجواز، وهي الأول والثاني والثالث والخامس، على تفصيل فيه، واثنان للوجوب، وهما الرابع والسادس.
ولا يشترط أن لا يكون من أصول الآمر أو الناهي كأبيه أو أمه أو جده أو جدته، بل ربما نقول: إن هذا يتأكد أكثر، لأن من بر الوالدين أن ينهاهما عن فعل المعاصي ويأمرهما بفعل الطاعات قد يقول: أنا إذا نهيت أبي، غضب علي، وهجرني، فماذا أصنع؟
نقول: اصبر على هذا الذي ينالك بغضب أبيك وهجره، والعاقبة للمتقين، واتبع ملة إبراهيم عليه السلام، حيث عاتب أباه على الشرك، فقال: {يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} إلى أن قال: {يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} قال، أي: أبوه: {أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم: 42 - 46] . وقال إبراهيم أيضا لأبيه آزر:(8/656)
ويرون إقامة الحج، والجهاد، والجمع، والأعياد، مع الأمراء، أبرارا كانوا أو فجارا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
{أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 74] .
الأبرار: جمع بر، وهو كثير الطاعة، والفجار: جمع فاجر وهو العاصي كثير المعصية.
فأهل السنة رحمهم الله يخالفون أهل البدع تماما، فيرون إقامة الحج مع الأمير، وإن كان من أفسق عباد الله.
وكان الناس فيما سبق يجعلون على الحج أميرا، كما جعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا بكر أميرا على الحج في العام التاسع من الهجرة، وما زال الناس على ذلك، يجعلون للحجة أميرا قائدا يدفعون ويقفون بوقوفه، وهذا هو المشروع، لأن المسلمين يحتاجون إلى إمام يقتدون به، أما كون كل إنسان على رأسه، فإنه يحصل به فوضى واختلاف.
فهم يرون إقامة الحج مع الأمراء، وإن كانوا فساقا، حتى وإن كانوا يشربون الخمر في الحج، لا يقولون: هذا إمام فاجر، لا نقبل إمامته؛ لأنهم يرون أن طاعة ولي الأمر واجبة، وإن كان فاسقا، بشرط أن لا يخرجه فسقه إلى الكفر البواح الذي عندنا فيه من الله برهان، فهذا لا طاعة له، ويجب أن يزال عن تولي أمور المسلمين، لكن الفجور الذي دون الكفر مهما بلغ، فإن الولاية لا تزال به، بل هي ثابتة، والطاعة لولي الأمر واجبة في غير المعصية.
- خلافا للخوارج، الذين يرون أنه لا طاعة للإمام والأمير إذا كان عاصيا، لأن من قاعدتهم: أن الكبيرة تخرج من الملة.
- وخلافا للرافضة الذين يقولون: إنه لا إمام إلا المعصوم، وإن الأمة(8/657)
الإسلامية منذ غاب من يزعمون أنه الإمام المنتظر، ليست على إمام، ولا تبعا لإمام، بل هي تموت ميتة جاهلية من ذلك الوقت إلى اليوم، ويقولون: إنه لا إمام إلا الإمام المعصوم، ولا حج ولا جهاد مع أي أمير كان؛ لأن الإمام لم يأت بعد.
لكن أهل السنة والجماعة يقولون: نحن نرى إقامة الحج مع الأمراء سواء كانوا أبرارا أو فجارا، وكذلك إقامة الجهاد مع الأمير، ولو كان فساقا، ويقيمون الجهاد مع أمير لا يصلي معهم الجماعة، بل يصلي في رحله.
فأهل السنة والجماعة لديهم بعد نظر، لأن المخالفات في هذه الأمور معصية لله ورسوله، وتجر إلى فتن عظيمة.
فما الذي فتح باب الفتن والقتال بين المسلمين والاختلاف في الآراء إلا الخروج على الأئمة؟!
فيرى أهل السنة والجماعة وجوب إقامة الحج والجهاد مع الأمراء، وإن كانوا فجارا.
ولكن هذا لا يعني أن أهل السنة والجماعة لا يرون أن فعل الأمير منكر، بل يرون أنه منكر، وأن فعل الأمير للمنكر قد يكون أشد من فعل عامة الناس، لأن فعل الأمير للمنكر يلزم منه زيادة على إثمه محذوران عظيمان:
الأول: اقتداء الناس به وتهاونهم بهذا المنكر.
والثاني: أن الأمير إذا فعل المنكر سيقل في نفسه تغييره على الرعية أو(8/658)
تغيير مثله أو مقاربه.
لكن أهل السنة والجماعة يقولون: حتى مع هذا الأمر المستلزم لهذين المحذورين أو لغيرهما، فإنه يجب علينا طاعة ولاة الأمور، وإن كانوا عصاة، فنقيم معهم الحج والجهاد، وكذلك الجمع، نقيمها مع الأمراء، ولو كانوا فجارا.
فالأمير إذا كان يشرب الخمر مثلا، ويظلم الناس بأموالهم، نصلي خلفه الجمعة، وتصح الصلاة، حتى إن أهل السنة والجماعة يرون صحة الجمعة خلف الأمير المبتدع إذا لم تصل بدعته إلى الكفر؛ لأنهم يرون أن الاختلاف عليه في مثل هذه الأمور شر، ولكن لا يليق بالأمير الذي له إمامة الجمعة أن يفعل هذه المنكرات.
وكذلك أيضا إقامة الأعياد مع الأمراء الذي يصلون بهم، أبرارا كانوا أو فجارا.
وبهذه الطريق الهادئة يتبين أن الدين الإسلامي وسط بين الغالي فيه والجافي عنه.
فقد يقول قائل: كيف نصلي خلف هؤلاء ونتابعهم في الحج والجهاد والجمع والأعياد؟!
فنقول: لأنهم أئمتنا، ندين لهم بالسمع والطاعة: امتثالا لأمر الله بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] . ولأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: «إنكم سترون بعدي أثرة وأمورا تنكرونها ". قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: " أدوا إليهم حقهم،»(8/659)
«وسلوا الله حقكم» . وحقهم: طاعتهم في غير معصية الله.
وعن وائل بن حجر، قال: «سأل سلمة بن يزيد الجعفي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقال: يا نبي الله! أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألونا حقهم ويمنعونا حقنا، فما تأمرنا؟ قال: " اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم» .
وفي حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال: «بايعنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله. قال: " إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان» .
ولأننا لو تخلفنا عن متابعتهم، لشققنا عصا الطاعة الذي يترتب على شقه أمور عظيمة، ومصائب جسيمة.
والأمور التي فيها تأويل واختلاف بين العلماء إذا ارتكبها ولاة الأمور، لا يحل لنا منابذتهم ومخالفتهم، لكن يجب علينا مناصحتهم بقدر المستطاع فيما خالفوا فيه، مما لا يسوغ فيه الاجتهاد، وأما ما يسوغ فيه الاجتهاد، فنبحث معهم فيه بحث تقدير واحترام، لنبين لهم الحق، لا على سبيل الانتقاد لهم والانتصار للنفس، وأما منابذتهم وعدم طاعتهم،(8/660)
ويحافظون على الجماعات
، ويدينون بالنصيحة للأمة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فليس من طريق أهل السنة والجماعة.
أي: يحافظ أهل السنة والجماعة على الجماعات، أي: على إقامة الجماعة في الصلوات الخمس، يحافظون عليها محافظة تامة، بحيث إذا سمعوا النداء، أجابوا وصلوا مع المسلمين، فمن لم يحافظ على الصلوات الخمس، فقد فاته من صفات أهل السنة والجماعة ما فاته من هذه الجماعات.
وربما يدخل في الجماعات الاجتماع على الرأي وعدم النزاع فيه، فإن هذا ما أوصى به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم معاذ بن جبل وأبا موسى حين بعثهما إلى اليمن، فقال: «يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا، ولا تختلفا» .
" يدينون "، أي: يتعبدون لله عز وجل بالنصيحة للأمة، ويعتقدون ذلك دينا.
والنصح للأمة قد يكون الحامل عليه غير التعبد لله، فقد يكون الحامل عليه الغيرة، وقد يكون الحامل عليه الخوف من العقوبات، وقد يكون الحامل عليه أن يتخلق بالأخلاق الفاضلة التي يريد بها نفع المسلمين ... إلى غير ذلك من الأسباب.
لكن هؤلاء ينصحون للأمة طاعة لله تعالى وتدينا له، لقول الرسول عليه الصلاة والسلام في حديث تميم بن أوس الداري: «الدين النصيحة،»(8/661)
«الدين النصيحة ". قالوا لمن يا رسول الله؟ قال: " لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم» .
- فالنصيحة لله صدق الطلب في الوصول إليه.
- والنصيحة للرسول عليه الصلاة والسلام صدق الاتباع له، ويستلزم ذلك الذود عن دين الله عز وجل، الذي جاء به رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولهذا قال: " ولكتابه ".
- فينصح للقرآن ببيان أنه كلام الله، وأنه منزل غير مخلوق، وأنه يجب تصديق خبره وامتثال أحكامه، وهو كذلك يعتقده في نفسه.
- " وأئمة المسلمين " كل من ولاه الله أمرا من أمور المسلمين، فهو إمام في ذلك الأمر، فهناك إمام عام كرئيس الدولة، وهناك إمام خاص، كالأمير والوزير والمدير والرئيس وأئمة المساجد وغيرهم.
- وعامتهم، يعني: عامة المسلمين، وهم التابعون للأئمة.
- ومن أعظم أئمة المسلمين العلماء، والنصيحة لعلماء المسلمين هي نشر محاسنهم، والكف عن مساوئهم، والحرص على إصابتهم الصواب، بحيث يرشدهم إذا أخطئوا، ويبين لهم الخطأ على وجه لا يخدش كرامتهم، ولا يحط من قدرهم، لأن تخطئة العلماء على وجه يحط من قدرهم ضرر على عموم الإسلام، لأن العامة إذا رأوا العلماء يضلل بعضهم بعضا سقطوا من أعينهم وقالوا: كل هؤلاء راد ومردود عليه. فلا ندري من الصواب معه! فلا يأخذون بقول أي واحد منهم، لكن إذا احترم العلماء بعضهم بعضا، وصار كل واحد يرشد أخاه سرا إذا أخطأ، ويعلن(8/662)
ويعتقدون معنى قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص، يشد بعضه بعضا " وشبك بين أصابعه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
للناس القول الصحيح، فإن هذا من أعظم النصيحة لعلماء المسلمين.
وقول المؤلف: " للأمة ": يشمل الأئمة والعامة، فأهل السنة والجماعة يدينون بالنصيحة للأمة، أئمتهم وعامتهم.
وكان مما يبايع الرسول عليه الصلاة والسلام أصحابه: «والنصح لكل مسلم» .
فإذا قال قائل: ما هو ميزان النصيحة للأمة؟
فالميزان هو ما أشار إليه النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» ، فإذا عاملت الناس هذه المعاملة، فهذا هو تمام النصيحة.
فقبل أن تعامل صاحبك بنوع من المعاملة فكر، هل ترضى أن يعاملك شخص بها؟ فإن كنت لا ترضى، فلا تعامله!!
شبه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم المؤمن لأخيه المؤمن بالبنيان الذي يشد بعضه بعضا، حتى يكون بناء محكما متماسكا يشد بعضه بعضا ويقوى به، ثم قرب هذا وأكده، فشبك بين أصابعه.
فالأصابع المتفرقة فيها ضعف، فإذا اشتبكت، قوى بعضها بعضا، فالمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا، فالبنيان يمسك بعضه بعضا، كذلك المؤمن مع أخيه إذا صار في أخيه نقص، فإن هذا يكمله، فهو مرآة أخيه إذا وجد فيه النقص كمله، إذا احتاج أخوه ساعده، إذا مرض أخوه(8/663)
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عاده ... وهكذا في كل الأحوال. فأهل السنة والجماعة يعتقدون هذا المعنى ويطبقونه عملا.
" قوله ": هنا معطوف على " قوله " في الحديث السابق.
أي: مودة بعضهم بعضا.
أي: رحمة بعضهم بعضا.
أي: عطف بعضهم على بعض.
أي: أنهم يشتركون في الآمال والآلام، فيرحم بعضهم بعضا، فإذا احتاج، أزال حاجته، ويعطف بعضهم على بعض باللين والرفق وغير ذلك ... ويود بعضهم بعضا، حتى إن الواحد منهم إذا رأى في قلبه بغضاء لأحد من إخوانه المسلمين، حاول أن يزيله وأن يذكر من محاسنه ما يوجب زوال هذه البغضاء.
فالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو، ولو من أصغر الأعضاء، تداعى له سائر الجسد، فإذا أوجعك أصبعك الخنصر الذي هو من أصغر الأعضاء، فإن الجسد كله يتألم، إذا أوجعتك الأذن، تألم الجسد كله، وإذا أوجعتك العين، تألم الجسد كله، وغير ذلك.
فهذا المثل الذي ضربه النبي عليه الصلاة والسلام مثل مصور للمعنى ومقرب له غاية التقريب.
"(8/664)
ويأمرون بالصبر عند البلاء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يأمرون ": قد يقال: إن هذه الكلمة تشمل أمر نفوسهم، لقوله تعالى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53] ، فهم يأمرون حتى أنفسهم.
الصبر: هو تحمل البلاء، وحبس النفس عن التسخط بالقلب أو اللسان أو الجوارح.
والبلاء: المصيبة، قال الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة 155- 156] .
فالصبر يكون عند البلاء، وأفضله وأعلاه الصبر عند الصدمة الأولى، وهذا عنوان الصبر الحقيقي، كما «قاله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمرأة التي مر بها وهي تبكي عند قبر، فقال لها: " اتقي الله واصبري، قالت: إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأتت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم تجد عنده بوابين، فقالت: لم أعرفك، فقال: " إنما الصبر عند الصدمة الأولى» ، أما بعد أن تبرد الصدمة، فإن الصبر يكون سهلا، ولا ينال به كمال الصبر.
فأهل السنة والجماعة يأمرون بالصبر عند البلاء، وما من إنسان إلا يبتلى إما في نفسه وإما في أهله، وإما في ماله، وإما في صحبه، وإما في بلده، وإما في المسلمين عامة. ويكون ذلك إما في الدنيا وإما في الدين، والمصيبة في الدين أعظم بكثير من المصيبة في الدنيا.
فأهل السنة والجماعة يأمرون بالصبر عند البلاء في الأمرين:(8/665)
والشكر عند الرخاء
والرضا بمر القضاء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
- فأما الصبر على بلاء الدنيا، فأن يتحمل المصيبة كما سبق.
- وأما الصبر على بلاء الدين، فأن يثبت على دينه، ولا يتزعزع عنه، ولا يكن كمن قال الله تعالى فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت: 10] .
الرخاء: سعة في العيش، والأمن في الوطن، فيأمرون عند ذلك بالشكر.
وأيهما أشق الصبر على البلاء، أو الشكر عند الرخاء؟
اختلف العلماء في ذلك، فقال بعضهم: إن الصبر على البلاء أشق، وقال آخرون: الشكر عند الرخاء أشق.
والصواب: أن لكل واحد آفته ومشقته، لأن الله عز وجل قال: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} [هود: 9 - 10] .
لكن كل منهما قد يهونه بعض التفكير: فالمصاب إذا فكر وقال إن جزعي لا يرد المصيبة ولا يرفعها، فإما أن أصبر صبر الكرام، وإما أن أسلو سلو البهائم، فهان عليه الصبر، وكذلك الذي في رخاء ورغد.
لكن أهل السنة والجماعة يأمرون بهذا وهذا، بالصبر عند البلاء والشكر عند الرخاء.
الرضى أعلى من الصبر ومر القضاء: هو ما يلائم طبيعة الإنسان، ولهذا عبر عنه بـ " المر ".
فإذا قضى الله قضاء لا يلائم طبيعة البشر، وتأذى به، سمي ذلك مر(8/666)
القضاء، فهو ليس لذيذا ولا حلوا، بل هو مر، فهم يأمرون بالرضى بمر القضاء.
واعلم أن مر القضاء لنا فيه نظران:
النظر الأول: باعتباره فعلا واقعا من الله.
والنظر الثاني: باعتباره مفعولا له.
فباعتبار كونه فعلا من الله يجب علينا أن نرضى به، ألا نعترض على ربنا به، لأن هذا من تمام الرضى بالله ربا.
وأما باعتباره مفعولا له، فهذا يسن الرضى به، ويجب الصبر عليه.
فالمرض باعتبار كون الله قدره الرضى به واجب، وباعتبار المرض نفسه يسن الرضى به، وأما الصبر عليه، فهو واجب، والشكر عليه مستحب.
ولهذا نقول: المصابون لهم تجاه المصائب أربعة مقامات: المقام الأول: السخط، والثاني: الصبر، والثالث: الرضى، والرابع: الشكر.
فأما السخط، فحرام بل هو من كبائر الذنوب، مثل أن يلطم خده، أو ينتف شعره، أو يشق ثوبه، أو يقول: وا ثبوراه! أو يدعو على نفسه بالهلاك وغير ذلك مما يدل على السخط، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ليس منا من شق الجيوب ولطم الخدود ودعا بدعوى الجاهلية» .
الثاني: الصبر: بأن يحبس نفسه قلبا ولسانا وجوارح عن التسخط، فهذا واجب.
الثالث: الرضى: والفرق بينه وبين الصبر: أن الصابر يتجرع المر،(8/667)
لكن لا يستطيع أن يتسخط، إلا أن هذا الشيء في نفسه. صعب ومر، ويتمثل بقول الشاعر:
والصبر مثل اسمه مر مذاقته ... لكن عواقبه أحلى من العسل
لكن الراضي لا يذوق هذا مرا، بل هو مطمئن، وكان هذا الشيء الذي أصابه لا شيء.
وجمهور العلماء على أن الرضى بالمقضي مستحب، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو الصحيح.
الرابع: الشكر: وهو أن يقول بلسانه وحاله: " الحمد لله "، ويرى أن هذه المصيبة نعمة، لكن، هذا المقام، قد يقول قائل: كيف يكون؟!
فنقول: يكون لمن وفقه الله تعالى:
فأولا: لأنه إذا علم أن هذه المصيبة كفارة للذنب، وأن العقوبة على الذنب في الدنيا أهون من تأخير العقوبة في الآخرة، صارت هذه المصيبة عنده نعمة يشكر الله عليها.
وثانيا: أن هذه المصيبة إذا صبر عليها، أثيب، لقوله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] .
فيشكر الله على هذه المصيبة الموجبة للأجر.
وثالثا: أن الصبر من المقامات العالية عند أرباب السلوك، لا ينال إلا بوجود أسبابه، فيشكر الله على نيل هذا المقام.
ويذكر أن بعض العابدات أصيبت في أصبعها، فشكرت الله، فقيل لها في ذلك، فقالت: إن حلاوة أجرها أنستني مرارة صبرها.
فأهل السنة والجماعة رحمهم الله يأمرون بالصبر على(8/668)
البلاء، والشكر عند الرخاء، والرضى بمر القضاء.
تتمة:
القضاء يطلق على معنيين:
أحدهما: حكم الله تعالى الذي هو قضاؤه ووصفه، فهذا يجب الرضى به بكل حال، سواء كان قضاء دينيا أم قضاء كونيا، لأنه حكم الله تعالى، ومن تمام الرضى بربوبيته.
فمثال القضاء الديني قضاؤه بالوجوب والتحريم والحل، ومنه قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] .
ومثال القضاء الكوني: قضاؤه بالرخاء والشدة والغنى والفقر والصلاح والفساد والحياة والموت، ومنه قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ} [سبأ: 14] ، ومنه قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء: 4] .
المعنى الثاني: المقضي، وهو نوعان:
الأول: المقضي شرعا، فيجب الرضى به وقبوله، فيفعل المأمور به، ويترك المنهي عنه، ويتمتع بالحلال.
والنوع الثاني: المقضي كونا.
فإن كان من فعل الله، كالفقر والمرض والجدب والهلاك ونحو ذلك، فقد تقدم أن الرضى به سنة، لا واجب، على القول الصحيح.
- وإن كان من فعل العبد، جرت فيه الأحكام الخمسة، فالرضى بالواجب، وبالمندوب مندوب، وبالمباح مباح، وبالمكروه مكروه، وبالحرام حرام.(8/669)
ويدعون إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ويعتقدون معنى قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أي: أطايبها، والكرم من كل شيء هو الطيب منه بحسب ذلك الشيء، ومنه قول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمعاذ: «إياك وكرائم أموالهم» ، حين أمره بأخذ الزكاة من أهل اليمن.
والأخلاق: جمع خلق، وهو الصورة الباطنة في الإنسان، يعني: السجايا والطبائع، فهم يدعون إلى أن يكون الإنسان سريرته كريمة، فيجب الكرم والشجاعة والتحمل من الناس والصبر، وأن يلاقي الناس بوجه طلق وصدر منشرح ونفس مطمئنة، كل هذه من مكارم الأخلاق.
" محاسن الأعمال " هي مما يتعلق بالجوارح، ويشمل الأعمال التعبدية والأعمال غير التعبدية، مثل البيع والشراء والإجارة، حيث يدعون الناس إلى الصدق والنصح في الأعمال كلها، وإلى تجنب الكذب والخيانة، وإذا كانوا يدعون الناس إلى ذلك، فهم بفعله أولى.
هذا الحديث (1) ينبغي أن يكون دائما نصب عيني المؤمن، فأكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم من الله ومع عباد الله.
- أما حسن الخلق مع الله، فأن تتلقى أوامره بالقبول والإذعان والانشراح وعدم الملل والضجر، وأن تتلقى أحكامه الكونية بالصبر والرضى وما أشبه ذلك.
- أما حسن الخلق مع الخلق، فقيل: هو بذل الندى، وكف الأذى، وطلاقة الوجه.
__________
(1) رواه أحمد / (2/ 250) ، والترمذي (2612) ، وأبو داود (4682) .(8/670)
ويندبون إلى أن تصل من قطعك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بذل الندى، يعني: الكرم، وليس خاصا بالمال، بل بالمال والجاه والنفس، وكل هذا من بذل الندى.
وطلاقة الوجه ضده العبوس.
وكذلك كف الأذى بأن لا يؤذي أحدا لا بالقول ولا بالفعل.
أي: يدعون.
«أن تصل من قطعك» : من الأقارب ممن تجب صلتهم عليك، إذا قطعوك، فصلهم، لا تقل: من وصلني، وصلته! فإن هذا ليس بصلة، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «ليس الواصل بالمكافئ، إنما الواصل من إذا قطعت رحمه، وصلها» ، فالواصل هو الذي إذا قطعت رحمه، وصلها.
«وسأل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجل، فقال: يا رسول الله! إن لي أقارب، أصلهم ويقطعونني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون علي! فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن كنت كما قلت، فكأنما تسفهم الملل، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك» .
«تسفهم المل» ، أي: كأنما تضع التراب أو الرماد الحار في أفواههم.
فأهل السنة والجماعة يندبون إلى أن تصل من قطعك، وأن تصل من وصلك بالأولى، لأن من وصلك وهو قريب، صار له حقان: حق القرابة، وحق المكافأة، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: «من صنع إليكم معروفا، فكافئوه» .(8/671)
وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أي: من منعك، ولا تقل: منعني، فلا أعطيه.
أي: من انتقصك حقك: إما بالعدوان، وإما بعدم القيام بالواجب.
والظلم يدور على أمرين: اعتداء وجحود: إما أن يعتدي عليك بالضرب وأخذ المال وهتك العرض، وإما أن يجحدك فيمنعك حقك.
وكمال الإنسان أن يعفو عمن ظلمه.
ولكن العفو إنما يكون يكون عند القدرة على الانتقام، فأنت تعفو مع قدرتك على الانتقام.
أولا: رجاء لمغفرة الله عز وجل ورحمته، فإن من عفا وأصلح، فأجره على الله.
ثانيا: لإصلاح الود بينك وبين صاحبك، لأنك إذا قابلت إساءته بإساءة، استمرت الإساءة بينكما، وإذا قابلت إساءته بإحسان، عاد إلى الإحسان إليك، وخجل، قال الله تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34] .
فالعفو عند المقدرة من سمات أهل السنة والجماعة، لكن بشرط أن يكون العفو إصلاحا، فإن تضمن العفو إساءة، فإنهم لا يندبون إلى ذلك لأن الله اشترط فقال: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ} [الشورى: 40] ، أي: كان في عفو إصلاح، أما من كان في عفوه إساءة، أو كان سببا للإساءة، فهنا(8/672)
ويأمرون ببر الوالدين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
نقول: لا تعف! مثل أن يعفو عن مجرم، ويكون عفوه هذا سببا لاستمرار هذا المجرم في إجرامه، فترك العفو هنا أفضل، وربما يجب ترك العفو حينئذ.
وذلك لعظم حقهما.
ولم يجعل الله لأحد حقا يلي حقه وحق رسوله إلا للوالدين، فقال: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء: 36] .
وحق الرسول في ضمن الأمر بعبادة الله، لأنه لا تتحقق العبادة حتى يقوم بحق الرسول عليه الصلاة والسلام، بمحبته واتباع سبيله، ولهذا داخلا في قوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} ، وكيف يعبد الله إلا من طريق الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإذا عبد الله على مقتضى شريعة الرسول، فقد أدى حقه.
ثم يلي حق الوالدين، فالوالدان تعبا على الولد، ولا سيما الأم الأم، قال الله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا} [الأحقاف: 15] ، وفي آية أخرى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} [لقمان: 14] ، والأم تتعب في الحمل، وعند الوضع، وبعد الوضع، وترحم صبيها أشد من رحمة الوالد له، ولهذا كانت أحق الناس بحسن الصحبة والبر، حتى من الأب.
«قال رجل: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: " أمك ". قال ثم من؟ قال: " أمك ". قال ثم من؟ قال: " أمك ". ثم»(8/673)
«قال في الرابعة: " ثم أبوك» .
والأب أيضا يتعب في أولاده، ويضجر بضجرهم، ويفرح لفرحهم، ويسعى بكل الأسباب التي فيها راحتهم وطمأنينتهم وحسن عيشتهم، يضرب الفيافي والقفار من أجل تحصيل العيش له ولأولاده.
فكل من الأم والأب له حق، مهما عملت من العمل، لن تقضي حقهما، ولهذا قال الله عز وجل: {وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 24] ، فحقهم سابق، حيث ربياك صغيرا حين لا تملك لنفس لنفسك نفعا ولا ضرا، فواجبها البر.
والبر فرض عين بالإجماع على كل واحد من الناس، ولهذا قدمه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الجهاد في سبيل الله، كما في حديث ابن مسعود، «قال: قلت: يا رسول الله! أي العمل أحب إلى الله؟ قال: " الصلاة على وقتها ". قلت: ثم أي؟ قال: " بر الوالدين ". قلت: ثم أي؟ قال: " الجهاد في سبيل الله» .
والوالدان هما الأب والأم، أما الجد والجدة، فلهما بر، لكنه لا يساوي بر الأم والأب، لأن الجد والجدة لم يحصل لهما ما حصل للأم والأب من التعب والرعاية والملاحظة، فكان برهما واجبا من باب الصلة لكن هما أحق الأقارب بالصلة، أما البر، فإنه للأم والأب.
لكن، ما معنى البر؟(8/674)
البر: إيصال الخير بقدر ما تستطيع، وكف الشر.
إيصال الخير بالمال، إيصال الخير بالخدمة، إيصال الخير بإدخال السرور عليهما، من طلاقة الوجه، وحسن المقال والفعال، وبكل ما فيه راحتهما.
ولهذا كان القول الراجح وجوب خدمة الأب والأم على الأولاد، إذا لم يحصل على الولد ضرر، فإن كان عليه ضرر، لم يجب عليه خدمتهما، اللهم إلا عند الضرورة.
ولهذا نقول: إن طاعتهما واجبة فيما فيه نفع لهما ولا ضرر على الولد فيه، أما ما فيه ضرر عليه، سواء كان ضررا دينيا، كأن يأمراه بترك واجب أو فعل محرم، فإنه لا طاعة لهما في ذلك، أو كان ضررا بدنيا، فلا يجب عليه طاعتهما. أما المال، فيجب عليه أن يبرهما ببذله، ولو كثر إذا لم يكن عليه ضرر، ولم تتعلق به حاجته، والأب خاصة له أن يأخذ من مال ولده ما شاء، ما لم يضر.
وإذا تأملنا في أحوال الناس اليوم، وجدنا كثيرا منهم لا يبر بوالديه، بل هو عاق، تجده يحسن إلى أصحابه، ولا يمل الجلوس معهم، لكن لو يجلس إلى أبيه أو أمه ساعة من نهار، لوجدته متململا، كأنما هو على الجمر، فهذا ليس ببار، بل البار من ينشرح صدره لأمه وأبيه ويخدمهما على أهداب عينيه، ويحرص غاية الحرص على رضاهما بكل ما يستطيع.(8/675)
وصلة الأرحام
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وكما قالت العامة: " البر أسلاف "، فإن البر مع كونه يحصل به البار على ثواب عظيم في الآخرة، فإنه يجازى به في الدنيا. فالبر والعقوق كما يقول العوام: " أسلاف "، أقرض، تستوف، إن قدمت البر، برك أولادك، وإن قدمت العقوق، عقك أولادك..
وهنا حكايات كثيرة في أن من الناس من بر والديه فبر به أولاده، وكذلك العقوق فيه حكايات تدل على أن الإنسان عقه أولاده كما عق هو آباءه.
فأهل السنة والجماعة يأمرون ببر الوالدين.
وكذلك يأمرون بصلة الأرحام.
ففرق بين الوالدين والأقارب الآخرين، الأقارب لهم الصلة، والوالدان لهما البر، والبر أعلى من الصلة، لأن البر كثرة الخير والإحسان، لكن الصلة ألا يقطع، ولهذا يقال في تارك البر: إنه عاق، ويقال فيمن لم يصل: إنه قاطع، فصلة الأرحام واجبة، وقطعها سبب للعنة والحرمان من دخول الجنة، قال الله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد: 22 - 23] ، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: «لا يدخل الجنة قاطع» ، أي: قاطع رحم.(8/676)
وحسن الجوار
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والصلة جاءت في القرآن والسنة مطلقة.
وكل ما أتى ولم يحدد ... بالشرع كالحرز فبالعرف احدد
وعلى هذا، يرجع إلى العرف فيها، فما سماه الناس صلة، فهو صلة، وما سماه قطيعة، فهو قطيعة، وهذه تختلف باختلاف الأحوال والأزمان والأمكنة والأمم.
- إذا كان الناس في حالة فقر، وأنت غني، وأقاربك فقراء، فصلتهم أن تعطيهم بقدر حالك.
- وإذا كان الناس أغنياء، وكلهم في خير، فيمكن أن يعد الذهاب إليهم في الصباح أو المساء صلة.
وفي زماننا هذه الصلة بين الناس قليلة، وذلك لانشغال الناس في حوائجهم، وانشغال بعضهم عن بعض، والصلة التامة أن تبحث عن حالهم، وكيف أولادهم، وترى مشاكلهم، ولكن هذه من الأسف مفقودة، كما أن البر التام مفقود عند كثير من الناس.
أي: ويأمرون، يعني: أهل السنة والجماعة بحسن الجوار مع الجيران، والجيران هم الأقارب في المنزل، أدناهم أولاهم بالإحسان والإكرام: قال الله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء: 36] ، فأوصى الله بالإحسان إلى الجار القريب والجار البعيد.
وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم جاره» . وقال: «إذا طبخت مرقة، فأكثر من مائها، وتعاهد جيرانك» .(8/677)
وقال: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» .
وقال: «والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه» . إلى غير ذلك من النصوص الدالة على العناية بالجار والإحسان إليه وإكرامه.
والجار إن كان مسلما قريبا، كان له ثلاثة حقوق: حق الإسلام، وحق القرابة، وحق الجوار.
وإن كان قريبا جارا، فله حقان: حق القرابة، وحق الجوار.
وإن كان مسلما غير قريب وهو جار، فله حقان: حق الإسلام، وحق الجوار.
وإن كان جارا كافرا بعيدا، فله حق واحد، وهو حق الجوار.
فأهل السنة والجماعة يأمرون بحسن الجوار مطلقا، أيا كان الجار ومن كان أقرب، فهو أولى.
ومن المؤسف أن بعض الناس اليوم يسيئون إلى الجار أكثر مما يسيئون إلى غيره، فتجده يعتدي على جاره بالأخذ من ملكه وإزعاجه.
وقد ذكر الفقهاء رحمهم الله في آخر باب الصلح في الفقه شيئا من أحكام الجوار، فليرجع إليه.(8/678)
والإحسان إلى اليتامى والمساكين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كذلك يأمرون، أي: أهل السنة والجماعة بالإحسان إلى هؤلاء الأصناف الثلاثة.
اليتامى: جمع يتيم، وهو الذي مات أبوه قبل بلوغه.
وقد أمر الله تعالى بالإحسان إلى اليتامى، وكذلك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حث عليه في عدة أحاديث.
ووجه ذلك أن اليتيم قد انكسر قلبه بفقد أبيه، فهو في حاجة إلى العناية والرفق.
والإحسان إلى اليتامى يكون بحسب الحال.
والمساكين: هم الفقراء، وهو هنا شامل للمسكين والفقير.
فالإحسان إليهم مما أمر به الشرع في آيات متعددة من القرآن، وجعل لهم حقوقا خاصة في الفيء وغيره.
ووجه الإحسان إليهم أن الفقر أسكنهم وأضعفهم وكسر قلوبهم، فكان من محاسن الإسلام أن نحسن إليهم جبرا لما حصل لهم من النقص والانكسار.
والإحسان إلى المساكين يكون بحسب الحال: فإذا كان محتاجا إلى طعام، فالإحسان إليه بأن تطعمه، وإذا كان محتاجا إلى كسوة، فالإحسان إليه بأن تكسوه، وإلى اعتبار بأن توليه اعتبارا، فإذا دخل المجلس، ترحب به، وتقدمه لأجل، أن ترفع من معنويته.
فمن أجل هذا النقض الذي قدره الله عز وجل عليه بحكمته أمرنا عز وجل أن نحسن إليهم.(8/679)
وابن السبيل والرفق بالمملوك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ابن السبيل، وهو المسافر، وهو هنا المسافر الذي انقطع به السفر، أو لم ينقطع، بخلاف الزكاة لأن المسافر غريب، والغريب مستوحش، فإذا آنسته بإكرامه والإحسان إليه، فإن هذا مما يأمر به الشرع.
فإذا نزل ابن سبيل بك ضيفا، فمن إكرامه أن تكرم ضيافته.
لكن قال بعض العلماء: إنه لا يجب إكرامه بضايفته إلا في القرى دون الأمصار!
ونحن نقول: بل هي واجبة في القرى والأمصار، إلا أن يكون هناك سبب، كضيق البيت مثلا، أو أسباب أخرى تمنع أن تضيف هذا الرجل، لكن على كل حال ينبغي إذا تعذر أن تحسن الرد.
يعني: أن أهل السنة والجماعة يأمرون بالرفق بالمملوك.
وهذا يشمل المملوك الآدمي والبهيم:
- فالرفق بالمملوك الآدمي أن تطعمه إذا طعمت، وتكسوه إذا اكتسيت، ولا تكلفه ما لا يطيق.
- والرفق بالمملوك من البهائم سواء كانت ما تركب أو تحلب أو تقتنى، يختلف بحسب ما تحتاج إليه، ففي الشتاء تجعلها في الأماكن الدافئة إذا كانت تتحمل البرد، وفي الصيف في الأماكن الباردة إذا كانت لا تتحمل الحر، ويؤتي لها بالطعام وبالشراب إن لم تحصل عليه بنفسها بالرعي، وإذا كانت مما تحمل، فلا تحمل ما لا تطيق.
- وهذا يدل على كمال الشرع، وأنه لم ينس حتى البهائم، وعلى شمولية طريقة أهل السنة والجماعة.(8/680)
وينهون عن الفخر والخيلاء والبغي، والاستطالة على الخلق بحق أو بغير حق
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الفخر بالقول، والخيلاء بالفعل، والبغي العدوان، والاستطالة الترفع والاستعلاء.
فينهون عن الفخر: أن يتفاخر الإنسان على غيره بقوله، فيقول: أنا العالم! أنا الغني! أنا الشجاع!
وإن زاد على ذلك أن يستطيل على الآخرين ويقول: ماذا أنتم عندي؟ فيكون هذا فيه بغي واستطالة على الخلق.
والخيلاء تكون بالأفعال، يتخايل في مشيته وفي وجهه وفي رفع رأسه ورقبته إذا مشى، كأنه وصل إلى السماء، والله عز وجل وبخ من كان هذا فعله، وقال: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء: 37] .
فأهل السنة والجماعة ينهون عن هذا، ويقولون: كن متواضعا في القول وفي الفعل، حتى في القول، لا تثن على نفسك بصفاتك الحميدة، إلا حيث دعت الضرورة أو الحاجة إلى ذلك، كقول ابن مسعود رضي الله عنه: " لو أعلم أحدا هو أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل، لركبت إليه "، فإنه رضي الله عنه قصد بذلك أمرين:
الأول: حث الناس على تعلم كتاب الله تعالى.
والثاني: دعوتهم للتلقي عنه.
والإنسان ذو الصفات الحميدة لا يظن أن الناس تخفى عليهم خصاله(8/681)
أبدا، سواء ذكرها للناس أم لم يذكرها، بل إن الرجل إذا صار يعدد صفاته الحميدة أمام الناس، سقط من أعينهم، فاحذر هذا الأمر.
والبغي: العدوان على الغير، ومواقعه ثلاثة بينها الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام» .
فالبغي على الخلق بالأموال والدماء والأعراض.
- في الأموال، مثل أن يدعى ما ليس له، أو ينكر ما كان عليه، أو يأخذ ما ليس له، فهذا بغي على الأموال.
- وفي الدماء: القتل فما دونه، يعتدي على الإنسان بالجرح والقتل.
- وفي الأعراض: يحتمل أن يراد بها الأعراض، يعني: السمعة، فيعتدي علىه بالغيبة التي يشوه بها سمعته، ويحتمل أن يراد بها الزنى وما دونه، والكل محرم، فأهل السنة والجماعة ينهون عن الاعتداء على الأموال والدماء والأعراض.
وكذلك الاستطالة على الخلق، يعني الاستعلاء عليهم بحق أو بغير حق.
فالاستعلاء على الخلق ينهى عنه أهل السنة والجماعة، سواء كان بحق أو بغير حق، والاستعلاء هو أن الإنسان يترفع على غيره.
وحقيقة الأمر أن من شكر نعمة الله عليك أن الله إذا من عليك بفضل على غيرك من مال أو جاه أو سيادة أو علم أو غير ذلك، فإنه ينبغي أن تزداد تواضعا، حتى تضيف إلى الحسن حسنى، لأن الذي يتواضع في موضع الرفعة هو المتواضع حقيقة.(8/682)
ويأمرون بمعالي الأخلاق وينهون عن سفاسفها وكل ما يقولونه ويفعلونه من هذا وغيره فإنما هم فيه متبعون للكتاب والسنة. وطريقتهم هي دين الإسلام، الذي بعث الله به محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ومعنى قوله: " بحق " أي: حتى لو كان له الحق في بيان أنه عال مترفع، فإن أهل السنة والجماعة ينهون عن الاستعلاء والترفع.
أو يقال: إن معنى قوله: " الاستطالة بحق ": أن يكون أصل استطالته حقا، بأن يكون قد اعتدى عليه إنسان، فيعتدي عليه أكثر.
فأهل السنة والجماعة رحمهم الله ينهون عن الاستطالة والاستعلاء على الخلق، سواء كان ذلك بحق أو بغير حق.
أي: ما كان عاليا منها، كالصدق والعفاف وأداء الأمانة ونحو ذلك.
أي: رديئها، كالكذب والخيانة والفواحش ونحو ذلك.
أي: أهل السنة والجماعة.
من هذا وغيره.
وهذه حال بنبغي أن يتتبه لها، وهو أننا كل ما نقوله وكل ما نفعله نشعر حال قوله أو فعله أننا نتبع فيه الرسول عليه الصلاة والسلام، مع الإخلاص لله، لتكون أقوالنا وأفعالنا كلها عبادات لله عز وجل، ولهذا يقال: إن عبادات الغافلين عادات، وعادات المنتبهين عبادات.
فالإنسان الموفق يمكن أن يحول العادات إلى عبادات، والإنسان الغافل يجعل عباداته عادات.
فليحرص المؤمن على أن يجعل أقواله وأفعاله كلها تبعا لكتاب الله(8/683)
لكن لما أخبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ينال بذلك الأجر، ويحصل به كمال الإيمان والإنابة إلى الله عز وجل.
" أن أمته "، يعني: أمة الإجابة، لا أمة الدعوة، لأن أمة الدعوة يدخل فيها اليهود والنصارى، وهم مفترقون، فاليهود إحدى وسبعون فرقة، والنصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وهذه الأمة على ثلاث وسبعين، كلها تنسب نفسها إلى الإسلام واتباع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قوله: «كلها في النار إلا واحدة» (1) : لا يلزم من ذلك الخلود في النار، وإنما المعنى أن عملها مما تستحق به دخول النار.
وهذه الثلاث والسبعون فرقة، هل وقعت الآن وتمت أو هي في المنظور؟
أكثر الذين تكلموا على هذا الحديث قالوا: إنها وقعت وانتهت، وصاروا يقسمون أهل البدع إلى خمسة أصول رئيسية، ثم هذه الخمسة الأصول يفرعون عنها فرقا، حتى أوصلوها إلى اثنتين وسبعين فرقة، وأبقوا فرقة واحدة، وهي أهل السنة والجماعة.
وقال بعض العلماء: إن الرسول عليه الصلاة والسلام أبهم هذه الفرق، ولا حاجة أن نتكلم فنقسم البدع الموجودة الآن إلى خمسة أصول، ثم نقسم هذه الأصول إلى فروع، حتى يتم العدد، حتى إننا نجعل الفرع أحيانا فرقة تامة من أجل مخالفتها في فرع واحد، فإن هذا لا يعد فرقة مستقلة.
__________
(1) رواه الإمام أحمد جـ 4 ص 102، وأبو داود [4597] .(8/684)
وهي الجماعة، وفي حديث عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي» صار المتمسكون بالإسلام المحض الخالص عن الشوب هم أهل السنة والجماعة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فالأولى: أن نقول: إن هذه الفرق غير معلومة لنا، ولكننا نقول: بلا شك أنها فرق خرجت عن الصراط المستقيم، منها ما خرج فأبعد، ومنها ما خرج خروجا متوسطا، ومنها ما خرج خروجا قريبا، ونلزم بحصرها، لأنه ربما يخرج فرق تنتسب للأمة الإسلامية غير التي عدها العلماء، كما هو الواقع، فقد خرج فرق تنتسب إلى الإسلام من غير الفرق التي كانت قد عدت في عهد العلماء السابقين.
وعلى كل حال، فالرسول عليه الصلاة والسلام أخبر أن أمته أمة الإجابة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها ضالة، وفي النار، إلا واحدة، وهي:
" الجماعة "، يعني: التي اجتمعت على الحق ولم تتفرق فيه.
الذين كانوا على ما كان عليه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه هم الجماعة الذين اجتمعوا على شريعته، وهم الذين امتثلوا ما وصى الله به: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13] ، فهم لم يتفرقوا، بل كانوا جماعة واحدة.
جملة " صار " جواب الشرط قوله: " لكن لما ".
فإذا سئلنا: من أهل السنة والجماعة؟
فنقول: هم المتمسكون بالإسلام المحض الخالص عن الشوب.
وهذا التعريف من شيخ الإسلام ابن تيمية يقتضي أن الأشاعرة والماتريدية ونحوهم ليسوا من أهل السنة والجماعة، لأن تمسكهم مشوب بما(8/685)
وفيهم الصديقون
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أدخلوا فيه من البدع.
وهذا هو الصحيح، أنه لا يعد الأشاعرة والماتريدية فيما ذهبوا إليه في أسماء الله وصفاته من أهل السنة والجماعة.
وكيف يعدون من أهل السنة والجماعة في ذلك مع مخالفتهم لأهل السنة والجماعة؟!
لأنه يقال: إما إن يكون الحق فيما ذهب إليه هؤلاء الأشاعرة والماتريدية، أو الحق فيما ذهب إليه السلف. ومن المعلوم أن الحق فيما ذهب إليه السلف، لأن السلف هنا هم الصحابة والتابعون وأئمة الهدى من بعدهم، فإذا كان الحق فيما ذهب إليه السلف، وهؤلاء يخالفونهم، صاروا ليسوا من أهل السنة والجماعة في ذلك.
قوله: " وفيهم "، أي في أهل السنة.
" الصديقون ": جمع صديق، من الصدق، وهذه الصيغة للمبالغة، وهو الذي جاء بالصدق وصدق به، كما قال تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر: 33] ، فهو صادق في قصده، وصادق في قوله، وصادق في فعله.
- أما صدقه في قصده، فعنده تمام الإخلاص لله عز وجل، وتمام المتابعة للرسول عليه الصلاة والسلام، قد جرد الإخلاص والمتابعة، فلم يجعل لغير الله تعالى شركا في العمل، ولم يجعل لغير سنة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتباعا في عمله، فلا شرك عنده ولا ابتداع.
- صادق في قوله، لا يقول إلا صدقا، وقد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: " «عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر»(8/686)
والشهداء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا» .
- صادق في فعله، بمعنى: أن فعله لا يخالف قوله، فإذا قال، فعل، وبهذا يخرج عن مشابهة المنافقين الذين يقولون ما لا يفعلون ".
- وأيضا يصدق بما قامت البينة على صدقه، فليس عنده رد للحق، ولا احتقار للخلق.
ولهذا كان أبو بكر أول من سمي الصديق من هذه الأمة، لأنه لما أسري بالنبي عليه الصلاة والسلام، وجعل يتكلم أنه أسري به إلى بيت المقدس وعرج به إلى السماء، صار الكفار يضحكون به ويكذبونه ويقولون: كيف تذهب يا محمد في ليلة وتصل في ليلة إلى ما وصلت إليه في السماء ونحن إذا ذهبنا إلى الشام نبقى شهرا لم نصله وشهرا للرجوع؟! فاتخذوا من هذا سلما ليكذبوا الرسول عليه الصلاة والسلام، ولما وصلوا إلى أبي بكر، وقالوا: إن صاحبك يحدث ويقول كذا وكذا! قال: إن كان قال ذلك، فقد صدق. فمن ذلك اليوم سمي الصديق، وهو أفضل الصديقين من هذه الأمة وغيرها.
" الشهداء " جمع شهيد، بمعنى: شاهد.
فمن هم الشهداء؟
- قيل: هم العلماء، لأن العالم يشهد بشرع الله، ويشهد على عباد الله بأنها قامت عليهم الحجة، ولهذا يعد العالم مبلغا عن الله عز وجل(8/687)
وفيهم الصالحون ومنهم أعلام الهدى ومصابيح الدجى أولو المناقب المأثورة والفضائل المذكورة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ورسوله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيكون شاهدا بالحق على الخلق.
- وقيل: إن الشهيد من قتل في سبيل الله.
- والصحيح أن الآية عامة لهذا وهذا.
الصالح ضد الفاسد، وهو الذي قام بحق الله وحق عباده، وهو غير المصلح، فالإصلاح وصف زائد على الصلاح، فليس كل صالح مصلحا، فإن من الصالحين من همه هم نفسه، ولا يهتم بغيره، وتمام الصلاح بالإصلاح.
الأعلام: جمع علم، وهو في الأصل الجبل، قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} [الشورى: 32] ، يعني: الجبال، وسمي الجبل علما، لأنه يهتدى به ويستدل به.
" أعلام الهدى ": الذين يستدل الناس بهم ويهتدون بهديهم، وهم العلماء الربانيون، فإنهم هم الهداة، وهم مصابيح الدجى.
المصابيح: جمع مصباح، وهو يستصبح به للإضاءة.
الدجى: جمع دجية، وهي الظلمة، أي: هم مصابيح الظلم، يستضيء بهم الناس، ويمشون على نورهم.
" المناقب ": جمع منقبة، وهي المرتبة، أي: ما يبلغه الإنسان من الشرف والسؤدد.
" الفضائل "، جمع فضيلة، وهي الخصال الفاضلة، التي يتصف(8/688)
وفيهم الأبدال وفيهم أئمة الدين الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم
وهم الطائفة المنصورة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بها الإنسان من العلم والعبادة والزهد والكرم وغير ذلك، فالفضائل سلم للمناقب.
" الأبدال ": جمع بدل، وهم الذين تميزوا عن غيرهم بالعلم والعبادة، وسموا أبدالا: إما لأنهم كلما مات منهم واحد، خلفه بدله، أو أنهم كانوا يبدلون سيئاتهم حسنات، أو أنهم كانوا أسوة حسنة كانوا يبدلون أعمال الناس الخاطئة صابئة، أو لهذا كله وغيره.
الإمام: هو القدوة، وفي أهل السنة والجماعة أئمة الدين الذين أجمع المسلمون على هدايتهم، مثل: الإمام أحمد، والشافعي، ومالك، وأبي حنيفة، وسفيان الثوري، والأوزاعي، وغيرهم من الأئمة المشهورين المعروفين، كشيخ الإسلام ابن تيمية، وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب.
وقوله: " أئمة الدين ": خرج به أئمة الضلال من أهل البدع، فهؤلاء ليسوا من أهل السنة والجماعة، بل هم على خلاف أهل السنة والجماعة، وهم، وإن سموا أئمة، فإن من الأئمة أئمة يدعون إلى النار، كما قال تعالى عن آل فرعون: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ} [القصص: 41] .
يعني: أهل السنة والجماعة هم الطائفة المنصورة التي نصرها الله عز وجل، لأنهم داخلون في قوله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51] ، فهم منصورون، والعاقبة لهم.
ولمن لا بد قبل النصر من معاناة وتعب وجهاد؛ لأن النصر يقتضي(8/689)
الذين قال فيهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين؛ لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى تقوم الساعة»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
منصورا ومنصورا عليه، إذا، فلا بد من مغالبة، ولا بد من محنة، ولكن، كما قال ابن القيم رحمه الله:
الحق منصور وممتحن فلا ... تعجب فهذي سنة الرحمن
فلا يلحقك العجز والكسل إذا رأيت أن الأمور لم تتم لك بأول مرة، بل اصبر وكرر مرة بعد أخرى، واصبر على ما يقال فيك من استهزاء وسخرية، لأن أعداء الدين كثيرون.
لا يثني عزمك أن ترى نفسك وحيدا في الميدان، فأنت الجماعة وإن كنت واحدا، ما دمت على الحق، ولهذا ثق بأنك منصور إما في الدنيا وإما في الآخرة.
ثم إن النصر ليس نصر الإنسان بشخصه، بل النصر الحقيقي أن ينصر الله تعالى ما تدعو إليه من الحق، أما إذا أصيب الإنسان بذل في الدنيا، فإن ذلك لا ينافي النصر أبدا، فالنبي عليه الصلاة والسلام أوذي إيذاء عظيما، لكن في النهاية انتصر على من آذاه، ودخل منصورا مؤزرا ظافرا بعد أن خرج منها خائفا.
هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم بنحو ما ساقه المؤلف عن عدد من الصحابة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قوله: " لا تزال ": هذا من أفعال الاستمرار، وأفعال الاستمرار(8/690)
أربعة، وهي: فتئ، وانفك، وبرح، وزال إذا دخل عليها النفي أو شبهه.
فقوله: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق» ، يعني: تستمر على الحق.
وهذه الطائفة غير محصورة بعدد ولا بمكان ولا بزمان، يمكن أن تكون بمكان تنصر فيه في شيء من أمور الدين، وفي مكان آخر تنصر فيه طائفة أخرى، وبمجموع الطائفتين يكون الدين باقيا منصورا مظفرا.
وقوله: " لا يضرهم "، ولم يقل: لا يؤذيهم، لأن الأذية قد تحصل، لكن لا تضر، وفرق بين الضرر والأذى، ولهذا قال الله تعالى في الحديث القدسي: «يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني» ، وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [الأحزاب: 57] ، وفي الحديث القدسي: «يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر، وأنا الدهر» ، فأثبت الأذى ونفى الضرر، وهذا ممكن، ألا ترى الرجل يتأذى برائحة البصل ونحوه، ولا يتضرر بها.
وفي قوله: «حتى تقوم الساعة» : إشكال، لأنه قد ثبت في الصحيح أنها «لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله، الله» ، أي: حتى يمحى الإسلام كله، ولا يبقى من يعبد الله أبدا، فكيف قال هنا: " حتى تقوم الساعة "؟!
وأجاب عنه العلماء بأحد جوابين:(8/691)
فنسأل الله العظيم أن يجعلنا منهم، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا من لدنه رحمة، إنه هو الوهاب، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1 - إما أن يكون المراد حتى قرب قيام الساعة، والشيء قد يعبر به عما قرب منه إذا كان قريبا جدا، وكأن هؤلاء المنصورون إذا ماتوا، فإن الساعة تكون قريبة جدا.
2 - أو يقال: إن المراد بالساعة ساعتهم.
ولكن القول الأول أصح، لأنه إذا قال: «حتى تقوم الساعة» ، فقد تقوم ساعاتهم قبل الساعة العامة بأزمنة طويلة، وظاهر الحديث أن هذا النصر سيمتد إلى آخر الدنيا، فالصواب أن المراد بذلك إلى قرب قيام الساعة. والله أعلم.
بهذا الدعاء الجليل ختم المؤلف رحمه الله هذه الرسالة القليلة اللفظ الكثيرة المعنى، وهي تعتبر خلاصة مذهب أهل السنة والجماعة وفيها فوائد عظيمة، ينبغي لطالب العلم أن يحفظها.
والحمد لله رب العالمين على الإتمام، ونسأل الله أن يتم ذلك بالقبول والثواب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
قمت بمراجعة الكتاب وإضافة ما تدعو الضرورة إليه وحذف ما لا يحتاج إليه في يوم الجمعة السابع عشر من شعبان سنة 1414هـ
وقمت بمراجعته مع المضاف مساء يوم الخميس السابع والعشرين من صفر سنة 1415هـ(8/692)
بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين، وعليه نتوكل
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: كتاب التوحيد.
لم يذكر في النسخ التي بأيدينا خطبة للكتاب من المؤلف، فإما أن تكون سقطت من النساخ وإما أن يكون المؤلف اكتفى بالترجمة لأنها عنوان على موضوع الكتاب وهو التوحيد، وقد ذكر المؤلف في هذه الترجمة عدة آيات.
والكتاب بمعنى: مكتوب أي مكتوب بالقلم، أو بمعنى مجموع من قولهم: كتيبة وهي المجموعة من الخيل.
والتوحيد في اللغة: مشتق من وحد الشيء إذا جعله واحدا؛ فهو مصدر وحد يوحد؛ أي: جعل الشيء واحدا.
وفي الشرع: إفراد الله سبحانه بما يختص به من الربوبية والألوهية والأسماء والصفات.
أقسامه: ينقسم التوحيد إلى ثلاثة أقسام:
1 - توحيد الربوبية.
2 - توحيد الألوهية.
3 - توحيد الأسماء والصفات.
وقد اجتمعت في قوله تعالى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65]
القسم الأول: توحيد الربوبية:
هو إفراد الله - عز وجل - بالخلق، والملك، والتدبير.
فإفراده بالخلق: أن يعتقد الإنسان أنه لا خالق إلا الله، قال تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54] ؛ فهذه الجملة تفيد الحصر لتقديم الخبر؛ إذ إن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر، وقال تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}(9/1)
[فاطر: 3] ؛ فهذه الآية تفيد اختصاص الخلق بالله، لأن الاستفهام فيها مشرب معنى التحدي.
أما ما ورد من إثبات خلق غير الله؛ كقوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14] وكقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المصورين: يقال لهم «أحيوا ما خلقتم» .
فهذا ليس خلقا حقيقة، وليس إيجادا بعد عدم، بل هو تحويل للشيء من حال إلى حال، وأيضا ليس شاملا، بل محصور بما يتمكن الإنسان منه، ومحصور بدائرة ضيقة؛ فلا ينافي قولنا: إفراد الله بالخلق.
وأما إفراد الله بالملك:
فأن نعتقد أنه لا يملك الخلق إلا خالقهم؛ كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران: 189] وقال تعالى: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} [المؤمنون: 88] .
وأما ما ورد من إثبات الملكية لغير الله؛ كقوله تعالى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6] وقال تعالى: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} [النور: 61] ؛ فهو ملك محدود لا يشمل إلا شيئا يسيرا من هذه المخلوقات؛ فالإنسان يملك ما تحت يده، ولا يملك ما تحت يد غيره، وكذا هو ملك قاصر من حيث الوصف؛ فالإنسان لا يملك ما عنده تمام الملك، ولهذا لا يتصرف فيه إلا على حسب ما أذن له فيه شرعا، فمثلا: لو أراد أن يحرق ماله أو يعذب حيوانه؛ قلنا: لا يجوز، أما الله سبحانه؛ فهو يملك ذلك كله ملكا عاما شاملا.(9/2)
وأما إفراد الله بالتدبير:
فهو أن يعتقد الإنسان أنه لا مدبر إلا الله وحده؛ كما قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس: 31-32] .
وأما تدبير الإنسان؛ فمحصور بما تحت يده ومحصور بما أذن له فيه شرعا.
وهذا القسم من التوحيد لم يعارض فيه المشركون الذين بعث فيهم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل كانوا مقرين به، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف: 9] فهم يقرون بأن الله هو الذي يدبر الأمر، وهو الذي بيده ملكوت السماوات والأرض، ولم ينكره أحد معلوم من بني آدم؛ فلم يقل أحد من المخلوقين: إن للعالم خالقين متساويين.
فلم يجحد أحد توحيد الربوبية، لا على سبيل التعطيل ولا على سبيل التشريك، إلا ما حصل من فرعون؛ فإنه أنكره على سبيل التعطيل مكابرة؛ فإنه عطل الله من ربوبيته وأنكر وجوده، قال تعالى حكاية عنه: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24] ، {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38] . وهذا مكابرة منه لأنه يعلم أن الرب غيره؛ كما قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14] ، وقال تعالى حكاية عن موسى وهو يناظره: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الإسراء: 102] ؛ فهو في نفسه مقر بأن الرب هو الله عز وجل.
وأنكر توحيد الربوبية على سبيل التشريك المجوس، حيث قالوا: إن(9/3)
للعالم خالقين هما الظلمة والنور، ومع ذلك لم يجعلوا هذين الخالقين متساويين، فهم يقولون: إن النور خير من الظلمة؛ لأنه يخلق الخير، والظلمة تخلق الشر، والذي يخلق الخير خير من الذي يخلق الشر.
وأيضا فإن الظلمة عدم لا يضيء، والنور وجود يضيء؛ فهو أكمل في ذاته.
ويقولون أيضا بفرق ثالث، وهو: أن النور قديم على اصطلاح الفلاسفة، واختلفوا في الظلمة: هل هي قديمة، أو محدثة؟ على قولين.
دلالة العقل على أن الخالق للعالم واحد:
قال الله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون: 91] ، إذ لو أثبتنا للعالم خالقين؛ لكان كل خالق يريد أن ينفرد بما خلق ويستقل به كعادة الملوك؛ إذ لا يرضى أن يشاركه أحد، وإذا استقل به؛ فإنه يريد أيضا أمرا آخر، وهو أن يكون السلطان له لا يشاركه فيه أحد.
وحينئذ إذا أرادا السلطان؛ فإما أن يعجز كل واحد منهما عن الآخر، أو يسيطر أحدهما على الآخر؛ فإن سيطر أحدهما على الآخر ثبتت الربوبية له، وإن عجز كل منهما عن الآخر زالت الربوبية منهما جميعا؛ لأن العاجز لا يصلح أن يكون ربا.
القسم الثاني: توحيد الألوهية:
ويقال له: توحيد العبادة باعتبارين؛ فباعتبار إضافته إلى الله يسمى: توحيد الألوهية، وباعتبار إضافته إلى الخلق يسمى توحيد العبادة.
وهو إفراد الله عز وجل بالعبادة.
فالمستحق للعبادة هو الله تعالى، قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ}(9/4)
[لقمان: 30] .
والعبادة تطلق على شيئين:
الأول: التعبد: بمعنى التذلل لله عز وجل بفعل أوامره واجتناب نواهيه؛ محبة وتعظيما.
الثاني: المتعبد به؛ فمعناها كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة ".
مثال ذلك: الصلاة؛ ففعلها عبادة، وهو التعبد، ونفس الصلاة عبادة، وهو المتعبد به.
فإفراد الله بهذا التوحيد: أن تكون عبدا لله وحده تفرده بالتذلل؛ محبة وتعظيما، وتعبده بما شرع، قال تعالى: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} [الإسراء: 22] وقال تعالى {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] ؛ فوصفه سبحانه بأنه رب العالمين كالتعليل لثبوت الألوهية له؛ فهو الإله لأنه رب العالمين، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 21] ؛ فالمنفرد بالخلق هو المستحق للعبادة.
إذ من السفه أن تجعل المخلوق الحادث الآيل للفناء إلها تعبده؛ فهو في الحقيقة لن ينفعك لا بإيجاد ولا بإعداد ولا بإمداد، فمن السفه أن تأتي إلى قبر إنسان صار رميما تدعوه وتعبده، وهو بحاجة إلى دعائك، وأنت لست بحاجة إلى أن تدعوه؛ فهو لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا؛ فكيف يملكه لغيره؟ !
وهذا القسم كفر به وجحده أكثر الخلق، ومن أجل ذلك أرسل(9/5)
الله الرسل، وأنزل عليهم الكتب، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] .
ومع هذا؛ فأتباع الرسل قلة، قال عليه الصلاة والسلام: «فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد» .
تنبيه:
من العجب أن أكثر المصنفين في علم التوحيد من المتأخرين يركزون على توحيد الربوبية، وكأنما يخاطبون أقواما ينكرون وجود الرب وإن كان يوجد من ينكر الرب، لكن ما أكثر المسلمين الواقعين في شرك العبادة!!
ولهذا ينبغي أن يركز على هذا النوع من التوحيد حتى نخرج إليه هؤلاء المسلمين الذين يقولون بأنهم مسلمون، وهم مشركون، ولا يعلمون.
القسم الثالث: توحيد الأسماء والصفات:
وهو إفراد الله عز وجل بما له من الأسماء والصفات.
وهذا يتضمن شيئين:
الأول: الإثبات، وذلك بأن نثبت لله عز وجل جميع أسمائه وصفاته التي أثبتها لنفسه في كتابه أو سنة نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الثاني: نفي المماثلة، وذلك بأن لا نجعل لله مثيلا في أسمائه وصفاته؛ كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] . فدلت هذه الآية على أن جميع صفاته لا يماثله فيها أحد من(9/6)
المخلوقين؛ فهي وإن اشتركت في أصل المعنى، لكن تختلف في حقيقة الحال، فمن لم يثبت ما أثبته الله لنفسه؛ فهو معطل، وتعطيله هذا يشبه تعطيل فرعون، ومن أثبتها مع التشبيه صار مشابها للمشركين الذين عبدوا مع الله غيره، ومن أثبتها بدون مماثلة صار من الموحدين.
وهذا القسم من التوحيد هو الذي ضلت فيه بعض الأمة الإسلامية وانقسموا فيه إلى فرق كثيرة؛ فمنهم من سلك مسلك التعطيل، فعطل، ونفى الصفات زاعما أنه منزه لله، وقد ضل؛ لأن المنزه حقيقة هو الذي ينفي عنه صفات النقص والعيب، وينزه كلامه من أن يكون تعمية وتضليلاَ، فإذا قال: بأن الله ليس له سمع، ولا بصر، ولا علم، ولا قدرة؛ لم ينزه الله، بل وصمه بأعيب العيوب، ووصم كلامه بالتعمية والتضليل؛ لأن الله يكرر ذلك في كلامه ويثبته، سميع بصير، عزيز حكيم، غفور رحيم، فإذا أثبته في كلامه وهو خال منه؛ كان في غاية التعمية والتضليل والقدح في كلام الله عز وجل، ومنهم من سلك مسلك التمثيل زاعما بأنه محقق لما وصف الله به نفسه، وقد ضلوا لأنهم لم يقدروا الله حق قدره؛ إذ وصموه بالعيب والنقص؛ لأنهم جعلوا الكامل من كل وجه كالناقص من كل وجه.
وإذا كان اقتران تفضيل الكامل على الناقص يحط من قدره؛ كما قيل:
ألم تر أن السيف ينقص قدره ... إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
فكيف بتمثيل الكامل بالناقص؟! هذا أعظم ما يكون جناية في حق الله عز وجل، وإن كان المعطوف أعظم جرما، لكن الكل لم يقدر الله حق قدره.(9/7)
فالواجب: أن نؤمن بما وصف الله وسمى به نفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل.
هكذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أهل العلم.
فالتحريف في النصوص، والتعطيل في المعتقد، والتكييف في الصفة، والتمثيل في الصفة، إلا أنه أخص من التكييف؛ فكل ممثل مكيف، ولا عكس، فيجب أن تبرأ عقيدتنا من هذه الأمور الأربعة.
ونعني بالتحريف هنا: التأويل الذي سلكه المحرفون لنصوص الصفات؛ لأنهم سموا أنفسهم أهل التأويل، لأجل تلطيف المسلك الذي سلكوه؛ لأن النفوس تنفرد من كلمة تحريف، لكن هذا من باب زخرفة القول وتزيينه للناس، حتى لا ينفروا منه.
وحقيقة تأويلهم: التحريف، وهو صرف اللفظ عن ظاهره؛ فنقول: هذا الصرف إن دل عليه دليل صحيح؛ فليس تأويلا بالمعنى الذي تريدون، لكنه تفسير.
وإن لم يدل عليه دليل؛ فهو تحريف، وتغيير للكلم عن مواضعه؛ فهؤلاء الذين ضلوا بهذه الطريقة، فصاروا يثبتون الصفات لكن بتحريف؛ قد ضلوا، وصاروا في طريق معاكس لطريق أهل السنة والجماعة.
وعليه لا يمكن أن يوصفوا بأهل السنة والجماعة؛ لأن الإضافة تقتضي النسبة، فأهل السنة منتسبون للسنة؛ لأنهم متمسكون بها، وهؤلاء ليسوا متمسكين بالسنة فيما ذهبوا إليه من التحريف.
وأيضا الجماعة في الأصل: الاجتماع، وهم غير مجتمعين في آرائهم؛ ففي كتبهم التداخل، والتناقض، والاضطراب، حتى إن بعضهم يضلل بعضا، ويتناقض هو بنفسه.(9/8)
وقد نقل شارح "الطحاوية" عن الغزالي -وهو ممن بلغ ذروة علم الكلام- كلاما إذا قرأه الإنسان تبين له ما عليه أهل الكلام من الخطأ والزلل والخطل، وأنهم ليسوا على بينة من أمرهم.
وقال الرازي وهو من رؤسائهم:
نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وغاية دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
ثم قال: لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية؛ فما رأيتها تشفي عليلا، ولا تروي غليلا، ووجدت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] ، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10] ؛ يعني: فأثبت، وأقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] ، {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110] ؛ يعني: فأنفي المماثلة، وأنفي الإحاطة به علما، ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي.
فتجدهم حيارى مضطربين، ليسوا على يقين من أمرهم، وتجد من هداه الله الصراط المستقيم مطمئنا منشرح الصدر، هادئ البال، يقرأ في كتاب الله وفي سنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات؛ فيثبت؛ إذ لا أحد أعلم من الله بالله، ولا أصدق خبرا من خبر الله، ولا أصح بيانا من بيان الله؛ كما قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} [النساء: 26] {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176] ، {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] ، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء: 122] {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء: 87] .(9/9)
فهذه الآيات وغيرها تدل على أن الله يبين للخلق غاية البيان الطريق التي توصلهم إليه، وأعظم ما يحتاج الخلق إلى بيانه ما يتعلق بالله تعالى وبأسماء الله وصفاته حتى يعبدوا الله على بصيرة؛ لأن عبادة من لم نعلم صفاته، أو من ليس له صفة أمر لا يتحقق أبدا؛ فلا بد أن تعلم من صفات المعبود ما تجعلك تلتجئ إليه وتعبده حقا.
ولا يتجاوز الإنسان حده إلى التكييف أو التمثيل؛ لأنه إذا كان عاجزا عن تصور نفسه التي بين جنبيه؛ فمن باب أولى أن يكون عاجزا عن تصور حقائق ما وصف الله به نفسه، ولهذا يجب على الإنسان أن يمنع نفسه عن السؤال بـ "لم" و"كيف" فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته، وكذا يمنع نفسه من التفكير بالكيفية.
وهذا الطريق إذا سلكه الإنسان استراح كثيرا، وهذه حال السلف رحمهم الله، ولهذا لما جاء رجل إلى الإمام مالك بن أنس رحمه الله قال: يا أبا عبد الله! {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، كيف استوى؟ فأطرق برأسه وقال: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا مبتدعا".
أما في عصرنا الحاضر؛ فنجد من يقول: «إن الله ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر كل ليلة،» فيلزم من هذا أن يكون كل الليل في السماء الدنيا؛ لأن الليل يمشي على جميع الأرض؛ فالثلث ينتقل من هذا المكان إلى المكان الآخر، وهذا لم يقله الصحابة رضوان الله عليهم، ولو كان هذا يرد على قلب المؤمن؛ لبينه الله إما ابتداء أو على لسان رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو يقيض من يسأله عنه فيجاب، كما «سأل الصحابة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أين كان الله قبل أن يخلق السماوات»(9/10)
«والأرض؛ فأجابهم» .
فهذا السؤال العظيم يدل على أن كل ما يحتاج إليه الناس فإن الله يبينه بأحد الطرق الثلاثة.
والجواب عن الإشكال في حديث النزول: أن يقال: ما دام ثلث الليل الأخير في هذه الجهة باقيا؛ فالنزول فيها محقق، وفي غيرها لا يكون نزول قبل ثلث الليل الأخير أو النصف، والله عز وجل ليس كمثله شيء، والحديث يدل على أن وقت النزول ينتهي بطلوع الفجر.
وعلينا أن نستسلم، وأن نقول: سمعنا، وأطعنا، واتبعنا، وآمنا؛ فهذه وظيفتنا لا نتجاوز القرآن والحديث.(9/11)
وقول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] الآية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الآية الأولى قوله تعالى {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} .
قوله {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} استثناء مفرغ من أعم الأحوال؛ أي: ما خلقت الجن والإنس لأي شيء إلا للعبادة.
واللام في قوله: {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} للتعليل، وهذا التعليل لبيان الحكمة من الخلق، وليس التعليل الملازم للمعلول؛ إذ لو كان كذلك للزم أن يكون الخلق كلهم عبادا يتعبدون له، وليس الأمر كذلك، فهذه العلة غائية، وليست موجبة.
فالعلة الغائية لبيان الغاية والمقصود من هذا الفعل، لكنها قد تقع، وقد لا تقع، مثل: بريت القلم لأكتب به؛ فقد تكتب، وقد لا تكتب.
والعلة الموجبة معناها: أن المعلول مبني عليها؛ فلا بد أن تقع، وتكون سابقة للمعلول، ولازمة له، مثل: انكسر الزجاج لشدة الحر.
قوله: {خَلَقْتُ} ؛ أي: أوجدت، وهذا الإيجاد مسبوق بتقدير، وأصل الخلق التقدير.
قال الشاعر:
ولأنت تفري ما خلقت ... وبعض الناس يخلق ثم لا يفري
قوله: {الْجِنَّ} : هم عالم غيبي مخفي عنا، ولهذا جاءت المادة من الجيم(9/13)
والنون، وهما يدلان على الخفاء والاستتار، ومنه: الجَنة، والجِنة، والجُنة.
قوله: {وَالْإِنْسَ} سموا بذلك؛ لأنهم لا يعيشون بدون إيناس؛ فهم يأنس بعضهم ببعض، ويتحرك بعضهم إلى بعض.
قوله: {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} فسر: إلا ليوحدون، وهذا حق، وفسر: بمعنى يتذللون لي بالطاعة فعلا للمأمور، وتركا للمحظور، ومن طاعته أن يوحد سبحانه وتعالى؛ فهذه هي الحكمة من خلق الجن والإنس.
ولهذا أعطي الله البشر عقولا، وأرسل إليهم رسلا، وأنزل عليهم كتبا، ولو كان الغرض من خلقهم كالغرض من خلق البهائم؛ لضاعت الحكمة من إرسال الرسل، وإنزال الكتب؛ لأنه في النهاية يكون كشجرة نبتت، ونمت، وتحطمت، ولهذا قال تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص: 85] ؛ فلا بد أن يردك إلى معاد تجازى على عملك إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
وليست الحكمة من خلقهم نفع الله، ولهذا قال تعالى: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذريات: 57] .
وأما قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} [البقرة: 245] .
فهذا ليس إقراضا لله سبحانه، بل هو غني عنه، لكنه سبحانه شبه معاملة عبده له بالقرض؛ لأنه لا بد من وفائه، فكأنه التزام من الله سبحانه أن يوفي العامل أجر عمله كما يوفي المقترض من أقرضه(9/14)
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الآية الثانية قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوت} [النحل: الآية36] .
قوله {وَلَقَدْ} : اللام موطأة لقسم مقدر، وقد: للتحقيق.
وعليه؛ فالجملة مؤكدة بالقسم المقدر، واللام، وقد.
قوله: {بَعَثْنَا} ؛ أي: أخرجنا، وأرسلنا في كل أمة.
والأمة هنا: الطائفة من الناس.
وتطلق الأمة في القرآن على أربعة معان:
أ - الطائفة: كما في هذه الآية.
ب - الإمام، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ} [النحل: 120] .
ج - الملة: ومنه قوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: 23] .
د - الزمن: ومنه قوله تعالى: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: 45] .
فكل أمة بعث فيها رسول من عهد نوح إلى عهد نبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والحكمة من إرسال الرسل:
أ - إقامة الحجة: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}(9/15)
[النساء: 165] .
ب - الرحمة: لقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] .
ج - بيان الطريق الموصل إلى الله تعالى؛ لأن الإنسان لا يعرف ما يجب لله على وجه التفصيل إلا عن طريق الرسل.
قوله: {أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ} "أن": قيل: تفسيرية، وهي التي سبقت بما يدل على القول دون حروفه؛ كقوله تعالى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ} [المؤمنون: 27] ، والوحي فيه معنى القول دون حروفه، والبعث متضمن معنى الوحي؛ لأن كل رسول موحى إليه.
وقيل: إنها مصدرية على تقدير الباء؛ أي: بأن اعبدوا، والراجح: الأول؛ لعدم التقدير.
قوله: {أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ} أي: تذللوا له بالعبادة، وسبق تعريف العبادة. (1)
قوله: {وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} أي: ابتعدوا عنه بأن تكونوا في جانب، وهو في جانب، والطاغوت: مشتق من الطغيان، وهو صفة مشبهة، والطغيان: مجاوزة الحد؛ كما في قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة: 11] ؛ أي: تجاوز حده.
وأجمع ما قيل في تعريفه هو ما ذكره ابن القيم رحمه الله بأنه: "ما تجاوز به العبد حده من متبوع، أو معبود، أو مطاع".
ومراده من كان راضيا بذلك، أو يقال: هو طاغوت باعتبار عابده، وتابعه،
__________
(1) ص 5.(9/16)
ومطيعه، لأنه تجاوز به حده حيث نزله فوق منزلته التي جعلها الله له، فتكون عبادته لهذا المعبود، واتباعه لمتبوعه، وطاعته لمطاعه طغيانا لمجاوزته الحد بذلك.
فالمتبوع مثل: الكهان، والسحرة، وعلماء السوء.
والمعبود مثل: الأصنام.
والمطاع مثل: الأمراء الخارجين عن طاعة الله، فإذا اتخذهم الإنسان أربابا يحل ما حرم الله من أجل تحليلهم له، ويحرم ما أحل الله من أجل تحريمهم له؛ فهؤلاء طواغيت، والفاعل تابع للطاغوت، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء: 51] ، ولم يقل: إنهم طواغيت.
ودلالة الآية على التوحيد: أن الأصنام من الطواغيت التي تعبد من دون الله.
والتوحيد لا يتم إلا بركنين، هما:
1 - الإثبات.
2 - النفي.
إذ النفي المحض تعطيل محض، والإثبات المحض لا يمنع المشاركة.
مثال ذلك: زيد قائم، يدل على ثبوت القيام لزيد، لكن لا يدل على انفراده به.
ولم يقم أحد، هذا نفي محض.
ولم يقم إلا زيد، هذا توحيد له بالقيام؛ لأنه اشتمل على إثبات ونفي.
قوله: " الآية " أي: إلى آخر الآية، وتقرأ بالنصب؛ إما على أنها مفعول به لفعل محذوف تقديره أكمل الآية، أو أنها منصوب بنزع الخافض؛ أي: إلى آخر الآية.
ووجه الاستشهاد بهذه الآية لكتاب التوحيد: أنها دالة على إجماع الرسل(9/17)
وقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23] الآية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عليهم الصلاة والسلام على الدعوة إلى التوحيد، وأنهم أرسلوا به؛ لقوله تعالى: {أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}
الآية الثالثة قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} الآية.
قوله: قضى قضاء الله -عز وجل- ينقسم إلى قسمين:
1 - قضاء شرعي. 2 - قضاء كوني.
فالقضاء الشرعي: يجوز وقوعه من المقضي عليه وعدمه، ولا يكون إلا فيما يحبه الله.
مثال ذلك: هذه الآية: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] ؛ فتكون قضى بمعنى: شرع، أو بمعنى: وصى، وما أشبههما.
والقضاء الكوني: لا بد من وقوعه، ويكون فيما أحبه الله، وفيما لا يحبه.
مثال ذلك: قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء: 4] فالقضاء هنا كوني؛ لأن الله لا يشرع الفساد في الأرض، ولا يحبه.
قوله: أن لا تعبدوا. أن هنا مصدرية بدليل حذف النون من تعبدوا، والاستثناء هنا مفرغ؛ لأن الفعل لم يأخذ مفعوله؛ فمفعوله ما بعد إلا.
قوله: {إِلَّا إِيَّاهُ} ضمير نصب منفصل واجب الانفصال؛ لأن المتصل لا يقع بعد إلا، قال ابن مالك:(9/18)
وذو اتصال منه ما لا يبتدا ... ولا يلي إلا اختيارا أبدا
إشكال وجوابه:
إذا قيل: ثبت أن الله قضى كونا ما لا يحبه؛ فكيف يقضي الله ما لا يحبه؟
فالجواب: أن المحبوب قسمان:
1 - محبوب لذاته.
2 - محبوب لغيره.
فالمحبوب لغيره قد يكون مكروها لذاته، ولكن يحب لما فيه من الحكمة والمصلحة؛ فيكون حينئذ محبوبا من وجه، مكروها من وجه آخر.
مثال ذلك: الفساد في الأرض من بني إسرائيل في حد ذاته مكروه إلى الله؛ لأن الله لا يحب الفساد، ولا المفسدين، ولكن للحكمة التي يتضمنها يكون بها محبوبا إلى الله -عز وجل- من وجه آخر.
ومن ذلك: القحط، والجدب، والمرض، والفقر، لأن الله رحيم لا يحب أن يؤذي عباده بشيء من ذلك، بل يريد بعباده اليسر، لكن يقدره للحكم المترتبة عليه؛ فيكون محبوبا إلى الله من وجه، مكروها من وجه آخر.
قال الله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41] .
فإن قيل: كيف يتصور أن يكون الشيء محبوبا من وجه مكروها من وجه آخر؟
فيقال: هذا الإنسان المريض يعطى جرعة من الدواء مرة كريهة الرائحة واللون، فيشربها، وهو يكرهها لما فيها من المرارة واللون والرائحة، ويحبها لما فيها من الشفاء، وكذا الطبيب يكوي المريض بالحديدة المحماة على النار، ويتألم منها؛ فهذا الألم مكروه له من وجه، محبوب له من وجه آخر.(9/19)
فإن قيل: لماذا لم يكن قوله {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} من باب القضاء القدري؟
أجيب: بأنه لا يمكن؛ إذ لو كان قضاء قدريا لعبد الناس كلهم ربهم، لكنه قضاء شرعي قد يقع وقد لا يقع.
والخطاب في الآية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكن قال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} ، ولم يقل: "أن لا تعبد"، ونظير ذلك في القرآن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1] ؛ فالخطاب الأول للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والثاني عام؛ فما الفائدة من تغيير الأسلوب؟
أجيب: إن الفائدة من ذلك:
1 - التنبيه؛ إذ تنبيه المخاطب أمر مطلوب للمتكلم، وهذا حاصل هنا بتغيير الأسلوب.
2 - أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زعيم أمته، والخطاب الموجه إليه موجه لجميع الأمة.
3 - الإشارة إلى أن ما خوطب به الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو له ولأمته؛ إلا ما دل الدليل على أنه مختص به.
4 - وفي هذه الآية خاصة الإشارة إلى أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مربوب لا رب، عابد لا معبود؛ فهو داخل في قوله: تعبدوا، وكفى به شرفا أن يكون عبدا لله عز وجل، ولهذا يصفه الله تعالى بالعبودية في أعلى مقاماته؛ فقال في مقام التحدي والدفاع عنه: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: 23] ، وقال في مقام إثبات نبوته ورسالته إلى الخلق: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان: 1] ، وقال في مقام الإسراء والمعراج {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1] ، {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 10] .(9/20)
أقسام العبودية:
تنقسم العبودية إلى ثلاثة أقسام:
1 - عامة، وهي عبودية الربوبية، وهي لكل الخلق، قال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93] ، ويدخل في ذلك الكفار.
2 - عبودية خاصة، وهي عبودية الطاعة العامة، قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] ، وهذه تعم كل من تعبد لله بشرعه.
3 - خاصة الخاصة، وهي عبودية الرسل عليهم الصلاة والسلام، قال تعالى عن نوح: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء: 3] ، وقال عن محمد: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: 23] ، وقال في آخرين من الرسل: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [صّ: 45] .
فهذه العبودية المضافة إلى الرسل خاصة الخاصة؛ لأنه لا يباري أحد هؤلاء الرسل في العبودية.
قوله: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} أي: قضى ربك أن نحسن بالوالدين إحسانا.
والوالدان: يشمل الأم، والأب، ومن فوقهما، لكنه في الأم والأب أبلغ، وكلما قربا منك كانا أولى بالإحسان، والإحسان بذل المعروف، وفي قوله: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} بعد قوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} دليل على أن حق الوالدين بعد حق الله عز وجل.
فإن قيل: فأين حق الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
أجيب: بأن حق الله متضمن لحق الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن الله لا يعبد إلا بما(9/21)
وقوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36] .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
شرع الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقوله: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} أي: كف الأذى عنهما؛ ففي قوله: إحسانا: بذل المعروف، وفي قوله {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} : كف الأذى، ومعنى "أف": أتضجر؛ لأنك إذا قلته؛ فقد يتأذيان بذلك، وفي الآية إشارة إلى أنهما إذا بلغا الكبر صارا عبئا على ولدهما؛ فلا يتضجر من الحال، ولا ينهرهما في المقال إذا أساءا في الفعل أو القول.
قوله: {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} ، أي: لينا حسنا بهدوء وطمأنينة؛ كقولك: أعظم الله أجرك، أبشري يا أمي: أبشر يا أبي، وما أشبه ذلك؛ فالقول الكريم يكون في صيغته، وأدائه، والخطاب به، فلا يكون مزعجا كرفع الصوت مثلا، بل يتضمن الدعاء والإيناس لهما.
والشاهد من هذه الآية: قوله تعالى: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} : فهذا هو التوحيد لتضمنه للنفي والإثبات.
الآية الرابعة قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} ... الآية. {وَلَا تُشْرِكُوا} في مقابل "لا إله"؛ لأنها نفي.
وقوله: {وَاعْبُدُوا} في مقابل "إلا الله"؛ لأنها إثبات
وقوله: {شَيْئًا} نكرة في سياق النهي؛ فتعم كل شيء: لا نبيا، ولا ملكا، ولا وليا، بل ولا أمرا من أمور الدنيا؛ فلا تجعل الدنيا شريكا مع الله، والإنسان إذا كان همه الدنيا كان عابدا لها؛ كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تعس عبد الدينار،»(9/22)
«تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميلة، تعس عبد الخميصة» .
قوله: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} يقال فيها ما قيل في الآية السابقة. (1)
قوله: {وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} ؛ أي: إحسانا.
وذو القربى هم من يجتمعون بالشخص في الجد الرابع؟
واليتامى: جمع يتيم، وهو الذي مات أبوه، ولم يبلغ.
والمساكين: هم الذين عدموا المال فأسكنهم الفقر.
وابن السبيل: هو المسافر الذي انقطعت به النفقة.
قوله: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} الجار: الملاصق للبيت، أو من حوله، وذي القربى؛ أي: القريب، والجار الجنب؛ أي: الجار البعيد.
قوله: {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} ، قيل: إنه الزوجة، وقيل: صاحبك في السفر؛ لأنه يكون إلى حنبك، ولكل منهما حق؛ فالآية صالحة لهما.
قوله: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} هذا يشمل الإحسان إلى الأرقاء والبهائم؛ لأن الجميع ملك اليمين.
قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} .
المختال: في هيئته.
والفخور: في قوله، والله لا يحب هذا ولا هذا.
__________
(1) انظر: (ص21) .(9/23)
وقوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [الأنعام: 151] الآيات.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الآية الخامسة إلى السابعة قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} ...
الخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أمره الله أن يقول للناس: تعالوا؛ أي أقبلوا، وهلموا، وأصله من العلو كأن المنادي يناديك أن تعلو إلى مكانه، فيقول: تعالى؛ أي ارتفع إلي.
وقوله: {أَتْلُ} بالجزم جوابا للأمر في قوله: تعالوا.
وقوله: {مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} "ما" اسم موصول مفعول لأتل، والعائد محذوف، والتقدير: ما حرمه ربكم عليكم.
وقال: ربكم ولم يقل: ما حرم الله؛ لأن الرب هنا أنسب، حيث إن الرب له مطلق التصرف في المربوب، والحكم عليه بما تقتضيه حكمته.
قوله: {أَلَّا تُشْرِكُوا} أن تفسيرية، تفسر {أَتْلُ مَا حَرَّمَ} ؛ أي: أتلو عليكم ألا تشركوا به شيئا، وليست مصدرية، وقد قيل به، وعلى هذا القول تكون " لا" زائدة، ولكن القول الأول أصح؛ أي: أتل عليكم عدم الإشراك؛ لأن الله لم يحرم علينا أن لا نشرك به، بل حرم علينا أن نشرك به، ومما يؤيد أن "أن" تفسيرية أن "لا" هنا ناهية لتتناسب الجمل؛ فتكون كلها طلبية.
قوله: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} ، أي: وأتل عليكم الأمر بالإحسان إلى الوالدين.
قوله: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ} ، بعد أن ذكر حق الأصول ذكر حق الفروع.
والأولاد في اللغة العربية: يشمل الذكر والأنثى، قال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}(9/24)
[النساء: 11] .
قوله: {مِنْ إِمْلَاقٍ} ، الإملاق: الفقر، ومن للسببية والتعليل؛ أي: بسبب الإملاق.
قوله: {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} ، أي: إذا أبقيتموهم؛ فإن الرزق لن يضيق عليكم بإبقائهم؛ لأن الذي يقوم بالرزق هو الله.
وبدأ هنا برزق الوالدين، وفي سورة الإسراء بدأ برزق الأولاد، والحكمة في ذلك أنه قال هنا: {مِنْ إِمْلَاقٍ} ؛ فالإملاق حاصل، فبدأ بذكر الوالدين الذين أملقا، وهناك قال: {خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} [الإسراء: 31] ؛ فهما غنيان، لكن يخشيان الفقر، فبدأ برزق الأولاد قبل رزق الوالدين.
وتقييد النهي عن قتل الأولاد بخشية الإملاق بناء على واقع المشركين غالبا؛ فلا مفهوم له.
قوله: {وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ} ، لم يقل: لا تأتوا؛ لأن النهي عن القرب أبلغ من النهي عن الإتيان؛ لأن النهي عن القرب نهي عنها، وعما يكون ذريعة إليها، ولذلك حرم على الرجل أن ينظر إلى المرأة الأجنبية، وأن يخلو بها، وأن تسافر المرأة بلا محرم؛ لأن ذلك يقرب من الفواحش.
قوله: {مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} ، قيل: ما ظهر فحشه، وما خفي؛ لأن الفواحش منها شيء مستفحش في نفوس جميع الناس، ومنها شيء فيه خفاء.
وقيل: ما أظهرتموه، وما أسررتموه؛ فالإظهار: فعل الزنا -والعياذ بالله- مجاهرة، والإبطان فعله سرا.
وقيل: ما عظم فحشه، وما كان دون ذلك؛ لأن الفواحش ليست على(9/25)
حد سواء، ولهذا جاء في الحديث: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر» ، وهذا يدل على أن الكبائر فيها أكبر وفيها ما دون ذلك.
قوله: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} ، النفس التي حرم الله: هي النفس المعصومة، وهي نفس المسلم، والذمي، والمعاهد، والمستأمِن؛ بكسر الميم.
والحق: ما أثبته الشرع.
والباطل: ما نفاه الشرع.
فمن الحق الذي أثبته الشرع في قتل النفس المعصومة أن يزني المحصن فيرجم حتى يموت، أو يقتل مكافئه، أو يخرج على الجماعة، أو يقطع الطريق؛ فإنه يقتل، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يحل دم أمرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة» .
وقال هناك: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} ، وقال قبلها: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ} ؛ فيكون النهي عن قتل الأولاد مكررا مرتين: مرة بذكر الخصوص، ومرة بذكر العموم.
وقوله: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} ، المشار إليه ما سبق، والوصية بالشيء هي العهد به على وجه الاهتمام، ولهذا يقال: وصيته على فلان؛ أي: عهدت به(9/26)
إليه ليهتم به.
قوله: تعقلون، العقل هنا: حسن التصرف، وأما في قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف: 3] ؛ فمعناه: تفهمون.
وفي هذا دليل على أن هذه الأمور إذا التزم بها الإنسان؛ فهو عاقل رشيد، وإذا خالفها؛ فهو سفيه ليس بعاقل.
وقد تضمنت هذه الآية خمس وصايا:
الأولى: توحيد الله.
الثانية: الإحسان بالوالدين.
الثالثة: أن لا نقتل أولادنا.
الرابعة: أن لا نقرب الفواحش.
الخامسة: أن لا نقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق.
قوله: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ، قوله: {وَلَا تَقْرَبُوا} هذا حماية لأموال اليتامى أن لا نقربها إلا بالخصلة التي هي أحسن؛ فلا نقربها بأي تصرف إلا بما نرى أنه أحسن، فإذا لاح للولي تصرفان أحدهما أكثر ربحا؛ فالواجب عليه أن يأخذ بما هو أكثر ربحا لأنه أحسن.
والحسن هنا يشمل: الحسن الدنيوي، والحسن الديني، فإذا لاح تصرفان أحدهما أكثر ربحا وفيه ربا، والآخر أقل ربحا وهو أسلم من الربا؛ فنقدم الأخير؛ لأن الحسن الشرعي مقدم على الحسن الدنيوي المادي.
قوله: {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} ، حتى هنا: حرف غاية؛ فما بعدها مخالف لما قبلها.
أي: إذا بلغ أشده؛ فإننا ندفعه إليه بعد أن نختبره، وننظر في حسن(9/27)
تصرفه، ولا يجوز لنا أن نبقيه عندنا.
ومعنى أشده: قوته العقلية والبدنية، والخطاب هنا لأولياء اليتامى أو للحاكم على قول بعض أهل العلم، وبلوغ الأشد يختلف، والمراد به هنا الأشد الذي يكون به التكليف، وهو تمام خمس عشرة سنة، أو إنبات العانة أو الإنزال.
قوله: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ} ، أي: أوفوا الكيل إذا كلتم فيما يكال من الأطعمة والحبوب.
وأوفوا الميزان: إذا وزنتم فيما يوزن؛ كاللحوم مثلا.
والأمر بالإيفاء شامل لجميع ما تتعامل به مع غيرك؛ فيجب عليك أن توفي بالكيل والوزن وغيرهما في التعامل.
قوله: بالقسط، أي: بالعدل، ولما كان قوله: بالقسط قد يشق بعض الأحيان؛ لأن الإنسان قد يفوته أن يوفي الكيل أو الوزن أحيانا، أعقب ذلك بقوله: {لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} ؛ أي: طاقتها، فإذا بذل جهده وطاقته، وحصل النقص؛ فلا يعد مخالفا؛ لأن ما خرج عن الطاقة معفو عنه فيه، كما أن هذه الجملة تفيد العفو من وجه، وهو ما خرج عن الوسع؛ فإنها تفيد التغليظ من وجه، وهو أن على المرء أن يبذل وسعه في الإيفاء بالقسط، ولكن متى تبين الخطأ وجب تلافيه لأنه داخل في الوسع.
قوله: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} ، معناه: أي قول تقوله؛ فإنه يجب عليك أن تعدل فيه، سواء كان ذلك لنفسك على غيرك، أو لغيرك على نفسك، أو لغيرك على غيرك، أو لتحكم بين اثنين؛ فالواجب العدل؛ إذ العدل في اللغة الاستقامة، وضده الجور والميل؛ فلا تمل يمينا ولا شمالا، ولم يقل هنا: {لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} ؛ لأن القول لا يشق فيه العدل غالبا.(9/28)
قوله: {وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} ، أي المقول له ذا قرابة؛ أي: صاحب قرابة؛ فلا تحابيه لقرابته، فتميل معه على غيره من أجله؛ فاجعل أمرك إلى الله عز وجل الذي خلقك، وأمرك بهذا وإليه سترجع، ويسألك عز وجل ماذا فعلت في هذه الأمانة.
وقد أقسم أشرف الخلق، وسيد ولد آدم، وأعدل البشر؛ محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: «وأيم الله؛ لو أن فاطمة بنت محمد سرقت؛ لقطعت يدها» .
قوله: {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} ، قدم المتعلق؛ للاهتمام به، وعهد الله: ما عهد به إلى عباده، وهي عبادته سبحانه وتعالى والقيام بأمره؛ كما قال عز وجل: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [المائدة: 12] ، هذا ميثاق من جانب المخلوق، وقوله تعالى: {لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [المائدة: 12] ، هذا من جانب الله عز وجل.
قوله: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} ، هذه الآية الكريمة فيها أربع وصايا من الخالق عز وجل:
الأولى: أن لا نقرب مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن.
الثانية: أن نوفي الكيل والميزان بالقسط.
الثالثة: أن نعدل إذا قلنا.(9/29)
الرابعة: أن نوفي بعهد الله.
والآية الأولى فيها خمس وصايا. صار الجميع تسع وصايا.
ثم قال عز وجل: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} ، هذه هي الوصية العاشرة؛ فقوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي} يحتمل أن المشار إليه ما سبق؛ لأنك لو تأملته وجدته محيطا بالشرع كله؛ إما نصا، وإما إيماء، ويحتمل أن المراد به ما علم من دين الله؛ أي: هذا الذي جاءكم به الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو صراطي؛ أي: الطريق الموصل إليه سبحانه وتعالى.
والصراط يضاف إلى الله عز وجل ويضاف إلى سالكه؛ ففي قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] هنا أضيف إلى سالكه، وفي قوله تعالى: {صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 53] هنا أضيف إلى الله عز وجل؛ فإضافته إلى الله عز وجل لأنه موصل إليه، ولأنه هو الذي وضعه لعباده جل وعلا، وإضافته إلى سالكه لأنهم هم الذين سلكوه.
قوله: {مُسْتَقِيمًا} ، هذه حال من "صراط"؛ أي: حال كونه مستقيما لا اعوجاج فيه فاتبعوه.
قوله: {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} السبل؛ أي: الطرق الملتوية الخارجة عنه.
وتفرق: فعل مضارع منصوب بأن بعد فاء السببية، لكن حذفت منه تاء المضارعة، وأصلها: "تتفرق"، أي أنكم إذا اتبعتم السبل تفرقت بكم عن سبيله، وتشتت بكم الأهواء وبعدت.(9/30)
قال ابن مسعود: "من أراد أن ينظر إلى وصية محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي عليها خاتمه؛ فليقرأ قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} إلى قوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام: 153] الآية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وهنا قال: (السبل) : جمع سبيل، وفي الطريق التي أضافها الله إلى نفسه قال: (سبيله) سبيل واحد؛ لأن سبيل الله عز وجل واحد، وأما ما عداه، فسبل متعددة، ولهذا قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار؛ إلا واحدة» ؛ فالسبيل المنجي واحد، والباقية متشعبة متفرقة، ولا يرد على هذا قوله تعالى: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} [المائدة: 16] ؛ لأن "سبل" في الآية الكريمة؛ وإن كانت مجموعة؛ لكن أضيفت إلى السلام فكانت منجية، ويكون المراد بها شرائع الإسلام.
وقوله: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ، أي: ذلك المذكور وصاكم لتنالوا به درجة التقوى، والالتزام بما أمر الله به ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قوله: قال ابن مسعود: "من أراد ... " إلخ. الاستفهام هنا للحث(9/31)
والتشويق، واللام في قوله: " فليقرأ " للإرشاد.
قوله: "وصية محمد "، الوصية بمعنى العهد، ولا يكون العهد وصية إلا إذا كان في أمر هام.
وقوله: " محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "، أي: رسول الله محمد بن عبد الله الهاشمي القرشي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا التعبير من ابن مسعود يدل على جواز مثله، مثل: قال محمد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ووصية محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , ولا ينافي قوله تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63] ؛ لأن دعاء الرسول هنا أي: مناداته؛ فلا تقولوا عند المناداة: يا محمد! ولكن قولوا: يا رسول الله! أما الخبر؛ فهو أوسع من باب الطلب، ولهذا يجوز أن تقول: أنا تابع لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو اللهم! صل على محمد، وما أشبه ذلك.
قوله: "التي عليها خاتمه"، الخاتم بمعنى التوقيع.
وقوله: "وصية محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" ليست وصية مكتوبة مختوما عليها؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يوص بشيء، ويدل لذلك: «أن أبا جحيفة سأل علي بن أبي طالب: هل عهد إليكم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشيء؟ فقال: لا. والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهما يؤتيه الله تعالى في القرآن، وما في هذه الصحيفة. قيل: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر» .
فلا يظن أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوصى بهذه الآيات وصية خاصة مكتوبة، لكن ابن مسعود رضي الله عنه يرى أن هذه الآيات قد شملت الدين كله؛ فكأنها الوصية التي ختم عليها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبقاها لأمته.(9/32)
وعن معاذ بن جبل (رضي الله عنه) ؛ قال: «كنت رديف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على حمار، فقال لي: "يا معاذ! أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟) . قلت: الله ورسوله أعلم. قال: " حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا.»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وهي آيات عظيمة، إذا تدبرها الإنسان وعمل بها؛ حصلت له الأوصاف الثلاثة الكاملة: العقل، والتذكر، والتقوى.
وقوله: "فليقرأ قوله تعالى ... " إلخ الآيات، سبق الكلام عليها.
قوله: (رديف) ، بمعنى رادف؛ أي: راكب معه خلفه؛ فهو فعيل بمعنى فاعل، مثل: رحيم بمعنى راحم، وسميع بمعنى سامع.
قوله: (على حمار) ، أي: أهلي؛ لأن الوحشي لا يركب.
قوله: (أتدري) ، أي: أتعلم.
قوله: «ما حق الله على العباد؟» ، أي: ما أوجبه عليهم، وما يجب أن يعاملوه به، وألقاه على معاذ بصيغة السؤال؛ ليكون أشد حضورا لقلبه حتى يفهم ما يقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قوله: «وما حق العباد على الله؟» ، أي: ما يجب أن يعاملهم به، والعباد لم يوجبوا شيئا، بل الله أوجبه على نفسه فضلا منه على عباده، قال تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 54] .(9/33)
«وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا". قلت: يا رسول الله! أفلا أبشر الناس؟ قال: "لا تبشرهم فيتكلوا» . أخرجاه في "الصحيحين"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فأوجب سبحانه على نفسه أن يرحم من عمل سوءا بجهالة؛ أي: بسفه وعدم حسن تصرف، ثم تاب من بعد ذلك وأصلح.
ومعنى كتب؛ أي: أوجب.
قوله: (قلت: الله ورسوله أعلم) ، لفظ الجلالة الله: مبتدأ، و"رسوله": معطوف عليه، وأعلم: خبر المبتدأ، وأفرد الخبر هنا مع أنه لاثنين؛ لأنه على تقدير: "من"، واسم التفضيل إذا كان على تقدير: "من"؛ فإن الأشهر فيه الإفراد والتذكير.
والمعنى: أعلم من غيرهما، وأعلم مني أيضا.
قوله: (يعبدوه) أي: يتذللوا له بالطاعة.
قوله: «ولا يشركوا به شيئا» ، أي: في عبادته وما يختص به، وشيئا نكرة في سياق النفي؛ فتعم كل شيء لا رسولا ولا ملكا ولا وليا ولا غيرهم.
وقوله: «وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا» ، وهذا الحق تفضل الله به على عباده، ولم يوجبه عليه أحد، ولا تظن أن قوله: «من لا»(9/34)
«يشرك به شيئا» أنه مجرد عن العبادة؛ لأن التقدير: من يعبده ولا يشرك به شيئا، ولم يذكر قوله: "من يعبده"؛ لأنه مفهوم من قوله: «وحق العباد» ، ومن كان وصفه العبودية؛ فلا بد أن يكون عابدا.
ومن لم يعبد الله ولم يشرك به شيئا؛ هل يعذب؟
الجواب: نعم، يعذب؛ لأن الكلام فيه حذف، وتقديره: من يعبده ولا يشرك به شيئا، ويدل لهذا أمران:
الأول: قوله: «حق العباد» ، ومن كان وصفه العبودية؛ فلا بد أن يكون عابدا.
الثاني: أن هذا في مقابل قوله فيما تقدم: «أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئا» ؛ فعلم أن المراد بقوله: «لا يشركوا به شيئا» ؛ أي: في العبادة.
قوله: «أفلا أبشر الناس» ، أي: أأسكت فلا أبشر الناس؟ ومثل هذا التركيب: الهمزة ثم حرف العطف ثم الجملة لعلماء النحو فيه قولان:
الأول: أن بين الهمزة وحرف العطف محذوفا يقدر بما يناسب المقام، وتقديره هنا: أأسكت فلا أبشر الناس؟
الثاني: أنه لا شيء محذوف، لكن هنا تقديم وتأخير، وتقديره: فألا أبشر؟ فالجملة معطوفة على ما سبق، وموضع الفاء سابق على الهمزة؛ فالأصل: فألا أبشر الناس؟ لكن لما كان مثل هذا التركيب ركيكا، وهمزة الاستفهام لها الصدارة؛ قدمت على حرف العطف، ومثل ذلك قوله تعالى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية: 17] ، وقوله تعالى: {أَفَلَا يُبْصِرُونَ} [السجدة: 27] ، وقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} [الحج: 46] .
والبشارة: هي الإخبار بما يسر.
وقد تستعمل في الإخبار بما يضر، ومنه قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}(9/35)
فيه مسائل:
الأولى: الحكمة في خلق الجن والإنس.
الثانية: أن العبادة هي التوحيد؛ لأن الخصومة فيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الانشقاق: 24] ، لكن الأكثر الأول.
قوله: «لا تبشرهم» ، أي: لا تخبرهم، ولا ناهية.
ومعنى الحديث أن الله لا يعذب من لا يشرك به شيئا، وأن المعاصي تكون مغفورة بتحقيق التوحيد، ونهى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن إخبارهم؛ لئلا يعتمدوا على هذه البشرى دون تحقيق مقتضاها؛ لأن تحقيق التوحيد يستلزم اجتناب المعاصي؛ لأن المعاصي صادرة عن الهوى، وهذا نوع من الشرك، قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23] .
ومناسبة الحديث للترجمة: فضيلة التوحيد، وأنه مانع من عذاب الله.
المسائل:
الأولى: الحكمة من خلق الجن والإنس، أخذها رحمه الله من قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] ؛ فالحكمة هي عبادة الله لا أن يتمتعوا بالمآكل والمشارب والمناكح.
الثانية: أن العبادة هي التوحيد، أي: أن العبادة مبنية على التوحيد؛ فكل عبادة لا توحيد فيها ليست بعباده، لا سيما أن بعض السلف فسروا قوله تعالى: {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} : إلا ليوحدون(9/36)
الثالثة: أن من لم يأت به؛ لم يعبد الله؛ ففيه معنى قوله: {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون: 3] .
الرابعة: الحكمة في إرسال الرسل.
الخامسة: أن الرسالة عمت كل أمة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وهذا مطابق تماما لما استنبطه المؤلف رحمه الله من أن العبادة هي التوحيد؛ فكل عبادة لا تبنى على التوحيد فهي باطلة، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري؛ تركته وشركه» .
وقوله: "لأن الخصومة فيه "، أي: في التوحيد بين الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقريش؛ فقريش يعبدون الله يطوفون له ويصلون، ولكن على غير الإخلاص والوجه الشرعي؛ فهي كالعدم لعدم الإيتان بالتوحيد، قال تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} [التوبة: 54]
وقوله في الثالثة: ففيه معنى قوله: {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} ، لستم عابدين عبادتي؛ لأن عبادتكم مبنية على الشرك، فليست بعبادة لله تعالى.
الرابعة: الحكمة في إرسال الرسل، أخذها رحمه الله تعالى من قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] .
فالحكمة هي: الدعوة إلى عبادة الله وحده، واجتناب عبادة الطاغوت.
الخامسة: أن الرسالة عمت كل أمة، أخذها من قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا} [النحل: 36] .(9/37)
السادسة: أن دين الأنبياء واحد.
السابعة: المسألة الكبيرة أن عبادة الله لا تحصل إلا بالكفر بالطاغوت؛ ففيه معنى قوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ} [البقرة: 256] .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
السادسة: أن دين الأنبياء واحد، أخذها من قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} ، ومثله قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] ، وهذا لا ينافي قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48] ؛ لأن الشرعة العملية تختلف باختلاف الأمم والأماكن والأزمنة، وأما أصل الدين؛ فواحد، قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13] .
السابعة: المسألة الكبيرة أن عبادة الله لا تحصل إلا بالكفر بالطاغوت. ودليله قوله تعالى: {وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} ، فمن عبد الله ولم يكفر بالطاغوت؛ فليس بموحد، ولهذا جعل المؤلف رحمه الله هذه المسألة كبيرة؛ لأن كثيرا من المسلمين جهلها في زمانه وفي زماننا الآن.
تنبيه
لا يجوز إطلاق الشرك أو الكفر أو اللعن على من فعل شيئا من ذلك؛ لأن الحكم بذلك في هذه وغيرها له أسباب وله موانع؛ فلا نقول لمن أكل الربا: ملعون؛ لأنه قد يوجد مانع يمنع من حلول اللعنة عليه؛ كالجهل مثلا، أو الشبهة، وما أشبه ذلك، وكذا الشرك لا نطلقه على من فعل شركا؛ فقد تكون الحجة ما قامت عليه بسبب تفريط علمائهم، وكذا نقول: «من صام رمضان إيمانا»(9/38)
الثامنة: أن الطاغوت عام في كل ما عبد من دون الله.
التاسعة: عظم شأن الثلاث آيات المحكمات في سورة الأنعام عند السلف، وفيها عشر مسائل، أولها النهي عن الشرك.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«واحتسابا؛ غفر له ما تقدم من ذنبه،» ولكن لا نحكم بهذا لشخص معين، إذ إن الحكم المعلق على الأوصاف لا ينطبق على الأشخاص إلا بتحقق شروط انطباقه وانتفاء موانعه.
فإذا رأينا شخصا يتبرز في الطريق؛ فهل نقول له: لعنك الله؟
الجواب: لا، إلا إذا أريد باللعن في قوله: «اتقوا الملاعن» (1) أن الناس أنفسهم يلعنون هذا الشخص ويكرهونه، ويرونه مخلا بالأدب مؤذيا للمسلمين؛ فهذا شيء آخر.
فدعاء القبر شرك، لكن لا يمكن أن نقول لشخص معين فعله: هذا مشرك؛ حتى نعرف قيام الحجة عليه، أو نقول: هذا مشرك باعتبار ظاهر حاله.
الثامنة: أن الطاغوت عام في كل ما عبد من دون الله. فكل ما عبد من دون الله؛ فهو طاغوت، وقد عرفه ابن القيم: بأنه كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع، فالمعبود كالصنم، والمتبوع كالعالم، والمطاع كالأمير.
التاسعة: عظم شأن الثلاث آيات المحكمات في سورة الأنعام، المحكمات؛
__________
(1) مسند الإمام أحمد 1/299، سنن أبي داود: كتاب الطهارة / باب المواضع التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التبول فيها، وابن ماجة: كتاب الطهارة/باب النهي عن الخلاء على قارعة الطريق، والحاكم ـ وقال: (صحيح) ، ووافقه الذهبي(9/39)
العاشرة: الآيات المحكمات في سورة الإسراء، وفيها ثماني عشر مسألة، بدأها الله بقوله: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} [الإسراء: 22] . وختمها بقوله: {وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء: 39] . ونبهنا الله سبحانه على عظم شأن هذه المسائل بقوله: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} [الإسراء: 39] .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أي: التي ليس فيها نسخ، أخذ ذلك من قول ابن مسعود رضي الله عنه.
العاشرة: الآيات المحكمات في سورة الإسراء. وهي قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] ، وفيها ثماني عشرة مسألة بدأها بقوله تعالى: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} ، وختمها بقوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} .
وقد نبهنا الله سبحانه على عظم شأن هذه المسائل بقوله تعالى: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} .
فبدأها الله بالنهي عن الشرك بقوله تعالى: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} ، والقاعد ليس قائما؛ لأنه لا خير لمن أشرك بالله، مذموما عند الله وعند أوليائه، مخذولا لا ينتصر في الدنيا ولا في الآخرة.
وختمها بقوله: {وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء: 39] ؛ فهذه عقوبته عندما يلقى في النار كل يلومه ويدحره فيندحر والعياذ بالله.(9/40)
الحادية عشرة: آية سورة النساء التي تسمى آية الحقوق العشرة، بدأها الله تعالى بقوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36] .
الثانية عشرة: التنبيه على وصية رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند موته.
الثالثة عشرة: معرفة حق الله علينا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الحادية عشرة: آية سورة النساء التي تسمى آية الحقوق العشرة. بدأها بقوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} ، فأحق الحقوق حق الله، ولا تنفع الحقوق إلا به؛ فبدئت هذه الحقوق به، ولهذا «لما سأل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حكيم بن حزام عمن كان يتصدق ويعتق ويصل رحمه في الجاهلية هل له من أجر؟ فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أسلمت على ما أسلفت من الخير» ؛ فدل على أنه إذا لم يسلم لم يكن له أجر، فصارت الحقوق كلها لا تنفع إلا بتحقيق حق الله.
الثانية عشرة: التنبيه على وصية رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند موته. وذلك من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، ولكن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يوص بها حقيقة، بل أشار إلى أننا إذا تمسكنا بكتاب الله؛ فلن نضل بعده، ومن أعظم ما جاء به كتاب الله قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151] .
الثالثة عشرة: معرفة حق الله علينا. وذلك بأن نعبده ولا نشرك به شيئا.(9/41)
الرابعة عشرة: معرفة حق العباد عليه إذا أدوا حقه.
الخامسة عشرة: أن هذه المسألة لا يعرفها أكثر الصحابة.
السادسة عشرة: جواز كتمان العلم للمصلحة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الرابعة عشرة: معرفة حق العباد عليه إذا أدوا حقه. وذلك بأن لا يعذب من لا يشرك به شيئا، أما من أشرك؛ فإنه حقيق أن يعذب.
الخامسة عشرة: أن هذه المسألة لا يعرفها أكثر الصحابة. وذلك أن معاذا أخبر بها تأثما، أي خروجا من إثم الكتمان عند موته بعد أن مات كثير من الصحابة؛ وكأنه رضي الله عنه علم أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يخشى أن يفتتن الناس بها ويتكلوا، ولم يرد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتمها مطلقا؛ لأنه لو أراد ذلك لم يخبر بها معاذا ولا غيره.
السادسة عشرة: جواز كتمان العلم للمصلحة. هذه ليست على إطلاقها؛ إذ إن كتمان العلم على سبيل الإطلاق لا يجوز لأنه ليس بمصلحة، ولهذا أخبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معاذا ولم يكتم ذلك مطلقا، وأما كتمان العلم في بعض الأحوال، أو عن بعض الأشخاص لا على سبيل الإطلاق؛ فجائز للمصلحة؛ كما كتم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك عن بقية الصحابة خشية أن يتكلوا عليه، وقال لمعاذ: «لا تبشرهم فيتكلوا» .
ونظير هذا الحديث قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي هريرة: «بشر الناس أن من قال: لا إله»(9/42)
السابعة عشرة: استحباب بشارة المسلم بما يسره.
الثامنة عشرة: الخوف من الاتكال على سعة رحمة الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«إلا الله خالصا من قلبه دخل الجنة» .
بل قد تقتضي المصلحة ترك العمل؛ وإن كان فيه مصلحة لرجحان مصلحة الترك، كما «هم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يهدم الكعبة ويبنيها على قواعد إبراهيم، ولكن ترك ذلك خشية افتتان الناس؛ لأنهم حديثو عهد بكفر»
السابعة عشرة: استحباب بشارة المسلم بما يسره. لقوله: «أفلا أبشر الناس؟» ، وهذه من أحسن الفوائد.
الثامنة عشرة: الخوف من الاتكال على سعة رحمة الله. وذلك لقوله: «لا تبشرهم فيتكلوا» ؛ لأن الاتكال على رحمة الله يسبب مفسدة عظيمة هي الأمن من مكر الله.
وكذلك القنوط من رحمة الله يبعد الإنسان من التوبة ويسبب اليأس من رحمة الله، ولهذا قال الإمام أحمد: " ينبغي أن يكون سائرا إلى الله بين الخوف والرجاء؛ فأيهما غلب هلك صاحبه"، فإذا غلب الرجاء أدى ذلك إلى الأمن من مكر الله، وإذا غلب الخوف أدى ذلك إلى القنوط من رحمة الله.(9/43)
وقال بعض العلماء: إن كان مريضا غلب جانب الرجاء، وإن كان صحيحا غلب جانب الخوف.
وقال بعض العلماء: إذا نظر إلى رحمة الله وفضله غلب جانب الرجاء, وإذا نظر إلى فعله وعمله غلب جانب الخوف لتحصل التوبة.
ويستدلون بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60] ؛ أي: خائفة أن لا يكون تقبل منهم لتقصير أو قصور، وهذا القول جيد، وقيل: يغلب الرجاء عند فعل الطاعة ليحسن الظن بالله، ويغلب جانب الخوف إذا هم بالمعصية لئلا ينتهك حرمات الله.
وفي قوله: «أفلا أبشر الناس؟» دليل على أن التبشير مطلوب فيما يسر من أمر الدين والدنيا، ولذلك بشرت الملائكة إبراهيم، قال تعالى: {وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات: 28] ، وهو إسحاق، والحليم إسماعيل، وبشر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهله بابنه إبراهيم، فقال: «ولد لي الليلة ولد سميته باسم أبي إبراهيم» ؛ فيؤخذ منه أنه ينبغي للإنسان إدخال السرور على إخوانه المسلمين ما أمكن بالقول أو بالفعل؛ ليحصل له بذلك خير كثير وراحة وطمأنينة قلب وانشراح صدر.
وعليه؛ فلا ينبغي أن يدخل السوء على المسلم، ولهذا يروى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لايحدثني أحد عن أحد بشيء؛ فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر» . (1)
__________
(1) مسند الإمام أحمد 1/396، وقال أحمد شاكر: إسناده حسن على الأقل. وسنن أبي داود: كتاب الأدب/باب في رفع الحديث من المجلس، ـ وسكت عنه ـ.(9/44)
التاسعة عشرة: قول المسئول عما لا يعلم: الله ورسوله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وهذا الحديث فيه ضعف، لكن معناه صحيح؛ لأنه إذا ذكر عندك رجل بسوء؛ فسيكون في قلبك عليه شيء ولو أحسن معاملتك، لكن إذا كنت تعامله وأنت لا تعلم عن سيئاته، ولا محذور في أن تتعامل معه؛ كان هذا طيبا، وربما يقبل منك النصيحة أكثر، والنفوس ينفر بعضها من بعض قبل الأجسام، وهذه مسائل دقيقة تظهر للعاقل بالتأمل.
التاسعة عشرة: قول المسئول عما لا يعلم: الله ورسوله أعلم، وذلك لإقرار النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معاذا لما قالها، ولم ينكر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على معاذ، حيث عطف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الله بالواو، «وأنكر على من قال: "ما شاء الله وشئت"، وقال: "أجعلتني لله ندا؟! بل ما شاء الله وحده» . (1)
فيقال: إن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنده من العلوم الشرعية ما ليس عند القائل، ولهذا لم ينكر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على معاذ.
بخلاف العلوم الكونية القدرية؛ فالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس عنده علم منها.
فلو قيل: هل يحرم صوم العيدين؟
جاز أن نقول: الله ورسوله أعلم، ولهذا كان الصحابة إذا أشكلت عليهم المسائل ذهبوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيبينها لهم، ولو قيل: هل يتوقع نزول مطر في هذا الشهر؟ لم يجز أن نقول: الله ورسوله أعلم؛ لأنه من العلوم الكونية.
__________
(1) مسند الإمام أحمد (1/214) ، وابن ماجة: كتاب الكفارات/باب النهي أن يُقال: ما شاء الله وشئت، وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح (1839) .(9/45)
العشرون: جواز تخصيص بعض الناس بالعلم دون بعض.
الحادية والعشرون: تواضعه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لركوب الحمار مع الإرداف عليه.
الثانية والعشرون: جواز الإرداف على الدابة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
العشرون: جواز تخصيص بعض الناس بالعلم دون بعض. وذلك لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خص هذا العلم بمعاذ دون أبي بكر وعمر وعثمان وعلي.
فيجوز أن نخصص بعض الناس بالعلم دون بعض، حيث أن بعض الناس لو أخبرته بشيء من العلم افتتن، قال ابن مسعود: «إنك لن تحدث قوما بحديث لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة» ، وقال علي: "حدثوا الناس بما يعرفون"، فيحدث كل أحد حسب مقدرته وفهمه وعقله.
الحادية والعشرون: تواضعه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لركوب الحمار مع الإرداف عليه. النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أشرف الخلق جاها، ومع ذلك هو أشد الناس تواضعا، حيث ركب الحمار وأردف عليه، وهذا في غاية التواضع؛ إذ إن عادة الكبراء عدم الإرداف، وركب صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحمار، ولو شاء لركب ما أراد، ولا منقصة في ذلك؛ إذ إن من تواضع لله عز وجل رفعه.
الثانية والعشرون: جواز الإرداف على الدابة. وذلك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أردف معاذا لكن يشترط للإرداف أن لا يشق على الدابة، فإن شق؛ لم يجز ذلك.(9/46)
الثالثة والعشرون: عظم شأن هذه المسألة.
الرابعة والعشرون: فضيلة معاذ بن جبل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الثالثة والعشرون: عظم شأن هذه المسالة. حيث أخبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معاذا، وجعلها من الأمور التي يبشر بها.
الرابعة والعشرون: فضيلة معاذ رضي الله عنه. وذلك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خصه بهذا العلم, وأردفه معه على الحمار.(9/47)
باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
سبق أن ذكر المؤلف كتاب التوحيد؛ أي: وجوب التوحيد، وأنه لا بد منه، وأن معنى قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذريات: 56] : أن العبادة لا تصح إلا بالتوحيد.
وهنا ذكر المؤلف فضل التوحيد، ولا يلزم من ثبوت الفضل للشيء أن يكون غير واجب، بل الفضل من نتائجه وآثاره.
ومن ذلك صلاة الجماعة ثبت فضلها بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة» . متفق عليه.
ولا يلزم من ثبوت الفضل فيها أن تكون غير واجبة؛ إذ إن التوحيد أوجب الواجبات، ولا تقبل الأعمال إلا به، ولا يتقرب العبد إلى ربه إلا به، ومع ذلك ففيه فضل.
قوله: "وما يكفر من الذنوب". معطوف على "فضل"؛ فيكون المعنى: باب فضل التوحيد، وباب ما يكفر من الذنوب، وعلى هذا؛ فالعائد محذوف والتقدير ما يكفره من الذنوب، وعقد هذا الباب لأمرين:
الأول: بيان فضل التوحيد.
الثاني: بيان ما يكفره من الذنوب؛ لأن من آثار فضل التوحيد تكفير الذنوب.(9/48)
وقول الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} الآية [الأنعام: 82] .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فمن فوائد التوحيد:
1 - أنه أكبر دعامة للرغبة في الطاعة؛ لأن الموحد يعمل لله سبحانه وتعالى؛ وعليه فهو يعمل سرا وعلانية، أما غير الموحد؛ كالمرائي مثلا؛ فإنه يتصدق ويصلي، ويذكر الله إذا كان عنده من يراه فقط، ولهذا قال بعض السلف: "إني لأود أن أتقرب إلى الله بطاعة لا يعلمها إلا هو".
2 - أن الموحدين لهم الأمن وهم مهتدون؛ كما قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82] .
قوله: {وَلَمْ يَلْبِسُوا} ، أي: يخلطوا.
قوله: {بِظُلْمٍ} ، الظلم هنا ما يقابل الإيمان، وهو الشرك، «ولما نزلت هذه الآية شق ذلك على الصحابة، وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ليس الأمر كما تظنون، إنما المراد به الشرك، ألم تسمعوا إلى قول الرجل الصالح يعني لقمان: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ؟» .
والظلم أنواع:
1 - أظلم الظلم، وهو الشرك في حق الله.(9/49)
2 - ظلم الإنسان نفسه؛ فلا يعطيها حقها، مثل أن يصوم فلا يفطر، ويقوم فلا ينام.
3 - ظلم الإنسان غيره، مثل أن يتعدى على شخص بالضرب، أو القتل أو أخذ مال، أو ما أشبه ذلك.
وإذا انتفى الظلم؛ حصل الأمن، لكن هل هو أمن كامل؟
الجواب: أنه إن كان الإيمان كاملا لم يخالطه معصية؛ فالأمن أمن مطلق، أي كامل، وإذا كان الإيمان مطلق إيمان -غير كامل- فله مطلق الأمن؛ أي: أمن ناقص.
مثال ذلك: مرتكب الكبيرة، آمن من الخلود في النار، وغير آمن من العذاب، بل هو تحت المشيئة، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 116] .
وهذه الآية قالها الله تعالى حكما بين إبراهيم وقومه حين قال لهم: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ} إلى قوله: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 81، 82] ؛ فقال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} الآية [الأنعام: 82] ، على أنه قد يقول قائل: إنها من كلام إبراهيم ليبين لقومه، ولهذا قال بعدها: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} [الأنعام: 83] .
قوله: {الْأَمْنُ} ، ال فيها للجنس، ولهذا فسرنا الأمن بأنه إما أمن مطلق، وإما مطلق أمن حسب الظلم الذي تلبس به.
قوله: {وَهُمْ مُهْتَدُونَ} ، أي: في الدنيا إلى شرع الله بالعلم والعمل؛ فالاهتداء بالعلم هداية الإرشاد كما قال الله تعالى في أصحاب الجحيم: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ}(9/50)
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من شهد أن لا إله إلى الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق؛ أدخله الله الجنة على ما كان من العمل» أخرجاه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الصافات: 22-23] .
والاهتداء بالعمل: هداية توفيق، وهم مهتدون في الآخرة إلى الجنة.
فهذه هداية الآخرة، وهي للذين ظلموا إلى صراط الجحيم؛ فيكون مقابلها أن الذين آمنوا ولم يظلموا يهدون إلى صراط النعيم.
وقال كثير من المفسرين في قوله تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ} : إن الأمن في الآخرة، والهداية في الدنيا، والصواب أنها عامة بالنسبة للأمن والهداية في الدنيا والآخرة.
مناسبة الآية للترجمة:
أن الله أثبت الأمن لمن لم يشرك، والذي لم يشرك يكون موحدا؛ فدل على أن من فضائل التوحيد استقرار الأمن.
قوله: «من شهد أن لا إله إلا الله» ، الشهادة لا تكون إلا عن علم سابق، قال تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] ، وهذا العلم قد(9/51)
يكون مكتسبا وقد يكون غريزيا.
فالعلم بأنه لا إله إلا الله غريزي، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كل مولود يولد على الفطرة» .
وقد يكون مكتسبا، وذلك بتدبر آيات الله، والتفكر فيها.
ولا بد أن يوجد العلم بلا إله إلا الله ثم الشهادة بها.
قوله: أن، مخففة من الثقيلة، والنطق بأن مشددة خطأ؛ لأن المشددة لا يمكن حذف اسمها، والمخففة يمكن حذفه.
قوله: لا إله، أي: لا مألوه، وليس بمعنى لا آله، والمألوه: هو المعبود محبة وتعظيما، تحبه وتعظمه لما تعلم من صفاته العظيمة وأفعاله الجليلة.
قوله: إلا الله، أي: لا مألوه إلا الله، ولهذا حكي عن قريش قولهم: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [صّ: 5] .
أما قوله تعالى: {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [هود: 101] ؛ فهذا التأله باطل؛ لأنه بغير حق، فهو منفي شرعا، وإذا انتفى شرعا؛ فهو كالمنتفي وقوعا؛ فلا قرار له، {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} [ابراهيم: 26]
وبهذا يحصل الجمع بين قوله تعالى {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ} [هود: 101] ، وقوله تعالى حكاية عن قريش: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص: 5] ، وبين قوله تعالى: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 62] ؛ فهذه الآلهة مجرد أسماء لا معاني لها ولا حقيقة؛ إذ هي باطلة شرعا، لا تستحق أن تسمى آلهة؛(9/52)
لأنها لا تنفع ولا تضر، ولا تخلق ولا ترزق؛ كما قال تعالى: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [يوسف: 40]
التوحيد عند المتكلمين:
يقولون: إن معنى إله: آله، والآله: القادر على الاختراع؛ فيكون معنى لا إله إلا الله: لا قادر على الاختراع إلا الله.
والتوحيد عندهم: أن توحد الله، فتقول: هو واحد في ذاته، لا قسيم له، وواحد في أفعاله لا شريك له، وواحد في صفاته لا شبيه له، ولو كان هذا معنى لا إله إلا الله؛ لما أنكرت قريش على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعوته ولآمنت به وصدقت؛ لأن قريشا تقول: لا خالق إلا الله، ولا خالق أبلغ من كلمة لا قادر؛ لأن القادر قد يفعل وقد لا يفعل، أما الخالق؛ فقد فعل وحقق بقدرة منه، فصار فهم المشركين خيرا من فهم هؤلاء المتكلمين والمنتسبين للإسلام؛ فالتوحيد الذي جاءت به الرسل في قوله تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59] ؛ أي من إله حقيقي يستحق أن يعبد، وهو الله.
ومن المؤسف أنه يوجد كثير من الكتاب الآن الذين يكتبون في هذه الأبواب تجدهم عندما يتكلمون على التوحيد لا يقررون أكثر من توحيد الربوبية، وهذا غلط ونقص عظيم، ويجب أن نغرس في قلوب المسلمين توحيد الألوهية أكثر من توحيد الربوبية؛ لأن توحيد الربوبية لم ينكره أحد إنكارا حقيقيا، فكوننا لا نقرر إلا هذا الأمر الفطري المعلوم بالعقل، ونسكت عن الأمر الذي يغلب فيه الهوى هو نقص عظيم؛ فعبادة غير الله هي التي يسيطر فيها هوى الإنسان على نفسه حتى يصرفه عن عبادة الله وحده، فيعبد الأولياء ويعبد هواه، حتى جعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي همه الدرهم والدينار ونحوهما(9/53)
عابدا، وقال الله عز وجل: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23] .
فالمعاصي من حيث المعنى العام أو الجنس العام يمكن أن نعتبرها من الشرك.
وأما بالمعنى الأخص؛ فتنقسم إلى أنواع:
1 - شرك أكبر.
2 - شرك أصغر.
3 - معصية كبيرة.
4 - معصية صغيرة.
وهذه المعاصي منها ما يتعلق بحق الله، ومنها ما يتعلق بحق الإنسان نفسه، ومنها ما يتعلق بحق الخلق.
وتحقيق لا إله إلا الله أمر في غاية الصعوبة، ولهذا قال بعض السلف: "كل معصية؛ فهي نوع من الشرك".
وقال بعض السلف: "ما جاهدت نفسي على شيء مجاهدتها على الإخلاص"، ولا يعرف هذا إلا المؤمن، أما غير المؤمن؛ فلا يجاهد نفسه على الإخلاص، ولهذا قيل لابن عباس: "إن اليهود يقولون: نحن لا نوسوس في الصلاة. قال: فما يصنع الشيطان بقلب خرب؟! "؛ فالشيطان لا يأتي ليخرب المهدوم، ولكن يأتي ليخرب المعمور، ولهذا «لما شكي إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الرجل يجد في نفسه ما يستعظم أن يتكلم به؛ قال: "وجدتم ذلك؟ ". قالوا: نعم. قال: "ذاك صريح الإيمان» ؛ أي: أن ذاك هو العلامة البينة على أن إيمانكم(9/54)
صريح لأنه ورد عليه، ولا يرد إلا على قلب صحيح خالص.
قوله: «من شهد أن لا إله إلا الله» ، من: شرطية، وجواب الشرط: «أدخله الله الجنة على ما كان من العمل» .
والشهادة: هي الاعتراف باللسان، والاعتقاد بالقلب، والتصديق بالجوارح، ولهذا لما قال المنافقون للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 1] ، وهذه جملة مؤكدة بثلاث مؤكدات: الشهادة، وإن، واللام، كذبهم الله بقوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1] ؛ فلم ينفعهم هذا الإقرار باللسان لأنه خال من الاعتقاد بالقلب، وخال من التصديق بالعمل، فلم ينفع؛ فلا تتحقق الشهادة إلا بعقيدة في القلب، واعتراف باللسان، وتصديق بالعمل.
وقوله: «لا إله إلا الله» ، أي: لا معبود على وجه يستحق أن يعبد إلا الله, وهذه الأصنام التي تعبد لا تستحق العبادة؛ لأنه ليس فيها من خصائص الألوهية شيء.
قوله: " وحده لا شريك له "، وحده: توكيد للإثبات، لا شريك له: توكيد للنفي في كل ما يختص به من الربوبية والألوهية والأسماء والصفات.
ولهذا كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغيره من المؤمنين يلجئون إلى الله تعالى عند الشدائد؛ فقد «جاء أعرابي إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعنده أصحابه، وقد علق سيفه على شجرة فاخترطه الأعرابي، وقال: من يمنعك مني؟ قال: "يمنعني الله» ، ولم(9/55)
يقل أصحابي، وهذا هو تحقيق توحيد الربوبية؛ لأن الله هو الذي يملك النفع، والضر، والخلق، والتدبير، والتصرف في الملك؛ إذ لا شريك له فيما يختص به من الربوبية والألوهية والأسماء والصفات.
وقولنا فيما يختص به حتى نسلم من شبهات كثيرة، منها شبهات النافين للصفات؛ لأن النافين للصفات زعموا أن إثبات الصفات إشراك بالله عز وجل، حيث قالوا؛ يلزم من ذلك التمثيل، لكننا نقول: للخالق صفات تختص به، وللمخلوق صفات تختص به.
قوله: " وأن محمدا "، محمد: هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب القرشي، الهاشمي، خاتم النبيين.
وقوله: "عبده "؛ أي: ليس شريكا مع الله.
وقوله: " ورسوله "؛ أي: المبعوث بما أوحي إليه؛ فليس كاذبا على الله.
فالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبد مربوب، جميع خصائص البشرية تلحقه ما عدا شيئا واحدا، وهو ما يعود إلى أسافل الأخلاق؛ فهو منزه معصوم منه، قال تعالى {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعراف: 188] ، وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} [الجن: 21، 22] .
فهو بشر مثلنا؛ إلا أنه يوحى إليه، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [فصلت: 6] ،
ومن قال: إن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس له ظل، أو أن نوره يطفئ ظله إذا مشى في الشمس؛ فكله كذب باطل، ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: «كنت أمد رجلي بين يديه، وتعتذر بأن البيوت ليس فيها مصابيح» ، فلو كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له نور؛ لم(9/56)
تعتذر رضي الله عنها، ولكنه الغلو الذي أفسد الدين والدنيا، والعياذ بالله.
ومن الغلو قول البوصيري في "البردة" المشهورة:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم
إن لم تكن آخذا يوم المعاد يدي ... فضلا وإلا فقل يا زلة القدم
فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم
قال ابن رجب وغيره: إنه لم يترك لله شيئا ما دامت الدنيا والآخرة من جود الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ونشهد أن من يقول هذا؛ ما شهد أن محمدا عبد الله، بل شهد أن محمدا فوق الله! كيف يصل بهم الغلو إلى هذا الحد؟!
وهذا الغلو فوق غلو النصارى الذين قالوا: إن المسيح ابن الله، وقالوا: إن الله ثالث ثلاثة.
هم قالوا فوق ذلك، قالوا: إن الله يقول: «من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وأنا مع عبدي إذا ذكرني» ، والرسول معنا إذا ذكرناه، ولهذا كان أولئك الغلاة ليلة المولد إذا تلى التالي "المخرف" كلمة المصطفى قاموا جميعا قيام رجل واحد، يقولون: لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حضر مجلسنا بنفسه، فقمنا إجلالا له، والصحابة رضي الله عنهم أشد إجلالا منهم ومنا، ومع ذلك إذا دخل عليهم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو حي يكلمهم لا يقومون له، وهؤلاء يقومون إذا تخيلوا أو جاءهم شبح إن كانوا يشاهدون شيئا؛ فانظر كيف بلغت بهم عقولهم(9/57)
إلى هذا الحد! فهؤلاء ما شهدوا أن محمدا عبد الله ورسوله، وهؤلاء المخرفون مساكين، إن نظرنا إليهم بعين القدر؛ فنرق لهم، ونسأل الله لهم السلامة والعافية، وإن نظرنا إليهم بعين الشرع؛ فإننا يجب أن ننابذهم بالحجة حتى يعودوا إلى الصراط المستقيم، «والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أشد الناس عبودية لله، أخشاهم لله، وأتقاهم لله، قام يصلي حتى تورمت قدماه، وقيل له في ذلك؛ فقال: "أفلا أكون عبدا شكورا» وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، هذا تحقيق العبادة العظيمة.
أما الرسالة؛ فهو رسول أرسله الله عز وجل بأعظم شريعة إلى جميع الخلق، فبلغها غاية البلاغ، مع أنه أوذي وقوتل، حتى إنهم جاءوا بسلا الجزور وهو ساجد عند الكعبة ووضعوه على ظهره، كل ذلك كراهية له ولما جاء به، ومع ذلك صبر، يلقون الأذى والأنتان والأقذار على عتبة بابه، لكن هذا للنبي الكريم امتحان من الله عز وجل؛ لأجل أن يتبين صبره وفضله، يخرج ويقول: «أي جوار هذا يا بني عبد مناف؟» (1) ، فصبر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ حتى فتح الله عليه، وأنذر أم القرى ومن حولها، ثم إنه حمل هذه الشريعة من بعده أشد الناس أمانة وأقواهم على الاتباع؛ الصحابة رضي الله عنهم، وأدوها إلى الأمة نقية سليمة، ولله الحمد.
ونحب الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لله وفي الله؛ فحب الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من حب الله،
__________
(1) ذكره ابن هشام في (السيرة النبوية) (2/416) ، وابن كثير في (البداية والنهاية) (3/133) .(9/58)
ونقدمه على أنفسنا وأهلنا وأولادنا والناس أجمعين، وأحببناه من أجل أنه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ونحقق شهادة أن محمدا رسول الله، وذلك بأن نعتقد ذلك بقلوبنا، ونعترف به بألسنتنا، ونطبق ذلك في متابعته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بجوارحنا، فنعمل بهديه، ولا نعمل له.
أما ما ينقض تحقيق هذه الشهادة؛ فهو:
1 - فعل المعاصي؛ فالمعصية نقص في تحقيق هذه الشهادة؛ لأنك خرجت بمعصيتك من اتباع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
2 - الابتداع في الدين ما ليس منه؛ لأنك تقربت إلى الله بما لم يشرعه الله ولا رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والابتداع في الدين في الحقيقة من الاستهزاء بالله؛ لأنك تقربت إليه بشيء لم يشرعه.
فإن قال قائل: أنا نويت التقرب إلى الله بهذا العمل الذي ابتدعه.
قيل له: أنت أخطأت الطريق؛ فتعذر على نيتك، ولا تعذر على مخالفة الطريق متى علمت الحق.
فالمبتدعون قد يقال: إنهم يثابون على حسن نيتهم إذا كانوا لا يعلمون الحق، ولكننا نخطئهم فيما ذهبوا إليه، أما أئمتهم الذين علموا الحق، ولكن ردوه ليبقوا جاههم؛ ففيهم شبه بأبي جهل، وعتبة بن ربيعة، والوليد بن المغيرة، وغيرهم الذين قابلوا رسالة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالرد إبقاء على رئاستهم وجاههم.
أما بالنسبة لأتباع هؤلاء الأئمة فينقسمون إلى قسمين:
القسم الأول: الذين جهلوا الحق، فلم يعلموا عنه شيئا، ولم يحصل منهم تقصير في طلبه، حيث ظنوا أن ما هم عليه هو الحق؛ فهؤلاء معذورون.
القسم الثاني: من علموا الحق، ولكنهم ردوه تعصبا لأئمتهم؛ فهؤلاء لا(9/59)
يعذرون، وهم كمن قال الله فيهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 22] .
قوله: «"وأن عيسى عبد الله ورسوله» ، الكلام فيها كالكلام في شهادة أن محمدا رسول الله، إلا أننا نؤمن برسالة عيسى، ولا يلزمنا اتباعه إذا خالفت شريعته شريعتنا.
فشريعة من قبلنا لها ثلاث حالات:
الأولى: أن تكون مخالفة لشريعتنا؛ فالعمل على شرعنا.
الثانية: أن تكون موافقة لشريعتنا؛ فنحن متبعون لشريعتنا.
الثالثة: أن يكون مسكوتا عنها في شريعتنا، وفي هذه الحال اختلف علماء الأصول: هل نعمل بها، أو ندعها؟
والصحيح أنها شرع لنا، ودليل ذلك:
1 - قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90] .
2 - قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف: 111] .
وقد تطرف في عيسى طائفتان:
الأولى: اليهود كذبوه، فقالوا: بأنه ولد زنى، وأن أمه من البغايا، وأنه ليس بنبي، وقتلوه شرعا؛ أي: محكوم عليهم عند الله أنهم قتلوه في حكم الله الشرعي؛ لقوله تعالى عنهم: {إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} [النساء: 157] ، وأما بالنسبة لحكم الله القدري؛ فقد كذبوا، وما قتلوه يقينا، بل رفعه الله إليه، ولكن شبه لهم، فقتلوا المشبه لهم وصلبوه.
الثانية: النصارى قالوا: إنه ابن الله، وإنه ثالث ثلاثة، وجعلوه إلها مع الله، وكذبوا فيما قالوا.(9/60)
أما عقيدتنا نحن فيه: فنشهد أنه عبد الله ورسوله، وأن أمه صديقة؛ كما أخبر الله تعالى بذلك، وأنها أحصنت فرجها، وأنها عذراء، ولكن مثله عند الله كمثل آدم، خلقه من تراب ثم قال له: كن؛ فيكون.
وفي قوله: " عبد الله "، رد على النصارى.
وفي قوله: " ورسوله "، رد على اليهود.
قوله: «وكلمته ألقاها إلى مريم» ، أطلق الله كلمة؛ لأنه خلق بالكلمة عليه السلام؛ فالحديث ليس على ظاهره؛ إذ عيسى عليه السلام ليس كلمة؛ لأنه يأكل، ويشرب، ويبول، ويتغوط، وتجري عليه جميع الأحوال البشرية قال الله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59]
وعيسى عليه السلام ليس كلمة الله؛ إذ إن كلام الله وصف قائم به، لا بائن منه، أما عيسى؛ فهو ذات بائنة عن الله سبحانه، يذهب ويجيء، ويأكل الطعام ويشرب.
قوله: «ألقاها إلى مريم» ، أي: وجهها إليها بقوله: {كُنْ فَيَكُونُ} ؛ كما قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59]
ومريم ابنة عمران ليست أخت موسى وهارون عليهما السلام كما يظنه بعض الناس، ولكن كما قال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم؛ فهارون أخو مريم، ليس هارون أخا موسى، بل هو آخر يسمى باسمه،(9/61)
وكذلك عمران سمي باسم أبي موسى.
قوله: «وروح منه» ، أي: صار جسده عليه السلام بالكلمة، فنفخت فيه هذه الروح التي هي من الله؛ أي: خلق من مخلوقاته أضيفت إليه تعالى للتشريف والتكريم.
وعيسى عليه السلام ليس روحا، بل جسد ذو روح، قال الله تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} [المائدة: 75]
فبالنفخ صار جسدا، وبالروح صار جسدا وروحا.
قوله: «منه» هذه هي التي أضلت النصارى، فظنوا أنه جزء من الله فضلوا وأضلوا كثيرا، ولكننا نقول: إن الله قد أعمى بصائركم؛ فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور؛ فمن المعلوم أن عيسى عليه السلام كان يأكل الطعام، وهذا شيء معروف، ومن المعلوم أيضا أن اليهود يقولون: إنهم صلبوه، وهل يمكن لمن كان جزءا من الرب أن ينفصل عن الرب ويأكل ويشرب ويدعى أنه قتل وصلب؟
وعلى هذا تكون "من" للابتداء، وليست للتبعيض؛ فهي كقوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13] ؛ فلا يمكن أن نقول: إن الشمس والقمر والأنهار جزءا من الله، وهذا لم يقل به أحد.
فقوله: "منه"؛ أي: صادرة من الله - عز وجل -، وليست جزء من الله كما تزعم النصارى.
واعلم أن ما أضافه الله إلى نفسه ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: العين القائمة بنفسها، وإضافتها إليه من باب إضافة المخلوق إلى(9/62)
خالقه، وهذه الإضافة قد تكون على سبيل عموم الخلق؛ كقوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13] ، وقوله تعالى: {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} [العنكبوت: 56] .
وقد تكون على سبيل الخصوص لشرفه؛ كقوله تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [الحج: 26] ، وكقوله تعالى: {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} [الشمس: 13] ، وهذا القسم مخلوق.
الثاني: أن يكون شيئا مضافا إلى عين مخلوقة يقوم بها، مثاله قوله تعالى: {وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171] ؛ فإضافة هذه الروح إلى الله من باب إضافة المخلوق إلى خالقه تشريفا؛ فهي روح من الأرواح التي خلقها الله، وليست جزء أو روحا من الله؛ إذ أن هذه الروح حلت في عيسى عليه السلام، وهو عين منفصلة عن الله، وهذا القسم مخلوق أيضا.
الثالث: أن يكون وصفا غير مضاف إلى عين مخلوقة، مثال ذلك قوله تعالى: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} [الأعراف: 144] ، فالرسالة والكلام أضيفا إلى الله من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، فإذا أضاف الله لنفسه صفة؛ فهذه الصفة غير مخلوقة، وبهذا يتبين أن هذه الأقسام الثلاثة: قسمان منها مخلوقان، وقسم غير مخلوق.
فالأعيان القائمة بنفسها والمتصل بهذه الأعيان مخلوقة، والوصف الذي لم يذكر له عين يقوم بها غير مخلوق؛ لأنه يكون من صفات الله، وصفات الله غير مخلوقه.
وقد اجتمع القسمان في قوله: " كلمته، وروح منه"؛ فكلمته هذه وصف مضاف إلى الله، وعلى هذا؛ فتكون كلمته صفة من صفات الله.(9/63)
ولهما في حديث عتبان: «فإن الله حرم على النار من قال:»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وروح منه: هذه أضيفت إلى عين؛ لأن الروح حلت في عيسى؛ فهي مخلوقة
قوله: «أدخله الله الجنة» ، إدخال الجنة ينقسم إلى قسمين:
الأول: إدخال كامل لم يسبق بعذاب لمن أتم العمل.
الثاني: إدخال ناقص مسبوق بعذاب لمن نقص العمل.
فالمؤمن إذا غلبت سيئاته حسناته إن شاء الله عذبه بقدر عمله، وإن شاء لم يعذبه، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 116] .
قوله: " عتبان "، هو «عتبان بن مالك الأنصاري رضي الله عنه، كان يصلي بقومه، فضعف بصره، وشق عليه الذهاب إليهم، فطلب من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يخرج إليه وأن يصلي في مكان من بيته ليتخذه مصلى، فخرج إليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعه طائفة من أصحابه، منهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فلما دخل البيت؛ قال "أين تريد أن أصلي؟ ". قال: صل هاهنا. وأشار إلى ناحية من البيت، فصلى بهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ركعتين، ثم جلس على طعام صنعوه له، فجعلوا يتذاكرون، فذكروا رجلا يقال له: مالك بن الدخشم، فقال بعضهم: هو»(9/64)
«لا إله إلا الله؛ يبتغي بذلك وجه الله» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«منافق. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تقل هكذا؛ أليس قال: لا إله إلا الله يريد بذلك وجه الله؟! ". ثم قال: "فإن الله حرم على النار» ... " الحديث.
فنهاهم أن يقولوا هكذا؛ لأنهم لا يدرون عما في قلبه؛ لأنه يشهد أن لا إله إلا الله، وهنا الرسول قال هكذا، ولم يبرئ الرجل، إنما أتى بعبارة عامة بأن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله، ونهى أن نطلق ألسنتنا في عباد الله الذين ظاهرهم الصلاح، ونقول: هذا مراء، هذا فاسق، وما أشبه ذلك؛ لأننا لو أخذنا بما نظن فسدت الدنيا والآخرة؛ فكثير من الناس نظن بهم سوء، ولكن لا يجوز أن نقول ذلك وظاهرهم الصلاح، ولهذا قال العلماء: يحرم ظن السوء بمسلم ظاهره العدالة.
قوله: «فإن الله حرم على النار» ، أي: منع من النار، أو منع النار أن تصيبه.
قوله: «من قال: لا إله إلا الله» ، أي: بشرط الإخلاص، بدليل قوله: «يبتغي بذلك وجه الله» ؛ أي: يطلب وجه الله، ومن طلب وجها؛ فلا بد أن يعمل كل ما في وسعه للوصول إليه؛ لأن مبتغي الشيء يسعى في الوصول إليه، وعليه؛ فلا نحتاج إلى قول الزهري رحمه الله بعد أن ساق الحديث؛ كما في "صحيح مسلم "؛ حيث قال: "ثم وجبت بعد ذلك أمور، وحرمت أمور؛ فلا يغتر مغتر بهذا"؛ فالحديث واضح الدالة على شرطية العمل لمن قال: لا إله إلا الله، حيث قال: «يبتغي بذلك وجه الله» ، ولهذا قال بعض السلف عن(9/65)
قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مفتاح الجنة: لا إله إلا الله» (1) ، لكن من أتى بمفتاح لا أسنان له لا يفتح له.
قال شيخ الإسلام: إن المبتغي لا بد أن يكمل وسائل البغية، وإذا أكملها حرمت عليه النار تحريما مطلقا، وإن أتى بالحسنات على الوجه الأكمل؛ فإن النار تحرم عليه تحريما مطلقا، وإن أتى بشيء ناقص؛ فإن الابتغاء فيه نقص، فيكون تحريم النار عليه فيه نقص، لكن يمنعه ما معه من التوحيد من الخلود في النار، وكذا من زنى، أو شرب الخمر، أو سرق، فإذا فعل شيئا من ذلك ثم قال حين فعله؛ أشهد أن لا إله إلا الله أبتغي بذلك وجه الله؛ فهو كاذب في زعمه؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» ، فضلا عن أن يكون مبتغيا وجه الله.
وفي الحديث رد على المرجئة الذين يقولون: يكفي قول: لا إله إلا الله، دون ابتغاء وجه الله.
وفيه رد على الخوارج والمعتزلة؛ لأن ظاهر الحديث أن من فعل هذه المحرمات لا يخلد في النار، لكنه مستحق للعقوبة، وهم يقولون: إن فاعل الكبيرة مخلد في النار.
__________
(1) الإمام أحمد في (المسند) 5/242، والهيثمي في (المجمع) 1/16، والخطيب في (المشكاة) 1/91، قال الهيثمي: (رواه أحمد والبزار وفيه القطاع) ، وضعفه الألباني في (الضعيفة) 3/477(9/66)
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ قال: «قال موسى عليه السلام: يا رب! علمني شيئا أذكرك وأدعوك به. قال: قل يا موسى: لا إله إلا الله. قال: يا رب! كل عبادك يقولون هذا؟»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: «أذكرك وأدعوك به» ، صفة لشيء، وليست جواب الطلب؛ فموسى عليه السلام طلب شيئا يحصل به أمران:
1 - ذكر الله.
2 - دعاؤه.
فأجابه الله بقوله: «قل لا إله إلا الله» ، وهذه الجملة ذكر متضمن للدعاء؛ لأن الذاكر يريد رضا الله عنه، والوصول إلى دار كرامته، إذا؛ فهو ذكر متضمن للدعاء، قال الشاعر:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حباؤك إن شيمتك الحباء
يعني: عطاؤك.
واستشهد ابن عباس على أن الذكر بمعنى الدعاء بقول الشاعر:
إذا أثنى عليك العبد يوما ... كفاه من تعرضه الثناء
قوله: " كل عبادك يقولون هذا "، ليس المعنى أنها كلمة هينة كل يقولها؛ لأن موسى عليه الصلاة والسلام يعلم عظم هذه الكلمة، ولكنه أراد شيئا يختص به؛ لأن تخصيص الإنسان بالأمر يدل على منقبة له ورفعة؛ فبين الله لموسى أنه مهما أعطي فلن يعطى أفضل من هذه الكلمة، وأن لا إله إلا الله أعظم من السماوات والأرض وما فيهن؛ لأنها تميل بهن وترجح، فدل ذلك على فضل لا إله إلا الله وعظمها، لكن لا بد من الإتيان بشروطها، أما مجرد(9/67)
«قال: يا موسى! لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري، والأرضين السبع في كفة و (لا إله إلا الله) في كفة، مالت بهن لا إله إلا الله» (1) رواه ابن حبان والحاكم وصححه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أن يقولها القائل بلسانه؛ فكم من إنسان يقولها لكنها عنده كالريشة لا تساوي شيئا؛ لأنه لم يقلها على الوجه الذي تمت به الشروط وانتفت به الموانع.
قوله: "والأرضين السبع "، في بعض النسخ بالرفع، وهذا لا يصلح؛ لأنه إذا عطف على اسم أن قبل استكمال الخبر وجب النصب.
قوله: " مالت "، أي: رجحت حتى يملن.
قوله: " عامرهن "، أي: ساكنهن؛ فالعامر للشيء هو الذي عمر به الشيء.
قوله: " غيري "، استثنى نفسه تبارك وتعالى؛ لأن قول لا إله إلا الله ثناء عليه، والمثنى عليه أعظم من الثناء، وهنا يجب أن تعرف أن كون الله تعالى في السماء ليس ككون الملائكة في السماء؛ فكون الملائكة في السماء كون حاجي، فهم ساكنون في السماء لأنهم محتاجون إلى السماء، لكن الرب تبارك وتعالى ليس محتاجا إليها، بل إن السماء وغير السماء محتاج إلى الله تعالى؛ فلا يظن ظان أن السماء تقل الله أو تظله أو تحيط به، وعليه؛ فالسماوات باعتبار الملائكة أمكنة مقلة للملائكة، وما فوقهم منها مظل لهم، أما بالنسبة لله؛ فهي جهة لأن الله تعالى مستو على عرشه، لا يقله شيء من خلقه.
__________
(1) ابن حبان (2324) ، والحاكم (1/528) – وصححه ووافقه الذهبي ـ، وقال الحافظ في (الفتح) : أخرجه النسائي بسند صحيح.(9/68)
وللترمذي وحسنه عن أنس: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ يقول: «قال الله تعالى: يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا: لأتيتك بقرابها مغفرة» (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: «قال الله تعالى: يا ابن آدم» ... " إلخ.
هذا من الأحاديث القدسية، والحديث القدسي: ما رواه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ربه، وقد أدخله المحدثون في الأحاديث النبوية؛ لأنه منسوب إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تبليغا، وليس من القرآن بالإجماع، وإن كان كل واحد منهما قد بلغه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمته عن الله عز وجل.
وقد اختلف العلماء رحمهم الله في لفظ الحديث القدسي: هل هو كلام الله تعالى، أو أن الله تعالى أوحى إلى رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معناه واللفظ لفظ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
على قولين:
القول الأول: أن الحديث القدسي من عند الله لفظه ومعناه؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أضافه إلى الله تعالى، ومن المعلوم أن الأصل في القول المضاف أن يكون بلفظ قائله لا ناقله، لا سيما والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقوى الناس أمانة وأوثقهم رواية.
القول الثاني: أن الحديث القدسي معناه من عند الله ولفظه لفظ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذلك لوجهين:
__________
(1) مسند الإمام أحمد (5/147) ، والترمذي: كتاب الدعوات/باب غفران الذنوب، وقال: (حسن غريب) .(9/69)
الوجه الأول: لو كان الحديث القدسي من عند الله لفظا ومعنى لكان أعلى سندا من القرآن؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرويه عن ربه تعالى بدون واسطة؛ كما هو ظاهر السياق، أما القرآن؛ فنزل على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بواسطة جبريل؛ كما قال تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} [النحل: 102] وقال: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 193 - 195] .
الوجه الثاني: أنه لو كان لفظ الحديث القدسي من عند الله؛ لم يكن بينه وبين القرآن فرق؛ لأن كليهما على هذا التقدير كلام الله تعالى، والحكمة تقتضي تساويهما في الحكم حين اتفقا في الأصل، ومن المعلوم أن بين القرآن والحديث القدسي فروق كثيرة:
منها: أن الحديث القدسي لا يتعبد بتلاوته، بمعنى أن الإنسان لا يتعبد لله تعالى بمجرد قراءته؛ فلا يثاب على كل حرف منه عشر حسنات، والقرآن يتعبد بتلاوته بكل حرف منه عشر حسنات.
ومنها: أن الله تعالى تحدى أن يأتي الناس بمثل القرآن أو آية منه، ولم يرد مثل ذلك في الأحاديث القدسية.
ومنها: أن القرآن محفوظ من عند الله تعالى؛ كما قال سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] ، والأحاديث القدسية بخلاف ذلك؛ ففيها الصحيح والحسن، بل أضيف إليها ما كان ضعيفا أو موضوعا، وهذا وإن لم يكن منها لكن نسب إليها وفيها التقديم والتأخير والزيادة والنقص.
ومنها: أن القرآن لا تجوز قراءته بالمعنى بإجماع المسلمين، وأما الأحاديث القدسية؛ فعلى الخلاف في جواز نقل الحديث النبوي بالمعنى والأكثرون على جوازه.
ومنها: أن القرآن تشرع قراءته في الصلاة ومنه ما لا تصح الصلاة بدون(9/70)
قراءته، بخلاف الأحاديث القدسية.
ومنها: أن القرآن لا يمسه إلا الطاهر على الأصح، بخلاف الأحاديث القدسية.
ومنها: أن القرآن لا يقرؤه الجنب حتى يغتسل على القول الراجح، بخلاف الأحاديث القدسية.
ومنها: أن القرآن ثبت بالتواتر القطعي المفيد للعلم اليقيني، فلو أنكر منه حرفا أجمع القراء عليه؛ لكان كافرا، بخلاف الأحاديث القدسية؛ فإنه لو أنكر شيئا منها مدعيا أنه لم يثبت؛ لم يكفر، أما لو أنكره مع علمه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاله؛ لكان كافرا لتكذيبه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وأجاب هؤلاء عن كون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أضافه إلى الله، والأصل في القول المضاف أن يكون لفظ قائله بالتسليم أن هذا هو الأصل، لكن قد يضاف إلى قائله معنى لا لفظا؛ كما في القرآن الكريم؛ فإن الله تعالى يضيف أقوالا إلى قائليها، ونحن نعلم أنها أضيفت معنى لا لفظا، كما في "قصص الأنبياء" وغيرهم، وكلام الهدهد والنملة؛ فإنه بغير هذا اللفظ قطعا.
وبهذا يتبين رجحان هذا القول، وليس الخلاف في هذا كالخلاف بين الأشاعرة وأهل السنة في كلام الله تعالى؛ لأن الخلاف بين هؤلاء في أصل كلام الله تعالى؛ فأهل السنة يقولون: كلام الله تعالى كلام حقيقي مسموع يتكلم سبحانه بصوت وحرف، والأشاعرة لا يثبتون ذلك، وإنما يقولون: كلام الله تعالى هو المعنى القائم بنفسه، وليس بحرف وصوت، ولكن الله تعالى يخلق صوتا يعبر به عن المعنى القائم بنفسه، ولا شك في بطلان قولهم، وهو في الحقيقة قول المعتزلة؛ لأن المعتزلة يقولون: القرآن مخلوق، وهو كلام الله، وهولاء يقولون: القرآن مخلوق، وهو عبارة عن كلام الله، فقد اتفق الجميع(9/71)
على أن ما بين دفتي المصحف مخلوق.
ثم لو قيل في مسألتنا الكلام في الحديث القدسي: إن الأولى ترك الخوض في هذا؛ خوفا من أن يكون من التنطع الهالك فاعله، والاقتصار على القول بأن الحديث القدسي ما رواه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ربه وكفى؛ لكان ذلك كافيا، ولعله أسلم والله أعلم
(فائدة) :
إذا انتهى سند الحديث إلى الله تعالى سمي (قدسيا) ؛ لقدسيته وفضله، وإذا انتهى إلى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سمي مرفوعا، وإذا انتهى إلى الصحابي سمي موقوفا وإذا انتهى إلى التابعي فمن بعده سمي مقطوعا.
قوله: «بقراب الأرض» ، أي: ما يقاربها؛ إما ملئا، أو ثقلا، أو حجما.
قوله: (خطايا) ، جمع خطيئة، وهي الذنب، والخطايا الذنوب؛ ولو كانت صغيرة؛ لقوله تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} [البقرة: 81] .
قوله: «لا تشرك بي شيئا» ، جملة "لا تشرك" في موضع نصب على الحال في التاء؛ أي: لقيتني في حال لا تشرك بي شيئا
قوله: (شيئا) نكرة في سياق النفي تفيد العموم؛ أي: لا شركا أصغر ولا أكبر.
وهذا قيد عظيم قد يتهاون به الإنسان، ويقول: أنا غير مشرك وهو لا يدري؛ فحب المال مثلا بحيث يلهي عن طاعة الله من الإشراك، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة» ... " الحديث. فسمى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من كان هذا همه سماه: عبدا له.(9/72)
فيه مسائل:
الأولى: سعة فضل الله. الثانية: كثرة ثواب التوحيد عند الله. الثالثة: تكفيره مع ذلك الذنوب. الرابعة: تفسير الآية التي في سورة الأنعام.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: «لأتيتك بقرابها مغفرة» ، أي: أن حسنة التوحيد عظيمة تكفر الخطايا الكبيرة إذا لقي الله وهو لا يشرك به شيئا، والمغفرة ستر الذنب والتجاوز عنه
مناسبة الحديث للترجمة:
أن في هذا الحديث فضل التوحيد، وأنه سبب لتكفير الذنوب؛ فهو مطابق لقوله في الترجمة: "وما يكفرمن الذنوب"
قوله: " فيه مسائل ":
الأولى: " سعة فضل الله "، لقوله: «أدخله الله الجنة على ما كان من العمل» .
الثانية: كثرة ثواب التوحيد عند الله، لقوله: «مالت بهن لا إله إلا الله» .
الثالثة: تكفيره مع ذلك للذنوب، لقوله: «لأتيتك بقرابها مغفرة» ؛ فالإنسان قد تغلبه نفسه أحيانا؛ فيقع في الخطايا، لكنه مخلص لله في عبادته وطاعته؛ فحسنة التوحيد تكفر عنه الخطايا إذا لقي الله بها.
الرابعة: تفسير الآية التي في سورة الأنعام، وهي قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} ؛ فالظلم هنا الشرك؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ألم تسمعوا قول الرجل الصالح: إن الشرك لظلم عظيم» .(9/73)
الخامسة: تأمل الخمس اللواتي في حديث عبادة. السادسة: أنك إذا جمعت بينه وبين حديث عتبان وما بعده؛ تبين لك معنى قول: "لا إله إلا الله"، وتبين لك خطأ المغرورين. السابعة: التنبيه للشرط الذي في عتبان. الثامنة: كون الأنبياء يحتاجون للتنبيه على فضل (لا إله إلا الله) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الخامسة: تأمل الخمس اللواتي في حديث عبادة:
1- 2- الشهادتان.
3- أن عيسى عبد الله، ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه.
4- أن الجنة حق.
5- أن النار حق.
السادسة: أنك إذا جمعت بينه وبين حديث عتبان، وحديث أبي سعيد، وحديث أنس؛ تبين لك معنى قوله: لا إله إلا الله، وتبين لك خطأ المغرورين، لأنه لا بد أن يبتغي بها وجه الله، وإذا كان كذلك؛ فلا بد أن تحمل المرء على العمل الصالح.
السابعة: التنبيه للشرط الذي في حديث عتبان، وهو أن يبتغي بقولها وجه الله، ولا يكفي مجرد القول؛ لأن المنافقين كانوا يقولونها ولم تنفعهم.
الثامنة: كون الأنبياء يحتاجون للتنبيه على فضل لا إله إلا الله، فغيرهم من باب أولى.(9/74)
التاسعة: التنبيه لرجحانها بجميع المخلوقات، من أن كثيرا ممن يقولها يخف ميزانه. العاشرة: النص على أن الأرضين سبع كالسماوات.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
التاسعة: التنبيه لرجحانها بجميع المخلوقات، مع أن كثيرا ممن يقولها يخف ميزانه، فالبلاء من القائل لا من القول؛ لأنه قد يكون اختل شرط من الشروط؛ أو وجد مانع من الموانع؛ فإنها تخف بحسب ما عنده، أما القول نفسه؛ فيرجح بجميع المخلوقات.
العاشرة: النص على أن الأرضين سبع كالسماوات، لم يرد في القرآن تصريح بذلك، بل ورد صريحا أن السماوات سبع بقوله تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ} [المؤمنون: 86] ، لكن بالنسبة للأرضين لم يرد إلا قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12] ؛ فالمثلية بالكيفية غير مرادة لظهور الفرق بين السماء والأرض في الهيئة، والكيفية، والارتفاع، والحسن؛ فبقيت المثلية في العدد.
أما السنة؛ فهي صريحة جدا بأنها سبع؛ مثل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من اقتطع شبرا من الأرض؛ طوقه يوم القيامة من سبع أرضين» . (1)
وقد اختلف في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من سبع أرضين» ؛ كيف تكون سبعا؟
فقيل: المراد: القارات السبع، وهذا ليس بصحيح؛ لأن هذا يمتنع بالنسبة
__________
(1) البخاري: بلفظ (من ظلم قيد شبر. . .) : كتاب المظالم/ باب إثم من ظلم شيئاً من الأرض، ومسلم: كتاب المساقاة/ باب تحريم الظلم وغصب الأرض(9/75)
الحادية عشرة: أن لهن عمارا. الثانية عشرة: إثبات الصفات خلافا للأشعرية. الثالثة عشرة: أنك إذا عرفت حديث أنس؛ عرفت أن قوله في حديث عتبان: «فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله؛ يبتغي بذلك وجه الله» ؛ أن ترك الشرك، ليس قولها باللسان. الرابعة عشرة: تأمل الجمع بين كون عيسى ومحمد عبدي الله ورسوليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لقوله: «طوقه من سبع أرضين» ، وقيل: المراد المجموعة الشمسية، لكن ظاهر النصوص أنها طباق كالسماوات، وليس لنا أن نقول إلا ما جاء في الكتاب والسنة عن هذه الأرضين؛ لأننا لا نعرفها.
الحادية عشرة: أن لهن عمارا، أي: السماوات، وعمارهن الملائكة.
الثانية عشرة: إثبات الصفات خلافا للأشعرية، وفي بعض النسخ خلافا للمعطلة، وهذه أحسن؛ لأنها أعم، حيث تشمل الأشعرية والمعتزلة والجهمية وغيرهم؛ ففيه إثبات الوجه لله سبحانه بقوله: «يبتغي وجه الله» ، وإثبات الكلام بقوله: «وكلمته ألقاها» ، وإثبات القول في قوله: «قل لا إله إلا الله» .
الثالثة عشرة: أنك إذا عرفت حديث أنس؛ عرفت أن قوله في حديث عتبان: «فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله» أن ترك الشرك. وفي بعض النسخ: إذا ترك الشرك. أي. أن قوله: «حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك» (يعني: ترك الشرك) " وليس مجرد قولها باللسان؛ لأن من ابتغى وجه الله في هذا القول لا يمكن أن يشرك أبدا.
الرابعة عشرة: تأمل الجمع بين كون كل من عيسى ومحمد عبدي الله(9/76)
الخامسة عشرة: معرفة اختصاص عيسى بكونه كلمة الله. السادسة عشرة: معرفة كونه روحا منه. السابعة عشرة: معرفة فضل الإيمان بالجنة والنار. الثامنة عشرة: معرفة قوله «على ما كان من العمل» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ورسوليه. عبدي: منصوب على أنه خبر كون؛ لأن كون مصدر كان وتعمل عملها.
وعيسى ومحمد: اسم كون.
وتأمل الجمع من وجهين:
الأول: أنه جمع لكل منهما بين العبودية والرسالة.
الثاني: أنه جمع بين الرجلين؛ فتبين أن عيسى مثل محمد، وأنه عبد ورسول، وليس ربا ولا ابنا للرب سبحانه.
وقول المؤلف: "تأمل"؛ لأن هذا يحتاج إلى تأمل.
الخامسة عشرة: معرفة اختصاص عيسى بكونه كلمة الله، أي: أن عيسى انفرد عن محمد في أصل الخلقة؛ فقد كان بكلمة، أما محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فقد خلق من ماء أبيه.
السادسة عشرة: معرفة كونه روحا منه، أي: أن عيسى روح من الله، و"من" هنا بيانية أو للابتداء، وليست للتبعيض؛ أي: روح جاءت من قبل الله وليست بعضا من الله، بل هي من جملة الأرواح المخلوقة.
السابعة عشرة: معرفة فضل الإيمان بالجنة والنار، لقوله في حديث عبادة: «وأن الجنة حق، والنار حق» ، والفضل أنه من أسباب دخول الجنة.
الثامنة عشرة: معرفة قوله: «على ما كان من العمل» ، أي: على ما كان(9/77)
التاسعة عشرة: معرفة أن الميزان له كفتان. العشرون: معرفة ذكر الوجه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
من العمل الصالح ولو قل، أو على ما كان من العمل السيئ ولو كثر، بشرط أن لا يأتى بما ينافي التوحيد ويوجب الخلود في النار، لكن لا بد من العمل.
ولا يلزم استكمال العمل الصالح كما قالت المعتزلة والخوارج، ولم تذكر أركان الإسلام هنا؛ لأن منها ما يكفر الإنسان بتركه، ومنها ما لا يكفر؛ فإن الصحيح أنه لا يكفر إلا بترك الشهادتين والصلاة، وإن كان روي عن الإمام أحمد أن جميع أركان الإسلام يكفر بتركها؛ لكن الصحيح خلاف ذلك.
التاسعة عشرة: معرفة أن الميزان له كفتان، أخذها المؤلف من قوله: «لو أن السماوات ... إلخ، وضعت في كفة ولا إله إلا الله في كفة» ، والظاهر أن الذي في الحديث تمثيل، يعني أن قول: لا إله إلا الله أرجح من كل شيء، وليس في الحديث أن هذا الوزن في الآخرة، وكأن المؤلف رحمه الله حصل عنده انتقال ذهني؛ فانتقل ذهنه من هذا إلى ميزان الآخرة.
العشرون: معرفة ذكر الوجه، يعني: وجه الله تعالى وهو صفة من صفاته الخبرية التي مسماها بالنسبة لنا أبعاض وأجزاء؛ لأن من صفات الله تعالى ما هو معنى محض، ومنه ما مسماه بالنسبة لنا أبعاض وأجزاء، ولا نقول بالنسبة لله تعالى أبعاض؛ لأننا نتحاشى كلمة التبعيض في جانب الله تعالى الله.(9/78)
باب من حقق التوحيد؛ دخل الجنة بغير حساب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الباب كالمتمم للباب الذي قبله؛ لأن الذي قبله: "باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب"، فمن فضله هذا الفضل العظيم الذي يسعى إليه كل عاقل، وهو دخول الجنة بغير حساب.
قوله: "من"، شرطية، وفعل الشرط: "حقق"، وجوابه: "دخل"، قوله: "بلا حساب"؛ أي: لا يحاسب لا على المعاصي ولا على غيرها.
وتحقيق التوحيد: تخليصه من الشرك، ولا يكون إلا بأمور ثلاثة:
الأول: العلم؛ فلا يمكن أن تحقق شيئا قبل أن تعلمه، قال الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19] .
الثاني: الاعتقاد، فإذا علمت ولم تعتقد واستكبرت؛ لم تحقق التوحيد، قال الله تعالى عن الكافرين: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [صّ: 5] ؛ فما اعتقدوا انفراد الله بالألوهية.
الثالث: الانقياد، فإذا علمت واعتقدت ولم تنقد؛ لم تحقق التوحيد، قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات: 35، 36] .
فإذا حصل هذا وحقق التوحيد؛ فإن الجنة مضمونة له بغير حساب، ولا يحتاج أن نقول إن شاء الله؛ لأن هذا حكاية حكم ثابت شرعا، ولهذا جزم المؤلف رحمه الله تعالى بذلك في الترجمة دون أن يقول: إن شاء الله.
أما بالنسبة للرجل المعين؛ فإننا نقول: إن شاء الله(9/79)
وقول الله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 120] .
ـــــــــــــــــــــــــــــ.
وقد ذكر المؤلف في هذا الباب آيتين، ومناسبتهما للباب الإشارة إلى تحقيق التوحيد، وأنه لا يكون إلا بانتفاء الشرك كله:
الآية الأولى: قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} ... الآية.
قوله: أمة، أي: إماما، وقد سبق أن أمة تأتي في القرآن على أربعة أوجه: إمام، ودهر، وجماعة، ودين.
قوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} ، هذا ثناء من الله سبحانه وتعالى على إبراهيم بأنه إمام متبوع؛ لأنه أحد الرسل الكرام من أولي العزم، ثم إنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قدوة في أعماله وأفعاله وجهاده؛ فإنه جاهد قومه وحصل منهم عليه ما حصل، وألقي في النار فصبر.
ثم ابتلاه الله سبحانه وتعالى - بالأمر بذبح ابنه، وهو وحيده، وقد بلغ السعي معه (أي شب وترعرع) ؛ فليس كبيرا قد طابت النفس منه، ولا صغيرا لم تتعلق به النفس كثيرا، فصار على منتهى تعلق النفس به.
ثم وفق إلى ابن بار مطيع لله، قال الله تعالى عنه: {قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102] ، لم يحنث والده ويتمرد ويهرب، بل أراد من والده أن يوافق أمر ربه وهذا من بره بأبيه وطاعته لمولاه سبحانه وتعالى، وانظر إلى هذه القوة العظيمة مع الاعتماد على الله في(9/80)
قوله: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} .
فالسين في قوله: ستجدني تدل على التحقيق، وهو مع ذلك لم يعتمد على نفسه، بل استعان بالله في قوله: {إِنْ شَاءَ اللَّهُ} .
وامتثلا جميعا وأسلما، وانقادا لله عز وجل، وتله للجبين؛ أي: على الجبين، أي جبهته؛ لأجل أن يذبحه وهو لا يرى وجهه، فجاء الفرج من الله تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات: 104، 105] ، ولا يصح ما ذكره بعضهم من أن السكين انقلبت، أو أن رقبته صارت حديدا، ونحو ذلك.
قوله: قانتا، القنوت: دوام الطاعة، والاستمرار فيها على كل حال؛ فهو مطيع لله، ثابت على طاعته، مديم لها في كل حال.
كما أن ابنه محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يذكر الله على كل أحيانه: إن قام ذكر الله، وإن جلس ذكره، وإن نام، وإن أكل، وإن قضى حاجته ذكر الله؛ فهو قانت آناء الليل والنهار.
قوله: حنيفا، أي: مائلا عن الشرك، مجانبا لكل ما يخالف الطاعة؛ فوصف بالإثبات والنفي؛ أي: بالوصفين الإيجابي والسلبي.
قوله: {وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ، تأكيد، أي لم يكن مشركا طول حياته؛ فقد كان عليه الصلاة والسلام معصوما عن الشرك، مع أن قومه كانوا مشركين، فوصفه الله بامتناعه عن الشرك استمرارا في قوله: حنيفا، وابتداء في قوله: {وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ، والدليل على ذلك: أن الله جعله إماما، ولا يجعل(9/81)
الله للناس إماما من لم يحقق التوحيد أبدا.
ومن تأمل حال إبراهيم عليه السلام وما جرى عليه وجد أنه في غاية ما يكون من مراتب الصبر، وفي غاية ما يكون من مراتب اليقين؛ لأنه لا يصبر على هذه الأمور العظيمة إلا من أيقن بالثواب، فمن عنده شك أو تردد لا يصبر على هذا؛ لأن النفس لا تدع شيئا إلا لما هو أحب إليها منه، ولا تحب شيئا إلا ما ظنت فائدته، أو تيقنت.
ويجب أن نعلم أن ثناء الله على أحد من خلقه لا يقصد منه أن يصل إلينا الثناء فقط، لكن يقصد منه أمران هامان:
الأول: محبة هذا الذي أثنى الله عليه خيرا، كما أن من أثنى الله عليه شرا؛ فإننا نبغضه ونكرهه، فنحب إبراهيم عليه السلام؛ لأنه كان إماما حنيفا قانتا لله ولم يكن من المشركين، ونكره قومه؛ لأنهم كانوا ضالين، ونحب الملائكة وإن كانوا من غير جنسنا؛ لأنهم قائمون بأمر الله، ونكره الشياطين؛ لأنهم عاصون لله وأعداء لنا ولله، ونكره أتباع الشياطين؛ لأنهم عاصون لله أيضا وأعداء لله ولنا.
الثاني: أن نقتدي به في هذه الصفات التي أثنى الله بها عليه؛ لأنها محل الثناء، ولنا من الثناء بقدر ما اقتدينا به فيها، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف: 111] ، وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الممتحنة: 4] ، وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [الممتحنة: 6] .
وهذه مسألة مهمة؛ لأن الإنسان أحيانا يغيب عن باله الغرض الأول، وهو محبة هذا الذي أثنى الله عليه خيرا، ولكن لا ينبغي أن يغيب؛ لأن الحب في الله، والبغض في الله من أوثق عرى الإيمان.(9/82)
فائدة:
أبو إبراهيم مات على الكفر، والصواب الذي نعتقده أن اسمه آزر؛ كما قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً} [الأنعام: 74] ، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} [التوبة: 114] لأنه قال: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: 47] ، {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: 114] وفي سورة إبراهيم قال: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [ابراهيم: 41] ، ولكن فيما بعد تبرأ منه.
أما نوح؛ فقال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح: 28] ، وهذا يدل على أن أبوي نوح كانا مؤمنين.
فائدة أخرى:
قال الإمام أحمد: ثلاثة ليس لها أصل: المغازي، والملاحم، والتفسير؛ فهذه الغالب فيها أنها تذكر بدون إسناد، ولهذا؛ فإن المفسرين يذكرون قصة آدم، {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا} [الأعراف: 190] ، وقليل منهم من ينكر القصة المكذوبة في ذلك. (1)
فالقاعدة إذا: أنه لا أحد يعلم عن الأمم السابقة شيئا إلا من طريق الوحي، قال تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ} [إبراهيم: 9] .
__________
(1) انظر: (ص 889) باب قول الله تعالى: (فلما آتاهما صالحاً جعلا له شركاه فيما آتاهما. . .) .(9/83)
وقال: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون: 59] .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الآية الثانية: قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ} .
هذه الآية سبقها آية، وهي قوله: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} [المؤمنون: 57] .
لكن المؤلف ذكر الشاهد. وقوله تعالى: {مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ} ؛ أي: من خوفهم منه على علم، ومشفقون؛ أي: خائفون من عذابه إن خالفوه.
فالمعاصي بالمعنى الأعم - كما سبق (1) - شرك؛ لأنها صادرة عن هوى مخالف للشرع، وقد قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23] .
أما بالنسبة للمعنى الأخص؛ فيقسمها العلماء قسمين:
1 - شرك.
2 - فسوق.
وقوله: {لَا يُشْرِكُونَ} ، يراد به الشرك بالمعنى الأعم؛ إذ تحقيق التوحيد لا يكون إلا باجتناب الشرك بالمعنى الأعم، ولكن ليس معنى هذا ألا تقع منهم المعاصي؛ لأن كل ابن آدم خطاء، وليس بمعصوم، ولكن إذا عصوا؛ فإنهم يتوبون ولا يستمرون عليها؛ كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135] .
__________
(1) انظر (ص 54) .(9/84)
وعن حصين بن عبد الرحمن؛ قال: كنت عند سعيد بن جبير، فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ فقلت: أنا. ثم قلت: أما إني لم أكن في صلاة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: " عن حصين بن عبد الرحمن؛ قال: كنت عند سعيد بن جبير "
وهما رجلان من التابعين ثقتان.
قوله: " انقض البارحة "، أي: سقط البارحة، والبارحة: أقرب ليلة مضت، وقال بعض أهل اللغة: تقول فعلنا الليلة كذا إن قلته قبل الزوال، وفعلنا البارحة كذا إن قلته بعد الزوال.
وفي عرفنا؛ فمن طلوع الشمس إلى الغروب نقول: البارحة لليلة الماضية، ومن غروب الشمس إلى طلوعها نقول: الليلة لليلة التي نحن فيها.
بل بعض العامة يتوسع متى قام من الليل قال: البارحة؛ وإن كان في ليلته.
قوله: " فقلت أنا "، أي: حصين.
قوله: " أما إني لم أكن في صلاة "، أما: أداة استفتاح، وقيل: إنها بمعنى حقا، وعلى هذا؛ فتفتح همزة "إن"، فيقال: أما أني لم أكن في صلاة، أي حقا أني لم أكن في صلاة.
وقال هذا رحمه الله لئلا يظن أنه قائم يصلي فيحمد بما لم يفعل، وهذا خلاف ما عليه بعضهم، يفرح أن الناس يتوهمون أنه يقوم يصلي، وهذا من نقص التوحيد.
وقول حصين رحمه الله ليس من باب المراءاة، بل هو من باب الحسنات،(9/85)
ولكني لدغت. قال: فما صنعت؟ قلت: ارتقيت. قال: فما حملك على ذلك؟ قلت: حديث حدثناه الشعبي. قال: وما حدثكم؟ قلت: حدثنا عن بريدة بن الحصيب؛ أنه قال: لا رقية إلا من عين أو حمة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وليس كمن يترك الطاعات خوفا من الرياء؛ لأن الشيطان قد يلعب على الإنسان، ويزين له ترك الطاعة خشية الرياء، بل افعل الطاعة، ولكن لا يكن في قلبك أنك ترائي الناس.
قوله: " لدغت "، أي: لدغته عقرب أو غيرها، والظاهر أنها شديدة؛ لأنه لم ينم منها.
قوله: " ارتقيت "، أي: استرقيت؛ لأن افتعل مثل استفعل، وفي رواية مسلم: " استرقيت "؛ أي: طلبت الرقية.
قوله: " فما حملك على ذلك "، أي: قال سعيد: ما السبب أنك استرقيت.
قوله: " حديث حدثناه الشعبي "، وهذا يدل على أن السلف رضي الله عنهم يتحاورون حتى يصلوا إلى الحقيقة، فسعيد بن جبير لم يقصد الانتقاد على هذا الرجل، بل قصد أن يستفهم منه ويعرف مستنده.
قوله: " لا رقية "، أي: لا قراءة أو لا استرقاء على مريض أو مصاب.
قوله: " إلا من عين "، وهي نظرة من حاسد، نفسه خبيثة، تتكيف بكيفية خاصة فينبعث منها ما يؤثر على المصاب، ويسميها العامة الآن: "النحاتة"، وبعضهم يسميها "النفس"، وبعضهم يسميها "الحسد"
قوله: " حمة "، بضم الحاء، وفتح الميم، مع تخفيفها: وهي كل ذات(9/86)
قال: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
سم، والمعنى لدغته إحدى ذوات السموم، والعقرب من ذوات السموم.
فقال سعيد بن جبير: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن حدثنا ابن عباس ... إلخ.
إذن؛ فحصين استند على حديث: «لا رقية إلا من عين أو حمة» ، وهذا يدل على أن الرقية من العين أو الحمة مفيدة، وهذا أمر واقع؛ فإن الرقى تنفع بإذن الله من العين ومن الحمة أيضا، وكثير من الناس يقرءون على الملدوغ فيبرأ حالا، ويدل لهذا «قصة الرجل الذي بعثه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سرية، فاستضافوا قوما، فلم يضيفوهم، فلدغ سيدهم لدغة عقرب، فقالوا: من يرقي؟ فقالوا: لعل هؤلاء الركب عندهم راق، فجاءوا إلى السرية، قالوا: هل فيكم من راق؟ قالوا نعم، ولكن لا نرقي إلا بشيء من الغنم، فقالوا نعطيكم. فاقتطعوا لهم من الغنم، ثم ذهب أحدهم يقرأ عليه الفاتحة، قرأها ثلاثا أو سبعا، فقام كأنما نشط من عقال، فانتفع اللديغ بقراءتها، ولهذا قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "وما يدريك أنها رقية؟» (يعني: الفاتحة) ، وكذا القراءة من العين مفيدة.
ويستعمل للعين طريقة أخرى غير الرقية، وهو الاستغسال، وهي أن يؤتى بالعائن، ويطلب منه أن يتوضأ، ثم يؤخذ ما تناثر من الماء من أعضائه، ويصب على المصاب، ويشرب منه، ويبرأ بإذن الله.(9/87)
ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ أنه قال: «عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وهناك طريقة أخرى، ولا مانع منها أيضا، وهي أن يؤخذ شيء من شعاره، أي: ما يلي جسمه من الثياب؛ كالثوب، والطاقية، والسروال، وغيرها، أو التراب إذا مشى عليه وهو رطب، ويصب على ذلك ماء يرش به المصاب أو يشربه، وهو مجرب.
وأما العائن؛ فينبغي إذا رأى ما يعجبه أن يبرك عليه؛ «لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعامر بن ربيعة لما عان سهل بن حنيف: " هلا بركت عليه» (1) ؛ أي: قلت: بارك الله عليك.
قوله: " ولكن حدثنا "، القائل: سعيد بن جبير.
قوله: " عرضت علي الأمم "، العارض لها الله سبحانه وتعالى، وهذا في المنام فيما يظهر. وانظر: "فتح الباري" (11\407) باب يدخل الجنة سبعون ألفا، كتاب الرقاق) ، والأمم: جمع أمة وهي أمم الرسل.
قوله: " الرهط "، من الثلاثة إلى التسعة.
قوله: " والنبي ومعه الرجل والرجلان "، الظاهر أن الواو بمعنى أو؛ أي:
__________
(1) مسند الإمام أحمد (3/486) ، وموطأ الإمام مالك (211/938) ، وشرح السنة (1211/164)(9/88)
«إذ رفع لي سواد عظيم، فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه، فنظرت؛ فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك، ومعهم سبعون ألفًا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب) . ثم نهض. فدخل منزله، فخاض الناس في أولئك. فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ومعه الرجل أو الرجلان؛ لأنه لو كان معه الرجل والرجلان صار يغني أن يقول: ومعه ثلاثة، لكن المعنى: والنبي ومعه الرجل، والنبي الثاني ومعه الرجلان.
قوله: (والنبي وليس معه أحد) ، أي: يبعث ولا يكون معه أحد، لكن يبعثه الله لإقامة الحجة، فإذا قامت الحجة حينئذ؛ يعذر الله من الخلق، ويقيم عليهم الحجة.
قوله: (إذ رفع لي) هذا على تقدير محذوف؛ بينما أنا كذلك, إذ رفع لي.
قوله: (سواد عظيم) ، المراد بالسواد هنا الظاهر أنه الأشخاص، ولهذا يقال: ما رأيت سواده؛ أي: شخصه، أي أشخاصًا عظيمة كانوا من كثرتهم سوادًا.
قوله: (فظننت أنهم أمتي) لأن الأنبياء عرضوا عليه بأممهم؛ فظن هذا السواد أمته عليه الصلاة والسلام.
قوله: (فقيل لي: هذا موسى وقومه) ، وهذا يدل على كثرة أتباع موسى عليه السلام وقومه الذين أرسل إليهم.(9/89)
قوله: (فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك) ، وهذا أعظم من السواد الأول؛ لأن أمة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكثر بكثير من أمة موسى عليه السلام.
قوله: (بغير حساب ولا عذاب) أي: لا يعذبون ولا يحاسبون كرامة لهم، وظاهره أنه لا في قبورهم ولا بعد قيام الساعة.
قوله: (فخاض الناس في أولئك) هذا الخوص للوصول إلى الحقيقة نظريًّا وعمليًّا حتى يكونوا منهم.
قوله: (الذين صحبوا رسول الله) يحتمل أن المراد الصحبة المطلقة، ويؤيده ظاهر اللفظ.
ويحتمل أن المراد الذين صحبوه في هجرته، ويؤيده أنه لو كان المراد الصحبة المطلقة؛ لقالوا: نحن؛ لأن المتكلم هم الصحابة، ويدل على هذا قول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لخالد بن الوليد: «لا تسبوا أصحابي» ?؛ فإن المراد بهم الذين صحبوه في هجرته، لكن يمنع منه أن المهاجرين لا يبلغون سبعين ألفًا.
ويمنع الاحتمال الأول: أن الصحابة أكثر من سبعين ألفًا، ويحتمل أن المراد من كان مع الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى فتح مكة؛ لأنه بعد فتح مكة دخل الناس في دين الله أفواجًا.
وهذه المسألة تحتاج إلى مراجعة أكثر.(9/90)
«وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئًا ... وذكروا أشياء، فخرج عليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأخبروه، فقال: (هم الذين لا يسترقون) .»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (الذين ولدوا في الإسلام) ، أي: من ولد بعد البعثة وأسلم، وهؤلاء كثيرون، ولو قلنا: ولدوا في الإسلام من الصحابة ما بلغوا سبعين ألفًا.
قوله: (فخرج عليهم رسول الله، فأخبروه) ، أي: أخبروه بما قالوا وما جري بينهم.
قوله: (لا يسترقون) ، في بعض روايات مسلم: (لا يرقون) .
ولكن هذه الرواية خطأ؛ كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية؛ لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يرقي (1) ورقاه جبريل (2) وعائشة (3) وكذلك الصحابة كانوا يرقون (4) واستفعل بمعنى طلب الفعل، مثل: استغفر؛ أي: طلب المغفرة، واستجار: طلب الجوار، وهنا استرقى؛ أي: طلب الرقية، أي لا يطلبون من أحد أن يقرأ عليهم؛ لما يلي:
__________
(1) البخاري: كتاب الطب/ باب رقية النبي صلى الله عليه وسلم، ومسلم: كتاب السلام/ باب استحباب الرقية من العين.
(2) مسلم: كتاب السلام/ باب الطب والمرض والرقى
(3) البخاري: كتاب فضائل القرآن/ باب فضل المعوذات، ومسلم: كتاب السلام/باب رقية المريض.
(4) كما في قصة صاحب السرية.(9/91)
«ولا يكتوون ولا يتطيرون.»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1 - لقوة اعتمادهم على الله.
2 - لعزة نفوسهم عن التذلل لغير الله.
3 - ولما في ذلك من التعلق بغير الله.
وقوله: (ولا يكتوون) أي: لا يطلبون من أحد أن يكويهم.
ومعنى اكتوى: طلب من يكويه، وهذا مثل قوله: (ولا يسترقون) .
أما بالنسبة لمن أعد للكي من قبل الحكومة، فطلب الكي منه ليس فيه ذلك؛ لأنه معد من قبل الحكومة يأخذ الأجر على ذلك من الحكومة، ولأن هذا الطلب مجرد إخبار من الطالب بأنه محتاج إلى الكي، وليس سؤال تذلل.
قوله: (ولا يتطيرون) ، مأخوذ من الطير، والمصدر منه تطير، والطيرة اسم المصدر، وأصله: التشاؤم بالطير، ولكنه أعم من ذلك؛ فهو التشاؤم بمرثي، أو مسموع، أو زمان، أو مكان.
وكانت العرب معروفة بالتطير، حتى لو أراد الإنسان منهم خيرًا ثم رأى الطير سنحت يمينًا أو شمالًا حسب ما كان معروفًا عندهم، تجده يتأخر عن هذا الذي أراده، ومنهم من إذا سمع صوتًا أو رأى شخصًا تشاءم، ومنهم من يتشاءم من شهر شوال بالنسبة للنكاح؛ ولذا قالت عائشة رضي الله عنها: «عقد علي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في شوال، وبنى بي في شوال؛ فأيكن كان أحظى عنده» ومنهم من يتشاءم بيوم الأربعاء، أو بشهر صفر، وهذا كله مما أبطله(9/92)
«وعلى ربهم يتوكلون» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الشرع؛ لضرره على الإنسان عقلًا وتفكيرًا وسلوكًا، وكون الإنسان لا يبالي بهذه الأمور، هذا هو التوكل على الله؛ ولهذا ختم المسألة بقوله: (وعلى ربهم يتوكلون) ؛ فانتفاء هذه الأمور عنهم يدل على قوة توكلهم.
وهل هذه الأشياء تدل على أن من لم يتصف بها فهو مذموم، أو فاته الكمال؟
الجواب: أن الكمال فاته إلا بالنسبة للتطير؛ فإنه لا يجوز؛ لأنه ضرر وليس له حقيقة أصلًا.
أما بالنسبة لطلب العلاج؛ فالظاهر أنه مثله لأنه عام، وقد يقال: إنه لولا قوله: (ولا يسترقون) ؛ لقلت: إنه لا يدخل؛ لأن الاكتواء ضرر محقق: إحراق بالنار، وألم للإنسان، ونفعه مرتجى, لكن كلمة (يسترقون) مشكلة, فالرقية ليس فيها ضرر, إن لم تنفع لم تضر، وهنا نقول: الدواء مثلها؛ لأن الدواء إذا لم ينفع لم يضر، وقد يضير أيضًا؛ لأن الإنسان إذا تناول دواء وليس فيه مرض لهذا الدواء فقد يضره.
وهذه المسألة تحتاج إلى بحث، وهل نقول مثلاً: ما تؤكد منفعته إذا لم يكن في الإنسان إذلال لنفسه؛ فهو لا يضر، أي: لا يفوت المرء الكمال به، مثل الكسر وقطع العضو مثلًا، أو كما يفعل الناس الآن في الزائدة وغيرها.
ولو قال قائل بالاقتصار على ما في هذا الحديث، وهو أنهم لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون، وأن ما عدا ذلك لا يمنع من دخول الجنة بلا حساب ولا عذاب؛ للنصوص الواردة بالأمر بالتداوي والثناء على بعض الأدوية؛ كالعسل والحبة السوداء؛ لكان له وجه.(9/93)
«فقام عكاشة بن محصن، فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: (أنت منهم) . ثم قام رجل آخر، فقال: ادع الله أن يجعلني منهم فقال: (سبقك بها عكاشة) » .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وإذا طلب منك إنسان أن يرقيك؛ فهل يفوتك كمال إذا لم تمنعه؟
الجواب: لا يفوتك؛ «لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يمنع عائشة أن ترقيه» ، وهو أكمل الخلق توكلًا على الله وثقة به، ولأن هذا الحديث: (لا يسترقون. . .) إلخ إنما كان في طلب هذه الأشياء، ولا يخفى الفرق بين أن تحصل هذه الأشياء بطلب وبين أن تحصل بغير طلب.
قوله: (فقال: أنت منهم) ، وقول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هذا هل هو بوحي من الله إقراري، أو وحي إلهامي، أو وحي رسول؟
مثل هذه الأمور يحتمل أنها وحي إلهامي، أو بواسطة الرسول، أو وحي إقراري، بمعنى أن الرسول يقولها، فإذا أقره الله عليه؛ صارت وحيًا إقراريًّا.
لكن رواية البخاري: (اللهم اجعله منهم) تدل على أن الجملة: (أنت منهم) خبر بمعنى الدعاء.
قوله: «ثم قام رجل آخر، فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. قال: سبقك بها عكاشة» ، لم يرد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقول له: لا، ولكن قال: سبقك بها؛ أي(9/94)
فيه مسائل: الأولى: معرفة مراتب الناس في التوحيد. الثانية: ما معنى تحقيقه. الثالثة: ثناؤه سبحانه على إبراهيم بكونه لم يك من المشركين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بهذه المنقبة والفضيلة, أو بهذه المسألة عكاشة بن محصن.
وقد اختلف العلماء لماذا قال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا الكلام؟
فقيل: إنه كان منافقًا، فأراد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألا يجابهه بما يكره تأليفًا.
وقيل: خاف أن ينفتح الباب فيطلبها من ليس منهم؛ فقال هذه الكلمة التي أصبحت مثلًا، وهذا أقرب.
قوله: (فيه مسائل) ، أي: في هذا الباب مسائل:
المسألة الأولى: معرفة مراتب الناس في التوحيد، وهذه مأخوذة من قوله: «يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب» . ثم قال: «هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون، ولا يتطيرون» .
الثانية: ما معنى تحقيقه؟ أي: تحقيق التوحيد، وسبق لنا في أول الباب أن تحقيقه: تخليصه من الشرك.
الثالثة: ثناؤه سبحانه على إبراهيم بكونه لم يك من المشركين، وهو ظاهر في الآية الكريمة: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:120.] ؛ فإن هذه الآية لا شك أنها سيقت للثناء على إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وإذا كان مناط الثناء انتفاء الشرك عنه؛ دل ذلك على أن كل(9/95)
الرابعة: ثناؤه على سادات الأولياء بسلامتهم من الشرك. الخامسة: كون ترك الرقية والكي من تحقيق التوحيد. السادسة: كون الجامع لتلك الخصال هو التوكل. السابعة: عمق علم الصحابة بمعرفتهم أنهم لم ينالوا ذلك إلا بعمل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
من انتفى عنه الشرك فهو محل ثناء من الله سبحانه وتعالى.
الرابعة: ثناؤه على سادات الأولياء بسلامتهم من الشرك؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ} وهذه الآية في سياق آيات كثيرة ابتدأها الله بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 57-61.] ؛ فهؤلاء هم سادات الأولياء، وكلام المؤلف من باب إضافة الصفة إلى موصوفها، أي: الأولياء السادات، وليس يريد -رحمه- الله السادات من الأولياء، بل يريد الأولياء الذي هم سادات الخلق.
الخامسة: كون ترك الرقية والكي من تحقيق التوحيد؛ لقوله: «الذين لا يسترقون ولا يكتوون» ؛ فالمراد بقول المؤلف: (الرقية والكي) : الاسترقاء والاكتواء.
السادسة: كون الجامع لتلك الخصال هو التوكل، والخصال هي: ترك الاسترقاء، وترك الاكتواء، وترك التطير، يعني أن العامل لهذه الأشياء هو قوة التوكل على الله عز وجل.
السابعة: عمق عمل الصحابة لمعرفة أنهم لم ينالوا ذلك إلا بعمل، أي:(9/96)
الثامنة: حرصهم على الخير. التاسعة: فضيلة هذه الأمة بالكمية والكيفية. العاشرة: فضيلة أصحاب موسى. الحادية عشرة: عرض الأمم عليه عليه الصلاة والسلام.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لم ينل هؤلاء السبعون ألفًا هذا الثواب إلا بعمل، ووجهه أن الصحابة خاضوا فيمن يكون له هذا الثواب العظيم وذكروا أشياء.
الثامنة: حرصهم على الخير، وجهه خوضهم في هذا الشيء؛ لأنهم يريدون أن يصلوا إلى نتيجة حتى يقوموا بها.
التاسعة: فضيلة هذه الأمة بالكمية والكيفية، أما الكمية؛ فلأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى سوادًا عظيمًا أعظم من السواد الذي كان مع موسى، وأما الكيفية؛ فلأن معهم هؤلاء الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون.
العاشرة: فضيلة أصحاب موسى، وهو مأخوذ من قوله: «إذ رفع لي سواد عظيم» ، ولكن قد يقال: إن التعبير بقوله: كثرة أتباع موسى أنسب لدلالة الحديث؛ لأن الحديث يقول: «سواد عظيم فظننت أنهم أمتي» ، وهذا يدل على الكثرة.
الحادية عشرة: عرض الأمم عليه عليه الصلاة والسلام، وهذا له فائدتان:
الفائدة الأولى: تسلية الرسول عليه الصلاة والسلام، حيث رأى من الأنبياء من ليس معه إلا الرجل والرجلان، ومن الأنبياء من ليس معه أحد؛ فيتسلى بذلك عليه الصلاة والسلام، ويقول: {مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} .
الفائدة الثانية: بيان فضيلته عليه الصلاة والسلام وشرفه، حيث كان(9/97)
الثانية عشرة: أن كل أمة تحشر وحدها مع نبيها. الثالثة عشرة: قلة من استجاب للأنبياء. الرابعة عشرة: أن من لم يجبه أحد وحده. الخامسة عشرة: ثمرة هذا العلم، وهو عدم الاغترار بالكثرة, وعدم الزهد في القلة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أكثرهم أتباعًا وأفضلهم؛ فصار في عرض الأمم عليه هاتان الفائدتان.
الثانية عشرة: أن كل أمة تحشر وحدها مع نبيها؛ لقوله: «رأيت النبي ومعه الرجل والرجلان» ، ولولا أن كل نبي متميز عن النبي الآخر؛ لاختلط بعضهم ببعض، ولم يعرف الأتباع من غير الأتباع، ويدل لذلك قوله سبحانه وتعالى: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا} [الجاثية: 28.] فإنه يدل على أن كل أمة تكون وحدها.
الثالثة عشرة: قلة من استجاب للأنبياء، وهو واضح من قوله: «والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد» .
الرابعة عشرة: أن من لم يجبه أحد يأتي وحده؛ لقوله: «والنبي وليس معه أحد» .
الخامسة عشرة: ثمرة هذا العلم، وهو عدم الاغترار بالكثرة. . . إلخ، فإن الكثرة قد تكون ضلالًا، قال الله تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116.] ، وأيضًا الكثرة من جهة أخرى إذا اغتر الإنسان بكثرة وظن لن يغلب أو أنه منصور؛ فهذا أيضًا سبب للخذلان؛ فالكثرة إن نظرنا إلى أن أكثر أهل الأرض ضلال لا تغتر بهم، فلا تقل: إن الناس على هذا، كيف أنفرد عنهم؟(9/98)
السادسة عشرة: الرخصة في الرقية من العين والحمة. السابعة عشرة: عمق علم السلف؛ لقوله: (قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن كذا وكذا) فعلم أن الحديث الأول لا يخالف الثاني.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كذلك أيضا لا تغتر بالكثرة إذا كان معك أتباع كثيرون على الحق؛ فكلام المؤلف له وجهان:
الوجه الأول: أن لا نغتر بكثرة الهالكين فنهلك معهم.
الوجه الثاني: أن لا نغتر بكثرة الناجين فيلحقنا الإعجاب بالنفس وعدم الزهد في القلة، أي أن لا نزهد بالقلة؛ فقد تكون القلة خيرا من الكثرة.
السادسة عشرة: الرخصة في الرقية من العين والحمة، مأخوذ من قوله: «لا رقية إلا من عين أو حمة» .
السابعة عشرة: عمق علم السلف؛ لقوله: «قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن كذا وكذا» ؛ فعلم أن الحديث الأول لا يخالف الثاني؛ لأن قوله: «لا رقية إلا من عين أو حمة» لا يخالف الثاني؛ لأن الثاني إنما هو في الاسترقاء، والأول في الرقية؛ فالإنسان إذا أتاه من يرقيه ولم يمنعه؛ فإنه لا ينافي قوله: ( «ولا يسترقون» ؛ لأن هناك ثلاث مراتب:
المرتبة الأولى: أن يطلب من يرقيه، وهذا قد فاته الكمال.
المرتبة الثانية: أن لا يمنع من يرقيه، وهذا لم يفته الكمال؛ لأنه لم يسترق ولم يطلب.
المرتبة الثالثة: أن يمنع من يرقيه, وهذا خلاف السنة؛ «فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم»(9/99)
الثامنة عشرة: بعد السلف عن مدح الإنسان بما ليس فيه. التاسعة عشرة: قوله: (أنت منهم) : علم من أعلام النبوة. العشرون: فضيلة عكاشة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«يمنع عائشة أن ترقيه،» وكذلك الصحابة لم يمنعوا أحدا أن يرقيهم؛ لأن هذا لا يؤثر في التوكل.
الثامنة عشرة بعد السلف عن مدح الإنسان بما ليس فيه، ئؤخذ من قوله: «أما إني لم أكن في صلاة ولكني لدغت» ؛ لأنه إذا رأى الكوكب الذي انقض استلزم أن يكون يقظان، واليقظان: إما أن يصلي، وإما أن يكون له شغل آخر، وإما أن يكون لديه مانع من النوم.
التاسعة عشرة: قوله: (أنت منهم) علم من أعلام النبوة. يعني: دليلا على نبوة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكيف ذلك؟ لأن عكاشة بن محصن رضي الله عنه بقي محروسا من الكفر حتى مات على الإسلام، فيكون في هذا علم، يعني: دليلا من دلائل نبوة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هذا إذا قلنا: إن الجملة خبرية وليست جملة دعائية؛ إنها جملة دعائية, فقد نقول أيضا: فيه علم من أعلام النبوة، وهو أن الله استجاب دعوة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكن استجابة الدعوة ليست من خصائص الأنبياء؛ فقد تجاب دعوة من ليس بنبي، وحينئذ لا يمكن أن تكون علما من أعلام النبوة إلا حيث جعلنا الجملة خبرية محضة.
العشرون: فضيلة عكاشة، بكونه ممن يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، وهل نشهد له بذلك؟ نعم؛ لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شهد له بها.(9/100)
الحادية والعشرون: استعمال المعاريض. الثانية والعشرون: حسن خلقه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الحادية والعشرون: استعمال المعاريض. وفي المعاريض مندوحة عن الكذب، وذلك لقول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سبقك بها عكاشة» ؛ فإن هذا في الحقيقة ليس هو المانع الحقيقي، بل المانع ما أشرنا إليه في الشرح: إما أن يكون هذا الرجل منافقا فلم يرد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يجعله مع الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، وإما خوفا من انفتاح الباب؛ فيسأل هذه المرتبة من ليس من أهلها.
الثانية والعشرون: حسن خلقه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وذلك لأنه رد هذا الرجل وسد الباب على وجه ليس فيه غضاضة على أحد ولا كراهة.(9/101)
باب الخوف من الشرك
وقول الله غز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 116.]
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مناسبة الباب للبابين قبله: في الباب الأول ذكر المؤلف رحمه الله تحقيق التوحيد، وفي الباب الثاني ذكر أن من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب ولا عذاب، وثلث بهذا الباب رحمه الله تعالى؛ لأن الإنسان يرى أنه قد حقق التوحيد وهو لم يحققه، ولهذا قال بعض السلف: (ما جاهدت نفسي على شيء مجاهدتها على الإخلاص) ، وذلك أن النفس متعلقة بالدنيا تريد حظوظها من مال أو جاه أو رئاسة، وقد تريد بعمل الآخرة الدنيا، وهذا نقص في الإخلاص، وقل من يكون غرضه الآخرة في كل عمله، ولهذا أعقب المؤلف رحمه الله ما سبق من البابين بهذا الباب، وهو الخوف من الشرك، وذكر فيه آيتين:
الأولى قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} .
لا: نافية، أن يشرك به: فعل مضارع مقرون بان المصدرية؛ فيحول إلى مصدر تقدره: إن الله لا يغفر الإشراك به، أو لا يغفر إشراكا به؛ فالشرك لا يغفره الله أبدا؛ لأنه جناية على حق الله الخاص، وهو التوحيد.
أما المعاصي؛ كالزنا والسرقة؛ فقد يكون للإنسان فيها حظ نفس بما نال(9/102)
وقال الخليل عليه السلام: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35] .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
من شهوة، أما الشرك؛ فهو اعتداء على حق الله تعالى، وليس للإنسان فيه حظ نفس، وليس شهوة يريد الإنسان أن ينال مراده، ولكنه ظلم، ولهذا قال الله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13.] .
وهل المراد بالشرك هنا الأكبر، أم مطلق الشرك؟
قال بعض العلماء: إنه مطلق يشمل كل شرك ولو أصغر؛ كالحلف بغير الله، فإن الله لا يغفره، أما بالنسبة لكبائر الذنوب؛ كالسرقة والخمر؛ فإنها تحت المشيئة، فقد يغفرها الله، وشيخ الإسلام ابن تيمية المحقق في هذه المسائل اختلف كلامه في هذه المسألة؛ فمرة قال: الشرك لا يغفره الله ولو كان أصغر، ومرة قال: الشرك الذي لا يغفره الله هو الشرك الأكبر، وعلى كل حال؛ فيجب الحذر من الشرك مطلقا؛ لأن العموم يحتمل أن يكون داخلا فيه الأصغر؛ لأن قوله: {أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} أن وما بعدها في تأويل مصدر، تقديره: إشراكا به؛ فهو نكرة في سياق النفي، فتفيد العموم.
قوله: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} المراد بالدون هنا: ما هو أقل من الشرك وليس ما سوى الشرك.
الآية الثانية: قوله: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} . قيل: المراد ببنيه: بنوه لصلبه، ولا نعلم له من صلبه سوى إسماعيل وإسحاق، وقيل: المراد ذريته وما توالد من صلبه، وهو الأرجح، وذلك(9/103)
للآيات التي دلت على دعوته للناس من ذريته، ولكن كان من حكمة الله أن لا تجاب دعوته في بعضهم، كما «أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا أن لا يجعل بأس أمته بينهم» ?فلم يجب الله دعاه.
وأيضا يمنع من الأول أن الآية بصيغة الجمع، وليس لإبراهيم من الأبناء سوى إسحاق وإسماعيل.
ومعنى: واجنبني؛ أي: اجعلني في جانب والأصنام في جانب، وهذا أبلغ مما لو قال: امنعني وبني من عبادة الأصنام؛ لأنه إذا كان في جانب عنها كان أبعد.
فإبراهيم عليه السلام يخاف الشرك على نفسه، وهو خليل الرحمن وإمام الحنفاء؛ فما بالك بنا نحن إذًا؟!
فلا تأمن الشرك، ولا تأمن النفاق؛ إذ لا يأمن النفاق إلا منافق، ولا يخاف النفاق إلا مؤمن، ولهذا قال ابن أبي ملكية: (أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كلهم يخاف النفاق على نفسه) .
وها هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه خاف على نفسه النفاق؛ فقال لحذيفة بن اليمان رضي الله عنه الذي أسر إليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأسماء أناس من المنافقين فقال له عمر رضي الله عنه: (أنشدك الله؛ هل سماني لك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع من سمى من المنافقين؟ . فقال حذيفة رضي الله عنه: لا، ولا أزكي بعدك أحدا) (1) أراد عمر بذلك زيادة الطمأنينة، وإلا؛ فقد شهد له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالجنة.
__________
(1) انظر ك (طريق الهجرتين) لابن القيم آخر الطبقة الخامسة عشرة.(9/104)
ولا يقال: إن عمر رضي الله عنه أراد حث الناس على الخوف من النفاق ولم يخفه على نفسه؛ لأن ذلك خلاف ظاهر اللفظ، والأصل حمل اللفظ على ظاهره، ومثل هذا القول يقوله بعض العلماء فيما يضيفه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى نفسه في بعض الأشياء، يقولون: هذا قصد به التعليم، وقصد به أن يبين لغيره، كما قيل: إن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقل: رب اغفر لي لأن له ذنبا، ولكن لأجل أن يعلم الناس الاستغفار، وهذا خلاف الأصل، وقال بعضهم: إنه جهر بالذكر عقب الفريضة ليعلم الناس الذكر، لا لأن الجهر بذلك من السنة ونحو ذلك.
قوله: {أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} . أن والفعل بعدها في تأويل مصدر: مفعول ثان لقوله: اجنبني.
والأصنام: جمع صنم، وهو ما جعل على صورة إنسان أو غيره يعبد من دون الله.
أما الوثن؛ فهو ما عبد من دون الله على أي وجه كان، وفي الحديث: «لا تجعل قبري وثنا يعبد» (1) فالوثن أعم من الصنم.
ولا شك أن إبراهيم سأل ربه الثبات على التوحيد؛ لأنه إذا جنبه عبادة الأصنام صار باقيا على التوحيد.
الشاهد من هذه الآية:
أن إبراهيم خاف الشرك، وهو إمام الحنفاء، وهو سيدهم ما عدا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
__________
(1) موطأ الإمام مالك (1/172)(9/105)
وفي الحديث: « (أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر) . فسئل عنه؟ فقال: (الرياء) »
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وفي الحديث) . الحديث: ما أضيف إلى الرسول، والخبر: ما أضيف إليه وإلى غيره، والأثر: ما أضيف إلى غير الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ أي: إلى الصحابي فمن بعده، إلا إذا قيد فقيل: وفي الأثر عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فيكون على ما قيد به.
قوله: «أخوف ما أخاف عليكم» . الخطاب للمسلمين؛ إذ المسلم هو الذي يخاف عليه الشرك الأصغر، وليس لجميع الناس.
قوله: (الرياء) مشتق من الرؤية مصدر راءى يرائي، والمصدر رياء؛ كقاتل يقاتل قتالا.
والرياء: أن يعبد الله ليراه الناس فيمدحوه على كونه عابدا، وليس يريد أن تكون العبادة للناس؛ لأنه لو أراد ذلك؛ لكان شركا أكبر، والظاهر أن هذا على سبيل التمثيل، وإلا؛ فقد يكون رياء، وقد يكون سماعا أي يقصد بعبادته أن يسمعه الناس فيثنوا عليه، فهذا داخل في الرياء؛ فالتعبير بالرياء من باب التعبير بالأغلب.
أما إن أراد بعبادته أن يقتدي الناس به فيها؛ فليس هذا رياء، بل هذا من الدعوة إلى الله عز وجل، والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «فعلت هذا لتأتموا بي»(9/106)
«وتعلموا صلاتي» .
والرياء ينقسم باعتبار إبطاله للعبادة إلى قسمين:
الأول: أن يكون في أصل العبادة، أي ما قام يتعبد إلا للرياء؛ فهذا عمله باطل مردود عليه لحديث أبي هريرة في (الصحيح) مرفوعا، قال الله تعالى: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه» .
الثاني: أن يكون الرياء طارئا على العبادة، أي أن أصل العبادة لله, لكن طرأ عليها الرياء؛ فهذا ينقسم إلى قسمين:
الأول: أن يدافعه؛ فهذا لا يضره.
مثاله: رجل صلى ركعة، ثم جاء أناس في الركعة الثانية، فحصل في قلبه شيء بأن أطال الركوع أو السجود أو تباكى وما أشبه ذلك، فإن دافعه؛ فإنه لا يضره لأنه قام بالجهاد.
القسم الثاني: أن استرسل معه؛ فكل عمل ينشأ عن الرياء، فهو باطل؛ كما لو أطال القيام، أو الركوع، أو السجود، أو تباكى؛ فهذا كل عمله حابط، ولكن هل هذا البطلان يمتد إلى جميع العبادة أم لا؟
نقول: لا يخلو هذا من الحالين:
الحال الأولى: أن يكون آخر العبادة مبنيا على أولها، بحيث لا يصح(9/107)
أولها مع فساد آخرها؛ فهذه كلها فاسدة.
وذلك مثل الصلاة؛ فالصلاة مثلا لا يمكن أن يفسد آخرها ولا يفسد أولها وحينئذ تبطل الصلاة كلها إذا طرأ الرياء في أثنائها ولم يدافعه.
الحال الثانية: أن يكون أول العبادة منفصلا عن آخرها، بحيث يصح أولها دون آخرها، فما سبق الرياء؛ فهو صحيح، وما كان بعده؛ فهو باطل.
مثال ذلك: رجل عنده مائة ريال، فتصدق بخمسين بنية خالصة، ثم تصدق بخمسين بقصد الرياء؛ فالأولى مقبولة، والثانية غير مقبولة؛ لأن آخرها منفك عن أولها.
فإن قيل: لو حدث الرياء في أثناء الوضوء؛ هل يلحق بالصلاة فيبطل كله، أو بالصدقة فيبطل ما حصل فيه الرياء فقط.
فالجواب: يحتمل هذا وهذا؛ فيلحق بالصلاة؛ لأن الوضوء عبادة واحدة ينبني على بعض، وليس تطهير كل عضو عبادة مستقلة، ويلحق بالصدقة؛ لأنه ليس كالصلاة من كل وجه ولا الصداقة من كل وجه؛ لأننا إذا قلنا ببطلان ما حصل فيه الرياء فأعاد تطهيره وحده لم يضر؛ لأن تكرار غسل العضو لا يبطل الوضوء ولو كان عمدا، بخلاف الصلاة؛ فإنه إذا كرر جزءا منها كركوع أو سجود لغير سبب شرعي؛ بطلت صلاته، فلو أنه أن غسل يديه رجع وغسل وجهه؛ لم يبطل وضوؤه، ولو أنه بعد أن سجد رجع وركع؛ لبطلت صلاته، والترتيب موجود في هذا وهذا، لكن الزيادة في الصلاة تبطلها، والزيادة في الوضوء لا تبطلة، والرجوع مثلا إلى الأعضاء الأولى لا يبطله أيضا، وإن كان الرجوع في الحقيقة لا يعتبر وضوءا؛ لأنه غير شرعي، وربما يكون في الأولى غسل وجهه على أنه واحدة، ثم غسل يديه، ثم قال:(9/108)
وعن ابن مسعود رضي الله عنه؛ أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من مات وهو يدعو من دون الله ندا؛ دخل النار» . رواه البخاري
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الأحسن أن أكمل الثلاث في الوجه أفضل، فغسل وجهه مرتين، وهو سيرتب أي سيغسل وجهه ثم يديه؛ فوضؤه صحيح.
ولو ترك التسبيح ثلاث مرات في الركوع، وبعدما سجد قال: فوت على نفسي فضيلة، سأرجع لأجل أن أسبح ثلاث مرات؛ فتبطل صلاته؛ فالمهم أن هناك فرقا بين الوضوء والصلاة، ومن أجل هذا الفرق لا أبت فيها الآن حتى أراجع وأتأمل إن شاء الله تعالى.
قوله: (من) . هذه شرطية تفيد العموم للذكر والأنثى.
قوله: ( «يدعو من الله ندا» أي: يتخذ لله ندا سواء دعاه دعاء عبادة أم دعاء مسألة؛ لأن الدعاء ينقسم إلى قسمين:
الأول: دعاء عبادة، مثاله: الصوم، والصلاة، وغير ذلك من العبادات, فإذا صلى الإنسان أو صام؛ فقد دعا ربه بلسان الحال أن يغفر له، وأن يجيره من عذابه، وأن يعطيه من نواله، وهذا في أصل الصلاة، كما أنها تتضمن الدعاء بلسان المقال.
ويدل لهذا القسم قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [غافر: 60] ؛ فجعل الدعاء عبادة، وهذا القسم كله(9/109)
شرك، فمن صرف شيئا من أنواع العبادة لغير الله؛ فقد كفر كفرًا مخرجًا له عن الملة، فلو ركع الإنسان أو سجد لشيء يعظمه كتعظيم الله في هذا الركوع أو السجود؛ لكان مشركًا، ولهذا «منع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الانحناء عند الملاقاة لما سئل عن الرجل يلقى أخاه أن ينحني له؟ قال: (لا) » (1) .
خلافًا لما يفعله بعض الجهال إذا سلم عليك انحنى لك؛ فيجب على كل مؤمن بالله أن ينكره؛ لأنه عظمك على حساب دينه.
الثاني: دعاء المسألة؛ فهذا ليس كله شركًا، بل فيه تفصيل، فإن كان المخلوق قادرًا على ذلك؛ فليس بشرك؛ كقوله: اسقني ماء لمن يستطيع ذلك. قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من دعاكم فاجيبوه» (2) وقال تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} [النساء: 8.] .
فإذا مد الفقير يده، وقال: ارزقني؛ أي: أعطني؛ فليس بشرك، كما قال تعالى: {فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} ، وأما إن دعا المخلوق بما لا يقدر عليه إلا الله؛ فإن دعوته شرك مخرج عن الملة.
مثال ذلك: أن تدعو إنسانًا أن ينزل الغيث معتقدًا أنه قادر على ذلك.
والمراد بقول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من مات وهو يدعو لله ندا» المراد الند في العبادة، أما الند في المسألة؛ ففيه التفصيل السابق.
ومع الأسف؛ ففي بعض البلاد الإسلامية من يعتقد أن فلانًا المقبور الذي
__________
(1) مسند الإمام أحمد (3/198) ، والترمذي: كتاب الاستئذان/ باب ما جاء في المصافحة، وقال: (حديث حسن) ، وابن ماجة: كتاب الأدب/ باب في المصافحة.
(2) مسند الإمام أحمد (2/68) ، وأبو داود (3/17) ، والنسائي (5/28) ، والحاكم(9/110)
بقي جثة أو أكلته الأرض ينفع أو يضر، أو يأتي بالنسل لمن لا يولد لها، وهذا -والعياذ بالله- شرك أكبر مخرج من الملة، وإقرار هذا أشد من إقرار شرب الخمر والزنا واللواط؛ لأنه إقرار على كفر، وليس إقرارًا على فسوق فقط.
قوله: (دخل النار) . أي: خالدًا، مع أن اللفظ لا يدل عليه؛ لأن دخل فعل، والفعل يدل على الإطلاق.
وأيضًا قال الله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72.] ، وإذا حرمت الجنة؛ لزم أن يكون خالدًا في النار أبدًا، فيجب أن نخاف من الشرك ما دامت هذه عقوبته؛ فالمشرك خسر الآخرة؛ لأنه في النار خالد، وخسر الدنيا أيضًا؛ لأنه لم يستفد منها شيئًا، وقامت عليه الحجة، وجاءه النذير، ولكنه خسر -والعياذ بالله-، ما استفاد شيئًا من الدنيا، قال تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر: 37.] ، وقال الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} [الحج:11-13.] ، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر: 15] .
فخسر نفسه؛ لأنه لم يستفد منها شيئًا، وخسر أهله؛ لأنهم إن كانوا من المؤمنين فهم في الجنة، فلا يتمتع بهم في الآخرة, وإن كانوا في النار فكذلك؛ لأنه كلما دخلت أمة لعنت أختها، والشرك خفي جدًّا؛ فقد يكون في الإنسان وهو لا يشعر إلا بعد المحاسبة الدقيقة؛ ولهذا قال بعض السلف: (ما جاهدت(9/111)
ولمسلم عن جابر؛ أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
نفسي على شيء كما جاهدتها على الإخلاص) .
فالشرك أمره صعب جدا ليس بالهين، ولكن ييسر الله الإخلاص على العبد، وذلك بأن يجعله الله نصب عينيه، فيقصد بعمله وجه الله لا يقصد مدح الناس أو ذمهم أو ثناءهم عليه؛ فالناس لا ينفعونه أبدًا، حتى لو خرجوا معه لتشييع جنازته لم ينفعه إلا عمله، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يخرج مع الميت أهله وماله وعمله؛ فيرجع اثنان: أهله وماله، ويبقى عمله» .
وكذلك أيضًا من المهم أن الإنسان لا يفرحه أن يقبل الناس قوله؛ لأنه قوله، لكن يفرحه أن يقبل الناس قوله إذا رأى أنه الحق لأنه الحق، لا أنه قوله، وكذا لا يحزنه أن يرفض الناس قوله لأنه قوله؛ لأنه حينئذ يكون قد دعا لنفسه، لكن يحزنه أن يرفضوه لأنه الحق، وبهذا يتحقق الإخلاص.
فالإخلاص صعب جدا، إلا أن الإنسان إذا كان متجهًا إلى الله اتجاهًا صادقًا سليمًا على صراط مستقيم؛ فإن الله يعينه عليه، وييسره له.
قوله: (من) . شرطية تفيد العموم، وفعل الشرط: (لقي) ، وجوابه قوله: (دخل الجنة) ، وهذا الدخول لا ينافي أن يعذب بقدر ذنوبه إن كانت عليه(9/112)
ذنوب؛ لدلالة نصوص الوعيد على ذلك، وهذا إذا لم يغفر الله له؛ لأنه داخل تحت المشيئة.
قوله: (لا يشرك) . في محل نصب على الحال من فاعل (لقي) .
قوله: (شيئا) . نكره في سياق الشرط؛ فيعم أي شرك حتى ولو أشرك مع الله أشرف الخلق، وهو الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل النار؛ فكيف بمن يجعل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعظم من الله، فيلجأ إليه عند الشدائد، ولا يلجأ إلى الله، بل ربما يلجأ إلى ما دون الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! وهناك من لا يبالي بالحلف بالله صادقا أم كاذبا، ولكن لا يحلف بقوميته إلا صادقا, ولهذا اختلف فيمن لا يبالي بالحلف بالله, ولكنه لا يحلف بملته أو بما يعظمه إلا صادقا، فلزمته يمين؛ هل يحلف بالله أو يحلف بهذا؟
فقيل: يحلف بالله ولو كذب، ولا يعان على الشرك، وهو الصحيح.
وقيل: يحلف بغير الله؛ لأن المقصود الوصول إلى بيان الحقيقة، وهو إذا كان كاذبًا لا يمكن أن يحلف، لكن نقول: إن كان صادقًا حلف ووقع في الشرك.
مسألة: هل يلزم من دخول النار الخلود لمن أشرك؟
هذا بحسب الشرك، إن كان الشرك أصغر كما دلت على ذلك النصوص؛ فإنه لا يلزم من ذلك الخلود في النار, وإن كان أكبر؛ فإنه يلزم منه الخلود في النار.
لكن لو حملنا الحديث على الشرك الأكبر في الموضعين في قوله: «من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة» ، وفي قوله: «ومن لقي الله يشرك به شيئًا»(9/113)
فيه مسائل: الأولى: الخوف من الشرك. الثانية: أن الرياء من الشرك. الثالثة: أنه من الشرك الأصغر.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«دخل النار» ؛ وقلنا: من لقي الله لا يشرك به شركًا أكبر دخل الجنة، وإن عذب قبل الدخول في النار بما يستحق؛ فيكون مآله إلى الجنة، ومن لقيه يشرك به شركًا أكبر دخل النار مخلدًا فيها لم نحتج إلى هذا التفصيل.
فيه مسائل:
الأولى: الخوف من الشرك. لقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} ، ولقوله: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} .
الثانية: أن الرياء من الشرك؛ لحديث: « (أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر) . فسئل عنه فقال (الرياء) » ، وقد سبق بيان أحكامه بالنسبة إلى إبطال العبادة.
الثالثة: أنه من الشرك الأصغر؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما سئل عنه قال: (الرياء) ، فسماه شركًا أصغر، وهل يمكن أن يصل إلى الأكبر؟
ظاهر الحديث لا يمكن؛ لأنه قال: (الشرك الأصغر) ، فسئل عنه؛ فقال: (الرياء) .(9/114)
الرابعة: أنه أخوف ما يخاف منه على الصالحين. الخامسة: قرب الجنة والنار. السادسة: الجمع بين قربهما في حديث واحد. السابعة: أنه من لقيه يشرك به شيئًا؛ دخل النار، ولو كان من أعبد الناس.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لكن في عبارات ابن القيم رحمه الله أنه إذا ذكر الشرك الأصغر قال: كيسير الرياء؛ فهذا يدل على أن كثيره ليس من الأصغر، لكن إن أراد بالكمية؛ فنعم؛ لأنه لو كان يرائي في كل عمل لكان مشركًا شركًا أكبر لعدم وجود الإخلاص في عمل يعمله، أما إذا أراد الكيفية؛ فظاهر الحديث أنه أصغر مطلقاً.
الرابعة: أنه أخوف ما يخاف منه على الصالحين. وتؤخذ من قوله: «أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر» ، ولأنه قد يدخل في قلب الإنسان من غير شعور لخفائه وتطلع النفس إليه، فإن كثيرًا من النفوس تحب أن تمدح بالتعبد لله.
الخامسة: قرب الجنة والنار. لقوله: «من لقي الله لا يشرك به شيئاً؛ دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئًا؛ دخل النار» .
السادسة: الجمع بين قربهما في حديث واحد. (من لقي الله لا يشرك به شيئًا ... ) الحديث.
السابعة: أن من لقيه يشرك به شيئًا دخل النار، ولو كان من أعبد الناس. تؤخذ من العموم في قوله: (من لقي الله) ؛ لأن (من) للعموم، لكن إن كان شركه أكبر؛ لم يدخل الجنة وإن كان أعبد الناس؛ لقوله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة: 72.] وإن كان أصغر؛ عذب(9/115)
الثامنة: المسألة العظيمة سؤال الخليل له ولبنيه وقاية عبادة الأصنام. التاسعة: اعتباره بحال الأكثر؛ لقوله: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم: 36] . العاشرة: فيه تفسير (لا إله إلا الله) كما ذكره البخاري. الحادية عشرة: فضيلة من سلم من الشرك.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بقدر ذنوبه ثم دخل الجنة.
الثامنة: المسألة العظيمة سؤال الخليل له ولبنيه وقاية عبادة الأصنام. تؤخذ من قوله تعالى: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} .
التاسعة: اعتباره بحال الأكثر؛ لقوله: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} . وفيه إشكال؛ إذ المؤلف يقول: بحال الأكثر، والآية: {كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} وفرق بين كثير وأكثر، ولهذا قال تعالى في بني آدم: {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70.] ؛ فلم يقل على أكثر الخلق، ولا على الخلق؛ فالآدميون فضلوا على كثير ممن خلق الله، وليسوا أكرم الخلق على الله، ولكنه كرمهم.
العاشرة: فيه تفسير لا إله إلا الله كما ذكره البخاري. الظاهر أنها تؤخذ من جميع الباب؛ لأن لا إله إلا الله فيها نفي وإثبات.
الحادية عشرة: فضيلة من سلم من الشرك. لقوله: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} ، وقوله: «من لقي الله لا يشرك به شيئًا؛ دخل الجنة» .(9/116)
باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله
وقول الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} الآية [يوسف: 108.] .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الترتيب الذي ذكره المؤلف من أحسن ما يكون؛ لأنه لما ذكر توحيد الإنسان بنفسه ذكر دعوة غيره إلى ذلك؛ لأنه لا يتم الإيمان إلا إذا دعا إلى التوحيد، قال تعالى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [سورة العصر] .
فلا بد مع التوحيد من الدعوة إليه، وإلا؛ كان ناقصًا، ولا ريب أن هذا الذي سلك سبيل التوحيد لم يسلكه إلا وهو يرى أنه أفضل سبيل، وإذا كان صادقًا في اعتقاده؛ فلا بد أن يكون داعيًا إليه, والدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله من تمام التوحيد، ولا يتم التوحيد إلا به.
قوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} المشار إليه ما جاء به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الشرع عبادة ودعوة إلى الله.
سبيل: طريقي.
قوله: أدعو، حال من الياء في قوله: سبيلي، ويحتمل أن تكون استئنافًا لبيان تلك السبيل.(9/117)
وقوله: (إلى الله) ؛ لأن الدعاة إلى الله ينقسمون إلى قسمين:
1 - داع إلى الله.
2 - داع إلى غيره.
فالداعي إلى الله تعالى هو المخلص الذي يريد أن يوصل الناس إلى الله تعالى.
والداعي إلى غيره قد يكون داعيًا إلى نفسه، يدعو إلى الحق لأجل أن يعظم بين الناس ويحترم، ولهذا تجده يغضب إذا لم يفعل الناس ما أمره به، ولا يغضب إذا ارتكبوا نهيًا أعظم منه، لكن لم يدع إلى تركه.
وقد يكون داعيًا إلى رئيسه كما يوجد في كثير من الدول من علماء الضلال من علماء الدول، لا علماء الملل، يدعو إلى رؤسائهم.
من ذلك لما ظهرت الاشتراكية في البلاد العربية قام بعض علماء الضلال بالاستدلال عليها بآيات وأحاديث بعيدة الدلالة، بل ليس فيها دلالة؛ فهؤلاء دعوا إلى غير الله.
ومن دعا إلى الله ثم رأى الناس فارين منه؛ فلا ييأس، ويترك الدعوة، فإن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لعلي: «انفذ على رسلك؛ فوالله؛ لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حمر النعم» ؛ يعني: أن اهتداء رجل واحد من قبائل اليهود خير لك من حمر النعم، فإذا دعا إلى الله ولم يجب؛ فليكن غضبه من أجل أن الحق لم يتبع، لا لأنه لم يجب، فإذا كان يغضب لهذا: فمعناه أنه يدعو إلى الله، فإذا استجاب واحد؛ كفى, وإذا لم يستجب أحد, فقد أبرأ ذمته أيضًا(9/118)
وفي الحديث: «والنبي وليس معه أحد» ثم إنه يكفي من الدعوة إلى الحق والتحذير من الباطل أن يتبين للناس أن هذا حق وهذا باطل؛ لأن الناس إذا سكتوا عن بيان الحق، وأقر الباطل مع طول الزمن؛ ينقلب الحق باطلًا، والباطل حقًّا.
قوله: {عَلَى بَصِيرَةٍ} ، أي: علم؛ فتضمنت هذه الدعوة الإخلاص والعلم؛ لأن أكثر ما يفسد الدعوة عدم الإخلاص، أو عدم العلم، وليس المقصود بالعلم في قوله: {عَلَى بَصِيرَةٍ} العلم بالشرع فقط، بل يشمل: العلم بالشرع، والعلم بحال المدعو، والعلم بالسبيل الموصل إلى المقصود، وهو الحكمة.
فيكون بصيرًا بحكم الشرع، وبصيرًا بحال المدعو، وبصيرًا بالطريق الموصلة لتحقيق الدعوة، ولهذا قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمعاذ: «إنك تأتي قومًا أهل كتاب» .
وهذه ليست كلها من العلم بالحكم الشرعي؛ لأن علمي أن هذا الرجل قابل للدعوة باللين، وهذا قابل للدعوة بالشدة، وهذا عنده علم يمكن أن يقابلني بالشبهات أمر زائد على العلم بالحكم الشرعي، وكذلك العلم بالطرق التي تجلب المدعوين كالترغيب بكذا والتشجيع؛ كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من قتل قتيلًا؛ فله سلبه» أو بالتأليف «فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعطى المؤلفة قلوبهم في غزوة حنين إلى مائة»(9/119)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما؛ «أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما بعث معاذًا إلى اليمن؛ قال له: (إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب؛ فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله» . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«بعير» ، فهذا كله من الحكمة؛ فالجاهل لا يصلح للدعوة، وليس محمودًا، وليست طريقته طريقة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن الجاهل يفسد أكثر مما يصلح.
قوله: {أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} ، ذكروا فيها رأيين:
الأول: (أنا) مبتدأ، وخبرها (على بصيرة) ، (ومن اتبعني) معطوفة على (أنا) ؛ أي: أنا ومن اتبعني على بصيرة؛ أي: في عبادتي ودعوتي.
الثاني: (أنا) توكيد للضمير المستتر في قوله: (أدعو) ؛ أي: أدعو أنا إلى الله ومن اتبعني يدعو أيضًا؛ أي: قل هذه سبيلي أدعو إلى الله ويدعو من اتبعني، وكلانا على بصيرة.
قوله: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ} ، أي: أن أكون أدعو على غير بصيرة! وإعراب (سبحان) : مفعول مطلق عامله محذوف تقديره أسبح.
قوله: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} محلها مما قبلها في المعنى توكيد؛ لأن التوحيد معناه نفي الشرك.(9/120)
قوله (أي: قول ابن عباس) : (بعث معاذًا) ، أي: أرسله، وبعثه على صفة المعلم والحاكم والداعي، وبعثه في ربيع الأول سنة عشرة من الهجرة، وهذا هو المشهور، وبعثه هو وأبا موسى الأشعري رضي الله عنهما، بعث معاذًا إلى صنعاء وما حولها، وأبا موسى إلى عدن وما حولها، وأمرهما: «أن اجتمعا وتطاوعا ولا تفترقا، ويسرا ولا تعسرا، وبشرا وذكرا ولا تنفرا» قوله: " لما "، إعرابها شرطية، وهي حرف وجود لوجود، و (لو) : حرف امتناع لامتناع، و (لولا) حرف امتناع لوجود.
قوله: «إنك تأتي قومًا من أهل كتاب» ، قال ذلك مرشدًا له، وهذا دليل على معرفته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأحوال الناس، وما يعلمه من أحوالهم؛ فله طريقان:
1 - الوحي.
2 - العلم والتجربة.
قوله: (من) بيانية، والمراد بالكتاب: التوراة والإنجيل؛ فيكون المراد بأهل الكتاب اليهود والنصارى، وهم أكثر أهل اليمن في ذلك الوقت، وإن كان في اليمن مشركون؛ لكن الأكثر اليهود والنصارى، ولهذا اعتمد الأكثر. وأخبره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك؛ لأمرين:
الأول: أن يكون بصيرًا بأحوال من يدعو.
الثاني: أن يكون مستعدًا لهم؛ لأنهم أهل كتاب، وعندهم علم.
قوله: (فليكن) ، الفاء للاستئناف أو عاطفة، واللام للأمر، و (أول) : اسم يكن، وخبرها (شهادة) وقيل العكس، يعني (أول) خبر مقدم (وشهادة) اسم يكن مؤخرًا.(9/121)
والظاهر أنه يريد أن يبين أن أول ما يكون هي الشهادة، وإذا كان كذلك؛ يكون (أول) مرفوعًا على أنه اسم يكون؛ أي: أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله.
قوله: (شهادة) الشهادة هنا من العلم، قال تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86.] ؛ فالشهادة هنا العلم والنطق باللسان؛ لأن الشاهد مخبر عن علم، وهذا المقام لا يكفي فيه مجرد الإخبار، بل لا بد من علم وإخبار وقبول وإقرار وإذعان؛ أي انقياد.
فلو اعتقد بقلبه، ولم يقل بلسانه: أشهد أن لا إله إلا الله؛ فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إنه ليس بمسلم بالإجماع حتى ينطق بها؛ لأن كلمة أشهد تدل على الإخبار، والإخبار متضمن للنطق، فلا بد من النطق؛ فالنية فقط لا تجزئ، ولا تنفعه عند الله حتى ينطق، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لعمه أبي طالب: (قل) ، ولم يقل: اعتقد أن لا إله إلا الله.
قوله: (لا إله) أي: لا معبود؛ فإله بمعنى مألوه؛ فهو فعال بمعنى مفعول، وعند المتكلمين: إله بمعنى آله؛ فهو اسم فاعل، وعليه يكون معنى لا إله؛ أي: لا قادر على الاختراع، وهذا باطل (1) ، ولو قيل بهذا المعنى؛ لكان المشركون الذين قاتلهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ موحدين؛ لأنهم يقرون به، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87.] ، وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزمر:38.] .
__________
(1) أنظر (ص 53) .(9/122)
(وفي رواية: «إلى أن يوحدوا الله) ، فإن هم أطاعوك لذلك؛ فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك؛ فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك؛ فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب» . أخرجاه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فإن قيل: كيف يقال: لا معبود إلا الله، والمشركون يعبدون أصنامهم؟! أجيب: بأنهم يعبدونها بغير حق؛ فهم وإن سموها آلهة؛ فألوهيتها باطلة، وليست معبودات بحق، ولذلك إذا مسهم الضر؛ لجئوا إلى الله تعالى، وأخلصوا له الدين، وعلى هذا لا تستحق أن تسمى آلهة.
فهم يعبدونها ويعترفون بأنهم لا يعبدونها إلا لأجل أن تقربهم إلى الله فقط؛ فجعلوها وسيلة وذريعة، وبهذا التقدير لا يرد علينا إشكال في قول الرسل لقومهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] ؛ لأن هذه المعبودات لا تستحق أن تعبد، بل الإله المعبود حقًا هو الله سبحانه وتعالى.
وفي قوله: «لا إله إلا الله» نفي الألوهية لغير الله، وإثباتها لله، ولهذا جاءت بطريق الحصر.(9/123)
ولهما عن سهل بن سعد (رضي الله عنه) : «أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال يوم خيبر: (لأعطين الراية غدًا رجلًا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله؛ يفتح الله على يديه) . فبات الناس يدوكون ليلتهم؛ أيهم يعطاها، فلما أصبحوا؛ غدوا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كلهم يرجو أن يعطاها.»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (لأعطين) ، هذه جملة مؤكدة بثلاث مؤكدات: القسم المقدر، واللام، والنون، والتقدير: والله لأعطين.
قوله: (الراية) ، العلم، وسمي راية؛ لأنه يرى، وهو ما يتخذه أمير الجيش للعلامة على مكانه.
واللواء؛ قيل: إنه الراية، وقيل: ما لوي أعلاه، أو لوي كله؛ فيكون الفرق بينهما: أن الراية مفلولة لا تطوى، واللواء يطوى إما أعلاه أو كله، والمقصود منهما الدلالة، ولهذا يسمى علمًا.
قوله: (غدًا) ، يراد به ما بعد اليوم، والأمس يراد به ما قبله.
والأصل أنه يراد بالغد ما يلي يومك، ويراد بالأمس الذي يليه يومك، وقد يراد بالغد ما وراء ذلك، قال تعالى: {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر: 18.] ؛ أي: يوم القيامة.
وكذلك بالأمس قد يراد به ما وراء ذلك؛ أي: ما وراء اليوم الذي يليه يومك.
قوله: (يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله) . أثبت المحبة لله من الجانبين، أي أن الله تعالى يُحِب ويُحَب، وقد أنكر هذا أهل التعطيل، وقالوا: المراد بمحبة الله للعبد إثابته أو إرادة إثابته، والمراد بمحبة العبد لله محبة ثوابه، وهذا تحريف(9/124)
«فقال: (أين علي بن أبي طالب؟) . فقيل هو يشتكي عينيه. فأرسلوا إليه، فأتي به، فبصق في عينيه، ودعا له، فبرأ كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، فقال: (انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم.»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
للكلام عن ظاهره مخالف لإجماع السلف من الصحابة والتابعين وأئمة الهدى من بعدهم، ومحبة الله تعالى ثابتة له حقيقة وهي من صفاته الفعلية، وكل شيء من صفات الله يكون له سبب؛ فهو من الصفات الفعلية، والمحبة لها سبب؛ فقد يبغض الله إنسانًا في وقت ويحبه في وقت لسبب من الأسباب.
قوله: (على يديه) ، أي يفتح خيبر على يديه، وفي ذلك بشارة بالنصر.
قوله: (يدوكون) ، أي: يخوضون، وجملة يدركون خبر بات.
قوله: (غدوا على رسول الله) ، أي: ذهبوا إليه في الغدوة مبكرين، كلهم يرجو أن يعطاها لينال محبة الله ورسوله.
قوله: (فقال: أين علي؟) ، القائل: الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قوله: (يشتكي عينيه) ، أي: يتألم منهما، ولكنه يشتكي إلى الله؛ لأن عينيه مريضة.
وقوله: (فأرسلوا إليه) : بأمر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قوله: (فأتى به) ، كأنه رضي الله عنه قد عمم على عينيه؛ لأن قوله: (أتي به) أي: يقاد.
وقوله: (كأن لم يكن به وجع) ، أي: ليس بهما أثر حمرة ولا غيرها.
قوله: (فبرأ) ، هذا من آيات الله الدالة على قدرته وصدق رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا(9/125)
«ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله؛ لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حمر النعم» (يدركون) ؛ أي: يخوضون.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
من مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أنه يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله؛ لتخصيص النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له ذلك من بين سائر الصحابة. قوله: (انفذ على رسلك) ، أي: مهلك، مأخوذ من رسل الناقة؛ أي: حليبها يحلب شيئًا فشيئًا، والمعنى: امش هوينًا هوينًا؛ لأن المقام خطير؛ لأنه يخشى من كمين، واليهود خبثاء أهل غدر.
قوله: (حتى تنزل بساحتهم) ، أي: ما يقرب منهم وما حولهم، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين» . وهذا إذا كنا على الوصف الذي عليه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، أما إذا كنا على وصف القومية، فإننا لو نزلنا في أحضانهم؛ فمن الممكن أن يقوموا ونكون في الأسفل.
قوله: (ثم ادعهم) ، أي: أهل خيبر، (إلى الإسلام) ؛ أي: الاستسلام لله.
قوله: (وأخبرهم بما يجب عليهم) ، أي: فلا تكفي الدعوة إلى الإسلام(9/126)
فقط، بل يخبرهم بما يجب عليهم فيه حتى يقتنعوا به ويلتزموا، لكن على الترتيب الذي في حديث بعث معاذ.
وهذه المسألة يتردد الإنسان فيها: هل يخبرهم بما يجب عليهم من حق الله في الإسلام قبل أن يسلموا أو بعده؟
فإذا نظرنا إلى ظاهر حديث معاذ وحديث سهل هذا؛ فإننا نقول: الأولى أن تدعوه للإسلام، وإذا أسلم تخبره.
وإذا نظرنا إلى واقع الناس الآن، وأنهم لا يسلمون عن اقتناع؛ فقد يسلم، وإذا أخبرته ربما يرجع، قلنا: يخبرون أولًا بما يجب عليهم من حق الله فيه؛ لئلا يرتدوا عن الإسلام بعد إخبارهم بما يجب عليهم، وحينئذ يجب قتلهم لأنهم مرتدون.
ويحتمل أن يقال: تترك هذه المسألة للواقع وما تقتضيه المصلحة من تقديم هذا أو هذا.
قوله: (لأن يهدي الله) ، اللام واقعة في جواب القسم، وأن بفتح الهمزة مصدرية، ويهدي مؤول بالمصدر مبتدأ، و (خير) : خبر، ونظيرها قوله تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184.] .
قوله: (حمر النعم) بتسكين الميم: جمع أحمر، وبالضم: جمع حمار، والمراد الأول.
وحمر النعم: هي الإبل الحمراء، وذكرها لأنها مرغوبة عند العرب، وهي أحسن وأنفس ما يكون من الإبل عندهم.
وقوله: (لأن يهدي الله بك) ، ولم يقل: لأن تهدي؛ لأن الذي يهدي هو الله.(9/127)
فيه مسائل: الأول: أن الدعوة إلى الله طريق من اتبع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الثانية: التنبيه على الإخلاص؛ لأن كثيرًا من الناس لو دعا إلى الحق؛ فهو يدعو إلى نفسه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والمراد بالهداية هنا هداية التوفيق والدلالة.
وهل المراد الهداية من الكفر إلى الإسلام، أو يعم كل هداية؟
نقول: هو موجه إلى قوم يدعوهم إلى الإسلام، وهل نقول: إن القرينة الحالية تقتضي التخصيص، وأن من اهتدى على يديه رجل في مسألة فرعية من مسائل الدين لا يحصل له هذا الثواب بقرينة المقام؛ لأن عليًا موجه إلى قوم كفار يدعوهم إلى الإسلام، والله أعلم.
فيه مسائل:
الأولى: أن الدعوة إلى الله طريق من اتبع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتؤخذ من قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} .
الثانية: التنبيه على الإخلاص، وتؤخذ من قوله: (أدعو إلى الله) ، ولهذا قال: (لأن كثيرًا من الناس لو دعا إلى الحق؛ فهو يدعو إلى نفسه) ؛ فالذي يدعو إلى الله هو الذي لا يريد إلا أن يقوم دين الله، والذي يدعو إلى(9/128)
الثالثة: أن البصيرة من الفرائض. الرابعة: من دلائل حسن التوحيد كونه تنزيهًا لله تعالى عن المسبة. الخامسة: أن من قبح الشرك كونه مسبة لله. السادسة: وهي من أهمها: إبعاد المسلم عن المشركين؛ لئلا يصير منهم، ولو لم يشرك.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
نفسه هو الذي يريد أن يكون قوله هو المقبول، حقًّا كان أم باطلاً.
الثالثة: أن البصيرة من الفرائض، وتؤخذ من قوله تعالى: {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} ، ووجه كون البصيرة من الفرائض؛ لأنه لا بد للداعية من العلم بما يدعو إليه، والدعوة فريضة؛ فيكون العلم بذلك فريضة.
الرابعة: من دلائل حسن التوحيد كونه تنزيهًا لله عن المسبة، وتؤخذ من قوله تعالى: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ، فسبحان الله دليل على أنه واحد لكماله.
ومعنى عن المسبة؛ أي: وعن مماثلة الخالق للمخلوق؛ إذ تمثيل الكامل بالناقص يجعله ناقصًا.
قال الشاعر:
ألم تر أن السيف ينقص قدره ... إذا قيل إن السيف أمضى من العصا؟
الخامسة: أن من قبح الشرك كونه مسبة الله، وتؤخذ من قوله تعالى: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} بعد قوله: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ} .
السادسة -وهي من أهمها-: إبعاد المسلم عن المشركين؛ لئلا يصير منهم، ولو لم يشرك. لقوله تعالى: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ، ولم يقل: (وما أنا(9/129)
السابعة: كون التوحيد أول واجب. الثامنة: أنه يبدأ به قبل كل شيء، حتى الصلاة. التاسعة: أن معنى: (أن يوحدوا الله) : معنى شهادة أن لا إله إلا الله. العاشرة: أن الإنسان قد يكون من أهل الكتاب وهو لا يعرفها، أو يعرفها ولا يعمل بها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مشرك) ؛ لأنه إذا كان بينهم، ولو لم يكن مشركا؛ فهو في ظاهر منهم، ولهذا لما قال الله للملائكة: {اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ} [البقرة: 34.] ؛ توجه الخطاب له ولهم.
السابعة: كون التوحيد أول واجب، تؤخذ من قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله» ، وفي رواية: (أن يوحدوا الله) .
وقال بعض العلماء: أول واجب النظر، لكن الصواب أن أول واجب هو التوحيد؛ لأن معرفة الخالق دلت عليها الفطرة.
الثامنة: أن يبدأ به قبل كل شيء تؤخذ من قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه» .
التاسعة: أن معنى أن يوحدوا الله معنى شهادة أن لا إله إلا الله، تؤخذ من تعبير الصحابي حيث عبر في الرواية بقوله: (شهادة أن لا إله إلا الله) ، وفي رواية عبر بقوله: (أن يوحدوا الله) .
العاشرة: أن الإنسان قد يكون من أهل الكتاب وهو لا يعرفها أو يعرفها ولا يعمل بها، ومراده بقوله: (لا يعرفها، أو لا يعرفها) شهادة أن لا إله إلا الله، وتؤخذ من قوله: «فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله» ؛ إذ لو(9/130)
الحادية عشرة: التنبيه على التعليم بالتدريج. الثانية عشرة: البداءة بالأهم فالأهم. الثالثة عشرة: مصرف الزكاة. الرابعة عشرة: كشف العالم الشبهة عن المتعلم. الخامسة عشرة: النهي عن كرائم الأموال. السادسة عشرة: اتقاء دعوة المظلوم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كانوا يعرفون لا إله إلا الله ويعملون بها ما احتاجوا إلى الدعوة إليها.
الحادية عشرة: التنبيه على التعليم بالتدريج. تؤخذ من قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمعاذ: «ادعهم إلى أن يوحدوا الله، فإن هم أطاعوك لذلك؛ فأعلمهم أن الله افترض عليهم» ... ) إلخ الحديث.
الثانية عشرة: البداءة بالأهم فالأهم. تؤخذ من أمره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معاذا بالتوحيد ليدعو إليه أولا، ثم الصلاة، ثم الزكاة.
الثالثة عشرة: مصرف الزكاة. تؤخذ من قوله: «فترد على فقرائهم» .
الرابعة عشرة كشف العالم الشبهة عن المتعلم. المراد بالشبهة هنا: شبهة العلم؛ أي: يكون عنده جهل.
تؤخذ من قوله: «إن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم» فبين أن هذه الصدقة تؤخذ من الأغنياء، وأن مصرفها الفقراء.
الخامسة عشرة: النهي عن كرائم الأموال. تؤخذ من قوله: «فإياك وكرائم الأموالهم» ؛ إذ إياك تفيد التحذير، والتحذير يستلزم النهي.
السادسة عشرة: اتقاء دعوة المظلوم. تؤخذ من قوله: «واتق دعوة المظلوم» .(9/131)
السابعة عشرة: الإخبار بأنها لا تحجب. الثامنة عشرة: من أدلة التوحيد ما جرى على سيد المرسلين وسادات الأولياء من المشقة والجوع والوباء. التاسعة عشرة: قوله: (لأعطين الراية ... ) إلخ: علم من أعلام النبوة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
السابعة عشرة: الإخبار بأنها لا تحجب. تؤخذ من قوله: «فإنه ليس بينها وبين الله حجاب» ؛ فقرن الترغيب أو الترهيب بالأحكام، مما يحث النفس إن كان ترغيبا، ويبعدها ويزجرها إن كان ترهيبا؛ لقوله: «اتق دعوة المظلوم» ؛ فالنفس قد لا تتقي، لكن إذا قيل: بينها وبين الله حجاب؛ خافت ونفرت من ذلك.
الثامنة عشرة: من أدلة التوحيد ما جرى على سيد المرسلين وسادات الأولياء من المشقة والجوع والوباء. والظاهر أن المؤلف رحمه الله يريد الإشارة إلى قصة خيبر؛ إذ وقع فيها في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جوع عظيم، حتى إنهم أكلوا الحمير والثوم، وأما الوباء؛ فهو ما وقع في عهد علي رضي الله عنه، وأما المشقة فظاهرة.
ووجه كون ذلك من أدلة التوحيد: أن الصبر والتحمل في مثل هذه الأمور يدل على إخلاص الإنسان في توحيده وأن قصده الله، ولذلك صبر على البلاء.
التاسعة عشرة: قوله: (لأعطين الراية) علم من أعلام النبوة؛ لأن هذا حصل؛ فعلي بن أبي طالب يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله.(9/132)
العشرون: تفله في عينيه علم من أعلامها أيضا. الحادية والعشرون: فضيلة علي رضي الله عنه. الثانية والعشرون: فضل الصحابة في دوكهم تلك الليلة وشغلهم عن بشارة الفتح. الثالثة والعشرون:الإيمان بالقدر لحصولها لمن لم يسع لها ومنعها عمن سعى. الرابعة والعشرون: الأدب في قوله: (على رسلك) . الخامسة والعشرون: الدعوة إلى الإسلام قبل القتال.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
العشرون: تفله في عينيه علم من أعلامها أيضا؛ لأنه بصق في عينيه؛ فبرأ كأن لم يكن به وجع.
الحادية والعشرون: فضيلة علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وهذا ظاهر؛ لأنه يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله.
الثانية والعشرون: فضل الصحابة في دوكهم تلك الليلة وشغلهم عن بشارة الفتح؛ لأنهم انشغلوا عن بشارة الفتح بالتماسهم معرفة من يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله.
الثالثة والعشرون: الإيمان بالقدر لحصولها لمن لم يسع لها ومنعها عمن سعى؛ لأن الصحابة غدوا على رسول الله مبكرين، كلهم يرجو أن يعطاها ولم يعطوها، وعلي بن أبي طالب مريض ولم يسع لها، ومع ذلك أعطي الراية.
الرابعة والعشرون: الأدب في قوله: (على رسلك) . ووجهه: أنه أمره بالتمهل وعدم التسرع.
الخامسة والعشرون: الدعوة إلى الإسلام قبل القتال. لقوله: «انزل»(9/133)
السادسة والعشرون: أنه مشروع لمن دعوا قبل ذلك وقوتلوا. السابعة والعشرون: الدعوة بالحكمة؛ لقوله: (أخبرهم بما يجب عليهم) . الثامنه والعشرون: المعرفة بحق الله في الإسلام. التاسعة والعشرون: ثواب من اهتدى على يديه رجل واحد. الثلاثون: الحلف على الفتيا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام» .
السادسة والعشرون: أنه مشروع لمن دعوا قبل ذلك وقوتلوا.
السابعة والعشرون: الدعوة بالحكمة؛ لقوله: «أخبرهم بما يجب عليهم» ؛ لأن من الحكمة أن تتم الدعوة، وذلك بأن تأمره بالإسلام أولا، ثم تخبره بما يجب عليه من حق الله، ولا يكفي أن تأمره بالإسلام؛ لأنه قد يطبق هذا الإسلام الذي أمرته به وقد لا يطبقه، بل لا بد من تعاهده حتى لا يرجع إلى الكفر.
الثامنة والعشرون: المعرفة بحق الله في الإسلام. تؤخذ من قوله: «وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه» .
التاسعة والعشرون: ثواب من اهتدى على يديه رجل واحد. لقوله: «لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم» ؛ أي: خير لك من كل ما يستحسن في الدنيا، وليس المعنى كما قال بعضهم: خير لك من أن تتصدق بنعم حمر.
الثلاثون: الحلف على الفتيا؛ لقوله: «فو الله لأن يهدي الله» ... ) إلخ؛ فأقسم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو لم يستقسم، والفائدة هي حثه على أن يهدي الله به(9/134)
والتوكيد عليه.
ولكن لا ينبغي الحلف على الفتيا إلا لمصلحة وفائدة؛ لأنه قد يفهم السامع أن المفتي لم يحلف إلا لشك عنده.
والإمام أحمد رحمه الله أحيانا يقول في إجابته: إي والله، وقد أمر الله رسوله بالحلف في ثلاثة مواضع من القرآن:
في قوله تعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس: 53.] وفي قوله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن: 7.] .
وفي قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ: 3.]
فإذا كان في القسم مصلحة ابتداء، أو جوابا لسؤال؛ جاز وربما يكون مطلوبا.(9/135)
باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله
ـــــــــــــــــــــــــــــ
التفسير معناه: الكشف والإيضاح، مأخوذ من قولهم: فسرت الثمرة قشرها، ومن قول الإنسان: فسرت ثوبي؛ فاتضح ما وراءه، ومنه تفسير القرآن الكريم.
والتوحيد تقدم تعريفه (1) ، والمراد به هنا اعتقاد أن الله واحد في ألوهيته.
وقوله: " شهادة أن لا إله إلا الله "، معطوف على التوحيد؛ أي: وتفسير شهادة أن لا إله إلا الله.
والعطف هنا من باب عطف المترادفين؛ لأن التوحيد حقيقة هو شهادة أن لا إله إلا الله.
وهذا الباب مهم؛ لأنه لما سبق الكلام على التوحيد وفضله والدعوة إليه، كأن النفس الآن اشرأبت إلى بيان ما هو هذا التوحيد الذي بوب له هذه الأبواب (وجوبه، وفضله، والدعوة إليه) .
فيجاب بهذا الباب، وهو تفسير التوحيد، وقد ذكر المؤلف خمس آيات:
__________
(1) انظر: (ص1)(9/136)
وقول الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} الآية [الإسراء: 57.] .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الآية الأولى: قوله تعالى: أولئك. " أولاء ": مبتدأ.
الذين: اسم موصول بدل منه.
يدعون: صله الموصول.
وجمله يبتغون: خبر المبتدأ؛ أي: هؤلاء الذين يدعوهم هؤلاء هم أنفسهم يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب؛ فكيف تدعونهم وهم محتاجون مفتقرون؟ ! فهذا سفه في الحقيقة، وهذا ينطبق على كل من دعي، وهو داع؛ كعيسى ابن مريم، والملائكة، والأولياء، والصالحين، وأما الشجر والحجر؛ فلا يدخل في الآية.
فهؤلاء الذين زعمتم أنهم أولياء من دون الله لا يملكون كشف الضر ولا تحويله من مكان إلى مكان؛ لأنهم هم بأنفسهم يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب، وقد قال تعالى مبينا حال هؤلاء المدعوين: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 13-14.] .
قوله: يدعون؛ أي: دعاء مسألة؛ كمن يدعو عليا عند وقوعهم في الشدائد، وكمن يدعو النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم(9/137)
وقوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [الزخرف: 27.]
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وقد يكون دعاء عبادة؛ كمن يتذلل لهم بالتقرب، والنذر، والركوع، والسجود.
قوله: يبتغون: يطلبون.
قوله: الوسيلة؛ أي: الشيء الذي يوصلهم إلى الله؛ يعني: يطلبون ما يكون وسيلة إلى الله - سبحانه وتعالى - أيهم أقرب إلى الله، وكذلك أيضا يرجون رحمته ويخافون عذابه.
وجه مناسبة الآية للباب باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله:
أن التوحيد يتضمن البراءة من الشرك، بحيث لا يدعو مع الله أحدا؛ لا ملكا مقربا، ولا نبيا مرسلا، وهؤلاء الذين يدعون الأنبياء والملائكة لم يتبرؤا من الشرك، بل هم واقعون فيه، ومن العجب أنهم يدعون من هم في حاجة إلى ما يقربهم إلى الله تعالى؛ فهم غير مستغنين عن الله بأنفسهم؛ فكيف يغنون غيرهم؟!
الآية الثانية والثالثة: قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ} ... الآيتين.
قوله: براء: على وزن فعال، وهي صفة مشبهة من التبرؤ، وهو التخلي؛ أي: إنني متخل غاية التخلي عما تعبدون إلا الذي فطرني، وإبراهيم عليه الصلاة والسلام قوي في ذات الله، فقال ذلك معلنا به لأبيه وقومه، وأبوه هو آزر (1) .
__________
(1) انظر: (ص 83)(9/138)
قوله: تعبدون: العبادة هنا التذلل والخضوع؛ لأن في قومه من يعبد الأصنام، ومنهم من يعبد الشمس والقمر والكواكب.
قوله: {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} : جمع بين النفي والإثبات؛ فالنفي: {بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} ، والإثبات: {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} ؛ فدل على أن التوحيد لا يتم إلا بالكفر بما سوى الله والإيمان بالله وحده، {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة: 256] ، وهؤلاء يعبدون الله ويعبدون غيره؛ لأنه قال: {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} ، والأصل في الاستثناء الاتصال إلا بدليل، ومع ذلك تبرأ منهم.
وكذا يوجد في بعض البلدان الإسلامية من يصلي ويزكي ويصوم ويحج، ومع ذلك يذهبون إلى القبور يسجدون لها ويركعون؛ فهم كفار غير موحدين، ولا يقبل منهم أي عمل، وهذا من أخطر ما يكون على الشعوب الإسلامية؛ لأن الكفر بما سوى الله عندهم ليس بشيء، وهذا جهل منهم، وتفريط من علمائهم؛ لأن العامي لا يأخذ إلا من عالمه، لكن بعض الناس -والعياذ بالله- عالم دولة لا عالم ملة.
وفي قول إبراهيم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} ، ولم يقل إلا الله فائدتان:
الأولى: الإشارة إلى علة إفراد الله وبالعبادة؛ لأنه كما أنه منفرد بالخلق؛ فيجب أن يفرد بالعبادة.
الثانية: الإشارة إلى بطلان عبادة الأصنام؛ لأنها لم تفطركم حتى تعبدوها؛ ففيها تعليل للتوحيد الجامع بين النفي والإثبات، وهذه من البلاغة التامة في تعبير إبراهيم عليه السلام.
يستفاد من الآية أن التوحيد لا يحصل بعبادة الله مع غيره، بل لا بد من(9/139)
وقوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية [التوبة: 31] .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إخلاصه لله، والناس في هذا المقام ثلاثة أقسام:
قسم يعبد الله وحده.
وقسم يعبد غيره فقط.
وقسم يعبد الله وغيره.
والأول فقط هو الموحد.
الآية الرابعة: قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} ... الآية.
قوله: أحبارهم: والمعطوف عليها المفعول الأول لـ (اتخذوا) ، والثاني: " أربابا "؛ أي: هؤلاء اليهود والنصارى صيروا أحبارهم ورهبانهم أربابا.
والأحبار: جمع حَبْر، وهو العالم، ويقال للعالم أيضا بحر لكثرة علمه. والحبر؛ بفتح الحاء، وكسرها يقال: حَبر، وحبر.
قوله تعالى: ورهبانهم؛ أي: عبادهم.
وقوله: أربابا: جمع رب، أي يجعلونهم أربابا من دون الله؛ فيجعلوا الأحبار أربابا؛ لأنهم يأتمرون بأمرهم في مخالفة أمر الله، فيطيعونهم في معصية الله.
وجعلوا الرهبان أربابا باتخاذهم أولياء يعبدونهم من دون الله.
قوله: {مِنْ دُونِ اللَّهِ} ؛ أي: من غير الله.
قوله: {وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} : معطوف على أحبارهم؛ أي: اتخذوا المسيح(9/140)
وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} الآية [البقرة: 165.] .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ابن مريم أيضًا ربًا حيث قالوا: إنه ثالث ثلاثة.
قوله: {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} أي: يتذللوا بالطاعة لله وحده، الذي خلق المسيح والأحبار والرهبان والسماوات والأرض.
قوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} ؛ أي: لا معبود حق إلا هو.
قوله: سبحانه: تنزيه لله عما يشركون.
وجه كون هذه الآية تفسيرًا للتوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله: أن الله أنكر عليهم اتخاذ الأحبار والرهبان أربابًا من دون الله، وهذه الآية سيأتي فيها ترجمة كاملة في كلام المؤلف رحمه الله؛ فهؤلاء جعلوا الأحبار شركاء في الطاعة، كلما أمروا بشيء أطاعوهم، سواء وافق أمر الله أم لا.
إذا؛ فتفسير التوحيد أيضًا بلا إله إلا الله يستلزم أن تكون طاعتك لله وحده، ولهذا على الرغم من تأكيد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لطاعة ولاة الأمر؛ قال: «إنما الطاعة في المعروف» .
الآية الخامسة: قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} . . . الآية.(9/141)
قوله: من الناس: من للتبعيض، وعلامتها أن يصح أن يحل محلها بعض، والجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم، ومن يتخذ مبتدأ مؤخر، أي من يجعل لله أندادًا، ومفعولها الأول "أندادًا" مؤخرًا، ومفعولها الثاني "من دون الله" مقدمًا.
وقوله: يتخذ: جاءت بالإفراد مراعاة للفظ " من ". وقوله: يحبونهم: بالجمع مراعاة للمعنى.
وقوله: أندادًا: جمع ند، وهو الشبيه والنظير، ولهذا «قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمن قال له ما شاء الله وشئت: "أجعلتني لله ندا؟! بل ما شاء الله وحده"» .
وقوله: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} : هذا وجه المشابهة؛ أي: الندية في المحبة يحبونهم كحب الله.
واختلف المفسرون في قوله: كحب الله:
فقيل: يجعلون محبة الأصنام مساوية لمحبة الله، فيكون في قلوبهم محبة لله ومحبة للأصنام، ويجعلون محبة الأصنام كمحبة الله؛ فيكون المصدر مضافًا إلى مفعوله، أي يحبون الأصنام كحبهم الله.
وقيل: يحبون هذه الأصنام محبة شديدة كمحبة المؤمنين لله.
وسياق هذه الآية يؤيد القول الأول.
وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} .
على الرأي الأول يكون معناها: والذين آمنوا أشد حبًّا لله من هؤلاء لله؛ لأن محبة المؤمنين خالصة، ومحبة هؤلاء فيها شرك بين الله وبين أصنامهم.(9/142)
وعلى الرأي الثاني معناها: والذين آمنوا أشد حبًّا لله من هؤلاء لأصنامهم؛ لأن محبة المؤمنين ثابتة في السراء والضراء على برهان صحيح، بخلاف المشركين؛ فإن محبتهم لأصنامهم تتضاءل إذا مسهم الضر.
فما بالك برجل يحب غير الله أكثر من محبته لله؟ ! وما بالك برجل يحب غير الله ولا يحب الله؟ ! فهذا أقبح وأعظم، وهذا موجود في كثير من المنتسبين للإسلام اليوم، فإنهم يحبون أولياءهم أكثر مما يحبون الله، ولهذا لو قيل له: احلف بالله؛ حلف صادقًا أو كاذبًا، أما الولي؛ فلا يحلف به إلا صادقًا.
وتجد كثيرًا منهم يأتون إلى مكة والمدينة ويرون أن زيارة قبر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعظم من زيارة البيت؛ لأنهم يجدون في نفوسهم حبا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كحب الله أو أعظم، وهذا شرك؛ لأن الله يعلم أننا ما أحببنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا لحب الله، ولأنه رسول الله، ما أحببناه لأنه محمد بن عبد الله لكننا أحببناه لأنه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فنحن نحبه بمحبة الله، لكن هؤلاء يجعلون محبة الله تابعة لمحبة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن أحبوا الله.
فهذه الآية فيها محنة عظيمة لكثير من قلوب المسلمين اليوم الذين يجعلون غير الله مثل الله في المحبة، وفيه أناس أيضًا أشركوا بالله في محبة غيره، لا على وجه العبادة الشرعية؛ لكن على وجه العبادة المذكورة في الحديث وهي محبة الدرهم والدينار والخميصة والخميلة، يوجد أناس لو فتشت عن قلوبهم؛ لوجدت قلوبهم ملأى من محبة متاع الدنيا، وحتى هذا الذي جاء يصلي هو في المسجد لكن قلبه مشغول بما يحبه من أمور الدنيا.(9/143)
فهذا نوع من أنواع العبادة في الحقيقة، ولو حاسب الإنسان نفسه لماذا خلق؟ لعلم أنه خلق لعبادة الله، وأيضًا خلق لدار أخرى ليست هذه الدار؛ فهذه الدار مجاز يجوز الإنسان منها إلى الدار الأخرى، الدار التي خلق لها والتي يجب أن يعنى بالعلم لها، يا ليت شعري متى يومًا من الأيام فكر الإنسان ماذا عملت؟ وكم بقي لي في هذه الدنيا؟ وماذا كسبت؟ الأيام تمضي ولا أدري هل ازددت قربًا من الله أو بعدًا من الله؟ هل نحاسب أنفسنا عن هذا الأمر؟
فلا بد لكل إنسان عاقل من غاية؛ فما هي غايته؟
نحن الآن نطلب العلم للتقرب إلى الله بطلبه، وإعلام أنفسنا، وإعلام غيرنا؛ فهل نحن كلما علمنا مسألة من المسائل طبقناها؟ نحن على كل حال نجد في أنفسنا قصورًا كثيرًا وتقصيرًا، وهل نحن إذا علمنا مسألة ندعو عباد الله إليها؟
هذا أمر يحتاج إلى محاسبة، ولذلك؛ فإن على طالب العلم مسئولية ليست هينة، عليه أكثر من زكاة المال؛ فيجب أن يعمل ويتحرك ويبث العلم والوعي في الأمة الإسلامية، وإلا انحرفت عن شرع الله.
قال ابن القيم رحمه الله: كل الأمور تسير بالمحبة؛ فأنت مثلًا لا تتحرك لشيء إلا وأنت تحبه، حتى اللقمة من الطعام لا تأكلها إلا لمحبتك لها.
ولهذا قيل: إن جميع الحركات مبناها على المحبة؛ فالمحبة أساس العمل، فالإشراك في المحبة إشراك بالله.
والمحبة أنواع:
الأول: المحبة لله، وهذه لا تنافي التوحيد، بل هي من كماله، فأوثق عرى الإيمان: الحب في الله، والبغض في الله.(9/144)
والمحبة لله هي أن تحب هذا الشيء؛ لأن الله يحبه، سواء كان شخصًا أو عملًا، وهذا من تمام التوحيد.
قال مجنون ليلى:
أمر على الديار ديار ليلى ... أقبل ذا الجدار وذا الجدار
وما حب الديار شغفن قلبي ... ولكن حب من سكن الديارا
الثاني: المحبة الطبيعية التي لا يؤثرها المرء على محبة الله؛ فهذه لا تنافي محبة الله؛ كمحبة الزوجة، والولد، والمال، ولهذا «لما سئل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من أحب الناس إليك؟ قال: " عائشة ". قيل: فمن الرجال؟ قال: "أبوها» .
ومن ذلك محبة الطعام والشراب واللباس.
الثالث: المحبة مع الله التي تنافي محبة الله، وهي أن تكون محبة غير الله كمحبة الله أو أكثر من محبة الله، بحيث إذا تعارضت محبة الله ومحبة غيره قدم محبة غير الله، وذلك إذا جعل هذه المحبة ندا لمحبة الله يقدمها على محبة الله أو يساويها بها.
الشاهد من هذه الآية: أن الله جعل هؤلاء الذين ساووا محبة الله بمحبة غيره مشركين جاعلين لله أندادا.(9/145)
وفي الصحيح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ أنه قال: «من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله؛ حرم ماله ودمه، وحسابه على الله عز وجل» . وشرح هذه الترجمة ما بعدها من الأبواب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وفي الصحيح) . لم يفصح المؤلف رحمه الله بمراده بالصحيح؛ أهو (صحيح البخاري) أم (صحيح مسلم) ، أم أن المراد به الحديث الصحيح؛ سواء كان في (الصحيحين) معًا أم في أحدهما أم في غيرهما، وليس له اصطلاح في ذلك يحمل عليه عند الإطلاق، وعلى هذا يبحث عن الحديث في مظانه، وقد ورد هذا التعبير في سياق المؤلف للحديث في مواضع أخرى، والمراد به هنا (صحيح مسلم) .
قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من قال لا إله إلا الله " أي لا معبود حق إلا الله، فلفظ الجلالة بدل من الضمير المستتر في الخبر، ومن يرى أن (لا) تعمل في المعرفة يقولون: هو الخبر.
قوله: «وكفر بما يعبد من دون الله» ، أي: بعبادة من يعبد من دون الله، قلنا ذلك؛ لأن عيسى بن مريم كان يعبد من دون الله، ونحن نؤمن به، لكن لا نؤمن بعبادته ولا بأنه مستحق للعبادة؛ كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ}(9/146)
فيه مسائل:
فيه أكبر المسائل وأهمها، وهي تفسير التوحيد وتفسير الشهادة، وبينها بأمور واضحة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المائدة: 116-117] .
وفي قوله: «وكفر بما يعبد من دون الله» دليل على أنه لا يكفي مجرد التلفظ بلا إله إلا الله بل لا بد أن تكفر بعبادة من يعبد من دون الله، بل وتكفر أيضًا بكل كفر، فمن يقول: لا إله إلا الله، ويرى أن النصارى واليهود اليوم على دين صحيح؛ فليس بمسلم، ومن يرى الأديان أفكارًا يختار منها ما يريد؛ فليس بمسلم، بل الأديان عقائد مفروضة من قبل الله عز وجل، يتمشى الناس عليها، ولهذا ينكر على بعض الناس في تعبيره بقوله: الفكر الإسلامي، بل الواجب أن يقال: الدين الإسلامي أو العقيدة الإسلامية، ولا بأس بقول المفكر الإسلامي؛ لأنه وصف للشخص نفسه لا للدين الذي هو عليه.
قوله: (وشرح هذه الترجمة) ، المراد بالشرح هنا: التفصيل، والترجمة: هي التعبير بلغة عن لغة أخرى، ولكنها تطلق باصطلاح المؤلفين على العناوين والأبواب، فيقال: ترجم على كذا؛ أي: بوب له.
قوله: (فيه أكبر المسائل وأهمها، وهي تفسير التوحيد) .
فتفسير التوحيد أنه لا بد فيه من أمرين:
الأول: نفى الألوهية عما سوى الله عز وجل.(9/147)
منها أية الإسراء: بين فيها الرد على المشركين الذين يدعون الصالحين؛ ففيها بيان أن هذا هو الشرك الأكبر.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الثاني: إثبات الألوهية لله وحده؛ فلا بد من النفي والإثبات لتحقيق التوحيد؛ لأن التوحيد جعل الشيء واحدًا بالعقيدة والعمل، وهذا لا بد فيه من النفي والإثبات.
فإذا قلت: زيد قائم؛ أثبت له القيام ولم توحده، لكن إذا قلت: لا قائم إلا زيد؛ أثبت له القيام ووحدته به.
وإذا قلت: الله إله أثبت له الألوهية، لكن لم تنفها عن غيره؛ فالتوحيد لم يتم، وإذا قلت: لا إله إلا الله، أثبت الألوهية لله ونفيتها عما سواه.
قوله: (تفسير الشهادة) . الشهادة: هي التعبير عما تيقنه الإنسان بقلبه؛ فقول: أشهد أن لا إله إلا الله؛ أي: أنطلق بلساني معبرًا عما يكنه قلبي من اليقين، وهو أنه لا إله إلا الله.
قوله: (منها آية الإسراء) . وهي قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ} . . . [الإسراء: 57.] ؛ فبين فيها الرد على المشركين الذين يدعون الصالحين، وبين أن هذا هو الشرك الأكبر؛ لأن الدعاء من العبادة، قال تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] ؛ فدل على أن الدعاء عبادة؛ لأن آخر الكلام تعليل لأوله، فكل من دعا أحدًا غير الله حيًا أو ميتًا؛ فهو مشرك شركًا أكبر.
ودعاء المخلوق ينقسم إلى ثلاثة أقسام:(9/148)
ومنها آية براءة: بين فيها أن أهل الكتاب اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله.
وبين أنهم لم يؤمروا إلا بأن يعبدوا إلهًا واحدًا، مع أن تفسيرها الذي لا إشكال فيه طاعة العلماء والعباد في المعصية، لا دعاؤهم إياهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الأول: جائز، وهو أن تدعو مخلوقًا بأمر من الأمور التي يمكن أن يدركها بأشياء محسوسة معلومة؛ فهذا ليس من دعاء العبادة، بل هو من الأمور الجائزة، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وإذا دعاك فأجبه» .
الثاني: أن تدعو مخلوقًا مطلقًا، سواء كان حيًّا أو ميتًا فيما لا يقدر عليه إلا الله؛ فهذا شرك أكبر؛ لأنك جعلته ندًّا لله فيما لا يقدر عليه إلا الله، مثل: يا فلان اجعل ما في بطن امرأتي ذكرًا.
الثالث: أن تدعو مخلوقًا ميتًا لا يجيب بالوسائل الحسية المعلومة؛ فهذا شرك أكبر أيضًا؛ لأنه لا يدعو من كان هذه حاله حتى يعتقد أن له تصرفًا خفيًّا في الكون.
قوله: (ومنها آية براءة بين فيها أن أهل الكتاب اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله) . وهذا شرك الطاعة، وهو بتوحيد الربوبية ألصق من توحيد(9/149)
ومنها قول الخليل عليه السلام للكفار: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [الزخرف: 26-27] فاستثنى من المعبودين ربه.
وذكر سبحانه أن هذه البراءة وهذه الموالاة هي تفسير شهادة أن لا إله إلا الله، فقال: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف: 28] .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لألوهية؛ لأن الحكم شرعيًّا كان أو كونيًّا إلى الله تعالى؛ فهو من تمام ربوبيته، قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10] ، وقال تعالى: {لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 70] .
والشيخ رحمه الله جعل شرك الطاعة من الأكبر، وهذا فيه تفصيل، وسيأتي إن شاء الله في باب من أطاع الأمراء والعلماء في تحليل ما حرم الله أو بالعكس.
قوله: (ومنها: قول الخليل عليه السلام للكفار: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} ؛ فاستثنى من المعبودين ربه. فدل هذا على أن التوحيد لا بد فيه من نفي وإثبات: البراءة مما سوى الله، وإخلاص العبادة لله وحده.
وذكر سبحانه أن هذه البراءة وهذه الموالاة هي تفسير شهادة أن لا إله إلا الله؛ فقال: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} ، وهي لا إله إلا الله؛ فكان معنى قوله: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} هو معنى قول: لا إله إلا الله.(9/150)
ومنها آية البقرة في الكفار الذين قال الله فيهم: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة: 167] . ذكر أنهم يحبون أندادهم كحب الله، فدل على أنهم يحبون الله حبًّا عظيمًا، ولم يدخلهم في الإسلام؛ فكيف بمن أحب الند أكبر من حب الله؟ ! وكيف بمن لم يحب إلا الند وحده ولم يحب الله؟ !
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ومنها: آية البقرة في الكفار الذين قال الله فيهم: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} .
فجعل الله المحبة شركًا إذا أحب شيئًا سوى الله كمحبته لله؛ فيكون مشركًا مع الله في المحبة، ولهذا يجب أن تكون محبة الله خالصة لا يشاركه فيها أحد حتى محبة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلولا أنه رسول ما وجبت طاعته ولا محبته إلا كما نحب أي مؤمن، ولا يمنع الإنسان من محبة غير الله، بل له أن يحب كل شيء تباح محبته؛ كالولد، والزوجة، ولكن لا يجعل ذلك كمحبة الله.
قال المؤلف: (فكيف بمن أحب الند أكبر من حب الله؟! وكيف بمن لم يحب إلا الند وحده ولم يحب الله؟!) .
فالأقسام أربعة:
الأول: أن يحب الله حبًّا أشد من غيره؛ فهذا هو التوحيد.
الثاني: أن يحب غير الله كمحبة الله، وهذا شرك.
الثالث: أن يحب غير الله أشد حبًّا من الله، وهذا أعظم مما قبله.
الرابع: أن يحب غير الله وليس في قلبه محبة لله تعالى، وهذا أعظم وأطم.(9/151)
ومنها قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله؛ حرم ماله ودمه، وحسابه على الله» .
وهذا من أعظم ما يبين معنى (لا إله إلا الله) ؛ فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصمًا للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والمحبة لها أسباب ومتعلقات، وتختلف باختلاف متعلقها، كما أن الفرح يختلف باختلاف متعلقه وأسبابه، فعندما يفرح بالطرب؛ فليس هذا كفرحه بذكر الله ونحوه.
حتى نوع المحبة يختلف، يحب والده ويحب ولده وبينهما فرق، ويحب الله ويحب ولده، ولكن بين المحبتين فرق.
فجميع الأمور الباطنة في المحبة والفرح والحزن تختلف باختلاف متعلقها، وسيأتي إن شاء الله لهذا البحث مزيد تفصيل عند قول المؤلف: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا} .
قوله: (ومنها: قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (من قال: لا إله إلا الله ... ) إلخ.
إذًا فلا بد من الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة: 256] .
قوله: «وكفر بما يعبد من دون الله» . أي: كفر بالأصنام، وأنكر أن تكون عبادتها حقًّا؛ فلا يكفي أن يقول: لا إله إلا الله، ولا أعبد صنمًا، بل لا بد أن(9/152)
يقول: الأصنام التي تعبد من دون الله أكفر بها وبعبادتها.
فمثلًا لا يكفي أن يقول: لا إله إلا الله ولا أعبد اللات، ولكن لا بد أن يكفر بها ويقول: إن عبادتها ليست بحق، وإلا؛ كان مقرًّا بالكفر.
فمن رضي دين النصارى دينًا يدينون الله به؛ فهو كافر لأنه إذا ساوى غير دين الإسلام مع الإسلام؛ فقد كذب قوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] .
وبهذا يكون كافرًا، وبهذا نعرف الخطر العظيم الذي أصاب المسلمين اليوم باختلاطهم مع النصارى، والنصارى يدعون إلى دينهم صباحًا ومساءً، والمسلمون لا يتحركون، بل بعض المسلمين الذين ما عرفوا الإسلام حقيقة يلينون لهؤلاء، {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9] ، وهذا من المحنة التي أصابت المسلمين الآن، وآلت بهم إلى هذا الذل الذي صاروا فيه.(9/153)
باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما
لرفع البلاء أو دفعه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (من الشرك) ، من هنا للتبعيض؛ أي: أن هذا بعض الشرك، وليس كل الشرك، والشرك: اسم جنس يشمل الأصغر والأكبر، ولبس هذه الأشياء قد يكون أصغر وقد يكون أكبر بحسب اعتقاد لابسها، وكان لبس هذه الأشياء من الشرك؛ لأن كل من أثبت سببًا لم يجعله الله سببًا شرعيًّا ولا قدريًّا؛ فقد جعل نفسه شريكًا مع الله.
فمثلًا: قراءة الفاتحة سبب شرعي للشفاء.
وأكل المسهل سبب حسي لانطلاق البطن، وهو قدري؛ لأنه يعلم بالتجارب.
والناس في الأسباب طرفان ووسط:
الأول: من ينكر الأسباب، وهم كل من قال بنفي حكمة الله؛ كالجبرية، والأشعرية.
الثاني: من يغلو في إثبات الأسباب حتى يجعلوا ما ليس بسبب سببًا، وهؤلاء هم عامة الخرافيين من الصوفية ونحوهم.
الثالث: من يؤمن بالأسباب وتأثيراتها، ولكنهم لا يثبتون من الأسباب إلا ما أثبته الله سبحانه ورسوله، سواء كان سببًا شرعيًّا أو كونيًّا.
ولا شك أن هؤلاء هم الذين آمنوا إيمانًا حقيقيًّا، وآمنوا بحكمته؛ حيث ربطوا الأسباب بمسبباتها، والعلل بمعلولاتها، وهذا من تمام الحكمة.(9/154)
ولبس الحلقة ونحوها إن اعتقد لابسها أنها مؤثرة بنفسها دون الله؛ فهو مشرك شركًا أكبر في توحيد الربوبية؛ لأنه اعتقد أن مع الله خالقًا غيره.
وإن اعتقد أنها سبب ولكنه ليس مؤثرًا بنفسه؛ فهو مشرك شركًا أصغر؛ لأنه لما اعتقد أن ما ليس بسبب سببًا؛ فقد شارك الله تعالى في الحكم لهذا الشيء بأنه سبب، والله تعالى لم يجعله سببًا.
وطريق العلم بأن الشيء سبب:
إما عن طريق الشرع، وذلك كالعسل {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل:69] ، وكقراءة القرآن فيها شفاء للناس، قال الله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82] . وإما عن طريق القدر، كما إذا جربنا هذا الشيء فوجدناه نافعًا في هذا الألم أو المرض، ولكن لا بد أن يكون أثره ظاهرًا مباشرًا كما لو اكتوى بالنار فبرئ بذلك مثلًا؛ فهذا سبب ظاهر بين، وإنما قلنا هذا لئلا يقول قائل: أنا جربت هذا وانتفعت به، وهو لم يكن مباشرًا؛ كالحلقة، فقد يلبسها إنسان وهو يعتقد أنها نافعة، فينتفع لأن للانفعال النفسي للشيء أثرًا بينًا؛ فقد يقرأ إنسان على مريض فلا يرتاح له، ثم يأتي آخر يعتقد أن قراءته نافعة، فيقرأ عليه الآية نفسها فيرتاح له ويشعر بخفة الألم، كذلك الذين يلبسون الحلق ويربطون الخيوط، قد يحسون بخفة الألم أو اندفاعه أو ارتفاعه بناءً على اعتقادهم نفعها.
وخفة الألم لمن اعتقد نفع تلك الحلقة مجرد شعور نفسي، والشعور النفسي ليس طريقًا شرعيًّا لإثبات الأسباب، كما أن الإلهام ليس طريقًا للتشريع.
قوله: (لبس الحلقة والخيط) ، الحلقة: من حديد أو ذهب أو فضة أو ما أشبه ذلك، والخيط معروف.(9/155)
وقول الله تعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ} [الزمر: 38] .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ونحوهما) ، كالمرصعات، وكمن يصنع شكلًا معينًا من نحاس أو غيره لدفع البلاء، أو يعلق على نفسه شيئًا من أجزاء الحيوانات، والناس كانوا يعلقون القرب البالية على السيارات ونحوها لدفع العين، حتى إذا رآها الشخص نفرت نفسه فلا يعين.
قوله: (لرفع البلاء، أو دفعه) ، الفرق بينهما: أن الرفع بعد نزول البلاء، والدفع قبل نزول البلاء.
وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب لا ينكر السبب الصحيح للرفع أو الدفع، وإنما ينكر السبب غير الصحيح.
وقول الله تعالى: أفرأيتم؛ أي: أخبروني، وهذا تفسير باللازم؛ لأن من رأى أخبر، وإلا فهي استفهام عن رؤية، قال تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ} [الماعون: 1] ؛ أي: أخبرني ما حال من كذب بالدين؟ وهي تنصب مفعولين: الأول مفرد، والثاني جملة استفهامية.
وقوله: (ما) ، المفعول الأول لرأيتم، والمفعول الثاني جملة: (إن أرادني الله بضر) .
وقوله: (تدعون) ، المراد بالدعاء دعاء العبادة ودعاء المسألة؛ فهم يدعون هذه الأصنام دعاء عبادة، فيتعبدون لها بالنذر والذبح والركوع والسجود، ويدعونها دعاء مسألة لدفع الضرر أو جلب النفع.
فالله سبحانه إذا أراد ضرا لا تستطيع الأصنام أن تكشفه، وإن أراده(9/156)
برحمة لا تستطيع أن تمسك الرحمة عنه؛ فهي لا تكشف الضرر ولا تمنع النفع؛ فلماذا تعبد؟!
وقوله: كاشفات، يشمل الدفع والرفع؛ فهي لا تكشف الضر بدفعه وإبعاده، ولا تكشفه برفعه وإزالته.
وقوله: {قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ} ، أي: كافيني، والحسب: الكفاية، ومنه قوله تعالى: {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا} [النبأ: 36] ، من الحسب، وهو الكفاية، وحسبي: مبتدأ، ولفظ الجلالة خبر، وهذا أبلغ.
وقيل العكس، والراجح الأول؛ لوجهين:
الأول: أن الأصل عدم التقديم والتأخير.
الثاني: أن قولك: حسبي الله فيه حصر الحسب في الله، أي حسبي الله لا غيره؛ فهو كقولك: لا حسب لي إلا الله، بخلاف قولك: الله حسبي؛ فليس فيه الحصر المذكور؛ فلا يدل على حصر الحسب في الله.
قوله: {عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} . قدم الجار والمجرور لإفادة الحصر؛ لأن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر.
والمعنى أن المتوكل حقيقة هو المتوكل على الله، أما الذي يتوكل على الأصنام والأولياء والأضرحة؛ فليس بمتوكل على الله تعالى.
وهذا لا ينافي أن يوكل الإنسان إنسانًا في شيء ويعتمد عليه؛ لأن هناك فرقًا بين التوكل على الإنسان الذي يفعل شيئًا بأمرك، وبين توكلك على الله؛ لأن توكلك على الله اعتقادك أن بيده النفع والضر، وأنك متذلل، معتمد(9/157)
عن عمران بن حصين رضي الله عنه؛ «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى رجلًا في يده حلقة من صفر، فقال: (ما هذه) ؟ قال: من الواهنة. فقال: (انزعها؛ فإنها لا تزيدك إلا وهنًا، فإنك لو مت وهي عليك؛ ما أفلحت أبدًا» . (1) رواه أحمد بسند لا بأس به.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عليه، مفتقر إليه، مفوض أمرك إليه.
والشاهد من هذه الآية: أن الأصنام لا تنفع أصحابها لا بجلب نفع ولا بدفع ضر؛ فليست أسباب لذلك، فيقاس عليها كل ما ليس بسبب شرعي أو قدري؛ فيعتبر اتخاذه سببا إشراكا بالله.
وهناك شاهد آخر في قوله: حسبي الله؛ فإن فيه تفويض الكفاية إلى الله دون الأسباب الوهمية، وأما الأسباب الحقيقة؛ فلا ينافي تعاطيها توكل العبد على الله تعالى وتفويض الأمر إليه؛ لأنها من عنده.
قوله في حديث عمران: (رأى رجلا) . لم يبين اسمه؛ لأن المهم بيان القضية وحكمها، لكن ورد ما يدل على أنه عمران نفسه، لكنه أبهم نفسه.
قوله: «حلقة من صفر، فقال: ما هذه؟ قال: من الواهنة» ، والحلقة والصفر
__________
(1) مسند الإمام أحمد (4/445) ـ واللفظ له ـ، وابن ماجة (كتاب الطب، باب تعليق التمائم) وليس فيه: (فإنك لو مت …) إلخ. وفي (الزوائد) : (إسناده حسن؛ لأ، مبارك هذا هو ابن فضالة) . ورواه ابن حبان أيضاً (1410) بلفظ (إنك إن نمت وهي عليك وكلت إليها) . ومن طريق أبي عامر الخراز عن الحسن عن عمران بنحوه، رواه ابن حبان (1411) والحاكم (4/216) ، وصححه ووافقه الذهبي.(9/158)
معروفان، وأما الواهنة؛ فوجع في الذراع أو العضد.
(ما أفلحت) : الفلاح هو النجاة من المرهوب وحصول المطلوب.
هذا الحديث مناسب للباب مناسبة تامة؛ لأن هذا الرجل لبس حلقة من صفر؛ إما لدفع البلاء أو لرفعه.
والظاهر أنه لرفعه؛ لقوله: ( «لا تزيدك إلا وهنا» ، والزيادة تكون مبنية على أصل.
ففي الحديث دليل على عدة فوائد:
1 - أنه ينبغي لمن أراد إنكار المنكر أن يسأل أولا عن الحال؛ لأنه قد يظن ماليس بمنكرا، ودليله أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (ما هذه) .
والاستفهام هنا للاستعلام فيما يظهر وليس للإنكار، وقول الرجل: (من الواهنة) : من للسببية؛ أي: لبستها بسب الواهنة، وهي مرض يوهن الإنسان ويضعفه، قد يكون في الجسم كله وقد يكون في بعض الأعضاء كما سبق.
2 - وجوب إزالة المنكر؛ لقوله: (انزعها) ، فامره بنزعها؛ لأن لبسها منكر، وأيد ذلك بقوله: «إنها لا تزيدك إلا وهنا» ؛ أي: وهنا في النفس لا في الجسم، وربما تزيده وهنا في الجسم، أما وهن النفس؛ فلأن الإنسان إذا تعلقت نفسه بهذه الأمور ضعفت واعتمدت عليها ونسيت الاعتماد على الله عز وجل والانفعال النفسي له أثر كبير في إضعاف الإنسان؛ فأحيانا يتوهم الصحيح أنه مريض فيمرض، وأحيانا يتناسى الإنسان المرض وهو مريض فيصبح صحيحا؛ فانفعال النفس بالشيء له أثر بالغ، ولهذا تجد بعض الذين يصابون بالأمراض النفسية يكون أصل إصابتهم ضعف النفس من أول الأمر، حتى يظن الإنسان أنه مريض بكذا أو بكذا؛ فيزداد عليه الوهم حتى يصبح(9/159)
وله عن عقبة بن عامر مرفوعا: «من تعلق تميمة؛ فلا أتم الله له ومن تعلق ودعة؛ فلاودع الله له» . (1)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الموهوم حقيقة.
فهذا الذي لبس الحلقة من الواهنة لا تزيده إلا وهنا؛ لأنه سوف يعتقد أنها ما دامت عليه فهو سالم فإذا نزعها عاد إليه الوهن، وهذا بلا شك ضعف في النفس.
3 - أن الأسباب التي لا أثر لها يقتضي الشرع أو العادة أو التجربة لا ينتفع بها الإنسان.
4 - أن لبس الحلقة وشبهها لدفع البلاء أو رفعه من الشرك؛ لقوله: (لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا) ، وانتفاء الفلاح دليل على الخيبة والخسران.
ولكن هل هذا شرك أكبر أو أصغر؟
سبق لنا عند الترجمة أنه يختلف بحسب اعتقاد صاحبه.
5 - أن الأعمال بالخواتيم؛ لقوله: (لو مت وهي عليك) ؛ فعرف أنه لو أقلع عنها قبل الموت لم تضر؛ لأن الإنسان إذا تاب قبل أن يموت صار كمن لا ذنب له.
قوله: (من تعلق تميمة) : أي علق بها قلبه واعتمد عليها في جلب النفع ودفع الضرر. والتميمة: شيء يعلق على الأولاد من خرز أو غيره يتقون به العين.
وقوله: (فلا أتم الله له) . الجمله خبرية بمعنى الدعاء، ويحتمل أن تكون
__________
(1) مسند الإمام أحمد (4/154) ، والحاكم (4/216) ، وصححه ووافقه الذهبي.(9/160)
وفي رواية: «من تعلق تميمة؛ فقد أشرك» . (1)
ولابن أبي حاتم عن حذيفة: (أنه رأى رجلا في يده خيط من الحمى، وتلا قوله: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106.] .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
خبرية محضة، وكلا الاحتمالين دال على أن التميمة محرمة، سواء نفى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يتم الله له أو دعا بأن لا يتم الله له؛ فإن كان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أراد به الخبر فإننا نخبر بما أخبر به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإلا؛ فإننا ندعو بما دعا به الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ومثل ذلك قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ومن تعلق ودعة؛ فلا ودع الله له» .
والودعة: واحدة الودع، وهي أحجار تؤخذ من البحر يعلقونها لدفع العين، ويزعمون أن الإنسان إذا علق هذه الودعة لم تصبه العين، أو لا يصيبه الجن.
قوله: (لا ودع الله له) ، أي: لا تركه الله في دعة وسكون، وضد الدعة والسكون القلق والألم.
وقيل: لا ترك الله له خيرا؛ فعومل بنقيض قصده.
وقوله: (فقد أشرك) ، هذا الشرك يكون أكبر إن اعتقد أنها ترفع أو تدفع بذاتها دون أمر الله، وإلا؛ فهو أصغر.
قوله: (من الحمى) ، (من) هنا للسببية؛ أي: في يده خيط لبسه من أجل الحمى لتبرد عليه، أو يشفى منها.
قوله: (فقطعه) أي: قطع الخيط؛ وفعله هذا من تغيير المنكر باليد،
__________
(1) مسند الإمام أحمد (4/156) ، والحاكم (4/219،كتاب الطب)(9/161)
فيه مسائل:
الأولى: التغليظ في لبس الحلقة والخيط ونحوهما لمثل ذلك الثانية: أن الصحابي لو مات وهي عليه؛ ما أفلح. فيه شاهد لكلام الصحابة: أن الشرك الأصغر أكبر من الكبائر.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وهذا يدل على غيرة السلف الصالح وقوتهم في تغيير المنكر باليد وغيرها.
وقوله: وتلا قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} ، أي وتلا حذيفة هذه الآية. والمراد بها المشركون الذين يؤمنون بتوحيد الربوبية ويكفرون بتوحيد الألوهية.
قوله: {وَهُمْ مُشْرِكُونَ} في محل نصب على الحال؛ أي: وهم متلبسون بالشرك، وكلام حذيفة في رجل مسلم لبس خيطا لتبريد الحمى أو الشفاء منها. وفيه دليل على أن الإنسان قد يجتمع فيه إيمان وشرك، ولكن ليس الشرك الأكبر؛ لأن الشرك الأكبر لا يجتمع مع الإيمان، ولكن المراد هنا الشرك الأصغر، وهذا أمر معلوم.
قوله: (فيه مسائل) ، أي: في الباب مسائل:
الأولى: التغليظ في لبس الحلقة والخيط ونحوهما لمثل ذلك؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «انزعها -لا تزيدك إلا وهنا-، لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا» ، وهذا تغليظ عظيم في لبس هذه الأشياء والتعلق بها.
الثانية: أن الصحابي لو مات وهي عليه ما أفلح، هذا وهو صحابي فكيف بمن دون الصحابي؟! فهو أبعد عن الفلاح.(9/162)
الثالثة: أنه لم يعذر بالجهالة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قال المؤلف: (فيه شاهد لكلام الصحابة: أن الشرك الأصغر أكبر من الكبائر) .
قوله: (لكلام الصحابة) ؛ أي: لقولهم، وهو كذلك؛ فالشرك الأصغر أكبر من الكبائر، قال ابن مسعود رضي الله عنه: (لأن أحلف بالله كاذبا أحب إليَّ من أن أحلف بغيره صادقا) (1) وذلك لأن سيئة الشرك أعظم من سيئة الكبيرة؛ لأن الشرك لا يغفر ولو كان أصغر، بخلاف الكبائر؛ فإنها تحت المشيئة.
الثالثة: أنه لم يعذر بالجهالة. هذا فيه نظر؛ لأن قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا» ليس بصريح أنه لو مات قبل العلم، بل ظاهره: «لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا» ؛ أي: بعد أن علمت وأمرت بنزعها.
وهذه المسألة تحتاج إلى تفصيل؛ فنقول: الجهل نوعان:
جهل يعذر فيه الإنسان، وجهل لا يعذر فيه، فما كان ناشئا عن تفريط وإهمال مع قيام المقتضي للتعلم؛ فإنه لا يعذر فيه، سواء في الكفر أو في المعاصي، وما كان ناشئا عن خلاف ذلك، أي أنه لم يهمل ولم يفرط ولم يقم المقتضي للتعلم بأن كان لم يطرأ على باله أن هذا الشيء؛ فإنه يعذر فيه، فان كان منتسبا إلى الإسلام؛ لم يضره، وإن كان منتسبا إلى الكفر؛ فهو كافر في الدنيا، لكن في الآخرة أمره إلى الله على القول الراجح، فإن أطاع دخل الجنة، وإن عصى دخل النار.
__________
(1) مصنف عبد الرزاق (8/469) ، والهيثمي في (مجمع الزوائد) (4/177) ، وقال: أخرجه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح) .(9/163)
الرابعة: أنها لا تنفع في العاجلة؛ بل تضر، لقوله: (لا تزيدك إلا وهنا) . الخامسة: الإنكار بالتغليظ على من فعل مثل ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فعلى هذا من نشأ ببادية بعيدة ليس عنده علماء ولم يخطر بباله أن هذا الشيء حرام، أو أن هذا الشيء واجب؛ فهذا يعذر، وله أمثلة:
ومنها: رجل بلغ وهو صغير وهو في بادية ليس عنده عالم، ولم يسمع عن العلم شيئا، ويظن أن الإنسان لا تجب عليه العبادات إلا إذا بلغ خمس عشرة سنة، فبقي بعد بلوغه حتى تم له خمس عشرة سنة وهو لا يصوم ولا يصلي ولا يتطهر من جنابة؛ فهذا لا نأمره بالقضاء؛ لأنه معذور بجهله الذي لم يفرط فيه بالتعلم ولم يطرأ له على بال، وكذلك لو كانت أنثى أتاها الحيض وهي صغيرة وليس عندها من تسأل ولم يطرأ على بالها أن هذا الشيء واجب إلا إذا تم لها خمس عشرة سنة؛ فإنها تعذر إذا كانت لا تصوم ولا تصلي.
وأما من كان بالعكس كالساكن في المدن يستطيع أن يسأل، لكن عنده تهاون وغفلة؛ فهذا لا يعذر؛ لأن الغالب في المدن أن هذه الأحكام لا تخفى عليه ويوجد فيها علماء يستطيع أن يسألهم بكل سهولة؛ فهو مفرط، فيلزمه القضاء ولا يعذر بالجهل.
الرابعة: أنها لا تنفع في العاجلة, بل تضر؛ لقوله: «لا تزيدك إلا وهنا» . والمؤلف استنبط المسألة وأتى بوجه استنباطها.
الخامسة: الإنكار بالتغليظ على من فعل مثل ذلك، أي: ينبغي أن ينكر إنكارا مغلظا على من فعل مثل هذا، ووجه ذلك سياق الحديث الذي أشار إليه المؤلف، وأيضا قوله: «من تعلق تميمة؛ فلا أتم الله له» .(9/164)
السادسة: التصريح بأن من تعلق شيئا؛ وكل إليه (1) . السابعة: التصريح بأن من تعلق تميمة؛ فقد أشرك. الثامنة: أن تعليق الخيط من الحمى من ذلك. التاسعة: تلاوة حذيفة الآية دليل على أن الصحابة يستدلون بالآيات التي في الشرك الأكبر على الأصغر؛ كما ذكر ابن عباس في آية البقرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
السادسة: التصريح بأن من تعلق شيئا وكل إليه. تؤخذ من قوله: «من تعلق تميمة؛ فلا أتم الله له» إذا جعلنا الجملة خبرية، وأن من تعلق تميمة؛ فإن الله لا يتم له، فيكون موكولا إلى هذه التميمة، ومن وكل إلى مخلوق؛ فقد خذل، ولكنها في الباب الذي بعده صريحة، «من تعلق شيئا وكل إليه» .
السابعة: التصريح بأن من تعلق تميمة؛ فقد أشرك. وهو إحدى الروايتين في حديث عقبة بن عامر.
الثامنة: أن تعليق الخيط من الحمى من ذلك. يؤخذ من فعل حذيفة أنه رأى رجلا في يده خيط من الحمى فقطعه، وتلا قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} .
التاسعة: تلاوة حذيفة الآية دليل على أن الصحابة يستدلون بالآيات التي في الشرك الأكبر على الأصغر كما ذكر ابن عباس في آية البقرة.
__________
(1) مسند الإمام أحمد (4/130) ، والترمذي (أبواب الطب، باب ما في كراهة التعليق (7302) .(9/165)
العاشرة: أن تعليق الودع من العين من ذلك. الحادية عشرة: الدعاء على من تعلق تميمة أن الله لا يتم له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له؛ أي: ترك الله له.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أي: أن قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} في الشرك الأكبر، لكنهم يستدلون بالآيات الواردة في الشرك الأكبر على الأصغر؛ لأن الأصغر شرك في الحقيقة وإن كان لا يخرج من الملة، ولهذا نقول: الشرك نوعان: أصغر وأكبر.
وقوله: (كما ذكر ابن عباس في آية البقرة) وهي قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165] ؛ فجعل المحبة التي تكون كمحبة الله من اتخاذ الند لله عز وجل.
العاشرة: أن تعليق الودع من العين من ذلك، وقوله: (من ذلك) ؛ أي: من تعليق التمائم الشركية؛ لأنه لا أثر لها ثابت شرعا ولا قدرا.
الحادية عشرة: الدعاء على من تعلق تميمة أن الله لا يتم له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له؛ أي: ترك الله له. تؤخذ من دعاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على هؤلاء الذين اتخذوا تمائم وودعا، ليس هذا بغريب أن نؤمر بالدعاء على من خالف وعصى؛ فقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا سمعتم من ينشد الضالة في المسجد؛ فقولوا: لا ردها الله عليك» (1) ، «وإذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد؛ فقولوا: لا»
__________
(1) مسلم: كتاب المساجد /باب النهي عن نشد الضالة في المسجد(9/166)
«أربح الله تجارتك» . (1)
فهنا أيضا تقول له: لا أتم الله لك، ولكن الحديث إنما قاله الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على سبيل العموم؛ فلا نخاطب هذا بالتصريح ونقول لشخص رأينا عليه تميمة: لا أتم الله لك، وذلك لأن مخاطبتنا الفاعل بالتصريح والتعيين سوف يكون سببا لنفوره، ولكن نقول: دع التمائم أو الودع؛ فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «من تعلق تميمة؛ فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة؛ فلا ودع الله له» .
__________
(1) الترمذي: كتاب البيوع /باب النهي عن البيع في المسجد، 2/472، وحسنه وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وقال الألباني: (حديث صحيح) الإرواء 5/134.(9/167)
باب ما جاء في الرقى والتمائم
في الصحيح «عن أبي بشير الأنصاري رضي الله عنه؛ أنه كان مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بعض أسفاره، فأرسل رسولا: (أن يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قول المؤلف: باب ما جاء في الرقى والتمائم.
لم يذكر المؤلف أن هذا الباب من الشرك؛ لأن الحكم فيه يختلف عن حكم لبس الحلقة والخيط، ولهذا جزم المؤلف في الباب الأول أنها من الشرك بدون استثناء، أما هذا الباب؛ فلم يذكر أنها شرك؛ لأن من الرقى ما ليس بشرك، ولهذا قال: (باب ما جاء في الرقى والتمائم) .
قوله: (الرقى) ، جمع رقية، وهي القراءة؛ فيقال: رقى: رقى عليه -بالألف- من القراءة، ورقي عليه -بالياء- من الصعود.
قوله: (التمائم) ، جمع تميمة، وسميت تميمة؛ لأنهم يرون أنه يتم بها دفع العين.
قوله: (أسفاره) ، السفر: مفارقة محل الإقامة، وسمي سفرا؛ لأمرين:(9/168)
الأول: حسي، وهو أنه يسفر ويظهر عن بلده لخروجه من البنيان.
الثاني: معنوي، وهو أنه يسفر عن أخلاق الرجال؛ أي: يكشف عنها وكثير من الناس لا تعرف أخلاقهم وعاداتهم وطبائعهم إلا بالأسفار.
قوله: «قلادة من وتر، أو قلادة» ، شك من الراوي، والأول أرجح؛ لأن القلائد كانت تتخذ من الأوتار، ويعتقدون أن ذلك يدفع العين عن البعير، وهذا اعتقاد فاسد؛ لأنه تعلق بما ليس بسبب، وقد سبق أن التعلق بما ليس بسبب شرعي أو حسي شرك؛ لأنه يتعلقه أثبت للأشياء سببًا لم يثبته الله لا بشرعه ولا بقدره، ولهذا أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نقطع هذه القلائد.
أما إذا كانت هذه القلادة من غير وتر، وإنما تستعمل للقيادة كالزمام؛ فهذا لا بأس به لعدم الاعتقاد الفاسد، وكان الناس يعلمون ذلك كثيرًا من الصوف أو غيره.
قوله: (في رقبة بعير) ، ذكر البعير؛ لأن هذا هو الذي كان منتشرًا حينذاك؛ فهذا القيد بناءً على الواقع عندهم؛ فيكون كالتمثيل، وليس بمخصص.
يستفاد من الحديث:
1 - أنه ينبغي لكبير القوم أن يكون مراعيًا لأحوالهم؛ فيتفقدهم وينظر في أحوالهم.
2 - أنه يجب عليه رعايتهم بما تقتضيه الشريعة؛ فإذا فعلوا محرمًا منعهم منه، وإن تهاونوا في واجب حثهم عليه.
3 - أنه لا يجوز أن تعلق في أعناق الإبل أشياء تجعل سببًا في جلب منفعة أو دفع مضرة، وهي ليست كذلك لا شرعًا ولا قدرًا؛ لأنه شرك، ولا(9/169)
وعن ابن مسعود رضي الله عنه؛ قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «إن الرقى والتمائم والتولة شرك» . رواه أحمد وأبو داود (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يلزم أن تكون القلادة في القربة، بل لو جعلت في اليد أو الرجل؛ فلها حكم الرقبة؛ لأن العلة هي هذه القلادة، وليس مكان وضعها؛ فالمكان لا يؤثر.
4 - أنه يجب على من يستطيع تغيير المنكر باليد أن يغيره بيده.
قوله: (إن الرقى) ، جمع رقية، وهذه ليست على عمومها، بل هي عام أريد به خاص، وهو الرقى بغير ما ورد به الشرع، أما ما ورد به الشرع؛ فليست من الشرك، «قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الفاتحة: (وما يدريك أنها رقية) » .
وهل المراد بالرقى في الحديث ما لم يدر به الشرع ولو كانت مباحة، أو المراد ما كان في شرك؟
الجواب: الثاني؛ لأن كلام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يناقض بعضه بعضًا؛ فالرقى المشروعة التي ورد بها الشرع جائزة.
وكذا الرقى المباحة التي يرقى بها الإنسان المريض بدعاء من عنده ليس فيه شرك جائز أيضًا.
قوله: (التمائم) ، فسرها المؤلف بقوله: (شيء يعلق على الأولاد يتقون
__________
(1) مسند الإمام أحمد (1/381) وحسن إسناده أحمد شاكر (3615) ، وأبو داود (كتاب الطب، باب في تعليق التمائم، 5/212) ، والحاكم في (الرقى والتمائم، 4/418) ـ وقال: (صحيح الإسناد على شرط الشيخين) ، وأقره الذهبي.(9/170)
به العين) ، وهي من الشرك؛ لأن الشارع لم يجعلها سببًا تتقى به العين.
وإذا كان الإنسان يلبس أبناءه ملابس رثة وبالية خوفًا من العين؛ فهل هذا جائز؟
الظاهر أنه لا بأس به؛ لأنه لم يفعل شيئاً، وإنما ترك شيئًا، وهو التحسين والتجميل، وقد ذكر ابن القيم في (زاد المعاد) أن عثمان رأى صبيًّا مليحًا، فقال: دسموا نونته، والنونة: هي التي تخرج في الوجه عندما يضحك الصبي كالنقوة، ومعنى دسموا؛ أي: سودوا.
وأما الخط: وهي أوراق من القرآن تجمع وتوضع في جلد ويخاط عليها، ويلبسها الطفل على يده أو رقبته؛ ففيها خلاف بين العلماء.
وظاهر الحديث: أنها ممنوعة، ولا تجوز.
ومن ذلك أن بعضهم يكتب القرآن كله بحروف صغيرة في أوراق صغيرة، ويضعها في صندوق صغير، ويعلقها على الصبي، وهذا مع أنه محدث؛ فهو إهانة للقرآن الكريم؛ لأن هذا الصبي سوف يسيل عليه لعابه، وربما يتلوث بالنجاسة، ويدخل به الحمام والأماكن القذرة، وهذا كله إهانة للقرآن.
ومع الأسف أن بعض الناس اتخذوا من العبادات نوعًا من التبرك فقط؛ مثل ما يشاهد من أن بعض الناس يمسح الركن اليماني من باب التبرك لا التعبد، وهذا جهل، وقد قال عمر في الحجر: (إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقبلك ما قبلتك) .(9/171)
وعن عبد الله بن عكيم مرفوعًا: «من تعلق شيئًا؛ وكل إليه» رواه أحمد والترمذي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (التولة) ، شيء يعلقونه على الزوج، يزعمون أنه يحبب الزوجة إلى زوجها والزوج إلى امرأته، وهذا شرك؛ لأنه ليس بسبب شرعي ولا قدري للمحبة.
ومثل ذلك الدبلة، والدبلة: خاتم يشترى عند الزواج يوضع في يد الزوج، وإذا ألقاه الزوج؛ قالت المرأة: إنه لا يحبها؛ فهم يعتقدون فيه النفع والضرر، ويقولون: إنه ما دام في يد الزوج؛ فإنه يعني أن العلاقة بينهما ثابتة، والعكس بالعكس، فإذا وجدت هذه النية؛ فإنه من الشرك الأصغر، وإن لم توجد هذه النية -وهي بعيدة ألا تصحبها-؛ ففيه تشبه بالنصارى، فإنها مأخوذة منهم.
وإن كانت من الذهب؛ فهي بالنسبة للرجل فيها محذور ثالث وهو لبس الذهب؛ فهي إما من الشرك، أو مضاهاة النصارى، أو تحريم النوع إن كانت للرجال، فإن خلت من ذلك فهي جائزة لأنها خاتم من الخواتم.
وقوله: (شرك) ، هل هي شرك أصغر أو أكبر؟
نقول: بحسب ما يريد الإنسان منها إن اتخذها معتقدًا أن المسبب للمحبة هو الله؛ فهي شرك أصغر، وإن اعتقد أنها تفعل بنفسها؛ فهي شرك أكبر.
قوله: (من تعلق) ، أي: اعتمد عليه وجعله همه ومبلغ علمه، وصار(9/172)
يعلق رجاءه به وزوال خوفه به.
قوله: (شيئًا) نكرة في سياق الشرط؛ فتعم جميع الأشياء، فمن تعلق بالله سبحانه وتعالى، وجعل رغبته ورجاءه فيه وخوفه منه؛ فإن الله تعالى يقول: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] ؛ أي: كافيه، ولهذا كان من دعاء الرسل وأتباعهم عند المصائب والشدائد: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} ، قالها إبراهيم حين ألقي في النار, وقالها محمد وأصحابه حين قيل لهم: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران: 173] .
قوله: (وكل إليه) أي: أسند إليه، وفوض.
أقسام التعلق بغير الله:
الأول: ما ينافي التوحيد من أصله، وهو أن يتعلق بشيء لا يمكن أن يكون له تأثير، ويعتمد عليه اعتمادًا معرضًا عن الله، مثل تعلق عباد القبور بمن فيها عند حلول المصائب، ولهذا إذا مستهم الشراء الشديدة يقولون: يا فلان! أنقذنا؛ فهذا لا شك أنه شرك أكبر مخرج من الملة.
الثاني: ما ينافي كمال التوحيد، وهو أن يعتمد على سبب شرعي صحيح من الغفلة عن المسبب، وهو الله عز وجل، وعدم صرف قلبه إليه؛ فهذا نوع من الشرك، ولا نقول شرك أكبر؛ لأن هذا السبب جعله الله سببًا.
الثالث: أن يتعلق بالسبب تعلقًا مجردًا لكونه سببًا فقط، مع اعتماده الأصلي على الله؛ فيعتقد أن هذا السبب من الله، وأن الله لو شاء لأبطل أثره،(9/173)
(التمائم) : شيء يعلق على الأولاد يتقون به العين. لكن إذا كان المعلق من القرآن؛ فرخص فيه بعض السلف، وبعضهم لم يرخص فيه، ويجعله من المنهي عنه، منهم ابن مسعود رضي الله عنه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ولو شاء لأبقاه، وأنه لا أثر للسبب إلا بمشيئة الله عز وجل؛ فهذا لا ينافي التوحيد لا كمالًا ولا أصلًا، وعلى هذا لا إثم فيه.
ومع وجود الأسباب الشرعية الصحيحة ينبغي للإنسان أن لا يعلق نفسه بالسبب، بل يعلقها بالله.
فالموظف الذي يتعلق قلبه بمرتبه تعلقًا كاملًا، مع الغفلة عن المسبب، وهو الله، قد وقع في نوع من الشرك، أما إذا اعتقد أن المرتب سبب والمسبب هو الله سبحانه وتعالى، وجعل الاعتماد على الله، وهو يشعر أن المرتب سبب؛ فهذا لا ينافي التوكل.
وقد كان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأخذ بالأسباب مع اعتماده على المسبب, وهو الله عز وجل.
وجاء في الحديث: (من تعلق) ، ولم يقل: من علق؛ لأن المتعلق بالشيء يتعلق به بقلبه وبنفسه، بحيث ينزل خوفه ورجاءه وأمله به, وليس كذلك من علق.
قوله: (إذا كان المعلق من القرآن. . .) إلخ.
إذا كان المعلق من القرآن أو الأدعية المباحة والأذكار الواردة؛ فهذه(9/174)
المسألة اختلف فيها السلف رحمهم الله؛ فمنهم من رخص في ذلك لعموم قوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82] ولم يذكر الوسيلة التي نتوصل بها إلى الاستشفاء بهذا القرآن؛ فدل على أن كل وسيلة يتوصل بها إلى ذلك فهي جائزة، كما لو كان القرآن دواء حسيًّا.
ومنهم من منع ذلك وقال: لا يجوز تعليق القرآن للاستشفاء به؛ لأن الاستشفاء بالقرآن ورد على صفة معينة، وهي القراءة به، بمعنى أنك تقرأ على المريض به؛ فلا نتجاوزها، فلو جعلنا الاستشفاء بالقرآن على صفة لم ترد؛ فمعنى ذلك أننا فعلنا سببًا ليس مشروعًا (1) ، وقد نقله المؤلف رحمه الله عن ابن مسعود رضي الله عنه.
ولولا الشعور النفسي بأن تعليق القرآن سبب للشفاء؛ لكان انتفاء السببية على هذه الصورة أمرًا ظاهرًا؛ فإن التعليق ليس له علاقة بالمرض، بخلاف النفث على مكان الألم؛ فإنه يتأثر بذلك.
ولهذا نقول؛ الأقرب أن يقال: إنه لا ينبغي أن تعلق الآيات للاستشفاء بها، لا يسما وأن هذا المعلق قد يفعل أشياء تنافي قدسية القرآن؛ كالغيبة مثلًا، ودخول بيت الخلاء، وأيضًا إذا علق وشعر أن به شفاء استغنى به عن القراءة المشروعة؛ فمثلًا: علق آية الكرسي على صدره، وقال: ما دام أن آية الكرسي على صدري فلن أقرأها، فيستغني بغير المشروع عن المشروع، وقد يشعر بالاستغناء عن القراءة المشروعة إذا كان القرأن على صدره.
__________
(1) انظر: (مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد العثيمين) ، (1/58) .(9/175)
و (الرقى) : هي التي تسمى العزائم، وخص منها الدليل ما خلا من الشرك؛ فقد رخص فيه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من العين والحمة.
و (التولة) : هي شيء يصنعونه يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها والرجل إلى امرأته.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وإن كان صبيا؛ فربما بال ووصلت الرطوبة إلى هذا المعلق، وأيضًا لم يرد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه شيء.
فالأقرب أن يقال: إنه لا يفعل، أما أن يصل إلى درجة التحريم؛ فأنا أتوقف فيه، لكن إذا تضمن محظورًا؛ فإنه محرمًا بسبب ذلك المحظور.
قوله: (التي تسمى العزائم) . أي: في عرف الناس، وعزم عليه؛ أي: قرأ عليه، وهذه عزيمة؛ أي قراءة.
قوله: (وخص منها الدليل ما خلا من الشرك) ، أي: الأشياء الخالية من الشرك؛ فهي جائزة، سواء كان مما ورد بلفظه مثل: «اللهم رب الناس! أذهب الباس، اشف أنت الشافي» . . .) ، أو لم يرد بلفظه مثل: «اللهم عافه، اللهم اشفه» ، وإن كان فيها شرك؛ فإنها غير جائزة، مثل: (يا جني! أنقده، ويا فلان الميت! اشفه) ، ونحو ذلك.(9/176)
قوله: (من العين والحمة) ، سبق تعريفهما في باب من حقق التوحيد دخل الجنة.
وظاهر كلام المؤلف أن الدليل يرخص بجواز القراءة إلا في هذين الأمرين: (العين، والحمة) ، لكن ورد بغيرهما؛ فقد «كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينفخ على يديه عند منامه بالمعوذات، ويمسح بهما ما استطاع من جسده» ، وهذا من الرقية، وليس عيبًا ولا حمة.
ولهذا يرى بعض أهل العلم الترخيص في الرقية من القرآن للعين والحمة وغيرهما عام، ويقول: إن معنى قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا رقية إلا من عين أو حمة» ؛ أي: لا استرقاء إلا من عين أو حمة، والاسترقاء: طلب الرقية؛ فالمصيب بالعين -وهو (العائن) - يطلب منه أن يقرأ على المعيون.
وكذلك الحمة يطلب الإنسان من غيره أن يقرأ عليه؛ لأنه مفيد كما في حديث أبي سعيد في قصة السرية.
شروط جواز الرقية:
الأول: أن لا يعتقد أنها تنفع بذاتها دون الله، فإن اعتقد أنها تنفع بذاتها من دون الله؛ فهو محرم، بل شرك، بل يعتقد أنها سبب لا تنفع إلا بإذن الله.
الثاني: أن لا تكون مما يخالف الشرع؛ كما إذا كانت متضمنة دعاء غير الله، أو استغاثة بالجن، وما أشبه ذلك؛ فإنها محرمة، بل شرك.
الثالث: أن تكون مفهومة معلومة، فإن كانت من جنس الطلاسم(9/177)
وروى أحمد عن رويفع؛ قال: قال لي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يا رويفع! لعل الحياة ستطول بك؛ فأخبر الناس أن من عقد لحيته، أو تقلد وترًا، أو استنجى برجيع دابة أو عظم؛ فإن محمدًا بريء منه» . (1)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والشعوذة؛ فإنها لا تجوز.
أما بالنسبة للتمائم؛ فإن كانت من أمر محرم، أو اعتقد أنها نافعة لذاتها، أو كانت بكتابة لا تفهم؛ فإنها لا تجوز بكل حال.
وإن تمت فيها الشروط الثلاثة السابقة في الرقية؛ فإن أهل العلم اختلفوا فيها كما سبق.
قوله: (من عقد لحيته) ، اللحية عند العرب كانت لا تقص ولا تحلق، كما أن ذلك هو السنة، لكنهم كانوا يعقدون لحاهم لأسباب:
منها: الافتخار والعظمة، فتجد أحدهم يعقد أطرافها، أو يعقدها من الوسط عقدة واحدة ليعلم أنه رجل عظيم، وأنه سيد في قومه.
الثاني: الخوف من العين؛ لأنها إذا كانت حسنة وجميلة ثم عقدت أصبحت قبيحة، فمن عقدها لذلك؛ فإن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بريء منه.
وبعض العامة إذا جاءهم طعام من السوق أخذوا شيئًا منه يرمونه في الأرض؛ دفعًا للعين، وهذا اعتقاد فاسد ومخالف لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا»
__________
(1) مسند الإمام أحمد (4/108، 109) .(9/178)
وعن سعيد بن جبير؛ قال: (من قطع تميمة من إنسان؛ كان كعدل رقبة) . رواه وكيع (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«سقطت لقمة أحدكم؛ فليمط ما بها من الأذى، وليأكلها» .
قوله: (أو تقلد وتراً) ، الوتر: سلك من العصب يؤخذ من الشاة، وتتخذ للقوس وترًا، ويستعملونها في أعناق إبلهم أو خيلهم، أو في أعناقهم، يزعمون أنه يمنع العين، وهذا من الشرك.
قوله: «أو استنجى برجيع دابة» ، الاستنجاء: مأخوذ من النجو، وهو إزالة أثر الخارج من السبيلين؛ لأن الإنسان الذي يتمسح بعد الخلاء يزيل أثره.
ورجيع الدابة: هو روثها.
قوله: (أو عظم) . العظم معروف، وإنما تبرأ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ممن استنجى بهما؛ لأن الروث علف بهائم الجن والعظم طعامهم، يجدونه أوفر ما يكون لحمًا.
وكل ذنب قرن بالبراءة من فاعله؛ فهو من كبائر الذنوب، كما هو معروف عند أهل العلم.
الشاهد من هذا الحديث قوله: (من تقلد وترًا) .
قوله: وعن سعيد بن جبير؛ قال: (من قطع تميمة. . .) الحديث.
قوله: (كعدل رقبة) بفتح العين لأنه من غير الجنس، والمعادلة من الجنس
__________
(1) مصنف ابن أبي شيبة: كتاب الطب/ باب في تعليق التمائم والرقى(9/179)
وله عن إبراهيم؛ قال: (كانوا يكرهون التمائم كلها من القرآن وغير القرآن) . (1)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بكسر العين، ووجه المشابهة بين قطع التميمة وعتق الرقبة: أنه إذا قطع التميمة من إنسان؛ فكأنه أعتقه من الشرك، ففكه من النار، ولكن يقطعها بالتي هي أحسن؛ لأن العنف يؤدي إلى المشاحنة والشقاق، إلا إن كان ذا شأن كالأمير، والقاضي، ونحوه ممن له سلطة؛ فله أن يقطعها مباشرة.
قوله: (كانوا يكرهون التمائم كلها من القرآن وغير القرآن) ، وقد سبق أن هذا رأي ابن مسعود رضي الله عنه؛ فأصحابه يرون ما يراه.
قوله: (وله عن إبراهيم) ، وهو إبراهيم النخعي.
قوله: (كانوا) ، الضمير يعود إلى أصحاب ابن مسعود؛ لأنهم هم قرناء إبراهيم النخعي.
قوله: (التمائم) ، هي ما يعلق على المريض أو الصحيح, سواء من القرآن أو غيره للاستشفاء أو لاتقاء العين، أو ما يعلق على الحيوانات.
وفي هذا الوقت أصبح تعليق القرآن لا للاستشفاء، بل لمجرد التبرك والزينة؛ كالقلائد الذهبية، أو الحلي التي يكتب عليها لفظ الجلالة، أو آية الكرسي، أو القرآن كاملًا؛ فهذا كله من البدع.
__________
(1) مصنف ابن أبي شيبة: كتاب الطب/ باب في تعليق التمائم والرقى.(9/180)
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الرقى والتمائم. الثانية: تفسير التولة. الثالثة: أن هذه الثلاثة كلها من الشرك من غير استثناء.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فالقرآن ما نزل ليستشفى به على هذا الوجه، إنما يستشفى به على ما جاء به الشرع.
قوله: الأولى: تفسير الرقى والتمائم، وقد سبق ذلك.
الثانية: تفسير التولة، وقد سبق ذلك، وعندي أن منها ما يسمى بالدبلة إن اعتقدوا أنها صلة بين المرء وزوجته.
الثالثة: أن هذه الثلاثة كلها من الشرك من غير استثناء، ظاهر كلامه حتى الرقى، وهذا فيه نظر؛ لأن الرقى «ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه يرقي ويرقى» ، ولكنه لا يسترقي؛ أي: لا يطلب الرقية؛ فإطلاقها بالنسبة للرقى فيه نظر، وقد سبق للمؤلف رحمه الله أن الدليل خص منها ما خلا من الشرك، وبالنسبة للتمائم، فعلى رأي الجمهور فيه نظر أيضًا.
وأما على رأي ابن مسعود؛ فصحيح، وبالنسبة للتولة؛ فهي شرك بدون استثناء.(9/181)
الرابعة: أن الرقية بالكلام الحق من العين والحمة ليس من ذلك. الخامسة: أن التميمة إذا كانت من القرآن؛ فقد اختلف العلماء؛ هل هي من ذلك أم لا؟ السادسة: أن تعليق الأوتار على الدواب عن العين من ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الرابعة: أن الرقية بالكلام الحق من العين أو الحمة ليس من ذلك.
قوله: (الكلام الحق) ، ضده الباطل، وكذا المجهول الذي لا يعلم أنه حق أو باطل.
والمؤلف رحمه الله تعالى خصص العين أو الحمة فقط استنادا لقول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا رقية إلا من عين أو حمة» ، ولكن الصحيح أنه يشمل غيرهما؛ كالسحر.
الخامسة: أن التميمة إذا كانت من القرآن؛ فقد اختلف العلماء: هل هي من ذلك أم لا؟ قوله: (ذلك) المشار إليه: التمائم المحرمة.
وقد سبق بيان هذا الخلاف والأحوط مذهب ابن مسعود؛ لأن الأصل عدم المشروعية حتى يتبين ذلك من السنة.
السادسة: أن تعليق الأوتار على الدواب عن العين من ذلك، أي: من الشرك.(9/182)
السابعة: الوعيد الشديد على من تعلق وترا. الثامنة: فضل ثواب من قطع تميمة من إنسان.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(تنبيه) :
ظهر في الأسواق في الآونة الأخيرة حلقة من النحاس يقولون: إنها تنفع من الروماتيزم، يزعمون أن الإنسان إذا وضعها على عضده وفيه روماتيزم نفعته من هذا الروماتيزم، ولا ندري هل هذا صحيح أم لا؟ لكن الأصل أنه ليس بصحيح؛ لأنه ليس عندنا دليل شرعي ولا حسي يدل على ذلك، وهي لا تؤثر على الجسم؛ فليس فيها مادة دهنية حتى نقول: إن الجسم يشرب هذه المادة وينتفع بها؛ فالأصل أنها ممنوعة حتى يثبت لنا بدليل صحيح صريح واضح أن لها اتصالا مباشرا بهذا الروماتيزم حتى ينتفع بها.
السابعة: الوعيد الشديد على من تعلق وترا، وذلك لبراءة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ممن تعلق وترًا، بل ظاهره أنه كفر مخرج من الملة، قال تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 3] ، لكن قال أهل العلم: إن البراءة هنا براءة من هذا الفعل؛ كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من غشنا؛ فليس منا» . الثامنة: فضل ثواب من قطع تميمة من إنسان، لقول سعيد بن جبير: (كان كعدل رقبة) ، ولكن هل قوله حجة أو لا؟
إن قيل: ليس بحجة؛ فكيف يقول المؤلف: فضل ثواب من قطع تميمة(9/183)
التاسعة: أن كلام إبراهيم لا يخالف ما تقدم من الاختلاف؛ لأن مراده أصحاب عبد الله بن مسعود.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
من إنسان؟ !
فيقال: إنه إنما كان كذلك؛ لأنه إنقاذ له من رق الشرك؛ فهو كمن أعتقه، بل أبلغ.
فهو من باب القياس، فمن أنقذ نفسًا من الشرك؛ فهو كمن أنقذها من الرق لأنه أنقذه من رق الشيطان والهوى.
فائدة:
إذا قال التابعي: من السنة كذا؛ فهل يعتبر موقوفًا متصلًا ويكون المراد من السنة أي سنة الصحابة، أو يكون مرفوعًا مرسلًا.
وتقدم لنا أنه ينبغي أن يفصل في هذا، وإن التابعي إذا قاله محتجًّا به؛ فإنه يكون مرفوعًا مرسلًا، أما إذا قاله في سياق غير الاحتجاج؛ فهذا قد يقال: إنه من باب الموقوف الذي ينسب إلى الصحابي.
التاسعة: أن كلام إبراهيم النخعي لا يخالف ما تقدم من الاختلاف؛ لأن مراده أصحاب عبد الله بن مسعود، وليس مراده الصحابة، ولا التابعين عمومًا.(9/184)
باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (تبرك) ، تفعل من البركة، والبركة: هي كثرة الخير وثبوته، وهي مأخوذة من البركة بالكسر، والبركة: مجمع الماء، ومجمع الماء يتميز عن مجرى الماء بأمرين:
1 - الكثرة.
2 - الثبوت.
والتبرك طلب البركة، وطلب البركة لا يخلو من أمرين:
1 - أن يكون التبرك بأمر شرعي معلوم؛ مثل القرآن، قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ} [ص:29] ، فمن بركته أن من أخذ به حصل له الفتح، فأنقذ الله بذلك أمما كثيرة من الشرك، ومن بركته أن الحرف الواحد بعشر حسنات، وهذا يوفر للإنسان الوقت والجهد، إلى غير ذلك من بركاته الكثيرة.
2 - أن يكون بأمر حسي معلوم؛ مثل: التعليم، والدعاء، ونحوه؛ فهذا الرجل يتبرك بعلمه ودعوته إلى الخير؛ فيكون هذا بركة لأننا نلنا منه خيرا كثيرا.
وقال أسيد بن حضير: (ما هذه بأول بركتكم يا آل أبي بكر) ؛ فإن الله يجري على بعض الناس من أمور الخير ما لا يجريه على يد الآخر.
وهناك بركات موهومة باطلة؛ مثل ما يزعمه الدجالون: أن فلانا الميت(9/185)
الذي يزعمون أنه ولي أنزل عليكم من بركته وما أشبه ذلك؛ فهذه بركة باطلة، لا أثر لها، وقد يكون للشيطان أثر في هذا الأمر، لكنها لا تعدو أن تكون آثارا حسية، بحيث إن الشيطان يخدم هذا الشيخ؛ فيكون في ذلك فتنة.
أما كيفية معرفة هل هذه من البركات الباطلة أو الصحيحة؛ فيعرف ذلك بحال الشخص، فإن كان من أولياء الله المتقين المتبعين للسنة المبتعدين عن البدعة؛ فإن الله قد يجعل على يديه من الخير والبركة ما لا يحصل لغيره.
ومن ذلك ما جعل الله على يد شيخ الإسلام ابن تيمية من البركة التي انتفع بها الناس في حياته وبعد موته.
أما إن كان مخالفا للكتاب والسنة، أو يدعو إلى باطل؛ فإن بركته موهومة، وقد تضعها الشياطين له مساعدة على باطله، وذلك مثل ما يحصل لبعضهم أنه يقف مع الناس في عرفة ثم يأتي إلى بلده ويضحي مع أهل بلده.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن الشياطين تحملهم لكي يغتر بهم الناس، وهؤلاء وقع منهم مخالفات، منها: عدم إتمام الحج، ومنها أنهم يمرون بالميقات ولا يحرمون منه. (1)
قوله: (شجر) ، اسم جنس؛ فيشمل أي شجرة تكون، ومن حسنات أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لما رأى الناس ينتابون الشجرة التي وقعت تحتها بيعة الرضوان أمر بقطعها.
قوله: (وحجر) ، اسم جنس يشمل أي حجر كان حتى الصخرة التي في بيت المقدس؛ فلا يتبرك بها، وكذا الحجر الأسود لا يتبرك به، وإنما يتعبد لله
__________
(1) (مجموع الفتاوى) (1/83) .(9/186)
وقول الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} الآيات [النجم:19] .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بمسحه وتقبيله؛ اتباعا للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبذلك تحصل بركة الثواب.
ولهذا قال عمر رضي الله عنه: (إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقبلك؛ ما قبلتك) .
فتقبيله عبادة محضة خلافا للعامة، يظنون أن به بركة حسية، ولذلك إذا استلمه بعض هؤلاء مسح على جميع بدنه تبركا بذلك.
قوله: (ونحوهما) ، أي: من البيوت، والقباب، والحجر؛ حتى حجرة قبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فلا يتمسح بها تبركا، لكن لو مسح الحديد لينظر هل هو أملس أو لا؛ فلا بأس، إلا إن خشي أن يقتدى به؛ فلا يمسحه.
* * *
قوله: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} ، لما ذكر الله عز وجل المعراج بقوله: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} . . . [النجم:1، 2] ، قال: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:18] ؛ أي رأى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من آيات الله الكبرى. وقد اختلف العلماء في قوله: الكبرى: هل هي مفعول ل (رأى) ، أو صفة ل (آيات) ؟
وقوله: الكبرى قيل: إنها مفعول ل رأى، والتقدير: لقد رأى من آيات الله الكبرى.
فعلى الأول: يكون المعنى: أنه رأى الكبرى من الآيات.(9/187)
وعلى الثاني: يكون المعنى: أنه رأى بعض الآيات الكبرى، وهذا هو الصحيح، أن الكبرى صفة ل آيات، وليست مفعولا ل رأى؛ إذ إن ما رآه ليس أكبر آيات الله.
وبعد أن ذكر الله ما رأى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من هذه الآيات؛ قال: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} ؛ أي: أخبروني ما شأنها، وما حالها بالنسبة إلى هذه الآيات العظيمة، إنها ليست بشيء.
والاستفهام: للاستخفاف والاستهجان بهذه الأصنام.
قوله: اللات، تقرأ بتشديد التاء وتخفيفها، والتشديد قراءة ابن عباس؛ فعلى قراءة التشديد تكون اسم فاعل من اللت، وكان هذا الصنم أصله رجل يلت السويق للحجاج؛ أي: يجعل فيه السمن، ويطعمه الحجاج، فلما مات عكفوا على قبره وجعلوه صنما.
وأما على قراءة التخفيف؛ فإن اللات مشتقة من الله، أو من الإله؛ فهم اشتقوا من أسماء الله اسما لهذا الصنم، وسموه اللات، وهي لأهل الطائف ومن حولهم من العرب.
وقوله: العزى، مؤنث أعز، وهو صنم يعبده قريش وبنو كنانة مشتق من اسم الله العزيز كان بنخلة بين مكة والطائف.
قوله: ومناة، قيل: مشتقة من المنان، وقيل: من منى؛ لكثرة ما يمنى عنده من الدماء بمعنى يراق، ومنه سميت منى؛ لكثرة ما يراق فيها من الدماء.
وكان هذا الصنم بين مكة والمدينة لهذيل وخزاعة، وكان الأوس والخزرج يعظمونها ويهلون منها للحج.
قوله: {الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} ، إشارة إلى أن التي تعظمونها، وتذبحون(9/188)
عندها، وتكثر إراقة الدماء حولها: أنها أخرى بمعنى متأخرة؛ أي: ذميمة حقيرة: مأخوذة من قولهم: فلان أخر؛ أي: ذميم، حقير، متأخر.
فهذه الأصنام الثلاثة المعبودة عند العرب ما حالها بالنسبة لما رأى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
لا شي، وإنما ذكر هذه الأصنام الثلاثة لأنها أشهر الأصنام وأعظمها عند العرب.
قوله: (الآيات) ، أي: أكمل الآيات بعدها.
قوله: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى} ، هذا أيضا استفهام إنكاري على المشركين الذين يجعلون لله البنات ولهم البنين، فإذا ولد لهم الذكر فرحوا واستبشروا به، وإذا ولدت الأنثى ظل وجه الإنسان منهم مسودا، وهو كظيم، ومع ذلك يقولون: الملائكة بنات الله؛ فيجعلون البنات لله والعياذ بالله ولهم ما يشتهون.
قوله: {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} ، ضيزى: جائرة؛ لأنه على الأقل إذا أردتم القسمة؛ فاجعلوا لكم من البنات نصيبا، واجعلوا لله من البنين نصيبا، أما أن تجعلوا ما تختارونه لأنفسكم، وهم البنون، وتجعلون ما تكرهون لله؛ فهذه قسمة جائرة.
قوله: إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان، الضمير في (هي) يعود إلى الأصنام؛ أي: هذه الأصنام (اللات والعزى ومناة) التي سميتموها آلهة واتخذتموها آلهة تعبدونها هي مجرد أسماء سميتموها، ولكن ما أنزل الله بها من سلطان؛ أي: من حجة ودليل.
بل أبطلها الله سبحانه، قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62] .(9/189)
وأصل السلطان في اللغة العربية: ما به سلطة، فإن كان في مقام العلم؛ فهو العلم، وإن كان في مقام القدوة؛ فهو القدوة، وإن كان في مقام الأمر والنهي؛ فهو من له الأمر والنهي؛ فمثلا قوله تعالى: {لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن:33] ؛ أي: بقدرة وقوة، ومثل قوله تعالى: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم:23] ؛ أي: من حجة وبرهان.
وفي الحديث: «السلطان ولي من لا ولي له» (1) ؛ أي: من له الأمر والنهي.
قوله: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} ، (إن) هنا بمعنى ما، وعلامة إن التي بمعنى ما أن تأتي بعدها إلا، قال تعالى: {إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف:31] ، يعني ما هذا إلا ملك كريم، وقال تعالى: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:25] ؛ أي: ما هو إلا قول البشر، وقال تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} [النجم: 23] ؛ أي: ما يتبعون إلا الظن.
والظن الذي يتبعونه هو أنها آلهة، وأن لله البنات ولهم البنون، والظن لا يغني من الحق شيئا؛ كما قال تعالى في آية أخرى.
قوله: {وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} ، كذلك أيضا يتبعون ما تهوى الأنفس، وهذا أضر شيء على الإنسان أن يتبع ما يهوى؛ فالإنسان الذي يعبد الله بالهوى؛ فإنه لا يعبد الله حقا، إنما يعبد عقله وهواه، قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:23] ، لكن الذي يعبد الله
__________
(1) مسند الإمام أحمد (1/47) وسنن أبي داود: كتاب النكاح/ باب في الولي، 2/568 ـ وسكت عنه ـ، والترمزي: كتاب النكاح / باب لا نكاح إلا بولي، رقم 1102 ـ وقال: (حديث حسن) ـ.(9/190)
وعن أبي واقد الليثي؛ قال: «خرجنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى حنين، ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا:»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بالهدى لا بالهوى هو الذي على الحق.
قوله: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} ، أي: على يد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فكان الأجدر بهم أن يتبعوا الهدى دون الهوى.
* مناسبة الآية للترجمة:
أنهم يعتقدون أن هذه الأصنام تنفعهم وتضرهم، ولهذا يأتون إليها؛ يدعونها، ويذبحون لها، ويتقربون إليها، وقد يبتلي الله المرء فيحصل له ما يريد من اندفاع ضر أو جلب نفع بهذا الشرك؛ ابتلاء من الله وامتحانا، وهذا قد تقدم لنا له نظائر أن الله يبتلي المرء بتيسير أسباب المعصية له حتى يعلم سبحانه من يخافه بالغيب.
* * *
قوله: «خرجنا مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» ، أي: بعد غزوة الفتح؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما فتح مكة تجمعت له ثقيف وهوازن بجمع عظيم كثير جدا.
فقصدهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعه اثنا عشر ألفا: ألفان من أهل مكة، وعشرة آلاف جاء بهم من المدينة، فلما توجهوا بهذه الكثرة العظيمة؛ قالوا: لن نغلب اليوم من قلة. فأعجبوا بكثرتهم، ولكن بين الله أن النصر من عنده سبحانه وليس بالكثرة، قال تعالى:(9/191)
«يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الله أكبر! إنها السنن! قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف:138] . لتركبن سنن من كان من قبلكم» . رواه الترمذي وصححه (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} الآيتين [التوبة:25] ، ثم لما انحدروا من وادي حنين وجدوا أن المشركين قد كمنوا لهم في الوادي؛ فحصل ما حصل، وتفرق المسلمون عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يبق معه إلا نحو مائة رجل، وفي آخر الأمر كان النصر للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والحمد لله.
قوله: (حدثاء) ، جمع حديث؛ أي: أننا قريبو عهد بكفر، وإنما ذكر ذلك رضي الله عنه للاعتذار لطلبهم وسؤالهم، ولو وقر الإيمان في قلوبهم لم يسألوا هذا السؤال.
قوله: (يعكفون عندها) ، أي: يقيمون عليها، والعكوف: ملازمة الشيء، ومنه قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187] .
قوله: (ينوطون) ، أي: يعلقون بها أسلحتهم تبركا.
قوله: (يقال: لها ذات أنواط) ، أي: أنها تلقب بهذا اللقب لأنه تناط فيها الأسلحة، وتعلق عليها رجاء بركتها؛ فالصحابة رضي الله عنهم قالوا للنبي
__________
(1) مسند الإمام أحمد (5/218) ، والترمذي: أبواب الفتن/ باب ما جاء: (لتركبن سنن من كان قبلكم) ، 6/343 ـ وقال (حسن صحيح) .(9/192)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط» ؛ أي: سدرة نعلق أسلحتنا عليها تبركا بها؛ فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الله أكبر) ، كبر تعظيما لهذا الطلب؛ أي: استعظاما له، وتعجبا لا فرحا به، كيف يقولون هذا القول وهم آمنوا بأنه لا إله إلا الله؟ !
لكن: (إنها السنن) ؛ أي: الطرق التي يسلكها العباد.
قوله: «قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} » ، أي: إن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاس ما قاله الصحابة رضي الله عنهم على ما قاله بنو إسرائل لموسى حين قالوا: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة؛ فأنتم طلبتم ذات أنواط كما أن لهؤلاء المشركين ذات أنواط.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده) المراد أن نفسه بيد الله، لا من جهة إماتتها وإحيائها فحسب؛ بل من جهة تدبيرها وتصريفها أيضا، ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها سبحانه وتعالى.
قوله: (لتركبن سنن من كان قبلكم) ، أي: لتفعلن مثل فعلهم، ولتقولن مثل قولهم، وهذه الجملة لا يراد بها الإقرار، وإنما يراد بها التحذير؛ لأنه من المعلوم أن سنن من كان قبلنا مما جرى تشبيهه سنن ضالة، حيث طلبوا آلهة مع الله؛ فأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يحذر أمته أن تركب سنن من كان قبلها من الضلال والغي.
والشاهد من هذا الحديث قولهم: «اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط» ؛ فأنكر عليهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
* * *(9/193)
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية النجم.
الثانية: معرفة صورة الأمر الذي طلبوا.
الثالثة: كونهم لم يفعلوا.
الرابعة: كونهم قصدوا التقرب إلى الله بذلك؛ لظنهم أنه يحبه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
* الأولى: تفسير آية النجم، أي: قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} . . . الآية، وسبق تفسيرها، وأن الله تعالى أنكر على هؤلاء الذين يعبدون اللات والعزى، وأتى بصيغة الاستفهام الدالة على التحقير والتصغير لهذه الأصنام.
* الثانية: معرفة صورة الأمر الذي طلبوا، وهو أنهم طلبوا من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يجعل لهم ذات أنواط كما أن للمشركين ذات أنواط، وهم إنما أرادوا أن يتبركوا بهذه الشجرة لا أن يعبدوها؛ فدل ذلك على أن التبرك بالأشجار ممنوع، وأن هذا من سنن الضالين السابقين من الأمم.
* الثالة: كونهم لم يفعلوا، أي: لم يعلقوا أنواطا على الشجرة، ويطلبوا من الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقرهم على هذا العمل، بل طلبوا من الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يجعل لهم ذلك.
* الرابعة: كونهم قصدوا التقرب إلى الله بذلك لظنهم أنه يحبه، (بذلك) ؛ أي: بتعليق الأسلحة ونحوها على الشجرة التي يعينها الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولهذا(9/194)
الخامسة: أنهم إذا جهلوا هذا؛ فغيرهم أولى بالجهل. السادسة: أن لهم من الحسنات والوعد بالمغفرة ما ليس لغيرهم. السابعة: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يعذرهم، بل رد عليهم بقوله: «الله أكبر! إنها السنن! لتتبعن سنن من كان قبلكم» ؛ فغلظ الأمر بهذه الثلاث.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
طلبوا ذلك من الرسول لتكتسب بهذا معنى العبادة.
الخامسة: أنهم إذا جهلوا هذا؛ فغيرهم أولى بالجهل، لأن الصحابة لا شك أعلم الناس بدين الله، فإذا كان الصحابة يجهلون أن التبرك بهذا نوع من اتخاذها إلها؛ فغيرهم من باب أولى، وقصد المؤلف رحمه الله بهذا أن لا نغتر بعمل الناس؛ لأن عمل الناس قد يكون عن جهل؛ فالعبرة بما دل عليه الشرع لا بعمل الناس.
* السادسة: أن لهم من الحسنات والوعد بالمغفرة ما ليس لغيرهم، وهذا معلوم من الآيات، مثل قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد:10] ؛ فالصحابة رضي الله عنهم لهم من الحسنات والوعد بالمغفرة وأسباب المغفرة ما ليس لغيرهم، ومع ذلك لم يعذرهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذا الطلب.
* السابعة: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يعذرهم، بل رد عليهم بقوله: «الله أكبر! إنها السنن، لتتبعن سنن من كان قبلكم» ؛ فغلظ الأمر بهذه الثلاث، وهي قوله: (الله أكبر) ، وقوله: (إنها السنن) ، وقوله: (لتركبن سنن من كان قبلكم) ؛ فغلظ الأمر بهذا لأن التكبير استعظاما للأمر الذي طلبوه، و (إنها السنن) : تحذير، و (لتركبن(9/195)
الثامنة: الأمر الكبير وهو المقصود أنه أخبر أن طلبهم كطلب بني إسرائيل لما قالوا لموسى: اجعل لنا إلها. التاسعة: أن نفي هذا من معنى (لا إله إلا الله) مع دقته وخفائه على أولئك. العاشرة: أنه حلف على الفتيا، وهو لا يحلف إلا لمصلحة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
سنن من قبلكم) كذلك أيضا تحذير.
الثامنة: الأمر الكبير وهو المقصود أنه أخبر أن طلبهم كطلب بني إسرائيل لما قالوا لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} ، فهؤلاء طلبوا سدرة يتبركون بها كما يتبرك المشركون بها، وأولئك طلبوا إلها كما لهم آلهة؛ فيكون في كلا الطلبين منافاة للتوحيد؛ لأن التبرك بالشجر نوع من الشرك، واتخاذه إلها شرك واضح.
التاسعة: أن نفي هذا من معنى: لا إله إلا الله، مع دقته وخفائه على أولئك، أي: أن التبرك بالأشجار ونحوها من معنى لا إله إلا الله؛ فإن لا إله إلا الله تنفي كل إله سوى الله، وتنفي الألوهية عما سوى الله عز وجل؛ فكذلك البركة لا تكون من غير الله سبحانه وتعالى.
العاشرة: أنه حلف على الفتيا وهو لا يحلف إلا لمصلحة، أي: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حلف على الفتيا في قوله: (قلتم، والذي نفسي بيده) ، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يحلف إلا لمصلحة، أو دفع مضرة ومفسدة؛ فليس ممن يحلف على أي سبب يكون، كما هي عادة بعض الناس.(9/196)
الحادية عشرة: أن الشرك فيه أصغر وأكبر؛ لأنهم لم يرتدوا بهذا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الحادية عشرة: أن الشرك فيه أصغر وأكبر؛ لأنهم لم يرتدوا بهذا، حيث لم يطلبوا جعل ذات الأنواط لعبادتها، بل للتبرك بها، والشرك فيه أصغر وأكبر، وفيه خفي وجلي.
فالشرك الأكبر: ما يخرج الإنسان من الملة.
والشرك الأصغر: ما دون ذلك.
لكن كلمة (ما دون ذلك) ليست ميزانا واضحا. ولذلك اختلف العلماء في ضابط الشرك الأصغر على قولين:
القول الأول: أن الشرك الأصغر كل شيء أطلق الشارع عليه أنه شرك ودلت النصوص على أنه ليس من الأكبر، مثل: «من حلف بغير الله؛ فقد أشرك» (1) ؛ فالشرك هنا أصغر؛ لأنه دلت النصوص على أن مجرد الحلف بغير الله لا يخرج من الملة.
القول الثاني: أن الشرك الأصغر: ما كان وسيلة للأكبر، وإن لم يطلق الشرع عليه اسم الشرك، مثل: أن يعتمد الإنسان على شيء كاعتماده على الله، لكنه لم يتخذه إلها؛ فهذا شرك أصغر؛ لأن هذا الاعتماد الذي يكون كاعتماده على الله يؤدي به في النهاية إلى الشرك الأكبر، وهذا التعريف أوسع من الأول؛ لأن الأول يمنع أن تطلق على شيء أنه شرك إلا إذا كان لديك
__________
(1) مسند الإمام أحمد (2/125) ، وسنن أبي داود: كتاب الأيمان / باب من كراهية الحلف بالآباء ـ وسكت عنه ـ، والترمذي: النذور / باب كراهية الحلف بغير الله تعالى ـوحسنه ـ.(9/197)
دليل، والثاني يجعل كل ما كان وسيلة للشرك فهو شرك، وربما نقول على هذا التعريف: إن المعاصي كلها شرك أصغر؛ لأن الحامل عليها الهوى، وقد قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:23] ، ولهذا أطلق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشرك على تارك الصلاة، مع أنه لم يشرك؛ فقال: «بين الرجل وبين الشرك والكفر: ترك الصلاة» .
فالحاصل أن المؤلف رحمه الله يقول: إن الشرك فيه أكبر وأصغر؛ لأنهم لم يرتدوا بهذا، وسبق وجه ذلك.
الجلي والخفي؛ فبعضهم قال: إن الجلي والخفي هو الأكبر والأصغر، وبعضهم قال: الجلي ما ظهر للناس من أصغر أو أكبر؛ كالحلف بغير الله، والسجود للصنم.
والخفي: ما لا يعلمه الناس من أصغر أو أكبر؛ كالرياء، واعتقاد أن مع الله إلها آخر.
وقد يقال: إن الجلي ما انجلى أمره وظهر كونه شركا؛ ولو كان أصغر، والخفي: ما سوى ذلك.
وأيهما الذي لا يغفر؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن الشرك لا يغفره الله ولو كان أصغر؛ لعموم قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 116] ،و {أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} مؤول بمصدر تقديره: شركا به، وهو نكرة في سياق النفي؛ فيفيد العموم.(9/198)
الثانية عشرة: قولهم: (ونحن حدثاء عهد بكفر) ؛ فيه أن غيرهم لا يجهل ذلك. الثالثة عشرة: التكبير عند التعجب؛ خلافا لمن كرهه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وقال بعض العلماء: إن الشرك الأصغر داخل تحت المشيئة، وإن المراد بقوله: {أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} الشرك الأكبر، وأما الشرك الأصغر؛ فإنه يغفر لأنه لا يخرج من الملة، وكل ذنب لا يخرج من الملة؛ فإنه تحت المشيئة، وعلى كل؛ فصاحب الشرك الأصغر على خطر، وهو أكبر من كبائر الذنوب، قال ابن مسعود رضي الله عنه: (لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا) .
الثانية عشرة: قوله: (ونحن حدثاء عهد بكفر ... ) ، معناه: أنه يعتذر عما طلبوا، حيث طلبوا أن يجعل لهم ذات أنواط؛ فهم يعتذرون لجهلهم بكونهم حدثاء عهد بكفر، وأما غيرهم ممن سبق إسلامه؛ فلا يجهل ذلك.
وعلى هذا؛ فنقول: إنه ينبغي للإنسان أن يقدم العذر عن قوله أو فعله حتى لا يعرض نفسه إلى القول أو الظن بما ليس فيه، ويدل لذلك «حديث صفية حين شيعها الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو معتكف، فمر رجلان من الأنصار، فقال: (إنها صفية بنت حيي» .
الثالثة عشرة: التكبير عند التعجب ... إلخ تؤخذ من قوله: (الله أكبر) ؛ أي: الله أكبر وأعظم من أن يشرك به، وفي رواية الترمذي أنه قال: (سبحان الله) ؛ أي: تنزيها لله عما لا يليق به.(9/199)
الرا بعة عشرة: سد الذرائع. الخامسة عشرة: النهي عن التشبه بأهل الجاهلية. السادسة عشرة: الغضب عند التعليم. السابعة عشرة: القاعدة الكلية لقوله: (إنها السنن) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الرابعة عشرة: سد الذرائع، الذرائع: الطرق الموصلة إلى الشيء، وذرائع الشيء: وسائله وطرقه.
والذرائع نوعان:
أ- ذرائع إلى أمور مطلوبة؛ فهذه لا تسد، بل تفتح وتطلب.
ب- ذرائع إلى أمور مذمومة؛ فهذه تسد، وهو مراد المؤلف رحمه الله تعالى.
وذات الأنواط وسيلة إلى الشرك الأكبر، فإذا وضعوا عليها أسلحتهم وتبركوا بها؛ يتدرج بهم الشيطان إلى عبادتها وسؤالهم حوائجهم منها مباشرة، فلهذا سد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذرائع.
* الخامسة عشرة: النهي عن التشبه بأهل الجاهلية، تؤخذ من قوله: (قلتم كما قالت بنو إسرائيل) ؛ فأنكر عليهم، وبهذا نعرف أن الجاهلية لا تختص بمن كان قبل زمن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل كل من جهل الحق وعمل عمل الجاهلين؛ فهو من أهل الجاهلية.
* السادسة عشرة: الغضب عند التعليم، والحديث ليس بصريح في ذلك، وربما يؤخذ من قرائن قوله: «الله أكبر! إنها السنن» ... ) ؛ لأن قوة هذا الكلام تفيد الغضب.
السابعة عشرة: القاعدة الكلية لقوله: (إنها السنن) ، أي: الطرق، وأن(9/200)
الثامنة عشرة: أن هذا علم من أعلام النبوة لكونه وقع كما أخبر.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هذه الأمة ستتبع طرق من كان قبلها، وهذا لا يعني الحل والإباحة، ولكنه للتحذير؛ كما قال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار؛ إلا واحدة» ، وقال: «ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير» ....) الحديث، وقال: «إن الظعينة تذهب من كذا إلى كذا لا تخشى إلا الله» ، وما أشبه ذلك من الأمور التي أخبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن وقوعها مع تحريمها.
الثامنة عشرة: أن هذا علم من أعلام النبوة لكونه وقع كما أخبر، يعني اتباع سنن من كان قبلنا.
فإن قال قائل: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد خطب الناس بعرفة، وقال: «إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب» ؛ فكيف تقع عبادته.
فالجواب: أن إخبار النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيأسه لا يدل على عدم الوقوع، بل يجوز أن يقع، على خلاف ما توقعه الشيطان؛ لأن الشيطان لما حصلت الفتوحات، وقوي الإسلام، ودخل الناس في دين الله أفواجا؛ يئس أن يعبد سوى الله في هذه الجزيرة، ولكن حكمة الله تأبى إلا أن يكون ذلك، وهذا نقوله ولا بد؛ لئلا يقال: إن جميع الأفعال التي تقع في الجزيرة العربية لا يمكن أن تكون(9/201)
التاسعة عشرة: أن كل ما ذم الله به اليهود والنصارى في القرآن؛ أنه لنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
شركا، ومعلوم أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله جدد التوحيد في الجزيرة العربية، وأن الناس كانوا في ذلك الوقت فيهم المشرك وغير المشرك.
فالحديث أخبر عما وقع في نفس الشيطان ذلك الوقت، ولكنه لا يدل على عدم الوقوع، وهذا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «لتركبن سنن من كان قبلكم» ، وهو يخاطب الصحابة وهم في جزيرة العرب.
التاسعة عشرة: أن ما ذم الله به اليهود والنصارى في القرآن أنه لنا هذا ليس على إطلاقه وظاهره، بل يحمل قوله: (لنا) ؛ أي: لبعضنا، ويكون المراد به المجموع لا الجميع؛ كما قال العلماء في قوله تعالى: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام:130] ، والرسل كانوا من الإنس فقط.
فإذا وقع تشبه باليهود والنصارى؛ فإن الذم الذي يكون لهم يكون لنا، وما من أحد من الناس غالبا إلا وفيه شبه باليهود أو النصارى؛ فالذي يعصي الله على بصيرة فيه شبه من اليهود، والذي يعبد الله على ضلالة فيه شبه من النصارى، والذي يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله فيه شبه من اليهود، وهلم جرا.
وإن أراد أن كل ما ذم به اليهود والنصارى؛ فهو لهذه الأمة على سبيل العموم؛ فلا.(9/202)
العشرون: أنه متقرر عندهم أن العبادات مبناها على الأمر، فصار فيه التنبيه على مسائل القبر: أما (من ربك؟) فواضح، وأما (من نبيك؟) ؛ فمن إخباره بأنباء الغيب، وأما (ما دينك؟) ؛ فمن قولهم: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا} ... ) إلى آخره.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
العشرون: أنه متقرر عندهم أن العبادات مبناها على الأمر ... إلخ، وهذا واضح؛ فالعبادات مبناها على الأمر، فما لم يثبت فيه أمر الشارع؛ فهو بدعة، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا؛ فهو رد» ، وقال: «إياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة» . (1)
فمن تعبد بعبادة طولب بالدليل؛ لأن الأصل في العبادات الحظر والمنع، إلا ما قام الدليل على مشروعيتها.
وأما الأكل والمعاملات والآداب واللباس وغيرها؛ فالأصل فيها الإباحة؛ إلا ما قام الدليل على تحريمه.
وقوله: (مسائل القبر التي يسأل فيها الإنسان في قبره: من ربك؟ من نبيك؟ ما دينك؟) .
ففي هذه القصة دليل على مسائل القبر الثلاث، وليس مراده أن فيها دليلا
__________
(1) مسند الإمام أحمد (4/126) ، وسنن أبي داود: كتاب السنة /باب لزوم السنة، 5/13، والترمذي: العلم /باب الأخذ بالسنة، رقم 2678-وقال: (حسن صحيح) -.(9/203)
الحادية والعشرون: أن سنة أهل الكتاب مذمومة كسنة المشركين. الثانية والعشرون: ان المنتقل من الباطل الذي اعتاده قلبه لا يؤمن أن يكون في قلبه بقية من تلك العادة؛ لقوله: (ونحن حدثاء عهد بكفر) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
على أن الإنسان يسأل في قبره، بل فيها دليل على إثبات الربوبية والنبوة والعبادة.
أما (من ربك) ؛ فواضح، يعني أنه لا رب إلا الله تعالى.
أما (من نبيك) ؛ فمن إخباره بالغيب، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة» ؛ فوقع كما أخبر.
أما (ما دينك) ؛ فمن قولهم: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا} ؛ أي: مألوها معبودا، والعبادة هي الدين.
والمؤلف محمد بن عبد الوهاب رحمه الله فهمه دقيق جدا لمعاني النصوص؛ فأحيانا يصعب على الإنسان بيان وجه استنباط المسألة من الدليل.
الحادية والعشرون: أن سنة أهل الكتاب مذمومة كسنة المشركين، تؤخذ من قوله: (كما قالت بنو إسرائيل لموسى) .
* الثانية والعشرون: أن المنتقل من الباطل الذي اعتاده قلبه لا يؤمن أن يكون في قلبه بقية من تلك العبادة، وهذا صحيح؛ فالإنسان المنتقل من شيء، سواء كان باطلا أو لا؛ لا يؤمن أن يكون في قلبه بقية منه، وهذه البقية لا تزول إلا بعد مدة؛ لقوله: (ونحن حدثاء عهد بكفر) ؛ فكأنه يقول: ما سألناه(9/204)
إلا لأن عندنا بقية من بقايا الجاهلية، ولهذا كان من الحكمة تغريب الزاني بعد جلده عن مكان الجريمة؛ لئلا يعود إليها.
فالإنسان ينبغي أن يبتعد عن مواطن الكفر والشرك والفسوق؛ حتى لا يقع في قلبه شيء منها.(9/205)
باب ما جاء في الذبح لغير الله
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (في الذبح) ، أي: ذبح البهائم.
قوله: (لغير الله) ، اللام للتعليل، والقصد: أي قاصدا بذبحه غير الله، والذبح لغير الله ينقسم إلى قسمين:
1 - أن يذبح لغير الله تقربا وتعظيما؛ فهذا لا يخرج من الملة، بل هو من الأمور العادية التي قد تكون مطلوبة أحيانا وغير مطلوبة أحيانا؛ فالأصل أنها مباحة.
ومراد المؤلف هنا القسم الأول.
فلو قدم السلطان إلى بلد، فذبحنا له، فإن كان تقربا وتعظيما؛ فإنه شرك أكبر، وتحرم هذه الذبائح، وعلامة ذلك: أننا نذبحها في وجهه ثم ندعها.
أما لو ذبحنا له إكراما وضيافة، وطبخت وأكلت؛ فهذا من باب الإكرام، وليس بشرك.
وقوله: (لغير الله) يشمل الأنبياء، والملائكة، والأولياء، وغيرهم؛ فكل من ذبح لغير الله تقربا وتعظما؛ فإنه داخل في هذه الكلمة بأي شيء كان.
وقوله في الترجمة: (باب ما جاء في الذبح لغير الله) ، أشار إلى الدليل دون الحكم، ومثل هذه الترجمة يترجم بها العلماء للأمور التي لا يجزمون بحكمها، أو التي فيها تفصيل، وأما الأمور التي يجزمون بها؛ فإنهم يقولونها(9/206)
99 وقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ} الآية [الأنعام: 162-163] .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بالجزم؛ مثل باب وجوب الصلاة، وباب تحريم الغيبة، ونحو ذلك.
والمؤلف رحمه الله تعالى لا شك أنه يرى تحريم الذبح لغير الله على سبيل التقرب والتعظيم، وأنه شرك أكبر، لكنه أراد أن يمرن الطالب على أخذ الحكم من الدليل، وهذا نوع من التربية العلمية؛ فإن المعلم أو المؤلف يدع الحكم مفتوحا، ثم يأتي بالأدلة لأجل أن يكل الحكم إلى الطالب؛ فيحكم به على حسب ما سيق له من هذه الأدلة، وقد ذكر المؤلف في هذا الباب ثلاث آيات:
* * *
الآية الأولى: قوله: قل: الخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي: قل لهؤلاء المشركين معلنا لهم قيامك بالتوحيد الخالص؛ لأن هذه السورة مكية.
قوله: {إِنَّ صَلَاتِي} ، الصلاة في اللغة: الدعاء، وفي الشرع: عبادة لله ذات أقوال وأفعال معلومة، مفتتحة بالتكبير، مختتمة بالتسليم.
قوله: {وَنُسُكِي} ، النسك لغة: العبادة، وفي الشرع: ذبح القربان.
فهل تحمل هذه الآية على المعنى اللغوي أو على المعنى الشرعي؟
سبق أن ما جاء في لسان الشرع يحمل على الحقيقة الشرعية؛ كما أن ما جاء في لسان العرف؛ فهو محمول على الحقيقة العرفية، وفي لسان العرب على الحقيقة اللغوية.
فعندما أقول لشخص: عندك شاة؟ يفهم الأنثى من الضأن، لكن في اللغة العربية الشاة تطلق على الواحدة من الضأن والمعز، ذكرا كان أو أنثى،(9/207)
وعلى هذا؛ فيحمل النسك في الآية على المعنى الشرعي.
وقيل: تحمل على المعنى اللغوي؛ لأنه أعم؛ فالنسك العبادة، كأنه يقول: أنا لا أدعو إلا الله، ولا أعبد إلا الله، وهذا عام للدعاء والتعبد.
وإذا حملت على المعنى الشرعي؛ صارت خاصة في نوع من العبادات، وهي: الصلاة، والنسك، ويكون هذا كمثال، فإن الصلاة أعلى العبادات البدنية، والذبح أعلى العبادات المالية؛ لأنه على سبيل التعظيم لا يقع إلا قربة، هكذا قرر شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه المسألة.
ويحتاج إلى مناقشة في مسألة أن القربان أعلى أنواع العبادات المالية؛ فإن الزكاة لا شك أنها أعظم، وهي عبادة مالية.
وهناك رأي ثالث يقول: إن الصلاة هي الصلاة المعروفة شرعا، والنسك: العبادة مطلقا، ويكون ذلك من عطف العام على الخاص.
قوله: {وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي} ، أي: حياتي وموتي؛ أي: التصرف في وتدبير أمري حيا وميتا لله.
وفي قوله: {صَلَاتِي وَنُسُكِي} إثبات توحيد العبادة.
وفي قوله: {وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي} إثبات توحيد الربوبية.
قوله: (لله) ، خبر إن، والله: علم على الذات الإلهية، وأصله: الإله، فحذفت الهمزة؛ لكثرة الاستعمال تخفيفا.
وهو بمعنى مألوه؛ فهو فعال بمعنى مفعول، مثل غراس بمعنى مغروس، وفراش بمعنى مفروش، والمألوه: المحبوب المعظم.
قوله: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، والمراد ب {الْعَالَمِينَ} : ما سوى الله، وسمي بذلك؛ لأنه علم على خالقه.(9/208)
قال الشاعر:
فواعجبا كيف يعصى الإله ... أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد
وهي تطلق على العالمين بهذا المعنى، وتطلق على العالمين في وقت معين، مثل قوله تعالى: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:47] ؛ يعني: عالمي زمانهم.
والرب هنا: المالك المتصرف، وهذه ربوبية مطلقة.
الآية الثانية: قوله: {لَا شَرِيكَ لَهُ} ، الجملة حالية من قوله: (لله) ؛ أي: حال كونه لا شريك له، والله سبحانه لا شريك له في عبادته ولا في ربوبيته ولا في أسمائه وصفاته، ولهذا قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] .
وقد ضل من زعم أن لله شركاء كمن عبد الأصنام أو عيسى ابن مريم عليه السلام، وكذلك بعض غلاة الشعراء الذين جعلوا المخلوق بمنزلة الخالق؛ كقول بعضهم يخاطب ممدوحا له:
فكن كمن شئت يا من لا شبيه له ... وكيف شئت فما خلق يدانيك
وكقول البوصيري في قصيدته في مدح الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم
إن لم تكن آخذا يوم المعاد يدي ... فضلا وإلا فقل يا زلة القدم
فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم
وهذا من أعظم الشرك؛ لأنه جعل الدنيا والآخرة من جود الرسول، ومقتضاه أن الله جل ذكره ليس له فيهما شيء.(9/209)
وقال: إن " من علومك علم اللوح والقلم "، يعني: وليس ذلك كل علومك؛ فما بقي لله علم ولا تدبير والعياذ بالله.
قوله: (بذلك) ، الجار والمجرور متعلق بـ أمرت؛ فيكون دالا على الحصر والتخصيص، وإنما خص بذلك؛ لأنه أعظم المأمورات، وهو الإخلاص لله تعالى ونفي الشرك، فكأنه ما أمر إلا بهذا، ومعلوم أن من أخلص لله تعالى؛ فسيقوم بعبادة الله سبحانه وتعالى في جميع الأمور.
قوله: أمرت، إبهام الفاعل هنا من باب التعظيم والتفخيم، وإلا فمن المعلوم أن الآمر هو الله تعالى.
قوله: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} ، يحتمل أن المراد الأولية الزمنية، فيتعين أن تكون أولية إضافية ويكون المراد أنا أول المسلمين من هذه الأمة؛ لأنه سبقه في الزمن من أسلموا.
ويحتمل أن المراد الأولية المعنوية؛ فإن أعظم الناس إسلاما وأتمهم انقيادا هو الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فتكون الأولية أولية مطلقة.
ومثل هذا التعبير يقع كثيرا أن تقع الأولية أولية معنوية، مثل أن تقول: أنا أول من يصدق بهذا الشيء، وإن كان غيرك قد صدق قبلك، لكن تريد أنك أسبق الناس تصديقا بذلك، ولن يكون عندك إنكار أبدا، ومثل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نحن أولى بالشك من إبراهيم حينما قال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} » [البقرة:260] ؛ فليس معناه أن إبراهيم شاك، لكن إن قدر أن يحصل شك؛ فنحن(9/210)
وقول: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2] .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أولى بالشك منه، وإلا؛ فلسنا نحن شاكين، وكذلك إبراهيم ليس شاكا.
قوله: {الْمُسْلِمِينَ} ، الإسلام عند الإطلاق يشمل الإيمان؛ لأن المراد به الاستسلام لله ظاهرا وباطنا، ويدل لذلك قوله تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} [البقرة: 112] ، وهذا إسلام الباطن.
وقوله: {وَهُوَ مُحْسِنٌ} ، هذا إسلام الظاهر، وكذا قوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] يشمل الإسلام الباطن والظاهر، وإذا ذكر الإيمان دخل فيه الإسلام، قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [التوبة: 72] .
ومتى وجد الإيمان حقا لزم من وجوده الإسلام.
واما إذا قرنا جميعا صار الإسلام في الظاهر والإيمان في الباطن، مثل حديث جبريل، وفيه: «أخبرني عن الإسلام؛ فأخبره عن أعمال ظاهرة، وأخبرني عن الإيمان؛ فأخبره عن أعمال باطنة» .
وكذا قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14] .
والشاهد من الآية التي ذكرها المؤلف: أن الذبح لا بد أن يكون خالصا لله.
الآية الثالثة: قوله: فصل، الفاء للسببية عاطفة على قوله:(9/211)
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] ؛ أي بسبب إعطائنا لك ذلك صل لربك وانحر شكرا لله تعالى على هذه النعمة.
والمراد بالصلاة هنا الصلاة المعروفة شرعا.
وقوله: {وَانْحَرْ} ، المراد بالنحر: الذبح، أي اجعل نحرك لله كما أن صلاتك له؛ فأفادت هذه الآية الكريمة أن النحر من العبادة، ولهذا أمر الله به وقرنه بالصلاة.
وقوله: {وَانْحَرْ} ، مطلق؛ فيدخل فيه كل ما ثبت في الشرع مشروعيته، وهي ثلاثة أشياء: الأضاحي، والهدايا، والعقائق؛ فهذه الثلاثة يطلب من الإنسان أن يفعلها.
أما الهدايا؛ فمنها واجب، ومنها مستحب، فالواجب كما في التمتع: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] ، وكما في المحصر: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] ، وكما في حلق الرأس: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] ، هذا إن صح أن نقول: إنها هدي، ولكن الأولى أن نسميها فدية كما سماها الله عز وجل؛ لأنها بمنزلة الكفارة.
وأما الأضاحي؛ فاختلف العلماء فيها:
فمنهم من قال: إنها واجبة.
ومنهم من قال: إنها مستحبة.
وأكثر أهل العلم على أنها مستحبة، وأنه يكره للقادر تركها.
ومذهب أبي حنيفة رحمه الله أنها واجبة على القادر، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية.(9/212)
عن علي رضي الله عنه؛ قال: «حدثني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأربع كلمات:»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والأضحية ليست عن الأموات كما يفهمه العوام، بل هي للأحياء، وأما الأموات؛ فليس من المشروع أن يُضَحَّى لهم استقلالا، إلا إن أوصوا به؛ فعلى ما أوصوا به؛ لأن ذلك لم يرد عن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأما العقيقة: وهي التي تذبح عن المولود في يوم سابعه إن كان ذكرا فاثنتان، وإن كان أنثى فواحدة، وتجزيء الواحدة مع الإعسار في الذكور.
وهي سنة عند أكثر أهل العلم، وقال بعض أهل العلم: إنها واجبة؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «كل غلام مرتهن بعقيقته» . (1)
* * *
قوله: (كلمات) : جمع كلمة، والكلمة في اصطلاح النحويين: القول المفرد. أما في اللغة؛ فهي كل قول مفيد، قال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أصدق كلمة قالها شاعر: ألا كل شيء ما خلا الله باطل» ، وقال تعالى: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} ، وهي قوله: {رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون: 99-100] .
قال شيخ الإسلام: لا تطلق الكلمة في اللغة العربية إلا على الجملة المفيدة.
__________
(1) مسند الإمام أحمد (5/7) ، والترمذي: كتاب الأضحية /باب في العقيقة ـ وقال: (حديث حسن صحيح) ، وصححه الألباني في الإرواء، 4/385.(9/213)
«لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى محدثا، لعن الله من غير منار الأرض» رواه مسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (لعن الله) ، اللعن من الله: الطرد والإبعاد عن رحمة الله، فإذا قيل: لعنه الله؛ فالمعنى: طرده وأبعده عن رحمته، وإذا قيل: اللهم العن فلانا؛ فالمعنى أبعده عن رحمتك واطرده عنها.
قوله: (من ذبح لغير الله) ، عام يشمل من ذبح بعيرا، أو بقرة، أو دجاجة، أو غيرها.
قوله: (لغير الله) ، يشمل كل من سوى الله حتى لو ذبح لنبي، أو ملك، أو جني، أو غيرهم.
وقوله: (لعن) يحتمل أن يكون الجملة خبرية، وأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخبر أن الله لعن من ذبح لغير الله، ويحتمل أن تكون إنشائية بلفظ الخبر؛ أي: اللهم العن من ذبح لغير الله، والخبر أبلغ؛ لأن الدعاء قد يستجاب، وقد لا يستجاب.
قوله: (والديه) ، يشمل الأب والأم، ومن فوقهما؛ لأن الجد أب، كما أن أولاد الابن والبنت أبناء في وجوب الاحترام لأصولهم.
والمسألة هنا ليست مالية، بل هي من الحقوق، ولعن الأدنى أشد من لعن الأعلى؛ لأنه أولى بالبر، ولعنه ينافي البر.
قوله: (من لعن والديه) ، أي: سبهما وشتمهما؛ فاللعن من الإنسان السب والشتم، فإذا سببت إنسانا أو شتمته؛ فهذا لعنه؛ «لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قيل له: كيف يلعن»(9/214)
«الرجل والديه؟ قال: (يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه» .
وأخذ الفقهاء من هذا الحديث قاعدة، وهي: أن السبب بمنزلة المباشرة في الإثم؛ وإن كان يخالفه في الضمان على تفصيل في ذلك عند أهل العلم.
قوله: (من آوى محدثا) ، أي: ضمه إليه وحماه، والإحداث: يشمل الإحداث في الدين؛ كالبدع التي أحدثها الجهمية والمعتزلة، وغيرهم.
والإحداث في الأمر: أي في شؤون الأمة؛ كالجرائم وشبهها، فمن آوى محدثا؛ فهو ملعون، وكذا من ناصرهم؛ لأن الإيواء أن تأويه لكف الأذى عنه، فمن ناصره؛ فهو أشد وأعظم.
والمحدث أشد منه؛ لأنه إذا كان إيواؤه سببا للعنة؛ فإن نفس فعله جرم أعظم.
ففيه التحذير من البدع والإحداث في الدين، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «إياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة» ، وظاهر الحديث: ولو كان أمرا يسيرا.
قوله: (منار الأرض) ، أي: علاماتها ومراسيمها التي تحدد بين الجيران، فمن غيرها ظلما؛ فهو ملعون، وما أكثر الذين يغيرون منار الأرض، لا سيما إذا زادت قيمتها، وما علموا أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «من اقتطع شبرا من الأرض ظلما؛ طوقه من سبع أرضين» ؛ فالأمر عظيم، مع أن هذا الذي يقتطع من الأرض ويغير المنار، ويأخذ ما لا يستحق لا يدري: قد يستفيد منها في دنياه، وقد يموت قبل ذلك، وقد يسلط عليه آفة تأخذ ما أخذ.(9/215)
وعن طارق بن شهاب؛ أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «دخل الجنة رجل في ذباب ودخل النار رجل في ذباب) قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: (مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئا، فقالوا لأحدهما: قرب. قال: ليس عندي شيء أقربه. قالوا له: قرب ولو ذبابا. فقرب ذبابا، فخلوا سبيله، فدخل النار. وقالوا للآخر: قرب. فقال: ما كنت لأقرب لأحد شيئا دون الله عز وجل. فضربوا عنقه، فدخل الجنة» (1) رواه أحمد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فالحاصل: أن هذا دليل على أن تغيير منار الأرض من كبائر الذنوب، ولهذا قرنه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالشرك وبالعقوق وبالإحداث؛ مما يدل على أن أمره عظيم، وأنه يجب على المرء أن يحذر منه، وأن يخاف الله سبحانه وتعالى حتى لا يقع فيه.
* * *
قوله: (عن طارق بن شهاب) .
في الحديث علتان:
الأولى: أن طارق بن شهاب اتفقوا على أنه لم يسمع من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واختلفوا في صحبته، والأكثرون على أنه صحابي.
لكن إذا قلنا: إنه صحابي؛ فلا يضر عدم سماعه من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (الزهد) (ص15،16) .(9/216)
مرسل الصحابي حجة، وإن كان غير صحابي؛ فإنه مرسل غير صحابي، وهو من أقسام الضعيف.
الثانية: أن الحديث معنعن من قبل الأعمش، وهو من المدلسين، وهذه آفة في الحديث؛ فالحديث في النفس منه شيء من أجل هاتين العلتين.
ثم للحديث عله ثالثة، وهي أن الإمام أحمد رواه عن طارق عن سلمان موقوفا من قوله، وكذا أبو نعيم وابن أبي شيبة؛ فيحتمل أن سلمان أخذه عن بني إسرائيل.
قوله: (في ذباب) ، في: للسببية، وليست للظرفية؛ أي: بسبب ذباب، ونظيره قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «دخلت النار امرأة في هرة حبستها» ....) الحديث؛ أي: بسبب هرة.
قوله: (فدخل النار) ، مع أنه ذبح شيئا حقيرا لا يؤكل، لكن لما نوى التقرب به إلى هذا الصنم؛ صار مشركا، فدخل النار.(9/217)
فيه مسائل:
الأولى: تفسير {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي} . الثانية: تفسير {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} . الثالثة: البداءة بلعنة من ذبح لغير الله. الرابعة: لعن من لعن والديه، ومنه أن تلعن والدي الرجل فيلعن والديك.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: تفسير {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي} ، وقد سبق ذلك في أول الباب.
الثانية: تفسير: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} ، وقد سبق ذلك في أول الباب.
الثالثة: البداءة بلعنة من ذبح لغير الله، بدأ به؛ لأنه من الشرك، والله إذا ذكر الحقوق يبدأ أولا بالتوحيد؛ لأن حق الله أعظم الحقوق، قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء: 36] ، وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23] ، وينبغي أن يبدأ في المناهي والعقوبات بالشرك وعقوبته.
الرابعة: لعن من لعن والديه.
ولعن الرجل للرجل له معنيان:
الأول: الدعاء عليه باللعن.
الثاني: سبه وشتمه؛ لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسره بقوله: «يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه» .(9/218)
الخامسة: لعنُ من آوى محدثا، وهو الرجل يحدث شيئا يجب فيه حق الله؛ فيلتجئ إلى من يجيره من ذلك. السادسة: لعن من غير منار الأرض، وهي المراسيم التي تفرق بين حقك وحق جارك من الأرض، فتغيرها بتقديم أو تأخير. السابعة: الفرق بين لعن المعين ولعن أهل المعاصي على سبيل العموم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الخامسة: لعن من آوى محدثا، وقد سبق أنه يشمل الإحداث في الدين والجرائم، فمن آوى محدثا ببدعة؛ فهو داخل في ذلك، ومن آوى محدثا بجريمة؛ فهو داخل في ذلك.
السادسة: لعن من غير منار الأرض، وسواء كانت بينك وبين جارك، أو بينك وبين السوق مثلا؛ لأن الحديث عام.
السابعة: الفرق بين لعن المعين ولعن أهل المعاصي على سبيل العموم، فالأول ممنوع، والثاني جائز، فإذا رأيت من آوى محدثا؛ فلا تقل: لعنك الله، بل قل: لعن الله من آوى محدثا على سبيل العموم، والدليل على ذلك «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما صار يلعن أناسا من المشركين من أهل الجاهلية بقوله: (اللهم العن فلانا وفلانا وفلانا) نهي عن ذلك بقوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} » [آل عمران: 128] ؛ فالمعين ليس لك أن تلعنه، وكم من إنسان صار على وصف يستحق به اللعنة ثم تاب فتاب(9/219)
الثامنة: هذه القصة العظيمة، وهي قصة الذباب. التاسعة: كونه دخل النار بسبب ذلك الذباب الذي لم يقصده، بل فعله تخلصا من شرهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الله عليه، إذن يؤخذ هذا من دليل منفصل، وكأن المؤلف رحمه الله قال: الأصل عدم جواز إطلاق اللعن؛ فجاء هذا الحديث لاعنا للعموم، فيبقى الخصوص على أصله؛ لأن المسلم ليس بالطعان ولا باللعان، والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس طعانا ولا لعانا، ولعل هذا وجه أخذ الحكم من الحديث، وإلا؛ فالحديث لا تفريق فيه.
الثامنة: هذه القصة العظيمة وهي قصة الذباب، كأن المؤلف رحمه الله يصحح الحديث، ولهذا بنى عليه حكما، والحكم المأخوذ من دليل فرع عن صحته، والقصة معروفة.
التاسعة: كونه دخل النار بسبب ذلك الذباب الذي لم يقصده، بل فعله تخلصا من شرهم، هذه المسألة ليست مسلمة، فإن قوله: قرب ولو ذبابا يقتضي أنه فعله قاصدا التقرب، أما لو فعله تخلصا من شرهم فإنه لا يكفر لعدم قصد التقرب، ولهذا قال الفقهاء: لو أكره على طلاق امرأته فطلق تبعا لقول المكره؛ لم يقع الطلاق، بخلاف ما لو نوى الطلاق؛ فإن الطلاق يقع، وإن طلق دفعا للإكراه؛ لم يقع، وهذا حق لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنما الأعمال بالنيات» .
وظاهر القصة أن الرجل ذبح بنية التقرب؛ لأن الأصل أن الفعل المبني(9/220)
العاشرة: معرفة قدر الشرك في قلوب المؤمنين؛ كيف صبر ذلك على القتل ولم يوافقهم على طلبهم مع كونهم لم يطلبوا إلا العمل الظاهر؟!
ـــــــــــــــــــــــــــــ
على طلب يكون موافقا لهذا الطلب.
ونحن نرى خلاف ما يرى المؤلف رحمه الله، أي أنه لو فعله بقصد التخلص ولم ينو التقرب لهذا الصنم لا يكفر؛ لعموم قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} [النحل: 106] .
وهذا الذي فعل ما يوجب الكفر تخلصا مطمئن قلبه بالإيمان.
والصواب أيضا: أنه لا فرق بين القول المكره عليه والفعل، وإن كان بعض العلماء يفرق ويقول: إذا أكره على القول لم يكفر، وإذا أكره على الفعل كفر، ويستدل بقصة الذباب، وقصة الذباب فيها نظر من حيث صحتها، وفيها نظر من حيث الدلالة؛ لما سبق أن الفعل المبني على طلب يكون موافقا لهذا الطلب.
ولو فرض أن الرجل تقرب بالذباب تخلصا من شرهم؛ فإن لدينا نصا محكما في الموضوع، وهو قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ} [النحل: 106] الآية، ولم يقل: بالقول، فما دام عندنا نص قرآني صريح؛ فإنه لو وردت السنة صحيحة على وجه مشتبه؛ فإنها تحمل على النص المحكم.
الخلاصة أن من أكره على الكفر؛ لم يكن كافرا ما دام قلبه مطمئنا بالإيمان ولم يشرح بالكفر صدرا.
العاشرة: معرفة قدر الشرك في قلوب المؤمنين ... إلخ، وقد بينها المؤلف رحمه الله تعالى(9/221)
مسألة:
هل الأولى للإنسان إذا أكره على الكفر أن يصبر ولو قتل، أو يوافق ظاهرا ويتأول؟
هذه المسألة فيها تفصيل:
أولا: أن يوافق ظاهرا وباطنا، وهذا لا يجوز لأنه ردة.
ثانيا: أن يوافق ظاهرا لا باطنا، ولكن يقصد التخلص من الإكراه؛ فهذا جائز.
ثالثا: أن لا يوافق لا ظاهرا ولا باطنا ويقتل وهذا جائز، وهو من الصبر.
لكن أيهما أولى أن يصبر ولو قتل، أو أن يوافق ظاهرا؟
فيه تفصيل:
إذا كان موافقة الإكراه لا يترتب عليه ضرر في الدين للعامة؛ فإن الأولى أن يوافق ظاهرا لا باطنا، لا سيما إذا كان بقاؤه فيه مصلحة للناس، مثل: صاحب المال الباذل فيما ينفع أو العلم النافع وما أشبه ذلك، حتى وإن لم يكن فيه مصلحة؛ ففي بقائه على الإسلام زيادة عمل، وهو خير، وهو قد رخص له أن يكفر ظاهرا عند الإكراه؛ فالأولى أن يتأول، ويوافق ظاهرا لا باطنا.
أما إذا كان في موافقته وعدم صبره ضرر على الإسلام؛ فإنه يصبر، وقد يجب الصبر؛ لأنه من باب الصبر على الجهاد في سبيل الله، وليس من باب إبقاء النفس، ولهذا «لما شكى الصحابة للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يجدونه من مضايقة المشركين؛ قص عليهم قصة الرجل فيمن كان قبلنا بأن الإنسان كان يمشط ما بين لحمه وجلده بأمشاط الحديد» ويصبر، فكأنه يقول لهم: اصبروا على الأذى.(9/222)
الحادية عشرة: أن الذي دخل النار مسلم؛ لأنه لو كان كافرا لم يقل: «دخل النار في ذباب» . الثانية عشرة: فيه شاهد للحديث الصحيح: «الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ولو حصل من الصحابة رضي الله عنهم في ذلك الوقت موافقة للمشركين وهم قلة؛ لحصل بذلك ضرر عظيم على الإسلام.
والإمام أحمد رحمه الله في المحنة المشهورة لو وافقهم ظاهرا؛ لحصل في ذلك مضرة على الإسلام.
الحادية عشرة: أن الذي دخل النار مسلم؛ لأنه لو كان كافرا لم يقل: دخل النار في ذباب، وهذا صحيح، أي أنه كان مسلما ثم كفر بتقريبه للصنم؛ فكان تقريبه هو السبب في دخوله النار.
ولو كان كافرا قبل أن يقرب الذباب؛ لكان دخوله النار لكفره أولى، لا بتقريبه الذباب.
الثانية عشرة: فيه شاهد للحديث الصحيح: «الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك» ، والغرض من هذا: الترغيب والترهيب، فإذا علم أن الجنة أقرب إليه من شراك النعل؛ فإنه ينشط على السعي، فيقول: ليست بعيدة؛ كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لما سئل عما يدخل الجنة ويباعد من النار، فقال: "لقد سألت»(9/223)
الثالثة عشرة: معرفة أن عمل القلب هو المقصود الأعظم، حتى عند عبدة الأصنام.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه» (1) ، والنار إذا قيل له: إنها أقرب من شراك النعل يخاف، ويتوقى في مشيه لئلا يزل فيهلك، ورب كلمة توصل الإنسان إلى أعلى عليين، وكلمة أخرى توصله إلى أسفل سافلين.
الثالثة عشرة: معرفة أن عمل القلب هو المقصود الأعظم حتى عند عبدة الأوثان، والحقيقة أن هذه المسألة مع التاسعة فيها شبه تناقض؛ لأنه في هذه المسألة أحال الحكم على عمل القلب، وفي التاسعة أحاله على الظاهر؛ فقال: بسبب ذلك الذباب الذي لم يقصده بل فعله تخلصا من شرهم، ومقتضى ذلك أن باطنه سليم، وهنا يقول: إن العمل بعمل القلب، ولا شك أن ما قاله المؤلف رحمه الله حق بالنسبة إلى أن المدار على القلب.
والحقيقة أن العمل مركب على القلب، والناس يختلفون في أعمال القلوب أكثر من اختلافهم في أعمال الأبدان، والفرق بينهم قصدا وذلا أعظم من الفرق بين أعمالهم البدنية؛ لأن من الناس من يعبد الله لكن عنده من الاستكبار ما لا يذل معه ولا يذعن لكل حق، وبعضهم يكون عنده ذل للحق، لكن عنده نقص في القصد؛ فتجد عنده نوعا من الرياء مثلا.
فأعمال القلب وأقواله لها أهمية عظيمة، فعلى الإنسان أن يخلصها لله.
__________
(1) مسند الإمام أحمد (5/231) ، والترمذي: كتاب الإيمان / باب ما جاء في حرمة الصلاة ـ وقال: (حسن صحيح) ـ.(9/224)
وأقوال القلب هي اعتقاداته؛ كالإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره.
وأعماله هي تحركاته؛ كالحب، والخوف، والرجاء، والتوكل، والاستعانة، وما أشبه ذلك.
والدواء لذلك: القرآن والسنة، والرجوع إلى سيرة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمعرفة أحواله وأقواله وجهاده ودعوته، هذا مما يعين على جهاد القلب.
ومن أسباب صلاح القلب أن لا تشغل قلبك بالدنيا.
* * *(9/225)
باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله
وقول الله تعالى: {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} الآية [التوبة: 108] .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الانتقال من المؤلف من أحسن ما يكون؛ ففي الباب السابق ذكر الذبح لغير الله؛ فنفس الفعل لغير الله.
وفي هذا الباب ذكر الذبح لله، ولكنه في مكان يذبح فيه لغيره، كمن يريد أن يضحي لله في مكان يذبح فيه للأصنام؛ فلا يجوز أن تذبح فيه؛ لأنه موافقة للمشركين في ظاهر الحال، وربما أدخل الشيطان في قلبك نية سيئة؛ فتعتقد أن الذبح في هذا المكان أفضل، وما أشبه ذلك، وهذا خطر.
* * *
قوله: {لَا تَقُمْ فِيهِ} ، ضمير الغيبة يعود إلى مسجد الضرار، حيث بني على نية فاسدة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [التوبة: 107] ، والمتخذون هم المنافقون، وغرضهم من ذلك:
1 - مضارة مسجد قباء: ولهذا يسمى مسجد الضرار.
2 - الكفر بالله: لأنه يقرر فيه الكفر - والعياذ بالله -؛ لأن الذين اتخذوه هم المنافقون.
3 - التفريق بين المؤمنين: فبدلا من أن يصلي في مسجد قباء صف أو صفان يصلي فيه نصف صف، والباقون في المسجد الآخر، والشرع له نظر في(9/226)
اجتماع المؤمنين.
4 - الإرصاد لمن حارب الله ورسوله يقال: إن رجلا ذهب إلى الشام، وهو أبو عامر الفاسق، وكان بينه وبين المنافقين الذين اتخذوا المسجد مراسلات، فاتخذوا هذا المسجد بتوجيهات منه، فيجتمعون فيه لتقرير ما يريدونه من المكر والخديعة للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، قال الله تعالى: {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى} [التوبة: 107] ؛ فهذه سنة المنافقين: الأيمان الكاذبة.
إن: نافية، بدليل وقوع الاستثناء بعدها، أي: ما أردنا إلا الحسنى، والجواب عن هذا اليمين الكاذب: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة: 107] .
فشهد الله تعالى على كذبهم؛ لأن ما يسرونه في قلوبهم ولا يعلم ما في القلوب إلا علام الغيوب؛ فكأن هذا المضمر في قلوبهم بالنسبة إلى الله أمر مشهود يرى بالعين؛ كما قال الله تعالى في سورة المنافقين: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1] .
وقوله: {لَا تَقُمْ فِيهِ} ، لا: ناهية، وتقم: مجزوم بلا الناهية، وعلامة جزمه السكون، وحذفت الواو؛ لأنه سكن آخره، والواو ساكنة؛ فحذفت تخلصا من التقاء الساكنين.
قوله: أبدا إشارة إلى أن هذا المسجد سيبقى مسجد نفاق.
قوله: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى} ، اللام: للابتداء، ومسجد: مبتدأ وخبره: {أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} ، وفي هذا التنكير تعظيم للمسجد، بدليل قوله: {أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى} [التوبة: 108] ؛ أي جعلت التقوى أساسا له، فقام عليه.
وهذه الأحقية ليست على بابها، وهو أن اسم التفضيل يدل على مفضل ومفضل عليه اشتركا في أصل الوصف؛ لأنه لا حق لمسجد الضرار أن يقام(9/227)
فيه، وهذا (أعني: كون الطرف المفضل عليه ليس فيه شيء من الأصل الذي وقع فيه التفضيل) موجود في القرآن كثيراَ؛ كقوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان:24] .
قوله: فيه، أي: في هذا المسجد المؤسس على التقوى.
قوله: {يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} ، بخلاف من كان في مسجد الضرار؛ فإنهم رجس؛ كما قال الله تعالى في المنافقين: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ} [التوبة: 95] .
قوله: {يَتَطَهَّرُوا} ، يشمل طهارة القلب من النفاق والحسد والغل وغير ذلك، وطهارة البدن من الأقذار والنجاسات والأحداث.
قوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} ، هذه محبة حقيقية ثابتة لله عز وجل تليق بجلاله وعظمته، ولا تماثل محبة المخلوقين، وأهل التعطيل يقولون: المراد بالمحبة: الثواب أو إرادته؛ فيفسرونها إما بالفعل أو إرادته، وهذا خطأ.
وقوله: {الْمُطَّهِّرِينَ} أصله المتطهرين، وأدغمت التاء بالطاء لعلة تصريفية معروفة.
* وجه المناسبة من الآية:
أنه لما كان مسجد الضرار مما اتخذ للمعاصي ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين؛ نهى الله رسوله أن يقوم فيه، مع أن صلاته فيه لله؛ فدل على أن كل مكان يعصى الله فيه أنه لا يقام فيه، فهذا المسجد متخذ للصلاة، لكنه محل معصية؛ فلا تقام فيه الصلاة.
وكذا لو أراد إنسان أن يذبح في مكان يذبح فيه لغير الله كان حراما؛ لأنه يشبه الصلاة في مسجد الضرار.(9/228)
وعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه؛ قال: «نذر رجل أن ينحر إبلا ببوانة، فسأل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقال: (هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ . قالوا: لا. قال: (فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟) . قالوا: لا. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أوف بنذرك؛ فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم» . رواه أبو داود، وإسناده على شرطهما (1)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وقريب من ذلك النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها؛ لأنهما وقتان يسجد فيهما الكفار للشمس؛ فهذا باعتبار الزمن والوقت، والحديث الذي ذكره المؤلف باعتبار المكان.
* * *
قوله: (نذر) ، النذر في اللغة: الإلزام والعهد.
واصطلاحا: إلزام المكلف نفسه لله شيئا غير واجب.
وقال بعضهم: لا نحتاج أن نقيد بغير واجب، وأنه إذا نذر الواجب صح النذر وصار المنذور واجبا من وجهين: من جهة النذر، ومن جهة الشرع، ويترتب على ذلك وجوب الكفارة إذا لم يحصل الوفاء.
والنذر في الأصل مكروه، بل إن بعض أهل العلم يميل إلى تحريمه؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عنه، وقال: ( «لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل» ، ولأنه إلزام
__________
(1) مسند الإمام أحمد (3/419) ، وسنن أبي داود: كتاب الأيمان والنذور/باب ما يؤمن به من الوفاء بالنذر.(9/229)
لنفس الإنسان بما جعله الله في حل منه، وفي ذلك زيادة تكليف على نفسه.
ولأن الغالب أن الذي ينذر يندم، وتجده يسأل العلماء يمينا وشمالا يريد الخلاص مما نذر لثقله ومشقته عليه، ولا سيما ما يفعله بعض العامة إذا مرض، أو تأخر له حاجة يريدها؛ تجده ينذر كأنه يقول: إن الله لا ينعم عليه بجلب خير أو دفع الضرر إلا بهذا النذر.
قوله: (إبلا) ، اسم جمع لا واحد له من لفظه، لكن له واحد من معناه، وهو البعير.
قوله: (ببوانة) ، الباء بمعنى في، وهي للظرفية، والمعنى: بمكان يسمى بوانة.
قوله: (هل كان فيها وثن) ، الوثن: كل ما عبد من دون الله؛ من شجر، أو حجر، سواء نحت أو لم ينحت.
والصنم يختص بما صنعه الآدمي.
قوله: (الجاهلية) ، نسبة إلى ما كان قبل الرسالة، وسميت بذلك لأنهم كانوا على جهل عظيم.
قوله: (يعبد) ، صفة لقوله: (وثن) ، وهو بيان للواقع؛ لأن الأوثان هي التي تعبد من دون الله.
قوله: (قالوا: لا) ، السائل واحد، لكنه لما كان عنده ناس أجابوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا مانع أن يكون المجيب غير المسؤول.
قوله: (عيد) ، العيد: اسم لما يعود أو يتكرر، والعود بمعنى الرجوع؛ أي: هل اعتاد أهل الجاهلية أن يأتوا إلى هذا المكان ويتخذوا هذا اليوم عيدا، وإن لم يكن فيه وثن؟ قالوا: لا. فسأل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أمرين: عن الشرك، ووسائله.
فالشرك: هل كان فيها وثن؟ ووسائله: هل كان فيها عيد من أعيادهم؟(9/230)
قوله: (أوف بنذرك) ، فعل أمر مبني على حذف حرف العلة الياء، والكسرة دليل عليها.
وهل المراد به المعنى الحقيقي أو المراد به الإباحة؟
الجواب: يحتمل أن يراد به الإباحة، ويحتمل أن يراد به المعنى الحقيقي؛ فبالنسبة لنحر الإبل المراد به المعنى الحقيقي.
وبالنسبة للمكان المراد به الإباحة؛ لأنه لا يتعين أن يذبحها في ذلك المكان؛ إذ إنه لا يتعين أي مكان في الأرض إلا ما تميز بفضل، والمتميز بفضل المساجد الثلاثة؛ فالأمر هنا بالنسبة لنحر الإبل من حيث هو نحر واجب.
وبالنسبة للمكان؛ فالأمر للإباحة، بدليل أنه سأل هذين السؤالين، فلو أجيب بنعم؛ لقال: لا توف، فإذا كان المقام يحتمل النهي والترخيص؛ فالأمر للإباحة.
وقوله: (أوف بنذرك) علل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك بانتفاء المانع؛ فقال: «فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله» .
قوله: (لا وفاء) ، لا: نافية للجنس، وفاء: اسمها، لنذر: خبرها.
قوله: (في معصية الله) ، صفة لنذر؛ أي: لا يمكن أن توفي بنذر في معصية الله؛ لأنه لا يتقرب إلى الله بمعصيته، وليست المعصية مباحة حتى يقال افعلها.
أقسام النذر:
الأول: ما يجب الوفاء به، وهو نذر الطاعة؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من نذر أن يطع الله؛ فليطعه» .(9/231)
الثاني: ما يحرم الوفاء به، وهو نذر المعصية لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» ، وقوله: «فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله» .
الثالث: ما يجري مجرى اليمين، وهو نذر المباح؛ فيخير بين فعله وكفارة اليمين، مثل لو نذر أن يلبس هذا الثوب؛ فإن شاء لبسه وإن شاء لم يلبسه، وكفر كفارة يمين.
الرابع: نذر اللجاج والغضب، وسمي بهذا الاسم؛ لأن اللجاج والغضب يحملان عليه غالبا، وليس بلازم أن يكون هناك لجاج وغضب، وهو الذي يقصد به معنى اليمين، الحث، أو المنع، أو التصديق، أو التكذيب.
مثل لو قال: حصل اليوم كذا وكذا، فقال الآخر: لم يحصل، فقال: إن كان حاصلا؛ فعلي لله نذر أن أصوم سنة؛ فالغرض من هذا النذر التكذيب، فإذا تبين أنه حاصل؛ فالناذر مخير بين أن يصوم سنة، وبين أن يكفر كفارة يمين؛ لأنه إن صام فقد وفى بنذره، وإن لم يصم حنث، والحانث في اليمين يكفر كفارة يمين.
الخامس: نذر المكروه، فيكره الوفاء به، وعليه كفارة يمين.
السادس: النذر المطلق، وهو الذي ذكر فيه صيغة النذر؛ مثل أن يقول: لله علي نذر فهذا كفارته كفارة يمين كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كفارة النذر إذا لم يسم كفارة يمين» . (1)
مسألة هل ينعقد نذر المعصية؟
__________
(1) رواه ابن ماجة والترمذي وصححه، وأصله في مسلم.(9/232)
الجواب: نعم، ينعقد، ولهذا قال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من نذر أن يعصي الله؛ فلا يعصه» ، ولو قال: من نذر أن يعصي الله فلا نذر له؛ لكان لا ينعقد؛ ففي قوله: (فلا يعصه) دليل على أنه ينعقد لكن لا ينفذ.
وإذا انعقد هل تلزمه كفارة أو لا؟
اختلف في ذلك أهل العلم، وفيها روايتان عن الإمام أحمد:
فقال بعض العلماء: إنه لا تلزمه الكفارة، واستدلوا بقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا وفاء لنذر في معصية الله» .
وبقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ومن نذر أن يعصي الله؛ فلا يعصه» ، ولم يذكر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كفارة، ولو كانت واجبة؛ لذكرها.
القول الثاني: تجب الكفارة، وهو المشهور من المذهب؛ لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر في حديث آخر غير الحديثين أن كفارته كفارة يمين وكون الأمر لا يذكر في حديث لا يقتضي عدمه؛ فعدم الذكر ليس ذكرا للعدم، نعم، لو قال الرسول: لا كفارة؛ صار في الحديثين تعارض، وحينئذ نطلب الترجيح، لكن الرسول لم ينف الكفارة، بل سكت والسكوت لا ينافي المنطوق؛ فالسكوت وعدم الذكر يكون اعتمادا على ما تقدم، فإن كان الرسول قاله قبل أن ينهي هذا الرجل؛ فاعتمادا عليه لم يقله؛ لأنه ليس بلازم أن كل مسألة فيها قيد أو تخصيص يذكرها الرسول عند كل عموم، فلو كان يلزم هذا؛ لكانت تطول السنة، لكن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا ذكر حديثا عاما وله ما يخصصه في مكان آخر حمل عليه وإن(9/233)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لم يذكره حين تكلم بالعموم.
وأيضا من حيث القياس لو أن الإنسان أقسم ليفعلن محرما، وقال: والله؛ لأفعلن هذا الشيء وهو محرم؛ فلا يفعله، ويكفر كفارة يمين، مع أنه أقسم على فعل محرم، والنذر شبيه بالقسم، وعلى هذا؛ فكفارته كفارة يمين، وهذا القول أصح.
وقوله: (ولا فيما لا يملك ابن آدم) الذي لا يملكه ابن آدم يحتمل معنيين:
الأول: ما لا يملك فعله شرعا؛ كما لو قال: لله علي أن أعتق عبد فلان؛ فلا يصح لأنه لا يملك إعتاقه.
الثاني: ما لا يملك فعله قدرا، كما لو قال: لله علي نذر أن أطير بيدي؛ فهذا لا يصح لأنه لا يملكه.
والفقهاء رحمهم الله يمثلون بمثل هذا للمستحيل.
* ويستفاد من الحديث:
أنه لا يذبح بمكان يذبح فيه لغير الله، وهو ما ساقه المؤلف من أجله، والحكمة من ذلك ما يلي:
الأول: أنه يؤدي إلى التشبه بالكفار.
الثاني: أنه يؤدي إلى الاغترار بهذا الفعل؛ لأن من رآك تذبح بمكان يذبح فيه المشركون ظن أن فعل المشركين جائز.
الثالث: أن هؤلاء المشركين سوف يقوون على فعلهم إذا رأوا من يفعل مثلهم، ولا شك أن تقوية المشركين من الأمور المحظورة، وإغاظتهم من الأعمال الصالحة، قال تعالى: {وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة: 120] .(9/234)
فيه مسائل:
الأولى: تفسير قوله تعالى: {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} . الثانية: أن المعصية قد تؤثر في الأرض، وكذلك الطاعة. الثالثة: رد المسألة المشكلة إلى المسألة البينة؛ ليزول الإشكال.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: تفسير قوله تعالى: {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} ، وقد سبق ذلك في أول الباب.
الثانية: أن المعصية قد تؤثر في الأرض، وكذلك الطاعة، أي: لما كانت هذه الأرض مكان شرك؛ حرم أن يعمل الإنسان ما يشبه الشرك فيها لمشابهة المشركين.
أما بالنسبة للصلاة في الكنيسة؛ فإن الصلاة تخالف صلاة أهل الكنيسة؛ لا يكون الإنسان متشبها بهذا العمل، بخلاف الذبح في مكان يذبح فيه لغير الله، فإن الفعل واحد بنوعه وجنسه، ولهذا لو أراد إنسان أن يصلي في مكان يذبح فيه لغير الله لجاز ذلك؛ لأنه ليس من نوع العبادة التي يفعلها المشركون في هذا المكان.
وكذا الطاعة تؤثر في الأرض، ولهذا؛ فإن المساجد أفضل من الأسواق، والقديم منها أفضل من الجديد.
* الثالثة: رد المسألة المشكلة إلى البينة ليزول الإشكال، فالمنع من الذبح في هذا المكان أمر مشكل، لكن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين ذلك بالاستفصال.(9/235)
الرابعة: استفصال المفتي إذا احتاج إلى ذلك. الخامسة: أن تخصيص البقعة بالنذر لا بأس به إذا خلا من الموانع. السادسة: المنع منه إذا كان فيه وثن من أوثان الجاهلية، ولو بعد زواله.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الرابعة: استفصال المفتي إذا احتاج إلى ذلك، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استفصل، لكن هل يجب الاستفصال على كل حال، أو إذا وجد الاحتمال؟
الجواب: لا يجب إذا وجد الاحتمال؛ لأننا لو استفصلنا في كل مسألة؛ لطال الأمر.
مثلا: لو سألنا سائل عن عقد بيع لم يلزم أن نستفصل عن الثمن: هل هو معلوم؟ وعن المثمن: هل هو معلوم؟ وهل وقع البيع معلقا أو غير معلق؟ وهل كان ملكا للبائع؟ وكيف ملكه؟ وهل انتفت موانعه أو لا؟
أما إذا وجد الاحتمال؛ فيجب الاستفصال، مثل: أن يسأل عن رجل مات عن بنت وأخ وعم شقيق؛ فيجب الاستفصال عن الأخ: هل هو شقيق أو لأم؟ فإن كان لأم؛ سقط، وأخذ الباقي العم، وإلا؛ سقط العم، وأخذ الباقي الأخ.
الخامسة: أن تخصيص البقعة بالنذر لا بأس به إذا خلا من الموانع لقوله: (أوف بنذرك) ، وسواء كانت هذه الموانع واقعة أو متوقعة.
فالواقعة: أن يكون فيها وثن أو عيد من أعياد الجاهلية.
والمتوقعة: أن يخشى من الذبح في هذا المكان تعظيمه، فإذا خشي؛ كان ممنوعًا، مثل: لو أراد أن يذبح عند جبل؛ فالأصل أنه جائز، لكن لو خشي أن العوام يعتقدون أن في هذا المكان مزية؛ كان ممنوعًا.
السادسة: المنع منه إذا كان فيه وثن من أوثان الجاهلية، ولو بعد زواله،(9/236)
السابعة: المنع منه إذا كان فيه عيد من أعيادهم، ولو بعد زواله.
الثامنة: أنه لا يجوز الوفاء بما نذر في تلك البقعة؛ لأنه نذر معصية.
التاسعة: الحذر من مشابهة المشركين في أعيادهم، ولو لم يقصده.
العاشرة: لا نذر في معصية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لقوله: «هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية؟» ؛ لأن (كان) فعل ماض، والمحظور بعد زوال الوثن باق؛ لأنه ربما يعاد.
السابعة: المنع منه إذا كان فيها عيد من أعيادهم، ولو بعد زواله، لقوله: «فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟» .
* الثامنة: أنه لا يجوز الوفاء بما نذر في تلك البقعة؛ لأنه نذر معصية، لقوله: «فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله» .
* التاسعة: الحذر من مشابهة المشركين في أعيادهم ولو لم يقصده، وقد نص شيخ الإسلام ابن تيمية على أن حصول التشبه لا يشترط فيه القصد؛ فإنه يمنع منه ولو لم يقصده، لكن مع القصد يكون أشد إثما، ولهذا قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب: ولو لم يقصده.
* العاشرة: لا نذر في معصية الله، هكذا قال المؤلف، ولفظ الحديث المذكور: (لا وفاء لنذر) ، وبينها فرق.
فإذا قيل: لا نذر في معصية؛ فالمعنى أن النذر لا ينعقد، وإذا قيل: لا وفاء؛ فالمعنى أن النذر ينعقد، لكن لا يوفى، وقد وردت السنة بهذا وبهذا.
لكن: (لا نذر) يحمل على أن المراد لا وفاء لنذر؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث(9/237)
الحادية عشرة: لا نذر لابن آدم فيما لا يملك.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الصحيح: «ومن نذر أن يعصي الله؛ فلا يعصه» .
الحادية عشرة: لا نذر لابن آدم فيما لا يملك، يقال فيه ما قيل في: لا نذر في معصية.
والمعنى: لا وفاء لنذر فيما لا يملك ابن آدم، ويشتمل ما لا يملكه شرعا، وما لا يملكه قدرا.
* * *(9/238)
باب من الشرك النذر لغير الله
وقول الله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7] .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
النذر لغير الله مثل أن يقول: لفلان علي نذر، أو لهذا القبر علي نذر، أو لجبريل علي نذر، يريد بذلك التقرب إليهم، وما أشبه ذلك.
والفرق بينه وبين المعصية: أن النذر لغير الله ليس لله أصلا، ونذر المعصية لله، ولكنه على معصية من معاصيه، مثل أن يقول: لله علي نذر أن أفعل كذا وكذا من معاصي الله؛ فيكون النذر والمنذور معصية، ونظير هذا الحلف بالله على شيء محرم، والحلف بغير الله؛ فالحلف بغير الله مثل: والنبي لأفعلن كذا وكذا، ونظيره النذر لغير الله، والحلف بالله على محرم؛ مثل: والله؛ لأسرقن، ونظيره نذر المعصية، وحكم النذر لغير الله شرك؛ لأنه عبادة للمنذور له، وإذا كان عبادة؛ فقد صرفها لغير الله فيكون مشركا.
وهذا النذر لغير الله لا ينعقد إطلاقا، ولا تجب فيه كفارة، بل هو شرك تجب التوبة منه؛ كالحلف بغير الله؛ فلا ينعقد، وليس فيه كفارة.
وأما نذر المعصية؛ فينعقد، لكن لا يجوز الوفاء به، وعليه كفارة يمين؛ كالحلف بالله على المحرم ينعقد، وفيه كفارة.
وقد ذكر المؤلف في هذا الباب آيتين:
الأولى: قوله: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} ، هذه الآية سيقت لمدح الأبرار، {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} [الانسان:5] .(9/239)
وقوله: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} [البقرة: 270] .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ومدحهم بهذا يقتضي أن يكون عبادة؛ لأن الإنسان لا يمدح ولا يستحق دخول الجنة إلا بفعل شيء يكون عبادة.
ولو أعقب المؤلف هذه الآية بقوله تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29] ؛ لكان أوضح؛ لأن قوله: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} أمر، والأمر بوفائه يدل على أنه عبادة؛ لأن العبادة ما أمر به شرعا.
وجه استدلال المؤلف بالآية على أن النذر لغير الله من الشرك: أن الله تعالى أثنى عليهم بذلك، وجعله من الأسباب التي بها يدخلون الجنة، ولا يكون سببا يدخلون به الجنة إلا وهو عبادة؛ فيقتضي أن صرفه لغير الله شرك.
الآية الثانية قوله: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ} .
(ما) : شرطية، وأنفقتم: فعل الشرط، وجوابه: {فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} .
قوله: {مِنْ نَفَقَةٍ} ، بيان ل (ما) في قوله: ما أنفقتم، والنفقة: بذل المال، وقد يكون في الخير، وقد يكون في غيره.
قوله: {أَوْ نَذَرْتُمْ} ، معطوف على قوله: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ} .
قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} ، تعليق الشيء بعلم الله دليل على أنه محل جزاء؛ إذ لا نعلم فائدة لهذا الإخبار بالعلم إلا لترتب الجزاء عليه، وترتب الجزاء عليه يدل على أنه من العبادة التي يجازى الإنسان عليها، وهذا وجه استدلال المؤلف بهذه الآية.
* * *(9/240)
وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها؛ أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من نذر أن يطيع الله؛ فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله؛ فلا يعصه» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وفي الصحيح) ، سبق الكلام على مثل هذا التعبير في باب تفسير التوحيد (ص146) .
قوله: (من نذر) ، جملة شرطية تفيد العموم، وهل تشمل الصغير؟
قال بعض العلماء: تشمله؛ فينعقد النذر منه.
وقيل: لا تشمله؛ لأن الصغير ليس أهلا للإلزام ولا للالتزام، وبناء على هذا يخرج الصغير من هذا العموم؛ لأنه ليس أهلا للإلزام ولا للالتزام.
قوله: (أن يطيع الله) ، الطاعة: هي موافقة الأمر؛ أي: توافق الله فيما يريد منك إن أمرك؛ فالطاعة فعل المأمور به، وإن نهاك؛ فالطاعة ترك المنهي عنه، هذا معنى الطاعة إذا جاءت مفردة.
أما إذا قيل: طاعة ومعصية؛ فالطاعة لفعل الأوامر، والمعصية لفعل النواهي.
قوله: (فليطعه) ، الفاء واقعة في جواب الشرط؛ لأن الجملة إنشائية طلبية، واللام لام الأمر.
وظاهر الحديث: يشمل ما إذا كانت الطاعة المنذورة جنسها واجب؛ كالصلاة والحج وغيرهما، أو غير واجب؛ كتعليم العلم وغيره.(9/241)
وقال بعض أهل العلم: لا يجب الوفاء بالنذر إلا إذا كان جنس الطاعة واجبا، وعموم الحديث يرد عليهم.
وظاهر الحديث أيضا يشمل من نذر طاعة نذرا مطلقا ليس له سبب، مثل: (لله علي أن أصوم ثلاثة أيام) .
ومن نذر نذرا معلقا، مثل: إن نجحت؛ فلله علي أن أصوم ثلاثة أيام.
ومن فرق بينهما؛ فليس بجيد لأن الحديث عام.
واعلم أن النذر لا يأتي بخير ولو كان نذر طاعة، «وإنما يستخرج به من البخيل» ، ولهذا نهى عنه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبعض العلماء يحرمه، وإليه يميل شيخ الإسلام ابن تيمية للنهي عنه، ولأنك تلزم نفسك بأمر أنت في عافية منه، وكم من إنسان نذر وأخيرا ندم، وربما لم يفعل.
ويدل لقوة القول بتحريم النذر قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ} [النور: 53] ؛ فهذا التزام موكد بالقسم، فيشبه النذر.
قال الله تعالى: {قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} [النور: 53] ؛ أي: عليكم طاعة معروفة بدون يمين، والإنسان الذي لا يفعل الطاعة إلا بنذر، أو حلف على نفسه يعني أن الطاعة ثقيلة عليه.
ومما يدل على قوة القول بالتحريم أيضا خصوصا النذر المعلق: أن النادر كأنه غير واثق بالله عز وجل؛ فكأنه يعتقد أن الله لا يعطيه الشفاء إلا إذا أعطاه مقابله ولهذا إذا أيسوا من البرء ذهبوا ينذرون، وفي هذا سوء ظن بالله عز وجل.
والقول بالتحريم قول وجيه.(9/242)
فيه مسائل:
الأولى: وجوب الوفاء بالنذر. الثانية: إذا ثبت كونه عبادة لله، فصرفه إلى غير الله شرك. الثالثة: أن نذر المعصية لا يجوز الوفاء به.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فإن قيل: كيف تحرمون ما أثنى الله على من وفى به؟
فالجواب: أننا لا نقول: إن الوفاء هو المحرم حتى يقال: إننا هدمنا النص، إنما نقول: المحرم أو المكروه كراهة شديدة هو عقد النذر، وفرق بين عقده ووفائه؛ فالعقد ابتدائي، والوفاء في ثاني الحال تنفيذ لما نذر.
قوله: «ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» ، لا: ناهية، والنهي بحسب المعصية، فإن كانت المعصية حراما؛ فالوفاء بالنذر حرام، وإن كانت المعصية مكروهة؛ فالوفاء بالنذر مكروه؛ لأن المعصية الوقوع فيما نهي عنه، والمنهي عنه ينقسم عند أهل العلم إلى قسمين: منهي عنه نهي تحريم، ومنهي عنه نهي تنزيه.
* * *
فيه مسائل:
* الأولى: وجوب الوفاء بالنذر، يعني: نذر الطاعة فقط؛ لقوله: «من نذر أن يطيع الله؛ فليطعه» ، ولقول المؤلف في المسألة الثالثة: إن نذر المعصية لا يجوز الوفاء به.
* الثانية: إذا ثبت كونه عبادة؛ فصرفه إلى غير الله شرك، وهذه قاعدة في توحيد العبادة، فأي فعل كان عبادة؛ فصرفه لغير الله شرك.
* الثالثة: أن نذر المعصية لا يجوز الوفاء به، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من نذر أن يعصي الله؛ فلا يعصه» .(9/243)
باب من الشرك الاستعاذة بغير الله
وقول الله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:6] .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (من الشرك) ، من: للتبغيض، وهذه الترجمة ليست على إطلاقها؛ لأنه إذا استعاذ بشخص مما يقدر عليه؛ فإنه جائز؛ كالاستعانة.
* * *
قوله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ} ، الواو: حرف عطف، و (أن) : فتحت همزتها بسبب عطفها على قوله: {أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} .
قال ابن مالك:
وهمز إن افتح لسد مصدر ... وفي سوى ذاك اكسر
فيؤول بمصدر، أي: قل أوحي إلي استماع نفر وكون رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن.
قوله: {مِنَ الْإِنْسِ} ، صفة لرجال؛ لأن رجال نكرة، وما بعد النكرة صفة لها.
قوله: {يَعُوذُونَ} ، الجملة خبر كان، ويقال: عاذ به ولاذ به؛ فالعياذ مما يخاف، واللياذ فيما يؤمل، وعليه قول الشاعر يخاطب ممدوحه، ولا يصلح ما قاله إلا لله:(9/244)
يا من ألوذ به فيما أؤمله ... ومن أعوذ به مما أحاذره
لا يجبر الناس عظما أنت كاسره ... ولا يهيضون عظما أنت جابره
قوله: {يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ} ، أي: يلتجئون إليهم مما يحاذرونه، يظنون أنهم يعيذونهم، ولكن زادوهم رهقا؛ أي: خوفا وذعرا، وكانت العرب في الجاهلية إذا نزلوا في واد نادوا بأعلى أصواتهم: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه.
قوله: {رَهَقًا} ، أي: ذعرا وخوفا، بل الرهق أشد من مجرد الذعر والخوف؛ فكأنهم مع ذعرهم وخوفهم أرهقهم وأضعفهم شيء؛ فالذعر والخوف في القلوب والرهق في الأبدان.
وهذه الآية تدل على أن الاستعاذة بالجن حرام؛ لأنها لا تفيد المستعيذ، بل تزيده رهقا؛ فعوقب بنقيض قصده، وهذا ظاهر؛ فتكون الواو ضمير الجن والهاء ضمير الإنس.
وقيل: إن الإنس زادوا الجن رهقا؛ أي: استكبارا وعتوا، ولكن الصحيح الأول.
قوله: {بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ} ، يستفاد منه أن للجن رجالا، ولهم إناث، وربما يجامع الرجل من الجن الأنثى من بني آدم، وكذلك العكس الرجل من بني آدم قد يجامع الأنثى من الجن، وقد ذكر الفقهاء الخلاف في وجوب الغسل بهذا الجماع.
والفقهاء يقولون في باب الغسل: لو قالت: إن بها جنيا يجامعها كالرجل؛ وجب عليها الغسل، وأما أن الرجل يجامع الأنثى من الجن؛ فقد قيل ذلك، لكن لم أره في كلام أهل العلم، وإنما أساطير تقال، والله أعلم.(9/245)
وعن خولة بنت حكيم قالت: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «من نزل منزلا، فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق؛ لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك» رواه مسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لكن علينا أن نصدق بوجودهم، وأنهم مكلفون، وبأن منهم الصالحين ومنهم دون ذلك، وبأن منهم المسلمين والقاسطين، وبأن منهم رجالا ونساء.
وجه الاستشهاد بالآية: ذم المستعيذين بغير الله، والمستعيذ بالشيء لا شك أنه قد علق رجاءه به، واعتمد عليه، وهذا نوع من الشرك.
* * *
قوله: (كلمات) ، من جموع القلة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، وجموع القلة من ثلاثة إلى عشرة، والكثرة ما فوق ذلك.
وقيل: جموع الكثرة من ثلاثة إلى ما لا نهاية له؛ فيكون جمع القلة والكثرة يتفقان في الابتداء، ويختلفان في الانتهاء.
قال ابن مالك:
أفعلة أَفْعُلُ ثم فِعْلَهْ ... ثمت أفعال جموع قِلَّهْ
وبعض ذي بكثرة وضعا يفي ... كأرجل والعكس جاء كالصفي
والراجح: أن جموع القلة تدل على الكثرة بالدليل.
و (كلمات) : جمع قلة دال على الكثرة لوجود الدليل، قال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف:109] .(9/246)
وأبلغ من هذا قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان: 27] .
والمراد بالكلمات هنا: الكلمات الكونية والشرعية.
وقوله: (من نزل منزلا) يشمل من نزله على سبيل الإقامة الدائمة، أو الطارئة، بدليل أنه نكرة في سياق الشرط، والنكرة في سياق الشرط تفيد العموم.
وقوله: (أعوذ) بمعنى: ألتجىء وأعتصم.
قوله: التامات: تمام الكلام بأمرين:
1 - الصدق في الأخبار.
2 - العدل في الأحكام.
قال الله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام:115] .
قوله: (من شر ما خلق) ، أي: من شر الذي خلق؛ لأن الله خلق كل شيء: الخير والشر، ولكن الشر لا ينسب إليه؛ لأنه خلق الشر لحكمة، فعاد بهذه الحكمة خيرا، فكان خيرا.
وعلى هذا نقول: الشر ليس في فعل الله، بل في مفعولاته؛ أي: مخلوقاته.
وعلى هذا تكون (ما) موصولة لا غير؛ أي: من شر الذي خلق؛ لأنك لو أولتها إلى المصدرية وقلت: من شر خلقك؛ لكان الخلق هنا مصدرا يجوز أن يراد به الفعل، ويجوز أيضا المفعول، لكن لو جعلتها اسما موصولا تعين أن يكون المراد بها المفعول، وهو المخلوق.
وليس كل ما خلق الله فيه شر، لكن تستعيذ من شره إن كان فيه شر؛ لأن مخلوقات الله تنقسم إلى ثلاثة أقسام هي:(9/247)
1 - شر محض كالنار وإبليس باعتبار ذاتيهما، أما باعتبار الحكمة التي خلقهما الله من أجلها؛ فهي خير.
2 - خير محض؛ كالجنة، والرسل، والملائكة.
3 - فيه شر وخير؛ كالإنس، والجن، والحيوان.
وأنت إنما تستعيذ من شر ما فيه شر.
قوله: (لم يضره شيء) ، نكرة في سياق النفي؛ فتفيد العموم من شر كل ذي شر من الجن والإنس وغيرهم والظاهر الخفي حتى يرتحل من منزله؛ لأن هذا خبر لا يمكن أن يتخلف مخبره؛ لأنه كلام الصادق المصدوق، لكن إن تخلف؛ فهو لوجود مانع لا لقصور السبب أو تخلف الخبر.
ونظير ذلك كل ما أخبر به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأسباب الشرعية إذا فعلت ولم يحصل المسبب فليس ذلك لخلل في السبب، ولكن لوجود مانع، مثل:
قراءة الفاتحة على المرضى شفاء، ويقرؤها بعض الناس ولا يشفى المريض، وليس ذلك قصورا في السبب، بل لوجود مانع بين السبب وأثره.
ومنه: التسمية عند الجماع؛ فإنها تمنع ضرر الشيطان للولد، وقد توجد التسمية ويضر الشيطان الولد؛ لوجود مانع يمنع من حصول أثر هذا السبب، فعليك أن تفتش ما هو المانع حتى تزيله فيحصل لك أثر السبب.
قال القرطبي: وقد جربت ذلك؛ حتى إني نسيت ذات يوم، فدخلت منزلي ولم أقل ذلك، فلدغتني عقرب.
والشاهد من الحديث: قوله: «أعوذ بكلمات الله» .
والمؤلف يقول في الترجمة: الاستعاذة بغير الله، وهنا استعاذة بالكلمات، ولم يستعذ بالله؛ فلماذا؟(9/248)
أجيب: أن كلمات الله صفة من صفاته، ولهذا استدل العلماء بهذا الحديث على أن كلام الله من صفاته غير مخلوق؛ لأن الاستعاذة بالمخلوق لا تجوز في مثل هذا الأمر، ولو كانت الكلمات مخلوقة ما أرشد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الاستعاذة بها.
ولهذا كان المراد من كلام المؤلف: الاستعاذة بغير الله؛ أي: أو صفة من صفاته.
وفي الحديث: «أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر» ، وهنا استعاذ بعزة الله وقدرته، ولم يستعذ بالله، والعزة والقدرة من صفات الله، وهي ليست مخلوقة.
ولهذا يجوز القسم بالله وبصفاته؛ لأنها غير مخلوقة.
أما القسم بالآيات، فإن أراد الآيات الشرعية؛ فجائز، وإن أراد الآيات الكونية؛ فغير جائز.
أما الاستعاذة بالمخلوق؛ ففيها تفصيل، فإن كان المخلوق لا يقدر عليه؛ فهي من الشرك، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (لا يجوز الاستعاذة بالمخلوق عند أحد من الأئمة) ، وهذا ليس على إطلاقه، بل مرادهم مما لا يقدر عليه إلا الله؛ لأنه لا يعصمك من الشر الذي لا يقدر عليه إلا الله؛ سوى الله.
ومن ذلك أيضا الاستعاذة بأصحاب القبور؛ فإنهم لا ينفعون ولا يضرون؛ فالاستعاذة بهم شرك أكبر، سواء كان عند قبورهم أم بعيدا عنهم.
أما الاستعاذة بمخلوق فيما يقدر عليه؛ فهي جائزة، وقد أشار إلى ذلك الشارح الشيخ سليمان في (تيسير العزيز الحميد) ، وهو مقتضى الأحاديث(9/249)
الواردة في (صحيح مسلم) لما ذكر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الفتن؛ قال: «فمن وجد من ذلك ملجأ؛ فليعذ به» .
وكذلك قصة المرأة التي عاذت بأم سلمة، والغلام الذي عاذ بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكذلك في قصة الذين يستعيذون بالحرم والكعبة، وما أشبه ذلك.
وهذا هو مقتضى النظر، فإذا اعترضني قطاع طريق، فعذت بإنسان يستطيع أن يخلصني منهم؛ فلا شيء فيه.
لكن تعليق القلب بالمخلوق لا شك أنه من الشرك، فإذا علقت قلبك ورجاءك وخوفك وجميع أمورك بشخص معين، وجعلته ملجأ؛ فهذا شرك؛ لأن هذا لا يكون إلا لله.
وعلى هذا؛ فكلام الشيخ رحمه الله في قوله؛ (إن الأئمة لا يجوزون الاستعاذة بمخلوق) مقيد بما لا يقدر عليه إلا الله، ولولا أن النصوص وردت بالتفصيل لأخذنا الكلام على إطلاقه، وقلنا: لا يجوز الاستعاذة بغير الله مطلقا.(9/250)
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية الجن. الثانية: كونه من الشرك. الثالثة: الاستدلال على ذلك بالحديث؛ لأن العلماء يستدلون به على أن كلمات الله غير مخلوقة؛ قالوا: لأن الاستعاذة بالمخلوق شرك. الرابعة: فضيلة هذا الدعاء مع اختصاره. الخامسة: أن كون الشيء يحصل به منفعة دنيوية؛ من كف شر أو جلب نفع؛ لا يدل على أنه ليس من الشرك.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية الجن، وقد سبق ذلك في أول الباب.
الثانية: كونه من الشرك، أي: الاستعاذة بغير الله، وقد سبق التفصيل في ذلك.
الثالثة: الاستدلال على ذلك بالحديث؛ لأن العلماء يستدلون به على أن كلمات الله غير مخلوقة؛ لأن الاستعاذة بالمخلوق شرك، وجه الاستشهاد: أن الاستعاذة بكلمات الله لا تخرج عن كونها استعاذة بالله؛ لأنها صفة من صفاته.
الرابعة: فضيلة هذا الدعاء مع اختصاره، أي: فائدته، وهي أنه لا يضرك شيء ما دمت في هذا المنزل.
الخامسة: أن كون الشيء يحصل به منفعة دنيوية من كف شر أو جلب نفع، لا يدل على أنه ليس من الشرك، ومعنى كلامه: أنه قد يكون الشيء من الشرك، ولو حصل لك فيه منفعة؛ فلا يلزم من حصول النفع أن ينتفي الشرك؛ فالإنسان قد ينتفع بما هو شرك.(9/251)
مثال ذلك: الجن؛ فقد يعيذونك، وهذا شرك مع أن فيه منفعة.
مثال آخر: قد يسجد إنسان لملك، فيهبه أموالا وقصورا، وهذا شرك مع أن فيه منفعة، ومن ذلك ما يحصل لغلاة المداحين لملوكهم لأجل العطاء؛ فلا يخرجهم ذلك عن كونهم مشركين.
قال بعضهم:
فكن كما شئت يا من لا نظير له ... وكيف شئت فما خلق يدانيك
وفي الحديث فائدة، وهي: أن الشرع لا يبطل أمرا من أمور الجاهلية إلا ذكر ما هو خير منه؛ ففي الجاهلية كانوا يستعيذون بالجن، فأبدل بهذه الكلمات، وهي: أن يستعيذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق.
وهذه الطريقة هي الطريقة السليمة التي ينبغي أن يكون عليها الداعية، أنه إذا سد الناس باب الشر؛ وجب عليه أن يفتح لهم باب الخير، ولا يقول: حرام، ويسكت، بل يقول: هذا حرام، وافعل كذا وكذا من المباح بدلا عنه، وهذا له أمثلة في القرآن والسنة.
فمن القرآن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} [البقرة: 104] ، فلما نهاهم عن قول راعنا ذكر لهم ما يقوم مقامه وهو انظرنا.
ومن السنة «قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمن نهاه عن بيع الصاع من التمر الطيب بالصاعين، والصاعين بالثلاثة: (بع الجمع بالدراهم، واشتر بالدراهم جنيبا» .
فلما منعه من المحذور؛ فتح له الباب السليم الذي لا محذور فيه.
* * *(9/252)
باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (من الشرك) ، من: للتبعيض؛ فيدل على أن الشرك ليس مختصا بهذا الأمر.
والاستغاثة: طلب الغوث، وهو إزالة الشدة.
وكلام المؤلف رحمه الله ليس على إطلاقه، بل يقيد بما لا يقدر عليه المستغاث به، إما لكونه ميتا، أو غائبا، أو يكون الشيء مما لا يقدر على إزالته إلا الله تعالى، فلو استغاث بميت ليدفع عنه أو بغائب أو بحي حاضر لينزل المطر، فهذا كله من الشرك، ولو استغاث بحي حاضر فيما يقدر عليه كان جائزا، قال الله تعالى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص: 15] .
وإذا طلبت من أحد الغوث وهو قادر عليه؛ فإنه يجب عليك تصحيحا لتوحيدك أن تعتقد أنه مجرد سبب، وأنه لا تأثير له بذاته في إزالة الشدة؛ لأنك ربما تعتمد عليه وتنسى خالق السبب، وهذا قادح في كمال التوحيد.
قوله: (أو يدعو غيره) ، معطوف على قوله: (أن يستغيث) ؛ فيكون المعنى: من الشرك أن يدعو غير الله، وذلك لأن الدعاء من العبادة، قال الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60] ، عبادتي؛ أي دعائي؛ فسمى الله الدعاء عبادة.(9/253)
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الدعاء هو العبادة» . (1)
والدعاء ينقسم إلى قسمين:
1 - ما يقع عبادة، وهذا صرفه لغير الله شرك، وهو المقرون بالرهبة والرغبة، والحب، والتضرع.
2 - ما لا يقع عبادة؛ فهذا يجوز أن يوجه إلى المخلوق، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من دعاكم فأجبيوه» ، وقال: «إذا دعاك فأجبه» ، وعلى هذا؛ فمراد المؤلف بقوله: (أو يدعو غيره) دعاء العبادة أو دعاء المسألة فيما لا يمكن للمسؤول إجابته.
قوله: (أن يستغيث) ، أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر مبتدأ مؤخر، وخبرها مقدم، وهو قوله: من الشرك، والتقدير: من الشرك الاستغاثة بغير الله، والمبتدأ يكون صريحا ومؤولا.
فالمبتدأ الصريح مثل: زيد قائم، والمؤول مثل: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة 184] ؛ أي: وصوموا خير لكم.
وقوله: (أو يدعو) هذا من باب عطف العام على الخاص؛ لأن الاستغاثة دعاء بإزالة الشدة فقط، والدعاء عام لكونه لجلب منفعة، أو لدفع مضرة.
وقد ذكر المؤلف رحمه الله في هذا الباب عدة آيات:
* * *
__________
(1) مسند الإمام أحمد (4/267) ، والترمذي: الدعوات /باب الدعاء مخ العبادة، وقال: (حديث حسن صحيح) ـ، والحاكم (1/490) ـ وصححه ووافقه الذهبي ـ.(9/254)
وقول الله تعالى {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس:106] .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الآية الأولى قوله: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} .
ظاهر سياق الآية أن الخطاب للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسواء كان خاصا به أو عاما له ولغيره؛ فإن بعض العلماء قال: لا يصح أن يكون للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستحيل أن يقع منه ذلك، والآية على تقدير قل، وهذا ضعيف جدا، وإخراج للآيات عن سياقها.
والصواب: أنه خاص بالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والحكم له ولغيره، وإما عام لكل من يصح خطابه ويدخل فيه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وكونه يوجه إليه مثل هذا الخطاب لا يقتضي أن يكون ممكنا منه، قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65] ؛ فالخطاب له ولجميع الرسل، ولا يمكن أن يقع منه باعتبار حاله لا باعتبار كونه إنسانا وبشرا.
إذًا؛ فالحكمة من النهي أن يكون غيره متأسيا به، فإذا كان النهي موجها إلى من لا يمكن منه باعتبار حاله؛ فهو إلى من يمكن منه من باب أولى.
وقوله: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، الدعاء: طلب ما ينفع، أو طلب دفع ما يضر، وهو نوعان كما قال أهل العلم:
الأول: دعاء عبادة وهو أن يكون قائما بأمر الله؛ لأن القائم بأمر الله - كالمصلي، والصائم، والمزكي - يريد بذلك الثواب والنجاة من العقاب، ففعله متضمن للدعاء بلسان الحال، وقد يصحب فعله هذا دعاء بلسان المقال.(9/255)
الثاني: دعاء مسألة، وهو طلب ما ينفع، أو طلب دفع ما يضره.
فالأول لا يجوز صرفه لغير الله، والثاني فيه تفصيل سبق.
قوله: {مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، أي: سوى الله.
قوله: {مَا لَا يَنْفَعُكَ} ، أي: ما لا يجلب لك النفع لو عبدته.
{وَلَا يَضُرُّكَ} : قيل: لا يدفع عنك الضر، وقيل: لو تركت عبادته لا يضرك؛ لأنه لا يستطيع الانتقام، وهو الظاهر من اللفظ.
قوله: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ} ؛ أي: لأنه لا ينفعك ولا يضرك، وهذا القيد ليس شرطا بحيث يكون له مفهوم؛ فيكون لك أن تدعو من ينفعك ويضرك، بل هو لبيان الواقع؛ لأن المدعو من دون الله لا يحصل منه نفع ولا ضرر، قال الله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:5، 6] .
ومن القيد الذي ليس بشرط، بل هو لبيان الواقع قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 21] .
فإن قوله: {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} لبيان الواقع؛ إذ ليس هناك رب ثان لم يخلقنا والذين من قبلنا.
ومنه قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء: 23] ؛ فهذا بيان للواقع الأغلب.
ومنه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24] ؛ فهذا بيان للواقع؛ إذ دعاء الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيانا كله لما يحيينا.
وكل قيد يراد به بيان الواقع؛ فإنه كالتعليل للحكم؛ فمثلا قوله تعالى:(9/256)
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [البقرة: 21] .
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} ؛ أي: لأنه لا يدعوكم إلا لما يحييكم.
وكذلك قوله تعالى: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ} ؛ أي: لأنه لا ينفعك ولا يضرك؛ فعلى هذا لا يكون هذا القيد شرطا، وهذه يسميها بعض الناس صفة كاشفة.
قوله: {فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} ، أي: إن دعوت من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك، والخطاب للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
و (إن) : شرطية، وجواب الشرط جملة: {فَإِنَّكَ إِذًا} .
و (إذًا) ؛ أي: حال فعلك من الظالمين، وهو قيد، لأن (إذًا) للظرف الحاضر، أي: فإنك حال فعله من الظالمين، لكن قد تتوب منه فيزول عنك وصف الظلم؛ فالإنسان قبل الفعل ليس بظالم، وبعد التوبة ليس بظالم، لكن حين فعل المعصية يكون ظالما كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» ؛ فنفى الإيمان عنه حال الفعل.
ونوع الظلم هنا ظلم شرك، قال الله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] ، وعبر الله بقوله: من الظالمين، ولم يقل: من المشركين؛ لأجل أن يبين أن الشرك ظلم؛ لأن كون الداعي لغير الله مشركا أمر بين، لكن كونه ظالما قد لا يكون بينا من الآية.
* * *(9/257)
{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} [يونس: 107] .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الآية الثانية قوله: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ} ، أي: يصيبك بضر؛ كالمرض، والفقر، ونحوه.
قوله: {فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} . (لا) : نافية للجنس واسمها: كاشف، وخبرها: له، وإلا هو بدل، وإن قلنا بجواز كون خبرها معرفة صار (هو) الخبر.
أي: ما أحد يكشفه أبدا إذا مسك الله بضر إلا الله، وهذا كقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك» . (1)
قوله: {وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ} ، هنا قال يردك، وفي الضر قال: يمسسك فهل هذا من باب تنويع العبارة، أو هناك فرق معنوي؟
الجواب: هناك فرق معنوي، وهو أن الأشياء المكروهة لا تنسب إلى إرادة الله، بل تنسب إلى فعله؛ أي: مفعوله.
فالمس من فعل الله، والضر من مفعولاته؛ فالله لا يريد الضر لذاته، بل يريده لغيره؛ لما يترتب عليه من الخير، ولما وراء ذلك من الحكم البالغة، وفي الحديث القدسي: «إن من عبادي من لو أغنيته أفسده الغنى» . (2)
__________
(1) مسند الإمام أحمد (1/293) -وصححه أحمد شاكر (2669) ، والترمذي: أبواب صفة القيامة /باب ولكن يا حنظلة ساعة وساعة، 7/203-وقال: (حديث حسن صحيح) -.
(2) من حديث أنس، رواه: الطبراني(9/258)
أما الخير؛ فهو مراد لله لذاته، ومفعول له، ويقرب من هذا ما في سورة الجن: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن:10] .
فإذا أصيب الإنسان بمرض؛ فالله لم يرد به الضرر لذاته، بل أراد المرض، وهو يضره، لكن لم يرد ضرره، بل أراد خيرا من وراء ذلك، وقد تكون الحكمة ظاهرة في نفس المصاب، وقد تكون ظاهرة في غيره؛ كما قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:25] .
فالمهم أنه ليس لنا أن نتحجر حكمة الله؛ لأنها أوسع من عقولنا، لكننا نعلم علم اليقين أن الله لا يريد الضرر لأنه ضرر؛ فالضرر عند الله ليس مرادا لذاته، بل لغيره، ولا يترتب عليه إلا الخير، أما الخير؛ فهو مراد لذاته، ومفعول له، والله أعلم بما أراد بكلامه، لكن هذا الذي يتبين لي.
قوله: {فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} ، أي: لا يستطيع أن يرد فضل الله أبدا، ولو اجتمعت الأمة على ذلك، وفي الحديث: «اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت» .
وعليه؛ فنعتمد على الله في جلب المنافع، ودفع المضار، وبقاء ما أنعم علينا به، ونعلم أن الأمة مهما بلغت من المكر والكيد والحيل لتمنع فضل الله؛ فإنها لا تستطيع.
قوله: {يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ} ، الضمير إما أن يعود إلى الفضل؛ لأنه أقرب، أو إلى الخير؛ لأنه هو الذي يتحدث عنه، ولا يختلف المعنى بذلك.
قوله: من يشاء، كل فعل مقيد بالمشيئة؛ فإنه مقيد بالحكمة؛ لأن(9/259)
وقوله: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} [العنكبوت: 17] .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مشيئة الله ليست مجردة يفعل ما يشاء لمجرد أنه يفعله فقط؛ لأن من صفات الله الحكمة، ومن أسمائه الحكيم، قال الله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الانسان:30] .
قوله: {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} ، أي: ذو المغفرة، والمغفرة: ستر الذنب والتجاوز عنه، مأخوذ من المغفر، وهو ما يتقي به السهام، والمغفرة فيه ستر ووقاية.
والرحيم؛ أي: ذو الرحمة، وهي صفة تليق بالله عز وجل، تقتضي الإحسان والإنعام.
الشاهد قوله: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ} في الآية الأولى؛ فقد نبه الله نبيه أن من يدعو أحدا من دون الله (أي: من سواه)) لا ينفعه ولا يضره.
وقوله في الآية الثانية: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} .
* * *
الآية الثالثة قوله: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} .
لو أتي المؤلف بأول الآية: {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا} لكان أولى؛ فهم يعبدون هذه الأوثان من شجر وحجر وغيرها، وهي لا تملك لهم رزقا أبدا، لو دعوها إلى يوم القيامة ما أحضرت لهم ولا حبة بر، ولا دفعت عنهم أدنى مرض أو فقر، فإذا كانت لا تملك الرزق؛ فالذي يملكه هو الله، ولهذا قال: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} ؛ أي: اطلبوا عند الله الرزق؛(9/260)
لأنه سبحانه هو الذي لا ينقضي ما عنده، {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 96] ، والرزق هو العطاء كما قال الله تعالى: {فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} .
وقوله: {عِنْدَ اللَّهِ} : عند الله: حال من الرزق، وقدم الحال مع أن موضعها التأخير عن صاحبها لإفادة الحصر؛ إذ إن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر؛ أي: فابتغوا الرزق حال كونه عند الله لا عند غيره.
قوله: واعبدوه، أي: تذللوا بالطاعة؛ لأن العبادة مأخوذة من التعبيد، وهو التذليل، ومنه قولهم: طريق معبد؛ أي: مذلل للسالكين، قد أزيل عنه الأحجار والأشجار المؤذية؛ لأنكم إذا تذللتم له بالطاعة؛ فهو من أسباب الرزق، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 3، 4] ؛ فأمر أن نطلب الرزق عنده، ثم أعقبه بقوله: واعبدوه إشارة إلى أن تحقيق العبادة من طلب الرزق؛ لأن العابد ما دام يؤمن أن من يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب؛ فعبادته تتضمن طلب الرزق بلسان الحال.
قوله: {وَاشْكُرُوا لَهُ} ، إذا أضاف الله الشكر له متعديا باللام؛ فهو إشارة إلى الإخلاص؛ أي: واشكروا نعمة الله لله؛ فاللام هنا لإفادة الإخلاص؛ لأن الشاكر قد يشكر الله لبقاء النعمة، وهذا لا بأس به، ولكن كونه شكر لله وتأتي إرادة بقاء النعمة تبعا هذا هو الأكمل والأفضل.
والشكر فسروه بأنه: القيام بطاعة المنعم، وقالوا: إنه يكون في ثلاثة مواضع:
1- في القلب، وهو أن يعترف بقلبه أن هذه النعمة من الله، فيرى لله فضلا عليه بها، قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53] ، وأعظم نعمة هي نعمة الإسلام، قال تعالى:(9/261)
{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} [الحجرات: 17] ، وقال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} الآية [آل عمران: 164] .
2 - اللسان، وهو أن يتحدث بها على وجه الثناء على الله والاعتراف وعدم الجحود، لا على سبيل الفخر والخيلاء والترفع على عباد الله؛ فيتحدث بالغنى لا ليكسر خاطر الفقير، بل لأجل الثناء على الله، وهذا جائز كما في قصة الأعمى من بني إسرائيل لما ذكرهم الملك بنعمة الله، قال: (نعم، كنت أعمى فرد الله علي بصري، وكنت فقيرا فأعطاني الله المال) ؛ فهذا من باب التحدث بنعمة الله.
والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحدث بنعمة الله عليه بالسيادة المطلقة: فقال: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة» .
3 - الجوارح، وهو أن يستعملها بطاعة المنعم، وعلى حسب ما يختص بهذه النعمة.
فمثلا: شكر الله على نعمة العلم: أن تعمل به، وتعلمه الناس.
وشكر الله على نعمة المال: أن تصرفه بطاعة الله، وتنفع الناس به.
وشكر الله على نعمة الطعام: أن تستعمله فيما خلق له، وهو تغذية البدن؛ فلا تبني من العجين قصرا مثلا؛ فهو لم يخلق لهذا الشيء.
قوله: {إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ، الجار والمجرور متعلق بـ ترجعون، وتقديمه دل على الحصر، أي أن رجوعنا إلى الله سبحانه، وهو الذي سيحاسبنا(9/262)
وقوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} الآية [الأحقاف: 5] .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
على ما حملنا إياه من الأمر بالعبادة، والأمر بالشكر، وطلب الرزق منه.
والشاهد من هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} [العنكبوت: 17] ؛ فالفقير يستغيث بالله لكي ينجيه من الفقر، والله هو الذي يستحق الشكر، وإذا كانت هذه الأصنام لا تملك الرزق؛ فكيف تستغيث بها؟ !
* الآية الرابعة قوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ} ، (من) : اسم استفهام مبتدأ، و (أضل) : خبره والاستفهام يراد به هنا النفي، أي لا أحل أضل.
وأضل: اسم تفضيل؛ أي: لا أحد أضل من هذا.
والضلال: أن يتيه الإنسان عن الطريق الصحيح.
وإذا كان الاستفهام مرادا به النفي كان أبلغ من النفي المجرد؛ لأنه يحوله من نفي إلى تحد؛ أي: بين لي عن أحد أضل ممن يدعو من دون الله؟ فهو متضمن للتحدي، وهو أبلغ من قوله: لا أضل ممن يدعو؛ لأنه هذا نفي مجرد، وذلك نفي مشرب معنى التحدي.
قوله: {مِمَّنْ يَدْعُو} ، متعلق بأضل، ويراد بالدعاء هنا دعاء المسألة ودعاء العبادة.
قوله: {مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، أي: سواه.
قوله: {مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} ، (من) : مفعول يدعو؛ أي لو بقي كل عمر الدنيا يدعو ما استجاب له، قال الله تعالى:(9/263)
{إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} [فاطر: 14] ، والخبر هنا عن الله تعالى، قال تعالى: {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 14] ، يعني: نفسه سبحانه وتعالى.
وقوله: {مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ} أتى بـ (من) ، وهي للعاقل، مع أنهم يعبدون الأصنام والأحجار والأشجار، وهي غير عاقلة؛ لأنهم لما عبدوها نزلوها منزلة العاقل، فخوطبوا بمقتضى ما يدعون؛ لأنه أبلغ في إقامة الحجة عليهم في أنهم يدعون من يرونهم عقلاء، ومع ذلك لا يستجيبون لهم، وهذا من بلاغة القرآن؛ لأنه خاطبهم بما تقتضيه حالهم ليقيم الحجة عليهم؛ إذ لو قيل: ما لا يستجيب له؛ لقالوا: هناك عذر في عدم الاستجابة لأنهم غير عقلاء.
قوله: {وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ} ، الضمير في قوله: (هم) يعود على (من) باعتبار المعنى؛ لأنهم جماعة، وضمير يستجيب يعود على (من) باعتبار اللفظ؛ لأنه مفرد، فأفرد الضمير باعتبار لفظ (من) ، وجمعه باعتبار لفظ (من) ، وجمعه باعتبار المعنى؛ لأن (من) تعود على الأصنام، وهي جماعة، و (من) قد يراعى لفظها ومعناها في كلام واحد.
ومنه قوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا} [الطلاق: 11] ؛ فهنا راعي اللفظ، ثم المعنى، ثم اللفظ.
قوله: {عَنْ دُعَائِهِمْ} ، الضمير في دعائهم يعود إلى المدعوين، وهل المعنى: (وهم) ؛ أي: الأصنام، {عَنْ دُعَائِهِمْ} ، أي: دعاء الداعين إياهم، فيكون من باب إضافة المصدر إلى مفعوله، أو المعنى: و (هم) عن دعاء العابدين لهم؛ فيكون (دعاء) مضافا إلى فاعله، والمفعول محذوف؟(9/264)
الأول أبلغ، أي عن دعاء العابدين إياهم أبلغ من دعاء العابدين على سبيل الإطلاق، فإذا قلت: {عَنْ دُعَائِهِمْ} ؛ أي: عن دعاء العابدين إياهم، وجعلت الضمير هنا يعود على المدعوين؛ صار المعنى أن هذه الأصنام غافلة عن دعوة هؤلاء إياهم، ويكون هذا أبلغ في أن هذه الأصنام لا تفيد شيئا في الدنيا ولا في الآخرة.
قوله: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ} ، أي: يوم القيامة، {كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً} ، هل المعنى: كان العابدون للمعبودين أعداء، أو كان المعبودون للعابدين أعداء؟
الجواب: يشمل المعنيين، وهذا من بلاغة القرآن.
الشاهد: قوله: {مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} ، فإذا كان من سوى الله لا يستجيب إلى يوم القيامة؛ فكيف يليق بك أن تستغيث به دون الله؟ ! فبطل تعلق هؤلاء العابدين بمعبوداتهم.
فالذي يأتي للبدوي أو للدسوقي في مصر، فيقول: المدد! المدد! أو: أغثني؛ لا يغني عنه شيئا، ولكن قد يبتلى فيأتيه المدد عند حصول هذا الشيء لا بهذا الشيء، وفرق بين ما يأتي بالشيء وما يأتي عند الشيء.
مثال ذلك: امرأة دعت البدوي أن تحمل، فلما جامعها زوجها حملت، وكانت سابقا لا تحمل؛ فنقول هنا: إن الحمل لم يحصل بدعاء البدوي، وإنما حصل عنده لقوله تعالى: {مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} .
أو يأتي للجيلاني في العراق، أو ابن عربي في سوريا، فيستغيث به؛ فإنه لا ينتفع، ولو بقي الواحد منهم إلى يوم القيامة يدعو ما أجابه أحد.
والعجب أنهم في العراق يقولون: عندنا الحسين، فيطوفون بقبره ويسألونه، وفي مصر كذلك، وفي سوريا كذلك، وهذا سفه في العقول،(9/265)
وقوله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62] .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وضلال في الدين، والعامة قد لا يلامون في الواقع، لكن الذي يلام من عنده علم من العلماء ومن غير العلماء.
* * *
* * *
* الآية الخامسة قوله تعالى: أمن، أم: منقطعة، والفرق بين المنقطعة والمتصلة ما يلي:
1 - المنقطعة بمعنى بل، والمتصلة بمعنى أو.
2 - المتصلة لا بد فيها من ذكر المعادل، والمنقطعة لا يشترط فيها ذكر المعادل.
مثال ذلك: أعندك زيد أم عمرو؟ فهذه متصلة، وقوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35] متصلة، وقوله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} منقطعة؛ لأنه لم يذكر لها معادل؛ فهي بمعنى بل والهمزة.
قوله: المضطر، أصلها: المضتر؛ أي: الذي أصابه الضرر، قال تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} [الانبياء: 83-84] ؛ فلا يجيب المضطر إلا الله، لكن قيده بقوله: إذا دعاه، أما إذا لم يدعه؛ فقد يكشف الله ضره، وقد لا يكشفه.
قوله: {وَيَكْشِفُ السُّوءَ} ، أي: يزيل السوء، والسوء: ما يسوء المرء، وهو دون الضرورة؛ لأن الإنسان قد يساء بما لا يضره، لكن كل ضرورة سوء.
وقوله: {وَيَكْشِفُ السُّوءَ} هل هي متعلقة بما قبلها في المعنى، وإنه إذا أجابه كشف سوءه، أو هي مستقلة يجيب المضطر إذا دعاه ثم أمر آخر يكشف السوء؟
الجواب: المعنى الأخير أعم؛ لأنها تشمل كشف سوء المضطر وغيره،(9/266)
ومن دعا الله ومن لم يدعه، وعلى التقدير الأول تكون خاصة بكشف سوء المضطر، ومعلوم أنه كلما كان المعنى أعم كان أولى، ويؤيد العموم قوله: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ} .
قوله: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ} ، الذين يجعلهم الله خلفاء الأرض هم عباد الله الصالحون، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105] ، وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55] .
قوله: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} ، الاستفهام للإنكار أو بمعنى النفي، وهما متقاربان أي: هل أحد مع الله يفعل ذلك؟!
الجواب: لا، وإذا كان كذلك؛ فيجب أن تصرف العبادة لله وحده، وكذلك الدعاء؛ فالواجب على العبد أن يوجه السؤال إلى الله تعالى، ولا يطلب من أحد أن يزيل ضرورته ويكشف سوءه وهو لا يستطيع.
* إشكال وجوابه:
وهو أن الإنسان المضطر يسأل غير الله ويستجاب له، كمن اضطر إلى طعام وطلب من صاحب الطعام أن يعطيه فأعطاه؛ فهل يجوز أم لا؟
الجواب: أن هذا جائز، لكن يجب أن نعتقد أن هذا مجرد سبب لا أنه مستقل؛ فالله جعل لكل شيء سببا، فيمكن أن يصرف الله قلبه فلا يعطيك، ويمكن أن تأكل ولا تشبع فلا تزول ضرورتك، ويمكن أن يسخره الله ويعطيك.
* * *(9/267)
روى الطبراني بإسناده (1) : «أنه كان في زمن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منافق يؤذي المؤمنين، فقال بعضهم: قوموا بنا نستغيث برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من هذا المنافق.»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (بإسناده) ، يشير إلى أن هذا الإسناد ليس على شرط الصحيح، أو المتفق عليه بين الناس، بل هو إسناده الخاص، وعليه؛ فيجب أن يراجع هذا الإسناد فليس كل إسناد محدث قد تمت فيه شروط القبول.
وذكر الهيثمي في (مجمع الزوائد) : (إن رجاله رجال الصحيح) ؛ غير ابن لهيعة، وهو حسن الحديث، وابن لهيعة خلط في آخر عمره لاحتراق كتبه) ، ولم يذكر المؤلف الصحابي، وفي الشرح هو عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
قوله: (في زمن النبي) ، أي: عهده، وكان الكافر أولا يعلن كفره ولا يبالي، ولما قوي المسلمون بعد غزوة بدر خاف الكفار؛ فصاروا يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر.
قوله: (منافق) ، المنافق: هو الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر، وهؤلاء ظهروا بعد غزوة بدر.
ولم يسم المنافق في هذا الحديث؛ فيحتمل أنه عبد الله بن أبي؛ لأنه مشهور بإيذاء المسلمين، ويحتمل غيره.
__________
(1) الطبراني في (المعجم الكبير) ، كما في (معجم الزوائد) (10/159) .(9/268)
«فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
واعلم أن أذية المنافقين للمسلمين ليست بالضرب أو القتل؛ لأنهم يتظاهرون بمحبة المسلمين، ولكن بالقول والتعريض كما صنعوا في قصة الإفك.
قوله: (فقال بعضهم) ، أي: الصحابة.
قوله: (نستغيث) ، أي: نطلب الغوث وهو إزالة الشدة.
قوله: (من هذا المنافق) ، إما بزجره، أو تعزيزه، أو بما يناسب المقام.
وفي الحديث إيجاز حذف دل عليه السياق؛ أي: فقاموا إلى رسول الله، فقالوا: يا رسول الله! إنا نستغيث بك من هذا المنافق.
قوله: «إنه لا يستغاث بي» ، ظاهر هذه الجملة النفي مطلقا، ويحتمل أن المراد: لا يستغاث به في هذه القضية المعينة.
فعلى الأول: يكون نفي الاستغاثة من باب سد الذرائع والتأدب في اللفظ، وليس من باب الحكم بالعموم؛ لأن نفي الاستغاثة بالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس على إطلاقه، بل تجوز الاستغاثة به فيما يقدر عليه.
أما إذا قلنا: إن النفي عائد إلى القضية المعنية التي استغاثوا بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منها؛ فإنه يكون على الحقيقة، أي: على النفي الحقيقي، أي: لا يستغاث بي في مثل هذه القضية؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يعامل المنافقين معاملة المسلمين، ولا يمكنه حسب الحكم الظاهر للمنافقين أن ينتقم من هذا المنافق انتقاما ظاهرا؛ إذ إن المنافقين يستترون، وعلى هذا؛ فلا يستغاث للتخلص من المنافق إلا بالله.
* * *(9/269)
فيه مسائل:
الأولى: أن عطف الدعاء على الاستغاثة من عطف العام على الخاص. الثانية: تفسير قوله: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ} . الثالثة: أن هذا هو الشرك الأكبر.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
* الأولى: أن عطف الدعاء على الاستغاثة من عطف العام على الخاص، يعني: حيث قال في الترجمة باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره، ووجه ذلك أن الاستغاثة طلب إزالة الشدة، والدعاء طلب ذلك وغيره، إذًا الاستغاثة نوع من الدعاء، والدعاء أعم؛ فهو من باب عطف العام على الخاص، وهذا سائغ في اللغة العربية؛ فهو كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ} [الحج: 77] .
* الثانية: تفسير قوله: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ} ، الخطاب في هذه الآية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاصة، بدليل الآيات التي قبلها، قال تعالى: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يونس: 105] .
فإن قيل: كيف ينهاه الله عن أمر لا يمكن أن يقع منه شرعا؟
أجيب: إن الغرض هو التنديد بمن فعل ذلك، كأنه يقول: لا تسلك هذا الطريق التي سلكها أهل الضلال، وإن كان الرسول لا يمكن أن يقع منه ذلك شرعا.
الثالثة: أن هذا هو الشرك الأكبر، يؤخذ من قوله تعالى:(9/270)
الرابعة: أن أصلح الناس لو فعله إرضاء لغيره؛ صار من الظالمين. الخامسة: تفسير الآية التي بعدها. السادسة: كون ذلك لا ينفع في الدنيا مع كونه كفرا. السابعة: تفسير الآية الثالثة. الثامنة: أن طلب الرزق لا ينبغي إلا من الله؛ كما أن الجنة لا تطلب إلا منه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
{فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} ، مضافا إلى قوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] .
الرابعة: أن أصلح الناس لو فعله إرضاء لغيره؛ صار من الظالمين، تؤخذ من كون الخطاب للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو أصلح الناس، فلو فعل ذلك إرضاء لغيره؛ صار من الظالمين، حتى ولو فعله مجاملة لإنسان مشرك، فدعا صاحب قبر إرضاء لذلك المشرك؛ فإنه يكون مشركا؛ إذ لا تجوز المحاباة في دين الله.
* الخامسة: تفسير الآية التي بعدها، وهي قوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} الآية [الأنعام: 17] ، فإذا كان لا يكشف الضر إلا الله؛ وجب أن تكون العبادة له وحده والاستغاثة به وحده.
* السادسة: كون ذلك لا ينفع في الدنيا مع كونه كفرا، تؤخذ من قوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} ، فلم ينتفع من دعائه هذا؛ فخسر الدنيا بذلك، والآخره بكفره.
* السابعة: تفسير الآية الثالثة، وهي قوله تعالى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} . وقوله: {عِنْدَ اللَّهِ} حال من الرزق، وعليه يكون ابتغاء الرزق عند الله وحده. * الثامنة: أن طلب الرزق لا ينبغي إلا من الله، كما أن الجنة لا تطلب إلا(9/271)
التاسعة: تفسير الآية الرابعة. العاشرة: أنه لا أضل ممن دعا غير الله. الحادية عشرة: أنه غافل عن دعاء الداعي لا يدري عنه. الثانية عشرة: أن تلك الدعوة سبب لبغض المدعو للداعي وعدواته له. الثالثة عشرة: تسمية تلك الدعوة عبادة للمدعو.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
منه، تؤخذ من قوله تعالى: {وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ؛ لأن العبادة سبب لدخول الجنة، وقد أشار الله إلى ذلك بقوله: {إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} .
التاسعة: تفسير الآية الرابعة، وهي قوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأحقاف: 5] .
العاشرة: أنه لا أضل ممن دعا غير الله، تؤخذ من قوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأحقاف: 5] ؛ لأن الاستفهام هنا بمعنى النفي.
الحادية عشرة: أنه غافل عن دعاء الداعي لا يدري عنه، لقوله تعالى: {وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} ، (وهم) ؛ أي: المدعوون {عَنْ دُعَائِهِمْ} أي: دعاء الداعين، أو عن دعاء الداعين إياهم؛ فالاحتمال في الضمير الثاني وهو قوله: {عَنْ دُعَائِهِمْ} ، أما الضمير الأول؛ فإنه يعود إلى المدعوين لا ريب، وقد سبق بيانه بالتفصيل.
* الثانية عشرة: أن تلك الدعوة سبب لبغض المدعو للداعي وعداوته له، تؤخذ من قوله تعالى: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} .
* الثالثة عشرة: تسمية تلك الدعوة عبادة للمدعو، تؤخذ من قوله تعالى:(9/272)
الرابعة عشرة: كفر المدعو بتلك العبادة. الخامسة عشرة: هي سبب كونه أضل الناس. السادسة عشرة: تفسير الآية الخامسة. السابعة عشرة: الأمر العجيب، وهو إقرار عبدة الأوثان أنه لا يجيب المضطر إلا الله، ولأجل هذا يدعونه في الشدائد مخلصين له الدين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
{وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} .
الرابعة عشرة: كفر المدعو بتلك العبادة، معنى كفر المدعو: رده وإنكاره، فإذا كان يوم القيامة تبرأ منه وأنكره. تؤخذ من قوله: {وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} .
الخامسة عشرة: هي سبب كونه أضل الناس، وذلك لأمور، هي:
1 - أنه يدعو من دون الله من لا يستجيب له.
2 - أن المدعوين غافلون عن دعائهم.
3 - أنه إذا حشر الناس كانوا له أعداء.
4 - أنه كافر بعبادتهم
السادسة عشرة: تفسير الآية الخامسة، وهي قوله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} وقد سبق ذلك.
السابعة عشرة: الأمر العجيب، وهو إقرار عبدة الأوثان أنه لا يجيب المضطر إلا الله....إلخ، وهو كما قال رحمه الله: وهذا موجود الآن؛ فمن الناس من يسجد للأصنام التي صنعوها بأنفسهم تعظيما، فإذا وقعوا في الشدة دعوا الله مخلصين له الدين، وكان عليهم أن يلجؤوا للأصنام لو كانت عبادتها(9/273)
الثامنة عشرة: حماية المصطفى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حمى التوحيد والتأدب مع الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حقا، إلا أن من المشركين اليوم من هو أشد شركا من المشركين السابقين، فإذا وقعوا في الشدة دعوا أولياءهم؛ كعلي والحسين، وإذا كان الأمر سهلا دعوا الله، وإذا حلفوا حلفا هم فيه صادقون حلفوا بعلي أو غيره من أوليائهم، وإذا حلفوا حلفا هم فيه كاذبون حلفوا بالله ولم يبالوا.
الثامنة عشرة: حماية المصطفى حمى التوحيد، والتأدب مع الله. اختار المؤلف أن قوله: «لا يستغاث بي» من باب التأدب بالألفاظ، والبعد عن التعلق بغير الله، وأن يكون تعلق الإنسان دائما بالله وحده؛ فهو يعلم الأمة أن تلجأ إلى الله وحده إذا وقعت في الشدائد، ولا تستغيث إلا به وحده.(9/274)
باب قول الله تعالى:
{أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا} الآية [الأعراف: 191،192] .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مناسبة الباب لما قبله:
لما ذكر رحمه الله الاستعاذة والاستغاثة بغير الله عز وجل؛ ذكر البراهين الدالة على بطلان عبادة ما سوى الله، ولهذا جعل الترجمة لهذا الباب نفس الدليل، وذكر رحمه الله ثلاث آيات:
* * *
الآية الأولى والثانية قوله: {أَيُشْرِكُونَ} ، الاستفهام للإنكار والتوبيخ؛ أي: يشركونه مع الله.
قوله: {مَا لَا يَخْلُقُ} ، هنا عبر بـ (ما) دون (من) ، وفي قوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ} [الأحقاف: 5] عبر ب (من) .
والمناسبة ظاهرة؛ لأن الداعين هناك نزلوهم منزلة العاقل، أما هنا؛ فالمدعو جماد؛ لأن الذي لا يخلق شيئا ولا يصنعه جماد لا يفيد.
قوله: شيئا، نكرة في سياق النفي؛ فتفيد العموم.
قوله: {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} ، وصف هذه الأصنام بالعجز والنقص.
والرب المعبود لا يمكن أن يكون مخلوقا، بل هو الخالق؛ فلا يجوز عليه الحدوث ولا الفناء.(9/275)
والمخلوق: حادث، والحادث يجوز عليه العدم؛ لأن ما جاز انعدامه أولا؛ جاز عقلا انعدامه آخرًا.
فكيف يعبد هؤلاء من دون الله؛ إذ المخلوق هو بنفسه مفتقر إلى خالقه، وهو حادث بعد أن لم يكن؛ فهو ناقص في إيجاده وبقائه؟!
إشكال وجوابه:
قوله: {مَا لَا يَخْلُقُ} الضمير بالإفراد، وقوله: {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} الضمير بالجمع؛ فما الجواب؟
أجيب: بأن قوله: {مَا لَا يَخْلُقُ} عاد الضمير على (ما) باعتبار اللفظ؛ لأن (ما) اسم موصول، لفظها مفرد، لكن معناها الجمع؛ فهي صالحة بلفظها للمفرد، وبمعناها للجمع؛ كقوله: {مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ} .
قوله: {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} عاد الضمير على (ما) باعتبار المعنى؛ كقوله: {وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} .
قوله: {وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا} ، أي: لا يقدرون على نصرهم لو هاجمهم عدو؛ لأن هؤلاء المعبودين قاصرون.
والنصر: الدفع عن المخذول بحيث ينتصر على عدوه.
قوله: {وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} ، بنصب أنفسهم على أنه مفعول مقدم، وليس من باب الاشتغال؛ لأن العامل لم يشتغل بضمير السابق.
أي: زيادة على ذلك هم عاجزون عن الانتصار لأنفسهم؛ فكيف ينصرون غيرهم؟!
فبين الله عجز هذه الأصنام، وأنها لا تصلح أن تكون معبودة من أربعة وجوه، هي:(9/276)
وقوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} الآية [فاطر: 13] .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1 - أنها لا تخلق، ومن لا يخلق لا يستحق أن يعبد.
2 - أنهم مخلوقون من العدم؛ فهم مفتقرون إلى غيرهم ابتداء ودواما.
3 - أنهم لا يستطيعون نصر الداعين لهم، وقوله: لا يستطيعون أبلغ من قوله: (لا ينصرونهم) ؛ لأنه لو قال: (لا ينصرونهم) ؛ فقد يقول قائل: لكنهم يستطيعون، لكن لما قال: {وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا} كان أبلغ لظهور عجزهم.
4 - أنهم لا يستطيعون نصر أنفسهم.
* * *
الآية الثالثة قوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} .
يشمل دعاء المسألة، ودعاء العبادة، ومن دونه؛ أي: سوى الله.
قوله: {مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} ، (ما) : نافية، (من) حرف زائد لفظا، وقيل: لا ينبغي أن يقال: حرف جر زائد في القرآن، بل يقال: من: حرف صلة، وهذا فيه نظر؛ لأن الحروف الزائدة لها معنى، وهو التوكيد، وإنما يقال: زائد من حيث الإعراب، وجملة {مَا يَمْلِكُونَ} خبر المبتدأ الذي هو الذين.
وقوله: {مِنْ قِطْمِيرٍ} ، القطمير: سلب نواة التمرة.
وفي النواة ثلاثة أشياء ذكرها الله في القرآن لبيان حقارة الشيء.
القطمير: وهو اللفافة الرقيقة التي على النواة.(9/277)
الفتيل: وهو سلك يكون في الشق الذي في النواة.
النقير: وهي النقرة التي تكون على ظهر النواة.
فهؤلاء لا يملكون من قطمير، فإن قيل: أليس الإنسان يملك النخل كله كاملا؟
أجيب: إنه يملكه، ولكنه ملك ناقص ليس حقيقيا؛ فلا يتصرف فيه إلا على حسب ما جاء به الشرع، فلا يملك مثلا إحراقه للنهي عن إضاعة المال.
قوله: {إِنْ تَدْعُوهُمْ} ، جملة شرطية، تدعو: فعل الشرط مجزوم بحذف النون، والواو فاعل، وأصلها: تدعونهم.
قوله: {لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ} جواب الشرط مجزوم بحذف النون، والواو فاعل.
قوله: {وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} ، أي: إن هذه الأصنام لو دعوتموها ما سمعت، ولو فرض أنها سمعت ما استجابت؛ لأنها لا تقدر على ذلك، ولهذا قال إبراهيم عليه السلام لأبيه: {يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم: 42] .
فإذا كانت كذلك؛ فأي شيء يدعو إلى أن تدعى من دون الله؟ ! بل هذا سفه، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130] .
قوله: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} هو كقوله تعالى: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:6] .
فهؤلاء المعبودون إن كانوا يبعثون ويحشرون؛ فكفرهم بشركهم ظاهر كمن يعبد عزيرا والمسيح.
وإن كانوا أحجارا وأشجارا ونحوها؛ فيحتمل أن يشملها ظاهر الآية، وهو أن الله يأتي بهذه الأحجار ونحوها؛ فتكفر بشرك من يشرك بها، ويؤيده(9/278)
قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] ، وما ثبت في (الصحيحين) عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أنه عند بعث الناس يقال لكل أمة: لتتبع كل أمة ما كانت تعبد من دون الله» ؛ فالحجر يكون أمامهم يوم القيامة، ويكون له كلام ينطق به، ويكفر بشركهم، فإذا كانت المعبودات تحضر وتحصب في النار إهانة لعابديها وتحضر لتتبع إلى النار؛ فلا غرو أن تكفر بعابديها إذا أحضرت.
قوله: {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 14] ، هذا مثال يضرب لمن أخبر بخبر ورأى شكا عند من خاطبه به؛ فيقول: ولا ينبئك مثل خبير، ومعناه: إنه لا يخبرك بالخبر مثل خبير به، وهو الله؛ لأنه لا يعلم أحد ما يكون في يوم القيامة إلا الله، وخبره خبر صدق؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء: 122] .
والخبير: العالم ببواطن الأمور.
مسألة:
هل يسمع الأموات السلام ويردونه على من سلم عليهم؟
اختلف في ذلك على قولين:
القول الأول: أن الأموات لا يسمعون السلام، وأن قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين زيارة القبور: (السلام عليكم) دعاء لا يقصد به المخاطبة، ثم على فرض أنهم يسمعون كما جاء الحديث الذي صححه ابن عبد البر وأقره ابن القيم: بأن(9/279)
«الإنسان إذا سلم على شخص يعرفه في الدنيا رد الله عليه روحه فرد السلام» (1) وعلى تقدير صحة هذا الحديث إذا كانوا يسمعون السلام ويردونه؛ فلا يلزم أن يسمعوا كل شيء، ثم لو فرض أنهم يسمعون غير السلام؛ فإن الله صرح بأن المدعوين من دون الله لا يسمعون دعاء من يدعونهم؛ فلا يمكن أن نقول: إنهم يسمعون دعاء من يدعون؛ لأن هذا كفر بالقرآن؛ فتبين هذا أنه لا تعارض بين قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين» وبين هذه الآية.
وأما قوله: {وَلَوْ سَمِعُوا} ؛ فمعناه: لو سمعوا فرضا ما استجابوا لكم؛ لأنهم لا يستطيعون.
القول الثاني: أن الأموات يسمعون.
واستدلوا على ذلك بالخطاب الواقع في سلام الزائر لهم بالمقبرة.
وبما ثبت في (الصحيح) من أن «المشيعين إذا انصرفوا سمع المشيع قرع نعالهم» .
والجواب عن هذين الدليلين: أما الأول؛ فإنه لا يلزم من السلام عليهم أن يسمعوا، ولهذا كان المسلمون يسلمون على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حياته في التشهد،وهو لا يسمعهم قطعا.
__________
(1) ذكره السيوطي في (الجامع الصغير) ، 2/151، وابن عبد البر في (الاستذكار) ، 2/164، وانظر (الروح) لابن القيم (1/167) ، وفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (24/331) .(9/280)
وفي الصحيح، عن أنس قال: «شج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم أحد، وكسرت رباعيته، فقال: "كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟ "، فنزلت: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} » [آل عمران: 128] . (1)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أما الثاني؛ فهو وارد في وقت خاص، وهو انصراف المشيعين بعد الدفن، وعلى كل؛ فالقولان متكافئان، والله أعلم بالحال.
قوله: " وفي الصحيح "، سبق الكلام على مثل هذا التعبير.
قوله: " أحد "، جبل معروف شمالي المدينة، ولا يقال: المنورة؛ لأن كل بلد دخله الإسلام فهو منور بالإسلام، ولأن ذلك لم يكن معروفا عند السلف، وكذلك جاء اسمها في القرآن بالمدينة فقط، لكن لو قيل: المدينة النبوية لحاجة تمييزها؛ فلا بأس، وهذا الجبل حصلت فيه وقعة في السنة الثالثة من الهجرة في شوال، هزم فيها المسلمون بسبب ما حصل منهم من مخالفة أمر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ كما أشار الله إلى ذلك بقوله: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 152] ، وجواب الشرط محذوف تقديره: حصل لكم ما تكرهون.
وقد حصلت هزيمة المسلمين لمعصية واحدة، ونحن الآن نريد الانتصار والمعاصي كثيرة عندنا، ولهذا لا يمكن أن نفرح بنصر ما دمنا على هذه الحال؛
__________
(1) البخاري: تعليقا (الفتح، 7/365) ، ومسلم موصولا: كتاب الجهاد /باب غزوة أحد(9/281)
إلا أن يرفق الله بنا، ويصلحنا جميعا.
قوله: " شج "، الشجة: الجرح في الرأس والوجه خاصة.
قوله: " وكسرت رباعيته "، السنان المتوسطان يسميان ثنايا، وما يليهما يسميان رباعيتين.
قوله: «فقال: كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟» ، الاستفهام يراد به الاستبعاد؛ أي: بعيد أن يفلح قوم شجوا نبيهم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
قوله: " يفلح " من الفلاح، وهو الفوز بالمطلوب، والنجاة من المرهوب.
قوله: " فنزلت: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} "، أي: نزلت هذه الآية، والخطاب فيها للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وشيء: نكرة في سياق النفي؛ فتعم.
قوله: الأمر؛ أي: الشأن، والمراد: شأن الخلق، فشأن الخلق إلى خالقهم، حتى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليس له فيهم شيء.
ففي الآية خطاب للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقد شج وجهه، وكسرت رباعيته، ومع ذلك ما عذره الله سبحانه في كلمة واحدة: «كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟» ، فإذا كان الأمر كذلك؛ فما بالك بمن سواه؟ فليس لهم من الأمر شيء؛ كالأصنام، والأوثان، والأولياء، والأنبياء؛ فالأمر كله لله وحده، كما أنه الخالق وحده، والحمد لله الذي لم يجعل أمرنا إلى أحد سواه؛ لأن المخلوق لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا؛ فكيف يملك لغيره؟
ونستفيد من هذا الحديث أنه يجب الحذر من إطلاق اللسان فيما إذا رأى الإنسان مبتلى بالمعاصي؛ فلا نستبعد رحمة الله منه، فإن الله تعالى قد يتوب عليه.(9/282)
وفيه: عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه «سمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر:»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فهؤلاء الذين شجوا نبيهم لما استبعد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلاحهم؛ قيل له: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} .
«والرجل المطيع الذي يمر بالعاصي من بني إسرائيل، ويقول: "والله؛ لا يغفر الله لفلان. قال الله له: من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان؟ قد غفرت له وأحبطت عملك» ؛ فيجب على الإنسان أن يمسك اللسان؛ لأن زلته عظيمة، ثم إننا نشاهد أو نسمع قوما كانوا من أكفر عباد الله وأشدهم عداوة انقلبوا أولياء لله، فإذا كان كذلك؛ فلماذا نستبعد رحمة الله من قوم كانوا عتاة؟
وما دام الإنسان لم يمت؛ فكل شيء ممكن، كما أن المسلم -نسأل الله الحماية- قد يزيغ قلبه لما كان فيه من سريرة فاسدة.
فالمهم أن هذا الحديث يجب أن يتخذ عبرة للمعتبر في أنك لا تستبعد رحمة الله من أي إنسان كان عاصيا.
قوله: " فنزلت "، الفاء للسببية، وعليه؛ فيكون سبب نزول هذه الآية هذا الكلام: «كيف يفلح قوم شجوا وجه نبيهم؟» .
قوله: " وفيه "، أي الصحيح.
قوله: " إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر "، قيد مكان(9/283)
«"اللهم العن فلانا وفلانا" بعدما يقول: "سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد"، فأنزل الله {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} »
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الدعاء من الصلوات بالفجر، ومكانه من الركعات بالأخيرة، ومكانه من الركعة بما بعد الرفع من الركوع.
قوله: " يقول: اللهم العن فلانا وفلانا "، اللعن: الطرد والإبعاد عن رحمة الله؛ أي: أبعدهم عن رحمتك، واطردهم منها.
و" فلانا وفلانا ": بينه في الرواية الثانية أنهم: صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام.
قوله: " بعدما يقول: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد "، أي: يقول ذلك إذا رفع رأسه وقال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد.
قوله: " فأنزل الله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} "، هنا قال: " فأنزل "، وفي الحديث السابق قال: " فنزلت "، وكلها بالفاء، وعلى هذا يكون سبب نزول الآية دعوة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على هؤلاء، وقوله: «"كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟» ، ولا مانع أن يكون لنزول الآية سببان.
وقد أسلم هؤلاء الثلاثة، وحسن إسلامهم رضي الله عنهم؛ فتأمل الآن أن العداوة قد تنقلب ولاية؛ لأن القلوب بيد الله -سبحانه وتعالى -، ولو أن الأمر كان على ظن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لبقي هؤلاء على الكفر حتى الموت، إذ لو قبلت الدعوة عليهم، وطردوا عن الرحمة؛ لم يبق إلا العذاب.(9/284)
وفي رواية «يدعو على صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام، فنزلت: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} » . (1)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ولكن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليس له من الأمر شيء؛ فالأمر كله لله، ولهذا هدى الله هؤلاء القوم، وصاروا من أولياء الله الذابين عن دينه، بعد أن كانوا من أعداء الله القائمين ضده، والله سبحانه يمن على من يشاء من عباده.
وليس بعيدا من ذلك قصة «أصيرم بن عبد الأشهل الأنصاري، حيث كان معروفا بالعداوة لما جاء به الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما جاءت وقعة أحد، ألقى الله الإسلام في قلبه دون أن يعلم به النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو أحد من قومه، وخرج للجهاد وقتل شهيدا، فلما انتهت المعركة جعل الناس يتفقدون قتلاهم؛ فإذا هو في آخر رمق، فقالوا: ما جاء بك يا فلان؟ أحدث على قومك، أم رغبة في الإسلام؟ قال: بل رغبة في الإسلام، وإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله؛ فأخبروا عني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأخبروه، فقال: "هو من أهل الجنة» ؛ فهذا الرجل لم يصل لله ركعة واحدة، ومع هذا جعله الله من أهل الجنة؛ فالله حكيم يهدي من يشاء لحكمته، ويضل من يشاء لحكمة؛ فالمهم أننا لا نستبعد رحمة الله -عز وجل- من أي إنسان.
__________
(1) البخاري: كتاب المغازي/باب (ليس لك من الأمر شيء) مرسلاً، ووصله الإمام أحمد في (المسند) 2/93.(9/285)
وفيه: عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: «قام فينا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين أنزل عليه: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] ؛ فقال: "يا معشر قريش -أو كلمة نحوها- اشتروا أنفسكم؛ لا أغني عنكم من الله شيئا.
»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: " قام "، أي: خطيبا.
قوله: "أنزل عليه"، أي: أنزل عليه بواسطة جبريل: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ} [الشعراء: 214] .
قوله: " أنذر "، أي: حذر وخوف، والإنذار: الإعلام المقرون بتخويف.
قوله: " عشيرتك "، العشيرة: قبيلة الرجل من الجد الرابع فما دون.
قوله: " الأقربين "، أي: الأقرب فالأقرب؛ فأول من يدخل في عشيرة الرجل أولاده، ثم آباؤه، ثم إخوانه، ثم أعمامه، وهكذا.
ويؤخذ من هذا أن الأقرب فالأقرب أولى بالإنذار؛ لأن الحكم المعلق على وصف يقوى بقوة هذا الوصف، وذلك أن الوصف الموجب للحكم كلما كان أظهر وأبين؛ كان الحكم فيه أظهر وأبين.
وقوله: " حين أنزل عليه " يفيد أنه لم يتأخر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل قام، فقال: " يا معشر قريش "؛ أي: يا جماعة قريش.
وقريش: هو فهر بن النضر بن مالك، أحد أجداد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قوله: " أو كلمة نحوها "، أي: أو قال كلمة نحوها، أي شبهها، وهذا من احتراز الرواة أنهم إذا شكوا أدنى شك قالوا: أو كما قال، أو كلمة نحوها، وما أشبه ذلك، وعليه فـ "أو": للشك والتردد.
قوله: " اشتروا أنفسكم "، أي: أنقذوها؛ لأن المشتري نفسه كأنه أنقذها من(9/286)
«يا عباس بن عبد المطلب، لا أغني عنك من الله شيئا، يا صفية عمة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا أغني عنك من الله شيئا، ويا فاطمة بنت محمد، سليني من مالي ما شئت؛ لا أغني عنك من الله شيئا» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هلاك، والمشتري راغب، ولهذا عبر بالاشتراء كأنه يقول: اشتروا أنفسكم راغبين.
وفي قوله: " اشتروا أنفسكم " من الحض على هذا الأمر ما هو ظاهر؛ لأن المشتري يكون راغبا.
قوله: " لا أغني عنكم من الله شيئا "، هذا هو الشاهد؛ أي: لا أدفع أو لا أنفع، أي: لا أنفعكم بدفع شيء عنكم دون الله، ولا أمنعكم من شيء أراده الله لكم؛ لأن الأمر بيد الله، ولهذا أمر الله نبيه بذلك؛ فقال: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} [الجن: 21-22] .
قوله: " شيئا "، نكرة في سياق النفي؛ فتعم أي شيء.
قوله: " يا عباس بن عبد المطلب "، هو عم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعبد المطلب جد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعباس؛ بالضم؛ لأن المنادى إذا كان معرفة يبنى على الضم، ونعته إذا كان مضافا ينصب، وهنا ابن عبد المطلب مضاف، ولهذا نصب.
فإن قيل: كيف يقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عبد المطلب مع أنه لا يجوز أن يضاف عبد إلا إلى الله - عز وجل -؟(9/287)
فالجواب: إن هذا ليس إنشاء، بل هو خبر؛ فاسمه عبد المطلب، ولم يسمه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لكن اشتهر بعبد المطلب، ولهذا انتمى إليه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فقال:
أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب
فلو فرض أن لك أبا يسمى عبد المطلب، أو عبد العزى؛ فإنك تنتسب إليه، ولا يعد هذا إقرارا، ولكنه خبر عن أمر واقع؛ كما لو قلت: كفر فلان، ونافق فلان، وما أشبه ذلك، ولكن إذا كان موجودا غيرنا اسمه إذا كان لا يجوز.
قوله: " لا أغني عنك من الله شيئا "، أي: لا أنفعك بشيء دون الله، ولا أمنعك من شيء أراده الله لك؛ فالنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يغني عن أحد شيئا حتى عن أبيه وأمه.
قوله: " يا صفية عمة رسول الله "، يقال في إعرابها كما قيل في عباس بن عبد المطلب.
قوله: «يا فاطمة بنت محمد، سليني من مالي ما شئت» ، أي: اطلبي من مالي ما شئت؛ فلن أمنعك؛ لأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مالك لماله، ولكن بالنسبة لحق الله قال: «لا أغني عنك من الله شيئا» .
فهذا كلام النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأقاربه الأقربين: عمه، وعمته، وابنته؛ فما بالك بمن هم أبعد؟ فعدم إغنائه عنهم شيئا من باب أولى؛ فهؤلاء الذين يتعلقون بالرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ويلوذون به ويستجيرون به الموجودون في هذا الزمن، وقبله قد غرهم الشيطان واجتالهم عن طريق الحق؛ لأنهم تعلقوا بما ليس بمتعلق؛ إذ(9/288)
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآيتين.
الثانية: قصة أحد.
الثالثة: قنوت سيد المرسلين وخلفه سادات الأولياء يؤمنون في الصلاة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الذي ينفع بالنسبة للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو الإيمان به واتباعه.
أما دعاؤه والتعلق به ورجاؤه فيما يؤمل، وخشيته فيما يخاف منه؛ فهذا شرك بالله، وهو مما يبعد عن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعن النجاة من عذاب الله.
ففي الحديث امتثال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأمر ربه في قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ} [الشعراء: 214] ، فإنه قام بهذا الأمر أتم القيام؛ فدعا وعم وخصص، وبين أنه لا ينجي أحدا من عذاب الله بأي وسيلة، بل الذي ينجي هو الإيمان به واتباع ما جاء به.
وإذا كان القرب من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يغني عن القريب شيئا؛ دل ذلك على منع التوسل بجاه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأن جاه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا ينتفع به إلا النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولهذا كان أصح قولي أهل العلم تحريم التوسل بجاه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآيتين، وهما آيتا الأعراف، ويتفق ذلك في أول الباب، والاستفهام فيهما للتوبيخ والإنكار، وكذلك سبق تفسير الآية الثالثة آية فاطر.
الثانية: قصة أحد، يعني: حيث شج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ... الحديث.
الثالثة: قنوت سيد المرسلين ... إلخ، أراد المؤلف بهذه المسألة أن النبي(9/289)
الرابعة: أن المدعو عليهم كفار.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيد المرسلين، وأصحابه سادت الأولياء، ومع هذا ما أنقذوا أنفسهم؛ فكيف ينقذون غيرهم؟ وليس مراده رحمه الله مجرد إثبات القنوت والتأمين عليه؛ ولهذا جاءت العبارات بسيد وسادات؛ فلا أحد من هذه الأمة أقرب إلى الله من الرسول وأصحابه، ومع ذلك يلجئون إلى الله سبحانه في كشف الكربات، ومن كانت هذه حاله؛ فكيف يمكن أن يلجأ إليه في كشف الكربات؟ فليس مراد المؤلف إثبات مسألة فقهية.
الرابعة: أن المدعو عليهم كفار، تؤخذ من قوله تعالى: {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} ؛ فهذا دليل على أنهم الآن ليسوا على حال مرضية، ومن المعلوم أن صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام وقت الدعاء عليهم كانوا كفارا.
وهذه المسألة -أي أن المدعو عليهم كفار- ترمي إلى أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإن كان يرى أنه دعا عليهم بحق؛ فقد قطع الله -سبحانه وتعالى- أن يكون له من الأمر شيء؛ لأنه قد يقول قائل: إذا كانوا كفارا؛ أليس يملك الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يدعو عليهم؟
نقول: حتى في هذه الحال لا يملك من أمرهم شيئا، هذا وجه قول المؤلف أن المدعو عليهم كفار، وليس مراده الإعلام بكفرهم؛ لأن هذا معلوم لا يستحق أن يعنون له، بل المراد في هذه الحال الذي كان هؤلاء كفارا لم يملك النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شيئا بالنسبة إليهم.(9/290)
الخامسة: أنهم فعلوا أشياء ما فعلها غالب الكفار؛ منها: شجهم نبيهم، وحرصهم على قتله، ومنها التمثيل بالقتلى مع أنهم بنو عمهم.
السادسة: أنزل الله عليه في ذلك: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} .
السابعة: قوله: {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} ، فتاب عليهم؛ فآمنوا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الخامسة: أنهم فعلوا أشياء ما فعلها غالب الكفار، أي: إنهم مع كفرهم كانوا معتدين، ومع ذلك قيل له في حقهم: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} ، وإلا فهم شجوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومثلوا بالقتلى مثل حمزة بن عبد المطلب، وكذلك أيضا حرصوا على قتل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مع أن كل هؤلاء فيهم من بني عمهم، وفيهم من الأنصار.
السادسة: أنزل الله عليه في ذلك: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} ، أي: مع ما تقدم من الأمور التي تقتضي أن يكون للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حق بأن يدعو عليهم أنزل الله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} ؛ فالأمر لله وحده، فإذا كان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد قطع عنه هذا الشيء؛ فغيره من باب أولى.
السابعة: قوله: {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} ، فتاب عليهم، فآمنوا، وهذا دليل على كمال سلطان الله وقدرته؛ فهؤلاء الذين جرى منهم ما جرى، تاب الله عليهم وآمنوا؛ لأن الأمر كله بيده سبحانه، وهو الذي يذل من يشاء ويعز من يشاء، ومن ذلك ما جرى من عمر -رضي الله عنه- قبل إسلامه من العداوة الظاهرة للإسلام، وما جرى منه بعد إسلامه من الولاية والنصرة لدين الله تعالى؛ فرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومن دونه لا يستطيعون أن يغيروا شيئا من أمر الله.(9/291)
الثامنة: القنوت في النوازل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الثامنة: القنوت في النوازل، وهذه هي المسألة الفقهية، فإذا نزل بالمسلمين نازلة؛ فإنه ينبغي أن يُدعى لهم حتى تنكشف.
وهذا القنوت مشروع في كل الصلوات، كما في حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- الذي رواه أحمد وغيره (1) ؛ إلا أن الفقهاء رحمهم الله استثنوا الطاعون، وقالوا: لا يقنت له لعدم ورود ذلك، وقد وقع في عهد عمر - رضي الله عنه - ولم يقنت، ولأنه شهادة؛ فلا ينبغي الدعاء برفع سبب الشهادة.
وظاهر السنة أن القنوت إنما يشرع في النوازل التي تكون من غير الله، مثل: إيذاء المسلمين والتضييق عليهم، أما ما كان من فعل الله؛ فإنه يشرع له ما جاءت به السنة، مثل الكسوف؛ فيشرع له صلاة الكسوف، والزلازل شرع لها صلاة الكسوف كما فعل ابن عباس رضي الله عنهما، وقال: هذه صلاة الآيات، والجدب يشرع له الاستسقاء، وهكذا.
وما علمت لساعتي هذه أن القنوت شرع لأمر نزل من الله، بل يدعى له بالأدعية الواردة الخاصة، لكن إذا ضيق على المسلمين وأوذوا وما أشبه ذلك؛ فإنه يقنت اتباعا للسنة في هذا الأمر.
ثم من الذي يقنت: الإمام الأعظم، أو إمام كل مسجد، أو كل مصل؟
__________
(1) مسند الإمام أحمد (1/301) ، والحاكم (1/255) ، وصححه ووافقه الذهبي.(9/292)
التاسعة: تسمية المدعو عليهم في الصلاة بأسمائهم وأسماء آبائهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المذهب: أن الذي يقنت هو الإمام الأعظم فقط الذي هو الرئيس الأعلى للدولة.
وقيل: يقنت كل إمام مسجد.
وقيل: يقنت كل مصل، وهو الصحيح؛ لعموم قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا كما رأيتموني أصلي» ، وهذا يتناول قنوته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عند النوازل.
التاسعة: تسمية المدعو عليهم في الصلاة بأسمائهم وأسماء آبائهم، وهم: صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام؛ فسماهم بأسمائهم وأسماء آبائهم، لكن هل هذا مشروع أو جائز؟
الجواب: هذا جائز، وعليه، فإذا كان في تسمية المدعو عليهم مصلحة؛ كانت التسمية أولى، ولو دعا إنسان لأناس معينين في الصلاة جاز؛ لأنه لا يعد من كلام الناس، بل هو دعاء، والدعاء مخاطبة الله تعالى، ولا يدخل في عموم قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس» .
مسألة: هل الذي نهي عنه الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الدعاء أو لعن المعينين؟
الجواب: المنهي عنه هو لعن الكفار في الدعاء على وجه التعيين، أما لعنهم عموما؛ فلا بأس به، وقد ثبت عن أبي هريرة أنه كان يقنت ويلعن الكفرة عموما، ولفظ ما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أنه قال: «لأقربن»(9/293)
«صلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكان أبو هريرة يقنت في الركعة الأخرى من صلاة الظهر، وصلاة العشاء، وصلاة الصبح، بعدما يقول: سمع الله لمن حمده؛ فيدعو للمؤمنين ويلعن الكفار» ، ولا بأس بدعائنا على الكافر بقولنا: اللهم، أرح المسلمين منه، واكفهم شره، واجعل شره في نحره، ونحو ذلك.
أما الدعاء بالهلاك لعموم الكفار؛ فإنه محل نظر، ولهذا لم يدع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على قريش بالهلاك، بل قال: «اللهم، عليك بهم، اللهم، اجعلها عليهم سنين كسني يوسف» ، وهذا دعاء عليهم بالتضييق، والتضييق قد يكون من مصلحة الظالم بحيث يرجع إلى الله من ظلمه.
فالمهم أن الدعاء بالهلاك لجميع الكفار عندي تردد فيه.
وقد يستدل بدعاء خبيب حيث قال: «اللهم أحصهم عددا، ولا تبق منهم أحدا» على جواز ذلك؛ لأنه وقع في عهد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولأن الأمر وقع كما دعا؛ فإنه ما بقي منهم أحد على رأس الحول، ولم ينكر الله تعالى ذلك، ولا أنكره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل إن إجابة الله دعاءه يدل على رضاه به وإقراره عليه.
فهذا قد يستدل به على جواز الدعاء على الكفار بالهلاك، لكن يحتاج أن ينظر في القصة؛ فقد يكون لها أسباب خاصة لا تتأتى في كل شيء.(9/294)
العاشرة: لعن المعين في القنوت.
الحادية عشرة: قصته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أنزل عليه: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} .
الثانية عشرة: جده -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في هذا الأمر؛ بحيث فعل ما نسب بسببه إلى الجنون، وكذلك لو يفعله مسلم الآن.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ثم إن خبيبا دعا بالهلاك لفئة محصورة من الكفار لا لجميع الكفار.
وفيه أيضا إن صح الحديث: دعاؤه على عتبة بن أبي لهب: «اللهم، سلط عليه كلبا من كلابك» (1) فيه دليل على الدعاء بالهلاك، لكن هذا على شخص معين لا على جميع الكفار.
العاشرة: لعن المعين في القنوت، هذا غريب، فإن أراد المؤلف رحمه الله أن هذا أمر وقع، ثم نهي عنه؛ فلا إشكال، وإن أراد أنه يستفاد من هذا جواز لعن المعين في القنوت أبدا؛ فهذا فيه نظر؛ لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نهى عن ذلك.
الحادية عشرة: قصته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما أنزل عليه: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} ، وهي أنه لما نزلت عليه الآية نادى قريشا؛ فعم، ثم خصص، فامتثل أمر الله في هذه الآية.
الثانية عشرة: جده -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في هذا الأمر، بحيث فعل ما نسب بسببه إلى الجنون، أي: اجتهاده -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في هذا الأمر، بحيث قالوا: إن محمدا جن، كيف يجمعنا وينادينا هذا النداء؟
__________
(1) الحاكم في (المستدرك) (كتاب التفسير، تفسير سورة أبي لهب، 2/539) ، وقال: (صحيح الإسناد) ، ولم يخرجاه) ، ووافقه الذهبي.(9/295)
الثالثة عشرة: قوله للأبعد والأقرب: «لا أغني عنك من الله شيئا» ، حتى قال: «يا فاطمة بنت محمد، لا أغني عنك من الله شيئا» . فإذا صرح وهو سيد المرسلين بأنه لا يغني شيئا عن سيدة نساء العالمين، وآمن الإنسان بأنه لا يقول إلا الحق، ثم نظر فيما وقع في قلوب خواص الناس اليوم؛ تبين له ترك التوحيد وغربة الدين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وقول: " وكذلك لو يفعله مسلم الآن "، أي لو أن إنسانا جمع الناس، ثم قام يحذرهم كتحذير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لقالوا: مجنون، إلا إذا كان معتادا عند الناس، قال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140] ، وقال تعالى: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [النور: 44] ؛ فهذا يختلف باختلاف البلاد والزمان، ثم إنه يجب على الإنسان أن يبذل جهده واجتهاده في الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قام بهذا الأمر ولم يبال بما رمي به من الجنون.
الثالثة عشرة: قوله للأبعد والأقرب: «لا أغني عنك من الله شيئا» ، صدق رحمه الله فيما قال؛ فإنه إذا كان هذا القائل سيد المرسلين، وقاله لسيدة نساء العالمين، ثم نحن نؤمن أن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يقول إلا الحق، وأنه لا يغني عن ابنته شيئا؛ تبين لنا الآن أن ما يفعله خواص الناس ترك للتوحيد؛ لأنه يوجد أناس خواص يرون أنفسهم علماء، ويراهم من حولهم علماء وأهلا للتقليد، يدعون الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لكشف الضر وجلب النفع دعوة صريحة، ويرددون:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم
وغير ذلك من الشرك، وإذا أنكر عليهم ذلك ردوا إلى المنكر بأنه لا(9/296)
يعرف حق الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومقامه عند الله، وأنه سيد الكون، وما خلقت الجن والإنس إلا من أجله، وأنه خلق من نور العرش، ويلبسون بذلك على العامة، فيصدقهم البعض لجهلهم، ولو جاءهم من يدعوهم إلى التوحيد لم يستجيبوا له؛ لأن سيدهم وعالمهم على خلاف التوحيد، {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} [البقرة: 145] ، ثم إن المؤمن عاطفته وميله للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر لا ينكر، لكن الإنسان لا ينبغي له أن يحكم العاطفة، بل يجب عليه أن يتبع ما دل عليه الكتاب والسنة وأيده العقل الصريح السالم من الشبهات والشهوات.
ولهذا نعى الله سبحانه على الكفار الذين اتبعوا ما ألفوا عليه آباءهم بأنهم لا يعقلون، وكلام المؤلف حق؛ فإن من تأمل ما عليه الناس اليوم في كثير من البلدان الإسلامية تبين له ترك التوحيد وغربة الدين.(9/297)
باب قول الله تعالى:
{حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: 23] .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مناسبة الترجمة:
أن هذا من البراهين الدالة على أنه لا يستحق أحد أن يكون شريكا مع الله؛ لأن الملائكة وهم أقرب ما يكون من الخلق لله -عز وجل-، ما عدا خواص بني آدم يحصل منهم عند كلام الله سبحانه الفزع.
قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} ، قال ذلك ولم يقل: "فزعت قلوبهم"، إذ "عن" تفيد المجاوزة، والمعنى: جاوز الفزع قلوبهم؛ أي: أزيل الفزع عن قلوبهم.
والفزع: الخوف المفاجئ؛ لأن الخوف المستمر لا يسمى فزعا.
وأصله: النهوض من الخوف.
وقوله تعالى: {عَنْ قُلُوبِهِمْ} ؛ أي: قلوب الملائكة؛ لأن الضمير يعود عليهم بدليل ما سيأتي من حديث أبي هريرة، ولا أحد من الخلق أعلم بتفسير القرآن من الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قوله تعالى: {قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} جواب الشرط، والمعنى: قال بعضهم لبعض: وإنما قلنا ذلك لأن الكلام قائلا ومقولا له، فلو جعلنا الضمير في(9/298)
قالوا عائدا على الجميع؛ فأين المقول له؟ والمعنى: أي شيء قال ربكم؟
وإعراب ماذا على أوجه:
1 - ما: اسم استفهام مبتدأ، وذا: اسم موصول خبر؛ أي: ما الذي.
2 - ماذا: اسم استفهام مركب من ما وذا.
3 - ما اسم استفهام، وذا زائدة، قال ابن مالك:
ومثل ماذا بعدما استفهام ... أو من إذا لم تلغ في الكلام
وقوله: {قَالُوا الْحَقَّ} ، أي: قال المسئولون.
والحق: صفة لمصدر محذوف مع عامله، والتقدير: قال القول الحق.
والمعنى: أن الله سبحانه قال القول الحق؛ لأنه سبحانه هو الحق، ولا يصدر عنه إلا الحق، ولا يقول ولا يفعل إلا الحق.
والحق في الكلام هو الصدق في الأخبار، والعدل في الأحكام؛ كما قال الله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام: 115] .
ولا يفهم من قوله: {قَالُوا الْحَقَّ} أنه قد يكون قوله باطلا، بل هو بيان للواقع، فإن قيل: ما دام بيانا للواقع ومعروفا عند الملائكة أنه لا يقول إلا الحق؛ فلماذا الاستفهام؟
أجيب: أن هذا من باب الثناء على الله بما قال، وأنه سبحانه لا يقول إلا الحق.
قوله تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} ، أي: العلي في ذاته وصفاته، والكبير: ذو الكبرياء، وهي العظمة التي لا يداينها شيء، أي العظيم الذي لا أعظم منه.
مناسبة الآية للتوحيد: أنه إذا كان منفردا في العظمة والكبرياء؛ فيجب أن يكون منفردا في العبادة.(9/299)
والعلو قسمان:
الأول: علو الصفات، وقد أجمع عليه كل من ينتسب للإسلام حتى الجهمية ونحوهم.
الثاني: علو الذات، وقد أنكره كثير من المنتسبين للإسلام، مثل الجهمية وبعض الأشاعرة غير المحققين منهم؛ فإن المحققين منهم أثبتوا علو الذات.
وعلوه لا ينافي كونه مع الخلق يعلمهم ويسمعهم ويراهم؛ لأنه ليس كمثله شيء في جميع صفاته.
وفي الآية فوائد:
1 - أن الملائكة يخافون الله؛ كما قال تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50] .
2 - إثبات القلوب للملائكة؛ لقوله: " {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} ".
3 - إثبات أنهم أجسام وليسوا أرواحا مجردة من الجسمية، وهو أمر معلوم بالضرورة، قال تعالى: {جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ} [فاطر: 1] ، وقد «رأى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جبريل له ستمائة جناح قد سد الأفق» ؛ فالقول بأنهم أرواح فقط إنكار لهم في الواقع، وهو قول باطل.
لكنهم لا يأكلون ولا يشربون، وإنما أكلهم وشربهم التسبيح بدليل قوله تعالى: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20] ؛ ففي هذا دليل على أن ليلهم ونهارهم مملؤان بذلك، ولهذا جاء: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ} ، ولم(9/300)
يقل يسبحون في الليل؛ أي: أن تسبيحهم دائم، والتسبيح تنزيه الله عما لا يليق به.
4 - أن لهم عقولا؛ إذ إن القلوب هي محل العقول خلافا لمن قال: إنهم لا يعقلون، ولأنهم يسبحون الله، ويطوفون بالبيت المعمور.
5 - إثبات القول لله -سبحانه وتعالى -، وأنه متعلق بمشيئته؛ لأنه جاء بالشرط: {إِذَا فُزِّعَ} ، وإذا الشرطية تدل على حدوث الشرط والمشروط، خلافا للأشاعرة الذين يقولون: إن الله لا يتكلم بمشيئة، وإنما كلامه هو المعنى القائم بنفسه؛ فهو قائم بالله أزلي أبدي؛ كقيام العلم والقدرة والسمع والبصر.
ولا ريب أن هذا باطل، وأن حقيقته إنكار كلام الله، ولهذا يقولون: أن الله يتكلم بكلام نفسي أزلي أبدي، كما يقولون: هذا الكلام الذي سمعه موسى، وسمعه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونزل به جبريل على الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شيء مخلوق للتعبير عن كلام الله القائم بنفسه.
وهذا في الحقيقة قوله الجهمية؛ كما قال بعض المحققين من الأشاعرة: ليس بيننا وبين الجمهية فرق، فإننا اتفقنا على أن هذا الذي بين دفتي المصحف مخلوق، لكن نحن قلنا عبارة عن كلام الله، وهم قالوا: هو كلام الله.
6 - إثبات أن قول الله حق، وهذا جاء في القرآن: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب: 4] ، وقال: {فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ} [ص: 84] ؛ فالله تعالى لا يقول إلا حقا؛ لأنه هو الحق، ولا يصدر عن الحق إلا الحق.(9/301)
وفي الصحيح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ قال: «إذا قضى الله الأمر في السماء؛ ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا؛ لقوله كأنه سلسلة على صفوان، ينفذهم ذلك {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} » [سبأ: 23] .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: " وفي الصحيح "، سبق الكلام عليها.
قوله: «قضي الله الأمر في السماء» ، المراد بالأمر الشأن، ويكون القضاء بالقول؛ لقوله تعالى: {إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 47] .
قوله: " خضعانا "، أي: خضوعا؛ لقوله: " كأنه "؛ أي: صوت القول في وقعه على قلوبهم.
قوله: " صفوان " هو الحجر الأملس الصلب، والسلسلة عليه يكون لها صوت عظيم.
وليس المراد تشبيه صوت الله تعالى بهذا؛ لأن الله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] ، بل المراد تشبيه ما يحصل لهم من الفزع عندما يسمعون كلامه بفزع من يسمع سلسلة على صفوان.
قوله: " ينفذهم ذلك "، النفوذ: هو الدخول في الشيء، ومنه: نفذ السهم في الرمية؛ أي: دخل فيها، والمعنى: إن هذا الصوت يبلغ منهم كل مبلغ.
قوله: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} ، أي: أزيل عنها الفزع.
قوله: قالوا، أي: قال بعضهم لبعض.
قوله: {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ} ، أي: قالوا: قال الحق؛ أي: قال(9/302)
القول الحق؛ فالحق صفة لمصدر محذوف مع عامله، تقديره: قال القول الحق، وهذا الجواب الذي يقولونه هل هم يقولونه لأنهم سمعوا ما قال وعلموا أنه حق، وأنهم كانوا يعلمون أنه لا يقول إلا الحق؟
يحتمل أن يكونوا قد علموا ما قال، وقالوا: إنه الحق؛ فيكون هذا عائدا إلى الوحي الذي تكلم الله به.
ويحتمل أنهم قالوا ذلك لعلمهم أن الله سبحانه لا يقول إلا الحق؛ فلذلك قالوا هذا لأن ذلك صفته سبحانه وتعالى.
وهذا الحديث مطابق للآية تماما، وعلى هذا يجب أن يكون هذا تفسير الآية، ولا يقبل لأي قائل أن يفسرها بغيره؛ لأن تفسير القرآن إذا كان بالقرآن أو السنة؛ فإنه نص لا يمكن لأحد أن يتجاوزه.
وأما تفسير الصحابي؛ فإنه حجة عند أكثر المفسرين، وأما التابعين؛ فإن أكثر العلماء يقول: إنه ليس بحجة إلا من اختص منهم بشيء؛ كمجاهد؛ فإنه عرض المصحف على ابن عباس عشرين مرة أو أكثر، يقف عند كل آية ويسأله عن معناها، وأما من بعد التابعين؛ فليس تفسيره حجة على غيره، لكن إن أيده سياق القرآن كان العمدة سياق القرآن.
فلا يقبل أن يقال: إذا فزع عن قلوب الناس يوم القيامة، بل نقول: الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسر الآية بتفسير غيبي لا مجال للاجتهاد فيه، وما كان غيبيا وجاء به النص؛ فالواجب علينا قبوله، ولهذا نقول في مسألة ما يعذر فيه بالاجتهاد وما لا يعذر: إنه ليس عائدا على أن هذا من الأصول، وهذا من الفروع؛ كما قال بعض العلماء: الأصول لا مجال للاجتهاد فيها، ويخطئ المخالف مطلقا، بخلاف الفروع.(9/303)
«فيسمعها مسترق السمع، ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض، وصفه سفيان بكفه، فحرفها وبدد بين أصابعه، فيسمع الكلمة، فيلقيها إلى من تحته»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لكن شيخ الإسلام ابن تيمية أنكر تقسيم الدين إلى أصول وفروع، ويدل على بطلان هذا التقسيم: أن الصلاة عند الذين يقسمون من الفروع، مع أنها من أجل الأصول.
والصواب: أن مدار الإنكار على ما للاجتهاد فيه مجال وما لا مجال فيه؛ فالأمور الغيبية ينكر على المخالف فيها ولا يعذر، سواء كانت تتعلق بصفات الله أو اليوم الآخر أو غير ذلك؛ لأنه لا مجال للاجتهاد فيها.
أما الأمور العملية التي للاجتهاد فيها مجال؛ فلا ينكر على المخالف فيها إلا إذا خالف نصا صريحا، وإن كان يصح تضليله بهذه المخالفة؛ كقول ابن مسعود في بنت وبنت ابن وأخت: "للبنت النصف، ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت"؛ وذكر له قسمة أبي موسى: "للابنة النصف، وللأخت النصف "، وقوله: "ائت ابن مسعود؛ فسيتابعني"؛ فأخبر ابن مسعود بذلك، فقال: "قد ضللت إذا، وما أنا من المهتدين".
قوله: «فيسمعها مسترق السمع» ، أي: هذه الكلمة التي تكلمت بها الملائكة.
و" مسترق ": مفرد مضاف؛ فيعم جميع المسترقين.
وتأمل كلمة "مسترق"؛ ففيها دليل على أنه يبادر، فكأنه يختلسها اختلاسا بسرعة، ويؤيده قوله: {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ}(9/304)
«ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن،»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الصافات: 10] .
قوله: " ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض "، يحتمل أن يكون هذا من كلامه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو من كلام أبي هريرة، أو من كلام سفيان.
قوله: " وصفه سفيان بكفه "، أي: أنها واحد فوق الثاني، أي الأصابع: فالجن يتراكبون واحدا فوق الآخر، إلى أن يصلوا إلى السماء، فيقعدون لكل واحد مقعد خاص، قال تعالى: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن: 9] .
قوله: " فيسمع الكلمة، فيلقيها إلى من تحته "، أي: سمع أعلى المسترقين الكلمة، فيلقيها إلى من تحته؛ أي: يخبره بها، و"من": اسم موصول، وقوله: "تحته " شبه جملة صلة الموصول؛ لأنه ظرف.
قوله: «ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها» ، أي: يلقي الكلمة آخرهم الذي في الأرض على لسان الساحر أو الكاهن.
والسحر: عزائم ورقى وتعوذات تؤثر في بدن المسحور وقلبه وعقله وتفكيره.
والكاهن: هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل.
وقد التبس على بعض طلبة العلم؛ فظنوا أنه كل من يخبر عن الغيب ولو فيما مضى؛ فهو كاهن، لكن ما مضى مما يقع في الأرض ليس غيبا مطلقا، بل هو غيب نسبي، مثل ما يقع في المسجد يعد غيبا بالنسبة لمن في الشارع، وليس غيبا بالنسبة لمن في المسجد.
وقد يتصل الإنسان بجني، فيخبره عما حدث في الأرض ولو كان بعيدا؛(9/305)
«فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه،»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فيستخدم الجن، لكن ليس على وجه محرم؛ فلا يسمى كاهنا؛ لأن الكاهن من يخبر عن المغيبات في المستقبل.
وقيل: الذي يخبر عما في الضمير، وهو نوع من الكهانة في الواقع، إذا لم يستند إلى فراسة ثاقبة، أما إذا كان يخبر عما في الضمير استنادا إلى فراسة؛ فإنه ليس من الكهانة في شيء؛ لأن بعض الناس قد يفهم ما في الإنسان اعتمادا على أسارير وجهه ولمحاته، وإن كان لا يعلمه على وجه التفصيل، لكن يعلمه على سبيل الإجمال.
فمن يخبر عما وقع في الأرض ليس من الكهان، ولكن ينظر في حاله، فإذا كان غير موثوق في دينه؛ فإننا لا نصدقه؛ لأن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] .
وإن كان موثوقا في دينه، ونعلم أنه لا يتوصل إلى ذلك بمحرم من شرك أو غيره؛ فإننا لا ندخله في الكهان الذين يحرم الرجوع إلى قولهم، ومن يخبر بأشياء وقعت في مكان ولم يطلع عليها أحد دون أن يكون موجودا فيه؛ فلا يسمى كاهنا؛ لأنه لم يخبر عن مغيب مستقبل يمكن أن يكون عنده جني يخبره، والجني قد يخدم بني آدم بغير المحرم؛ إما محبة لله -عز وجل-، أو لعلم يحصله منه، أو لغير ذلك من الأغراض المباحة.
والسحرة قد يكون لهم من الجن من يسترق لهم السمع.
ولا يصل هؤلاء المسترقون إلا إلى السماء الدنيا؛ لقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} [الأنبياء: 32] ؛ فلا يمكن نفوذه إلى ما فوقه.(9/306)
«فيكذب معها مائة كذبة، فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا؟ فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: " فربما أدركه الشهاب ... إلخ"، الشهاب: جزء منفصل من النجوم، ثاقب، قوي، ينفذ فيما يصطدم به.
قال العلماء في التفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} [الملك: 5] ؛ أي: جعلنا شهابها الذي ينطلق منها؛ فهذا من باب عود الضمير إلى الجزء لا إلى الكل.
فالشهب: نيازك تنطلق من النجوم.
وهي كما قال أهل الفلك: تنزل إلى الأرض، وقد تحدث تصدعا فيها، أما النجم، فلو وصل إلى الأرض؛ لأحرقها.
واختلف العلماء: هل المسترقون انقطعوا عن الاستراق بعد بعثة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الأبد، أو انقطعوا في وقته فقط؟
والثاني هو الأقرب: أنهم انقطعوا في وقت البعثة فقط، حتى لا يلتبس كلام الكهان بالوحي، ثم بعد ذلك زال السبب الذي من أجله انقطعوا.
قوله: " فيكذب معها مائة كذبة "، هل هذا على سبيل التحديد، أو المراد المبالغة، أي أنه يكذب معها كذبات كثيرة؟
الثاني هو الأقرب، وقد تزيد عن ذلك وقد تنقص؛ فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا؟(9/307)
والناس في هذه الأمور الغريبة على حسب ما أخبر به المخبر يأخذون كل ما يقوله صدقا، فإذا أخبر بشيء فوقع، ثم أخبر بشيء ثان؛ قالوا: إذن لا بد أن يصدق.
فوائد الحديث:
1 - إثبات القول لله -عز وجل-.
2 - عظمة الله -سبحانه وتعالى-.
3 - إثبات الأجنحة للملائكة.
4 - خوف الملائكة من الله -عز وجل- وخضوعهم له.
5 - أن الملائكة يتكلمون ويعقلون.
6 - أنه لا يصدر عن الله إلا الحق.
7 - أن الله سبحانه يمكن هؤلاء الجن من الوصول إلى السماء فتنة للناس، وهي ما يلقونه على الكهان، فيحصل بذلك فتنة، والله -عز وجل- حكيم.
وقد يوجد الله أشياء تكون ضلالا لبعض الناس، لكنها لبعضهم هدى امتحانا وابتلاء.
8 - كثرة الجن؛ لأنهم يترادفون إلى السماء، ومعنى ذلك أنهم كثيرون جدا، وأجسامهم خفيفة يطيرون طيرانا.
وذكر ذلك عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية في السحرة الذين يستخدمون الجن وتطير بهم: أنهم يصبحون يوم عرفة في بلادهم ويقفون مع الناس في عرفة، وهذا ممكن الآن في الطائرات، لكن في ذلك الوقت ليس هناك طائرات؛ فتحملهم الشياطين، ويجعلون للناس المكانس التي تكنس بها(9/308)
وعن النواس بن سمعان -رضي الله عنه- قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي؛ أخذت السماوات منه رجفة -أو قال: رعدة شديدة- خوفا من الله عز وجل» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
البيوت، ويقول: أنا أركب المكنسة وأطير بها إلى مكة؛ فيفعلون هذا، وشيخ الإسلام يقول: إن هؤلاء كذبة ومستخدمون للشياطين، ويسيئون حتى من الناحية العملية؛ لأنهم يمرون الميقات ولا يحرمون منه.
9 - أن الكهان من أكذب الناس، ولهذا يضيفون إلى ما سمعوا كذبات كثيرة يضللون بها الناس، ويتوصلون بها إلى باطلهم تارة بالترهيب وتارة بالترغيب، كأن يقولوا: ستقوم القيامة يوم كذا وكذا، وسيجري عليك كذا من موت أو سرقة مال ونحو ذلك.
10 - أن الساحر يصور للمسحور غير الواقع، وفي هذا تحذير من أهل التمويه والتلبيس، وأنهم إن صدقوا في شيء؛ فيجب الحذر منهم بكل حال.
قوله: " وعن النواس ... "، هذا الحديث لم يخرجه المؤلف، لكن قد ذكره ابن كثير من رواية ابن أبي حاتم، وذكر فيه علة؛ وهي أن في سنده الوليد بن مسلم، وهو مدلس، وقد رواه عن شيخه بالعنعنة؛ فيكون في الحديث ضعف، إلا أنه قد روى مسلم وأحمد من حديث ابن عباس حديثا قد يكون شاهدا له، حيث أخبر أن الله إذا تكلم بالوحي سمعه حملة العرش، فسبحوا،(9/309)
«فإذا سمع ذلك أهل السماوات صعقوا وخروا لله سجدا، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد، ثم يمر جبريل على الملائكة، كلما مر بسماء؛ سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ثم سمعه أهل كل سماء، فيسبحون كما سبح أهل السماء السابعة، حتى يصل إلى السماء الدنيا، فتخطفه الجن أو الشياطين.
وهذا وإن لم يكن فيه ذكر رجفة السماء أو السجود؛ لكن يدل على أن له أصلا.
قوله: «إذا أراد أن يوحي بالأمر» ، أي: بالشأن.
قوله: " تكلم بالوحي "، جملة شرطية تقتضي تأخر المشروط عن الشرط؛ فالإرادة سابقة، والكلام لاحق؛ فيكون فيه رد على الأشاعرة الذين يقولون: إن الله لا يتكلم بإرادة، وإن كلامه أزلي؛ كالسمع والبصر؛ ففيه إثبات الكلام الحادث، ولا ينقص كمال الله إذا قلنا: إنه يتكلم بما شاء، كيف شاء، متى شاء، بل هذا صفة كمال، لكن النقص أن يقال: إنه يتكلم بحرف وصوت، إنما الكلام معنى قائم بنفسه.
قوله: «أخذت السماوات منه رجفة» ، السماوات: مفعول به جمع مؤنث سالم، أو ملحق به؛ فيكون منصوبا بالكسرة، ورجفة: فاعل.
قوله: " أو قال: رعدة شديدة "، شك من الراوي، وإنما تأخذ السماوات الرجفة أو الرعدة؛ لأنه سبحانه عظيم يخافه كل شيء، حتى السماوات التي ليس فيها روح.
قوله: «فإذا سمع ذلك أهل السماوات؛ صعقوا وخروا لله سجدا» .(9/310)
«فيقول: قال الحق، وهو العلي الكبير. فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل، فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل» . (1)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فإن قيل: كيف يمكن أن يصعقوا ويخروا سجدا؟
فالجواب: أن الصعق هنا -والله أعلم- يكون قبل السجود، فإذا أفاقوا سجدوا.
قوله: " فيكون أول من يرفع رأسه جبريل "، أول: بالنصب على أنها خبر مقدم، وجبريل بالرفع على أنها اسم يكون مؤخرا.
قوله: " بما أراد "، أي: بما شاء؛ لأن الله تعالى يتكلم بمشيئة.
قوله: " ثم يمر جبريل على الملائكة "؛ لأنه يريد النزول من عند الله إلى حيث أمره الله أن ينتهي إليه بالوحي.
قوله: " قال الحق وهو العلي الكبير "، سبق في تفسير ذلك أنه يحتمل قال الحق في هذه القضية المعينة، أو قال الحق؛ لأن من عادته سبحانه ألا يقول إلا الحق، وأيا كان؛ فإن جبريل لا يخبر الملائكة بما أوحى الله إليه، بل يقول: قال الحق مبهما، ولهذا سمي عليه السلام بالأمين، والأمين: هو الذي لا يبوح بالسر.
قوله: " وهو العلي الكبير "، تقدم الكلام عليه.
قوله: " فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل "، أي: قال الحق، وهو العلي الكبير.
قوله: «فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله -عز وجل» -"، أي: يصل بالوحي إلى حيث أمره الله من الأنبياء والرسل.
من فوائد الحديث:
__________
(1) تفسير ابن جرير الطبري (22/91) ، وابن كثير في تفسيره (6/504) .(9/311)
1 - إثبات الإرادة لقوله: " إذا أراد الله " وهي قسمان: شرعية وكونية.
والفرق بينهما أولا: من حيث المتعلق؛ فالإرادة الشرعية تتعلق بما يحبه الله -عز وجل-، سواء وقع أو لم يقع، وأما الكونية؛ فتتعلق بما يقع، سواء كان يحبه الله أو مما لا يحبه.
ثانيا: الفرق بينهما من حيث الحكم، أي حصول المراد؛ فالشرعية لا يلزم منها وقوع المراد، أما الكونية؛ فيلزم منها وقوع المراد.
فقوله تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 27] هذه إرادة شرعية؛ لأنها لو كانت كونية لتاب على كل الناس، وأيضا متعلقها فيما يحبه الله وهو التوبة.
وقوله: {إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود: 34] هذه كونية؛ لأن الله لا يريد الإغواء شرعا، أما كونا وقدرا؛ فقد يريده.
وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 26] هذه كونية، لكنها في الأصل شرعية؛ لأنه قال: {وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 26] .
وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] هذه شرعية؛ لأن قوله: {وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} لا يمكن أن تكون كونية؛ إذ إن العسر يقع ولو كان الله لا يريده قدرا وكونا؛ لم يقع.
2 - أن المخلوقات وإن كانت جمادا تحس بعظمة الخالق، قال تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44] .
3 - إثبات أن الملائكة يتكلمون ويفهمون ويعقلون لأنهم يسألون: {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} ؟ ويجابون: قال الحق، خلافا لمن قال: إنهم لا يوصفون(9/312)
بذلك؛ فيلزم من قولهم هذا أننا تلقينا الشريعة ممن لا عقول لهم، وهذا قدح في الشريعة بلا ريب.
4 - إثبات تعدد السماوات؛ لقوله: " كلما مر بسماء ".
5 - أن لكل سماء ملائكة مخصصين؛ لقوله: " سأله ملائكتها ".
6 - فضيلة جبريل عليه السلام حيث إنه المعروف بأمانة الوحي، ولهذا قال ورقة بن نوفل: "هذا هو الناموس الذي كان يأتي موسى "، والناموس بالعبرية بمعنى صاحب السر.
7 - أمانة جبريل عليه السلام، حيث ينتهي بالوحي إلى حيث أمره الله -عز وجل-؛ فيكون فيه رد على الرافضة الكفرة الذين يقولون: بأن جبريل أمر أن يوحي إلى علي فأوحى إلى محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ويقولون:
خان الأمين فصدها عن حيدرة
وحيدرة لقب لعلي بن أبي طالب؛ لأنه كان يقول في غزوة خيبر:
أنا الذي سمتني أمي حيدرة.
وفي هذا تناقض منهم؛ لأن وصفه بالأمانة يقتضي عدم الخيانة.
8 - إثبات العزة والجلال لله -عز وجل -؛ لقوله: " عز وجل "، والعزة بمعنى الغلبة والقوة، وللعزيز ثلاثة معان:
1 - عزيز: بمعنى ممتنع أن يناله أحد بسوء.
2 - عزيز: بمعنى ذي قدر لا يشاركه فيه أحد.
3 - عزيز: بمعنى غالب قاهر.(9/313)
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآية.
الثانية: ما فيها من الحجة على إبطال الشرك، خصوصا من تعلق على الصالحين، وهي الآية التي قيل: إنها تقطع عروق شجرة الشرك من القلب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قال ابن القيم في النونية:
وهو العزيز فلن يرام جنابه ... أنى يرام جناب ذي السلطان
وهو العزيز القاهر الغلاب لم ... يغلبه شيء هذه صفتان
وهو العزيز بقوة هي وصفه ... فالعز حينئذ ثلاث معان
وأما جل: فالجلال بمعنى العظمة التي ليس فوقها عظمة.
فيها مسائل:
الأولى: تفسير الآية، أي قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} الآية، وقد سبق تفسيرها.
الثانية: ما فيه من الحجة على إبطال الشرك، وذلك أن الملائكة وهم من هم في القوة والعظمة يصعقون ويفزعون من تعظيم الله؛ فكيف بالأصنام التي تعبد من دون الله وهي أقل منهم بكثير؛ فكيف يتعلق الإنسان بها؟
ولذلك قيل: إن هذه الآية هي التي تقطع عروق الشرك من القلب؛ لأن الإنسان إذا عرف عظمة الرب سبحانه حيث ترتجف السماوات ويصعق أهلها بمجرد تكلمه بالوحي؛ فكيف يمكن للإنسان أن يشرك بالله شيئا مخلوقا، ربما يصنعه بيده(9/314)
الثالثة: تفسير قوله: {قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} .
الرابعة: سبب سؤالهم عن ذلك. الخامسة: أن جبريل يجيبهم بعد ذلك بقوله: " قال كذا وكذا ".
السادسة: ذكر أن أول من يرفع رأسه جبريل. السابعة: أنه يقول لأهل السماوات كلهم لأنهم يسألونه. الثامنة: أن الغشي يعم أهل السماوات كلهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حتى كان جهال العرب يصنعون آلهة من التمر، إذا جاع أحدهم أكلها؟!
وينزل أحدهم بالوادي فيأخذ أربعة أحجار: ثلاثة يجعله تحت القدر، والرابع -وهو أحسنها- يجعلها إلها له.
الثالثة: تفسير قوله: {قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} ، وسبق تفسيرها.
الرابعة: سبب سؤالهم عن ذلك، فالسؤال: ماذا قال ربكم؟ وسببه شدة خوفهم منه وفزعهم خوفا من أن يكون قد قال فيهم ما لا يطيقونه من التعذيب.
الخامسة: أن جبريل يجيبهم بعد ذلك بقوله: قال كذا وكذا؛ أي: يقول: قال الحق.
السادسة: ذكر أن أول من يرفع رأسه جبريل، لحديث النواس بن سمعان، وفيه فضيلة جبريل.
السابعة: أنه يقول لأهل السماوات كلهم لأنهم يسألونه، وفي هذا دليل على عظمته بينهم.
الثامنة: أن الغشي يعم أهل السماوات كلهم، تؤخذ من قوله: «فإذا سمع ذلك أهل السماوات؛ صعقوا وخروا لله سجدا» .(9/315)
التاسعة: ارتجاف السماوات لكلام الله. العاشرة: أن جبريل هو الذي ينتهي بالوحي إلى حيث أمره الحادية عشرة: ذكر استراق الشياطين. الثانية عشرة: صفة ركوب بعضهم بعضا. الثالثة عشرة: إرسال الشهب. الرابعة عشرة: أنه تارة يدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وتارة يلقيها في أذن وليه من الإنس قبل أن يدركه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
التاسعة: ارتجاف السماوات لكلام الله؛ لقوله: «أخذت السماوات منه رجفة» ؛ أي: لأجله تعظيما لله.
أي: لا أحد يتولى إيصال الوحي غير جبريل حتى يوصله إلى حيث أمره به؛ لأنه الأمين على الوحي.
الحادية عشرة: ذكر استراق الشياطين، أي: الذين يسترقون ما يسمع في السماوات، فيلقونه على الكهان، فيزيد فيه الكهان وينقصون. الثانية عشرة: صفة ركوب بعضهم بعضا، وصفها سفيان رحمه الله بأن حرف يده وبدد بين أصابعه الثالثة عشرة: إرسال الشهب، يعني: التي تحرق مسترقي السمع، قال تعالى: {إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} [الحجر: 18] .
الرابعة عشرة: أنه تارة يدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وتارة يلقيها في أذن وليه من الإنس قبل أن يدركه.(9/316)
الخامسة عشرة: كون الكاهن يصدق بعض الأحيان. السادسة عشرة: كونه يكذب معها مائة كذبة. السابعة عشرة: أنه لم يصدق كذبه إلا بتلك الكلمة التي سمعت من السماء.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الخامسة عشرة: كون الكاهن يصدق بعض الأحيان؛ لأنه يأتي بما سمع من السماء ويزيد عليه، وإذا وقع ما في السماء؛ صار صادقا.
اعتراض وجوابه:
كيف يسمع المسترقون الكلمة وعندما يسأل الملائكة جبريل يجابون بقال الحق فقط؟
والجواب: إن الوحي لا يعلمه أهل السماء، بل هو من الله إلى جبريل إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أما الأمور القدرية التي يتكلم الله بها؛ فليست خاصة بجبريل، بل ربما يعلمها أهل السماء مفصلة، ثم يسمعها مسترقو السمع.
السادسة عشرة: كونه يكذب معها مائة كذبة، أي: يكذب مع الكلمة التي تلقاها من المسترق.
وقوله: " مائة كذبة " هذا على سبيل المبالغة كما سبق وليس على سبيل التحديد.
السابعة عشرة: أنه لم يصدق إلا بتلك الكلمة التي سمعت من السماء، وأما ما قاله من عنده؛ فهو تخرص؛ فالكلمة التي سمعها تصدق، والذي يضيفه كله كذب يموه به على الناس.(9/317)
الثامنة عشرة: قبول النفوس للباطل، كيف يتعلقون بواحدة ولا يعتبرون بمائة؟! التاسعة عشرة: كونهم يتلقى بعضهم من بعض تلك الكلمة ويحفظونها ويستدلون بها. العشرون: إثبات الصفات خلافا للأشعرية المعطلة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الثامنة عشرة: قبول النفوس للباطل يتعلقون بواحدة ولا يعتبرون بمائة؟ وهذا صحيح، وليس صفة عامة لعامة الناس، بل لأهل الجهل والسفه؛ فهم يتعلقون بالكاهن من أجل صدقه مرة واحدة، وأما مائة كذبة؛ فلا يعتبرون بها، ولا شك أن بعض السفهاء يغترون بالصالح المغمور بالمفاسد، ولكن لا يغتر به أهل العقل والإيمان، ولهذا لما نزل قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219] ، تركهما كثير من الصحابة اعتبارا بالموازنة، والعاقل لا يمكن إذا وازن بين الأشياء أن يرجح جانب المفسدة؛ فهو وإن لم يأت الشرع بالتعيين يعرف ويميز بين المضار والمنافع.
التاسعة عشرة: كونهم يتلقى بعضهم من بعض تلك الكلمة ويحفظونها.. إلخ، الكلمة: هي الصدق؛ لأنها هي التي تروج بضاعتهم، ولو كانت بضاعتهم كلها كذبا ما راجت بين الناس
العشرون: إثبات الصفات خلافا للأشعرية المعطلة، الأشعرية: هم الذين ينتسبون إلى أبي الحسن الأشعري، وسموا معطلة؛ لأنهم يعطلون النصوص عن المعنى المراد بها، ويعطلون ما وصف الله به نفسه، والمراد تعطيل أكثر ذلك(9/318)
فإنهم يعطلون أكثر الصفات ولا يعطلون جميعها، بخلاف المعتزلة؛ فالمعتزلة ينكرون الصفات ويؤمنون بالأسماء، هؤلاء عامتهم، وإلا؛ فغلاتهم ينكرون حتى الأسماء، وأما الأشاعرة؛ فهم معطلة اعتبارا بالأكثر؛ لأنهم لا يثبتون من الصفات إلا سبعا، وصفاته تعالى لا تحصى، وإثباتهم لهذه السبع ليس كإثبات السلف؛ فمثلا: الكلام عند أهل السنة أن الله يتكلم بمشيئته بصوت وحرف.
والأشاعرة قالوا: الكلام لازم لذاته كلزومه الحياة والعلم، ولا يتكلم بمشيئته، وهذا الذي يسمع عبارة عن كلام الله وليس كلام الله، بل هو مخلوق؛ فحقيقة الأمر أنهم لم يثبتوا الكلام، ولهذا قال بعضهم: إنه لا فرق بيننا وبين المعتزلة في كلام الله؛ لأننا أجمعنا على أن ما بين دفتي المصحف مخلوق، وحجتهم في إثبات الصفات السبع: أن العقل دل عليها.
وشبهتهم في إنكار البقية: زعموا أن العقل لا يدل عليها.
والرد عليهم بما يلي:
1 - أن كون العقل يدل على الصفات السبع لا يدل على انتفاء ما سواها؛ فإن انتفاء الدليل المعين لا يستلزم انتفاء المدلول؛ فهب أن العقل لا يدل على بقية الصفات، لكن السمع دل عليها؛ فنثبتها بالدليل السمعي.
2 - أنها ثابتة بالدليل العقلي بنظير ما أثبتم هذه السبع؛ فمثلا: الإرادة ثابتة لله عندهم بدليل التخصيص، حيث إن الله جعل الشمس شمسا، والقمر قمرا، والسماء سماء، والأرض أرضا، وكونه يميز بين ذلك معناه أنه سبحانه وتعالى يريد؛ إذ لولا الإرادة؛ لكانت الدنيا كلها سواء، فأثبتوها لأن العقل دل عليها.
فنقول لهم: الرحمة لا تمضي لحظة على الخلق إلا وهم في نعمة من(9/319)
الحادية والعشرون: التصريح بأن تلك الرجفة والغشي خوفا من الله عز وجل. الثانية والعشرون: أنهم يخرون لله سجدا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الله؛ فهذه النعم العظيمة من الله تدل على رحمته لخلقه أدل من التخصيص على الإرادة.
والانتقام من العصاة يدل على بغضه لهم، وإثابة الطائعين ورفع درجاتهم في الدنيا والآخرة يدل على محبته لهم أدل على التخصيص من الإرادة، وعلى هذا فقس؛ فالمؤلف رحمه الله لما كان الأشعرية لا يثبتون إلا سبع صفات على خلاف في إثباتها مع أهل السنة جعلهم معطلة على سبيل الإطلاق، وإلا فالحقيقة أنهم ليسوا معطلة على سبيل الإطلاق.
الحادية والعشرون: التصريح بأن تلك الرجفة والغشي خوفا من الله -عز وجل -، فيدل على عظمة الخالق جل وعلا، حيث بلغ خوف الملائكة منه هذا المبلغ.
الثانية والعشرون: أنهم يخرون لله سجدا، أي: تعظيما لله واتقاء لما يخشونه؛ فتفيد تعظيم الله -عز وجل- كالتي قبلها.(9/320)
باب الشفاعة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ذكر المؤلف رحمه الله الشفاعة في كتاب التوحيد؛ لأن المشركين الذي يعبدون الأصنام يقولون: إنها شفاعة لهم عند الله، وهم يشركون بالله -سبحانه وتعالى- فيها بالدعاء والاستغاثة وما أشبه ذلك.
وهم بذلك يظنون أنهم معظمون لله، ولكنهم منتقصون له؛ لأنه عليم بكل شيء، وله الحكم التام المطلق والقدرة التامة؛ فلا يحتاج إلى شفعاء.
ويقولون: إننا نعبدهم ليكونوا شفعاء لنا عند الله، فيقربونا إلى الله، وهم ضالون في ذلك؛ فهو سبحانه عليم وقدير وذو سلطان، ومن كان كذلك؛ فإنه لا يحتاج إلى شفعاء.
والملوك في الدنيا يحتاجون إلى شفعاء؛ إما لقصور علمهم، أو لنقص قدرتهم؛ فيساعدهم الشفعاء في ذلك، أو لقصور سلطانهم؛ فيتجرأ عليهم الشفعاء، فيشفعون بدون استئذان، ولكن الله -عز وجل- كامل العلم والقدرة والسلطان، فلا يحتاج لأحد أن يشفع عنده، ولهذا لا تكون الشفاعة عنده سبحانه إلا بإذنه لكمال سلطانه وعظمته.
ثم الشفاعة لا يراد بها معونة الله سبحانه في شيء مما شفع فيه؛ فهذا ممتنع كما سيأتي في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ولكن يقصد بها أمران، هما:(9/321)
وقول الله عز وجل: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ} [الأنعام: 51] .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1 - إكرام الشافع.
2 - نفع المشفوع له.
والشفاعة لغة: اسم من شفع يشفع، إذا جعل الشيء اثنين، والشفع ضد الوتر، قال الله تعالى: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر: 3] .
واصطلاحا: التوسط للغير، بجلب منفعة، أو دفع مضرة.
مثال جلب المنفعة: شفاعة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأهل الجنة بدخولها.
مثال دفع المضرة: شفاعة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لمن استحق النار أن لا يدخلها.
وذكر المؤلف رحمه الله في هذا الباب عدة آيات:
الآية الأولى قوله تعالى: وأنذر به، الإنذار: هو الإعلام المتضمن للتخويف، أما مجرد الخبر؛ فليس بإنذار، والخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والضمير في " به " يعود للقرآن؛ كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الشورى: 7] ، وقال الله تعالى: {لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 2] .
وقوله: {يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا} ، أي: يخافون مما يقع لهم من سوء العذاب في ذلك الحشر.
والحشر: الجمع، وقد ضمن هنا معنى الضم والانتهاء؛ فمعنى يحشرون؛ أي يجمعون حتى ينتهوا إلى الله.
قوله: {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ} ، " ولي "؛ أي ناصر ينصرهم.(9/322)
وقوله: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر: 44] .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ولا شفيع أي: شافع يتوسط لهم، وهذا محل الشاهد.
ففي هذه الآية نفي الشفاعة من دون الله، أي من دون إذنه، ومفهومها: أنها ثابتة بإذنه، وهذا هو المقصود؛ الشفاعة من دونه مستحيلة، وبإذنه جائزة وممكنة.
أما عند الملوك؛ فجائزة بإذنهم وبغير إذنهم، فيمكن لمن كان قريبا من السلطان أن يشفع بدون أن يستأذن.
ويفيد قوله: من دونه أن لهم بإذنه وليا وشفيعا؛ كما قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [المائدة: 55] .
الآية الثانية قوله تعالى: {لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ} ، مبتدأ وخبر، وقدم الخبر للحصر، والمعنى: لله وحده الشفاعة كلها، لا يوجد شيء منها خارج عن إذن الله وإرادته؛ فأفادت الآية في قوله: " جميعا " أن هناك أنواعا للشفاعة.
وقد قسم أهل العلم رحمهم الله الشفاعة إلى قسمين رئيسيين، هما:
القسم الأول: الشفاعة الخاصة بالرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وهي أنواع:
النوع الأول: الشفاعة العظمى، وهي من المقام المحمود الذي وعده الله؛ «فإن الناس يلحقهم يوم القيامة في ذلك الموقف العظيم من الغم والكرب ما لا يطيقونه، فيقول بعضهم لبعض: اطلبوا من يشفع لنا عند الله، فيذهبون إلى آدم أبي البشر، فيذكرون من أوصافه التي ميزه الله بها: أن الله خلقه بيده، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء، فيقولون: اشفع لنا عند ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيعتذر لأنه عصى الله بأكله من الشجرة،» ومعلوم أن(9/323)
الشافع إذا كان عنده شيء يخدش كرامته عند المشفوع إليه؛ فإنه لا يشفع لخجله من ذلك، مع أن آدم عليه السلام قد تاب الله عليه واجتباه وهداه، قال الله تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه: 121-122] ، لكن لقوة حيائه من الله اعتذر.
«ثم يذهبون إلى نوح، ويذكرون من أوصافه التي امتاز بها، بإنه أول رسول أرسله الله الأرض، فيعتذر بأنه سأل الله ما ليس له به علم حين قال: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} [هود: 45] .
ثم يذهبون إلى عيسى عليه الصلاة والسلام، فيذكرون من أوصافه ما يقتضي أن يشفع؛ فلا يعتذر بشيء، لكن يحيل إلى من هو أعلى مقاما، فيقول: اذهبوا إلى محمد، عبد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيحيلهم إلى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دون أن يذكر عذرا يحول بينه وبين الشفاعة، فيأتون محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيشفع إلى الله ليريح أهل الموقف.»
الثاني: شفاعته في أهل الجنة أن يدخلوها؛ لأنهم إذا عبروا الصراط ووصلوا إليها وجدوها مغلقة، فيطلبون من يشفع لهم فيشفع لهم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى الله في فتح أبواب الجنة لأهلها، ويشير إلى قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73] ؛ فقال: وفتحت؛ فهناك شيء محذوف، أي: وحصل ما حصل من الشفاعة، وفتحت الأبواب، أما النار؛ فقال فيها {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} الآية.(9/324)
الثالث: شفاعته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في عمه أبي طالب أن يخفف عنه العذاب، وهذه مستثناة من قوله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48] ، وقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه: 109] ، وذلك لما كان لأبي طالب من نصرة للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ودفاع عنه، وهو لم يخرج من النار، لكن خفف عنه حتى صار -والعياذ بالله- «في ضحضاح من نار، وعليه نعلان يغلي منهما دماغه،» وهذه الشفاعة خاصة بالرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا أحد يشفع في كافر أبدا إلا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومع ذلك لم تقبل الشفاعة كاملة، وإنما هي تخفيف فقط.
القسم الثاني: الشفاعة العامة له -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولجميع المؤمنين.
وهي أنواع:
النوع الأول: الشفاعة فيمن استحق النار أن لا يدخلها، وهذه قد يستدل لها بقول الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «ما من مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا؛ إلا شفعهم الله فيه» ؛ فإن هذه شفاعة قبل أن يدخل النار، فيشفعهم الله في ذلك.
النوع الثاني: الشفاعة فيمن دخل النار أن يخرج منها، وقد تواترت بها الأحاديث، وأجمع عليها الصحابة، واتفق عليها أهل الملة ما عدا طائفتين، وهما: المعتزلة والخوارج؛ فإنهم ينكرون الشفاعة في أهل المعاصي مطلقا لأنهم يرون أن(9/325)
فاعل الكبيرة مخلد في النار، ومن استحق الخلود؛ فلا تنفع فيه الشفاعة، فهم ينكرون أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو غيره يشفع في أهل الكبائر أن لا يدخلوا النار، أو إذا دخلوها أن يخرجوا منها، لكن قولهم هذا باطل بالنص والإجماع.
النوع الثالث: الشفاعة في رفع درجات المؤمنين، وهذه تؤخذ من دعاء المؤمنين بعضهم لبعض كما قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في أبي سلمة: «اللهم اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، وأفسح له في قبره، ونور له فيه، واخلفه في عقبه» ، والدعاء شفاعة؛ كما قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «ما من مسلم يموت، فيقوم على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا؛ إلا شفعهم الله فيه» .
إشكال وجوابه:
فإن قيل: إن الشفاعة لا تكون إلا بإذنه سبحانه؛ فكيف يسمى دعاء الإنسان لأخيه شفاعة وهو لم يستأذن من ربه؟
والجواب: إن الله أمر بأن يدعو الإنسان لأخيه الميت، وأمره بالدعاء إذن وزيادة.
وأما الشفاعة الموهومة التي يظنها عباد الأصنام من معبودتهم؛ فهي شفاعة باطلة؛ لأن الله لا يأذن لأحد بالشفاعة إلا من ارتضاه من الشفعاء والمشفوع لهم.
إذا قوله: {لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} تفيد أن الشفاعة متعددة كما سبق(9/326)
وقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الآية الثالثة قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي} ، " من ": اسم استفهام بمعنى النفي؛ أي: لا يشفع أحد عند الله إلا بإذنه.
" ذا ": هل تجعل ذا اسما موصولا كما قال ابن مالك في "الألفية"، أو لا تصح أن تكون اسما موصولا هنا لوجود الاسم الموصول " الذي "؟
الثاني هو الأقرب، وإن كان بعض المعربين قال: يجوز أن تكون " الذي " توكيدا لها.
والصحيح أن " ذا " هنا إما مركبة مع " من "، أو زائدة للتوكيد، وأيا كان الإعراب؛ فالمعنى: أنه لا أحد يشفع عند الله إلا بإذن الله.
وسبق أن النفي إذا جاء في سياق الاستفهام؛ فإنه يكون مضمنا معنى التحدي، أي إذا كان أحد يشفع بغير إذن الله فأت به.
قوله: " عنده "، ظرف مكان، وهو سبحانه في العلو؛ فلا يشفع أحد عنده ولو كان مقربا؛ كالملائكة المقربين؛ إلا بإذنه الكوني، والإذن لا يكون إلا بعد الرضا.
وأفادت الآية: أنه يشترط للشفاعة، إذن الله فيها لكمال سلطانه جل وعلا، فإنه كلما كمل سلطان الملك؛ فإنه لا أحد يتكلم عنده ولو كان بخير إلا بعد إذنه، ولذلك يعتبر اللغط في مجلس الكبير إهانة له ودليلا على أنه ليس كبيرا في نفوس من عنده، كان الصحابة مع الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كأنما على رءوسهم الطير من الوقار وعدم الكلام إلا إذا فتح الكلام؛ فإنهم يتكلمون.(9/327)
وقوله: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26] .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الآية الرابعة قوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ} .
" كم " خبرية للتكثير، والمعنى: ما أكثر الملائكة الذين في السماء، ومع ذلك لا تغني شفاعتهم شيئا إلا بعد إذن الله ورضاه.
قوله: {إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} ، فللشفاعة شرطان، هما:
1 - الإذن من الله؛ لقوله: {أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ} .
2 - رضاه عن الشافع والمشفوع له؛ لقوله: " ويرضى "، وكما قال تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] ؛ فلا بد من إذنه تعالى ورضاه عن الشافع والمشفوع له؛ إلا في التخفيف عن أبي طالب، وقد سبق ذلك.
وهذه الآية في سياق بيان بطلان ألوهية اللات والعزى، قال تعالى بعد ذكر المعراج وما حصل للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيه: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 18] ؛ أي: العلامات الدالة عليه عز وجل؛ فكيف به سبحانه؟ فهو أكبر وأعظم.
ثم قال: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19-20] ، وهذا استفهام للتحقير؛ فبعد أن ذكر الله هذه العظمة، قال أخبروني عن هذه اللات والعزى ما عظمتها؟ وهذه غاية في التحقير، ثم قال: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ}(9/328)
وقوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} [سبأ: 22] .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الآية [النجم: 21-26] .
فإذا كانت الملائكة وهي في السماوات في العلو لا تغني شفاعتهم إلا بعد إذنه تعالى ورضاه؛ فكيف باللات والعزى وهي في الأرض؟
ولهذا قال: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ} ، مع أن الملائكة تكون في السماوات وفي الأرض، ولكن التي في السماوات العلا، وهي عند الله سبحانه؛ فحتى الملائكة المقربون حملة العرش لا تغني شفاعتهم إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى.
الآية الخامسة قوله تعالى: قل ادعوا.
الأمر في قوله: ادعوا للتحدي والتعجيز، وقوله: ادعوا يحتمل معنيين، هما:
1 - أحضروهم.
2 - ادعوهم دعاء مسألة.
فلو دعوهم دعاء مسألة لا يستجيبون لهم؛ كما قال تعالى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 14] .(9/329)
يكفرون: يتبرءون، ومع هذه الآيات العظيمة يذهب بعض الناس يشرك بالله ويستنجد بغير الله، وكذلك لو دعوهم دعاء حضور لم يحضروا، ولو حضروا ما انتفعوا بحضورهم.
قوله: {لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} ، واحدة الذر: وهي صغار النمل، ويضرب بها المثل في القلة.
قوله: {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} ، وكذلك ما دون الذرة لا يملكونه، والمقصود بذكر الذرة المبالغة، وإذا قصد المبالغة بالشيء قلة أو كثرة؛ فلا مفهوم له؛ فالمراد الحكم العام؛ فمثلا قوله تعالى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80] ؛ أي: مهما بالغت في الاستغفار.
ولا يرد على هذا أن الله أثبت ملكا للإنسان؛ لأن ملك الإنسان قاصر وغير شامل، ومتجدد وزائل، وليس كملك الله.
قوله: {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} ، أي: ما لهؤلاء الذين تدعون من دون الله.
" فيهما " أي: في السماوات والأرض.
" من شرك "؛ أي: مشاركة، أي لا يملكون انفرادا ولا مشاركة.
قوله: " من شرك ": مبتدأ مؤخر دخلت عليه " من " الزائدة لفظا، لكنها للتوكيد معنى.
وكل زيادة في القرآن؛ فهي زيادة في المعنى.
وأتت " من " للمبالغة في النفي، وأنه ليس هناك شرك لا قليل ولا كثير.
قوله: {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} ، الضمير في " ما له " يعود إلى الله تعالى، وفي " منهم " يعود إلى الأصنام؛ أي: ما لله تعالى من الأصنام ظهير.
و" من ": حرف جر زائد، و"ظهير": مبتدأ مؤخر بمعنى معين؛ كما(9/330)
قال الله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88] ؛ أي: معينا، وقال تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4] ؛ أي: معين، أي: ليس لله معين في أفعاله، وبذلك ينتفي عن هذه الأصنام كل ما يتعلق به العابدون؛ فهي لا تملك شيئا على سبيل الانفراد ولا المشاركة ولا الإعانة؛ لأن من يعينك وإن كان غير شريك لك يكون له منة عليك؛ فربما تحابيه في إعطائه ما يريد.
فإذا انتفت هذه الأمور الثلاثة؛ لم يبق إلا الشفاعة، وقد أبطلها الله بقوله: {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23] ؛ فلا تنفع عند الله الشفاعة لهؤلاء؛ لأن هذه الأصنام لا يأذن الله لها، فانقطعت كل الوسائل والأسباب للمشركين، وهذا من أكبر الآيات الدالة على بطلان عبادة الأصنام؛ لأنها لا تنفع عابديها لا استقلالا ولا مشاركة ولا مساعدة ولا شفاعة؛ فتكون عبادتها باطلة، قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأحقاف: 5] ، حتى ولو كان المدعو عاقلا؛ لقوله: " من "، ولم يقل: "ما"، ثم قال تعالى: {وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف: 6، 5] ، وكل هذه الآيات تدل على أنه يجب على الإنسان قطع جميع تعلقاته إلا بالله عبادة وخوفا ورجاء واستعانة ومحبة وتعظيما؛ حتى يكون عبدا لله حقيقة، يكون هواه وإرادته وحبه وبغضه وولاؤه ومعاداته لله وفي الله؛ لأنه مخلوق للعبادة فقط، قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115] ؛ أي: لا نأمركم ولا ننهاكم، إذ لو خلقناكم فقط للأكل والشرب والنكاح؛ لكان ذلك عين العبث، ولكن هناك شيء وراء ذلك، وهو عبادة الله سبحانه في هذه الدنيا.(9/331)
قال أبو العباس: " نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون، فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه، أو يكون عونا لله، ولم يبق إلا الشفاعة، فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب؛ كما قال: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: {إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} ، أي: وحسبتم أنكم إلينا لا ترجعون، فنجازيكم إذا كان هذا هو حسبانكم؛ فهو حسبان باطل.
قوله: "قال أبو العباس "، هو شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية رحمه الله يكنى بذلك، ولم يتزوج؛ لأنه كان مشغولا بالعلم والجهاد، وليس زاهدا في السنة، مات سنة 727هـ، وله 67سنة و10أشهر.
قوله: " لغيره ملك "، أي: لغير الله في قوله: {لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} .
قوله: " أو قسط منه " في قوله: {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} .
قوله: " أو يكون عونا لله " في قوله تعالى: {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} بدون استثناء.
قوله: " ولم يبق إلا الشفاعة "، فبين أنها لا تنفع إلا من أذن له الرب؛ كما قال تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} ، وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] ، ومعلوم أنه لا يرضى هذه الأصنام؛ لأنها باطلة، وحينئذ فتكون شفاعتهم منتفية.
واعلم أن شرك المشركين في السابق كان في عبادة الأصنام، أما الآن؛(9/332)
فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة؛ كما نفاها القرآن، وأخبر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده -لا يبدأ بالشفاعة أولا- ثم يقال له: ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فهو في طاعة المخلوق في المعصية؛ فإن هؤلاء يقدسون زعماءهم أكثر من تقديس الله إن أقروا به، فيقال لهم: إنهم بشر مثلكم، خرجوا من مخرج البول والحيض، وليس لهم شرك في السماوات ولا في الأرض، ولا يملكون الشفاعة لكم عند الله، إذا؛ فكيف تتعلقون بهم؟ حتى إن الواحد منهم يركع لرئيسه أو يسجد له كما يسجد لرب العالمين.
والواجب علينا نحو ولاة الأمور طاعتهم، وطاعتهم من طاعة الله، وليست استقلالا، أما عبادتهم كعبادة الله؛ فهذه جاهلية وكفر.
فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة، كما نفاها القرآن؛ فالله -سبحانه وتعالى- نفى أن تنفعهم أصنامهم، بل قال: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأنبياء: 98، 99] حتى الأصنام لا تنفع نفسها ولا يشفع لها؛ فكيف تكون شافعة؟ بل هي في النار وعابدوها.
قوله: «وأخبر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه يأتي فيسجد لربه» ، أي: وكما أخبر؛ فالواو(9/333)
«وقال أبو هريرة له -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: "من قال: لا إله إلا الله؛ خالصا من قلبه» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عاطفة، ويجوز أن تكون استئنافية، فإذا كان الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو أعظم الناس جاها عند الله لا يشفع إلا بعد أن يحمد الله ويثني عليه، فيحمد الله بمحامد عظيمة يفتحها الله عليه لم يكن يعلمها من قبل، ويطول سجوده؛ فكيف بهذه الأصنام؛ هل يمكن أن تشفع لأصحابها؟
قوله: " ارفع رأسك " أي: من السجود.
قوله: " وقل يسمع " السامع هو الله، و"يسمع": جواب الأمر مجزوم.
قوله: " وسل تعط " أي: سل ما بدا لك تعط إياه، وتعط: مجزوم بحذف حرف العلة جوابا لسل.
قوله: " واشفع تشفع "، وحينئذ يشفع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الخلائق أن يقضى بينهم.
قوله: «وقال أبو هريرة له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من أسعد الناس بشفاعتك؟» هذا السؤال من أبي هريرة للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «"لقد كنت أظن أن لا يسألني أحد غيرك عنه لما أرى من حرصك على العلم» ، وفي هذا دليل على أن من وسائل تحصيل العلم السؤال.
قوله: «من قال: لا إله إلا الله خالصا من قلبه» ، وعليه؛ فالمشركون ليس لهم حظ من الشفاعة؛ لأنهم لا يقولون: لا إله إلا الله، قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ}(9/334)
[الصافات: 35-36] ، وقال تعالى حكاية عنهم: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5] .
والحقيقة أن صنيعهم هو العجاب، قال تعالى: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} [الصافات: 12] ، وقال تعالى: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [الرعد: 5] .
وقوله: " خالصا من قلبه " خرج بذلك من قالها نفاقا؛ فإنه لا حظ له في الشفاعة، فإن المنافق يقول: لا إله إلا الله، ويقول: أشهد أن محمدا رسول الله، لكن الله -عز وجل- قابل شهادتهم هذه بشهادته على كذبهم، قال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1] ؛ أي: في شهادتهم، في قولهم: إنك لرسول الله؛ فهم كاذبون في شهادتهم وفي قولهم: لا إله إلا الله؛ لأنهم لو شهدوا بذلك حقا ما نافقوا ولا أبطنوا الكفر.
قوله: " خالصا "، أي: سالما من كل شوب؛ فلا يشوبها رياء ولا سمعة، بل هي شهادة يقين.
قوله: " من قلبه " لأن المدار على القلب، وهو ليس معنى من المعاني، بل هو مضغة في صدور الناس، قال الله تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46] ، وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} ، وقال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله» .(9/335)
فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله، ولا تكون لمن أشرك بالله، وحقيقته أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص، فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع؛ ليكرمه، وينال المقام المحمود.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وبهذا يبطل قول من قال: إن العقل في الدماغ، ولا ينكر أن للدماغ تأثيرا في الفهم والعقل، لكن العقل في القلب، ولهذا قال الإمام أحمد: "العقل في القلب، ولا اتصال في الدماغ".
ومن قال كلمة الإخلاص خالصا من قلبه؛ فلا بد أن يطلب هذا المعبود بسلوك الطرق الموصلة إليه؛ فيقوم بأمر الله ويدع نهيه.
قوله: " فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص "؛ لأن من أشرك بالله قال الله فيه: " {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} ".
قوله: " وحقيقته أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص؛ فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع ".
وحقيقته، أي: حقيقة أمر الشفاعة، أي الفائدة منها: أن الله -عز وجل- أراد أن يغفر للمشفوع له، ولكن بواسطة هذه الشفاعة.
والحكمة من هذه الواسطة بينها بقوله: " ليكرمه وينال المقام المحمود "، ولو شاء الله لغفر لهم بلا شفاعة، ولكنه أراد بيان فضل هذا الشافع وإكرامه أمام الناس، ومن المعلوم أن من قبل الله شفاعته؛ فهو عنده بمنزلة عالية؛ فيكون في هذا إكرام للشافع من وجهين:(9/336)
فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك، ولهذا أثبت الشافعة بإذنه في مواضع، وقد بين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنها لا تكون إلا لأهل الإخلاص والتوحيد، انتهى كلامه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الأول: إكرام الشافع بقبول شفاعته.
الثاني: ظهور جاهه وشرفه عند الله تعالى.
قوله: " المقام المحمود " أي: المقام الذي يحمد عليه وأعظم الناس في ذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فإن الله وعده أن يبعثه مقاما محمودا، ومن المقام المحمود: أن الله يقبل شفاعته بعد أن يتراجع الأنبياء أولو العزم عنها.
ومن يشفع من المؤمنين يوم القيامة؛ فله مقام يحمد عليه على قدر شفاعته.
قوله: " فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك "، هذا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
"ما" اسم موصول؛ أي: التي كان فيها شرك.
قوله: " وقد أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع "، ومن ذلك قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] ، وقوله: {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23] ، وقوله: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26] .
قوله: " وقد بين النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنها لا تكون إلا لأهل الإخلاص والتوحيد ".
أما أهل الشرك؛ فإن الشفاعة لا تكون لهم؛ لأن شفعاءهم هي الأصنام، وهي باطلة.(9/337)
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآيات. الثانية: صفة الشفاعة المنفية. الثالثة: صفة الشفاعة المثبتة. الرابعة: ذكر الشفاعة الكبرى وهي المقام المحمود. الخامسة: صفة ما يفعله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وأنه لا يبدأ بالشفاعة بل يسجد، فإذا أذن له؛ شفع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وجه إدخال باب الشفاعة في كتاب التوحيد: أن الشفاعة الشركية تنافي التوحيد، والبراءة منها هو حقيقة التوحيد.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآيات، وهي خمس، وسبق تفسيرها في حالها.
الثانية: صفة الشفاعة المنفية، وهي ما كان فيها شرك، فكل شفاعة فيها شرك؛ فإنها منفية.
الثالثة: صفة الشفاعة المثبتة، وهي شفاعة أهل التوحيد بشرط إذن الله تعالى ورضاه عن الشافع والمشفوع له.
الرابعة: ذكر الشفاعة الكبرى، وهي المقام المحمود، وهي الشفاعة في أهل الموقف أن يقضي بينهم، وقول الشيخ: "وهي المقام المحمود"؛ أي: منه
الخامسة: صفة ما يفعله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وأنه لا يبدأ بالشفاعة بل يسجد، فإذا أذن له؛(9/338)
السادسة: من أسعد الناس بها؟ السابعة: أنها لا تكون لمن أشرك بالله. الثامنة: بيان حقيقتها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
شفع، كما قال شيخ الإسلام رحمه الله، وهو ظاهر، وهذا يدل على عظمة الرب وكمال أدب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
السادسة: من أسعد الناس بها؟ هم أهل التوحيد والإخلاص من قال: لا إله إلا الله خالصا من قلبه.
ولا إله إلا الله معناها: لا معبود حق إلا الله، وليس المعنى: لا معبود إلا الله؛ لأنه لو كان كذلك؛ لكان الواقع يكذب هذا، إذ إن هناك معبودات من دون الله تعبد وتسمى آلهة، ولكنها باطلة، وحينئذ يتعين أن يكون المراد لا إله حق إلا الله.
ولا إله إلا الله تتضمن نفيا وإثباتا، هذا هو التوحيد؛ لأن الإثبات المجرد تعطيل محض، فلو قلت: لا إله معناه عطلت كل إله، ولو قلت: الله إله ما وحدت؛ لأن مثل هذه الصيغة لا تمنع المشاركة، ولهذا قال الله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة: 163] لما جاء الإثبات فقط أكده بقوله: واحد.
السابعة: أنها لا تكون لمن أشرك بالله، لقوله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48] وغير ذلك مما نفى الله فيه الشفاعة للمشركين، ولقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خالصا من قلبه ".
الثامنة: بيان حقيقتها، وحقيقتها: أن الله تعالى يتفضل على أهل الإخلاص؛ فيغفر لهم بواسطة من أذن له أن يشفع ليكرمه وينال المقام المحمود.(9/339)
باب قول الله تعالى:
{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} الآية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مناسبة هذا الباب لما قبله:
مناسبته أنه نوع من الباب الذي قبله، فإذا كان لا أحد يستطيع أن ينفع أحدا بالشفاعة والخلاص من العذاب، كذلك لا يستطيع أحد أن يهدي أحدا؛ فيقوم بما أمر الله به.
قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] ، الخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان يحب هداية عمه أبي طالب أو من هو أعم.
فأنت يا محمد المخاطب بكاف الخطاب، وله المنزلة الرفيعة عند الله لا تستطيع أن تهدي من أحببت هدايته، ومعلوم أنه إذا أحب هدايته؛ فسوف يحرص عليه، ومع ذلك لا يتمكن من هذا الأمر؛ لأن الأمر كله بيد الله، قال تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} [آل عمران: 128] ، وقال تعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} [هود: 123] ؛ فأتى بـ "أل" الدالة على الاستغراق؛ لأن "أل" في قوله؛ "الأمر" للاستغراق؛ فهي نائبة مناب كل؛ أي: وإليه يرجع كل الأمر، ثم جاءت مؤكدة بكل، وذلك توكيدان.
والهداية التي نفاها الله عن رسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هداية التوفيق، والتي أثبتها له(9/340)
هداية الدلالة والإرشاد، ولهذا أتت مطلقة لبيان أن الذي بيده هو هداية الدلالة فقط، لا أن يجعله متهديا، قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] ، فلم يخصص سبحانه فلانا وفلانا ليبين أن المراد: أنك تهدي هداية دلالة، فأنت تفتح الطريق أمام الناس فقط وتبين لهم وترشدهم، وأما إدخال الناس في الهداية؛ فهذا أمر ليس إلى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إنما هو مما تفرد الله به سبحانه؛ فنحن علينا أن نبين وندعو، وأما هداية التوفيق "أي الإنسان يهتدي"؛ فهذا إلى الله -سبحانه وتعالى- وهذا هو الجمع بين الآيتين.
وقوله: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} ظاهره أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يحب أبا طالب؛ فكيف يؤول ذلك؟
والجواب: إما أن يقال: إنه على تقدير أن المفعول محذوف، والتقدير: من أحببت هدايته لا من أحببته هو.
أو يقال: إنه أحب عمه محبة طبيعية كمحبة الابن أباه، ولو كان كافرا.
أو يقال: إن ذلك قبل النهي عن محبة المشركين.
والأول أقرب؛ أي: من أحببت هدايته لا عينه، وهذا عام لأبي طالب وغيره.
ويجوز أن يحبه محبة قرابة، لا ينافي هذا المحبة الشرعية، وقد أحب أن يهتدي هذا الإنسان وإن كنت أبغضه شخصيا لكفره، ولكن لأني أحب أن الناس يسلكون دين الله.(9/341)
وفي "الصحيح" عن ابن المسيب، عن أبيه؛ قال: «لما حضرت أبا طالب الوفاة؛ جاءه رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعنده عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل، فقال له: "يا عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: " في الصحيح "، سبق الكلام على مثل هذه العبارة في باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله.
قوله: " أبا " بالألف: مفعول به منصوب بالألف؛ لأنه من الأسماء الخمسة، و" الوفاة " يعني: الموت، فاعل حضرت.
قوله: " «فقال: يا عم، قل: لا إله إلا الله» ، أتى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بهذه الكنية الدالة على العطف؛ لأن العم صنو الأب؛ أي: كالغصن معه.
والصنو: الغصن الذي أصله واحد؛ فكأنه معه كالغصن.
قوله: " يا عم " فيها وجهان.
يا عم؛ بكسر الميم: على تقدير أنها مضافة إلى الياء.
ويا عم؛ بضم الميم: على تقدير قطعها عن الإضافة.
قوله: " قل: لا إله إلا الله " يجوز أنه قاله على سبيل الأمر والإلزام؛ لأنه يجب أن يأمر كل أحد أن يقول: لا إله إلا الله.
ويجوز أنه قاله على سبيل الترجي والتلطف معه، وأبو طالب والذين عنده يعرفون هذه الكلمة ويعرفون معناها، ولهذا بادر بالإنكار.
قوله: " كلمة "، منصوبة؛ لأنها بدل لا إله إلا الله، ويجوز إذا لم تكن الرواية بالنصب أن تكون بالرفع؛ أي: هي كلمة، ولكن النصب أوضح.
قول: " أحاج "، بضم الجيم وفتحها: فعلى ضم الجيم فهي صفة لكلمة،(9/342)
«فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فأعاد عليه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فأعادا، فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وإذا كانت بالفتح فهي مجزومة جوابا للأمر: " قل "؛ أي: قل أحاج.
وقال بعض المعربين: إنها جواب لشرط مقدر؛ أي: إن تقل أحاج، وبعضهم يرى أنها جواب للأمر مباشرة، وهذا والأول أسهل؛ لأن الأصل عدم التقدير.
والمعنى: أذكرها حجة لك عند الله، وليس أخاصم وأجادل لك بها عند الله، وإن كان بعض أهل العلم قال: إن معناها أجادل الله بها، ولكن الذي يظهر لي أن المعنى: أحاج لك بها عند الله؛ أي: أذكرها حجة لك كما جاء في بعض الروايات: «أشهد لك بها عند الله» .
قوله: «فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟» ، القائلان هما: عبد الله بن أبي أمية، وأبو جهل، والاستفهام للإنكار عليه؛ لأنهما عرفا أنه إذا قالها -أي كلمة الإخلاص- وحد، وملة عبد المطلب الشرك، وذكرا له ما تهيج به نعرته، وهي ملة عبد المطلب حتى لا يخرج عن ملة آبائه.
وقد مات أبو جهل على ملة عبد المطلب، أما عبد الله بن أبي أمية والمسيب الذي روى الحديث، فأسلما؛ فأسلم من هؤلاء الثلاثة رجلان رضي الله عنهما.
قوله: " ملة عبد المطلب "، أي: دين عبد المطلب.
قوله: " فأعاد عليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "، أي: قوله: قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج(9/343)
«فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لأستغفرن لك ما لم أنه عنك".
فأنزل الله عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} » [التوبة: 113] .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لك بها عند الله.
قوله: " فأعادا عليه "، أي قولهما: أترغب عن ملة عبد المطلب.
قوله: " فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لأستغفرن لك ... إلخ" جملة " لأستغفرن لك " مؤكدة بثلاث مؤكدات: القسم، واللام، ونون التوكيد الثقيلة.
والاستغفار: طلب المغفرة، وكأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في نفسه شيء من القلق، حيث قال: " ما لم أنه عنك "؛ فوقع الأمر كما توقع ونهى عنه.
قوله: " ما لم أنه عنك "، فعل مضارع مبني للمجهول، والناهي عنه هو الله.
قوله " ما كان "، ما: نافية، وكان فعل ماض ناقص.
قوله: " {أَنْ يَسْتَغْفِرُوا} "، أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر اسم كان مؤخر.
قوله: " للنبي "، خبر مقدم؛ أي: ما كان استغفاره.
واعلم أن ما كان أو ما ينبغي أو لا ينبغي ونحوها، إذا جاءت في القرآن والحديث؛ فالمراد أن ذلك ممتنع غاية الامتناع؛ كقوله تعالى: {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ} [مريم: 35] ، وقوله: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم: 92] ، وقوله: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} [يس: 40] ، وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام» .(9/344)
«وأنزل الله في أبي طالب: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} » [القصص: 56] .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: {أَنْ يَسْتَغْفِرُوا} أي: يطلبوا المغفرة للمشركين.
قوله: {وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} ، أي: حتى ولو كانوا أقارب لهم، ولهذا «لما اعتمر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومر بقبر أمه استأذن الله أن يستغفر لها فما أذن الله له، فاستأذنه أن يزور قبرها فأذن له؛ فزاره للاعتبار وبكى وأبكى من حوله من الصحابة» .
فالله منعه من طلب المغفرة للمشركين؛ لأن هؤلاء المشركين ليسوا أهلا للمغفرة؛ لأنك إذا دعوت الله أن يفعل ما لا يليق؛ فهو اعتداء في الدعاء.
قوله: "وأنزل الله في أبي طالب "، أي: في شأنه.
قوله: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} ، الخطاب للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أي لا توفق من أحببت للهداية.
قوله: {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} ، أي يهدي هداية التوفيق من يشاء، واعلم أن كل فعل يضاف إلى مشيئة الله تعالى؛ فهو مقرون بالحكمة؛ أي: من اقتضت حكمته أن يهديه فإنه يهتدي، ومن اقتضت حكمته أن يضله أضله.
وهذا الحديث يقطع وسائل الشرك بالرسول وغيره؛ فالذين يلجئون إليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويستنجدون به مشركون، فلا ينفعهم ذلك؛ لأنه لم يؤذن له أن يستغفر(9/345)
لعمه، مع أنه قد قام معه قياما عظيما، ناصره وآزره في دعوته؛ فكيف بغيره ممن يشركون بالله؟
الإشكالات الواردة في الحديث:
الإشكال الأول: الإثبات والنفي في الهداية، وقد سبق بيان ذلك.
الإشكال الثاني: قوله لما حضرت أبا طالب الوفاة يشكل مع قوله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} [النساء: 18] ، وظاهر الحديث قبول توبته.
والجواب عن ذلك من أحد وجهين:
الأول: أن يقال لما حضرت أبا طالب الوفاة، أي ظهر عليه علامات الموت ولم ينزل به، ولكن عرف موته لا محالة، وعلى هذا؛ فالوصف لا ينافي الآية.
الثاني: أن هذا خاص بأبي طالب مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ويستدل لذلك بوجهين:
أ- أنه قال: «كلمة أحاج لك بها عند الله» ، ولم يجزم بنفعها له، ولم يقل: كلمة تخرجك من النار.
ب- أنه سبحانه أذن للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالشفاعة لعمه مع كفره، وهذا لا يستقيم إلا له، والشفاعة له ليخفف عنه العذاب.
ويضعف الوجه الأول أن المعنى ظهرت عليه علامات الموت: بأن قوله: " لما حضرت أبا طالب الوفاة " مطابقا تماما؛ لقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ} ، وعلى هذا يكون الأوضح في الجواب أن هذا خاص بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع(9/346)
أبي طالب نفسه.
الإشكال الثالث: أن قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 113] في سورة التوبة، وهي متأخرة مدنية، وقصة أبي طالب مكية، وهذا يدل على تأخر النهي عن الاستغفار للمشركين، ولهذا استأذن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للاستغفار لأمه وهو ذاهب للعمرة.
ولا يمكن أن يستأذن بعد نزول النهي؛ فدل على تأخر الآية، وأن المراد بيان دخولها في قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} ، وليس المعنى أنها نزلت في ذلك الوقت.
وقيل: إن سبب نزول الآية هو استئذانه ربه في الاستغفار لأمه، ولا مانع من أن يكون للآية سببان.
الإشكال الرابع: أن أهل العلم قالوا: يسن تلقين المحتضر لا إله إلا الله، لكن بدون قول قل؛ لأنه ربما مع الضجر يقول: لا؛ لضيق صدره مع نزول الموت، أو يكره هذه الكلمة أو معناها، وفي هذا الحديث قال: "قل".
والجواب: إن أبا طالب كان كافرا، فإذا قيل له: قل وأبى؛ فهو باق على كفره، لم يضره التلقين بهذا؛ فإما أن يبقى على كفره ولا ضرر عليه بهذا التلقين، وإما أن يهديه الله، بخلاف المسلم؛ فهو على خطر؛ لأنه ربما يضره التلقين على هذا الوجه.(9/347)
فيه مسائل:
الأولى: تفسير قوله: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} الآية. الثانية: تفسير قوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ} الآية. الثالثة: وهي المسألة الكبيرة، تفسير قوله: "لا إله إلا الله"؛ بخلاف ما عليه من يدعي العلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولي: تفسير قوله تعالى {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} ، أي: من أحببت هدايته، وسبق تفسيرها، وبينا أن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا كان لا يستطيع أن يهدي أحدا وهو حي؛ فكيف يستطيع أن يهدي أحدا وهو ميت؟ وأنه كما قال الله تعالى في حقه: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} [الجن: 21] .
الثانية: تفسير قوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ} الآية، وقد سبق تفسيرها، وبيان تحريم استغفار المسلمين للمشركين، ولو كانوا أولي قربى.
والخطر من قول بعض الناس لبعض زعماء الكفر إذا مات: المرحوم؛ فإنه حرام؛ لأن هذا مضادة لله -سبحانه وتعالى- وكذلك يحرم إظهار الجزع والحزن على موتهم بالإحداد أو غيره؛ لأن المؤمنين يفرحون بموتهم، بل لو كان عندهم القدرة والقوة لقاتلوهم حتى يكون الدين كله لله.
الثالثة: وهي المسألة الكبيرة، أي: الكبيرة من هذا الباب، «وقوله "أي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-" لعمه: " قل: لا إله إلا الله» ، وعمه المعنى أنه التبرؤ من كل إله سوى الله، ولهذا أبى أن يقولها؛ لأنه يعرف معناها ومقتضاها وملزوماتها.
وقوله: " بخلاف ما عليه من يدعي العلم " كأنه يشير إلى تفسير المتكلمين(9/348)
الرابعة: أن أبا جهل ومن معه يعرفون مراد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا دخل قال للرجل قل: "لا إله إلا الله"؛ فقبح الله أبا جهل، من أعلم منه بأصل الإسلام.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لمعنى لا إله إلا الله، حيث يقولون: إن الإله هو القادر على الاختراع، وإنه لا قادر على الاختراع والإيجاد والإبداع إلا الله، وهذا تفسير باطل.
نعم، هو حق لا قادر على الاختراع إلا الله، لكن ليس هذا معنى لا إله إلا الله، ولكن المعنى: لا معبود حق إلا الله؛ لأننا لو قلنا: إن معنى لا إله إلا الله: لا قادر على الاختراع إلا الله؛ صار المشركون الذين قاتلهم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واستباح نساءهم وذريتهم وأموالهم مسلمين؛ فالظاهر من كلامه رحمه الله أنه أراد أهل الكلام الذين يفسرون لا إله إلا الله بتوحيد الربوبية، وكذلك الذين يعبدون الرسول والأولياء، ويقولون: نحن نقول: لا إله إلا الله.
الرابعة: أن أبا جهل ومن معه يعرفون مراد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أبو جهل ومن معه يعرفون النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بقول: لا إله إلا الله، ولذا ثاروا وقالوا له: "أترغب عن ملة عبد المطلب؟ "، وهو أيضا أبى أن يقولها؛ لأنه يعرف مراد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بهذه الكلمة، قال الله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات: 36] .
فالحاصل أن الذين يدعون أن معنى لا إله إلا الله؛ أي: لا قادر على الاختراع إلا هو، أو يقولونها وهم يعبدون غيره كالأولياء، هم أجهل من أبي جهل.(9/349)
الخامسة: جده -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومبالغته في إسلام عمه. السادسة: الرد على من زعم إسلام عبد المطلب وأسلافه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
واحترز المؤلف في عدم ذكر من مع أبي جهل لأنهم أسلموا، وبذلك صاروا أعلم ممن بعدهم، خاصة من هم في العصور المتأخرة في زمن المؤلف رحمه الله.
الخامسة: جده ومبالغته في إسلام عمه، حرصه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكونه يتحمل أن يحاج بالكلمة عند الله واضح من نص الحديث؛ لسببين هما:
1 - القرابة.
2 - لما أسدى للرسول والإسلام من المعروف، فهو على هذا مشكور، وإن كان على كفره مأزورا وفي النار، ومن مناصرة أبي طالب أنه هجر قومه من أجل معاضدة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومناصرته، وكان يعلن على الملأ صدقه ويقول قصائد في ذلك ويمدحه، ويصبر على الأذى من أجله، وهذا جدير بأن يحرص على هدايته، لكن الأمر بيد مقلب القلوب كما في الحديث: «إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد، يصرفه حيث يشاء» ، ثم قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في نفس الحديث: «اللهم، مصرف القلوب، صرف قلوبنا على طاعتك» .
السادسة: الرد على من زعم إسلام عبد المطلب، بدليل قولهما: "أترغب عن ملة عبد المطلب؟ " حين أمره النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا إله إلا الله؛ فدل على أن ملة عبد المطلب الكفر والشرك.
وفي الحديث رد على من قال بإسلام أبي طالب أو نبوته كما تزعمه(9/350)
السابعة: كونه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- استغفر له فلم يغفر له، بل نهي عن ذلك.
الثامنة: مضرة أصحاب السوء على الإنسان.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الرافضة، قبحهم الله؛ لأن آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله.
السابعة: كونه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- استغفر له فلم يغفر له، الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقرب الناس أن يجيب الله دعاءه، ومع ذلك اقتضت حكمة الله أن لا يجيب دعاءه لعمه أبي طالب؛ لأن الأمر بيد الله لا بيد الرسول ولا غيره، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران: 154] ، وقال تعالى: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} [هود: 123] ليس لأحد تصرف في هذا الكون إلا رب الكون.
وكذا أمه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يؤذن له في الاستغفار لها؛ فدل على أن أهل الكفر ليسوا أهلا للمغفرة بأي حال، ولا يجاب لنا فيهم، ولا يحل الدعاء لهم بالمغفرة والرحمة، وإنما يدعى لهم بالهداية وهم أحياء.
الثامنة: مضرة أصحاب السوء على الإنسان، المعنى أنه لولا هذان الرجلان؛ لربما وفق أبو طالب إلى قبول ما عرضه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكن هؤلاء -والعياذ بالله- ذكراه نعرة الجاهلية ومضرة رفقاء السوء، ليس خاصا بالشرك، ولكن في جميع سلوك الإنسان، وقد «شبه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جليس السوء بنافخ الكير؛ إما أن يحرق ثيابك، أو تجد منه رائحة كريهة» ، وقال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «فأبواه يهودانه أو»(9/351)
التاسعة: مضرة تعظيم الأسلاف والأكابر.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«ينصرانه أو يمجسانه» ، وذلك لما بينهما من الصحبة والاختلاط، وكذلك روي عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بسند لا بأس به: «المرء على دين خليله؛ فلينظر أحدكم من يخالل» (1) ؛ فالمهم أنه يجب على الإنسان أن يفكر في أصحابه: هل هم أصحاب سوء؟ فليبعد عنهم؛ لأنهم أشد عداء من الجرب، أو هم أصحاب خير: يأمرونه بالمعروف، وينهونه عن المنكر، ويفتحون له أبواب الخير؛ فعليه بهم.
التاسعة: مضرة تعظيم الأسلاف والأكابر؛ لأن أبا طالب اختار أن يكون على ملة عبد المطلب حين ذكروه بأسلافه مع مخالفته لشريعة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وهذا ليس على إطلاقه؛ فتعظيمهم إن كانوا أهلا لذلك فلا يضر، بل هو خير؛ فأسلافنا من صدر هذه الأمة لا شك أن تعظيمهم وإنزالهم منازلهم خير لا ضرر فيه.
وإن كان تعظيم الأكابر لما هم عليه من العلم والسن؛ فليس فيه مضرة وإن كان تعظيمهم لما هم عليه من الباطل؛ فهو ضرر عظيم على دين المرء، فمثلا: من يعظم أبا جهل؛ لأنه سيد أهل الوادي، وكذلك عبد المطلب وغيره؛ فهو ضرر عليه، ولا يجوز أن يرى الإنسان في نفسه لهؤلاء أي قدر؛ لأنهم أعداء الله -عز وجل-، وكذلك لا يعظم الرؤساء من الكفار في زمانه؛ فإن
__________
(1) مسند الإمام أحمد (2/303) ، والترمذي: كتاب الزهد / باب الرجل على دين خليله) ـ وقال: (حسن غريب) ـ، والحاكم (4/188) ـ وقال: (صحيح ووافقه الذهبي) ـ.(9/352)
العاشرة: الشبهة للمبطلين في ذلك؛ لاستدلال أبي جهل بذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مضرة؛ لأنه قد يورث ما يضاد الإسلام، فيجب أن يكون التعظيم حسب ما تقتضيه الأدلة من الكتاب والسنة.
العاشرة: الشبهة للمبطلين في ذلك لاستدلال أبي جهل بذلك، شبه المبطلين في تعظيم الأسلاف هي استدلال أبي جهل بذلك في قوله: "أترغب عن ملة عبد المطلب؟ " وهذه الشبهة ذكرها الله في القرآن في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23] .
فالمبطلون يقولون في شبهتهم: إن أسلافهم على الحق وسيقتدون بهم، ويقولون: كيف نسفه أحلامهم، ونضلل ما هم عليه؟
وهذا يوجد في المتعصبين لمشايخهم وكبرائهم ومذاهبهم، حيث لا يقبلون قرآنا ولا سنة في معارضة الشيخ أو الإمام، حتى إن بعضهم يجعلهم معصومين؛ كالرافضة، والتيجانية، والقاديانية، وغيرهم؛ فهم يرون أن إمامهم لا يخطئ، والكتاب والسنة يمكن أن يخطئا.
والواجب على المرء أن يكون تابعا لما جاء به الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأما من خالفه من الكبراء والأئمة؛ فإنهم لا يحتج بهم على الكتاب والسنة، لكن يعتذر لهم عن مخالفة الكتاب والسنة إن كانوا أهلا للاعتذار، بحيث لم يعرف عنهم معارضة للنصوص، فيعتذر لهم بما ذكره أهل العلم، ومن أحسن ما ألف كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية: "رفع الملام عن الأئمة الأعلام"، أما من يعرف بمعارضة الكتاب والسنة؛ فلا يعتذر له.(9/353)
الحادية عشرة: الشاهد لكون الأعمال بالخواتيم؛ لأنه لو كان قالها لنفعته. الثانية عشرة: التأمل في كبر هذه الشبهة في القلوب الضالين؛ لأن في القصة أنهم لم يجادلوه إلا بها، مع مبالغته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتكريره؛ فلأجل عظمتها ووضوحها عندهم اقتصروا عليها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الحادية عشرة: الشاهد لكون الأعمال بالخواتيم، وهذا مبني على القول بأن معنى حضرته الوفاة؛ أي: ظهرت عليه علاماتها، ولم ينزل به كما سبق.
الثانية عشرة: التأمل في كبر هذه الشبهة في قلوب الضالين ... إلخ، وهذه الشبهة هي تعظيم الأسلاف والأكابر.(9/354)
باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم
هو الغلو في الصالحين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: " سبب كفر بني آدم "، السبب في اللغة: ما يتوصل به إلى غيره، ومنه قوله تعالى: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ} [الحج: 15] ؛ أي: بشيء يوصله إلى السماء.
ومنه أيضا سمي الحبل سببا؛ لأنه يتوصل به إلى استسقاء الماء من البئر.
وأما في الاصطلاح عند أهل الأصول؛ فهو الذي يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم.
أي: إذا وجد السبب وجد المسبب، وإذا عدم عدم المسبب؛ إلا أن يكون هناك سبب آخر يثبت به المسبب.
قوله: " بني آدم "، يشمل الرجال والنساء؛ لأنه إذا قيل: بنو فلان، وهم قبيلة: شمل ذكورهم وإناثهم، أما إذا قيل: بنو فلان، أي رجل معين؛ فالمراد بهم الذكور.
قوله: " وتركهم "، يعني: وسبب تركهم.
قوله: " دينهم "، مفعول ترك؛ لأن ترك مصدر مضاف إلى فاعله، و"دينهم" يكون مفعولا به.
قوله: " هو الغلو "، هذا الضمير يسمى ضمير الفصل، وهو من أدوات التوكيد، والغلو: خبر؛ لأن ضمير الفصل على القول الراجح ليس له محل من الإعراب.(9/355)
وقول الله عز وجل: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء: 171] .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والغلو: هو مجاوزة الحد في الثناء مدحا أو قدحا.
والقدح: يسمى ثناء، ومنه الجنازة التي مرت فأثنوا عليها شرا.
والغلو هنا: مجاوزة الحد في الثناء مدحا.
قوله: " الصالحين "، الصالح: هو الذي قام بحق الله وحق العباد، وفي هذه الترجمة إضافة الشيء إلى سببه بدون أن ينسب إلى الله بقوله: " أن سبب كفر بني آدم، وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين "، وهذا جائز إذا كان السبب حقيقة وصحيحا، وذلك إذا كان السبب قد ثبت من قبل الشرع أو الحس أو الواقع.
وقد قال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لولا أنا؛ لكان في الدرك الأسفل من النار» ؛ يعني: عمه أبا طالب.
قوله: " وقول الله -عز وجل-"، يعني: وباب قول الله -عز وجل-.
قوله: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ} ، نداء، وهم اليهود والنصارى، والكتاب: التوراة لليهود، والإنجيل للنصارى.
قوله: {لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} ، أي: لا تتجاوزوا الحد مدحا أو قدحا، والأمر واقع كذلك بالنسبة لأهل الكتاب عموما؛ فإنهم غلوا في عيسى ابن(9/356)
مريم عليه السلام مدحا وقدحا، حيث قال النصارى: إنه ابن الله، وجعلوه ثالث ثلاثة.
واليهود غلوا فيه قدحا، وقالوا: إن أمه زانية، وإنه ولد زنا، قاتلهم الله؛ فكل من الطرفين غلا في دينه وتجاوز الحد بين إفراط أو تفريط.
قوله: {وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} ، وهو ما قاله سبحانه وتعالى عن نفسه بأنه: إله واحد، أحد، صمد، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا.
قوله: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ} ، هذه صيغة حصر، وطريقه "إنما"؛ فيكون المعنى: ما المسيح عيسى ابن مريم إلا رسول الله، وأضافه إلى أمه ليقطع قول النصارى الذي يضيفونه إلى الله.
وفي قوله: رسول الله إبطال لقول اليهود: إنه كذاب، ولقول النصارى: إنه إله.
وفي قوله: " وكلمته " إبطال لقول اليهود: إنه ابن زنا.
{وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} : أن قال له: كن فكان.
قوله: {وَرُوحٌ مِنْهُ} ، أي: إنه عز وجل جعل عيسى عليه الصلاة والسلام كغيره من بني آدم من جسد وروح، وأضاف روحه إليه تشريفا وتكريما؛ كما في قوله تعالى في آدم: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [ص: 72] ؛ فهذا للتشريف والتكريم.
قوله: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} ، الخطاب لأهل الكتاب، ومن رسله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي هو آخرهم وخاتمهم وأفضلهم.
قوله: {وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ} ، أي: إن الله ثالث ثلاثة.
قوله: {انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ} ، " خيرا ": خبر ليكن المحذوفة؛ أي: انتهوا(9/357)
يكن خيرا لكم.
قوله: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} ، أي: تنزيها له أن يكون له ولد؛ لأنه مالك لما في السماوات وما في الأرض، ومن جملتهم عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام؛ فهو من جملة المملوكين المربوبين؛ فكيف يكون إلها مع الله أو ولدا لله؟
"تنبيه":
لم يشر المؤلف رحمه الله تعالى إلى إكمال الآية، ونرجو أن يكون في إكمالنا لها فائدة.
قوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} ، أي: كفى الله تعالى أن يكون حفيظا على عباده، مدبرا لأحوالهم، عالما بأعمالهم.
والشاهد من هذه الآية قوله: {لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} ؛ فنهى عن الغلو في الدين؛ لأنه يتضمن مفاسد كثيرة؛ منها:
1 - أنه تنزيل للمغلو فيه فوق منزلته إن كان مدحا، وتحتها إن كان قدحا.
2 - أنه يؤدي إلى عبادة هذا المغلو فيه كما هو الواقع من أهل الغلو.
3 - أنه يصد عن تعظيم الله -سبحانه وتعالى-؛ لأن النفس إما أن تنشغل بالباطل أو بالحق، فإذا انشغلت بالغلو بهذا المخلوق وإطرائه وتعظيمه؛ تعلقت به ونسيت ما يجب لله تعالى من حقوق.
4 - أن المغلو فيه إن كان موجودا؛ فإنه يزهو بنفسه، ويتعاظم ويعجب بها، وهذه مفسدة تفسد المغلو فيه إن كانت مدحا، وتوجب العداوة والبغضاء وقيام الحروب والبلاء بين هذا وهذا، وإن كانت قدحا.
قوله: في دينكم، الدين يطلق على العمل والجزاء، والمراد به هنا: العمل.(9/358)
وفي الصحيح عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في قول الله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23] .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والمعنى: لا تجعلوا عبادتكم غلوا في المخلوقين وغيرهم.
وهل يدخل في هذا الغلو في العبادات؟
الجواب: نعم، يدخل الغلو في العبادات، مثل أن يرهق الإنسان نفسه بالعبادة ويتعبها؛ فإن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نهى عن ذلك، ومثل أن يزيد عن المشروع، كأن يرمي بجمرات كبيرة، أو يأتي بأذكار زائدة عن المشروع أدبار الصلوات تكميلا للوارد أو غير هذا؛ فالنهي عن الغلو في الدين يعم الغلو من كل وجه.
قوله: " وفي الصحيح "، أي: في "صحيح البخاري "، وهذا الأثر اختصره المصنف، وقد سبق الكلام على مثل هذه العبارة في باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله.
قوله: " وقالوا "، أي: قال بعضهم لبعض.
قوله: " لا تذرن "، أي: لا تدعن وتتركن، وهذا نهي مؤكد بالنون.
قوله: " آلهتكم "، هل المراد: لا تذروا عبادتها أو تمكنوا أحدا من إهانتها؟(9/359)
قال: "هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا؛ أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا، وسموها بأسمائهم ففعلوا، ولم تعبد حتى إذا هلك أولئك، ونسي العلم؛ عبدت.".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الجواب: المعنيان؛ أي: انتصروا لآلهتكم، ولا تمكنوا أحدا من إهانتها، ولا تدعوها للناس، ولا تدعوا عبادتها أيضا، بل احرصوا عليها، وهذا من التواصي بالباطل عكس الذين آمنوا وعملوا الصالحات يتواصون بالحق.
قوله: {وَلَا سُوَاعًا} ، لا: زائدة للتوكيد، مثلها في قوله تعالى: {وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] ، وفائدتها أنهم جعلوا مدخولها كالمستقل، بخلاف يعوق ونسر؛ فهما دون مرتبة من سبقهما.
قوله تعالى: {وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23] ، هذه الخمسة كأن لها مزية على غيرها؛ لأن قوله: " آلهتكم " عام يشمل كل ما يعبدون، وكأنها كبار آلهتهم؛ فخصوها بالذكر.
والآلهة: جمع إله، وهو كل ما عبد، سواء بحق أو بباطل، لكن إذا كان المعبود هو الله؛ فهو حق، وإن كان غير الله؛ فهو باطل.
قال ابن عباس -رضي الله عنهما- في هذه الآية: "هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح ".(9/360)
وفي هذا التفسير إشكال، حيث قال: " هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح "، وظاهر القرآن أنها قبل نوح، قال تعالى: {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} [نوح: 21-23] ؛ ظاهر الآية الكريمة: أن قوم نوح كانوا يعبدونها، ثم نهاهم نوح عن عبادتها، وأمرهم بعبادة الله وحده، ولكنهم أبوا وقالوا: {لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} ، وهذا "أعني: القول بأنهم قبل نوح " قول محمد بن كعب ومحمد بن قيس، وهو الراجح لموافقته ظاهر القرآن.
ويحتمل -وهو بعيد- أن هذا في أول رسالة نوح، وأنه استجاب له هؤلاء الرجال وآمنوا به، ثم بعد ذلك ماتوا قبل نوح ثم عبدوهم، لكن هذا بعيد حتى من سياق الأثر عن ابن عباس.
فالمهم أن تفسير الآية أن يقال: هذه أصنام في قوم نوح كانوا رجالا صالحين، فطال على قومهم الأمد، فعبدوهم.
قوله: " أوحى الشيطان "، أي: وحي وسوسة، وليس وحي إلهام.
قوله: " أن انصبوا إلى مجالسهم "، الأنصاب: جمع نصب، وهو كل ما ينصب من عصا أو حجر أو غيره.
قوله: " وسموها بأسمائهم "، أي: ضعوا أنصابا في مجالسهم، وقولوا: هذا ود، وهذا سواع، وهذا يغوث، وهذا يعوق، وهذا نسر؛ لأجل إذا رأيتوهم تتذكروا عبادتهم فتنشطوا عليها، هكذا زين لهم الشيطان، وهذا غرور ووسوسة من الشيطان كما قال لآدم: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} [طه: 120] .
وإذا كان العبد لا يتذكر عبادة الله إلا برؤية أشباح هؤلاء؛ فهذه عبادة(9/361)
قال ابن القيم: "قال غير واحد من السلف: لما ماتوا؛ عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قاصرة أو معدومة.
قوله: " ففعلوا ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم؛ عبدت من دون الله "، ذكر ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه كان بين آدم ونوح عشرة قرون، والقرن مائة سنة، حتى إذا طال عليهم الأمد حصل النزاع والتفرق، فبعث الله النبيين؛ كما قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [البقرة: 213] .
هذا هو تفسير ابن عباس -رضي الله عنهما- للآية، وهل تفسيره حجة؟
الجواب: يرجع في التفسير أولا إلى القرآن؛ فالقرآن يفسر بعضه بعضا، مثل قوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ} تفسيرها: {نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة: 10، 11] ، فإن لم نجد في القرآن؛ فإلى سنة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن لم نجد؛ فإلى تفسير الصحابة، وتفسير الصحابي حجة بلا شك؛ لأنهم أدرى بالقرآن حيث نزل بعصرهم وبلغتهم، ويعرفون عنه أكثر من غيرهم، حتى قال بعض العلماء: إن تفسير الصحابي في حكم المرفوع، وهذا ليس بصحيح، لكنه لا شك أنه حجة على من بعدهم، فإن اختلف الصحابة في التفسير أخذنا بما يرجحه سياق الآية، والآية تدل على ما ذكره ابن عباس؛ إلا أن ظاهر السياق أن هؤلاء القوم الصالحين كانوا قبل نوح -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقد عرفت القول الراجح.
قوله: " الأمد "، الزمن.
وهذا كتفسير ابن عباس؛ إلا أن ابن عباس يقول: "إنهم جعلوا الأنصاب(9/362)
وعن عمر؛ أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله» . أخرجاه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في مجالسهم"، وهنا يقول: "عكفوا على قبورهم"، ولا يبعد أنهم فعلوا هذا وهذا، أو أنهم قبروا في مجالسهم؛ فتكون هي محل القبور.
والشاهد قوله: " ثم طال عليهم الأمد؛ فعبدوهم "؛ فسبب العبادة إذا الغلو في هؤلاء الصالحين حتى عبدوهم.
قوله: «لا تطروني» ، الإطراء: المبالغة في المدح.
وهذا النهي يحتمل أنه منصب على هذا التشبيه، وهو قوله: «كما أطرت النصارى ابن مريم» ، حيث جعلوه إلها أو ابنا لله، وبهذا يوحي قول البوصيري:
دع ما ادعته النصارى في نبيهم ... واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم
أي: دع ما قاله النصارى أن عيسى عليه الصلاة والسلام ابن الله أو ثالث ثلاثة، والباقي املأ فمك في مدحه ولو بما لا يرضيه.
ويحتمل أن النهي عام؛ فيشمل ما يشابه غلو النصارى في عيسى ابن مريم وما دونه، ويكون قوله: " كما أطرت " لمطلق التشبيه لا للتشبيه المطلق؛ لأن إطراء النصارى عيسى ابن مريم سببه الغلو في هذا الرسول الكريم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حيث جعلوه ابنا لله وثالث ثلاثة، والدليل على أن المراد هذا قوله: «إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله» .(9/363)
قوله: «إنما أنا عبد» ، أي: ليس لي حق من الربوبية، ولا مما يختص به الله -عز وجل- أبدا.
قوله: «فقولوا عبد الله ورسوله» ، هذان الوصفان أصدق وصف وأشرفه في الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ فأشرف وصف للإنسان أن يكون من عباد الله، قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 171] ؛ فوصفهم الله بالعبودية قبل الرسالة مع أن الرسالة شرف عظيم، لكن كونهم عبادا لله -عز وجل- أشرف وأعظم، وأشرف وصف له وأحق وصف به، ولهذا يقول الشاعر في محبوبته:
لا تدعني إلا بيا عبدهم ... فإنه أشرف أسمائي
أي: أنت إذا أردت أن تكلمني قل: يا عبد فلانة؛ لأنه أشرف أسمائي وأبلغ في الذل.
فمحمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عبد لا يعبد، ورسول لا يكذب، ولهذا نقول في صلاتنا عندما نسلم عليه ونشهد له بالرسالة: وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ فهذا أفضل وصف اختاره النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لنفسه.
واعلم أن الحقوق ثلاثة أقسام، وهي:
الأول: حق لله لا يشرك فيه غيره: لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، وهو ما يختص به من الربوبية والألوهية والأسماء والصفات.
الثاني: حق خاص للرسل، وهو إعانتهم وتوقيرهم وتبجيلهم بما يستحقون.
الثالث: حق مشترك، وهو الإيمان بالله ورسله، وهذه الحقوق موجودة في الآية الكريمة، وهي قوله تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} ؛ فهذا حق(9/364)
مشترك، {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} هذا خاص بالرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، {وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفتح: 9] هذا خاص بالله -سبحانه وتعالى-.
والذين يغلون في الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يجعلون حق الله له؛ فيقولون: " وتسبحوه "؛ أي: الرسول، فيسبحون الرسول كما يسبحون الله، ولا شك أنه شرك؛ لأن التسبيح من حقوق الله الخاصة به، بخلاف الإيمان؛ فهو من الحقوق المشتركة بين الله ورسوله.
ونهى عن الإطراء في قوله عليه الصلاة والسلام: «كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم» ؛ لأن الإطراء والغلو يؤدي إلى عبادته كما هو واقع الآن؛ فيوجد عند قبره في المدينة من يسأل، فيقول: يا رسول الله، المدد، المدد، يا رسول الله، أغثنا، يا رسول الله، بلادنا يابسة، وهكذا، ورأيت بعيني رجلا يدعو الله تحت ميزاب الكعبة موليا ظهره البيت مستقبلا المدينة؛ لأن استقبال القبر عنده أشرف من استقبال الكعبة والعياذ بالله.
ويقول بعض المغالين: الكعبة أفضل من الحجرة، فأما والنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيها؛ فلا والله، ولا الكعبة، ولا العرش وحملته، ولا الجنة.
فهو يريد أن يفضل الحجرة على الكعبة وعلى العرش وحملته وعلى الجنة، وهذه مبالغة لا يرضاها النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لنا ولا لنفسه.
وصحيح أن جسده -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أفضل، ولكن كونه يقول: إن الحجرة أفضل من الكعبة والعرش والجنة؛ لأن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيها هذا خطأ عظيم، نسأل الله السلامة من ذلك.
قوله: " إياكم "، للتحذير.(9/365)
وقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «إياكم والغلو؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو» . (1)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: " والغلو "، معطوف على إياكم، وقد اضطرب فيه المعربون اضطرابا كثيرا، وأقرب ما قيل للصواب وأقله تكلفا: أن إيا منصوبة بفعل أمر مقدر تقديره إياك أحذر؛ أي: احذر نفسك أن تغرك، والغلو معطوف على إياك؛ أي: واحذر الغلو.
والغلو كما سبق: هو مجاوزة الحد مدحا أو ذما، وقد يشمل ما هو أكثر من ذلك أيضا؛ فيقال: مجاوزة الحد في الثناء وفي التعبد وفي العمل؛ لأن هذا الحديث ورد في رمي الجمرات، حيث «روى ابن عباس؛ قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غداة العقبة وهو على ناقته: "القط لي حصى. فلقطت له سبع حصيات هن حصى الخذف؛ فجعل ينفضهن في كفه، ويقول: أمثال هؤلاء فارموا، وإياكم والغلو في الدين؛ فإنما أهلك من قبلكم الغلو في الدين» . هذا لفظ ابن ماجه.
والغلو: فاعل أهلك.
قوله: " من كان قبلكم "، مفعول مقدم.
قوله: " فإنما "، أداة حصر، والحصر: إثبات الحكم للمذكور ونفيه عما عداه.
قوله: " أهلك "، يحتمل معنيين:
الأول: أن المراد هلاك الدين، وعليه يكون الهلاك واقعا مباشرة من
__________
(1) مسند الإمام أحمد (1/215،347) ، وابن ماجة: كتاب المناسك / باب قدر الحصى، 2/1008، والحاكم (1/466) ـ وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي ـ.(9/366)
الغلو؛ لأن مجرد الغلو هلاك.
الثاني: أنه هلاك الأجسام وعليه يكون الغلو سببا للهلاك؛ أي: إذا غلوا خرجوا عن طاعة الله فأهلكهم الله.
وهل الحصر في قوله: «فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو» حقيقي أو إضافي؟
الجواب: إن قيل: إنه حقيقي؛ حصل إشكال، وهو أن هناك أحاديث أضاف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الهلاك فيها إلى أعمال غير الغلو، مثل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنما أهلك من كان قبلكم أنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد» ؛ فهنا حصران متقابلان، فإذا قلنا: إنه حقيقي بمعنى أنه لا هلاك إلا بهذا حقيقة؛ صار بين الحديثين تناقص.
وإن قيل: إن الحصر إضافي؛ أي: باعتبار عمل معين؛ فإنه لا يحصل تناقص بحيث يحمل كل منهما على جهة لا تعارض الحديث الآخر؛ لئلا يكون في حديثه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تناقض، وحينئذ يكون إضافيا، فيقال: أهلك من كان قبلكم الغلو هذا الحصر باعتبار الغلو في التعبد في الحديث الأول، وفي الآخر يقال: أهلك من كان قبلكم باعتبار الحكم، فيهلك الناس إذا أقاموا الحد على الضعيف دون الشريف.
وفي هذا الحديث يحذر الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمته من الغلو، ويبرهن على أن الغلو سبب للهلاك؛ لأنه مخالف للشرع ولإهلاكه للأمم السابقة؛ فيستفاد منه تحريم الغلو من وجهين:(9/367)
الوجه الأول: تحذيره -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، والتحذير نهي وزيادة.
الوجه الثاني: أنه سبب لإهلاك الأمم كما من قبلنا، وما كان سببا للهلاك كان محرما.
أقسام الناس في العبادة:
والناس في العبادة طرفان ووسط؛ فمنهم المفرط، ومنهم المفرط، ومنهم المتوسط.
فدين الله بين الغالي فيه والجافي عنه، وكون الإنسان معتدلا لا يميل إلى هذا ولا إلى هذا، هذا هو الواجب؛ فلا يجوز التشدد في الدين والمبالغة، ولا التهاون وعدم المبالاة، بل كن وسطا بين هذا وهذا.
والغلو له أقسام كثيرة؛ منها: الغلو في العقيدة، ومنها: الغلو في العبادة، ومنها: الغلو في المعاملة، ومنها: الغلو في العادات.
والأمثلة عليها كما يلي: أما الغلو في العقيدة؛ فمثل ما تشدق فيه أهل الكلام بالنسبة لإثبات الصفات، فإن أهل الكلام تشدقوا وتعمقوا حتى وصلوا إلى الهلاك قطعا، حتى أدى بهم هذا التعمق إلى واحد من أمرين:
إما التمثيل، أو التعطيل.
إما أنهم مثلوا الله بخلقه، فقالوا: هذا معنى إثبات الصفات، فغلوا في الإثبات حتى أثبتوا ما نفي الله عن نفسه، أو عطلوه وقالوا: هذا معنى تنزيهه عن مشابهة المخلوقات، وزعموا أن إثبات الصفات تشبيه؛ فنفوا ما أثبته الله لنفسه.
لكن الأمة الوسط اقتصدت في ذلك؛ فلم تتعمق في الإثبات ولا في النفي والتنزيه؛ فأخذوا بظواهر اللفظ، وقالوا: ليس لنا أن نزيد على ذلك؛ فلم يهلكوا، بل كانوا على الصراط المستقيم، ولما دخل هؤلاء الفرس والروم(9/368)
وغيرهم في الدين؛ صاروا يتعمقون في هذه الأمور ويجادلون مجادلات ومناظرات لا تنتهي أبدا؛ حتى ضاعوا، نسأل الله السلامة.
وكل الإيرادات التي أوردها المتأخرون من هذه الأمة على النصوص، لم يوردها الصحابة الذين هم الأمة الوسط.
أما الغلو في العبادات؛ فهو التشدد فيها، بحيث يرى أن الإخلاص بشيء منها كفر وخروج عن الإسلام؛ كغلو الخوارج والمعتزلة، حيث قالوا: إن من فعل كبيرة من الكبائر؛ فهو خارج عن الإسلام، وحل دمه وماله، وأباحوا الخروج على الأئمة وسفك الدماء، وكذا المعتزلة، حيث قالوا: من فعل كبيرة؛ فهو بمنزلة بين المنزلتين: الإيمان والكفر؛ فهذا تشدد أدى إلى الهلاك، وهذا التشدد قابله تساهل المرجئة، فقالوا: إن القتل والزنا والسرقة وشرب الخمر، ونحوها من الكبائر، لا تخرج من الإيمان، ولا تنقص من الإيمان شيئا، وإنه يكفي في الإيمان الإقرار، وإن إيمان فاعل الكبيرة كإيمان جبريل ورسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأنه لا يختلف الناس في الإيمان، حتى إنهم ليقولون: إن إبليس مؤمن؛ لأنه مقر، وإذا قيل: إن الله كفره؛ قالوا: إذن إقراره ليس بصادق، بل هو كاذب.
هؤلاء في الحقيقة يصلحون لكثير من الناس في هذا الزمان، ولا شك أن هذا تطرف بالتساهل، والأول تطرف بالتشدد، ومذهب أهل السنة أن الإيمان يزيد وينقص، وفاعل المعصية ناقص الإيمان بقدر معصيته، ولا يخرج من الإيمان إلا بما برهنت النصوص على أنه كفر.
وأما الغلو في المعاملات؛ فهو التشدد في الأمور بتحريم كل شيء حتى ولو كان وسيلة، وأنه لا يجوز للإنسان أن يزيد عن واجبات حياته الضرورية، وهذا مسلك سلكه الصوفية، حيث قالوا: من اشتغل بالدنيا؛ فهو غير مريد(9/369)
للآخرة، وقالوا: لا يجوز أن تشتري ما زاد على حاجتك الضرورية، وما أشبه ذلك.
وقابل هذا التشدد تساهل من قال: يحل كل شيء ينمي المال ويقوي الاقتصاد؛ حتى الربا والغش وغير ذلك.
فهؤلاء -والعياذ بالله- متطرفون بالتساهل؛ فتجده يكذب في ثمنها وفي وصفها وفي كل شيء لأجل أن يكسب فلسا أو فلسين، وهذا لا شك أنه تطرف.
والتوسط أن يقال: تحل المعاملات وفق ما جاءت به النصوص، {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] ؛ فليس كل شيء حراما؛ فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باع واشترى، والصحابة -رضي الله عنهم- يبيعون ويشترون، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرهم.
وأما الغلو في العادات؛ فإذا كانت هذه العادة يخشى أن الإنسان إذا تحول عنها انتقل من التحول في العادة إلى التحول في العبادة؛ فهذا لا حرج أن الإنسان يتمسك بها، ولا يتحول إلى عادة جديدة، أما إذا كان الغلو في العادة يمنعك من التحول إلى عادة جديدة مفيدة أفيد من الأولى؛ فهذا من الغلو المنهي عنه، فلو أن أحدا تمسك بعادته في أمر حدث من عادته التي هو عليها نقول: هذا في الحقيقة غال ومفرط في هذه العادة.
وأما إن كانت العادات متساوية المصالح، لكنه يخشى أن ينتقل الناس من هذه العادة إلى التوسع في العادات التي قد تخل بالشرف أو الدين؛ فلا يتحول إلى العادة الجديدة.(9/370)
ولمسلم عن ابن مسعود؛ أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «هلك المتنطعون". قالها ثلاثا» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: " المتنطعون "، المتنطع: هو المتعمق المتقعر المتشدق، سواء كان في الكلام أو في الأفعال؛ فهو هالك، حتى ولو كان ذلك في الأقوال المعتادة؛ فبعض الناس يكون بهذه الحال، حتى إنه ربما يقترن بتعمقه وتنطعه الإعجاب بالنفس في الغالب، وربما يقترن به الكبر، فتجده إذا تكلم يتكلم بأنفه، فتسلم عليه فتسمع الرد من الأنف إلى غير ذلك من الأقوال.
والتنطع بالأفعال كذلك أيضا قد يؤدي إلى الإعجاب أو إلى الكبر، ولهذا قال: "هلك المتنطعون".
والتنطع أيضا في المسائل الدينية يشبه الغلو فيها؛ فهو أيضا من أسباب الهلاك، ومن ذلك ما يفعله بعض الناس من التنطع في صفات الله تعالى والتقعر فيها، حيث يسألونه عما لم يسأل عنه الصحابة -رضي الله عنهم- وهم يعلمون أن الصحابة خير منهم وأشد حرصا على العلم، وفيهم رسول الله الذي عنده من الإجابة على الأسئلة ما ليس عند غيره من الناس مهما بلغ علمهم.
فهذه الأحاديث الثلاثة كلها تدل على تحريم الغلو، وأنه سبب للهلاك، وأن الواجب أن يسير العبد إلى الله بين طرفي نقيض بالدين الوسط، فكما أن هذه الأمة هي الوسط ودينها هو الوسط؛ فينبغي أن يكون سيرها في دينها على الطريق الوسط.(9/371)
فيه مسائل:
الأولي: أن من فهم هذا الباب وبابين بعده؛ تبين له غربة الإسلام، ورأى من قدرة الله وتقليبه للقلوب العجب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: أن من فهم هذا الباب -أي: بما مر من تفسير الآية الكريمة: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} - وبابين بعده؛ تبين له غربة الإسلام.
وهذا حق؛ فإن الإسلام المبني على التوحيد الخالص غريب، فكثير من البلدان الإسلامية تجد فيها الغلو في الصالحين في قبورهم؛ فلا تجد بلدا مسلما إلا وفيه غلو في قبور الصالحين، وقد يكون ليس قبر رجل صالح، قد يكون وهما مثل قبر الحسين بن علي -رضي الله عنهما-؛ فأهل العراق يقولون: هو عندنا، وأهل الشام يقولون: عندنا، وأهل مصر يقولون: عندنا، وبعضهم يقول: هو في المغرب؛ فصار الحسين إما أنه أربعة رجال، أو مقطع أوصالا، وهذا كله ليس بصحيح؛ فالمهم أنه كما قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب: تبين لك غربة الإسلام أي في المسلمين.
وكذلك الجزيرة العربية قبل دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب فيها قبور وقباب تعبد من دون الله ويحج إليها وتقصد، ولكن بتوفيق الله -سبحانه وتعالى- أنه أعان هذا الرجل مع الإمام محمد بن سعود حتى قضى عليها وهدمها، وصارت البلاد -ولله الحمد- على التوحيد الخالص.(9/372)
الثانية: معرفة أول شرك حدث في الأرض؛ كان بشبهة الصالحين. الثالثة: معرفة أول شيء غير به دين الأنبياء، وما سبب ذلك، مع معرفة أن الله أرسلهم. الرابعة: قبول البدع مع كون الشرائع والفطر تردها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الثانية: معرفة أول شرك حدث في الأرض، وجه ذلك: أن هذه الأصنام التي عبدها قوم نوح كانوا أقواما صالحين، فحدث الغلو فيهم، ثم عبدوا من دون الله؛ ففيه الحذر من الغلو في الصالحين.
الثالثة: معرفة أول شيء غير به دين الأنبياء، وما سبب ذلك، مع معرفة أن الله أرسلهم، أول شيء غير به دين الأنبياء هو الشرك، وسببه هو الغلو في الصالحين، وقوله: "مع معرفة أن الله أرسلهم"، قال الله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [البقرة: 213] ؛ أي: كانوا أمة واحدة على التوحيد، فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه؛ فهذا أول ما حدث من الشرك في بني آدم.
الرابعة: قبول البدع مع كون الشرائع والفطر تردها.
قوله: " قبول البدع "، أي: أن النفوس تقبلها لا؛ لأنها مشروعة، بل إن الشرائع تردها، وكذلك الفطر السليمة تردها؛ لأن الفطر السليمة جبلت على عبادة الله وحده لا شريك له؛ كما قال الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30] ؛ فالفطر السليمة لا تقبل تشريعا إلا ممن يملك ذلك.(9/373)
الخامسة: أن سبب ذلك كله مزج الحق بالباطل: فالأول محبة الصالحين، والثاني فعل أناس من أهل العلم والدين شيئا، أرادوا به خيرا، فظن من بعدهم أنهم أرادوا به غيره.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الخامسة: أن سبب ذلك كله مزج الحق بالباطل، أراد المؤلف رحمه الله أن يبين أن مزج الحق بالباطل حصل بأمرين:
الأول: محبة الصالحين، ولهذا صوروا تماثيلهم محبة لهم، ورغبة في مشاهدة أشباحهم.
الثاني: أن أهل العلم والدين أرادوا خيرا، وهو أن ينشطوا على العبادة، ولكن من بعدهم أرادوا غير الخير الذي أراده أولئك، ويؤخذ منه: أن من أراد تقوية دينة ببدعة؛ فإن ضررها أكثر من نفعها.
مثال ذلك: أولئك الذين يغلون في الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ويجعلون له الموالد هم يريدون بذلك خيرا، لكن أرادوا خيرا بهذه البدعة، فصار ضررها أكثر من نفعها؛ لأنها تعطي الإنسان نشاطا غير مشروع في وقت معين، ثم يعقبه فتور غير مشروع في بقية العام.
ولهذا تجد هؤلاء الذين يغالون في هذه البدع فاترين في الأمور المشروعة الواضحة ليسوا كنشاط غيرهم، وهذا مما يدل على تأثير البدع في القلوب وأنها مهما زينها أصحابها؛ فلا تزيد الإنسان إلا ضلالا؛ لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: «كل بدعة ضلالة» .(9/374)
فإن قيل: إن للاحتفال بمولده -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أصلا من السنة، وهو أن «النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن صوم يوم الاثنين؛ فقال: "ذاك يوم ولدت فيه، وبعثت فيه، أو أنزل علي فيه» ، وكان -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يصومه مع الخميس ويقول: «إنهما يومان تعرض فيهما الأعمال على الله؛ فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم» . (1)
فالجواب على ذلك من وجوه:
الأول: أن الصوم ليس احتفالا بمولده كاحتفال هؤلاء، وإنما هو صوم وإمساك، أما هؤلاء الذين يجعلون له الموالد؛ فاحتفالهم على العكس من ذلك.
فالمعنى: أن هذا اليوم إذا صامه الإنسان؛ فهو يوم مبارك حصل فيه هذا الشيء، وليس المعنى أننا نحتفل بهذا اليوم.
الثاني: أنه عمل فرض أن يكون هذا أصلا؛ فإنه يجب أن يقتصر فيه على ما ورد؛ لأن العبادات توقيفية، ولو كان الاحتفال المعهود عند الناس اليوم مشروعا لبينه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إما بقوله، أو فعله، أو إقراره.
الثالث: أن هؤلاء الذين يحتفلون بمولد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يقيدونه بيوم الاثنين، بل في اليوم الذي زعموا مولده فيه، وهو اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول، مع أن ذلك لم يثبت من الناحية التاريخية، وقد حقق بعض الفلكيين المتأخرين ذلك؛ فكان في اليوم التاسع لا في اليوم الثاني عشر.
الرابع: أن الاحتفال بمولده على الوجه المعروف بدعة ظاهرة؛ لأنه لم
__________
(1) الترمذي: كتاب الصوم/ باب ما جاء في صوم الاثنين والخميس، 3/94، وقال: (حديث حسن غريب) .(9/375)
السادسة: تفسير الآية التي في سورة نوح.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يكن معروفا على عهد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه، مع قيام المقتضي له وعدم المانع منه.
مسألة حكم الاحتفال بعيد ميلاد الأطفال:
فائدة: كل شيء يتخذ عيدا يتكرر كل أسبوع، أو كل عام وليس مشروعا؛ فهو من البدع، والدليل على ذلك: أن الشارع جعل للمولود العقيقة، ولم يجعل شيئا بعد ذلك، واتخاذهم هذه الأعياد تتكرر كل أسبوع أو كل عام معناه أنهم شبهوها بالأعياد الإسلامية، وهذا حرام لا يجوز، وليس في الإسلام شيء من الأعياد إلا الأعياد الشرعية الثلاثة: عيد الفطر، وعيد الأضحى، وعيد الأسبوع، وهو يوم الجمعة.
وليس هذا من باب العادات؛ لأنه يتكرر، ولهذا «لما قدم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فوجد للأنصار عيدين يحتفلون بهما؛ قال: "إن الله أبدلكما بخير منهما: عيد الأضحى، وعيد الفطر» (1) ، مع أن هذا من الأمور العادية عندهم.
السادسة: تفسير الآية التي في سورة نوح، وقد سبق ذلك وبيان أنهم يتواصلون بالباطل، وهذا خلاف طريق المؤمنين الذين يتواصون بالحق والصبر والمرحمة، ويشبههم أهل الباطل والضلال الذين يتواصون بما هم عليه، سواء كانوا رؤساء سياسيين أو رؤساء دينيين ينتسبون إلى الدين، فتجد الواحد منهم لا يموت إلا وقد وضع له ركيزة من بعده ينمي هذا الأمر الذي هو عليه.
__________
(1) مسند الإمام أحمد (3/103) ، وسنن أبي داود: كتاب الصلاة/ باب صلاة العيدين.(9/376)
السابعة: جبلة الآدمي في كون الحق ينقص في قلبه والباطل يزيد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
السابعة: جبلة الآدمي في كون الحق ينقص في قلبه، والباطل يزيد، هذه العبارة تقيد من حيث كونه آدميا بقطع النظر على من يمن الله عليه من تزكية النفس؛ فإن الله يقول: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 9 - 10] .
قوله: " جبلة " على وزن فعلة، وهو ما يجبل المرء عليه؛ أي: يخلق عليه ويطبع ويبدع، بمعنى الطبيعة التي عليها الإنسان من حيث هو إنسان بقطع النظر عن كونه زكى نفسه أو دساها.
فالإنسان من حيث هو إنسان وصفه الله بوصفين؛ فقال تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34] ، وقال تعالى: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72] .
أما من حيث ما يمن الله به عليه من الإيمان والعمل الصالح؛ فإنه يرتقي عن هذا، قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [التين: 4 - 6] ؛ فالإنسان الذي يمن الله عليه بالهدي؛ فإن الباطل الذي في قلبه يتناقص وربما يزول بالكلية؛ كعمر بن الخطاب، وخالد بن الوليد، وعكرمة بن أبي جهل، وغيرهم.
وكذلك أهل العلم؛ كأبي الحسن الأشعري، كان معتزليا، ثم كلابيا، ثم سنيا، وابن القيم كان صوفيا، ثم من الله عليه بصحبة شيخ الإسلام ابن تيمية؛ فهداه الله على يده حتى كان ربانيا.(9/377)
الثامنة: فيه شاهد لما نقل عن السلف أن البدع سبب الكفر.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الثامنة: فيه شاهد لما نقل عن السلف أن البدع سبب الكفر، قال أهل العلم: إن الكفر له أسباب متعددة، ولا مانع أن يكون للشيء الواحد أسباب متعددة، ومن ذلك الكفر، ذكروا من أسبابه البدعة، وقالوا: إن البدعة لا تزال في القلب، يظلم منها شيئا فشيئا؛ حتى يصل إلى الكفر، واستدلوا بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار» .
وقالوا أيضا: (إن المعاصي بريد الكفر، وبريد الشيء ما يوصل إلى الغاية) .
«والمعاصي كما أخبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تتراكم على القلب، وتنكت فيه نكتة سوداء، فإن تاب؛ صقل قلبه وابيض» (1) ، وإلا فلا تزال هذه النكتة السوداء تتزايد حتى يصبح مظلما.
وكذلك حذر من محقرات الذنوب، «وضرب لها مثلا بقوم نزلوا أرضا، فأرادوا أن يطبخوا، فذهب كل واحد منهم وأتى بعود، فأتى هذا بعود وهذا بعود، فجمعوها، فأضرموا نارا كبيرة، وهكذا المعاصي» (2) ؛ فالمعاصي لها تأثير قوي على القلب، وأشدها تأثيرا الشهوة فهي أشد من الشبهة؛ لأن الشبهة أيسر
__________
(1) مسند الإمام أحمد (2/297) وصححه أحمد شاكر، والترمذي: كتاب التفسير/باب (ويل للمطففين) ، 9/69ـ وقال: (حسن صحيح) ـ، والحاكم (2/517) ـ وصححه ووافقه الذهبي ـ.
(2) مسند الإمام أحمد (5/231) ، وصححه الألباني في (الصحيحة) (1/389) .(9/378)
التاسعة: معرفة الشيطان بما تئول إليه البدعة، ولو حسن قصد الفاعل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زوالا على من يسرها الله عليه؛ إذ إن مصدرها الجهل وهو يزول بالتعلم.
أما الشهوة، وهي إرادة الإنسان الباطل؛ فهي البلاء الذي يقتل به العالم والجاهل، ولذا كانت معصية اليهود أكبر من معصية النصارى؛ لأن معصية اليهود سببها الشهوة وإرادة السوء والباطل، والنصارى سببها الشبهة، ولهذا كانت البدع غالبها شبهة، ولكن كثيرا منها سببه الشهوة، ولهذا يبين الحق لأهل الشهوة من أهل البدع، فيصرون عليها، وغالبهم يقصد بذلك بقاء جاهه ورئاسته بين الناس دون صلاح الحق، ويظن في نفسه ويملي عليه الشيطان أنه لو رجع عن بدعته لنقصت منزلته بين الناس، وقالوا: هذا رجل متقلب وليس عنده علم، لكن الأمر ليس كذلك؛ فأبو الحسن الأشعري مضرب المثل في هذا الباب؛ فإنه لما كان من المعتزلة لم يكن إماما، ولما رجع إلى مذهب أهل السنة صار إماما؛ فكل من رجع إلى الحق ازدادت منزلته عند الله - سبحانه - ثم عند خلقه.
والخلاصة: أن البدعة سبب للكفر، ولا يرد على هذا قول بعض أهل العلم: إن المعاصي بريد الكفر؛ لأنه لا مانع من تعدد الأسباب.
التاسعة: معرفة الشيطان بما تئول إليه البدعة ولو حسن قصد الفاعل؛ لأن الشيطان هو الذي سول لهؤلاء المشركين أن يصوروا هذه التماثيل والتصاوير؛ لأنه يعرف أن هذه البدعة تئول إلى الشرك.
وقوله: " ولو حسن قصد الفاعل "، أي: إن البدعة شر ولو حسن قصد فاعلها، ويأثم إن كان عالما أنها بدعة ولو حسن قصده؛ لأنه أقدم على المعصية(9/379)
كمن يجيز الكذب والغش ويدعي أنه مصلحة، أما لو كان جاهلا فإنه لا يأثم؛ لأن جميع المعاصي لا يأثم بها إلا مع العلم، وقد يثاب على حسن قصده، وقد نبه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه (اقتضاء الصراط المستقيم) ؛ فيثاب على نيته دون عمله، فعمله هذا غير صالح ولا مقبول عند الله ولا مرض، لكن لحسن نيته مع الجهل يكون له أجر، ولهذا «قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للرجل الذي صلى وأعاد الوضوء بعدما وجد الماء وصلى ثانية: لك الأجر مرتين» (1) ؛ لحسن قصده، ولأن عمله عمل صالح في الأصل، لكن لو أراد أحد أن يعمل العمل مرتين مع علمه أنه غير مشروع؛ لم يكن له أجر؛ لأن عمله غير مشروع لكونه خلاف السنة؛ فقد «قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للذي لم يعد: (أصبت السنة» .
فإن قال: إني أريد بهذه البدعة إحياء الهمم والتنشيط وما أشبه ذلك.
أجيب: بأن هذه الإرادة طعن في رسالة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنه اتهام له بالتقصير أو القصور، أي مقصر في الإخبار عن ذلك أو قاصر في العلم، وهذا أمر عظيم وخطر جسيم؛ ولأن هذا لم يكن عليه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا خلفاؤه الراشدون، أما إذا كان حسن القصد، ولم يعلم أن هذا بدعة؛ فإنه يثاب على نيته ولا يثاب على عمله؛ لأن عمله شر حابط كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» .
__________
(1) سنن أبو داود: كتاب الطهارة/باب في المتيمم يجد الماء بعد ما صلى، والحاكم (1/179) ، وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني، صحيح أبي داود (1/69) .(9/380)
العاشرة: معرفة القاعدة الكلية، وهي النهي عن الغلو، ومعرفة ما يئول إليه. الحادية عشرة: مضرة العكوف على القبر لأجل عمل صالح.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وأما العامة الذين لا يعلمون، وقد لبس عليهم هذه البدعة وغيرها؛ نقول: ما داموا قاصدين للحق ولا علموا به؛ فإثمهم على من أفتاهم ومن أضلهم.
ولهذا يوجد في مجاهل أفريقيا وغيرها من لا يعرفون عن الإسلام شيئا، فلو ماتوا لا نقول: إنهم مسلمون ونصلي عليهم ونترحم عليهم، مع أنهم لم تقم عليهم الحجة، لكننا نعاملهم في الدنيا بالظاهر، أما في الآخرة؛ فأمرهم إلى الله.
العاشرة: معرفة القاعدة الكلية، وهي النهي عن الغلو ومعرفة ما يئول إليه، هذا ما حذر منه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن الغلو مجاوزة الحد، وهو كما يكون في العبادات يكون في غيرها، قال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31] ، وقال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} [الفرقان: 67] ، وقد سبق بيان ذلك.
الحادية عشرة: مضرة العكوف على القبر لأجل عمل صالح، المضرة الحاصلة: هي أنها توصل إلى عبادتهم.
ومثل ذلك: ما لو قرئ القرآن عند قبر رجل صالح، أو تصدق عند هذا القبر يعتقد أن لذلك مزية على غيره؛ فإن هذا من البدع، وهذه البدعة قد(9/381)
الثانية عشرة: معرفة النهي عن التماثيل والحكمة في إزالتها. الثالثة عشرة: معرفة عظم شأن هذه القصة وشدة الحاجة إليها مع الغفلة عنها.
الرابعة عشرة: وهي أعجب العجب: قراءتهم إياها في كتب التفسير والحديث، ومعرفتهم بمعنى الكلام، وكون الله حال بينهم وبين قلوبهم حتى عتقدوا أن فعل قوم نوح هو أفضل العبادات، واعتقدوا أن ما نهى الله ورسوله عنه فهو الكفر المبيح للدم والمال.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تؤدي بصاحبها إلى عبادة هذا القبر.
الثانية عشرة: معرفة النهي عن التماثيل والحكمة في إزالتها، التماثيل: هي الصور على مثال رجل، أو حيوان، أو حجر، والغالب أنها تطلق على ما صنع ليعبد من دون الله، والحكمة في إزالتها سد ذرائع الشرك.
الثالثة عشرة: معرفة عظم شأن هذه القصة، أي: قصة هؤلاء الذين غلوا في الصالحين وغير الصالحين، لكن اعتقدوا فيهم الصلاح، حتى تدرج بهم الأمر إلى عبادتهم من دون الله؛ فتجب معرفة هذه القصة، وأن أمر الغلو عظيم، ونتائجه وخيمة؛ فالحاجة شديدة إلى ذلك، والغفلة عنها كثيرة، والناس لو تدبرت أحوالهم وسبرت قلوبهم وجدت أنهم في غفلة عن هذا الأمر، وهذا موجود في البلاد الإسلامية.
الرابعة عشرة - وهي أعجب العجب: قراءتهم إياها في كتب التفسير والحديث.
قوله: (وأعجب) ، أي: أكثر عجبا وأشد، والعجب نوعان:(9/382)
الأول: بمعنى الاستحسان، وهو ما إذا تعلق بمحمود؛ كقول عائشة في الحديث: «كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره، وفي شأنه كله» .
الثاني: بمعنى الإنكار، وذلك فيما إذا تعلق بمذموم، قال تعالى: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [الرعد: 5] .
وكلام المؤلف هنا من باب الإنكار.
وكلام المؤلف هنا عما كان في زمنه، حيث غفلوا عن هذه القصة مع قراءتهم لها في كتب التفسير والحديث، واعتقدوا أن فعل قوم نوح أفضل العبادات، وهذا من أضر ما يكون على المرء أن يعتقد السيئ حسنا، قال تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [فاطر: 8] ، وقال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 103، 104] .
قوله: (واعتقدوا أن ما نهى الله ورسوله عنه فهو الكفر المبيح للدم والمال) ، أي: من اعتقد أن الشرك والكفر من أفضل العبادات، وأنه مقرب إلى الله؛ فهذا كفر مبيح لدمه وماله، هذا ما أراد المؤلف، وإن كان لا يسعفه ظاهر كلامه، ثم بدا لي ما لعله المراد أن هؤلاء الغالين اعتقدوا أن المنهي عنه هو الكفر المبيح للدم والمال، وأما ما دونه من الغلو؛ فلا نهي فيه، والله أعلم.(9/383)
الخامسة عشرة: التصريح بأنهم لم يريدوا إلا الشفاعة. السادسة عشرة: ظنهم أن العلماء الذين صوروا الصور أرادوا ذلك. السابعة عشرة: البيان العظيم في قوله: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم» ، فصلوات الله وسلامه عليه، بلغ البلاغ المبين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الخامسة عشرة: التصريح بأنهم لم يريدوا إلا الشفاعة، أي: ما أرادوا إلا الشفاعة، ومع ذلك وقعوا في الشرك.
السادسة عشرة: ظنهم أن العلماء الذين صوروا الصور أرادوا ذلك، أي: أرادوا أن تشفع لهم، بل ظنوا أنها تنشطهم على العبادة، وهذا ظن فاسد كما سبق
السابعة عشرة: البيان العظيم في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تطروني» . . . الحديث، معنى الإطراء: الغلو في المدح، والمبالغة فيه.
وهذا الذي نهى عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقع فيه بعض هذه الأمة، بل أشد؛ حتى جعلوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المرجع في كل شيء، وهذا أعظم من قول النصارى: المسيح ابن الله، وثالث ثلاثة.
ومعنى: " بلغ "؛ أي: أوصل وبين.(9/384)
الثامنة عشرة: نصيحته إيانا بهلاك المتنطعين. التاسعة عشرة: التصريح بأنها لم تعبد حتى نسي العلم؛ ففيها بيان معرفة قدر وجوده ومضرة فقده. العشرون: أن سبب فقد العلم موت العلماء.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الثامنة عشرة: نصيحته إيانا بهلاك المتنطعين، وذلك بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هلك المتنطعون» ؛ فلم يرد مجرد الخبر، ولكن التحذير من التنطع.
التاسعة عشرة: التصريح بأنها لم تعبد حتى نسي العلم، أي: لم تعبد هذه التماثيل إلا بعد أن نسي العلم واضمحل؛ ففيه دليل على معرفة قدر وجوده أي العلم، وأن وجوده أمر ضروري للأمة؛ لأنه إذا فقد العلم؛ حل الجهل محله، وإذا حل الجهل؛ فلا تسأل عن حال الناس؛ فسوف لا يعرفون كيف يعبدون الله، ولا كيف يتقربون إليه.
العشرون: أن سبب فقد العلم موت العلماء، فهذا من أكبر الأسباب لفقد العلم، فإذا مات العلماء؛ لم يبق إلا جهال الخلق يفتون بغير علم.
ومن أسباب فقده أيضا: الغفلة والإعراض عنه، والتشاغل بأمور الدنيا، وعدم المبالاة به.
ثم إن العلم قد يكون موجودا وهو معدوم، وذلك فيما إذا كثر القراء الذين يقرءون العلم ولا يعلمون به، وقل الفقهاء الذين يعملون به؛ فبهذا يصبح العلم عديم الفائدة ووجوده كعدمه، بل إن في وجوده ضررا على الأمة؛ لأن العامة إذا رأوا من ينتسب إليه ساكتا غير عامل بما علم؛ ظنوا أن ما عليه الناس حق.(9/385)
فضرر العلم الذي لا ينفع أشد من ضرر الجهل، وإذا وجد الجهل؛ فإن الناس قد يطلبون العلم ويتلمسونه.
الخلاصة للباب:
بيان أن الغلو في الصالحين من أسباب الكفر، وليس هو السبب الوحيد للكفر.
وأن خطر الغلو عظيم ونتائجه وخيمة؛ فالواجب تنزيل الصالحين منازلهم؛ فلا يستوي الصالح والفاسد، بل ينزل كل منزلته، ولكن لا نتجاوز به المنزلة فنغلو فيه؛ فدين الله وسط لا يعطي الإنسان أكثر مما يستحق، ولا يسلبه ما يستحق، وهذا هو العدل.
س1: ما الفرق بين التنطع والغلو والاجتهاد؟
الجواب: الغلو مجاوزة الحد.
والتنطع معناه: التشدق بالشيء والتعمق فيه، وهو من أنواع الغلو.
أما الاجتهاد؛ فإنه بذل الجهد لإدراك الحق، وليس فيه غلو إلا إذا كان المقصود بالاجتهاد كثرة الطاعة غير المشروعة؛ فقد تؤدي إلى الغلو، فلو أن الإنسان مثلا أراد أن يقوم ولا ينام، وأن يصوم النهار ولا يفطر، وأن يعتزل ملاذ الدنيا كلها؛ فلا يتزوج ولا يأكل اللحم ولا الفاكهة وما أشبه ذلك؛ فإن هذا الغلو، وإن كان الحامل على ذلك الاجتهاد والبر، ولكن هذا خلاف هدي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
س2: ما حكم الذهاب إلى قبور الصالحين لقراءة الفاتحة؟(9/386)
الجواب: هذا من البدع، وسواء قلنا يصل الثواب أو لا يصل؛ فكونك تتخذ القراءة عند القبر خاصة هذا من البدع.
وإنما اختلف السلف فيما إذا قرئت الفاتحة عند الميت بعد دفنه مباشرة أو غيرها من القرآن.
والصحيح أيضا أنه ليس بسنة، والسنة أن تستغفر له وتسأل له التثبيت.(9/387)
باب ما جاء في التغليظ فيمن عبد الله
عند قبر رجل صالح؛ فكيف إذا عبده؟ !
في الصحيح عن عائشة؛ «أن أم سلمة ذكرت لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كنيسة رأتها بأرض الحبشة، وما فيها من الصور، فقال:»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (التغليظ) ، التشديد.
قوله: " من عبد الله عند قبر رجل صالح "، أي: عمل عملا تعبد الله به من قراءة أو صلاة أو صدقة أو غير ذلك.
قوله: " فكيف إذا عبده؟ "، أي: يكون أشد وأعظم، وذلك لأن المقابر والقبور للصالحين أو من دونهم من المسلمين أهلها بحاجة إلى الدعاء؛ فهم يزارون لينفعوا لا لينتفع بهم إلا باتباع السنة في زيارة المقابر، والثواب الحاصل بذلك، لكن هذا ليس انتفاعا بأشخاصهم، بل انتفاع بعمل الإنسان بما أتى به من السنة.
فالزيارة التي يقصد منها الانتفاع بالأموات زيارة بدعية.
والزيارة التي يقصد بها نفع الأموات والاعتبار بحالهم زيارة شرعية.
قوله: " في الصحيح "، أي: "الصحيحين" وقد سبق الكلام على مثل هذه العبارة في باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله.(9/388)
«أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح؛ بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أم سلمة) ، كانت ممن هاجر مع زوجها إلى أرض الحبشة، ولما توفي زوجها أبو سلمة تزوجها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأخبرته وهو في مرض موته بما رأت؛ كما في (الصحيح) .
قولها: " من الصور " الظاهر أن هذه الصور صور مجسمة وتماثيل منصوبة.
قوله: " أولئك "، المشار إليهم نصارى الحبشة، ويحتمل أن يراد من فعلوا هذه الأفعال أيا كانوا.
قوله: " أولئك "، يجوز في الكاف الكسر إذا كان الخطاب لأم سلمة، والفتح إذا كان الخطاب باعتبار الجنس.
وقد ذكر العلماء أن في كاف الخطاب المتصل باسم الإشارة ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أن يكون مطابقا للمخاطب المفرد للمفرد والمثنى للمثنى والجمع للجمع، مذكرا كان أم مؤنثا.
الوجه الثاني: الفتح مطلقا.
الوجه الثالث: الكسر للمؤنث مطلقا، والفتح للمذكر مطلقا.(9/389)
فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين (1) : فتنة القبور، وفتنة التماثيل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وأشهرها: أن يكون مطابقا للمخاطب، ثم الفتح مطلقا، ثم الفتح للمذكر، والكسر للمؤنث.
قوله: «الرجل الصالح أو العبد الصالح» ، أو: شك من الراوي.
قوله: «بنوا على قبره» ، أي: قبر ذلك الرجل الصالح.
قوله: «صوروا فيه تلك الصور» ، أي: التي رأت، والأقرب أنها صورة ذلك الرجل، وربما أنهم يضيفون إلى صورته صورة بعض الصالحين، وربما تكون الصور على أحجام مختلفة، فتجمع منها صور كثيرة.
قوله: «أولئك شرار الخلق عند الله» ؛ لأن عملهم هذا وسيلة إلى الكفر والشرك، وهذا أعظم الظلم وأشده، فما كان وسيلة إليه؛ فإن صاحبه جدير بأن يكون من شرار الخلق عند الله - سبحانه وتعالى.
قوله: (فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين: فتنة القبور، وفتنة التماثيل) ، هذا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
قوله: (فتنة القبور) ؛ لأنهم بنوا المساجد عليها.
قوله: (فتنة التماثيل) ؛ لأنهم صوروا فجمعوا بين فتنتين، وإنما سمي ذلك فتنة؛ لأنها سبب لصد الناس عن دينهم، وكل ما كان كذلك؛ فإنه من الفتنة، قال تعالى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 1، 2] ، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}
__________
(1) نسخة: (فتنتين)(9/390)
ولهما عنها؛ قالت: «لما نزل برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها؛ كشفها، فقال وهو كذلك: لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد.
»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البروج: 10] ؛ أي: صدوهم، أو فعلوا ما يصدونهم به عن دين الله.
قوله: (ولهما) ، الضمير يعود على البخاري ومسلم، وإن لم يسبق لهما ذكر، ولكنه لما كان ذلك مصطلحا معروفا؛ صح أن يعود الضمير عليهما، وهما لم يذكرا اعتمادا على المعروف المعهود.
وقوله: (عنها) ؛ أي: عن عائشة.
قالت: «لما نزل برسول الله» ، أي: نزل به ملك الموت لقبض روحه.
قوله: (طفق) ، من أفعال الشروع، واسمها مستتر، وجملة (يطرح) خبرها.
قوله: (خميصة) ، هي كساء مربع له أعلام كان يطرحه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على وجهه.
قوله: «فإذا اغتم بها» ، أي: أصابه الغم بسببها، وقد احتضر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قوله: (وهو كذلك) ، أي: وهو في هذه الحال عند الاحتضار.
قوله: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» ، يقول هذا في سياق الموت، و (لعنة الله) ؛ أي: طرده وإبعاده، وهذه الجملة يحتمل أنه يراد بها ظاهر اللفظ؛ أي: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخبر بأن الله لعنهم.
ويحتمل أن يراد بها الدعاء؛ فتكون خبرية لفظا إنشائية معنى، والمعنى على هذا الاحتمال أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا عليهم وهو في سياق الموت بسبب هذا الفعل.(9/391)
«يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك؛ أبرز قبره؛ غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا» . أخرجاه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: «اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» ، الجملة هذه تعليل لقوله: «لعنة الله على اليهود والنصارى» ، كأن قائلا يقول: لماذا لعنهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فكان الجواب: أنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد؛ أي: أمكنة للسجود، سواء بنوا مساجد أم لا، يصلون ويعبدون الله تعالى فيها مع أنها مبنية على القبور.
قوله: «يحذر ما صنعوا» ، أي: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال في سياق الموت تحذيرا لأمته مما صنع هؤلاء؛ لأنه علم أنه سيموت وأنه ربما يحصل هذا ولو في المستقبل البعيد.
قوله: «ولولا ذلك أبرز قبره» ، أبرز؛ أي: أخرج من بيته؛ لأن البروز معناه الظهور، أي لولا التحذير وخوف أن يتخذ قبره مسجدا؛ لأخرج ودفن في البقيع مثلا، لكنه في بيته أصون له، وأبعد عن اتخاذه مسجدا؛ فلهذا لم يبرز قبره، وهذا أحد الأسباب التي أوجبت أن لا يبرز مكان قبره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ومن أسباب ذلك: «إخباره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه ما قبض نبي إلا دفن حيث قبض» (1) ، ولا مانع أن يكون للحكم الواحد سببان فأكثر، كما أن السبب الواحد قد يترتب عليه حكمان أو أكثر؛ كغروب الشمس يترتب عليه جواز إفطار الصائم.
__________
(1) مسند الإمام أحمد (1/7) ، والترمذي: كتاب الجنائز /باب حدثنا أبو كريب، 3/394ـ وضعفه ـ.(9/392)
وصلاة المغرب.
قوله: «غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا» ، خشي فيها روايتان: خشي وخشي.
فعلى رواية خشي يكون الذي وقعت منهم الخشية الصحابة رضي الله عنهم، وعلى رواية خشي يكون الذي وقعت منه الخشية النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والحقيقة أن الأمر كله حاصل؛ فالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبر بأنه ما قبض نبي إلا دفن حيث قبض، ولعن اليهود والنصارى؛ لأنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد خوفا من اتخاذ قبره مسجدا، والصحابة رضي الله عنهم اتفقوا على أن يدفن صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيته بعد تشاورهم؛ لأنهم خشوا ذلك.
ويجوز أن يكون بعضهم أشار بأن يدفن في بيته، وليس في ذهنه إلا هذه الخشية، وبعضهم أشار أن يدفن في بيته وعنده علم بأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ما قبض نبي إلا دفن حيث قبض» ، وخوفا من اتخاذه مسجدا.
في هذا الحديث والحديث السابق: التحذير من اتخاذ قبور الأنبياء مساجد، وهم أفضل الصالحين؛ لأن مرتبة النبيين هي المرتبة الأولي من المراتب الأربع التي قال الله تعالى عنها: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] .
اعتراض وجوابه:
إذا قال قائل: نحن الآن واقعون في مشكلة بالنسبة لقبر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(9/393)
الآن، فإنه في وسط المسجد؛ فما هو الجواب؟
قلنا: الجواب على ذلك من وجوه:
الوجه الأول: أن المسجد لم يبن على القبر؛ بل بني المسجد في حياة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الوجه الثاني: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يدفن في المسجد حتى يقال: إن هذا من دفن الصالحين في المسجد، بل دفن في بيته.
الوجه الثالث: أن إدخال بيوت الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومنها بيت عائشة مع المسجد ليس باتفاق من الصحابة، بل بعد أن انقرض أكثرهم ولم يبق منهم إلا القليل، وذلك عام 94 م تقريبا؛ فليس مما أجازه الصحابة أو أجمعوا عليه، مع أن بعضهم خالف في ذلك، وممن خالف أيضا سعيد بن المسيب من التابعين؛ فلم يرض بهذا العمل.
الوجه الرابع: أن القبر ليس في المسجد، حتى بعد إدخاله؛ لأنه في حجرة مستقلة عن المسجد؛ فليس المسجد مبنيا عليه، ولهذا جعل هذا المكان محفوظا ومحوطا بثلاثة جدران، وجعل الجدار في زاوية منحرفة عن القبلة، أي مثلث، والركن في الزاوية الشمالية، بحيث لا يستقبله الإنسان إذا صلى لأنه منحرف.
فبهذا كله يزول الإشكال الذي يحتج به أهل القبور، ويقولون هذا منذ عهد التابعين إلى اليوم، والمسلمون قد أقروه ولم ينكروه؛ فنقول: إن الإنكار قد وجد حتى في زمن التابعين، وليس محل إجماع، وعلى فرض أنه إجماع؛ فقد تبين الفرق من الوجوه الأربعة التي ذكرناها.(9/394)
ولمسلم عن جندب بن عبد الله؛ قال: (سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل أن يموت بخمس وهو يقول: «إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا؛ لاتخذت أبا بكر خليلا، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد؛ فإني أنهاكم عن ذلك» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (بخمس) ، أي: خمس ليال، لكن العرب تطلقها على الأيام والليالي.
قوله: (أبرأ) ، البراءة: هي التخلي؛ أي: أتخلى أن يكون لي منكم خليل.
قوله: (خليل) ، هو الذي يبلغ في الحب غايته؛ لأن حبه يكون قد تخلل الجسم كله، قال الشاعر يخاطب محبوبته:
قد تخللت مسلك الروح مني ... وبهذا سمي الخليل خليلا
والخلة أعظم أنواع المحبة وأعلاها، ولم يثبتها الله - عز وجل - فيما نعلم إلا لاثنين من خلقه، هما: إبراهيم في قوله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125] ، ومحمد لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا» .
وبهذا تعرف الجهل العظيم الذي يقوله العامة: إن إبراهيم خليل الله، ومحمدا حبيب الله، وهذا تناقض في حق الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنهم بهذه المقالة(9/395)
جعلوا مرتبة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دون مرتبة إبراهيم، لأنهم إذا جعلوه حبيب الله لم يفرقوا بينه وبين غيره من الناس؛ فإن الله يحب المحسنين والصابرين، وغيرهم ممن علق الله بفعلهم المحبة؛ فعلى رأيهم لا فرق بين الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغيره، لكن الخلة ما ذكرها الله إلا لإبراهيم، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبر أن الله اتخذه خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا.
فالمهم: أن العامة مشكل أمرهم، دائما يصفون الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنه حبيب الله، فنقول: أخطأتم وتنقصتم نبيكم؛ فالرسول خليل الله؛ لأنكم إذا وصفتموه بالمحبة أنزلتموه عن بلوغ غايتها.
قوله: «فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا» ، هذا تعليل لقوله: ( «إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل» ؛ فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس في قلبه خلة لأحد إلا لله - عز وجل.
قوله: «ولو كنت متخذا من أمتي خليلا؛ لاتخذت أبا بكر خليلا» .
وهذا نص صريح على أن أبا بكر أفضل من علي، رضي الله عنهما، وفي هذا رد على الرافضة الذين يزعمون أن عليا أفضل من أبي بكر.
وقوله: (لو) ، حرف امتناع لامتناع؛ فيمتنع الجواب لامتناع الشرط، وعلى هذا امتنع صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من اتخاذ أبي بكر خليلا؛ لأنه يمتنع أن يتخذ من أمته خليلا.
قوله: (ألا وإن من كان قبلكم) ، للتنبيه، وهذه الجملة في أثناء الحديث لكنه ابتدأها بالتنبيه لأهمية المقام.
قوله: (ألا فلا تتخذوا) ، هذا تنبيه آخر للنهي عن اتخاذ القبور مساجد، وهذا عام يشمل قبره وقبر غيره.
قوله: (فإني أنهاكم عن ذلك) ، هذا نهي باللفظ دون الأداة تأكيدا لهذا(9/396)
فقد نهى عنه في آخر حياته، ثم إنه لعن - وهو في السياق - من فعله.
والصلاة عندها من ذلك وإن لم يبن مسجد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
النهي لأهمية المقام.
من فوائد الحديث:
1 - أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تبرأ من أن يتخذ أحدا خليلا؛ لأن قلبه مملوء بمحبة الله تعالى.
2 - أن الله تعالى اتخذه خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا؛ ففيه فضيلة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
3 - فضيلة إبراهيم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باتخاذه خليلا.
4 - فضيلة أبي بكر، وأنه أفضل الصحابة؛ لأن الحديث يدل على أنه أحب الصحابة إلى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
5 - التحذير من اتخاذ القبور مساجد في قوله: «ألا فلا تتخذوا القبور مساجد» ، قوله: «فإني أنهاكم عن ذلك» .
6 - أن من دفن شخصا في مسجد وجب عليه نبشه وإخراجه من المسجد.
7 - حرص النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أمته في إبعادهم عن الشرك وأسبابه؛ لأن اتخاذ القبور مساجد من وسائل الشرك وذرائعه، ولهذا حرص النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على تحذير أمته منه، وهذا من كمال رأفته ورحمته بالأمة.
8 - أن من بنى مسجدا على قبر وجب عليه هدمه.
قوله: (فقد نهى عنه في آخر حياته. . .) هذا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية.(9/397)
وهو معنى قولها: «خشي أن يتخذ مسجدا» ؛ فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجدا، وكل موضع قصدت الصلاة فيه؛ فقد اتخذ مسجدا، بل كل موضع يصلى فيه؛ يسمى مسجدا؛ كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «جعلت لي الأرض مسجدا وطهور» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: (فقد نهى عنه في آخر حياته) الضمير يعود إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمنهي عنه هو اتخاذ القبور مساجد.
قوله: (ثم إنه لعن وهو في سياق من فعله) ؛ فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو عند فراق الدنيا لعن من اتخذ القبور مساجد.
قوله: (والصلاة عندها من ذلك، وإن لم يبن مسجد) .
(عندها) ؛ أي: عند القبور، وقوله: (من ذلك) ؛ أي: من اتخاذها مساجد، وعلى هذا؛ فلا تجوز عند القبور، ولهذا نهى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ كما في (صحيح مسلم) من حديث أبي مرثد الغنوي أن يصلى إلى القبور؛ فقال: «لا تصلوا إلى القبور» .
قوله: (وهو معنى قولها: «خشي أن يتخذ مسجدا» الضمير في (قولها) يرجع إلى عائشة رضي الله عنها.(9/398)
قوله: (فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجدا) هذا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
قد يقال: «خشي أن يتخذ مسجدا» معناه: خشي أن يبنى عليه مسجد، لكن يبعده أن الصحابة لا يمكن أن يبنوا حول قبره مسجدا؛ لأن مسجده لبيته؛ فكيف يبنون مسجدا آخر؟ ! هذا شيء مستحيل بحسب العادة؛ فيكون معنى قولها: «خشي أن يتخذ مسجدا» ؛ أي: مكانا يصلى فيه، وإن لم يبن المسجد.
ولا ريب أن أصل تحريم بناء المساجد على القبور أن المساجد مكان الصلاة، والناس يأتون إليها للصلاة فيها، فإذا صلى الناس في المسجد بني على قبر؛ فكأنهم صلوا عند القبر، والمحذور الذي يوجد في بناء المساجد على القبور يوجد فيما إذا اتخذ هذا المكان للصلاة؛ وإن لم يبن مسجد.
فتبين بهذا أن اتخاذ القبور مساجد له معنيان:
الأول: أن تبنى عليها مساجد.
الثاني: أن تتخذ مكانا للصلاة عندها وإن لم يبن المسجد فإذا كان هؤلاء القوم مثلا يذهبون إلى هذا القبر ويصلون عنده ويتخذونه مصلى؛ فإن هذا بمعنى بناء المساجد عليها، وهو أيضا من اتخاذها مساجد.
قوله: (وكل موضع قصدت الصلاة فيه؛ فقد اتخذ مسجدا) .
وهذا يشهد له العرف؛ فإن الناس الذين لهم مساجد في مكان أعمالهم؛ كالوزارات والإدارات لو سألت واحدا منهم أين المسجد؟ لأشار إلى المكان الذي اتخذوه مصلى يصلون فيه، مع أنه لم يبن، لكن لما كانت الصلاة تقصد فيه؛ صار يسمى مسجدا.
قوله: (بل كل مكان يصلى. . .) ، فقوله: (مسجدا) ؛ أي: مكانا(9/399)
ولأحمد بسند جيد عن ابن مسعود (رضي الله عنه) مرفوعا: «إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد» (1) . ورواه أبو حاتم في "صحيحه".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
للسجود، وهذا معنى ثالث زائد على المعنيين الأولين، وهو أن يقال: كل شيء تصلي فيه، فإنه مسجد ما دمت تصلي فيه، كما يقال للسجادة التي تصلي عليها مسجد أو مصلى وإن كان الغالب عليها اسم مصلى.
الخلاصة:
إنه لا يجوز بناء المساجد على القبور؛ لأنها وسيلة إلى الشرك، وهو عبادة صاحب القبر.
ولا يجوز أيضا أن تقصد القبور للصلاة عندها، وهذا من اتخاذها مساجد؛ لأن العلة من اتخاذها مساجد موجودة في الصلاة عنها، فلو فرض أن رجلا يذهب إلى المقبرة ويصلي عند قبر ولي من الأولياء على زعمه؛ قلنا: إنك اتخذت هذا القبر مسجدا، وإنك مستحق لما استحقه اليهود والنصارى من اللعنة، وفي كلام شيخ الإسلام ابن تيمية دليل على صحة تسمية كل شيء يصلى فيه مسجدا بالمعنى العام.
قوله: (مرفوعا) ، المرفوع: ما أسند إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
__________
(1) مسند الإمام أحمد (1/435) ، وابن خزيمة في (الصحيح) (789) ـ وقال شيخ الإسلام: (إسناد جيد) ـ، (الاقتضاء) ، (2/568) .(9/400)
قوله: «إن من شرار الناس» ، من: للتبعيض، وشرار: جمع شر، مثل صحاب جمع صحب، والمعنى: أصحاب الشر، وفي هذا دليل على أن الناس يتفاوتون في الشر، وأن بعضهم أشد من بعض.
قوله: (من تدركهم الساعة) ، من: اسم موصول اسم إن، والساعة؛ أي: يوم القيامة، وسميت بذلك لأنها داهية، وكل شيء داهية عظيمة يسمى ساعة، كما يقال: هذه ساعتك في الأمور الداهية التي تصيب الإنسان.
قوله: " وهم أحياء "، الجملة حال من الهاء في "تدركهم".
وفي قولهم: «تدركهم الساعة وهم أحياء» إشكال، وهو أنه ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله: ( «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله» ، وفي رواية: «حتى تقوم الساعة» ؛ فكيف نوفق بين الحديثين؛ لأن ظاهر الحديث الذي ساقه المؤلف إن كل من تدركهم الساعة وهم أحياء؛ فهم من شرار الخلق؟ !
والجمع بينهما أن يقال: إن المراد بقوله: «حتى تقوم الساعة» ؛ أي: إلى قرب قيام الساعة، وليس إلى قيامها بالفعل؛ لأنها لا تقوم إلا على شرار الخلق؛ فالله يرسل ريحا تقبض نفس كل مؤمن ولا يبقى إلا شرار الخلق، وعليهم تقوم الساعة.
قوله: «الذين يتخذون القبور مساجد» ، فهم من شرار الخلق، وإن لم(9/401)
يشركوا؛ لأنهم فعلوا وسيلة من وسائل الشرك، والوسائل لها أحكام المقاصد، لكنها تعطى حكمها بالمعنى العام، فإن كانت وسيلة لواجب صارت واجبة، وإن كانت وسيلة لمحرم؛ فهي محرمة.
فشر الناس في هذا الحديث ينقسمون إلى صنفين:
الأول: الذين تدركهم الساعة وهم أحياء.
الثاني: الذين يتخذون القبور مساجد.
وفي قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن من شرار الناس» دليل على أن الناس يتفاوتون في الشر؛ لأن بعضهم أشد من بعض فيه، كما أنهم يتفاوتون في الخير أيضا؛ لقوله تعالى: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [آل عمران: 163] ، وذلك من حيث الكمية، فمن صلى ركعتين؛ فليس كمن صلى أربعا.
ومن حيث الكيفية، فمن صلى وهو قانت خاشع حاضر القلب؛ ليس كمن صلى وهو غافل.
ومن حيث النوعية، فالفرض أفضل من النفل، وجنس الصلاة أفضل من جنس الصدقة؛ لأن الصلاة أفضل الأعمال البدنية.
وهذا الذي تدل عليه الأدلة مذهب أهل السنة والجماعة، وهو التفاضل في الأعمال، حتى في الإيمان الذي هو في القلب يتفاضل الناس فيه، بل إن الإنسان يحس في نفسه أنه في بعض الأحيان يجد في قلبه من الإيمان ما لا يجده في بعض الأحيان؛ فكيف بين شخص وشخص؟ فهو يتفاضل أكثر.
وخلاصة الباب:
أنه يجب البعد عن الشرك ووسائله، ويغلظ على من عبد الله عند قبر رجل صالح.(9/402)
فيه مسائل:
الأولى: ما ذكر الرسول فيمن بنى مسجدا يعبد الله فيه عند قبر رجل صالح، ولو صحت نية الفاعل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وكلام المؤلف رحمه الله في قوله: (فيمن عبد الله) يشمل الصلاة وغيرها والأحاديث التي ساقها في الصلاة، لكنه رحمه الله كأنه قاس غيرها عليها، فمن زعم أن الصدقة عند هذا القبر أفضل من غيره؛ فهو شبيه بمن اتخذه مسجدا لأنه يرى أن لهذه البقعة أو لمن فيها شأنا يفضل به على غيره؛ فالشيخ عمم، والدليل خاص.
فإن قيل: لا يستدل بالدليل الخاص على العام؟
أجيب: إن الشيخ أراد بذلك أن العلة هي تعظيم هذا المكان؛ لكونه قبرا، وهذا كما يوجد في الصلاة يوجد في غيرها من العبادات؛ فيكون التعميم من باب القياس لا من باب شمول النص له لفظا.
فيه مسائل:
الأولى: ما ذكر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيمن بنى مسجدا يعبد الله فيه عند قبر رجل صالح، ولو صحت نية الفاعل، تؤخذ من لعن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد.
قوله: (ولو صحت نية الفاعل) ؛ لأن الحكم علق على مجرد صورته؛ فهذا العمل لا يحتاج إلى نية لأنه معلق بمجرد الفعل.
فالنية تؤثر في الأعمال الصالحة وتصحيحها، وتؤثر في الأعمال التي لا(9/403)
الثانية: النهي عن التماثيل وغلظ الأمر في ذلك. الثالثة: العبرة في مبالغته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك؛ فكيف بين لهم هذا أولا، ثم قبل موته بخمس قال ما قال، ثم لما كان في السياق لم يكتف بما تقدم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يقدر عليها فيعطى أجرها، وما أشبه ذلك، بخلاف ما علق على فعل مجرد؛ فلا حاجة فيه إلى النية.
أي: ولو كان يعبد الله، ولو كان يريد التقرب إلى الله ببناء هذا المسجد اعتبارا بما يئول إليه الأمر، وبالنتيجة السيئة التي تترتب على ذلك، وهذه النقطة نتدرج منها إلى نقطة أخرى، وهي التحذير من مشابهة المشركين وإن لم يقصد الإنسان المشابهة، وهذه قد تخفى على بعض الناس، حيث يظن أن التشبه إنما يحرم إذا قصدت المشابهة، والشرع إنما علق الحكم بالتشبه؛ أي: بأن يفعل ما يشبه فعلهم، سواء قصد أو لم يقصد، ولهذا قال العلماء في مسألة التشبه: وإن لم ينو ذلك؛ فإن التشبه يحصل بمطلق الصورة.
فإن قيل: قاعدة «إنما الأعمال بالنيات» هل تعارض ما ذكرنا؟
الجواب: لا تعارضه؛ لأن ما علق بالعمل ثبت له حكمه وإن لم ينو الفعل؛ كالأشياء المحرمة؛ كالظهار، والزنا، وما أشبهها.
الثانية: النهي عن التماثيل وغلظ الأمر في ذلك، تؤخذ من قوله: «وصوروا فيه تلك الصور» ، ولا سيما إذا كانت هذه الصور معظمة عادة؛ كالرؤساء، والزعماء، والأب، والأخ، والعم.
الثالثة: العبرة في مبالغته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك، كيف بين لهم هذا أولا، ثم قبل(9/404)
موته بخمس قال ما قال؟ ! ثم لما كان في السياق لم يكتف بما تقدم.
وهذا مما يدل على حرص النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على حماية جانب التوحيد؛ لأنه خلاصة دعوة الرسل، ولأن التوحيد أعظم الطاعات؛ فالمعاصي ولو كبرت أهون من الشرك، حتى قال ابن مسعود: (لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا) ؛ لأن الحلف بغيره نوع من الشرك، والحلف بالله كاذبا معصية، وهي أهون من الشرك.
فالشرك أمره عظيم جدا، ونحن نحذر إخواننا المسلمين مما هم عليه الآن من الانكباب العظيم على الدنيا حتى غفلوا عما خلقوا له، واشتغلوا بما خلق لهم؛ فعامة الناس الآن تجدهم مشتغلين بالدنيا، وليس في أفكارهم إلا الدنيا قائمين وقاعدين ونائمين ومستيقظين، وهذا في الحقيقة نوع من الشرك؛ لأنه يوجب الغفلة عن الله عز وجل، ولهذا سمى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من فعل ذلك عبدا لما تعبد له، فقال: «تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة» ، ولو أقبل العبد على الله بقلبه وجوارحه لحصل ما قدر له من الدنيا؛ فالدنيا وسيلة وليست غاية، وتعس من جعلها غاية، كيف تجعلها غاية وأنت لا تدري مقامك فيها؟ ! وكيف تجعلها غاية وسرورها مصحوب بالأحزان؛ كما قال الشاعر:
فيوم علينا ويوم لنا ... ويوم نساء ويوم نسر
فالحاصل: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث لتحقيق عبادة الله، ولهذا كان حريصا على(9/405)
الرابعة: نهيه عن فعله عند قبره قبل أن يوجد القبر. الخامسة: أنه من سنن اليهود والنصارى في قبور أنبيائهم. السادسة: لعنه إياهم على ذلك. السابعة: أن مراده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحذيره إيانا عن قبره.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
سد كل الأبواب التي تؤدي إلى الشرك؛ فالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حذر من اتخاذ القبور مساجد ثلاث مرات:
الأولى: في سائر حياته.
والثانية: قبل موته بخمس.
والثالثة: وهو في السياق.
الرابعة: نهيه عن فعله عند قبره أن يوجد القبر، تؤخذ من قوله: «ألا فلا تتخذوا القبور مساجد» ؛ فإن قبره داخل في ذلك بلا شك، بل أول ما يدخل فيه.
الخامسة: أنه من سنن اليهود والنصارى في قبور أنبيائهم، تؤخذ من قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» ، وبئس رجلا جعل إمامه اليهود والنصارى وتشبه بهم في قبيح أعمالهم.
السادسة: لعنه إياهم على ذلك، تؤخذ من قوله: «لعنة الله على اليهود والنصارى» .
السابعة: أن مراده تحذيره إيانا عن قبره، تؤخذ من قول عائشة: "يحذر ما صنعوا"؛ أي: ما صنعه اليهود والنصارى في قبور أنبيائهم.(9/406)
الثامنة: العلة في عدم إبراز قبره. التاسعة: في معنى اتخاذها مسجدا.
العاشرة: أنه قرن بين من اتخذها مسجدا وبين من تقوم عليهم الساعة، فذكر الذرية إلى الشرك قبل وقوعه مع خاتمته.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الثامنة: العلة في عدم إبراز قبره، تؤخذ من قول عائشة: «ولولا ذلك أبرز قبره؛ غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا» .
هناك علة أخرى، وهي: إخباره بأنه ما من نبي يموت إلا دفن حيث يموت، ولا يمتنع أن يكون للحكم علتان، كما لا يمتنع أن يكون للعلة حكمان.
التاسعة: في معنى اتخاذها مسجدا، سبق أن ذكرنا أن لها معنيين:
1 - بناء المساجد عليها.
2 - اتخاذها مكانا للصلاة تقصد فيصلى عندها، بل إن من صلى عندها ولم يتخذها للصلاة؛ فقد اتخذها مسجدا بالمعنى العام.
العاشرة: أنه قرن بين من اتخذها مسجدا وبين من تقوم عليه الساعة؛ فذكر الذريعة إلى الشرك قبل وقوعه مع خاتمته.
ومعنى هذا أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر التحذير من الشرك قبل أن يموت.
وقوله: (مع خاتمته) ، وهي أن من تقوم عليهم شرار الخلق والذين تقوم عليهم الساعة وهم أحياء هؤلاء الكفار، والذين يتخذون القبور مساجد هؤلاء فعلوا أسباب الشرك والكفر.(9/407)
الحادية عشرة: ذكره في خطبته قبل موته بخمس الرد على الطائفتين اللتين هما أشر أهل البدع، بل أخرجهم بعض أهل العلم من الثنتين والسبعين فرقة، وهم الرافضة والجهمية، وبسبب الرافضة حدث الشرك وعبادة القبور، وهم أول من بنى عليها المساجد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الحادية عشرة: ذكر في خطبته قبل موته بخمس الرد على الطائفتين اللتين هما أشر أهل البدع.
قوله: (قبل أن يموت بخمس) ، أي: خمس ليال، والعرب يعبرون عن الأيام بالليالي وبالعكس.
قوله: (أشر أهل البدع) ، يقال: أشر، ويقال: شر؛ بحذف الهمزة، وهو الأكثر استعمالا.
وإنما تكلم المؤلف - رحمه الله - عن حال الرافضة والجهمية وحكمهما قبل ذكر اسمهما من أجل تهييج النفس على معرفتهما والاطلاع عليهما؛ لأن الإنسان إذا ذكر له الحكم والوصف قبل ذكر الموصوف والمحكوم عليه؛ صارت نفسه تتطلع وتتشوق إلى هذا، فلو قال من أول الكلام: الرد على الرافضة والجهمية؛ فلا يكون للإنسان التشوق مثل ما لو تكلم عن حالهما وحكمهما أولا.
وحالهما: أنها أشر أهل البدع.
وحكمهم: أن بعض أهل العلم أخرجهم من الثنتين والسبعين فرقة.
والرافضة: اسم فاعل من رفض الشيء إذا استبعده، وسموا بذلك لأنهم رفضوا زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب حين سألوه: ما تقول في(9/408)
أبي بكر وعمر؟ فأثنى عليهما، وقال: هما وزيرا جدي. فرفضوه وتركوه، وكانوا في السابق معه، لكن لما قال الحق المخالف لأهوائهم، نفروا منه والعياذ بالله، فسموا رافضة.
وأصل مذهبهم من عبد الله بن سبأ، وهو يهودي تلبس بالإسلام، فأظهر التشيع لآل البيت والغلو فيهم ليشغل الناس عن دين الإسلام ويفسده كما أفسد بولص دين النصارى عندما تلبس بالنصرانية.
وأول ما أظهر ابن سبأ بدعته في عهد علي بن أبي طالب، حتى إنه جاءه وقال: أنت الله حقا - والعياذ بالله -. فأمر علي بالأخدود فحفرت، وأمر بالحطب فجمع، وبالنار فأوقدت، ثم أحرقهم بها؛ إلا أنه يقال: إن عبد الله بن سبأ هرب وذهب إلى مصر ونشر بدعته؛ فالله أعلم.
فالمهم أن عليا رضي الله عنه رأى أمرا لم يحتمله، حيث ادعوا فيه الألوهية فأحرقهم بالنار إحراقا، ثم بدأت هذه الفرقة الخبيثة تتكاثر؛ لأن شعارها في الحقيقة النفاق الذي يسمونه التقية، ولهذا كانت هذه الفرقة أخطر ما يكون على الإسلام؛ لأنها تتظاهر بالإسلام والدعوة إليه، وتقيم شعائره الظاهرة؛ كتحريم الخمور وما أشبه ذلك، لكنها تناقضه في الباطن؛ فهم يرون أئمتهم آلهة تدير الكون، وأنهم أفضل من الأنبياء والملائكة والأولياء، وأنهم في مرتبة لا ينالها ملك مقرب ولا نبي مرسل، وهؤلاء كيف يصح أن تقبل منهم دعوى الإسلام، ولذلك يقول عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في كثير من كتبه قولا إذا اطلع عليه الإنسان عرف حالهم: (إنهم أشد الناس ضررا على الإسلام، وأنهم هجروا المساجد وعمروا المشاهد) ؛ فهم يقولون: لا نصلي جماعة إلا خلف إمام معصوم ولا معصوم الآن، وهم أول من بنى المشاهد على القبور كما قال الشيخ(9/409)
هنا، ورموا أفضل أتباع الرسول على الإطلاق - وهما أبو بكر وعمر - بالنفاق، وإنهما ماتا على ذلك؛ كعبد الله بن أبي ابن سلول وأشباهه والعياذ بالله؛ فانظر بماذا تحكم على هؤلاء بعد معرفة معتقدهم ومنهجهم؟ !
وأما الجهمية؛ فهم أتباع الجهم بن صفوان، وأول بدعته أنه أنكر صفات الله، وقال: إن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما؛ فأنكر المحبة والكلام، ثم بدأت هذه البدعة تنتشر وتتسع، فاعتنقها طوائف غير الجهمية؛ كالمعتزلة ومتأخري الرافضة؛ لأن الرافضة كانوا بالأول مشبهة، ولهذا قال أهل العلم: أول من عرف بالتشبيه هشام بن الحكم الرافضي، ثم تحولوا من التشبيه إلى التعطيل، وصاروا ينكرون الصفات.
والجهم بن صفوان أخذ بدعته عن الجعد بن درهم، والجعد أخذ بدعته عن أبان بن سمعان، وأبان أخذها عن طالوت الذي أخذها عن لبيد بن الأعصم اليهودي الذي سحر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فتكون بدعة التعطيل أصلها من اليهود، ثم إن الجهم بن صفوان نشأ في بلاد خراسان، وفيها كثير من الصائبة وعباد الكواكب والفلاسفة، فأخذ منهم أيضا ما أخذ، فصارت هذه البدعة مركبة من اليهودية والصابئة والمشركين.
وانتشرت هذه البدعة في الأمة الإسلامية، وهؤلاء الجهمية معطلة في الصفات ينكرون الصفات، ومنهم من أنكر الأسماء مع الصفات، وهذه الأسماء التي يضيفها الله - سبحانه - إلى نفسه جعلوها إضافات وليست حقيقة، أو أنها أسماء لبعض مخلوقاته؛ فالسميع عندهم بمعنى من خلق السمع في غيره والبصير كذلك، وهكذا.
ومنهم من أنكر أن يكون الله متصفا بالإثبات أو العدم، فقالوا: لا يجوز(9/410)
أن نثبت لله صفة أو ننفي عنه صفة؛ حتى قالوا: لا يجوز أن نقول عنه: إنه موجود ولا إنه معدوم؛ لأننا قلنا موجود شبهناه بالموجودات، وإن قلنا بأنه معدوم شبهناه بالمعدومات؛ فنقول: لا موجود ولا معدوم؛ فكابروا المعقول، وكذبوا المنقول، وهذا لا يمكن؛ لأن تقابل الوجود والعدم من تقابل النقيضين اللذين لا يمكن ارتفاعهما ولا اجتماعهما، بل لا بد أن يوجد أحدهما، فوصف الله بذلك تشبيه له بالممتنعات على قاعدتهم.
ومذهبهم في القضاء والقدر: الجبر، فيقولون: إن الإنسان مجبر على عمله يعمل بدون اختياره إن صلى؛ فهو مجبر، وإن قتل فهو مجبر، وهكذا، فعطلوا بذلك حكمة الله لأنه إذا كان كل عامل مجبرا على عمله لم يكن هناك حكمة في الثواب والعقاب، بل بمجرد المشيئة يعاقب هذا ويثيب هذا، وبذلك عطلوا عن الفاعلين أوصاف المدح والذم، فلا يمكن أن تمدح إنسانا أو تذمه؛ لأن العاصي مجبر والمطيع مجبر.
ويقال لهم: إنكم إذا قلتم ذلك أثبتم أن الله أظلم الظالمين؛ لأنه كيف يعاقب العاصي وهو مجبر على المعصية؟ ويثيب الطائع وهو مجبر على طاعته؟ فيكون أعطى من لا يستحق؛ وعاقب من لا يستحق، وهذا ظلم.
فقالوا: هذا ليس بظلم؛ لأن الظلم تصرف المالك في غير ملكه، وهذا تصرف من المالك في ملكه يفعل به ما يشاء.
وأجيب: بأنه باطل؛ لأنه المالك إذا كان متصفا بصفات الكمال لن يخلف وعده، وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} [طه: 112] ، فلو أخلف هذا الوعد؛ لكان نقصا في حقه وظلما لخلقه، حيث وعدهم فأخلفهم.(9/411)
ومذهبهم في أسماء الإيمان والدين الإرجاء، فيقولون: إن الإيمان مجرد اعتراف الإنسان بالخالق على الوصف المعطل عن الصفات حسب طريقتهم، وأن الأقوال والأعمال لا مدخل لها في الإيمان، وأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص.
ومن هذه الأمور الثلاثة قالوا: إن أفسق وأعدل عباد الله في الإيمان سواء، بل قالوا إن فرعون مؤمن كامل الإيمان، وجبريل مؤمن كامل الإيمان، لكن فرعون كفر؛ لأنه ادعى الربوبيه لنفسه فقط، فصار بذلك كافرا.
قال ابن القيم عنهم:
والناس في الإيمان شيء واحد ... كالمشط عند تماثل الأسنان
فمذهبهم من أخبث المذاهب إن لم نقل أخبثها، لكن أخبث منه مذهب الرافضة، حتى قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (إن جميع البدع أصلها من الرافضة) ؛ فهم أصل البلية في الإسلام، ولهذا قال المؤلف: (أخرجهم بعض أهل العلم من الثنتين والسبعين فرقة) ، ولعل الصواب من الثلاث والسبعين فرقة، أو أن الصواب أخرجهم إلى الثنتين والسبعين؛ أي: أخرجهم من الثالثة التي كان عليها الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه؛ لأن المعروف أن هذه الأمة تفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، وهي من كانت على ما كان عليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه.
وصدق رحمه الله في قوله عن هاتين الطائفتين الرافضة والجهمية: (شر أهل البدع) .
وقد قتل الجهم بن صفوان سلمة بن أحوز شرطة نصر بن سيار؛ لأن أظهر هذا المذهب ونشره.
وقول المؤلف: (وبسبب الرافضة حديث الشك، وعبادة القبور، وهم أول من(9/412)
الثانية عشرة: ما بلي به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من شدة النزع. الثالثة عشرة: ما أكرم به من الخلة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بنى عليها المساجد) ، ولهذا يجب الحذر من بدعتهم وبدعة الجهمية وغيرها، ولا شك أن البدع دركات بعضها أسفل من بعض؛ فعلى المرء الحذر من البدع، وأن يكون متبعا لمنهج السلف الصالح في هذا الباب وفي غيره.
الثانية عشرة: ما بلي به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من شدة النزع، تؤخذ من قولها: «طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها» ، وفي هذا دليل على شدة نزعه، وهكذا «كان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمرض ويوعك كما يوعك الرجلان» من الناس، وهذا من حكمة الله - عز وجل -؛ فهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شدد عليه البلاء في مقابلة دعوته وأوذي إيذاء عظيما، وكذلك أيضا فيما يصيبه من الأمراض يضاعف عليه، والحكمة من ذلك لأجل أن ينال أعلى درجات الصبر؛ لأن الإنسان إذا ابتلي بالشر وصبر كان ذلك أرفع لدرجته.
والصبر درجة عالية لا تنال إلا بوجود أسبابها، ومنها الابتلاء؛ فيصبر ويحتسب حتى ينال درجة الصابرين.
الثالثة عشرة: ما أكرم به من الخلة، ويدل عليها قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا» ) ، ولا شك أن هذه الكرامة عظيمة؛ لأننا لا نعلم أحدا نال هذه المرتبة إلا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإبراهيم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(9/413)
الرابعة عشر: التصريح بأنها أعلى من المحبة. الخامسة عشرة: التصريح بأن الصديق أفضل الصحابة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الرابعة عشرة: التصريح بأنها أعلى من المحبة، ودليل ذلك أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يحب أبا بكر، وكان أحب الناس إليه؛ فأثبت له المحبة، ونفى عنه الخلة؛ فدل هذا على أنها أعلى من المحبة، والتصريح ليس من هذا الحديث فقط، بل بضمه إلى غيره؛ فقد ورد من حديث آخر أنه صرح: «بأن أبا بكر أحب الرجال إليه» ، ثم قال هنا: «لو كنت متخذا من أمتي خليلا؛ لاتخذت أبا بكر خليلا» فدل على أن الخلة أعلى من المحبة.
الخامسة عشرة: التصريح بأن الصديق أفضل الصحابة، تؤخذ من قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ولو كنت متخذا من أمتي خليلا؛ لاتخذت أبا بكر خليلا» ، فلو كان غيره أفضل منه عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لكان أحق بذلك.
ومن المسائل الهامة أيضا:
أن الأفضلية في الإيمان والعمل الصالح فوق الأفضلية بالنسب؛ لأننا لو راعينا الأفضلية بالنسب؛ لكان حمزة بن عبد المطلب والعباس - رضي الله عنهما - أحق من أبي بكر في ذلك، ومن ثم قدم أبو بكر رضي الله عنه على علي بن أبي طالب وغيره من آل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(9/414)
السادسة عشرة: الإشارة إلى خلافته.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
السادسة عشرة: الإشارة إلى خلافته، لم يقل التصريح، وإنما قال: الإشارة؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقل: إن أبا بكر هو الخليفة من بعده، لكن لما قال: «لو كنت متخذا من أمتي خليلا؛ لاتخذت أبا بكر خليلا» علم أنه رضي الله عنه أولى الناس برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فيكون أحق الناس بخلافته.(9/415)
باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين
يصيرها أوثانا تعبد من دون الله
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الباب له صلة بما قبله، وهو أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا تعبد من دون الله.
أي: يئول الأمر بالغالين إلى أن يعبدوا هذه القبور أو أصحابها.
والغلو: مجاوزة الحد مدحا أو ذما، والمراد هنا مدحا.
والقبور لها حق علينا من وجهين:
1 - أن لا نفرط فيما يجب لها من الاحترام؛ فلا تجوز إهانتها ولا الجلوس عليها، وما أشبه ذلك.
2 - أن لا نغلو فيها فنتجاوز الحد.
وفي (صحيح مسلم) قال علي بن أبي طالب لأبي الهياج الأسدي: «ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ أن لا تدع تمثالا إلا طمسته، ولا قبرا مشرفا إلا سويته» ، وفي رواية: «ولا صورة إلا طمستها» .
والقبر المشرف: هو الذي يتميز عن سائر القبور؛ فلا بد أن يسوى ليساويها لئلا يظن أن لصاحب هذا القبر خصوصية ولو بعد زمن: إذ هو وسيلة إلى الغلو فيه.
قوله: (الصالحين) ، يشمل الأنبياء والأولياء، بل ومن دونهم.(9/416)
روى مالك في (الموطأ) ؛ أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أوثانا) ، جمع وثن، وهو كل ما نصب للعبادة، وقد يقال له: صنم، والصنم: تمثال ممثل؛ فيكون الوثن أعم.
ولكن ظاهر كلام المؤلف أن كل ما يعبد من دون الله يسمى وثنا، وإن لم يكن على تمثال نصب؛ لأن القبور قد لا يكون لها تمثال ينصب على القبر فيعبد.
قوله: (تعبد من دون الله) ، أي: من غيره، وهو شامل لما إذا عبدت وحدها أو عبدت مع الله؛ لأن الواجب في عبادة الله إفراده فيها، فإذا قرن بها غيره صارت عبادة لغير الله، وقد ثبت في الحديث القدسي أن الله تعالى يقول: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيره تركته وشركه» .
قوله: في (الموطأ) ، كتاب مشهور من أصح الكتب؛ لأنه رحمه الله تحرى فيه صحة السند، وسنده أعلى من سند البخاري لقربه من الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكلما كان السند أعلى كان إلى الصحة أقرب، وفيه مع الأحاديث آثار عن(9/417)
الصحابة، وفيه أيضا كلام وبحث للإمام مالك نفسه.
وقد شرحه كثير من أهل العلم، ومن أوسع شروحه وأحسنها في الرواية والدراية: (التمهيد) لابن عبد البر، وهذا - أعني (التمهيد) - فيه علم كثير.
قوله: (اللهم) ، أصلها: يا الله! فحذفت يا النداء لأجل البداءة باسم الله، وعوض عنها الميم الدالة على الجمع؛ فكأن الداعي جمع قلبه على الله، وكانت الميم في الآخر لأجل البداءة باسم الله.
قوله: «لا تجعل قبري وثنا يعبد» ، لا: للدعاء؛ لأنها طلب من الله، وتجعل: تصير، والمفعول الأول لها: (قبري) ، والثاني: (وثنا) .
وقوله: (يعبد) ، صفة لوثن، وهي صفة كاشفة؛ لأنه الوثن هو الذي يعبد من دون الله.
وإنما سأل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك؛ لأن من كان قبلنا جعلوا قبور أنبيائهم مساجد وعبدوا صالحيهم، فسأل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربه أن لا يجعل قبره وثنا يعبد؛ لأن دعوته كلها بالتوحيد ومحاربة الشرك.
قوله: (اشتد) ، أي: عظم.
قوله: (غضب الله) ، صفة حقيقية ثابتة لله - عز وجل - لا تماثل غضب المخلوق لا في الحقيقة ولا في الأثر. وقال أهل التأويل: غضب الله هو الانتقام ممن عصاه، وبعضهم يقول: إرادة الانتقام ممن عصاه.
وهذا تحريف للكلام عن مواضعه؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقل: انتقم الله، وإنما قال: اشتد غضب الله، وهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعرف كيف يعبر، ويعرف الفرق بين غضب الله وبين الانتقام، وهو أنصح الخلق وأعلم الخلق بربه، فلا يمكن أن يأتي بكلام وهو يريد خلافه؛ لأنه لو أتى بذلك لكان ملبسا، وحاشاه أن يكون(9/418)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كذلك؛ فالغضب غير الانتقام وغير إرادة الانتقام؛ فالغضب صفة حقيقية ثابتة لله تليق بجلاله لا تماثل غضب المخلوق، لا في الحقيقة ولا في الأثر.
وهناك فروق بين غضب المخلوق وغضب الخالق، منها:
1 - غضب المخلوق حقيقة هو: غليان دم القلب، وجمرة يلقيها الشيطان في قلب ابن آدم حتى يفور، أما غضب الخالق؛ فإنه صفة لا تماثل هذا، قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] .
2 - أن غضب الآدمي يؤثر آثارا غير محمودة؛ فالآدمي إذا غضب قد يحصل منه ما لا يحمد، فيقتل المغضوب عليه، وربما يطلق زوجته، أو يكسر الإناء، ونحو ذلك، أما غضب الله؛ فلا يترتب عليه إلا آثار حميدة لأنه حكيم، فلا يمكن أن يترتب على غضبه إلا تمام الفعل المناسب الواقع في محله.
فغضب الله ليس كغضب المخلوقين، لا في الحقيقة ولا في الآثار، وإذا قلنا ذلك؛ فلا نكون وصفنا الله بما يماثل صفات المخلوقين، بل وصفناه بصفة تدل على القوة وتمام السلطان؛ لأن الغضب يدل على قدرة الغاضب على الانتقام وتمام سلطانه؛ فهو بالنسبة للخالق صفة كمال، وبالنسبة للمخلوق صفة نقص.
ويدل على بطلان تأويل الغضب بالانتقام قوله تعالى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف: 55] .
فإن معنى آسَفُونَا: أغضبونا؛ فجعل الانتقام غير الغضب، بل أثرا مترتبا عليه؛ فدل هذا على بطلان تفسير الغضب بالانتقام.
واعلم أن كل من حرف نصوص الصفات عن حقيقتها وعما أراد الله بها ورسوله؛ فلا بد أن يقع في زلة ومهلكة؛ فالواجب علينا أن نسلم لما جاء به(9/419)
ولابن جرير بسنده، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [النجم: 19] .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الكتاب والسنة من صفات الله تعالى على ما ورد إثباتا بلا تمثيل وتنزيها بلا تعطيل.
قوله: «اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» ، أي: جعلوها مساجد؛ إما بالبناء عليها، أو بالصلاة عندها؛ فالصلاة عند القبور من اتخاذها مساجد، والبناء عليها من اتخاذها مساجد.
وهنا نسأل: هل استجاب الله دعوة نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن لا يجعل قبره وثنا يعبد، أم اقتضت حكمته غير ذلك؟
الجواب: يقول ابن القيم: إن الله استجاب له؛ فلم يذكر أن قبره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعل وثنا، بل إنه حمي بثلاثة جدران؛ فلا أحد يصل إليه حتى يجعله وثنا يعبد من دون الله، ولم يسمع في التاريخ أنه جعل وثنا.
قال ابن القيم في (النونية) :
فأجاب رب العالمين دعاءه ... وأحاطه بثلاثة الجدران
صحيح أنه يوجد أناس يغلون فيه، ولكن لم يصلوا إلى جعل قبره وثنا، ولكن قد يعبدون الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولو في مكان بعيد، فإن وجد من يتوجه له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدعائه عند قبره؛ فيكون قد اتخذه وثنا، لكن القبر نفسه لم يجعل وثنا.
قوله: (ولابن جرير) ، هو محمد بن جرير بن يزيد الطبري، الإمام المشهور في التفسير، توفي سنة 310 هـ.
وتفسيره: هو أصل التفسير بالأثر ومرجع لجميع المفسرين بالأثر، ولا(9/420)
يخلو من بعض الآثار الضعيفة، وكأنه يريد أن يجمع ما روي عن السلف من الآثار في تفسير القرآن، ويدع للقارئ الحكم عليها بالصحة أو الضعف بحسب تتبع رجال السند، وهي طريقة جيدة من وجه، وليست جيدة من وجه آخر.
فجيدة من جهة أنها تجمع الآثار الواردة حتى لا تضيع، وربما تكون طرقها ضعيفة ويشهد بعضها لبعض.
وليست جيدة من جهة أن القاصر بالعلم ربما يخلط الغث بالسمين ويأخذ بهذا وهذا، لكن من عرف طريقة السند، وراجع رجال السند، ونظر إلى أحوالهم وكلام العلماء فيهم؛ علم ذلك.
وقد أضاف إلى تفسيره بالأثر: التفسير بالنظر، ولا سيما ما يعود إلى اللغة العربية، ولهذا دائما يرجح الرأي ويستدل له بالشواهد الواردة في القرآن وعن العرب.
ومن الناحية الفقهية؛ فالطبري مجتهد، لكنه سلك طريقة خالف غيره فيها بالنسبة للإجماع؛ فلا يعتبر خلاف الرجل والرجلين، وينقل الإجماع ولو خالف في ذلك رجل أو رجلان، وهذه الطريقة تؤخذ عليه؛ لأن الإجماع لا بد أن يكون من جميع أهل العلم المعتبرين في الإجماع، وقد يكون الحق مع هذا الواحد المخالف.
والعجيب أني رأيت بعض المتأخرين يحذرون الطلبة من تفسيره؛ لأنه مملوء على زعمهم بالإسرائيليات، ويقولون: عليكم بـ (تفسير الكشاف) للزمخشري وما أشبه ذلك، وهؤلاء مخطئون؛ لأنهم لجهلهم بفضل التفسير بالآثار عن السلف واعتزازهم بأنفسهم وإعجابهم بآرائهم صاروا يقولون هذا.
قوله: (عن سفيان) ، إما سفيان الثوري، أو ابن عيينة، وهذا مبهم،(9/421)
قال: (كان يلت لهم السويق، فمات، فعكفوا على قبره) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والمبهم يمكن معرفته بمعرفة شيوخه وتلاميذه، وفي الشرح - أعني (تيسير العزيز الحميد) - يقول: الظاهر أنه الثوري.
قوله: (عن مجاهد) ، هو مجاهد بن جبر المكي، إمام المفسرين من التابعين، ذكر عنه أنه قال: (عرضت المصحف على عبد الله بن عباس رضي الله عنهما من فاتحته إلى خاتمته؛ فما تجاوزت آية إلى وقفت عندها أسأله عن تفسيرها) .
قوله: (أفرأيتم) ، الهمزة: للاستفهام، والمراد به التحقير، والخطاب لعابدي هذه الأصنام اللات والعزى. . . إلخ.
لما ذكر الله تعالى قصة المعراج وما حصل فيه من الآيات العظيمة التي قال عنها: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} ؛ قال: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} ؛ أي: ما نسبة هذه الأصنام للآيات الكبيرة التي رآها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة المعراج.
قوله: اللَّاتِ، (كان يلت لهم. . .) إلخ، على قراءة التشديد: من لت يلت؛ فهو لات.
أما على قراءة التخفيف؛ فوجهها أنها خففت لتسهيل الكلام؛ أي: حذف منها التضعيف تخفيفا.
وقد سبق أنهم قالوا: إن اللات من الإله.
وأصله: رجل كان يلت السويق للحجاج، فلما مات؛ عظموه، وعكفوا على قبره، ثم جعلوه إلها، وجعلوا التسمية الأولى مقترنة بالتسمية الأخيرة؛ فيكون أصله من لت السويق، ثم جعلوه من الإله، وهذا على قراءة التخفيف أظهر من التشديد؛ فالتخفيف يرجح أنه من الإله، والتشديد يرجح أن أصله رجل يلت السويق.(9/422)
وكذا قال أبو الجوزاء، عن ابن عباس: (كان يلت السويق للحاج) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وغلوا في قبره، وقالوا: هذا الرجل المحسن الذي يلت السويق للحجاج ويطعمهم إياه، ثم بعد ذلك عبدوه؛ فصار الغلو في القبور يصيرها أوثانا تعبد من دون الله.
وفي هذا التحذير من الغلو في القبور، ولهذا نهي عن تخصيصها والبناء عليها والكتابة عليها خوفا من هذا المحظور العظيم الذي يجعلها تعبد من دون الله، «وكان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمر إذا بعث بعثا: بأن لا يدعوا قبرا مشرفا إلا سووه» ؛ لعلمه أنه مع طول الزمان سيقال: لولا أن له مزية ما اختلف عن القبور؛ فالذي ينبغي أن تكون القبور متساوية لا ميزة لواحد منها عن البقية.
قوله: (السويق) ، هو عبارة عن الشعير يحمص، ثم يطحن، ثم يخلط بتمر أو شبهه، ثم يؤكل.
وقوله: (كان يلت لهم السويق، فمات، فعكفوا على قبره) ، يعني: ثم عبدوه وجعلوه إلها مع الله.
قوله: (وكذا قال أبو الجوزاء عن ابن عباس: كان يلت السويق للحاج) ، والغريب أن الناس في جاهليتهم يكرمون حجاج بيت الله، ويلتون لهم السويق، وكان العباس يسقي لهم من زمزم، وربما يجعل في زمزم نبيذا يحليه زبيبا أو نحوه، وفي الوقت الحاضر صار الناس بالعكس يستغلون الحجاج(9/423)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما؛ قال: «لعن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج» رواه أهل السنن. (1)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
غاية الاستغلال - والعياذ بالله - حتى يبيعوا عليهم ما يساوي ريالا بريالين وأكثر حسب ما يتيسر لهم، وهذا في الحقيقة خطأ عظيم؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] ؛ فكيف بمن يفعل الإلحاد؟ !
قوله: (لعن) ، اللعن: هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله، ومعنى (لعن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ؛ أي: دعا عليهم باللعنة.
قوله: (زائرات القبور) ، زائرات: جمع زائرة، والزيارة هنا معناها: الخروج إلى المقابر، وهي أنواع:
منها ما هو سنة، وهي زيارة الرجال للاتعاظ والدعاء للموتى.
ومنها ما هو بدعة، وهي زيارتهم للدعاء عندهم وقراءة القرآن ونحو ذلك.
ومنها ما هو شرك، وهي زيارتهم لدعاء الأموات والاستنجاد بهم والاستغاثة ونحو ذلك.
وزائر: اسم فاعل يصدق بالمرة الواحدة، وفي حديث أبي هريرة: «لعن»
__________
(1) مسند الإمام أحمد (1/229) ، وسنن أبو داود: كتاب الجنائز/باب في زيارة النساء القبور، 4/95، والترمزي: الصلاة/باب كراهة أن يتخذ على القبر مسجداً، 320 - وقال: (حديث حسن) ـ.(9/424)
«رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زوارات القبور» (1) ؛ بتشديد الواو، وهي صيغة مبالغة تدل على الكثرة أي كثرة الزيارة.
قوله: (والمتخذين عليها المساجد) ، هذا الشاهد من حديث؛ أي: الذين يضعون عليها المساجد، وقد سبق أن اتخاذ القبور مساجد، صورتان:
1 - أن يتخذها مصلى يصلى عندها.
2 - بناء المساجد عليها.
قوله: (والسرج) جمع سراج، توقد عليها السرج ليلا ونهارا تعظيما وغلوا فيها.
وهذا الحديث يدل على تحريم زيارة النساء للقبور، على أنه من كبائر الذنوب؛ لأن اللعن لا يكون إلا على كبيرة، ويدل على تحريم اتخاذ المساجد والسرج عليها، وهو كبيرة من كبائر الذنوب للعن فاعلة.
المناسبة للباب:
إن اتخاذ المساجد عليها وإسراجها غلو فيها؛ فيؤدي بعد ذلك إلى عبادتها.
مسألة: ما هي الصلة بين الجملة الأولى: (زائرات القبور) ، والجملة الثانية (المتخذين عليها المساجد والسرج) ؟
الصلة بينهما ظاهرة: هي أن المرأة لرقة عاطفتها وقلة تمييزها وضعف صبرها ربما تعبد أصحاب القبور تعطفا على صاحب القبر؛ فلهذا قرنها بالمتخذين عليها المساجد والسرج.
__________
(1) مسند الإمام أحمد (2/337) ، والترمذي: الجنائز/باب ما جاء في كراهة زيارة القبور للنساء، 4/12 ـ وقال: (حسن صحيح) ـ.(9/425)
وهل يدخل في اتخاذ السرج على المقابر ما وضع فيها مصابيح كهرباء لإنارتها؟
الجواب: أما في المواطن التي لا يحتاج الناس إليها، كما لو كانت المقبرة واسعة وفيها موضع قد انتهى الناس من الدفن فيه؛ فلا حاجة إلى إسراجه، فلا يسرج، أما الموضع الذي يقبر فيه فيسرج ما حوله؛ فقد يقال بجوازه؛ لأنها لا تسرج إلا بالليل؛ فليس في ذلك ما يدل على تعظيم القبر، بل اتخذ الإسراج للحاجة.
ولكن الذي نرى أنه ينبغي المنع مطلقا للأسباب الآتية:
1 - أنه ليس هناك ضرورة.
2 - أن الناس إذا وجدوا ضرورة لذلك؛ فعندهم سيارات يمكن أن يوقدوا الأنوار التي فيها ويتبين لهم الأمر، ويمكنهم أن يحملوا سراجا معهم.
3 - أنه إذا فتح هذا الباب؛ فإن الشر سيتسع في قلوب الناس ولا يمكن ضبطه فيما بعد، فلو فرضنا أنهم جعلوا الإضاءة بعد صلاة الفجر ودفنوا الميت؛ فمن يتولى قفل هذه الإضاءة؟
الجواب: قد تترك، ثم يبقى كأنه متخذ عليها السرج؛ فالذي نرى أنه يمنع نهائيا.
أما إذا كان في المقبرة حجرة يوضع فيها اللبن ونحوه؛ فلا بأس بإضاءتها لأنها بعيدة عن القبور، والإضاءة داخلة لا تشاهد؛ فهذا نرجو أن لا يكون به بأس.
والمهم أن وسائل الشرك يجب على الإنسان أن يبتعد عنها ابتعادا عظيما، ولا يقدر للزمن الذين هو فيه الآن، بل يقدر للأزمان البعيدة؛ فالمسألة ليست هينة.(9/426)
وفي الحديث ما يدل على تحريم زيارة النساء للقبور، وأنها من كبائر الذنوب، والعلماء اختلفوا في ذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأول: تحريم زيارة النساء للقبور، بل إنها من كبائر الذنوب؛ لهذا الحديث.
القول الثاني: كراهة زيارة النساء للقبور كراهة لا تصل إلى التحريم، وهذا هو المشهور من مذهب أحمد عن أصحابه؛ لحديث أم عطية: «نهينا عن اتباع الجنائز، ولم يعزم علينا» .
القول الثالث: أنها تجوز زيارة النساء للقبور؛ «لحديث المرأة: التي مر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بها وهي تبكي عند قبر، فقال لها: (اتقي الله واصبري) . فقالت له: إليك عني؛ فإنك لم تصب بمثل مصيبتي، فانصرف الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنها، فقيل لها: هذا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجاءت إليه تعتذر؛ فلم يقبل عذرها، وقال: (إنما الصبر عند الصدمة الأولى» ؛ فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شاهدها عند القبر ولم ينهها عن الزيارة، وإنما أمرها أن تتقي الله وتصبر.
ولما ثبت في (صحيح مسلم) من حديث عائشة الطويل، وفيه: «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج إلى أهل البقيع في الليل، واستغفر لهم ودعا لهم، وأن جبريل أتاه في الليل وأمره، فخرج صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مختفيا عن عائشة، وزار ودعا ورجع، ثم»(9/427)
«أخبرها الخبر؛ فقالت: ما أقول لهم يا رسول الله؟ قال: (قولي: السلام عليكم يا أهل الديار من المؤمنين والمسلمين» . . . .) إلخ.
قالوا: فعلمها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعاء زيارة القبور، وتعليمه هذا دليل على الجواز.
ورأيت قولا رابعا: أن زيارة النساء للقبور سنة كالرجال؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور؛ فزوروها؛ فإنها تذكركم الآخرة» (1) ، وهذا عام للرجال والنساء.
«ولأن عائشة رضي الله عنها زارت قبر أخيها، فقال لها عبد الله بن أبي مليكة: أليس النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد نهى عن زيارة القبور؟ قالت: إنه أمر بها بعد ذلك» . (2)
وهذا دليل على أنه منسوخ.
والصحيح القول الأول، ويجاب عن أدلة الأقوال الأخرى: بأن الصريح منها غير صحيح، والصحيح غير صريح؛ فمن ذلك:
أولا: دعوى النسخ غير صحيحة؛ لأنها لا تقبل إلا بشرطين:
1 - تعذر الجمع بين النصين، والجمع هنا سهل وليس بمعتذر لأنه يمكن أن يقال: إن الخطاب في قوله: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور؛ فزوروها» للرجال، والعلماء اختلفوا فيما إذا خوطب الرجال بحكم: هل يدخل فيه
__________
(1) مسند الإمام أحمد (1/145) ، ومسلم بلفظ: (نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي.) ، كتاب الجنائز / باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم في زيارة قبر أمه.
(2) الترمذي: كتاب الجنائز / باب زيارة النساء للقبور، وذكره الهيثمي في (المجمع) ، وقال: رواه الطبراني في (الكبير) ورجاله رجال الصحيح، والبغوي في (شرح السنة) .(9/428)
النساء أو لا؟ وإذا قلنا بالدخول - وهو الصحيح - فإن دخولهن في هذا الخطاب من باب دخول أفراد العام بحكم يخالف العام، وهنا نقول: قد خص النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النساء من هذا الحكم، فأمره بالزيارة للرجل فقط؛ لأن النساء أخرجن بالتخصيص من هذا العموم بلعن الزائرات، وأيضا مما يبطل النسخ قوله: «لعن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج» ، ومن المعلوم أن قوله: «والمتخذين عليها المساجد والسرج» لا أحد يدعي أنه منسوخ، والحديث واحد؛ فادعاء النسخ في جانب منه دون آخر غير مستقيم، وعلى هذا يكون الحديث محكما غير منسوخ.
2 - العلم بالتأريخ، وهنا لم نعلم التأريخ؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقل:
كنت لعنت من زار القبور، بل قال: كنت نهيتكم، والنهي دون اللعن.
وأيضا قوله: (كنت نهيتكم) خطاب للرجال، ولعن زائرات القبور خطاب للنساء؛ فلا يمكن حمل خطاب الرجال على خطاب النساء، إذا؛ فالحديث لا يصح فيه دعوى النسخ.
وثانيا: وأما الجواب عن حديث المرأة وحديث عائشة؛ أن المرأة لم تخرج للزيارة قطعا، لكنها أصيبت، ومن عظم المصيبة عليها لم تتمالك نفسها لتبقى في بيتها، ولذلك خرجت وجعلت تبكي عند القبر مما يدل على أن في قلبها شيئا عظيما لم تتحمله حتى ذهبت إلى ابنها وجعلت تبكي عند القبر، ولهذا أمرها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تصبر؛ لأنه علم أنها لم تخرج للزيارة، بل خرجت لما في قلبها(9/429)
من عدم تحمل هذه الصدمة الكبيرة؛ فالحديث ليس صريحا بأنها خرجت للزيارة، وإذا لم يكن صريحا؛ فلا يمكن أن يعارض الشيء الصريح بشيء غير صريح.
وأما «حديث عائشة؛ فإنها قالت للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ماذا أقول؟ فقال: (قولي: السلام عليكم» ؛ فهل المراد أنها تقول ذلك إذا مرت، أو إذا خرجت زائرة؟ فهو محتمل؛ فليس فيه تصريح بأنها إذا خرجت زائرة؛ إذ من الممكن أن يراد به إذا مرت بها من غير خروج للزيارة، وإذا كان ليس صريحا؛ فلا يعارض الصريح.
وأما فعلها مع أخيها رضي الله عنهما؛ فإن فعلها مع أخيها لم يستدل عليها عبد الله بن أبي مليكة بلعن زائرات القبور، وإنما استدل عليها بالنهي عن زيارة القبور مطلقا؛ لأنه لو استدل عليها بالنهي عن زيارة النساء للقبور أو بلعن زائرات القبور؛ لكنا ننظر بماذا ستجيبه.
فهو استدل عليها بالنهي عن زيارة القبور، ومعلوم أن النهي عن زيارة القبور كان عاما، ولهذا أجابته بالنسخ العام، وقالت: إنه قد أمر بذلك، ونحن وإن كنا نقول: إن عائشة رضي الله عنها استدلت بلفظ العموم؛ فهي كغيرها من العلماء لا يعارض بقولها قول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، على أنه روي عنها؛ أنها قالت: (لو شهدتك ما زرتك) ، وهذا دليل على أنها رضي الله عنها خرجت لتدعو له؛ لأنها لم تشهد جنازته، لكن هذه الرواية طعن فيها بعض العلماء، وقال: إنها لا تصح عن عائشة رضي الله عنها، لكننا نبقى على الراوية الأولى الصحيحة؛ إذ ليس فيها دليل على أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نسخه، وإذا فهمت هي؛ فلا يعارض بقولها قول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(9/430)
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الأوثان. الثانية: تفسير العبادة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إشكال وجوابه:
في قوله: (زوارات القبور) ألا يمكن أن يحمل النهي عن تكرار الزيارة؛ لأن (زوارات) صيغة مبالغة؟
الجواب: هذا ممكن، لكننا إذا حملناه على ذلك؛ فإننا أضعنا دلالة المطلق (زائرات) .
والتضعيف قد يحمل على كثرة الفاعلين لا على كثرة الفعل؛ فـ (زوارات) يعني: النساء إذا كن مئة كان فعلهن كثيرا، والتضعيف باعتبار الفاعل موجود في اللغة العربية، قال تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ} [ص: 50] ، فلما كانت الأبواب كثيرة كان فيها التضعيف؛ إذ الباب لا يفتح إلا مرة واحدة، وأيضا قراءة ( {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ} [الزمر: 73] ؛ فهي مثلها.
فالراجح تحريم زيارة النساء للمقابر، وأنها من كبائر الذنوب.
وانظر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (343 \ 24) .
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الأوثان، وهي: كل ما عبد من دون الله، سواء كان صنما أو قبرا أو غيره.
الثانية: تفسير العبادة، وهي: التذلل والخضوع للمعبود خوفا ورجاء ومحبة وتعظيما؛ لقوله: «لا تجعل قبري وثنا يعبد» .(9/431)
الثالثة: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يستعذ إلا مما يخاف وقوعه. الرابعة: قرنه بهذا اتخاذ قبور الأنبياء مساجد. الخامسة: ذكر شدة الغضب من الله. السادسة: وهي من أهمها: معرفة صفة عبادة اللات التي هي من أكبر الأوثان. السابعة: معرفة أنه قبر رجل صالح.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الثالثة: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يستعذ إلا مما يخاف من وقوعه، وذلك في قوله: «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد» .
الرابعة: قرنه بهذا اتخاذ قبور الأنبياء مساجد، وذلك في قوله: «اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» .
الخامسة: ذكر شدة الغضب من الله، تؤخذ من قوله: (اشتد غضب الله) .
وفيه: إثبات الغضب من الله حقيقة، لكنه كغيره من صفات الأفعال التي نعرف معناها ولا نعرف كيفيتها.
وفيه أنه يتفاوت كما ثبت في الحديث الصحيح حديث الشفاعة: «إن ربي غضب اليوم غضبا لم يغضب مثله قبله ولا بعده»
السادسة - وهي من أهمها -: معرفة صفة عبادة اللات التي هي من أكبر الأوثان، وذلك في قوله: (فمات، فعكفوا على قبره) .
السابعة: معرفة أنه قبر رجل صالح، تؤخذ من قوله (كان يلت لهم السويق) ؛ أي للحجاج؛ لأنه معظم عندهم، والغالب لا يكون معظما إلا(9/432)
الثامنة: أنه اسم صاحب القبر، وذكر معنى التسمية. التاسعة: لعنه زوارات القبور. العاشرة: لعنه من أسرجها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
صاحب دين.
الثامنة: أنه اسم صاحب القبر، وذكر معنى التسمية، وهو أنه كان يلت السويق.
التاسعة: لعنه زوارات القبور، أي: النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذكر رحمة الله لفظ: (زوارات القبور) مراعاة للفظ الآخر.
العاشرة: لعنه من أسرجها، وذلك في قوله: (والمتخذين عليها المساجد والسرج) .
وهنا مسألة مهمة لم تذكر، وهي: أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا كما في قبر اللات، وهذه من أهم الوسائل، ولم يذكرها المؤلف رحمه الله، ولعله اكتفى بالترجمة عن هذه المسألة بما حصل للات، فإذا قيل بذلك؛ فله وجه.
مسألة: المرأة إذا ذهبت للروضة في المسجد النبوي لتصلي فيها، فالقبر قريب منها، فتقف وتسلم، ولا مانع فيه.
والأحسن البعد عن الزحام ومخالطة الرجال، ولئلا يظن من يشاهدها إن المرأة يجوز لها قصد الزيارة؛ فيقع الإنسان في محذور، وتسليم المرء على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبلغه حيث كان.(9/433)
باب ما جاء في حماية المصطفى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جناب التوحيد
وسده كل طريق يوصل إلى الشرك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (المصطفى) ، أصلها: المصتفى، من الصفوة، وهو خيار الشيء؛ فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل المصطفين لأنه أفضل أولي العزم من الرسل، والرسل هم المصطفون، المراد به: محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والاصطفاء على درجات أعلاها اصطفاء أولي العزم من الرسل، ثم اصطفاء الرسل، ثم اصطفاء الأنبياء، ثم اصطفاء الصديقين، ثم اصطفاء الشهداء، ثم اصطفاء الصالحين.
قوله: (حماية) ، من حمى الشيء، إذا جعل له مانعا يمنع من يقرب حوله، ومنه حماية الأرض عن الرعي فيها، ونحو ذلك.
قوله: (جناب) ، بمعنى جانب، والتوحيد: تفعيل من الوحدة، وهو إفراد الله تعالى بما يجب له من الربوبية والألوهية والأسماء والصفات.
قوله: (وسده كل طريق) ، أي: مع الحماية لم يدع الأبواب مفتوحة يلج إليها من شاء، ولكنه سد كل طريق يوصل إلى الشرك؛ لأن الشرك أعظم الذنوب، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الشرك الأصغر لا يغفره الله؛ لعموم قوله: {أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} ، وعلى هذا؛ فجميع الذنوب دونه لقوله: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ؛ فيشمل كبائر الذنوب وصغائرها؛ فالشرك ليس بالأمر الهين الذي(9/434)
وقول الله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} [التوبة: 128] .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يتهاون به، فالشرك يفسد القلب والقصد، وإذا فسد العمل؛ إذ العمل مبناه على القصد، قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15، 16] ، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنما الأعمال بالنيات» .
إذا؛ فالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حمى جانب التوحيد حماية محكمة، وسد كل طريق يوصل إلى الشرك ولو من بعيد؛ لأن من سار على الدرب وصل، والشيطان يزين للإنسان أعمال السوء شيئا فشيئا حتى يصل إلى الغاية.
قوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} ، الجملة مؤكدة بثلاثة مؤكدات: القسم، واللام، وقد، وهي مؤكدة لجميع مدخولها بأنه رسول، وأنه من أنفسهم، وأنه عزيز عليه ما يشق علينا، وأنه بالمؤمنين رءوف رحيم؛ فالقسم منصب على كل هذه الأوصاف الأربعة.
والخطاب في قوله: جَاءَكُمْ قيل للعرب؛ لقوله: مِنْ أَنْفُسِكُمْ؛ فالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من العرب، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} [الجمعة: 2] .(9/435)
ويحتمل أن يكون عاما للأمة كلها، ويكون المراد بالنفس هنا الجنس؛ أي: ليس من الجن ولا الملائكة، بل هو من جنسكم؛ كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [الأعراف: 189] .
وعلى الاحتمال الأول فيه إشكال؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث إلى جميع الناس من العرب والعجم.
ولكن يقال في الجواب: إنه خوطب العرب بهذا؛ لأن منة الله عليهم به أعظم من غيرهم، حيث كان منهم، وفي هذا تشريف لهم بلا ريب.
والاحتمال الثاني أولي؛ للعموم، ولقوله: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران: 164] ، ولما كان المراد العرب، قال: مِنْهُمْ لا (من أنفسكم) ، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} ، وقال تعالى عن إبراهيم وإسماعيل: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} ، وعلى هذا، فإذا جاءت (من أنفسهم) ؛ فالمراد: عموم الأمة، وإذا جاءت (منهم) ؛ فالمراد العرب؛ فعلى الاحتمال الثاني لا إشكال في الآية.
قوله (رسول) ، أي: من الله؛ كما قال الله تعالى: {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً} ، وفعول هنا بمعنى مفعل؛ أي: مرسل.
و (من أنفسكم) ، سبق الكلام فيها.
قوله: (عزيز) ، أي: صعب؛ لأن هذه المادة العين والزاي في اللغة العربية تدل على الصلابة، ومنه: (أرض عزاز) ؛ أي: صلبة قوية، والمعنى: أنه يصعب عليه ما يشق عليكم، ولهذا بعث بالحنيفية السمحة، وما خير بين شيئين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، وهذا من التيسير الذي بعث به الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(9/436)
قوله: مَا عَنِتُّمْ، (ما) : مصدرية، وليست موصولة؛ أي: عنتكم؛ أي: مشقتكم؛ لأن العنت بمعنى المشقة، قال تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} [النساء: 25] .
والفعل بعد: (ما) يئول إلى مصدر مرفوع، لكن بماذا هو مرفوع؟
يختلف باختلاف (عزيز) إذا قلنا: بأن (عزيز) صفة لرسول؛ صار المصدر المئول فاعلا به؛ أي: عزيز عليه عنتكم، وإن قلنا: عزيز خبر مقدم، صار عنتكم مبتدأ، والجملة حينئذ تكون كلها صفة لرسول، أو يقال: عزيز مبتدأ، وعنتكم فاعل سد مسد الخبر على رأي الكوفيين الذي أشار ابن مالك في قوله: وقد يجوز نحو فائز أولو الرشد.
قوله: {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} ، الحرص: بذل الجهد لإدراك أمر مقصود، والمعنى: باذل غاية جهده في مصلحتكم؛ فهو جامع بين أمرين: دفع المكروه الذي أفاده قوله: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} ، وحصول المحبوب الذي أفاده قوله: {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} ؛ فكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جامعا بين هذين الوصفين، وهذا من نعمة الله علينا وعلى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يكون على هذا الخلق العظيم الممثل بقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] .
قوله: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} ، بِالْمُؤْمِنِينَ: جار ومجرور خبر مقدم، و (رءوف) : مبتدأ مؤخر، و (رحيم) : مبتدأ ثان، وتقديم الخبر يفيد الحصر.
والرأفة: أشد الرحمة وأرقها.
والرحمة: رقة بالقلب تتضمن الحنو على المرحوم والعطف عليه بجلب الخير له ودفع الضرر عنه.
وقولنا: رقة في القلب هذا باعتبار المخلوق، أما بالنسبة لله تعالى؛ فلا(9/437)
نفسرها بهذا التفسير؛ لأن الله تعالى ليس كمثله شيء، ورحمة الله أعظم من رحمة المخلوق لا تدانيها رحمة المخلوق ولا تماثلها؛ فقد ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ أنه قال: «إن لله مائة رحمة وضع منها رحمة واحدة يتراحم بها الخلق منذ خلقوا إلى يوم القيامة، حتى إن الدابة لترفع حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه» .
فمن يحصي هذه الرحمة التي في الخلائق منذ خلقوا إلى يوم القيامة كمية؟ ومن يستطيع أن يقدرها كيفية؟ لا أحد يستطيع إلا الله - عز وجل - الذي خلقها؟
فهذه رحمة واحدة، فإذا كان يوم القيامة رحم الخلق بتسع وتسعين رحمة بالإضافة إلى الرحمة الأولى، وهل هذه الرحمة تدانيها رحمة المخلوق؟
الجواب: أبدا، لا تدانيها، والقدر المشترك بين رحمة الخالق ورحمة المخلوق أنها صفة تقتضي الإحسان إلى المرحوم، ورحمة الخالق غير مخلوقة؛ لأنها من صفاته، ورحمة المخلوق مخلوقة؛ لأنها من صفاته؛ فصفات الخالق لا يمكن أن تنفصل عنه إلى مخلوق؛ لأننا لو قلنا بذلك لقلنا بحلول صفات الخالق بالمخلوق، وهذا أمر لا يمكن؛ لأن صفات الخالق يتصف بها وحده، وصفات المخلوق يتصف بها وحده، لكن صفات الخالق لها آثار تظهر في المخلوق، وهذه الآثار هي الرحمة التي نتراحم بها.
وقوله: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} ؛ أي: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غير المؤمنين ليس رءوفا ولا رحيما، بل هو شديد عليهم كما وصفه الله هو وأصحابه بذلك(9/438)
في قوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] .
قوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا} ، أي: أعرضوا مع هذا البيان الواضح بوصف الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وهذا التفات من الخطاب إلى الغيبة؛ لأن التولي مع هذا البيان مكروه، ولهذا لم يخاطبوا به؛ فلم يقل: فإن توليتم.
والبلاغيون يسمونه التفاتا، ولو قيل: إنه انتقال؛ لكان أحسن.
قوله: {فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ} ، الخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ أي: قل ذلك معتمدا على الله، متوكلا عليه، معتصما به: حسبي الله، وارتباط الجواب بالشرط واضح، أي: فإن أعرضوا؛ فلا يهمنك إعراضهم، بل قل بلسانك وقلبك: حسبي الله، و (حسبي) خبر مقدم، و (لفظ الجلالة) مبتدأ مؤخر، ويجور العكس بأن نجعل: (حسبي) مبتدأ و (لفظ الجلالة) خبر، لكن لما كانت حسب نكرة لا تتعرف بالإضافة؛ كان الأولى أن نجعلها هي الخبر.
قوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} ، أي: لا معبود حق حقيق بالعبادة سوى الله - عز وجل.
قوله: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} ، عليه: جار ومجرور متعلق بتوكلت، وقدم للحصر.
والتوكل: هو الاعتماد على الله في جلب المنافع ودفع المضار مع الثقة به، وفعل الأسباب النافعة.
وقوله: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} مع قوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} فيها جمع بين توحيدي الربوبية والعبودية، والله تعالى يجمع بين هذين الأمرين كثيرا، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] ، وقوله: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123] .(9/439)
قوله: {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} ، الضمير يعود على الله - سبحانه.
و {رَبُّ الْعَرْشِ} ؛ أي: خالقه، وإضافة الربوبية إلى العرش - وإن كانت ربوبية الله - عامة تشريفا للعرش وتعظيما له.
ومناسبة التوكل لقوله: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} ؛ لأن من كان فوق كل شيء ولا شيء فوقه؛ فإنه لا أحد يغلبه، فهو جدير بأن يتوكل عليه وحده.
وقوله: (العرش) فسره بعض الناس بالكرسي، ثم فسروا الكرسي بالعلم، وحينئذ لا يكون هناك كرسي ولا عرش، وهذا التفسير باطل، والصحيح أن العرش غير الكرسي، وأن الكرسي غير العلم، ولا يصح تفسيره بالعلم، بل الكرسي من مخلوقات الله العظيمة الذي وسع السماوات والأرض، والعرش أعظم وأعظم، ولهذا وصفه بأنه عظيم بقوله تعالى: {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة: 129] ، وبأنه مجيد بقوله: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [البروج: 15] على قراءة كسر الدال، وبأنه كريم في قوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 116] ؛ لأنه أعظم المخلوقات التي بلغنا علمها وأعلاها؛ لأن الله استوى عليه.
وفيه دليل على أن كلمة العظيم يوصف بها المخلوق؛ لأن العرض مخلوق، وكذلك الرحيم، والرءوف، والحكيم.
ولا يلزم من اتفاق الاسمين، فإذا كان الإنسان رءوفا؛ فلا يلزم أن يكون مثل الخالق، فلا تقل: إذا كان الإنسان سميعا بصيرا عليما لزم أن يكون مثل الخالق؛ لأن الله سميع بصير عليم، كما أن وجود الباري سبحانه لا يستلزم أن تكون ذاته كذوات الخلق؛ فإن أسماءه كذلك لا يستلزم أن تكون كأسماء الخلق، وهناك فرق عظيم بين هذا وهذا.(9/440)
عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا علي؛ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: {فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ} ؛ أي: كافيني، وهكذا يجب أن يعلن المؤمن اعتماده على ربه، ولا سيما في مثل هذا المقام الذي يتخلى الناس عنه؛ لأنه قال: {فَإِنْ تَوَلَّوْا} .
وهذه الكلمة - كلمة الحسب - تقال في الشدائد، قالها إبراهيم حين ألقي في النار، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه حيث قيل لهم: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173] .
(تنبيه) :
في سياقنا للآية الثانية فوائد نسأل الله أن ينفع بها.
قوله: (لا تجعلوا) ، الجملة هنا نهي؛ فلا ناهية، والفعل مجزوم وعلامة جزمة حذف النون، والواو فاعل.
قوله: (بيوتكم) ، جمع بيت، وهو مقر الإنسان وسكنه، سواء كان من طين أو حجارة أو خيمة أو غير ذلك، وغالب ما يراد به الطين والحجارة.
قوله: (قبورا) ، مفعول ثان لتجعلوا، وهذه الجملة اختلف في معناها؛ فمنهم من قال: لا تجعلوها قبورا؛ أي: لا تدفنوا فيها، وهذا لا شك أنه ظاهر اللفظ، ولكن أورد على ذلك دفن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيته.
وأجيب عنه بأن من خصائصه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دفن في بيته لسببين:(9/441)
1 - ما روي عن أبي بكر أنه سمع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «ما من نبي يموت إلا دفن حيث قبض» ، وهذا ضعفه بعض العلماء.
2 - ما روته عائشة رضي الله عنهما: «أنه خشي أن يتخذ مسجدا» .
وقال بعض العلماء: المراد بـ «لا تجعلوا بيوتكم قبورا» ؛ أي: لا تجعلوها مثل القبور، أي: المقبرة لا تصلون فيها، وذلك لأنه من المتقرر عندهم أن المقابر لا يصلى فيها، وأيدوا هذا التفسير بأنه سبقها جملة في بعض الطرق: «اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم، ولا تجعلوها قبروا» ، وهذا يدل على أن المراد: لا تدعوا الصلاة فيها.
وكلا المعنيين صحيح؛ فلا يجوز أن يدفن الإنسان في بيته، بل يدفن مع المسلمين؛ لأن هذه هي العادة المتبعة منذ عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى اليوم، ولأنه إذا دفن في بيته؛ فإنه ربما يكون وسيلة إلى الشرك، فربما يعظم هذا المكان، ولأنه يحرم من دعوات المسلمين الذين يدعون بالمغفرة لأموات المسلمين عند زيارتهم للمقابر، ولأنه يضيق على الورثة من بعده فيسأمون منه، وربما يستوحشون منه، وإذا باعوه لا يساوي إلا قليلا، ولأنه قد يحدث عنده من الصخب واللعب واللغو والأفعال المحرمة ما يتنافى مع مقصود الشارع؛ فإن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «زوروا القبور؛ فإنها تذكركم الآخرة» .
وأما أن المعنى: لا تجعلوها قبورا؛ أي: مثل القبور في عدم الصلاة فيها؛(9/442)
فهو دليل على أنه ينبغي إن لم نقل: يجب أن يجعل الإنسان من صلاته في بيته ولا يخليه من الصلاة.
وفيه أيضا: أنه من المتقرر عندهم أن المقبرة لا يصلى فيها.
إذا فيكون هذا النهي عن ترك الصلاة في البيوت لئلا تشبه المقابر؛ فيكون دليل واضح على أن المقابر ليست محلا للصلاة، وهذا هو الشاهد من الحديث للباب؛ لأن اتخاذ المقابر مساجد سبب قريب جدا للشرك.
واتخاذها مساجد سبق أن له مرتبتين:
الأولي: أن يبني عليها مسجدا.
الثانية: أن يتخذها مصلى يقصدها ليصلي عندها.
والحديث يدل على أن الأفضل: أن المرء يجعل من صلاته في بيته وذلك جميع النوافل؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أفضل صلاة المرء في بيته؛ إلا المكتوبة» ؛ إلا ما ورد الشرع أن يفعل في المسجد، مثل: صلاة الكسوف، وقيام الليل في رمضان، حتى ولو كنت في المدينة النبوية؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال ذلك وهو في المدينة، وتكون المضاعفة بالنسبة للفرائض أو النوافل التي تسن لها الجماعة.
قوله: (عيدا) ، اسم لما يعتاد فعله، أو التردد إليه، فإذا اعتاد الإنسان أن يعمل عملا كما لو كان كلما حال عليه الحول صنع طعاما ودعا الناس؛ فهذا يسمي عيدا لأنه جعله يعود ويتكرر.
وكذلك من العيد: أن تعتاد شيئا فتتردد إليه، مثل ما يفعل بعض الجهلة(9/443)
في شهر رجب وهو ما يسمى بالزيارة الرجبية، حيث يذهبون من مكة إلى المدينة، ويزورون كما زعموا قبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإذا أقبلوا على المدينة تسمع لهم صياحا، وكانوا سابقا يذهبون من مكة إلى المدينة على الحمير خاصة، ولما جاءت السيارات صاروا يذهبون على السيارات.
وأيهما المراد من كلام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الأول؛ أي العمل الذي يتكرر بتكرر العام، أو التردد إلى المكان؟
الظاهر الثاني، أي: لا تترددوا على قبري وتعتادوا ذلك، سواء قيدوه بالسنة أو بالشهر أو بالأسبوع؛ فإنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن ذلك، وإنما يزار لسبب، كما لو قدم الإنسان من سفر، فذهب إلى قبره فزاره، أو زاره ليتذكر الآخرة كغيره من القبور.
وما يفعله بعض الناس في المدينة كلما صلى الفجر ذهب إلى قبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أجل السلام عليه، فيعتاد هذا كل فجر، يظنون أن هذا مثل زيارته في حياته؛ فهذا من الجهل، وما علموا أنهم إذا سلموا عليه في أي مكان؛ فإن تسليمهم يبلغه.
قوله: (وصلوا علي) ، هذا أمر؛ أي: قولوا: اللهم صل على محمد، وقد أمر الله بذلك في قوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] .
وفضل الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معروف، ومنه أن من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشرا.(9/444)