«قالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر. قال: تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن. قالوا: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن. قال: تعوذوا بالله من فتنة الدجال. قالوا: نعوذ بالله من فتنة الدجال» .
وأما نعيم القبر فللمؤمنين الصادقين قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} .
وقال تعالى: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} ... إلى آخر السورة.
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال في المؤمن إذا أجاب الملكين في قبره: «ينادي منادٍ من السماء أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابا إلى الجنة، قال: فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مدّ بصره» (1) . رواه أحمد وأبو داود في حديث طويل.
وللإيمان باليوم الآخر ثمرات جليلة منها:
الأولى: الرغبة في فعل الطاعة والحرص عليها رجاء لثواب ذلك اليوم.
الثانية: الرهبة في فعل المعصية والرضا بها خوفا من عقاب ذلك اليوم.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد 4/287، وأبو داود، كتاب السنة، باب: المسألة في عذاب القبر، والهيثمي في " مجمع الزوائد 3/49- 50، وأبو نعيم في " الحلية " 8/10، وابن أبي شيبة في المصنف 3/374، والآجري في " الشريعة " ص 327، وقال الهيثمي: "رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح".(6/102)
الثالثة: تسلية المؤمن عما يفوته من الدنيا بما يرجوه من نعيم الآخرة وثوابها.
وقد أنكر الكافرون البعث بعد الموت زاعمين أن ذلك غير ممكن. وهذا الزعم باطل دل على بطلانه الشرع، والحس، والعقل.
أما من الشرع: فقد قال الله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} وقد اتفقت جميع الكتب السماوية عليه.
وأما الحس: فقد أرى الله عباده إحياء الموتى في هذه الدنيا، وفي سورة البقرة خمسة أمثلة على ذلك وهي:
المثال الأول: قوم موسى حين قالوا له: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} فأماتهم الله تعالى، ثم أحياهم وفي ذلك يقول الله تعالى مخاطبا بني إسرائيل: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .
المثال الثاني: في قصة القتيل الذي اختصم فيه بنو إسرائيل، فأمرهم الله تعالى أن يذبحوا بقرة فيضربوه ببعضها ليخبرهم بمن قتله، وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} .(6/103)
المثال الثالث: في قصة القوم الذين خرجوا من ديارهم فرارا من الموت وهم ألوف فأماتهم الله تعالى، ثم أحياهم وفي ذلك يقول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} .
المثال الرابع: في قصة الذي مر على قرية ميتة فاستبعد أن يحييها الله تعالى، فأماته الله تعالى مائة سنة، ثم أحياه، وفي ذلك يقول الله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
المثال الخامس: في قصة إبراهيم الخليل حين سأل الله تعالى أن يريه كيف يحيي الموتى؟ فأمره الله تعالى أن يذبح أربعة من الطير، ويفرقهن أجزاء على الجبال التي حوله، ثم يناديهن فتلتئم الأجزاء بعضها إلى بعض، ويأتين إلى إبراهيم سعيا، وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .(6/104)
فهذه أمثلة حسية واقعية تدل على إمكانية إحياء الموتى، وقد سبقت الإشارة إلى ما جعله الله تعالى من آيات عيسى ابن مريم من إحياء الموتى وإخراجهم من قبورهم بإذن الله تعالى.
وأما دلالة العقل فمن وجهين:
أحدهما: أن الله تعالى فاطر السماوات والأرض وما فيهما، خالقهما ابتداء، والقادر على ابتداء الخلق لا يعجز عن إعادته، قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} وقال تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} .
وقال آمرا بالرد على من أنكر إحياء العظام وهي رميم: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} .
الثاني: أن الأرض تكون ميتة هامدة ليس فيها شجرة خضراء، فينزل عليها المطر فتهتز خضراء حية فيها من كل زوج بهيج، والقادر على إحيائها بعد موتها، قادر على إحياء الأموات. قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، وقال تعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} .(6/105)
وقد ضل قوم من أهل الزيغ فأنكروا عذاب القبر، ونعيمه، زاعمين أن ذلك غير ممكن لمخالفة الواقع، قالوا: فإنه لو كشف عن الميت في قبره لوجد كما كان عليه، والقبر لم يتغير بسعة ولا ضيق.
وهذا الزعم باطل بالشرع، والحس، والعقل:
أما الشرع: فقد سبقت النصوص الدالة على ثبوت عذاب القبر، ونعيمه في فقرة (ب) مما يلتحق بالإيمان باليوم الآخر. (1)
وفي صحيح البخاري - من حديث - ابن عباس رضي الله عنهما قال «: "خرج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بعض حيطان المدينة، فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما» وذكر الحديث، وفيه: "أن أحدهما كان لا يستتر من البول" وفي رواية: " من (بوله) وأن الآخر كان يمشي بالنميمة".
وأما الحس: فإن النائم يرى في منامه أنه كان في مكان فسيح بهيج يتنعم فيه، أو أنه كان في مكان ضيق موحش يتألم منه، وربما يستيقظ أحيانا مما رأى، ومع ذلك فهو على فراشه في حجرته على ما هو عليه، والنوم أخو الموت ولهذا سماه الله تعالى " وفاة " قال الله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} .
وأما العقل: فإن النائم في منامه يرى الرؤيا الحق المطابقة للواقع، وربما رأى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على صفته، ومن رآه على صفته فقد رآه حقا،
__________
(1) انظر: ص 103(6/106)
ومع ذلك فالنائم في حجرته على فراشه بعيدا عما رأى، فإذا كان هذا ممكنا في أحوال الدنيا، أفلا يكون ممكنا في أحوال الآخرة؟!
وأما اعتمادهم فيما زعموه على أنه لو كشف عن الميت في قبره لوجد كما كان عليه، والقبر لم يتغير بسعة ولا ضيق، فجوابه من وجوه منها:
الأول: أنه لا تجوز معارضة ما جاء به الشرع بمثل هذه الشبهات الداحضة التي لو تأمل المعارض بها ما جاء به الشرع حق التأمل لعلم بطلان هذه الشبهات وقد قيل:
وكم من عائب قولا صحيحا ... وآفته من الفهم السقيم
الثاني: أن أحوال البرزخ من أمور الغيب التي لا يدركها الحس، ولو كانت تدرك بالحس لفاتت فائدة الإيمان بالغيب، ولتساوى المؤمنون بالغيب، والجاحدون في التصديق بها.
الثالث: أن العذاب والنعيم وسعة القبر وضيقه إنما يدركها الميت دون غيره، وهذا كما يرى النائم في منامه أنه في مكان ضيق موحش، أو في مكان واسع بهيج، وهو بالنسبة لغيره لم يتغير منامه هو في حجرته وبين فراشه وغطائه. ولقد كان النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يوحى إليه وهو بين أصحابه فيسمع الوحي، ولا يسمعه الصحابة، وربما يتمثل له الملك رجلا فيكلمه والصحابة لا يرون الملك، ولا يسمعونه.
الرابع: أن إدراك الخلق محدود بما مكنهم الله تعالى من إدراكه، ولا يمكن أن يدركوا كل موجود، فالسماوات السبع والأرض ومن فيهن(6/107)
وكل شيء يسبح بحمد الله تسبيحا حقيقيا يسمعه الله تعالى من شاء من خلقه أحيانا. ومع ذلك هو محجوب عنا، وفي ذلك يقول الله تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} وهكذا الشياطين، والجن، يسعون في الأرض ذهابا وإيابا، وقد حضرت الجن إلى رسول الله (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) واستمعوا لقراءته وأنصتوا وولوا إلى قومهم منذرين. ومع هذا فهم محجوبون عنا، وفي ذلك يقول الله تعالى: {يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} وإذا كان الخلق لا يدركون كل موجود، فإنه لا يجوز أن ينكروا ما ثبت من أمور الغيب، ولم يدركوه.(6/108)
وتؤمن بالقدر خيره وشره (1) والدليل على هذه الأركان الستة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) القدر بفتح الدال: "تقدير الله تعالى للكائنات، حسبما سبق به علمه، واقتضته حكمته".
والإيمان بالقدر يتضمن أربعة أمور:
الأول: الإيمان بأن الله تعالى علم بكل شيء جملة وتفصيلا، أزلا وأبدا، سواء كان ذلك مما يتعلق بأفعاله أو بأفعال عباده.
الثاني:الإيمان بأن الله كتب ذلك في اللوح المحفوظ، وفي هذين الأمرين يقول الله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} .
وفي صحيح مسلم - عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة» .
الثالث: الإيمان بأن جميع الكائنات لا تكون إلا بمشيئة الله تعالى، سواء كانت مما يتعلق بفعله أم مما يتعلق بفعل المخلوقين، قال الله تعالى فيما يتعلق بفعله: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} ، وقال: {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} وقال: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} وقال تعالى فيما يتعلق بفعل المخلوقين: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ} وقال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} .
الرابع: الإيمان بأن جميع الكائنات مخلوقة لله تعالى بذواتها، وصفاتها، وحركاتها، قال الله تعالى:(6/109)
قوله تعالى:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} وقال: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} .
وقال عن نبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه قال لقومه: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} .
والإيمان بالقدر على ما وصفنا لا ينافي أن يكون للعبد مشيئة في أفعاله الاختيارية وقدرة عليها، لأن الشرع والواقع دالان على إثبات ذلك له.
أما الشرع: فقد قال الله تعالى في المشيئة: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا} وقال: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} وقال في القدرة: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} وقال: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} .
وأما الواقع: فإن كل إنسان يعلم أن له مشيئة وقدرة بهما يفعل وبهما يترك، ويفرق بين ما يقع بإرادته كالمشي، وما يقع بغير إرادته كالارتعاش، لكن مشيئة العبد وقدرته واقعتان بمشيئة الله تعالى، وقدرته لقول الله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ولأن الكون كله ملك لله تعالى فلا يكون في ملكه شيء بدون علمه ومشيئته.
والإيمان بالقدر على ما وصفنا لا يمنح العبد حجة على ما ترك من الواجبات أو فعل من المعاصي، وعلى هذا فاحتجاجه به باطل من وجوه:
الأول: قوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ}(6/110)
{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ولو كان لهم حجة بالقدر ما أذاقهم الله بأسه.
الثاني: قوله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} ولو كان القدر حجة للمخالفين لم تنتف بإرسال الرسل، لأن المخالفة بعد إرسالهم واقعة بقدر الله تعالى.
الثالث: ما رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قال: «ما منكم من أحد إلا قد كتب مقعده من النار أو من الجنة. فقال رجل من القوم: ألا نتكل يا رسول الله؟ قال: لا، اعملوا فكل ميسر، ثم قرأ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} (1) الآية» . وفي لفظ لمسلم: «فكل ميسر لما خلق له» (2) فأمر النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بالعمل ونهى عن الاتكال على القدر.
الرابع: أن الله تعالى أمر العبد ونهاه، ولم يكلفه إلا ما يستطيع، قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وقال: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} ولو كان العبد مجبرا على الفعل لكان مكلفا بما لا يستطيع الخلاص منه، وهذا باطل ولذلك إذا وقعت منه المعصية بجهل، أو نسيان، أو إكراه، فلا إثم عليه لأنه معذور.
الخامس: أن قدر الله تعالى سر مكتوم لا يُعلم به إلا بعد وقوع المقدور، وإرادة العبد لما يفعله سابقة على فعله فتكون إرادته الفعل(6/111)
ودليل القدر قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}
ـــــــــــــــــــــــــــــ
غير مبنية على علم منه بقدر الله، وحينئذ تنتفي حجته بالقدر إذ لا حجة للمرء فيما لا يعلمه.
السادس: أننا نرى الإنسان يحرص على ما يلائمه من أمور دنياه حتى يدركه ولا يعدل عنه إلى ما لا يلائمه ثم يحتج على عدوله بالقدر، فلماذا يعدل عما ينفعه في أمور دينه إلى ما يضره ثم يحتج بالقدر؟ أفليس شأن الأمرين واحدا؟
وإليك مثالا يوضح ذلك: لو كان بين يدي الإنسان طريقان أحدهما ينتهي به إلى بلد كلها فوضى، وقتل ونهب، وانتهاك للأعراض، وخوف، وجوع، والثاني ينتهي به إلى بلد كلها نظام، وأمن مستتب، وعيش رغيد، واحترام للنفوس والأعراض والأموال، فأي الطريقين يسلك؟ إنه سيسلك الطريق الثاني الذي ينتهي به إلى بلد النظام والأمن، ولا يمكن لأي عاقل أبدا أن يسلك طريق بلد الفوضى، والخوف، ويحتج بالقدر، فلماذا يسلك في أمر الآخرة طريق النار دون الجنة ويحتج بالقدر؟! مثال آخر: نرى المريض يؤمر بالدواء فيشربه ونفسه لا تشتهيه، وينهى عن الطعام الذي يضره فيتركه ونفسه تشتهيه، كل ذلك طلبا للشفاء والسلامة، ولا يمكن أن يمتنع عن شرب الدواء أو يأكل الطعام الذي يضره ويحتج بالقدر فلماذا يترك الإنسان ما أمر به الله ورسوله، أو يفعل ما نهى الله ورسوله عنه ثم يحتج بالقدر؟!(6/112)
السابع: أن المحتج بالقدر على ما تركه من الواجبات أو فعله من المعاصي، لو اعتدى عليه شخص فأخذ ماله أو انتهك حرمته ثم احتج بالقدر، وقال: لا تلمني فإن اعتدائي كان بقدر الله، لم يقبل حجته. فكيف لا يقبل الاحتجاج بالقدر في اعتداء غيره عليه، ويحتج به لنفسه في اعتدائه على حق الله تعالى؟!
ويذكر أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه رفع إليه سارق استحق القطع، فأمر بقطع يده فقال: مهلا يا أمير المؤمنين، فإنما سرقت بقدر الله. فقال عمر: ونحن إنما نقطع بقدر الله.
وللإيمان بالقدر ثمرات جليلة منها:
الأولى: الاعتماد على الله تعالى، عند فعل الأسباب بحيث لا يعتمد على السبب نفسه لأن كل شيء بقدر الله تعالى.
الثانية: أن لا يعجب المرء بنفسه عند حصول مراده، لأن حصوله نعمة من الله تعالى، بما قدره من أسباب الخير، والنجاح، وإعجابه بنفسه ينسيه شكر هذه النعمة.
الثالثة: الطمأنينة، والراحة النفسية بما يجري عليه من أقدار الله تعالى فلا يقلق بفوات محبوب، أو حصول مكروه، لأن ذلك بقدر الله الذي له ملك السماوات والأرض، وهو كائن لا محالة وفي ذلك يقول الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}(6/113)
ويقول النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : «عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له» (1) رواه مسلم.
وقد ضل في القدر طائفتان:
إحداهما: الجبرية الذين قالوا: إن العبد مجبر على عمله وليس له فيه إرادة ولا قدرة.
الثانية: القدرية الذين قالوا إن العبد مستقل بعمله في الإرادة والقدرة، وليس لمشيئة الله تعالى وقدرته فيه أثر.
والرد على الطائفة الأولى (الجبرية) بالشرع والواقع:
أما الشرع: فإن الله تعالى أثبت للعبد إرادة ومشيئة، وأضاف العمل إليه قال الله تعالى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} وقال: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} } الآية. وقال: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} .
وأما الواقع: فإن كل إنسان يعلم الفرق بين أفعاله الاختيارية التي يفعلها بإرادته كالأكل، والشرب، والبيع والشراء، وبين ما يقع عليه بغير إرادته كالارتعاش من الحمى، والسقوط من السطح، فهو في الأول فاعل مختار بإرادته من غير جبر، وفي الثاني غير مختار ولا مريد لما(6/114)
وقع عليه.
والرد على الطائفة الثانية (القدرية) بالشرع والعقل:
أما الشرع: فإن الله تعالى خالق كل شيء، وكل شيء كائن بمشيئته، وقد بين الله تعالى في كتابه أن أفعال العباد تقع بمشيئته فقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} وقال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} .
وأما العقل: فإن الكون كله مملوك لله تعالى، والإنسان من هذا الكون فهو مملوك لله تعالى، ولا يمكن للمملوك أن يتصرف في ملك المالك إلا بإذنه ومشيئته. 101(6/115)
المرتبة الثالثة: الإحسان، ركن واحد وهو " أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" والدليل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} ، وقوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} وقوله: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} الآية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الإحسان ضد الإساءة وهو أن يبذل الإنسان المعروف ويكف الأذى فيبذل المعروف لعباد الله في ماله، وجاهه، وعلمه، وبدنه.
فأما المال فأن ينفق ويتصدق ويزكي وأفضل أنواع الإحسان بالمال الزكاة، لأن الزكاة أحد أركان الإسلام، ومبانيه العظام، ولا يتم إسلام المرء إلا بها، وهي أحب النفقات إلى الله عز وجل ويلي ذلك، ما يجب على الإنسان من نفقة لزوجته، وأمه، وأبيه، وذريته، وإخوانه، وبني إخوته، وأخواته، وأعمامه، وعماته، وخالاته إلى آخر هذا، ثم الصدقة على المساكين وغيرهم، ممن هم أهل للصدقة كطلاب العلم مثلا. وأما بذل المعروف في الجاه فهو أن الناس مراتب، منهم من له جاه عند ذوي السلطان فيبذل الإنسان جاهه، يأتيه رجل فيطلب منه الشفاعة إلى ذي سلطان يشفع له عنده، إما بدفع ضرر عنه، أو بجلب خير له.
وأما بعلمه فأن يبذل علمه لعباد الله، تعليما في الحلقات والمجالس العامة والخاصة، حتى لو كنت في مجلس قهوة، فإن من الخير(6/116)
والإحسان أن تعلم الناس، ولو كنت في مجلس عام فمن الخير أن تعلم الناس، ولكن استعمل الحكمة في هذا الباب، فلا تثقل على الناس حيث كلما جلست في مجلس جعلت تعظهم وتتحدث إليهم، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يتخولهم بالموعظة، ولا يكثر، لأن النفوس تسأم وتمل فإذا ملت كلت وضعفت، وربما تكره الخير لكثرة من يقوم ويتكلم.
وأما الإحسان إلى الناس بالبدن فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: «وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها، أو ترفع له عليها متاعه صدقة» . فهذا رجل تعينه تحمل متاعه معه، أو تدله على طريق أو ما أشبه ذلك فكل ذلك من الإحسان، هذا بالنسبة للإحسان إلى عباد الله.
وأما بالنسبة للإحسان في عبادة الله: فأن تعبد الله كأنك تراه، كما قال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهذه العبادة أي عبادة الإنسان ربه كأنه يراه عبادة طلب وشوق، وعبادة الطلب والشوق يجد الإنسان من نفسه حاثا عليها، لأنه يطلب هذا الذي يحبه، فهو يعبده كأنه يراه، فيقصده وينيب إليه ويتقرب إليه سبحانه وتعالى «فإن لم تكن تراه فإنه يراك» ، وهذه عبادة الهرب والخوف، ولهذا كانت هذه المرتبة ثانية في الإحسان، إذا لم تكن تعبد الله عز وجل كأنك تراه وتطلبه، وتحث النفس للوصول إليه فاعبده كأنه هو الذي يراك، فتعبده عبادة خائف منه، هارب من(6/117)
عذابه وعقابه، وهذه الدرجة عند أرباب السلوك أدنى من الدرجة الأولى.
وعبادة الله سبحانه وتعالى هي كما قال ابن القيم - رحمه الله -:
وعبادة الرحمن غاية حبه ... مع ذل عابده هما ركنان
، فالعبادة مبنية على هذين الأمرين: غاية الحب، وغاية الذل، ففي الحب الطلب، وفي الذل الخوف والهرب، فهذا هو الإحسان في عبادة الله عز وجل وإذا كان الإنسان يعبد الله على هذا الوجه، فإنه سوف يكون مخلصا لله عز وجل لا يريد بعبادته رياء ولا سمعة، ولا مدحا عند الناس، وسواء اطلع الناس عليه أم لم يطلعوا، الكل عنده سواء، وهو محسن العبادة على كل حال، بل إن من تمام الإخلاص أن يحرص الإنسان على ألا يراه الناس في عبادته، وأن تكون عبادته مع ربه سرا، إلا إذا كان في إعلان ذلك مصلحة للمسلمين أو للإسلام، مثل أن يكون رجلا متبوعا يقتدى به، وأحب أن يبين عبادته للناس ليأخذوا من ذلك نبراسا يسيرون عليه، أو كان هو يحب أن يظهر العبادة ليقتدى بها زملاؤه وقرناؤه وأصحابه ففي هذا خير، وهذه المصلحة التي يلتفت إليها قد تكون أفضل وأعلى من مصلحة الإخفاء، لهذا يثني الله عز وجل على الذين ينفقون أموالهم سرّا وعلانية، فإذا كان السر أصلح وأنفع للقلب وأخشع وأشد إنابة إلى الله أسروا، وإذا كان(6/118)
في الإعلان مصلحة للإسلام بظهور شرائعه، وللمسلمين يقتدون بهذا الفاعل وهذا العامل أعلنوه.
والمؤمن ينظر ما هو الأصلح، كلٌّ ما كان أصلح، وأنفع في العبادة فهو أكمل وأفضل.(6/119)
والدليل من السنة: حديث جبرائيل المشهور «عن عمر رضي الله عنه قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا" قال: صدقت، فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: "أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره"، قال: صدقت، قال: فأخبرني عن الإحسان، قال: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"، قال: فأخبرني عن الساعة، قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، قال: فأخبرني عن أماراتها، قال: "أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان" قال: فمضى فلبثنا مليا فقال: "يا عمر أتدري من السائل"؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم" (1) .»
__________
(1) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب الإيمان والإسلام، وغالب هذا الحديث تقدم شرحه ولنا شرح عليه في مجموع الفتاوى والرسائل 3/143.(6/120)
الأصل الثالث (1) : معرفة نبيكم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم وهاشم من قريش، وقريش من العرب، والعرب من ذرية إسماعيل بن إبراهيم الخليل، عليه وعلى نبينا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أي من الأصول الثلاثة التي يجب على الإنسان معرفتها وهي معرفة العبد ربه، ودينه، ونبيه.
وقد سبق الكلام على معرفة العبد ربه ودينه.
وأما معرفة النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فتتضمن خمسة أمور:
الأول: معرفته نسبا فهو أشرف الناس نسبا فهو هاشمي قرشي عربي فهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم إلى آخر ما قاله الشيخ رحمه الله.
الثاني: معرفة سنه، ومكان ولادته، ومهاجره وقد بينها الشيخ بقوله: "وله من العمر ثلاث وستون سنة، وبلده مكة، وهاجر إلى المدينة" فقد ولد بمكة وبقي فيها ثلاثا وخمسين سنة، ثم هاجر إلى المدينة فبقي فيها عشر سنين، ثم توفي فيها في ربيع الأول سنة إحدى عشرة بعد الهجرة.
الثالث: معرفة حياته النبوية وهي ثلاث وعشرون سنة فقد أوحي إليه وله أربعون سنة كما قال أحد شعرائه:
وأتت عليه أربعون فأشرقت ... شمس النبوة منه في رمضان
الرابع: بماذا كان نبيا ورسولا؟ فقد كان نبيا حين نزل عليه قول الله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ}(6/121)
أفضل الصلاة والسلام. وله من العمر: ثلاث وستون سنة، منها أربعون قبل النبوة، وثلاث وعشرون نبيا ورسولا، نبئ باقرأ وأرسل بالمدثر، وبلده مكة، وهاجر إلى المدينة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
{الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} ، ثم كان رسولا حين نزل عليه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} ، فقام صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأنذر وقام بأمر الله عز وجل.
والفرق بين الرسول والنبي كما يقول أهل العلم: إن النبي هو من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه، والرسول من أوحى الله إليه بشرع وأمر بتبليغه والعمل به فكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولا.
الخامس: بماذا أرسل ولماذا؟ فقد أرسل بتوحيد الله تعالى وشريعته المتضمنة لفعل المأمور وترك المحظور، وأرسل رحمة للعالمين لإخراجهم من ظلمة الشرك والكفر والجهل إلى نور العلم والإيمان والتوحيد حتى ينالوا بذلك مغفرة الله ورضوانه وينجوا من عقابه وسخطه.(6/122)
بعثه الله بالنذارة عن الشرك، ويدعو إلى التوحيد (1) . والدليل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} (2) {قُمْ فَأَنْذِرْ} (3) {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} ومعنى {قُمْ فَأَنْذِرْ} : ينذر عن الشرك ويدعو إلى التوحيد. {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} أي:عظمه بالتوحيد، {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} أي: طهر أعمالك عن الشرك. {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} الرجز: الأصنام وهجرها تركها، والبراءة منها وأهلها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أي ينذرهم عن الشرك، ويدعوهم إلى توحيد الله عز وجل في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته.
(2) النداء لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(3) يأمر الله عز وجل نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقوم بجد ونشاط، وينذر الناس عن الشرك ويحذرهم منه، وقد فسر الشيخ هذه الآيات.(6/123)
أخذ على هذا عشر سنين يدعو إلى التوحيد (1) وبعد العشر عرج به إلى السماء (2)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أي إن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بقي عشر سنين يدعو إلى توحيد الله عز وجل وإفراده بالعبادة سبحانه وتعالى.
(2) العروج الصعود، ومنه قوله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} وهو من خصائص النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العظيمة التي فضله الله بها قبل أن يهاجر من مكة، فبينما هو نائم في الحجر في الكعبة أتاه آت فشق ما بين ثغرة نحره إلى أسفل بطنه ثم استخرج قلبه فملأه حكمة وإيمانا تهيئة لما سيقوم به ثم أتي بدابة بيضاء دون البغل وفوق الحمار يقال لها: البراق يضع خطوه عند منتهى طرفه فركبه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبصحبته جبريل الأمين حتى وصل بيت المقدس فنزل هناك وصلى بالأنبياء إماما، بكل الأنبياء والمرسلين يصلون خلفه ليتبين بذلك فضل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشرفه وأنه الإمام المتبوع، ثم عرج به جبريل إلى السماء الدنيا فاستفتح فقيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبا به فنعم المجيء جاء ففتح له فوجد فيها آدم فقال جبريل: هذا أبوك آدم فسلم عليه، فسلم عليه فرد عليه السلام، وقال: مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح، وإذا على يمين آدم أرواح السعداء وعلى يساره أرواح الأشقياء من ذريته فإذا نظر إلى اليمين سر وضحك وإذا نظر قبل شماله بكى، ثم عرج به جبريل إلى السماء الثانية فاستفتح. . إلخ. فوجد فيها يحيى وعيسى(6/124)
عليهما الصلاة والسلام وهما ابنا الخالة كل واحد منهما ابن خالة الآخر فقال جبريل: هذان يحيى وعيسى فسلم عليهما، فسلم عليهما فردا السلام وقالا: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم عرج به جبريل إلى السماء الثالثة فاستفتح. . . إلخ. فوجد فيها يوسف عليه الصلاة والسلام فقال جبريل: هذا يوسف فسلم عليه فسلم عليه، فرد السلام، وقال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم عرج به جبريل إلى السماء الرابعة فاستفتح. . إلخ فوجد فيها إدريس صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال جبريل: هذا إدريس فسلم عليه فسلم عليه فرد السلام، وقال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح ثم عرج به جبريل إلى السماء الخامسة فاستفتح. . . .إلخ. فوجد فيها هارون بن عمران أخا موسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال جبريل: هذا هارون فسلم عليه، فسلم عليه فرد عليه السلام وقال: مرحبا بالأخ الصالح، والنبي الصالح ثم عرج به جبريل إلى السماء السادسة فاستفتح. . . . إلخ. فوجد فيها موسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال جبريل: هذا موسى فسلم عليه، فسلم عليه فرد عليه السلام وقال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح فلما تجاوزه بكى موسى فقيل له: ما يبكيك قال: "أبكي لأن غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي" فكان بكاء موسى حزنا على ما فات أمته من الفضائل لا حسدا لأمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم عرج به جبريل إلى السماء السابعة فاستفتح ... إلخ. فوجد فيها إبراهيم خليل الرحمن صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(6/125)
فقال جبريل: هذا أبوك إبراهيم فسلم عليه، فسلم عليه فرد عليه السلام وقال: مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح. وإنما طاف جبريل برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، على هؤلاء الأنبياء تكريما له وإظهارا لشرفه وفضله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان إبراهيم الخليل مسندا ظهره إلى البيت المعمور في السماء السابعة الذي يدخله كل يوم سبعون ألفا من الملائكة يتعبدون ويصلون ثم يخرجون ولا يعودون، في اليوم الثاني يأتي غيرهم من الملائكة الذين لا يحصيهم إلا الله، ثم رفع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى سدرة المنتهى فغشيها من أمر الله من البهاء والحسن ما غشيها حتى لا يستطيع أحد أن يصفها من حسنها، ثم فرض الله عليه الصلاة خمسين صلاة كل يوم وليلة فرضي بذلك وسلم ثم نزل فلما مر بموسى قال: ما فرض ربك على أمتك؟ قال: خمسين صلاة في كل يوم. فقال: إن أمتك لا تطيق ذلك وقد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك. قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فرجعت فوضع عني عشرا وما زال يراجع ربه حتى استقرت الفريضة على خمس، فنادى مناد أمضيت فريضتي وخففت على عبادي. وفي هذه الليلة أدخل النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الجنة فإذا فيها قباب اللؤلؤ وإذا ترابها المسك ثم نزل رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتى أتى مكة بغلس وصلى فيها الصبح.(6/126)
وفرضت عليه الصلوات الخمس، وصلى في مكة ثلاث سنين (1) وبعدها أمر بالهجرة (2)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وكان يصلي الرباعية ركعتين حتى هاجر إلى المدينة فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر.
(2) أمر الله عز وجل نبيه محمدا، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ب الهجرة إلى المدينة لأن أهل مكة منعوه أن يقيم دعوته، وفي شهر ربيع الأول من العام الثالث عشر من البعثة وصل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة مهاجرا من مكة البلد الأول للوحي وأحب البلاد إلى الله ورسوله، خرج من مكة مهاجرا بإذن ربه بعد أن قام بمكة ثلاث عشرة سنة يبلغ رسالة ربه ويدعو إليه على بصيرة فلم يجد من أكثر قريش وأكابرهم سوى الرفض لدعوته والإعراض عنها، والإيذاء الشديد للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن آمن به حتى آل الأمر بهم إلى تنفيذ خطة المكر والخداع لقتل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث اجتمع كبراؤهم في دار الندوة وتشاوروا ماذا يفعلون برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين رأوا أصحابه يهاجرون إلى المدينة وأنه لا بد أن يلحق بهم ويجد النصرة والعون من الأنصار الذين بايعوه على أن يمنعوه مما يمنعون منه أبناءهم ونساءهم وحينئذ تكون له الدولة على قريش، فقال عدو الله أبو جهل: الرأي أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابا جلدا، ثم نعطي كل واحد سيفا صارما ثم يعمدوا إلى محمد فيضربوه ضربة رجل واحد فيقتلوه ونستريح منه فيتفرق دمه في القبائل فلا يستطيع بنو عبد مناف -يعني عشيرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يحاربوا قومهم جميعا، فيرضون بالدية فنعطيهم(6/127)
(1) = إياها. ............................................... فأعلم الله نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما أراد المشركون وأذن له بالهجرة وكان أبو بكر - رضي الله عنه - قد تجهز من قبل للهجرة إلى المدينة فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي، فتأخر أبو بكر - رضي الله عنه - ليصحب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالت عائشة - رضي الله عنها -: فبينما نحن في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة في منتصف النهار إذا برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الباب متقنعا فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر فدخل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال لأبي بكر: أخرج من عندك. فقال: إنما هم أهلك بأبي أنت وأمي. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قد أذن لي في الخروج فقال أبو بكر:الصحبة يا رسول الله. قال: نعم. فقال: يا رسول الله فخذ إحدى راحلتي هاتين. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بالثمن، ثم خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر فأقاما في غار جبل ثور ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر، وكان غلاما شابا ذكيا واعيا فينطلق في آخر الليل إلى مكة فيصبح من قريش، فلا يسمع بخبر حول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصاحبه إلا وعاه حتى يأتي به إليهما حين يختلط الظلام، فجعلت قريش تطلب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من كل وجه، وتسعى بكل وسيلة ليدركوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى جعلوا لمن يأتي بهما أو بأحدهما ديته مئة من الإبل، ولكن الله كان معهما يحفظهما بعنايته ويرعاهما برعايته حتى إن قريشا ليقفون على باب الغار فلا يرونهما.
قال أبو بكر - رضي الله عنه - قلت للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن في الغار: لو(6/128)
أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا. فقال: «" لا تحزن إن الله معنا، ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما» . حتى إذا سكن الطلب عنهما قليلا خرجا من الغار بعد ثلاث ليال متجهين إلى المدينة على طريق الساحل.
ولما سمع أهل المدينة من المهاجرين والأنصار بخروج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إليهم كانوا يخرجون صباح كل يوم إلى الحرة ينتظرون قدوم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصحبه حتى يطردهم حر الشمس، فلما كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتعالى النهار واشتد الحر رجعوا إلى بيوتهم وإذا رجل من اليهود على أطم من آطام المدينة ينظر لحاجة له فأبصر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه مقبلين يزول بهم السراب، فلم يملك أن نادى بأعلى صوته يا معشر العرب هذا جدكم، يعني هذا حظكم وعزكم الذي تنتظرون فهب المسلمون للقاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معهم السلاح تعظيما وإجلالا لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإيذانا باستعدادهم للجهاد والدفاع دونه - رضي الله عنهم -، فتلقوه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بظاهر الحرة فعدل بهم ذات اليمين، ونزل في بني عمرو بن عوف في قباء، وأقام فيهم بضع ليال وأسس المسجد، ثم ارتحل إلى المدينة والناس معه وآخرون يتلقونه في الطرقات.
قال أبو بكر - رضي الله عنه -: خرج الناس حين قدمنا المدينة في الطرق وعلى البيوت والغلمان والخدم يقولون: الله أكبر جاء رسول الله، الله أكبر جاء محمد.(6/129)
والهجرة: الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام (1) والهجرة فريضة على هذه الأمة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام (2) ، وهي باقية إلى أن تقوم الساعة. والدليل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} (3) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الهجرة في اللغة: " مأخوذة من الهجر وهو الترك ".
وأما في الشرع فهي كما قال الشيخ: " الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام ". وبلد الشرك هو الذي تقام فيها شعائر الكفر ولا تقام فيه شعائر الإسلام كالأذان والصلاة جماعة، والأعياد، والجمعة على وجه عام شامل، وإنما قلنا على وجه عام شامل ليخرج ما تقام فيه هذه الشعائر على وجه محصور كبلاد الكفار التي فيها أقليات مسلمة، فإنها لا تكون بلاد إسلام بما تقيمه الأقليات المسلمة فيها من شعائر الإسلام، أما بلاد الإسلام فهي البلاد التي تقام فيها هذه الشعائر على وجه عام شامل.
(2) فهي واجبة على كل مؤمن لا يستطيع إظهار دينه في بلد الكفر فلا يتم إسلامه إذا كان لا يستطيع إظهاره إلا بالهجرة، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
(3) في هذه الآية دليل على أن هؤلاء الذين لم يهاجروا مع قدرتهم على(6/130)
وقوله تعالى: {يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} البغوي - رحمه الله تعالى -: سبب نزول هذه الآية في المسلمين الذين بمكة لم يهاجروا؛ ناداهم الله باسم الإيمان (1) . والدليل على الهجرة من السنة قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (*) : «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها» (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الهجرة أن الملائكة تتوفاهم وتوبخهم وتقول لهم: ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها، أما العاجزون عن الهجرة من المستضعفين فقد عفا الله عنهم لعجزهم عن الهجرة ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
(1) الظاهر أن الشيخ رحمه الله نقل هذا عن البغوي بمعناه، هذا إن كان نقله من التفسير إذ ليس المذكور في تفسير البغوي لهذه الآية بهذا اللفظ.
(2) وذلك حين انتهاء العمل الصالح المقبول قال الله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} والمراد ببعض الآيات هنا طلوع الشمس من مغربها.
(تتمة) نذكر هنا حكم السفر إلى بلاد الكفر. فنقول: السفر إلى بلاد الكفار لا يجوز إلا بثلاثة شروط: الشرط الأول: أن يكون عند الإنسان علم يدفع به الشبهات.
الشرط الثاني: أن يكون عنده دين يمنعه من الشهوات.
الشرط الثالث: أن يكون محتاجا إلى ذلك.
فإن لم تتم هذه الشروط فإنه لا يجوز السفر إلى بلاد الكفار لما في ذلك
__________
(*) أخرجه أبو داود، كتاب الجهاد، باب: في الهجرة هل انقطعت. وأحمد جـ1 ص 192. والدارمي، كتاب السير، باب: أن الهجرة لا تنقطع، والهيثمي في "مجمع الزوائد" جـ 5 ص 250، وقال: "روى أبو داود والنسائي بعض حديث معاوية، ورواه أحمد والطبراني في الأوسط والصغير من غير حديث ابن السعدي - ورجال أحمد ثقات -".(6/131)
من الفتنة أو خوف الفتنة وفيه إضاعة المال لأن الإنسان ينفق أموالا كثيرة في هذه الأسفار. أما إذا دعت الحاجة إلى ذلك لعلاج أو تلقي علم لا يوجد في بلده وكان عنده علم ودين على ما وصفنا فهذا لا بأس به.
وأما السفر للسياحة في بلاد الكفار فهذا ليس بحاجة وبإمكانه أن يذهب إلى بلاد إسلامية يحافظ أهلها على شعائر الإسلام، وبلادنا الآن والحمد لله أصبحت بلادا سياحية في بعض المناطق، فبإمكانه أن يذهب إليها ويقضي زمن إجازته فيها.
وأما الإقامة في بلاد الكفار فإن خطرها عظيم على دين المسلم، وأخلاقه، وسلوكه، وآدابه وقد شاهدنا وغيرنا انحراف كثير ممن أقاموا هناك فرجعوا بغير ما ذهبوا به، رجعوا فساقا، وبعضهم رجع مرتدا عن دينه وكافرا به وبسائر الأديان -والعياذ بالله- حتى صاروا إلى الجحود المطلق والاستهزاء بالدين وأهله السابقين منهم واللاحقين، ولهذا كان ينبغي بل يتعين التحفظ من ذلك ووضع الشروط التي تمنع من الهوي في تلك المهالك.
فالإقامة في بلاد الكفر لا بد فيها من شرطين أساسين:
الشرط الأول: أمن المقيم على دينه بحيث يكون عنده من العلم والإيمان، وقوة العزيمة ما يطمئنه على الثبات على دينه والحذر من الانحراف والزيغ، وأن يكون مضمرا لعداوة الكافرين وبغضهم مبتعدا(6/132)
عن موالاتهم ومحبتهم، فإن موالاتهم ومحبتهم مما ينافي الإيمان، قال الله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} الآية. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} وثبت في الصحيح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أن من أحب قوما فهو منهم، وأن المرء مع من أحب» .
ومحبة أعداء الله من أعظم ما يكون خطرا على المسلم لأن محبتهم تستلزم موافقتهم واتباعهم، أو على الأقل عدم الإنكار عليهم ولذلك قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «" من أحب قوما فهو منهم» .
الشرط الثاني: أن يتمكن من إظهار دينه بحيث يقوم بشعائر الإسلام بدون ممانع، فلا يمنع من إقامة الصلاة والجمعة والجماعات إن كان معه من يصلي جماعة ومن يقيم الجمعة، ولا يمنع من الزكاة والصيام والحج وغيرها من شعائر الدين، فإن كان لا يتمكن من ذلك لم تجز الإقامة لوجوب الهجرة حينئذ، قال في المغني ص 457 جـ 8 في الكلام(6/133)
على أقسام الناس في الهجرة: أحدها من تجب عليه وهو من يقدر عليها ولا يمكنه إظهار دينه، ولا تمكنه إقامة واجبات دينه مع المقام بين الكفار فهذا تجب عليه الهجرة لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} . وهذا وعيد شديد يدل على الوجوب، ولأن القيام بواجب دينه واجب على من قدر عليه، والهجرة من ضرورة الواجب وتتمته، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. اهـ.
وبعد تمام هذين الشرطين الأساسيين تنقسم الإقامة في دار الكفر إلى أقسام:
القسم الأول: أن يقيم للدعوة إلى الإسلام والترغيب فيه، فهذا نوع من الجهاد فهي فرض كفاية على من قدر عليها، بشرط أن تتحقق الدعوة وأن لا يوجد من يمنع منها أو من الاستجابة إليها، لأن الدعوة إلى الإسلام من واجبات الدين وهي طريقة المرسلين وقد أمر النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بالتبليغ عنه في كل زمان ومكان فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «"بلغوا عني ولو آية» (1) .
القسم الثاني: أن يقيم لدراسة أحوال الكافرين والتعرف على ما هم(6/134)
عليه من فساد العقيدة، وبطلان التعبد، وانحلال الأخلاق، وفوضوية السلوك؛ ليحذر الناس من الاغترار بهم، ويبين للمعجبين بهم حقيقة حالهم، وهذه الإقامة نوع من الجهاد أيضا لما يترتب عليها من التحذير من الكفر وأهله المتضمن للترغيب في الإسلام وهديه، لأن فساد الكفر دليل على صلاح الإسلام، كما قيل: وبضدها تتبين الأشياء.
لكن لا بد من شرط أن يتحقق مراده بدون مفسدة أعظم منه، فإن لم يتحقق مراده بأن منع من نشر ما هم عليه والتحذير منه فلا فائدة من إقامته، وإن تحقق مراده مع مفسدة أعظم مثل أن يقابلوا فعله بسب الإسلام ورسول الإسلام وأئمة الإسلام وجب الكف لقوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
ويشبه هذا أن يقيم في بلاد الكفر ليكون عينا للمسلمين؛ ليعرف ما يدبرونه للمسلمين من المكايد فيحذرهم المسلمون، كما أرسل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حذيفة بن اليمان إلى المشركين في غزوة الخندق ليعرف خبرهم.
القسم الثالث: أن يقيم لحاجة الدولة المسلمة وتنظيم علاقاتها مع دولة الكفر كموظفي السفارات فحكمها حكم ما أقام من أجله. فالملحق الثقافي مثلا يقيم ليرعى شؤون الطلبة ويراقبهم ويحملهم على التزام(6/135)
دين الإسلام وأخلاقه وآدابه، فيحصل بإقامته مصلحة كبيرة ويندرئ بها شر كبير.
القسم الرابع: أن يقيم لحاجة خاصة مباحة كالتجارة والعلاج فتباح الإقامة بقدر الحاجة، وقد نص أهل العلم رحمهم الله على جواز دخول بلاد الكفار للتجارة وأثروا ذلك عن بعض الصحابة رضي الله عنهم.
القسم الخامس: أن يقيم للدراسة وهي من جنس ما قبلها إقامة لحاجة لكنها أخطر منها وأشد فتكا بدين المقيم وأخلاقه، فإن الطالب يشعر بدنو مرتبته وعلو مرتبة معلميه، فيحصل من ذلك تعظيمهم والاقتناع بآرائهم وأفكارهم وسلوكهم فيقلدهم إلا من شاء الله عصمته وهم قليل، ثم إن الطالب يشعر بحاجته إلى معلمه فيؤدي ذلك إلى التودد إليه ومداهنته فيما هو عليه من الانحراف والضلال. والطالب في مقر تعلمه له زملاء يتخذ منهم أصدقاء يحبهم ويتولاهم ويكتسب منهم، ومن أجل خطر هذا القسم وجب التحفظ فيه أكثر مما قبله فيشترط فيه بالإضافة إلى الشرطين الأساسيين شروط:
الشرط الأول: أن يكون الطالب على مستوى كبير من النضوج العقلي الذي يميز به بين النافع والضار وينظر به إلى المستقبل البعيد، فأما بعث الأحداث "صغار السن" وذوي العقول الصغيرة فهو خطر عظيم على دينهم، وخلقهم، وسلوكهم، ثم هو خطر على أمتهم التي سيرجعون(6/136)
إليها وينفثون فيها من السموم التي نهلوها من أولئك الكفار كما شهد ويشهد به الواقع، فإن كثيرا من أولئكم المبعوثين رجعوا بغير ما ذهبوا به، رجعوا منحرفين في دياناتهم، وأخلاقهم، وسلوكهم، وحصل عليهم وعلى مجتمعهم من الضرر في هذه الأمور ما هو معلوم مشاهد، وما مثل بعث هؤلاء إلا كمثل تقديم النعاج للكلاب الضارية.
الشرط الثاني: أن يكون عند الطالب من علم الشريعة ما يتمكن به من التمييز بين الحق والباطل، ومقارعة الباطل بالحق لئلا ينخدع بما هم عليه من الباطل فيظنه حقا أو يلتبس عليه أو يعجز عن دفعه فيبقى حيران أو يتبع الباطل.
وفي الدعاء المأثور «اللهم أرني الحق حقا وارزقني اتباعه، وأرني الباطل باطلا وارزقني اجتنابه، ولا تجعله ملتبسا علي فأضل» .
الشرط الثالث: أن يكون عند الطالب دين يحميه ويتحصن به من الكفر والفسوق، فضعيف الدين لا يسلم مع الإقامة هناك إلا أن يشاء الله وذلك لقوة المهاجم وضعف المقاوم، فأسباب الكفر والفسوق هناك قوية وكثيرة متنوعة فإذا صادفت محلا ضعيف المقاومة عملت عملها.
الشرط الرابع: أن تدعو الحاجة إلى العلم الذي أقام من أجله بأن يكون في تعلمه مصلحة للمسلمين ولا يوجد له نظير في المدارس في بلادهم، فإن كان من فضول العلم الذي لا مصلحة فيه للمسلمين(6/137)
أو كان في البلاد الإسلامية من المدارس نظيره لم يجز أن يقيم في بلاد الكفر من أجله لما في الإقامة من الخطر على الدين والأخلاق، وإضاعة الأموال الكثيرة بدون فائدة.
القسم السادس: أن يقيم للسكن وهذا أخطر مما قبله وأعظم لما يترتب عليه من المفاسد بالاختلاط التام بأهل الكفر وشعوره بأنه مواطن ملتزم بما تقتضيه الوطنية من مودة، وموالاة، وتكثير لسواد الكفار، ويتربى أهله بين أهل الكفر فيأخذون من أخلاقهم وعاداتهم، وربما قلدوهم في العقيدة والتعبد، ولذلك جاء في الحديث عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «"من جامع المشرك وسكن معه فهو مثله» . وهذا الحديث وإن كان ضعيف السند لكن له وجهة من النظر فإن المساكنة تدعو إلى المشاكلة، وعن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «"أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، قالوا: يا رسول الله ولم؟ قال: لا تراءى نارهما» . رواه أبو داود والترمذي: وأكثر الرواة رووه مرسلا عن قيس بن أبي حازم عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قال الترمذي سمعت محمدا يعني البخاري يقول: الصحيح حديث قيس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مرسل. اهـ.
وكيف تطيب نفس مؤمن أن يسكن في بلاد كفار تعلن فيها شعائر الكفر ويكون الحكم فيها لغير الله ورسوله وهو يشاهد ذلك بعينه ويسمعه بأذنيه ويرضى به، بل ينتسب إلى تلك البلاد ويسكن فيها بأهله وأولاده ويطمئن(6/138)
فلما استقر بالمدينة أمر ببقية شرائع الإسلام مثل: الزكاة، والصلاة، والحج، والجهاد والأذان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك من شرائع الإسلام (1)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إليها كما يطمئن إلى بلاد المسلمين مع ما في ذلك من الخطر العظيم عليه وعلى أهله وأولاده في دينهم وأخلاقهم. هذا ما توصلنا إليه في حكم الإقامة في بلاد الكفر نسأل الله أن يكون موافقا للحق والصواب.
(1) يقول المؤلف رحمه الله تعالى: لما استقر أي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في المدينة النبوية أمر ببقية شرائع الإسلام وذلك أنه في مكة دعا إلى التوحيد نحو عشر سنين، ثم بعد ذلك فرضت عليه الصلوات الخمس في مكة، ثم هاجر إلى المدينة ولم تفرض عليه الزكاة ولا الصيام ولا الحج ولا غيرها من شعائر الإسلام. وظاهر كلام المؤلف رحمه الله أن الزكاة فرضت أصلا وتفصيلا في المدينة، وذهب بعض أهل العلم إلى أن الزكاة فرضت أولا في مكة لكنها لم تقدر أنصابها ولم يقدر الواجب فيها وفي المدينة قدرت الأنصباء وقدر الواجب واستدل هؤلاء بأنه جاءت آيات توجب الزكاة في سور مكية مثل قوله تعالى في سورة الأنعام: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} ، ومثل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} وعلى كل حال فاستقرار الزكاة وتقدير أنصابها وما يجب فيها وبيان مستحقيها كان في المدينة، وكذلك الأذان والجمعة، والظاهر أن الجماعة كذلك لم تفرض إلا في المدينة؛ لأن الأذان الذي فيه(6/139)
أخذ على هذا عشر سنين وبعدها توفي صلوات الله وسلامه عليه (1)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الدعوة للجماعة فرض في السنة الثانية، فأما الزكاة والصيام فقد فرضا في السنة الثانية من الهجرة، وأما الحج فلم يفرض إلا في السنة التاسعة على القول الراجح من أقوال أهل العلم وذلك حين كانت مكة بلد إسلام بعد فتحها في السنة الثامنة من الهجرة.
وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرهما من الشعائر الظاهرة كلها فرضت في المدينة بعد استقرار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها وإقامة الدولة الإسلامية فيها.
(1) أخذ أي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عشر سنين بعد هجرته فلما أكمل الله به الدين وأتم به النعمة على المؤمنين اختاره الله لجواره واللحاق بالرفيق الأعلى من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، «فابتدأ به المرض صلوات الله وسلامه عليه في آخر شهر صفر وأول شهر ربيع الأول، فخرج إلى الناس عاصبا رأسه فصعد المنبر فتشهد، وكان أول ما تكلم به بعد ذلك أن استغفر للشهداء الذين قتلوا في أحد ثم قال: " إن عبدا من عباد الله خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله "، ففهمها أبو بكر - رضي الله عنه - فبكى وقال: بأبي وأمي نفديك بآبائنا وأمهاتنا، وأبنائنا، وأنفسنا، وأموالنا، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "على رسلك يا أبا بكر " ثم قال: "إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر ولو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر ولكن خلة الإسلام ومودته " وأمر أبا بكر أن يصلي بالناس ولما كان يوم الاثنين الثاني عشر أو الثالث عشر من شهر»(6/140)
«ربيع الأول من السنة الحادية عشرة من الهجرة اختاره الله لجواره، فلما نزل به جعل يدخل يده في ماء عنده ويمسح وجهه ويقول: "لا إله إلا الله إن للموت سكرات " ثم شخص بصره نحو السماء وقال: "اللهم في الرفيق الأعلى. فتوفي ذلك اليوم فاضطرب الناس لذلك وحق لهم أن يضطربوا، حتى جاء أبو بكر - رضي الله عنه - فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإن من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ثم قرأ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} ، {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} فاشتد بكاء الناس وعرفوا أنه قد مات فغسل - صلوات الله وسلامه عليه - في ثيابه تكريما له، ثم كفن بثلاثة أثواب أي لفائف بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة، وصلى الناس عليه إرسالا بدون إمام، ثم دفن ليلة الأربعاء بعد أن تمت مبايعة الخليفة من بعده فعليه من ربه أفضل الصلاة وأتم التسليم» .(6/141)
ودينه باق، وهذا دينه، لا خير إلا دل الأمة عليه، ولا شر إلا حذرها منه، والخير الذي دل عليه: التوحيد، وجميع ما يحبه الله ويرضاه، والشر الذي حذر منه: الشرك وجميع ما يكرهه الله ويأباه. بعثه الله إلى الناس كافة (1) ، وافترض الله طاعته على جميع الثقلين: الجن والإِنس، والدليل قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) بعثه الله أي أرسله، إلى الناس كافة أي جميعا.
(2) في هذه الآية دليل على أن محمدا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الناس جميعا وأن الذي أرسله له ملك السماوات والأرض، ومن بيده الإحياء والإماتة، وأنه سبحانه هو المتوحد بالألوهية كما هو متوحد في الربوبية، ثم أمر سبحانه وتعالى في آخر الآية أن نؤمن بهذا الرسول النبي الأمي وأن نتبعه وأن ذلك سبب للهداية العلمية والعملية، هداية الإرشاد، وهداية التوفيق فهو - عليه الصلاة والسلام - رسول إلى جميع الثقلين وهم الإنس والجن وسموا بذلك لكثرة عددهم.(6/142)
وأكمل الله به الدين، والدليل قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أي أن دينه - عليه الصلاة والسلام - باق إلى يوم القيامة فما توفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا وقد بين للأمة جميع ما تحتاجه في جميع شؤونها حتى قال أبو ذر - رضي الله عنه -: «ما ترك النبي صلى - الله عليه وسلم - طائرا يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما» ، «وقال رجل من المشركين لسلمان الفارسي - رضي الله عنه -: علمكم نبيكم حتى الخراءة -آداب قضاء الحاجة- قال: " نعم، لقد نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول أو نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي برجيع أو عظم» فالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بين كل الدين إما بقوله، وإما بفعله، وإما بإقراره ابتداء أو جوابا عن سؤال، وأعظم ما بين - عليه الصلاة والسلام - التوحيد.
وكل ما أمر به فهو خير للأمة في معادها ومعاشها، وكل ما نهى عنه فهو شر للأمة في معاشها ومعادها، وما يجهله بعض الناس ويدعيه من ضيق في الأمر والنهي فإنما ذلك لخلل البصيرة وقلة الصبر وضعف الدين، وإلا فإن القاعدة العامة أن الله لم يجعل علينا في الدين من حرج وأن الدين كله يسر وسهولة قال الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} ، وقال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} ، وقال تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} ، فالحمد لله على تمام نعمته وإكمال دينه.(6/143)
والدليل على موته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ففي هذه الآية أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن أرسل إليهم ميتون وأنهم سيختصمون عند الله يوم القيامة فيحكم بينهم بالحق ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا.(6/144)
والناس إذا ماتوا يبعثون (2) ، والدليل قوله تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ} (3) {وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} (4) {وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} (5) ، وقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا} (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) بين رحمه الله تعالى في هذه الجملة أن الناس إذا ماتوا يبعثون، يبعثهم الله عز وجل أحياء بعد موتهم للجزاء، وهذا هو النتيجة من إرسال الرسل أن يعمل الإنسان لهذا اليوم يوم البعث والنشور، اليوم الذي ذكر الله سبحانه وتعالى من أحواله وأهواله ما يجعل القلب ينيب إلى الله عز وجل ويخشى هذا اليوم، قال الله تعالى: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا} . وفي هذه الجملة إشارة إلى الإيمان بالبعث واستدل الشيخ له بآيتين.
(2) أي من الأرض خلقناكم حين خلق آدم عليه الصلاة والسلام من تراب.
(3) أي بالدفن بعد الموت.
(4) أي بالبعث يوم القيامة.
(5) هذه الآية موافقة تماما لقوله تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} والآيات في هذا المعنى كثيرة جدا، وقد أبدى الله عز وجل وأعاد في إثبات المعاد حتى يؤمن الناس بذلك ويزدادوا إيمانا ويعملوا لهذا اليوم العظيم الذي نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من العاملين له ومن السعداء فيه.(6/145)
وبعد البعث محاسبون ومجزيون بأعمالهم، والدليل قوله تعالى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) يعني أن الناس بعد البعث يجازون ويحاسبون على أعمالهم إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. قال الله تبارك وتعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} ، وقال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} ، وقال جلَّ وعلا: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} .
فالحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة فضلا من الله عز وجل وامتنانا منه سبحانه وتعالى، فهو جل وعلا قد تفضل بالعمل الصالح، ثم تفضل مرة أخرى بالجزاء عليه هذا الجزاء الواسع الكثير، أما العمل السيئ فإن السيئة بمثلها لا يجازى الإنسان بأكثر منها قال تعالى: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} وهذا من كمال فضل الله وإحسانه.
ثم استدل الشيخ لذلك بقوله تعالى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا} ولم يقل: بالسوآى كما قال: {وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} .(6/146)
ومن كذب بالبعث كفر، والدليل قوله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (1) ......
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) من كذب بالبعث فهو كافر لقوله تعالى: {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} ، وقال تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} ، وقال تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا} ، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} واستدل الشيخ رحمه الله تعالى بقوله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية.
وأما إقناع هؤلاء المنكرين فبما يأتي:
أولا: أن أمر البعث تواتر به النقل عن الأنبياء والمرسلين في الكتب الإلهية، والشرائع السماوية، وتلقته أممهم بالقبول، فيكف تنكرونه وأنتم تصدقون بما ينقل إليكم عن فيلسوف أو صاحب مبدأ أو فكرة، وإن لم يبلغ ما بلغه الخبر عن البعث لا في وسيلة النقل، ولا في شهادة الواقع؟(6/147)
ثانيا: أن أمر البعث قد شهد العقل بإمكانه، وذلك من وجوه:
1 - كل أحد لا ينكر أن يكون مخلوقا بعد العدم، وأنه حادث بعد أن لم يكن، فالذي خلقه وأحدثه بعد أن لم يكن قادر على إعادته بالأولى، كما قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} ، وقال تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} .
1 - كل أحد لا ينكر عظمة خلق السماوات والأرض لكبرهما وبديع صنعتهما، فالذي خلقهما قادر على خلق الناس وإعادتهم بالأولى؛ قال الله تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} ، وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، وقال تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} .
3 - كل ذي بصر يشاهد الأرض مجدبة ميتة النبات، فإذا نزل المطر عليها أخصبت وحيي نباتها بعد الموت، والقادر على إحياء الأرض بعد موتها قادر على إحياء الموتى وبعثهم، قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
ثالثا: أن أمر البعث قد شهد الحس والواقع بإمكانه فيما أخبرنا الله(6/148)
تعالى به من وقائع إحياء الموتى، وقد ذكر الله تعالى من ذلك في سورة البقرة خمس حوادث منها، قوله: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
رابعا: أن الحكمة تقتضي البعث بعد الموت لتجازى كل نفس بما كسبت، ولولا ذلك لكان خلق الناس عبثا لا قيمة له، ولا حكمة منه، ولم يكن بين الإنسان وبين البهائم فرق في هذه الحياة. قال الله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} ، وقال الله تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} ، وقال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} . وقال تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} .
فإذا بينت هذه البراهين لمنكري البعث وأصروا على إنكارهم، فهم مكابرون معاندون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.(6/149)
وأرسل الله جميع الرسل مبشرين ومنذرين والدليل قوله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (1) ..........
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) بين المؤلف رحمه الله تعالى أن الله أرسل جميع الرسل مبشرين ومنذرين كما قال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} يبشرون من أطاعهم بالجنة وينذرون من خالفهم بالنار.
وإرسال الرسل له حكم عظيمة من أهمها بل هو أهمها أن تقوم الحجة على الناس حتى لا يكون لهم على الله حجة بعد إرسال الرسل كما قال تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} .
ومنها أنه من تمام نعمة الله على عباده فإن العقل البشري مهما كان لا يمكنه أن يدرك تفاصيل ما يجب لله تعالى من الحقوق الخاصة به، ولا يمكنه أن يطلع على ما لله تعالى من الصفات الكاملة، ولا يمكن أن يطلع على ماله من الأسماء الحسنى ولهذا أرسل الله الرسل عليهم الصلاة والسلام مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه.
وأعظم ما دعا إليه الرسل من أولهم نوح عليه الصلاة والسلام إلى آخرهم محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التوحيد كما قال الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} . وقال عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} .(6/150)
وأولهم نوح عليه السلام، وآخرهم محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والدليل على أن أولهم نوح عليه السلام قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بين شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله أن أول الرسل نوح - عليه الصلاة والسلام - واستدل لذلك بقوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} وثبت في الصحيح من حديث الشفاعة: «إن الناس يأتون إلى نوح فيقولون له: أنت أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض» فلا رسول قبل نوح وبهذا نعلم خطأ المؤرخين الذين قالوا: إن إدريس عليه الصلاة والسلام قبل نوح بل الذي يظهر أن إدريس من أنبياء بني إسرائيل.
وآخر الأنبياء وخاتمهم محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} فلا نبي بعده ومن ادعى النبوة بعده فهو كاذب كافر مرتد عن الإسلام.(6/151)
وكل أمة بعث الله إليها رسولا (1) من نوح إلى محمد؛ يأمرهم بعبادة الله وحده، وينهاهم عن عبادة الطاغوت، والدليل قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أي أن الله بعث في كل أمة رسولا يدعوهم إلى عبادة الله وحده وينهاهم عن الشرك ودليل ذلك قول الله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} ، وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} .
(2) هذا هو معنى لا إله إلا الله.(6/152)
وافترض الله على جميع العباد الكفر بالطاغوت والإيمان بالله. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: الطاغوت: ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع، أو مطاع (1) ؛.......
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أراد شيخ الإسلام رحمه الله بهذا أن التوحيد لا يتم إلا بعبادة الله وحده لا شريك له واجتناب الطاغوت.
وقد فرض الله ذلك على عباده والطاغوت مشتق من الطغيان، والطغيان مجاوزة الحد ومنه قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} . يعني لما زاد الماء عن الحد المعتاد حملناكم في الجارية يعني السفينة.
واصطلاحا أحسن ما قيل في تعريفه ما ذكره ابن القيم رحمه الله أنه أي الطاغوت: "كل ما تجاوز به العبد حده من معبود، أو متبوع، أو مطاع ". ومراده بالمعبود والمتبوع والمطاع غير الصالحين، أما الصالحون فليسوا طواغيت وإن عبدوا -أو اتبعوا- أو أطيعوا فالأصنام التي تعبد من دون الله طواغيت، وعلماء السوء الذين يدعون إلى الضلال والكفر، أو يدعون إلى البدع، أو إلى تحليل ما حرم الله، أو تحريم ما أحل الله طواغيت، والذين يزينون لولاة الأمر الخروج عن شريعة الإسلام بنظم يستوردونها مخالفة لنظام الدين الإسلامي طواغيت، لأن هؤلاء تجاوزوا حدهم، فإن حد العالم أن يكون متبعا لما جاء به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأن العلماء حقيقة ورثة الأنبياء، يرثونهم في أمتهم علما وعملا، وأخلاقا، ودعوة وتعليما، فإذا تجاوزوا هذا الحد(6/153)
وصاروا يزينون للحكام الخروج عن شريعة الإسلام بمثل هذه النظم فهم طواغيت؛ لأنهم تجاوزوا ما كان يجب عليهم أن يكونوا عليه من متابعة الشريعة.
وأما قوله رحمه الله: "أو مطاع " فيريد به الأمراء الذين يطاعون شرعا أو قدرا، فالأمراء يطاعون شرعا إذا أمروا بما لا يخالف أمر الله ورسوله، وفي هذه الحال لا يصدق عليهم أنهم طواغيت، والواجب لهم على الرعية السمع والطاعة، وطاعتهم لولاة الأمر في هذا الحال بهذا القيد طاعة لله عز وجل ولهذا ينبغي أن نلاحظ حين ننفذ ما أمر به ولي الأمر مما تجب طاعته فيه أننا في ذلك نتعبد لله تعالى ونتقرب إليه بطاعته، حتى يكون تنفيذنا لهذا الأمر قربة إلى الله - عز وجل - وإنما ينبغي لنا أن نلاحظ ذلك لأن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} .
وأما طاعة الأمراء قدرا فإن الأمراء إذا كانوا أقوياء في سلطتهم فإن الناس يطيعونهم بقوة السلطان وإن لم يكن بوازع الإيمان، لأن طاعة ولي الأمر تكون بوازع الإيمان وهذه هي الطاعة النافعة، النافعة لولاة الأمر، والنافعة للناس أيضا، وقد تكون الطاعة بوازع السلطان بحيث يكون قويا يخشى الناس منه ويهابونه لأنه ينكل بمن خالف أمره.
ولهذا نقول: إن الناس مع حكامهم في هذه المسألة لهم أحوال:(6/154)
الحال الأولى: أن يقوى الوازع الإيماني والرادع السلطاني وهذه أكمل الأحوال وأعلاها.
الحال الثانية: أن يضعف الوازع الإيماني والرادع السلطاني وهذه أدنى الأحوال وأخطرها على المجتمع، على حكامه ومحكوميه؛ لأنه إذا ضعف الوازع الإيماني والرادع السلطاني حصلت الفوضى الفكرية والخلقية والعملية.
الحال الثالثة: أن يضعف الوازع الإيماني ويقوى الرادع السلطاني وهذه مرتبة وسطى لأنه إذا قوي الرادع السلطاني صار أصلح للأمة في المظهر فإذا اختفت قوة السلطان فلا تسأل عن حال الأمة وسوء عملها.
الحال الرابعة: أن يقوى الوازع الإيماني ويضعف الرادع السلطاني فيكون المظهر أدنى منه في الحالة الثالثة لكنه فيما بين الإنسان وربه أكمل وأَعلى.(6/155)
والطواغيت (1) كثيرة ورؤوسهم (2) خمسة: إبليس (3) لعنه الله، ومن عبد وهو راض، (4) ومن دعا الناس إلى عبادة نفسه (5)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) جمع طاغوت وسبق تفسيره.
(2) أي زعماؤهم ومقلدوهم خمسة.
(3) إبليس هو الشيطان الرجيم اللعين الذي قال الله له: {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} وكان إبليس مع الملائكة في صحبتهم يعمل بعملهم، ولما أمر بالسجود لآدم ظهر ما فيه من الخبث والإباء والاستكبار فأبى واستكبر وكان من الكافرين فطرد من رحمة الله عز وجل، قال الله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} .
(4) أي عبد من دون الله وهو راض أن يعبد من دون الله فإنه من رؤوس الطواغيت -والعياذ بالله- وسواء عبد في حياته أو بعد مماته إذا مات وهو راض بذلك.
(5) أي من دعا الناس إلى عبادة نفسه وإن لم يعبدوه فإنه من رؤوس الطواغيت سواء أجيب لما دعا إليه أم لم يُجب.(6/156)
، ومن ادعى شيئا من علم الغيب (1) ؛..............
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الغيب ما غاب عن الإنسان وهو نوعان: واقع، ومستقبل، فغيب الواقع نسبي يكون لشخص معلوما ولآخر مجهولا، وغيب المستقبل حقيقي لا يكون معلوما لأحد إلا الله وحده أو من أطلعه الله عليه من الرسل فمن ادعى علمه فهو كافر، لأنه مكذب لله عز وجل ولرسوله، قال الله تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} ، وإذا كان الله عز وجل يأمر نبيه محمدا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يعلن للملأ أنه لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله، فإن من ادعى علم الغيب فقد كذب الله عز وجل ورسوله في هذا الخبر.
ونقول لهؤلاء: كيف يمكن أن تعلموا الغيب والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يعلم الغيب؟ هل أنتم أشرف أم الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فإن قالوا: نحن أشرف من الرسول، كفروا بهذا القول. وإن قالوا: هو أشرف فنقول: لماذا يحجب عنه الغيب وأنتم تعلمونه؟ وقد قال الله عز وجل عن نفسه: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} ، وهذه آية ثانية تدل على كفر من ادعى علم الغيب، وقد أمر الله تعالى نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يعلن للملأ بقوله: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} .(6/157)
ومن حكم بغير ما أنزل الله (1) ................................
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الحكم بما أنزل الله تعالى من توحيد الربوبية؛ لأنه تنفيذ لحكم الله الذي هو مقتضى ربوبيته، وكمال ملكه وتصرفه، ولهذا سمى الله تعالى المتبوعين في غير ما أنزل الله تعالى أربابا لمتبعيهم فقال سبحانه: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} ، فسمى الله تعالى المتبوعين أربابا حيث جعلوا مشرعين مع الله تعالى، وسمى المتبعين عُبَّادا حيث إنهم ذلوا لهم وأطاعوهم في مخالفة حكم الله سبحانه وتعالى.
«وقد قال عدي بن حاتم لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنهم لم يعبدوهم فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "بل إنهم حرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام، فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم» (1) .
إذا فهمت ذلك فاعلم أن من لم يحكم بما أنزل الله، وأراد أن يكون التحاكم إلى غير الله ورسوله وردت فيه آيات بنفي الإيمان عنه، وآيات بكفره وظلمه، وفسقه.
فأما القسم الأول: فمثل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا}
__________
(1) رواه الترمذي وحسنه، كتاب التفسير سورة التوبة، 5/262.(6/158)
{فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} .
فوصف الله تعالى هؤلاء المدعين للإيمان وهم منافقون بصفات:
الأولى: أنهم يريدون أن يكون التحاكم إلى الطاغوت، وهو كل ما خالف حكم الله تعالى ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأن ما خالف حكم الله ورسوله فهو طغيان واعتداء على حكم من له الحكم وإليه يرجع الأمر كله وهو الله. قال الله تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} . الثانية: أنهم إذا دعوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول صدوا وأعرضوا.
الثالثة: أنهم إذا أصيبوا بمصيبة بما قدمت أيديهم - ومنها أن يعثر على صنيعهم - جاءوا يحلفون أنهم ما أرادوا إلا الإحسان والتوفيق كحال من يرفض اليوم أحكام الإسلام ويحكم بالقوانين المخالفة لها زعما منه أن ذلك هو الإحسان الموافق لأحوال العصر.
ثم حذر -سبحانه- هؤلاء المدعين للإيمان المتصفين بتلك الصفات بأنه -سبحانه- يعلم ما في قلوبهم وما يكنونه من أمور تخالف ما يقولون،(6/159)
وأمر نبيه أن يعظهم ويقول لهم في أنفسهم قولا بليغا، ثم بين أن الحكمة من إرسال الرسول أن يكون هو المطاع المتبوع لا غيره من الناس مهما قويت أفكارهم واتسعت مداركهم، ثم أقسم تعالى بربوبيته لرسوله التي هي أخص أنواع الربوبية والتي تتضمن الإشارة إلى صحة رسالته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقسم بها قسما مؤكدا أنه لا يصح الإيمان إلا بثلاثة أمور:
الأول: أن يكون التحاكم في كل نزاع إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
الثاني: أن تنشرح الصدور بحكمه، ولا يكون في النفوس حرج وضيق منه.
الثالث: أن يحصل التسليم بقبول ما حكم به وتنفيذه بدون توان أو انحراف.
وأما القسم الثاني: فمثل قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} ، وقوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ، وقوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} ، وهل هذه الأوصاف الثلاثة تتنزل على موصوف واحد؟ بمعنى أن كل من لم يحكم بما أنزل الله فهو كافر ظالم فاسق، لأن الله تعالى وصف الكافرين بالظلم والفسق فقال تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ، وقال تعالى: {إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} . فكل كافر ظالم فاسق، أو هذه الأوصاف تتنزل على موصوفين بحسب الحامل لهم على عدم الحكم بما أنزل(6/160)
الله؟ هذا هو الأقرب عندي والله أعلم.
فنقول: من لم يحكم بما أَنزل الله استخفافا به، أو احتقارا له، أو اعتقادا أن غيره أصلح منه، وأنفع للخلق أو مثله فهو كافر كفرا مخرجا عن الملة، ومن هؤلاء من يضعون للناس تشريعات تخالف التشريعات الإسلامية لتكون منهاجا يسير الناس عليه، فإنهم لم يضعوا تلك التشريعات المخالفة للشريعة الإسلامية إلا وهم يعتقدون أنها أصلح وأنفع للخلق، إذ من المعلوم بالضرورة العقلية، والجبلة الفطرية أن الإنسان لا يعدل عن منهاج إلى منهاج يخالفه إلا وهو يعتقد فضل ما عدل إليه ونقص ما عدل عنه.
ومن لم يحكم بما أنزل الله وهو لم يستخف به، ولم يحتقره، ولم يعتقد أن غيره أصلح منه لنفسه أو نحو ذلك، فهذا ظالم وليس بكافر وتختلف مراتب ظلمه بحسب المحكوم به ووسائل الحكم.
ومن لم يحكم بما أنزل الله لا استخفافا بحكم الله، ولا احتقارا، ولا اعتقادا أن غيره أصلح، وأنفع للخلق أو مثله، وإنما حكم بغيره محاباة للمحكوم له، أو مراعاة لرشوة أو غيرها من عرض الدنيا فهذا فاسق، وليس بكافر وتختلف مراتب فسقه بحسب المحكوم به ووسائل الحكم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فيمن اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله أنهم على وجهين:
أحدهما: أن يعلموا أنهم بدلوا دين الله فيتبعونهم على التبديل ويعتقدون تحليل ما حرم، وتحريم ما أحل الله اتباعا لرؤسائهم مع علمهم أنهم خالفوا(6/161)
دين الرسل فهذا كفر، وقد جعله الله ورسوله شركا.
الثاني: أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحليل الحرام وتحريم الحلال - كذا العبارة المنقولة عنه -ثابتا لكنهم أطاعوهم في معصية الله كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاصٍ فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب.
وهناك فرق بين المسائل التي تعتبر تشريعا عاما والمسألة المعينة التي يحكم فيها القاضي بغير ما أنزل الله لأن المسائل التي تعتبر تشريعا عاما لا يتأتى فيها التقسيم السابق، وإنما هي من القسم الأول فقط لأن هذا المشرع تشريعا يخالف الإسلام إنما شرعه لاعتقاده أنه أصلح من الإسلام وأنفع للعباد كما سبقت الإشارة إليه.
وهذه المسألة أعني مسألة الحكم بغير ما أنزل الله من المسائل الكبرى التي ابتلي بها حكام هذا الزمان فعلى المرء أن لا يتسرع في الحكم عليهم بما لا يستحقونه حتى يتبين له الحق لأن المسألة خطيرة -نسأل الله تعالى أن يصلح للمسلمين ولاة أمورهم وبطانتهم- كما أن على المرء الذي آتاه الله العلم أن يبينه لهؤلاء الحكام لتقوم الحجة عليهم وتتبين المحجة فيهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة، ولا يحقرن نفسه عن بيانه ولا يهابن أحدا فيه فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين.(6/162)
والدليل (1) قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (2) {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} (1) {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} (2) وهذا معنى لا إله إلا الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أي على وجوب الحكم بما أنزل الله والكفر بالطاغوت.
(2) لا إكراه على الدين لظهور أدلته وبيانها ووضوحها ولهذا قال بعده: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} فإذا تبين الرشد من الغي فإن كل نفس سليمة لا بد أن تختار الرشد على الغي.
(1) بدأ الله عز وجل بالكفر بالطاغوت قبل الإيمان بالله؛ لأن من كمال الشيء إزالة الموانع قبل وجود الثوابت ولهذا يقال: التخلية قبل التحلية.
(2) أي تمسك بها تمسكا تاما والعروة الوثقى هي الإسلام وتأمل كيف قال عز وجل: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ} ، ولم يقل: (تمسك) لأن الاستمساك أقوى من التمسك فإن الإنسان قد يتمسك ولا يستمسك.(6/163)
وفي الحديث: «رأس الأمر الإسلام (3) وعموده الصلاة (4) وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله» (5) والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أراد المؤلف رحمه الله تعالى الاستدلال بهذا الحديث على أن لكل شيء رأسا، ف رأس الأمر الذي جاء به محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الإسلام.
(2) لأنه لا يقوم إلا بها ولهذا كان القول الراجح كفر تارك الصلاة وأنه ليس له الإسلام.
(3) أي أعلاه وأكمله الجهاد في سبيل الله، وذلك لأن الإنسان إذا أصلح نفسه حاول إصلاح غيره بالجهاد في سبيل الله ليقوم الإسلام ولتكون كلمة الله هي العليا، فمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله وصار ذروة السنام لأن به علو الإسلام على غيره.
(4) ختم شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى رسالته هذه برد العلم إلى الله عز وجل والصلاة والسلام على نبيه محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبهذا انتهت الأصول الثلاثة وما يتعلق بها فنسأل الله تعالى أن يثيب مؤلفها أحسن ثواب، وأن يجعل لنا نصيبا من أجرها وثوابها، وأن يجمعنا وإياه في دار كرامته، إنه جواد كريم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(6/164)
خطب في العقيدة(6/165)
خطبة في شرح بعض أسماء الله الحسنى
الحمد لله ذي الصفات الكاملة العليا، والأسماء الفاضلة الحسنى، خلق الأرض والسماوات العلى، الرحمن على العرش استوى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ألوهيته وربوبيته وتدبيره، ولا نظير له في صفاته ولا راد لتقديره، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي خضع لربه واستعان به في صغير أمره وجليله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين عرفوا الحق بدليله، وسلم تسليما.
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واعلموا أن الله لا شريك له في جميع صفاته ولا مضاهي له في أسمائه وتقديراته فهو (الله) الذي تألهه القلوب بالمحبة والود والتعظيم، وهو (الرحمن الرحيم) الذي هو أرحم بعباده من الوالدة بولدها فما من نعمة وجدت إلا من رحمته وما من نقمة دفعت إلا من آثار رحمته، وهو (الملك) مالك العالم كله علوه وسفله، لا يتحرك متحرك إلا بعلمه وإرادته وما يسكن من ساكن إلا بعلمه وإرادته. وهو (القدوس) الذي تقدس وتنزه عن النقائص والعيوب، فلقد خلق السماوات بما فيها من النجوم والأفلاك وخلق الأرض بما فيها من البحار والأشجار والجبال والمصالح والأقوات خلق كل ذلك وما بين السماوات والأرض في ستة أيام سواء للسائلين وما مسه من تعب ولا آفات، وهو (القوي(6/167)
القهار) فما من مخلوق إلا وتحت قدرته وقهره وما من جبروت إلا وقد ذل لعظمته وسطوته، وهو (العليم) الذي يعلم السر وأخفى ويعلم ما في البر والبحر، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين، وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه، يعلم ما توسوس به نفس العبد قبل أن يتكلم به وهو الرقيب الشاهد عليه في كل حالاته وما يغيب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، وهو (العلي الأعلى) هو العلي في ذاته فوق عرشه، العلي في صفاته فما يشبهه أحد من خلقه، وهو (الجبار) الذي يجبر الكسير والضعيف ويأخذ القوي بالقهر المنيف، وهو (الغفور) الذي يغفر الذنوب وإن عظمت ويستر العيوب وإن كثرت.
وفي الحديث القدسي عنه تبارك وتعالى قال: «"يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو أتيتني بملء الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بملئها مغفرة ".» وهو (الخلاق القدير) الذي أمسك بقدرته السماوات والأرض أن تزولا ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، وهو (الحكيم) في شرعه وقدره فما خلق شيئا عبثا ولا شرع عبادة لهوا ولعبا ومع ذلك فله الحكم آخرا وأولا، وهو (الغني) بذاته عن جميع مخلوقاته، وهو (الكريم) بجزيل عطائه وهباته، فيده لا تغيضها نفقة ملآى سحاء الليل(6/168)
والنهار. أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه. وفي الحديث قال الله تعالى: «يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر» ، وفي رواية: «ذلك بأني جواد واجد ماجد أفعل ما أريد عطائي كلام، وعذابي كلام، إنما أمري لشيء إذا أردته أن أقول له: كن فيكون» .
إخواني: هذا شيء يسير من أسماء الله تعالى وما لها من المعاني وإن أسماءه تعالى لا يحصى لها تعداد وله منها تسعة وتسعون من أحصاها دخل الجنة وإحصاؤها هو معرفتها لفظا ومعنى والتعبد لله بها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ... إلخ.(6/169)
خطبة في شرح بعض أسماء الله الحسنى أيضا
الحمد لله العلي الأعلى الكامل في أسمائه الحسنى وصفاته العليا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أرجو بها النجاة من سوء المأوى وآمل بها الفوز بالنعيم المقيم والدرجات العلا وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى - صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه النجباء وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم المعاد والجزاء وسلم تسليما.
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واعرفوا ما لله تعالى من الأسماء والصفات فإن معرفة ذلك زيادة في الإيمان وبصيرة في دين الله وعرفان، ولله تعالى تسعة وتسعون اسما من أحصاها دخل الجنة ألا وإن من إحصائها أن يعرف العبد لفظها ومعناها ويتعبد لله تعالى بموجبها ومقتضاها.
فمن أسمائه تعالى (الحي القيوم) وهو اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى فهو الحي الكامل في حياته حياة لم يسبقها عدم ولا يلحقها زوال، فهو الحي الذي لا يموت وهو الباقي وكل من عليها فان، أما القيوم فهو الذي قام بنفسه فاستغنى عن جميع خلقه. وفي الحديث القدسي أن الله تعالى يقول: «يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر»(6/170)
«قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا. يا عبادي: لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا غمس في البحر ذلك بأني جواد واجد ماجد أفعل ما أريد، عطائي كلام وعذابي كلام، إنما أمري لشيء إذا أردته أن أقول له: كن فيكون» .
وللقيوم معنى آخر وهو القائم على غيره فكل ما في السماوات والأرض فإنه مضطر إلى الله لا قيام له ولا ثبات ولا وجود إلا بالله {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} . ومن أسمائه تعالى (العليم) الذي يعلم كل شيء جملة وتفصيلا فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} . {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} .
ومن أسمائه تعالى (القدير) ذو القدرة الكاملة فما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض وإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له: كن فيكون أرأيتم كيف خلق هذا الكون(6/171)
العظيم في ستة أيام ثم استوى على العرش خلق هذا الكون بأرضه وسمائه وشمسه وقمره وبحره وبره ووهاده وجباله وأنهاره وبحاره وبقوله وأشجاره ورطبه ويابسه وظاهره وباطنه، خلق هذا الكون على أحسن نظام وأتمه لمصالح عباده، خلقه كله في ستة أيام ولو شاء لخلقه بلحظة ولكنه حكيم يقدر الأمور بأسبابها.
أيها المسلمون إن ما غاب عنا من مشاهد قدرته أعظم وأعظم بكثير مما نشاهده فلقد جاء في الحديث: «إن السماوات السبع والأرضين السبع بالنسبة إلى الكرسي الذي وسع السماوات والأرض كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض، وإن نسبة هذا الكرسي إلى العرش كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض» فسبحان الله العلي الكبير القوي القدير.
ومن أسمائه تعالى (السميع البصير) يسمع كل شيء ويرى كل شيء لا يخفى عليه دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث، إن جهرت بقولك سمعه وإن أسررت به لصاحبك سمعه وإن أخفيته في نفسك سمعه وأبلغ من ذلك أنه يعلم ما توسوس به نفسك وإن لم تنطق به. إن فعلت فعلا ظاهرا رآك وإن فعلت فعلا باطنا ولو في جوف بيت مظلم رآك، وإن تحركت بجميع بدنك رآك وإن حركت عضوا من أعضائك رآك وأبلغ من ذلك أنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.(6/172)
ومن أسمائه تعالى (الرحمن الرحيم) فكل ما نحن فيه من نعمة فهي من آثار رحمته، معاشنا من آثار رحمته وصحتنا من رحمته وأموالنا وأولادنا من رحمته. الليل والنهار والمطر والنبات من رحمته. الأمن والرغد من رحمته. إرسال الرسل وإنزال الكتب من رحمته. {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} بارك الله لي ولكم ... إلخ.(6/173)
خطبة في شرح بعض أسماء الله الحسنى أيضا
الحمد لله المتفرد بكمال الصفات المتنزه عن العيوب والنقائص والآفات، خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ولو شاء لخلقها في لحظات، له الملك وله الحمد وله الخلق وله الأمر في جميع الأوقات، فسبحانه من إله عظيم وملك رب رحيم ولطيف بالعباد عليم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ألوهيته وربوبيته والأسماء والصفات وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى على جميع البريات - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان مدى الأوقات وسلم تسليما.
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واعرفوا ما له من الأسماء الحسنى والصفات الكاملة العليا فإن معرفة ذلك زيادة في الإيمان وتثبيت على الحق وإيقان وعبادة لله على بصيرة وبرهان، فمن أسماء الله تعالى (الملك) وهو ذو السلطان الكامل والملك الشامل المتصرف بخلقه كما يشاء من غير ممانع ولا مدافع؛ ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها له الملك المطلق لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير وهو على كل شيء قدير، بيده ملكوت السماوات والأرض يحيي ويميت يغني فقيرا ويفقر غنيا ويضع شريفا ويرفع وضيعا ويوجد معدوما ويعدم موجودا(6/174)
ويبتلي بالنعم ويبتلي بالمصائب ليبلو عباده أيشكرون النعمة أم يكفرون وهل يصبرون على المصائب أو يجزعون يقلب الله الليل والنهار بالرخاء والشدة والأمن والمخافة كل يوم هو في شأن، ملكه ظاهر في السماوات وفي الأرض ويظهر تماما حينما يتلاشى الملك عن كل أحد حينما يعرض الخلائق عليه فرادى كما خلقوا أول مرة {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} .
ومن أسمائه تعالى (الجبار) وله ثلاثة معان: جبر القوة، وجبر الرحمة، وجبر العلو. فأما جبر القوة فهو تعالى الجبار الذي يقهر الجبابرة ويغلبهم بجبروته وعظمته فكل جبار وإن عظم فهو تحت قهر الله وجبروته وفي يده وقبضته.
وأما جبر الرحمة فإنه سبحانه يجبر الضعيف بالغنى والقوة ويجبر الكسير بالسلامة ويجبر المنكسرة قلوبهم بإزالة كسرها وإحلال الفرج والطمأنينة فيها، وما يحصل لهم من الثواب والعاقبة الحميدة إذا صبروا على ذلك من أجله.
أما جبر العلو فإنه سبحانه فوق خلقه عال عليهم وهو مع علوه عليهم قريب منهم يسمع أقوالهم ويرى أفعالهم ويعلم ما توسوس به نفوسهم.
ومن أسمائه تعالى (القدوس السلام) فأما القدوس فهو الذي تقدس وتعالى عن كل نقص وعيب، فالنقص لا يجوز عليه(6/175)
ولا يمكن في حقه لأنه تعالى الرب الكامل المستحق للعبادة.
وأما السلام فهو السالم من كل نقص وعيب ومن مماثلة المخلوقين، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. وفي الحديث أن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا يقولون قبل أن يفرض عليهم التشهد: السلام على الله من عباده، السلام على جبريل، السلام على فلان وفلان، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تقولوا: السلام على الله من عباده فإن الله هو السلام» .
أيها الناس: تفكروا في أسماء الله وصفاته واعرفوا معناها وتعبدوا لله تعالى بها وانظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله فيهما من الآيات الدالة عليه التي هي مقتضى أسمائه وصفاته، فإن في كل شيء له آية تدل على أنه واحد.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.... إلخ.(6/176)
خطبة في شرح بعض أسماء الله الحسنى أيضا
الحمد لله العلي الأعلى الكامل في الأسماء الحسنى والصفات العليا رب السماوات ورب الأرض ورب الآخرة والأولى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الفضل والجود الذي لا يحصى، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل من تعبد الله ودعا صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن بهداهم اهتدى وسلم تسليما.
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واعلموا أن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة، وإحصاؤها معرفة لفظها ومعناها والتعبد لله بها، فمن أسمائه تعالى: (الله، الحي، القيوم، العليم، القدير، السميع، البصير، الرحمن، الرحيم، العزيز، الحكيم، القوي، الملك، القدوس، السلام، الجبار) ، ومن أسمائه تعالى (المتكبر) أي ذو الكبرياء والعظمة، فالكبرياء وصفه المختص به فليس لأحد من المخلوقين أن ينازعه في ذلك ومن نازعه في الكبرياء أذاقه الله الذل والهوان، والمتكبرون يحشرون يوم القيامة أمثال الذر يطؤهم الناس بأقدامهم.
ومن أسمائه تعالى (الخالق) الذي خلق السماوات والأرض وما فيهما من المصالح وما بينهما من المخلوقات خلقها الله تعالى كلها في ستة أيام وأحسن خلقها وأكمله ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت ولا تناقض(6/177)
{فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} {يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} : ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة غشاء الجنين في بطن أمه ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو فأنى تصرفون، يقدر لكم في ذلك الموضع من الغذاء ما لا يستطيع أحد أن يوصله إليكم وذلك بواسطة السرة المنغرسة في عروق الرحم فتمتص من الدم ما يتغذى به جسم الجنين ولا يحتاج معه إلى البول والغائط فسبحان الله رب العالمين.
خلق الله تعالى كرسيه وعرشه وهما من أعظم المخلوقات، فالكرسي وسع السماوات والأرض، وما السماوات السبع والأرضون السبع بالنسبة إليه إلا كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض، والعرش استوى عليه الرحمن وهو أعظم المخلوقات وأعلاها، وما الكرسي بالنسبة إليه إلا كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض.
أيها المسلمون: إن هذه المخلوقات العظيمة وما فيها من الإتقان والكمال لتدل دلالة ظاهرة على عظمة خالقها وكماله وأنه أتقن كل شيء وأحسن كل شيء خلقه فتبارك الله أحسن الخالقين.
ومن أسماء الله تعالى (الرزاق) الذي عم برزقه كل شيء، فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها. رزق الله الأجنة في(6/178)
بطون الأمهات والحيتان في قعار البحار والسباع في مهامه القفار والطيور في أعالي الأوكار، ورزق كل حيوان وهداه لتحصيل معاشه، فأعطى كل شيء خلقه ثم هدى، ولو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو في الصباح خماصا جائعة ثم تروح في المساء بطانا ممتلئة بطونها بما يسر الله لها من الرزق والأقوات؛ ومن رزق الله تعالى ما يمن الله به على من شاء من خلقه من حسن الخلق وسماحة النفس، ومن رزقه تعالى ما يمن الله به على من يشاء من العلم النافع والإيمان الصحيح والعمل الصالح الدائب، وهذا أعظم رزق يمن الله به على العبد {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} .
وهو سبحانه المعطي المانع فكم من سائل أعطاه سؤله، وكم من محتاج أعطاه سؤله، وكم من محتاج أعطاه حاجته ودفع ضرورته؛ وإنه تعالى ليستحيي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفرا، وكم منع سبحانه من بلاء انعقدت أسبابه فمنعه عن عباده ودفعه عنهم، فلا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع وهو سبحانه الذي بيده النفع والضر، إن جاءك نفع فمن الله وإن حصل عليك ضر لم يكشفه سواه ولو اجتمعت الأمة على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمع الناس على أن يضروك بشيء لا يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، فربك هو المدبر المتصرف بخلقه كما يشاء فالجأ إليه عند(6/179)
الشدائد تجده قريبا، وافزع إليه بالدعاء تجده مجيبا وإذا عملت سوءا أو ظلمت نفسك فاستغفره تجده غفورا رحيما.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} بارك الله لي ولكم ... إلخ.(6/180)
خطبة في شرح بعض أسماء الله الحسنى أيضا
الحمد لله العلي الأعلى الكامل في أسمائه الحسنى وصفاته العليا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نرجو بها النجاة من سوء المأوى ونؤمل بها الفوز بالنعيم المقيم والدرجات العلا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى وخليله المجتبى صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه النجباء وعلى التابعين لهم بإحسان ما دامت الأرض والسماء وسلم تسليما.
أما بعد: فإن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة وإحصاؤها هو معرفة لفظها ومعناها والتعبد لله بمقتضاها فاتقوا الله أيها المسلمون وحققوا هذه الأسماء وما تدل عليه من الصفات العظيمة والمعاني الجليلة لتعبدوا ربكم على بصيرة فإنه لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون.
أيها الناس: في هذه الخطبة سنتكلم على ثلاثة أسماء من أسماء الله، فمن أسماء الله تعالى (العزيز) فلله العزة جميعا ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين، فهو العزيز الذي لا يغلب فما من جموع ولا أجناد ولا قوة إلا وهي ذليلة أمام عزة الله، ذلت لعزته الصعاب ولانت لقوته الشدائد الصلاب {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} . {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} .
ومن أسماء الله تعالى (الحكيم) فهو سبحانه الحاكم والخلق(6/181)
محكومون، له الحكم كله وإليه يرجع الأمر كله، يحكم على عباده بقضائه وقدره ويحكم بينهم بدينه وشرعه ثم يوم القيامة يحكم بينهم بالجزاء بين فضله وعدله فلا حاكم إلا الله ولا يجوز تحكيم قانون ولا نظام سوى حكم الله {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} . فهو سبحانه الحاكم على عباده لا راد لحكمه وقضائه ولا حكم فوق حكمه.
وللحكيم معنى آخر وهو ذو الحكمة. والحكمة ضد السفه فهي وضع الأشياء في مواضعها اللائقة بها، ولذلك كانت أحكام الله الكونية والشرعية والجزائية مقرونة بالحكمة ومربوطة بها، فلم يخلق سبحانه شيئا عبثا ولم يترك خلقه سدى لا يؤمرون ولا ينهون ولا يثابون ولا يعاقبون، فما أعطى الله شيئا إلا لحكمة، وما منع شيئا إلا لحكمة ولا أنعم بنعمة إلا لحكمة ولا أصاب بمصيبة إلا لحكمة وما أمر الله بشيء إلا والحكمة في فعله والتزامه، ولا نهى عن شيء إلا والحكمة في تركه واجتنابه. يقول الله تعالى مقررا هذه الصفة العظيمة صفة الحكمة: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} .(6/182)
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} . {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} . {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} .
أيها المسلمون: لقد تبين أن للحكيم معنيين:
أحدهما: الحاكم الذي له الحكم المطلق الكامل من جميع الوجوه.
والثاني: أنه ذو الحكمة الذي لم يخلق شيئا عبثا ولم يشرع شيئا باطلا ولم يجز عاملا إلا بما عمل، المحسن بالإحسان والمسيء بمثل سيئته.
وله معنى ثالث وهو المحكم الذي أحكم كل شيء خلقه فما في خلق الرحمن من تفاوت ولا تناقض ولا خلل. صنع الله الذي أتقن كل شيء، وليس في شرعه من تناقض ولا اختلاف، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا.
ومن أسماء الله تعالى (القوي) والقوة ضد الضعف فهو سبحانه وتعالى يخلق المخلوقات العظيمة من غير ضعف لم يزل ولا يزال قويا والخلق ضعفاء، ضعفاء في ذاتهم وضعفاء في أعمالهم يقول الله تعالى مقررا هذه الصفة العظيمة: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} يعني من تعب ولا ضعف فهو القوي ذو القوة الكاملة والخلق ضعفاء(6/183)
مهما بلغت قوتهم {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} ، وهؤلاء عاد إرم ذات العماد والقوة، كان بعضهم يحمل الصخرة العظيمة من غير مبالاة حتى بلغ بهم الغرور أن قالوا: من أشد منا قوة فقال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} . فكل قوة مهما عظمت فهي ضعيفة أمام قوة الخالق العظيم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ... إلخ.(6/184)
خطبة في الحث على الإيمان بأسماء الله تعالى
الحمد لله الذي كتب الإيمان في قلوب المؤمنين حتى شاهدوا بعين البصيرة ونور العلم ما كان غائبا عن العيون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الحي الكامل في حياته، العليم الكامل في علمه، القدير الكامل في قدرته، فإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول كن فيكون، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إمام المتقين وخاتم النبيين وسيد الموقنين آمن فأيقن وعمل فأتقن واستمر على ذلك حتى أتاه اليقين، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى وآمنوا به وحققوا إيمانكم بمعرفة ربكم بأسمائه وصفاته وأفعاله وبالعمل بما تقتضيه وتوجبه تلك الأسماء والصفات، آمنوا بأن الله حي قيوم حياته كاملة لم يسبقها عدم ولا يلحقها فناء فكل شيء هالك إلا وجهه، فهو الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، والظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء، هو قيوم السماوات والأرض قام بنفسه فلم يحتج إلى أحد من خلقه، وفي الحديث الصحيح أنه تبارك وتعالى يقول: «يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني» ، وهو الذي قامت السماوات والأرض بأمره، ولم يستغن(6/185)
عنه أحد من خلقه فالعباد مضطرون إليه في جميع أحوالهم وأوقاتهم لا غنى لهم عن ربهم طرفة عين.
آمنوا بأن الله بكل شيء عليم وعلى كل شيء حفيظ رقيب وأنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} ، فجميع حركاتكم وسكناتكم وأقوالكم وأفعالكم معلومة عند ربكم محفوظة لكم مسجلة عليكم في كتاب مبين. فحققوا رحمكم الله الإيمان بهذه الصفة صفة العلم، حققوها تحقيقا عمليا تطبيقا كما أنكم مأمورون بتحقيقها تحقيقا علميا. فإذا علمتم أن الله يعلم سركم وجهركم ويحفظ ذلك لكم، فإن مقتضى ذلك أن تعبدوه سرا وجهرا وأن تقدموا طاعته وخشيته على كل خشية وشريعته على كل شريعة ونظام.
أيها المسلم: ربما تعصي الله جهارا علنا من غير مبالاة، وربما تعصي الله سرا خفاء خوفا أو حياء من الناس فاعلم أنك في كلتا الحالين لا تخفى على الله حالك وأن الله يعلم بك ويسمع ما تقول ويرى ما تفعل ويحفظ ذلك في كتاب مبين. فهل يليق بك أن تعصيه بعد ذلك بمخالفة أمره أو ارتكاب نهيه.
عباد الله: آمنوا بأن الله على كل شيء قدير وأنه جواد كريم {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} ، فهو قدير على تغيير الأمور وتحويلها وعلى(6/186)
منع الأمور وتيسيرها. قال تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} ، وكم من آية في السماوات والأرض تبرهن على قدرته، وأن جميع الأمور بيده فإذا حققتم ذلك أوجب لكم أن تعلقوا رجاءكم به عند الشدائد وأن تسألوه ما تحبون عند المطالب وأن تعلموا أن قدرته وإرادته فوق الأسباب، وكم من أمور حدثت مع استبعاد الناس حدوثها، وكم من أمور عدمت مع استبعاد الناس عدمها كل ذلك دليل على أن قدرته فوق كل تقدير وتدبيره فوق كل تدبير.
عباد الله: آمنوا بأن الله حكيم يضع الأمور في مواضعها فلم يخلق خلقا عبثا ولم يشرع شرعا سفها، فكل ما قضاه وقدره فلحكمة، وكل ما شرعه لعباده من أمر ونهي فلحكمة، فإذا آمنتم بذلك حق الإيمان أوجب لكم أن تقفوا عند أفعال الله وأحكامه وأن لا تعترضوا على شرعه وخلقه وأن تتأدبوا بالأدب الواجب تجاه حكمة الله، فإن تبينت لكم الحكمة فذلك من فضل الله ومن نعمته، وإن لم تتبين لكم الحكمة فكلوا الأمر إلى العليم الحكيم واعرفوا كمال علم الله وحكمته ونقص علمكم وحكمتكم، وقولوا رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نبيا. كيف يعترض على شرع الله من كان مؤمنا بالله وعلمه وحكمته.
أيها المسلمون: آمنوا بأن الله حكم عدل قهار، فإذا حققتم الإيمان بذلك أوجب لكم الإنصاف من أنفسكم والامتناع عن(6/187)
الظلم لأن فوق أيديكم يد الواحد القهار، واعلموا أن لكم موقفا بين يدي الله عز وجل يقضي فيه للمظلوم من الظالم حتى يتمنى القاضي العادل أنه لم يقض بين اثنين في تمرة لما يرى من أخذ الظلمة فيخاف أن يكون قد ظلم فيتمنى أن يكون قد سلم، لكن القاضي العادل الذي علم الحق فقضى به ليس عليه إثم ولا وبال بل هو في الجنة وغير القاضي من الولاة مثله، فليحذر من ولاه الله على شيء أن يظلم وليتذكر أن الله حكم عدل قهار.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم....إلخ.(6/188)
خطبة في ذكر بعض آيات الله الكونية
الحمد لله الملك الحق المبين الذي أبان لعباده من آياته ما به عبرة للمعتبرين وهداية للمهتدين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما.
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واحمدوه على ما أراكم من آياته الدالة على وحدانيته وعلى كمال ربوبيته فإن في كل شيء له آية تدل على أنه إله واحد كامل العلم والقدرة والرحمة، فمن آياته خلق السماوات والأرض فمن نظر إلى السماء في حسنها وكمالها وارتفاعها وقوتها عرف بذلك تمام قوله تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} . ومن نظر إلى الأرض كيف مهدها الله وسلك لنا فيها سبلا وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها ويسرها لعباده فجعلها لهم ذلولا يمشون في مناكبها ويأكلون من رزقه، فيحرثون ويزرعون ويستخرجون منها الماء فيسقون ويشربون، وكيف جعلها الله تعالى قرارا للخلق لا(6/189)
تضطرب بهم ولا تزلزل بهم إلا بإذن الله: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ} مختلفة في ذاتها وصفاتها ومنافعها، وفي الأرض جنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل، فمن تأمل ذلك علم كمال قدرة الله تعالى ورحمته بعباده.
ومن آياته ما بث الله تعالى في السماوات والأرض من دابة، ففي السماء ملائكته لا يحصيهم إلا الله تعالى ما من موضع أربع أصابع إلا وفيه ملك قائم لله تعالى أو راكع أو ساجد، يطوف منهم كل يوم بالبيت المعمور في السماء السابعة سبعون ألف ملك لا يعودون إليه إلى يوم القيامة، وفي الأرض من أجناس الدواب وأنواعها ما لا يحصى أجناسه فضلا عن أنواعه وأفراده، هذه الدواب مختلفة الأجناس والأشكال والأحوال، فمنها النافع للعباد الذي به يعرفون كمال نعمة الله عليهم، ومنها الضار الذي يعرف الإنسان به قدر نفسه وضعفه أمام خلق الله، وهذه الدواب المنتشرة في البراري والبحار تسبح بحمد الله وتقدس له وتشهد بتوحيده وربوبيته {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} وكل هذه الدواب رزقها على خالقها وبارئها {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} .(6/190)
ومن آياته تعالى الليل والنهار، الليل جعله الله تعالى سكنا للعباد يسكنون فيه وينامون ويستريحون، والنهار جعله الله تعالى معاشا للناس يبتغون فيه من فضل الله {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .
ومن آيات الله تعالى الشمس والقمر حيث يجريان في فلكهما منذ خلقهما الله تعالى حتى يأذن بخراب العالم يجريان بسير منتظم لا تغير فيه ولا انحراف ولا فساد ولا اختلاف: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} ، ومن آياته تعالى هذه الكواكب والنجوم العظيمة التي لا يحصيها كثرة ولا يعلمها عظمة إلا الله تعالى، فمنها السيارات ومنها الثوابت ومنها المتصاحبات التي لا تزال مقترنة، ومنها المتفارقات التي تجمع أحيانا وتفترق أحيانا تسير بأمر الله تعالى وتدبيره زينة للسماء ورجوما للشياطين وعلامات يهتدى بها، فالكون كله من آيات الله جملة وتفصيلا هو الذي خلقه وهو المدبر له وحده لا يدبر الكون نفسه ولا يدبره أحد غير الله. يقول الله تعالى مبرهنا(6/191)
على ذلك: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ} . نعم فالعالم لم يخلق نفسه ولم يكن مخلوقا من غير شيء، بل لا بد له من خالق يخلقه ويقوم بأمره وهو الله سبحانه لا خالق غيره ولا رب سواه.
أيها الناس: لو حدثتم بقصر مشيد مكتمل البناء قد بنى نفسه لقلتم هذا من أكبر المحال، ولو قيل لكم إن هذا القصر وجد صدفة لقلتم هذا أبلغ محالا، إذن فهذا الكون الواسع كون العالم العلوي والعالم السفلي لا يمكن أن يوجد نفسه ولا يمكن أن يوجد صدفة بلا موجد، بل لا بد له من موجد واحد عليم قادر وهو الله سبحانه وتعالى.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ} إلى قوله تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.... الخ.(6/192)
خطبة في ذكر بعض آيات الله الكونية أيضا
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وجعل في ذلك من المصالح العظيمة والحكم البالغة ما تتقاصر دونه فهوم ذوي الأفهام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك القدوس السلام، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله سيد الأنام ومصباح الظلام، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ما تعاقبت الليالي والأيام وسلم تسليما.
أما بعد: أيها الناس اتقوا ربكم واشكروه على ما هداكم وعلمكم ما لم تكونوا تعلمون، علمكم ما فيه صلاح دينكم ودنياكم وحجب عنكم من العلم ما لا تدركه عقولكم ولا تتعلق به مصالحكم رحمة بكم {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} .
علمكم كيف ابتدأ خلق هذا العالم وهو الأمر الذي لا يمكن علمه إلا من طريق الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، فكل من ذكر شيئا عن كيفية خلق السماوات والأرض فإن الواجب أن نعرض قوله على ما جاءت به الرسل، فإن طابقه فهو مقبول، وإن خالفه فهو مردود، وإن كان مسكوتا عنه فيما جاءت به الرسل فإننا نتوقف فيه حتى يتبين لنا أمره من حق أو باطل.
لقد علمنا الله أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، ابتدأ خلق الأرض في يومين وجعل فيها رواسي من(6/193)
فوقها وهيأها لما تصلح له من الأقوات في يومين آخرين فتلك أربعة أيام، ثم استوى إلى السماء وهي دخان فسواهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها، فتلك ستة أيام خلق الله فيها السماوات والأرض وأودع فيهن مصالحهن، فأخرج من الأرض ماءها ومرعاها وقدر الأقوات فيها تقديرا يناسب الزمان والمكان لتكون الأقوات متنوعة ومستمرة أنواعها في كل زمان، وليتبادل الناس الأقوات فيما بينهم يصدر هذا إلى هذا وهذا إلى هذا فيحصل بذلك من المكاسب والاتصال بين الناس ما فيه مصلحة الجميع، وزين الله السماء الدنيا بمصابيح وهي النجوم وجعلها رجوما للشياطين التي تسترق السمع من السماء وعلامات يهتدي بها الناس في البر والبحر.
وسخر لعباده الليل والنهار يتعاقبان على الأرض لتقوم مصالح العباد في دينهم ودنياهم، وقد بين الله تعالى فضله علينا في ذلك حيث يقول لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .
واختلاف الليل والنهار يكون بسبب دوران الشمس على الأرض، فإن الله سخر لنا الشمس والقمر دائبين وجعلهما آيتين(6/194)
من آيات الله الدالة على كمال قدرته وسعة رحمته، فمنذ خلقهما الله تعالى وهما يسيران في فلكيهما على حسب أمر الله لا يرتفعان عنه صعودا ولا ينحدران عنه نزولا ولا يميلان يمينا ولا شمالا وقدرهما منازل لتعلموا عدد السنين والحساب، فباختلاف منازل القمر تختلف الأهلة والشهور، وباختلاف منازل الشمس تختلف الفصول، فإذا حلت الشمس آخر البروج الشمالية انتهى النهار في الطول ودخل فصل القيظ ثم ترجع شيئا فشيئا حتى ترجع إلى البروج اليمانية فإذا حلت آخر برج منها انتهى الليل في الطول ودخل فصل الشتاء، وفي اختلاف الفصول من المصالح وتنوع الأقوات ما يعرف به قدر نعمة الله ورحمته وحكمته.
وهكذا تسير الشمس والقمر في فلكيهما في انتظام باهر وسير محكم كل يجري إلى أجل مسمى إلى أن يأذن الله بخراب هذا العالم فتخرج الشمس من مغربها كما في صحيح البخاري عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين غربت الشمس: «أتدري أين تذهب؟ " قلت: الله ورسوله أعلم. قال: " فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها، وتوشك أن تسجد فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها ويقال لها: ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها» . وفي هذا الحديث دليل ظاهر على أن الشمس تسير بنفسها كما يدل على ذلك قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} وقوله: {كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} وقوله: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} .(6/195)
فهذه الأدلة تكذب ما يقال من أن الشمس ثابتة لا تدور وتدل على أنه قول باطل يجب رده وتكذيبه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} . أقول قولي هذا ... الخ.(6/196)
خطبة في بيان بدعة عيد المولد
الحمد لله الذي من على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين الذي أسبغ على عباده نعمه ووسعهم برحمته وهو أرحم الراحمين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي أرسله ليخرج الناس من الظلمات إلى النور ويكمل لهم به الدين، فلم يترك شيئا يقرب إلى الله وينفع الخلق إلا بينه وأمر به ولا شيئا يبعدهم عن ربهم أو يضرهم إلا حذر عنه حتى ترك أمته على ملة بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما.
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واعلموا أن أعظم منة وأكبر نعمة من الله على عباده أن بعث فيهم الرسل مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وكان من أعظمهم قدرا وأبلغهم أثرا وأعمهم رسالة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي بعثه الله تعالى لهداية الخلق أجمعين وختم به النبيين، بعثه الله على حين فترة من الرسل والناس أشد ما يكونون حاجة إلى نور الرسالة، فهدى الله به من الضلالة وألف به بعد الفرقة وأغنى به بعد العيلة فأصبح الناس بنعمة(6/197)
الله إخوانا وفي دين الله أعوانا فدانت الأمم لهذا الدين وكان المتمسكون به غرة بيضاء في جبين التاريخ، فلما كانت الأمة الإسلامية حريصة على تنفيذ شرع الله متمشية في عباداتها ومعاملاتها وسياستها الداخلية والخارجية على ما كان عليه قائدها وهاديها محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما كانت الأمة الإسلامية على هذا الوصف كانت هي الأمة الظاهرة الظافرة المنصورة، ولما حصل فيها ما حصل من الانحراف عن هذا السبيل تغير الوضع فجعل بأسهم بينهم وسلط عليهم، وكانوا غثاء كغثاء السيل فتداعت عليهم الأمم وفرقتهم الأهواء ولن يعود لهذه الأمة مجدها الثابت وعزها المستقر حتى تعود أفرادا وشعوبا إلى دينها الذي به عزتها وتطبق هذا الدين قولا وعملا وعقيدة وهديا على ما جاء عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه الكرام، وإن من تمام تطبيقه أن لا يشرع شيء من العبادات والمواسم الدينية إلا ما كان ثابتا عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإن الناس إنما أمروا أن يعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء، فمن تعبد الله بما لم يشرعه الله فعمله مردود عليه لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» وهو في نظر الشارع بدعة وكل بدعة ضلالة.
وإن من جملة البدع ما ابتدعه بعض الناس في شهر ربيع الأول من بدعة عيد المولد النبوي، يجتمعون في الليلة الثانية عشرة منه في المساجد أو البيوت فيصلون على النبي - صلى الله عليه(6/198)
وسلم - بصلوات مبتدعة ويقرؤون مدائح للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تخرج بهم إلى حد الغلو الذي نهى عنه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وربما صنعوا مع ذلك طعاما يسهرون عليه، فأضاعوا المال والزمان وأتعبوا الأبدان فيما لم يشرعه الله ولا رسوله ولا عمله الخلفاء الراشدون ولا الصحابة ولا المسلمون في القرون الثلاثة المفضلة ولا التابعون بإحسان، ولو كان خيرا لسبقونا إليه ولو كان خيرا ما حرمه الله تعالى سلف هذه الأمة وفيهم الخلفاء الراشدون والأئمة، وما كان الله تعالى ليحرم سلف هذه الأمة ذلك الخير لو كان خيرا. ثم يأتي أناس من القرن الرابع الهجري فيحدثون تلك البدعة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في كتابه (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم) :
ما يحدثه بعض الناس إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى وإما محبة للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتعظيما له من اتخاذ مولد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عيدا مع اختلاف الناس في مولده، فإن هذا لم يفعله السلف مع قيام المقتضي له وعدم المانع، ولو كان خيرا محضا أو راجحا كان السلف أحق به منا، فإنهم كانوا أشد محبة للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتعظيما له منا وهم على الخير أحرص، وإنما كانت محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته واتباع أمره وإحياء سنته ظاهرا وباطنا ونشر ما بعث به والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان، وأكثر هؤلاء الذين تجدهم حرصاء على هذه البدع تجدهم فاترين في أمر الرسول - صلى الله عليه(6/199)
وسلم - مما أمروا بالنشاط فيه، وإنما هم بمنزلة من يحلي المصحف ولا يقرأ فيه ولا يتبعه ا. هـ كلامه رحمه الله تعالى.
أيها المسلمون إن بدعة عيد المولد التي تقام في شهر ربيع الأول في الليلة الثانية عشرة منه ليس لها أساس من التاريخ لأنه لم يثبت أن ولادة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانت تلك الليلة، وقد اضطربت أقوال المؤرخين في ذلك فبعضهم زعم أن ولادته في اليوم الثاني من الشهر وبعضهم في الثامن وبعضهم في التاسع وبعضهم في العاشر، وبعضهم في الثاني عشر، وبعضهم في السابع عشر، وبعضهم في الثاني والعشرين، فهذه أقوال سبعة ليس لبعضها ما يدل على رجحانه على الآخر فيبقى تعيين مولده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الشهر مجهولا إلا أن بعض المعاصرين حقق أنه كان في اليوم التاسع.
وإذا لم يكن لبدعة عيد مولد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أساس من التاريخ فليس لها أساس من الدين أيضا، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يفعلها ولم يأمر بها ولم يفعلها أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة» . وكان يقول في خطبة الجمعة: «أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في»(6/200)
«النار» . والأعياد والمواسم الدينية التي يقصد بها التقرب إلى الله تعالى بتعظيمه وتعظيم نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هي من العبادات، فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله تعالى ورسوله ولا يتعبد أحد بشيء منها إلا ما جاء عن الله ورسوله. وفيما شرعه الله تعالى من تعظيم رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ووسائل محبته ما يغني عن كل وسيلة تبتدع وتحدث. فاتقوا الله عباد الله واستغنوا بما شرعه عما لم يشرعه وبما سنه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عما لم يسنه.
أيها المسلمون، إننا لم نتكلم عن هذه البدعة لأنها موجودة في بلادنا فإنها ولله الحمد لم تعرفها ولا تعمل بها اقتداء برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، ولكن لما كان الكثير قد يسمع عنها في الإذاعات أردنا أن نبين أصلها وحكمها حتى يكون المسلمون على بصيرة منها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} . أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(6/201)
خطبة في ذكر شيء من آيات النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-
الحمد لله الذي أيد الرسول محمدا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالآيات البينات واختصه بالفضائل الكثيرة والكرامات، وأشهد أن لا إله وحده لا شريك له في الألوهية والربوبية والأسماء والصفات، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى على جميع المخلوقات المبعوث رحمة للعالمين وقدوة للسالكين إلى رب الأرض والسماوات، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان في الأقوال والأعمال والاعتقادات وسلم تسليما.
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واعرفوا ما أيد الله به نبيكم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الآيات فإن الله أعطاه من الآيات ما يؤمن على مثله البشر، وأبلغ ما أوتيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذا القرآن العظيم، ففيه عبرة لمن اعتبر، فيه خبر ما قبلكم ونبأ ما بعدكم وفصل ما بينكم، اشتمل على ذكر أخبار الأولين والآخرين وعلى الفصاحة والبلاغة اللتين عجزت عنهما مدارك الجن والإنس السابقين منهم واللاحقين: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} أي معاونا، ألا وإن من أعظم آياته سيرته في عبادته ومعاملاته وأخلاقه، كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتقى الناس لله تعالى وأجود الناس وأشجعهم وأصبرهم وأحسنهم مجالسة وألطفهم مكالمة وألينهم جانبا، وأبلغهم في جميع(6/202)
صفات الكمال ألا وإن من آياته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انشقاق هذا القمر فرقتين كل فرقة منهما على جبل حين طلب أهل مكة من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آية، ألا وإن من آياته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إجابة دعائه في استسقائه واستصحائه وغير ذلك، ففي صحيح البخاري عن أنس - رضي الله عنه - قال: «بينما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب في يوم الجمعة قام أعرابي فقال: يا رسول الله، هلك المال وجاع العيال، فادع الله لنا، فرفع يديه، وما نرى في السماء قزعة - يعني قطعة غيم - فوالذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته حتى الجمعة الأخرى، فقام ذلك الأعرابي أو قام غيره، فقال: يا رسول الله، تهدم البناء وغرق المال فادع الله لنا فرفع يديه، فقال: اللهم حوالينا ولا علينا، فما يشير إلى ناحية من السماء إلا انفرجت وصارت المدينة في مثل الجوبة» يعني أن ما فوقها صحو وما على جوانبها ليس بصحو وإنما يمطر.
ومن آياته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه حضرت الصلاة ذات يوم وهو في أصحابه وليس عندهم ما يتوضئون به فجيء بقدح فيه ماء يسير، فأخذه نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فتوضأ منه ثم مد أصابعه الأربع على القدح فجعل الماء ينبع من بين أصابعه حتى توضأ القوم أجمعون، وكانوا ثمانين رجلا. وأتى بإناء فيه ماء يسير لا يغطي أصابعه فوضع يده فيه فجعل الماء ينبع من بين أصابعه فتوضأ القوم أجمعون وكانوا ثلاثمائة رجل.(6/203)
ومن آياته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه أراد ذات يوم أن يقضي حاجته فنظر فلم ير شيئا يستتر به فإذا بشجرتين بشاطئ الوادي فانطلق إلى إحداهما فأخذ بغصن من أغصانها، فقال: انقادي علي بإذن الله! فانقادت عليه كالبعير الذي يصانع قائده، ثم فعل بالأخرى مثلها ثم جمعهما فقال: التئما علي بإذن الله! فالتأمتا عليه، فلما فرغ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - افترقتا وقامت كل واحدة منهما على ساق، وقال له جبريل: أتحب أن أريك آية؟! قال: نعم. قال: فنظر إلى شجرة من وراء الوادي فقال: ادع تلك الشجرة، فدعاها، فجاءت تمشي حتى وقفت بين يديه، فقال جبريل: مرها فلترجع! فأمرها فرجعت إلى مكانها.
«وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: كنت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمكة فخرجنا في بعض نواحيها فما استقبله جبل ولا شجر إلا قال: السلام عليكم يا رسول الله» . «وجاء قوم إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: يا رسول الله! إن لنا بعيرا قد ند في حائط فجاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى البعير فقال: تعال فجاء البعير مطأطئا رأسه حتى خطمه وأعطاه أصحابه، فقال أبو بكر: يا رسول الله! كأنه علم أنك نبي، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ما بين لا بتيها أحد لا يعلم أني نبي الله إلا كفرة الجن والإنس ".» وآياته الدالة على أنه رسول الله كثيرة جدا، فسبحان من أيد هذا النبي بأنواع الآيات البينات ورفع له ذكره بين جميع المخلوقات اللهم فأحينا على سنته وتوفنا على ملته وأوردنا(6/204)
حوضه واسقنا منه إنك جواد كريم رؤوف رحيم.(6/205)
خطبة في ذكر شيء من آيات الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام
الحمد لله الذي له ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له نعم المولى ونعم النصير، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم المعاد والمصير وسلم تسليما.
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واعلموا أن الله تعالى له تمام الملك وكمال الحمد فمن تمام ملكه وكماله أنه لا يعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض وأنه ما من شيء في السماوات والأرض إلا هو خالقه ومالكه ومدبره ومن تمام حمده وكماله أنه لم يقدر شيئا ولم يشرع مشروعا إلا لحكمة وعلى وفق الحكمة، ومن ذلك ما يقدره الله تعالى من الآيات الدالة على صدق الرسل تأييدا لهم وإقامة للحجة على أممهم، فهذه النار الحارة المهلكة كانت بردا وسلاما على إبراهيم نبي الله وخليله - عليه الصلاة والسلام - حين ألقاه فيها كفار قومه قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: لولا أن الله قال: (وسلاما) لآذى إبراهيم بردها.
وهذا نبي الله موسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضرب بعصاه البحر فانفلق اثني عشر طريقا حتى ظهرت أرض البحر يبسا، وكان الماء السائل من بين هذه الطرق كالجبال راكدا لا يسيل،(6/206)
ولما استسقى لقومه أمر أن يضرب بعصاه الحجر فتفجر الحجر عيونا اثنتي عشرة عينا، وكان يضع عصاه فتنقلب حية تسعى فإذا أخذه رجع على حاله الأولى.
وهذا عيسى ابن مريم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يحيي الموتى بإذن الله فيأتي إلى القبر فيدعو صاحبه فيخرج بإذن الله وكان يخلق من الطين على صورة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا يطير بإذن الله.
وهذا رسول الله وخليله محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جرى له من الآيات الدالة على صدقه شيء كثير، فمن ذلك أن أهل مكة سألوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يريهم آية فأراهم القمر شقين حتى رأوا حراء بينهما ثبت ذلك بطرق متواترة قطعية، واتفق عليه العلماء والأئمة وكان إذا قحط المطر يستسقي فما ينزل حتى يجيش كل ميزاب. قال أنس - رضي الله عنه: رفع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يديه يستسقي وما رأينا في السماء قزعة، فوالذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثار سحاب أمثال الجبال ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته. قال: فمطرنا إلى الجمعة الأخرى، فقام ذلك الأعرابي أو غيره فقال: يا رسول الله تهدم البناء وغرق المال فادع الله لنا، فرفع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يديه وقال: «اللهم حوالينا ولا علينا» فما يشير بيده إلى ناحية من السماء إلا انفرجت حتى صارت المدينة في مثل الإكليل. والمطر حولها يمينا وشمالا،(6/207)
وعطش الناس يوم الحديبية وبين يدي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركوة (الركوة إناء من جلد يشرب منه الماء) يتوضأ منها فجهش الناس نحوه، فقال: " مالكم؟ " قالوا: ليس عندنا ماء نتوضأ ولا نشرب إلا ما بين يديك، فوضع يده في الركوة فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون، فشربنا وتوضأنا. قيل لجابر: كم كنتم؟ قال: لو كنا مئة ألف لكفانا، كنا ألفا وخمسمائة. أو قال: ألفا وأربعمائة.
وكان المسلمون في سفر مع نبيهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاحتاجوا إلى الطعام فدعا ببقايا طعام كانت معهم فدعا الله فيها بالبركة ثم أمرهم أن يأتوا بأوعيتهم فجاؤوا بها فملأها وفضل فضل كثير، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند ذلك: «أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أني عبد الله ورسوله، ومن لقي الله عز وجل بهما غير شاك دخل الجنة» .
وكان له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جذع نخلة يسند ظهره إليه يوم الجمعة، فلما صنع له المنبر وخطب عليه جعل الجذع يئن كما يئن الصبي حتى نزل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسكنه كما يسكن الصبي حتى سكن. ولله تعالى من الآيات وخوارق العادات ما يشهد بتمام ملكه وقدرته وما هو أعظم برهان على علمه وحكمته، قال الله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.(6/208)
خطبة في الدجال ونزول عيسى ابن مريم
الحمد لله الذي يسر لنا الأسباب المانعة من الضلال والافتتان ووضح لنا الفتن وبين لنا الأسباب التي نتحصن بها أعظم بيان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك المنان، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى من بني عدنان، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاة مستمرة باستمرار الزمان وسلم تسليما.
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واعلموا أن ما أخبر به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أشراط الساعة وأماراتها حق يجب اعتقاده، وقد ذكر للساعة أشراطا كثيرة منها ما مضى ومنها ما هو حاضر، ومنها ما هو مستقبل وأبلغ ما يكون من أشرا طها وأعظمه فتنة هي فتنة المسيح الدجال، فقد صح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة أمر أكبر من الدجال وإنه ما من نبي إلا وقد أنذر به أمته، وإنه يجيء معه بمثل الجنة والنار، فالتي يقول إنها جنة نار تحرق، والتي يقول: إنها نار ماء عذب طيب، فمن أدرك ذلك منكم فليقع فيه» . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج ولست فيكم فكل امرئ حجيج نفسه والله خليفتي على كل مسلم، إنه شاب قطط أعور العين اليسرى مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب، فمن أدركه منكم»(6/209)
«فليقرأ عليه بفواتح سورة الكهف فإنها جواركم من فتنته، إنه خارج خلة بين الشام والعراق فعاثٍ يمينا وعاثٍ شمالا، يا عباد الله فاثبتوا ". قلنا: يا رسول الله وما لبثه في الأرض؟ قال: "أربعون يوما: يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم " قلنا: يا رسول الله! فاليوم الذي كسنة يكفينا فيه صلاة واحدة؟ قال: " لا، اقدروا له قدره» . وأما إسراعه في الأرض فكالغيث استدبرته الريح يأتي على القوم يدعوهم فيؤمنون به فيأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت ويدعو قوما آخرين فيردون دعوته فينصرف عنهم فيصبحون ممحلين، يمر بالخربة فيأمرها فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل، ويؤتى برجل فيقول: أيها الناس هذا الدجال الذي ذكر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيأمر به الدجال فيوسع ظهره وبطنه ضربا ثم يقول: أوما تؤمن بي؟ فيقول: أنت المسيح الكذاب، فيؤمر به فيؤشر بالميشار من مفرقه حتى رجليه، ثم يمشي الدجال بين القطعتين ثم يقول له: قم فيستوي قائما، ثم يقول: أتؤمن بي؟ فيقول: ما ازددت فيك إلا بصيرة، فيأخذه الدجال ليذبحه فلا يسلط عليه.
وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليفرن الناس من الدجال حتى يلحقوا بالجبال " قالت أم شريك: فأين العرب يومئذ؟ قال: "هم قليل» . ويتبع الدجال من يهود أصفهان سبعون ألفا فيخرج همته المدينة فتصرف الملائكة وجهه عنها؛ لأن على كل باب منها ملكين يمنعانه من الدخول، فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح ابن(6/210)
مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهودتين (أي حلتين مصبوغتين بورس أو زعفران) واضعا كفيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدر منه مثل جمان كاللؤلؤ، فلا يحل لكافر يجد من ريح نفسه إلا مات ونفسه ينتهي حيث ينتهي إليه طرفه فيطلب الدجال حتى يدركه بباب لد فيقتله.
فسبحان من مكن الدجال من هذه المعجزات فتنة لعباده وبين لهم العلامات التي تبين بطلان ما ادعاه وفساده، فإنه أعور ناقص في ذاته وإنه مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كل مؤمن، إنه إذا قتل الرجل ثم أحياه لم يقدر عليه بعد ذلك فهو ناقص في قدرته، إن جنته نار وناره ماء طيب عذب، فما جاء به باطل إنه مخلوق وجد بعد أن لم يكن، إنه يفنى ويقتل، وإنه في الأرض لا في السماء، وكل هذه صفات المخلوق الناقص التي تبرهن على أنه ليس بإله {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} بارك الله لي ولكم.(6/211)
خطبة في ذكر يأجوج ومأجوج
الحمد لله العلي القدير السميع البصير الذي أحاط بكل شيء علما وهو اللطيف الخبير، علم ما كان وما يكون وخلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نرجو بها النجاة في يوم النشور، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير - صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن على طريقتهم يسير وسلم تسليما -.
أما بعد: أيها المؤمنون اتقوا الله تعالى واستعدوا لليوم الآخر فقد أنذرتموه واستقبلوه بالأعمال الصالحة واخشوا من عقابه واحذروه، وقد قدم الله تعالى بين يدي هذا اليوم أشراطا وعلامات وذلك لعظم هوله وشدته، فإنه اليوم الذي يجازى فيه الخلائق فيجزي المؤمن بحسناته ويجزي المسيء بالسيئات.
ألا وإن من أشراط الساعة خروج يأجوج ومأجوج وهم قوم من بني آدم على صفة الآدميين، وأما ما يعتقده بعض الناس من أن فيهم الطويل المفرط وفيهم القصير جدا وأنهم على أشكال غريبة، فإن هذا الاعتقاد مبني على غير دليل صحيح وقد ورد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنهم عراض الوجوه صغار العيون صهب الشعور، وقد حذر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العرب من خروج يأجوج ومأجوج لأنهم قوم مفسدون في(6/212)
الأرض والعرب حملة راية الإصلاح إلى العالم لأن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث فيهم، فعن زينب أم المؤمنين - رضي الله عنها - قالت: استيقظ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من نومه محمرا وجهه وهو يقول: «" لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه " وحلق بأصبعه الإبهام والتي تليها، قالت زينب: فقلت: يا رسول الله أفنهلك وفينا الصالحون؟ قال:"نعم إذا كثر الخبث» . فأما وقت خروجهم الذي تكون به نهايتهم وهلاكهم، فإنه إذا قتل عيسى ابن مريم الدجال أوحى الله إليه إني قد أخرجت عبادا لي لا قوة لأحد على قتالهم -يعني يأجوج ومأجوج- فيبعثهم الله من كل حدب ينسلون - أي من كل موضع مرتفع يأتون سراعا - وهذا دليل على كثرتهم وقوتهم وجشعهم، فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها ويمر آخرهم على البحيرة وقد شرب ماؤها فيقولون: لقد كان في هذه مرة ماء، ثم يسيرون حتى يصلوا إلى جبل بيت المقدس فيقولون: لقد قتلنا من في الأرض هلم فلنقتل من في السماء، فيرمون بنشابهم إلى السماء فيرد الله عليهم نشابهم مخضوبة دما فتنة لهم وينحصر نبي الله عيسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه في الطور ويضيق عيشهم قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «" حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرا من مئة دينار لأحدكم اليوم» ، فيبتهل عيسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه إلى الله تعالى أن يهلك يأجوج ومأجوج فيرسل(6/213)
الله عليهم دودا في رقابهم فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة، ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه من الطور فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا وقد ملأه زهم يأجوج ومأجوج ونتنهم، فيبتهل عيسى وأصحابه إلى الله تعالى فيرسل على جثث يأجوج ومأجوج طيرا كأعناق الإبل البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله تعالى، ثم يرسل الله تعالى مطرا لا يكن منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض حتى يدعها كالمرآة في نظافتها، ثم يقال لها: أنبتي ثمرتك وردي بركتك، فتنزل البركة في الثمرات والدر حتى إن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس، فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحا طيبة فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمير فعليهم تقوم الساعة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَاوَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} . بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ... إلخ.(6/214)
خطبة في ذكر عدد من أشراط الساعة
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب فمنه بدأ وإليه يعود والحمد لله الذي بوأ لإبراهيم مكان البيت للركوع والسجود وتبارك الذي له ملك السماوات والأرض وعنده علم الساعة وإليه المآب والرجوع، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء شهيد، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله سيد الرسل وخلاصة العبيد، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم في التقوى والقول السديد وسلم تسليما.
أما بعد: أيها المؤمنون اتقوا الله تعالى فإن تقوى الله سبب لسعادة الدنيا والآخرة، ومن يتق الله يجعل له من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا وييسر له أمره وينور له قلبه ويغفر له ذنبه، ألا وإن التقوى هي اتخاذ ما يقي من عذاب القبر وعذاب الجحيم ولا يكون ذلك إلا بفعل الأوامر واجتناب النواهي والخوف من الرب العظيم، ولا يكون ذلك إلا بتقديم العدة والاستعداد لليوم الآخر العظيم، ذلك اليوم الذي تحشرون فيه إلى الله حافية أقدامكم عارية أجسامكم شاخصة أبصاركم ذاهلة عقولكم، ولما كان هذا اليوم عظيم الأهوال شديد الأحوال قدم الله بين يديه من العلامات والدلائل ما يبين به اقترابه ليستعد له ويحذر عذابه، وقد سبق لنا من علامات الساعة خروج الدجال(6/215)
ونزول عيسى ابن مريم وخروج يأجوج ومأجوج، ألا وإن من علامات الساعة طلوع الشمس من مغربها، ففي صحيح البخاري أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأبي ذر حين غربت الشمس: «"أتدري أين تذهب؟ " قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها، وتوشك أن تسجد فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها فيقال لها ارجعي من حيث جئت» . فذلك قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} . وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «" لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون، وذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا» .
وإنما كان طلوع الشمس من مغربها من علامات الساعة لأن هذه الشمس من آيات الله ولم يتغير مجراها منذ خلقها الله تعالى حتى يأتي أمر الله، فإذا تغير نظامها دل ذلك على أن العالم قد آذن بالخراب والزوال.
ألا وإن من أشراط الساعة بعثة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن أشراطها رفع هذا القرآن العظيم عندما يعرض الناس عن العمل به إعراضا كليا، فإنه من كرامته أن يرفع عن الناس حتى لا يبقى بين قوم يمتهنونه فلا يصدقون أخباره ولا يعملون بأحكامه، يرفع فلا يبقى في المصاحف منه آية ولا في الصدور منه كلمة.(6/216)
ومن أشراط الساعة هدم الكعبة المكرمة بيت الله المعظم، فإنه يهدمه في آخر الزمان رجل حبشي أسود أفحج دقيق الساقين ينقضها حجرا حجرا حتى يأتي إلى آخرها.
فهذه الأشراط وأمثالها مما جاء به كتاب الله أو صح عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجب على المسلمين أن يقروا بها ويعتقدوها وأن يعتقدوا أنها حق على حقيقتها فلا يحرفوها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} . بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ... إلخ.(6/217)
خطبة في حكم الإيمان بالقدر
الحمد لله الذي أحاط بكل شيء علما وهو على كل شيء قدير وجعل لكل شيء قدرا وأجلا مطابقا لعلمه وحكمته وهو الحكيم الخبير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الألوهية والخلق والتدبير، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم المعاد والمصير وسلم تسليما.
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى وآمنوا به وآمنوا بقضائه وقدره، فإن الإيمان بالقدر أحد أركان الإيمان، فلن يتم الإيمان حتى يؤمن العبد بالقدر خيره وشره، ولا يتم الإيمان بالقدر حتى يؤمن الإنسان بأربعة أمور: الأول: علم الله المحيط بكل شيء، فإنه سبحانه بكل شيء عليم. عليم بالأمور كلها دقيقها وجليلها، سرها وعلنها، فلا يخفى على الله شيء في الأرض ولا في السماء.
الأمر الثاني: أن الله كتب في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء إلى قيام الساعة من قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، فإن الله لما خلق القلم قال له: اكتب. قال: رب وماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن، فكتب بعلم الله وإذنه ما هو كائن إلى يوم القيامة، فما كتب على الإنسان لم يكن ليخطئه وما لم يكتب عليه لم يكن ليصيبه جفت الأقلام وطويت(6/218)
الصحف قال الله تعالى {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} . فعلى العبد إذا جرت الأقدار على ما لا يحب أن يرضى بقضاء الله وقدره وأن يستسلم للقضاء المكتوب، فإنه لا بد أن يكون ويقع فلا راد لقضاء الله وقدره، لكن الفخر كل الفخر لمن يقابل ذلك بالرضا ويعلم أن الأمر من الله إليه، وأنه سبحانه له التدبير المطلق في خلقه فيرضى به ربا ويرضى به إلها وبذلك يحصل له الثواب العاجل والآجل، فإن من أصيب بالمصائب فصبر هدى الله قلبه وشرح الله صدره وهون عليه المصيبة لما يرجو من ثوابها عند الله، ثم إذا بعث يوم القيامة وهو أحوج ما يكون إلى الأجر والثواب وجد أجر مصيبته وصبره عليها مدخرا له عند الله وإنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب، وكما أن الله تعالى كتب في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء فكذلك يكتب سبحانه ويقدر في ليلة القدر ما يكون في السنة كلها، كما قال تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} .
وكذلك يكتب على الإنسان وهو في بطن أمه ما سيجري عليه كما قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: حدثنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو الصادق المصدوق، فقال: «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله،»(6/219)
«وعمله، وشقي أو سعيد، فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها» ، وهذا الرجل الذي كان يعمل بعمل أهل الجنة ثم ختم له بعمل أهل النار إنما كان يعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس ولم تكن نيته في الإخلاص والقصد نية مستقيمة، فلذلك عوقب بسوء الخاتمة كما جاء ذلك مفسرا في حديث آخر.
الأمر الثالث مما يتم به الإيمان بالقدر: أن تؤمن بمشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فمشيئة الله وقدرته فوق كل قدرة {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} .
الأمر الرابع: أن تؤمن بأن الله خالق كل شيء ومدبر كل شيء، وأن ما في السماوات والأرض من صغير ولا كبير ولا حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله وخلقه، فمن الأشياء ما يخلقه الله بغير سبب معلوم لنا، ومنها ما يكون سببه معلوما لنا، والكل من خلق الله وإيجاده فنسأل الله بأسمائه وصفاته أن يجعلنا وإياكم ممن رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نبيا وأن يقدر لنا بفضله ما فيه صلاحنا وسعادتنا في(6/220)
الدنيا والآخرة إنه جواد كريم وصلى الله وسلم على عبده ونبيه محمد وآله وأصحابه وأتباعهم إلى يوم الدين.(6/221)
خطبة في حكم الإيمان بالقدر وكيفيته أيضا
الحمد لله الذي خلق كل شيء فقدره تقديرا وجرت الأمور على ما يشاء حكمة وتدبيرا، ولله ملك السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله ولن تجد من دونه وليا ولا نصيرا، وأشهد أن لا إله إلا الله له الملك وله الحمد وكان الله على كل شيء قديرا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعهم وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى وآمنوا به، آمنوا بقضائه وقدره ومشيئته وخلقه، فإن الإيمان بالقدر أحد أركان الإيمان ولن يتم إيمان العبد حتى يحقق الإيمان بالقضاء والقدر.
وللإيمان بالقضاء والقدر أركان لا يتم إلا بها.
الركن الأول: أن تؤمن بأن الله بكل شيء عليم وعلى كل شيء شهيد فما من شيء حادث في السماء والأرض وما من شيء يحدث فيهما مستقبلا إلا وعند الله علمه لا يخفى عليه شيء من دقيقه وجليله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} .
الركن الثاني: أن تؤمن بأن الله كتب في اللوح المحفوظ(6/222)
مقادير كل شيء إلى أن تقوم الساعة، فكل شيء يحدث في الأرض أو في السماوات فهو مكتوب في اللوح المحفوظ قبل أن تخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وقد أشار الله تعالى إلى هذين الركنين بقوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} . وفي الحديث: «"أن أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب. قال: وماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة» . وفي ليلة القدر يكتب ما يجري في تلك السنة {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} . وإذا تم للجنين في بطن أمه أربعة أشهر بعث الله إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد.
الركن الثالث: من أركان الإيمان بالقضاء والقدر أن تؤمن بمشيئة الله العامة وقدرته الكاملة وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فكل ما حدث في السماوات والأرض من أفعال الله أو من أعمال الخلق فإنه بمشيئة الله، لا يحدث شيء كبير ولا صغير ولا عظيم ولا حقير إلا بمشيئة الله وقدره وتحت سمعه وبصره، وهو الذي علم به وكتبه وقدره ويسر أسبابه فمن عمل صالحا فبمشيئة الله، {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ، وكل شيء يعمله الإنسان ويحدثه فإنه بمشيئة الله حتى إصلاح طعامه وشرابه، وبيعه وشراؤه، وأخذه وعطاؤه، ونومه ويقظته وجميع حركاته وسكناته كلها بمشيئة الله تعالى وفي(6/223)
الحديث عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «"كل شيء بقدر حتى العجز والكيس» .
الركن الرابع: من أركان الإيمان بالقدر أن تؤمن بأن الله خالق كل شيء ومليكه ومقدره ومسخره لما خلق له، وأن الله خالق الأسباب والمسببات، وهو الذي ربط النتائج بأسبابها وجعلها نتيجة لها وعلم عباده تلك الأسباب ليتوصلوا بها إلى نتائجها لتكون عبرة لهم ودليلا على نعمة الله عليهم بما يسره لهم من الأسباب التي يتمكنون بها من إدراك مطلوبهم على حسب ما تقتضيه حكمته ورحمته، وقد أشار الله تعالى إلى هذا بقوله: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} إلى قوله: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} . فالأعمال التي يحدثها العبد ويقوم بها ناتجة عن أمرين: أحدهما: عزم الإنسان عليها ولولا عزمه لما فعل.
والثاني: قدرته على العمل بما علمه الله تعالى من أسبابه وبما أعطاه من القوة عليه، ولولا قدرة الإنسان على العمل ولولا علمه بأسباب إيجاده وعزمه عليه لما وقع منه الفعل، ولا شك أن الذي علم الإنسان وأوجد فيه العزم والقدرة هو الله تعالى، فالإنسان وعزمه وقدرته وفعله كله في ملك الله وتحت مشيئة الله وقدرته {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} . بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.(6/224)
خطبة في كمال الإسلام ويسره وسهولته
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق، أرسله بدين الإسلام دين الرحمة ودين العدالة ودين العبادة والمعاملة، فهدى الله به أقواما وأضل عن طريقه آخرين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما.
أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة. إن خير الحديث كتاب الله لأنه يهدي للتي هي أقوم، وخير الهدي هدي محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأنه الطريق المستقيم الموصل إلى الله وإلى سعادة الدنيا والآخرة.
أيها المسلمون: إن الدين عند الله الإسلام ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه، إن الإسلام هو الاستسلام لله ظاهرا وباطنا استسلاما تاما لا تواني فيه ولا كسل ولا انحراف ولا خطل، إنه طاعة لله تعالى سرا وعلنا بفعل ما أمر به واجتناب ما نهى عنه وما أيسر ذلك على من يسره الله عليه.
أيها المسلمون: إن الشيطان بعداوته لكم يفتر عزائمكم(6/225)
عن القيام بدينكم ويدعوكم إلى الكسل والتواني عن أوامره ويغريكم ويحثكم على مخالفته ومعصيته، إنه يصور لكم الدين بأنه حبس للحرية وتضييق على الإنسان وإرهاق له وتفويت لمصالحه يصوره لكم بأبشع صورة لتنفروا عنه، يصوره كذلك ليهلككم كما هلك، {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} . إن الشيطان يصوره لكم بما يلقيه في صدوركم وبما يلقيه أولياؤه من شياطين الإنس.
أيها المسلمون: إن الدين الإسلامي بريء من كل ما يصفه به أعداؤه إنه دين الحق والعدالة والحرية الحقة إنه دين اليسر والسهولة ودين السعادة والتقدم، استعرضوا أصول شرائعه لتقيسوا عليها فروعه. إن الإسلام مبني على خمسة أركان: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت الحرام لمن استطاع إليه سبيلا. وهذه الأركان كلها سهلة ويسيرة وكلها إصلاح وتهذيب.
فشهادة أن لا إله إلا الله توحيد وتجريد للقلب من التأله والعبادة لأحد سوى الله وحصر العبادة لله رب العالمين الذي خلقك فسواك وغذاك بنعمه ورباك، فأنت بالنسبة إلى ربك عبد من عبيده وبالنسبة إلى غيره حر، وإن من الحماقة بمكان أن تنطلق من عبودية ربك التي هي الحق وتقيد نفسك بعبودية(6/226)
هواك أو بعبودية المال أو عبودية فلان وفلان. إن كثيرا من الناس إذا اشتغل بطاعة الله فكأنما يصابر الجمر لا يصبر عليها إلا قليلا مع قلق في نفسه وانشغال في قلبه، وإذا اشتغل بدنياه أقبل عليها بقلبه وفكره واطمأن إليها واستراح بها ولها فهو كامل العبودية لدنياه وناقص العبودية لمولاه.
وأما شهادة أن محمدا رسول الله، فهي تجريد المتابعة له دون غيره من المخلوقين فهو رسول ربك الذي كلف بالرسالة إليك وكلفت باتباعها، فعنها يسأل هو بلاغا وتسأل أنت عنها اتباعا {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} . إن كل أحد من الناس سوف يسير في عمله على خطة مرسومة ومنهج متبع، فإما أن يكون طريق النبيين أو طريق الضالين المكذبين، فماذا بعد الحق إلا الضلال فانظر أي الطريقين أهدى وأقوم.
أما الصلاة فما أيسرها وأسهلها وما أنفعها للقلب والبدن والفرد والمجتمع، فهي صلة بينك وبين ربك لا تأتيها إلا وأنت متطهر في ظاهرك وباطنك، فتقوم بين يدي الله خاشعا خاضعا متقربا إليه بما شرعه لك فيها من ذكر وقراءة وركوع وسجود وقيام وقعود تسأله لدنياك وآخرتك، فهي تنمي الدين وتحط الذنوب وتلحق بالصالحين ويستعان بها على أمور الدين والدنيا وتنهى عن الفحشاء والمنكر {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} ، {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} .
أما الزكاة فهي جزء بسيط تدفعه من مالك لسد حاجة(6/227)
إخوانك وإصلاح مجتمعك ففيها تزكية المال وتطهير النفس من البخل الذميم وتطهير القلب من الذنوب والآثام، فالصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} . إن كثيرا من الناس يهون عليهم أن ينفقوا المال الكثير في أهواء نفوسهم مما يضرهم أو لا فائدة لهم منه، لكنه عند الصدقات الواجبة أو المتطوع بها لا يهون عليه أن ينفق درهما واحدا كأنه لم يثق بوعد الله بالخلف العاجل والثواب الآجل ولم يصدق بالوعيد الشديد لمن منع الزكاة.
أما الصيام فهو شهر واحد في السنة شهر يذكرك بأعظم نعمة من الله عليك شهر نزول القرآن، شهر رمضان تمتنع فيه في النهار فقط عن شهوات نفسك من طعام وشراب ونكاح تقربا إلى ربك وتقديما لمرضاته على ما تشتهيه مع ما فيه من الفوائد الدينية والجسمية والاجتماعية.
أما الحج فهو قصد بيت الله لإقامة شعائره وتعظيم حرماته لا يجب في العمر إلا مرة واحدة على المستطيع تحط به الذنوب والخطايا، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة مع ما فيه من تعارف المسلمين في أقطار الدنيا واجتماعهم وتعليمهم وإرشادهم.
أيها المسلمون: هذه أصول الإسلام وأركانه، فبالله عليكم هل فيها من صعوبة، وهل فيها من خلل أو نقص، أفليست هي شريعة الله وحكمه {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} .(6/228)
إن الإسلام مفخرة لأهله وعز وكرامة في الدنيا والآخرة وإن به التقدم الحسي والمعنوي، ومن شك في ذلك فلينظر في تاريخ صدر الإسلام حينما كان المسلمون مسلمين ظاهرا وباطنا ولم تغرهم الدنيا ولم يغرهم بالله الغرور.
فاتقوا الله عباد الله وتمسكوا بدينكم ظاهرا وباطنا، سرا وعلنا، قبل أن تسلبوه وتضلوا عنه ضلالا بعيدا، واحذروا أن يصيبكم قول الله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . اللهم ثبتنا على الإسلام والتوحيد واختم لنا بخاتمة السعادة والخير يا رب العالمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين.. إلخ.(6/229)
خطبة في حماية الإسلام للدين والنفس والعرض والمال
الحمد لله القوي العظيم الرؤوف الرحيم يقضي بالحق ويحكم بالعدل وهو الحكيم العليم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أرجو بها النجاة من العذاب الأليم والفوز بالنعيم المقيم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث بالحق الداعي إلى صراط مستقيم، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم في هديهم القويم وسلم تسليما.
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله سبحانه واشكروه على ما أنعم به من حماية الدين والنفس والمال والعرض. حمى لكم الدين بما أقام عليه من الآيات البينات على صحته لتأخذوا به عن بصيرة وبرهان، وحمى لكم الدين بما رتب على القيام به من الثواب لترغبوا فيه وتستقيموا عليه، وحمى لكم الدين بما رتب على مخالفته من العقاب حتى لا تخرجوا عنه، وحمى لكم الدين بما كتب عليكم من الجهاد بالمال والنفس لتحموه وتدافعوا عنه.
ولقد حمى الله النفوس وأكد تحريمها وحرمتها في كتابه وسنة رسوله ليستقيم المجتمع ويحل فيه الأمن فقد قرن الله الاعتداء على النفس بالاعتداء على الدين فقرن القتل بالشرك، قال تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} .(6/230)
قال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} .
وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «"اجتنبوا السبع الموبقات: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق» ، وذكر تمام الحديث وقال: «" سباب المسلم فسوق وقتاله كفر"» . وقال: «"لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما» رواه البخاري.
وقال: «" لزوال الدنيا - يعني كلها - أهون عند الله من قتل رجل مسلم» . ومن أجل ذلك جعل الله في القتل المتعمد عقوبات غليظة وقصاصا ثابتا، فقال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} . جزاء مروع نار وغضب ولعنة وعذاب عظيم.
وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «"لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار» . ومن أجل حماية النفس شرع الله القصاص، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} . هذا في هذه الأمة، وقال في بني إسرائيل: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} . وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «"لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق»(6/231)
«للجماعة» وخفف هذه الفريضة بأن جعل لأولياء المقتول الخيرة بين القصاص والدية والعفو إذا كان خيرا، فقال سبحانه: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} ، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «"من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يفدي أو يقاد» ، وأبطل الله ما يتوهمه ذو الوهم الفاسد من أن القصاص زيادة في القتل، فقال سبحانه: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} .
ولقد حمى الله الأموال بما أحاطها من العقوبات في الاعتداء عليها، فقال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} . وأوجب الله قطع يد السارق حماية للأموال فقال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} . إن قطع يد السارق هو الحكمة البالغة والمصلحة الظاهرة، فيد السارق تقطع بربع دينار ولو اعتدى شخص على يد إنسان فقطعها كانت ديتها خمسمائة دينار رعاية لحماية المال ولحماية النفس.
أما حماية الأعراض فقد أتقنها الإسلام من كل ناحية سواء من الناحية الخلقية أو الاجتماعية، فمن الناحية الخلقية أوجب الله الحد على من هتك الأعراض بالزنا وذلك برجمه بالحجارة حتى يموت إذا كان محصنا وهو المتزوج سواء كان(6/232)
رجلا أم امرأة. وأما غير المحصن فيجلد مئة جلدة وينفى عن البلد سنة كاملة رجلا كان أم امرأة. وأما اللواط وهو إتيان الذكر الذكر ففيه القتل بكل حال إذا كان بالغا والتعزير البليغ لغير البالغ، قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «"من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» . وأوجب الله الحد على من قذف محصنا بالزنى فقال سبحانه: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} ، فمن قال لشخص عفيف: يا زاني فعليه ثمانون جلدة إلا أن يأتي بأربعة شهداء أو يقر المقذوف بذلك.
وأما حماية الأعراض من الناحية الاجتماعية فقد حرم الله بين المسلمين السخرية واللمز والتنابز بالألقاب السيئة والغيبة وهي ذكرك أخاك بما يكره في غيبته. ذكر الله ذلك في سورة الحجرات في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} إلى آخر الآية التي بعدها.
فاحمدوا عباد الله ربكم على ما أنعم من حماية دينكم وأنفسكم وأموالكم وأعراضكم واسألوه الثبات على الدين وجاهدوا أنفسكم على ذلك واعبدوه وتوكلوا عليه واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(6/233)
خطبة في شكر نعمة الإسلام بالعمل به
الحمد لله الغني الجواد الكريم الرؤوف بالعباد، من علينا بنعم لا يحصى لها تعداد، ويسر لنا من فضله وجوده حتى عم الرخاء الحاضر والباد، ورزقنا أمنا واستقرارا حتى أصبح الواحد يسير آمنا لا يخاف إلا الله في جميع البلاد. أحمده وأشكره وكلما شكر زاد، وأشهد أن لا إله إلا هو واسع الجود فما لما عنده نفاد، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل الشاكرين على النعم وأعظمهم صبرا على ما لا يراد، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم التناد وسلم تسليما.
أما بعد: أيها الناس اتقوا ربكم واشكروه، فلقد تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد. أيها الناس أما ترون نعم الله تترى عليكم في كل وقت وحين، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها. أما ترون نعمته عليكم بدين الإسلام حيث أنشأكم في بيئة مسلمة تقرأ كتاب الله تعالى وتسمع من سنة رسوله، أنشأكم في بيئة تقام بها الصلوات ويدعى إليها بالأذان بأعلى الأصوات أنشأكم في بلاد لا ترى - ولله الحمد - فيها كنيسة ولا صومعة وإنما هي مسجد ومدرسة وصار الإسلام، كأنما هو طبيعة من الطبائع وغريزة من الغرائز لا يشق عليكم نيله وإدراكه، وهذه والله أكبر النعم فاشكروها أيها المسلمون حق شكرها اشكروها بالتمسك بها وارعوها حق(6/234)
رعايتها فلئن لم تفعلوا لتسلبن عنكم هذه النعمة ويحل بدلها شعار الكفار والبدع والضلال لئن لم تشكروها بالتمسك بها لتفتحن في بلادكم مدارس النصارى وكنائس الرهبان، إن العاقل ليقيس ويفهم فكما أن نعمة الأمن إذا لم تشكر أبدلت بالخوف ونعمة الرزق إذا لم تشكر أبدلت بالجوع، كذلك نعمة الدين إذا لم تشكر أبدلت بالكفر {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} . إن الإسلام أعز ممن ينتمي إليه فإذا لم يجد أناسا يعرفون قدر نعمة الله عليهم به ويعضون عليه بالنواجذ ويرونه غنيمة ادخرها الله لهم فسوف يرتحل عنهم إلى غيرهم، وسيجعل الله على هذه الأرض طائفة على الحق حتى يأذن الله بخراب العالم، قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله» .
أيها الناس أما ترون إلى ما أنعم الله به عليكم من نعمة الأمن والاستقرار يسافر الرجل وحده من أقصى المملكة إلى أقصاها غير خائف، مستقرا غير قلق معه الأموال الكثيرة لا يخاف عليها ولا على نفسه من أجلها. أما ترون إلى ما أنعم الله به عليكم من الأرزاق من قوت وفاكهة وملابس متنوعة ووسائل راحة من جميع الوجوه. أما ترون إلى ما أنعم الله به عليكم هذا العام من الأمطار المباركة التي أحيا الله بها الأرض بعد موتها وأنبتت من كل زوج بهيج.(6/235)
فاشكروا الله أيها المسلمون على هذه النعم، اشكروه حق شكره شكرا حقيقيا. فإن الشكر اعتراف العبد بقلبه بنعمة الله وأن يؤمن إيمانا بأن هذه النعم محض فضل من الله تعالى ليس له على الله منة فيها، وإنما المنة لله تعالى فيها عليه. لا يقل كما قال قارون: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} . ولا يقل كما يقول الكافر فيما حكى الله عنه: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} ، أي إنني كفء له ومستحقه أنكر أن يكون من فضل الله عليه.
وإن الشكر أيها المسلمون ثناء على الله بنعمته عليك وحمد له عليها وتحدث بها على سبيل الثناء على الله لا على سبيل الافتخار بها على عباد الله {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} وإن الشكر عمل بطاعة الله فعل لأوامره واجتناب لما نهى عنه. فمتى قام العبد بهذه الأركان الثلاثة فقد شكر الله شكرا حقيقيا. أما إذا كان يعتقد أن ما أصابه من نعم الله فهو مستحق له ولا منة لله عليه فيه، فهذا كافر بنعمة الله معجب بعمله مغرور بنفسه فمن هو حتى لا يكون لله عليه منة. وإذا كان لا يثني على الله بنعمته، فكلما سئل عن حاله صار يتشكى ويتألم ويجحد ما أنعم الله به عليه ورأى أنه قد ظلم حيث لم يحصل له مثل فلان وفلان، فهذا أيضا كافر بنعمة الله عليه محتقر لها وما يدريه لعله لو حصل له ما حصل لفلان لكان سببا لأشره وبطره وإعراضه عن الله. وإذا كان لا يستعين بنعم الله على طاعته بل كانت نعم(6/236)
الله عليه سببا لأشره وبطره وإهماله لواجبات دينه ووقوعه في المعاصي، فإنه قد بدل نعمة الله عليه كفرا ويوشك أن يسلبه الله هذه النعمة أو يغدقها عليه استدراجا من حيث لا يعلم فلا يزال على ذلك حتى يخرج من نعيمه في الدنيا إلى عذابه في الآخرة.
أيها المسلمون: إن من وفق للشكر فقد حصل له نعيم الدنيا والآخرة يعيش حميدا قائما بأمر الله ويموت سعيدا خالدا في ثواب الله ومن كفر أوشك أن يحل عليه عذاب الله {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} .
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم أصلح ولاة أمورنا وأصلح رعيتنا ووفقنا لما تحب وترضى إنك جواد كريم، اللهم صل وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(6/237)
خطبة في تحقيق التوحيد وتخليصه من شوائب الشرك
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما.
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واشكروه على ما من به عليكم أن بعث فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياته ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة. رسولا أخرجكم الله به من الظلمات إلى النور، من ظلمات الجهل إلى نور العلم، ومن ظلمات الشرك والكفر إلى نور التوحيد والإيمان، ومن ظلمات الجور والإساءة إلى نور العدل والإحسان، ومن ظلمات الفوضى الفكرية والاجتماعية إلى نور الاستقامة في الهدف والسلوك، ومن ظلمات القلق النفسي وضيق الصدر إلى نور الطمأنينة وانشراح الصدر {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} .
لقد بعث الله نبيه محمدا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والناس يتخبطون في الجهالات ففتح لهم أبواب العلم: أبواب العلم في(6/238)
معرفة الله تعالى وما يستحقه من الأسماء والصفات وما له من الأفعال والحقوق، وأبواب العلم في معرفة المخلوقات في المبدأ والمنتهى والحساب والجزاء، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} . وفتح الله لعباده بما بعث به نبيه محمدا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبواب العلم في عبادة الله تعالى والسير إليه.
وأبواب العلم في السعي في مناكب الأرض وابتغاء الرزق بوجه حلال، فما من شيء يحتاج الناس لمعرفته من أمور الدين والدنيا إلا بين لهم ما يحتاجون إليه فيه حتى صاروا على طريقة بيضاء نقية ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك ولا يتيه فيها إلا أعمى القلب. لقد بعث الله تعالى محمدا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والناس منغمسون في الشرك في شتى أنواعه، فمنهم من يعبد الأصنام، ومنهم من يعبد المسيح ابن مريم، ومنهم من يعبد الأشجار، ومنهم من يعبد الأحجار، حتى كان الواحد منهم إذا سافر ونزل أرضا أخذ منها أربعة أحجار فيضع ثلاثة منها تحت القدر وينصب الرابع إلها يعبده، فأنقذهم الله برسوله من هذه الهوة الساحقة والسفه البالغ من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن، فحقق التوحيد لرب العالمين تحقيقا بالغا، وذلك بأن تكون العبادة لله وحده يتحقق فيها(6/239)
الإخلاص لله بالقصد والمحبة والتعظيم، فيكون العبد مخلصا لله في قصده، مخلصا لله في محبته، مخلصا لله في تعظيمه، مخلصا لله تعالى في ظاهره وباطنه لا يبتغي بعبادته إلا وجه الله تعالى والوصول إلى دار كرامته: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} ، {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا} .
هكذا جاء كتاب الله تعالى وتلته سنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتحقيق التوحيد وإخلاصه وتخليصه من كل شائبة، وسد كل طريق يمكن أن يوصل إلى ثلم هذا التوحيد أو إضعافه حتى إن رجلا قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «"ما شاء الله وشئت. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده» فأنكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على هذا الرجل أن يقرن مشيئته بمشيئة الله تعالى بحرف يقتضي التسوية بينهما وجعل ذلك من اتخاذ الند الله عز وجل، واتخاذ الند لله تعالى إشراك به.
وحرم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يحلف الرجل بغير الله وجعل ذلك من الشرك بالله فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «"من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك» ، وذلك لأن الحلف بغير الله تعظيم للمحلوف به بما لا يستحقه إلا الله عز وجل فلا يجوز للمسلم أن يقول عند الحلف: والنبي أو وحياة النبي أو وحياتك أو وحياة فلان، بل يحلف بالله وحده أو يصمت عند الحلف ولما «سئل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الرجل يلقى أخاه فيسلم عليه أينحني له؟ فقال: "لا» فمنع - صلى الله(6/240)
عليه وسلم - من الانحناء عند التسليم؛ لأن ذلك خضوع لا ينبغي إلا لله رب العالمين فهو سبحانه وحده الذي يركع له ويسجد، وكان السجود عند التحية جائزا في بعض الشرائع السابقة ولكن هذه الشريعة الكاملة شريعة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منعت منه وحرمته إلا لله وحده.
وفي الحديث «أن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قدم الشام فوجدهم يسجدون لأساقفتهم (زعمائهم) وذلك قبل أن يسلموا، فلما رجع معاذ سجد للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما هذا يا معاذ"؟ فقال: رأيتهم يسجدون لأساقفتهم وأنت أحق أن يسجد لك يا رسول الله يعني أحق من أساقفتهم بالسجود فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها " من عظم حقه عليها.»
وروى النسائي بسند جيد عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - «أن ناسا جاؤوا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: يا رسول الله! يا خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا! فقال: "يا أيها الناس قولوا بقولكم ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد عبد الله ورسوله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل» ولقد بلغ من سد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذرائع الشرك ووسائله أن لا يترك في بيته صورة شيء يعبد من دون الله تعالى أو يعظم تعظيم عبادة. ففي صحيح البخاري «عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: لم يكن النبي صلى الله»(6/241)
«عليه وسلم يترك في بيته شيئا فيه تصاليب إلا نقضه» . والتصاليب هي الصلبان التي يتخذها النصارى شعارا لدينهم أو يعبدونها، والصليب كل ما كان على شكل خطين متقاطعين، هكذا عرفه صاحب المنجد ومعناه أن يكون على شكل خط مستقيم رأسه إلى فوق يعترضه خط رأسه إلى الجانب سواء كان هذا الخط المعترض في وسط الخط المستقيم أو فوق وسطه، يزعم النصارى أن المسيح ابن مريم - عليه الصلاة والسلام - صلب عليه بعد أن قتل، وقد قال الله تعالى في القرآن مكذبا من زعموا أنهم قتلوه: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} ، وقال تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} ، فكان النصارى يقدسون الصليب يضعونه فوق محاربهم ويتقلدونه في أعناقهم، فكان من هدي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إزالة كل ما فيه تصاليب حماية لجانب التوحيد وإبعادا عن مشابهة غير المسلمين.
ولقد كانت بلادنا هذه ولله الحمد من أعظم البلاد الإسلامية محافظة على توحيد الله تعالى ومتابعة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما من الله عليها من علماء مبينين وولاة منفذين، وصارت عند أعداء الإسلام قلعة الإسلام فغزوها من كل جانب بكل شكل من أشكال الغزو حتى كثرت الفتن فيها، وصارت صور الصلبان على بعض الألعاب للأطفال، بل وعلى الفرش لتكون نصب أعين المسلمين صبيانهم وكبارهم فلا حول ولا قوة إلا بالله وإنا لله وإنا إليه راجعون.(6/242)
اللهم احفظ لهذه الأمة دينها وقها شر أعدائها وأيقظ القلوب من الغفلة عما يراد بنا يا رب العالمين إنك جواد كريم. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ... إلخ.(6/243)
خطبة في خلق السموات والأرض
الحمد لله الذي رفع السماوات بغير عماد ووضع الأرض وهيأها للعباد وجعلها مقرهم أحياء وأمواتا، فمنها خلقهم وفيها يعيدهم ومنها يخرجهم تارة أخرى يوم المعاد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ند ولا مضاد، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل العباد، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليما.
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله وأطيعوه وصدقوا بما أخبركم به واعتقدوه وارفضوا ما خالف كتابه وسنة نبيه من أقوال الناس وردوه؛ لأن ما خالف الكتاب والسنة فهو باطل زور وبهتان، وما وافق الكتاب والسنة فهو حق ثابت لقيام الحجة والبرهان، واعلموا أن الله سبحانه لم يشهد أحدا خلق السماوات والأرض فلا علم عند أحد في ذلك إلا ما جاء عن طريق الوحي {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} ، فكل من تكلم عن خلق السماوات والأرض من أي مادة هو وكيف وقع ومتى وقع كل من تكلم بذلك من غير طريق الوحي، فإنما يتكلم على أمر نظري وقياس ظني قد يصيب وقد يخطئ وقد يرفض وقد يغير إذ ليس أحد من البشر شاهد كيف خلق السماوات والأرض هذه هي الحقيقة الثابتة، وعلى هذا فالاعتماد في ذلك على ما جاء(6/244)
في كتاب الله أو صح عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
أيها المسلمون لقد خلق الله السماوات والأرض في ستة أيام فجعل السماوات سبعا والأرضين سبعا، جعل الله السماوات سبعا طباقا بعضها فوق بعض {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} ، وبناها بناء محكما قويا شديدا {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} ، {والسماء بنيناها بأيد} (يعني بقوة) {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} ، {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا} أي قوية محكمة، جعل الله بين كل واحدة والأخرى مسافة، فكان جبريل يعرج بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من سماء إلى سماء حتى بلغ السابعة.
رفعها الله رفعا عظيما {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا} ، {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} . رفعها سبحانه بغير عمد وأمسكها بقوته {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} ، {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} . جعلها الله سقفا للأرض محفوظا من الشياطين {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} ، {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} ، جعل لها أبوابا لا تفتح إلا بإذنه {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} ، وفي يوم القيامة يطوي الله هذه السماوات بيمينه(6/245)
{يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} ، {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} .
أيها المسلمون: إن هذه الآيات الكريمة العظيمة لتدل دلالة قاطعة لا تقبل الشك ولا الجدال في أن السماوات السبع أجرام محسوسة رفيعة قوية محكمة محفوظة لا يستطيع أحد دخولها ولا اختراقها إلا بإذن الله عز وجل، ألم تعلموا أن محمدا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أشرف البشر وجبريل أشرف الملائكة ما دخلا السماوات حين عروجهما إلا بالإذن والاستفتاح، فكيف بغيرهما من المخلوقين؟!.
أيها الناس: أفبعد هذا يمكن لمؤمن أن يقول: إن السماوات هي المجرات أو هي الغلاف الجوي للأرض، أو يقول: إن ما نشاهده فضاء لا نهاية له، إن من يقول ذلك فهو إما جاهل بوحي الله وإما مكذب به مستكبر عنه مشاق الله ورسوله {وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} ، {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} . إن إنكار السماوات أو التكذيب بها أو بأنها ذات بناء وإحكام تكذيب لله وكفر به سواء قالها قائل أو صدق من يقولها.
أما الأرض فإنها سبع أرضين في ظاهر كلام الله تعالى وصريح سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يقول الله تعالى:(6/246)
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} ، وهذه المثلية تقتضي المساواة في كل ما تمكن فيه، فالأرض مثل السماوات في العدد. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «"اللهم رب السماوات السبع وما أظللن والأرضين السبع وما أقللن» (رواه النسائي) ، والأرض مثل السماوات في التطابق، فإذا كانت السماوات سبعا طباقا فكذلك الأرض مثلهن، يقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «"من أخذ شبرا من الأرض ظلما فإنه يطوقه يوم القيامة من سبع أرضين» (رواه البخاري) . وقال أيضا: «"من اقتطع شبرا من الأرض بغير حقه طوقه إلى سبع أرضين» (تفرد به أحمد وهو على شرط مسلم) . والغاية تدل على أن كل أرض تحت الأرض وما أوتيتم من العلم إلا قليلا.
لقد خلق الله هذه السماوات وهذه الأرضين وقدر فيهن ما قدر من عجائب مخلوقاته وأسرار مبدعاته وفصل لنا ما فصل منها في سورة فصلت حيث قال: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} . وحجب عن عباده كثيرا من ذلك فلا يحل لأحد أن يثبت شيئا من أسرار(6/247)
الكون إلا بدليل منقول أو محسوس، أما مجرد النظريات التي قد تتغير وتتبدل فلا يمكن الاعتماد عليها، وأشد من ذلك وأدهى أن يحرف من أجلها كتاب الله وسنة رسوله فينزل على الآراء والنظريات القابلة للنقض والإفساد، ومن قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار.
وفقني الله وإياكم لفهم كتابه والعمل به وجنبنا الزيغ والزلل في القول والعمل أقول قولي هذا ... إلخ.(6/248)
خطبة في حقيقة الإيمان وعلاماته
الحمد لله الذي يقضي بالحق ويحكم بالعدل ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم يقدر الأمور بحكمة ويحكم بالشرائع لحكمة وهو الحكيم العليم، أرسل الرسل مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وليقوم الناس بالقسط ويؤتوا كل ذي حق حقه من غير غلو ولا تقصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما.
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى وانصروا الله ينصركم وأطيعوه يثبكم {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} .
أيها الناس: إن الإيمان ليس بالتمني ولا بالتحلي ولكن الإيمان ما وقر في القلب ورسخ فيه وصدقته الأعمال بفعل الطاعات واجتناب المعاصي. إن كل واحد يستطيع أن يقول: إنه مسلم بل يرتقي إلى أعلى ويقول: إنه مؤمن، كل واحد يستطيع أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله. المنافقون يأتون إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويقولون: نشهد إنك لرسول الله. المنافقون يحلفون للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(6/249)
وأصحابه إنهم لمنهم وما هم منهم، ولكن كل هذه الشهادات والأيمان لم تنفعهم، فهم في الدرك الأسفل من النار تحت كل مشرك وكل دهري وكل يهودي وكل نصراني؛ لأن هذه الشهادات والأيمان لم تصدر عن يقين وإيمان ولا عن قبول وإذعان {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} ، فالإيمان عقيدة راسخة قبل كل شيء تنتج قولا سديدا وعملا صالحا تنتج الحب لله ورسوله والإخلاص في توحيد الله واتباع رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جد وعمل ومثابرة ومصابرة وحبس للنفس على ما تكره من طاعة الله ومنع لها عما تحب من معصية الله.
إن للإيمان علامات كثيرة ذكرها الله في كتابه وذكرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سنته نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} ، ونذكر أيضا قوله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} .
فبالله عليكم أيها المسلمون من منا بهذه المثابة، من منا إذا(6/250)
ذكر الله وجل قلبه خوفا من الله وتعظيما له، من منا إذا تليت عليهم آيات ربهم زادتهم إيمانا واستبشروا بها لما يجدون في نفوسهم من حلاوة التصديق بها والامتثال لأحكامها، من منا قام بتحقيق التوكل على الله والاعتماد عليه وعدم التعلق بالمخلوقين، من منا أقام الصلاة على الوجه المطلوب بالمحافظة عليها وإتقان حدودها، من منا قام بالإنفاق مما رزقه الله من بذل زكاة وسد حاجة الأهل والأقارب والمعوزين؟
لنفكر أيها الناس في حال المسلمين إننا إذا فكرنا في حال المسلمين اليوم لا في هذه الجزيرة فحسب ولكن في جميع البلاد الإسلامية نجد مسلمين بلا إسلام ومؤمنين بلا إيمان إلا أن يشاء الله، نجد ذلك من القمة إلى من لا يجد اللقمة، الكل مقصر والكل غير قائم بما يجب عليه من حقوق لله تعالى أو لعباد الله. إننا نجد في الأمة الإسلامية تقصيرا في الإيمان واليقين ونجد تقصيرا في الأخلاق الفاضلة وحمايتها ونجد تقصيرا في الأعمال. إننا نجد تقصيرا في الإيمان واليقين لأننا نجد بعض الناس ولا سيما بعض من عاش فترة في بلاد الكفر ونهل من صديد أفكارهم الملوثة وثقافتهم المزيفة، نجد في هؤلاء من في قلوبهم شك وريب فيما أخبر الله به ورسوله من أمور الغيب، تجدهم في شك من وجود الملائكة وفي شك من وجود الجن وفي شك من صحة رسالة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بل بعضهم في شك من وجود الله تعالى وجود خالقه سبحان الله!! يشك في وجود(6/251)
خالقه ولا يشك في وجود نفسه، إن كل من شك في وجود الله يجب أن يشك في وجود نفسه أولا لأنه لم يخلقه أحد سوى الله عز وجل. نجد من المسلمين اليوم من إذا ذكر الله عنده لم يتحرك قلبه أبدا ولا كأن شيئا ذكر عنده فضلا عن أن يوجل قلبه. نجد من المسلمين اليوم من إذا تليت عليهم آيات الله لم يزدادوا إيمانا، بل يزدادون رجسا إلى رجسهم فيسخرون بها ويستكبرون عن أحكامها. نجد من المسلمين اليوم من لا يتوكلون على الله تعالى وإنما يعتمدون على الأسباب المادية المحضة اعتمادا كليا؛ ولهذا تجدهم لا يسيرون في طلب رزقهم على شريعة الله ظنا منهم أن الأخذ بالطرق الشرعية يضيق موارد الرزق؛ فلذلك نجدهم يسعون لتحصيل الرزق بكل وسيلة حلالا كانت أم حراما.
وتجد من المسلمين اليوم من اعتمد على أعداء الله في أمنه وسلامه حتى آل الأمر بهم إلى أن أطاعوهم في بعض الأمور المخالفة لشريعة الله تعالى، والله يقول: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} . نجد هؤلاء الذين أطاعوا هؤلاء الأعداء في بعض الأمور المخالفة للشريعة إنما سلكوا هذا المسلك المنحرف لضعف توكلهم على الله وقوة اعتمادهم على(6/252)
غيره. انبهروا من قوة هؤلاء الأعداء المادية فظنوا أن كل شيء بأيديهم ونسوا أن الذي خلق هؤلاء هو أشد منهم قوة، وأن قوة هؤلاء المبهورين لو أرادوها وجدوها في التوكل على الله تعالى والأخذ بأسباب نصره من تطبيق دينه والتزام شريعته في أنفسهم وفيمن ولاهم عليه؛ لأنهم إذا فعلوا ذلك كان الله معهم، ومن كان الله معه فلن يغلب {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} . نجد من المسلمين اليوم من لا يقيمون الصلاة ولا يحافظون عليها، فلا يصلون مع الجماعة ولا يأتون بشروطها وأركانها وواجباتها، فلا يبالون بالطهارة أتقنوها أم فرطوا فيها، ولا يصلون في الوقت ولا يطمئنون في القيام والقعود والركوع والسجود، لا بل من الناس الذين قالوا: إنهم مسلمون من لا يصلي بل من يسخر ويستهزئ بمن يصلي. نجد من المسلمين من هو جماع مناع لا ينفق مما رزقه الله، فلا زكاة ولا صدقة ولا إنفاق كاملا على من يجب عليه الإنفاق عليه، ومع ذلك تجده يبذل الكثير من ماله فيما لا ينفعه بل فيما حرم الله عليه أحيانا.
إن المسلمين اليوم في حال يرثى لها والشكوى إلى الله تضييع لفرائض الله وتعد لحدود الله وتهاون في شريعة الله ونسيان لذكره وأمن من مكره واعتناء بما خلق لهم وغفلة عما خلقوا له؛ ولهذا سلط عليهم الأعداء فاستذلوهم واستهانوا بهم وتلاعبوا بهم سياسيا واقتصاديا حتى صاروا كالذي ينعق بما لا(6/253)
يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
اللهم إنا نسألك في مقامنا هذا وفي انتظار فريضة من فرائضك التي مننت بفرضها علينا نسألك بأنا نشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، يا منان يا بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم نسألك أن تحبب إلينا الإيمان وتزينه في قلوبنا وترسخه فيها، وأن تكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان وتباعدها عنا، وأن تهيئ للأمة الإسلامية من أمرها رشدا ولاة صالحين يقضون بالحق وبه يعدلون لا يخافون في الله لومة لائم لا يحابون قريبا لقربه، ولا قويا لقوته وأن تحفظ علينا ديننا وتثبتنا عليه إلى الممات إنك جواد كريم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ... إلخ.
تم بحمد الله- تعالى - المجلد السادس ويليه بمشيئة الله -عز وجل المجلد السابع
.(6/254)
بسم الله الرحمن الرحيم
ترجمة مؤلف المتن شيخ الإسلام المجدد محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله تعالى -:
هو الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي بن محمد بن أحمد بن راشد بن بريد بن محمد بن مشرف بن عمر من أوهبة بني تميم.
ولد هذا العالم في بلدة العيينة سنة 1115 هجرية في بيت علم وشرف ودين، فأبوه عالم كبير وجده سليمان عالم نجد في زمانه. حفظ القرآن قبل بلوغ عشر سنين ودرس في الفقه حتى نال حظّا وافرا، وكان موضع الإعجاب من والده لقوة حفظه، وكان كثير المطالعة في كتب التفاسير والحديث وجد في طلب العلم ليلا ونهارا، فكان يحفظ المتون العلمية في شتى الفنون، ورحل في طلب العلم في ضواحي نجد، وفي مكة وقرأ على علمائها ثم رحل إلى المدينة النبوية فقرأ على علمائها، ومنهم العلامة الشيخ عبد الله بن إبراهيم الشمري.
كما قرأ على ابنه الفرضي الشهير إبراهيم الشمري مؤلف العذب الفائض في شرح ألفية الفرائض وعرفاه بالمحدث الشهير محمد حياة السندي فقرأ عليه في علم الحديث ورجاله وأجازه بالأمهات. وكان الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله تعالى - قد وهبه الله فهما ثاقبا، وذكاء مفرطا، وأكب على المطالعة والبحث والتأليف، وكان يثبت ما يمر عليه من الفوائد أثناء القراءة والبحث وكان لا يسأم من الكتابة وقد خط كتبا كثيرة من مؤلفات ابن تيمية وابن القيم - رحمهما الله - ولا تزال بعض المخطوطات الثمينة بقلمه السيال موجودة بالمتاحف.(7/9)
ولما توفي والده، أخذ يعلن جهرا بالدعوة السلفية إلى توحيد الله وإنكار المنكر، ويهاجم المبتدعة أهل القبور، وقد شد أزره الولاة من آل سعود وقويت شوكته وذاع خبره.
وله - رحمه الله تعالى - مؤلفات نافعة نذكر منها: الكتاب الجليل المفيد المسمى " كتاب التوحيد " وقد طبع في طبعات كثيرة كلما نفدت طباعته أعيد طبعه، و" كشف الشبهات " و" الكبائر " و" مختصر الإنصاف " و" الشرح الكبير " و" مختصر زاد المعاد " وله فتاوى ورسائل جمعت باسم مجموعة مؤلفات الإمام محمد بن عبد الوهاب تحت إشراف جامعة الإمام محمد بن سعود.
وقد توفي - رحمه الله تعالى - عام 1206 هـ فرحمه الله رحمة واسعة وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء إنه سميع مجيب والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
بقلم
فهد بن ناصر السليمان
عفا الله عنه(7/10)
المقدمة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد فهذا شرح يسير على كتاب شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب المسمى " كشف الشبهات " والذي أورد فيه المؤلف بضع عشرة شبهة لأهل الشرك وأجاب عنها بأحسن إجابة مدعمة بالدليل مع سهولة المعنى ووضوح العبارة أسأل الله تعالى أن يثيبه على ذلك وأن ينفع بذلك العباد إنه على كل شيء قدير.
محمد بن صالح العثيمين(7/11)
بسم (1) الله (2) الرحمن (3) الرحيم (4)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ابتدأ المؤلف - رحمه الله تعالى - كتابه بالبسملة اقتداء بكتاب الله - عز وجل - فإنه مبدوء بالبسملة، واقتداء برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإنه يبدأ كتبه ورسائله بالبسملة.
والجار والمجرور متعلق بفعل محذوف مؤخر مناسب للمقام تقديره: بسم الله أكتب.
وقدرناه فعلا؛ لأن الأصل في العمل الأفعال.
وقدرناه مؤخرا لفائدتين: الأولى: التبرك بالبداءة باسم الله تعالى.
الثانية: إفادة الحصر؛ لأن تقديم المتعلق يفيد الحصر.
وقدرناه مناسبا؛ لأنه أدل على المراد فلو قلنا مثلا عندما نريد أن نقرأ كتابا: باسم الله نبتدئ ما يدري بماذا نبتدئ، لكن بسم الله نقرأ أدل على المراد الذي أبتدئ به.
(2) لفظ الجلالة علم على الباري جل وعلا وهو الاسم الذي تتبعه جميع الأسماء حتى إنه في قوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} لا نقول: إن لفظ الجلالة (الله) صفة بل نقول: هي عطف بيان لئلا يكون لفظ الجلالة تابعا تبعية النعت للمنعوت، ولهذا قال العلماء: أعرف المعارف لفظ (الله) ؛ لأنه لا يدل على أحد سوى الله - عز وجل -.
(3) الرحمن اسم من الأسماء المختصة بالله لا يطلق على غيره. ومعناه: المتصف بالرحمة الواسعة.
(4) الرحيم اسم يطلق على الله - عز وجل - وعلى غيره.(7/13)
اعلم (1)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ومعناه: ذو الرحمة الواصلة، فالرحمن ذو الرحمة الواسعة، والرحيم ذو الرحمة الواصلة فإذا جمعا صار المراد بالرحيم الموصل رحمته إلى من يشاء من عباده كما قال الله تعالى: {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} والمراد بالرحمن الواسع الرحمة.
(1) العلم هو " إدراك الشيء على ما هو عليه إدراكا جازما ".
ومراتب الإدراك ست: الأولى: العلم وتقدم تعريفه. الثانية: الجهل البسيط وهو عدم الإدراك بالكلية. الثالثة: الجهل المركب وهو " إدراك الشيء على وجه يخالف ما هو عليه".
وسمي مركبا؛ لأنه جهلان: جهل الإنسان بالواقع، وجهله بحاله حيث ظن أنه عالم وليس بعالم.
الرابعة: الوهم وهو " إدراك الشيء مع احتمال ضد راجح ".
الخامسة: الشك وهو " إدراك الشيء مع احتمال ضد مساو ".
السادسة: الظن وهو" إدراك الشيء مع احتمال ضد مرجوح".
والعلم ينقسم إلى قسمين: ضروري ونظري: فالضروري: ما يكون إدراك المعلوم فيه ضروريا بحيث يضطر إليه من غير نظر ولا استدلال كالعلم بأن النار حارة مثلا.
والنظري ما يحتاج إلى نظر واستدلال كالعلم بوجوب النية في الوضوء.(7/14)
رحمك الله (1)
أن التوحيد هو إفراد الله - سبحانه - بالعبادة (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أي أفاض الله عليك من رحمته التي تحصل بها على مطلوبك وتنجو من محذورك، فالمعنى غفر الله لك ما مضى من ذنوبك، ووفقك وعصمك فيما يستقبل منها.
هذا إذا أفردت الرحمة أما إذا قرنت بالمغفرة، فالمغفرة لما مضى من الذنوب، والرحمة التوفيق للخير والسلامة من الذنوب في المستقبل. وصنيع المؤلف - رحمه الله - يدل على شفقته وعنايته بالمخاطب.
(2) التوحيد لغة: مصدر وحد يوحد، أي جعل الشيء واحدا، وهذا لا يتحقق إلا بنفي وإثبات، نفي الحكم عما سوى الموحد، وإثباته له؛ لأن النفي وحده تعطيل، والإثبات وحده لا يمنع المشاركة. فمثلا لا يتم للإنسان التوحيد حتى يشهد أن لا إله إلا الله، فينفي الألوهية عما سوى الله تعالى، ويثبتها لله وحده.
وفي الاصطلاح عرف المؤلف - رحمه الله تعالى - التوحيد بقوله: " التوحيد هو إفراد الله- عز وجل -بالعبادة " أي أن تعبد الله وحده ولا تشرك به شيئا بل تفرده وحده بالعبادة محبة، وتعظيما، ورغبة، ورهبة.
ومراد الشيخ - رحمه الله تعالى - التوحيد الذي بعثت الرسل لتحقيقه؛ لأنه هو الذي حصل الإخلال به والخلاف بين الرسل وأممهم.
وهناك تعريف أعم للتوحيد وهو: " إفراد الله سبحانه وتعالى بما يختص به" وأنواعه ثلاثة:
الأول: توحيد الربوبية وهو" إفراد الله تعالى بالخلق، والملك، والتدبير " قال الله- عز وجل -: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} وقال تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} .(7/15)
وهو دين الرسل الذين أرسلهم الله به إلى عباده (1) ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، وقال تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} .
الثاني: توحيد الألوهية وهو " إفراد الله تعالى بالعبادة بأن لا يتخذ الإنسان مع الله أحدا يعبده كما يعبد الله أو يتقرب إليه كما يتقرب إلى الله تعالى".
الثالث: توحيد الأسماء والصفات وهو " إفراد الله سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته الواردة في كتابه وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذلك بإثبات ما أثبته، ونفي ما نفاه من غير تحريف، ولا تعطيل، ومن غير تكييف، ولا تمثيل ".
(1) مراد الشيخ - رحمه الله تعالى - هنا توحيد الألوهية، فهو دين الرسل فكلهم أرسلوا بهذا الأصل الذي هو التوحيد كما قال الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} وهذا النوع هو الذي ضل فيه المشركون الذين قاتلهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واستباح دماءهم، وأموالهم، وأرضهم وديارهم وسبى نساءهم وذريتهم.
ومن أخل بهذا التوحيد فهو مشرك كافر وإن أقر بتوحيد الربوبية والأسماء والصفات.
فإفراد الله وحده بالعبادة هو دين الرسل الذين أرسلهم الله به إلى عباده كما قال الشيخ - رحمه الله - فها هو أول الرسل نوح - عليه السلام - يقول كما حكى الله عنه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ}(7/16)
فأولهم نوح عليه السلام أرسله الله إلى قومه لما غلوا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وقال تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} وقال تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} وقال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} .
هذا حق فإنه لم يبعث قبل نوح - عليه الصلاة والسلام - رسول وبهذا نعلم خطأ المؤرخين الذين قالوا: إن إدريس - عليه الصلاة والسلام - كان قبل نوح؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} وفي الحديث الصحيح في قصة الشفاعة «أن الناس يأتون إلى نوح فيقولون له: أنت أول رسول أرسله الله إلى الأرض» فلا رسول قبل نوح بإجماع العلماء.
فنوح أول الرسل بالكتاب، والسنة، والإجماع.
ونوح - عليه الصلاة والسلام - أحد الرسل الخمسة الذين هم أولو العزم وهم: محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإبراهيم، وموسى، ونوح وعيسى عليهم الصلاة والسلام وقد ذكرهم الله في موضعين من كتابه: في سورة الأحزاب وسورة الشورى.
يعني أن الله أرسل نوحا - عليه الصلاة والسلام - إلى قومه لما وقع فيهم الغلو في الصالحين، وقد بوب المؤلف - رحمه الله - في كتاب التوحيد على هذه المسألة فقال: " باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين".
والغلو هو: " مجاوزة الحد في التعبد والعمل والثناء قدحا أو مدحا " والغلو ينقسم إلى أربعة أقسام:(7/17)
في الصالحين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
القسم الأول: الغلو في العقيدة كغلو أهل الكلام في الصفات حتى أدى بهم إما إلى التمثيل، أو التعطيل.
والوسط مذهب أهل السنة والجماعة بإثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته لرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، من الأسماء والصفات من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.
القسم الثاني: الغلو في العبادات كغلو الخوارج الذين يرون كفر فاعل الكبيرة، وغلو المعتزلة حيث قالوا: إن فاعل الكبيرة بمنزلة بين المنزلتين وهذا التشدّد قابله تساهل المرجئة حيث قالوا: لا يضر مع الإيمان ذنب.
والوسط مذهب أهل السنة والجماعة أن فاعل المعصية ناقص الإيمان بقدر المعصية.
القسم الثالث: الغلو في المعاملات وهو التشدّد بتحريم كل شيء وقابل هذا التشدد تساهل من قال بحل كل شيء ينمي المال والاقتصاد حتى الربا والغش وغير ذلك.
والوسط أن يقال: تحل المعاملات المبنية على العدل وهي ما وافق ما جاءت به النصوص من الكتاب والسنة.
القسم الرابع: الغلو في العادات: وهو التشدد في التمسك بالعادات القديمة وعدم التحول إلى ما هو خير منها.
أما إن كانت العادات متساوية في المصالح فإن كون الإنسان يبقى على ما هو عليه خير من تلقي العادات الوافدة.
الصالح هو الذي قام بحق الله وبحق عباد الله.(7/18)
ودا، وسواعا، ويغوث، ويعوق، ونسرا
وآخر الرسل محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هذه أصنام في قوم نوح - عليه السلام - كانوا رجالا صالحين، وقد جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: " هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا ولم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت".
وهذا التفسير فيه إشكال حيث يقول - رضي الله عنه -: " هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، وظاهر القرآن أنها قبل نوح قال الله تعالى: {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} . فظاهر الآية أن قوم نوح كانوا يعبدونهم وأنه نهاهم عن ذلك.
فسياق الآية يدل على ما ذكره ابن عباس إلا أن ظاهر السياق أن هؤلاء القوم الصالحين كانوا قبل نوح - عليه السلام - والله أعلم.
دليل ذلك قوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} فلا نبي بعد النبي محمد - صلي الله عليه وسلم -.
فإن قيل: إن عيسى ابن مريم - عليه الصلاة والسلام - ينزل آخر الزمان وهو رسول.
فنقول: هذا حق ولكنه لا ينزل على أنه رسول مجدد، بل ينزل على أنه حاكم بشريعة النبي محمد - عليه الصلاة والسلام -؛لأن الواجب على(7/19)
وهو كسر صور هؤلاء الصالحين أرسله الله إلى أناس يتعبدون ويحجون ويتصدقون ويذكرون الله كثيرا ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله. يقولون: نريد منهم التقرب إلى الله ونريد شفاعتهم عنده مثل الملائكة، وعيسى ومريم وأناس غيرهم من الصالحين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عيسى وعلى غيره من الأنبياء الإيمان بمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واتباعه ونصره كما قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} وهذا الرسول المصدق لما معهم هو محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما صح ذلك عن الصحابي الجليل ابن عباس - رضي الله عنه - وغيره.
أي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كسر صور الأصنام وذلك يوم الفتح حين «دخل الكعبة فوجد حولها وفيها ثلاثمائة وستين صنما وجعل يطعنها - عليه الصلاة والسلام - بالحربة وهو يتلو قوله تعالى: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} » ..
أي إن الله بعث رسوله محمدا - عليه الصلاة والسلام - إلى قوم يتعبدون لكنها عبادة باطلة ما أنزل بها من سلطان، ويتصدقون ويفعلون كثيرا من أمور الخير لكنها لا تنفعهم؛ لأنهم كفار، ومن شرط التقرب إلى الله تعالى أن يكون المتقرب إلى الله مسلما وهؤلاء غير مسلمين. أى إنهم إنما يعبدون هذه الأصنام لتقربهم إلى الله زلفى فهم مقرون بأنها دون الله، وأنها لا تملك لهم نفعا ولا ضرا، وأنهم شفعاء لهم عند(7/20)
فبعث الله محمدا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجدد لهم دين أبيهم إبراهيم - عليه السلام - ويخبرهم أن هذا التقرب والاعتقاد محض حق الله تعالى لا يصلح منه شيء لغير الله، لا لملك مقرب ولا لنبي مرسل فضلا عن غيرهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الله - عز وجل - ولكن هذه الشفاعة شفاعة باطلة لا تنفع أصحابها؛ لأن الله- عز وجل -يقول: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} وذلك؛ لأن الله تعالى لا يرضى لهؤلاء المشركين شركهم، ولا يمكن أن يأذن بالشفاعة لهم؛ لأنه لا شفاعة إلا لمن ارتضاه الله- عز وجل -والله لا يرضى لعباده الكفر ولا يحب الفساد، فتعلق المشركين بآلهتهم يعبدونها ويقولون: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} تعلق باطل غير نافع بل هذا لا يزيدهم من الله تعالى إلا بعدا، على أن المشركين يرجون شفاعة أصنامهم بوسيلة باطلة وهي عبادة هذه الأصنام، وهذا من جهلهم وسفههم أن يحاولوا التقرب إلى الله تعالى بما لا يزيدهم منه إلا بعدا.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -: إنهم مازالوا على هذا الكفر وهو عبادة هذه الأصنام لتقربهم بزعمهم إلى الله تعالى حتى بعث الله رسوله وخاتم أنبيائه محمدا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعثه الله تعالى بالتوحيد الخالص يدعو الناس إلى عبادة الله وحده ويحذرهم من الشرك قال الله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} ويبين لهم أن العبادة حق لله وحده، وأنه لا يجوز صرف شيء منها لغيره سبحانه وتعالى لا لملك مقرب، ولا لنبي مرسل فضلا عن غيرها. فقال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} .(7/21)
وإلا فهؤلاء المشركون يشهدون أن الله هو الخالق وحده لا شريك له، وأنه لا يرزق إلا هو، ولا يحيي ولا يميت إلا هو، ولا يدبر الأمر إلا هو، وأن جميع السماوات ومن فيهن، والأرضين السبع ومن فيهن، كلهم عبيده وتحت تصرفه وقهره.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: " يجدد لهم دين أبيهم إبراهيم " كأنه يشير إلى قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} . وقوله: " محض حق الله ". أي خالص حقه.
يقول - رحمه الله تعالى -: إن هؤلاء المشركين الذين بعث فيهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرون بأن الله وحده هو الخالق، وأنه هو الذي خلق السماوات والأرض، وأنه هو الذي خلقهم، وأنه هو المدبر للأمور كما ذكر الله عنهم في آيات عديدة من القرآن الكريم قال الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} والآيات في هذا المعنى كثيرة، لكن هذا لا ينفعهم؛ لأن هذا إقرار بالربوبية فقط، ولا ينفع الإقرار بالربوبية حتى يكون معه الإقرار بالألوهية وعبادة الله وحده.
واعلم أن الإقرار بالربوبية يستلزم الإقرار بالألوهية، وأن الإقرار بالألوهية متضمن الإقرار بالربوبية.
أما الأول: فهو دليل ملزم أي إن الإقرار دليل ملزم لمن أقر به أن يقر بالألوهية؛ لأنه إذا كان الله وحده هو الخالق وهو المدبر للأمور وهو الذي بيده ملكوت كل شيء فالواجب أن تكون العبادة له وحده لا لغيره.(7/22)
فإذا أردت الدليل على أن هؤلاء الذين قاتلهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يشهدون بهذا فاقرأ قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} . وقوله: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ}
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والثاني: متضمن للأول يعني أن توحيد الألوهية يتضمن توحيد الربوبية؛ لأنه لا يتأله إلا للرب- عز وجل -الذي يعتقد أنه هو الخالق وحده وهو المدبر لجميع الأمور سبحانه وتعالى.
ذكر المؤلف - رحمه الله - هنا دليل ما قرر أن هؤلاء يقرون بتوحيد الربوبية، ولكنه أتى به على سبيل السؤال والجواب ليكون هذا أمكن وأثبت وأتم في الاستدلال فقال: " فإذا أردت الدليل.. فاقرأ قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} الآية.
{فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} يعني إذا كنتم تقرون بهذا أفلا تتقون الله الذي أقررتم له بتمام الملك وتمام التدبير وأنه وحده الخالق الرازق المالك للسمع والأبصار، المخرج للحي من الميت، وللميت من الحي المدبر لجميع الأمور، وهذا الاستفهام للتوبيخ والإلزام، أي إنكم إذا أقررتم بذلك لزمكم أن تتقوا الله وتعبدوه وحده لا شريك له. وقوله يعني واقرأ قوله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا} إلى آخر الآيات وهذه الآيات مما يدل على أن المشركين الذين بعث فيهم(7/23)
وغير ذلك من الآيات.
فإذا تحققت أنهم مقرون بهذا ولم يدخلهم في التوحيد الذي دعاهم إليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعرفت أن التوحيد الذي جحدوه هو توحيد العبادة الذي يسميه المشركون في زماننا: " الاعتقاد "
ـــــــــــــــــــــــــــــ
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرون بتوحيد الربوبية فإنهم يقرون بأن الأرض ومن فيها لله لا شريك له، ويقرون بأن الله هو الذي خلق السماوات والأرض وأنه رب العرش العظيم، ويقرون بأن بيده ملكوت كل شيء، وأنه هو الذي يجير ولا يجار عليه، وكل هذا ملزم لهم بأن يعبدوا الله وحده ويفردوه بالعبادة، ولهذا جاء توبيخهم بصيغة الاستفهام في ختام كل آية من الآيات الثلاث. والآيات الدالة على أن المشركين الذين بعث فيهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يقرون بتوحيد الربوبية كثيرة.
أي الذين بعث فيهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من المشركين. يعني توحيد الربوبية وهو اعتقاد أن الله وحده هو الخالق المالك المدبر لجميع الأمور.
أي إن إيمانهم بأن الله هو الخالق المالك المدبر لجميع الأمور لم يدخلهم في توحيد العبادة الذي دعاهم إليه رسول الله- صلى الله عليه وعلى آله وسلم -ولم يعصم دماءهم وأموالهم.
أي إذا عرفت أن الذي أنكروه هو توحيد العبادة الذي يسميه كما قال الشيخ - رحمه الله - مشركو زماننا " الاعتقاد " تبين لك أن هذا الذي(7/24)
كما كانوا يدعون الله سبحانه ليلا ونهارا، ثم منهم من يدعو الملائكة لأجل صلاحهم وقربهم من الله ليشفعوا لهم، أو يدعو رجلا صالحا مثل: اللات، أو نبيا مثل عيسى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أقروا به لا يكفي في التوحيد بل ولا يكفي في الإسلام كله فإن من لم يقر بتوحيد العبادة فإنه ليس بمسلم حتى ولو أقر بتوحيد الربوبية ولهذا قاتل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المشركين مع أنهم يقرون بتوحيد الربوبية كما تقدم.
يعني أن هؤلاء المشركين في عبادة الله كانوا يدعون الله تعالى إذا اضطروا إلى ذلك، ومنهم من يدعو الملائكة لقربهم من الله- عز وجل -ويزعمون أن من قرب من الله سبحانه وتعالى فهو مستحق للعبادة، وهذا من جهلهم فإن العبادة حق الله وحده لا يشركه فيها أحد.
وأن منهم من يدعو اللات، واللات بالتشديد: اسم فاعل من اللت وأصله رجل كان يلت السويق للحجاج، أي يجعل فيه السمن ويطعمه الحجاج فلما مات عكفوا على قبره ثم عبدوه، وأن منهم من يعبد المسيح - عليه السلام - لكونه آية من آيات الله، وأن منهم من يعبد الأولياء؛ لقربهم من الله سبحانه وتعالى، وكل هذا من تزيين الشيطان لهم أعمالهم التي ضلوا بها عن الصراط المستقيم قال الله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} .(7/25)
وعرفت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قاتلهم على هذا الشرك.
ودعاهم إلى إخلاص العبادة لله وحده كما قال الله تعالى: {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} وكما قال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} .
وتحققت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قاتلهم ليكون
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هذه معطوفة على قوله: " فإذا تحققت".
أي الشرك في العبادة حيث كانوا يعبدون غير الله معه، وليس المراد الشرك في الربوبية؛ لأن المشركين الذين بعث فيهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانوا يؤمنون بأن الله وحده هو الرب وأنه مجيب دعوة المضطرين وأنه هو الذي يكشف السوء إلى غير ذلك مما ذكر الله عنهم من إقرارهم بربوبية الله- عز وجل -وحده.
فالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قاتل هؤلاء المشركين الذين لم يقروا بتوحيد العبادة بل استحل دماءهم وأموالهم، وإن كانوا يقرون بأن الله وحده هو الخالق؛ لأنهم لم يعبدوه ولم يخلصوا له العبادة.
الإخلاص لله معناه: " أن يقصد المرء بعبادته التقرب إلى الله سبحانه وتعالى والوصول إلى دار كرامته".
يعني أن هذه الأصنام التي يدعونها من دون الله لا تستجيب لهم بشيء كما قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ}
قوله: وتحققت معطوف على قوله: فإذا تحققت.(7/26)
الدعاء كله لله.
والذبح كله لله.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الدعاء على نوعين: الأول: دعاء عبادة بأن يتعبد للمدعو طلبا لثوابه وخوفا من عقابه، وهذا لا يصح لغير الله وصرفه لغير الله شرك أكبر مخرج عن الملة، وعليه يقع الوعيد في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} . النوع الثاني: دعاء المسألة وهو دعاء الطلب أي طلب الحاجات وينقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: دعاء الله سبحانه وتعالى بما لا يقدر عليه إلا هو، وهو عبادة لله تعالى؛ لأنه يتضمن الافتقار إلى الله تعالى، واللجوء إليه، واعتقاد أنه قادر كريم واسع الفضل والرحمة، فمن دعا غير الله- عز وجل -بشيء لا يقدر عليه إلا الله فهو مشرك كافر سواء كان المدعو حيا أو ميتا.
القسم الثاني: دعاء الحي بما يقدر عليه مثل يا فلان اسقني فلا شيء فيه.
القسم الثالث: دعاء الميت أو الغائب بمثل هذا فإنه شرك؛ لأن الميت أو الغائب لا يمكن أن يقوم بمثل هذا فدعاؤه إياه يدل على أنه يعتقد أن له تصرفا في الكون فيكون بذلك مشركا.
الذبح: " إزهاق الروح بإراقة الدم على وجه مخصوص ".
ويقع على وجوه: الأول: أن يقصد به تعظيم المذبوح له والتذلل له والتقرب إليه فهذا عبادة لا يكون إلا لله تعالى على الوجه الذي شرعه الله تعالى،(7/27)
والنذر كله الله.
والاستغاثة كلها بالله
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وصرفه لغير الله شرك أكبر؛ لقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ} .
الثاني: أن يقصد به إكرام الضيف، أو وليمة لعرس ونحو ذلك، فهذا مأمور به إما وجوبا أو استحبابا؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه» وقوله لعبد الرحمن بن عوف حين تزوج: «أولم ولو بشاة» .
الثالث: أن يقصد به التمتع بالأكل أو الاتجار به ونحو ذلك فهذا من قسم المباح، فالأصل فيه الإباحة؛ لقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} وقد يكون مطلوبا أو منهيا عنه حسبما يكون وسيلة له.
النذر يطلق على العبادات المفروضة عموما، ويطلق على النذر الخاص وهو إلزام الإنسان نفسه بشيء لله - عز وجل -. والمراد به هنا الأول فالعبادات كلها لله تعالى؛ لقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} .
الاستغاثة: طلب الغوث والإنقاذ من الشدة والهلاك.
وهو أقسام: الأول: الاستغاثة بالله- عز وجل -وهذا من أفضل الأعمال وأكملها وهو دأب الرسل عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم ودليله قوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ}(7/28)
وجميع أنواع العبادات كلها لله.
وعرفت أن إقرارهم بتوحيد الربوبية لم يدخلهم في الإسلام، وأن قصدهم الملائكة، أو الأنبياء، أو الأولياء يريدون شفاعتهم والتقرب إلى الله بذلك هو الذي أحل دماءهم وأموالهم، عرفت حينئذ التوحيد الذي دعت إليه الرسل وأبى عن الإقرار به المشركون.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الثاني: الاستغاثة بالأموات أو بالأحياء غير الحاضرين القادرين على الإغاثة فهذا شرك؛ لأنه لا يفعله إلا من يعتقد أن لهؤلاء تصرفا خفيا في الكون فيجعل لهم حظا من الربوبية، قال الله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} .
الثالث: الاستغاثة بالأحياء العالمين القادرين على الإغاثة فهذا جائز كالاستعانة بهم، قال الله تعالى في قصة موسى عليه السلام: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} .
الرابع: الاستغاثة بحي غير قادر من غير أن يعتقد أن له قوة خفية مثل أن يستغيث بمشلول على دفع عدو صائل. فهذا لغو وسخرية بالمستغاث به فيمنع لهذه العلة ولعلة أخرى، وهي أنه ربما اغتر بذلك غيره فتوهَّم أن لهذا المستغاث به وهو عاجز أن له قوة خفية ينقذ بها من الشدة.
قوله: (وعرفت) معطوف على (تحققت) الأولى. وقوله: (عرفت) جواب (فإذا تحققت) وما عطف عليها.
قرر المؤلف - رحمه الله - أن التوحيد الذي جاءت به الرسل من الله هو توحيد الألوهية؛ لأن هؤلاء المشركين الذين بعث فيهم رسول الله - صلى(7/29)
وهذا التوحيد هو معنى قولك: " لا إله إلا الله " فإن الإله عندهم هو الذي يقصد لأجل هذه الأمور سواء كان ملكا، أو نبيا، أو وليا، أو شجرة، أو قبرا، أو جنيا لم يريدوا أن الإله هو الخالق الرازق المدبر، فإنهم يعلمون أن ذلك لله وحده كما قدمت لك، وإنما يعنون
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الله عليه وسلم - كانوا يقرون بتوحيد الربوبية ومع هذا استباح النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دماءهم وأموالهم على أنهم يعبدون الملائكة وغيرهم مما يعبدونهم من الأولياء والصالحين يريدون بذلك أن يقربوهم إلى الله وهي كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} فهم مقرون بأن الله هو المقصود، ولكنهم يقصدون الملائكة، وغيرهم ليقربوهم إلى الله، ومع ذلك لم يدخلهم في التوحيد.
قوله: " وهذا التوحيد هو معنى قولك لا إله إلا الله " أي إن التوحيد الذي دعا إليه النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - هو معنى لا إله إلا الله أي: لا معبود حق إلا الله- عز وجل -فهم يعلمون أن معناها لا معبود حق إلا الله - عز وجل - وليس معناه لا خالق، أو لا رازق، أو لا مدبّر إلا الله، أو لا قادر على الاختراع إلا الله كما يقوله كثير من المتكلمين، فإن هذا المعنى لا ينكره المشركون ولا يردونه، وإنما يردون معنى " لا إله إلا الله " أي لا معبود حق إلا الله، كما قال تعالى عنهم: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} .(7/30)
بالإله ما يعني المشركون في زماننا بلفظ (السيد) فأتاهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدعوهم إلى كلمة التوحيد وهي " لا إله إلا الله ".
والمراد من هذه الكلمة معناها لا مجرد لفظها. والكفار الجهال يعلمون أن مراد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بهذه الكلمة هو إفراد الله تعالى بالتعلق به، والكفر بما يعبد من دون الله والبراءة منه، فإنه لما قال لهم: قولوا: " لا إله إلا الله " قالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} فإذا عرفت أن جهال الكفار يعرفون ذلك فالعجب ممن يدعي الإسلام وهو لا يعرف من تفسير هذه الكلمة ما عرفه جهال الكفار
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يريد - رحمه الله - بيان أن المشركين لا يريدون بقول: لا إله إلا الله أي لا مدبر ولا خالق إلا الله؛ لأنهم يعرفون أن ذلك حق، وإنما ينكرون معناها لا معبود حق إلا الله، وهذا الذي بدأ به المؤلف وأعاد إنما قاله للتأكيد والرد على من يقول: إننا لا نعبد الملائكة أو غيرهم إلا من أجل أن يقربونا إلى الله زلفى، ولسنا نعتقد أنهم يخلقون أو يرزقون.
قوله: " من هذه الكلمة " أي قول: لا إله إلا الله. هذه الجملة كالتي قبلها يبين فيها - رحمه الله - أن معنى لا إله إلا الله، لا معبود حق إلا الله، وأن المشركين قد فهموا هذا منها، وعلموا أنه ليس المراد بها مجرد لفظها، وأن المراد بها لا معبود حق إلا الله، ولهذا أنكروه مع أنهم لا ينكرون أن الله وحده هو الخالق الرازق.
. أي يعرفون أن معنى لا إله إلا الله، لا معبود حق إلا الله.
يريد المؤلف - رحمه الله - أن يبين أن من الناس من يدعي الإسلام ولا(7/31)
بل يظن أن ذلك هو التلفظ بحروفها من غير اعتقاد القلب لشيء من المعاني، والحاذق منهم يظن أن معناها " لا يخلق ولا يرزق ولا يدبر الأمر إلا الله " فلا خير في رجل جهال الكفار أعلم منه بمعنى " لا إله إلا الله ".
إذا عرفت ما ذكرت لك معرفة قلب وعرفت الشرك بالله الذي قال الله فيه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يعرفون معنى كلمة " لا إله إلا الله " حيث يظنون أن المقصود: هو التلفظ بحروفها دون معرفة معناها واعتقاده.
ومن الناس من يظن أن المراد بها توحيد الربوبية أي لا خالق إلا الله، ولا رازق إلا الله.
ومن الناس من يفسرها بأن المراد بها " إخراج اليقين الصادق عن ذات الأشياء، وإدخال اليقين الصادق على ذات الله " وهذا التفسير باطل لم يعرفه السلف الصالح، وليس المراد به أن تتيقن بالله- عز وجل -وتخرج اليقين من غيره؛ لأن هذا لا يمكن فإن اليقين ثابت في غير الله {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} وتيقن الأشياء الواقعة الحسية المعلومة لا ينافي التوحيد.
ومن الناس من يفسرها بأنه " لا معبود إلا الله " وهذا التعريف لا يصح على ظاهره؛ لأن هناك أشياء عبدت من دون الله - عز وجل -.
فيكون هؤلاء أجهل من الجهال الذين بعث فيهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإنهم كانوا يعرفون من معناها ما لا يعرفه هؤلاء.
أي عرفت معنى لا إله إلا الله الحقيقي وأن معناها " لا معبود حق إلا الله ".(7/32)
وعرفت دين الله الذي أرسل به الرسل من أولهم إلى آخرهم الذي لا يقبل الله من أحد دينا سواه وعرفت ما أصبح غالب الناس فيه من الجهل بهذا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
اختلف أهل العلم - رحمهم الله تعالى - في هذه الآية هل تشمل كل الشرك أم أنها خاصة بالشرك الأكبر: فمنهم من قال: تشمل كل شرك ولو كان أصغر كالحلف بغير الله فإن الله لا يغفره.
ومنهم من قال: إنها خاصة بالشرك الأكبر فهو الذي لا يغفره الله.
وشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - اختلف كلامه فمرة قال بالقول الأول، ومرة قال بالقول الثاني. وعلى كل حال يجب الحذر من الشرك مطلقا؛ لأن العموم يحتمل أن يكون داخلا فيه الأصغر؛ لأن قوله: {أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} أن وما بعدها في تأويل مصدر تقديره " إشراكا به " فهو نكرة في سياق النفي فتفيد العموم.
وهو عبادة الله وحده كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} . وهذا هو الإسلام الذي قال الله فيه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} .
أي بمعنى هذه الكلمة مما تقدم ذكره عند قول المؤلف - رحمه الله -: " فالعجب ممن يدعي الإسلام، وهو لا يعرف من تفسير هذه الكلمة.. " إلخ.(7/33)
أفادك فائدتين.
الأولى الفرح بفضل الله ورحمته كما قال الله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} وأفادك أيضا الخوف العظيم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: أفادك جواب قوله: "إذا عرفت ما ذكرت لك.. " إلخ.
يحصل ذلك من وجهين: الوجه الأول: أن الله تعالى فتح عليك حتى عرفت المعنى الصحيح لهذه الكلمة العظيمة " لا إله إلا الله ". وهذا فضل عظيم من الله ورحمة، والفرح بمثل هذا مما أمر الله به ودليله ما ذكره المؤلف - رحمه الله -: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} وفرح العبد بما أنعم الله عليه من العلم والعبادة من الأمور المحمودة كما جاء في الحديث: «للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه» .
أي من أن نقع في مثل ما وقع فيه هؤلاء من الجهل بمعناها والخطر العظيم في ذلك.(7/34)
فإنك إذا عرفت أن الإنسان يكفر بكلمة يخرجها من لسانه وقد يقولها وهو جاهل فلا يعذر بالجهل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تعليقنا على هذه الجملة من كلام المؤلف - رحمه الله -: أولا: لا أظن الشيخ - رحمه الله - لا يرى العذر بالجهل اللهم إلا أن يكون منه تفريط بترك التعلم مثل أن يسمع بالحق، فلا يلتفت إليه ولا يتعلم، فهذا لا يعذر بالجهل وإنما لا أظن ذلك من الشيخ؛ لأن له كلاما آخر يدل على العذر بالجهل فقد سئل - رحمه الله تعالى - عما يقاتل عليه؟ وعما يكفر الرجل به؟ فأجاب: أركان الإسلام الخمسة، أولها الشهادتان، ثم الأركان الأربعة، فالأربعة إذا أقر بها، وتركها تهاونا، فنحن وإن قاتلناه على فعلها، فلا نكفره بتركها، والعلماء اختلفوا في كفر التارك لها كسلا من غير جحود، ولا نكفر إلا ما أجمع عليه العلماء كلهم، وهو: الشهادتان. وأيضا: نكفره بعد التعريف إذا عرف وأنكر، فنقول: أعداؤنا معنا على أنواع.
النوع الأول: من عرف أن التوحيد دين الله ورسوله، الذي أظهرناه للناس، وأقر أيضا أن هذه الاعتقادات في الحجر، والشجر، والبشر، الذي هو دين غالب الناس: أنه الشرك بالله، الذي بعث الله رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهى عنه، ويقاتل أهله، ليكون الدين كله لله، ومع ذلك لم يلتفت إلى التوحيد، ولا تعلمه، ولا دخل فيه، ولا ترك الشرك، فهو كافر، نقاتله بكفره؛ لأنه عرف دين الرسول، فلم يتبعه، وعرف الشرك فلم يتركه، مع أنه لا يبغض دين الرسول، ولا من دخل فيه، ولا يمدح الشرك، ولا يزينه للناس.(7/35)
النوع الثاني: من عرف ذلك، ولكنه تبين في سب دين الرسول، مع ادعائه أنه عامل به، وتبين في مدح من عبد يوسف، والأشقر، ومن عبد أبا علي، والخضر من أهل الكويت، وفضلهم على من وحد الله، وترك الشرك، فهذا أعظم من الأول، وفيه قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [سورة البقرة، الآية: 89] وهو ممن قال الله فيه: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} [سورة التوبة: الآية: 12] . النوع الثالث: من عرف التوحيد، وأحبه، واتبعه، وعرف الشرك، وتركه، ولكن يكره من دخل في التوحيد، ويحب من بقي على الشرك، فهذا أيضا كافر، فيه قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [سورة محمد، الآية: 9] . النوع الرابع: من سلم من هذا كله، ولكن أهل بلده يصرحون بعداوة أهل التوحيد، واتباع أهل الشرك، ويسعون في قتالهم، ويتعذر بأن ترك وطنه يشق عليه، فيقاتل أهل التوحيد مع أهل بلده، ويجاهد بماله، ونفسه، فهذا أيضا كافر، فإنهم لو يأمرونه بترك صوم رمضان، ولا يمكنه الصيام إلا بفراقهم فعل، ولو يأمرونه بتزوج امرأة أبيه ولا يمكنه ذلك إلا بفراقهم فعل، وموافقتهم على الجهاد معهم بنفسه وماله، مع أنهم يريدون بذلك قطع دين الله ورسوله أكبر من ذلك بكثير، كثير، فهذا أيضا كافر، وهو ممن قال الله فيهم: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ}(7/36)
إلى قوله: {سُلْطَانًا مُبِينًا} [سورة النساء، الآية: 91] فهذا الذي نقول. وأما الكذب والبهتان فمثل قولهم: إنا نكفر بالعموم، ونوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه، وإنا نكفر من لم يكفر، ومن لم يقاتل، ومثل هذا وأضعاف أضعافه، فكل هذا من الكذب والبهتان، الذي يصدون به الناس عن دين الله ورسوله.
وإذا كنا لا نكفر من عبد الصنم، الذي على عبد القادر، والصنم الذي على قبر أحمد البدوي، وأمثالهما؛ لأجل جهلهم، وعدم من ينبههم، فكيف نكفر من لم يشرك بالله إذا لم يهاجر إلينا، أو لم يكفر ويقاتل؟! {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [سورة النور، الآية: 16] . بل نكفر تلك الأنواع الأربعة؛ لأجل محادتهم لله ورسوله، فرحم الله امرأ نظر نفسه، وعرف أنه ملاق الله، الذي عنده الجنة والنار، وصلى الله على محمد وآله، وصحبه، وسلم. (*) تتمة: الاختلاف في مسألة العذر بالجهل كغيره من الاختلافات الفقهية الاجتهادية، وربما يكون اختلافا لفظيا في بعض الأحيان من أجل تطبيق الحكم على الشخص المعين، أي أن الجميع يتفقون على أن هذا القول كفر، أو هذا الفعل كفر، أو هذا الترك كفر، ولكن هل يصدق الحكم على هذا الشخص المعين لقيام المقتضي في حقه وانتفاء المانع أو لا ينطبق لفوات بعض المتقضيات، أو وجود بعض الموانع. وذلك أن الجهل بالمكفر على نوعين:(7/37)
الأول: أن يكون من شخص يدين بغير الإسلام أو لا يدين بشيء ولم يكن يخطر بباله أن دينا يخالف ما هو عليه فهذا تجري عليه أحكام الظاهر في الدنيا، وأما في الآخرة فأمره إلى الله تعالى، والقول الراجح أنه يمتحن في الآخرة بما يشاء الله- عز وجل -والله أعلم بما كانوا عاملين، لكننا نعلم أنه لن يدخل النار إلا بذنب؛ لقوله تعالى: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} . وإنما قلنا: تجري عليه أحكام الظاهر في الدنيا وهي أحكام الكفر؛ لأنه لا يدين بالإسلام فلا يمكن أن يعطى حكمه، وإنما قلنا بأن الراجح أنه يمتحن في الآخرة؛ لأنه جاء في ذلك آثار كثيرة ذكرها ابن القيم - رحمه الله تعالى - في كتابه: " طريق الهجرتين " عند كلامه على المذهب الثامن في أطفال المشركين تحت الكلام على الطبقة الرابعة عشرة.
النوع الثاني: أن يكون من شخص يدين بالإسلام ولكنه عاش على هذا المكفر ولم يكن يخطر بباله أنه مخالف للإسلام، ولا نبهه أحد على ذلك فهذا تجري عليه أحكام الإسلام ظاهرا، أما في الآخرة فأمره إلى الله - عز وجل -.
وقد دل على ذلك الكتاب، والسنة، وأقوال أهل العلم: فمن أدلة الكتاب: قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} . وقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} . وقوله:(7/38)
{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} ، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} . وقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} . وقوله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الحجة لا تقوم إلا بعد العلم والبيان.
وأما السنة: ففي صحيح مسلم 1 \134 عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة - يعني أمة الدعوة - يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار» .
وأما كلام أهل العلم: فقال في المغني 8 /131: " فإن كان ممن لا يعرف الوجوب كحديث الإسلام، والناشئ بغير دار الإسلام، أو بادية بعيدة عن الأمصار وأهل العلم لم يحكم بكفره". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى 3 229 مجموع ابن قاسم: " إني دائما ومن جالسني يعلم ذلك مني من أعظم الناس نهيا عن أن ينسب معين إلى تكفير، وتفسيق ومعصية إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافرا تارة، وفاسقا أخرى، وعاصيا أخرى، وإني أقرر أن الله تعالى قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية، والمسائل العملية، وما زال(7/39)
السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل، ولم يشهد أحد منهم على أحد لا بكفر، ولا بفسق، ولا بمعصية - إلى أن قال -: وكنت أبين أن ما نقل عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا فهو أيضا حق، لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين - إلى أن قال -: والتكفير هو من الوعيد، فإنه وإن كان القول تكذيبا لما قاله الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لكن الرجل قد يكون حديث عهد بإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة، وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها وإن كان مخطئا " ا. هـ. وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب 1 / 56 من الدرر السنية: " وأما التكفير فأنا أكفر من عرف دين الرسول، ثم بعدما عرفه سبه، ونهى الناس عنه، وعادى من فعله فهذا هو الذي أكفره ". وفي ص 66: " وأما الكذب والبهتان فقولهم: إنا نكفر بالعموم ونوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه، فكل هذا من الكذب والبهتان الذي يصدون به الناس عن دين الله ورسوله، وإذا كنا لا نكفر من عبد الصنم الذي على عبد القادر، والصنم الذي على أحمد البدوي، وأمثالهما؛ لأجل جهلهم، وعدم من ينبههم فكيف نكفر من لم يشرك بالله إذا لم يهاجر إلينا أو لم يكفر ويقاتل " ا. هـ. وإذا كان هذا مقتضى نصوص الكتاب، والسنة، وكلام أهل العلم فهو مقتضى حكمة الله تعالى ولطفه، ورأفته، فلن يعذب(7/40)
أحدا حتى يعذر إليه، والعقول لا تستقل بمعرفة ما يجب لله تعالى من الحقوق، ولو كانت تستقل بذلك لم تتوقف الحجة على إرسال الرسل.
فالأصل فيمن ينتسب للإسلام بقاء إسلامه حتى يتحقق زوال ذلك عنه بمقتضى الدليل الشرعي، ولا يجوز التساهل في تكفيره؛ لأن في ذلك محذورين عظيمين: أحدهما: افتراء الكذب على الله تعالى في الحكم وعلى المحكوم عليه في الوصف الذي نبزه به.
أما الأول فواضح حيث حكم بالكفر على من لم يكفره الله تعالى فهو كمن حرم ما أحل الله؛ لأن الحكم بالتكفير أو عدمه إلى الله وحده كالحكم بالتحريم أو عدمه.
وأما الثاني: فلأنه وصف المسلم بوصف مضاد، فقال: إنه كافر، مع أنه بريء من ذلك، وحري به أن يعود وصف الكفر عليه لما ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا كفر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما» . وفي رواية: «إن كان كما قال وإلا رجعت عليه» . وله من حديث أبي ذر - رضي الله عنه - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ومن دعا رجلا بالكفر، أو قال: عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه» . يعني رجع عليه. وقوله في حديث ابن عمر: «إن كان كما قال» يعني في حكم الله تعالى وكذلك قوله في حديث أبي ذر: «وليس كذلك» يعني في حكم الله تعالى.(7/41)
وهذا هو المحذور الثاني أعني عود وصف الكفر عليه إن كان أخوه بريئا منه، وهو محذور عظيم يوشك أن يقع به؛ لأن الغالب أن من تسرع بوصف المسلم بالكفر كان معجبا بعمله محتقرا لغيره فيكون جامعا بين الإعجاب بعمله الذي قد يؤدي إلى حبوطه، وبين الكبر الموجب لعذاب الله تعالى في النار كما جاء في الحديث الذي أخرجه أحمد، وأبو داود عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «قال الله- عز وجل -: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدا منهما قذفته في النار» .
فالواجب قبل الحكم بالتكفير أن ينظر في أمرين: الأمر الأول: دلالة الكتاب والسنة على أن هذا مكفر لئلا يفتري على الله الكذب.
الثاني: انطباق الحكم على الشخص المعين بحيث تتم شروط التكفير في حقه، وتنتفي الموانع.
ومن أهم الشروط أن يكون عالما بمخالفته التي أوجبت كفره؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [سورة النساء، الآية: 115] . فاشترط للعقوبة بالنار أن تكون المشاقة للرسول من بعد أن يتبين الهدى له.
ولكن هل يشترط أن يكون عالما بما يترتب على مخالفته من كفر أو غيره أو يكفي أن يكون عالما بالمخالفة وإن كان جاهلا بما يترتب عليها؟ الجواب: الثاني، أي أن مجرد علمه بالمخالفة كاف في الحكم بما(7/42)
تقتضيه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوجب الكفارة على المجامع في نهار رمضان لعلمه بالمخالفة مع جهله بالكفارة؛ ولأن الزاني المحصن العالم بتحريم الزنى يرجم وإن كان جاهلا بما يترتب على زناه، وربما لو كان عالما ما زنى.
ومن الموانع من التكفير أن يكره على المكفر؛ لقوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [سورة النحل، الآية: 106] .
ومن الموانع أن يغلق عليه فكره وقصده بحيث لا يدري ما يقول لشدة فرح، أو حزن، أو غضب، أو خوف، ونحو ذلك؛ لقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [سورة الأحزاب، الآية: 5] . وفي صحيح مسلم 2104 عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " «لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذا بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي، وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح» .
ومن الموانع أيضا أن يكون له شبهة تأويل في الكفر بحيث يظن أنه على حق؛ لأن هذا لم يتعمد الإثم والمخالفة فيكون داخلا في(7/43)
قوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [سورة الأحزاب، الآية: 5] . ولأن هذا غاية جهده فيكون داخلا في قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [سورة البقرة، الآية: 286] قال في المغني 8 /131: " وإن استحل قتل المعصومين وأخذ أموالهم بغير شبهة ولا تأويل فكذلك - يعني يكون كافرا - وإن كان بتأويل كالخوارج فقد ذكرنا أن أكثر الفقهاء لم يحكموا بكفرهم مع استحلالهم دماء المسلمين وأموالهم، وفعلهم ذلك متقربين به إلى الله تعالى إلى أن قال: وقد عرف من مذهب الخوارج تكفير كثير من الصحابة ومن بعدهم واستحلال دمائهم، وأموالهم، واعتقادهم التقرب بقتلهم إلى ربهم، ومع هذا لم يحكم الفقهاء بكفرهم لتأويلهم، وكذلك يخرج في كل محرم استحل بتأويل مثل هذا ". وفي فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 13 \30 مجموع ابن القاسم: " وبدعة الخوارج إنما هي من سوء فهمهم للقرآن، لم يقصدوا معارضته، لكن فهموا منه ما لم يدل عليه، فظنوا أنه يوجب تكفير أرباب الذنوب" وفي ص 210 منه: " فإن الخوارج خالفوا السنة التي أمر القرآن باتباعها، وكفروا المؤمنين الذين أمر القرآن بموالاتهم.. وصاروا يتبعون المتشابه من القرآن فيتأولونه على غير تأويله من غير معرفة منهم بمعناه ولا رسوخ في العلم، ولا اتباع للسنة، ولا مراجعة لجماعة المسلمين الذين يفهمون القرآن ". وقال أيضا 28 \ 518 من المجموع المذكور: " فإن الأئمة متفقون على ذم الخوارج وتضليلهم، وإنما تنازعوا في تكفيرهم على قولين مشهورين " لكنه ذكر في 7\217 " أنه لم يكن في الصحابة(7/44)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
من يكفرهم لا علي بن أبي طالب ولا غيره، بل حكموا فيهم بحكمهم في المسلمين الظالمين المعتدين كما ذكرت الآثار عنهم بذلك في غير هذا الموضع". وفي 28 \ 518 " أن هذا هو المنصوص عن الأئمة كأحمد وغيره". وفي 3\282 قال: " والخوارج المارقون الذين أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقتالهم قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أحد الخلفاء الراشدين، واتفق على قتالهم أئمة الدين من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم، ولم يكفرهم علي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وغيرهما من الصحابة، بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم، ولم يقاتلهم علي حتى سفكوا الدم الحرام، وأغاروا على أموال المسلمين فقاتلهم لدفع ظلمهم وبغيهم، لا لأنهم كفار. ولهذا لم يسب حريمهم، ولم يغنم أموالهم، وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنص، والإجماع، لم يكفروا مع أمر الله ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقتالهم فكيف بالطوائف المختلفين الذين اشتبه عليهم الحق في مسائل غلط فيها من هو أعلم منهم، فلا يحل لأحد من هذه الطوائف أن يكفر الأخرى، ولا تستحل دمها ومالها، وإن كانت فيها بدعة محققة، فكيف إذا كانت المكفرة لها مبتدعة أيضا، وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ، والغالب أنهم جميعا جهال بحقائق ما يختلفون فيه". إلى أن قال: " وإذا كان المسلم متأولا في القتال، أو التكفير لم يكفر بذلك" إلى أن قال في ص288: " وقد اختلف العلماء في خطاب الله ورسوله هل يثبت حكمه في حق العبيد قبل البلاغ على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره.. والصحيح ما دل عليه القرآن في(7/45)
وقد يقولها، وهو يظن أنها تقربه إلى الله كما كان يظن المشركون خصوصا إن ألهمك الله تعالى ما قص عن قوم موسى مع صلاحهم وعلمهم أنهم أتوه قائلين: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} فحينئذ يعظم خوفك وحرصك على ما يخلصك من هذا وأمثاله.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} . وقوله: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} . وفي الصحيحين عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين» . والحاصل أن الجاهل معذور بما يقوله أو يفعله مما يكون كفرا، كما يكون معذورا بما يقوله أو يفعله مما يكون فسقا، وذلك بالأدلة من الكتاب والسنة، والاعتبار، وأقوال أهل العلم.
حينما حذر الشيخ - رحمه الله - من أمرين أحدهما: خوف الإنسان على نفسه من أن يظن ما ظن هؤلاء في معنى التوحيد أنه هو إفراد الله تعالى بالخلق والرزق والتدبير بين - رحمه الله - أن الواجب على الإنسان أن يكون على خوف دائما، ثم يذكر حال القوم الذين قالوا لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} فبين لهم أن سؤالهم أن يجعل لهم آلهة كما كان هؤلاء لهم آلهة من الجهل فهذا يؤدي إلى خوف الإنسان على نفسه من أن يتيه في الضلالات والجهالات حيث يظن أن معنى " لا إله إلا الله " أي لا خالق ولا رازق ولا مدبر إلا الله- عز وجل -وهذا الذي قال الشيخ - رحمه الله - وحذر منه وقع فيه عامة المتكلمين الذي تكلموا(7/46)
واعلم أنه سبحانه من حكمته لم يبعث نبيا بهذا التوحيد إلا جعل له أعداء كما قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في التوحيد حيث قالوا: إن معنى " لا إله إلا الله " أي لا مخترع ولا قادر على الاختراع إلا الله ففسروا هذه الكلمة العظيمة بتفسير باطل لم يفهمه أحد من المسلمين، بل ولا غير المسلمين حتى المشركون الذين بعث فيهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانوا يعرفون معنى هذه الكلمة أكثر مما يعرفها هؤلاء المتكلمون.
نبه المؤلف - رحمه الله تعالى - في هذه الجملة على فائدة عظيمة حيث بين أن من حكمة الله- عز وجل -أنه لم يبعث نبيا إلا جعل له أعداء من الإنس والجن، وذلك أن وجود العدو يمحص الحق ويبينه فإنه كلما وجد المعارض قويت حجة الآخر، وهذا الذي جعله الله تعالى للأنبياء جعله أيضا لأتباعهم فكل أتباع الأنبياء يحصل لهم مثل ما يحصل للأنبياء قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} وقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} فإن هؤلاء المجرمين يعتدون على الرسل وأتباعهم وعلى ما جاؤوا به بأمرين: الأول: التشكيك. الثاني: العدوان. أما التشكيك فقال الله تعالى في مقابلته: {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا} لمن أراد أن يضله أعداء الأنبياء.(7/47)
وقد يكون لأعداء التوحيد علوم كثيرة وكتب وحجج كما قال الله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ}
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وأما العدوان فقال الله تعالى في مقابلته: {وَنَصِيرًا} لمن أراد أن يردعه أعداء الأنبياء.
فالله تعالى يهدي الرسل وأتباعهم وينصرهم على أعدائهم ولو كانوا من أقوى الأعداء، فعلينا أن لا نيأس لكثرة الأعداء وقوة من يقاوم الحق فإن الحق كما قال ابن القيم - رحمه الله -:
الحق منصور وممتحن فلا ... تعجب فهذي سنة الرحمن
فلا يجوز لنا أن نيأس بل علينا أن نطيل النفس وأن ننتظر وستكون العاقبة للمتقين، فالأمل دافع قوي للمضي في الدعوة والسعي في إنجاحها، كما أن اليأس سبب للفشل والتأخر في الدعوة.
يعني أن أعداء الرسل الذين يجادلونهم ويكذبونهم قد يكون عندهم علوم كثيرة، وكتب وشبهات يسمونها " حججا " يلبسون بها على الناس فيلبسون الحق بالباطل كما قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} . وهذا الفرح مذموم؛ لأنه فرح بغير ما يرضي الله فيكون من الفرح المذموم.
وأشار المؤلف - رحمه الله تعالى - بهذه الجملة إلى أنه ينبغي أن نعرف ما عند هؤلاء من العلوم والشبهات من أجل أن نرد عليهم بسلاحهم وهذا من هدي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولهذا لما بعث معاذا إلى اليمن قال له: «إنك تأتي قوما أهل كتاب» وذلك من أجل أن يستعد لهم ويعرف ما عندهم من الكتاب حتى يرد عليهم بما جاءوا به.(7/48)
إذا عرفت ذلك، وعرفت أن الطريق إلى الله لا بد له من أعداء قاعدين عليه، أهل فصاحة وعلم وحجج، فالواجب عليك أن تتعلم من دين الله ما يصير لك سلاحا تقاتل به هؤلاء الشياطين الذين قال إمامهم ومقدمهم لربك- عز وجل -: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إذا عرفت هذا أي أن لهؤلاء الأعداء كتبا وعلوما وحججا يلبسون بها، الحق بالبطل فعليك أن تستعد لهم، والاستعداد لهم يكون بأمرين: أحدهما: ما أشار إليه المؤلف - رحمه الله - بأن يكون لديك من الحجج الشرعية والعقلية ما تدفع به حجج هؤلاء وباطلهم.
الثاني: أن تعرف ما عندهم من الباطل حتى ترد عليهم به، ولهذا قال شيخ الإسلام - رحمه الله - في كتابه درء تعارض النقل والعقل، قال: " إنه ما من إنسان يأتي بحجة يحتج بها على الباطل إلا كانت حجة عليه وليست حجة له".
وهذا الأمر كما قال - رحمه الله - فإن الحجة الصحيحة إذا احتج بها المبطل على باطله فإنها تكون حجة عليه وليست حجة له، فعلى من أراد أن يجادل هؤلاء يتأكد أن يلاحظ هذين الأمرين: الأمر الأول: أن يفهم ما عندهم من العلم حتى يرد عليهم به.
والأمر الثاني: أن يفهم الحجج الشرعية والعقلية التي يرد بها على هؤلاء.(7/49)
ولكن إذا أقبلت على الله وأصغيت إلى حججه وبيناته فلا تخف ولا تحزن {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} .
والعامي من الموحدين يغلب ألفا من علماء هؤلاء المشركين كما قال تعالى: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [سورة الصافات، الآية: 173]
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يريد المؤلف - رحمه الله - أن يشجع من أقبل على الله تعالى وعرف الحق بأن لا يخاف من حجج أهل الباطل؛ لأنها حجج واهية وهي من كيد الشيطان، وقد قال الله تعالى: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} .
وفي ذلك يقول القائل:
حجج تهافت كالزجاج تخالها ... حقا وكل كاسر مكسور
قال الشيخ - رحمه الله تعالى -: والعامي من الموحدين يغلب ألفا من علماء هؤلاء المشركين واستدل بقوله تعالى: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} العامي من الموحدين يعني من الذين يقرون بالتوحيد بأنواعه الثلاثة الألوهية، والربوبية، والأسماء والصفات يغلب ألفا من علماء المشركين؛ لأن علماء هؤلاء المشركين يوحدون الله- عز وجل -توحيدا ناقصا حيث إنهم لا يوحدونه إلا بتوحيد الربوبية فقط، وهذا توحيد ناقص ليس هو توحيدا في الحقيقة بدليل أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قاتل المشركين الذين يوحدون الله هذا التوحيد، ولم ينفعهم هذا التوحيد ولم تعصم به دماؤهم وأموالهم، والعامي من الموحدين يقر بأنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات، فيكون خيرا من هؤلاء.(7/50)
وجند الله هم الغالبون بالحجة واللسان، كما أنهم هم الغالبون بالسيف والسنان
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أشار المؤلف - رحمه الله - إلى أن جند الله وهم عباده المؤمنون الذين ينصرون الله ورسوله يجاهدون الناس بأمرين: الأول: الحجة والبيان وهذا بالنسبة للمنافقين الذين لا يظهرون عداوة المسلمين فهؤلاء يجاهدون بالحجة والبيان.
الثاني: من يجاهد بالسيف والسنان وهم المظهرون للعداوة وهم الكفار الخلص المعلنون بكفرهم وفي هذا والذي قبله يقول الله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} . والجهاد بالحجة والبيان يكون للكفار الخلص المعلنين لكفرهم أولا، ثم يجاهدون بالسيف والسنان ثانيا، ولا يجاهدون بالسيف والسنان إلا بعد قيام الحجة عليهم.
والواجب على الأمة الإسلامية أن تقابل كل سلاح يصوب نحو الإسلام بما يناسبه، فالذين يحاربون الإسلام بالأفكار والأقوال يجب أن يبين بطلان ما هم عليه بالأدلة النظرية العقلية إضافة إلى الأدلة الشرعية، والذين يحاربون الإسلام من الناحية الاقتصادية يجب أن يدافعوا، بل أن يهاجموا إذا أمكن، بمثل ما يحاربون به الإسلام، والذين يحاربون الإسلام بالأسلحة يجب أن يقاوموا بما يناسب تلك الأسلحة.(7/51)
وإنما الخوف على الموحد الذي يسلك الطريق وليس معه سلاح.
وقد من الله تعالى علينا بكتابه الذي جعله: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [سورة النحل، الآية: 89] .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أي أن الخوف من أعداء الأنبياء إنما هو على الموحد الذي يسلك الطريق وليس معه سلاح؛ لأنه ليس له علم يتسلح به فيخشى أن يجادله أحد من هؤلاء المشركين فتضيع حجته فيهلك، فلا بد أن يكون عند الإنسان علم يدفع به الشبهات ويفحم به الخصم؛ لأن المجادل يحتاج إلى أمرين: الأول: إثبات دليل قوله. الثاني: إبطال دليل خصمه. ولا سبيل إلى ذلك إلا بمعرفة ما هو عليه من الحق، وما عليه خصمه من الباطل ليتمكن من دحض حجته.
من الله علينا بكتابه العزيز الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [سورة فصلت، الآية: 42] وجعله سبحانه وتعالى تبيانا أي مبينا لكل شيء يحتاجه الناس في معاشهم ومعادهم ثم إن تبيان القرآن للأشياء ينقسم إلى قسمين: الأول: أن يبين الشيء بعينه مثل قوله تبارك وتعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [سورة المائدة، الآية: 3] وقوله تعالى:(7/52)
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [سورة النساء، الآيتان: 23-24] . الثاني: أن يكون التبيان بالإشارة إلى موضع البيان مثل قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} فأشار الله تعالى إلى الحكمة التي هي السنة، فإنها تبين القرآن وكذلك قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [سورة النحل، الآية: 43] وأيضا [سورة الأنبياء، الآية: 7] .
فهذا يبين أننا نرجع في كل شيء إلى أهله الذين هم أهل الذكر به ولهذا يذكر أن بعض أهل العلم أتاه رجل من النصارى يريد الطعن في القرآن الكريم وكان في مطعم، فقال له هذا النصراني: أين بيان كيف يصنع هذا الطعام؟ فدعا الرجل صاحب المطعم، وقال له: صف لنا كيف تصنع هذا الطعام؟ فوصفه، فقال: هكذا جاء في القرآن. فتعجب النصراني. وقال: كيف ذلك؟ فقال: إن الله- عز وجل -يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} فبين لنا مفتاح العلم بالأشياء بأن نسأل أهل الذكر بها أي أهل العلم بها، وهذا من بيان القرآن بلا شك، فالإحالة على من يحصل بهم العلم هي فتح للعلم.(7/53)
فلا يأتي صاحب باطل بحجة إلا وفي القرآن ما ينقضها ويبين بطلانها، كما قال تعالى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [سورة الفرقان، الآية: 33] . قال بعض المفسرين: هذه الآية عامة في كل حجة يأتي بها أهل الباطل إلى يوم القيامة، وأنا أذكر لك أشياء مما ذكر الله في كتابه جوابا لكلام احتج به المشركون في زماننا علينا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لا يأتي مبطل بحجة على باطله إلا وفي القرآن ما يبين هذه الحجة الباطلة، بل إن كل صاحب باطل استدل لباطله بدليل صحيح من الكتاب والسنة فهذا الدليل يكون دليلا عليه كما ذكر شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - في مقدمة كتابه درء تعارض النقل والعقل أنه ما من صاحب بدعة وباطل يحتج لباطله بشيء من الكتاب أو من السنة الصحيحة إلا كان ذلك الدليل دليلا عليه وليس دليلا له.
قال المؤلف - رحمه الله - مستدلا على أن الرجل الموحد ستكون له حجة أبلغ وأبين من حجة غير الموحد مهما بلغ من الفصاحة والبيان كما قال تعالى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} أي لا يأتونك بمثل يجادلونك به، ويلبسون الحق بالباطل، إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا، ولهذا تجد في القرآن كثيرا ما يجيب الله تعالى عن أسئلة هؤلاء المشركين وغيرهم ليبين- عز وجل -للناس الحق، وسيكون الحق بينا لكل أحد.
ولكن هاهنا أمر يجب التفطن له وهو: أنه لا ينبغي للإنسان أن(7/54)
فنقول: جواب أهل الباطل من طريقين: مجمل، ومفصل، أما المجمل: فهو الأمر العظيم والفائدة الكبيرة لمن عقلها وذلك قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [سورة آل عمران، الآية: 7] .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يدخل في مجادلة أحد إلا بعد أن يعرف حجته، ويكون مستعدا لدحرها، والجواب عنها؛ لأنه إذا دخل في غير معرفة صارت العاقبة عليه، إلا أن يشاء الله كما أن الإنسان لا يدخل في ميدان المعركة مع العدو إلا بسلاح وشجاعة، ثم ذكر المؤلف - رحمه الله - أنه سيذكر في كتابه هذا كل حجة أتى بها المشركون ليحتجوا بها على شيخ الإسلام - رحمه الله - ويكشف هذه الشبهات؛ لأنها في الحقيقة ليست حججا، ولكنها تشبيه وتلبيس.
بين - رحمه الله تعالى - أنه سيجيب على هذه الشبهات بجوابين:
أحدهما: مجمل عام صالح لكل شبهة.
الثاني: مفصل، وهكذا ينبغي لأهل العلم في باب المناظرة والمجادلة أن يأتوا بجواب مجمل حتى يشمل ما يحتمل أن يورده الملبسون المشبهون، ويأتي بجواب مفصل لكل مسألة بعينها قال الله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [سورة هود، آية: 1] فذكر في الجواب المجمل - رحمه الله -: أن هؤلاء الذين يتبعون المتشابه هم الذين في قلوبهم زيغ كما صح ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ}(7/55)
وقد صح عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم» .
مثال ذلك: إذا قال لك بعض المشركين: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} وأن الشفاعة حق، وأن الأنبياء لهم جاه عند الله، أو ذكر كلاما للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستدل به على شيء من باطله، وأنت لا تفهم معنى الكلام الذي ذكره، فجاوبه بقولك: إن الله ذكر في كتابه أن الذين في قلوبهم زيغ يتركون المحكم ويتبعون المتشابه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[سورة آل عمران، آية:7] .
ولهذا تجد أهل الزيغ والعياذ بالله يأتون بالآيات المتشابهات ليلبسوا بها على باطلهم، فيقولون مثلا: قال الله تعالى كذا، وقال في موضع آخر كذا؟ فكيف يكون، وهذا مثل ما حصل لنافع بن الأزرق مع ابن عباس - رضي الله عنهما - في مناظرته التي ذكرها السيوطي في الإتقان، وربما يكون غيره ذكرها وهي مفيدة ننقلها لتعرف كيف لبس أهل الباطل الحق. قال الشيخ - رحمه الله -: وقد صح عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه. فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم» استدل المؤلف - رحمه الله - بهذا الحديث على أن الرجل الذي يتبع المتشابه من القرآن أو من السنة وصار يلبس به على باطله فهؤلاء هم الذين سماهم الله ووصفهم بقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} الآية ثم أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالحذر منهم(7/56)
وما ذكرته لك من أن الله تعالى ذكر أن المشركين يقرون بالربوبية، وأن كفرهم بتعلقهم على الملائكة والأنبياء والأولياء مع قولهم: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس، الآية: 18] هذا أمر محكم بين لا يقدر أحد أن يغير معناه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فقال: احذروهم من أن يضلوكم عن سبيل الله باتباع هذا المتشابه واحذروا طريقهم أيضا فالتحذير هنا يشمل التحذير عن طريقهم والتحذير منهم أيضا، ثم ضرب المؤلف لهم مثلا، بأن يقول لك المشرك: أليس الله يقول: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} أوليس للأولياء جاه عند الله سبحانه وتعالى؟ أوليس الشفاعة ثابتة بالقرآن والسنة؟ وما أشبه ذلك من هذه الأشياء فقل: نعم كل هذا حق، ولكنه ليس فيه دليل على أن تشرك بهؤلاء الأولياء، أو بهؤلاء الرسل، أو لهؤلاء الذين عندهم شفاعة عند الله- عز وجل -ودعواك أن هذا يدل على ذلك دعوى باطلة لا يحتج بها إلا مبطل وما أنت إلا من الذين قال الله فيهم: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} ولو أنك رددت هذا المتشابه إلى المحكم لعلمت أن هذا لا دليل لك فيه.
ذكر المؤلف - رحمه الله - كيف نرد المتشابه إلى المحكم أن المشركين كانوا مقرين بتوحيد الربوبية ويؤمنون بذلك إيمانا لا شك فيه عندهم، ولكنهم يعبدون الملائكة وغيرهم ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، ومع هذا كانوا مشركين استباح النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دماءهم وأموالهم، وهذا نص محكم لا اشتباه فيه دال على أن الله لا شريك له في ألوهيته وفي عبادته كما أنه لا شريك له في ربوبيته وملكه، وأن من(7/57)
وما ذكرت لي أيها المشرك من القرآن وكلام النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا أعرف معناه، ولكن أقطع أن كلام الله لا يتناقض، وأن كلام النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يخالف كلام الله (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أشرك بالله في ألوهيته، فهو مشرك وإن وحده في الربوبية.
قوله - رحمه الله -: ما ذكرت أيها المشرك من كلام الله تعالى وكلام رسوله لا أعرف معناه، ولكني أعلم أن كلام الله لا يتناقض، وأن كلام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يخالف كلام الله، يريد بقوله: " لا أعرف معناه" أي لا أعرف معناه الذي أنت تدعيه، وإنني أنكره ولا أقر به؛ لأنني أعلم أن كلام الله لا يتناقض، وأن كلام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يخالف كلام الله، قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [سورة النساء، الآية: 82] ، وقال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [سورة النحل، الآية: 89] وقال تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [سورة النحل، الآية: 44] ، وكلام الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يخالف كلام الله، وكذلك كلام الله لا يناقض بعضه بعضا، وقد أخبر سبحانه وتعالى أنه لا شريك له، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله» إلى آخر الحديث، وهذا كله يؤيد بعضه بعضا، ويدل على أن الله تعالى ليس له شريك في الألوهية كما أنه ليس له شريك في الربوبية.(7/58)
وهذا جواب جيد سديد ولكن لا يفهمه إلا من وفقه الله فلا تستهن به، فإنه كما قال تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [سورة فصلت، آية:35] .
وأما الجواب المفصل فإن أعداء الله لهم اعتراضات كثيرة على دين الرسل يصدون بها الناس عنه، منها: قولهم: نحن لا نشرك بالله، بل نشهد أنه لا يخلق ولا يرزق، ولا ينفع، ولا يضر إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا فضلا عن عبد القادر أو غيره.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قوله - رحمه الله -: (وهذا جواب جيد سديد) يعني قول الإنسان لخصمه: أن كلام الله تعالى لا يتناقض، وأن كلام النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لا يخالف كلام الله، وأن الواجب رد المتشابه إلى المحكم، فهذا أجاب بجواب سديد أي ساد لمحله لا يمكن لأحد أن يناقضه، أو يرد عليه ما ينقضه؛ لأنه كلام محكم مبني على الدليلين: السمعي، والعقلي، وما كان كذلك فإنه جواب لا يمكن لأي مبطل أن ينقضه. قوله: (ولكن لا يفهمه) إلى آخره يعني أن هذا الجواب لا يفهمه إلا من وفقه الله فكشف عنه فتنة الشبهات وفتنة الشهوات ثم استدل لذلك بقوله تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} أي ما يوفق للدفع بالتي هي أحسن. قوله - رحمه الله تعالى -: أما الجواب المفصل ... إلخ الجواب الأول كان مجملا يرد به الإنسان على كل شبهة، ثم هناك جواب مفصل أي مميز بعضه عن بعض بحيث تدفع به شبهة كل واحد بعينها.(7/59)
ولكن أنا مذنب، والصالحون لهم جاه عند الله، وأطلب من الله بهم، فجاوبه بما تقدم وهو: أن الذين قاتلهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مقرون بما ذكرت، ومقرون بأن أوثانهم لا تدبر شيئا، وإنما أرادوا الجاه والشفاعة.
واقرأ عليهم ما ذكر الله في كتابه ووضحه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فإذا قال لك المشرك: أنا لا أشرك بالله، بل أشهد أنه لا يخلق ولا يرزق، ولا ينفع، ولا يضر إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا - صلى الله عليه وآله وسلم - لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا فضلا عمن دونه- صلى الله عليه وآله وسلم -، كعبد القادر يعني ابن موسى الجيلاني على خلاف في اسم أبيه كان من كبار الزهاد والمتصوفين ولد سنة 471 بجيلان وتوفي سنة 561 في بغداد، وكان حنبلي المذهب، وهذا هو التوحيد، فهذه شبهة يلبس بها ولكنها شبهة داحضة لا تفيده شيئا. قوله: (ولكن أنا مذنب) إلخ هذا بقية كلام المشبه، فأجبه بأن ما ذكرت هو ما كان عليه المشركون الذين قاتلهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واستباح دماءهم ونساءهم وأموالهم، ولم يغنهم هذا التوحيد شيئا.
قوله:" واقرأ عليهم ما ذكر الله تعالى في كتابه ووضحه" يريد بذلك أن تقرأ عليهم ما ذكر الله في كتابه من توحيد الألوهية، فإنه جل وعلا أبدأ فيه وأعاد وكرر من أجل تثبيته في قلوب الناس وإقامة الحجة عليهم، فقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء، الآية: 25] ، وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات، الآية: 56] ، وقال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [سورة آل عمران: الآية: 18](7/60)
فإن قال: هؤلاء الآيات نزلت فيمن يعبد الأصنام، كيف تجعلون الصالحين مثل الأصنام؟ أم كيف تجعلون الأنبياء أصناما؟ فجاوبه بما تقدم. فإنه إذا أقر أن الكفار يشهدون بالربوبية كلها لله، وأنهم ما أرادوا ممن قصدوا إلا الشفاعة، ولكن أراد أن يفرق بين فعلهم وفعله بما ذكره. فاذكر له أن الكفار منهم من يدعو الأصنام، ومنهم من يدعو الأولياء الذين قال الله فيهم {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} ويدعون عيسى ابن مريم وأمه، وقد قال الله تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [سورة المائدة، الآيتان 75-76] .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وقال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [سورة البقرة، الآية: 163] وقال تعالى: {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [سورة العنكبوت، الآية: 56] إلى غيرها من الآيات الكثيرة الدالة على وجوب توحيد الله- عز وجل - في عبادته، وأن لا يعبد أحد سواه، فإذا اقتنع بذلك فهذا هو المطلوب، وإن لم يقتنع فهو مكابر معاند يصدق عليه قول الله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [سورة النمل، الآية: 14] .
قوله: فإن قال: " هؤلاء " يعني أهل الشرك هذه الآيات نزلت في المشركين الذين يعبدون الأصنام، وهؤلاء الأولياء ليسوا بأصنام.
فجوابه بما تقدم أي بأن كل من عبد غير الله فقد جعل معبوده وثنا فأي فرق بين من عبد الأصنام وعبد الأنبياء والأولياء؟! إذ أن الجميع لا يغني شيئا عن عابديه.
يقول: " فإنه " أي هذا القائل يعلم أن المشركين قد أقروا بالربوبية، وأن الله سبحانه وتعالى هو رب كل شيء، وخالقه ومالكه، ولكنهم عبدوا هذه الأصنام من أجل أن تقربهم إلى الله زلفى، وتشفع لهم فقد أقر(7/61)
بأن مقصودهم كمقصوده، ومع ذلك لم ينفعهم هذا الاعتقاد كما سبق.
قوله: " فاذكر له " جواب قوله: " فإنه إذا أقر أن الكفار" إلخ يعني فاذكر له أن هؤلاء المشركين منهم من يدعو الأصنام لطلب الشفاعة كما أنت كذلك موافق لهم في المقصود، ومنهم من يعبد الأولياء كما أنت كذلك موافق لهم في المقصود والمعبود. ودليل أنهم يدعون الأولياء قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} وكذلك يعبدون الأنبياء كعبادة النصارى المسيح ابن مريم، وكذلك يعبدون الملائكة كقوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} الآية، فتبين بذلك الجواب عن تلبيسه بكون المشركين يعبدون الأصنام، وهو يعبد الأولياء والصالحين من وجهين:
الوجه الأول: أنه لا صحة لتلبيسه؛ لأن من أولئك المشركين من يعبد الأولياء والصالحين.
الوجه الثاني: لو قدرنا أن أولئك المشركين لا يعبدون إلا الأصنام فلا فرق بينه وبينهم؛ لأن الكل عبد من لا يغني عنه شيئا.(7/62)
واذكر له قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سورة سبأ،الآيتان: 40، 41] . وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [سورة المائدة، آية: 116] .
فقل له: أعرفت أن الله كفر من قصد الأصنام، وكفر أيضا من قصد الصالحين وقاتلهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: " واذكر له قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ} الآيتين " هذه معطوفة على قوله سابقا: " فاذكر له أن الكفار منهم من يدعو الأصنام " إلخ. والمقصود من هذا أن يتبين له أن من الكفار من يعبد الأصنام" إلخ.
والمقصود من هذا أن يتبين له أن من الكفار من يعبد الملائكة وهم من خيار خلق الله وأوليائه فيبطل تلبيسه بأن الفرق بينه وبين الكفار أنه هو يدعو الصالحين والأولياء، والكفار يعبدون الأصنام من الأحجار ونحوها. قوله: " وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} " الآية. أي واذكر له قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى} إلخ لتلقمه حجرا في أن الكفار كانوا يعبدون الأولياء والصالحين فلا فرق بينه وبين أولئك الكفار.
قوله: " فقل له " إلخ أي قل ذلك مبينا له أن الله سبحانه وتعالى كفر(7/63)
فإن قال: الكفار يريدون منهم وأنا أشهد أن الله هو النافع الضار المدبر لا أريد إلا منه، والصالحون ليس لهم من الأمر شيء، ولكن أقصدهم أرجو من الله شفاعتهم.
فالجواب: أن هذا قول الكفار سواء بسواء، واقرأ عليه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر، الآية: 3] وقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
من عبد الصالحين، ومن عبد الأصنام، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قاتلهم على هذا الشرك ولم ينفعهم أن كان المعبودون من أولياء الله وأنبيائه.
قوله: " فإن قال " - يعني هذا المشرك - الكفار يريدون منهم أي يريدون أن ينفعوهم أو يضروهم، وأنا لا أريد إلا من الله، والصالحون ليس لهم من الأمر شيء، وأنا لا أعتقد فيهم ولكن أتقرب بهم إلى الله- عز وجل -ليكونوا شفعاء.
فقل له: وكذلك المشركون الذين بعث فيهم رسول الله،- صلى الله عليه وآله وسلم -، هم لا يعبدون هؤلاء الأصنام لاعتقادهم أنها تنفع وتضر، ولكنهم يعبدونها لتقربهم إلى الله زلفى كما قال تعالى عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} وقال: {وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} فتكون حاله كحال هؤلاء المشركين سواء بسواء.(7/64)
واعلم: أن هذه الشبه الثلاث هي أكبر ما عندهم، فإذا عرفت أن الله وضحها لنا في كتابه وفهمتها فهما جيدا فما بعدها أيسر منها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قوله - رحمه الله تعالى -: " هذه الشبه الثلاث ": الشبهة الأولى: قولهم: " إننا لا نعبد الأصنام إنما نعبد الأولياء".
الشبهة الثانية: قولهم: " أننا ما قصدناهم وإنما قصدنا الله- عز وجل -في العبادة".
الشبهة الثالثة: قولهم: " أننا ما عبدناهم لينفعونا أو يضرونا، فإن النفع والضرر بيد الله - عز وجل - ولكن ليقربونا إلى الله زلفى، فنحن قصدنا شفاعتهم بذلك، يعني فنحن لا نشرك بالله سبحانه وتعالى".
فإذا تبين لك انكشاف هذه الشبه فانكشاف ما بعدها من الشبه أهون وأيسر؛ لأن هذه من أقوى الشبه التي يلبسون بها.(7/65)
فإن قال: أنا لا أعبد إلا الله، وهذا الالتجاء إلى الصالحين ودعاؤهم ليس بعبادة.
فقل له: أنت تقر أن الله فرض عليك إخلاص العبادة لله وهو حقه عليك، فإذا قال: نعم. فقل له: بين لي هذا الذي فرض عليك وهو إخلاص العبادة لله وحده، وهو حقه عليك فإن كان لا يعرف العبادة ولا أنواعها. فبينها له بقولك: قال الله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [سورة الأعراف، الآية: 55] فإذا أعلمته بهذا، فقل له: هل علمت هذا عبادة لله فلا بد أن يقول: نعم، والدعاء مخ العبادة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إذا قال هذا الرجل المشبه: أنا لست أعبدهم كما أعبد الله- عز وجل -والالتجاء إليهم ودعاؤهم ليس بعبادة فهذه شبهة.
وجوابها أن تقول: إن الله فرض عليك إخلاص العبادة له وحده. فإذا قال: نعم، فاسأله ما معنى إخلاص العبادة له؟ فإما أن يعرف ذلك، وإما أن لا يعرف، فإن كان لا يعرف فبين له ذلك ليعلم أن دعاءه للصالحين وتعلقه بهم عبادة.
قوله: "فبينها له" أي بين له أنواع العبادة فقل له: إن الله يقول: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} والدعاء عبادة، وإذا كان عبادة فإن دعاء غير الله يكون إشراكا بالله- عز وجل -وعلى هذا، فالذي يستحق أن يدعى ويعبد ويرجى هو الله وحده لا شريك له.(7/66)
فقل له: إذا أقررت أنها عبادة، ودعوت الله ليلا ونهارا، خوفا وطمعا، ثم دعوت في تلك الحاجة نبيا، أو غيره هل أشركت في عبادة الله غيره؟ فلا بد أن يقول: نعم. فقل له: إذا علمت بقول الله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [سورة الكوثر، الآية: 2] وأطعت الله ونحرت له، هذا عبادة؟ فلا بد أن يقول: نعم.
فقل له: إذا نحرت لمخلوق نبي، أو جني أو غيرهما هل أشركت في هذه العبادة غير الله؟ فلا بد أن يقر ويقول: نعم.
وقل له أيضا: المشركون الذين نزل فيهم القرآن، هل كانوا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: " فقل له " الخ، يعني إذا بينت أن الدعاء عبادة وأقر به فقل له: ألست تدعو الله تعالى في حاجة، ثم تدعو في تلك الحاجة نفسها نبيا، أو غيره فهل أشركت في عبادة الله غيره؟ فلا بد أن يقول: نعم؛ لأن هذا لازم لا محالة. هذا بالنسبة للدعاء.
ثم انتقل المؤلف - رحمه الله - إلى نوع آخر من العبادة، وهو النحر قال: فقل له: إذا علمت بقول الله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} وأطعت الله ونحرت له أهذا عبادة؟ فلابد أن يقول: نعم فقد اعترف أن النحر لله تعالى عبادة، وعلى هذا يكون صرفه لغير الله شركا، قال المؤلف - رحمه الله - مقررا ذلك: " فقل له: إذا نحرت لمخلوق" إلخ وهذا إلزام واضح لا محيد عنه.
قوله: " وقل له أيضا: المشركون " إلخ انتقل المؤلف - رحمه الله تعالى - إلى إلزام آخر سبقت الإشارة إليه، وهو أن يسأل هذا المشبه هل كان المشركون يعبدون الملائكة والصالحين واللات وغير ذلك فلا بد أن(7/67)
يعبدون الملائكة والصالحين واللات وغير ذلك؟ فلا بد أن يقول: نعم، فقل له: وهل كانت عبادتهم إياهم إلا في الدعاء والذبح والالتجاء ونحو ذلك، وإلا فهم مقرون أنهم عبيده وتحت قهره، وأن الله هو الذي يدبر الأمر، ولكن دعوهم والتجؤوا إليهم للجاه والشفاعة، وهذا ظاهر جدا. فإن قال: أتنكر شفاعة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتبرأ منها؟ فقل: لا أنكرها ولا أتبرأ منها، بل هو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الشافع المشفع وأرجو شفاعته، ولكن الشفاعة كلها لله، كما قال الله تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [سورة الزمر، الآية: 44] .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يقول: نعم. فيسأل مرة أخرى: هل كانت عبادتهم إلا في الدعاء والذبح والالتجاء، ونحو ذلك مع إقرارهم بأنهم عبيد الله وتحت قهره، وأن الله هو الذي يدبر الأمر لكن دعوهم والتجؤوا إليهم للجاه، والشفاعة كما سبق وهذا ما وقع فيه المشبه تماما.
قوله: " فإن قال " يعني إذا قال لك المشرك المشبه: هل تنكر شفاعة النبي- صلى الله عليه وآله وسلم -، وهو يقول هذا من أجل أن يلزمك بجواز دعاء النبي- صلى الله عليه وآله وسلم - عسى أن يشفع لك عند الله إذا دعوته. فقل له: لا أنكر هذه الشفاعة ولا أتبرأ منها، ولكني أقول: إن الشفاعة لله ومرجعها كلها إليه، وهو الذي يأذن فيها إذا شاء، ولمن شاء؛ لقول الله تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [سورة الزمر، الآية: 44] .(7/68)
ولا تكون إلا بعد إذن الله كما قال - عز وجل -: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [سورة البقرة، الآية: 255] ولا يشفع في أحد إلا من بعد أن يأذن الله فيه كما قال- عز وجل -: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} وهو لا يرضى إلا التوحيد كما قال - عز وجل -: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} .
فإذا كانت الشفاعة كلها لله ولا تكون إلا من بعد إذنه، ولا يشفع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا غيره في أحد حتى يأذن الله فيه، ولا يأذن إلا لأهل التوحيد، تبين لك أن الشفاعة كلها لله فاطلبها منه، فأقول: اللهم لا تحرمني شفاعته، اللهم شفعه في، وأمثال هذا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: " ولا تكون إلا بعد إذن الله " إلخ. بين - رحمه الله - أن الشفاعة لا تكون إلا بشرطين: الشرط الأول: أن يأذن الله بها؛ لقوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} .
الشرط الثاني: أن يرضى الله- عز وجل -عن الشافع والمشفوع له؛ لقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [سورة طه، الآية: 109] ؛ ولقول الله تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [سورة الأنبياء، الآية: 28] ومن المعلوم أن الله لا يرضى إلا بالتوحيد، ولا يمكن أن يرضى الكفر؛ لقوله تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [سورة الزمر، الآية:7] فإذا كان لا يرضى الكفر، فإنه لا يأذن بالشفاعة للكافر.
قوله: " فإذا كانت الشفاعة كلها لله " إلخ أراد المؤلف - رحمه الله تعالى -(7/69)
فإن قال: النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطي الشفاعة وأنا أطلبه مما أعطاه الله؟ فالجواب: أن الله أعطاه الشفاعة، ونهاك عن هذا فقال: {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [سورة الجن، الآية:18] فإذا كنت تدعو الله أن يشفع نبيه فيك، فأطعه في قوله: {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} وأيضا فإن الشفاعة أعطيها غير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصح أن الملائكة يشفعون، والأولياء يشفعون، والأفراط يشفعون، أتقول: إن الله أعطاهم الشفاعة فأطلبها منهم؟ فإن قلت هذا رجعت إلى عبادة الصالحين التي ذكر الله في كتابه، وإن قلت: لا بطل قولك: "أعطاه الله الشفاعة وأنا أطلبه مما أعطاه الله"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أنه إذا كانت الشفاعة لله، ولا تكون إلا بإذنه، ولا تكون إلا لمن ارتضى، ولا يرضى إلا التوحيد لزم من ذلك أن لا تطلب الشفاعة إلا من الله تعالى لا من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيقول: اللهم شفع في نبيك، اللهم لا تحرمني شفاعته وأمثال ذلك. . قوله: " فإن قال " أي المشرك الذي يدعو رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن الله أعطى محمدا - صلى الله عليه وآله وسلم - الشفاعة فأنا أطلبها منه.
فالجواب: من ثلاثة أوجه: الأول: أن الله أعطاه الشفاعة ونهاك أن تشرك به في دعائه فقال: {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} .
الثاني: أن الله سبحانه وتعالى أعطاه الشفاعة، ولكنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يشفع إلا بإذن الله، ولا يشفع إلا لمن ارتضاه الله، ومن كان(7/70)
مشركا فإن الله لا يرتضيه، فلا يأذن أن يشفع له كما قال تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} .
الثالث: أن الله تعالى أعطى الشفاعة غير محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -، فالملائكة يشفعون، والأفراط يشفعون، والأولياء يشفعون، فقل له: هل تطلب الشفاعة من كل هؤلاء؟ فإن قال: لا فقد خصم وبطل قوله وإن قال: نعم. رجع إلى القول بعبادة الصالحين، ثم إن هذا المشرك المشبه ليس يريد من رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم - أن يشفع له، ولو كان يريد ذلك لقال: " اللهم شفع في نبيك محمدا رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم -" ولكنه يدعو الرسول مباشرة ودعاء غير الله شرك أكبر مخرج من الملة، فكيف يريد هذا الرجل الذي يدعو مع الله غيره أن يشفع له أحد عند الله سبحانه وتعالى؟!.
وقال المؤلف: " إن الملائكة يشفعون، والأولياء يشفعون " سنده حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي- صلى الله عليه وعلى آله وسلم - الذي رواه مسلم مطولا وفيه فيقول الله- عز وجل -: «شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون» الحديث.
وقوله: " والأفراط يشفعون " الأفراط هم الذين ماتوا قبل البلوغ وسنده حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي،- صلى الله عليه وعلى آله وسلم - قال: «لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فيلج النار إلا تحلة القسم» أخرجه البخاري، وله عنه وعن أبي سعيد من حديث آخر «لم يبلغوا الحنث» .(7/71)
فإن قال: أنا لا أشرك بالله شيئا حاشا وكلا، ولكن الالتجاء إلى الصالحين ليس بشرك.
فقل له: إذا كنت تقر أن الله حرم الشرك أعظم من تحريم الزنى، وتقر أن الله لا يغفره، فما هذا الأمر الذين حرمه الله وذكر أنه لا يغفره؟ فإنه لا يدري. فقل له: كيف تبرىء نفسك من الشرك وأنت لا تعرفه؟ أم كيف يحرم الله عليك هذا، ويذكر أنه لا يغفره ولا تسأل عنه ولا تعرفه، أتظن أن الله يحرمه ولا يبينه لنا؟
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إذا قال هذا المشرك: أنا لا أشرك بالله شيئا، والالتجاء إلى الصالحين ليس بشرك.
فجوابه: أن يقال له: ألست تقر أن الله حرم الشرك أعظم من تحريم الزنى، وأن الله لا يغفره فما هذا الشرك؟ فإنه سوف لا يدري، ولا يجيب بالصواب ما دام يعتقد أن طلب الشفاعة من رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم - ليس بشرك فهو دليل على أنه لا يعرف الشرك الذي عظمه الله تعالى وقال فيه: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [سورة لقمان، الآية: 13] .
قوله: " فقل له: كيف تبرئ نفسك" إلخ يعني إذا برأ نفسه من الشرك بلجوئه إلى الصالحين، فجوابه من وجهين: الأول: أن يقال: كيف تبرئ نفسك من الشرك، وأنت لا تعرفه؟ وهل الحكم على الشيء إلا بعد تصوره فحكمك براءة نفسك من الشرك، وأنت لا تعلمه حكم بلا علم فيكون مردودا؟ الوجه الثاني: أن يقال: لماذا؟ أتسأل عن الشرك الذي حرمه الله تعالى(7/72)
فإن قال: الشرك عبادة الأصنام، ونحن لا نعبد الأصنام. فقل له: ما معنى عبادة الأصنام؟ أتظن أنهم يعتقدون أن تلك الأخشاب والأحجار تخلق، وترزق، وتدبر أمر من دعاها؟ فهذا يكذبه القرآن. وإن قال: هو من قصد خشبة، أو حجرا، أو بنية على قبر أو غيره، يدعون ذلك، ويذبحون له ويقولون: إنه يقربنا إلى الله زلفى، ويدفع الله عنا ببركته أو يعطينا ببركته.
فقل: صدقت، وهذا هو فعلكم عند الأحجار والأبنية التي على القبور وغيرها. فهذا أقر أن فعلهم هذا هو عبادة الأصنام فهو المطلوب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أعظم من تحريم قتل النفس والزنى، وأوجب لفاعله النار وحرم عليه الجنة؟ أتظن أن الله حرمه على عباده، ولم يبينه لهم؟ حاشاه من ذلك.
يعني إذا قال لك المشرك المشبه: الشرك عبادة الأصنام، ونحن لا نعبد الأصنام فأجبه بجوابين. الأول: قل له: ما هي عبادة الأصنام؟ أتظن أن من عبدها يعتقد أنها تخلق وترزق، وتدبر أمر من دعاها؟ فإن زعم ذلك فقد كذبه القرآن.
قوله: (وإن قال) إلخ هذا مقابل قولنا: " إن زعم ذلك فقد كذب القرآن " يعني إن قال: عبادة الأصنام أن يقصد خشبته أو حجرا أو بنية على قبر، أو غيره يدعون ذلك، ويذبحون له، ويقولون: إنه يقربنا إلى الله زلفى قلنا: صدقت، وهذا هو فعلك سواء بسواء، وعليه فتكون مشركا بإقرارك على نفسك، وهذا هو المطلوب.(7/73)
ويقال له أيضا: قولك: الشرك عبادة الأصنام، هل مرادك أن الشرك مخصوص بهذا، وأن الاعتماد على الصالحين ودعاءهم لا يدخل في ذلك؟ فهذا يرده ما ذكر الله في كتابه من كفر من تعلق على الملائكة أو عيسى أو الصالحين فلا بد أن يقر لك أن من أشرك في عبادة الله أحدا من الصالحين، فهو الشرك المذكور في القرآن، وهذا هو المطلوب. وسر المسألة: أنه إذا قال: أنا لا أشرك بالله فقل له: وما الشرك بالله؟ فسره لي؟.
فإن قال: هو عبادة الأصنام.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: " ويقال له أيضا: قولك: الشرك عبادة الأصنام " إلى قوله: " وهذا هو المطلوب" هذا هو الجواب الثاني أن يقال: هل مرادك أن الشرك مخصوص بهذا، وأن الاعتماد على الصالحين، ودعاء الصالحين لا يدخل في ذلك فهذا يرده القرآن، فلا بد أن يقر لك بأن من أشرك في عبادة أحد من الصالحين فهو الشرك المذكور في القرآن وهذا هو المطلوب.
قوله: " وسر المسألة " يعني لبها أنه إذا قال:أنا لا أشرك بالله، فاسأله ما معنى الشرك؟ فإن قال: هو عبادة الأصنام. فاسأله مما معنى عبادة الأصنام؟ ثم جادله على ما سبق بيانه.
قوله: (فإن قال) إلخ يعني إذا ادعى هذا المشرك أنه لا يعبد إلا الله وحده فاسأله: ما معنى عبادة الله وحده؟ وحينئذ لا يخلو من ثلاث حالات: الأولى: أن يفسرها بما دل عليه القرآن، فهذا هو المطلوب والمقبول، وبه يتبين أنه لم يحقق عبادة الله وحده حيث أشرك به.(7/74)
فقل: وما معنى عبادة الأصنام؟ فسرها لي. فإن قال: أنا لا أعبد إلا الله. فقل: ما معنى عبادة الله فسرها لي؟ فإن فسرها بما بينه القرآن، فهو المطلوب، وإن لم يعرفه فكيف يدعي شيئا وهو لا يعرفه؟ وإن فسر ذلك بغير معناه بينت له الآيات الواضحات في معنى الشرك بالله، وعبادة الأوثان، وأنه الذي يفعلونه في هذا الزمان بعينه.
وأن عبادة الله وحده لا شريك له هي التي ينكرون علينا ويصيحون فيه كما صاح إخوانهم حيث قالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [سورة ص، الآية: 5] .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الثانية: أن لا يعرف معناها، فيقال: كيف تدعي شيئا، وأنت لا تعرفه؟ أم كيف تحكم به لنفسك، والحكم على الشيء فرع عن تصوره؟.
الثالثة: أن يفسر عبادة الله بغير معناها، وحينئذ يبين له خطؤه ببيان المعنى الشرعي للشرك، وعبادة الأوثان، وأنه الذي يفعلونه بعينه، ويدعون أنهم موحدون غير مشركين.
يعني ويبين له أيضا أن عبادة الله وحده هي التي ينكرونها علينا ويصرخون بها علينا كما فعل ذلك أسلافهم حين قالوا للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ. وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} [سورة ص، الآيات: 5-7] .(7/75)
فإذا عرفت أن هذا الذي يسميه المشركون في زماننا " كبير الاعتقاد " هو الشرك الذي نزل في القرآن، وقاتل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الناس عليه، فاعلم أن شرك الأولين أخف من شرك أهل زماننا بأمرين أحدهما: أن الأولين لا يشركون، ولا يدعون الملائكة، والأولياء والأوثان مع الله إلا في الرخاء، وأما في الشدة فيخلصون لله الدعاء كما قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا} [سورة الإسراء، الآية: 67] .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: " إذا عرفت " يعني علمت معنى العبادة، وأن ما عليه أولئك المشركون في زمنه هو ما كان المشركون عليه في عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عرفت أن شرك هؤلاء أعظم من شرك الذين قاتلهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من وجهين: الوجه الأول: أن هؤلاء يشركون بالله في الشدة والرخاء.
وأما أولئك المشركون الذين بعث فيهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإنما يشركون في الرخاء، ويخلصون في حال الشدة، كما قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} الآية فكانوا إذا ركبوا في الفلك دعوا لله مخلصين له الدين لا يدعون غيره، ولا يسألون سواه، ثم إذا أنجاهم إلى البر إذا هم يشركون، أو فريق منهم بربهم يشركون، فهذا هو وجه.(7/76)
وقوله: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [سورة الأنعام، الآيتان:40-41] وقوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ} إلى قوله: {تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [سورة الزمر، الآية: 8] .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وهذه أيضا تدل على أنهم كانوا يشركون في حال الرخاء، وأنهم إذا أتاهم عذاب أو أتتهم الساعة فإنهم لا يدعون غير الله، كما قال تعالى: {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} فهم في هذه الحال ينسون ما يشركون، ولا يدعون سوى الله - عز وجل -.
وهذه أيضا كالآيتين اللتين قبلها، تدل على أن الإنسان إذا مسه الضر دعا ربه منيبا إليه، ولكنه إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل، وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله.. فيشرك في حال الرخاء، ويخلص في حال الشدة.
هذه أيضا كالآيات السابقة تدل على أن هؤلاء المشركين إنما يشركون بالله في حال الرخاء، أما في حال الشدة فيلجؤون لله وحده.(7/77)
فمن فهم هذه المسألة التي وضحها الله في كتابه، وهي أن المشركين الذين قاتلهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدعون الله، ويدعون غيره في الرخاء، وأما في الضراء والشدة، فلا يدعون إلا الله وحده لا شريك له، وينسون سادتهم. تبين له الفرق بين شرك أهل زماننا، وشرك الأولين ولكن أين من يفهم قلبه هذه المسألة فهما راسخا، والله المستعان.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يبين - رحمه الله - أن المشركين في زمانه أشد شركا من مشركي زمان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأن مشركي زمانه يدعون غير الله في الرخاء وفي الشدة، وأما المشركون في عهد الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإنهم يدعون الله، ويدعون غيره في حالة الرخاء، وأما في حال الشدة، فلا يدعون إلا الله - عز وجل - وهذا يدل على أن شرك المشركين في زمانه - رحمه الله - أعظم من شرك المشركين في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قوله: " تبين له الفرق" إلخ هذا جواب قوله: " فمن فهم هذه المسألة إلخ " أي تبين له الفرق، بين مشركي زمانه - رحمه الله - والمشركين في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأن شرك الأولين أخف من شرك أهل زمانه، ولكن أين من يفهم قلبه ذلك، أكثر الناس في غفلة عن هذا، وأكثر الناس يلبس عليهم الحق الباطل فيظنون الباطل حقا كما يظنون الحق باطلا.(7/78)
الأمر الثاني: أن الأولين يدعون مع الله أناسا مقربين عند الله إما أنبياء، وإما أولياء، وإما ملائكة، أو يدعون أشجارا، أو أحجارا مطيعة لله ليست عاصية، وأهل زماننا يدعون مع الله أناسا من أفسق الناس، والذين يدعونهم هم الذين يحكون عنهم الفجور من الزنى، والسرقة، وترك الصلاة، وغير ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: " الأمر الثاني " أي في بيان أن شرك الأولين أخف من شرك أهل زمانه - رحمه الله - أن المشركين في عهد الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدعون أناسا مقربين من أولياء الله- عز وجل -أو يدعون أحجارا أو أشجارا مطيعة لله ذليلة له، أما هؤلاء أعني المشركين في زمانه، فإنهم يدعون من يحكون عنهم الفجور، والزنى، والسرقة، وغير ذلك من معاصي الله- عز وجل -، ومعلوم أن من يعتقد في الصالح أو الجماد الذي لا يعصي الله تعالى أهون ممن يعتقد فيمن يشاهد فسقه، ويشهد به. وهذا ظاهر.(7/79)
والذي يعتقد في الصالح، أو الذي لا يعصي مثل الخشب والحجر أهون ممن يعتقد فيمن يشاهد فسقه وفساده ويشهد به.
وإذا تحققت أن الذين قاتلهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصح عقولا، وأخف شركا من هؤلاء، فاعلم أن لهؤلاء شبهة يوردونها على ما ذكرنا، وهي من أعظم شبههم، فأصغ سمعك لجوابها وهي: أنهم يقولون: إن الذين نزل فيهم القرآن لا يشهدون أن لا إله إلا الله، ويكذبون الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وينكرون البعث، ويكذبون القرآن، ويجعلونه سحرا، ونحن نشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ونصدق القرآن، ونؤمن بالبعث، ونصلي ونصوم، فكيف تجعلوننا مثل أولئك؟
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في هذه الجملة يبين - رحمه الله - شبهة من أعظم شبههم ويجيب عنها فيقول: إذا تحققت أن المشركين في عهده - عليه الصلاة والسلام - أصح عقولا، وأخف شركا من هؤلاء، فاعلم أنهم يوردون شبهة حيث يقولون: إن المشركين في عهد الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ولا يؤمنون بالبعث، ولا الحساب، ويكذبون القرآن، ونحن يعني (مشركي زمانه) نشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ونصدق القرآن، ونؤمن بالبعث، ونقيم الصلاة، ونؤتي الزكاة، ونصوم رمضان، فكيف تجعلوننا مثلهم، وهذه شبهة عظيمة.(7/80)
فالجواب: أنه لا خلاف بين العلماء كلهم أن الرجل إذا صدق الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في شيء وكذبه في شيء، أنه كافر لم يدخل في الإسلام، وكذلك إذا آمن ببعض القرآن وجحد بعضه؟ كمن أقر بالتوحيد، وجحد وجوب الصلاة، أو أقر بالتوحيد، والصلاة، وجحد وجوب الزكاة، أو أقر بهذا كله، وجحد الصوم، أو أقر بهذا كله وجحد الحج، ولما لم ينقد أناس في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للحج أنزل الله في حقهم {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [سورة آل عمران، الآية: 97] .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يقول رحمه الله: إنهم إذا قالوا هذا، يعني أنهم يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله إلى آخره، يعني فكيف يكونون كفارا وجوابه أن يقال: إن العلماء أجمعوا على أن من كفر ببعض ما جاء به الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكذب به، فهو كمن كذب بالجميع وكفر به ومن كفر بنبي من الأنبياء، فهو كمن كفر بجميع الأنبياء؛ لقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} [سورة النساء، الآيتان: 150-151] ، وقوله تعالى في بني إسرائيل: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [سورة البقرة، الآية: 85] .(7/81)
ومن أقر بهذا كله وجحد البعث كفر بالإجماع، وحل دمه وماله.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ثم ضرب المؤلف لذلك أمثلة: المثال الأول: الصلاة فمن أقر بالتوحيد، وأنكر وجوب الصلاة فهو كافر.
قوله: (أو أقر بالتوحيد) إلخ هذا هو المثال الثاني، وهو من أقر بالتوحيد والصلاة وجحد وجوب الزكاة، فإنه يكون كافرا.
المثال الثالث: من أقر بوجوب ما سبق وجحد وجوب الصوم، فإنه يكون كافرا.
المثال الرابع: من أقر بذلك كله وجحد وجوب الحج، فإنه كافر، واستدل المؤلف على ذلك بقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ} -يعني من كفر بكون الحج واجبا أوجبه الله على عباده- {فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} . قول المؤلف - رحمه الله -: " ولما لم ينقد" إلى آخره ظاهره أن للآية سبب نزول هو هذا ولم أعلم لِمَ ذكره الشيخ دليلا. قوله ومن أقر بهذا كله أي بشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ووجوب الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، لكنه كذب بالبعث، فإنه كافر بالله؛ لقول الله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [سورة التغابن، الآية: 7] . وقد حكى المؤلف - رحمه الله - الإجماع على ذلك.(7/82)
كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [سورة النساء، الآيتان: 150-151] . فإذا كان الله قد صرح في كتابه أن من آمن ببعض وكفر ببعض فهو الكافر حقا زالت هذه الشبه، وهذه هي التي ذكرها بعض أهل الأحساء في كتابه الذي أرسله إلينا.
ويقال أيضا: إذا كنت تقر أن من صدق الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في كل شيء وجحد وجوب الصلاة أنه كافر حلال الدم والمال بالإجماع، وكذلك إذا أقر بكل شيء إلا البعث، وكذلك لو جحد وجوب صوم رمضان وصدق بذلك كله ولا تختلف المذاهب فيه، وقد نطق به القرآن كما قدمنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قوله:كما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} الآية، سبق الكلام على هذه الآية. وقد ساقها المؤلف مستدلا بها على أن الإيمان ببعض الحق دون بعض كفر بالجميع كما قرره بقوله.
لا أعلم عن هذا الكتاب شيئا فليبحث عنه.
قوله: " ويقال أيضا: إذا كنت تقر أن من صدق الرسول" إلخ هذا جواب ثان، فإن مضمونه أنك إذا عرفت وأقررت بأن من جحد الصلاة(7/83)
فمعلوم أن التوحيد هو أعظم فريضة جاء بها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو أعظم من الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج فكيف إذا جحد الإنسان شيئا من هذه الأمور كفر، ولو عمل بكل ما جاء به الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ وإذا جحد التوحيد الذي هو دين الرسل كلهم لا يكفر؟ سبحان الله، ما أعجب هذا الجهل! .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والزكاة والصيام والحج والبعث كافر بالله العظيم، ولو أقر بكل ما جاء به الرسول- صلى الله عليه وآله وسلم - سوى ذلك فكيف تنكر أن يكون من جحد التوحيد، وأشرك بالله تعالى كافرا؟ إن هذا لشيء عجيب، أن تجعل من جحد التوحيد مسلما، ومن جحد وجوب هذه الأشياء كافرا، مع أن التوحيد هو أعظم ما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام، وهو أعم ما جاءت به الرسل، فجميع الرسل قد أرسلت به، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء، الآية: 25] وهو أصل هذه الواجبات التي يكفر من أنكر وجوبها إذ لا تصح إلا به كما قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} فإذا كان من أنكر وجوب الصلاة، أو الزكاة، أو الصوم، أو الحج، أو أنكر البعث كافرا، فمنكر التوحيد أشد كفرا وأبين وأظهر.(7/84)
ويقال أيضا: هؤلاء أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قاتلوا بني حنيفة، وقد أسلموا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهم يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم - ويؤذنون ويصلون.
فإن قال إنهم يقولون: إن مسيلمة نبي. فقل: هذا هو المطلوب إذا كان من رفع رجلا إلى رتبة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كفر وحل ماله ودمه، ولم تنفعه الشهادتان ولا الصلاة، فكيف بمن رفع شمسان، أو يوسف وصحابيا، أو نبيا إلى مرتبة جبار السماوات والأرض؟ سبحان الله، ما أعظم شأنه {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [سورة الروم، الآية: 59] .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: " ويقال أيضا:هؤلاء أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" إلخ هذا جواب ثالث ومضمونه أن الصحابة رضي الله عنهم قاتلوا مسيلمة وأصحابه، واستحلوا دماءهم، وأموالهم مع أنهم يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، ويؤذنون، ويصلون، وهم إنما رفعوا رجلا إلى مرتبة النبي، فكيف بمن رفع مخلوقا إلى مرتبة جبار السماوات والأرض، أفلا يكون أحق بالكفر ممن رفع مخلوقا إلى منزلة مخلوق آخر؟! وهذا أمر واضح، ولكن كما قال الله تعالى: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [سورة الروم، الآية: 59] .(7/85)
ويقال أيضا: الذين حرقهم علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بالنار كلهم يدعون الإسلام، وهم من أصحاب علي - رضي الله عنه - وتعلموا العلم من الصحابة، ولكن اعتقدوا في علي مثل الاعتقاد في يوسف وشمسان وأمثالهما. فكيف أجمع الصحابة على قتلهم وكفرهم؟ أتظنون أن الصحابة يكفرون المسلمين؟ أم تظنون أن الاعتقاد في تاج وأمثاله لا يضر، والاعتقاد في علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يكفر؟ .
ويقال أيضا: بنو عبيد القداح الذين ملكوا المغرب ومصر في زمان بني العباس كلهم يشهدون أن لا إله الله وأن محمدا رسول الله، ويدعون الإسلام، ويصلون الجمعة والجماعة، فلما أظهروا مخالفة الشريعة في أشياء دون ما نحن فيه أجمع العلماء على كفرهم وقتالهم، وأن بلادهم بلاد حرب، وغزاهم المسلمون حتى استنقذوا ما بأيديهم من بلدان المسلمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: " ويقال أيضا: إن الذين حرقهم علي بن أبي طالب بالنار " إلخ، هذا جواب رابع فقد كان هؤلاء يدعون الإسلام، وتعلموا من الصحابة، ومع ذلك لم يمنعهم هذا من الحكم بكفرهم، وتحريقهم بالنار؛ لأنهم قالوا في علي بن أبي طالب: إنه إله، مثل ما يدعي هؤلاء بمن يؤلهونهم، كشمسان وغيره.
فكيف أجمع الصحابة رضي الله عنهم على قتل هؤلاء، أتظنون أن الصحابة رضي الله عنهم يجمعون على قتل من لا يحل قتله، وتكفير من ليس بكافر؟! ذلك لا يمكن أم تظنون أن الاعتقاد في تاج، وأمثاله لا يضر والاعتقاد في علي بن أبي طالب يضر.
قوله: " ويقال أيضا: بنو عبيد القداح " إلخ هذا جواب خامس، وهو إجماع العلماء على كفر بني عبيد القداح الذين ملكوا المغرب ومصر وكانوا(7/86)
ويقال أيضا: إذا كان الأولون لم يكفروا، إلا أنهم جمعوا بين الشرك، وتكذيب الرسول والقرآن وإنكار البعث، وغير ذلك فما معنى الباب الذي ذكر العلماء في كل مذهب: (باب حكم المرتد) ، وهو المسلم الذي يكفر بعد إسلامه، ثم ذكروا أنواعا كثيرة كل نوع منها يكفر، ويحل دم الرجل وماله، حتى إنهم ذكروا أشياء يسيرة عند من فعلها، مثل كلمة يذكرها بلسانه دون قلبه، أو كلمة يذكرها على وجه المزح واللعب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويصلون الجمعة والجماعات ويدعون أنهم مسلمون، ولكن ذلك لم يمنعهم من حكم المسلمين عليهم بالردة حين أظهروا مخالفة المسلمين في أشياء دون التوحيد حتى قاتلوهم واستنقذوا ما بأيديهم.
قوله: " ويقال أيضا: إذا كان الأولون لم يكفروا إلا أنهم " إلخ هذا جواب سادس مضمونه أنه إذا كان الأولون لم يكفروا إلا حين جمعوا جميع أنواع الكفر من الشرك والتكذيب والاستكبار، فما معنى ذكر أنواع من الكفر في (باب حكم المرتد) كل نوع منها يكفر حتى ذكروا أشياء يسيرة عند من فعلها مثل كلمة يذكرها بلسانه دون قلبه، أو كلمة يذكرها على وجه المزح واللعب، فلولا أن الكفر يحصل بفعل نوع منه، وإن كان الفاعل مستقيما في جانب آخر لم يكن لذكر الأنواع فائدة.
يقول - رحمه الله - تعالى: ومما يدفع شبه هؤلاء، هم الفقهاء في كل مذهب، ذكروا في كتبهم (باب حكم المرتد) ، وذكروا أنواعا كثيرة، حتى ذكروا الكلمة يذكرها الإنسان بلسانه، ولا يعتقدها بقلبه، أو يذكرها على سبيل المزح، ومع ذلك كفروهم، وأخرجوهم من الإسلام بها، وسيأتي لذلك مزيد بيان وإيضاح.(7/87)
ويقال أيضا: الذين قال الله فيهم: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ} أما سمعت الله كفرهم بكلمة مع كونهم في زمن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويجاهدون معه ويصلون، ويزكون، ويحجون، ويوحدون، وكذلك الذين قال الله فيهم: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} فهؤلاء الذين صرح الله فيهم أنهم كفروا بعد إيمانهم، وهم مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة تبوك قالوا كلمة ذكروا أنهم قالوها على وجه المزح، فتأمل هذه الشبهة وهي قولهم: تكفرون من المسلمين أناسا يشهدون أن لا إله إلا الله ويصلون، ويصومون، ثم تأمل جوابها فإنه من أنفع ما في هذه الأوراق.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: " ويقال أيضا: الذين قال الله فيهم: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا} "إلخ هذا جواب سابع مضمونه واقعتان: الأولى: أن الله تعالى حكم بكفر المنافقين الذين قالوا كلمة الكفر مع أنهم كانوا مع النبي- صلى الله عليه وعلى آله وسلم -يصلون ويزكون ويحجون ويجاهدون ويوحدون.
الثانية: أنه حكم بكفر المنافقين الذين استهزؤوا بالله وآياته ورسوله وقالوا: " ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا، ولا أكذب ألسنا، ولا أجبن عند اللقاء " يعني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه القراء فأنزل الله فيهم {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} . فحكم بكفرهم بعد إيمانهم مع أنهم ذكروا أنهم كانوا(7/88)
ومن الدليل على ذلك أيضا ما حكى الله عن بني إسرائيل مع إسلامهم وعلمهم وصلاحهم أنهم قالوا لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} وقول أناس من الصحابة: «اجعل لنا ذات أنواط» فحلف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن هذا نظير قول بني إسرائيل: اجعل لنا إلها.
ولكن للمشركين شبهة يدلون بها عند هذه القصة، وهي أنهم يقولون: إن بني إسرائيل لم يكفروا بذلك، وكذلك الذين قالوا للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اجعل لنا ذات أنواط» لم يكفروا.
فالجواب: أن نقول: إن بني إسرائيل لم يفعلوا ذلك، وكذلك الذين سألوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يفعلوا ذلك؟ ولا خلاف أن بني إسرائيل لو فعلوا ذلك، لكفروا، وكذلك لا خلاف في أن الذين نهاهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لو لم يطيعوه واتخذوا ذات أنواط بعد نهيه لكفروا، وهذا هو المطلوب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يستهزئون ولم يقولوا ذلك على سبيل الجد، وكانوا يصلون ويتصدقون، ثم ذكر المؤلف - رحمه الله - أن الجواب على هذه الشبهة من أنفع ما في هذه الأوراق.
قوله: " ومن الدليل على ذلك " أي على أن الإنسان قد يقول، أو يفعل ما هو كفر من حيث لا يشعر قول بني إسرائيل مع إسلامهم وعلمهم وصلاحهم لموسى عليه الصلاة والسلام: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} «وقول أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط " فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:»(7/89)
ولكن هذه القصة تفيد أن المسلم بل العالم قد يقع في أنواع من الشرك لا يدري عنها فتفيد التعلم، والتحرز ومعرفة أن قول الجاهل: (التوحيد فهمناه) أن هذا من أكبر الجهل ومكايد الشيطان.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«" الله أكبر إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} لتركبن سنن من كان قبلكم» وهذا يدل على أن موسى ومحمدا عليهما الصلاة والسلام قد أنكرا ذلك غاية الإنكار، وهذا هو المطلوب، فإن هذين النبيين الكريمين لم يقرا أقوامهما على هذا الطلب الذي طلبوه بل أنكراه.
وقد شبه بعض المشركين في هذا الدليل فقال: إن الصحابة، وبني إسرائيل لم يكفروا بذلك.
وجواب هذه الشبهة: أن الصحابة، وبني إسرائيل لم يفعلوا ذلك حين لقوا من الرسولين الكريمين إنكار ذلك.
هذا شروع في بيان ما تفيده هذه القصة، أعني قصة الأنواط وبني إسرائيل من الفوائد: الفائدة الأولى: أن الإنسان، وإن كان عالما قد يخفى عليه بعض أنواع الشرك، وهذا يوجب على الإنسان أن يتعلم ويعرف حتى لا يقع في الشرك، وهو لا يدري، وأنه إذا قال: أنا أعرف الشرك، وهو لا يعرفه كان ذلك من أخطر ما يكون على العبد؛ لأن هذا جهل مركب، والجهل المركب شر من الجهل البسيط؛ لأن الجاهل جهلا بسيطا يتعلم وينتفع بعلمه، وأما الجاهل جهلا مركبا، فإنه يظن نفسه عالما، وهو جاهل فيستمر فيما هو عليه من العمل المخالف للشريعة.(7/90)
وتفيد أيضا أن المسلم المجتهد إذا تكلم بكلام كفر، وهو لا يدري فنبه على ذلك فتاب من ساعته أنه لا يكفر كما فعل بنو إسرائيل، والذين سألوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وتفيد أنه لو لم يكفر، فإنه يغلظ عليه الكلام تغليظا شديدا كما فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وللمشركين شبهة أخرى يقولون: «إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنكر على أسامة قتل من قال: " لا إله إلا الله» "، وكذلك قوله: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» وأحاديث أخرى في الكف عمن قالها، ومراد هؤلاء الجهلة أن من قالها لا يكفر، ولا يقتل، ولو فعل ما فعل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: " وتفيد أيضا أن المسلم المجتهد " إلخ هذه هي الفائدة الثانية أن المسلم إذا قال ما يقتضي الكفر جاهلا بذلك، ثم نبه فانتبه، وتاب في الحال فإن ذلك لا يضره؛ لأنه معذور بجهله، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، أما لو استمر على ما علمه من الكفر، فإنه يحكم بما تقتضيه حاله.
قوله: " وتفيد أيضا أنه لو لم يكفر" إلخ هذه هي الفائدة الثالثة، أن الإنسان، وإن كان لا يدري عن الشيء إذا طلب ما يكون به الكفر، فإنه يغلظ عليه تغليظا شديدا؛ لأن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم - قال لأصحابه: «الله أكبر إنها السنن لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة» وهذا إنكار ظاهر.
قوله: " وللمشركين شبهة أخرى" إلخ يعني للمشركين المشبهين شبهة أخرى مع ما سبق من الشبهات وهي: «أن النبي صلى الله عليه وآله»(7/91)
فيقال لهؤلاء المشركين الجهال: معلوم أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قاتل اليهود، وسباهم وهم يقولون: لا إله إلا الله، وأن أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قاتلوا بني حنيفة، وهم يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويصلون، ويدعون الإسلام، وكذلك الذين حرقهم علي بن أبي طلب بالنار.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«وسلم أنكر على أسامة بن زيد - رضي الله عنه - قتل الرجل بعد أن قال: لا إله إلا الله فقال: "أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله " وما زال يكررها - عليه الصلاة والسلام - على أسامة حتى قال أسامة: "تمنيت أني لم أكن أسلمت بعد» وكذلك قوله- صلى الله عليه وآله وسلم -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله» وأمثال ذلك من الأحاديث التي يستدلون بها على أن من قال: " لا إله إلا الله " لا يكفر ولا يقتل، وإن كان على الشرك من جهة أخرى، وهذا من الجهل العظيم، فليس قول: " لا إله إلا الله" منجيا من عذاب النار ومخلصا للإنسان من الشرك إذا كان يشرك من جهة أخرى.
قوله:" فيقال لهؤلاء المشركين الجهال " إلخ هذا جواب الشبهة التي أوردها هؤلاء الجهال فيما سبق وجوابها بما يلي: أولا: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قاتل اليهود وسباهم وهم يقولون: لا إله إلا الله.
ثانيا: أن الصحابة قاتلوا بني حنيفة، وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويصلون، ويدعون أنهم مسلمون.
ثالثا: أن الذين حرقهم علي بن أبي طالب كانوا يشهدون أن لا إله إلا الله.(7/92)
وهؤلاء الجهلة مقرون أن من أنكر البعث كفر وقتل ولو قال: لا إله إلا الله، وأن من جحد شيئًا من أركان الإسلام كفر وقتل ولو قالها، فكيف لا تنفعه إذا جحد فرعًا من الفروع، وتنفعه إذا جحد التوحيد الذي هو أصل دين الرسل ورأسه؟ ولكن أعداء الله ما فهموا معنى الأحاديث: فأما حديث أسامة فإنه قتل رجلًا ادعى الإسلام بسبب أنه ظن أنه ما ادعى الإسلام إلا خوفًا على دمه وماله، والرجل إذا أظهر الإسلام وجب الكف عنه حتى يتبين منه ما يخالف ذلك، وأنزل الله تعالى في ذلك {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} [سورة النساء، الآية: 94] أي فتثبتوا، فالآية تدل على أنه يجب الكف عنه والتثبت، فإن تبين منه بعد ذلك ما يخالف الإسلام قتل لقوله تعالى: فَتَبَيَّنُوا ولو كان لا يقتل إذا قالها لم يكن للتثبيت معنى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: " وهؤلاء الجهلة مقرون أن من أنكر البعث" إلخ هذا إلزام لهؤلاء الجهال واحتجاج عليهم بمثل ما قالوا به، فقد قالوا: إن من أنكر البعث فإنه يقتل كافرًا، ويقولون: من جحد وجوب شيء من أركان الإسلام، فإنه يحكم بكفره ويقتل وإن قال:لا إله إلا الله، فكيف لا يكفر ولا يقتل من يجحد التوحيد الذي هو أساس الدين وإن قال:لا إله إلا الله؟! أفلا يكون هذا أحق بالتكفير ممن جحد وجوب الصلاة، أو وجوب الزكاة؟ ! وهذا إلزام صحيح لا محيد عنه.
قوله: " ولكن أعداء الله ما فهموا معنى الأحاديث " إلخ. يعني الأحاديث التي شبهوا بها ثم أخذ رحمه الله يبين معناها فقال:(7/93)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فأما حديث أسامة، يعني الحديث الذي قتل فيه أسامة - رضي الله عنه - من قال: لا إله إلا الله حين لحقه أسامة ليقتله وكان مشركًا، فقال: " لا إله إلا الله " فقتله أسامة لظنه أنه لم يكن مخلصًا في قوله وإنما قاله تخلصًا فليس فيه دليل على أن كل من قال: " لا إله إلا الله" فهو مسلم ومعصوم الدم، ولكن فيه دليل على أنه يجب الكف عمن قال: " لا إله إلا الله" ثم بعد ذلك ينظر في حاله حتى يتبين واستدل المؤلف لذلك بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} الآية، فأمر الله تبارك وتعالى بالتبين أي التثبت وهذا يدل على أنه إذا تبين أن الأمر كان خلاف ما كان عليه فإنه يجب أن يعامل بما يتبين من حاله، فإذا بان منه ما يخالف الإسلام قتل ولو كان لا يقتل مطلقًا إذا قالها لم يكن فائدة للأمر بالتثبت.
وعلى كل حال فإن حديث أسامة - رضي الله عنه - ليس فيه دليل على أن من قال: " لا إله إلا الله" وهو مشرك يعبد الأصنام والأموات والملائكة والجن وغير ذلك يكون مسلمًا.(7/94)
وكذلك الحديث الآخر وأمثاله معناه ما ذكرناه أن من أظهر التوحيد والإسلام وجب الكف عنه إلى أن يتبين منه ما يناقض ذلك والدليل على هذا أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: «أقتلته بعد ما قال: لا إله إلا الله» وقال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله» هو الذي قال في الخوارج: «أينما لقيتموهم فاقتلوهم لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد» مع كونهم من أكثر الناس عبادة وتهليلًا وتسبيحًا، حتى أن الصحابة يحقرون أنفسهم عندهم، وهم تعلموا العلم من الصحابة فلم تنفعهم لا إله إلا الله، ولا كثرة العبادة، ولا ادعاء الإسلام لما ظهر منهم مخالفة الشريعة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: " وكذلك الحديث الآخر وأمثاله" يريد بالحديث الآخر قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أمرت أن أقاتل الناس» إلخ، فبين رحمه الله تعالى أن معنى الحديث أن من أظهر الإسلام وجب الكف عنه حتى يتبين أمره، لقوله تعالى: فَتَبَيَّنُوا لأن الأمر بالتبين يحتاج إليه إذا كنا في شك من ذلك، أما لو كان قوله: " لا إله إلا الله " بمجرده عاصمًا من القتل فإنه لا حاجة إلى التبين، ثم استدل المؤلف رحمه الله لما ذهب إليه بأن الذي قال لأسامة: «أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله» وقال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله» ... " هو الذي أمر بقتال الخوارج وقال: «أينما لقيتموهم فاقتلوهم» مع أن الخوارج يصلون ويذكرون الله ويقرؤون القرآن، وهم قد تعلموا من الصحابة رضي الله عنهم ومع ذلك لم ينفعهم ذلك شيئًا؛ لأن الإيمان لم يصل إلى قلوبهم كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «إنه لا يجاوز حناجرهم» .(7/95)
وكذلك ما ذكرناه من قتال اليهود وقتال الصحابة بني حنيفة، وكذلك «أراد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أن يغزو بني المصطلق لما أخبره رجل أنهم منعوا الزكاة حتى أنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} وكان الرجل كاذبًا عليهم» (1) ، وكل هذا يدل على أن مراد النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في الأحاديث التي احتجوا بها ما ذكرناه.
ولهم شبهة أخرى: وهو ما ذكر النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أن الناس يوم القيامة يستغيثون بآدم، ثم بنوح، ثم بإبراهيم، ثم بموسى، ثم بعيسى فكلهم يعتذر حتى ينتهوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالوا: فهذا يدل على أن الاستغاثة بغير الله ليست شركًا.
والجواب أن نقول: سبحان من طبع على قلوب أعدائه فإن الاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه لا ننكرها، كما قال الله تعالى في قصة موسى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} وكما يستغيث الإنسان بأصحابه في الحرب أو غيره في أشياء يقدر عليها المخلوق، ونحن أنكرنا استغاثة العبادة التي يفعلونها عند قبور الأولياء، أو في غيبتهم في الأشياء التي لا يقدر عليها إلا الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وهو أن مجرد قول: " لا إله إلا الله " ليس مانعًا من القتل بل يجوز قتال من قالها إذا وجد سبب يقتضي قتاله.
قوله: " ولهم شبهة أخرى " يعني في أن الاستغاثة بغير الله ليست شركًا وقد أجاب عنها بجوابين:
__________
(1) أخرجه ابن جرير الطبري جـ 26 ص 123، وابن كثير جـ 4 ص 187 وقال: "قد روي طرق لهذا الحديث من أحسنها ما رواه الإمام أحمد"، والهيثمي في " المجمع " جـ 7 ص 111 وقال: "رواه أحمد ورجاله ثقات".(7/96)
إذا ثبت ذلك فاستغاثتهم بالأنبياء يوم القيامة يريدون منهم أن يدعوا الله أن يحاسب الناس حتى يستريح أهل الجنة من كرب الموقف وهذا جائز في الدنيا والآخرة، وذلك أن تأتي عند رجل صالح حي يجالسك ويسمع كلامك وتقول له: ادع الله لي، كما كان أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يسألونه ذلك في حياته، وأما بعد موته فحاشا وكلا أنهم سألوه ذلك عند قبره، بل أنكر السلف الصالح على من قصد دعاء الله عند قبره فكيف بدعائه نفسه؟
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الأول: أن هذه استغاثة بمخلوق فيما يقدر عليه وهذا لا ينكر لقوله تعالى في قصة موسى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} .
الجواب الثاني: أن الناس لم يستغيثوا بهؤلاء الأنبياء الكرام ليزيلوا عنهم الشدة، ولكنهم يستشفعون بهم عند الله عز وجل ليزيل هذه الشدة، وهناك فرق بين من يستغيث بالمخلوق ليكشف عنه الضرر والسوء، ومن يستشفع بالمخلوق إلى الله ليزيل الله عنه ذلك.
قوله: " إذا ثبت ذلك فاستغاثتهم بالأنبياء " إلخ هذا هو الجواب الثاني وهو أن استغاثتهم بالأنبياء من باب طلب دعائهم إلى الله عز وجل أن يريح الخلق من هذا الموقف العظيم، وليس دعاء لهم، بل طلب دعائهم لربهم عز وجل، وهذا أمر جائز كما أن الصحابة رضي الله عنهم يسألون النبي صلى الله عليهم وسلم أن يدعو الله لهم، ففي الصحيحين من حديث أنس - رضي الله عنه - «أن رجلًا دخل المسجد يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب. فقال: " يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل، فادع الله يغيثنا" ولم يقل: فأغثنا يا»(7/97)
«رسول الله، بل قال: " فادع الله يغيثنا " فرفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يديه وقال: "اللهم أغثنا " ثلاث مرات، فأنشأ الله سبحانه وتعالى سحابة فأمطرت، ولم يروا الشمس أسبوعًا كاملًا، والمطر ينهمر، وفي الجمعة التالية دخل رجل أو الرجل الأول فقال: " يا رسول الله غرق المال، وتهدم البناء فادع الله تعالى يمسكها عنا"، فدعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ربه وقال: " اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر» فانفرجت السماء وخرج الصحابة يمشون في الشمس.
فهذا طلب دعاء من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لله عز وجل وليس دعاء لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا استغاثة به، وبهذا يعرف أن هذه الشبهة التي لبس بها هؤلاء شبهة لا تنفعهم بل هي حجة داحضة عند الله عز وجل.
ثم ذكر المؤلف رحمه الله أنه لا بأس أن تأتي لرجل صالح تعرفه وتعرف صلاحه فتسأله أن يدعو الله لك، وهذا حق إلا أنه لا ينبغي للإنسان أن يتخذ ذلك ديدنًا له كلما رأى رجلًا صالحًا قال: ادع الله لي، فإن هذا ليس من عادة السلف رضي الله عنهم، وفيه اتكال على دعاء الغير، ومن المعلوم أن الإنسان إذا دعا ربه بنفسه كان خيرًا له لأنه يفعل عبادة يتقرب بها إلى الله عز وجل فإن الدعاء من العبادة كما قال الله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} الآية، والإنسان إذا دعا ربه بنفسه فإنه ينال أجر العبادة ثم يعتمد على الله عز وجل في حصول المنفعة ودفع المضرة، بخلاف ما إذا طلب من غيره أن يدعو الله له فإنه يعتمد على ذلك الغير وربما يكون تعلقه بهذا الغير أكثر من تعلقه(7/98)
ولهم شبهة أخرى وهي: «قصة إبراهيم عليه السلام لما ألقي في النار اعترض له جبريل في الهواء فقال: ألك حاجة؟ فقال إبراهيم: أما إليك فلا،» قالوا: فلو كانت الاستغاثة بجبريل شركًا لم يعرضها على إبراهيم؟ فالجواب: أن هذا من جنس الشبهة الأولى: فإن جبريل عرض عليه أن ينفعه بأمر يقدر عليه، فإنه كما قال الله تعالى فيه: {شَدِيدُ الْقُوَى} [سورة النجم، الآية:5] فلو أذن الله له أن يأخذ نار إبراهيم وما حولها من الأرض والجبال ويلقيها في المشرق أو المغرب لفعل، ولو أمره أن يضع إبراهيم في مكان بعيد عنهم لفعل، ولو أمره أن يرفعه إلى السماء لفعل، وهذا كرجل غني له مال كثير يرى رجلًا محتاجًا فيعرض عليه أن يقرضه، أو أن يهبه شيئًا يقضي به حاجته فيأبى ذلك الرجل المحتاج أن يأخذ ويصبر إلى أن يأتيه الله برزق لا منة فيه لأحد. فأين هذا من استغاثة العبادة والشرك لو كانوا يفقهون؟ ! .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بالله عز وجل، وهذا الأمر فيه خطورة وقد قال شيخ الإسلام رحمه الله: " إذا طلب الإنسان من شخص أن يدعو له فإن هذا من المسألة المذمومة " فينبغي للإنسان إذا طلب من شخص أن يدعو له أن ينوي بذلك نفع ذلك الغير بدعائه له، فإنه يؤجر على هذا وربما ينال ما جاء به الحديث أن الرجل إذا دعا لأخيه بظهر الغيب قالت الملائكة: آمين ولك بمثلها.
قوله: " ولهم شبهة أخرى وهي قصة إبراهيم عليه السلام لما ألقي في النار " إلخ. والجواب عن هذه الشبهة:
أن جبريل إنما عرض عليه أمرًا ممكنًا يمكن أن يقوم به فلو أذن الله لجبريل لأنقذ إبراهيم بما أعطاه الله تعالى من القوة فإن جبريل كما وصفه الله تعالى {شَدِيدُ الْقُوَى} فلو أمره الله أن يأخذ نار إبراهيم وما(7/99)
ولنختم الكلام إن شاء الله تعالى بمسألة عظيمة مهمة جدًا تفهم مما تقدم، ولكن نفرد لها الكلام لعظم شأنها، ولكثرة الغلط فيها فنقول: لا خلاف أن التوحيد لا بد أن يكون بالقلب واللسان والعمل، فإن اختل شيء من هذا لم يكن الرجل مسلمًا، فإن عرف التوحيد ولم يعمل به فهو كافر معاند كفرعون وإبليس وأمثالهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حولها ويلقيها في المشرق أو المغرب لفعل ولو أمره أن يحمل إبراهيم إلى مكان بعيد عنهم لفعل ولو أمره أن يرفعه إلى السماء لفعل.
ثم ضرب المؤلف بهذا مثلًا: رجل غني أتى إلى فقير فقال: هل لك حاجة في المال؟ من قرض أو هبة أو غير ذلك؟ فإنما هذا مما يقدر عليه، ولا يعد هذا شركًا لو قال: نعم لي حاجة أقرضني، أو هبني لم يكن مشركًا.
ختم المؤلف هذه الشبهات بمسألة عظيمة هي:
أنها لا بد أن يكون الإنسان موحدًا بقلبه وقوله وعمله فإن كان موحدًا بقلبه ولكنه لم يوحد بقوله أو بعمله فإنه غير صادق في دعواه، لأن توحيد القلب يتبعه توحيد القول والعمل لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» . فإذا وحد الله كما زعم بقلبه ولكنه لم يوحده بقوله أو فعله فإنه من جنس فرعون الذي كان مستيقنًا بالحق عالمًا لكنه أصر وعاند وبقي على ما كان عليه من دعوى الربوبية، قال الله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} وحكى تعالى عن موسى أنه قال لفرعون: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} .(7/100)
وهذا يغلط فيه كثير من الناس يقولون: هذا حق ونحن نفهم هذا، ونشهد أنه الحق، ولكنا لا نقدر أن نفعله ولا يجوز عند أهل بلدنا إلا من وافقهم، وغير ذلك من الأعذار. ولم يدر المسكين أن غالب أئمة الكفر يعرفون الحق، ولم يتركوه إلا لشيء من الأعذار كما قال تعالى: {اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} [سورة التوبة، الآية:9] وغير ذلك من الآيات كقوله: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [سورة البقرة، الآية:146] .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: " وهذا يغلط فيه كثير من الناس" إلخ يعني أن كثيرًا من الناس يعرف الحق في هذا ويقولون: نحن نعرف أن هذا هو الحق ولكننا لا نقدر عليه لمخالفته أهل بلدنا ونحو ذلك من الأعذار، وهذا العذر لا ينفعهم عند الله عز وجل لأن الواجب على المرء أن يلتمس رضا الله عز وجل ولو سخط الناس، وأن لا يتبع رضا الناس بسخط الله عز وجل، وهذا يشبه من يحتجون بما كان عليه آباؤهم وهم الذين حكى الله عنهم {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} والآية الأخرى {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} .
قوله: " ولم يدر المسكين " أي المعدوم من الفقه والبصيرة أن غالب أئمة الكفر كانوا يعرفون الحق لكنهم عاندوا فخالفوا الحق كما قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} وقال: {اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} فكانوا يعتذرون بأعذار لا تنفعهم كخوف بعضهم من فوات الرئاسة وتصدر المجالس ونحو ذلك.
فكثير من أئمة الكفار يعرفون الحكم ولكنهم يكرهونه ولا يتبعونه، ومعرفة الحق دون العمل به أشد من الجهل بالحق، لأن الجاهل بالحق(7/101)
فإن عمل بالتوحيد عملًا ظاهرًا وهو لا يفهمه، أو لا يعتقده بقلبه فهو منافق، وهو شر من الكافر الخالص لقوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [سورة النساء: الآية:145] . وهذه المسألة كبيرة طويلة تتبين لك إذا تأملتها في ألسنة الناس ترى من يعرف الحق ويترك العمل به لخوف نقص دنيا، أو جاه، أو مداراة لأحد، وترى من يعمل به ظاهرًا لا باطنًا فإذا سألته عما يعتقد بقلبه فإذا هو لا يعرفه ولكن عليك بفهم آيتين من كتاب الله:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يعذر، وقد يعلم فيتنبه ويتعلم بخلاف المعاند المستكبر، ولهذا كان اليهود مغضوبًا عليهم لعلمهم بالحق وتركهم إياه، وكان النصارى ضالين لأنهم لم يعرفوا الحق، لكن بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان النصارى عالمين فكانوا مثل اليهود في كونهم مغضوبًا عليهم.
يقول رحمه الله: فإن عمل بالتوحيد ظاهرًا أي باللسان والجوارح، ولكنه لم يعتقده بقلبه ولم يفهمه فإنه منافق، وهو شر من الكافر المصرح بكفره لقوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} وهذا ظاهر فيمن كان معاندًا يعلم الحق ولكنه كرهه بقلبه ولم يطمئن إليه، ولم يستقر به، ولكنه أظهر الالتزام بالشريعة خداعًا لله ولرسوله وللمؤمنين، وأما من كان لا يفهمه بالكلية ولا يدري ولكنه يعمل كما يعمل الناس ولم يتبين له ذلك الشيء الذي يعملونه والمقصود منه، فإن الواجب أن يبلغ ويعلم، فإن أصر على ما هو عليه من إنكاره بقلبه فهو منافق.
بين رحمه الله أن هذه المسألة مسألة كبيرة طويلة يعني أن تتبعها يطول بواسطة أن كثيرًا من الناس قد يأبى الحق خوفًا من أن يلام عليه، أو رجاء لجاه أو دنيا، فيحتاج أن يتتبع أحوال الناس ويعرفها تمامًا حتى(7/102)
أولاهما: قوله تعالى: {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} ، فإذا تحققت أن بعض الصحابة الذين غزوا الروم مع رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كفروا بسبب كلمة قالوها على وجه المزح واللعب تبين لك أن الذي يتكلم بالكفر، أو يعمل به خوفًا من نقص مال، أو جاه، أو مداراة لأحد أعظم ممن يتكلم بكلمة يمزح بها. والآية الثانية: قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ} فلم يعذر الله
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يعلم من هو منافق ومن هو مؤمن إيمانًا خالصًا.
يحث المؤلف رحمه الله تعالى على تدبر آيتين من كتاب الله عز وجل: أولاهما قوله تعالى: {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} وهذه الآية نزلت في المنافقين الذين سبوا رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وأصحابه القراء.
فالمؤلف رحمه الله يقول: إذا كان هؤلاء المنافقون الذين غزوا مع رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في غزوة تبوك كفروا بكلمة قالوها على سبيل المزاح لا على سبيل الجد فما بالك بمن يكفر كفرًا جديًا يريده بقلبه من أجل خوف فوات مركز، أو جاه، أو ما أشبه ذلك، فإنه يكون أعظم وأعظم. فالواقع خوفًا أو رجاء أن كلهم كفروا بعد إيمانهم سواء فعلوا ذلك استهزاء أو فعلوه على سبيل الجد والكفر، فإن كل إنسان يظهر الإسلام ويبطن الكفر فهو منافق على أي وجه كان.
هذه هي الآية الثانية التي حث المؤلف رحمه الله تعالى على تدبرها وهذه الآية تدل على أنه لا يعذر أحد كفر بعد إيمانه إلا من كان(7/103)
من هؤلاء إلا من أكره مع كون قلبه مطمئنًا بالإيمان وأما غير هذا فقد كفر بعد إيمانه سواء فعله خوفًا، أو مداراة، أو مشحة بوطنه أو أهله أو عشيرته أو ماله، أو فعله على وجه المزح أو لغير ذلك من الأغراض إلا المكره. فالآية تدل على هذا (1) من جهتين:
الأولى: قوله: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ} فلم يستثن الله تعالى إلا المكره، ومعلوم أن الإنسان لا يكره إلا على الكلام أو الفعل وأما عقيدة القلب فلا يكره عليها أحد. والثانية: قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ} فصرح أن هذا الكفر والعذاب لم يكن بسبب الاعتقاد، أو الجهل، أو البغض للدين، أو محبة الكفر وإنما سببه أن له في ذلك حظًا من حظوظ الدنيا فآثره على الدين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مكرهًا، وأما من كفر على سبيل الاختيار لأي غرض من الأغراض سواء كان مزاحًا، أو مشحة في وظيفة، أو دفاعًا عن وطن، أو ما أشبه ذلك فإنه يكون كافرًا، فالله عز وجل لم يعذر من كفر إلا من كان مكرهًا بشرط أن يكون قلبه مطمئنًا بالإيمان.
أي إن الله تعالى لم يستثن في الآية من الكافرين إلا من أكره، والإكراه لا يكون إلا على القول أو الفعل، أما عقيدة القلب فلا يطلع عليها إلا الله، ولا يتصور فيها الإكراه، لأنه لا يمكن لأحد أن يكره شخصًا فيقول: لا بد أن تعتقد كذا وكذا، لأنه أمر باطن لا يعلم به، وإنما الإكراه على ما ظهر فقط بالقول أو الفعل. الوجه الثاني: أنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة فكان كفرهم سببه أنهم استحبوا الدنيا على الآخرة، ويعني بالدنيا كل ما يتعلق بها من جاه،(7/104)
والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أو مال، أو رياسة أو غير ذلك ممن آثر الدنيا بما فيها على الآخرة وكفره من أجل إيثار الدنيا فإنه يكون كافرًا وإن لم يكن مستحبًا للكفر ولكنه مستحب لحياة الدنيا فإنه يكفر، وذلك أن بعض الناس يكفر لأنه يحب الكفر ويعجبه، وبعض الناس يكفر لمال، أو جاه، أو رياسة، وبعض الناس يكفر لينال بذلك شيئًا من السلطان وما أشبه ذلك فالأغراض كثيرة.
نسأل الله تعالى أن يهدينا الصراط المستقيم وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا. ختم شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى كتابه هذا برد العلم إلى الله عز وجل والصلاة والسلام على نبيه محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبهذا انتهى كتاب كشف الشبهات فنسأل الله تعالى أن يثيب مؤلفه أحسن ثواب وأن يجعل لنا نصيبًا من أجره وثوابه وأن يجمعنا وإياه في دار كرامته إنه جواد كريم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(7/105)
شرح الأصول الستة.(7/107)
بسم الله الرحمن الرحيم
الشرح.
ابتدأ المؤلف -رحمه الله تعالى كتابه بالبسملة اقتداء بكتاب الله عز وجل فإنه مبدوء بالبسملة، واقتداء برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فإنه يبدأ كتبه ورسائله بالبسملة.
والجار والمجرور متعلق بفعل محذوف مؤخر مناسب للمقام تقديره هنا بسم الله أكتب.
وقدرناه فعلًا لأن الأصل في العمل الأفعال.
وقدرناه مؤخرًا لفائدتين:
الأولى: التبرك بالبداءة باسم الله تعالى.
الثانية: إفادة الحصر لأن تقديم المتعلق به يفيد الحصر.
وقدرناه مناسبًا لأنه أدل على المراد فلو قلنا مثلًا عندما نريد أن نقرأ كتابًا: باسم الله نبتدئ، ما يدري بماذا نبتدئ، لكن بسم الله نقرأ أدل على المراد.
لفظ الجلالة علم على الباري جل وعلا وهو الاسم الذي تتبعه جميع الأسماء حتى أنه في قوله تعالى:(7/109)
{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} لا نقول: إن لفظ الجلالة (الله) صفة بل نقول: هي عطف بيان لئلا يكون لفظ الجلالة تابعًا تبعية النعت للمنعوت ولهذا قال العلماء: أعرف المعارف لفظ (الله) لأنه لا يدل على أحد سوى الله عز وجل.
الرحمن: اسم من الأسماء المختصة بالله لا يطلق على غيره.
ومعناه: المتصف بالرحمة الواسعة.
الرحيم: اسم يطلق على الله عز وجل وعلى غيره.
ومعناه: ذو الرحمة الواصلة، فالرحمن ذو الرحمة الواسعة، والرحيم ذو الرحمة الواصلة فإذا جُمعا صار المراد بالرحيم الموصل رحمته إلى من يشاء من عباده كما قال الله تعالى: {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} . والمراد بالرحمن الواسع الرحمة.(7/110)
من أعجب العجاب، وأكبر الآيات الدالة على قدرة الملك الغلاب ستة أصول بينها الله تعالى بيانًا واضحًا للعوام فوق ما يظن الظانون، ثم بعد هذا غلط فيها كثير من أذكياء العالم وعقلاء بني آدم إلا أقل القليل.
الشرح.
شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى له عناية بالرسائل المختصرة التي يفهمها العامي وطالب العلم، ومن هذه الرسائل هذه الرسالة (ستة أصول عظيمة) وهي:
الأصل الأول: الإخلاص وبيان ضده وهو الشرك.
الأصل الثاني: الاجتماع في الدين والنهي عن التفرق فيه.
الأصل الثالث: السمع والطاعة لولاة الأمر.
الأصل الرابع: بيان العلم والعلماء، والفقه والفقهاء، ومن تشبه بهم وليس منهم.
الأصل الخامس: بيان من هم أولياء الله.
الأصل السادس: رد الشبهة التي وضعها الشيطان في ترك القرآن والسنة.
وهذه الأصول أصول مهمة جديرة بالعناية، ونحن نستعين بالله تعالى في شرحها والتعليق عليها بما يسر الله.(7/111)
الأصل الأول.
إخلاص الدين لله تعالى وحده لا شريك له، وبيان ضده الذي هو الشرك بالله، وكون أكثر القرآن في بيان هذا الأصل من وجوه شتى بكلام يفهمه أبلد العامة، ثم لما صار على أكثر الأمة ما صار أظهر لهم الشيطان الإخلاص في صورة تنقص الصالحين والتقصير في حقوقهم، وأظهر لهم الشرك بالله في صورة محبة الصالحين وأتباعهم.
الشرح.
الإخلاص لله معناه:"أن يقصد المرء بعبادته التقرب إلى الله تعالى والتوصل إلى دار كرامته". بأن يكون العبد مخلصًا لله تعالى في قصده مخلصًا لله تعالى في محبته، مخلصًا لله تعالى في تعظيمه، مخلصًا لله تعالى في ظاهره وباطنه لا يبتغي بعبادته إلا وجه الله تعالى والوصول إلى دار كرامته كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} . وقوله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} ،، وقوله: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} ، وقوله: {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا}(7/112)
، وقد أرسل الله تعالى جميع الرسل بذلك كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} . وكما وضح الله ذلك في كتابه كما قال المؤلف: "من وجوه شتى بكلام يفهمه أبلد العامة "، فقد وضحه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقد جاء - عليه الصلاة والسلام - بتحقيق التوحيد وإخلاصه وتخليصه من كل شائبة، وسد كل طريق يمكن أن يوصل إلى ثلم هذا التوحيد أو إضعافه، حتى «أن رجلًا قال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وما شاء الله وشئت" فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أجعلتني لله ندًا بل ما شاء الله وحده» ، فأنكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على هذا الرجل أن يقرن مشيئته بمشيئة الله تعالى بحرف يقتضي التسوية بينهما، وجعل ذلك من اتخاذ الند لله عز وجل، ومن ذلك أيضًا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حرم الحلف بغير الله وجعل ذلك من الشرك بالله فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من حلف بغير الله فقد كفر أو»(7/113)
«أشرك» ، وذلك لأن الحلف بغير الله تعظيم للمحلوف به بما لا يستحقه إلا الله عز وجل، وحينما «قدم عليه وفد فقالوا: "يا رسول الله، يا خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا" قال: "يا أيها الناس قولوا بقولكم ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل» . وقد عقد المصنف رحمه الله لذلك بابًا في كتاب التوحيد. فقال: "باب ما جاء في حماية المصطفى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حمى التوحيد وسده طرق الشرك ".
وكما بين الله تعالى الإخلاص وأظهره بين ضده وهو الشرك فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ، وقال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} .(7/114)
وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} ،، والآيات في ذلك كثيرة. ويقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من لقي الله لا يشرك به شيئًا دخل الجنة ومن لقيه يشرك به شيئًا دخل النار» رواه مسلم من حديث جابر. والشرك على نوعين:
النوع الأول: شرك أكبر مخرج عن الملة وهو: "كل شرك أطلقه الشارع وهو مناف للتوحيد منافاة مطلقة"، مثل: أن يصرف شيئًا من أنواع العبادة لغير الله بأن يصلي لغير الله أو يذبح لغير الله، أو ينذر لغير الله، أو أن يدعو غير الله تعالى مثل أن يدعو صاحب قبر، أو يدعو غائبًا لإنقاذه من أمر لا يقدر عليه إلا الحاضر، وأنواع الشرك معلومة فيما كتبه أهل العلم.
النوع الثاني: الشرك الأصغر وهو: " كل عمل قولي أو فعلي أطلق عليه الشارع وصف الشرك لكنه لا ينافي التوحيد منافاة مطلقة"، مثل: الحلف بغير الله فالحالف بغير الله الذي لا يعتقد أن لغير الله تعالى من العظمة ما يماثل عظمة الله مشرك شركًا أصغر، ومثل: الرياء وهو خطير قال فيه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «أخوف ما أخاف»(7/115)
«عليكم الشرك الأصغر فسئل عنه؟ فقال: الرياء» (1) . وقد يصل الرياء إلى الشرك الأكبر، وقد مثل ابن القيم رحمه الله للشرك الأصغر بيسير الرياء وهذا يدل على أن كثير الرياء قد يصل إلى الشرك الأكبر، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} . يشمل كل شرك ولو كان أصغر، فالواجب الحذر من الشرك مطلقًا فإن عاقبته وخيمة قال الله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} ،، فإذا حرمت الجنة على المشرك لزم أن يكون خالدًا في النار أبدًا، فالمشرك بالله تعالى قد خسر الآخرة لا ريب لأنه في النار خالدًا، وخسر الدنيا لأنه قامت عليه الحجة وجاءه النذير ولكنه خسر لم يستفد من الدنيا شيئًا قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} . فخسر نفسه لأنه لم يستفد منها شيئًا وأوردها النار وبئس الورد المورود، وخسر أهله لأنهم إن كانوا مؤمنين فهم في الجنة فلا يتمتع بهم، وإن كانوا في النار فكذلك لأنه كلما دخلت أمة لعنت أختها.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد جـ5 ص428، وابن أبي شيبة في "الإيمان" ص86 باب الخروج من الإيمان بالمعاصي، والهيثمي في " المجمع" جـ10 ص222 وقال: "رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن شبيب بن خالد وهو ثقة".(7/116)
واعلم أن الشرك خفي جدًا وقد خافه خليل الرحمن وإمام الحنفاء كما حكى الله عنه: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} . وتأمل قوله: وَاجْنُبْنِي ولم يقل: "وامنعني" لأن معنى اجنبني أي اجعلني في جانب وعبادة الأصنام في جانب، وهذا أبلغ من امنعني لأنه إذا كان في جانب وهي في جانب، كان أبعد، وقال ابن أبي مليكة: "أدركت ثلاثين من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كلهم يخاف النفاق على نفسه"، وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لحذيفة بن اليمان: "أنشدك الله هل سماني لك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع من سمى من المنافقين" مع أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشره بالجنة ولكنه خاف أن يكون ذلك لما ظهر لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أفعاله في حياته، فلا يأمن النفاق إلا منافق، ولا يخاف النفاق إلا مؤمن، فعلى العبد أن يحرص على الإخلاص وأن يجاهد نفسه عليه قال بعض السلف: "ما جاهدت نفسي على شيء ما جاهدتها على الإخلاص" فالشرك أمره صعب جدًا ليس بالهين ولكن الله ييسر الإخلاص على العبد وذلك بأن يجعل الله نصب عينيه فيقصد بعمله وجه الله.(7/117)
الأصل الثاني.
أمر الله بالاجتماع في الدين ونهى عن التفرق فيه، فبين الله هذا بيانًا شافيًا تفهمه العوام، ونهانا أن نكون كالذين تفرقوا واختلفوا قبلنا فهلكوا، وذكر أنه أمر المسلمين بالاجتماع في الدين ونهاهم عن التفرق فيه، ويزيده وضوحًا ما وردت به السنة من العجب العجاب في ذلك، ثم صار الأمر إلى أن الافتراق في أصول الدين وفروعه هو العلم والفقه في الدين، وصار الاجتماع في الدين لا يقوله إلا زنديق أو مجنون.
الشرح.
الأصل الثاني من الأصول التي ساقها الشيخ - رحمه الله تعالى - الاجتماع في الدين والنهي عن التفرق فيه، وهذا الأصل العظيم قد دل عليه كتاب الله تعالى، وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وعمل الصحابة رضي الله عنهم والسلف الصالح رحمهم الله تعالى:
أما كتاب الله تعالى: فقد قال الله-عز وجل-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(7/118)
وقال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} . . وقال تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} .
ففي هذه الآيات نهى الله تعالى عن التفرق وبين عواقبه الوخيمة على الفرد والمجتمع والأمة بأسرها.
وأما دلالة السنة على هذا الأصل العظيم: فقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى هاهنا، التقوى هاهنا - ويشير إلى صدره - بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله» ، وفي رواية: «لا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تجسسوا ولا»(7/119)
«تحسسوا ولا تناجشوا وكونوا عباد الله إخوانًا» وفي رواية: «لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانًا» .
ويقول - عليه الصلاة والسلام -: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا» . «وقال - عليه الصلاة والسلام - لأبي أيوب رضي الله عنه: "ألا أدلك على تجارة؟ " قال: بلى يا رسول الله. قال: "تسعى في الإصلاح بين الناس إذا تفاسدوا،وتقارب بينهم إذا تباعدوا» (1) . وفي مقابلة أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المؤمنين بالتحاب والتآلف ومحبة الخير والتعاون على البر والتقوى وفعل الأسباب التي تقوي ذلك وتنميه في مقابلة ذلك نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن كل ما يوجب تفرق المسلمين وتباعدهم وذلك لما في التفرق والبغضاء من المفاسد العظيمة فالتفرق هو قرة عين شياطين الجن والإنس، لأن شياطين الإنس والجن لا يودون من أهل الإسلام أن يجتمعوا على شيء فهم يريدون أن يتفرقوا لأنهم يعلمون أن التفرق تفتت للقوة التي تحصل بالالتزام والاتجاه إلى الله عز وجل.
فالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حث على التآلف والتحاب بقوله وفعله، ونهى عن التفرق والاختلاف الذي يؤدي إلى تفريق الكلمة وذهاب الريح.
__________
(1) الهيثمي: في المجمع جـ 8 ص 80.(7/120)
وأما عمل الصحابة: فقد وقع بينهم رضي الله عنهم الاختلاف،لكن لم يحصل به التفرق ولا العداوة ولا البغضاء، فقد حصل الخلاف بينهم في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورسول الله بين أظهرهم فمن ذلك «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما فرغ من غزوة الأحزاب، وجاءه جبريل يأمره أن يخرج إلى بني قريظة لنقضهم العهد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأصحابه: "لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة"، فخرجوا من المدينة إلى بني قريظة، وحان وقت صلاة العصر، فقال بعضهم: لا نصلي إلا في بني قريظة، ولو غابت الشمس، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة".فنقول سمعنا وأطعنا.
ومنهم من قال: نصلي في الوقت لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أراد بذلك المبادرة والإسراع إلى الخروج ولم يرد منا تأخير الصلاة. فبلغ ذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم يعنف أحدًا منهم ولم يوبخه على ما فهم» ، وهم بأنفسهم رضي الله عنهم لم يتفرقوا من أجل اختلاف الرأي في فهم حديث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.(7/121)
أما عمل السلف الصالح: فإن من أصول أهل السنة والجماعة في المسائل الخلافية أن ما كان الخلاف فيه صادرًا عن اجتهاد وكان مما يسوغ فيه الاجتهاد فإن بعضهم يعذر بعضًا بالخلاف ولا يحمل بعضهم على بعض حقدًا، ولا عداوة، ولا بغضاء بل يعتقدون أنهم إخوة حتى وإن حصل بينهم هذا الخلاف، حتى أن الواحد منهم ليصلي خلف من يرى أنه ليس على وضوء ويرى الإمام أنه على وضوء، مثل أن يصلي خلف شخص أكل لحم إبل وهذا الإمام يرى أنه لا ينقض الوضوء، والمأموم يرى أنه ينقض الوضوء فيرى أن الصلاة خلف ذلك الإمام صحيحة وإن كان هو لو صلاها بنفسه لرأى أن صلاته غير صحيحة، كل هذا لأنهم يرون أن الخلاف الناشئ عن اجتهاد فيما يسوغ فيه الاجتهاد ليس في الحقيقة بخلاف، لأن كل واحد من المختلفين قد تبع ما يجب عليه اتباعه من الدليل الذي لا يجوز له العدول عنه، فهم يرون أن أخاهم إذا خالفهم في عمل ما اتباعًا للدليل هو في الحقيقة قد وافقهم، لأنهم يدعون إلى اتباع الدليل أينما كان، فإذا خالفهم موافقة لدليل عنده فهو في الحقيقة قد وافقهم، لأنه تمشى على ما يدعون إليه ويهدون إليه من تحكيم كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
أما ما لا يسوغ فيه الخلاف فهو ما كان مخالفًا لما كان عليه الصحابة والتابعون، كمسائل العقائد التي ضل فيها من ضل من الناس، ولم يحصل فيها الخلاف إلا بعد القرون المفضلة-أي لم ينتشر(7/122)
الخلاف إلا بعد القرون المفضلة وإن كان بعض الخلاف فيها موجودًا في عهد الصحابة ولكن ليعلم أننا إذا قلنا: قرن الصحابة ليس المعنى أنه لا بد أن يموت كل الصحابة، بل القرن ما وجد فيه معظم أهله قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إن القرن يحكم بانقضائه إذا انقرض أكثر أهله".
فالقرون المفضلة انقرضت ولم يوجد فيها هذا الخلاف الذي انتشر بعدهم في العقائد، فمن خالف ما كان عليه الصحابة والتابعون فإنه عليه ولا يقبل خلافه.
أما المسائل التي وجد فيها الخلاف في عهد الصحابة وكان فيها مساغ للاجتهاد فلا بد أن يكون الخلاف فيها باقيًا قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر» فهذا هو الضابط.
فالواجب على المسلمين جميعًا أن يكونوا أمة واحدة وأن لا يحصل بينهم تفرق وتحزب بحيث يتناحرون فيما بينهم بأسنة الألسن ويتعادون ويتباغضون من أجل اختلاف يسوغ فيه الاجتهاد فإنهم(7/123)
وإن اختلفوا فيما يختلفون فيه فيما تقتضيه النصوص حسب أفهامهم فإن هذا أمر فيه سعة ولله الحمد، والمهم ائتلاف القلوب واتحاد الكلمة ولا ريب أن أعداء المسلمين يحبون من المسلمين أن يتفرقوا سواء كانوا أعداء يصرحون بالعداوة، أو أعداء يتظاهرون بالولاية للمسلمين أو للإسلام وهم ليسوا كذلك.(7/124)
الأصل الثالث.
إن من تمام الاجتماع السمع والطاعة لمن تأمر علينا ولو كان عبدًا حبشيًا، فبين الله هذا بيانًا شائعًا كافيًا بوجوه من أنواع البيان شرعًا وقدرًا، ثم صار هذا الأصل لا يعرف عند أكثر من يدعي العلم فكيف العمل به.
الشرح.
ذكر المؤلف رحمه الله تعالى: إن من تمام الاجتماع السمع والطاعة لولاة الأمر بامتثال ما أمروا به وترك ما نهوا عنه ولو كان من تأمر علينا عبدًا حبشيًا.
قوله: "فبين الله هذا بيانًا شائعًا كافيًا. . . إلخ".
أما بيانه شرعًا: ففي كتاب الله تعالى وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فمن بيانه في كتاب الله تعالى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} . الآية، وقوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} وقوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} .(7/125)
ومن بيانه في سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما ثبت في الصحيحين من حديث عبادة ابن الصامت - رضي الله عنه - قال: «بايعنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، قال: إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان» . وقال - عليه الصلاة والسلام -: «من رأى من أميره شيئًا فليصبر فإنه من فارق الجماعة شبرًا فمات فميتته جاهلية» ، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من خلع يدًا من الطاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له» ، وقال: «اسمعوا وأطيعوا وإن أمر عليكم عبد حبشي» ، وقال - عليه الصلاة والسلام -: «على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» متفق عليه. وقال عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: «كنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر فنزلنا منزلًا فنادى منادي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " الصلاة جامعة " فاجتمعنا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "إنه ما من نبي»(7/126)
«بعثه الله إلا كان حقًا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه جعلت عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها، وتجيء فتن يرقق بعضها بعضًا، تجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، وتجيء الفتنة فيقول: هذه هذه، فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه ومن بايع إمامًا فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع فإن جاءه آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر» رواه مسلم.
وأما بيانه قدرًا: فإنه لا يخفى حال الأمة الإسلامية حين كانت متمسكة بدينها، مجتمعة عليه، معظمة لولاة أمورها، منقادة لهم بالمعروف، كانت لها السيادة والظهور في الأرض كما قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} ، وقال تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} . .(7/127)
ولما أحدثت الأمة الإسلامية ما أحدثت وفرقوا دينهم، وتمردوا على أئمتهم، وخرجوا عليهم وكانوا شيعًا نزعت المهابة من قلوب أعدائهم، وتنازعوا ففشلوا وذهبت ريحهم، وتداعت عليهم الأمم وصاروا غثاء كغثاء السيل.
وصار هذا الأصل لا يعرف عند أكثر من يدعي العلم والغيرة على دين الله وترك العمل به ورأى كل فرد من أفراد الرعية نفسه أميرًا أو بمنزلة الأمير المنابذ للأمير. فالواجب علينا جميعًا - رعاة ورعية - أن نقوم بما أوجب الله علينا من التحاب والتعاون على البر والتقوى، والاجتماع على المصالح لنكون من الفائزين، وعلينا أن نجتمع على الحق ونتعاون عليه، وأن نخلص في جميع أعمالنا، وأن نسعى لهدف واحد هو إصلاح هذه الأمة إصلاحًا دينيًا ودنيويًا بقدر ما يمكن، ولن يمكن ذلك حتى تتفق كلمتنا ونترك المنازعات بيننا والمعارضات التي لا تحقق هدفًا، بل ربما تفوت مقصودًا وتعدم موجودًا.
إن الكلمة إذا تفرقت،والرعية إذا تمردت، دخلت الأهواء والضغائن وصار كل واحد يسعى لتنفيذ كلمته وإن تبين أن الحق والعدل في خلافها وخرجنا عن توجيهات الله تعالى حيث يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} .(7/128)
فإذا عرف كل واحد منا ما له وما عليه وقام به على وفق الحكمة فإن الأمور العامة والخاصة تسير على أحسن نظام وأكمله.(7/129)
الأصل الرابع.
بيان العلم والعلماء، والفقه والفقهاء، وبيان من تشبه بهم وليس منهم، وقد بين الله هذا الأصل في أول سورة البقرة من قوله: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} إلى قوله: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} ،. ويزيده وضوحًا ما صرحت به السنة في هذا الكلام الكثير البين الواضح للعامي البليد، ثم صار هذا أغرب الأشياء، وصار العلم والفقه هو البدع والضلالات، وخيار ما عندهم لبس الحق بالباطل، وصار العلم الذي فرضه الله تعالى على الخلق ومدحه لا يتفوه به إلا زنديق أو مجنون، وصار من أنكره وعاداه وصنف في التحذير منه والنهي عنه هو الفقيه العالم.
الشرح.
المراد بالعلم (1) هنا العلم الشرعي وهو: "علم ما أنزل الله على رسوله من البينات والهدى"، والعلم الذي فيه المدح والثناء هو علم الشرع علم ما أنزله الله على رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الكتاب والحكمة قال الله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} ، وقال
__________
(1) انظر في هذا الكتاب الفذ لشيخنا "كتاب العلم". وقد صدر حديثاً.(7/130)
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين» ، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر» (1) . ومن المعلوم أن الذي ورثه الأنبياء إنما هو علم الشريعة، ومع هذا فنحن لا ننكر أن يكون للعلوم الأخرى فائدة، ولكنها فائدة ذات حدين: إن أعانت على طاعة الله وعلى نصر دين الله وانتفع بها عباد الله كانت خيرًا ومصلحة، وقد ذكر بعض أهل العلم أن تعلم الصناعات فرض كفاية وهذا محل نظر ونزاع.
وعلى كل حال فالعلم الذي ورد الثناء فيه وعلى طالبيه هو فقه كتاب الله وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وما عدا ذلك فإن كان وسيلة إلى خير فهو خير، وإن كان وسيلة إلى شر فهو شر، وإن لم يكن وسيلة لهذا وهذا فهو ضياع وقت ولغو.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد جـ5 ص196، وأبو داود (3641) والترمذي (2681) وابن ماجه (223) والدارمي (338) والبغوي في " شرح السنة" جـ 1 ص 275 برقم {129} ،وابن حبان في "صحيحه" برقم 88، والهيثمي في "موارد الظمآن" جـ 1ص 177 برقم {80} ، والبخاري في " صحيحه" جـ8 ص 337، قال الحافظ في "الفتح" جـ1 ص 160 "وله شواهد يتقوى بها".(7/131)
والعلم له فضائل كثيرة:
منها: أن الله يرفع أهل العلم في الآخرة وفي الدنيا، أما في الآخرة فإن الله يرفعهم درجات بحسب ما قاموا به من الدعوة إلى الله والعمل بما عملوا، وفي الدنيا يرفعهم الله بين عباده بحسب ما قاموا به قال الله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} .
ومنها: أنه إرث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر» .
ومنها: أنه مما يبقى للإنسان بعد مماته فقد ثبت في الحديث أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» .
ومنها: أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يرغب أحدًا أن يغبط أحدًا على شيء من النعم إلا على نعمتين هما:
1 - طلب العلم والعمل به.
2 - الغني الذي جعل ماله خدمة للإسلام، فعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالًا»(7/132)
«فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها» .
ومنها: أن العلم نور يستضيء به العبد فيعرف كيف يعبد ربه وكيف يعامل غيره، فتكون مسيرته في ذلك على علم وبصيرة.
ومنها: أن العالم نور يهتدي به الناس في أمور دينهم ودنياهم، ولا يخفى على كثير من الناس «قصة الرجل من بني إسرائيل الذي قتل تسعًا وتسعين نفسًا فسأل رجلًا عابدًا هل له من توبة. فكأن العابد استعظم الأمر فقال: "لا" فقتله السائل فأتم به المائة، ثم ذهب إلى عالم فسأله فأخبره أن له توبة وأنه لا شيء يحول بينه وبين التوبة، ثم دله على بلد أهله صالحون ليخرج إليه فخرج فأتاه الموت في أثناء الطريق» ، والقصة مشهورة (1) فانظر الفرق بين العالم والجاهل.
__________
(1) نص القصة: عن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كان فيمن قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً فسأل عن أعلم أهل الأرض؛ فدل على راهب فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفساً فهل له من توبة؟ فقال: لا فقتله فكمل به مئة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على رجل عالم فقال: إنه قتل مئة نفس فهل له من توبة؟ فقال: نعم؛ ومن يحول بينه وبين التوبة؟! انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناساً يعبدون الله تعالى فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله تعالى! وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيراً قط، فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم-أي حكماً –فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد فقبضته ملائكة الرحمة" وفي روآية: الصحيح: "فكان إلى القرية الصالحة أقرب بشبر فجعل من أهلها" وفي روآية: في الصحيح: "فأوحى الله تعالى إلى هذه أن تباعدي وإلى هذه أن تقربي". وقال: "قيسوا ما بينهما، فوجدوه إلى هذه أقرب بشبر فغفر له". وفي روآية: "فنأى بصدره نحوها" أخرجه البخاري: كتاب الأنبياء: باب ما ذكر عن بني إسرائيل، ومسلم: كتاب التوبة: باب قبول توبة القاتل رقم {46-47-48} جـ4 ص 2118 ولمزيد من الفائدة راجع شرح فضيلة شيخنا على هذا الحديث في "شرح رياض الصالحين"جـ1: كتاب التوبة حديث رقم (21) ولا يزال العمل فيه جارياً.(7/133)
إذا تبين ذلك فلا بد من معرفة من هم العلماء حقًا، هم الربانيون الذين يربون الناس على شريعة ربهم حتى يتميز هؤلاء الربانيون عمن تشبه بهم وليس منهم، يتشبه بهم في المظهر والمنظر والمقال والفعال، لكنه ليس منهم في النصيحة للخلق وإرادة الحق، فخيار ما عنده أن يلبس الحق بالباطل ويصوغه بعبارات مزخرفة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا، بل هو البدع والضلالات الذي يظنه بعض الناس هو العلم والفقه وأن ما سواه لا يتفوه به إلا زنديق أو مجنون.
هذا معنى كلام المؤلف -رحمه الله- وكأنه يشير إلى أئمة أهل البدع المضلين الذين يلمزون أهل السنة بما هم بريئون منه ليصدوا الناس عن الأخذ منهم، وهذا إرث الذين طغوا من قبلهم وكذبوا الرسل كما قال الله تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} . قال الله تعالى: {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} . .(7/134)
الأصل الخامس.
بيان الله سبحانه لأولياء الله وتفريقه بينهم وبين المتشبهين بهم من أعداء الله المنافقين والفجار، ويكفي في هذا آية من سورة آل عمران وهي قوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} . الآية،وآية في سورة المائدة وهي قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} . الآية، وآية في يونس وهي قوله: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} ، ثم صار الأمر عند أكثر من يدعي العلم وأنه من هداة الخلق وحفاظ الشرع إلى أن الأولياء لا بد فيهم من ترك اتباع الرسل ومن تبعهم فليس منهم ولا بد من ترك الجهاد فمن جاهد فليس منهم، ولا بد من ترك الإيمان والتقوى فمن تعهد بالإيمان والتقوى فليس منهم يا ربنا نسألك العفو والعافية إنك سميع الدعاء.
الشرح.
1 - أولياء الله تعالى هم الذين آمنوا به واتقوه واستقاموا على دينه وهم من وصفهم الله تعالى بقوله: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} . فليس كل من يدعي الولاية(7/135)
يكون وليًا، وإلا لكان كل واحد يدعيها، ولكن يوزن هذا المدعي للولاية بعمله، إن كان عمله مبنيًا على الإيمان والتقوى فإنه ولي، وإلا فليس بولي وفي دعواه الولاية تزكية لنفسه وذلك ينافي تقوى الله عز وجل لأن الله تعالى يقول: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} . فإذا ادعى أنه من أولياء الله فقد زكى نفسه وحينئذ يكون واقعًا في معصية الله وفيما نهاه الله عنه وهذا ينافي التقوى، فأولياء الله لا يزكون أنفسهم بمثل هذه الشهادة، وإنما هم يؤمنون بالله ويتقونه، ويقومون بطاعته سبحانه وتعالى على الوجه الأكمل، ولا يغرون الناس ويخدعونهم بهذه الدعوى حتى يضلوهم عن سبيل الله تعالى. فهؤلاء الذين يدعون أنفسهم أحيانًا أسيادًا، وأحيانًا أولياء لو تأمل الإنسان ما هم عليه لوجدهم أبعد ما يكونون عن الولاية والسيادة فنصيحتي لإخواني المسلمين أن لا يغتروا بمدعي الولاية حتى يقيسوا حالهم بما جاء في النصوص في أوصاف أولياء الله.
وقد أشار الشيخ - رحمه الله تعالى - إلى علامة محبة الله وولايته بما ساقه من الآيات:
الآية الأولى: قوله تعالى في آل عمران: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} وهذه الآية تسمى آية المحنة أي الامتحان حيث ادعى قوم محبة الله تعالى فأنزل الله هذه الآية فمن(7/136)
ادعى محبة الله تعالى نظرنا في عمله فإن كان متبعًا لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهو صادق وإلا فهو كاذب.
الآية الثانية: قوله تعالى في المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} ،. الآيتين فوصفهم بأوصاف هي علامة المحبة وثمراتها:
الوصف الأول: أنهم أذلة على المؤمنين فلا يحاربونهم ولا يقفون ضدهم ولا ينابذونهم.
الوصف الثاني: أنهم أعزة على الكافرين أي أقوياء عليهم غالبون لهم.
الوصف الثالث: أنهم يجاهدون في سبيل الله أي يبذلون الجهد في قتال أعداء الله لتكون كلمة الله هي العليا.
الوصف الرابع: أنهم لا يخافون في الله لومة لائم. أي إذا لامهم أحد على ما قاموا به من دين الله لم يخافوا لومته، ولم يمنعهم ذلك من القيام بدين الله عز وجل.
الآية الثالثة: قوله تعالى في يونس: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} . فبين الله تعالى أن أولياء الله تعالى هم الذين اتصفوا بهذين الوصفين: الإيمان والتقوى فالإيمان بالقلب، والتقوى بالجوارح، فمن ادعى الولاية ولم يتصف بهذين الوصفين فهو كاذب.(7/137)
ثم إن الشيخ-رحمه الله-بين أن الأمر صار على العكس عند أكثر من يدعي العلم وأنه من هداة الخلق وحفاظ الشرع فالولي عنده من لا يتبع الرسل ولا يجاهد في سبيل الله ولا يؤمن به ولا يتقيه.
ويحسن بنا أن ننقل هنا ما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في رسالته: "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" (1) ، ونسوق ما تيسر منها:
قال - رحمه الله-: "وقد بين سبحانه وتعالى في كتابه وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن لله أولياء من الناس، وللشيطان أولياء، ففرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان فقال تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} ".
وذكر أولياء الشيطان فقال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} . فيجب أن يفرق بين هؤلاء وهؤلاء كما فرق الله ورسوله بينهما، فأولياء الله هم المؤمنون المتقون.... وهم الذين آمنوا به ووالوه، فأحبوا ما يحب، وأبغضوا ما يبغض، ورضوا بما يرضى،
__________
(1) مجموع الفتاوى جـ 1، ص 156.(7/138)
وسخطوا بما يسخط، وأمروا ما يأمر، ونهوا عما نهى، وأعطوا من يحب أن يعطى، ومنعوا من يحب أن يمنع فلا يكون وليًا لله إلا من آمن به وبما جاء به، واتبعه باطنًا وظاهرًا، ومن ادعى محبة الله وولايته وهو لم يتبعه أي الرسول فليس من أولياء الله، بل من خالفه كان من أعداء الله وأولياء الشيطان قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} فالناس متفاضلون في ولاية الله عز وجل بحسب تفاضلهم في الإيمان والتقوى، وكذلك يتفاضلون في عداوة الله بحسب تفاضلهم في الكفر والنفاق.
وأولياء الله على طبقتين: سابقون مقربون. وأصحاب يمين مقتصدون ذكرهم الله في عدة مواضع من كتابه العزيز في أول سورة الواقعة وآخرها، وفي الإنسان، والمطففين، وفي سورة فاطر. . . والجنة درجات متفاضلة تفاضلًا عظيمًا، وأولياء الله المؤمنون المتقون في تلك الدرجات بحسب إيمانهم وتقواهم.
فمن لم يتقرب إلى الله لا يفعل الحسنات ولا يترك السيئات لم يكن من أولياء الله فلا يجوز لأحد أن يعتقد أنه ولي لله لا سيما أن تكون محجته على ذلك إما مكاشفة سمعها منه، أو نوع من تصرف. . . فلا يجوز لأحد أن يستدل بمجرد ذلك على كون الشخص وليًا لله وإن لم يعلم منه ما ينقض ولاية الله، فكيف إذا علم(7/139)
منه ما يناقض ولاية الله؟ مثل أن يعلم أنه لا يعتقد وجوب إتباع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باطنًا وظاهرًا، بل يعتقد أنه يتبع الشرع الظاهر دون الحقيقة الباطنة، أو يعتقد أن لأولياء الله طريقًا إلى الله غير طريق الأنبياء عليهم السلام. . . فعلى هذا فمن أظهر الولاية وهو لا يؤدي الفرائض ولا يجتنب المحارم بل قد يأتي بما يناقض ذلك لم يكن لأحد أن يقول: هذا ولي الله. . . وليس لأولياء الله شيء يتميزون به عن الناس في الظاهر من الأمور المباحات. . وليس من شرط ولي الله أن يكون معصومًا لا يغلط ولا يخطئ، بل يجوز أن يخفى عليه بعض علم الشريعة ويجوز أن يشتبه عليه بعض أمور الدين. . .ولهذا لما كان ولي الله يجوز أن يغلط لم يجب على الناس الإيمان بجميع ما يقوله من هو ولي لله لئلا يكون نبيًا.
بل يجب أن يعرض ذلك جميعه على ما جاء به محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإن وافقه قبله، وإن خالفه لم يقبله، وإن لم يعلم أموافق هو أم مخالف؟ توقف فيه، والناس في هذا الباب ثلاثة أصناف طرفان ووسط، فمنهم من إذا اعتقد في شخص أنه ولي لله وافقه في كل ما يظن أنه حدث به قلبه عن ربه وسلم إليه جميع ما يفعله، ومنهم من إذا رآه قد قال أو فعل ما ليس بموافق للشرع أخرجه عن ولاية الله بالكلية وإن كان مجتهدًا مخطئًا. وخيار الأمور أوساطها: هو أن لا يجعل معصومًا ولا مأثومًا إذا كان مجتهدًا مخطئًا، فلا يتبع في كل ما يقوله، ولا يحكم عليه بالكفر والفسق مع اجتهاده، والواجب على الناس اتباع ما بعث الله به رسوله. . . وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها(7/140)
على أن كل واحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهذا من الفروق بين الأنبياء وغيرهم، فالأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه يجب لهم الإيمان بجميع ما يخبرون به عن الله عز وجل وتجب طاعتهم فيما يأمرون به، بخلاف الأولياء فإنهم لا تجب طاعتهم في كل ما يأمرون به، ولا الإيمان بجميع ما يخبرون به بل يعرض أمرهم وخبرهم على الكتاب والسنة فما وافق الكتاب والسنة وجب قبوله، وما خالف الكتاب والسنة كان مردودًا، وإن كان صاحبه من أولياء الله وكان مجتهدًا معذورًا فيما قاله، له أجر على اجتهاده، لكنه إذا خالف الكتاب والسنة كان مخطئًا وكان من الخطأ المغفور إذا كان صاحبه قد اتقى الله ما استطاع.
وهذا الذي ذكرته من أن أولياء الله يجب عليهم الاعتصام بالكتاب والسنة وأنه ليس فيهم معصوم يسوغ له أو لغيره اتباع ما يقع في قلبه من غير اعتبار بالكتاب والسنة هو مما اتفق عليه أولياء الله عز وجل ومن خالف في هذا فليس من أولياء الله سبحانه الذين أمر الله باتباعهم، بل إما أن يكون كافرًا، وإما أن يكون مفرطًا في الجهل. . . . وكثير من الناس يغلط في هذا الموضع فيظن في شخص أنه ولي لله، ويظن أن ولي الله يقبل منه كل ما يقوله، ويسلم إليه كل ما يقوله ويسلم إليه كل ما يفعله وإن خالف الكتاب والسنة فيوافق ذلك له، ويخالف ما بعث الله به رسوله الذي فرض الله على جميع الخلق تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، وجعله الفارق بين أوليائه وأعدائه، وبين أهل الجنة وأهل النار، وبين السعداء والأشقياء، فمن(7/141)
اتبعه كان من أولياء الله المتقين وجنده المفلحين وعباده الصالحين، ومن لم يتبعه كان من أعداء الله الخاسرين المجرمين فتجره مخالفة الرسول وموافقة ذلك الشخص أولًا إلى البدعة والضلال، وآخرًا إلى الكفر والنفاق.
وتجد كثيرًا من هؤلاء عمدتهم في اعتقاد كونه وليًا لله أنه قد صدر عنه مكاشفة في بعض الأمور، أو بعض التصرفات الخارقة للعادة ... وليس في شيء من هذه الأمور ما يدل على أن صاحبها ولي لله بل قد اتفق أولياء الله على أن الرجل لو طار في الهواء أو مشى على الماء لم يغتر به حتى ينظر متابعته لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وموافقته لأمره ونهيه.
وكرامات أولياء الله تعالى أعظم من هذه الأمور، وهذه الأمور الخارقة للعادة وإن كان صاحبها وليًا لله فقد يكون عدوًا لله فإن هذه الخوارق تكون لكثير من الكفار والمشركين وأهل الكتاب والمنافقين، وتكون لأهل البدع، وتكون من الشياطين فلا يجوز أن يظن أن كل من كان له شيء من هذه الأمور أنه ولي لله، بل يعتبر أولياء الله بصفاتهم وأفعالهم وأحوالهم التي دل عليها الكتاب والسنة ويعرفون بنور الإيمان والقرآن وبحقائق الإيمان الباطنة وشرائع الإسلام الظاهرة.
وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أولياء الله تعالى على أن الأنبياء أفضل من الأولياء الذين ليسوا بأنبياء وقد رتب الله عباده السعداء المنعم عليهم "أربع مراتب " فقال الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} .(7/142)
ولهم الكرامات التي يكرم الله بها أولياءه المتقين وخيار أولياء الله كراماتهم لحجة في الدين أو لحاجة بالمسلمين كما كانت معجزات نبيهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كذلك، وكرامات أولياء الله إنما حصلت ببركة اتباع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهي في الحقيقة تدخل في معجزات الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ومما ينبغي أن يعرف أن الكرامات قد تكون بحسب حاجة الرجل فإذا احتاج إليها لضعف الإيمان أو المحتاج أتاه منها ما يقوي إيمانه ويسد حاجته، ويكون من هو أكمل ولاية لله منه مستغنيًا عن ذلك فلا يأتيه مثل ذلك لعلو درجته وغناه عنها لا لنقص ولايته، ولهذا كانت هذه الأمور في التابعين أكثر منها في الصحابة. بخلاف من يجري على يديه الخوارق لهدى الخلق ولحاجتهم فهؤلاء أعظم درجة. . . والناس في خوارق العادات على ثلاثة أقسام:
قسم يكذب بوجود ذلك لغير الأنبياء، وربما صدق به مجملًا، وكذب ما يذكر له عن كثير من الناس لكونه عنده ليس من الأولياء.
ومنهم من يظن أن كل من كان له نوع من خرق العادة كان وليًا لله. وكلا الأمرين خطأ. . ولهذا تجد أن هؤلاء يذكرون أن للمشركين وأهل الكتاب نصراء يعينونهم على قتال المسلمين وأنهم من أولياء الله، وأولئك يكذبون أن يكون معهم من له خرق عادة(7/143)
والصواب القول الثالث وهو أن معهم من ينصرهم من جنسهم لا من أولياء الله عز وجل. وفيما نقل كفاية إن شاء الله تعالى ومن أراد المزيد فليرجع إلى الأصل والله الموفق.(7/144)
الأصل السادس.
رد الشبهة التي وضعها الشيطان في ترك القرآن والسنة واتباع الآراء والأهواء المتفرقة المختلفة، وهي أن القرآن والسنة لا يعرفهما إلا المجتهد المطلق، والمجتهد هو الموصوف بكذا وكذا أوصافًا لعلها لا توجد تامة في أبي بكر وعمر، فإن لم يكن الإنسان كذلك فليعرض عنهما فرضًا حتمًا لا شك ولا إشكال فيه، ومن طلب الهدى منهما فهو إما زنديق، وإما مجنون لأجل صعوبة فهمهما, فسبحان الله وبحمده كم بين الله سبحانه شرعًا وقدرًا، خلقًا وأمرًا في رد هذه الشبهة الملعونة من وجوه شتى بلغت إلى حد الضروريات العامة ولكن أكثر الناس لا يعلمون {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} . .
آخره والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.(7/145)
الشرح.
الاجتهاد لغة: بذل الجهد لإدراك أمر شاق.
واصطلاحًا: بذل الجهد لإدراك حكم شرعي.
والاجتهاد له شروط منها: -
1 - أن يعلم من الأدلة الشرعية ما يحتاج إليه في اجتهاده كآيات الأحكام وأحاديثها.
2 - أن يعرف ما يتعلق بصحة الحديث وضعفه كمعرفة الإسناد ورجاله وغير ذلك.
3 - أن يعرف الناسخ والمنسوخ ومواقع الإجماع حتى لا يحكم بمنسوخ أو مخالف للإجماع.
4 - أن يعرف من الأدلة ما يختلف به الحكم من تخصيص أو تقييد أو نحوه حتى لا يحكم بما يخالف ذلك.
5 - أن يعرف من اللغة وأصول الفقه ما يتعلق بدلالات الألفاظ كالعام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين ونحو ذلك ليحكم بما تقتضيه تلك الدلالات.
6 - أن يكون عنده قدرة يتمكن بها من استنباط الأحكام من أدلتها.
والاجتهاد يتجزأ فيكون في باب واحد من أبواب العلم، أو في مسألة من مسائلة، والمهم أن المجتهد يلزمه أن يبذل جهده في معرفة الحق ثم يحكم بما يظهر له فإن أصاب فله أجران: أجر على اجتهاده وأجر على(7/146)
إصابة الحق؛ لأن في إصابة الحق إظهارًا له وعملًا به، وإن أخطأ فله أجر واحد والخطأ مغفور له؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر» وإن لم يظهر له الحكم وجب عليه التوقف وجاز التقليد حينئذ للضرورة لقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} . ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:"إن التقليد بمنزلة أكل الميتة فإذا استطاع أن يستخرج الدليل بنفسه فلا يحل له التقليد" وقال ابن القيم رحمه الله في النونية:
العلم معرفة الهدى بدليله ... ما ذاك والتقليد يستويان
والتقليد يكون في موضعين:
الأول: أن يكون المقلد عاميًا لا يستطيع معرفة الحكم بنفسه ففرضه التقليد لقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} ويقلد أفضل من يجده علمًا وورعًا، فإن تساوى عنده اثنان خير بينهما.
الثاني: أن يقع للمجتهد حادثة تقتضي الفورية ولا يتمكن من النظر فيها فيجوز له التقليد حينئذ.(7/147)
والتقليد نوعان: عام وخاص.
فالعام: أن يلتزم مذهبًا معينًا يأخذ برخصه وعزائمه في جميع أمور دينه، وقد اختلف العلماء فيه:
فمنهم من حكى وجوبه لتعذر الاجتهاد في المتأخرين.
ومنهم من حكى تحريمه لما فيه من الالتزام المطلق لاتباع غير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إن في القول بوجوب طاعة غير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في كل أمره ونهيه هو خلاف الإجماع وجوازه فيه ما فيه".
والخاص: أن يأخذ بقول معين في قضية معينة فهذا جائز إذا عجز عن معرفة الحق بالاجتهاد سواء عجز عجزًا حقيقيًا، أو استطاع ذلك مع المشقة العظيمة.
وبهذا انتهت رسالة الأصول الستة فنسأل الله تعالى
أن يثيب مؤلفها أحسن الثواب وأن يجمعنا وإياه
في دار كرمته إنه جواد كريم
والحمد لله رب العالمين
وصلى الله وسلم على
نبينا محمد(7/148)
مختارات من اقتضاء الصراط المستقيم(7/149)
المقدمة.
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليمًا.
أما بعد: فهذه مختارات من كتاب " اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم " الذي ألفه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وقد ابتدأنا قراءته من ذي القعدة من عام ستة وتسعين وثلاثمائة وألف نسأل الله أن ينفعنا به وقد أشرنا فيها إلى رقم الصفحات من الطبعة الثانية مطبعة السنة المحمدية على نفقة منصور بن عبد العزيز آل سعود، وإذا كتبنا النقط. فمعناه أن في الكلام حذفًا تعمدناه لعدم الحاجة إليه، وربما نغير لفظ المؤلف اختصارًا، وإذا قلنا: قلت، فالكلام بعده من عندنا، وإذا جعلنا كلمة بين قوسين ولم تكن نص كتاب أو سنة فهي زيادة من عندنا نسأل الله تعالى أن ينفعنا والمسلمين به إنه جواد كريم.
بقلم.
محمد بن صالح العثيمين.(7/151)
قال المؤلف رحمه الله تعالى
1. وبعد فإني قد نهيت إما مبتدئًا وإما مجيبًا عن التشبه بالكفار في أعيادهم، وأخبرت ببعض ما في ذلك من الأثر القديم والدلالة الشرعية، وبينت بعض حكمة الشرع في مجانبة هدي الكفار.. ثم بلغني أن من الناس من استغرب ذلك واستبعده لمخالفة عادة قد نشئوا عليها، وتمسكوا في ذلك بعمومات وإطلاقات اعتمدوا عليها، فاقتضاني بعض الأصحاب أن أعلق في ذلك ما يكون فيه إشارة إلى أصل هذه المسألة، لكثرة فائدتها وعموم المنفعة بها، ولما قد عم كثيرًا من الناس من الابتلاء في ذلك حتى صاروا في نوع جاهلية.
2. ولم أكن أظن أن من خاض في الفقه ورأى إيماءات الشرع ومقاصده وعلل الفقهاء ومسائلهم يشك في ذلك، بل لم أكن أظن أن من وقر الإيمان في قلبه، وخلص إليه حقيقة الإسلام، وأنه دين الله الذي لا يقبل من أحد سواه إذا نبه على هذه النكتة (يعني نكتة مخالفة هدي الكفار) إلا كانت حياة قلبه وصحة إيمانه توجب استيقاظه بأسرع تنبيه، ولكن نعوذ بالله من رين القلوب وهوى النفوس اللذين يصدان عن معرفة الحق واتباعه.
5. وجماع ذلك أن كفر اليهود أصله من جهة عدم العمل بعلمهم، فهم يعلمون الحق ولا يتبعونه، وكفر النصارى من جهة عملهم بلا علم،(7/152)
فهم يجتهدون في أصناف العبادات بلا شريعة من الله، ولهذا كان السلف كسفيان بن عيينة وغيره يقولون: " من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى "، وفي (ص 6) فأخبر أنه سيكون في أمته مضاهاة لليهود والنصارى وفارس والروم، وليس هذا إخبارًا عن جميع الأمة، بل قد تواتر عنه أنه قال: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرة على الحق» .
6. وأنا أشير إلى بعض أمور أهل الكتاب والأعاجم التي ابتليت بها هذه الأمة، ليتجنب المسلم الحنيف الانحراف عن الصراط المستقيم إلى صراط المغضوب عليهم أو الضالين.
1 - الحسد: قال الله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} وقد يبتلى بعض المنتسبين إلى العلم وغيرهم بنوع من الحسد لمن هداه الله لعلم نافع أو عمل صالح وهو في هذا الموضع من أخلاق المغضوب عليهم.
7. 2 - البخل: قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} فوصفهم بالبخل الذي هو البخل بالعلم والمال، ثم ذكر آيات ثم قال: فوصف المغضوب عليهم بأنهم يكتمون العلم تارة بخلًا به، وتارة اعتياضًا عن إظهاره بالدنيا،(7/153)
وتارة خوفًا من أن يحتج عليهم بما أظهروه منه، وهذا قد ابتلي به طوائف من المنتسبين للعلم فيكتم العلم تارة بخلًا به أن ينال غيرهم من الفضل ما نالوه، وتارة اعتياضًا عنه برئاسة، أو مال فيخاف من إظهاره انتقاص رئاسته أو ماله، وتارة يخالف غيره في مسألة فيكتم من العلم ما فيه حجة لمخالفه وإن لم يتيقن أن مخالفه مبطل.
8. 3 - عدم الانقياد للحق إذا خالف متبوعه: قال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ} بعد أن قال: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} . فوصف اليهود بأنهم لما جاءهم النبي الناطق به من غير طائفة يهوونها لم ينقادوا له، فإنهم لا يقبلون الحق إلا من الطائفة التي هم منتسبون إليها مع أنهم لا يتبعون ما لزمهم في اعتقادهم، وهذا يبتلى به كثير من المنتسبين إلى طائفة معينة في العلم أو الدين من المتفقهة والمتصوفة، فإنهم لا يقبلون من الدين إلا ما جاءت به طائفتهم، مع أن دين الإسلام يوجب اتباع الحق مطلقًا رواية وفقهًا من غير تعيين شخص أو طائفة غير الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
8. 4 - تحريف الكلم عن مواضعه: قال الله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} ، وقال تعالى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}(7/154)
والتحريف قد فسر بتحريف التأويل، وقد ابتليت به طوائف من هذه الأمة، وبتحريف التنزيل، وقد وقع فيه كثير من الناس يحرفون ألفاظ الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويروون أحاديث بروايات منكرة وإن كان الجهابذة يدفعون ذلك وربما تطاول بعضهم إلى تحريف التنزيل وإن لم يمكنه ذلك كما قرأ بعضهم {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} .
9. 5 - الغلو في المخلوقين: قال الله تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ} ، ثم إن الغلو في الأنبياء والصالحين وقع فيه طوائف من ضلال المتعبدة والمتصوفة حتى خالط كثيرًا منهم ما هو أقبح من قول النصارى.
6 - طاعة المخلوقين في مخالفة أحكام الله: قال الله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} . فسره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم في ذلك، وكثير من أتباع المتعبدة يطيع بعض المعظمين عنده في كل ما يأمره به وإن تضمن تحليل حرام أو تحريم حلال.(7/155)
7 - الرهبانية: قال الله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} ، وقد ابتلي طوائف من المسلمين من الرهبانية المبتدعة بما الله به عليم.
10 - 8 - بناء المساجد على القبور: قال الله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} ، ثم إن هذا قد ابتلي به كثير من هذه الأمة مع نهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى في وقت مفارقته الدنيا (1) .
9 - التدين بالأصوات المطربة والصور الجميلة: فإن الضالين عامة دينهم يقوم بذلك فلا يهتمون في دينهم بأكثر من تلحين الأصوات ثم تجد هذه الأمة ابتليت من اتخاذ السماع المطرب بسماع القصائد والصور والأصوات الجميلة لإصلاح القلوب والأحوال ما فيه مضاهاة لبعض حال الضالين.
10 - تضليل كل طائفة للأخرى: قال الله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} ، وتجد كثيرًا من المتفقهة إذا رأى المتصوفة والمتعبدة لا يعدهم إلا جهالًا ولا يعتقد في طريقهم من العلم والهدى شيئًا، وترى كثيرًا من المتصوفة والمتفقرة لا يرى الشريعة والعلم شيئًا، وأن المتمسك بهما منقطع عن الله عز وجل، والصواب أن ما جاء به
__________
(1) ذكر ذلك في عدد من الأحاديث الصحيحة، انظر صحيح مسلم: كتاب المساجد (532) والبخاري: كتاب الصلاة: (425) .(7/156)
الكتاب والسنة من هذا وهذا حق وما خالف الكتاب والسنة من هذا وهذا باطل.
وأما مشابهة فارس والروم فقد دخل منه في هذه الأمة ما لا يخفى على عليم بالإسلام وما حدث فيه.
11 - الصراط المستقيم أمور باطنة في القلب من اعتقادات وإرادات وغير ذلك وأمور ظاهرة من أقوال وأفعال قد تكون عبادات، وقد تكون عادات في الطعام واللباس والنكاح والمسكن والاجتماع والافتراق والسفر والإقامة والركوب وغير ذلك، وبين هذه الأمور الباطنة والظاهرة ارتباط ولا بد، فإن ما يقوم بالقلب من الشعور والأحوال يوجب أمورًا ظاهرة، وما يقوم بالظاهر من الأعمال يوجب للقلب شعورًا وأحوالًا.
وقد بعث الله عبده ورسوله محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.. فكان من الحكمة أن شرع له من الأعمال والأقوال ما يباين سبيل المغضوب عليهم والضالين، وأمر بمخالفتهم في الهدى الظاهر، وإن لم يظهر لكثير من الخلق في ذلك مفسدة، لأمور منها:
أ - أن المشاركة في الهدى الظاهر تورث تناسبًا وتشاكلًا بين المتشابهين يقود إلى الموافقة في الأخلاق والأعمال.
ب - أن المخالفة في الهدى الظاهر توجب مباينة تقتضي الانقطاع عن موجبات الغضب وأسباب الضلال.. ومتى كان القلب أتم حياة وأعرف بالإسلام الذي هو الإسلام.. كان إحساسه بمفارقة اليهود(7/157)
والنصارى باطنًا وظاهرًا أتم، وبعده عن أخلاقهم الموجودة في بعض المسلمين أشد.
ج - أن مشاركتهم في الهدى الظاهر توجب الاختلاط الظاهر حتى يرتفع التمييز ظاهرًا بين المهديين المرضيين وبين المغضوب عليهم والضالين. هذا إذا لم يكن الهدى الظاهر إلا مباحًا محضًا لو تجرد عن مشابهتهم، فأما إن كان من موجبات كفرهم فإنه يكون شعبة من شعب الكفر، فموافقتهم فيه موافقة في نوع من أنواع معاصيهم.
12 - الأمر بموافقة قوم في شيء: إما أن يكون من أجل أن ذلك الشيء مصلحة في نفسه، وإما أن يكون من أجل أن قصد موافقتهم فيه مصلحة، وإن لم يكن في الشيء نفسه مصلحة.
13 - فالأول مقصود في نفسه والتعبير عنه بالموافقة من باب الدلالة والتعريف بمعنى أن موافقتهم فيه دليل على المصلحة.
والثاني مقصود لغيره فإننا نعلم انتفاعنا بنفس متابعتنا للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار في أعمال لولا أنهم فعلوها لربما لا يكون لنا فيها منفعة، لكن متابعتنا لهم فيها تورث محبتهم وائتلاف قلوبنا بقلوبهم، وتدعونا إلى موافقتهم في أمور أخرى.
وقد يكون الأمر بالموافقة من أجل الأمرين جميعًا مصلحة الشيء في نفسه، ومصلحة قصد اتباعهم فيه وهذا هو الغالب على ما أمر بالموافقة فيه.(7/158)
والأمر بمخالفة قوم في شيء له نفس التقسيم السابق فإننا قد نتضرر بموافقة الكافرين في أعمال لولا أنهم فعلوها لم يكن علينا ضرر بها.
14 -قال الله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} ، وقد دخل في (الذين لا يعلمون) كل من خالف شريعته، وأهواؤهم كل ما يهوون وما هم عليه من الهدى الظاهر الذي هو من موجبات دينهم الباطل وتوابع ذلك، ولهذا يفرح الكافرون بموافقة المسلمين لهم في بعض أمورهم، ويودون لو بذلوا مالًا عظيمًا ليحصل ذلك، ولو فرض أن الفعل ليس من اتباع أهوائهم فمخالفتهم فيه أحسم لمتابعتهم في أهوائهم وأعون على حصول مرضاة الله في تركها.
19 - المعروف: اسم جامع لكل ما يحبه الله من الإيمان والعمل الصالح.
والمنكر: اسم جامع لكل ما كرهه الله ونهى عنه.
20 - الزكاة: وإن كانت قد صارت حقيقة عرفية في الزكاة المفروضة فإنها اسم لكل نفع للخلق من نفع بدني أو مالي.
الصلاة: تعم المفروضة والتطوع، وقد يدخل فيها كل ذكر لله تعالى قلت: بناء على أنها من الصلة، وكل ذكر لله تعالى فهو صلة به قال ابن مسعود: "ما دمت تذكر الله فأنت في صلاة".(7/159)
21 - وقد قيل: إن قوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} إشارة إلى ما هو لازم لهم في الدنيا والآخرة من الآلام النفسية: غمًا وحزنًا وقسوة وظلمة قلب وجهلًا، فإن للكفر والمعاصي من الآلام العاجلة الدائمة ما الله به عليم، ولهذا تجد غالب هؤلاء لا يطيبون عيشهم إلا بما يزيل عقولهم ويلهي قلوبهم من تناول مسكر أو رؤية مله أو سماع مطرب ونحو ذلك.
25 - فساد الدين إما أن يقع بالاعتقاد الباطل والتكلم به كالبدع ونحوها، وإما أن يقع بالعمل بخلاف الاعتقاد الحق كفسق الأعمال ونحوها.
36 - والاختلاف على ما ذكره الله في القرآن قسمان:
أحدهما: يذم الطائفتين جميعًا كما في قوله تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} .
37- وهذا الاختلاف يكون سببه تارة فساد النية لما في النفوس من البغي والحسد وإرادة العلو ونحو ذلك، وتارة جهل المختلفين بحقيقة الأمر الذي يتنازعان فيه، أو الجهل بالدليل الذي يرشد به أحدهما الآخر، أو جهل أحدهما بما مع الآخر من الحق.
الاختلاف (1) في الأصل قسمان: اختلاف تنوع واختلاف تضاد، واختلاف التنوع على وجوه:
أ- أن يكون كل واحد من القولين أو الفعلين حقًا مشروعًا كاختلاف القراءات وصفة الأذان والإقامة وغيرها مما شرع جميعه،
__________
(1) يعني هذا القسم الذي يذم فيه الطرفان.(7/160)
وإن كان قد يقال: إن بعض أنواعه أفضل، ثم نجد لكثير من الأمة من الاختلاف مما أوجب اقتتال طوائف منهم وهذا عين المحرم، ومن لم يبلغ مبلغ الاقتتال فإن في قلبه من الهوى لأحد هذه الأنواع والإعراض عن الآخر أو النهي عنه ما دخل به فيما نهى عنه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
38 -ب - أن يكون كل واحد من القولين هو معنى القول الآخر لكن اختلفا في العبارة: كالاختلاف في ألفاظ المدود والتعريفات ونحوها ولكن الجهل والظلم يحمل إحدى الطائفتين على ذم الأخرى.
جـ - أن يكون كل واحد من القولين غير الآخر في المعنى لكن لا ينافيه ثم يحصل الاختلاف والنزاع الكثير.
38 -د - أن تكون طريقتان كلاهما مشروع حسن في الدين لكن سلك رجل أو قوم طريقة وسلك رجل أو قوم الطريقة الأخرى ثم يحصل الاختلاف والنزاع.
والجهل أو الظلم يحمل على ذم أحدهما أو تفضيله بلا قصد صالح أو بلا علم أو بلا نية.
39 - وهذا القسم الذي سميناه اختلاف التنوع كل واحد من المختلفين مصيب فيه بلا تردد، لكن الذم واقع على من بغى فيه على الآخر وفي (ص40) أن أكثر الاختلاف الذي يؤول إلى الاختلاف بين الأمة وإلى العداوة والبغضاء وسفك الدماء واستباحة الأموال من هذا القسم.
38 - أما اختلاف التضاد فهو أن يكون كل واحد من القولين منافيًا للآخر.. فهذا الخطب فيه أشد، فإنك تجد كثيرًا من هؤلاء المتنازعين يكون في قول منازعه حق وباطل فيرد القول كله، فيصير مبطلًا في(7/161)
بعض رده كما كان منازعه مبطلًا في بعض قوله كما رأيته لكثير من أهل السنة في مسائل القدر والصفات والصحابة، ولكثير من الفقهاء في مسائل الفقه، أما أهل البدعة فالأمر فيهم ظاهر.
39 - القسم الثاني من الاختلاف الذي ذكره في القرآن فهو ما حمدت فيه إحدى الطائفتين وهم المؤمنون وذمت الأخرى كما في قوله تعالى: {وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ} .
41 - ثم الاختلاف قد يكون في التنزيل والحروف كما في حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - (يعني السابق في الأصل (ص 35) حين «سمع رجلًا يقرأ آية سمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ بخلافها فأخذ بيده إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذكر له ذلك فعرف في وجهه الكراهية، وقال: كلاكما محسن ولا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا» .
وقد يكون الاختلاف في التأويل وفي (ص43) وأكثر ما يكون ذلك لوقوع المنازعة في الشيء قبل إحكامه وجمع حواشيه وأطرافه.
44 - فعلم أن مشابهة هذه الأمة لليهود والنصارى وفارس والروم مما ذمّه الله ورسوله، ولا يقال: فإذا كان الكتاب والسنة قد دلا على وقوع ذلك فما فائدة النهي عنه؟
(والجواب) : أن الكتاب والسنة أيضًا قد دلا على أنه لا يزال في هذه الأمة طائفة متمسكة بالحق، ففي النهي عن ذلك تكثير لهذه الطائفة وتثبيتها وزيادة إيمانها، وأيضًا لو فرض أن الناس وقعوا في هذه المشابهة لكان فائدة النهي عنها العلم بكراهة الله لها والإيمان بذلك،(7/162)
وهذا خير وإن لم يعمل به وفي (ص45) فإن الرجل قد يستغفر من الذنب مع إصراره عليه أو يأتي بحسنات تمحوه أو تمحو بعضه أو تقلل منه أو تضعف همته في طلبه إذا علم أنه منكر.
45 - ثم لو فرض أن الناس لا يتركون المنكر، ولا يعترفون بأنه منكر فليس هذا مانعًا من إبلاغ الرسالة وبيان العلم، بل لا يسقط وجوب الإبلاغ ولا وجوب الأمر والنهي في إحدى الروايتين عن أحمد، وهو قول كثير من أهل العلم، ولله الحمد على ما أخبر به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أنه لا تزال من أمته طائفة ظاهرة على الحق حتى يأتي أمر الله. وليس هذا من خصائص هذه المسألة بل هو وارد في كل منكر أخبر الصادق بوقوعه.
50-والموالاة والموادة وإن كانت متعلقة بالقلب لكن المخالفة في الظاهر أعون على مقاطعة الكافرين ومباينتهم.
ومشاركتهم في الظاهر إن لم تكن ذريعة أو سببًا قريبًا أو بعيدًا إلى نوع ما من الموالاة والموادة فليس فيها مصلحة المقاطعة والمباينة، مع أنها تدعو إلى نوع ما من المواصلة كما توجبه الطبيعة وتدل عليه العادة، ولهذا كان السلف رضي الله عنهم يستدلون بهذه الآيات على ترك الاستعانة بهم في الولايات، فروى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: قلت لعمر رضي الله عنه: إن لي كاتبًا نصرانيًا قال: مالك قاتلك الله أما سمعت الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} ، ألا اتخذت؟ قال: قلت: يا أمير المؤمنين لي كتابته وله دينه.(7/163)
قال: لا أكرمهم إذ أهانهم الله ولا أعزهم إذ أذلهم الله ولا أدنيهم إذ أقصاهم الله. (1)
51 - الفعل المأمور به إذا عبر عنه بلفظ مشتق من معنى أعم، فلا بد أن يكون ما منه الاشتقاق أمرًا مطلوبًا وذلك لوجوه:
51 -أ - أن الأمر إذا تعلق باسم مشتق من معنى كان ذلك المعنى علة الحكم كما في قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} ، فعلة القتل الشرك، لأن المشركين اسم مشتق منه.
51 -ب - أن جميع الأفعال مشتقة فإذا أمر بفعل كان نفس مصدر الفعل أمرًا مطلوبًا للآمر كما في قوله تعالى: {وَأَحْسَنُوا} ، فالإحسان أمر مطلوب للآمر.
55 -ج - أن العدول عن لفظ الفعل الخاص به إلى لفظ أعم منه في المعنى لا بد أن يكون له فائدة: كالعدول عن لفظ: فاصبغوا إلى فخالفوهم وإلا لكان مطابقة اللفظ الخاص أولى من إطلاق لفظ عام يراد به الخاص.
55 -د- أن العلم بالعام يقتضي العلم بالخاص والقصد للمعنى العام يوجب قصد المعنى الخاص فإذا علمت الأمر بمخالفة الكفار وعلمت أنهم لا يصبغون علمت الأمر بالصبغ لدخوله في المعنى العام وهو المخالفة.
__________
(1) وقد جاء الكتاب وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين بمخالفتهم وترك التشبه بهم ففي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم.(7/164)
56 - هـ - أنه رتب الحكم على الوصف بالفاء (فخالفوهم) فدل على أنه علة الحكم، يوضحه أنه لو لم يكن لقصد مخالفتهم تأثير في الصبغ لم يكن لذكرهم فائدة، ولا اكتفى بقوله اصبغوا.
وهذا وإن دل على أن مخالفتهم أمر مقصود للشرع، فإنه لا ينفي أن يكون في نفس المخالفة مصلحة مقصودة مع مصلحة مخالفتهم وذلك أن هنا شيئين:
أحدهما: أن نفس مخالفتهم مصلحة ومنفعة لعباد الله المؤمنين، لما فيها من المجانبة والمباعدة التي توجب النفور من أعمال أهل الجحيم، ولا يظهر شيء من هذه المصلحة إلا لمن تنور قلبه حتى رأى ما اتصف به المغضوب عليهم والضالون من مرض القلب الذي ضرره أشد من ضرر أمراض الابدان.
الثاني: أن نفس ما هم عليه من المنهج والخلق قد يكون ضارًا أو منقصًا فيُنهى عنه ويؤمر بضده لما فيه من النفع والكمال فليس شيء من أمورهم إلا وهو ضار أو ناقص.. ولا يتصور أن يكون شيء من أمورهم كاملًا قط.
57 - حتى ما هم عليه من إتقان أمور دنياهم قد يكون ضارًا بآخرتنا أو بما هو أهم منه من أمر دنيانا فالمخالفة فيها صلاح لنا.
57 - والكفر مرض القلب ومتى كان القلب مريضًا لم يصح شيء من الأعضاء صحة مطلقة، وإنما الصلاح أن لا تشابه مريض القلب في شيء من أموره، وإن خفي عليك مرض في ذلك العضو فإنه يكفيك أن تعلم أن فساد الأصل لا بد أن يؤثر في الفرع، ومن انتبه لهذا قد يعلم بعض الحكمة التي أنزلها الله، ومن في قلبه مرض قد يرتاب في الأمر بنفس المخالفة لعدم استبانته لفائدته.(7/165)
52 (1) - فإن قيل: الأمر بالمخالفة أمر بالحقيقة المطلقة وذلك لا عموم فيه، بل تكفي فيه المخالفة بأمر ما قلت: هذا سؤال يورده بعض المتكلمين في عامة الأفعال المأمور بها، ويلبسون به على الفقهاء وجوابه من وجهين:
أحدهما: أن المخالفة ونحوها قد يكون العموم فيها من جهة عموم الكل لأجزائه لا من جهة عموم الجنس لأنواعه، فإن العموم ثلاثة أقسام:
1 - عموم الكل لأجزائه وهو ما لا يصدق فيه الاسم العام ولا أفراده على جزئه في الأعيان والأفعال والصفات مثل: الوجه فإنه عام لأجزائه من العينين والخدين والفم والأنف ولا يصدق اسم الوجه على واحد منها، ومثل إذا قيل: أكرم زيدًا. فأطعمه، وضربه لم يكن ممتثلًا لأن الإكرام المطلق يقتضي أن لا يسوءه بشيء وإذا قيل: خالفوهم فإن المخالفة المطلقة تقتضي أن لا يوافقهم في شيء.
54 -2- عموم الجمع لأفراده وهو ما يصدق فيه أفراد الاسم العام على آحاده مثل (المسلمين) فإن فرده وهو مسلم يصدق على كل واحد من المسلمين.
3 - عموم الجنس لأنواعه وأعيانه وهو ما يصدق فيه الاسم العام على أفراده مثل قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} ، فإن الدابة والماء يصدقان على كل فرد من أفراد الدواب والماء وقد مثل له المؤلف
__________
(1) الشيخ – رحمه الله تعالى- ذكر هذه الفائدة من الصفحة نفسها والترقيم صحيح، وإنما رجع الشيخ لينقل هذه الفائدة.(7/166)
بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقتل مسلم بكافر» فإنه يعم جميع أنواع القتل والمسلم والكافر.
الوجه الثاني: العموم المعنوي وهو أن المخالفة مشتقة وإنما أمر بها لمعنى كونها مخالفة وذلك ثابت في كل فرد من أفراد المخالفة.
55- فإن قيل: هذا يدل على أن جنس المخالفة أمر مقصود للشارع وقصد الجنس قد يحصل الاكتفاء فيه بالمخالفة في بعض الأمور فما زاد على ذلك لا حاجة إليه.
قلنا: إذا ثبت أن الجنس مقصود في الجملة كان ذلك حاصلًا في كل فرد من أفراده، ولو فرض أن الوجوب سقط بالبعض لم يرفع حكم الاستحباب عن الباقي.
58- وإذا نهى عن التشبه بهم في بقاء بياض الشيب الذي ليس من فعلنا، فلأن يُنهى عن إحداث التشبه بهم أولى، ولهذا كان هذا التشبه بهم يكون محرمًا بخلاف الأول.
62- ثم المخالفة تارة تكون في أصل الحكم وتارة تكون في وصفه , فمجانبة الحائض مثلًا مخالفة في الوصف لا في الحكم.
64 - ولهذا نهى عن الصلاة إلى ما عبد من دون الله في الجملة، وإن لم يكن العابد يقصد ذلك فنهي عن السجود لله بين يدي الرجل؛ لما فيه من مشابهة السجود لغير الله.
66 - ونهى عن الصلاة إلى ما عبد من دون الله كالنار ونحوها.
67 - الحكم إذا علل بعلة ثم نسخ مع بقاء العلة، فلا بد أن يكون غيرها(7/167)
ترجح عليها وقت النسخ أو ضعف تأثيرها، أما أن تكون في نفسها باطلة فهذا محال.
70 - لكن ليس كل من قامت به شعبة من شعب الكفر يصير كافرًا الكفر المطلق حتى تقوم به حقيقة الكفر، وفرق بين الكفر المعرف باللام كما في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس بين العبد وبين الكفر أو الشرك إلا ترك الصلاة» وبين كفر منكر في الإثبات مثل: «اثنتان في الناس هما بهم بكفر» .
72 - وعن سراقة بن مالك قال: خطبنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «خيركم المدافع عن عشيرته ما لم يأثم» رواه أبو داود، وروى أيضًا عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من نصر قومه على غير الحق فهو كالبعير الذي تردى فهو ينزع بذنبه» .
72 - الانتساب إلى الاسم الشرعي أحسن من الانتساب إلى غيره ألا ترى إلى ما رواه أبو داود عن أبي عقبة وكان مولى من أهل فارس قال: «شهدت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحدًا فضربت رجلًا من المشركين فقلت: خذها مني وأنا الغلام الفارسي فالتفت إلي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: هلا قلت: خذها وأنا الغلام الأنصاري» .
76 - ولهذا كان الصحيح أن حرمة القتال في البلد الحرام باقية بخلاف الشهر الحرام.(7/168)
77 - إذا قال خلاف الحق عالمًا بالحق أو غير عالم فهو جاهل، وكذلك من عمل بخلاف الحق فهو جاهل، وإن علم أنه مخالف للحق, وسبب ذلك أن العلم الحقيقي الراسخ في القلب يمتنع أن يصدر معه ما يخالفه من قول أو فعل، فمتى صدر خلافه فلا بد من غفلة القلب عنه أو ضعفه عن مقاومة ما يعارضه.
79 - وقوله في الحديث: ومبتغ في الإسلام سنة جاهلية، يندرج فيه كل جاهلية مطلقة أو مقيدة يهودية أو نصرانية أو مجوسية أو غيرها فإن جميعها مبتدعها ومنسوخها صارت جاهلية بمبعث محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
82 - ألا ترى أن متابعة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في أعمالهم أنفع وأولى من متابعتهم في مساكنهم ورؤية آثارهم.
ذكر ما رواه أبو داود عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من تشبه بقوم فهو منهم» (1) وذكر إسناده ثم قال: وهذا إسناد جيد، وأقل أحواله يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم كما في قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} . فقد يحمل هذا على التشبه المطلق فإنه يوجب الكفر، ويقتضي تحريم أبعاض ذلك، وقد يحمل على أنه صار منهم في القدر المشترك الذي شابههم فيه، فإن كان كفرًا أو معصية أو شعارًا للكفر.
83 - والتشبه يعم من فعل الشيء لأنهم فعلوه، وهو نادر ومن تبع غيره في فعل لغرض له في ذلك إذا كان أصل الفعل مأخوذًا عن ذلك الغير،
__________
(1) الإمام أحمد جـ2 ص 50 وأبو داود: كتاب اللباس: باب في لبس الشهرة، وقد حسنه شيخ الإسلام في (اقتضاء الصراط المستقيم) والفتاوى جـ 25 ص 321.(7/169)
فأما من فعل الشيء واتفق أن الغير فعله أيضًا ولم يأخذه أحدهما عن صاحبه ففي كون هذا تشبهًا نظر، لكن قد ينهى عن هذا لئلا يكون ذريعة إلى التشبه ولما فيه من المخالفة.
84 - قال حرب الكرماني: قلت لأحمد: هذه النعال الغلاظ قال: " هذه السندية إذا كانت للوضوء أو للكنيف أو لموضع ضرورة فلا بأس " (1) وكأنه كره أن يمشى بها في الأزقة، وفي رواية المروذي: قال: وأما من أراد الزينة فلا، ورأى على باب المخرج نعلًا سنديًا فقال: تتشبه بأولاد الملوك؟
87 - وهذا دليل على ما أجمع عليه المسلمون إلا من شذ من بعض المتأخرين المخالفين المسبوقين بالإجماع من أن مواقيت الصوم والفطر والنسك إنما تكون بالرؤية عند إمكانها لا بالكتاب والحساب الذي تسلكه الأعاجم من الروم والفرس والقبط والهند وأهل الكتاب من اليهود والنصارى، وقد روى غير واحد من أهل العلم أن أهل الكتابين قبلنا إنما أمروا بالرؤية أيضًا في صومهم وعبادتهم، ولكنهم بدلوا, قلت: ويؤيده قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} ، والناس كلمة عامة وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} ، وقوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} . وقد أجمعوا على أن المراد بها الأشهر الهلالية.
__________
(1) مسائل الإمام أحمد للنيسابوري جـ 2 (ص 145-147) .(7/170)
89- فما كان من زي اليهود الذي لم يكن عليه المسلمون، إما أن يكون مما يعذبون عليه أو مظنة ذلك، أو يكون تركه حسمًا لمادة ما عذبوا عليه، لا سيما إذا لم يتميز ما هو الذي عذبوا عليه من غيره فإنه يكون قد اشتبه المحظور بغيره فيترك الجميع، كما أن ما يخبرون به لما اشتبه صدقه بكذبه ترك الجميع.
93 - وما ذكره أنس من التخفيف فهو بالنسبة إلى ما كان يفعله بعض الأمراء وغيرهم في قيام الصلاة، فإن منهم من كان يطيل زيادة على ما كان عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعله في غالب الأوقات ويخفف الركوع والسجود والاعتدال عما كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعله في غالب الأوقات، ولعل أكثر الأئمة أو كثيرًا منهم كانوا يفعلون كذلك.
94 -95 وروى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: «ما صليت خلف أحد أوجز صلاة من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في تمام. كانت صلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - متقاربة، وكانت صلاة أبي بكر - رضي الله عنه - متقاربة، فلما كان عمر - رضي الله عنه - مد في صلاة الفجر، وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قال: سمع الله لمن حمده قام حتى نقول: قد أوهم, ثم يسجد ويقعد بين السجدتين حتى نقول: قد أوهم» .. فجمع أنس في هذا الحديث الصحيح بين الإخبار بإيجاز صلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإتمامها.. فيشبه -والله- أعلم أن يكون الإيجاز عاد إلى القيام، والإتمام إلى الركوع والسجود.. فإنه بإيجاز القيام وإطالة الركوع والسجود تكون الصلاة تامة لاعتدالها وتقاربها.(7/171)
97 - ثم إن عرض حال عرف منها إيثار المأمومين للزيادة على ذلك فحسن، فإنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قرأ في المغرب بطولى الطوليين» ، وإن عرض ما يقتضي التخفيف عن ذلك فعل كما في بكاء الصبي ونحوه.
99 - ذكر أن التخفيف قد فسره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بفعله وأمره ثم قال: وليس الفعل في الصلاة من العادات كالإحراز والقبض والاصطياد وإحياء الموات حتى يرجع في حده إلى عرف اللفظ بل هو من العبادات، والعبادات يرجع في صفاتها ومقاديرها إلى الشارع كما يرجع في أصلها إلى الشارع ولو جاز الرجوع فيه إلى عرف الناس في الفعل أو في مسمى التخفيف لاختلفت الصلاة الشرعية الراتبة التي أمرنا بها في غالب الأوقات عند عدم المعارضات المقتضية للطول أو القصر اختلافًا متباينًا لا ضبط له, ولكان لكل أهل عصر ومصر بل لكل أهل حي وسكة بل لأهل كل مسجد عرف في معنى اللفظ وفي عادة الفعل مخالف لعرف الآخرين وهذا مخالف لأمر الله ورسوله، حيث قال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» .
ولم يقل: كما يسميه أهل أرضكم خفيفًا أو كما يعتادونه وما أعلم أحدًا من العلماء يقول ذلك فإنه يفضي إلى تغيير الشريعة وموت السنن إما بزيادة وإما بنقص.
102 - وعن سليمان بن يسار عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «ما صليت وراء أحد أشبه بصلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من فلان قال سليمان: كان يطيل الركعتين الأوليين من الظهر ويخفف الأخيرتين ويخفف العصر, ويقرأ في المغرب بقصار المفصل, ويقرأ في العشاء بأواسط المفصل»(7/172)
«ويقرأ في الصبح بطوال المفصل» . رواه النسائي وابن ماجه وهو إسناد على شرط مسلم.
103 - وأما ما في حديث أنس - رضي الله عنه - من قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم فإن قومًا شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم» . ففيه نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن التشدد في الدين بالزيادة عن المشروع، والتشديد تارة يكون باتخاذ ما ليس بواجب ولا مستحب بمنزلة الواجب والمستحب في العبادات، وتارة باتخاذ ما ليس بمحرم ولا مكروه بمنزلة المحرم والمكروه في الطيبات، وفيه تنبيه على أن التشديد على النفس ابتداء يكون سببًا لتشديد آخر يفعله الله، إما بالشرع وإما بالقدر فأما الشرع فمثل ما كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخافه في زمانه من زيادة إيجاب أو تحريم (يعني بسبب أسئلة من الناس أو فعل منهم) وأما القدر فكثيرًا ما رأينا وسمعنا من يتنطع في أشياء فيُبتلى بأسباب تشدد الأمور عليه مثل كثير من الموسوسين في الطهارات إذا زادوا على المشروع ابتلوا بأسباب توجب حقيقة أشياء فيها عظيم مشقة ومضرة.
105- وأما السياحة التي هي الخروج في البرية لغير قصد معين فليست من عمل هذه الأمة، ولهذا قال الإمام أحمد: " ليست السياحة من الإسلام في شيء ولا من فعل النبيين ولا الصالحين ".(7/173)
والغرض بيان ما جاءت به الحنيفية من مخالفة اليهود فيما أصابهم من القسوة عن ذكر الله وعما أنزل من الهدى الذي به حياة القلوب, ومخالفة النصارى فيما هم عليه من الرهبانية المبتدعة، وإن كان قد ابتلي بعض المنتسبين منا إلى علم أو دين بنصيب من هذا ومن هذا ففيهم شبه بهؤلاء وهؤلاء.
106 - ومن ذلك أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حذرنا عن مشابهة من كان قبلنا أنهم كانوا يفرقون في الحدود بين الأشراف والضعفاء، وإن كثيرًا من ذوي الرأي والسياسة، قد يظن أن إعفاء الرؤساء أجود في السياسة.
109 - ثم من المعلوم ما ابتلي به كثير من هذه الأمة من بناء المساجد على القبور، واتخاذ القبور مساجد بلا بناء، وكلا الأمرين محرم ملعون فاعله بالمستفيض من السنة.
111 - تحت سياق فوائد خطبة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم عرفة قال: فقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع» يدخل فيه كل ما كانوا عليه من العبادات والعادات، ولا يدخل فيه ما كانوا عليه من الجاهلية وأقره الله تعالى في الإسلام كالمناسك والدية والقسامة؛ لأن أمر الجاهلية معناه المفهوم منه ما كانوا عليه مما لا يقره الإسلام فيدخل في ذلك ما كانوا عليه وإن لم ينه في الإسلام عنه بعينه.
113 - «نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الذبح بالظفر» معللًا بأنها مُدى الحبشة، كما علل السن بأنه عظم، فذهب أهل الرأي إلى أن علة النهي كون الذبح بهما يشبه الخنق أو هو مظنته والمنخنقة محرمة وسوغوا على هذا الذبح(7/174)
بهما إذا كانا منزوعين, والجمهور منعوا من ذلك مطلقًا؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استثناهما مما أنهر الدم؛ ولأن العلة التي ذكروها مخالفة لتعليل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المنصوص عليه في الحديث.
116 - فقد تبين لك أن من أصل دروس دين الله وشرائعه وظهور الكفر والمعاصي التشبه بالكافرين، كما أن أصل كل خير المحافظة على سنن الأنبياء وشرائعهم، ولهذا عظم وقع البدع في الدين وإن لم يكن فيها تشبه بالكفار فكيف إذا جمعت الوصفين.
118 - وهذا يقتضي نهيه عن كل ما هو من أمر اليهود والنصارى هذا مع أن قرن اليهود يقال: إن أصله مأخوذ عن موسى - عليه الصلاة والسلام -، وأنه كان يضرب بالبوق في عهده، وأما ناقوس النصارى فمبتدع إذ عامة شرائع النصارى أحدثها أحبارهم ورهبانهم.
120 - وفي الصحيحين عن أبي عثمان النهدي قال: «كتب إلينا عمر بن الخطاب ونحن بأذربيجان مع عتبة بن فرقد. يا عتبة: إنه ليس من كد أبيك ولا من كد أمك فأشبع المسلمين في رحالهم مما تشبع من في رحلك، وإياك والتنعم وزي أهل الشرك ولبوس الحرير فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن لبوس الحرير، وقال: إلا هكذا ورفع لنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأصبعيه الوسطى والسبابة وضمهما» .
121 - شروط أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وغيره من الأئمة على أهل الذمة فيما شرطه أهل الذمة على أنفسهم: (أن نوقر المسلمين ونقوم لهم من مجالسنا إن أرادوا الجلوس، ولا نتشبه بهم في شيء من ملابسهم قلنسوة أو عمامة أو نعلين أو فرق شعر، ولا نتكلم بكلامهم ولا(7/175)
نكتني بكناهم ولا نركب السروج ولا نتقلد السيوف ولا نتخذ شيئًا من السلاح ولا نحمله ولا ننقش خواتيمنا بالعربية ولا نبيع الخمور وأن نجز مقادم رؤوسنا وأن نلزم زينا حيثما كان وأن نشد الزنانير على أوساطنا وأن لا نظهر الصليب على كنائسنا ولا نظهر صليبًا ولا كتبًا من كتب ديننا في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم ولا نضرب بنواقيسنا في كنائسنا إلا ضربًا خفيفًا ولا نرفع أصواتنا مع موتانا ولا نظهر النيران معهم في شيء من طرق المسلمين) (1) . رواه حرب بإسناد جيد، وفي رواية أخرى رواها الخلال زيادة: ولا نرفع أصواتنا في الصلاة ولا القراءة في كنائسنا فيما يحضره المسلمون ولا نخرج باعثًا، والبعوث أن يخرجوا مجتمعين كما نخرج يوم الأضحى والفطر، ولا شعانينا وأن لا نجاوزهم، أي: المسلمين. بالجنائز، ولا نبيع الخمور ولا نتشبه بالمسلمين في مراكبهم.
122- وهذه الشروط أشهر شيء في كتب الفقه والعلم، وهي مجمع عليها في الجملة بين العلماء من الأئمة المتبوعين وأصحابهم وسائر الأئمة وهي أصناف، فمنها ما مقصوده التميز عن المسلمين في الشعور واللباس والأسماء والمراكب ونحوها؛ ليتميز المسلم من الكافر ولا يشبه أحدهما الآخر في الظاهر، ولم يرض عمر - رضي الله عنه - والمسلمون بأصل التمييز بل بالتمييز في عامة الهدى على تفاصيل معروفة في غير هذا الموضع. وذلك يقتضي إجماع المسلمين على التميز عن الكفار ظاهرًا.
__________
(1) انظر أحكام أهل الذمة / للعلامة ابن القيم جـ 2 ص. 66.(7/176)
123 - وروى أبو الشيخ الأصفهاني في شروط أهل الذمة بإسناده أن عمر - رضي الله عنه - كتب: (أن لا تكاتبوا أهل الذمة فيجري بينكم وبينهم المودة ولا تكنوهم وأذلوهم ولا تظلموهم..) . وروى أيضًا بإسناده: دخل ناس من بني تغلب قال: " أو لستم من أواسط العرب؟ قالوا: نحن نصارى قال: علي بجلم - والجلم المقص - فأخذ من نواصيهم وألقى العمائم وشق رداء كل واحد شبرًا يحتزم به، وقال: لا تركبوا السروج واركبوا على الأكف ودلوا أرجلكم من شق واحد.
124 - ومن الشروط ما يعود بإخفاء منكرات دينهم كمنعهم من إظهار الخمر والناقوس والنيران والأعياد ونحو ذلك.
ومنها ما يعود بإخفاء شعائر دينهم كأصواتهم بكتابهم. فاتفق عمر - رضي الله عنه - والمسلمون معه وسائر العلماء بعده ومن وفقه الله من ولاة الأمور على منعهم من أن يظهروا بدار الإسلام شيئًا مما يختصون به مبالغة في أن لا يظهروا في دار الإسلام خصائص المشركين، فكيف إذا عملها المسلمون وأظهروها هم.
ومنها ما يعود بترك إكرامهم وإلزامهم الصغار الذي شرعه الله تعالى.
ومن المعلوم أن تعظيم أعيادهم ونحوها بالموافقة فيها هو نوع من إكرامهم فإنهم يفرحون بذلك ويسرون به.
124 - في قصة المرأة التي سألت أبا بكر - رضي الله عنه - قال: " ما بقاؤنا على هذا الأمر الصالح الذي جاء الله به بعد الجاهلية؟ قال: بقاؤكم عليه ما استقامت عليه أئمتكم. قالت: وما الأئمة؟ قال: أما كان لقومكم(7/177)
رؤوس وأشراف يأمرونهم فيطيعونهم؟ قالت: بلى قال: فهم أولئك على الناس " رواه البخاري في صحيحه.
125 - كل ما اتخذ من عبادة مما كان عليه أهل الجاهلية ولم يشرع الله التعبد به في الإسلام، وإن لم ينوه عنه بعينه كالمكاء والتصدية فاتخاذ هذا قربة وطاعة من عمل الجاهلية الذي لم يشرع في الإسلام بخلاف السعي بين الصفا والمروة وغيره من شعائر الحج فإن ذلك من شعائر الله، وإن كان أهل الجاهلية قد يفعلون ذلك في الجملة قلت:
وبهذا علم أن ما اتخذه الكفار عبادة ينقسم ثلاثة أقسام: أحدها: ما نوه الله بذمه أو رسوله كالمكاء والتصدية فأمره واضح. الثاني: ما ثبت كونه من شعائر الله كالسعي بين الصفا والمروة فهو من شرع الله ولا يبطله تعبد الكفار به. الثالث: ما لم يكن من القسمين فيلحق بالقسم الأول المنهي عنه لما فيه من مشابهة الكفار.
126- وروى الإمام أحمد في المسند (وذكر السند) عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال لكعب: " أين ترى أن أصلي؟ (يعني في المسجد الأقصى) قال: إن أخذت عني صليت خلف الصخرة فكانت القدس كلها بين يديك فقال عمر: ضاهيت اليهودية لا ولكن أصلي حيث صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "، فتقدم إلى القبلة فصلى.. فعمر - رضي الله عنه - عاب على كعب الأحبار مضاهاة اليهودية أي مشابهتها في مجرد استقبال الصخرة لمشابهة من يعتقدها قبلة باقية وإن كان المسلم لا يقصد أن يصلي إليها، وقد كان لعمر - رضي الله عنه - في هذا الباب من السياسات المحكمة ما هي مناسبة لسائر سيرته المرضية، فإنه - رضي(7/178)
الله عنه - هو الذي استحالت ذنوب الإسلام بيده غربًا فلم يفر عبقري فريه حتى صدر الناس بعطن، فأعز الله به الإسلام وأذل الشرك وأهله وأقام شعائر الدين الحنيف، ومنع من كل أمر فيه نزوع إلى نقض عرى الإسلام مطيعًا في ذلك لله ورسوله.. مشاورًا في أموره السابقين الأولين.. حتى أن العمدة في الشروط على أهل الكتاب على شروطه، وحتى منع من استعمال كافر أو ائتمانه على أمر الأمة وإعزازه بعد أن أذله الله.. في خصوص أعياد الكفار من النهي عن الدخول عليهم فيها وعن تعلم رطانة الأعاجم ما يتبين به ثبوت قوة شكيمته في النهي عن مشابهة الكفار والأعاجم.
129 - هل عمل الراوي بخلاف روايته يقدح في روايته؟ المشهور عن أحمد وأكثر العلماء: لا يقدح لما تحتمله المخالفة من وجوه غير ضعف الحديث.
131 - وأما ما في الحديث من النهي عن تغطية الفم فقد علله بعضهم بأنه فعل المجوس عند نيرانهم التي يعبدونها، فعلى هذا تظهر مناسبة الجمع بين النهي عن السدل وعن تغطية الفم بما في كل منهما من مشابهة الكفار، مع أن في كل منهما معنى آخر يوجب الكراهة ولا محذور في تعليل الحكم بعلتين. (1)
__________
(1) وأكثر العلماء يكرهون السدل مطلقاً، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي والمشهور عن أحمد وعنه إنما يكره فوق الإزار دون القميص توفيقاً بين الآثار في ذلك. وحملاً للنهي على لباسهم المعتاد قال صالح: سألت أبي عن السدل في الصلاة فقال: يلبس الثوب فإذا لم يطرح أحد طرفيه على الآخر فهو السدل، وهذا الذي عليه عامة العلماء.(7/179)
132 - عن إسماعيل بن عبد الرحمن بن ذؤيب قال: دخلت مع ابن عمر مسجدًا بالجحفة فنظر إلى شرفات فخرج في موضع فصلى فيه ثم قال لصاحب المسجد: إني رأيت في مسجدك هذا يعني الشرفات شبهتها بأنصاب الجاهلية فمر بها أن تكسر. (1)
133 - وعن عبيد بن أبي الجعد قال: كان أصحاب محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقولون: إن من أشراط الساعة أن تتخذ المذابح في المساجد يعني الطاقات. (2)
وما علمنا أحدًا خالف ما ذكرناه عن الصحابة من كراهة التشبه بالكفار والأعاجم في الجملة، وإن كان بعض هذه المسائل المعينة فيها خلاف وتأويل، وهذا كما أنهم مجمعون على اتباع الكتاب والسنة وإن كان قد يختلف في بعض أعيان المسائل لتأويل.
135 - مما ذكره عن مذهب مالك أنه يكره ترك العمل يوم الجمعة كفعل أهل الكتاب ويوم السبت والأحد. وذكر كراهته للقيام للرجل وأنه ليس من فعل الإسلام.
136 - وبالغ طائفة منهم - أي الشافعية - فنهوا عن التشبه بأهل البدع مما كان شعارًا لهم، وإن كان في الأصل مسنونًا كما في تسنيم القبور، فإن الأفضل تسطيحها عندهم فقالوا: ينبغي تسنيمها في هذه الأوقات
__________
(1) مصنف ابن أبي شيبة جـ 1 ص 309.
(2) مصنف عبد الرزاق جـ 2 ص 412.(7/180)
لأن شعار الرافضة اليوم تسطيحها، ففي تسطيحها تشبه بهم فيما هو شعار لهم وقالت طائفة: بل نسطحها حتى لا يكون التسطيح شعارًا للرافضة قلت: وهذه المبالغة من بعض أصحاب الشافعي فيها نظر. فالصواب: أن لا تترك السنة من أجل أن بعض أهل البدع أو أهل الكفر عملوا بها؛ لأن مصلحة العمل بها باقية وإن عمل بها هؤلاء.
137 - وكره أي الإمام أحمد تسمية الشهور بالعجمية والأشخاص بالأسماء الفارسية وعد الفقهاء من أصحابه وغيرهم من اللباس المكروه ما خالف زي العرب وأشبه زي الأعاجم وعادتهم.
138 - وإنما الغرض بيان ما اتفق عليه العلماء من كراهة التشبه بغير أهل الإسلام، وقد يتردد العلماء في بعض فروع هذه القاعدة لتعارض الأدلة فيها أو لعدم اعتقاد بعضهم اندراجه في هذه القاعدة.
139 - ومثل هذا هل يجعل قولًا له أي للإمام أحمد إذا سئل عن مسألة فحكى فيها جواب غيره ولم يردفه بموافقة ولا مخالفة؟ في ذلك لأصحابه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأنه لولا موافقته له لكان قد أجابه بغيره، لأنه إنما سأله عن قوله ولم يسأله أن يحكي له مذاهب الناس.
الثاني: لا؛ لأنه إنما حكاه فقط، ومجرد الحكاية لا يدل على الموافقة.
142 - وقريب من هذا مخالفة من لم يكمل دينه من الأعراب ونحوهم كما في صحيح البخاري عن عبد الله بن مغفل أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم المغرب، قال: والأعراب تقول: هي العشاء» ، ولمسلم عن ابن عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا»(7/181)
«يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم العشاء، فإنها في كتاب الله العشاء فإنها تعتم بحلاب الإبل» .
واعلم أن بين التشبه بالكفار والشياطين وبين التشبه بالأعراب والأعاجم فرقًا يجب اعتباره، وذلك أن نفس الكفر والشيطنة مذموم في حكم الله ورسوله وعباده المؤمنين ونفس الأعرابية والأعجمية ليست مذمومة في نفسها عند الله ورسوله وعباده المؤمنين بل الأعراب منقسمون إلى أهل جفاء وأهل إيمان وبر وكذلك العجم وهم من سوى العرب ينقسمون إلى مؤمن وكافر وبر وفاجر.
145- ذكر الأحاديث الواردة في فضل بعض الفرس وما يشهد له من الواقع، وأن في بقية العجم من الحبشة والترك وغيرهم من هو سابق في العلم والدين ثم قال: وإنما وجه النهي عن مشابهة الأعراب والأعاجم ما ذكرناه من الفضل فيهم وعدم العبرة بالنسب والمكان مبني على أصل، وذلك أن الله سبحانه جعل سُكنى القرى يقتضي من كمال الإنسان في العلم والدين ورقة القلوب، ما لا يقتضيه سُكنى البادية، كما أن البادية توجب من صلابة البدن والخلق ومتانة الكلام ما لا يكون في القرى ولذلك جعل الله الرسل من أهل القرى.
147 - والتحقيق أن سكان البوادي لهم حكم الأعراب سواء دخلوا في لفظ الأعراب أم لم يدخلوا، فهذا الأصل يوجب أن يكون جنس الحاضرة أفضل من جنس البادية، وإن كان بعض أعيان البادية(7/182)
أفضل من أكثر الحاضرة مثلًا، ويقتضي أن ما انفرد به أهل البادية عن جميع جنس الحاضرة أعني في زمن السلف من الصحابة والتابعين فهو ناقص عن فضل الحاضرة أو مكروه.
148 - والذي عليه أهل السنة والجماعة اعتقاد أن جنس العرب أفضل من جنس العجم وأن قريشًا أفضل العرب وأن بني هاشم أفضل قريش وأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفضل بني هاشم.. وليس فضل العرب ثم قريش ثم بني هاشم بمجرد كون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منهم وإن كان هذا من الفضل بل هم في أنفسهم أفضل، وبهذا ثبت لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه أفضل نفسًا ونسبًا وإلا لزم الدور.
149 - وذهبت فرقة من الناس إلى أنه لا فضل لجنس العرب على جنس العجم وهؤلاء يسمون الشعوبية لانتصارهم للشعوب التي هي مغايرة للقبائل، كما قيل: القبائل للعرب والشعوب للعجم، ومن الناس من قد يفضل بعض أنواع العجم على العرب، والغالب أن هذا الكلام لا يصدر إلا عن نوع نفاق، إما في الاعتقاد وإما في العمل المنبعث عن هوى النفس مع شبهات اقتضت ذلك.
152 - لما ذكر الأحاديث الواردة في فضل العرب قال: وقد بين - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن هذا التفضيل يوجب المحبة لبني هاشم ثم لقريش ثم للعرب.
154 - وهذا يقتضي أن إسماعيل وذريته صفوة ولد إبراهيم، فيقتضي أنهم أفضل من ولد إسحاق، ومعلوم أن ولد إسحاق الذين هم بنو إسرائيل أفضل العجم لما فيهم من النبوة والكتاب.(7/183)
155 - ذكر حديثين: أحدهما: «فمن أحب العرب فبحبي أحبهم ومن أبغض العرب فببغضي أبغضهم» (1) ، الثاني: «يا سلمان لا تبغضني فتفارق دينك قلت: يا رسول الله كيف أبغضك وبك هداني الله. قال: تبغض العرب فتبغضني»
... (2) ويشبه أن يكون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خاطب بهذا سلمان وهو سابق الفرس ذو الفضائل المأثورة تنبيهًا لغيره من سائر الفرس لما أعلمه الله تعالى من أن الشيطان قد يدعو النفوس إلى شيء من هذا.
156 - وهذا دليل على أن بغض جنس العرب ومعاداتهم كفر أو سبب للكفر.
157 - وكان أحمد - رحمه الله - على ما تدل عليه طريقته في المسند إذا رأى أن الحديث موضوع أو قريب من الموضوع لم يحدث به ولذلك ضرب على أحاديث رجال فلم يحدث بها في المسند لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من حدث عني بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين» . (3)
158 - «أحبوا العرب لثلاث؛ لأني عربي، والقرآن عربي، ولسان أهل الجنة عربي» (4) . قال السلفي: حديث حسن فما أدري أراد حسن إسناده على
__________
(1) مصنف عبد الرزاق جـ 2 ص 412.
(2) الترمذي: المناقب: رقم ((3927)) والإمام أحمد جـ 5 ص 440 والحاكم جـ 4 ص 95 وقال:" حديث صحيح الإسناد".
(3) مسلم: المقدمة: (جـ 1 ص 9) .
(4) أخرجه الحاكم في (المستدرك) جـ 4 ص 97: والهيثمي في (المجمع) جـ 10 ص 52: والشوكاني في الفوائد ص 413 والسيوطي في (اللآلىء) جـ 2 ص 442 قال الحاكم: " حديث يحيى بن زيد حديث صحيح " وتعقبه الذهبي بقوله: " بل يحيى بن زيد ضعفه أحمد وغيره " وقال الهيثمي: " فيه العلاء بن عمرو الحنفي مجمع على ضعفه ".(7/184)
طريقة المحدثين أو حسن متنه على الاصطلاح العام وأبو الفرج ابن الجوزي ذكر هذا الحديث في الموضوعات.
160 - وسبب هذا الفضل والله أعلم ما اختصوا به في عقولهم وألسنتهم وأخلاقهم وأعمالهم وذلك أن الفضل إما بالعلم النافع أو العمل الصالح، والعلم له مبدأ وهو قوة العقل الذي هو الحفظ والفهم وله تمام وهو قوة المنطق الذي هو البيان والعبارة (ثم ذكر كلامًا حاصله أن العرب في ذلك أقوى من غيرهم) ثم قال: وأما العمل فإن مبناه على الأخلاق وهي الغرائز المخلوقة في النفس وغرائزهم أطوع للخير من غيرهم.. لكن كانوا قبل الإسلام طبيعة قابلة للخير معطلة عن فعله ليس عندهم علم منزل من السماء ولا شريعة موروثة عن نبي ولا هم مشتغلون أيضًا ببعض العلوم العقلية المحضة كالطب والحساب ونحوهما، إنما علمهم ما سمحت به قرائحهم من الشعر والخطب وما حفظوه من أنسابهم وأيامهم، وما احتاجوه في دنياهم من الأنواء والنجوم أو الحروب، فلما بعث الله محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالهدى الذي ما جعل الله في الأرض ولا يجعل أعظم قدرًا منه.. فأخذوا هذا الهدى العظيم بتلك الفطرة الجيدة فاجتمع لهم الكمال بالقوة المخلوقة فيهم والكمال الذي أنزله الله إليهم.
162 - فصار السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار أفضل خلق الله بعد الأنبياء، وصار أفضل الناس بعدهم من تبعهم بإحسان إلى يوم القيامة من العرب والعجم. قلت: ظاهره أن التابعين لهم بإحسان أفضل حتى ممن صحبوا أنبياءهم من الأمم، وفي النفس من ذلك شيء فإن الظاهر أن أصحاب الأنبياء الذين أدركوهم أفضل ممن بعد(7/185)
الصحابة في هذه الأمة، وإن كان التابعون من هذه الأمة من حيث كمال الدين أفضل ممن صحبوا الأنبياء السابقين، فإن أصحاب الأنبياء قاموا بما كلفوا به من الكمال في أديانهم مع صحبة أنبيائهم. والله أعلم.
فإذا نهت الشريعة عن مشابهة الأعاجم دخل في ذلك ما كان عليه الأعاجم الكفار قديمًا وحديثًا، وما كان عليه الأعاجم المسلمون مما لم يكن عليه السابقون الأولون، كما يدخل في مسمى الجاهلية العربية ما كان عليه أهل الجاهلية قبل الإسلام وما عاد إليه كثير من العرب من الجاهلية التي كانوا عليها.
وأيضًا فإن الله لما أنزل كتابه باللسان العربي، وجعل رسوله مبلغًا عنه الكتاب والحكمة باللسان العربي، وجعل السابقين إلى هذا الدين متكلمين به لم يكن سبيل إلى ضبط الدين ومعرفته إلا بضبط هذا اللسان وصارت معرفته من الدين واعتياد التكلم به أسهل على أهل الدين في معرفة دين الله وأقرب إلى إقامة شعائر الدين وأقرب إلى مشابهتهم للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار في جميع أمورهم.
163- العادات لها تأثير عظيم فيما يحبه الله ويكرهه، ولذا جاءت الشريعة بلزوم عادات السابقين في أقوالهم وأعمالهم وكراهة الخروج عنها إلى غيرها من غير حاجة، فحاصله أن النهي عن التشبه بهم إنما كان لما يفضي إليه من فوت الفضائل التي جعلها الله للسابقين الأولين أو حصول النقائص التي كانت في غيرهم.(7/186)
164 - وإنما يتم الكلام بأمرين: أحدهما: أن الذي يجب على المسلم إذا نظر في الفضائل أو تكلم فيها أن يسلك سبيل العاقل الذي غرضه الخير ويتحراه جهده وليس غرضه أن يفتخر على أحد ولا الغمط من أحد.
165 - الثاني: أن اسم العرب والعجم قد صار فيه اشتباه واسم العرب في الأصل كان اسمًا لقوم جمعوا ثلاثة أوصاف:
1. أن لسانهم كان باللغة العربية.
2. أنهم كانوا من أولاد العرب.
3. أن مساكنهم كانت أرض العرب وهي جزيرة العرب التي هي من بحر القلزم إلى بحر البصرة ومن أقصى حجر باليمن إلى أوائل الشام بحيث كانت تدخل اليمن في دارهم ولا تدخل فيها الشام.
169 - فإن قيل: ما ذكرتموه من الأدلة (يعني القاضية بالنهي عن مشابهتهم) معارض بما يدل على خلافه، وذلك أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه لقوله تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} ، وبحديث عاشوراء الذي كان يصومه اليهود فصامه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (1) ، وبحديث ابن عباس - رضي الله عنه - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء» متفق عليه.
172 - قيل: أما المعارضة بالأول فهو مبني على مقدمتين كلتاهما منفية في مسألة التشبه بهم: إحداهما: أن يثبت بنقل موثوق به أن ذلك شرع لهم فأما مجرد الرجوع إلى قولهم أو ما في كتبهم فلا يجوز بالاتفاق.
__________
(1) البخاري: كتاب الصوم: باب صيام يوم عاشوراء: ومسلم: كتاب الصيام: (1130) .(7/187)
الثانية: أن لا يكون في شرعنا بيان خاص لذلك فإن كان فيه بيان خاص بالموافقة أو المخالفة استغني به.
173 - وأما صيام عاشوراء فقد ثبت أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصومه قبل استخبار اليهود وكانت قريش تصومه.
174 - وأما الجواب عن كونه يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء فمن وجوه:
1 - أحدها أنه منسوخ ومما يوضح ذلك أن كل ما جاء من التشبه بهم إنما كان في صدر الهجرة ثم نسخ، وسببه أن المخالفة لهم لا تكون إلا بعد ظهور الدين وعلوه كالجهاد وإلزامهم بالجزية والصغار، فلما كان المسلمون في أول الأمر ضعفاء لم يشرع لهم المخالفة، فلما كمل الدين وظهر وعلا شرع ذلك، ومثل ذلك اليوم لو أن المسلم بدار حرب أو دار كفر غير حرب لم يكن مأمورًا بالمخالفة لهم في الهدى الظاهر لما عليه في ذلك من الضرر، بل قد يستحب أو يجب للرجل أن يشاركهم أحيانًا في هديهم الظاهر إذا كان في ذلك مصلحة دينية من دعوتهم إلى الدين والاطلاع على باطن أمرهم لإخبار المسلمين بذلك أو دفع ضررهم عن المسلمين ونحو ذلك من المقاصد الصالحة.
177 -2- الوجه الثاني: لو فرضنا أن ذلك لم ينسخ فالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو الذي كان له أن يوافقهم لأنه يعلم حقهم من باطلهم بما يعلمه الله تعالى أما نحن فلا يجوز لنا أن نأخذ شيئًا من الدين عنهم.
3 - الوجه الثالث: أن نقول بموجبه: كان يعجبه موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، ثم إنه أمر بمخالفتهم وأمرنا نحن أن نتبع هديه.(7/188)
177 - والكلام إنما هو في أننا منهيون عن التشبه بهم فيما لم يكن سلف الأمة عليه أما ما كان سلف الأمة عليه فلا ريب فيه سواء فعلوه أو تركوه فإنا لا نترك ما أمر الله به من أجل أن الكفار تفعله، قلت: ومن ذلك ما يبرر به كثير من حالقي لحاهم فعلهم بأن الكفار أو كثيرا منهم الآن يعفون لحاهم فإذا أعفيناها كنا متشبهين بهم هكذا يقولون وجوابهم أن إعفاء اللحية مما أمر الله ورسوله به فلا نتركه من أجل أن الكفار يفعلونه.
177 - وقد تقدم بيان أن ما أمرنا الله به ورسوله من مخالفتهم مشروع سواء كان الفعل مما قصد فاعله التشبه بهم أم لم يقصد، وكذلك ما نهي عنه من مشابهتهم يعم ما إذا قصدت مشابهتهم أم لم تقصد فإن عامة هذه الأعمال لم يكن المسلمون يقصدون المشابهة فيها، وفيها ما لا يتصور قصد المشابهة فيه كبياض الشعر وطول الشارب.
178 - أعمالهم - يعني الكفار - ثلاثة أقسام: قسم مشروع في ديننا مع كونه مشروعا لهم أو لا نعلم أنه مشروع لكنهم يفعلونه الآن.. وقسم كان مشروعا ثم نسخه شرع القرآن. وقسم لم يكن مشروعا بحال لكنهم أحدثوه. وهذه الأقسام إما تكون في العبادات المحضة أو في العادات المحضة وهي الآداب أو تجمع العبادات والعادات، فأما القسم الأول وهو ما كان مشروعا في الشريعتين أو ما كان مشروعا لنا وهم يفعلونه: فمثل صيام عاشوراء ودفن الموتى والصلاة في النعلين فالمخالفة في هذا القسم تكون في صفة ذلك العمل.(7/189)
179- القسم الثاني: ما كان مشروعا ثم نسخ بالكلية كالسبت، ولا يخفى النهي عن موافقتهم في هذا سواء كان واجبا عليهم فيكون عبادة، أو محرما عليهم فيتعلق بالعادات، فليس للرجل أن يمتنع من أكل الشحوم وكل ذي ظفر على وجه التدين بذلك أو مركبا من العبادات والعادات كالأعياد فإن العيد المشروع يجمع عبادة وعادة، فإنه يشرع فيها وجوبا أو استحبابا من العبادات ما لا يشرع في غيرها، ويباح فيها أو يستحب أو يجب من العادات التي للنفوس فيها حظ ما لا يكون في غيرها، ولهذا وجب فطر يوم العيدين. فموافقتهم في هذا القسم المنسوخ من العبادات أو العادات أو كليهما أقبح من موافقتهم فيما هو مشروع في الأصل، ولهذا كانت موافقتهم في هذا محرمة وفي الأول قد لا تكون إلا مكروهة.
179- القسم الثالث: ما لم يكن مشروعا ولكن أحدثوه من العبادات أو العادات أو كليهما فهو أقبح وأقبح.
182 - وبإسناده يعني أبا الشيخ الأصفهاني عن عطاء بن يسار قال: قال عمر: [إياكم ورطانة الأعاجم وأن تدخلوا على المشركين يوم عيدهم في كنائسهم] .
189 - فإذا كان الذبح بمكان عيدهم منهيا عنه فكيف الموافقة في نفس العيد بفعل بعض الأعمال التي تعمل بسبب عيدهم.
العيد: اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد عائد إما بعود السنة أو بعود الأسبوع أو الشهر أو نحو ذلك.
192 - وهذا يوجب العلم اليقيني بأن إمام المتقين- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منع أمته منعا قويا من أعياد الكفار وسعى في دروسها وطموسها بكل سبيل.(7/190)
202 - قال حرب: قلت لأحمد: فإن للفرس أياما وشهورا يسمونها بأسماء لا تعرف فكره ذلك أشد الكراهة، وروي عن مجاهد أنه كره أن يقال: آذر ماه وذى ماه. قال: وسألت إسحاق قلت: تاريخ الكتاب يكتب بالشهور الفارسية مثل آذار ماه وذي ماه قال: إن لم يكن في تلك الأسامي اسم يكره فأرجو.
وكراهة أحمد لهذه الأسماء لها وجهان: أحدهما: أنه إذا لم يعرف معنى الاسم جاز أن يكون معنى محرما فلا ينطق المسلم بما لا يعرف معناه. والوجه الثاني: كراهة أن يتعود الرجل النطق بغير العربية فإن اللسان العربي شعار الإسلام وأهله واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميزون.
204 - بعد أن ذكر التفصيل في حكم ترجمة الأذكار في الصلاة وغيرها قال: وأما الخطاب بها أي بغير العربية من غير حاجة في أسماء الناس والشهور كالتواريخ ونحو ذلك فهو منهي عنه مع الجهل بالمعنى بلا ريب، وأما مع العلم به فكلام أحمد بين في كراهته أيضا فإنه كره آذار ماه ومعناه ليس محرما.
206 - وفي الجملة فالكلمة بعد الكلمة من العجمية أمرها قريب وأكثر ما يفعلون ذلك إما لكون المخاطب أعجميا أو قد اعتاد العجمية يريدون تقريب الإفهام عليه.. وأما اعتياد الخطاب بغير العربية التي هي شعار الإسلام ولغة القرآن حتى يصير ذلك عادة للمصر وأهله ولأهل الدار وللرجل مع صاحبه ولأهل السوق أو للأمراء أو لأهل الديوان أو لأهل الفقه فلا ريب أن هذا مكروه.(7/191)
210- الأنبياء ما وقتوا العبادات إلا بالهلال وإن اليهود والنصارى حرفوا الشرائع.
211- وإنما عددت أشياء من منكرات دينهم لما رأيت طوائف من المسلمين قد ابتلوا ببعضها وجهل كثير منهم أنها من دين النصارى الملعون هو وأهله.
212- كل ما عظم بالباطل من زمان أو مكان أو حجر أو شجر أو بنية يجب قصد إهانته كما تهان الأوثان المعبودة وإن كانت لولا عبادتها لكانت كسائر الأحجار.
215- وإذا كانت المشابهة في القليل ذريعة إلى هذه القبائح كانت محرمة، فكيف إذا أفضت إلى ما هو كفر بالله- تعالى- من التبرك بالصليب والتعميد في المعمودية أو قول القائل: المعبود واحد وإن كانت الطرق مختلفة ونحو ذلك من الأقوال والأفعال التي تتضمن إما كون الشريعة اليهودية والنصرانية المبدلتين المنسوختين موصلة إلى الله، وإما استحسان بعض ما فيها مما يخالف دين الله- تعالى- والتدين بذلك أو غير ذلك مما هو كفر بالله ورسوله وبالقرآن وبالإسلام بلا خلاف بين الأمة الوسط في ذلك.
216- المشابهة يعني مشابهة الكفار تفضي إلى كفر أو معصية غالبا أو تفضي إليهما في الجملة، وليس في هذا المفضي مصلحة وما أفضى إلى ذلك كان محرما.
217 - فالعبد إذا أخذ منه غير الأعمال المشروعة بعض حاجته قلت رغبته في المشروع وانتفاعه به بقدر ما اعتاض من غيره بخلاف من صرف نهمته وهمته إلى المشروع فإنه تعظم محبته له ومنفعته به ويتم به دينه(7/192)
ويكمل إسلامه، وذكر لذلك أمثلة ثم قال: ولهذا جاء في الحديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما ابتدع قوم بدعة إلا نزع الله عنهم من السنة مثلها» . رواه أحمد. ذكر وجوه تحريم مشابهة الكفار من حيث النظر والاعتبار (ص 207- 222) ونحن نذكرها مجملة:
207 - الوجه الأول: أن الأعياد من جملة الشرائع والمناهج التي قال الله- تعالى- فيها: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} فلا فرق بين مشاركتهم في العيد ومشاركتهم في سائر المناهج.
208 - الثاني: أن ما يفعلونه في أعيادهم معصية لله، لأنه إما محدث مبتدع وإما منسوخ فأحسن أحواله ولا حسن فيه أن يكون بمنزلة صلاة المسلم إلى بيت المقدس.
209 - الوجه الثالث: أنه إذا سوغ فعل القليل من ذلك أدى إلى فعل الكثير، ثم إذا اشتهر الشيء دخل فيه عوام الناس وتناسوا أصله حتى يصير عادة بل عيدا فيضاهى بعيد الله بل يزيد عليه.
216 - الوجه الرابع: أن الأعياد والمواسم في الجملة لها منفعة عظيمة في دين الخلق ودنياهم وقد شرع الله على لسان خاتم النبيين ما فيه صلاح الخلق على أتم الوجوه.. فالعبد إذا أخذ من غير الأعمال المشروعة بعض حاجته، قلت رغبته في المشروع وانتفاعه به بقدر ما اعتاض من غيره. ولهذا تجد من أكثر من سماع القصائد لطلب صلاح قلبه تنقص رغبته في سماع القرآن حتى ربما يكرهه.(7/193)
219 - الوجه الخامس: أن مشابهتهم في بعض أعيادهم توجب سرور قلوبهم بما هم عليه من الباطل.. وربما أطمعهم ذلك في انتهاز الفرص واستذلال الضعفاء.
219 - الوجه السادس: أن ما يفعلونه في أعيادهم منه ما هو كفر ومنه ما هو حرام ومنه ما هو مباح لو تجرد عن مفسدة المشابهة، والتمييز بين هذا وهذا قد يخفى على كثير من العامة.
219 - الوجه السابع: أن الله جبل بني آدم بل سائر المخلوقات على التفاعل بين الشيئين المتشابهين وكلما كانت المشابهة أكثر كان التفاعل في الأخلاق والصفات أتم حتى يؤول الأمر إلى أن لا يتميز أحدهما عن الآخر إلا بالعين فقط.. فالمشابهة والمشاكلة في الأمور الظاهرة توجب مشابهة ومشاكلة في الأمور الباطنة على وجه المساوقة والتدريج الخفي.
221 - الوجه الثامن: أن المشابهة في الظاهر تورث نوع مودة ومحبة وموالاة في الباطن، كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر والمحبة والموالاة لهم تنافي الإيمان. (1)
__________
(1) مشابهتهم فيما ليس من شرعنا قسمان: أحدهما: مع العلم بأن هذا العمل من خصائص دينهم فيفعله موافقة لهم أو لشهوة تتعلق بذلك العمل أو لتخيل منفعة فيه ولا شك في تحريم ذلك كله وقد يبلغ أن يكون كبيرة أو كفراً حسب الأدلة الشرعية. الثاني: أن يفعله من غير علم أنه من عملهم وهو نوعان: أحدهما: ما كان في الأصل مأخوذاً عنهم إما على الوجه الذي يفعلونه وإما مع نوع تغيير في الفعل أو زمانه أو مكانه فيعرف الفاعل بأصله فإن انتهى وإلا كان من القسم الأول.. النوع الثاني: ما كان غير مأخوذ عنهم لكنهم يفعلونه فهذا ليس فيه محذور المشابهة لكن قد تفوت فيه منفعة المخالفة، قلت: ولا يرد على ذلك إعفاء اللحية لأنه من شرعنا.(7/194)
223 - ليس النهي عن خصوص أعيادهم بل كل ما يعظمون من الزمان والمكان الذي لا أصل له في الإسلام داخل في ذلك.
227 - وكما لا يتشبه بهم في الأعياد فلا يعان المسلم المتشبه بهم في ذلك بل يُنهى عن ذلك التشبه.. ومن أهدى للمسلمين هدية في هذه الأعياد مخالفة للعادة في سائر الأوقات غير هذا العيد لم تقبل هديته خصوصا إن كانت الهدية مما يستعان به على التشبه بهم في مثل إهداء الشمع ونحوه في الميلاد.. وكذلك لا يُهدى لأحد من المسلمين في هذه الأعياد هدية لأجل العيد لا سيما إذا كان مما يستعان بها على التشبه بهم.
ولا يبيع المسلم ما يستعين به المسلم على مشابهتهم في العيد من الطعام وغيره لأن في ذلك إعانة على المنكرات.
فأما مبايعتهم ما يستعينون على عيدهم أو شهود أعيادهم للشراء فيها فكلام أحمد في الشراء منهم من غير دخول كنائسهم يدل على الجواز، أما في البيع فمحتمل هذا خلاصة ما نقله الشيخ عنه ثم قال: وقد كان المسلمون يشهدون أسواقا في الجاهلية وشهد بعضها النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.. ثم إن الرجل لو سافر إلى دار الحرب ليشتري منها جاز كما دل عليه حديث تجارة أبي بكر رضي الله عنه في حياة النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى الشام.. وأما حمل التجارة إلى أرض الحرب ففيه روايتان منصوصتان وأكثر نصوصه تقتضي المنع لكن هل هو منع تنزيه أو تحريم.(7/195)
232 - وعن أبي الحارث أن أبا عبد الله سئل عن الرجل يبيع داره وقد جاء نصراني فأرغبه وزاد في ثمن الدار ترى له أن يبيع داره منه وهو نصراني أو يهودي أو مجوسي قال: لا أرى له ذلك يبيع داره من كافر يكفر فيها بالله يبيعها من مسلم أحب إلي فهذا نص على المنع.
236- لما ذكر اختلاف الأصحاب في الإجارة للذمي ووجه الفرق بينها وبين البيع عند من فرق بينهما وهل منع البيع والإجارة من باب التحريم أو الكراهة قال: وهذا الخلاف عندنا والتردد في الكراهة هو فيما إذا لم يعقد الإجارة على المنفعة المحرمة فأما إن أجره إياها لبيع الخمر واتخاذها كنيسة أو بيعة لم يجز قولا واحدا.
237- معاصي الذمي قسمان: أحدهما: ما اقتضى عقد الذمة إقراره عليها الثاني: ما اقتضى منعه منها أو من إظهارها وهذا لا ريب أنه لا يجوز على أصلنا أن يؤاجر أو يبايع الذمي عليه إذا غلب على الظن أنه يفعل ذلك. وأما الأول فعلى ما قاله أبو موسى يكره ثم علله وقال: وعلى ما قاله القاضي لا يجوز ثم ذكر علته.
244 - ذكر في هذه الصفحة وما بعدها كلاما يفيد أن من استؤجر لحمل خمر ونحوها أنه يحرم عليه ذلك ويقضى له بالأجرة ثم تحرم عليه الأجرة لحق الله- تعالى- لا لحق المستأجر، فالأجرة صحيحة بالنسبة للمستأجر بمعنى أنه يجب عليه الأجرة، فاسدة بالنسبة إلى الأجير بمعنى أنه يحرم عليه الانتفاع بالأجرة قال: ولهذا في الشريعة نظائر.
247 - البغي والمغني والنائحة ونحوهم إذا تابوا هل يتصدقون بما أعطوا من أجرة أو يردونها على من أعطاهم على قولين: أصحهما يتصدقون بها وتصرف في مصالح المسلمين.(7/196)
249 - بيع الكفار ما يقيمون به أعيادهم كبيع العقار للسكنى حرام وبيع ما يفعلون به نفس المحرم كالصليب لا ريب في تحريمه كبيعهم العصير ليتخذوه خمرا وبناء الكنيسة لهم وبيع ما ينتفعون به في أعيادهم للأكل والشرب واللباس فأصول أحمد تقتضي كراهته والأشبه أنها كراهة تحريم ثم علل ذلك.
259 - عبادة الله- تعالى- بالصلاة والنسك له أعظم من الاستعانة باسمه في فواتح الأمور لو ذبح لغير الله متقربا به إليه لحرم، وإن قال فيه: باسم الله كما يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة ممن يتقربون إلى الأولياء، وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبيحتهم بحال لكن يجتمع في الذبيحة مانعان ومن هذا ما يفعله بعض الجهال من الذبح للجن.
262 - فأما صوم أعياد الكفار مفردة بالصوم فقد اختلف في ذلك من أجل أن المخالفة تحصل بالصوم أو بترك تخصيصه بعمل.
ثم ذكر حديث «النهي عن صوم يوم السبت» (1) إلا فيما افترض وقال: لا يقال: يحمل النهي على إفراده يعني من أجل الاستثناء قال:وعلى هذا فالحديث إما شاذ غير محفوظ وإما منسوخ وفي (ص 264) قال أبو داود: قال مالك: "هذا كذب وأكثر أهل العلم على عدم الكراهة".
265 - اختلف القائلون بكراهة إفراد صوم السبت فقيل: إنه يوم عيد لأهل الكتاب فقصده بالصوم دون غيره تعظيم له، وهذا التعليل قد
__________
(1) الترمذي: كتاب الصوم: باب ما جاء في صوم يوم السبت: وابن ماجه كتاب الصيام / باب ما جاء في صيام السبت: وأبو داود: كتاب الصوم: والحاكم جـ 21 ص 601 وقال: " حديث صحيح على شرط البخاري " قال الذهبي " عارضه خبر قتادة ".(7/197)
يعارض بيوم الأحد وقد يقال: إذا كان يوم عيد فمخالفتهم فيه بالصوم، ثم استدل له.
267 - ومن المنكرات في هذا الباب سائر الأعياد والمواسم المبتدعة فإنها من المنكرات المكروهات سواء بلغت الكراهة التحريم أو لم تبلغه فأعياد أهل الكتاب والأعاجم نهي عنها لسببين: المشابهة وكونها من البدع. فما أحدث من المواسم والأعياد فهو منكر وإن لم يكن فيه مشابهة لأهل الكتاب لوجهين:
أحدهما: أنه داخل في مسمى البدع والمحدثات (1) ثم ذكر الأحاديث المحذرة من ذلك ودلالة الكتاب والسنة والإجماع على هذه القاعدة وقال:
268 - من ندب إلى شيء يتقرب به إلى الله أو أوجبه بقوله أو فعله من غير أن يشرعه الله فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله ومن تبعه في ذلك فقد اتخذه شريكا لله شرع له من الدين ما لم يأذن به الله.
نعم قد يكون متأولا في هذا الشرع فيغفر له إذا كان مجتهدا الاجتهاد الذي يعفى فيه عن المخطئ ويثاب أيضا على اجتهاده لكن لا يجوز اتباعه في ذلك.
268 - ويلحق الذم من يُبَين له الحق فيتركه أو من قصر في طلبه فلم يتبين له أو أعرض عن طلب معرفته لهوى أو كسل أو نحو ذلك.
269 - فالأصل في العبادات أن لا يشرع منها إلا ما شرعه الله. وفي العادات أن لا يحظر منها إلا ما حظره الله.
وهذه القاعدة وهي الاستدلال بكون الشيء بدعة على كراهته قاعدة عظيمة.
__________
(1) ذكر الوجه الثاني (ص 282) .(7/198)
270 - ومن الناس من يقول: البدع تنقسم إلى قسمين حسنة وقبيحة بدليل قول عمر في التراويح: " نعمت البدعة" (1) وبدليل أشياء من الأقوال والأفعال أحدثت بعد رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وليست مكروهة أو هي حسنة للأدلة الدالة على ذلك من الإجماع أو القياس وهؤلاء يقولون: ليس كل بدعة ضلالة ثم لهم هاهنا مقامان: أحدهما: أن يقولوا: إذا ثبت أن بعض البدع حسن وبعضها قبيح فالقبيح ما نهى عنه الشارع وما سكت عنه فليس بقبيح بل قد يكون حسنا. المقام الثاني: أن يقولوا عن بدعة سيئة هذه بدعة حسنة: لأن فيها من المصلحة كيت وكيت.
والجواب عن المقام الأول: أن القول بأن كل بدعة ضلالة هو نص رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلا يحل لأحد أن يدفع دلالته على ذم البدع ومن نازع في دلالته فهو مراغم.
ويقال: ما ثبت حسنه فليس من البدع أو مخصوص من هذا العموم.
والمخصص هو الكتاب والسنة والإجماع نصا أو استنباطا وأما عادة بعض البلاد أو قول كثير من العلماء فلا يصلح أن يكون معارضا لقول الرسول- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى يخصص به.. لكن لكثرة الجهالة قد يستند إلى مثلها خلق كثير من الناس حتى من المنتسبين إلى العلم والدين.
272- وأيضا لا يجوز حمل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كل بدعة ضلالة» ، على البدعة التي نهي عنها بخصوصها لأن هذا تعطيل لفائدة الحديث فإن ما نهي عنه قد علم بذلك النهي أنه قبيح محرم سواء كان بدعة أم لا وحمل
__________
(1) البخاري: كتاب صلاة التراويح: باب فضل من قام رمضان.(7/199)
الحديث على هذا من نوع التحريف والإلحاد وفيه من المفاسد أشياء:
· أحدها: سقوط الاعتماد على هذا الحديث.
· الثاني: أن لفظ البدعة ومعناها يكون اسما عديم التأثير.
· الثالث: أنه إذا لم يقصد بهذا الخطاب إلا المنهي عنه كان كتمانا لما يجب بيانه وبيانا لما لم يُقصد ظاهره وتلبيسا محضا لا يسوغ للمتكلم إلا أن يكون مدلسا.
· الرابع: أنه لو أريد به ما فيه نهي خاص لكان النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أحالهم في معرفة المراد به على ما لا يكاد يحيط به أحد ولا يحيط بأكثره إلا خواص الأمة وهذا لا يجوز بحال.
· الخامس: أنه لو أريد به ما فيه نهي خاص من البدع لكان أقل مما فيه نهي خاص واللفظ العام لا يجوز أن يراد به الصور القليلة أو النادرة.
274 - وأما المقام الثاني فيقال: هب أن البدع تنقسم إلى حسن وقبيح فهذا لا يمنع أن يكون الحديث دالا على قبح الجميع وأكثر ما يقال: إذا ثبت أن هذا حسن فهو مستثنى من العموم لدليل كذا وكذا أو يقال: إن ثبت أنه حسن فليس ببدعة فأما ما يظن أنه حسن ولم يثبت حسنه أو ما يجوز أن يكون حسنا وأن يكون غير حسن فلا يعارض به الحديث.
275 - فأما صلاة التراويح فليست بدعة لأن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صلاها في الجماعة في أول رمضان ليلتين أو ثلاثا وصلاها في العشر الأواخر في جماعة مرات.(7/200)
276 - وتسمية عمر لها بدعة تسمية لغوية لأن البدعة لغة تعم كل ما فعل ابتداء من غير مثال سابق. والبدعة الشرعية: (كل ما لم يدل عليه دليل شرعي) . فإذا كان نص رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد دل على استحباب فعل أو إيجابه بعد موته أو دل عليه مطلقا ولم يعمل به إلا بعد موته صح أن يسمى بدعة في اللغة لأنه عمل مبتدأ فلفظ البدعة في اللغة أعم من لفظ البدعة في الشريعة.
277 - 278- ذكر أمثلة من البدع كجمع القرآن ونفي عمر ليهود خيبر ونصارى نجران ورد العطاء من أولي الأمر وقتال أبي بكر لمانعي الزكاة.
278 - والضابط في هذا والله أعلم أن يقال: إن الناس لا يحدثون شيئا إلا يرونه مصلحة فما رأوه مصلحة فلينظر إلى السبب المحوج إليه فإن كان أمرا حدث بعد النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وليس لتفريط منا فقد يجوز إحداث ما تدعو الحاجة إليه. ولذلك إن كان المقتضي لفعله في عهد النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قائما لكن تركه لمعارض زال بموته أي فإنه يجوز فعله مثل كتابة القرآن وقيام رمضان جماعة فأما ما كان المقتضي لفعله موجودا ولا معارض له في عهد النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فإنه لا يجوز إحداثه مثل الأذان لصلاة العيدين. وكذلك ما أحدث بتفريط من الناس كتقديم الخطبة على الصلاة في العيدين فإنه لما فعله بعض الأمراء أنكره المسلمون فاعتذر من أحدثه بأن الناس ينفضون قبل سماع الخطبة بخلافهم في عهد النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يخطبهم لتبليغهم وهدايتهم ونفعهم وأنت تقصد إقامة رئاستك فهذه المعصية منك لا تبيح لك إحداث معصية أخرى بل الطريق إلى ذلك أن تتوب إلى الله- تعالى- وتتبع سنة نبيه،(7/201)
فيستقيم الأمر وإن لم يستقم فلا يسألك الله- تعالى- إلا عن عملك لا عن عملهم.
281 - بين ما يحصل للأمراء والعلماء والعباد بإقامة الشرع واتباع السنة.
282 - الوجه الثاني في ذم المواسم والأعياد المحدثة ما تشتمل عليه من الفساد في الدين فمن ذلك:
1 - أن من أحدث عملا خص به زمانا أو مكانا فلا بد أن يصحب ذلك اعتقاد وهذا الاعتقاد إذا لم يكن له أصل يثبت به كان مفسدة، ثم استدل لذلك بنهي النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «عن تخصيص ليلة الجمعة بالقيام ويومها بالصيام» (1) ثم قال: ومعلوم أن مفسدة هذا العمل بالتخصيص وإلا لنهى عنه مطلقا أو لم ينه عنه كيوم عرفة فظهر أن المفسدة تحصل من تخصيص ما لا خصيصة له.
288 - العمل المبتدع مستلزم إما لاعتقاد هو ضلال في الدين وإما لعمل دين لغير الله- تعالى- والتدين بالاعتقادات الفاسدة أو لغير الله لا يجوز.
289 - ثم هذا الاعتقاد يتبعه أحوال في القلب من التعظيم والإجلال وتلك الأحوال أيضا باطلة ليست من دين الله تعالى.
فعلمت أن فعل هذه البدع تناقض الاعتقادات الواجبة وتنازع الرسل فيما جاؤوا به عن الله- تعالى- وتورث القلب نفاقا، وإن كان خفيفا. فمن تدبر هذا علم يقينا ما في حشو البدع من السموم المضعفة للإيمان.
__________
(1) مسلم: كتاب الصيام: باب كراهة صيام الجمعة منفرداً.(7/202)
290 - فإن قيل: هذا يعارضه أن هذه المواسم فعلها قوم من أولي العلم والفضل وفيها فوائد يجدها المؤمن في قلبه وغير قلبه من رقة القلب وإجابة الدعاء ونحوه، قلنا: لا ريب أن من فعلها متأولا مجتهدا ومقلدا كان له أجر على حسن قصده وعلى عمله من حيث ما فيه من المشروع، وكان ما فيه من البدعة مغفورا له، إذا كان في اجتهاده أو تقليده من المعذورين لكن هذا لا يمنع كراهتها والنهي عنها والاعتياض عنها بالمشروع الذي لا بدعة فيه.
291 - ثم يقال: إذا فعلها قوم فقد تركها قوم معتقدين كراهتها وأنكرها آخرون وهم ليسوا دون الفاعلين في الفضل ومعهم عامة المتقدمين الذين هم أفضل من المتأخرين. وما فيها من المنفعة يعارضه مفاسد البدعة الراجحة على منفعتها فمنها:
1 - المفسدة الحالية أو الاعتقادية.
2 - أن القلوب تستعذبها وتستغني بها عن كثير من السنن.
3 - أن الخاصة والعامة تنقص بسببها عنايتهم بالسنن والفرائض وتفتر رغبتهم فيها.
4 - أن المعروف يصير منكرا والمنكر معروفا.
5 - اشتمالها على كثير من المكروهات في الشريعة.
6 - مسارقة الطبع إلى الانحلال من ربقة الاتباع.
292 - العيد يكون اسما للمكان والزمان والاجتماع: أما الزمان فثلاثة أنواع:
أحدها: يوم لم تعظمه الشريعة أصلا ولم يكن له ذكر في وقت السلف ولا جرى فيه ما يوجب تعظيمه مثل أول خميس من رجب(7/203)
وليلة تلك الجمعة التي تسمى الرغائب، فإن تعظيم هذا اليوم والليلة إنما حدث بعد المائة الرابعة وفيه حديث موضوع باتفاق العلماء.
293- النوع الثاني: ما جرى فيه حادثة ولم توجب أن يكون موسما ولم يعظمه السلف كثامن عشر ذي الحجة الذي " خطب فيه النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في غدير خم مرجعه من حجة الوداع أوصى فيها باتباع كتاب الله وبأهل بيته " (1) .. فزاد فيه بعض أهل الأهواء وزعموا أن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عهد إلى علي بالخلافة بالنص الجلي.. وأن الصحابة تمالؤوا على كتمان هذا النص وغصبوا الوصي حقه وفسقوا وكفروا إلا نفرا قليلا فاتخاذ ذلك اليوم عيدا محدث لا أصل له.
294 - وكذلك ما يحدثه بعض الناس إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى، وإما محبة للنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتعظيما له من اتخاذ مولد النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عيدا مع اختلاف الناس في مولده فإن هذا لم يفعله السلف مع قيام المقتضي له وعدم المانع ولو كان خيرا محضا أو راجحا لكان السلف أحق به منا فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتعظيما له منا، وهم على الخير أحرص وإنما كمال محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته واتباع أمره وإحياء سنته باطنا وظاهرا ونشر ما بعث به والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان.
296 - عليك بأدبين: أحدهما: حرصك على اتباع السنة باطنا وظاهرا في خاصتك وخاصة من يطيعك. الثاني: أن تدعو الناس إلى السنة بحسب الإمكان.
__________
(1) مسلم: كتاب فضائل الصحابة (2408) .(7/204)
298 - فتفطن لحقيقة الدين وانظر ما اشتملت عليه الأفعال من المصالح الشرعية والمفاسد.. بحيث تقدم عند التزاحم أعرف المعروفين فتعزو إليه وتنكر أنكر المنكرين وترجح أقوى الدليلين فإن هذا خاصة العلماء بهذا الدين.
299 - فالمؤمن يعرف المعروف وينكر المنكر ولا يمنعه من ذلك موافقة بعض المنافقين له ظاهرا في الأمر بذلك المعروف والنهي عن ذلك المنكر ولا مخالفة بعض علماء المؤمنين.
· النوع الثالث: ما هو معظم في الشريعة كيوم عاشوراء فهذا قد يحدث فيه ما يعتقد أن له فضيلة كما أحدث بعض أهل الأهواء فيه التعطش والتحزن والتجمع.. وأحدث بعض الناس فيه أشياء مستندة إلى أحاديث موضوعة لا أصل لها مثل فضل الاغتسال فيه.. وقد روي في التوسع به على العيال آثار معروفة.. والأشبه أن هذا وضع لما ظهرت العصبية بين الناصبة والرافضة فإن هؤلاء أعدو يوم عاشوراء مأتما فوضع أولئك آثارا تقتضي التوسع فيه وكلاهما باطل.
301 - وهؤلاء فيهم بدع وضلال وأولئك فيهم بدع وضلال وإن كانت الشيعة أكثر كذبا وأسوأ حالا.
302 - ومن هذا الباب ليلة النصف من شعبان روي في فضلها أحاديث ومن السلف من يخصها بالقيام ومن العلماء من السلف وغيرهم من أنكر فضلها وطعن في الأحاديث الواردة فيها، لكن الذي عليه كثير من أهل العلم أو أكثرهم على تفضيلها. فأما صوم يوم النصف مفردا فلا أصل له، بل إفراده مكروه وكذلك اتخاذه موسما تصنع فيه(7/205)
الأطعمة. وما أحدث ليلة النصف من الاجتماع للصلاة الألفية فإن هذا الاجتماع مكروه لم يشرع.
308 - فأما الحديث المرفوع في هذه الصلاة الألفية فكذب موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث. وقد يحدث في اليوم الفاضل مع العيد العملي المحدث العيد المكاني مثل قصد قبر من يحسن الظن به يوم عرفة للاجتماع عند قبره والسفر إلى بيت المقدس للتعريف فيه.. فأما قصد الرجل مسجد بلده للدعاء والذكر فهذا هو التعريف في الأمصار الذي اختلف فيه العلماء وذكر خلافهم وتعليلهم.
312 - وأما ما أحدث في الأعياد من ضرب البوقات والطبول فإن هذا مكروه في العيد وغيره ... فينبغي إقامة المواسم على ما كان السابقون الأولون يقيمونها من الصلاة والخطبة المشروعة والتكبير والصدقة في الفطر والذبح في الأضحى فإن من الناس من يقصر في التكبير المشروع ومن الأئمة من يترك أن يخطب للرجال ثم النساء.. ومنهم من لا ينحر بعد الصلاة بالمصلى وهو ترك للسنة إلى أمور أخر من غير السنة فإن الدين فعل المعروف والأمر به وترك المنكر والنهي عنه.
312- والأعياد المكانية تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
أحدها: ما لا خصوص له في الشريعة فلا فضل له ولا فيه ما يوجب تفضيله فقصده أو قصد الاجتماع به لصلاة أو غيرها ضلال بين ثم إن كان فيه بعض آثار الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم كان أقبح وأقبح.(7/206)
314 - فمن قصد بقعة يرجو الخير بقصدها ولم تستحب الشريعة ذلك فهو من المنكرات وبعضه أشد من بعض سواء أكانت البقعة شجرة أو غيرها أو قناة جارية أو جبلا أو مغارة وقد ذكر من (ص 316- 319) أمثلة كثيرة ثم قال:
320 - وأما إجابة الدعاء (يعني لمن دعا عند هذه المشاهد) فقد يكون سببه اضطرار الداعي وصدق التجائه أو مجرد رحمة الله- تعالى- له أو يكون أمرا قضاه الله- تعالى- لا لأجل دعائه أو يكون لأسباب أخرى وإن كانت فتنة في حق الداعي.
321 - النوع الثاني: ماله خصيصة لكن لا تقتضي اتخاذه عيدا ولا صلاة ونحوها من العبادات عنده مثل قبور الأنبياء والصالحين فقد نهي عن اتخاذها عيدا.
325 - قبر المسلم له من الحرمة ما جاءت به السنة إذ هو بيت المسلم الميت فلا يترك عليه شيء من النجاسات بالاتفاق ولا يوطأ ولا يداس ولا يتكأ عليه ولا يجاور بما يؤذي الأموات من الأقوال والأفعال الخبيثة، ويستحب عند إتيانه السلام على صاحبه والدعاء له، وكلما كان الميت أفضل كان حقه آكد.
328 - وهذا النهي (يعني النهي عن شد الرحال لغير المساجد الثلاثة) يعم السفر إلى المساجد والمشاهد وكل مكان يقصد السفر إلى عينه للتقرب والعبادة.
336 - ليس على المؤمن ولا له أن يطالب الرسل بتبيين وجوه المفاسد وإنما عليه طاعتهم.(7/207)
347 - كانت طريقة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أن يأمروا الخلق بما فيه صلاحهم وينهوهم عما فيه فسادهم ولا يشغلوهم بالكلام في أسباب الكائنات كما تفعل المتفلسفة فإن ذلك كثير التعب قليل الفائدة أو موجب للضرر.
348 - على أن الكلام في بيان تأثير بعض هذه الأسباب قد يكون فيه فتنة لمن ضعف عقله ودينه بحيث يختلط عقله فيتوله إذا لم يرزق من العلم والإيمان ما يوجب له الهدى واليقين.
352 - وإنما يثبت استحباب الأفعال واتخاذها دينا بكتاب الله- تعالى- وسنة رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وما كان عليه السابقون الأولون.
353 - الكرامة في الحقيقة ما نفعت في الآخرة أو نفعت في الدنيا ولم تضر في الآخرة.
365 - قال مالك في المبسوط: لا أرى أن يقف عند قبر النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولكن يسلم ويمضي، لا يستحب للداعي أن يستقبل إلا ما يستحب أن يصلي إليه.. ومن الناس من يتحرى وقت دعائه استقبال الجهة التي يكون فيها معظمه الصالح سواء أكانت في الشرق أو غيره وهذا ضلال بين وشرك واضح.
366 - كره مالك وغيره من أهل العلم لأهل المدينة كلما دخل أحدهم المسجد أن يجيء ويسلم على قبر النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وصاحبيه قال: وإنما يكون ذلك لأحدهم إذا قدم من سفر أو أراد سفرا ونحو ذلك. ورخص بعضهم في السلام عليه إذا دخل المسجد للصلاة ونحوها فأما قصده دائما للصلاة والسلام فما علمت أحدا رخص فيه لأن ذلك نوع من اتخاذه عيدا.. وأيضا فإن ذلك بدعة فقد كان(7/208)
المهاجرون والأنصار على عهد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم يجيئون إلى المسجد كل يوم خمس مرات يصلون ولا يأتون إلى القبر يسلمون عليه لعلمهم بما كان النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يكرهه من ذلك وبما نهاهم عنه وأنه يسلمون عليه عند دخول المسجد والخروج منه وفي التشهد.
367 - كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم ونقص إيمانهم عوضوا عن ذلك بما أحدثوه من البدع والشرك وغيره.
370 - المنقول عن السلف كراهة الوقوف عند القبر للدعاء وهو أصح.
376 - اعتياد قصد المكان المعين في وقت معين عائد بعود السنة أو الشهر أو الأسبوع هو بعينه معنى العيد.
378 - الناس على قولين معروفين: أحدهما: أن ثواب العبادات البدنية من الصلاة والقراءة ونحوهما يصل إلى الميت كما يصل إليه ثواب العبادات المالية بالإجماع وهذا مذهب أبي حنيفة وأحمد وغيرهما وقول طائفة من أصحاب مالك والشافعي وهو الصواب لأدلة كثيرة ذكرناها في غير هذا الوضع.
والثاني: أن ثواب العبادة البدنية لا يصل إليه بحال وهو المشهور عند أصحاب الشافعي ومالك.
379 - فأما استماع الميت للأصوات من القراءة وغيرها فحق.. ونقلوه عن أحمد وذكروا فيه آثارا أن الميت يتألم بما يفعل عنده من المعاصي.
383 - واعلم أن المقبورين من الأنبياء والصالحين المدفونين يكرهون ما يفعل عندهم كل الكراهة كما أن المسيح يكره ما يفعله النصارى به.(7/209)
384 - ومن أصغى إلى كلام الله وكلام رسول بعقله وتدبره بقلبه وجد فيه من الفهم والحلاوة والهدى وشفاء القلوب والبركة والمنفعة ما لا يجده في شيء من الكلام لا منظومه ولا منثوره.. فعلى العاقل أن يجتهد في اتباع السنة في كل شيء من ذلك ويعتاض عن كل ما يظن من البدع أنه خير بنوعه من السنن فإنه من يتحر الخير يعطه ومن يتوق الشر يوقه.
لما ذكر ما روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه كان يتتبع المواضع التي سلكها النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والتي صلى فيها اتفاقا لا قصدا فيسلكها ويصلي فيها قال:
387 - لم يوافقه عليه أحد من الصحابة فلم ينقل عن الخلفاء الراشدين ولا غيرهم من المهاجرين والأنصار يعني أنه يفعل ذلك قال: والصواب مع جمهور الصحابة لأن متابعة النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تكون بطاعة أمره وفي فعله بأن يفعل مثل ما فعل على الوجه الذي فعله، فإذا قصد النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- العبادة في مكان كان قصد العبادة فيه متابعة له كقصد المشاعر والمساجد، وأما إذا نزل في مكان بحكم الاتفاق لكونه صادف وقت النزول أو غير ذلك مما يعلم أنه لم يتحر ذلك المكان فإنا إذا تحرينا ذلك المكان لم نكن متبعين له فإنما الأعمال بالنيات.
391 - والشرك وسائر البدع مبناها على الكذب والافتراء ولهذا فإن كل من كان عن التوحيد والسنة أبعد كان إلى الشرك والابتداع والافتراء أقرب كالرافضة الذين هم أكذب طوائف أهل الأهواء وأعظمهم شركا فلا يوجد في أهل الأهواء أكذب منهم ولا أبعد عن التوحيد، حتى إنهم يخربون مساجد الله التي يذكر فيها اسمه فيعطلونها عن(7/210)
الجمع والجماعات ويعمرون المشاهد التي أقيمت على القبور التي نهى الله ورسوله عن اتخاذها. (1)
400 - كره مالك وغيره من العلماء أن يقول القائل: زرنا قبر النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يثبت عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حديث واحد في زيارة قبر مخصوص يريد أنه أمر بزيارة قبر مخصوص أما هو بنفسه فقد زار قبر أمه- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
410 - إذا سئل الله- تعالى- بما جعله سببا للمطلوب من التقوى والأعمال الصالحة فهذا سؤال وتسبب بما جعله هو سببا، وأما إذا سئل بشيء ليس سببا للمطلوب فإما أن يكون إقساما به عليه فلا يقسم على الله بمخلوق وإما أن يكون سؤالا بما لا يقتضي المطلوب فيكون عديم الفائدة.
416 - قد يراد بالخطاب والنداء استحضار المنادى بالقلب فيخاطب لشهوده بالقلب، كما يقول المصلي: السلام عليك أيها النبي والإنسان يفعل مثل هذا كثيرا يخاطب من يتصوره في نفسه إن لم يكن في الخارج من يسمع الخطاب.
421 - يفرق بين قول القائل: (الصفات غير الذات) وقوله: (صفات الله غير الله) فإن الثاني باطل لأن مسمى اسم الله يدخل فيه صفاته بخلاف مسمى الذات فإنه لا يدخل فيه الصفات، ولهذا لا يقال: صفات الله الزائدة عليه وإن قيل: الصفات زائدة على الذات.
__________
(1) وفي (ص 439) والرافضة أمة مخذولة ليس لها عقل صحيح ولا نقل صريح ولا دين مقبول ولا دنيا منصورة.(7/211)
422 - التوسل بالأنبياء والصالحين يكون بأمرين: إما بطاعتهم واتباعهم وإما بدعائهم وشفاعتهم أما مجرد دعاء الداعي وتوسله بهم من غير طاعة منه لهم ولا شفاعة منهم له فلا ينفعه وإن عظم جاه أحدهم عند الله تعالى.
423 - الكلام هنا في ثلاث مسائل:
· الأولى: أن يتأسى به (أي بالنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) في صورة الفعل الذي فعله من غير أن يعلم قصده فيه أو مع عدم السبب الذي فعله من أجله ففيه نزاع مشهور، وابن عمر رضي الله عنهما مع الآخذين بالتأسي به فيه.
· الثانية: أن يتحرى تلك البقعة ليصلي عندها من غير أن يكون وقتا لصلاة بل ينشئ الصلاة لأجل البقعة، فهذا لم ينقل عن ابن عمر ولا غيره.
· الثالثة: أن لا تكون تلك البقعة في طريقه بل يعدل عن طريقه إليها أو يسافر إليها سفرا طويلا أو قصيرا كمن يذهب إلى جبل حراء أو ثور أو الطور ليصلي فيه أو يدعو، فهذا لم يكن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا أحد من أصحابه يفعلونه، وتعبد النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حراء كان قبل المبعث أما بعده فلم يذهب هو ولا أحد من أصحابه إليه.. فمن جعل قصد ذلك عبادة فقد اتبع غير سبيلهم وشرع من الدين ما لم يأذن به الله.
429 - المسجد الحرام هو المسجد الذي شرع لنا قصده للصلاة والدعاء والطواف وغير ذلك من العبادات ولم يشرع لنا قصد مسجد بعينه بمكة سواه.(7/212)
430 - لما ذكر السفر للمساجد الثلاثة قال: وما سوى هذه المساجد لا يشرع السفر إليه باتفاق أهل العلم.
433 - وليس في المدينة مسجد يشرع إتيانه إلا مسجد قباء.
433 - 435 - كلام جيد عن بيت المقدس وصخرته.
436 - كلام عن كعب الأحبار وفضائل الشام.
437 - عن الحديث المرسل والمعلق وما يروى عن أهل الكتاب.
438 - أصحاب النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من السابقين الأولين والذين اتبعوهم بإحسان.. أعلم بالدين وأتبع له ممن بعدهم وليس لأحد أن يخالفهم فيما كانوا عليه.
454 - لفظ الإسلام يتضمن الاستسلام والانقياد ويتضمن الإخلاص.
459 - غلط في مسمى التوحيد طوائف من أهل النظر والكلام ومن أهل العبادة والإرادة، فطائفة ظنت أن التوحيد نفي الصفات بل نفي الأسماء الحسنى أيضا وسموا أنفسهم أهل التوحيد وأثبتوا ذاتا مجردة عن الصفات وموجودا مطلقا بشرط الإطلاق، وقد علم بصريح المعقول الموافق لصحيح المنقول أن ذلك لا يكون إلا في الأذهان لا في الأعيان.
460 - وطائفة ظنوا أن التوحيد هو الإقرار بتوحيد الربوبية وأن الله خلق كل شيء.. وأن الإلهية هي القدرة على الاختراع.. ولم يعلموا أن مشركي العرب كانوا يقرون بهذا التوحيد.. ولا يخلص بمجرده من الإشراك الذي هو أكبر الكبائر.
461 - والإله هو المألوه الذي تألهه القلوب وكونه يستحق الإلهية مستلزم لصفات الكمال.(7/213)
وطائفة ممن تكلم في التوحيد على طريقة أهل التصوف ظنوا أن توحيد الربوبية هو الغاية والفناء فيه هو النهاية، وأنه إذا شهد ذلك سقط عنه استحسان الحسن واستقباح القبيح فآل بهم الأمر إلى تعطيل الأمر والنهي والوعد والوعيد.
463 - أولئك المبتدعون الذين أدخلوا في التوحيد نفي الصفات وهؤلاء الذين أخرجوا عنه متابعة الأمر، إذا حققوا القولين أفضى بهم الأمر إلى أن لا يفرقوا بين الخالق والمخلوق بل يقولون بوحدة الوجود كما قاله أهل الإلحاد ... الذين يقول عرافهم: السالك في أول أمره يفرق بين الطاعة والمعصية أي نظرا إلى الأمر ثم يرى طاعة بلا معصية أي نظرا إلى القدر ثم لا طاعة ولا معصية أي نظرا إلى أن الوجود واحد ولا يفرق بين الواحد بالعين والواحد بالنوع فإن الموجودات مشتركة في مسمى الوجود.. مع العلم الضروري أنه ليس عين وجود هذا الإنسان هو عين وجود هذا الفرس.. لكن بينهما قدر مشترك تشابها فيه قد يسمى كليا مطلقا وقدرا مشتركا ونحو ذلك.
465 - والله سبحانه بعث أنبياءه بإثبات مفصل ونفي مجمل فأثبتوا له الأسماء والصفات ونفوا عنه مماثلة المخلوقات ومن خالفهم من المعطلة المتفلسفة وغيرهم عكسوا القضية فجاؤوا بنفي مفصل وإثبات مجمل، يقولون: ليس كذا ليس كذا ليس كذا، فإذا أرادوا إثباته قالوا: وجود مطلق بشرط النفي أو بشرط الإطلاق، وهم يقرون في منطقهم اليوناني أن المطلق بشرط الإطلاق لا يكون في الخارج.(7/214)
466 - وأما الرسل فطريقتهم طريقة القرآن قال الله تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
467 - فليجتهد المؤمن في تحقيق العلم والإيمان وليتخذ الله هاديا ونصيرا وحاكما ووليا فإنه نعم المولى ونعم النصير وكفى بربك هاديا ونصيرا.
وإلى هنا انتهى ما أردنا نقله من كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم) متحرين نقل كلامه بلفظه غالبا وربما سقناه بالمعنى أسأل الله- تعالى- أن يجعل فيما نقلناه بركة وأن ينفع به كما نفع بأصله، وأن يوفقنا والمسلمين لما فيه الخير والصلاح، إنه جواد كريم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
تم نقله يوم الاثنين الموافق للثامن والعشرين
من شهر الله المحرم سنة 1400 أربعمائة وألف(7/215)
الإخلاص(7/217)
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليما {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} .
أما بعد: أيها الإخوة فإننا في هذا المكان مسجد قباء الذي هو كما وصفه الله بقوله: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} .
هذا المسجد، الذي قال الله لنبيه- عليه الصلاة والسلام-: {أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} ذا المسجد الذي ينبغي لكل من أتى إلى المدينة أن يخرج إليه متطهرا من بيته ويصلي فيه ركعتين وما تيسر.(7/219)
هذا المسجد الذي قام من قام من المنافقين، وأشباه المنافقين من أجل أن يقيموا مسجدا آخر يكون مضارا له {اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} إنه يجب علينا أن نتأمل كيف وبخ الله غاية التوبيخ الذين اتخذوا مكانا من أجل أن يفرقوا بين المؤمنين وأن يضاروا المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم؟ ولأجل أن يكون ذلك إرصادا لمن حارب الله ورسوله إذا كان هذا توبيخ الله- عز وجل- لمن اتخذوا مكانا يكون مشتملا على هذه الأوصاف فما بالكم بمن اتخذوا أفكارا وآراء يضادون بها العقيدة السليمة الصحيحة التي تلقاها السلف الصالح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ رحيقا زلالا صافيا حتى ابتدعوا في دين الله- تعالى- ما ليس منه وصاروا يجلبون الناس حولهم من أجل أن يصدوهم عن الصراط المستقيم فإذا كان هذا توبيخ الله- عز وجل- لمن اتخذوا مكانا في الأرض فما بالكم بمن حاولوا أن يتخذوا مكانا في القلوب؟ لذلك أدعو جميع المسلمين في هذه البلاد وفي غيرها من بلاد المسلمين أن يتحدوا على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وهذه الكلمة لا يمكن تحقيقها، ولا يصدق من ادعى تحقيقها حتى يأتي بالبرهان، وهو الإخلاص التام لله - عز وجل- لا يشرك بعبادته لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، ولا من دونهم بل يخلص العبادة لله- عز وجل- ومن أعظم العبادة الدعاء فإن الدعاء من العبادة يقول الله- عز وجل-: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} .(7/220)
إله إلا الله ولم تحقق ما كنت تنطق به في كل ركعة من صلاتك {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} لأنك عبدت الرسول- عليه الصلاة والسلام- مع الله حين دعوته فبهذا اللطف والإرشاد يمكن أن يقبل عليك بعض الشيء، وإذا فرضنا أن عنده بعض العناد فإنه سوف يناقش نفسه بِنَفْسِه ثم يرجع وأنت يا أخي لا تحتقر كلمة الحق كلمة الحق مؤثرة مهما قال لك الشيطان: إنها لا تؤثر وإن هذا سوف يركب رأسه فلا تطع الشيطان موسى - عليه الصلاة والسلام- جمع له السحرة المهرة الذين وضعوا العصا والحبال فكانت هذه العصا والحبال يخيل إلى الناس أنها حيات تسعى حتى موسى - عليه الصلاة والسلام- مع إيمانه وقوته أوجس في نفسه خيفة لكنه قال كلمة بسيطة قال لهم: {وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} هذه الكلمة أثرت تأثيرا عظيما {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} وإذا حصل النزاع حصل الفشل قال الله تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} تنازعوا أمرهم بينهم وأخيرا آمن السحرة فكلمة الحق تؤثر إذا صدرت من إنسان مخلص وأن الإنسان لا يريد أن يفرض قوله على غيره، إنما يريد أن يهدي غيره للحق الذي هو مراد الجميع فإنه سيؤثر بإذن الله- عز وجل- ولهذا لا تحقرن كلمة الحق ولا تقل إنها لا تنفع " «فما من قلب من قلوب بني آدم إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء» . (1)
أما إذا قال: إنه يدعو الله ويتجه إلى قبر الرسول - عليه الصلاة والسلام-
__________
(1) مسلم: كتاب القدر: باب تصريف الله تعالى القلوب كيف يشاء.(7/221)
{قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} . حتى لو أراده الله بما يريده منه ما أحد يملك أن يدفع ما أراد الله {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} هذا الأمر الذي أمر به النبي- عليه الصلاة والسلام- وهو خاتم النبيين ورسالته خاتمة الرسالات، ولا نبي بعده هو الذي أمر به أول الرسل أيضا إذ قال الله- تعالى- عنه- عليه الصلاة والسلام-: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} .
إذا كان كذلك فمن الخطأ الفادح أن يتجه إنسان إلى قبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ليسأل الله، أو لقبر النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليسأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يقضي حاجته، أو يدفع ضرورته، إنه إذا كان على الأمر الثاني يتجه إلى النبي- عليه الصلاة والسلام- ليقضي حاجته أو يفرج كربته إن هذا من الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله- عز وجل- والذي قال الله فيه: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} .
والذي قال الله فيه: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} .
أما إذا كان يدعو الله- عز وجل- ولكنه يتجه إلى قبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فإن هذا لا يصل إلى حد الشرك الأكبر ولكنه خطأ إن التقرب إلى الله لا يكون إلا بما شرعه الله ورسوله والعبادات مبناها على الاتباع لا على الابتداع. إذا كنت تدعو رب السماوات(7/222)
جلَّ وعلا فاتجه إلى أمر بالاتجاه إليه اتجه إلى بيته الحرام ولا تتجه إلى بيت الرسول اتجه إلى بيت من تدعو وهو الله- عز وجل- لا إلى بيت من لا يملك لك نفعا ولا ضرا وهو الرسول- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
والحقيقة أنه لا ينبغي لنا أن نسكت على هذا الأمر ولا ينبغي لنا أن نعالجه إلا بالحكمة، العنف لا يجدي شيئا. لكن الحكمة واللين يجدي الإرشاد والدعوة بالمنقول والمعقول هذا الذي يثمر كثيرا فلو أننا شاهدنا أحدا يقول هكذا أو يفعل هكذا، في مسجد الرسول- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دعوناه بلطف، ولين وبينا له وقلنا له: من تدعو فإما أن يدعو الرسول- عليه الصلاة والسلام-، أو يدعو الله فإذا كان يدعو الرسول- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فهو مشرك لأن الله- تعالى- يقول {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} ما قال: ادعوا النبي محمدا - عليه الصلاة والسلام- ولا أي أحد من الناس {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} هذا أمر الله سيقول: نعم وإذا كان لم يقرأ القرآن نخبره بما في القرآن فإذا اقتنع بذلك واعترف به فيقال له: أكمل الآية: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} فسمى الله الدعاء عبادة، فإذا دعا الرسول- عليه الصلاة والسلام- فقد عبده ولم يحقق شهادة أن لا إله إلا الله ولم يحقق ما ينطق به في كل ركعة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} فإن هذه الجملة كما يفهم منها قولك: " لا نعبد إلا إياك " فهي تقابل لا إله إلا الله، لأن لا إله إلا الله معناها لا معبود بحق إلا الله سبحانه ومعنى شهادة أن لا إله إلا الله أن يعترف الإنسان بلسانه وقلبه بأنه لا معبود حق إلا الله- عز وجل- فكل ما عبد من دون الله فهو باطل قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} فيقال لهذا الرجل: أنت لم تحقق شهادة لا(7/223)
إله إلا الله ولم تحقق ما كنت تنطق به في كل ركعة من صلاتك {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} لأنك عبدت الرسول- عليه الصلاة والسلام- مع الله حين دعوته فبهذا اللطف والإرشاد يمكن أن يقبل عليك بعض الشيء، وإذا فرضنا أن عنده بعض العناد فإنه سوف يناقش نفسه بِنَفْسِه ثم يرجع وأنت يا أخي لا تحتقر كلمة الحق كلمة الحق مؤثرة مهما قال لك الشيطان: إنها لا تؤثر وإن هذا سوف يركب رأسه فلا تطع الشيطان موسى - عليه الصلاة والسلام- جمع له السحرة المهرة الذين وضعوا العصا والحبال فكانت هذه العصا والحبال يخيل إلى الناس أنها حيات تسعى حتى موسى - عليه الصلاة والسلام- مع إيمانه وقوته أوجس في نفسه خيفة لكنه قال كلمة بسيطة قال لهم: {وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} هذه الكلمة أثرت تأثيرا عظيما {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} وإذا حصل النزاع حصل الفشل قال الله تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} تنازعوا أمرهم بينهم وأخيرا آمن السحرة فكلمة الحق تؤثر إذا صدرت من إنسان مخلص وأن الإنسان لا يريد أن يفرض قوله على غيره، إنما يريد أن يهدي غيره للحق الذي هو مراد الجميع فإنه سيؤثر بإذن الله- عز وجل- ولهذا لا تحقرن كلمة الحق ولا تقل إنها لا تنفع " «فما من قلب من قلوب بني آدم إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء» .
أما إذا قال: إنه يدعو الله ويتجه إلى قبر الرسول - عليه الصلاة والسلام-(7/224)
فنقول له: لماذا؟ هل بيت الرسول أحب إليك من بيت الله إن قال: نعم فهو على خطر، وإن قال: بيت الله أحب إلي، قلنا له: اتجه إلى بيت الله- عز وجل- إلى قبلته التي فرض الله على المسلمين أن يتجهوا إليها في اليوم خمس مرات هذا هو أحق أن يتجه إليه من قبر الرسول- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا اتجاهك إلى القبر من أجل أنه قبر الرسول- عليه الصلاة والسلام- هذا أمر مرجوح وطرف راجح فهو قد أقر بأن بيت الله أحب إليه من بيت الرسول- عليه الصلاة والسلام- فإذا كان كذلك فاتجه إلى بيت الله لأنك تسأل الله فاتجه إلى بيت الله لا إلى بيت الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فإن قال: أنا أتجه إلى بيت الرسول- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليكون وسيلة لي عند الله سبحانه وتعالى.
قلنا له: الرسول- عليه الصلاة والسلام- قد انقطع عن أعمال التكليف ولا يستطيع أن يدعو لأحد أبدا لأن الدعاء عمل وقد أخبر النبي- عليه الصلاة والسلام- نفسه.
«أن ابن آدم إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث: إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له» (1) فالرسول- عليه الصلاة والسلام- لا يمكن أن يشفع لك عند الله- عز وجل- لأن عمله قد انقطع أما في حياته فيستشفع به عند الله كما كان يفعل الصحابة رضي الله عنهم، فقد «جاء رجل إلى النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو يخطب الجمعة فقال: يا رسول الله، هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله أن يغيثنا، فرفع النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يديه وقال: " اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا" قال أنس راوي الحديث: والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزع وما بيننا وبين»
__________
(1) مسلم: كتاب الوصية: باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته.(7/225)
«سلع من بيت ولا دار إذ خرجت سحابة من وراء سلع وانتشرت ورعدت وبرقت فما نزل الرسول- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلا والمطر يتحادر من لحيته. (1)
وبقي المطر أسبوعا كاملا ثم دخل ذلك الرجل أو غيره فقال: يا رسول الله تهدم البناء وغرق المال فادع الله أن يمسكها عنا فرفع يديه وقال: اللهم حوالينا ولا علينا وجعل يشير بيده الكريمة- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فما يشير إلى ناحية من السحاب إلا انفرجت وخرجوا يمشون في الشمس» الله أكبر.
هذا من آيات الله الدالة على سمعه للدعاء، وعلى قربه من الداعي وعلى قدرته على كل شيء سبحانه وتعالى وهو في نفس الوقت آية للرسول- عليه الصلاة والسلام- حيث استجاب الله دعاءه لأنه رسول فأيد بإجابة الدعاء فيكون هذا من آياته الدالة على صدقه- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعلى صحة رسالته، فأما بعد موته فلا يمكن ولهذا أعلم الناس بهذا الأمر من هذه الأمة هم الصحابة، ومع ذلك لما قحط في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه (2) هل قال: يا رسول الله ادع الله لنا أن يغيثنا؟ كلا والله ولا يمكن أن يقول ذلك لأن هذا ليس بالشرع ولا بالعقل أن تقول لميت ادع الله ولكنه قال للعباس بن عبد المطلب: قم يا عباس ادع الله فدعا فأغيثوا والعباس حي وكل إنسان يرجى قبول دعوته فلا حرج عليك أن تقول: يا فلان ادع الله لي وإذا كان النبي- عليه الصلاة والسلام- في أعظم موقف من مواقف الخلق في المقام المحمود الذي يبعثه فيه الله- عز وجل- لا يمكن أن يتكلم
__________
(1) البخاري: كتاب الجمعة: باب الاستسقاء في الخطبة يوم الجمعة، ومسلم: كتاب صلاة الاستسقاء: باب الدعاء في الاستسقاء.
(2) البخاري: كتاب الاستسقاء: باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا(7/226)
بكلمة إلا بإذن الله، «إذا لحق الناس من الكرب والهم والغم ما الله به عليم ذهبوا إلى آدم يسألونه أن يشفع إلى الله ليريحهم من الموقف فيعتذر، ثم إلى نوح، ثم إلى إبراهيم، ثم إلى موسى، ثم إلى عيسى حتى تصل إلى النبي- عليه الصلاة والسلام -» (1) ولكنها إذا وصلت إليه لا يمكن أن يشفع إلا بعد إذن الرب- عز وجل- بعد إذن الرب الذي هو ملك الملوك والذي سلطانه لا نظير له ولا مداني له {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} .
(من) اسم استفهام بمعنى النفي، والاستفهام إذا جاء بمعنى النفي كان أعظم وأبلغ لأنه يكون مشربا بالتحدي فإن قولك: ولا يشفع أحد نفي بـ لا لكن قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ} أبلغ في التحدي وامتناع هذا الأمر، فإذا لا يمكن أن يشفع لا رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا غيره من الخلق إلا بعد إذن ملك الملوك ذي السلطان الأعظم وهو الله تبارك وتعالى. فإذا كان كذلك فلا وجه لكونك تتجه إلى قبر الرسول- عليه الصلاة والسلام- ليكون وسيلة لك أن يقبل دعاءك اتجه إلى بيت الله- عز وجل- فهو أقرب وسيلة.
في هذا البلد الطيب الذي كان هذا المسجد مسجد قباء لما بني مسجد الضرار حوله نهى الله نبيه أن يقوم فيه لأنه يراد به التفريق بين المؤمنين والمضارة لهذا المسجد الذي أسس على التقوى، والتفريق والإرصاد لمن حارب الله ورسوله فإذًا نقول: كل شيء يضاد ما جاء به الرسول- عليه الصلاة والسلام- فإنه يشبه مسجد الضرار بل إن مضارة المزاحمة في القلوب أشد من
__________
(1) البخاري: كتاب التوحيد: باب كلام الله تعالى مع الأنبياء يوم القيامة، ومسلم: كتاب الإيمان: باب أدنى أهل الجنة منزلاً.(7/227)
المضارة في المزاحمة في الأماكن علينا أن نكون أمة واحدة يدعو بعضنا بعضا إلى كتاب الله وسنة رسوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى تحقق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
وشهادة أن محمدا رسول الله من أكبر مقتضياتها اتباع الرسول- عليه الصلاة والسلام- ظاهرا وباطنا ومن لا يتبع الرسول- عليه الصلاة والسلام- ولو أخلص لله فإنه لم يحقق شهادة أن محمدا رسول الله لم يحققها ولا يقبل منه حتى مع الإخلاص يقول النبي- عليه الصلاة والسلام-: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» (1) ، وفي لفظ «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» . (2)
إذا كان كذلك فالإخلاص ليس كل شيء لا بد مع الإخلاص أن ينضم إليه المتابعة، المتابعة للرسول- عليه الصلاة والسلام- بحيث لا يجعل الإنسان أحدا شريكا مع الرسول- عليه الصلاة والسلام- في التشريع للخلق ولو كان من أكبر أئمة المسلمين لو كان أبا بكر وعمر فلا يجوز أن نجعله شريكا مع الرسول- عليه الصلاة والسلام- في التشريع قال ابن عباس رضي الله عنهما: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتقولون: قال أبو بكر وعمر وقال الله- عز وجل-: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
__________
(1) مسلم: كتاب الأقضية: باب نقض الأحكام الباطلة.
(2) البخاري: كتاب الصلح: باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود: ومسلم: كتاب الأقضية.(7/228)
قال الإمام أحمد: (أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك) وهو كذلك لأنه إذا رد بعض قول الرسول- عليه الصلاة والسلام- فلا بد أن يكون عن هوى وإذا كان عن هوى فالهوى شرك {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} .
إذا من لم يتبع الرسول- عليه الصلاة والسلام- فإنه لم يحقق شهادة أن محمدا رسول الله، وعدم اتباع الرسول- عليه الصلاة والسلام- على نوعين:
أحدهما: أن يقدم قول غيره عليه يعلم هدي الرسول- عليه الصلاة والسلام-، ولكنه يقدم قول غيره عليه، وهذا يوجد كثيرا في المتعصبين للمذاهب سواء كانت المذاهب مذاهب فقهية علمية أو مذاهب فكرية اعتقادية فإن بعض المتعصبين تعرض عليه هدي الرسول- عليه الصلاة والسلام- واضحا وضوح الشمس في رابعة النهار ولكن يقول: قال فلان كذا وقال فلان كذا، يقول الإمام أحمد رحمه الله يقول مستنكرا: (عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان والله يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فما بالك بمن يذهبون إلى رأي من دون سفيان ويدعون هدي الرسول- عليه الصلاة والسلام-؟
إذا قيل لهم هذا هدي الرسول- عليه الصلاة والسلام -. قالوا: لكن قال(7/229)
فلان كذا وكذا من الذي أرسل إليكم أفلان، أم رسول الله محمد؟ إن قال فلان كفر وأعلن بكفره، وإن قال محمد نقول: ما قيمة الرسالة عندك وأنت تقدم هدي غيره على هديه؟ إذا كان رسولك محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلتكن متبعا له متأدبا بين يديه.
أما النوع الثاني: من المخالفة لهدي الرسول - عليه الصلاة والسلام- فأن يشرع في دين الله ما ليس فيه، يفعل شيئا يتقرب به إلى الله، ولكن الرسول ما شرعه فهذا لم يحقق شهادة أن محمدا رسول الله لو حقق شهادة أن محمدا رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما ذهب يبتدع في دين الله ما ليس منه لأن ابتداع الإنسان في دين الله ما ليس منه يتضمن الاستدراك على الله ورسوله، فإن هذا استدراك على الله متضمن لتكذيب هذه الجملة العظيمة {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} .
أين كان رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن هذا الأمر الذي تدين لله به وتتعبد لله به أين كان؟ أكان جاهلا به؟ إن قلت: نعم فقد رميته بالجهل، أكان مخالفا له؟ إن قلت: نعم فقد رميته بالمخالفة أكان كاتما له عن أمته؟ إن قلت: نعم فقد رميته بالكتمان، فإذا كان الأمر كذلك وكل اللوازم باطلة، فإنه يلزم من ذلك أن يقول: كل بدعة يتدين بها الإنسان إلى الله من عقيدة في القلب أو نطق باللسان أو عمل بالأركان فإنها عقيدة باطلة وصدق الرسول- عليه الصلاة والسلام- «كل بدعة ضلالة» . وهذه جملة مسورة بكلمة "كل" التي هي أدل ألفاظ العموم على العموم ليس فيها تخصيص، والله لو وقعت هذه في كتاب واحد من الذين يقلدون لكان كل(7/230)
من أخرج بدعة من هذه الكلية يقال له: أين الدليل؟ ولكن كلام الرسول- عليه الصلاة والسلام- المحكم البين الواضح يحرف ويقال: هذا عام يراد به الخاص، نحن نستحسن أن نعبد الله بهذا لأن قلوبنا ترق عنده ولأن هذا ينشطنا ولكن نقول: والله لو كان خيرا لشرعه الله لعباده، ترقيق القلب لهذه البدعة يوجب أن يقسو عن السنة لأن القلب وعاء إن ملأته بخير امتلأ به وإن دخل على هذا الخير شر فلا بد أن يضايق الخير فيخرج، لو كان عندك إناء مملوء بماء ثم صببت عليه ماء آخر هل يجمع الجميع لا بد أن يخرج فإما سنة وإما بدعة، ولهذا نقول لكل من في قلبه إخلاص وحب للدين وحب للرسول- عليه الصلاة والسلام- نقول له: جزاك الله خيرا على هذه المحبة وعلى هذا الإخلاص، ولكن من تمام الإخلاص أن تعتقد بأنه لا خير للإنسان فيما يتعبد به الله إلا ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلماذا تطلب الخير في غيرهما؟ فيما جاء في كتاب الله، وفيما صح عن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من العبادات، كفاية لصلاح القلوب والأبدان والأفراد والجماعات ولكن أين القلوب التي تتلقى هذا؟ من القلوب ما هو كالزجاجة أي شيء يرد عليه ينكسر، ومن القلوب ما هو كالإسفنجة يقبل ولكنه صامد لا يتجزأ ولا يتكسر إلا أنه يميز الحق من الباطل فنقول لمن ابتدع بدعة في دين الله سواء كانت قولا باللسان أو عقيدة بالجنان، أو عملا بالأركان نقول: كتاب الله موجود وسنة الرسول عليه والصلاة والسلام موجودة(7/231)
مهذبة قد بين صحيحها من سقيمها وطريق السلف الصالح موجود والحمد لله فلماذا نبتدع في عقيدتنا؟
لماذا نبتدع أذكارا ما أنزل الله بها من سلطان؟!
لو كان كل من راق له شيء أو زين في قلبه شيء مما يتعبد لله به، تعبد الله به أتكون الأمة واحدة؟ أبدا تتفرق لكن هناك ميزان {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} . هناك ميزان {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} إن اتفقتم على شيء فهو الحق.. وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله.
فالحاصل أيها الإخوة أننا في هذه البلدة الطيبة طيبة مدينة الرسول- عليه الصلاة والسلام- مهاجر الرسول- عليه الصلاة والسلام- أول عاصمة إسلامية في هذه الشريعة العامة الكاملة الشاملة هذه البلدة الطيبة التي فيها هذا المسجد " مسجد قباء " وفيها المسجد الذي هو خير منه مسجد الرسول- عليه الصلاة والسلام- الذي قال فيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام» (1) ، في هذا البلد الطيب يجب أن تكون طريقة المسلمين عامة هي ما كان عليه السلف الصالح ما كان عليه النبي- عليه الصلاة والسلام- وخلفاؤه الراشدون ولا سيما أبو بكر وعمر اللذين قال فيهما- عليه الصلاة والسلام-: «اقتدوا باللذين من»
__________
(1) البخاري: كتاب التطوع: باب فضل الصلاة في مسجدي مكة والمدينة، ومسلم: كتاب الحج: باب فضل الصلاة في مسجدي مكة والمدينة.(7/232)
«بعدي أبي بكر وعمر» (1) ، وثبت عنه في صحيح مسلم أنه قال: «إن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا» (2) .
" إن " شرطية، فعلها " يطيعوا " وجوابها " يرشدوا " إذا ففي طاعة هذين الرجلين رشد لأنهما خليفتا رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ووزيراه رضي الله عنهما وأرضاهما أقول: في هذا البلد ينبغي أن نكون أمة واحدة ندعو إلى الحق بإذن الله على صراط مستقيم، وإذا رأينا شيئا لا نحقر أنفسنا ونقول: لا نستطيع هؤلاء معاندون هذا خطأ هؤلاء الذي يظهر لنا من حالهم أنهم يريدون الخير لكن ما كل من أراد شيئا وفق له ما كل ما يتمنى المرء يدركه علينا أن نصبر وأن نصابر وأن ندعو بالتي هي أحسن بقدر ما نستطيع، لا نصمت على منكر أو على بدعة، لكننا لا نعنف، لأن الأهواء في هذا الزمان كثرت وكل إنسان يقول: الحق عندي أو عند متبوعي، ولكن إذا أتينا بالحكمة وباللين وبالسهولة وبالبيان المبني على المنقول والمعقول. وإنني بهذه المناسبة أقول: إن تعظيم الناس الآن للمعقول ليس كل الناس ولكن كثيرا منهم يعظمون الدليل العقلي أكثر مما يعظمون الدليل النقلي أو يرجعون بالأصح إلى الدليل العقلي أكثر، ونحن نعلم علم اليقين أن كل ما جاءت به الشريعة فإنه مبني على العقل لكن أي عقل هو؟ العقل الصريح أي السالم من الشبهات والشهوات وليس العقل المشوب بشبهة أو شهوة، بشبهة التبس عليه الحق أو بشهوة ظهرت له ولكن لا يريده فكل ما جاءت به الشريعة فإنه موافق لصريح المعقول ولا شك ولا يمكن أبدا أن يخالفه حتى إني رأيت في
__________
(1) أخرجه الترمذي: كتاب المناقب: باب مناقب أبي بكر وعمر، وابن ماجه في المقدمة: باب فضل أبي بكر الصديق.
(2) أخرجه مسلم: كتاب المساجد: باب قضاء الصلاة الفائتة.(7/233)
كتاب [درء تعارض النقل والعقل] لشيخ الإسلام ابن تيمية وهو كتاب عظيم قال فيه ابن القيم في النونية:
وله كتاب العقل والنقل الذي ... ما في الوجود له نظير ثاني
ويريد بما في الوجود من الكتب المؤلفة في بابه رأيته يقول: " أنا مستعد لكل من أتى بدليل من كتاب الله أو من صحيح سنة رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كل من أتى بدليل يستدل به على باطل فأنا مستعد أن أجعله دليلا عليه لا له" انظر القدرة والله سبحانه وتعالى يؤتي فضله من يشاء فكل ما يستدل به أهل الباطل من كتاب الله أو صحيح السنة فإنه دليل عليهم وليس دليلا لهم وهذه قدرة في معرفة المعاني وكيف يرد الشيء أو كيف يرد الخنجر في صدر من عدا به إذا كان عدوانه على باطل وهذا من توفيق الله للعبد أن يجعل الله- تعالى- في قلبه حفظا ووعيا وعقلا نسأل الله- تعالى- أن يتولانا برعايته، وأن يهدينا صراطه المستقيم وأن يجعلنا ممن جاهدوا في الله حق جهاده ودعوا إلى الله على بصيرة إنه جواد كريم والحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(7/234)
فوائد في العقيدة(7/235)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمد في الآخرة والأولى، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى وخليله المجتبى، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن بهداهم اهتدى وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
فقد كنت أقيد بعض المسائل المهمة التي تمر بي حرصا على حفظها، وعدم نسيانها، في دفتر وسميتها " فرائد الفوائد".
وقد انتقيت منها ما رأيته أكثر فائدة وأعظم أهمية، وسميت ذلك:- " المنتقى من فرائد الفوائد".
أسأل الله- تعالى- أن ينفع به، وأن يجعل لطلبة العلم فيه أسوة. ومن سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة.
القسم الأول: فوائد في العقيدة:
[فوائد من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية من " كتاب الإيمان "] .
فائدة:
الإسلام: هو الاستسلام لله وحده، بشهادة أن لا إله الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، فهو الخضوع لله تعالى، والعبودية له وحده فمن استكبر عن عبادته وأشرك معه غيره فغير مسلم.
فإن قيل: ما أوجبه الله- تعالى- من الأعمال أكثر من الخمسة المذكورة التي جعلها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هي أركان الإسلام، أو هي الإسلام؟(7/237)
فالجواب هو: أن ما ذكره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هو الذي يجب على كل مكلف بلا قيد، وأما ما سواه فإما أنه يجب على الكفاية، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحوه، أو لأسباب كصلة الرحم، إذ ليس كل أحد له قرابة تجب صلتهم.
كذا ذكر الشيخ الجواب لكن يرد على هذا الزكاة والحج إذ ليس كل أحد عنده مال حتى يجب عليه الزكاة والحج، ولعل الجواب أن هذه الخمس المذكورة هي أكبر أجناس الأعمال، فإن الأعمال على ثلاثة أقسام:
قسم أعمال بدنية ظاهرة كالصلاة، وباطنة كالشهادتين، وهما أيضا من الأقوال.
وقسم أعمال مالية كالزكاة.
وقسم مركب من النوعين كالحج.
فذكر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الأصول وأن المرء إذا قام بأصل من هذه الأجناس فهو مسلم، وأيضا فإن صلة الرحم قد يكون الداعي فيها قويا ليس من جهة الشرع بل من جهة الإنسانية، بخلاف الزكاة والحج!!
فائدة:
الناس في تفاضل الإيمان وتبعضه على قولين:
أحدهما: إثبات ذلك وهو الصواب الذي تدل عليه الأدلة العقلية والنقلية، وهو قول المحققين من أهل السنة. وتفاضله بأمرين:
الأول من جهة العامل. وذلك نوعان: الأول في الاعتقاد، ومعرفة الله تعالى، فإن كل أحد يعرف تفاضل يقينه في معلوماته، بل في المعلوم الواحد وقتا يرى يقينه فيه أكمل من الوقت الآخر.(7/238)
النوع الثاني: في القيام بالأعمال الظاهرة كالصلاة، والحج والتعليم، وإنفاق المال، والناس في هذا على قسمين:
أحدهما: الكامل وهم الذين أتوا به على الوجه المطلوب شرعا.
الثاني: ناقصون، وهم نوعان:
النوع الأول، ملومون، وهم من ترك شيئا منه مع القدرة وقيام أمر الشارع، لكنهم إن تركوا واجبا أو فعلوا محرما فهم آثمون، وإن فعلوا مكروها أو تركوا مستحبا فلا إثم.
النوع الثاني: ناقصون غير ملومين، وهم نوعان:
الأول: من عجز عنه حسا، كالعاجز عن الصلاة قائما.
الثاني: العاجزون شرعا مع القدرة عليه حسا. كالحائض تمتنع من الصلاة، فإن هذه قادرة عليه، لكن لم يقم عليها أمر الشارع. ولذلك جعلها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ناقصة الإيمان بذلك فإن من لم يفعل المأمور ليس كفاعله. ومثل ذلك من أسلم ثم مات قبل أن يصلي لكون الوقت لم يدخل، فإن ذلك كامل الإيمان لكنه من جهة أخرى ناقص، ولا يكون كمن فعل الصلاة وشرائع الإسلام، ومن ذلك قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خيركم من طال عمره وحسن عمله» . (1)
الأمر الثاني: من جهة العمل، فكلما كان العمل أفضل كانت زيادة الإيمان به أكثر.
القول الثاني: نفي التفاضل والتبعض، وانقسم أصحاب هذا القول إلى طائفتين.
__________
(1) أخرجه الترمذي: كتاب الزهد: باب ما جاء في طول العمر وقال: " حديث حسن صحيح".(7/239)
إحداهما: قالت: إن من فعل محرما أو ترك واجبا فهو مخلد في النار، وهؤلاء هم المعتزلة. وقالوا: هو لا مسلم ولا كافر منزلة بين منزلتين. وأما الخوارج فكفروه.
الطائفة الثانية: مقابلة لهذه قالت: كل موحد لا يخلد في النار والناس في الإيمان سواء، وهم المرجئة. وهم ثلاثة أصناف. صنف قالوا: الإيمان مجرد ما في القلب وهما نوعان.
الأول: من يدخل أعمال القلوب وهم أكثر فرق المرجئة.
والثاني: من لا يدخلها وهم الجهمية وأتباعهم كالأشعري، لكن الأشعري يثبت الشفاعة في أهل الكبائر.
والصنف الثاني: قالوا: الإيمان مجرد قول اللسان. وهم الكرامية، ولا يعرف لأحد قبلهم، وهؤلاء يقولون: إن المنافق مؤمن، ولكنه مخلد في النار.
الثالث: قالوا: إنه تصديق القلب وقول اللسان. وهم أهل الفقه والعبادة من المرجئة، ومنهم أبو حنيفة وأصحابه.
فائدة:
مراد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بقوله: «وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل» (1) ، أنه لم يبق بعد هذا الإنكار ما يدخل في الإيمان حتى يفعله المؤمن، لا أن من لم ينكر ذلك بقلبه لم يكن معه من الإيمان حبة خردل.
قلت: ومن رضي بالذنب واطمأن إليه فهو كفاعله لا سيما مع فعل ما يوصل إليه وعجز وقد قال الشيخ رحمه الله: [إن من ترك إنكار كل منكر بقلبه فهو كافر] .
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب الرقاق: باب رفع الأمانة، ومسلم: كتاب الإيمان: باب رفع الأمانة والإيمان من بعض القلوب.(7/240)
فائدة:
الإسلام عبادة الله وحده، فيتناول من أظهره ولم يكن معه إيمان، وهو المنافق، ومن أظهره وصدق تصديقا مجملا، وهو الفاسق، فالأحكام الدنيوية معلقة بظاهر الإيمان لا يمكن تعليقها بباطنه لعسره أو تعذره، ولذلك ترك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عقاب أناس، منافقين مع علمه بهم، لأن الذنب لم يكن ظاهرا.
ا. هـ. ما أردنا نقله من " كتاب الإيمان" على نوع من التصرف لا يخل بالمعنى.
ومن كلام الشيخ الإسلام في شرح عقيدة الأصفهاني.
فائدة:
الله جل جلاله لا يدعى إلا بأسمائه الحسنى خاصة، فلا يدعى ولا يسمى بالمريد والمتكلم، وإن كان معناهما حقا، فإنه يوصف بأنه مريد متكلم، ولا يسمى بهما، لأنهما ليسا من الأسماء الحسنى، فإن من الكلام ما هو محمود ومذموم، كالصدق والكذب، ومن الإرادة كذلك كإرادة العدل والظلم.
فائدة:
كل صفة لا بد لها من محل تقوم به، وإذا قامت الصفة بمحل فإنه يلزم منها أمران:
الأول: عود حكمها على ذلك المحل دون غيره.
الثاني: أن يشتق منها لذلك المحل اسم دون غيره.
مثال ذلك: الكلام فإنه يلزم من أثبت كونه من صفات الله- تعالى - أن(7/241)
يشتق منه اسم دون غيره، لكن لا يلزم من ذلك أن نثبت له اسما بأنه متكلم كما سبق، ويلزم أن لا يجعله مخلوقا في غيره خلافا للجهمية، حيث زعموا أنهم أثبتوا الكلام وجعلوه مخلوقا فإنه يلزم من كلامهم نفي الكلام عن الله، كما نفاه متقدموهم.
فائدة:
قال في ص 138: فالتزموا (أي المعتزلة) لذلك أن لا يكون لله علم، ولا قدرة، وأن لا يكون متكلما قام به الكلام، بل يكون القرآن وغيره من كلامه- تعالى- مخلوقا خلقه في غيره، ولا يجوز أن يرى لا في الدنيا ولا في الآخرة. ولا هو مباين للعالم، ولا مجانبة، ولا داخل فيه، ولا خارج عنه، ثم قالوا أيضا: لا يجوز أن يشاء خلاف ما أمر به ولا أن يخلق أفعال عباده ولا يقدر أن يهدي ضالا أو يضل مهتديا، لأنه لو كان قادرا على ذلك وقد أمر به، ولم يعن عليه لكان قبيحا منه، فركبوا عن هذا الأصل التكذيب بالصفات والقدرة، إلى أن قال: وأصل ضلالهم في القدر أنهم شبهوا المخلوق بالخالق سبحانه، فهم مشبهة الأفعال.
وأما أصل ضلالهم في الصفات، فظنهم أن الموصوف الذي تقوم به الصفات لا يكون إلا محدثا. وقولهم من أبطل الباطل فإنهم يسلمون أن الله حي عليم قدير، ومن المعلوم أن حيا بلا حياة وعليما بلا علم وقديرا بلا قدرة، مثل متحرك بلا حركة، وأبيض بلا بياض، وأسود بلا سواد، وطويل بلا طول، وقصير بلا قصر، ونحو ذلك من الأسماء المشتقة التي يدعى فيها نفي المشتق منه وهذه مكابرة للعقل، والشرع، واللغة.(7/242)
فائدة:
ليس ما علم إمكانه جُوِّز وقوعه! فإنا نعلم قدرة الله على قلب الجبال ذهبا ونحو ذلك، لكن نعلم أنه لا يفعله إلى غير ذلك من الأمثلة.
فائدة:
دليل النبوة يحصل بالمعجزات، وقيل: باستواء ما يدعو إليه وصحته وسلامته من التناقض، وقيل لا يحصل فيهما، والأصح أن المعجزة دليل، وثم دليل غيرها. فإن للصدق علامات، وللكذب علامات.
فمن العلامات سوى المعجزة النظر إلى نوع ما يدعو إليه، بأن يكون من نوع شرع الرسول قبله، فإن الرسالة من لدن آدم إلى وقتنا هذا لم تزل آثارها باقية، وذكر منها علامات كثيرة يرحمه الله رحمة واسعة والمسلمين.
فائدة:
إذا وجب عليه الإيمان فآمن، ولم يدرك أن يأتي بشرائع الإيمان كان كامل الإيمان، بالنسبة إلى الواجب عليه. وإن كان ناقصا بالنسبة لمن هو أعلى منه.
مثاله من آمن فمات قبل الزوال مثلا مات مؤمنا كامل الإيمان الواجب عليه. لكنه من دخلت عليه الأوقات وصلى أكمل إيمانا منه.
فمن ذلك علم أن نقصان الإيمان على نوعين:
أحدهما: ما يلام عليه.
الثاني: ما لا لوم فيه. كهذا المثال.
قلت: وأما من عجز عن إكمال عمل بعد أن أتى بما قدر عليه منه، فالظاهر أنه كمن فعله، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من مرض أو سافر»(7/243)
«كتب له ما كان يعمل صحيحا مقيما» (1) وأما إن عجز عنه أصلا فيحتمل أن يكون له أجر فاعله، لقصة الفقير الذي قال: لو أن عندي مال فلان لعملت فيه مثل عمله، وكان يصرفه في مرضاة الله. قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فهما في الأجر سواء» ويحتمل عكسه، لأن «فقراء الصحابة رضي الله عنهم لما قالوا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ذهب أهل الدثور بالأجور» لم يقل لهم: إن نيتكم تبلغكم ذلك فتمنوا، وإنما أخبرهم بعمل بدله، ولكن يقال: إن الذي لا يقدر على عمل معين، إما أن يكون لذلك العمل بدل يقدر عليه، فهذا لا يثاب على العمل إذا لم يأت ببدله؛ لأنه لو كان صحيح النية لعمل ذلك البدل. فعلى هذا يكون حصول الأجر مشروطا بعدم وجود بدله المقدور عليه، على أنا نقول: إن من نفع الناس بماله فله أجران.
الأول: بحسب ما قام بقلبه من محبة الله ومحبة ما يقرب إليه، فهذا الأجر يشركه فيه الفقير إذا نوى نية صحيحة.
والأجر الثاني: دفع حاجة المدفوع له، فهذا لا يحصل للفقير، والله أعلم.
وبذلك انتهى ما أردنا نقله من شرح الشيخ رحمه الله على عقيدة الأصفهاني.
فائدة:
من الجزء الأول من " بدائع الفوائد " لابن القيم ص 159 ما ملخصه:
ما يجري صفة أو خبرا عن الرب تعالى. أقسام:
الأول: ما يرجع إلى الذات نفسها كالشيء، والموجود.
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب الجهاد: باب يكتب للمسافر مثل ما كان يعمل في الإقامة.(7/244)
الثاني: ما يرجع لصفات معنوية، كالسميع العليم.
الثالث: يرجع إلى أفعاله كالخالق.
الرابع: يرجع للتنزيه المحض المتضمن كالقدوس السلام.
الخامس: الاسم الدال على أوصاف عديدة كالمجيد العظيم الصمد.
السادس: ما يحصل باقتران الاسمين أو الوصفين كالغني الحميد، فإن الغنى صفة مدح، وكذلك الحمد فله ثناء من غناه، وثناء من حمده وثناء منهما.
ويجب أن يعلم هنا أمور:
الأول: ما يدخل في باب الإخبار أوسع مما في أسمائه، وصفاته، فيخبر عنه بالموجود والشيء، ولا يسمى به (قلت: وقد تقدم في كلام الشيخ تقي الدين معنى ذلك) .
الثاني: الصفة إذا انقسمت إلى كمال ونقص فلا تدخل بمطلقها في أسمائه، كالصانع والمريد ونحوهما، فلذا لم يطلق على نفسه من هذا إلا أكمله فعلا وخبرا، كقوله {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} .
الثالث: لا يلزم من الإخبار عنه بفعل مقيد أن يشتق له منه اسم، ولذا غلط من سماه بالماكر والفاتن والمستهزئ ونحو ذلك.
الرابع: أن ما يطلق عليه في باب الأسماء والصفات توقيفي، دون ما يطلق من الأخبار.
الخامس: الاسم إذا أطلق عليه جاز أن يشتق منه المصدر والفعل إن كان متعديا كالسميع والعليم. وإلا فلا كالحي.(7/245)
السادس: أسماؤه كلها حسنى، وأفعاله صادرة عنها، فالشر ليس إليه فعلا ولا وصفا، وإنما يدخل في مفعولاته البائنة عنه دون فعله الذي هو وصفه.
إحصاء أسماء الله - تعالى- مراتب:
الأولى: إحصاء ألفاظها وعددها.
الثانية: فهم معانيها ومدلولها.
الثالثة: دعاؤه بها وهو مرتبتان:
الأولى: دعاء ثناء وعبادة فلا يكون إلا بها.
الثانية: دعاء مسألة فلا يسأل إلا بها، ولا يجوز يا شيء يا موجود ونحوهما.
السابع: أسماء الله الحسنى لا تدخل تحت حصر ولا عد، كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، «أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك» .. " إلخ. فجعل أسماءه ثلاثة أقسام: ما سمى به نفسه فأظهره لمن شاء من ملائكته وغيرهم، وما أنزل به كتابه، وما استأثر به تبارك وتعالى.
الثامن: من أسمائه ما يطلق عليه مفردا ومقترنا بغيره وهو غالبها كالسميع والبصير ونحوهما، فيسوغ أن يدعى ويثنى عليه ويخبر عنه مفردا ومقرونا، ومنها ما لا يطلق إلا مقرونا بغيره، لكون الكمال لا يحصل إلا به، كالضار، والمنتقم، والمانع، فلا تطلق إلا مقرونة بمقابلها. كالضار النافع والمنتقم العفو والمانع المعطي، إذ كمال التصرف لا يحصل إلا به.
قلت: لكن لو أطلق عليه من ذلك اسم مدح لم يمتنع فيسوغ أن يقال: العفو من دون المنتقم، كما ورد في القرآن الكريم، ومثله النافع والمعطي فإن هذه الأسماء تستلزم المدح والثناء المطلق، بخلاف المانع والمنتقم والضار(7/246)
على أن شيخ الإسلام رحمه الله ينكر تسمية الله بالمنتقم. ويقول: إن هذا لم يرد إلا مقيدا، كقوله تعالى: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} ، {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} ، {وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} .
التاسع: الصفات أنواع: صفات كمال، وصفات نقص، وصفات لا تقتضي واحدا منهما وصفات تقتضيهما باعتبارين، والرب- تعالى- منزه عن هذه الثلاثة، موصوف بالأول، وهكذا أسماؤه أسماء كمال، فلا يقوم غيرها مقامها من صفات الإدراكات العليم الخبير دون العاقل الفقيه، السميع البصير، دون السامع الباصر والناظر. ومن صفات الإحسان البر الرحيم، الودود دون (الرفيق) والشفيق ونحوهما. وهكذا سائر الأسماء الحسنى.
العاشر: الإلحاد في أسمائه أنواع.
الأول: أن يسمى به غيره من الأصنام.
الثاني: أن يسمى بما لا يليق بجلاله كتسميته أبا أو علة فاعلة. قلت: ومنه أن يسمى بغير ما سمى به نفسه.
الثالث: وصفه بما ينزه عنه، كقول أخبث اليهود: إنه فقير.
الرابع: تعطيلها عن معانيها وجحد حقائقها، كقول الجهمية: إنها ألفاظ مجردة لا تدل على أوصاف سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، وهكذا.
الخامس: تشبيه صفاته بصفات خلقه. تعالى الله عما يقول الملحدون علوا كبيرا.(7/247)
فائدة
قيل لبعض السلف: إن اليهود والنصارى يقولون: لا نوسوس قال: صدقوا وما يصنع الشيطان بقلب خراب؟!
قال الشيخ تقي الدين رحمه الله في الفتاوى ج 2 ص 21:
والوسواس يعرض لكل من توجه إلى الله بذكر أو غيره لا بد له من ذلك، فينبغي للعبد أن يثبت ويصبر ويلازم ما هو فيه من الذكر والصلاة ولا يضجر، فإنه بملازمة ذلك ينصرف كيد الشيطان عنه، إن كيد الشيطان كان ضعيفا. وكلما أراد العبد توجها إلى الله- تعالى- بقلبه جاءه من الوسواس أمور أخرى فإن الشيطان بمنزلة قاطع الطريق، كلما أراد العبد أن يسير إلى الله قطع الطريق عليه.
وقال في كتاب الإيمان ص 147 في الطبعة الهندية: وكثيرا ما يعرض للمؤمن شعبة من شعب النفاق، ثم يتوب الله عليه وقد يرد على قلبه بعض ما يوجب النفاق ويدفعه الله عنه. والمؤمن يبتلى بوسواس الشيطان وبوسواس الكفر التي يضيق بها صدره إلى أن قال: ولا بد لعامة الخلق من هذه الوساوس فمن الناس من يجيبها فيصير كافرا، أو منافقا، ومن الناس من قد غمر قلبه الشهوات والذنوب فلا يجربها إلا إذا طلب الدين، ولهذا يعرض للمصلين من الوساوس ما لا يعرض لغيرهم، لأن الشيطان يكثر تعرضه للعبد إذا أراد أن ينيب إلى ربه ويتصل به ويتقرب إليه ويعرض للخاصة أهل العلم والدين أكثر مما يعرض للعامة. ويوجد عند طلاب العلم والعبادة من الوساوس والشبهات ما ليس عند غيرهم، لأنه لم يسلك شرع الله ومنهاجه، بل هو مقبل على هواه في غفلة عن ذكر ربه وهذا هو مطلوب الشيطان بخلاف المتوجهين إلى ربهم بالعلم والعبادة فإنه عدوهم يطلب صدهم عن الله. ا. هـ. كلامه ملخصا رحمه الله ونسأل الله- تعالى- أن يعيذنا من عدونا عدو الإنس والجن إنه سميع عليم.(7/248)
فائدة:
عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال (1) : «خرجنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما برزنا من المدينة إذا راكب يوضع نحونا، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كأن هذا الراكب إياكم يريد فانتهى إلينا الرجل فسلم فرددنا عليه. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من أين أقبلت؟ قال: من أهلي وولدي وعشيرتي قال: فأين تريد؟ قال أريد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: فقد أصبته قال: يا رسول الله علمني ما الإيمان؟ قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان وتحج البيت. قال: قد أقررت قال: ثم إن بعيره دخلت يده في شكة جرذان فهوى بعيره وهوى الرجل فوقع على هامته فمات.
فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: علي بالرجل. فوثب إليه عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان فأقعداه، فقالا: يا رسول الله قبض الرجل، قال: فأعرض عنهما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم قال لهما رسول الله عليه وسلم: أما رأيتما إعراضي عن الرجل فإني رأيت ملكين يدسان في فيه من ثمار الجنة فعلمت أنه مات جائعا، ثم قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هذا من الذين قال الله فيهم: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} الآية ثم قال: دونكم أخاكم فاحتملناه إلى الماء فغسلناه وحنطناه وكفناه»
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد جـ 4 ص 3، وأبو داود: كتاب الجنائز: باب في اللحد، والنسائي: كتاب الجنائز: باب اللحد والشق، وابن ماجه: كتاب الجنائز: باب ما جاء في استحباب اللحد، والترمذي: كتاب الجنائز: باب في قول النبي صلى الله عليه وسلم: " اللحد لنا والشق لغيرنا" والبيهقي في " السنن الكبرى " جـ 4 ص 403، والطبراني في " المعجم الكبير" جـ 2 ص 360 وابن أبي شيبة في " المصنف " جـ 3 ص 322.(7/249)
«وحملناه إلى القبر، فجاء رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى جلس على شفير القبر فقال: الحدوا ولا تشقوا فإن اللحد لنا والشق لغيرنا» . رواه أحمد بن حنبل عن إسحاق بن يوسف حدثنا أبو جناب عن زادان عن جرير.
وفي الحديث دليل على أن الإيمان يطلق على الأعمال الظاهرة التي هي الإسلام. اللهم توفنا على الإيمان، وأحينا على سنة المصطفى من بني الإنسان، يا كريم يا رحمن يا حي يا قيوم.
فائدة:
قال شيخ الإسلام في كتاب النبوات ص 172- 173 مفرقا بين النبي والرسول: إن النبي ينبئه الله وهو ينبئ بما أنبأ الله به فإن أرسل مع ذلك إلى من خالف أمر الله ليبلغه رسالة من الله إليه فهو رسول.
وأما إذا كان إنما كان يعمل بالشريعة قبله ولم يرسل هو إلى أحد يبلغه عن الله رسالة فهو نبي وليس برسول.
فائدة:
قال في [مختصر الصواعق] أثناء كلامه على حديث النزول ص 381 مطبعة الإمام:
الحادي عشر: أن الخبر وقع عن نفس ذات الله- تعالى- لا عن غيره فإنه قال: «إن الله ينزل إلى السماء الدنيا،» فهذا خبر عن معنى لا عن لفظ، والمخبر عنه هو مسمى هذا الاسم العظيم، فإن الخبر يكون عن اللفظ تارة وهو قليل ويكون عن مسماه ومعناه وهو الأكثر.
فإذا قلت: زيد عندك وعمرو قائم فإنما أخبرت عن الذات لا عن(7/250)
الاسم فقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} هو خبر عن ذات الرب- تعالى- فلا يحتاج المخبر أن يقول: خالق كل شيء بذاته، وقوله: {اللَّهُ رَبُّكُمْ} قد علم أن الخبر عن ذاته نفسها. وقوله: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} وكذلك جميع ما أخبر الله به عن نفسه إنما هو خبر عن ذاته لا يجوز أن يخص من ذلك إخبار واحد البتة، فالسامع قد أحاط علما بأن الخبر إنما هو عن ذات المخبر عنه ويعلم المتكلم بذلك لم يحتج أن يقول: إنه بذاته فعل وخلق واستوى، فإن الخبر عن مسمى اسمه وذاته وهذا حقيقة الكلام ولا ينصرف إلى غير ذلك إلا بقرينة ظاهرة تزيل اللبس وتعين المراد، فلا حاجة بنا أن نقول: استوى على العرش بذاته وينزل إلى السماء بذاته، كما لا يحتاج أن نقول: خلق بذاته وقدر بذاته وسمع وتكلم بذاته، وإنما قال الأئمة ذلك إبطالا لقول المعطلة ا. هـ.
وقوله: فإن الخبر يكون عن اللفظ تارة، مثاله قول المعربين في: زيد قائم، زيد مبتدأ، وقائم خبره.
فائدة:
قال الشيخ تقي الدين ص 180 ج 12 من مجموع الفتاوى:
وأما التكفير فالصواب أنه من اجتهد من أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقصد الحق فأخطأ لم يكفر بل يغفر له خطؤه، ومن تبين له ما جاء به الرسول فشاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى واتبع غير سبيل المؤمنين فهو كافر، ومن اتبع هواه وقصر في طلب الحق وتكلم بلا علم فهو عاص مذنب، ثم قد يكون فاسقا، وقد تكون له حسنات ترجع على سيئاته،(7/251)
فالتكفير يختلف بحسب اختلاف حال الشخص فليس كل مبتدع ولا مخطئ ولا جاهل ولا ضال يكون كافرا بل ولا فاسقا بل ولا عاصيا ا. هـ.
فائدة:
قال الشيخ تقي الدين 307 ج 11 من مجموع الفتاوى: والمقصود هنا أن الجن مع الإنس على أحوال:
(أ) من كان يأمر الجن بما أمر الله به ورسوله ويأمر الإنس بذلك فهو من أفضل أولياء الله.
(ب) من كان يستعمل الجن في أمور مباحة له فهو كمن استعمل الإنس في ذلك.
(ج) من كان يستعملهم فيما نهى الله عنه ورسوله كالشرك وقتل المعصوم والعدوان عليه بما دون القتل فإن استعان بهم على الكفر فهو كافر وعلى المعاصي فهو عاص إما فاسق وإما مذنب غير فاسق. ا. هـ. ملخصا.
وقال ص 62 ج 19 من المجموع: وأما سؤال الجن وسؤال من يسألهم، فإن كان على وجه التصديق لهم في كل ما يخبرون به والتعظيم للمسؤول فحرام، وإن كان ليمتحن حاله ويختبر باطن أمره وعنده ما يميز صدقه من كذبه فهذا جائز، وذكر أدلة ذلك ثم قال: وكذلك إذا كان يسمع ما يقولونه ويخبرون به عن الجن كما يسمع المسلمون ما يقول الكفار والفجار ليعرفوا ما عندهم فيعتبروا به وكما يسمع خبر الفاسق ويتبين ويتثبت فلا يجزم بصدقه ولا كذبه إلا ببينة، ثم ذكر أنه روي عن أبي موسى الأشعري أنه أبطأ عليه خبر عمر وكان هناك امرأة لها قرين من الجن فسأله عنه فأخبره أنه ترك عمر يسم إبل الصدقة.
وفي خبر آخر أن عمر أرسل جيشا فقدم شخص إلى المدينة فأخبر أنهم(7/252)
انتصروا على عدوهم، وشاع الخبر فسأل عمر عن ذلك فذكر له فقال: هذا أبو الهيثم بريد المسلمين من الجن وسيأتي بريد الإنس بعد ذلك فجاء بعد ذلك بعدة أيام. ا. هـ.
وقال في كتاب النبوات ص 260: والجن الذين يطيعون الإنس وتستخدمهم الإنس ثلاثة أصناف:
أعلاها أن يأمرهم بما أمر الله به ورسله. وذكر كلاما ثم قال:
ومن الناس من يستخدم من يستخدمه من الإنس في أمور مباحة كذلك فيهم من يستخدم الجن في أمور مباحة لكن هؤلاء لا يخدمهم الإنس والجن إلا بعوض مثل أن يخدموهم كما يخدمونهم أو يعينوهم على بعض مقاصدهم، وإلا فليس أحد من الإنس والجن يفعل شيئا إلا لغرض، والإنس والجن إذا خدموا الرجل الصالح في بعض أغراضه المباحة فإما أن يكونوا مخلصين يطلبون الأجر من الله وإلا طلبوه منه إما دعاؤه لهم وإما نفعه لهم بجاهه أو غير ذلك.
والقسم الثالث: أن يستخدم الجن في أمور محظورة أو بأسباب محظورة وذكر أن هذا من السحر، وذكر كلاما كثيرا.
ثم قال ص 267: والجن المؤمنون قد يعينون المؤمنين بشيء من الخوارق كما يعين الإنس المؤمنون للمؤمنين بما يمكنهم من الإعانة ا. هـ.
فائدة:
قول السفاريني في عقيدته عند ذكر الاستواء: (قد تعالى أن يحد) .
الحد لفظ مجمل يراد به تارة معنى صحيح، وأخرى معنى باطل.
ومن ثم قال الإمام أحمد: " وهو على العرش بلا حد"، ومرة أخرى قيل له ما يذكر عن ابن المبارك أنه قيل له: كيف نعرف ربنا عز وجل؟ فقال:(7/253)
بأنه على عرشه بائن من خلقه بحد قال: قد بلغني ذلك عنه وأعجبه وقال: هكذا هو عندنا.
وذلك أن الحد تارة يراد به أن الله محدود يدرك العقل حده وتحيط به المخلوقات فهذا باطل.
وتارة يراد به أنه بائن من خلقه غير حال فيهم فهذا صحيح. ولذلك رد الإمام عثمان بن سعيد الدارمي على بشر المريسي في نفيه الحد وقال: إنه لا معنى لنفيك، إلا أن الله لا شيء، لأنه ما من شيء يقع عليه اسم الشيء إلا وله حد وغاية وصفة، لكن الباري جل وعلا لا يعلم كيفية صفته إلا هو قال: فنحن نؤمن بالحد ونكل علمه إلى الله- تعالى- ا. هـ.
وبذلك تعرف أن نفي الحد وإثباته على وجه الإطلاق لا ينبغي على أن السلامة هي أن يقال: إن الحد لا يضاف إلى الله إطلاقا لا على سبيل وجه النفي ولا على وجه الإثبات، لكن معناه يستفصل فيه، ويثبت الحق منه ويبطل الباطل. والله أعلم.
فائدة:
في كتاب العقل والنقل ص 60 ج2 مفرد نقلا عن أبي حامد: وكان عبد الله بن سعيد بن كلاب يقول: هي حكاية عن الأمر فخالفه أبو الحسن الأشعري، بأن الحكاية تحتاج أن تكون مثل المحكي، ولكن هو عبارة عن الأمر القائم بالنفس.
فائدة:
سؤال الملكين يعم كل ميت، وقال بعض الحفاظ والمحققين: الذي يظهر اختصاص السؤال بمن يكون له تكليف وبه جزم غير واحد من أئمة(7/254)
الشافعية ولم يستحبوا تلقينه إذا وجزم الترمذي بأن المعلن في كفره لا يسأل، ووافقه ابن عبد البر وخالفه القرطبي وابن القيم لقوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} ولحديث البخاري «وأما الكافر والمنافق» ورجحه ابن حجر وجزم ابن عبد البر والترمذي باختصاص السؤال بهذه الأمة، وخالفهما ابن القيم وجماعة وتوقف آخرون وظاهر الأحاديث أن السؤال بالعربية كما أنه لسان أهل الجنة والله أعلم.
فائدة:
في تاريخ الجهمية والمعتزلة نقلا عن مجلة المنار في مواضع متعددة بطريقة مختصرة.
انقسام التجهم ص 745 مج 16.
قال الشيخ تقي الدين: ليس الناس في التجهم على درجة واحدة بل انقسامهم في التجهم يشبه انقسامهم في التشيع، ولذلك يتستر الزنادقة بهاتين البدعتين اللتين هم أعظم أو من أعظم البدع التي حدثت في الإسلام.
فالرافضة القدماء ليسوا جهمية بل مثبتو صفات، وغالبهم يصرح بلفظ الجسم، كما أن الجهمية ليسوا رافضة بل كان الاعتزال فاشيا فيهم، والمعتزلة ضد الرافضة وهما إلى النصب أقرب، ولكن في عهد بني بويه فشا التجهم في الرافضة والشيعة ثلاث درجات.
شرها الغالية الذين يجعلون لعلي شيئا من الألوهية أو النبوة.
والدرجة الثانية الرافضة المعروفة كالإمامية وغيرهم يعتقدون أن عليا(7/255)
الإمام الحق بعد النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بنص جلي أو خفي، ولكنه ظلم ويبغضون أبا بكر وعمر ويشتمونهما وهذا أعني بغضهما وشتمهما سيما الرافضة.
الثالثة: المفضلة يفضلون عليا على أبي بكر وعمر، لكن يتولونهما ويعتقدون عدالتهما وإمامتهما كالزيدية وهؤلاء أقرب إلى أهل السنة منهم إلى الرافضة.
وكذلك الجهمية ثلاث درجات:
غالية: ينفون أسماء الله وصفاته، وإن سموه بشيء من أسمائه قالوا: هو مجاز فهو عندهم ليس بحي ولا عالم.. إلخ، فهم لا يثبتون شيئا ولكن يدفعون التشنيع بما يقرون به في العلانية. وقد قال أبو الحسن الأشعري: إن هؤلاء أخذوا عن إخوانهم المتفلسفة الذين زعموا أن للعالم صانعا لم يزل ليس بعالم ولا قادر.. إلخ. غير أن هؤلاء لم يظهروا المعنى فقالوا: إن الله عالم من طريق التسمية من غير أن نثبت له علما أو قدرة.. إلخ. وهذا القول، قول القرامطة الباطنية ومن سبقهم من إخوانهم الصابئة والفلاسفة.
الدرجة الثانية: تجهم المعتزلة يقرون بالأسماء الحسنى في الجملة ويجعلون كثيرا منها على المجاز، لكنهم ينفون صفاته وهؤلاء هم الجهمية المشهورون.
والثالثة: الصفاتية المثبتون المخالفون للجهمية، لكن فيهم نوع من التجهم يقرون بأسماء الله وصفاته في الجملة لكن يردون طائفة من أسمائه وصفاته الخبرية وغير الخبرية ويتأولونها كما تأول الأولون صفاته كلها. ومنهم من يقر بما جاء في القرآن الكريم دون الحديث ومنهم من يقر بالجميع، لكن مع نفي وتعطيل للبعض وهؤلاء إلى السنة المحضة أقرب إلى الجهمية المحضة. بيد أن متأخريهم والوا المعتزلة وقاربوهم أكثر فخالفوا أوليهم ا. هـ.(7/256)
وقد أشار إلى أن كلام الشيخ هذا في التسعينية. انتهى الكلام على الجهمية.
أما الكلام على المعتزلة فيلخص فيما يلي:
1. من هم المعتزلة؟
ص 749 ج 16 هي فرقة إسلامية كبيرة جدا إذ إنه انتحلها رجال كثيرون فشيعة العراق قاطبة، والأقطار الهندية والشامية والبلاد الفارسية والزيدية في اليمن، كل هؤلاء الذين يعدون بالملايين على مذهب المعتزلة.
أما في نجد فقد انتشر مذهب السلف الأثرية، كما يوجد ذلك في طوائف من الهند وفي جماعات قليلة في العراق والحجاز والشام.
أما السواد الأعظم من البلاد الإسلامية فعلى المذهب المنسوب إلى الأشعري أي الذي تداوله المتأخرون إذ إن مذهب الأشعري بنفسه هو مذهب أحمد بن حنبل كما صرح بذلك في كتابه الإبانة.
2. تلقيب المعتزلة بالجهمية ص 751 مج 16.
كان مذهب الجهمية سابقا بزمن قريب مذهب المعتزلة غير أنهما اتفقا على أصول كبيرة في مذهبهما وهي نفي الصفات والرؤية وخلق الكلام، فصاروا كأهل المذهب الواحد وإن اختلفوا في بعض الفروع، ومن ثم أطلق أئمة الأثر (الجهمية) على المعتزلة فالإمام أحمد والبخاري في كتابيهما "الرد على الجهمية" ومن بعدهما يعنون بالجهمية المعتزلة لأنهم بهذه المسائل أشهر من الجهمية خصوصا في المتأخرين.
وأما المتقدمون فيعنون بالجهمية الجهمية لأنها الأم السابقة لغيرها من مذاهب التأويل (أي التعطيل) . كما سبق عن الشيخ تقي الدين.
قال رشيد: وبما ذكر يزول الاشتباه الذي يراه البعض من ذكر الجهمية في هذه المسائل، مع أنها في عرفهم مضافة إلى المعتزلة وذلك أن(7/257)
تلقيبهم بالجهمية لما وجد من موافقتهم إياهم في هذه المسائل، ومن ثم قال الشيخ تقي الدين: كل معتزلي جهمي ولا عكس، لكن جهم أشد تعطيلا لأنه ينفي الأسماء والصفات.
فائدة:
قال ابن مفلح في الفروع: لم يبعث إليهم (أي الجن) نبي قبل نبينا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قلت: ويشهد له قوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-،: «وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة» . (1)
فأما قوله تعالى، عن الجن: {يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} . فظاهره أنهم كانوا يتعبدون بشريعة موسى، وكذا هو ظاهر حال الجن المسخرين لسليمان أي إن الظاهر أنهم كانوا يتعبدون بشريعة سليمان، وكان يتعبد بشريعة موسى، هكذا قيل: إنه ظاهر حالهم وفيه نظر ولكن يكفينا ظاهر الآية.
والجواب أن الظاهر أنه لم يكلف بالرسالة إليهم، وإن كانوا قد يتعبدون بها والله أعلم.
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب التيمم، ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة.(7/258)
فائدة:
حديث عمران بن حصين: «كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء ثم خلق السماوات والأرض» .
وقد روى الترمذي بإسناد صححه في موضع وحسنه في آخر، والبيهقي، وأحمد وابن ماجه، ومحمد بن الصباح، «من حديث أبي رزين العقيلي أنه قال: يا رسول الله أين ربنا قبل أن يخلق السماوات والأرض؟
قال: "كان الله في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء. ثم خلق العرش ثم استوى عليه» . (1) هذا لفظ البيهقي.
العماء: هو السحاب الكثيف المطبق.
قال ابن كثير في البداية والنهاية ص 8 ج 1 ما ملخصه: واختلف في أيها خلق أولا، فقال قائلون: خلق الله القلم قبل هذه الأشياء كلها، وهو اختيار ابن جرير، وابن الجوزي وغيرهما، قال ابن جرير: وبعد القلم السحاب الرقيق.
واحتجوا بحديث عبادة بن الصامت مرفوعا «إن أول ما خلق الله القلم» . (2) رواه أحمد، وأبو داود والترمذي.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في المسند جـ4 ص 11، والترمذي: كتاب التفسير " سورة هود" جـ 5 ص 288، وابن ماجه: المقدمة: باب فيما أنكرت الجهمية، والطبراني في" المعجم الكبير" جـ 19 ص 207، وابن أبي عاصم في " السنة " جـ1 ص 272، والبيهقي في " الأسماء والصفات" جـ 2 ص 150، وعبد الله بن الإمام أحمد في " السنن " ج 2 ص 243.
(2) أخرجه الإمام أحمد ج5 ص 317، وأبو داود: كتاب السنة: باب في القدر، والترمذي: كتاب التفسير: باب " 66" والطيالسي (577) ، والآجري في " الشريعة " ص 177 وابن أبي عاصم في " السنة " جـ1 ص 48، والبيهقي في " الأسماء والصفات" جـ 2 ص 117، وأبو نعيم ج 5، ص 248.(7/259)
والذي عليه الجمهور: أن العرش قبل لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا «إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه في الماء» ، (1) وحملوا إن أول ما خلق الله القلم (أي من هذا العالم) قال ابن جرير: وقال آخرون: بل خلق الله الماء قبل العرش. ثم حكى عن محمد بن إسحاق أن أول ما خلق الله النور والظلمة، ثم ميز بينهما، ثم قال: وقد قيل: إن الذي خلق ربنا بعد القلم الكرسي، ثم العرش، ثم الهواء والظلمة، ثم الماء، فوضع عرشه على الماء. والله أعلم.
فائدة:
أفعال العباد:
اعلم أن الناس في أفعال العباد على ثلاثة أقسام:
طرفين، ووسط.
فأما الطرفان فهما الجبرية والقدرية النفاة.
فالجبرية زعموا أن العبد مجبور على فعله مقهور لا تأثير له فيه البتة، حتى بالغ غلاتهم بأن فعل العبد هو عين فعل الله، ولا ينسب إلى العبد إلا على سبيل المجاز وأن الله يلوم العبد ويعاقبه على ما لا صنع له فيه، ولا إرادة، ولا اختيار، بل هو مضطر إليه لا فرق بينه وبين حركة المرتعش.
واستدل هؤلاء بأنه قد تقرر عقلا وشرعا، بأن الله خالق كل شيء ومليكه ومدبره، لا يشذ عن هذا الأصل العظيم شيء، لا كلي ولا جزئي لا من أفعال العباد ولا غيرها. كما قال تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} .
__________
(1) أخرجه الإمام مسلم في " صحيحه" " 2653".(7/260)
{الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} . {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} . وغير ذلك من نصوص الكتاب والسنة الدالة على عموم خلق الله.
وبأن العباد في ملكه وكيف يكون في ملكه ما لا يريد؟!
وهذه الطائفة نبغت مقابلة للطائفة الثانية القدرية التي هي:
الطرف الثاني قالوا: إن العبد قادر على أفعاله مخترع لها على وجه الاستقلال، ولا تعلق لقدرة الله بها أصلا.
قال ابن القيم في [شفاء العليل] ص 51: [وكلهم متفقون على أن الله غير فاعل لأفعال العباد، واختلفوا هل يوصف بأنه مخترعها، ومبدعها، وأنه قادر عليها وخالق لها فجمهورهم نفوا ذلك، ومن يقرب منهم إلى السنة أثبت كونها مقدورة لله، وأن الله قادر على أعيانها، وأن العباد أحدثوها بإقدار الله لهم على إحداثها، وليس معنى قدرة الله عليها عندهم أنه قادر على فعلها، هذا عندهم عين المحال بل قدرته عليها إقدارهم على إحداثها] ا. هـ. كلامه.
وهؤلاء استدلوا بالأدلة الدالة على أن العمل مضاف إليه، والأصل في الإضافة أنها للحقيقة، ومن المعلوم امتناع معمول واحد من عاملين على وجه الاستقلال من كل منهما.
ولأنه لو كان الله خالقا أفعالهم لكان عقابه إياهم على المعصية ظلما لهم.
ولأننا نجد الفرق ضرورة بين الحركة الاختيارية، والحركة الاضطرارية، كالارتعاش وبأنه لو اعتدى شخص على بدن أو مال أو عرض ثم احتج بالقدر، وأن ذلك بغير اختيار منه، لرده جميع العقلاء.(7/261)
لكن هؤلاء ألغوا جميع النصوص الدالة على أن خلق الله عام والتزموا أن يكون في ملكه ما لا يريد، وغلوا في النصوص والأدلة الدالة على أن فعل العبد يضاف إليه، حيث زعموا أنه لا تعلق لإرادة الله وخلقه فيما يفعله العبد من الطاعات وغيرها، وجفوا عن النصوص الدالة على عموم خلق الله.
وأولئك غلوا في النصوص الدالة على عموم خلق الله لكل شيء وجفوا عن النصوص الدالة على أن للعبد فعلا يضاف إليه ويقع باختياره.
ودين الله- تعالى- بين الغالي فيه والجافي عنه، ولذلك كان أسعد الناس به هم أهل السنة والجماعة القائلون بأن الله- تعالى- رب كل شيء ومليكه وخالقه، لا يشذ عن هذا الأصل العظيم شيء وقد دل عليه الكتاب والسنة وإجماع الأمة قبل ظهور مجوسها القدرية النفاة، وهم مع ذلك يقولون: [إن العباد فاعلون لأفعالهم حقيقة تضاف إليهم ويجازون عليها بالعدل والإحسان، وهذا لا ينافي أن يكون الله خالقا لأفعالهم، فإن أفعال العباد تضاف إلى الله خلقا وتكوينا، وتضاف إليهم فعلا ومباشرة، وفرق بين مخلوق الله، وبين فعله، فأفعالهم مخلوقة بائنة عنه لا تنسب إليه على أنها فعله وهي فعل العباد الموصوفين فيها حقيقة، فهي من صفاتهم العائد حكمها إليهم، والعقلاء كلهم يعلمون أن فعل الفاعل ناشئ عن قدرته وإرادته الجازمة، لا يتخلف عنها البتة، ولا يمكن وجوده مع عدمه أو عدم إحداهما، والله- تعالى- هو الذي خلق الآدمي بما فيه من قدرة وإرادة، وخالق السبب التام خالق للمسبب، فالرب جعل إرادة العبد وقدرته سببا لإيجاد فعله بمنزلة إحراق النار لما وقع فيها مما يقبل الاحتراق. فإن إحراق النار يضاف إليها على وجه المباشرة، ويضاف إلى من أوقدها على أنه هو فاعل السبب.(7/262)
قال ابن القيم رحمه الله في شفاء العليل ص 130 بعد أن أطال رحمه الله في الكلام على الكسب والجبر: فالطوائف كلها متفقة على الكسب، ومختلفون في حقيقته، فالقدرية قالوا: هو إحداث العبد لفعله بقدرته ومشيئته استقلالا، وليس للرب فيه صنع ولا هو خالق فعله ولا مكونه ولا مريد له.
وقالت الجبرية: اقتران الفعل بالقدرة الحادثة من غير أن يكون لها فيه أثر.
ثم ذكر أن الأشعري في عامة كتبه، فسر الكسب بأن يكون الفعل بقدرة محدثة، فمن وقع الفعل منه بقدرة محدثة فهو مكتسب، ومن وقع منه بقدرة قديمة فهو فاعل خالق.
وقال بعض المعتزلة: من يفعل بغير آلة ولا جارحة فهو خالق، ومن يحتاج في فعله إلى الآلات والجوارح فهو مكتسب، ثم قال: ونحن نقول: هي أفعال للعباد حقيقة ومفعولة للرب، فالفعل عندنا غير المفعول وهو إجماع من أهل السنة، فالعبد فعلها حقيقة والله خالقه وخالق ما فعل به من القدرة والإرادة وخالق فاعليته.
وسر المسألة أن العبد فاعل متفعل باعتبارين.
ثم قال ص 131: قلت: هاهنا ألفاظ، وهي فاعل، وعامل، ومكتسب، وكاسب، وصانع، ومحدث، وجاعل، ومؤثر، ومنشئ، وموجد، وخالق، وبارئ، ومصور، وقادر، ومريد.
وهذه الألفاظ ثلاثة أقسام:
قسم لم يطلق إلا على الرب، كالبارئ، والبديع، والمبدع.
وقسم لا يطلق إلا على العبد، كالكاسب، والمكتسب.(7/263)
وقسم وقع إطلاقه على العبد والرب، كاسم صانع، وفاعل وعامل ومنشئ، ومريد، وقادر.
وأما الخالق المصور فإن استعملا مقيدين أطلقا على العبد، كما يقال لمن قدر في نفسه شيئا: إنه خلقه.
وبهذا الاعتبار صح إطلاق خالق على العبد، في قوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} قلت: ووجه ذلك أن الخالقين جمع مفضل عليهم بإضافة اسم التفضيل، ومن المعلوم أنه لا ثم سوى خالق أو مخلوق فإذا كان الخالق أحسن الخالقين كان المفضل عليهم مخلوقين وسماهم الله هنا خالقين. فدل على صحة إطلاق الخالق على المخلوق.
قلت: ومن ذلك قوله تعالى: {وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في الحديث القدسي: إن الله قال: «ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي» (1) وقوله في الحديث الآخر: «يقال للمصورين: " أحيوا ما خلقتم» . (2)
هذا وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في الكتاب المذكور ص 121- 122 عن الإسفرائيني كلاما، قال ابن القيم بعده: قلت: مراده أي الإسفرائيني أن إطلاق لفظ الخلق لا يجوز إلا على الله وحده. ا. هـ. فتأمل ما في قوله: إطلاق لفظ الخلق فإنه يوافق كلامه هنا والله أعلم.
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب اللباس: باب نقض الصور، ومسلم: كتاب اللباس والزينة: باب تحريم تصوير صورة الحيوان.
(2) أخرجه البخاري: كتاب اللباس: باب من كره القعود على الصور، ومسلم: كتاب اللباس: باب تحريم تصوير صورة الحيوان.(7/264)
فائدة:
مراتب القضاء والقدر أربع: من شفاء العليل ص 29 ما ملخصه.
الأولى: علم الله- تعالى- بالأشياء قبل كونها.
الثانية: كتابته لها قبل كونها.
الثالثة: مشيئته لها.
الرابعة: خلقه لها. ا. هـ.
فأما المرتبة الأولى: فقد اتفقت عليها جميع الرسل من أولهم إلى خاتمهم، وهذه المرتبة كان ينكرها طائفتان:
الأولى: من ينفي علمه بالجزئيات، وهم الفلاسفة.
الثانية: غلاة القدرية الذين قالوا: إن الله لا يعلم أعمال العباد حتى يعملوها، ولم يكتبها أو يقدرها فضلا عن أن يخلقها.
المرتبة الثانية: مرتبة الكتابة، وهي أن الله كتب في اللوح المحفوظ ما هو كائن إلى يوم القيامة.
وهذه المرتبة هي مرتبة التقدير والتقادير خمسة أنواع:
النوع الأول: التقدير العام، وهو المكتوب في اللوح المحفوظ الذي كان قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء قال شيخ الإسلام رحمه الله: علم الله- تعالى- السابق ثابت لا يتغير وأما الصحف التي بأيدي الملائكة فيلحقها المحو والإثبات وأما اللوح المحفوظ فهل يلحقه ذلك؟ على قولين:
النوع الثاني: تقدير أرزاق العباد وآجالهم وأعمالهم قبل أن يخلقهم.
النوع الثالث: تقدير ما ذكر على الجنين في بطن أمه.(7/265)
قال ابن القيم رحمه الله في شفاء العليل ص 22: فاجتمعت هذه الأحاديث والآثار على تقدير رزق العبد وأجله وشقاوته وسعادته، وهو في بطن أمه، واختلفت في وقت هذا ففي حديث ابن مسعود أنه بعد مائة وعشرين يوما من حصول النطفة في الرحم (1) وحديث أنس غير مؤقت (2) وحديث حذيفة بن أسيد وقِّت فيه التقدير بأربعين يوما، وفي لفظ بأربعين ليلة، وفي لفظ باثنتين وأربعين ليلة، وفي لفظ بثلاث وأربعين ليلة. وهو حديث تفرد به مسلم. (3)
ثم قال في وجه الجمع بينهما: إن هناك تقديرين:
أحدهما: سابق لنفخ الروح وهو المتعلق بشأن النطفة إذا بدأت بالتخليق وهو العلق.
والثاني: حين نفخ الروح: وهو المتعلق بشأنها حين تتعلق بالجسد.
أي فصار التقدير معلقا بمبدأ الجسد ومبدأ الروح.
النوع الرابع: التقدير السنوي، وهو ما يكون ليلة القدر.
النوع الخامس: التقدير اليومي.
فالتقديرات خمسة: يومي، وحولي، وعمري، عند تعلق النفس بالبدن وعند تخليقه، وتقدير قبل وجود ابن آدم بعد خلق السماوات والأرض، وتقدير قبل خلق السماوات والأرض، وكل هذه تفاصيل للتقدير السابق.
المرتبة الثالثة: مرتبة المشيئة، وهي عموم مشيئة الله تعالى.
وقد نفى المشيئة إطلاقا طوائف من الفلاسفة وأتباعهم، ونفاها القدرية المعتزلة بالنسبة إلى أفعال العباد فقط.
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب القدر، ومسلم: كتاب القدر: باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه.
(2) البخاري: كتاب القدر، ومسلم: كتاب القدر: باب كيفية الخلق الآدمي.
(3) أخرجه مسلم / كتاب القدر/ باب كيفية الخلق الآدمي.(7/266)
المرتبة الرابعة: مرتبة الخلق وهي عموم خلق الله لكل ما سواه، وقد سبق الكلام عليها.
فائدة:
الرضا بالقضاء الذي هو وصف الله وفعله واجب مطلقا، لأنه من تمام الرضا بالله ربا.
وأما القضاء الذي هو المقضي فالرضا به مختلف.
فإن كان المقضي دينيا وجب الرضا به مطلقا.
وإن كان كونيا فإما أن يكون نعما أو نقما أو طاعات أو معاصي.
فالنعم يجب الرضا بها لأنه من تمام شكرها، وشكرها واجب.
وأما النقم كالفقر والمرض ونحوهما، فالرضا بها مستحب عند الجمهور وقيل بوجوبه.
وأما الطاعات فالرضا بها طاعة واجبة إن كانت الطاعة واجبة ومستحبة إن كانت مستحبة. وأما المعاصي فالرضا بها معصية، والمكروهات الرضا بها مكروه، والمباحات مباح والله أعلم.
فائدة:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه أقوم ما قيل ص 141 من القسم الثالث من مجموعة رسائله قال:
ومن توهم منهم أي من القدرية أو من نقل عنهم أن الطاعة من الله والمعصية من العبد فهو جاهل بمذهبهم، فإن هذا لم يقله أحد من علماء القدرية ولا يمكن أن يقوله فإن أصل قولهم أن فعل العبد للطاعة كفعله(7/267)
للمعصية كلتاهما فعله بقدرة تحصل له من غير أن يخصه بإرادة خلقها فيه، فإذا احتجوا بهذه الآية على مذهبهم كانوا جاهلين بمذهبهم ويعني بالآية قوله تعالى: {أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} إلى قوله: فإن عندهم الحسنة المفعولة والسيئة المفعولة من العبد لا من الله ا. هـ.
ورأيت في تفسير ابن كثير رحمه الله ص 267 ج 4 عند قوله تعالى:
{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} «عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قيل له: إن رجلا قدم علينا يكذب بالقدر فقال: دلوني عليه وهو أعمى، قالوا: وما تصنع به يا أبا عباس قال: والذي نفسي بيده لئن استمكنت منه لأعضن أنفه حتى أقطعه، ولئن وقعت رقبته في يدي لأدقنها فإني سمعت رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: " كأني بنساء بني فهر يطفن بالخزرج تصطفق ألياتهن مشركات هذا أول شرك هذه الأمة والذي نفسي بيده لينتهين بهم سوء رأيهم حتى يخرجوا الله من أن يكون قدر خيرا كما أخرجوه من أن يكون قدر شرا» (1) رواه أحمد.
فائدة:
قال الشيخ تقي الدين في الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ص 96 ج 4: والناس في المعاد على أربعة أقوال:
أحدها إثبات معاد الروح والبدن وهو مذهب المسلمين من الصحابة والتابعين لهم بإحسان.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد جـ 1 ص، 330، والهيثمي في " المجمع" ج 7 ص 204.(7/268)
الثاني أن المعاد للأبدان فقط قاله كثير من المتكلمين من الجهمية والمعتزلة وغيرهم.
الثالث أن المعاد للروح وحدها وهو قول الفلاسفة المشركين لم يقله أحد من أهل الملل لا المسلمون ولا اليهود ولا النصارى، فإنهم كلهم متفقون على إعادة الأبدان وعلى القيامة الكبرى، وأهل هذا القول منهم من يقول بأن الأرواح تتناسخ إما في أبدان الآدميين أو أبدان الحيوان مطلقا أو في جميع الأجسام النامية أو أن التناسخ في الأنفس الشقية فقط، وكثير من محققيهم ينكر التناسخ.
القول الرابع إنكار المعادين جميعا كما قاله أهل الكفر من العرب واليونان والهند والترك وغيرهم.
فائدة:
قال الشيخ تقي الدين في الجزء الأول من الرسائل ص 59:
وأصل ذلك أن المقالة التي هي كفر بالكتاب والسنة أو الإجماع يقال: هي كفر قولا يطلق كما دل على ذلك الدليل الشرعي، فإن الإيمان من الأحكام المتلقاة عن الله ورسوله، ليس ذلك مما يحكم فيه الناس بظنونهم وأهوائهم، ولا يجب أن يحكم في كل شخص قال ذلك بأنه كافر، حتى يثبت في حقه شروط التكفير، وتنتفي موانعه. مثل من قال: إن الخمر أو الربا حلال لقرب عهده بالإسلام أو لنشوئه في بادية بعيدة، أو سمع كلاما أنكره ولم يعتقد أنه من أحاديث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما كان بعض السلف ينكر أشياء حتى يثبت عنده أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال ذلك وكما كان الصحابة يشكون في أشياء مثل رؤية الله وغير ذلك، حتى يسألوا عن ذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومثل الذي قال: «إذا أنا»(7/269)
«مت فاسحقوني وذروني في اليم لعلي أضل عن الله- تعالى-» (1) ونحو ذلك.
فإنهم لا يكفرون حتى تقوم عليهم الحجة بالرسالة، كما قال تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} . وقد عفا الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان رحمةٌ الله رحمة كبيرة.
فائدة:
وجدت في مجلة التمدن الإسلامي الصادرة في رمضان سنة 1378هـ 756 تحت عنوان: " سد يأجوج ومأجوج " ما نصه:
توجد في العتبة الواقعة بين بحر الخزر والبحر الأسود سلسلة جبال توقان، كأنها جدار طبيعي وقد سد هذا الجدار الجبلي الطريق الموصلة بين الشمال والجنوب إلا طريقا واحدا بقي مفتوحا، هو مضيق دار بال، بين ولايتي كيوكز وتفليس حيث يوجد الآن جدار حديدي من قديم الأزمان.
ا. هـ. وذكر أنه منقول من كتاب شخصية ذي القرنين من منشورات دار البصري في بغداد.
فائدة:
الأنبياء المذكورون في القرآن الكريم هم المذكورون في الأبيات، وهم خمسة وعشرون نبيا.
حتم على كل ذي التكليف معرفة ... بأنبياء على التفصيل قد علموا
في تلك حجتنا منهم ثمانية ... من بعد عشر ويبقى سبعة وهُمْو
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب الأنبياء: باب حديث الغار، ومسلم: كتاب التوبة: باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه.(7/270)
إدريس هود شعيب صالح وكذا ... ذو الكفل آدم بالمختار قد ختموا
وعد ذي الكفل منهم، فيه خلاف مشهور بين العلماء، فقيل: رجل صالح وقيل: نبي، وتوقف ابن جرير في ذلك والله أعلم.
فائدة:
إن قيل: ما الفائدة في قص إهلاك الأمم علينا مع أن هذه الأمة لن تهلك كما هلكوا على سبيل العموم؟
فالجواب أن لذلك فائدتين:
إحداهما: بيان نعمة الله علينا برفع العذاب العام عنا وأننا مستحقون لذلك لولا منة الله.
الثاني: أن مثل عذابهم قد يكون لمن عمل عملهم في يوم القيامة إذا لم تحصل العقوبة في الدنيا، ولعله يفهم من قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ} . فلعل ظاهره أن مثل هذا العذاب يكون في الآخرة والله أعلم.
فائدة:
لسوء التصرف سببان:
أحدهما: نقص العلم وهو الجهل.
والثاني: نقص الحكمة وهو السفه المنافي للرشد.
ولذلك وصف الله نفسه بالحكمة والخبرة في قوله تعالى:(7/271)
{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} وفي هذا دليل على أن القرآن الكريم جامع بين العلم والحكمة.
فائدة:
من المنتقى في باب ما جاء في الأجرة على القرب «عن خارجة بن الصلت عن عمه أنه أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم أقبل راجعا من عنده فمر على قوم عندهم رجل مجنون موثق بالحديد فقال أهله: إنا قد حدثنا أن صاحبكم هذا قد جاء بخير فهل عندك شيء نداويه؟ قال: فرقيته بفاتحة الكتاب ثلاثة أيام كل يوم مرتين فبرأ فأعطوني مائتي شاة، فأتيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأخبرته فقال: " خذها فلعمري من أكل برقية باطل فقد أكلت برقية حق» (1) رواه أحمد وأبو داود، قال في " نيل الأوطار": رجاله رجال الصحيح إلا خارجة المذكور وقد وثقه ابن حبان ا. هـ.
قلت وفيه دليل على جواز قول الرجل: لعمري.
فائدة:
روى مسلم عن عطاء عن جابر في صلاة النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- العيد وأنه أتى النساء فوعظهن، فقيل لعطاء: أحقا على الإمام الآن أن يأتي النساء حين يفرغ فيذكرهن؟ قال: أي لعمري إن ذلك لحق عليهم، وما لهم لا يفعلون ذلك؟ ذكره مسلم في صلاة العيدين.
ففيه إفراد النساء بالموعظة وجواز قول: لعمري على رأي عطاء رحمه الله.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد جـ 5 ص 211، وأبو داود: كتاب الطب: باب كيف الرقي، وانظر نيل الأوطار جـ 5، ص 335.(7/272)
فائدة:
في صحيح مسلم ص 197 ج 5: أن نجدة كتب لابن عباس يسأله عن خمس خلال هل كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يغزو بالنساء؟ وهل كان يضرب لهن بسهم؟ وهل كان يقتل الصبيان؟ ومتي ينقضي يتم اليتيم؟ وعن الخمس لمن هو؟ فقال ابن عباس لولا أن أكتم علما ما كتبت إليه، فكتب إليه، كتبت تسألني هل كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يغزو بالنساء؟ وقد كان يغزو بهن فيداوين الجرحى ويحذين من الغنيمة. وأما بسهم فلم يضرب لهن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وإن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يكن يقتل الصبيان فلا تقتل الصبيان. وكتبت تسألني متى ينقضي يتم اليتيم؟ فلعمري إن الرجل لتنبت لحيته وإنه لضعيف الأخذ لنفسه ضعيف العطاء منها، فإذا أخذ لنفسه من صالح ما يأخذ الناس فقد ذهب عنه اليتم. وكتبت تسألني عن الخمس لمن هو؟ وإنا كنا نقول: هو لنا فأبى علينا قومنا ذاك ا. هـ. فيه دليل على جواز قول لعمري.
فائدة:
إذا أضاف الإنسان الشيء إلى سببه الصحيح المعلوم من غير واو العطف الدالة على التشريك فلا بأس به.
ويدل عليه ما رواه البخاري: «أن العباس بن عبد المطلب، قال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما أغنيت عن عمل أبي طالب فإنه كان يحوطك ويغضب لك. قال: هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار» (1) ورواه مسلم بهذا اللفظ.
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب فضائل الصحابة: باب قصة أبي طالب، ومسلم: كتاب الإيمان: باب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب.(7/273)
وقريب من هذا قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لولا الهجرة لكنت امرءًا من الأنصار» . (1)
فائدة:
اتفق العلماء على أن كراهة عبدي وأمتي للتنزيه حتى أهل الظاهر، ويستدل بقوله تعالى: {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} . على أن المنهي هو السيد خشية التطاول. أما غيره فلا لأنه إنما يقصد التعريف غالبا.
وقد زاد مسلم في حديث النهي، ولا يقل: مولاي فإن مولاكم الله.
وهذه الزيادة قد بين مسلم الاختلاف فيها على الأعمش، فمنهم من ذكرها ومنهم من حذفها. وقال عياض: حذفها أصح. وقال القرطبي: المشهور حذفها.
أما كلمة الرب فقد قال الخطابي: إن غير العاقل لا يكره إضافتها إليه كرب الدار ونحوه وقال ابن بطال: لا يجوز أن يقال لأحد غير الله: رب كما لا يجوز إله. ا. هـ.
هذا وقد ورد في الحديث إذا ولدت الأمة ربتها فدل على أن النهي عن الإطلاق. ويحتمل أنه للتنزيه. وما ورد فلبيان الجواز.
وقيل: إن الجواز خاص بالنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقيل: إن النهي عن الإكثار من ذلك، ولعل هذا أقرب الاحتمالات،
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب فضائل الصحابة: باب لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ومسلم: كتاب الزكاة: باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام.(7/274)
لقوله: «لا يقل أحدكم: أطعم ربك، وضئ ربك» (1) لأن الطعام والوضوء يكثر تكررهما.
ولا ريب أنه إذا خشي المحذور من استعمال الكلمتين قوي النهي والكراهة، وربما وصلت إلى التحريم وكلما بعد المحذور بعدت الكراهة وربما زالت إذا زال والله أعلم.
تم بحمد الله
__________
(1) أخرجه البخاري / كتاب العتق / باب كراهية التطاول على الرقيق وقوله: عبدي أو أمتي، ومسلم كتاب الأدب / باب حكم إطلاق لفظ العبد والأمة.(7/275)
الوصايا العشر(7/277)
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله الله- تعالى- بالهدى ودين الحق فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران: الآية: 102] ، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [سورة النساء: الآية 1] .
أما بعد:
إخواني الكرام:
موضوع المحاضرة هو الكلام على الوصايا العشر التي في آخر سورة الأنعام وقبل الكلام عليها أحب أن أنبه على ثلاث مسائل تفعل في النصف من هذا الشهر أو يذكرها العامة في النصف من هذا الشهر- شهر شعبان.(7/279)
المسألة الأولى:
أن كثيرا من العامة يظنون أن ليلة النصف من شعبان هي ليلة القدر وأنه يكتب فيها ما يكون في السنة، ومن المعلوم أن ليلة القدر في رمضان ودليل ذلك قوله تبارك وتعالى في القرآن الكريم: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [سورة القدر، الآية: 1] .
وفي قوله تعالى: {حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [سورة الدخان، الآيات:1- 4] فهذا نص في أن القرآن نزل في ليلة القدر التي يفرق فيها ويفصل كل أمر حكيم ثم قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [سورة البقرة، الآية: 185] . وهذا يدل دلالة أكيدة على أن ليلة القدر في رمضان بل هي في العشر الأواخر من رمضان.
المسألة الثانية:
وهي أن بعض الناس يخص ليلته بقيام ويومه بصيام بناء على أحاديث ضعيفة وردت في ذلك، ولكن حيث لا تصح هذه الأحاديث الضعيفة فإن ليلة النصف من شعبان لا تخص بقيام. ولكن إن كان الإنسان قد اعتاد أن يقوم الليل، فليقم ليلة النصف كغيرها من الليالي، وإن كان لم يعتد ذلك فلا يخصها بقيام كذلك في الصوم لا يخص النصف من شعبان بصوم، لأن ذلك لم يرد عن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لكن لو صام الأيام الثلاثة البيض وهي اليوم الثالث عشر واليوم الرابع عشر واليوم الخامس عشر لو صامها فإن صيامها من السنة لكن ليس باعتقاد أن لهذا مزية على سائر الشهور وإن «كان رسول»(7/280)
«الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يكثر الصوم في شعبان أكثر من غيره من الشهور حتى كان يصومه كله أو إلا قليلا منه» (1) .
المسألة الثالثة:-
أن بعض الناس يصنع الطعام في اليوم الخامس عشر من شعبان ويدعو إليه الناس، أو يوزعه على الجيران والأقارب معتقدا أن لذلك مزية وفضلا ولكني أقول: ليس الأمر كذلك، فلا يشرع فيه صنع الطعام ولا الدعوة ولا الصدقة، بل هو كغيره من الأيام، يصنع فيه من الطعام ما يصنع في غيره وليس له مزية.
هذه ثلاث بدع يعتادها بعض الناس فأحببت التنبيه عليها.
والآن نشرع في موضوع المحاضرة.
يمكن القول إن جميع الدين وصية من الله - عز وجل- كل الدين وصية من الله كما قال الله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [سورة الشورى، الآية: 13] هذه وصية عامة {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} كلمتان اشتملتا على الدين الإسلامي كله وعلى توجيه المجتمع الإسلامي أن يقيم الدين وأن لا يتفرق فيه ومن ذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [سورة النساء، الآية: 131] .
__________
(1) البخاري: كتاب الصوم: باب: صوم شعبان: ومسلم: كتاب الصيام: باب صيام النبي صلى الله عليه وسلم في غير رمضان.(7/281)
لكن سميت هذه الوصايا بالوصايا العشر لأن الله- تعالى- جمعها في مكان واحد وكان يختم كل وصية منها أو كل آية منها بقوله تعالى: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} [سورة الأنعام، الآية: 151] .
إن الوصية هي العهد بالشيء عهدا مؤكدا، فكأن الله- تعالى- عهد إلينا بهذه الأشياء عهدا مؤكدا محتما علينا فبدأ:-
بقوله- عز وجل-: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [سورة الأنعام، الآية: 151] . والخطاب هنا للرسول- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأمره الله- تعالى- أن يقول هذا القول للناس عموما. وأمر الله- عز وجل- لرسوله أن يقول للناس هذا هو أمر خاص وإلا فإن الله- تعالى- قد أمر نبيه على وجه عام أن يبلغ القرآن لكل الأمة.
{مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} أي ما حرم ربكم عليكم مخالفته، فهذه الأشياء التي سيوصي بها الله قد حرم الله علينا مخالفتها، فلا بد أن نقوم بها على الوجه الأكمل وفي قوله تعالى: {مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} ولم يقل: ما حرم الله لأن الرب هو الذي له التصرف المطلق في المربوب فالرب هو الرب ويقابله العبد كما قال الله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الفاتحة، الآية:1] فوصف الله نفسه بأنه رب للعالمين كلهم، والرب هو الذي يملك أن يتصرف فيهم بما شاء من الأمر الكوني والأمر الشرعي.(7/282)
الوصية الأولى {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}
أي أن لا تجعلوا معه شريكا والنهي عن الشرك بالله يشمل ثلاثة أقسام:-
القسم الأول النهي عن الشرك به في ربوبيته.
القسم الثاني النهي عن الشرك به في ألوهيته.
القسم الثالث النهي عن الشرك به في أسمائه وصفاته.
القسم الأول: الشرك في الربوبية:
من المعلوم أن الله- عز وجل- هو الخالق المالك المدبر لجميع الأمور {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} . [سورة فاطر، الآية: 3] أبدا الخالق هو الله وحده ولهذا حرم الله- عز وجل- أن يخلق أحد مثله ولو بالصورة كما قال النبي- عليه الصلاة والسلام- في المصورين: انه يقال لهم: أحيوا ما خلقتم فلا يمكن أن يشرك بالله في خلقه أو ملكه أو تدبيره فمن اعتقد أن لله- تعالى- مشاركا في الخلق فقد أشرك به. لو قال: إن هذا بمقتضى الطبيعة وهذا بمقتضى الزمن وهذا بكذا وكذا مما يضاف إلى غير الله فإنه مشرك بالله ومن العجب أن هذا الشرك أعني الشرك في الربوبية لا يذهب إليه، ولا الكفار الذين قاتلهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الكفار الذين قاتلهم النبي- عليه الصلاة والسلام- هل كانوا يشركون في الربوبية؟ الجواب: لا. {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [سورة الزخرف، الآية: 9] . ويقرون بأن الله هو الخالق ولكن يوجد في عهدنا هذا من يكابر وينكر الخالق ويدعي(7/283)
والعياذ بالله أن هذا الكون ليس له مدبر وليس له خالق وإنما هي أشياء تتفاعل ويتولد بعضها من بعض وأرحام تدفع وأرض تبلع وليس هناك خالق. ولكن عجبا لهؤلاء كيف ينكرون أن يكون للعالم خالق وهم يعلمون أنه لا يمكن أن يوجد الشيء بلا موجد هل يمكن أن يوجد الشيء بلا موجد؟ أبدا لأنه إما أن يقال: أوجد نفسه أو وُجد بلا موجد والأول ممتنع لا يمكن أن يوجِد الشي نفسه لأنه قبل الوجود كان عدما والعدم ليس بشيء فضلا عن أن يوجِد شيئا ولا يمكن أن يوجَد بلا موجِد ولهذا قال الله- عز وجل-: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [سورة الطور، الآية: 35] . إذا فلا بد من موجد وهو الله- عز وجل- هو الذي أوجد هذا الكون وخلقه بقدرته ودبره بحكمته.
من الشرك في الربوبية أن يحلف الإنسان بغير الله لكنه شرك لا يخرج من الملة إلا أن يعتقد الحالف بأن المحلوف به له من العظمة ما لله- عز وجل- فيكون شركا أكبر وإلا فهو من الشرك الأصغر ودليل ذلك قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك» (1) وقال- عليه الصلاة والسلام-: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» (2) لكن لو قال القائل: ورسول الله. وحلف بالرسول- عليه الصلاة والسلام- وقال: إن رسول الله هو أعظم الخلق فلماذا لا يجوز القسم به؟
__________
(1) الترمذي: كتاب النذور والأيمان: باب في كراهية الحلف بغير الله: وقال: حديث حسن وأبو داود: كتاب الأيمان والنذور.
(2) رواه البخاري: كتاب الشهادات: باب كيف يستحلف: ومسلم: كتاب الأيمان: باب النهي عن الحلف بغير الله تعالى.(7/284)
فالجواب: إن أعظم الخلق هو الذي قال: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك» فيكون الحلف بالنبي من الشرك.
فإذا قال إنسان: إن بعض الناس يجري على لسانهم هذا القسم يقول: "والنبي" بدون قصد، فالجواب: أن نقول: إذا كان بغير قصد، فإنه يلزمه أن يطهر لسانه منه، وأن لا يعود نفسه على هذا القسم المحرم حتى يتخلص منه.
من الشرك بالربوبية أن يتخذ الإنسان أندادا يشرعون تشريعات تخالف شرع الله، فيوافقهم فيها مع علمه بمخالفتها للشريعة، ولهذا ترجم الإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله - ترجم على ذلك في كتاب التوحيد بقوله: " باب من أطاع العلماء والأمراء في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله فقد اتخذهم أربابا" فإذا وجد قوم يتبعون القوانين الوضعية المخالفة للشريعة الإسلامية مع علمهم بمخالفتها للشريعة فإننا نقول: هؤلاء قوم مشركون لأنهم اتخذوا حاكما يحكم بين الخلق غير الله -عز وجل- ومن المعلوم أن الحكم بين الخلق من مقتضيات الربوبية فقد اتخذوهم أربابا من دون الله ولهذا يروى «من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه قال للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله تعالى {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} قال: يا رسول الله إنا لسنا نعبدهم قال: " أليس يحلون ما حرم الله فتحلونه ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه" قال: نعم يا رسول الله قال: " فتلك عبادتهم» (1) فجعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا من الشرك ولهذا منع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من طاعة ولي الأمر في معصية الله منع من أن يطاع أحد من الخلق في معصية الله. فقال عليه الصلاة والسلام «إنما الطاعة في المعروف» . فقد «أرسل سرية وأمر عليهم رجلا وقال لهم: أطيعوا أميركم»
__________
(1) الترمذي: كتاب التفسير: تفسير ابن كثير سورة التوبة آية:" 31 ".(7/285)
«فغضب عليهم الأمير ذات يوم وقال: اجمعوا لي حطبا فجمعوا حطبا ثم قال: أوقدوها النار فأوقدوها النار ثم قال: ادخلوا فيها ". طاعتهم في جمع الحطب صحيحة، وطاعتهم في إضرام النار صحيحة. لكن لما قال: ادخلوها توقفوا وقالوا: كيف ندخل في النار ونحن لم نؤمن إلا فرارا من النار فامتنعوا ولم يدخلوها فلما رجعوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأخبروه الخبر قال: " إنهم لو دخلوا فيها ما خرجوا منها، إنما الطاعة في المعروف» (1) إذًا متابعة الكبراء في مخالفة شريعة الله من الشرك بالربوبية لأن الحكم بين الناس من مقتضيات الربوبية والسلطان.
القسم الثاني: الشرك في الألوهية:
وهذا هو الذي يكثر بين الناس، وهو الذي كان عليه المشركون في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام. فكيف يكون الشرك في الألوهية؟
يتخذ الإنسان مخلوقا من المخلوقات يعبده ويتآله إليه كما يعبد الله - عز وجل - يسجد للصنم يسجد للشمس يسجد للقمر يسجد للقبر يسجد للكبير يسجد لأبيه يسجد لأمه.. وهكذا.
المهم أن يتعبد لمخلوق، نقول: هذا شرك في الألوهية لأنه اتخذ هذا المعبود إلها يعبده من دون الله.
ومن ذلك: هؤلاء الذين يذبحون القربان للقبور يذبح عند القبر قربانا ليتقرب به إلى صاحب القبر يعظمه بالذبح كما يعظم الله تعالى بالذبح هذا أيضا من الشرك الأكبر المخرج عن الملَّة لأن الله يقول: {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}
__________
(1) البخاري: كتاب الأحكام: باب السمع والطاعة. ومسلم: كتاب الإمارة: باب وجوب طاعة الأمراء..(7/286)
[سورة الأنعام، الآية: 151] . وهذا الشرك هو الذي دعا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المشركين إلى نبذه. ولما أبوا قاتلهم فاستحل دماءهم وسبى ذريتهم وغنم أموالهم لأنهم مشركون.
هل تعلمون أحدا دعا إلى عبادة نفسه من البشر؟ نعم، فرعون دعا إلى عبادة نفسه وقال لقومه: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [سورة القصص، الآية:38] يقول ذلك وهو يكذب فهو يعلم أن هناك إلها غيره، ولهذا قال له موسى {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} [سورة الإسراء، الآية: 102] ولم ينكر فرعون.
موسى كان يخاطبه بهذا ولم ينكر بل أقر وكان هو وقومه يقرون بذلك كما قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [سورة النمل، الآية: 14] .
القسم الثالث: الشرك في أسماء الله وصفاته:
الشرك في أسماء الله وصفاته: أن يجعل الإنسان لله مثيلا فيما وصف به نفسه كلنا نقرأ {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه، الآية: 5] . والعرش مخلوق عظيم لا يعلم قدره إلا الله جاء في الحديث: " «أن السموات السبع والأرضين السبع بالنسبة للكرسي كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض. وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على هذه الحلقة» . إذًا مخلوق عظيم اختصه الله عز وجل بالاستواء عليه.
هل أنت أيها الإنسان تستوي على الفلك؟ تستوي على البعير؟
تستوي عليه استمع {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ} [سورة الزخرف، الآيتان:12- 13] .(7/287)
وقال الله تعالى لنوح: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [سورة المؤمنون: الآية: 28] .
لو قال قائل: إن استواء الله على عرشه كاستوائنا على الفلك أو على البعير، نقول: هذا مشرك لأنه جعل صفة الخالق كصفة المخلوق فجعل لله تعالى شريكا في الصفة ولكننا نقول: نحن نؤمن بأن الله استوى على العرش لكن بدون تمثيل لا مثيل لاستوائه كما لا مثيل لذاته - عز وجل - وهكذا بقية الصفات. إذًا من أثبت الصفات مع التمثيل فهو مشرك لأنه شرك بين الخالق والمخلوق في الصفة.
لكن ما تقولون فيمن نفى حقيقة الصفات هل يكون ممثلا؟ قال شيخ الإسلام ابن تيمية: كل معطل ممثل، كل من عطل فقد مثل.
الذي ينكر الصفات هو منكر وممثل قد يقول قائل: كيف يكون منكرا وممثلا لأن التمثيل إثبات والإنكار نفي وهل هذا إلا جمع بين النقيضين؟ نقول: استمع، لماذا عطل المعطل صفات الله؟ لأنه اعتقد أن إثباتها يستلزم التمثيل قال: أنا لو أثبت الصفة إذًا أثبت التمثيل إذًا يجب أن أنكر حقيقة الصفة لأسلم من التمثيل فمثل أولا وعطل ثانيا.
الوصية الثانية:
ثم قال تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [سورة الأنعام، الآية: 151] .
فجعل الله تعالى حق الوالدين بعد حقه ومن هما الوالدان؟ هما الأم والأب، وحق الأم آكد من حق الأب، ولهذا «سئل الرسول عليه الصلاة والسلام: " من أحق الناس بحسن صحبتي؟ قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمك. قال: ثم قال»(7/288)
«ماذا؟ قال أمك. ثم قال ماذا؟ قال: أمك. ثم ماذا، قال: أبوك» (1) وذلك لأن الأم تعاني من الولد أشد مما يعاني الأب. قال الله تعالى {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [سورة لقمان، الآية: 14] .
والإحسان إلى الوالدين يكون بالقول ويكون بالفعل ويكون بالمال. الإحسان بالقول أن يقول لهما قولا لينا لطيفا كريما بحيث يناديهما مناداة إجلال وتعظيم حتى إن بعض العلماء قال: يكره أن ينادي الإنسان أباه باسمه مثلا إن كان أبوك اسمه محمد لا تقول: يا محمد قل: يا أبتي، إبراهيم عليه السلام يقول لأبيه - وأبوه كافر - يقول له: {يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ} لأن هذا من باب الإكرام، حتى إذا بلغ الوالدان سنا كبيرا يحصل منه شيء من التعب فإن الله تعالى يقول: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [سورة الإسراء، الآية: 23] .
بعض الناس إذا كبر الوالد عنده أو الأم مل منهما وصار ينهرهما وصار يقول لهما قولا خشنا، الله ينهى عن ذلك {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} معنى (أف) يعني أتضجر منكما {وَلَا تَنْهَرْهُمَا} بالقول في الصراخ أو العتاب أو ما أشبه ذلك {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} لينا لطيفا تقر به أعينهما. هذا الإحسان بالقول إننا نرى بعض الناس يلين بقوله مع زوجته ولا يلين بقوله مع أمه، وهذا مشاهد تجده مع الزوجة يلين لها ويخضع لها ولا ينهرها لكنه مع أمه بالعكس بل مع أبيه إن تمكن وهذا خلاف ما أمر الله به.
الإحسان بالفعل يكون بالخدمة والقيام بمصالحهما. الخدمة البدنية
__________
(1) البخاري: كتاب الأدب. باب من أحق الناس بحسن الصحبة،ومسلم: كتاب البر والصلة: باب بر الوالدين.(7/289)
إذا عجزا ساعدهما حتى عند المنام وعند القيام وعند الجلوس يجب على الإنسان أن يقوم ببر الوالدين عند العجز فيعينهما بكل ما يحتاجان إليه من عون.
الإحسان بالمال يجب أن يحسن إليهما بالمال بأن يبذل لهما كل ما يحتاجان إليه من نفقة، كسوة طعام، شراب، سكن إذا كان يقدر على هذا.
فصار الإحسان إلى الوالدين يتضمن ثلاثة أمور: الإحسان بالقول، الإحسان بالفعل، والإحسان بالمال.
وبر الوالدين أفضل من الجهاد في سبيل الله قال ابن مسعود رضي الله عنه: «سألت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها قلت: ثم أي؟ قال: بِرُّ الوالدين. قلت: ثم أي قال: الجهاد في سبيل الله» . (1)
واعلم أن البر بالوالدين، كما هو واجب فإن الله تعالى يثيب البار في الدنيا قبل الآخرة، ولهذا نجد حسب ما علمنا بالسماع والمشاهدة، نجد أن الذي يبر والديه ييسر الله له أولادا يبرونه وأن الذي لا يبر والديه يسلط عليه أولاده فيعقونه والعياذ بالله، إذًا عرفنا الوصية الثانية الإحسان بالوالدين.
فما ضد الإحسان؟ ضده أمران، إساءة، وموقف سلبي بين الإحسان والإساءة.
أما المسيء: فلا شك في أنه ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب لأنه عاق وأما السلبي الذي لا يبر ولا يسيء فقد ترك واجبا مما أوجب الله عليه وهو الإحسان إلى الوالدين قد يقول قائل: لماذا لم يذكر الله حق الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن
__________
(1) البخاري: كتاب المواقيت: باب فضل الصلاة لوقتها. ومسلم: كتاب الإيمان: باب بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال.(7/290)
المعلوم أن حق الرسول مقدم على حق الوالدين بل مقدم على النفس ولهذا يجب أن يكون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحب إليك حتى من نفسك وأبيك وأمك وابنك والناس أجمعين فإذا قال قائل: لماذا لم يذكر الله حق رسوله؟ فالجواب أن حق الله متضمن لحق الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولهذا جعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله جعلهما ركنا واحدا من أركان الإسلام فقال: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت» (1) فيكون حق الرسول مقدما على حق الوالدين، لأنه متضمن في حق الله.
الوصية الثالثة:
ثم قال عز وجل: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [سورة الأنعام، الآية: 151] .
الإملاق: يعني الفقر و (من) هنا سببية أي بسبب الإملاق يعني لا تقتلوا أولادكم بسبب الفقر، {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} ، {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [سورة هود، الآية: 6] هل أحد يقتل أولاده؟ لا، لكن الجاهلية العمياء كانت تجعل الجاهلين يقتلون أولادهم وقتل الجاهلين لأولادهم له سببان: -
السبب الأول: ما ذكره الله هنا وهو الإملاق أي الفقر.
السبب الثاني: العار.
__________
(1) البخاري: كتاب الإيمان: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: " بني الإسلام على خمس: ومسلم / كتاب الإيمان: باب أركان الإسلام ودعائمه العظام.(7/291)
أما الأول الذي سببه الفقر فكانوا يقتلون الذكور والإناث: إذا جاءه ولد وهو فقير قال: هذا سيثقل كاهلي في الإنفاق فيقتله والعياذ بالله، أما الآخر الذي سببه العار فهؤلاء يقتلون الإناث دون الذكور. {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [سورة النحل، الآيتان:58- 59] .
يقول الله عز وجل: لا تقتلوا أولادكم من الفقر. إذًا يبقون ولو كان الأب فقيرا لأن رزقهم على الله عز وجل: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} . فإن قتل ولده فهل يقتل؟ لو أن رجلا فقيرا جاءه ولد ذكر أو أنثى فقتله لأنه لا يجد ما ينفق عليه فهل يقتل الأب أو لا يقتل؟
قال بعض أهل العلم: إنه يقتل إذا علمنا أنه تعمد القتل يقتل لعموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [سورة البقرة، الآية: 178] . وقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا} أي على بني إسرائيل في التوراة، {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} وقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» . (1)
قالوا: ولأن الرجل إذا قتل ولده جمع بين عدوانين: عدوان القطيعة وعدوان القتل فيقتل وهذا مذهب الإمام مالك رحمه الله.
لكن أكثر أهل العلم يقولون: إن الوالد إذا قتل ولده لا يقتل، واستدلوا بحديث مشهور عند أهل العلم «لا يقتل والد بولده» (2) ولكن هذا
__________
(1) البخاري: كتاب الديات: باب قوله تعالى: (أن النفس بالنفس..) ومسلم: كتاب القسامة: باب ما يباح به دم المسلم.
(2) أخرجه الإمام أحمد ج 1 ص 49 / والترمذي: كتاب الديات: وابن ماجه: كتاب الديات(7/292)
الحديث ضعفه كثير من العلماء وقالوا أيضا: إن الوالد سبب وجود الولد فلا ينبغي أن يكون الولد سببا في إعدامه ولكن لا شك أن هذه العلة عليلة وذلك أن الأب سبب في وجود الولد لا شك لكن سبب قتله هو عدوان الأب وليس وجود الابن حتى نقول: كيف يكون وجوده سببا في إعدام من أوجده أو من كان سببا في وجوده، على كل حال هذه المسألة موضع ذكرها ومناقشتها كتب الفقه لكن ذكرت عرضا عند حديثنا عن قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [سورة الأنعام، الآية: 151] .
وهنا نقف لننظر الفرق بين هذه الآية وبين آية الإسراء {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [سورة الإسراء الآية: 31] . لماذا قدم الوالدين في سورة الأنعام وقدم الأولاد في سورة الإسراء ما هي الحكمة؟
يجب أن نعلم أن التعبير القرآني لا بد أن يكون فيه حكمة لا يمكن أن يختلف التعبير إلا لسبب، في سورة الأنعام قال: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} إذًا فالفقر موجود فبدأ برزق الفقراء فقال: نحن نرزقكم. وفي سورة الإسراء الفقر غير موجود لكنه متخوف {خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} فبدأ بذكر المحتاجين وهم الأولاد وهذا من بلاغة القرآن.
الوصية الرابعة:
{وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [سورة الأنعام، الآية: 151] .
الفواحش: جمع فاحشة، والفاحشة كل ما أنكرته العقول واستفحشته واستكبرته واستعظمته من المعاصي فهو فاحشة ذكر الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم من المعاصي الفواحش عددا:-
أولا: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} [سورة الإسراء، الآية: 32] .(7/293)
ثانيا: نكاح زوجات الآباء فقال: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} [سورة النساء، الآية: 22] .
ثالثا: قال لوط لقومه: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [سورة الأعراف: الآية: 80] ونقتصر على هذه الفواحش الثلاث. هذه الفواحش الثلاث لا شك أن كل ذي عقل سليم يستفحشها ويستعظمها مع أنها من كبائر الذنوب. فالزنا فاحشة لأنه يفسد الأخلاق ويفسد الأنساب ويوجد الأمراض ومصداق هذا ما ظهر في الآونة الأخيرة من المرض الخبيث الذي هو " فقد المناعة" ويسمى " بالإيدز ". هذا سببه الزنا أو أكبر أسبابه الزنا. ولهذا سماه الله فاحشة وساء سبيلا. لا يمكن أن يكون سبيلا للمسلمين أبدا لأنه طريق فاسد مرد مهلك.
وتأمل هذه الآيات الثلاث التي ذكرناها ففي الزنا قال الله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} وفي نكاح زوجات الآباء قال: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} وفي اللواط قال لوط عليه الصلاة والسلام: (أتأتون الفاحشة) وكما قلنا آنفا: لا يمكن أن يختلف التعبير القرآني إلا لسبب. في الزنا قال: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} هذه نكرة. في فعلة قوم لوط عليه الصلاة والسلام قال: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} هذه معرفة، {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا} فاحشة نكرة لكن أضاف إليها {وَمَقْتًا} أي مكروها مبغوضا عند الله وعند الخلق.
يتولد من هذا السؤال التالي: أي هذه الفواحش أعظم؟
اللواط أعظمها لأنه عرفها بأل قال: {الْفَاحِشَةَ} فكأنها فاحشة معهودة عند كل ذي فطرة سليمة وعقل قويم فعرفت بأل كأنها هي الفاحشة(7/294)
المشهورة المعلومة التي ينكرها كل أحد ولهذا كان الفرج الذي استبيح بهذه الفعلة القبيحة لا يباح بأي حال من الأحوال وكانت على القول الراجح عقوبة اللوطي الذي يفعل اللواط القتل بكل حال يعني إذا ثبت أن شخصا تلوط بشخص، وكان المفعول به غير مكره فإنه يجب قتل الاثنين جميعا لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» (1) حتى وإن كانا لم يتزوجا - أي وإن كانا بكرين - فإنه يجب قتلهما.
إذا قال قائل: أين الدليل؟ قلنا: الدليل هو هذا «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على قتل الفاعل والمفعول به لكنهم اختلفوا كيف يقتلان فقال بعضهم: يرجمان بالحجارة. وقال بعضهم: بل يرميان من أعلى شيء في البلد ويتبعان بالحجارة. وقال آخرون: بل يحرقان بالنار. وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية: أن أبا بكر رضي الله عنه أمر بتحريقهما أي بتحريق الفاعل والمفعول به.
إذًا اللواط أشد من الزنا، لأن عقوبته القتل بكل حال، ولكن كيفية القتل اختلف فيها الصحابة فإذا رأى ولي الأمر أن يقتلهما على إحدى الصفات الواردة فلا بأس، المهم أنه لا مكان لهما في المجتمع لأن بلية اللواط والعياذ بالله بلية لا يمكن التحرز منها إذ إن الذكور كلهم يخرجون في الأسواق ويمشون جميعا ويأتون جميعا ويذهبون جميعا فالتحرز منها غير ممكن؛ فلهذا إذا عوقب الفاعل والمفعول به بالقتل كان هذا أقوى رادع عن هذه الفعلة
__________
(1) أبو داود: كتاب الحدود: (1456) وابن ماجه: كتاب الحدود: (2561) وأحمد ج 1 ص 300 والحاكم ج 4 ص 395 وقال: حديث صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي. وشرح السنة للبغوي ج 10 ص 308 والبيهقي ج 8 ص 232 ونصب الرآية: ج 3 ص 339 –340.(7/295)
التي تعتبر من أقبح الفعال، ونكاح زوجة الأب يقع في المرتبة الثانية لأن الله تعالى وصفه بوصفين فقال: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا} ولهذا ذهب بعض أهل العلم إلى أن الرجل إذا زنا بمحارمه وجب قتله بكل حال، يعني لو زنا الإنسان والعياذ بالله بأخته وجب أن يقتل بكل حال، وإن زنا بابنته فكذلك، وإن زنا بزوجة أبيه وجب قتله ولو لم يتزوج يعني ولو كان بكرا لأن هذا أعظم من الزنا بغير ذوات المحارم. وتلك ثلاثة أمثلة ل- الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
قوله: {مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} لها معنيان:-
المعنى الأول: ما ظهر منها بإظهاركم، وما بطن منها بإخفائكم أي الفواحش سواء أظهرتموها أم أخفيتموها.
وقيل: المعنى بل ما ظهر منها، أي ما كان فحشه ظاهرا لكل أحد وما كان فحشه خفيا لا يظهر لكل أحد. على كل حال الفواحش محرمة ما ظهر منها وما بطن.
الوصية الخامسة:
{وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [سورة الأنعام، الآية: 151] .
في قوله: (التي حرم الله) دليل على أن النفوس تنقسم إلى قسمين:-
قسم لم يحرم الله قتلها.
قسم حرم الله قتلها.
فما الذي حرم الله قتله من النفوس؟
هم أربعة أصناف: المسلم - الذمي - المعاهد - والمستأمن.(7/296)
هؤلاء أربعة، المسلم معصوم بإسلامه، والذمي بذمته، والمعاهد بعهده، والمستأمن بأمانه.
الذمي هو الذي جرى بينه وبين المسلمين عقد وعهد على أن يبقى في البلاد الإسلامية محترما ولكن يبذل الجزية دليل ذلك قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [سورة التوبة، الآية: 29] . وإذا فعلوا ذلك وجب علينا حمايتهم وحرم علينا الاعتداء عليهم لا في المال ولا في النفس ولا في العرض.
المعاهد هو الذي عُقِد بينه وبين المسلمين عهدٌ، " ومثال ذلك ما جرى بين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين قريش عام الحديبية في السنة السادسة من الهجرة في ذي القعدة " عاهدهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عشر سنوات، لكنهم نقضوا العهد.. المهم أنه جرى بينه وبينهم عهد، فإذا جرى بين المسلمين وبين غير المسلمين عهد على عدم الاعتداء صار هذا العهد ملزما ومانعا من العدوان عليهم. والمستأمن يعني الذي أخذ أمانا منا ودليل ذلك قول الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} سورة التوبة، الآية: 6] . هذه هي النفس التي حرم الله. فالله عز وجل قال: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ} إذا قلنا: إن النفوس التي حرمها الله أربع فمن بقي؟
بقي الكافر الذي ليس بيننا وبينه عهد ولا ذمة هذا مهدر الدم ويجوز للإنسان أن يقتله حيثما وجده.
ثم قال الله تعالى: {إِلَّا بِالْحَقِّ} ، فإذا كان قتل النفس بحق فلا مانع من قتلها، من الحقوق التي تبيح قتل النفس المحرمة: منها القصاص ومنها(7/297)
الزنا إذا كان الزاني محصنا ومنها على القول الراجح اللواط فإنه مبيح للقتل، ومنها الردة إذا ارتد الإنسان عن دينه فإنه يدعى إلى دينه فإن أبى قتل، وكذلك الحرابة {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} [سورة المائدة، الآية: 33] وهم الذين يعرضون للناس بالطرق ويقتلونهم ويأخذون أموالهم. المهم أن كلمة (بالحق) عامة تشمل كل ما أباح الشارع قتله من النفوس المحرمة.
{ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} . (ذلكم) المشار إليه مما سبق وهن خمس وصايا وصانا الله بها لعلنا نعقل.
ما المراد بالعقل هنا؟
نحن نعلم أن العقل نوعان: عقل إدراك، وعقل رشد، فعقل الإدراك ما يدرك به الإنسان الأشياء، وهذا الذي يمر كثيرا في شروط العبادات، يقول: من شرطها الإسلام والعقل والتمييز، هذا هو عقل الإدراك وضده الجنون.
والثاني عقل رشد. بحيث يحسن الإنسان التصرف ويكون حكيما في تصرفه وضد هذا السفه لا الجنون.
فالمراد بالعقل بهذه الآية، المراد عقل الرشد لأنه لم يوجه إلينا الخطاب إلا ونحن نعقل عقل إدراك، لكن هل كان من وجه إليه الخطاب، يعقل عقل رشد؟ لا قد لا يعقل عقل الرشد، الكفار كلهم غير عقلاء عقل رشد كما قال الله تعالى في وصفهم: {بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [سورة البقرة، الآية: 171] لكن ليس معناه ليس عندهم عقل إدراك بل قد يكون عندهم عقل إدراك قوي وذكاء مفرط لكن ليس عندهم عقل رشد.
وما هو العقل النافع للإنسان؟(7/298)
عقل الرشد لأن عقل الإدراك قد يكون ضررا عليه إذا كان ذكيا فاهما ولكنه والعياذ بالله ليس عنده حسن تصرف ولا رشد في تصرفه وقد يكون أعظم من إنسان ذكاؤه دون ذلك وهنا نسأل عن مسألة كثر السؤال عنها هل العقل في الدماغ أو العقل في القلب؟
قال بعض الناس في القلب وقال بعض الناس: في الدماغ، وكل منهم له دليل، الذين قالوا: إنه في القلب قالوا: لأن الله تعالى يقول: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [سورة الحج، الآية: 46] .
قال: قلوب يعقلون بها ثم قال: تعمى القلوب التي في الصدور. إذًا العقل في القلب، والقلب في الصدر فكان العقل في القلب.
وقال بعضهم: بل العقل في الدماغ لأن الإنسان إذا اختل دماغه اختل تصرفه ولأننا نشاهد في الزمن الأخير نشاهد الرجل يزال قلبه ويزرع له قلب جديد ونجد عقله لا يختلف، عقله وتفكيره هو الأول. نجد إنسانا يزرع له قلب شخص مجنون لا يحسن يتصرف، ويبقى هذا الذي زرع فيه القلب عاقلا فكيف يكون العقل في القلب؟ إذًا العقل في الدماغ لأنه إذا اختل الدماغ اختل التصرف، اختل العقل.
ولكن بعض أهل العلم قال: إن العقل في القلب ولا يمكن أن نحيد عما قال الله - عز وجل - لأن الله تعالى وهو الخالق وهو أعلم بمخلوقه من غيره كما قال تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} ولأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا»(7/299)
«فسدت فسد الجسد كله» . (1) فالعقل في القلب والقلب في الصدر لكن الدماغ يستقبل ويتصور ثم يرسل هذا التصور إلى القلب، لينظر أوامره ثم ترجع الأوامر من القلب إلى الدماغ ثم ينفذ الدماغ. إذًا الدماغ بمنزلة السكرتير ينظم المعاملات ويرتبها ثم يرسلها إلى القلب، إلى المسؤول الذي فوقه. هذا القلب يوقع، يمضي، أو يرد ثم يدفع المعاملة إلى الدماغ، والدماغ يأمر الأعصاب وتتمشى، وهذا القول هو الذي تطمئن إليه النفس وهو الموافق للواقع وقد أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمة الله - في كتبه، والإمام أحمد أشار إليه إشارة عامة فقال: محل العقل القلب وله اتصال بالدماغ. لكن التفصيل الأول واضح جدا، الذي يقبل الأشياء ويتصورها ويمحصها هو الدماغ ثم يرسل النتيجة إلى القلب ثم القلب يأمر إما بالتنفيذ وإما بالمنع لقول الرسول عليه الصلاة والسلام: «إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله» .
الوصية السادسة:
ثم قال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} . [سورة الأنعام، الآية: 152] .
اليتيم هو الذي مات أبوه قبل بلوغه سواء أكان ذكرا أو أنثى. ومن ماتت أمه قبل أن يبلغ فليس بيتيم.
هذا اليتيم له مال ورثه من أبيه ولا بد أن يكون لليتيم ولي يقوم عليه، إما بوصية من أبيه وإما بتوليه من الحاكم وإما بتوليه من الشارع على قول
__________
(1) البخاري: كتاب الإيمان: باب فضل من استبرأ لدينه، ومسلم: كتاب المساقاة: باب أخذ الحلال وترك الشبهات.(7/300)
كثيرمن أهل العلم. المهم وليه يقول الله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} .
قربان مال اليتيم له ثلاث درجات:
1 - أسوأ.
2 -أحسن.
3 - لا أحسن ولا أسوأ.
فالتصرف بما هو أسوأ في مال اليتيم حرام يعني: لو أنك أردت أن تشتري شيئا بمال اليتيم وتعرف أن هذا الشيء سيخسر قطعا، فذلك حرام لأن هذا لا شك ضرر على اليتيم. وأما إذا تصرفت تصرفا لا تدري هل هو أحسن أو ليس بأحسن. هذا أيضا حرام لأن الله يقول: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} .
أردت أن تتصرف فيه تصرفا حسنا لكن أمامك شيئان، تصرف فيه خير وتصرف فيه خير أكثر، أيهما الواجب؟ الواجب الذي فيه الخير الأكثر لأن الله قال: {إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ولنضرب لهذا مثلا: جاءك رجل يقول: أقرضني مال اليتيم. وهذا الرجل معروف بالمماطلة وأنه لا يكاد يخرج الحق منه، هل يجوز أن تقرضه؟ لا يجوز؛ لأن في ذلك مغامرة ومخاطرة في مال اليتيم.
جاءك رجل آخر يقول: أقرضني مال اليتيم وهو رجل وفي، لكن إقراضه ليس فيه مصلحة لليتيم هل تقرضه؟
لا، لأنه ليس فيه مصلحة.
جاءك رجل ثالث يقول: أقرضني مال اليتيم وأنت تخشى على هذا المال لو بقي عندك أن يسرق، فهل في إقراضه مصلحة؟(7/301)
هذا الرجل الثالث وفي، ولو طلب منه المال في أي ساعة من ليل أو نهار أعطاه، وأنا أخشى إن بقي المال عندي أخشى عليه من عدوان أو سرقة أو غير ذلك فهنا إذا أقرضته، جائز لأن هذا هو الأحسن، إذًا يجب على ولي اليتيم المتولي لماله أن لا يتصرف إلا بالتي هي أحسن، ومن هنا نأخذ قاعدة، وهي أن كل ولي على كل شيء يجب عليه أن لا يتصرف إلا بما هو أحسن.
الإنسان لو تصرف بشيء لنفسه فهو حر، لكن إذا تصرف بشيء لغيره وجب أن يتبع الأحسن، ومن ذلك ما لو تقدم إلى ابنتك رجلان يخطبانها، أحدهما صاحب دين وخلق، والثاني دونه في الدين والخلق، فما الواجب عليك، أتزوج الأول أو الثاني؟ الواجب أن تزوج الأول لأن ذلك أحسن فإن صاحب الخلق والدين إن رضي البنت أمسكها بإحسان وإن فارقها فارقها بمعروف ومن هنا نأخذ أيضا أنه لا يجوز للأب أن يمنع تزويج ابنته برجل تريده، والأب لا يريده إذا كان صاحب خلق ودين لأن هذا خلاف الإحسان بالنسبة للتصرف في حق البنت، وكذلك أيضا إذا أعطاك شخص زكاته لتفرقها على مستحقيها، ووجدت فقيرا ووجدت شخصا آخر أشد منه فقرا فما الواجب عليك؟ الواجب أن تعطي الذي هو أشد فقرا لأن هذا أنفع لصاحب الزكاة وللمعطي أيضا. فكل من تصرف لغيره فالواجب عليه أن يتبع ما هو أحسن.
قوله: {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} . المراد بالأشد الرشد؛ لأن القرآن يفسر بعضه بعضا قال الله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [سورة النساء، الآية: 6] . فإذا بلغ اليتيم وكان يحسن التصرف في المال وجب علينا أن ندفع إليه المال، ولهذا قال: {فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} لأنه الآن ليس لأحد حق في الولاية عليه.(7/302)
الوصية السابعة:
{وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} [سورة الأنعام، الآية: 152]
{أَوْفُوا الْكَيْلَ} إذا كلتم لأحد فأوفوا الكيل، إذا وزنتم لأحد فأوفوا الوزن يمكن أن نقول: إن هذا من باب ضرب المثل وإن المراد بإيفاء الكيل والميزان إيفاء الحقوق كلها يعني إذا كان عليكم حقوق فأوفوا الحقوق. إن كانت كيلا فأوفوا الكيل وإن كانت وزنا فأوفوا الوزن.
ولكننا نجد كثيرا من الناس على خلاف هذه الحال إذا كان الشيء عليهم فرطوا فيه وإذا كان الشيء لهم أفرطوا فيه وأضرب لهذا مثلين:-
المثل الأول: بعض الناس يكون عليه الطلب، الدين، فيماطل مع قدرته على الوفاء. يأتيه صاحب الحق يا فلان أعطني حقي، يقول: غدا، أعطني، بعد غد ولا سيما إذا كان الحق للدولة فإن كثيرا من الناس يتهاون به وذلك في مثل وفاء صندوق التنمية العقارية، لأننا نسمع أن كثيرا من الناس عندهم ما يوفون به الصندوق ولكن يماطلون وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مطل الغني ظلم" (1) أي القادر على الوفاء. والظلم ظلمات يوم القيامة، إذًا هذا المطلوب الذي يماطل نقول: لم يوف الكيل لأنه لم يوف صاحب الحق حقه.
المثال الثاني: عكس ذلك إذا كان للإنسان حق أراد أن يستوفيه كاملا حتى إنه إذا كان له غريم فقير قال إما أن توفيني وإما أن أرفعك إلى الجهات المسؤولة فتحبس. فيضطر هذا الفقير المدين إلى أن يذهب ويتدين فيتضاعف عليه الدين أضعافا مضاعفة.
__________
(1) البخاري: كتاب الحوالات: باب إذا أحال على ملي فليس له رد. ومسلم: كتاب المساقاة: باب تحريم مطل الغني.(7/303)
مثال آخر:-
هؤلاء الكفلاء الذين استقدموا العمال، يريدون من العامل أن يقوم بالعمل كاملا ولكنهم لا يوفون العامل أجرة عمله، حتى إن بعض العمال يتقدم يشكو يقول: أنا لي ثلاثة، أربعة أشهر عند كفيلي ما أعطاني شيئا، وهذا ظلم وجور، بل قد قال الرسول عليه الصلاة والسلام: «قال الله تعالى ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرّا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه حقه» (1) هؤلاء الذين يتعاملون مع الناس هذه المعاملة إذا كان الحق لهم أخذوا به كاملا، وإذا كان الحق عليهم فرطوا فيه. استمعوا إلى جزائهم يوم القيامة، قال الله تعالى {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة المطففين، الآيات: 1-6] .
ومن ذلك أيضا أن بعض الأزواج يريد من الزوجة أن تقوم بحقه كاملا ولكنه يماطلها بحقها تجده يريد أن تقوم بكل خدمة البيت على الوجه الأكمل ولكنه لا يعطيها حقها من النفقة حتى الإنفاق الواجب عليه لا يقوم به، وهذا يدخل في المطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون وفي هذه الحال يجوز للمرأة إذا امتنع زوجها من إعطائها النفقة الكافية يجوز أن تأخذ من ماله بلا علمه، هكذا أفتى به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فإن هند بنت عتبة جاءت تشكو زوجها إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقالت إنه رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني وولدي بالمعروف، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خذي من ماله ما يكفيك ويكفي بنيك» (2) ، لأنه حق لها فإذا
__________
(1) البخاري: كتاب البيوع: باب إثم من باع حراً.
(2) البخاري: كتاب البيوع: باب من أجرى أمر الأمصار على ما يتعارفون بينهم.(7/304)
بخل به فلها أن تأخذ من ماله بلا علمه كما أن من النساء من تكون بالعكس تريد من زوجها أن يقوم بحقها كاملا ولكنها هي تنقصه حقه. هؤلاء داخلون في هذه الآية بالقياس الجلي الواضح.
{لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [سورة الأنعام، الآية: 152] .
ما أحسن هذه الجملة بعد الأمر بإيفاء الكيل والميزان بالقسط. الإنسان يجب عليه أن يوفي الكيل والميزان بالقسط، لكن ربما يكون هناك تقصير لم يحط به فهل يأثم على ذلك؟
لا، ولهذا قال: {لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} وهذه القاعدة ذكرها الله في عدة آيات فقال تعالى في سورة البقرة: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [سورة البقرة، الآية: 286] . وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [سورة الأعراف، الآية: 42] . وهذا من كرم الله عز وجل أن الإنسان لا يكلف من دين الله إلا ما يطيق، وهو داخل في عموم قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الدين يسر» (1) وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وهو يبعث البعوث فقد بعث أبا موسى الأشعري ومعاذ بن جبل إلى اليمن وقال: يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا» (2) ، فالله عز وجل لا يكلف نفسا إلا وسعها في جميع الأوامر فما لم تستطع فانتقل إلى بدله إن كان له بدل وإذا عجزت عن البدل سقط عنك واستمعوا إلى القصة التي وقعت من «رجل جاء إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " فقال: يا رسول الله هلكت، قال ما أهلكك؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان وأنا صائم، فسأله النبي عليه الصلاة والسلام»
__________
(1) البخاري: الإيمان: باب الدين يسر (39) .
(2) البخاري: كتاب الجهاد: باب ما يكره من التنازع والاختلاف في الحرب.(7/305)
«هل تجد رقبة؟ قال: لا، قال: هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، قال: هل تجد إطعام ستين مسكينا؟ قال: لا، ثم جلس الرجل فجيء بتمر إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خذ هذا فتصدق به، قال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول الله، والله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر مني، فضحك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم قال: أطعمه أهلك» . (1) فأسقط عنه الكفارة بعجزه عنها مع أنها كفارة، لأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها.
الوصية الثامنة والتاسعة:- {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} [سورة الأنعام، الآية: 152] .
فالواجب على العبد إذا قال قولا أن يعدل في قوله ومن باب أولى وأحرى إذا فعل فعلا أن يعدل في فعله حتى لو كان مع ذي قربى.
لو أن أباك وهو من أقرب الناس إليك أخطأ على شخص هل تقول لأبيك: إنك أخطأت؟ الجواب نعم، هذا هو العدل: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} .
لو أن صديقك أخطأ هل تقول: أخطأت؟ نعم؛ لأن الله يقول: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} .
قوله: {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} .
العهد: هو الميثاق، وعهد الله سبحانه وتعالى على الإنسان هو أنه عز وجل أمره ونهاه. وتكفل له سبحانه وتعالى أنه إذا قام بهذه الأوامر
__________
(1) البخاري: كتاب الصوم: باب إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء فتصدق عليه فليكفر ومسلم: كتاب الصيام: باب تغليظ الجماع في نهار رمضان.(7/306)
والنواهي أنه يثيبه على ذلك كما قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [سورة المائدة، الآية: 12] وقال تعالى في هذه الأمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [سورة الصف، الآيات: 10-12] .
فهذا عهد من الله لمن آمن وجاهد في سبيل الله أن يغفر له ذنوبه ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار.
وقال تعالى في بني إسرائيل: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [سورة البقرة، الآية: 40] .
فأنت الآن قد عاهدت الله عز وجل على القيام بطاعته فأوف بهذا العهد.(7/307)
الوصية العاشرة:
{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} . [سورة الأنعام، الآية: 153] .
وهذه هي الوصية العاشرة، وهي جامعة لكل الشرع فيقول: هذا صراطي مستقيما فاتبعوه، وصراط الله تعالى هو دينه الذي أرسل به رسله، ودين محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو آخر الأديان، فيجب على كل أحد من الناس أن يتبع هذا الدين وأن لا يتبع السبل فتفرق به عن سبيل الله ويضل ويهلك وقد حذر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من التفرق واتباع السبل ومن ذلك ما أخرجه الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «خط رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطا بيده، ثم قال: " هذا سبيل الله مستقيما" وخط عن يمينه وشماله ثم قال: " هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه"، ثم قرأ {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} » (1) وفي الآية وحَّد الله تعالى سبيله لأن الحق واحد، ولهذا جمع السبل لتفرقها وتشعبها وكثرتها.
أسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم ممن أوفى بعهد الله وممن قام بطاعته، وأسأل الله لي ولكم القبول والتوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (4142) وابن ماجه (المقدمة) باب: اتباع السنة، والدارمي (206) والبغوي في "شرح السنة " جـ1ص 196، والحاكم جـ2 ص 318 وصححه ووافقه الذهبي. وصححه أحمد شاكر.(7/308)
العقيدة وأثرها في انتصار المسلمين(7/309)
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحق، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، وترك أمته على محجة بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} .
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}
أيها الإخوة الكرام، يسرني أن ألتقي بكم، في هذه الليلة لأتحدث عن أمر مهم يتعلق بجنود الرحمن وذلك أن موضوع الجيش والقيادة العسكرية موضوع مهم وليس بالأمر الهين، فإن الإنسان في الواقع يرصد(7/311)
نفسه للقتل والمقاتلة إنه يرصد نفسه التي هي أغلى ما يملك من الحياة الدنيا لأجل أن يقوم بالقتال وربما يقتل، هذا الجندي الذي رصد نفسه لهذا الأمر العظيم إما أن يقتل قتلة جاهلية، وإما أن يقتل شهيدا في سبيل الله ينال منزلة الشهداء الذين أخبر النبي عليه الصلاة والسلام: «أن أرواحهم تكون في أجواف طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش» (1) لأن هؤلاء الذين خرجت أرواحهم من أجسامهم في سبيل الله أبدلهم الله بأجسام خير منها في جنات النعيم فأهل الجنة من المؤمنين غير الشهداء في سبيل الله لا يحصل لهم هذا الفضل أي لا تكون أرواحهم في أجواف طير خضر تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش وإذا كان هذا الأمر هو مآل الشهيد في سبيل الله فإنه لا بد لنا أن نعرف من هو الشهيد في سبيل الله هل كل من قتل في حرب فهو شهيد في سبيل الله؟ هل من دافع عن هدف هو في سبيل الله؟.
لا، لقد «سئل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل ليرى مكانه أي ذلك في سبيل الله؟ فقال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» (2) هذا هو الميزان الحقيقي الذي يجب علينا أن نزن به كل مقاتلة يتلبس بها المرء ويواجه بها أعداءه، إذا كان هذا المقاتل يقاتل لتكون كلمة
__________
(1) أخرجه مسلم: كتاب الإمارة.
(2) البخاري: كتاب العلم: باب من سأل وهو قائم عالماً جالساً، ومسلم: كتاب الإمارة: باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا.(7/312)
الله هي العليا لا لأن يكون هو الظاهر أو هو العالي، ولكن ليكون الظاهر دين الله ولتكون كلمة الله هي العليا فهذا هو الذي يقاتل في سبيل الله وهذا هو الذي إذا قتل فهو شهيد، هذا هو الشهيد حقا الذي ينال درجة الشهداء، ومع ذلك فإنه لا يجوز لنا أن نشهد لشخص بعينه أنه شهيد حتى لو قتل مظلوما، أو قتل وهو يدافع عن حق فإنه لا يجوز أن نقول: فلان شهيد وهذا خلافا لما عليه كثير من الناس اليوم حيث أرخصوا هذه الشهادة وجعلوا كل من قتل حتى ولو كان مقتولا في عصبية جاهلية يسمونه شهيدا وهذا حرام، لأن قولك عن شخص قتل إنه شهيد يعتبر شهادة سوف تسأل عنها يوم القيامة سوف يقال لك: هل عندك علم أنه قتل شهيدا ولهذا لما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «ما من مكلوم يكلم في سبيل الله والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب أو قال: وكلمه يثعب دما اللون لون الدم والريح ريح المسك» (1) فتأمل قول النبي عليه الصلاة والسلام: «والله أعلم بمن يكلم في سبيله» أي بمن يجرح فإن بعض الناس قد يكون ظاهر أمره أنه يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا ولكن الله يعلم ما في قلبه وأنه خلاف ما يظهر من فعله، ولهذا بوب البخاري رحمه الله علي هذه المسألة في صحيحه فقال: " باب لا يقال: فلان شهيد" لأن مدار الشهادة على ما في القلب ولا يعلم ما في القلب إلا علام الغيوب جل وعلا.
أيها الإخوة: إن أمر النية أمر عظيم وكم من رجلين يقومان بأمر واحد يكون بينهما كما بين السماء والأرض وذلك من أجل النية ألم يبلغكم أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما»
__________
(1) البخاري: كتاب الذبائح: باب المسك، ومسلم: كتاب الإمارة: باب فضل الجهاد والخروج في سبيل الله تعالى.(7/313)
«نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه» (1) العمل واحد والمظهر واحد وهي الهجرة، لكن بين هذين المهاجرين كما بين السماء والأرض لاختلاف النية، لأن النية عليها مدار عظيم فعلينا أن نخلص النية لله من الأساس نتعلم أساليب الحرب لأجل أن نقاتل حماية لدين الله عز وجل وإعلاءً لكلمته وثقوا بأنه مادامت هذه النية هي النية التي ينويها المقاتل مع صلاح عمله واستقامة حاله فإن الله تعالى سوف يكتب له النصر فإذا نصر الإنسان ربه فإن الله قد ضمن له النصر كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}
وهنا مثلان يجب أن نأخذ منهما عبرة:
المثل الأول: في اعتماد الإنسان على نفسه وقوته فإنه متى اعتمد الإنسان على نفسه وقوته خذل مهما كان انظروا إلى ما وقع من المسلمين في غزوة الطائف " غزوة حنين " خرج الرسول عليه الصلاة والسلام باثني عشر ألفا الذين فتحوا مكة وألفان من أهل مكة خرجوا إلى ثقيف وهوازن فقالوا: «لن نغلب اليوم من قلة» (2) ، أعجبوا بكثرتهم وأنهم لن يغلبوا بسبب الكثرة فماذا حصل؟ هزموا بثلاثة آلاف وخمسمائة نفر ولهذا ذكرهم الله عز وجل
__________
(1) البخاري: كتاب بدء الوحي: باب كيف بدأ الوحي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي الإيمان باب 42: وفي العتق باب 6 وذكر في غير هذه الأبواب: ومسلم: كتاب الإمارة: باب قوله صلى الله عليه وسلم: إنما الأعمال بالنية.
(2) تفسير الطبري جـ 9 ص 99 سورة التوبة: وابن كثير جـ 2 ص 152: والبدآية: والنهآية: جـ 4 ص 344(7/314)
بهذه الحال حيث قال: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} لما علم المسلمون أن الكثرة لن تغني شيئا واستقر ذلك في نفوسهم تراجعوا ثم جعل الله لهم النصر في آخر الأمر، إذًا يجب علينا أن نعتقد أننا ما أوتينا من قوة في العدد أو العدد يجب أن نعتقد أنه سبب من الأسباب وأن الأمر بيد الله عز وجل وأن من لا ينصره الله فلا ناصر له حتى لا نعتمد على القوة وحتى لا نركن إلى الدعة والسكون، لأن الإنسان إذا اعتمد على قوته والكثرة في العَدَد والعُدَد فإنه لن ينشط على القتال، ولن ينشط على الأهبة والاستعداد، لأنه يرى نفسه غالبا بسبب ما عنده من الكثرة ولهذا يجب علينا أن نكون دائما معتصمين بالله مستعينين به.
المثل الثاني: في غزوة أحد (1) كان النصر في أول الأمر للنبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه، ولكن حصل منهم معصية واحدة وهي مخالفة الرماة جعلهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في ثغر من الجبل وقال لهم: «لا تبرحوا مكانكم» لكن القوم لما رأوا أن المسلمين هزموا الكفار ظنوا أن لا رجعة للكافرين فتقدموا يقولون: الغنيمة، الغنيمة فماذا حصل؟ حصل أن استشهد من المؤمنين سبعون رجلا، وجرح الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وجنته وكسرت رباعيته وأغمي عليه، وحصل ما حصل من التعب
__________
(1) البداية: والنهاية: جـ 4 ص 10.(7/315)
والمشقة والجراح ولكن لله تعالى الحكمة في ذلك، ذكرهم الله بهذا في قوله: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} لعل قائلا يقول: أين جواب الشرط: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} ألا تترقبون شيئا يأتي بعد هذه الجملة؟ بلى نترقب شيئا أين هذا الشيء؟ هذا الشيء حذف ليذهب الذهن كل مذهب في تقديره، يعني حصل ما تكرهون وحصل كذا وكذا، مما يمكن الذهن أن يقدره من خلال ما وقع في هذه الغزوة.
أيها الإخوة: إذا كان الأمر كذلك في جند من خير القرون، فإن خير قرون بني آدم: هم الصحابة رضي الله عنهم وحصل أيضا مع خير رسول أرسله الله عز وجل إلى أهل الأرض بمعصية واحدة فما بالكم إذا كانت المعاصي كثيرة؟ إننا إذا أملنا النصر مع كثرة المعاصي فما هي إلا أمنية مبنية على غير حقيقة، لا بد أن نطهر أنفسنا أولا، وأن نرجع إلى الله عز وجل وأن نعمل عملا صالحا حتى نستحق النصر يقول الله سبحانه وتعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} .
فمن الذين ينصرون الله {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} استقاموا في أنفسهم وحاولوا إقامة غيرهم، أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، فإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة استقامة لأنفسهم، والأمر(7/316)
بالمعروف والنهي عن المنكر فيها محاولة إصلاح غيرهم، فهل هذا موجود الآن في أكثر الجيوش الإسلامية؟.
الجواب نقولها: وهي مُرُّة لكن ما وافق الحقيقة فهو حلو نقول: هذا غير موجود إلا أن يشاء الله.
كيف كانت حال الرسول عليه الصلاة والسلام حينما دخل مكة فاتحا مظفرا منصورا كان عليه الصلاة والسلام خاضعا الرأس يردد قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} يردد كلام الله لا يردد أنشودة ولا أغنية ولم يصحب أحدا يغني معه، فيجب علينا مع الإخلاص أن نستقيم في أمرنا {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} لا بد من الاستقامة ولا يكفي أن نقول: ربي الله ولا أن تؤمن. ولهذا يقدم الله العمل أحيانا على الإيمان {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} . فقدم العمل، وبين أن أساس العمل الإيمان، وقال عز وجل مقدم الإيمان أحيانا {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} .
أيها الإخوة: إن إخلاص النية أمر مهم لا تقاتل لأجل وطنك ولا تقاتل لأجل قومك، ولا تقاتل لأي أحد سوى وجه الله عز وجل حتى تنتصر وحتى تنال الشهادة إن قتلت، حتى ترجع بإحدى الحسنيين إما الشهادة وإما الظفر والسعادة إن الإنسان الذي يقاتل لغير الله فقد باء(7/317)
بالفشل وخسر الدنيا والآخرة، إن القتال لغير الله سبحانه وتعالى غير مجدٍ شيئا من أزمنة طويلة وظهرت دعوى الجاهلية - دعوى القومية - فماذا أنتجت هذه القومية؟ أنتجت تفريق المسلمين، وانضمام غير المسلمين إلى المسلمين بدعوى هذه القومية، بل إن القومية في حد ذاتها لم تجتمع ولا على قوميتها إننا نرى هؤلاء القوم ربما يقاتل بعضهم بعضا، وربما يعين بعضهم على الآخر عدوه؟ لو كانت الراية راية الإسلام والقتال للإسلام لانضم إلينا أعداد هائلة من المسلمين الذين نعلم أن عندهم من تحقيق الإيمان والعمل الصالح ما يفوق كثيرا من الناس، ولهذا من الممكن أن ينظر الإنسان في أمره ويفكر هل هو على نية سليمة أو على نية غير سليمة، إذا كان على نية سليمة فليحمد الله ويستمر، وإذا كان على نية غير سليمة فليَعُد فإن الرجوع إلى الحق فضيلة، والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، فالقتال لأجل إعلاء كلمة الله هو الذي ينال به الإنسان إحدى الحسنيين إما الظفر وإما الشهادة.
أيها الإخوة: قلت: إن الإنسان لا يقاتل من أجل وطنه ولكن أقول ذلك إذا كان يريد أن يقاتل لأجل الوطن فقط من حيث هو وطنه، أما إذا أراد أن يقاتل دفاعا عن الوطن لأنه وطن إسلامي فحينئذ تكون نيته سليمة ويكون قتاله لتكون كلمة الله هي العليا لأنه يقول: أنا لا أقاتل لأجل وطني من حيث إنه التراب الذي عشت فوقه، ولكن لأنه وطن إسلامي يشتمل على أمة إسلامية يجب علي أن أدافع عنه، وبهذا تكون نية سليمة لكن يجب أن يركز الإنسان على أن أصل ذلك هو القتال لأجل دين الله، وإذا تأملنا قول الله عز وجل:(7/318)
{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} تبين لنا أن الذي يظهر إنما هو الدين، فمن قام بهذا الدين فإنه سوف يظهر على عدوه، لأن كل من تمسك بالدين فإنه لا بد أن يظهر على غيره من الذين تمسكوا بدين سواه ولقد قدم أبو سفيان إلى الشام قبل أن يسلم فيما بين صلح الحديبية وفتح مكة في جماعة له للتجارة فسمع بهم هرقل ملك الروم وكان قد سمع بخروج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأرسل إليهم ودعاهم إلى مقره ليسألهم عن حال هذا النبي فسألهم أسئلة ذكرها البخاري في صحيحه فلما أجابه أبو سفيان بما أجابه قال له أي هرقل: [إن كان ما تقول حقا فسيملك ما تحت قدمي (1) ، هاتين] . تصور هذا الملك في ذلك الوقت ملك ذو سلطان على دولة تعتبر من أقوى الدول في ذلك الزمان الفرس والروم أقوي دولتين في ذلك الزمان في آسيا، هذا الملك يقول: إن كان ما تقول حقّا فسيملك ما تحت قدمي هاتين من يتصور أن هذا الرجل بهذه المكانة يقول عن محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي لم يستطع أن يرجع إلى مسقط رأسه؟ لكن الرجل عرف أن من هذا دينه فسيملك أقطار الدنيا، فلما خرج أبو سفيان مع قومه قال لهم: " لقد أمر أمُر ابن أبي كبشة إنه ليخافه ملك بني الأصفر" ومعنى" أمر أمر" أي عظم كما في قوله تعالى: {جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} يعني جئت شيئا عظيما أمر أمره أي عظم أمره الذي يخافه هذا الملك فهل كان ما توقعه ملك الروم والجواب نعم إن النبي صلى الله
__________
(1) البخاري: كتاب بدء الوحي، ومسلم: كتاب الجهاد والسير: باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل.(7/319)
عليه وسلم ملك ما تحت قدميه لكنه لم يملكه بشخصه في حياته بل ملكته دعوته ملكته أمته الذين دعوا بدعوته وأصلحوا الناس برسالته حتى ملكوا مشارق الأرض ومغاربها وإني والله واثق كل الثقة أن لو رجعنا إلى ما كان عليه أسلافنا من صدق المعاملة مع الله ومع عباد الله ليمكنن الله لنا في الأرض وأننا ما خُذلنا إلا بأسباب ما نحن عليه من المخالفات في الواجبات والوقوع في المحرمات ليشمل ذلك الذكور والإناث، الصغير والكبير إلا من عصم الله ولكن العبرة بالأمة لا بالفرد الواحد فإن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك الله أن يعمهم بعقاب.
أيها الإخوة: إني أدعو نفسي، وإياكم إلى الإخلاص في القول، والعمل، والقصد، كما أدعو نفسي، وإياكم إلى إصلاح الأمر إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإلزام من لنا عليه ولاية بشريعة الله. لا يكفي أن تصلح نفسك ولكن لا بد من إصلاح غيرك يقول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه» (1) فالله الله في إخلاص النية، وإصلاح العمل، والاستقامة على دين الله عز وجل، وأن نكون دائما مع الله سبحانه وتعالى في ذكر الله لنكون من أولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ولتخل بنفسك قليلا وذكرها ما هي الحياة الدنيا؟ ما فائدتها؟ ما نتيجتها؟ ما مآلها؟ انظر إلى من حولك هل أحد خلد؟ هل أحد خلدت له رفاهيته ونضارة عيشه؟ وربما يسلب وربما يسلب المال، وربما يسلب الأهل، ربما يسلب الصحة ما أكثر الذين عندهم أموال طائلة وبنون وأهل ولكن
__________
(1) مسلم: كتاب الإيمان: باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان.(7/320)
صحتهم مسلوبة والدنيا عليهم أضيق فكر في نفسك لماذا خلقت؟ لماذا أوجدت؟ إلى أي شيء مصيرك حتى يحدوك هذا الأمر إلى الإقبال إلى الله عز وجل والإنابة إليه والإخلاص، والعمل الصالح، حتى تكون مع الركب السابقين {الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} .
أسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(7/321)
المتابعة وقبول العمل(7/323)
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، أيها المؤمنون إنه يسرني في هذه الليلة أن يكون اللقاء بكم في بيت من بيوت الله عز وجل ولا ريب أن أهل العلم يؤدون ما وجب عليهم في مثل هذه اللقاءات ولكني أحببت أن أدلي بدلوي وأشاركهم فيما يحصل في هذه اللقاءات التي أرجو الله تعالى أن تكون مباركة.
أيها الإخوة استمعنا إلى هذه الآيات الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} وتوجيه الله الخطاب لنا(7/325)
بهذا الوصف يا أيها الذين آمنوا يدل على أن بعده من مقتضيات الإيمان وأن كل مؤمن فلا بد أن يكون قائما بما يلقى إليه بعد هذا النداء بهذا الوصف العظيم ويدل دلالة أخرى على أن مخالفة ما يأتي بعده تكون نقصا في الإيمان وإلا لما علق الحكم بهذا الوصف ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه:
إذا سمعت الله يقول: يا أيها الذين آمنوا فأرعها سمعك فإما خير تؤمر به وإما شر تنهى عنه وإن توجيه الخطاب إلينا بلفظ النداء {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} دليل على أن هذا أمر ينبغي أن ننتبه له، لأن النداء من أدوات التنبيه {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} التقوى من أجمع ما قيل فيها وأحسنه ما روي عن طلق بن حبيب رحمه الله قال: التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك ما نهى الله على نور من الله تخشى عقاب الله.
وهذا أجمع ما قيل في التقوى وهذا التعريف يتضمن أن التقوى أن تعمل بطاعة الله على علم لا عن جهل، لأن الذي يعمل بطاعة الله عن جهل، قد يفسد أكثر مما يصلح، ولكن إذا كان على نور من الله على علم كان على بصيرة من أمره، ويتضمن هذا التعريف أن القائم بطاعة الله يقوم بها وهو مؤمن بالثواب الذي جعله الله تعالى على هذه الطاعة، ولهذا قال: ترجو ثواب الله. وهذا يتضمن الإيمان باليوم الآخر والجزاء على الأعمال، وأن تترك ما نهى الله على نور من الله تخشى عقاب الله.
يعني تترك ما نهى الله عن علم بأن الله نهاك عن هذا الشيء لا عن عدم رغبة فيه أو عن جهل في هذا الأمر، لأنك إنما تتركه تخشى عقاب الله كثير منا يترك الربا يترك الزنا، يترك الفواحش، لكن ليس على باله أنه تركها لله فيفوته بذلك خير كثير. لكن إذا كان على باله أنه إنما تركها لله - عز وجل -(7/326)
نال بذلك أجرا، ولهذا جاء في الحديث الصحيح «أن من هم بالسيئة فلم يعملها كتبت حسنة كاملة» . (1)
قال الله عز وجل في الحديث القدسي: «لأنه إنما تركها من جراي» (1) أي من أجلي.
وسمي هذا تقوى لأنه وقاية من عذاب الله عز وجل يقيك من عذاب الله الذي توعد به الكافرين، كما قال تعالى: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ، وفي قوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} يعني الحق الذي يجب لله عز وجل عليكم ولكن بقدر الاستطاعة كما قال الله تعالى في آية البقرة: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} ، فما لا يدخل تحت الوسع فإن الإنسان لا يكلف به رحمة من الله عز وجل وإحسانا إلى عباده ثم قال تعالى: {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} يعني لا تموتن إلا على هذه الحال وهي الإسلام لله عز وجل ظاهرا وباطنا. بقلوبكم وجوارحكم والنهي عن الموت إلا على الإسلام يستلزم أن نكون دائما على الإسلام، لأن الإنسان لا يدري متى يفجأ الموت، وكم من إنسان قد مد حبال الأمل طويلا وكان الموت إليه قريبا، كان أبو بكر رضي الله عنه يتمثل دائما بقول:
كل امرئ مصبح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله
فإذا كان الله يقول: {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} فمعناه أنه يجب علينا أن نكون دائما على هذا الوصف. لأننا لا ندري متي نموت.
أما الآية الثانية، أمر الله تعالى فيها بالتقوى موجها الخطاب إلى عموم الناس: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} .
__________
(1) أخرجه مسلم: كتاب الإيمان: باب إذا هم العبد بحسنة كتبت وإذا هم بسيئة لم تكتب.(7/327)
وقد قال علماء التفسير: إن الغالب في السور المكية بل في الآيات المكية أن يوجه النداء فيها إلى الناس عموما بخلاف النداء في الآيات المدنية فإن النداء يكون فيها موجها للمؤمنين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} ، وهذه من العلامات الفارقة بين السور المكية والسور المدنية لكنها ليست دائما إذ قد وجد في سورة البقرة وهي مدنية {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} المهم أن الله يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} ما هذه النفس هل المراد بالنفس الجنس أو المراد بالنفس العين إن قلنا: المراد بالنفس العين فهو آدم ولهذا قال: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} .
وإذا قلنا:المراد بالنفس الجنس كما في قوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} صار المعنى أننا بني آدم كلنا جنس واحد لا يختلف أحدنا عن الآخر وأيا كان فإن الله تعالى يأمرنا بتقواه منبها على أنه يجب ألا يتقى إلا الله لأنه هو الذي خلقنا.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} ما معنى تساءلون به والأرحام أي تسأل الإنسان بالله، تقول: أسألك بالله كذا وكذا، والأرحام كانوا في الجاهلية يتساءلون بالأرحام فيقول: أسألك بالرحم التي بيني وبينك والقرابة والصلة أن لا تتسلط علي أو ما أشبه ذلك. {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} وعلى قراءة النصب " والأرحام " يكون المعنى أن تتقي الأرحام فتقوم بما يلزم لها، من الصلة إن الله كان عليكم رقيبا، أما في الآية الثالثة فإن الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} ، اتقوا الله تعالى بجوارحكم وقولوا قولا سديدا أي صوابا.
{يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} فكل من قال قولا(7/328)
سديدا مع التقوى حصل له هذان الأمران، إصلاح الأعمال ومغفرة الذنوب، ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما.
أيها الإخوة الكرام: إنه من المعلوم لنا جميعا أن الله عز وجل خلقنا من عدم كما قال تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} وأن مآلنا إلى الفناء كما قال الله - ز وجل - {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} . وأن بقاءنا في هذه الدنيا يمر سريعا ويذهب جميعا {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} ، {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} ، وقس هذا الأمر بما مضى من حياتك الذي مضى من حياة الإنسان سواء طال به الزمن أم قصر، كأنه لم يمض كأنه في الحال التي هو عليها الآن. نحن الآن منا من له عشرون سنة، ومنا من له أربعون، ومنا من له ستون ومنا من له فوق ذلك، هذه المدة التي ذهبت كأنها ساعة وقس ما يستقبل من دنياك على ما مضى منها، وحينئذ وبهذه النظرة الثاقبة، يجب علينا أن ننتهز فرص العمر يجب علينا ألا تمضي ساعة من ساعات أوقاتنا إلا ونحن نعرف ماذا عملنا فيها، وماذا حصل من تفريط حتى نتداركه بالتوبة إلى الله عز وجل وإنني أذكر نفسي وإياكم بهذه الحكمة العظيمة التي قال الله فيها: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} ما خلق الله الجن والإنس للتمتع في الدنيا والترف وجمع المال والأولاد والزوجات ولكن لشيء واحد وهو عبادة الله، غير الجن والإنس لأي شيء خلقوا؟ للإنسان. {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} ، {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} .(7/329)
إذًا المعادلة خلق ما في الأرض لنا، وخلقنا لعبادة الله وحينئذ فإن من العقل أن نستخدم ما خلق لنا ليكون عونا لنا على ما خلقنا له وهو طاعة الله عز وجل كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال:
ينبغي للإنسان أن يجعل المال بمنزلة الحمار الذي يركبه أو بمنزلة الحش الذي يقضي فيه حاجته، الحش الحمام الذي يقضي فيه الإنسان حاجته. يعني لا تجعله هو الغاية المال لكن اجعله موضع قضاء حاجتك.
لأن المال سوف يزول عنك أو تزول عنه، لا يمكن أن يخلد لك ولا يمكن أن تخلد له بل لا بد من المفارقة، إما منك أو من المال، وحينئذ فما مقتضى العقل السليم، أن يجعله الإنسان وسيلة، وسيلة ويهتم بالغاية.
وعلى هذا فإنه ينبغي أن نعرف ما معنى العبادة حتى نكون على بصيرة من أمرنا في معرفة كلام الله عز وجل، العبادة أيها الإخوة تطلق على معنيين: على التعبد، وعلى المتعبد به، فعلى المعنى الأول يكون معنى العبادة: أن يتذلل الإنسان لربه بامتثال أمره واجتناب نهيه محبة له وتعظيما. فيكون هذا الوصف عائدا للإنسان العابد، أما على المعنى الثاني أن العبادة تطلق على معنى المتعبد به فقد حدها شيخ الإسلام رحمه الله في تعريف من أحسن ما يكون من التعاريف فقال: "العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة ".
فالصلاة إذًا عبادة، والزكاة عبادة والصوم عبادة، والحج عبادة لا يريد الله عز وجل منا بهذه العبادات أن يتعبنا فقط {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} ما يريد الله عز وجل أن يحرجنا في هذه العبادات {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} وإنما أراد بهذه العبادات أراد بها أن نصل إلى سعادة الدنيا والآخرة.
وحينئذ نعرف أن هذه(7/330)
العبادات ليست تكليفا وإشقاقا علينا. وإنما هي لمصلحتنا وسعادتنا في الدنيا والآخرة. ولا يمكن أن تستقيم الدنيا إلا بالعبادة ولست أريد بالعبادة مجرد الحقوق الخاصة بالله عز وجل حتى معاملتك مع الناس يمكن أن تتحول إلى عبادة. كيف ذلك إذا عاملتهم بمقتضى أمر الله من النصح والبيان امتثالا لأمر الله عز وجل صارت المعاملة عبادة حتى لو تبيع سلعة على إنسان وتبين ما فيها من عيوب وتصدق فيما تصفها من الصفات المطلوبة صرت الآن متعبدا لله لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «الدين النصيحة قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» . (1)
الموظف يؤدي وظيفته أحيانا يؤديها من أجل الراتب. وأحيانا يؤديها من أجل القيام بالعمل الذي به صلاح الناس فعلى الأول يكون عادة لا عبادة، لكن على الثاني يكون عبادة ولا يفوته الراتب.
انظر كيف أن النية تجعل العادة عبادة، وربما يحول الإنسان عبادته إلى عادة مع الغفلة كما لو كان يذهب يصلي لأنه اعتاد أن يتوضأ ويذهب ويصلي لكن ما يشعر حينئذ أنه يذهب امتثالا لأمر الله عز وجل واتباعا لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحينئذ يفوته خير كثير ولهذا قيل: " أهل اليقظة عاداتهم عبادات، وأهل الغفلة عباداتهم عادات " كل ذلك من أجل النية.
«قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وقد عاده في حجة الوداع وهو مريض وخاف رضي الله عنه أن يموت في مكة وقد هاجر منها، فقال: يا رسول الله: إني ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا. قال: فالشطر قال: لا. قال: فالثلث قال: الثلث والثلث كثير»
__________
(1) أخرجه مسلم: كتاب الإيمان: باب بيان أن الدين النصيحة حديث (95) .(7/331)
«ثم قال، وهومحل الشاهد: إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس» (1) فأثبت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخير لرجل ترك الوصية من أجل أن يبقي المال لورثته المحتاجين، «إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس» وقال له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «واعلم أنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعله في فِيِّ امرأتك» . لماذا مثل الرسول عليه الصلاة والسلام ما يجعله الإنسان وقال: «في فيّ امرأتك» ما قال حتى ما تجعله في في أبيك، في في أمك، بل قال «في في امرأتك» لأن المرأة إذا لم ينفق عليها زوجها طالبت بالفراق وإذا طالبت بالفراق وفارقته بقي بلا زوج إذًا فإنفاقه على زوجته كأنما يجر به إلى نفسه نفعا. ومع ذلك قال له الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنك إذا أنفقت نفقة تبتغي بها وجه الله، حصل لك بها الأجر» حتى في هذه النفقة التي تكون معاوضة لأن الإنفاق على الزوجة عوض عن الاستمتاع بها ونيل الشهوة منها. ولهذا إذا نشزت الزوجة، فإن نفقتها تسقط.
الحاصل أيها الإخوة أن النية لها تأثير عظيم في العبادة ولهذا نقول: إن العبادة لا تكون عبادة إلا بشرطين أساسين، أحدهما: الإخلاص لله، والثاني: المتابعة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فأما الإخلاص لله. فمعناه ألا يريد الإنسان بهذا التعبد إلا وجه الله والدار الآخرة لا يريد أن ينال مالا ولا جاها ولا أن يسلم من سلطان ولا غير ذلك من أمور الدنيا، ما يريد إلا وجه الله والدار الآخرة، وهذا الشرط له أدلة من كلام الله ومن كلام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمن الأدلة قوله تعالى:
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب الجنائز: رقم (1233) ومسلم: كتاب الوصية: باب الوصية بالثلث رقم (1628) .(7/332)
{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أي العبادة لله وقال سبحانه وتعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} الشاهد قوله: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} فبين الله عز وجل أن الزكاة لا تقبل إلا إذا أريد بها وجه الله لأنها إذا قبلت ضوعفت وإذا لم تضاعف فمعناها لم تقبل وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه» (1) ، فبين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الأعمال بالنيات وأن لكل امرئ ما نوى ثم ضرب مثلا بالهجرة يهاجر رجلان من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام أحدهما هجرته مقبولة والثاني غير مقبولة من كانت هجرته إلى الله ورسوله هجرته مقبولة.
ومن كانت هجرته للدنيا غير مقبولة. هجرته إلى ما هاجر إليه. طيب. يصلي رجلان أحدهما يصلي لله عز وجل. لا يريد بذلك مالا ولا جاها والثاني يصلي للراتب لأنه جعل راتب للإمام فكان يصلي لأجل الراتب فقط فلا يؤجر على إمامته لأنه صار إماما للراتب ولهذا سئل الإمام أحمد رضي الله عنه عن رجل قال: لا أصلي بكم رمضان يعني التراويح إلا بكذا وكذا، قال الإمام أحمد: نعوذ بالله من يصلي خلف هذا رجل يقول: ما أصلي بكم إلا بفلوس. يقول: من يصلي خلف هذا. ولكن قد يقول قائل: هل معنى ذلك أن الإمام إذا أعطي من بيت المال راتبا هل يبطل أجره؟
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب بدء الوحي: ومسلم: كتاب الإمارة: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: " إنما الأعمال بالنيات ".(7/333)
الجواب: لا. ما دام صار إماما للناس لله فما أعطيه من الراتب لا ينقص به الأجر " ولهذا «لما بعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمر بن الخطاب عاملا على الزكاة ثم رجع فأعطاه أجرا على عمله قال: يا رسول الله أعطه من هو أحوج إليه مني فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك» . (1)
الشرط الثاني: المتابعة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن يتأسى الإنسان في عبادته بالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والدليل على ذلك من كتاب الله ومن سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال الله عز وجل: -
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} ، {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} وقال: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} ، فإن حنفاء بمعنى غير مائلين يمينا ولا شمالا. هذا هو المتابع ولهذا نجد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول للناس: «صلوا كما رأيتموني أصلي» (2) وقال في المناسك: «لتأخذوا عني مناسككم» . (3)
وتوضأ وقال: «من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين ثم لم يحدث فيهما نفسه غفر الله له ما تقدم من ذنبه» . (4)
ولكن بماذا تتحقق متابعة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أقول: لا تتحقق المتابعة حتى تكون العبادة موافقة لما جاء به الرسول
__________
(1) البخاري: كتاب الزكاة: باب من أعطاه الله شيئاً من غير مسألة ولا إشراف نفس. ومسلم: كتاب الزكاة: باب إباحة الأخذ لمن أعطي من غير مسألة ولا إشراف.
(2) البخاري: كتاب الأذان: باب الأذان للمسافر (605) .
(3) مسلم: كتاب الحج: باب استحباب رمي جمرة العقبة (310) .
(4) البخاري / كتاب الوضوء: باب الوضوء ثلاثاً ومسلم: كتاب الطهارة باب صفة الوضوء.(7/334)
عليه الصلاة والسلام في أمور ستة: في سببها، وجنسها، وقدرها وصفتها، وزمانها، ومكانها.
أولا: سببها:
لا بد أن تكون موافقة للشرع في سببها. فمن تعبد لله بعبادة وقرنها بسبب لم يجعله الله سببا فإنها لا تقبل منه مثال ذلك: لو أن الإنسان أحدث عبادة مقرونة بسبب لكن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يجعله سببا بل لكنها ليست بسبب لا في الكتاب ولا في السنة. فإنها لا تقبل منه لو كانت هي خيرا ما دام جعلها مربوطة بسبب لم يجعله الله سببا لها فإنها لا تقبل منه مثال ذلك:
لو أن رجلا صار كلما تمت له سنة ذبح ذبيحة وتصدق بها، ذبح الذبائح والتصدق بها جائز، لكن هذا جعل كلما تمت السنة ذبح هذه الذبيحة. صارت بدعة لا يؤجر عليها بل يأثم عليها. وكذلك لو أحدث احتفالا بمولد الرسول عليه الصلاة والسلام وقال: أنا أحب الرسول وأحدث احتفالا للصلاة عليه والثناء عليه - عليه الصلاة والسلام بما هو أهله - ماذا تقول له، نقول له: الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خير. من صلى على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاة صلى الله بها عليه عشرة. كيف تقول: هذه بدعة. لأنها غير مربوطة بهذا السبب أنت صل على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كل وقت ما نمنعك، لكن كونك تجعل هذا السبب سببا للصلاة عليه والثناء عليه واحتفالا بالمولد فهذا لا يصح ولا تقبل منك.
الثانى: جنسها: أن تكون موافقة للشرع في جنسها، هذا رجل في عيد الأضحى ضحى بشاة من بهيمة الأنعام على الوجه الشرعي بالطبع تقبل أضحيته لأنها شرعية. الشاة قيمتها ثلاثمائة ريال فجاء رجل آخر وقال: سأضحي بفرس لأن الفرس قيمته ألف ريال والشاة ثلاثمائة ريال فأنا سأضحي بفرس يوم العيد.(7/335)
هذه غير صحيحة لماذا لأنها ليست من بهيمة الأنعام فخالفت الشرع في الجنس فلا تقبل. يعني لا بد أن تكون موافقة للشرع في الجنس.
الثالث: قدرها: أن تكون موافقة للشرع في قدرها (مثال) رجل قال: إن الإنسان إذا صلى الظهر أربعا كل ركعة فيها ركوع وفيها سجودان وأتى بشروطها وأركانها. تقبل إن شاء الله لأنه ماشٍ على ما رسم شرعا.
لكن آخر قال: سأصليها ستا أزيد. الله يقول: " {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} " لا تقبل بل ترد عليه لأنها خالفت الشرع في قدرها. رجل آخر قال: الوضوء ثلاثا سنة لكنه توضأ أربعا. الغسلة الرابعة لا تقبل لأنها صارت على خلاف الشرع.
الرابع: صفتها: أن تكون موافقة للشرع في صفتها: كيف يتوضأ الإنسان؟ .
يبدأ بغسل الكفين ثم الوجه ثم اليدين ثم مسح الرأس ثم غسل الرجلين هكذا الترتيب لكن هذا الرجل عكس فبدأ يغسل الرجلين ثم يمسح الرأس ثم يغسل اليدين ثم يغسل الوجه إن عبادته هذه غير مقبولة لأنها خالفت الشرع في صفتها وكيفيتها.
الخامس: زمانها: أن تكون موافقة للشرع في زمانها.
لو أن رجلا في عيد الأضحى أصبح فذبح أضحيته قبل الصلاة وأكل منها وذهب وصلى. لا تقبل هذه الأضحية. لأنها ليست في وقت العبادة.
الأضحية ما تكون إلا بعد صلاة الإمام.
مثال آخر: رجل تعمد ألا يصلي الظهر إلا بعد دخول وقت العصر بدون عذر. لا تقبل لأنها مخالفة للشرع في وقتها. أو في زمانها.
السادس: مكانها: أن تكون موافقة للشرع في مكانها.
لو أن رجلا لما دخل العشر الأخير من رمضان بقي في غرفة من بيته لا يخرج منها وقال: أنا معتكف لله. الاعتكاف غير صحيح لمخالفته للشرع في مكان العبادة لأن الاعتكاف في المساجد.(7/336)
إذًا أيها الإخوة: كل عبادة لا تقبل إلا بشرطين أساسين: أحدهما الإخلاص لله، والثاني المتابعة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذكرنا الأدلة لذلك، وقلنا: إن المتابعة لا تتحقق إلا إذا كانت موافقة للشرع في أمور ستة وهي: السبب، الجنس،القدر،الصفة،الزمان، المكان.
وذكرنا أمثلة فيما لا تصح فيه العبادة لمخالفة هذه الأمور أو أحدها.
ثم اعلم أن أهم ما يتعبد به الإنسان من الأعمال أعمال الجوارح هي الصلاة، فالصلاة أوكد من الزكاة وأوكد من الصيام وأوكد من الحج لأن أركان الإسلام كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام خمسة عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا» .." الشهادتان ركن واحد. لأنه لا تتم العبادة إلا بالإخلاص وهي شهادة ألا إله إلا الله والمتابعة وهي شهادة أن محمدا رسول الله فلهذا جعلهما النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئا واحدا.
الصلاة نحن نعلم جميعا أن لها أوقاتا معينة فوقت الفجر من طلوع الفجر الثاني إلى طلوع الشمس هذا وقت الفجر لأن الفجر فجران كاذب وصادق.
في الأحكام الكاذب ليس له حكم إطلاقا لا يحرم الطعام على الصائم ولا يبيح الصلاة لمن صلى الفجر، لكن ما الفرق بينهما.
الفروق بينهما ثلاثة:
الفجر الكاذب يظلم الجو بعده، والصادق لا يزداد إلا إسفارا الفجر الكاذب يكون مستطيلا. والصادق يكون مستطيرا. الفجر الكاذب بينه(7/337)
وبين الأفق ظلمة فهو كالعمود أبيض لكن أسفله مظلم والصادق ليس بينه وبين الأفق ظلمة.
هذه الفروق ثلاثة فروق طبيعية تشاهد لكننا بواسطة الأنوار ما نشاهد ذلك، إنما لو كنت في بر وليس حولك أنوار عرفت الفرق، ووقت الظهر من زوال الشمس إلى أن يصير ظل كل شيء مثله.
وقت العصر من مصير ظل كل شيء مثله إلى اصفرار الشمس والضرورة إلى الغروب.
وقت المغرب من غروب الشمس إلى مغيب الشفق الأحمر.
فتارة يكون ساعة ونصف بين المغرب والعشاء وتارة ساعة وثلث وتارة ساعة وسبع عشرة دقيقة يختلف.
وقت العشاء من مغيب الشفق الأحمر إلى نصف الليل فقط من نصف الليل إلى الفجر ما ليس وقتا للصلاة. الدليل على هذه الأوقات قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} ثم فصل فقال {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} . وهذا يدل على أن ما بعد منتصف الليل ليس وقتا للفرائض وإلا لقال الله: أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى طلوع الشمس فلما قال: إلى غسق الليل منتهى ظلمته وأشد ما تكون ظلمة الليل عند منتصفه ويؤيد هذا الحديث الثابت حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «وقت الظهر إذا زالت الشمس. وكان ظل الرجل كطوله ما لم يحن وقت العصر. ووقت العصر ما لم تصفر الشمس ووقت صلاة المغرب إلى مغيب الشفق ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل ووقت صلاة الفجر ما لم تطلع الشمس» (1) واضح. الرسول قال: وقت العشاء إلى نصف الليل وقد يقول قائل منكم: أنت ذكرت أن العصر إلى الغروب والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ما لم تصفر
__________
(1) أخرجه مسلم: كتاب المساجد: باب أوقات الصلوات الخمس (612) .(7/338)
الشمس من أين أتيت بالوقت الإضافي هذا؟ ، أقول: أتيت به من قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: «من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر» (1) وينبني على هذا مسألة مهمة لو أن امرأة من النساء طهرت من حيضها بعد منتصف الليل وقبل طلوع الفجر لا يجب عليها قضاء العشاء؛ لأنها طهرت بعد انتهاء الوقت كما أنها لو طهرت الضحى لم تلزمها صلاة الفجر.
الزوال علامته زيادة الظل بعد تناهي قصره. إذا طلعت الشمس اركز عصا. له ظل كلما ارتفعت الشمس قصر الظل فإذا انتهى قصره وبدأ يزيد هذا هو علامة زوال الشمس لأنها زالت يعني انصرفت عن كبد السماء. أما بالنسبة للضبط بالساعات فاقسم ما بين طلوع الشمس إلى غروبها نصفين والنصف هذا هو وقت الزوال.
لو أن رجلا صلى إحدى الصلوات بعد خروج وقتها وهو متعمد بدون عذر لا تقبل ولهذا كان القول الراجح أن الإنسان إذا كان في أول عمره لا يصلي ثم من الله عليه بالهداية وتاب إلى الله فإنه لا يلزمه قضاء ما مضى من صلاته. وإنما عليه أن يتوب إلى الله. وكذلك لو أن رجلا من الناس ترك صيام يوم من رمضان متعمدا يعني قال: إنه لن يصوم غدا فهو بلا شك آثم ولا يلزمه قضاؤه، قد يقول قائل: كيف تقول: لا يلزمه القضاء هذا تخفيف عليه. فجوابي على هذا أنه ليس تخفيفا عليه بل هو تشديد عليه لأن معنى قولي هذا أنه لا يلزمه قضاء الصلاة التي تعمد فعلها بعد الوقت معناه رفضها وعدم قبولها. وأنها لا تقبل منه لو صلى ألف مرة كذلك لو ترك يوما من رمضان لم يصمه متعمدا بلا عذر شرعي فإنه لا يقبل منه قضاؤه مدى الدهر. وهذا يوجب للإنسان أن يخاف وأن يتوب ويرجع للوراء أكثر.
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب مواقيت الصلاة: باب: من أدرك من الفجر ركعة.(7/339)
ومن المهم في الصلاة أن يعرف الإنسان ما يلزم لها قبلها، وأوكد ما يلزم لها قبلها الطهارة ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: «لا صلاة بغير طهور» . (1)
الطهور بالفتح هو ما يتطهر به. والطهور بالضم هو فعل الطهارة.
وَضوء ? ووُضوء ما الفرق؟
الوضوء بالفتح: الماء الذي يتوضأ به.
الوضوء بالضم: فعل الوضوء.
سَحور ? سُحور.
سحور: بالفتح، أكل السحور. السحور بالضم: فعل السحور. «لا يزال الناس بخير ما أخروا السحور» . (2) انتبه أيها الطالب للفرق بين فَعول وفُعول. فعول للآلة التي يفعل بها، وفعول للفعل. نحن سكتنا أثناء الأذان من أجل أن نقول مثل ما يقول لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول المؤذن» (3) نقول مثل قوله إلا في جملتين فقط وهما حي على الصلاة. حي على الفلاح نقول: لا حول ولا قول إلا بالله. وفي صلاة الصبح إذا قال: الصلاة خير من النوم نقول: الصلاة خير من النوم كما قال ولكن أسأل لماذا لم تقل مثل ما يقول في حي على الصلاة حي على الفلاح. لأنه هو يدعونا إذ حي يعني أقبل. فلو قلنا نحن: حي على الصلاة معناه دعوناه أيضا ونحن في البيت نتابعه تدعوه
__________
(1) أخرجه مسلم: كتاب الطهارة بلفظ " لا يقبل الله صلاة بغير طهور " رقم (224) .
(2) البخاري: كتاب الصوم: ومسلم / كتاب الصوم
(3) البخاري: كتاب الأذان: باب ما يقول إذا سمع المنادي: ومسلم: كتاب الصلاة: باب استحباب القول مثل قول المؤذن.(7/340)
للبيت هذا ما يستقيم ولهذا كان المشروع في حقنا أن نقول: لا حول ولا قوة إلا بالله. وما معنى لا حول ولا قوة إلا بالله. معناها للاستعانة كأنك تقول في جواب المؤذن: سمعنا وأطعنا ولكننا نسأل الله العون وتقول إذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله، مثل ما يقول ثم تقول بعد ذلك: رضيت بالله ربا وبمحمد رسولا وبالإسلام دينا. هذا هو محل ذلك يعني قول الإنسان رضيت بالله ربا بعد الشهادتين وبعد انتهاء الأذان تقول: اللهم صل على محمد اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد وإذا قلت ذلك فإنها تحل لك الشفاعة شفاعة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يدخلون في شفاعته.
أحببت أن أنبه على هذا لأن بعض الناس يتهاونون في متابعة المؤذن مع أن بعض أهل العلم قال: إن متابعة المؤذن واجبة وأن من لم يتابعه فهو آثم. فمتابعة المؤذن سُنة مؤكدة لا ينبغي للإنسان أن يدعها.
وهنا مسائل:
1. إذا كان يقرأ قرآن هل يدع القراءة ويتابع المؤذن؟ نعم، يقطع القراءة ويتابع المؤذن.
إذا دخلت المسجد وهو يؤذن هل تصلي تحية المسجد أو تقف وتتابع المؤذن ثم تصلي؟ الثاني إلا أن بعض أهل العلم قال: يستثنى من ذلك أذان الجمعة الثاني فإن الأفضل أن تصلي الركعتين لأجل أن تتفرغ لاستماع الخطبة. قلت: من أهم ما يكون للصلاة الطهارة لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.: «لا صلاة بغير طهور» والطهارة ثلاثة أنواع:طهارة من الحدث الأصغر، طهارة من الحدث الأكبر وطهارة بالتيمم عنهما جميعا. أما الحدث الأصغر فيطهّر أربعة أعضاء الوجه، اليدان، الرأس، الرجلان. الوجه يجب أن يغسل من الأذن(7/341)
إلى الأذن عرضا ومن منحنى الجبهة إلى أسفل اللحية طولا، ومنه المضمضمة والاستنشاق واليدان يجب أن تغسلان من أطراف الأصابع إلى المرفقين، والمرفقان داخلان في الغسل. وأما الرأس فيمسح جميع الرأس ومنه الأذنان وأما الرجلان فتغسل الرجل من أطراف الأصابع إلى الكعبين وهما العضمان النائتان في أسفل الساق. ولكن من رحمة الله - عز وجل - أن خفف علينا بالنسبة للرجلين لأنها موضع المشي وتتعرض لبرودة الأرض وللصعوبة في أيام الشتاء فمن رحمة الله أن شرع لهذه الأمة المسح على الخفين في القرآن والسنة وقد تواترت الأحاديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المسح على الخفين. كما قال الناظم:
مما تواترا حديث من كذب ... ومن بنى لله بيتا واحتسب
ورؤية شفاعة والحوض ... ومسح خفين وهذي بعض
المهم أن قوله ومسح خفين يعني أنه مما تواترت به السنة ولهذا لم يخالف فيه أحد من أهل السنة، فكل أهل السنة والحمد لله مجمعون على المسح على الخفين وإن كانوا يختلفون من بعض الشروط.
والمهم أنه يجب على كل مسلم ومسلمة قبل أداء العبادة من شرطين تقدما ونذكرهما لأهميتهما وهما:
الإخلاص لله
المتابعة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقد تقدم شرح الشرطين على وجه التفصيل فنسأل الله تعالى أن يرزقنا جميعا الفقه في دينه وأن يجند أرواحنا في سبيله، وأن يجعلنا دعاة إلى جمع شمل الأمة الإسلامية على ما يحب ربنا ويرضى والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وعلى من سار على هديه إلى يوم الدين(7/342)
بعثة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومولده(7/343)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} ، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} .
أما بعد:
أيها الإخوة: إن موضوع محاضرتنا في هذه الليلة هو موضوع مهم يهم جميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها وهو التذكير بما أنعم الله به على عباده المؤمنين بما من به عليهم من بعثة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الذي بعثه الله لا إلى العرب فحسب، ولكن إلى جميع الناس كما قال الله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .(7/345)
أسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم ممن آمن به وعزره ونصره واتبع النور الذي أنزل معه حتى ننال الفلاح وهو السعادة في الدنيا والآخرة، ثم قال جل وعلا: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} .
إننا في هذا الشهر شهر ربيع الأول الذي هو الشهر الذي بدئ به الوحي لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولكن هذا كان بالرؤيا الصالحة. كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: «كان أول ما بدئ به الوحي الرؤيا الصالحة فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء فيتعبد فيه الليالي ذوات العدد» (1) حتى جاءه الحق ونزل جبريل عليه الصلاة والسلام من الله بالقرآن الكريم في شهر رمضان كما قال الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} وكانت المدة بين ربيع الأول وشهر رمضان ستة شهور، وهي بالنسبة لمدة الوحي التي نزل فيها على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جزء من ستة وأربعين جزءا لأن زمن الوحي كان ثلاثا وعشرين سنة. وستة الأشهر
__________
(1) البخاري: كتاب بدء الوحي "3" مسلم: كتاب الإيمان " 160 ".(7/346)
بالنسبة لها جزء من ستة وأربعين جزءا لهذا قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة» . (1)
أيها الإخوة: إننا في هذا الشهر شهر ربيع الأول نذكر إخواننا بما من الله به على عباده المؤمنين من بعثة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فإن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعثه الله عز وجل بالهدى ودين الحق وأنزل عليه هذا الكتاب ليخرج الناس من الظلمات إلى النور لا بنفسه ولكن بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد. وفي هذه النعمة يقول الله عز وجل: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سورة آل عمران، الآية: 164] .
لقد بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على حين فترة من الرسل وانطماس من السبل بعد أن مقت الله سبحانه وتعالى أهل الأرض عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، فكان الناس في ضرورة إلى بعثته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أشد من ضرورتهم إلى الطعام والشراب والهواء والأمن، كان الناس في جاهلية عمياء يعبدون الأشجار والأصنام، والأحجار ويتعلقون بالمخلوقين حتى ذكر عن بعضهم أنه إذا نزل أرضا أخذ أربعة أحجار فاختار منها واحدا يعبده وثلاثة يجعلها رواسيَ للقدر - قدر الطبخ - فتأمل هذه العقول كيف انحدرت إلى هذه السخافة، يجعل الآلهة حجرا واحدا موازيا تماما بالأحجار التي تُرس عليها القدور، وذكر عن بعضهم أنه كان يتخذ من التمر يعجنه ويصنعه تمثالا حسب مزاجه، ثم إذا جاع أكله، ومن سخافتهم أيضا أنهم يقتلون الأولاد ذكورهم وإناثهم خوفا من الفقر كما قال الله عز وجل:
__________
(1) أخرجه البخاري بلفظ " الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح..إلخ " وبلفظ" رؤيا المؤمن..إلخ " ولفظ " الرؤيا الصالحة.. " كتاب التعبير / باب رؤيا الصالحين: وباب الرؤيا الصالحة جزء من ستة.(7/347)
{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} [سورة الإسراء، الآية: 31] .
وكان بعضهم يقتل أولاده إذا افتقر بالفعل وفي هذا يقول الله عز وجل: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [سورة الأنعام، الآية: 151] . وكان بعضهم غنيّا لا يخشى الفقر ولا يتوقعه إذا ولد له ابنة فإنه يئدها - يدفنها وهي حية - حتى قيل عن بعضهم:إن ابنته - وهو يحفر الحفرة لها - فإذا أصاب التراب لحيته نفضت التراب من لحيته وهو يحفر لها ليرميها - والعياذ بالله - هذه العقول وهذه النفوس التي هي أقسى من أقسى السباع في الأرض كان الناس عليها حتى بعث الله محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه الظروف التي تدعو الضرورة إلى بعثة مثل بعثة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فبعثه الله عز وجل من أجل أن ينتشل الناس من رق النفوس والهوى إلى عبودية الخلاق جل وعلا.
أخرجهم من عبودية النفس وعبودية الشيطان إلى عبودية الرحمن سبحانه وتعالى، ونحن نعلم كما ذكر الله تعالى في كتابه أن المشركين الذين بعث فيهم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانوا يقرون بأن الله هو الرب وأن الله خالق السموات والأرض وأن الله مدبر الكون وأنه هو الذي بيده ملكوت كل شيء، كل ما يتعلق بتوحيد الربوبية فإنهم كانوا يقرون به ولا ينكرونه ولكنهم كانوا ينكرون توحيد العبادة فلا يوحدون الله تعالى بالعبادة بل يعبدون الأصنام والأشجار والأحجار وغير ذلك مما يسمح في نفوسهم وتمليه عليهم أفكارهم السيئة حتى إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما دعاهم إلى توحيد الله في العبادة وقال لهم:
{إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} قالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} . .(7/348)
ومن العجب أنهم يقرون بتوحيد الربوبية دون الألوهية ولا ريب أن كل إنسان عاقل يقر بتوحيد الربوبية فإن إقراره ذلك حجة عليه أن يقر بتوحيد الألوهية. لأنه إذا كان يقر بأن الخالق هو الله، المدبر هو الله، والمالك هو الله فكيف يكون هناك معبود مع الله ومن ثم تجدون الله - عز وجل- يقرر توحيد الألوهية بتوحيد الربوبية {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ، [سورة البقرة، الآية: 21] فجعل توحيد الربوبية دليلا ملزما بتوحيد الألوهية.
{اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} هذا هو توحيد الألوهية ألوهية بالنسبة لله وعبودية بالنسبة للخلق، {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} ، هذا هو توحيد الربوبية، فإذا كنتم تؤمنون بذلك فلماذا لا توحدونه بالعبادة، لماذا تعبدون الأصنام والأشجار معه، هذا دليل عقلي لا يمكن لأي إنسان عاقل أن يحيد عنه ولهذا يذكر الله ذلك ملزما لهؤلاء المشركين أن يقولوا بأن الله إله واحد وصدق الله عز وجل.
أيها الإخوة: توحيد الألوهية ليس بالأمر الهين الذي يظنه كثير من المعاصرين اليوم أنه على الهامش وأن مجرد إقرار الإنسان برب خالق مدبر للكون حكيم في صنعه كاف في الإيمان والتوحيد، إن هذه النظرة نظرة بلا شك خاطئة، ولو كان التوحيد كما يراه هؤلاء بأنه إفراد الله أو بأنه الإيمان بأن الله وحده هو الخالق الرازق لو كان هذا هو التوحيد لم تكن هناك حاجة إلى إرسال الرسل لأن التكذيب بهذا التوحيد أو إنكار هذا التوحيد لم يقع إلا نادرا ولا سيما فيما سلف من الأزمان، لكن التوحيد الذي بعثت الرسل لتحقيقه والقتال عليه هو توحيد الألوهية والذي يسمى أحيانا بتوحيد العبادة لأنه إن نظرت إليه من جهة الله فسمه توحيد ألوهية وإن نظرت إليه من جهة الإنسان فسمه توحيد العبادة أو العبودية، المهم أن كثيرا من الناس اليوم من(7/349)
المعاصرين الذين نالوا ما نالوا من الثقافة يركزون كثيرا على توحيد الربوبية، وعندي أن توحيد الربوبية ليس بالأمر الأهم بالنسبة لتوحيد الألوهية، لأن منكريه قليلون وكل إنسان عاقل فإنه لا بد أن يدرك أن لهذا الكون العظيم المنظم إلها خالقا حكيما واستمع إلى قول الله تعالى في سورة الطور: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} . [سورة الطور، الآية: 35] .
هذا استفهام {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} ، وجوابه: ما خلقوا من غير شيء ولا هم الخالقون.
لأنهم قبل أن يوجدوا عدم والعدم ليس بشيء، فضلا عن أن يوجد شيئا. وهم أيضا لم يخلقوا من غير شيء لأن خلق شيء من غير شيء مستحيل في العقل كل حادث فلا بد له من محدث ويذكر أن طائفة من السمنية وهم أناس من الوثنية الذين ينكرون الخالق أتوا إلى أبي حنيفة - رحمه الله - في العراق وقالوا: من الذي خلق هذا الكون فقال: أمهلوني ثم أمهلوه وجاؤوا إليه وقال لهم: إني أفكر في سفينة جاءت محملة إلى نهر دجلة محملة بالبضائع وأن هذه السفينة نزلت البضائع وانصرفت بعد ذلك، أفكر هل يمكن هذا أم لا بد من أناس يشحنونها أولا ثم ينزلونها ثانيا، فقالوا: كيف تفكر بهذا، هل هذا يحتاج لتفكير؟
هذا غير معقول قال: إذا كان هذا غير معقول، فكيف يعقل أن هذه الشمس والنجوم والقمر والبحار والأنهار والأشجار النامية والإنس وكل ما نشاهده كيف يعقل أن يكون بدون موجد، هل هذا معقول فانقطعوا.
ولهذا جاءت الآية تستدل على أن الخالق هو الله عن طريق السبر والتقسيم فهم إما أن يخلقوا بدون خالق، أو يخلقوا أنفسهم، أو يكون لهم خالق وهو الله - عز وجل - وهذه الأخيرة هي النتيجة فتوحيد الربوبية أيها الإخوة لا ينكره إلا النادر، النادر من الناس حتى من أنكره ممن قص الله علينا(7/350)
من نبأ إنكاره، فإنما ينكرونه مكابرة، وهم في قرارة أنفسهم يؤمنون به؛ ففرعون قال لقومه حين حشرهم وناداهم قال لهم: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} ولم يكن صادقا في ذلك.
لأن موسى قال له مجابهة: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [سورة الإسراء الآية: 102] لما قال هذا لفرعون هل قال فرعون له: ما علمت ذلك؟ أبدا ما قال، ولا استطاع أن يقول، وكان يقول لقومه: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [سورة القصص، الآية: 38] . والخلاصة أن المهم بنا أيها الإخوة أن نحرص على بث روح التوحيد، توحيد الألوهية في نفوس الناس؛ حتى يكون هدف الإنسان وجه الله والدار الآخرة في جميع شئونه في عبادته وأخلاقه ومعاملاته وجميع شئونه؛ لأن هذا هو المهم أن يكون الإنسان قصده ورجاؤه وإنابته ورجوعه إلى الله عز وجل، وبهذا التوحيد - أعني توحيد الألوهية والعبادة - ينال العبد سعادة الدنيا والآخرة؛ لأن قلبه ينسلخ عما سوى الله، ويتعلق بالله وحده، لا يدعو إلا الله ولا يرجو إلا الله، ولا يستغيث إلا بالله، ولا يستعين إلا بالله، ولا يؤمل كشف الضر إلا من الله -عز وجل- ولا جلب الخير إلا من الله -عز وجل- إن عبد فلله وبالله، حتى إن الموفق تكون عاداته عبادات، والمخذول تكون عباداته عادات؛ لأن الموفق يستطيع أن يجعل أكله عبادة، وشربه عبادة، ولباسه عبادة، ودخوله عبادة، وخروجه عبادة حتى مخاطبة الناس يمكن يجعلها عبادة.
ويمكن أن نضرب مثلا بالأكل كيف يكون عبادة؟
أولا: ينوي به الإنسان امتثال أمر الله في قوله: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} هذا أمر.(7/351)
ثانيا: ينوي الحفاظ على بقائه وعلى روحه؛ لأن الحفاظ على النفس مأمور به حتى العبادة إذا كان الإنسان مريضا، ويخشى على نفسه إن استعمل هذا الماء أن يتضرر، فإنه يتطهر بالتيمم بالتراب كل ذلك حماية للإنسان من أن يتضرر ويضر نفسه، ولهذا قال العلماء -وصدقوا فيما قالوا-: إن المضطر إلى الطعام والشراب يجب عليه وجوبا أن يأكل حتى من الميتة ولحم الخنزير، يجب أن يأكل إذا خاف على نفسه التلف؛ لأنه واجب عليه أن ينقذ نفسه، إذًا أنوي بالأكل والشرب الحفاظ على نفس فيكون ذلك عبادة.
ثالثا: ينوي بالأكل والشرب التقوي على طاعة الله، فيكون عبادة لأن من القواعد المقررة شرعا أن للوسائل أحكام المقاصد، فإذا كان هذا الأكل والشرب يعينني على طاعة الله فنويت بهذا الاستعانة على طاعة الله صار عبادة.
رابعا: أنوي بالأكل التبسط بنعمة الكريم جلا وعلا؛ لأن الكريم يحب أن يتبسط الناس بكرمه وأضرب مثلا ولله المثل الأعلى؛ لو أن رجلا من الناس كريما قدم طعاما للآكلين هل رغبته أن يرجع الطعام غير مأكول أو أن يأكله الناس؟
يأكله الناس طبعا؛ لأن هذا مقتضى الكرم، فأنا إذا أكلت أنوي التبسط بنعمة الله كان عبادة، فانظر يا أخي كيف كان الطعام الذي تدعو إليه الطبيعة، وتقتضيه العادة، كيف أمكن أن يكون عبادة بحسب الانتباه واليقظة والنية، بينما يأتي الغافل إلى الصلاة، وإلى المسجد على العادة، وإذا أتى على العادة صارت عبادته الآن عادة.
وبهذا يتبين لنا أن توحيد العبادة وتحقيق توحيد العبادة أمر مهم جدا، وهذا ما ندعو إليه أن يحقق الناس العبادة لله وحده.
ولو قال قائل: هل يجوز أن أدعو رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟(7/352)
الجواب: لا يجوز أن أقول: يا رسول الله أنقذني من الشدة، يا رسول الله ارزقني ولدا. لا يجوز بأي حال من الأحوال، بل هو شرك أكبر، مخرج من الملة، سواء دعا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو دعا غيره، وغيره أقل منه شأنا، وأقل منه وجاهة عند الله عز وجل، فإذا كان دعاء الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شركا فدعاء غيره أقبح وأقبح، والرسول عليه الصلاة والسلام أعظم الناس جاها عند الله، وقيل له عليه الصلاة والسلام -والقائل هو الله-: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} ، أنا لا أملك لكم ضرا ولا رشدا، ولو أرادني الله بشيء ما وجدت من دونه ملتحدا يمنعني منه، إذًا لمن أتجه بالدعاء؟ إلى الله عز وجل {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} وليتضح القول في مسألة دعاء الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو غيره من المخلوقين نقول: الدعاء ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: جائز، وهو أن يدعو مخلوقا بأمر من الأمور التي يمكن أن يدركها بأشياء محسوسة معلومة، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حقوق المسلم على أخيه: «وإذا دعاك فأجبه» (1) وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وتعين الرجل في دابته» (2) الحديث.
الثاني: أن تدعو مخلوقا سواء كان حيا أو ميتا فيما لا يقدر عليه إلا الله
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب الجنائز: باب الأمر باتباع الجنائز، ومسلم: كتاب السلام: باب من حق المسلم على المسلم.
(2) أخرجه البخاري كتاب الجهاد: باب فضل من حمل متاع صاحبه في السفر(7/353)
فهذا شرك أكبر؛ لأن هذا من فعل الله لا يستطيعه البشر مثل: يا فلان اجعل ما في بطن امرأتي ذكرا.
الثالث: أن تدعو مخلوقا لا يجيب بالوسائل الحسية المعلومة؛ كدعاء الأموات، فهذا شرك أكبر أيضا؛ لأن هذا لا يقدر عليه المدعو، ولا بد أن يعتقد فيه الداعي سرا يدبر به الأمور.
واعلم: أنك لن تدعو الله بدعاء إلا ربحت في كل حال، إما أن يستجيب الله دعاءك، وإما أن يصرف عنك من السوء ما هو أعظم، وإما أن يدخرها لك عنده يوم القيامة ثوابا وأجرا، فألح في الدعاء وكرر لا تقل: دعوت فلم يستجب لي، انتظر كل دعوة تدعو الله بها، فهي عبادة تنال بها أجرا، سواء حصل المطلوب أم لم يحصل.
أما توحيد الأسماء والصفات فخلاصته أنه يجب علينا أن نثبت لله كل ما أثبته لنفسه من أسماء أو صفات، كل ما أثبته لنفسه من أسماء أو صفات يجب علينا أن نثبتها، ولا يحل لنا أن ننكر ذلك بمقتضى أقيسة باطلة وعقول فاسدة، نحن نعلم أن الله -عز وجل- سمى نفسه بأسماء كثيرة؛ منها ما يمكننا علمه، ومنها ما لا يمكننا علمه. قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث عبد الله بن مسعود المشهور في دعاء الكرب والغم:
«اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك» . (1) ومعني الدعاء أي:
كلما قضيت علي مما أحب أو أكره فهو عدل ليس فيه جور حتى
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد جـ1 ص 452 والحاكم ج 1 ص 690 وقال: " حديث صحيح على شرط مسلم إن سلم من إرسال عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه فانه مختلف في سماعه من أبيه".وتعقبه الذهبي بقوله:" قلت: وأبو سلمة لا يدرى من هو ولا رواية: له في الكتب الست " والهيثمي في " المجمع " جـ 10 ص 136 وقال: رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني" وصححه أحمد شاكر " المسند " [3712] .(7/354)
المصائب عدل من الله {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [سورة الشورى، الآية: 30] ، ويقول الرسول عليه الصلاة والسلام في بقية الحديث:
«أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب غمي» ، هنا يقول: «أو استأثرت به في علم الغيب عندك» . والذي استأثر به في علم الغيب لا يمكن لأحد معرفته؛ لأن الله استأثر به، ولم يُطلع عليه أحدا، ومع هذا يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: «إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة» . (1)
لكن ليس معنى إحصائها ما نجد بعض الناس يقوله: يا الله، يا رحمن، يا رحيم، يا قدوس، يا سميع.. حتى يكمل تسعة وتسعين يقول: أحصيتها وأنا داخل الجنة، ولا محالة هذا غير صحيح حتى لو وضعها في مسبحة.
لكن إحصاءها يكون بثلاثة أمور:
أولا: إحصاؤها لفظا يعني يلتمسها من الكتاب والسنة حتى يحصيها لفظا.
ثانيا: فهمها معنى وإلا فلا فائدة، ما الفائدة من أن تقول: يا رحمن، يا رحيم، وأنت لا تدري معنى رحمن ولا رحيم.
الثالث: التعبد لله بمقتضاها؛ بمعنى أنك إذا علمت أنه سميع تدعوه لأنه يسمع، إذا علمت أنه قريب تدعوه لأنه قريب، إذا علمت أنه مجيب تدعوه لأنه مجيب، ولما رفع الصحابة أصواتهم بالذكر قال لهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
__________
(1) البخاري: كتاب الدعوات: باب لله مائة اسم غير واحد، ومسلم: كتاب الذكر والدعاء: باب في أسماء الله تعالى وفضل من أحصاها.(7/355)
«يا أيها الناس أربعوا على أنفسكم -يعني هونوا عليها- إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنما تدعون سميعا بصيرا قريبا، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته، وهو معكم» . (1)
فتأمل كيف بين لهم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معنى هذه الأسماء. قريب سميع بصير. إذا علمت أن الله سميع، هل تقول قولا يغضبه، لا. إذا علمت أنه رحيم تتعرض لرحمته، وإذا علمت أنه غفور تتعرض لمغفرته، وهلم جرا، هذا هو معنى إحصاء أسماء الله عز وجل ولا بد أن تثبت لله كل ما أثبته لنفسه من وصف، وإن شئت فقل: من صفة.
وإن من حق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علينا الذي هو فوق حق الوالدين أن نجرد الاتباع له، بمعنى ألا نتقدم بين يديه، فلا نشرع في دينه ما لم يشرع، ولا نتجاوز ما شرعه، أو نقصر فيه؛ قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [سورة آل عمران، الآية: 31] .
وهذه الآية يسميها السلف آية المحنة: معناها الامتحان؛ لأن قوما زعموا أنهم يحبون الله؛ فوضع الله هذا الميزان، فكلما كان الإنسان أحب لله كان لرسوله أتبع، وكلما ضعف اتباع الرسول فإن محبة الله في القلب ضعيفة.
حتى وإن ادعاها مدعيها، نعم هل من محبة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نتقدم بين يديه ونُحْدِث في دينه ما ليس منه، لا أبدا. ليس هذا من محبة الله، وليس هذا من محبة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن محبة الله عنوانها ودليلها وميزانها أن نتبع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومحبة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من محبة الله، فإذا كانت دعوى محبة الله لا تتحقق إلا باتباع الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن دعوى محبة الرسول لا تتحقق إلا باتباع الرسول
__________
(1) البخاري: كتاب الجهاد: باب ما يكره من رفع الصوت في التكبير " 2830" ومسلم: كتاب الذكر والدعاء: باب استحباب خفض الصوت بالذكر " 2704".(7/356)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحينئذ إذا كان هذا الشهر هو الشهر الذي بعث فيه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكذلك هو الشهر الذي ولد فيه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ما قاله أهل التاريخ، إلا أنه لا تعلم الليلة التي ولد فيها، وأحسن ما قيل أنه ولد في الليلة التاسعة من هذا الشهر لا الليلة الثانية عشرة، خلافا لما هو مشهور عند كثير من المسلمين اليوم؛ لأن هذا لا أساس له من الصحة من حيث التاريخ، وحسب ما حسبه أهل الفلك المتأخرون؛ فإن ولادته كانت في اليوم التاسع من هذا الشهر، لكن هل يعلم اليوم الذي ولد فيه؟
الجواب: نعم ولد يوم الاثنين؛ «لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن يوم الاثنين. فقال: "ذاك يوم ولدت فيه» (1) لكن اليوم من الشهر لا يعلم يقينا، ولكن أرجح ما قيل فيه هو اليوم التاسع، وأيا كان لا يهمنا في التاسع أو الثاني عشر أو غيره، لكن الذي يهمنا أن نكون لله مخلصين، ولنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متبعين، وأن نحقق ذلك الإخلاص وذلك الاتباع؛ لأن دين الإسلام لا يدخل الإنسان فيه إلا إذا قال: أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله.
وشهادة أن محمدا رسول الله تستلزم اتباعه وطاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع، فالذي يهمنا أيها الإخوة: ألا نجعل في هذا الشهر أمرا زائدا على الشهور الأخرى أبدا، إذا كنا صادقين في أننا نحب الرسول عليه الصلاة والسلام؛ فلنتبع شرعه ولا نتعداه؛ لأن أي بدعة تحدث يتقرب بها الإنسان إلى رب العالمين وليست في دين الله فإنها تتضمن أيها الإخوة الاعتراض على الله وعلى رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى الصحابة رضي الله عنهم؛ لأن كل إنسان يحدث في دين الله بدعة يتعبد بها ويتقرب إلى الله بها، فإن بدعته هذه تستلزم الطعن أو القدح في الله -عز وجل- وفي الرسول وفي الصحابة، أما
__________
(1) أخرجه مسلم: كتاب الصوم: باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر.(7/357)
في الله فلأنه إذا ابتدع في دين الله ما ليس منه فقد كذب الله؛ لأنه سبحانه وتعالى يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فإذا أحدثنا في دين الله شيئا بعد موت الرسول عليه الصلاة والسلام، فمقتضى ذلك التكذيب للآية، والقدح في الله عز وجل؛ فإن قيل: كيف يتضمن القدح في الله -عز وجل- من حيث لا يشعر الإنسان؟ أي إنسان يبتدع في دين الله ما ليس منه من أذكار أو صلوات أو غيرها مما يتقرب به إلى الله.
نقول: إذا كنت تتقرب بذلك إلى الله، فإن ذلك دين تدين الله به، وترجو به ثوابه والنجاة من عقابه، فأين أنت من قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} كيف يكون كمالا وأنت تأتي بعده بجديد، هل يكون كمالا يحتاج إلى تكميل فيما بعد؟
الجواب: لا يكون ذلك، كما أن فيه انتقاصا للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حيث أخبر بكمال الدين، وذلك في قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} ، وكذلك انتقاص لله عز وجل؛ لأن الله عز وجل بيّن كمال الدين كما في الآية الكريمة، وكذلك فيه انتقاص للصحابة رضوان عليهم من حيث إنهم كتموا شيئا من الشريعة الإسلامية؟
وكذلك اتهام لهم -رضوان الله عليهم- بالجهل في دين الله عز وجل.
ومن هذا الكلام يتبين أن من ابتدع في دين الله عز وجل، فإن بدعته هذه تتضمن القدح في:
1 - الله عز وجل.
2 - ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
3 - وفي الصحابة رضوان الله عليهم.
أيها الإخوة: نحن لا نتهم صانعي هذه البدع أو محدثي هذه البدع كلهم بسوء القصد، قد يكون قصدهم حسنا، ولكن هل يكفي في العبادة أن يكون قصد الإنسان حسنا أو لا بد من المتابعة؟ لا بد من المتابعة، ليس كافيا(7/358)
أن يكون قصد الإنسان حسنا، وإلا ابتدع كل واحد في دين الله ما يريد، يقول: أنا قصدي حسن، أقول: ليس كل إنسان يحدث بدعة نسيء الظن به، نحن نحسن الظن بكثير منهم، لكن ليس كل من كان قصده حسنا يكون فعله صوابا وحسنا، ولهذا قال الله تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [سورة فاطر، الآية: 8] ، نقول للذي يبتدع أي بدعة في دين الله: ماذا تريد؟ قال: أريد التقرب إلى الله عز وجل. فنقول: تقرب إلى الله بما شرع، فيه الكفاية، تقرب إلى الله بما درج عليه السلف الصالح والصحابة والتابعون وتابعوهم بإحسان إلى يوم الدين ففيه الكفاية، لا تتعب نفسك بأمر لم يشأه الله فيعود عليك بالضرر؛ قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة» ، ثم إن البدع في الحقيقة هي انتقاد غير مباشر للشريعة الإسلامية؛ لأن معنى البدع أن الشريعة الإسلامية لم تتم، وأن هذا المبتدع أتمها بما أحدث من العبادة التي يتقرب بها إلى الله كما زعم.
وأنا أعجب ممن يقسمون البدع إلى أقسام، ويجعلون من البدع بدعا حسنة، مع أن أعلم الخلق وأنصح الخلق وأفصح الخلق يقول باللسان العربي المبين، يقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كل بدعة ضلالة» ولا أعظم من هذا العموم عموم مستوف «كل بدعة ضلالة» ، لا نستطيع بعقولنا القاصرة أن نقول: إن البدعة تنقسم إلى أقسام، منها واجب، ومنها مستحب ومكروه وحرام.
ليس في الدين بدعة حسنة أبدا، أما السنة الحسنة فهي التي توافق الشرع، وهذه تشمل أن يبدأ الإنسان بالسَّن أي يبدأ العمل بها، أو يبعثها بعد تركها، أو يفعل شيئا يسنه يكون وسيلة لأمر متعبد به؛ فهذه ثلاثة أشياء:
الأول: إطلاق السنة على من ابتدأ العمل، ويدل له سبب الحديث؛ «فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حث على التصدق على القوم الذين قدموا عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،»(7/359)
«وهم في حاجة وفاقة، فحث على التصدق فجاء رجل من الأنصار بصرة من فضة قد أثقلت يده فوضعها في حجر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها» (1) فهذا الرجل سن سنة، ابتداء عمل لا ابتداء شرع.
الثاني: السنة التي تركت ثم فعلها الإنسان فأحياها فهذا يقال عنه: سنها بمعنى أحياها وإن كان لم يشرعها من عنده.
الثالث: أن يفعل شيئا وسيلة لأمر مشروع مثل بناء المدارس وطبع الكتب فهذا لا يتعبد بذاته ولكن لأنه وسيلة لغيره فكل هذا داخل في قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها» .
لكن قد يعترض معترض فيقول: هل أنتم أعلم ممن نطق الكتاب بموافقته كما حصل من عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما أمر أبي بن كعب وتميما الداري أن يقوما للناس برمضان، بإمام واحد وكان الناس يصلون أوزاعا ثم جمعهم عمر رضي الله عنه. فخرج ذات ليلة وهم يصلون فقال: نعمت البدعة هذه. والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون". (2)
فالجواب عن ذلك من وجهين:
الوجه الأول: أنه لا يجوز لأحد من الناس أن يعارض كلام الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأي كلام، لا بكلام أبي بكر الذي هو أفضل الأمة بعد نبيها، ولا بكلام عمر الذي هو ثاني هذه الأمة بعد نبيها، ولا بكلام عثمان الذي هو ثالث هذه الأمة بعد نبيها، ولا بكلام علي الذي هو رابع هذه الأمة بعد نبيها، ولا بكلام أحد غيرهم لأن الله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النور، الآية: 63] قال
__________
(1) مسلم: كتاب الزكاة: باب الحث على الصدقة.
(2) البخاري: كتاب صلاة التراويح " 1906".(7/360)
الإمام أحمد - رحمه الله -: " أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك لعله إذا رد بعض قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك ".أ. هـ-.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: " يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتقولون: قال أبو بكر وعمر ".
الوجه الثاني: أننا نعلم علم اليقين أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه من أشد الناس تعظيما لكلام الله تعالى ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان مشهورا بالوقوف على حدود الله تعالى حتى كان يوصف بأنه كان وقافا عند كلام الله تعالى. وما قصة المرأة التي عارضته - إن صحت القصة - في تحديد المهور بمجهولة عند الكثير حيث عارضته بقوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} [سورة النساء، الآية: 20] . فانتهى عمر عما أراد من تحديد المهور (1) لكن هذه القصة في صحتها نظر. لكن المراد بيان أن عمر كان وقافا عند حدود الله تعالى لا يتعداها، فلا يليق بعمر رضي الله عنه وهو من هو أن يخالف كلام سيد البشر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأن يقول عن بدعة: " نعمت البدعة " وتكون هذه البدعة هي التي أرادها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: «كل بدعة ضلالة» بل
__________
(1) نص القصة: عن أبي العجفاء السلمي قال: قال عمر بن الخطاب: " ألا لا تغالوا في صدقات النساء. فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا وتقوى عند الله، لكان أولاكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نكح شيئاً من نسائه، ولا أنكح شيئاً من بناته على أكثر من اثنتي عشرة أوقية" أخرجه الإمام أحمد جـ 1 ص 282 (تحقيق أحمد شاكر) ، وأبو داود: كتاب النكاح: باب الصداق، والنسائي: كتاب النكاح: باب القسط في الأصدقة، والترمذي: كتاب النكاح: باب ما جاء في مهور النساء، وابن ماجه: كتاب النكاح: باب في صداق النساء، والحاكم جـ 2: ص 192 وصححه ووافقه الذهبي، وصححه أحمد شاكر جـ 1 ص 282.وأما قول المرأة التي عارضت عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد أخرجه عبد الرزاق في " المصنف " جـ6 ص 180، وابن كثير جـ 1 ص 703 سورة النساء، الآية:: 20 وقال: " إسناد القصة جيد قوي ".(7/361)
لا بد أن تنزل البدعة التي قال عنها عمر: إنها " نعمت البدعة " على بدعة لا تكون داخلة تحت مراد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: «كل بدعة ضلالة» فعمر رضي الله عنه يشير بقوله: " نعمت البدعة هذه " إلى جمع الناس على إمام واحد بعد أن كانوا متفرقين، وكان أصل قيام رمضان من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد ثبت في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام في الناس ثلاث ليال وتأخر عنهم في الليلة الرابعة وقال: " إني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها» . فقيام الليل في رمضان جماعة من سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، وسماها عمر رضي الله عنه بدعة باعتبار أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما ترك القيام صار الناس متفرقين يقوم الرجل لنفسه، ويقوم الرجل ومعه الرجل، والرجل ومعه الرجلان، والرهط، والنفر في المسجد، فرأى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه برأيه السديد الصائب أن يجمع الناس على إمام واحد فكان هذا الفعل بالنسبة لتفرق الناس من قَبْل بدعة، فهي بدعة اعتبارية إضافية، وليست بدعة مطلقة إنشائية أنشأها عمر رضي الله عنه؛ لأن هذه السنة كانت موجودة في عهد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهي سنة لكنها تركت منذ عهد الرسول عليه الصلاة والسلام حتى أعادها عمر رضي الله عنه وبهذا التقعيد لا يمكن أبدا أن يجد أهل البدع من قول عمر هذا منفذا لما استحسنوه من بدعهم.
من العلماء من قسم البدعة إلى أقسام ومنها بدع حسنة فما الجواب عن ذلك؟
والجواب عن ذلك أن نقول: ما ادعاه العلماء من أن هناك بدعة حسنة. فلا تخلو من حالين:
1. أن لا تكون بدعة لكن يظنها بدعة.
2. أن تكون بدعة فهي سيئة لكن لا يعلم عن سوئها.(7/362)
فكل ما ادعي أنه بدعة حسنة فالجواب عنه بهذا. وعلى هذا فلا مدخل لأهل البدع في أن يجعلوا من بدعهم بدعة حسنة وفي يدنا هذا السيف الصارم من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كل بدعة ضلالة» . إن هذا السيف الصارم إنما صنع في مصانع النبوة والرسالة، إنه لم يصنع في مصانع مضطربة، لكنه صنع في مصانع النبوة، وصاغه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذه الصياغة البليغة فلا يمكن لمن بيده مثل هذا السيف الصارم أن يقابله أحد ببدعة يقول: إنها حسنة ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «كل بدعة ضلالة» أيها الإخوة: في هذا الشهر يحدث بعض المسلمين احتفالا يسمونه، عيد المولد، هو والحمد لله في بلادنا ليس بذاك المشهور لكن أقول: إنه يوجد في بعض البلاد الإسلامية من يحتفل بما يدعونه ليلة المولد لا على المستوى الشعبي فحسب بل حتى على المستوى الرسمي، والحقيقة أن هذا مؤلم، كيف نتلهى بالقشور بل كيف نتلهى بالعظام التي تجرح حلوقنا لنبتلعها، ثم نترك ما هو من أهم المهمات بل هو أهم المهمات وهو أصول الدين، ندعها تجرح الدين أمام هؤلاء ولا أحد منهم ينبض بكلمة إلا من شاء الله، كيف نحتفل ونقيم الأعياد والحلوى والاجتماع والأذكار وليتها أذكار سالمة، إننا نسمع أن بعضهم ينشد القصائد التي والله لا يرضاها الله ولا رسوله، لقد «قالوا للرسول عليه الصلاة والسلام " ما شاء الله وشئت فقال: أجعلتني لله ندا بل قل: ما شاء الله وحده» .
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم
فنقول له بكل بساطة: لك من تلوذ به سوى رسول الله وهو الله - عز وجل - الذي قال له: {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} [سورة الجن، الآية: 22] .(7/363)
كيف تقول: يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم. ليته الحادث الخاص، الحادث الخاص قد تشكو إلى زيد أو عبيد ويقضي حاجتك، الحادث العمم كالفيضانات الصواعق الزلازل إذا أصابت الرجل عنده من يقول: مالي من ألوذ به سوى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هكذا يقول أما من كان على الفطرة، فإنه يلوذ بالله وحده وهذا هو الحق.
ومما تقدم يتبين لنا أن الاحتفال بالمولد النبوي لا يجوز بل هو أمر مبتدع وذلك لأمرين:
أولاً: ليلة مولد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليست معلومة على الوجه القطعي، بل إن بعض العصريين حقق أنها ليلة التاسع من ربيع الأول وليست ليلة الثاني عشر منه، وحينئذ فجعل الاحتفال ليلة الثاني عشر منه لا أصل له من الناحية التاريخية.
ثانياً: من الناحية الشرعية فالاحتفال لا أصل له أيضاً لأنه لو كان من شرع الله لفعله النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو بلغه لأمته ولو فعله أو بلغه لوجب أن يكون محفوظاً لأن الله تعالى يقول: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} (2) فلما لم يكن شيء من ذلك علم أنه ليس من دين الله، وإذا لم يكن من دين الله فإنه لا يجوز لنا أن نتعبد به لله عز وجل ونتقرب به إليه، فإذا كان الله تعالى قد
وضع للوصول إليه طريقاً معيناً وهو ما جاء به الرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكيف يسوغ لنا ونحن عباد أن نأتي بطريق من عند أنفسنا يوصلنا إلى الله؟ هذا من الجناية في حق الله عز وجل أن نشرع في(7/364)
دينه ما ليس منه، كما أنه يتضمن تكذيب قول الله عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} . فنقول: هذا الاحتفال إن كان من كمال الدين فلا بد أن يكون موجودا قبل موت الرسول، عليه الصلاة والسلام، وإن لم يكن من كمال الدين فإنه لا يمكن أن يكون من الدين لأن الله تعالى يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} ومن زعم أنه من كمال الدين وقد حدث بعد الرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن قوله يتضمن تكذيب هذه الآية الكريمة، ولا ريب أن الذين يحتفلون بمولد الرسول، عليه الصلاة والسلام إنما يريدون بذلك تعظيم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإظهار محبته وتنشيط الهمم على أن يوجد منهم عاطفة في ذلك الاحتفال للنبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكل هذا من العبادات، محبة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبادة بل لا يتم الإيمان حتى يكون الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحب إلى الإنسان من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين، وتعظيم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من العبادة، كذلك إلهاب العواطف نحو النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الدين أيضا لما فيه من الميل إلى شريعته، إذًا فالاحتفال بمولد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أجل التقرب إلى الله وتعظيم رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبادة وإذا كان عبادة فإنه لا يجوز أبدا أن يحدث في دين الله ما ليس منه، فالاحتفال بالمولد بدعة ومحرم، ثم إننا نسمع أنه يوجد في هذا الاحتفال من المنكرات العظيمة ما لا يقره شرع ولا حس ولا عقل فهم يتغنون بالقصائد التي فيها الغلو في الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى جعلوه أكبر من الله والعياذ بالله ومن ذلك أيضا أننا نسمع من سفاهة بعض المحتفلين أنه إذا تلا التالي قصة المولد ثم وصل إلى قوله: " ولد المصطفى " قاموا جميعا قيام رجل واحد يقولون: إن روح الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حضرت فنقوم إجلالا لها وهذا سفه، ثم إنه ليس من الأدب أن يقوموا لأن الرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان يكره القيام له(7/365)
فأصحابه وهم أشد الناس حبا له وأشد منا تعظيما للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يقومون له لما يرون من كراهيته لذلك وهو حي فكيف بهذه الخيالات؟ !
وهذه البدعة - أعني بدعة المولد - حصلت بعد مضي القرون الثلاثة المفضلة وحصل فيها ما يصحبها من هذه الأمور المنكرة التي تخل بأصل الدين فضلا عما يحصل فيها من الاختلاط بين الرجال والنساء وغير ذلك من المنكرات.
وهؤلاء الذين فعلوا هذه البدعة عند بعضهم حسن نية لكن أرجو منهم أن يتأنوا في الأمر، وأن يتأملوا فيه، هل فعلوا ذلك عبادة لله فليأتوا ببرهانهم أن ذلك من باب التعبد لله، ولماذا لم يتعبد به الصحابة والتابعون وأئمة الإسلام بعدهم هل أتوا بذلك محبة للرسول عليه الصلاة والسلام، إذا كان كذلك فإن الحبيب يقتدي بحبيبه ولا يتجاوز خطاه. هل أتوا بذلك تعظيما للرسول عليه الصلاة والسلام وهو الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يريد ذلك لنفسه ونهى أمته عن الغلو فيه كما غلت النصارى بعيسى بن مريم (1) . هل قالوا ذلك تقليدا للنصارى حيث كانوا يحتفلون بمولد عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، إذا كان كذلك فالأمر فادح لحديث «من تشبه بقوم فهو منهم» ، والذي يظهر لي والله أعلم أن ذلك من باب مراغمة النصارى لأن النصارى يحدثون احتفالا بمولد عيسى بن مريم، وقالوا: إذًا نحن نضادهم ونوجد احتفالا لنبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويدل على هذا أنهم جعلوا الاحتفال بالمولد وحقيقة الأمر أن النعمة لم تتم إلا برسالته {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا} ، [سورة آل عمران، الآية: 164] وموضع المنة (بعث) وهذا يقرب أن الذي ابتدع هذه البدعة أراد مضادة النصارى، ومشاركتهم في إحداث المولد بعيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، وعلى كل حال فإنني أبين ذلك
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب الأنبياء: باب: " واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها " سورة مريم "16".(7/366)
حتى لا تغتر بتلك البدعة لأن الحق ما قام الدليل عليه، وليس الحق فيما عمله الناس، الذين كانوا بعد القرون الثلاثة؛ لأننا نقول: إن الإجماع قد دل على أن هذا ليس من العبادة في شيء إجماع من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين لأن هذه البدعة حدثت في القرن الرابع من الهجرة وانتشرت ومع الأسف أنها لم تُبين للناس على حقيقتها، وإلا فإني أعتقد والعلم عند الله أنها لو بينت على حقيقتها ما كان الناس يتعبون في أمر لا يعود عليهم إلا بالضرر، أبدا الإنسان المؤمن عاقل وحازم وفطن، كل شيء يعود عليه بالضرر لا يمكن أن يفعله أبدا مهما كان، ولذلك أسأل الله تعالى لإخواني هؤلاء أن يوفقني وإياهم للصواب، حتى يتبعوا الرسول عليه الصلاة والسلام بالعقيدة والقول والعمل.
ثم إننا نحث إخواننا ولا سيما الشباب على أن يحرصوا غاية الحرص على دعوة إخوانهم إلى الحق ولكن ليكن ذلك باللطف واللين وبيان الحق (1) لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف» (2) وهذا كلام الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو لا ينطق عن الهوى.
«جاء مرة يهودي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وعنده عائشة فقال: السام عليكم - والسام هو الموت - قالت عائشة رضي الله عنها: عليك السام واللعنة. فنهاها الرسول عليه الصلاة والسلام وقال: " إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم» (3) إن كانوا قائلين:السام عليكم قلنا: وعليكم يعني عليكم السام عاملناهم بالعدل، إن كانوا قالوا: السلام عليكم قلنا: وعليكم يعني السلام. ولهذا قال ابن القيم رحمه الله في كتابه أحكام أهل الذمة قال: إذا قال اليهودي أو النصراني:
__________
(1) انظر كتاب " زاد الداعية إلى الله عز وجل " وكتاب " الاعتدال في الدعوة " لشيخنا العلامة محمد بن عثيمين حفظه الله تعالى.
(2) مسلم: كتاب البر والصلة: باب فضل الرفق
(3) البخاري: كتاب الأدب: باب لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحشاً.(7/367)
السلام عليكم وأظهر اللام قل: عليكم السلام، ولا حرج لأنه قال: السلام عليكم. لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: قولوا: وعليكم، والواو حرف عطف فيكون المعطوف مماثلا للمعطوف عليه. إذًا إن كانوا قالوا: السلام يقول: وعليكم السلام وهذا من العدل قال الله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} .
المهم أقول لإخواني الشباب أن يدعوا إلى الله على بصيرة وعلم بالرفق واللين ولا ييأسوا قد تحصل من المدعو نفرة في أول الأمر وكراهية لكن إذا عومل بالتي هي أحسن وبدون عنف وباللين فإن الله - عز وجل - يقول لموسى وهارون: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} لماذا؟ {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [سورة طه، الآيتان: 43-44] ، فهكذا ينبغي على كل داعية إلى الخير أن يقابل الناس باللين وبيان الحق وأن يصبر على ما يجد من جفوة، قد يجد جفوة أو نفرة فليصبر، أليس الرسول عليه الصلاة والسلام وهو أكرم الخلق عند الله يأتي المشركون إليه وهو ساجد تحت الكعبة ويضعون عليه سلا الناقة - دم وفرث وسلا - وهو ساجد لله رب العالمين؟!.
ومع ذلك صبر عليه الصلاة والسلام فكانت العاقبة له {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} ، [سورة هود، الآية:49] واعلم أنك لا تصاب بمثل هذه النفرة أو الكلام عليك إلا أجرت عليه إذا صبرت.
قال الله تعالى: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [سورة الأنفال، الآية: 46] {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [سورة النحل، الآية: 128] كما أدعوكم أيضا إلى الاتفاق فيما بينكم لا تكونوا أحزابا متفرقين أنا أعتقد أن كل واحد من هذا الشباب الصالح لا يريد إلا الحق والخير،(7/368)
إذا كان كذلك لماذا نتفرق في جماعة تبليغ. يأتي ناس يكفرونهم ويضلونهم وفي جماعة إخوان مسلمين وجماعة سلفيين وجماعة، أشياء متعددة، لماذا لا نتفق ونكون جماعة واحدة المخطئ منا يصوبه المصيب والمصيب يحمد الله على الصواب، أما أن نتفرق هذا خطأ والواجب أن نكون يدا واحدة وألا تتفرق كلمتنا وأن نكون كما قال الله عز وجل: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء، الآية: 92] . وقال: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ، [سورة آل عمران، الآية: 105] وقال لرسوله عليه الصلاة والسلام: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} ، [سورة الأنعام، الآية: 159] . وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} . [سورة الشورى، الآية:13] . أسأل الله تعالى أن يجمع كلمتنا على الحق وأن يهدينا صراطه المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ونسأله تعالى أن يرزقنا الفقه في دينه والاستقامة عليه وأن يعيذنا جميعا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وأصحابه أجمعين.
تم بحمد الله تعالى المجلد السابع
ويليه بمشيئة الله - عز وجل - المجلد الثامن(7/369)
شرح العقيدة الواسطية(8/9)
مقدمة الشارح
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله، فلا مضل له، ومن يضلل، فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فقد من الله تعالى علينا بشرح " العقيدة الواسطية " التي ألفها شيخ الإسلام ابن تيمية في عقيدة أهل السنة والجماعة تقريرًا على الطلبة الذين درسوها علينا في المسجد، ومن أجل حرصهم على حفظ التقرير، قاموا بتسجيله ثم تفريغه كتابة من أشرطة التسجيل.
ومن المعلوم أن الشرح المتلقى من التقرير ليس كالشرح المكتوب بالتحرير، لأن الأول يعتريه من النقص والزيادة ما لا يعتري الثاني.
وقد تقدمت عدة مكاتب نشر بطلب طباعته.
ولكن، لما كان الشرح المتلقى من التقرير ليس كالشرح المكتوب بالتحرير، لذا رأيت من المهم أن أقرأ الشرح بتمهل من أجل إخراج الشرح على الوجه المرضي، ففعلت ذلك ولله الحمد وحذفت ما لا يحتاج إليه، وزدت ما يحتاج إليه.
وأسأل الله تعالى أن ينفع به كما نفع بأصله، وأن يجعلنا من دعاة الحق وأنصاره، إنه قريب مجيب.
المؤلف
محمد بن صالح العثيمين
27 \3\1415هـ(8/11)
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فإنه هذا الكتاب الذي يسمى " العقيدة الواسطية " ألفه حبر الأمة في زمانه: أبو العباس، شيخ الإسلام، أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني، رحمه الله، المتوفى سنة 728هـ.
ولهذا الرجل من المقامات -التي يشكر عليها والتي نرجو من الله له المثوبة عليها- في الدفاع عن الحق ومهاجمة أهل الباطل ما يعلمه كل من تتبع كتبه وسبرها، والحقيقة أنه من نعم الله على هذه الأمة؛ لأن الله سبحانه وتعالى كف به أمورًا عظيمة خطيرة على العقيدة الإسلامية.
وهذا الكتاب كتاب مختصر، يسمى " العقيدة الواسطية "، ألفه شيخ الإسلام؛ لأنه حضر إليه رجل من قضاة واسط، شكا إليه ما كان الناس يعانونه من المذاهب المنحرفة فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته، فكتب هذه العقيدة التي تعد زبدة لعقيدة أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بالأمور التي خاض الناس فيها بالبدع وكثر فيها الكلام والقيل والقال.
وقبل أن نبدأ الكلام على هذه الرسالة العظيمة نحب أن نبين أن جميع رسالات الرسل، من أولهم نوح عليه الصلاة والسلام، إلى آخرهم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ كلها تدعو إلى التوحيد.
قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] .(8/13)
وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] .
وذلك أن الخلق خلقوا لواحد وهو الله عز وجل، خلقوا لعبادته، لتتعلق قلوبهم به تألهًا وتعظيمًا، وخوفًا ورجاء وتوكلًا ورغبة ورهبة، حتى ينسلخوا عن كل شيء من الدنيا لا يكون معينًا لهم على توحيد الله عز وجل في هذه الأمور، لأنك أنت مخلوق، لا بد أن تكون لخالقك، قلبًا وقالبًا في كل شيء.
ولهذا كانت دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام إلى هذا الأمر الهام العظيم، عبادة الله وحده لا شريك له.
ولم يكن الرسل الذين أرسلهم الله عز وجل إلى البشر يدعون إلى توحيد الربوبية كدعوتهم إلى توحيد الألوهية، ذلك أن منكري توحيد الربوبية قليلون جدًّا وحتى الذين ينكرونه هم في قرارة نفوسهم لا يستطيعون أن ينكروه، اللهم إلا أن يكونوا قد سلبوا العقول المدركة أدنى إدراك، فإنهم قد ينكرون هذا من باب المكابرة.
وقد قسم العلماء رحمهم الله التوحيد إلى ثلاثة أقسام:
أحدها: توحيد الربوبية:
وهو " إفراد الله سبحانه وتعالى في أمور ثلاثة؛ في الخلق والملك والتدبير ".
دليل ذلك قوله تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54] ووجه الدلالة من الآية: أنه قدم فيها الخبر الذي من حقه التأخير، والقاعدة البلاغية: أن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر. ثم تأمل افتتاح هذه الآية بـ (ألا) الدالة على التنبيه والتوكيد: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54] ،(8/14)
لا لغيره، فالخلق هذا هو، والأمر هو التدبير.
أما الملك، فدليله مثل قوله تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الجاثية: 27] ؛ فإن هذا يدل على انفراده سبحانه وتعالى بالملك، ووجه الدلالة من هذه الآية كما سبق تقديم ما حقه التأخير.
إذًا، فالرب عز وجل منفرد بالخلق والملك والتدبير.
فإن قلت: كيف تجمع بين ما قررت وبين إثبات الخلق لغير الله، مثل قوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14] ، ومثل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المصورين: «يقال لهم أحيوا ما خلقتم» (1) ومثل قوله تعالى في الحديث القدسي: «ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي» . (2)
؛ فكيف تجمع بين قولك: أن الله منفرد بالخلق، وبين هذه النصوص؟ .
فالجواب أن يقال: إن الخلق هو الإيجاد، وهذا خاص بالله تعالى، أما تحويل الشيء من صورة إلى أخرى، فإنه ليس بخلق حقيقة، وإن سمي خلقًا باعتبار التكوين، لكنه في الواقع ليس بخلق تام، فمثلًا: هذا النجار صنع من الخشب بابًا، فيقال: خلق بابًا لكن مادة هذه الصناعة الذي خلقها هو الله عز وجل، لا يستطيع الناس كلهم مهما بلغوا في القدرة أن يخلقوا عود أراك أبدًا، ولا أن يخلقوا ذرة ولا أن يخلقوا ذبابًا.
واستمع إلى قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج: 73] .
__________
(1) رواه البخاري كتاب اللباس/ باب من كره القعود على الصورة، ومسلم/ كتاب الباس/ باب تحريم تصوير صورة الحيوان.
(2) رواه البخاري كتاب اللباس/ باب نقض الصور، ومسلم/ كتاب اللباس/ باب تحريم تصوير صورة الحيوان.(8/15)
الذين: اسم موصول يشمل كل ما يدعى من دون الله من شجر وحجر وبشر وملك وغيره، كل الذين يدعون من دون الله {لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج: 73] ، ولو انفرد كل واحد بذلك، لكان عجزه من باب أولى، {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ} [الحج: 73] ، حتى الذين يدعون من دون الله لو سلبهم الذباب شيئًا؛ ما استطاعوا أن يستنقذوه من هذا الذباب الضعيف، ولو وقع الذباب على أقوى ملك في الأرض، ومص من طيبه، لا يستطيع هذا الملك أن يستخرج الطيب من هذا الذباب، وكذلك لو وقع على طعامه؛ فإذًا الله عز وجل هو الخالق وحده.
فإن قلت: كيف تجمع بين قولك: إن الله منفرد بالملك وبين إثبات الملك للمخلوقين، مثل قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} [النور: 61] {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] ؟
فالجواب: أن الجمع بينهما من وجهين:
الأول: أن ملك الإنسان للشيء ليس عامًّا شاملًا، لأنني أملك ما تحت يدي، ولا أملك ما تحت يدك والملك ملك الله عز وجل؛ فمن حيث الشمول: ملك الله عز وجل أشمل وأوسع، وهو ملك تام.
الثاني: أن ملكي لهذا الشيء ليس ملكًا حقيقيًا أتصرف فيه كما أشاء، وإنما أتصرف فيه كما أمر الشرع، وكما أذن المالك الحقيقي، وهو الله عز وجل، ولو بعت درهمًا بدرهمين، لم أملك ذلك، ولا يحل لي ذلك، فإذًا ملكي قاصر وأيضًا لا أملك فيه شيئًا من الناحية القدرية، لأن التصرف لله، فلا أستطيع أن أقول لعبدي المريض: ابرأ فيبرأ، ولا أستطيع أن أقول لعبدي الصحيح الشحيح: امرض فيمرض، لكن التصرف الحقيقي لله عز وجل، فلو قال له: ابرأ، برأ، ولو قال: امرض. مرض، فإذًا لا أملك(8/16)
التصرف المطلق شرعًا وقدرًا، فملكي هنا قاصر من حيث التصرف، وقاصر من حيث الشمول والعموم، وبذلك يتبين لنا كيف كان انفراد الله عز وجل بالملك.
وأما التدبير، فللإنسان تدبير، ولكن نقول: هذا التدبير قاصر، كالوجهين السابقين في الملك، ليس كل شيء أملك تدبيره إلا على وفق الشرع الذي أباح لي هذا التدبير.
وحينئذ يتبين أن قولنا: " إن الله عز وجل منفرد بالخلق والملك والتدبير ": كلية عامة مطلقة، لا يستثنى منها شيء، لأن كل ما أوردناه لا يعارض ما ثبت لله عز وجل من ذلك.
القسم الثاني: توحيد الألوهية:
وهو إفراد الله عز وجل بالعبادة، بألا تكون عبدًا لغير الله، لا تعبد ملكًا ولا نبيًّا ولا وليًّا ولا شيخًا ولا أمًّا ولا أبًا، لا تعبد إلا الله وحده، فتفرد الله عز وجل وحده بالتأله والتعبد، ولهذا يسمى: توحيد الألوهية، ويسمى: توحيد العبادة، فباعتبار إضافته إلى الله هو توحيد ألوهية، وباعتبار إضافته إلى العابد هو توحيد عبادة.
والعبادة مبنية على أمرين عظيمين، هما المحبة والتعظيم، الناتج عنهما: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء: 90] ، فبالمحبة تكون الرغبة، وبالتعظيم تكون الرهبة والخوف.
ولهذا كانت العبادة أوامر ونواهي: أوامر مبنية على الرغبة وطلب الوصول إلى الآمر، ونواهي مبنية على التعظيم والرهبة من هذا العظيم.
فإذا أحببت الله عز وجل، رغبت فيما عنده ورغبت في الوصول إليه،(8/17)
وطلبت الطريق الموصل إليه، وقمت بطاعته على الوجه الأكمل، وإذا عظمته خفت منه، كلما هممت بمعصية، استشعرت عظمة الخالق عز وجل، فنفرت، {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ} [يوسف: 24] ، فهذه من نعمة الله عليك، إذا هممت بمعصية، وجدت الله أمامك، فهبت وخفت وتباعدت عن المعصية، لأنك تعبد الله رغبة ورهبة.
فما معنى العبادة؟
العبادة: تطلق على أمرين، على الفعل والمفعول.
تطل على الفعل الذي هو التعبد، فيقال: عبد الرجل ربه عبادة وتعبدًا وإطلاقها على التعبد من باب إطلاق اسم المصدر، ونعرفها باعتبار إطلاقها على الفعل بأنها: " التذلل لله عز وجل حبًّا وتعظيمًا، بفعل أوامره واجتناب نواهيه ". وكل من ذل لله عز بالله , {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ} [المنافقون: 8] .
وتطلق على المفعول، أي: المتعبد به وهي بهذا المعنى تعرف بما عرفها به شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال رحمه الله: " العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة ". (1)
هذا الشيء الذي تعبدنا الله به يجب توحيد الله به، لا يصرف لغيره، كالصلاة والصيام والزكاة والحج والدعاء والنذر والخشية والتوكل. . إلى غير ذلك من العبادات.
فإن قلت: ما هو الدليل على أن الله منفرد بالألوهية؟
__________
(1) "رسالة العبودية" مجموع الفتاوى 10/149(8/18)
فالجواب: هناك أدلة كثيرة، منها:
قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] .
{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] .
وأيضًا قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران: 18] ٍ، لو لم يكن من فضل العلم إلا هذه المنقبة، حيث إن الله ما أخبر أن أحدًا شهد بألوهيته إلا أولو العلم، نسأل الله أن يجعلنا منهم: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} ، بالعدل، ثم قرر هذه الشهادة بقوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ، فهذا دليل واضح على أنه لا إله إلا الله عز وجل، أشهد أن لا إله إلا الله، وأنتم تشهدون أن لا إله إلا الله. هذه الشهادة الحق.
إذا قال قائل: كيف تقرونها مع أن الله تعالى يثبت ألوهية غيره، مثل قوله تعالى: {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [القصص: 88] ، ومثل قوله: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} [المؤمنون: 117] ، ومثل قوله: {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [هود: 101] ، ومثل قول إبراهيم: {أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} [الصافات: 86] . . إلى غير ذلك من الآيات، كيف تجمع بين هذا وبين الشهادة بأن لا إله إلا الله؟
فالجواب: أن ألوهية ما سوى الله ألوهية باطلة، مجرد تسمية , {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم: 23] ، فألوهيتها باطلة، وهي وإن عبدت وتَأَلَّهَ إليها من ضل، فإنها ليست أهلًا لأن تعبد، فهي آلهة معبودة، لكنها آلهة باطلة ,(8/19)
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} [لقمان: 30] .
وهذا النوعان من أنواع التوحيد لا يجحدهما ولا ينكرهما أحد من أهل القبلة المنتسبين إلى الإسلام؛ لأن الله تعالى موحد بالربوبية والألوهية، لكن حصل فيما بعد أن من الناس من ادعى ألوهية أحد من البشر؛ كغلاة الرافضة مثلًا، الذين يقولون: إن عليًّا إله، كما صنع زعيمهم عبد الله بن سبأ؛ حيث جاء إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقال له: أنت الله حقًّا! لكن عبد الله بن سبأ أصله يهودي دخل في دين الإسلام بدعوى التشيع لآل البيت؛ ليفسد على أهل الإسلام دينهم، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وقال: " إن هذا صنع كما صنع بولص حين دخل في دين النصارى ليفسد دين النصارى ". (1)
هذا الرجل عبد الله بن سبأ قال لعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنت الله حقًّا! وعلي بن أبي طالب لا يرضى أن أحدًا ينزله فوق منزلته هو حتى إنه رضي الله عنه من إنصافه وعدله وعلمه وخبرته كان يقول على منبر الكوفة: " خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر "، (2) يعلن ذلك في الخطبة، وقد تواتر النقل عنه بذلك رضي الله عنه، والذي يقول هكذا ويقر بالفضل لأهله من
__________
(1) رواه اللاكائي في "شرح السنة" (2823) عن الشعبي، وقد أورده شيخ الإسلام ابن تيمية في "منهاج السنة" (1/29) وأشار إلى من رواه من العلماء. وحسنه الحافظ في "الفتح" (12/270) .
(2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/110) ، وفي "فضائل الصحابة" (397) ، وابن أبي عاصم في "السنة" (2/570) ، وابن ماجه (106) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
والحديث أصله في "صحيح البخاري" (3671) عن محمد بن الحنفية قال: قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال أبو بكر. قال: قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر.(8/20)
البشر كيف يرضى أن يقول له قائل: إنك أنت الله؟! ولهذا عزرهم أبشع تعزير، أمر بالأخاديد فخدت، ثم ملئت حطبًا وأوقدت، ثم أتى بهؤلاء فقذفهم في النار وأحرقهم بها؛ لأن فريتهم عظيمة -والعياذ بالله- وليست هينة، ويقال: إن عبد الله بن سبأ هرب ولم يمسكوه المهم أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أحرق السبئية بالنار، لأنهم ادعوا فيه الألوهية.
فنقول: كل من كان من أهل القبلة لا ينكرون هذين النوعين من التوحيد: وهما: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وإن كان يوجد في بعض أهل البدع من يؤله أحدًا من البشر.
لكن الذي كثر فيه النزاع بين أهل القبلة هو:
القسم الثالث وهو توحيد الأسماء والصفات:
هذا هو الذي كثر فيه الخوض، فانقسم الناس فيه إلى ثلاثة أقسام، وهم: ممثل، ومعطل، ومعتدل، والمعطل: إما مكذب أو محرف.
وأول بدعة حدثت في هذه الأمة هي بدعة الخوارج؛ لأن زعيمهم خرج على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو ذو الخويصرة من بني تميم، حين قسم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذهبية جاءت فقسمها بين الناس، فقال له هذا الرجل: يا محمد اعدل! (1) فكان هذا أول خروج خُرِجَ به على الشريعة الإسلامية، ثم عظمت فتنتهم في أواخر خلافة عثمان وفي الفتنة بين عليّ ومعاوية، فكفروا المسلمين واستحلوا دماءهم.
ثم حدثت بدعة القدرية مجوسي هذه الأمة الذين قالوا: إن الله سبحانه وتعالى لم يقدر أفعال العباد وليست داخلة تحت مشيئته وليست
__________
(1) رواه البخاري/ كتاب المناقب/ باب علامات النبوة في الإسلام، ومسلم، ومسلم: كتاب الزكاة.(8/21)
مخلوقة له، بل كان زعماؤهم وغلاتهم يقولون: إنها غير معلومة لله، ولا مكتوبة في اللوح المحفوظ، وأن الله لا يعلم بما يصنع الناس، إلا إذا وقع ذلك ويقولون: إن الأمر أنُف؛ أي: مستأنف وهؤلاء أدركوا آخر عصر الصحابة، فقد أدركوا زمن عبد الله بن عمر رضي الله عنه وعبادة بن الصامت وجماعة من الصحابة، لكنه في أواخر عصر الصحابة.
ثم حدثت بدعة الإرجاء وأدركت زمن كثير من التابعين، والمرجئة هم الذين يقولون: إنه لا تضر مع الإيمان معصية! أنت مؤمن تقول نعم. يقول لك: لا تضرك المعصية مع الإيمان تزني وتسرق وتشرب الخمر، وتقتل ما دمت مؤمنًا، فأنت مؤمن كامل الإيمان وإن فعلت كل معصية!
لكن قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن كلام القدرية والمرجئة حين رده بقايا الصحابة كان في الطاعة والمعصية والمؤمن والفاسق، لم يتكلموا في ربهم وصفاته.
فجاء قوم من الأذكياء ممن يدَّعون أن العقل مقدم على الوحي، فقالوا قولًا بين القولين -قول المرجئة وقول الخوارج- قالوا: الذي يفعل الكبيرة ليس بمؤمن كما قاله المرجئة، وليس بكافر كما قاله الخوارج، بل هو في منزلة بين منزلتين، كرجل سافر من مدينة إلى أخرى فصار في أثناء الطريق، فلا هو في مدينته ولا في التي سافر إليها، بل في منزلة بين منزلتين، هذا في أحكام الدنيا، أما في الآخرة، فهو مخلد في النار، فهم يوافقون الخوارج في الآخرة، لكن في الدنيا يخالفونهم.
ظهرت هذه البدعة وانتشرت، ثم حدثت بدعة الظلمة والجهمة، وهي بدعة جهم بن صفوان وأتباعه، ويسمون الجهمية، حدثت هذه البدعة، وهي لا تتعلق بمسألة الأسماء، والأحكام؛ مؤمن أم كافر أم فاسق، ولا في منزلة بين منزلتين، بل تتعلق بذات الخالق. انظر كيف تدرجت البدع(8/22)
في صدر الإسلام، حتى وصلوا إلى الخالق جل وعلا، وجعلوا الخالق بمنزلة المخلوق، يقولون كما شاؤوا، فيقولون: هذا ثابت لله، وهذا غير ثابت، هذا يقبل العقل أن يتصف الله به، وهذا لا يقبل العقل أن يتصف به، فحدثت بدعة الجهمية والمعتزلة، فانقسموا في أسماء الله وصفاته إلى أقسام متعددة:
قسم قالوا: لا يجوز أبدًا أن نصف الله لا بوجود ولا بعدم، لأنه إن وصف بالوجود، أشبه الموجودات، وإن وصف بالعدم، أشبه المعدومات، وعليه يجب نفي الوجود والعدم عنه، وما ذهبوا إليه، فهو تشبيه للخالق بالممتنعات والمستحيلات؛ لأن تقابل العدم والوجود تقابل نقيضين، والنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان، وكل عقول بني آدم تنكر هذا الشيء ولا تقبله، فانظر كيف فروا من شيء فوقعوا في أشر منه.
وقسم آخر قالوا: نصفه بالنفي ولا نصفه بالإثبات، يعني: أنهم يجوزون أن تسلب عن الله سبحانه وتعالى الصفات لكن لا تثبت؛ يعني: لا نقول: هو حي، وإنما نقول: ليس بميت! ولا نقول: عليم، بل نقول: ليس بجاهل.. . وهكذا. قالوا: لو أثبتَّ له شيئًا شبهته بالموجودات، لأنه على زعمهم كل الأشياء الموجودة متشابهة، فأنت لا تثبت له شيئًا، وأما النفي، فهو عدم، مع أن الموجود في الكتاب والسنة في صفات الله من الإثبات أكثر من النفي بكثير.
قيل لهم: إن الله قال عن نفسه: (سميع بصير) .
قالوا: هذا من باب الإضافات؛ بمعنى: نُسِبَ إليه السمع لا لأنه متصف به، ولكن لأن له مخلوقًا يسمع، فهو من باب الإضافات؛ فـ (سميع) ؛ يعني: ليس له سمع، لكن له مسموع.
وجاءت طائفة ثانية، قالوا: هذه الأوصاف لمخلوقاته، وليست له،(8/23)
أما هو، فلا يثبت له صفة.
3 - وقسم قالوا: يثبت له الأسماء دون الصفات، وهؤلاء هم المعتزلة أثبتوا أسماء الله؛ قالوا: إن الله سميع بصير قدير عليم حكيم.. . لكن قدير بل قدرة، سميع بلا سمع بصير بلا بصر، عليم بلا علم، حكيم بلا حكمة.
4 - وقسم رابع قالوا: نثبت له الأسماء حقيقة، ونثبت له صفات معينة دل عليها العقل وننكر الباقي؛ نثبت له سبع صفات فقط والباقي ننكره تحريفًا لا تكذيبًا، لأنهم لو أنكروه تكذيبًا، كفروا، لكن ينكرونه تحريفًا وهو ما يدعون أنه " تأويل ".
الصفات السبع هي مجموعة في قوله:
له الحياة والكلام والبصر ... سمع إرادة وعلم واقتدر
فهذه الصفات نثبتها لأن العقل دل عليها وبقية الصفات ما دل عليها العقل، فنثبت ما دل عليه العقل، وننكر ما لم يدل عليه العقل وهؤلاء هم الأشاعرة، آمنوا بالبعض، وأنكروا البعض.
فهذه أقسام التعطيل في الأسماء والصفات وكلها متفرعة من بدعة الجهم، «ومن سن في الإسلام سنة سيئة، فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» . (1)
فالحاصل أنكم أيها الإخوة لو طالعتم في كتب القوم التي تعتني بجمع أقاويل الناس في هذا الأمر، لرأيتم العجب العجاب، الذي تقولون: كيف يتفوه عاقل -فضلًا عن مؤمن- بمثل هذا الكلام؟! ولكن من لم يجعل الله له نورًا، فما له من نور! الذي أعمى الله بصيرته كالذي أعمى الله
__________
(1) جزء من حديث رواه مسلم/ كتاب الزكاة/ باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة.....(8/24)
بصره؛ فكما أن أعمى البصر لو وقف أمام الشمس التي تكسر نور البصر لم يرها، فكذلك من أعمى الله بصيرته لو وقف أمام أنوار الحق ما رآها والعياذ بالله.
ولهذا ينبغي لنا دائمًا أن نسأل الله تعالى الثبات على الأمر، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا لأن الأمر خطير، والشيطان يدخل على ابن آدم من كل صوب ومن كل وجه ويشككه في عقيدته وفي دينه وفي كتاب الله وسنة رسوله فهذه في الحقيقة البدع التي انتشرت في الأمة الإسلامية.
ولكن ولله الحمد ما ابتدع أحد بدعة، إلا قيض الله له بمنه وكرمه من يبين هذه البدعة ويدحضها بالحق وهذا من تمام مدلول قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] ، هذا من حفظ الله لهذا الذكر، وهذا أيضًا هو مقتضى حكمة الله عز وجل؛ لأن الله تعالى جعل محمدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاتم النبيين، والرسالة لا بد أن تبقى في الأرض، وإلا لكان للناس حجة على الله وإذا كانت الرسالة لا بد أن تبقى في الأرض؛ لزم أن يقيض الله عز وجل بمقتضى حكمته عند كل بدعة من يبينها ويكشف عورها، وهذا هو الحاصل، ولهذا أقول لكم دائمًا: احرصوا على العلم؛ لأننا في هذا البلد في مستقبل إذا لم نتسلح بالعلم المبني على الكتاب والسنة؛ فيوشك أن يحل بنا ما حل في غيرنا من البلاد الإسلامية، وهذا البلد الآن هو الذي يركز عليه أعداء الإسلام ويسلطون عليه سهامهم، من أجل أن يضلوا أهلها؛ فلذلك تسلحوا بالعلم، حتى تكونوا على بينة من أمر دينكم وحتى تكونوا مجاهدين بألسنتكم وأقلامكم لأعداء الله سبحانه وتعالى.
وكل هذه البدع انتشرت بعد الصحابة؛ فالصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يبحثون في هذه الأمور، لأنهم يتلقون الكتاب والسنة على(8/25)
ظاهرهما وعلى ما تقتضيه الفطرة، والفطرة السليمة سليمة، لكن أتى هؤلاء المبتدعون، فابتدعوا في دين الله تعالى ما ابتدعوا، إما لقلة علمهم، أو لقصور فهمهم، أو لسوء قصدهم، فأفسدوا الدنيا بهذه البدع التي ابتدعوها، ولكن كما قلنا: إن الله تعالى بحكمته وحمده ومنته وفضله مامن بدعة خرجت إلا قيض الله لها من يدحضها ويبينها.
ومن جملة الذين بينوا البدع وقاموا قيامًا تامًّا بدحضها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وأسأل الله لي ولكم أن يجمعنا به في جنات النعيم.
هذا الرجل الذي نفع الله بما آتاه من فضله ومنَّ على الأمة بمثله ألف هذه " العقيدة " كما قلت إجابة لطلب أحد قضاة واسط الذي شكا إليه ما كان الناس عليه من البدع وطلب منه أن يؤلف هذه " العقيدة " فألفها.(8/26)
بسم الله
ـــــــــــــــــــــــــــــ
* البداءة بالبسملة هي شأن جميع المؤلفين؛ اقتداء بكتاب الله؛ حيث أنزل البسملة في ابتداء كل سورة واستنادًا إلى سنة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وإعراب البسملة ومعناها تكلم فيه الناس كثيرًا، وفي متعلقها، وأحسن ما يقال في ذلك: أنها متعلقة بفعل محذوف متأخر مناسب للمقام؛ فإذا قدمتها بين يدي الأكل، فيكون التقدير: بسم الله آكل، وبين يدي القراءة يكون التقدير: بسم الله أقرأ.
نقدره فعلًا؛ لأن الأصل في العمل الأفعال لا الأسماء، ولهذا كانت الأفعال تعمل بلا شرط، والأسماء لا تعمل إلا بشرط؛ لأن العمل أصل في الأفعال، فرع في الأسماء.
ونقدره متأخرًا لفائدتين:
الأولى: الحصر؛ لأن تقديم المعمول يفيد الحصر، فيكون: باسم الله أقرأ، بمنزلة: لا أقرأ إلا باسم الله.
الثانية: تيمنًا بالبداءة باسم الله سبحانه وتعالى.
ونقدره خاصًّا؛ لأن الخاص أدل على المقصود من العام، إذ من الممكن أن أقول: التقدير: باسم الله أبتدئ لكن (باسم الله أبتدئ) لا تدل على تعيين المقصود، لكن (باسم الله أقرأ) خاص، والخاص أدل على المعنى من العام.
* " الله " علم على نفس الله عز وجل، ولا يسمى به غيره ومعناه: المألوه، أي: المعبود محبة وتعظيمًا وهو مشتق على القول الراجح لقوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} [الأنعام: 3] ، فإن {فِي السَّمَاوَاتِ} متعلق بلفظ الجلالة، يعني: وهو(8/27)
الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أرسل رسوله
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المألوه في السماوات وفي الأرض.
" الرحمن "، فهو ذو الرحمة الواسعة؛ لأن (فعلان) في اللغة العربية تدل على السعة والامتلاء، كما يقال: رجل غضبان: إذا امتلأ غضبًا.
" الرحيم " اسم يدل على الفعل؛ لأنه فعيل بمعنى فاعل فهو دال على الفعل.
فيجتمع من "الرحمن الرحيم": أن رحمة الله واسعة وأنها واصلة إلى الخلق. وهذا هو ما أوما إليه بعضهم بقوله: الرحمن رحمة عامة والرحيم رحمة خاصة بالمؤمنين، ولما كانت رحمة الله للكافر رحمة خاصة في الدنيا فقط فكأنها لا رحمة لهم؛ لأنهم في الآخرة يقول تعالى لهم إذا سألوا الله أن يخرجهم من النار وتوسلوا إلى الله تعالى بربوبيته واعترافهم على أنفسهم: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون: 107] ؛ فلا تدركهم الرحمة، بل يدركهم العدل، فيقول الله عز وجل لهم: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108] .
الله تعالى يحمد على كماله عز وجل وعلى إنعامه، فنحن نحمد الله عز وجل لأنه كامل الصفات من كل وجه، ونحمده أيضًا لأنه كامل الأنعام والإحسان: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل: 53] ، وأكبر نعمة أنعم الله بها على الخلق إرسال الرسل الذي به هداية الخلق، ولهذا يقول المؤلف "الحمد لله الذي أرسل رسول رسوله بالهدى ودين الحق".
والمراد بالرسول هنا الجنس، فإن جميع الرسل أرسلوا بالهدى ودين الحق، ولكن الذي أكمل الله به الرسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنه قد ختم الله به(8/28)
بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الأنبياء، وتم به البناء، كما وصف محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نفسه بالنسبة للرسل، كرجل بنى قصرًا وأتمه، إلا موضع لبنة، فكان الناس يأتون إلى هذا القصر ويتعجبون منه؛ إلا موضع هذه اللبنة، يقول: «فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين» (1) ، عليه الصلاة والسلام.
" بالهدى ": الباء هنا للمصاحبة والهدى هو العلم النافع ويحتمل أن تكون الباء للتعدية، أي: إن المرسل به هو الهدى ودين الحق. "ودين الحق" هو العمل الصالح؛ لأن الدين هو العمل أو الجزاء على العمل، فمن إطلاقه على العمل: قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19] ، ومن إطلاقه على الجزاء قوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} [الانفطار: 17] . والحق ضد الباطل، وهو -أي الحق- المتضمن لجلب المصالح ودرء المفاسد في الأحكام والأخبار.
" ليظهره على الدين كله ": اللام للتعليل ومعنى " ليظهره "، أي: يعليه؛ لأن الظهور بمعنى العلو، ومنه: ظهر الدابة أعلاها ومنه: ظهر الأرض سطحها، كما قال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر: 45] .
والهاء في "يظهره" هل هو عائد على الرسول أو على الدين؟ إن كان عائدًا على " دين الحق "؛ فكل من قاتل لدين الحق سيكون هو العالي. لأن الله يقول: " ليظهره "، يظهر هذا الدين على الدين كله، وعلى ما لا دين له فيظهره عليهم من باب أولى؛ لأن من لا يدين أخبث ممن يدين بباطل؛ فإذًا: كل الأديان التي يزعم أهلها أنهم على حق سيكون دين الإسلام عليها
__________
(1) رواه البخاري/ كتاب المناقب/ باب خاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم -، ومسلم/ كتاب الفضائل/ باب ذكر كونه - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين(8/29)
وكفى بالله شهيدًا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ظاهرًا، ومن سواهم من باب أولى.
وإن كان عائدًا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فإنما يظهر الله رسوله لأن معه دين الحق.
وعلى كلا التقديرين؛ فإن من تمسك بهذا الدين الحق، فهو الظاهر العالي، ومن ابتغى العزة في غيره، فقد ابتغى الذل؛ لأنه لا ظهور ولا عزة ولا كرامة إلا بالدين الحق، ولهذا أنا أدعوكم معشر الإخوة إلى التمسك بدين الله ظاهرًا وباطنًا في العبادة والسلوك والأخلاق، وفي الدعوة إليه، حتى تقوم الملة وتستقيم الأمة.
قوله " وكفى بالله شهيدًا " يقول أهل اللغة: إن الباء هنا زائدة، لتحسين اللفظ والمبالغة في الكفاية، وأصلها: " وكفى الله ".
و" شهيدًا ": تمييز محول عن الفاعل لأن أصلها " وكفت شهادة الله ". المؤلف جاء بالآية؟ ولو قال قائل: ما مناسبة " كفى بالله شهيدًا "، لقوله: " ليظهره على الدين كله "؟
قيل: المناسبة ظاهرة؛ لأن هذا النبي عليه الصلاة والسلام جاء يدعو الناس ويقول: «من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني دخل النار» . (1) ويقول بلسان الحال: من أطاعني سالمته، ومن عصاني حاربته ويحارب الناس بهذا الدين، ويستبيح دماءهم وأموالهم ونساءهم وذريتهم، وهو في ذلك منصور مؤزر غالب غير مغلوب؛ فهذا التمكين له في الأرض، أي تمكين الله لرسوله في الأرض: شهادة من الله عز وجل فعلية بأنه صادق
__________
(1) رواه البخاري، كتاب الاعتصام/ باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(8/30)
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارًا به
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وأن دينه حق؛ لأن كل من افترى على الله كذبًا فمآله الخذلان والزوال والعدم، وانظر إلى الذين ادعوا النبوة ماذا كان مآلهم؟ أن نسوا وأهلكوا، كمسيلمة الكذاب، والأسود العنسي.. وغيرهما ممن ادعوا النبوة، كلهم تلاشوا وبان بطلان قولهم وحرموا الصواب والسداد لكن هذا النبي محمدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على العكس دعوته إلى الآن والحمد لله باقية، ونسأل الله أن يثبتنا وإياكم عليها، دعوته إلى الآن باقية وإلى أن تقوم الساعة ثابتة راسخة، يستباح بدعوته إلى اليوم دماء من ناوأها من الكفار وأموالهم، وتسبى نساؤهم وذريتهم، هذه الشهادة فعلية، ما أخذه الله ولا فضحه ولا كذبه، ولهذا جاءت بعد قوله: " ليظهره على الدين كله ".
" أشهد "، بمعنى: أقر بقلبي ناطقًا بلساني؛ لأن الشهادة نطق وإخبار عما في القلب، فأنت عند القاضي تشهد بحق فلان على فلان، تشهد باللسان المعبر عما في القلب واختيرت الشهادة دون الإقرار؛ لأن الشهادة أصلها من شهود الشيء؛ أي: حضوره ورؤيته، فكأن هذا المخبر عما في قلبه الناطق بلسانه، كأنه يشاهد الأمر بعينه.
" لا إله إلا الله "، أي: لا معبود حق إلا الله، وعلى هذا يكون خبر لا محذوفًا، ولفظ الجلالة بدلًا منه.
" وحده " هي من حيث المعنى توكيد للإثبات.
" لا شريك له ": توكيد للنفي.
" إقرارًا به ": " إقرارًا " هذه مصدر، وإن شئت؛ فقل: إنه مفعول مطلق؛ لأنه مصدر معنوي لقوله: " أشهد "، وأهل النحو يقولون: إذا(8/31)
وتوحيدًا
وأشهد أن محمدًا عبده
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كان المصدر بمعنى الفعل دون حروفه؛ فهو مصدر معنوي، أو مفعول مطلق، وإذا كان بمعناه وحروفه، فهو مصدر لفظي فـ: قمت قيامًا: مصدر لفظي، و: قمت وقوفًا: مصدر معنوي، و: جلست جلوسًا: لفظي، و: جلست قعودًا: معنوي.
" وتوحيدًا " مصدر مؤكد لقوله: " لا إله إلا الله ".
نقول في " أشهد " ما قلنا في " أشهد " الأولى.
محمد: هو ابن عبد الله بن عبد المطلب القرشي الهاشمي الذي هو من سلالة إسماعيل بن إبراهيم، أشرف الناس نسبًا، عليه الصلاة والسلام.
هذا النبي الكريم عبد الله ورسوله، وهو أعبد الناس لله، وأشدهم تحقيقًا لعبادته، «كان عليه الصلاة والسلام يقوم في الليل حتى تتورم قدماه ويقال له: كيف تصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول: " أفلا أكون عبدًا شكورًا؟» . (1)
لأن الله تعالى أثنى على العبد الشكور حين قال عن نوح: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء: 3] ، فأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يصل إلى هذه الغاية، وأن يعبد الله تعالى حق عبادته، ولهذا كان أتقى الناس، وأخشى الناس لله، وأشدهم رغبة فيما عند الله تعالى، فهو عبد لله، ومقتضى عبوديته أنه لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعًا ولا ضرًا وليس له حق في الربوبية إطلاقًا بل هو عبد محتاج إلى الله مفتقر له يسأله ويدعوه ويرجوه
__________
(1) البخاري/ كتاب التهجد/ باب قيام النبي صلى الله عليه وسلم، ومسلم/ كتاب المنافقين/ باب إكثار الأعمال والاجتهاد في الطاعة.(8/32)
ورسوله
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ويخافه، بل إن الله أمره أن يعلن وأن يبلغ بلاغًا خاصًّا بأنه لا يملك شيئًا من هذه الأمور فقال: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف: 188] وأمره أن يقول: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام: 50] وأمره أن يقول: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا إِلَّا بَلَاغًا} [الجن: 21-23] إلا استثناء منقطع؛ أي: لكن أبلغ بلاغًا من الله ورسالاته.
فالحاصل أن محمدًا صلوات الله وسلامه عليه عبد لله ومقتضى هذه العبودية أنه لا حق له في شيء من شؤون الربوبية إطلاقًا.
وإذا كان محمد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه بهذه المثابة، فما بالك بمن دونه من عباد الله؟! فإنهم لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا، ولا لغيرهم أبدًا وبهذا يتبين سفه أولئك القوم الذين يدعون من يدعونهم أولياء من دون الله عز وجل.
قوله: " ورسوله ": هذا أيضًا لا يكون لأحد بعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنه خاتم النبيين؛ فهو رسول الله الذي بلغ مكانًا لم يبلغه أحد من البشر، بل ولا من الملائكة فيما نعلم اللهم إلا حملة العرش، وصل إلى ما فوق السماء السابعة، «وصل إلى موضع سمع فيه صريف أقلام القضاء» (1)
الذي يقضي به الله عز وجل في خلقه، ما وصل أحد فيما نعلم إلى هذا المستوى، وكلمه الله عز وجل بدون واسطة، وأرسله إلى الخلق كافة وأيده
__________
(1) لما رواه البخاري/ كتاب الصلاة/ باب كيف فرضت الصلوات في الإسراء.(8/33)
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بالآيات العظيمة التي لم تكن لأحد من البشر أو الرسل قبله، وهو هذا القرآن العظيم، فإن هذا القرآن لا نظير له في آيات الأنبياء السابقين أبدًا، ولهذا قال الله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: 50-51] ، هذا يكفي عن كل شيء، ولكن لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، أما المعرض، فسيقول كما قال من سبقه: هذا أساطير الأولين!
الحاصل أن محمدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسول الله وخاتم النبيين، ختم الله به النبوة والرسالة أيضًا؛ لأنه إذا انتفت النبوة، وهي أعم من الرسالة، انتفت الرسالة التي هي أخص؛ لأن انتفاء الأعم يستلزم انتفاء الأخص، فرسول الله عليه الصلاة والسلام هو خاتم النبيين.
معنى " صلى الله عليه ": أحسن ما قيل فيه ما قاله أبو العالية رحمه الله، قال: " صلاة الله على رسوله: ثناؤه عليه في الملأ الأعلى ".
وأما من فسر صلاة الله عليه بالرحمة، فقوله ضعيف؛ لأن الرحمة تكون لكل أحد، ولهذا أجمع العلماء على أنك يجوز أن تقول: فلان رحمه الله، واختلفوا، هل يجوز أن تقول: فلان صلى الله عليه؟ وهذا يدل على أن الصلاة غير الرحمة. وأيضا؛ فقد قال الله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 157] ، والعطف يقتضي المغايرة، إذًا، فالصلاة أخص من الرحمة، فصلاة الله على رسوله ثناؤه عليه في الملأ الأعلى.
قوله: " وعلى آله "، و (آله) هنا: أتباعه على دينه هذا إذا ذكرت(8/34)
وسلم تسليمًا مزيدًا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الآل وحدها أو مع الصحب، فإنها تكون بمعنى أتباعه على دينه منذ بعث إلى يوم القيامة ويدل على أن الآل بمعنى الأتباع على الدين قوله تعالى في آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46] ، أي: أتباعه على دينه.
أما إذا قرنت بالأتباع، فقيل: آله وأتباعه، فالآل هم المؤمنون من آل البيت، أي: بيت الرسول عليه الصلاة والسلام.
وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لم يذكر الأتباع هنا، قال: " آله وصحبه "، فنقول: آله هم أتباعه على دينه، وصحبه كل من اجتمع بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مؤمنًا به ومات على ذلك.
وعطف الصحب هنا على الآل من باب عطف الخاص على العام؛ لأن الصحبة أخص من مطلق الاتباع.
قوله: " وسلم تسليمًا مزيدًا ": (سلم) فيها السلامة من الآفات، وفي الصلاة حصول الخيرات، فجمع المؤلف في هذه الصيغة بين سؤال الله تعالى أن يحقق لنبيه الخيرات -وأخصها: الثناء عليه في الملأ الأعلى- وأن يزيد عنه الآفات، وكذلك من اتبعه.
والجملة في قوله: " صلى " و" سلم " خبرية لفظًا طلبية معنى؛ لأن المراد بها الدعاء.
قوله: " مزيدًا "؛ بمعنى: زائدًا أو زيادة، والمراد تسليمًا زائدًا على الصلاة، فيكون دعاء آخر بالسلام بعد الصلاة.
والرسول عند أهل العلم: " من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه ".(8/35)
أما بعد
فهذا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وقد نبئ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بـ اقرأ وأرسل بالمدثر، فبقوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} . إلى قوله: {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1-5] كان نبيا، وبقوله: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر: 1،2] كان رسولًا عليه الصلاة والسلام.
" أما بعد ": (أما) هذه نائبة عن اسم شرط وفعله، التقدير: مهما يكن من شيء؛ قال ابن مالك:
أما كمهايك من شيء وفا ... لتلو تلوها وجوبًا ألفها
فقولهم: أما بعد: التقدير: مهما يكن من شيء بعد هذا، فهذا.
وعليه، فالفاء هنا رابطة للجواب والجملة بعدها في محل جزم جواب الشرط، ويحتمل عندي أن تكون: " أما بعد، فهذا "؛ أي أن (أما) حرف شرط وتفصيل أو حرف شرط فقط مجرد عن التفصيل، والتقدير: أما بعد ذكر هذا؛ فأنا أذكر كذا وكذا. ولا حاجة أن نقدر فعل شرط، ونقول: إن (أما) حرف ناب مناب الجملة.
" فهذا ": الإشارة لا بد أن تكون إلى شيء موجود، أنا عندما أقول: هذا؛ فأنا أشير إلى شيء محسوس ظاهر، وهنا المؤلف كتب الخطبة قبل الكتاب وقبل أن يبرز الكتاب لعالم الشاهد، فكيف ذلك؟!
أقول: إن العلماء يقولون: إن كان المؤلف كتب الكتاب ثم كتب المقدمة والخطبة، فالمشار إليه موجود ومحسوس، ولا فيه إشكال، وإن لم يكن كتبه، فإن المؤلف يشير إلى ما قام في ذهنه عن المعاني التي سيكتبها في هذا الكتاب، وعندي فيه وجه ثالث، وهو أن المؤلف قال هذا باعتبار حال المخاطب، والمخاطب لم يخاطب بذلك إلا بعد أن برز الكتاب وصدر؛(8/36)
اعتقاد الفرقة الناجية
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فكأنه يقول: " فهذا الذي بين يديك كذا وكذا ".
هذه إذًا ثلاثة أوجه.
" اعتقاد ": افتعال من العقد وهو الربط والشد هذا من حيث التصريف اللغوي، وأما في الاصطلاح عندهم، فهو حكم الذهن الجازم، يقال: اعتقدت كذا، يعنى: جزمت به في قلبي، فهو حكم الذهن الجازم، فإن طابق الواقع، فصحيح، وإن خالف الواقع، ففاسد، فاعتقادنا أن الله إله واحد صحيح، واعتقاد النصارى أن الله ثالث ثلاثة باطل؛ لأنه مخالف للواقع ووجه ارتباطه بالمعنى اللغوي ظاهر؛ لأن هذا الذي حكم في قلبه على شيء ما كأنه عقده عليه وشده عليه بحيث لا يتفلت منه.
" الفرقة " بكسر الفاء، بمعنى: الطائفة، قال الله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة: 122] ، وأما الفرقة بالضم، فهي مأخوذة من الافتراق.
" الناجية ": اسم فاعل من نجا، إذا سلم، ناجية في الدنيا من البدع سالمة منها وناجية في الآخرة من النار.
ووجه ذلك «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة " قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: " من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي» (1)
__________
(1) رواه الترمذي/ كتاب الإيمان/ باب ما جاء في افتراق هذه الأمة. واللالكائي في "شرح السنة" (147) ، والحاكم (1/129) .(8/37)
المنصورة إلى قيام الساعة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الحديث يبين لنا معنى (الناجية) ؛ فمن كان على مثل ما عليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأصحابه؛ فهو ناج من البدع. و «كلها في النار إلا واحدة» : إذًا هي ناجية من النار؛ فالنجاة هنا من البدع في الدنيا، ومن النار في الآخرة.
" المنصورة " عبر المؤلف بذلك موافقة للحديث، حيث قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين» (1) ، والظهور الانتصار؛ لقوله تعالى: {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف: 14] ، والذي ينصرها هو الله وملائكته والمؤمنون، فهي منصورة إلى قيام الساعة، منصورة من الرب عز وجل، ومن الملائكة، ومن عباده المؤمنين، حتى قد ينصر الإنسان من الجن، ينصره الجن ويرهبون عدوه.
" إلى قيام الساعة "؛ أي: إلى يوم القيامة؛ فهي منصورة إلى قيام الساعة.
وهنا يرد إشكال، وهو أن الرسول عليه الصلاة والسلام أخبر بأن «الساعة تقوم على شرار الخلق» (2) ، وأنه لا تقوم حتى لا يقال: الله الله (3) ، فكيف نجمع بين هذا وبين قوله: " إلى قيام الساعة "؟ !
والجواب: أن يقال: إن المراد: إلى قرب قيام الساعة؛ لقوله في
__________
(1) أخرجه البخاري/ كتاب المناقب/ باب سؤال المشركين أن يريهم النبي صلى الله عليه وسلم آية، ومسلم/ كتاب الإمارة/ باب قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة....".
(2) رواه مسلم/ كتاب الفتن، باب قرب الساعة.
(3) رواه مسلم/ كتاب الإيمان/ باب ذهاب الإيمان في آخر الزمان.(8/38)
أهل السنة والجماعة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الحديث: «حتى يأتي أمر الله» ، أو: إلى قيام الساعة؛ أي: ساعتهم، وهو موتهم؛ لأن من مات فقد قامت قيامته، لكن الأول أقرب، فهم منصورون إلى قرب قيام الساعة، وإنما لجأنا إلى هذا التأويل لدليل، والتأويل بدليل جائز؛ لأن الكل من عند الله.
" أهل السنة والجماعة ": أضافهم إلى السنة؛ لأنهم متمسكون بها، والجماعة؛ لأنهم مجتمعون عليها.
فإن قلت: كيف يقول: " أهل السنة والجماعة "؛ لأنهم جماعة، فكيف يضاف الشيء إلى نفسه؟ !
فالجواب: أن الأصل أن كلمة الجماعة بمعنى الاجتماع، فهي اسم مصدر، هذا في الأصل، ثم نقلت من هذا الأصل إلى القوم المجتمعين، وعليه؛ فيكون معنى أهل السنة والجماعة؛ أي: أهل السنة والاجتماع، سموا أهل السنة؛ لأنهم متمسكون بها؛ لأنهم مجتمعون عليها.
ولهذا لم تفترق هذه الفرقة كما افترق أهل البدع، نجد أهل البدع، كالجهمية متفرقين، والمعتزلة متفرقين، والروافض متفرقين، وغيرهم من أهل التعطيل متفرقين، لكن هذه الفرقة مجتمعة على الحق، وإن كان قد يحصل بينهم خلاف، لكنه خلاف لا يضر، وهو خلاف لا يضلل أحدهم الآخر به؛ أي: أن صدورهم تتسع له، وإلا، فقد اختلفوا في أشياء مما يتعلق بالعقيدة، مثل: هل رأى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربه بعينه أم لم يره؟ ومثله: هل عذاب القبر على البدن والروح أو الروح فقط؟ ومثل بعض الأمور يختلفون فيها، لكنها مسائل تعد فرعية بالنسبة للأصول، وليست من الأصول. ثم(8/39)
وهو الإيمان بالله
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هم مع ذلك إذا اختلفوا، لا يضلل بعضهم بعضًا، بخلاف أهل البدع.
إذًا فهم مجتمعون على السنة، فهم أهل السنة والجماعة.
وعلم من كلام المؤلف رحمه الله أنه لا يدخل فيهم من خالفهم في طريقتهم، فالأشاعرة مثلًا والماتريدية لا يعدون من أهل السنة والجماعة في هذا الباب؛ لأنهم مخالفون لما كان عليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه في إجراء صفات الله سبحانه وتعالى على حقيقتها، ولهذا يخطئ من يقول: إن أهل السنة والجماعة ثلاثة: سلفيون، وأشعريون، وماتريديون، فهذا خطأ، نقول: كيف يكون الجميع أهل سنة وهم مختلفون؟ ! فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ ! وكيف يكونون أهل سنة وكل واحد يرد على الآخر؟ ! هذا لا يمكن، إلا إذا أمكن الجمع بين الضدين، فنعم، وإلا، فلا شك أن أحدهم وحده هو صاحب السنة، فمن هو؟ الأشعرية، أم الماتريدية، أم السلفية؟ نقول: من وافق السنة؛ فهو صاحب السنة ومن خالف السنة، فليس صاحب سنة، فنحن نقول: السلف هم أهل السنة والجماعة، ولا يصدق الوصف على غيرهم أبدًا والكلمات تعتبر معانيها لننظر كيف نسمي من خالف السنة أهل سنة؟ ! لا يمكن! وكيف يمكن أن نقول عن ثلاث طوائف مختلفة: إنهم مجتمعون؟ ! فأين الاجتماع؟ ! فأهل السنة والجماعة هم السلف معتقدًا، حتى المتأخر إلى يوم القيامة إذا كان على طريقة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، فإنه سلفي.
هذه العقيدة أصَّلها لنا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جواب جبريل حين سأل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما الإسلام؟ ما الإيمان؟ ما الإحسان؟ متى الساعة؟ فالإيمان قال(8/40)
له: «أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره» . (1)
" الإيمان بالله ": الإيمان في اللغة: يقول كثير من الناس: إنه التصديق؛ فصدقت وآمنت معناهما لغة واحد، وقد سبق لنا في التفسير أن هذا القول لا يصح بل الإيمان في اللغة: الإقرار بالشيء عن تصديق به؛ بدليل أنك تقول: آمنت بكذا وأقررت بكذا وصدقت فلانًا ولا تقول: آمنت فلانًا.
إذًا فالإيمان يتضمن معنى زائدًا على مجرد التصديق، وهو الإقرار والاعتراف المستلزم للقبول للأخبار والإذعان للأحكام، هذا الإيمان، أما مجرد أن تؤمن بأن الله موجود، فهذا ليس بإيمان، حتى يكون هذا الإيمان مستلزمًا للقبول في الأخبار والإذعان في الأحكام، وإلا، فليس إيمانًا.
والإيمان بالله يتضمن أربعة أمور:
الإيمان بوجوده سبحانه وتعالى.
الإيمان بربوبيته؛ أي: الانفراد بالربوبية.
الإيمان بانفراده بالألوهية.
الإيمان بأسمائه وصفاته. لا يمكن أن يتحقق الإيمان إلا بذلك.
فمن لم يؤمن بوجود الله، فليس بمؤمن، ومن آمن بوجود الله لا بانفراده بالربوبية؛ فليس بمؤمن، ومن آمن بالله وانفراده بالربوبية لا بالألوهية، فليس بمؤمن، ومن آمن بالله وانفراده بالربوبية والألوهية لكن لم يؤمن بأسمائه وصفاته؛ فليس بمؤمن، وإن كان الأخير فيه من يسلب عنه الإيمان بالكلية وفيه من يسلب عنه كمال الإيمان.
__________
(1) رواه مسلم/ كتاب الإيمان/ باب بيان أركان الإيمان والإسلام.(8/41)
الإيمان بوجوده:
إذا قال قائل: ما الدليل على وجود الله عز وجل؟
قلنا: الدليل على وجود الله: العقل، والحس، والشرع؛ ثلاثة كلها تدل على وجود الله، وإن شئت؛ فزد: الفطرة، فتكون الدلائل على وجود الله أربعة: العقل، والحس، والفطرة، والشرع. وأخرنا الشرع، لا لأنه لا يستحق التقديم، لكن لأننا نخاطب من لا يؤمن بالشرع.
فأما دلالة العقل، فنقول: هل وجود هذه الكائنات بنفسها، أو وجدت هكذا صدفة؟
فإن قلت: وجدت بنفسها؛ فمستحيل عقلًا ما دامت هي معدومة؟ كيف تكون موجودة وهي معدومة؟ ! المعدوم ليس بشيء حتى يوجد، إذًا لا يمكن أن توجد نفسها بنفسها وإن قلت: وجدت صدفة، فنقول: هذا يستحيل أيضا؛ فأنت أيها الجاحد؛ هل ما أنتج من الطائرات والصواريخ والسيارات والآلات بأنواعها؛ هل وجد هذا صدفة؟ ! فيقول: لا يمكن أن يكون. فكذلك هذه الأطيار والجبال والشمس والقمر والنجوم والشجر والجمر والرمال والبحار وغير ذلك لا يمكن أن توجد صدفة أبدًا.
ويقال: إن طائفة من السُّمنية جاؤوا إلى أبي حنيفة رحمه الله، وهم من أهل الهند، فناظروه في إثبات الخالق عز وجل، وكان أبو حنيفة من أذكى العلماء فوعدهم أن يأتوا بعد يوم أو يومين، فجاؤوا، قالوا: ماذا قلت؟ قال: أنا أفكر في سفينة مملوءة من البضائع والأرزاق جاءت تشق عباب الماء حتى أرست في الميناء ونزلت الحمولة وذهبت، وليس فيها قائد ولا حمالون.
قالوا: تفكر بهذا؟ ! قال: نعم. قالوا: إذًا ليس لك عقل! هل يعقل(8/42)
أن سفينة تأتي بدون قائد وتنزل وتنصرف؟ ! هذا ليس معقولًا! قال: كيف لا تعقلون هذا، وتعقلون أن هذه السماوات والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب والناس كلها بدون صانع؟ فعرفوا أن الرجل خاطبهم بعقولهم، وعجزوا عن جوابه هذا أو معناه.
وقيل لأعرابي من البادية: بم عرفت ربك؟ فقال: الأثر يدل على المسير، والبعرة تدل على البعير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ألا تدل على السميع البصير؟
ولهذا قال الله عز وجل: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35] .
فحينئذ يكون العقل دالًّا دلالة قطعية على وجود الله.
- وأما دلالة الحس على وجود الله؛ فإن الإنسان يدعو الله عز وجل، يقول: يا رب! ويدعو بالشيء، ثم يستجاب له فيه، وهذه دلالة حِسِّية، هو نفسه لم يدع إلا الله، واستجاب الله له، رأى ذلك رأي العين. وكذلك نحن نسمع عمَّن سبق وعمَّن في عصرنا، أن الله استجاب الله.
فالأعرابي الذي دخل والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطب الناس يوم الجمعة قال: هلكت الأموال، وانقطعت السبل فادع الله يغيثنا «قال أنس: والله؛ ما في السماء من سحاب ولا قزعة (أي: قطعة سحاب) وما بيننا وبين سلع (جبل في المدينة تأتي من جهته السحب) من بيت ولا دار. . وبعد دعاء الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فورًا خرجت سحابًا مثل الترس، وارتفعت في السماء وانتشرت ورعدت، وبرقت، ونزل المطر، فما نزل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا والمطر يتحادر من لحيته عليه الصلاة والسلام» (1)
__________
(1) رواه البخاري/ كتاب الاستسقاء/ باب الاستسقاء في خطبة الجمعة، ومسلم/ كتاب صلاة الاستسقاء/ باب الدعاء في الاستسقاء.(8/43)
وهذا أمر واقع يدل على وجود الخالق دلالة حسية.
وفي القرآن كثير من هذا، مثل: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} [الأنبياء: 83-84] وغير ذلك من الآيات.
- وأما دلالة الفطرة، فإن كثيرًا من الناس الذين لم تنحرف فطرهم يؤمنون بوجود الله، حتى البهائم العجم تؤمن بوجود الله، وقصة النملة التي رويت عن سليمان عليه الصلاة والسلام، خرج يستسقي، فوجد نملة مستلقية على ظهرها رافعة قوائمها نحو السماء، تقول: اللهم أنا خلق من خلقك، فلا تمنع عنا سقياك.
فقال: ارجعوا، فقد سقيتم بدعوة غيركم.
فالفطر مجبولة على معرفة الله عز وجل وتوحيده.
وقد أشار الله تعالى إلى ذلك في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} [الأعراف: 172: 173] ، فهذه الآية تدل على أن الإنسان مجبول بفطرته على شهادته بوجود الله وربوبيته وسواء أقلنا: إن الله استخرجهم من ظهر آدم واستشهدهم، أو قلنا: إن هذا هو ما ركب الله تعالى في فطرهم من الإقرار به، فإن الآية تدل على أن الإنسان يعرف ربه بفطرته.(8/44)
وملائكته
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هذه أدلة أربعة تدل على وجود الله سبحانه وتعالى.
- وأما دلالة الشرع؛ فلأن ما جاءت به الرسل من شرائع الله تعالى المتضمنة لجميع ما يصلح الخلق يدل على أن الذي أرسل بها رب رحيم حكيم، ولا سيما هذا القرآن المجيد الذي أعجز البشر والجن أن يأتوا بمثله.
الملائكة جمع: ملأك، وأصل ملأك: مألك؛ لأنه من الألوكة، والألوكة في اللغة الرسالة، قال الله تعالى: {جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى} [فاطر: 1] .
فالملائكة عالم غيبي، خلقهم الله عز وجل من نور، وجعلهم طائعين له متذللين له، ولكل منهم وظائف خصه الله بها، ونعلم من وظائفهم:
أولًا:
جبريل: موكل بالوحي، ينزل به من الله تعالى إلى الرسل.
ثانيًا: إسرافيل: موكل بنفخ الصور، وهو أيضًا أحد حملة العرش.
ثالثًا: ميكائيل: موكل بالقطر والنبات.
وهؤلاء الثلاثة كلهم موكلون بما فيه حياة، فجبريل موكل بالوحي وفيه حياة القلوب، وميكائيل بالقطر والنبات وفيه حياة الأرض، وإسرافيل بنفخ الصور وفيه حياة الأجساد يوم المعاد.
ولهذا كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتوسل بربوبية الله لهم في دعاء الاستفتاح في صلاة الليل، فيقول: «اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك. إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» (1) ، هذا الدعاء الذي كان يقوله في قيام الليل متوسلًا
__________
(1) أخرجه مسلم/ كتاب صلاة المسافرين/ باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه.(8/45)
بربوبية الله لهم.
كذلك نعلم أن منهم من وكل بقبض أرواح بني آدم، أو بقبض روح كل ذي روح وهم: ملك الموت وأعوانه ولا يسمى عزرائيل؛ لأنه لم يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أن اسمه هذا.
قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام: 61] . وقال تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11] . وقال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 42] .
ولا منافاة بين هذه الآيات الثلاث، فإن الملائكة تقبض الروح، فإن ملك الموت إذا أخرجها من البدن تكون عنده ملائكة، إن كان الرجل من أهل الجنة، فيكون معهم حنوط من الجنة، وكفن من الجنة، يأخذون هذه الروح الطيبة، ويجعلونها في هذا الكفن، ويصعدون بها إلى الله عز وجل حتى تقف بين يدي الله عز وجل، ثم يقول اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض، فترجع الروح إلى الجسد من أجل الاختبار: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ وإن كان الميت غير مؤمن والعياذ بالله، فإنه ينزل ملائكة معهم كفن من النار وحنوط من النار، يأخذون الروح، ويجعلونها في هذا الكفن، ثم يصعدون بها إلى السماء، فتغلق أبواب السماء دونها وتطرح إلى الأرض، قال الله تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31] ، ثم يقول الله: «اكتبوا كتاب عبدي في سجين» (1) نسأل الله
__________
(1) رواه أحمد (4/287) ، وأبو داود/ كتاب السنة/ باب في المسألة في القبر، والحاكم (1/93) وقال: "صحيح على شرط الشيخين" وأقره الذهبي، وقال الهيثمي: "رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح" 3/49.(8/46)
العافية! .
هؤلاء موكلون بقبض الروح من ملك الموت إذا قبضها، وملك الموت هو الذي يباشر قبضها، فلا منافاة إذن، والذي يأمر بذلك هو الله، فيكون في الحقيقة هو المتوفي.
ومنهم ملائكة سياحون في الأرض، يلتمسون حلق الذكر، إذا وجدوا حلقة العلم والذكر، جلسوا. (1)
وكذلك هناك ملائكة يكتبون أعمال الإنسان: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 10-12] {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] .
دخل أحد أصحاب الإمام أحمد عليه وهو مريض رحمه الله فوجده يئن من المرض، فقال له: يا أبا عبد الله! تئن، وقد قال طاووس: إن الملك يكتب حتى أنين المريض؛ لأن الله يقول: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] ؟ فجعل أبو عبد الله يتصبر وترك الأنين؛ لأن كل شيء يكتب {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ} : من: زائدة لتوكيد العموم , أي قول تقوله؛ يكتب لكن قد تجازى عليه بخير أو بشر، هذا حسب القول الذي قيل.
ومنهم أيضًا ملائكة يتعاقبون على بني آدم في الليل والنهار , {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11] .
ومنهم ملائكة رُكَّع وسُجَّد لله في السماء، قال النبي عليه الصلاة
__________
(1) البخاري/ كتاب الدعوات/ باب فضل ذكر الله عز وجل، ومسلم/ كتاب الدعوات/ باب فضل مجالس الذكر.(8/47)
والسلام: " «أطت السماء، وحق لها أن تئط» والأطيط: صرير الرحل؛ أي: إذا كان على البعير حمل ثقيل، تسمع له صرير من ثقل الحمل، فيقول الرسول عليه الصلاة والسلام: «أطت السماء، وحق لها أن تئط ما من موضع أربع أصابع منها، إلا وفيه ملك قائم لله أو راكع أو ساجد» (1) ، وعلى سعة السماء فيها هؤلاء الملائكة.
ولهذا «قال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في البيت المعمور الذي مر به في ليلة المعراج؛ قال: "يطوف به (أو قال: يدخله) سبعون ألف ملك كل يوم، ثم لا يعودون إليه آخر ما عليهم» (2) ، والمعنى: كل يوم يأتي إليه سبعون ألف ملك غير الذين أتوه بالأمس، ولا يعودون له أبدًا، يأتي ملائكة آخرون غير من سبق، وهذا يدل على كثرة الملائكة، ولهذا قال الله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر: 31] .
ومنهم ملائكة موكلون بالجنة وموكلون بالنار، فخازن النار اسمه مالك؛ يقول أهل النار: {يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف: 77] ، يعنى: ليهلكنا ويمتنا، فهم يدعون الله أن يميتهم؛ لأنهم في عذاب لا يصبر عليه، فيقول: {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف: 77] ، ثم يقال لهم: {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف: 77] .
المهم: أنه يجب علينا أن نؤمن بالملائكة.
وكيف الإيمان بالملائكة؟
__________
(1) رواه أحمد (5/173) ، والترمذي/ كتاب الزهد/ باب قوله صلى الله عليه وسلم "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً"، وابن ماجه/ كتاب الزهد/ باب الحزن والبكاء.
(2) رواه مسلم/ كتاب الإيمان/ باب الإسراء.(8/48)
وكتبه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
نؤمن بأنهم عالم غيبي لا يشاهدون، وقد يشاهدون، إنما الأصل أنهم عالم غيبي مخلوقون من نور مكلفون بما كلفهم الله به من العبادات وهم خاضعون لله عز وجل أتم الخضوع , {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] .
كذلك نؤمن بأسماء من علمنا بأسمائهم ونؤمن بوظائف من علمنا بوظائفهم ويجب علينا أن نؤمن بذلك على ما علمنا.
وهم أجساد، بدليل قوله تعالى: {جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ} [فاطر: 1] ، «ورأى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جبريل على صورته التي خلق عليها له ستمائة جناح قد سد الأفق» (1) ، خلافًا لمن قال: إنهم أرواح.
إذا قال قائل: هل لهم عقول؟ نقول: هل لك عقل؟ ما يسأل عن هذا إلا رجل مجنون، فقد قال الله تعالى: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] ، فهل يثني عليهم هذا الثناء وليس لهم عقول؟ ! {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20] ، أنقول: هؤلاء ليس لهم عقول؟ ! يأتمرون بأمر الله، ويفعلون ما أمر الله به ويبلغون الوحي، ونقول: ليس لهم عقول؟ ! أحق من يوصف بعدم العقل من قال: إنه لا عقول له!!
أي كتب الله التي أنزلها مع الرسل.
ولكل رسول كتاب، قال الله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ} [الحديد: 25] ،
__________
(1) رواه البخاري/ كتاب بدء الخلق/ باب إذا قال أحدكم "آمين" والملائكة في السماء فوافقت أحدهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه.(8/49)
ورسله
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وهذا يدل على أن كل رسول معه كتاب، لكن لا نعرف كل الكتب، بل نعرف كل الكتب، بل نعرف منها: صحف إبراهيم وموسى، التوراة، الإنجيل، الزبور، القرآن، ستة؛ لأن صحف موسى بعضهم يقول: هي التوراة، وبعضهم يقول: غيرها، فإن كانت التوراة، فهي خمسة، وإن كانت غيرها، فهي ستة، ولكن مع ذلك نحن نؤمن بكل كتاب أنزله الله على الرسل، وإن لم نعلم به، نؤمن به إجمالًا.
أي: رسل الله وهم الذين أوحى الله إليهم بالشرائع وأمرهم بتبليغها، وأولهم نوح وآخرهم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الدليل على أن أولهم نوح: قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163] ، يعني: وحيًا، كإيحائنا إلى نوح والنبيين من بعده، وهو وحي الرسالة. وقوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [الحديد: 26] : {فِي ذُرِّيَّتِهِمَا} ؛ أي ذرية نوح وإبراهيم، والذي قبل نوح لا يكون من ذريته. وكذلك قوله تعالى: {وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الذاريات: 46] ، قد نقول: إن قوله: من قبل: يدل على ما سبق.
إذًا من القرآن ثلاثة أدلة تدل على أن نوحًا أول الرسل ومن السنة ما ثبت في حديث الشفاعة: " «أن أهل الموقف يقولون لنوح: أنت أول رسول أسله الله إلى أهل الأرض» ، (1) وهذا صريح.
__________
(1) البخاري/ كتاب التوحيد/ باب كلاما لله مع الأنبياء يوم القيامة، ومسلم/ كتاب الإيمان/ باب أدنى أهل الجنة منزلاً(8/50)
أما آدم عليه الصلاة والسلام؛ فهو نبي، وليس برسول.
وأما إدريس؛ فذهب كثير من المؤرخين أو أكثرهم وبعض المفسرين أيضًا إلى أنه قبل نوح، وأنه من أجداده لكن هذا قول ضعيف جدًّا والقرآن والسنة ترده والصواب ما ذكرنا.
وآخرهم محمد عليه الصلاة والسلام، لقوله تعالى: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40] ، ولم يقل: وخاتم المرسلين؛ لأنه إذا ختم النبوة، ختم الرسالة من باب أولى.
فإن قلت: عيسى عليه الصلاة والسلام ينزل في آخر الزمان (1) وهو رسول، فما الجواب؟ .
نقول: هو لا ينزل بشريعة جديدة، وإنما يحكم بشريعة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فإذا قال قائل: من المتفق عليه أن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، وعيسى يحكم بشريعة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيكون من أتباعه، فكيف يصح قولنا: إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر؟
فالجواب: أحد ثلاثة وجود:
أولها: أن عيسى عليه الصلاة والسلام رسول مستقل من أولي العزم ولا يخطر بالبال المقارنة بينه وبين الواحد من هذه الأمة، فكيف بالمفاضلة؟ ! وعلى هذا يسقط هذا الإيراد من أصله؛ لأنه من التنطع، وقد «هلك»
__________
(1) لما رواه البخاري/ كتاب البيوع/ باب قتل الخنزير، ومسلم/ كتاب الإيمان باب نزول عيسى بن مريم.(8/51)
والبعث بعد الموت
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«المتنطعون» (1) ، كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الثاني: أن نقول: هو خير الأمة إلا عيسى.
الثالث: أن نقول: إن عيسى ليس من الأمة، ولا يصح أن نقول: إنه من أمته، وهو سابق عليه، لكنه من أتباعه إذا نزل؛ لأن شريعة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باقية إلى يوم القيامة.
فإن قال قائل: كيف يكون تابعًا، وهو يقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ولا يقبل إلا الإسلام مع أن الإسلام يقر أهل الكتاب بالجزية؟ ! .
قلنا: إخبار النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك إقرار له، فتكون من شرعه ويكون نسخًا لما سبق من حكم الإسلام الأول.
البعث بمعنى الإخراج، يعني: إخراج الناس من قبورهم بعد موتهم.
وهذا من معتقد أهل السنة والجماعة.
وهذا ثابت بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين، بل إجماع اليهود والنصارى، حيث يقرون بأن هناك يومًا يبعث الناس فيه ويجازون:
- أما القرآن، فيقول الله عز وجل: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن: 7] وقال عز وجل: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 15-16] .
- وأما في السنة، فجاءت الأحاديث المتواترة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك.
وأجمع المسلمون على هذا إجماعًا قطعيًّا، وأن الناس سيبعثون يوم
__________
(1) رواه مسلم/ كتاب العلم/ باب هلك المتنطعون.(8/52)
والإيمان بالقدر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
القيامة ويلاقون ربهم ويجازون بأعمالهم , {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7-8] .
{يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} [الانشقاق: 6] ؛ فتذكر هذا اللقاء حتى تعمل له؛ خوفًا من أن تقف بين يدي الله عز وجل يوم القيامة وليس عندك شيء من العمل الصالح، انظر ماذا عملت ليوم النقلة؟ وماذا عملت ليوم اللقاء؟ فإن أكثر الناس اليوم ينظرون ماذا عملوا للدنيا، مع العلم بأن هذه الدنيا التي عملوا لها لا يدرون هل يدركونها أم لا؟ قد يخطط الإنسان لعمل دنيوي يفعله غدًا أو بعد غد، ولكنه لا يدرك غدًا ولا بعد غد، لكن الشيء المتيقن أن أكثر الناس في غفلة من هذا، قال الله تعالى: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا} [المؤمنون: 63] وأعمال الدنيا يقول: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} [المؤمنون: 63] ، فأتى بالجملة الاسمية المفيدة للثبوت والاستمرار: و {هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} ، وقال تعالى: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} [ق: 22] : يعني: يوم القيامة وقال تعالى: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: 22] .
هذا البعث الذي اتفقت عليه الأديان السماوية وكل متدين بدين هو أحد أركان الإيمان الستة وهو من معتقدات أهل السنة والجماعة ولا ينكره أحد ممن ينتسب إلى ملة أبدًا.
هذا الركن السادس: الإيمان بالقدر خيره وشره.
القدر هو: " تقدير الله عز وجل للأشياء ".
وقد كتب الله مقادير كل شيء قبل أن يخلق السماوات والأرض(8/53)
خيره وشره
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بخمسين ألف سنة (1) ؛ كما قال الله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج: 70] .
وقوله: " خيره وشره ": أما وصف القدر بالخير؛ فالأمر فيه ظاهر. وأما وصف القدر بالشر، فالمراد به شر المقدور لا شر القدر الذي هو فعل الله، فإن فعل الله عز وجل ليس فيه شر، كل أفعاله خير وحكمة، ولكن الشر في مفعولاته ومقدوراته؛ فالشر هنا باعتبار المقدور والمفعول، أما باعتبار الفعل؛ فلا، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: «والشر ليس إليك» (2) .
فمثلًا، نحن نجد في المخلوقات المقدورات شرًّا، ففيها الحيات والعقارب والسباع والأمراض والفقر والجدب وما أشبه ذلك، وكل هذه بالنسبة للإنسان شر؛ لأنها لا تلائمه، وفيها أيضًا المعاصي والفجور والكفر والفسوق والقتل وغير ذلك، وكل هذه شر، لكن باعتبار نسبتها إلى الله هي خير؛ لأن الله عز وجل لم يقدرها إلا لحكمة بالغة عظيمة، عرفها من عرفها وجهلها من جهلها.
وعلى هذا يجب أن تعرف أن الشر الذي وصف به القدر إنما هو باعتبار المقدورات والمفعولات، لا باعتبار التقدير الذي هو تقدير الله وفعله.
ثم اعلم أيضًا أن هذا المفعول الذي هو شر قد يكون شرًّا في نفسه، لكنه خير من جهة أخرى،
__________
(1) لما رواه مسلم /كتاب القدر/ باب ذكر حجاج آدم وموسى عليهما السلام.
(2) مسلم/ كتاب صلاة المسافرين/ باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه.(8/54)
قال الله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41] ، النتيجة طيبة، وعلى هذا، فيكون الشر في هذا المقدور شرًّا إضافيًّا يعنى: لا شرًّا حقيقيًّا؛ لأن هذا ستكون نتيجته خيرًا.
ولنفرض حد الزاني مثلًا إذا كان غير محصن أن يجلد مئة جلدة ويسفر عن البلد لمدة عام، هذا لا شك أنه شر بالنسبة إليه؛ لأنه لا يلائمه، لكنه خير من وجه آخر لأنه يكون كفارة له، فهذا خير؛ لأن عقوبة الدنيا أهون من عقوبة الآخرة، فهو خير له، ومن خيره أنه ردع لغيره ونكال لغيره، فإن غيره لو هم أن يزني وهو يعلم أنه سيفعل به مثل ما فعل بهذا؛ ارتدع، بل قد يكون خيرًا له هو أيضًا، باعتبار أنه لن يعود إلى مثل هذا العمل الذي سبب له هذا الشيء.
أما بالنسبة للأمور الكونية القدرية، فهناك شيء يكون شرًّا باعتباره مقدورًا، كالمرض مثلًا، فالإنسان إذا مرض، فلا شك أن المرض شر بالنسبة له، لكن فيه خير له في الواقع، وخيره تكفير الذنوب، قد يكون الإنسان عليه ذنوب ما كفرها الاستغفار والتوبة، لوجود مانع؛ مثلًا لعدم صدق نيته مع الله عز وجل فتأتي هذه الأمراض والعقوبات، فتكفر هذه الذنوب.
ومن خيره أن الإنسان لا يعرف قدر نعمة الله عليه بالصحة، إلا إذا مرض، نحن الآن أصحاء ولا ندري ما قدر الصحة لكن إذا حصل المرض، عرفنا قدر الصحة فالصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يعرفها إلا المرضى. . هذا أيضًا خير، وهو أنك تعرف قدر النعمة.
ومن خيره أنه قد يكون في هذا المرض أشياء تقتل جراثيم في البدن لا(8/55)
ومن الإيمان بالله: الإيمان بما وصف به نفسه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يقتلها إلا المرض؛ يقول الأطباء: بعض الأمراض المعينة تقتل هذه الجراثيم التي في الجسد وأنك لا تدري.
فالحاصل أننا نقول:
أولًا: الشر الذي وصف به القدر هو شر بالنسبة لمقدور الله، أما تقدير الله، فكله خير والدليل قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «والشر ليس إليك» .
ثانيًا: أن الشر الذي في المقدور ليس شرًّا محضًا بل هذا الشر قد ينتج عنه أمور هي خير، فتكون الشَّرِّيَّة بالنسبة إليه أمرًا إضافيًّا.
هذا؛ وسيتكلم المؤلف رحمه الله على القدر بكلام موسع يبين درجاته عند أهل السنة.
* (من) : هنا للتبعيض؛ لأننا ذكرنا أن الإيمان بالله يتضمن أربعة أمور: الإيمان بوجوده، وانفراده بالربوبية، وبالألوهية، وبالأسماء والصفات؛ يعني: بعض الإيمان بالله: الإيمان بما وصف به نفسه.
* قوله: " بما وصف به نفسه " ينبغي أن يقال: وسمى به نفسه لكن المؤلف رحمه الله ذكر الصفة فقط: إما لأنه ما من اسم إلا ويتضمن صفة، أو لأن الخلاف في الأسماء خلاف ضعيف، لم ينكره إلا غلاة الجهمية والمعتزلة، فالمعتزلة يثبتون الأسماء، والأشاعرة والماتريدية يثبتون الأسماء، لكن يخالفون أهل السنة في أكثر الصفات.
فنحن الآن نقول: لماذا اقتصر المؤلف على " ما وصف الله به نفسه "؟
نقول: لأحد أمرين: إما لأن كل اسم يتضمن صفة، وإما لأن الخلاف(8/56)
في كتابه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في الأسماء قليل بالنسبة للمنتسبين للإسلام.
" في كتابه ": (كتابه) يعني: القرآن، وسماه الله تعالى كتابًا لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ، ومكتوب في الصحف التي بأيدي السفرة الكرام البررة، ومكتوب كذلك بين الناس يكتبونه في المصاحف؛ فهو كتاب بمعنى مكتوب، وأضافه الله إليه؛ لأنه كلامه سبحانه وتعالى، فهذا القرآن كلام الله، تكلم به حقيقة؛ فكل حرف منه؛ فإن الله قد تكلم به وفي هذه الجملة مباحث:
المبحث الأول: أن من الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه:
ووجه ذلك أن الإيمان بالله - كما سبق - يتضمن الإيمان بأسمائه وصفاته؛ فإن ذات الله تسمى بأسماء وتوصف بأوصاف، ووجود ذات مجردة عن الأوصاف أمر مستحيل؛ فلا يمكن أن توجد ذات مجردة عن الأوصاف أبدًا، وقد يفرض الذهن أن هناك ذاتًا مجردة من الصفات لكن الفرض ليس كالأمر الواقع؛ أي أن المفروض ليس كالمشهود؛ فلا يوجد في الخارج - أي: في الواقع المشاهد - ذات ليس لها صفات أبدًا.
فالذهن قد يفرض مثلًا شيئًا له ألف عين، في كل ألف عين ألف سواد وألف بياض، وله ألف رجل، في كل رجل ألف أصبع، في كل أصبع ألف ظفر، وله ملايين الشعر، في كل شعرة ملايين الشعر ... وهكذا يفرضه وإن لم يكن له واقع؛ لكن الشيء الواقع لا يمكن أن يوجد شيء بدون صفة.
لهذا؛ كان الإيمان بصفات الله من الإيمان بالله، لو لم يكن من صفات الله إلا أنه موجود واجب الوجود، وهذا باتفاق الناس، وعلى هذا؛ فلا بد(8/57)
أن يكون له صفة.
المبحث الثاني: أن صفات الله عز وجل من الأمور الغيبية، والواجب على الإنسان نحو الأمور الغيبية: أن يؤمن بها على ما جاءت دون أن يرجع إلى شيء سوى النصوص.
قال الإمام أحمد: " لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله، لا يتجاوز القرآن والحديث ".
يعني أننا لا نصف الله إلا بما وصف به نفسه في كتابه، أو على لسان رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ويدل لذلك القرآن والعقل:
ففي القرآن: يقول الله عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف، 33] ، فإذا وصفت الله بصفة لم يصف الله بها نفسه، فقد قلت عليه ما لا تعلم وهذا محرم بنص القرآن.
ويقول الله عز وجل: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36] ، ولو وصفنا الله بما لم يصف به نفسه، لكنا قفونا ما ليس لنا به علم، فوقعنا فيما نهى الله عنه.
وأما الدليل العقلي؛ فلأن صفات الله عز وجل من الأمور الغيبية ولا يمكن في الأمور الغيبية أن يدركها العقل، وحينئذ لا نصف الله بما لم يصف به نفسه، ولا نكيف صفاته؛ لأن ذلك غير ممكن.(8/58)
نحن الآن لا ندرك ما وصف الله به نعيم الجنة من حيث الحقيقة مع أنه مخلوق، في الجنة فاكهة ونخل ورمان وسرر وأكواب وحور ونحن لا ندرك حقيقة هذه الأشياء، ولو قيل: صفها لنا، لا نستطيع وصفها، لقوله تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17] ، ولقوله تعالى في الحديث القدسي: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» . (1)
فإذا كان هذا في المخلوق الذي وصف بصفات معلومة المعنى ولا تعلم حقيقتها، فكيف بالخالق؟ !
مثال آخر: الإنسان فيه روح، لا يحيا إلا بها، لولا أن الروح في بدنه ما حيي ولا يستطيع أن يصف الروح لو قيل له: ما هذه الروح التي بك؟ ما هي التي لو نزعت منك، صرت جثة، وإذا بقيت فأنت إنسان تعقل وتفهم وتدرك؟ لجلس ينظر ويفكر فلا يستطيع أن يصفها أبدًا مع أنها قريبة، منه، في نفسه وبين جنبيه، ويعجز عن إدراكها مع أنها حقيقة، يعني: شيء يرى، كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بـ" «أن الروح إذا قبض، تبعه البصر» (2) ، فالإنسان يرى نفسه وهي مقبوضة، ولهذا تبقى العين مفتوحة عند الموت تشاهد الروح وهي قد خرجت، وتؤخذ هذه الروح وتجعل في كفن ويصعد بها إلى الله ومع ذلك ما يستطيع أن يصفها وهي بين جنبيه، فكيف يحاول أن يصف الرب بأمر لم يصف به نفسه! ولا بد إذًا
__________
(1) رواه البخاري/ كتاب بدء الخلق/ باب ما جاء في صفة الجنة، ومسلم/ كتاب الجنة.
(2) رواه مسلم/ كتاب الجنائز/ باب في إغماض الميت.(8/59)
تحقق ثبوت الصفات لله.
المبحث الثالث: أننا لا نصف الله تعالى بما لم يصف به نفسه.
ودليل ذلك أيضًا من السمع والعقل:
ذكرنا من السمع آيتين.
وأما من العقل، فقلنا: إن هذا أمر غيبي، لا يمكن إدراكه بالعقل، وضربنا لذلك مثلين.
المبحث الرابع: وجوب إجراء النصوص الواردة في الكتاب والسنة على ظاهرها، لا نتعداها.
مثال ذلك: لما وصف الله نفسه بأن له عينًا؛ هل نقول: المراد بالعين الرؤية لا حقيقة العين؟ لو قلنا ذلك، ما وصفنا الله بما وصف به نفسه.
ولما وصف الله نفسه بأن له يدين: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] ؛ لو قلنا: إن الله تعالى ليس له يد حقيقة، بل المراد باليد ما يسبغه من النعم على عباده، فهل وصفنا الله بما وصف به نفسه؟ لا!
المبحث الخامس: عموم كلام المؤلف يشمل كل ما وصف الله به نفسه من الصفات الذاتية المعنوية والخبرية والصفات الفعلية.
فالصفات الذاتية هي التي لم يزل ولا يزال متصفًا بها وهي نوعان: معنوية وخبرية:
فالمعنوية، مثل: الحياة، والعلم، القدرة، والحكمة.. وما أشبه ذلك، وهذا على سبيل التمثيل لا الحصر.(8/60)
والخبرية، مثل: اليدين، والوجه، والعينين.. وما أشبه ذلك مما سماه، نظيره أبعاض وأجزاء لنا.
فالله تعالى لم يزل له يدان ووجه وعينان لم يحدث له شيء من ذلك بعد أن لم يكن، ولن ينفك عن شيء منه، كما أن الله لم يزل حيًّا ولا يزال حيًّا، لم يزل عالمًا ولا يزال عالمًا، ولم يزل قادرًا ولا يزال قادرًا.. . وهكذا، يعنى ليس حياته تتجدد، ولا قدرته تتجدد، ولا سمعه يتجدد بل هو موصوف بهذا أزلًا وأبدًا، وتجدد المسموع لا يستلزم تجدد السمع، فأنا مثلًا عندما أسمع الأذان الآن فهذا ليس معناه أنه حدث لي سمع جديد عند سماع الأذان بل هو منذ خلقه الله فيَّ لكن المسموع يتجدد وهذا لا أثر له في الصفة.
واصطلح العلماء رحمهم الله على أن يسموها الصفات الذاتية، قالوا: لأنها ملازمة للذات، لا تنفك عنها.
والصفات الفعلية هي الصفات المتعلقة بمشيئته، وهي نوعان:
صفات لها سبب معلوم، مثل: الرضى، فالله عز وجل إذا وجد سبب الرضى، رضي، كما قال تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7] .
وصفات ليس لها سبب معلوم؛ مثل: النزول إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر.
ومن الصفات ما هو صفة ذاتية وفعلية باعتبارين؛ فالكلام صفة فعلية باعتبار آحاده لكن باعتبار أصله صفة ذاتية؛ لأن الله لم يزل ولا يزال(8/61)
متكلمًا لكنه يتكلم بما شاء متى شاء، كما سيأتي في بحث الكلام إن شاء الله تعالى.
اصطلح العلماء رحمهم الله أن يسموا هذه الصفات الصفات الفعلية؛ لأنها من فعله سبحانه وتعالى.
ولها أدلة كثيرة من القرآن، مثل: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22] , {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} [الأنعام: 158] , {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة: 119] , {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [التوبة: 46] , {أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} [المائدة: 80] .
وليس في إثباتها لله تعالى نقص بوجه من الوجوه بل هذا من كماله أن يكون فاعلًا لما يريد.
وأولئك القوم المحرفون يقولون: إثباتها من النقص! ولهذا ينكرون جميع الصفات الفعلية، يقولون: لا يجيء ولا يرضى، ولا يسخط ولا يكره ولا يحب. ينكرون كل هذه، بدعوى أن هذه حادثة والحادث لا يقوم إلا بحادث وهذا باطل؛ لأنه في مقابلة النص، وهو باطل بنفسه؛ فإنه لا يلزم من حدوث الفعل حدوث الفاعل.
المبحث السادس: أن العقل لا مدخل له في باب الأسماء والصفات:
لأن مدار إثبات الأسماء والصفات أو نفيها على السمع، فعقولنا لا تحكم على الله أبدًا، فالمدار إذًا على السمع، خلافًا للأشعرية والمعتزلة والجهمية وغيرهم من أهل التعطيل، الذين جعلوا المدار في إثبات الصفات أو نفيها على العقل، فقالوا: ما اقتضى العقل إثباته، أثبتناه، سواء أثبته(8/62)
الله لنفسه أم لا! وما اقتضى نفيه، نفيناه، وإن أثبته الله! وما لا يقتضي العقل إثباته ولا نفيه، فأكثرهم نفاه، وقال: إن دلالة العقل إيجابية، فإن أوجب الصفة، أثبتناها، وإن لم يوجبها، نفيناها! ومنهم من توقف فيه، فلا يثبتها لأن العقل لا يثبتها لكن لا ينكرها؛ لأن العقل لا ينفيها، ويقول: نتوقف! لأن دلالة العقل عند هذا سلبية، إذا لم يوجب، يتوقف ولم ينف!
فصار هؤلاء يحكمون العقل فيما يجب أو يمتنع على الله عز وجل.
فيتفرغ على هذا: ما اقتضى العقل وصف الله به، وصف الله به وإن لم يكن في الكتاب والسنة، وما اقتضى العقل نفيه عن الله، نفوه، وإن كان في الكتاب والسنة.
ولهذا يقولون: ليس لله عين، ولا وجه، ولا له يد، ولا استوى على العرش، ولا ينزل إلى السماء الدنيا لكنهم يحرفون ويسمون تحريفهم تأويلًا ولو أنكروا إنكار جحد؛ لكفروا؛ لأنهم كذبوا لكنهم ينكرون إنكار ما يسمونه تأويلًا وهو عندنا تحريف.
والحاصل أن العقل لا مجال له في باب أسماء الله وصفاته فإن قلت: قولك هذا يناقض القرآن؛ لأن الله يقول: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا} [المائدة: 50] والتفضيل بين شيء وآخر مرجعه إلى العقل وقال عز وجل {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [النحل: 60] وقال: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [النحل: 17] وأشباه ذلك مما يحيل الله به على العقل فيما يثبته لنفسه وما ينفيه عن الآلهة المدعاة؟
فالجواب أن نقول: إن العقل يدرك ما يجب لله سبحانه وتعالى ويمتنع(8/63)
عليه على سبيل الإجمال لا على سبيل التفصيل؛ فمثلًا: العقل يدرك بأن الرب لا بد أن يكون كامل الصفات، لكن هذا لا يعني أن العقل يثبت كل صفة بعينها أو ينفيها لكن يثبت أو ينفي على سبيل العموم أن الرب لا بد أن يكون كامل الصفات سالمًا من النقص.
فمثلًا: يدرك بأنه لا بد أن يكون الرب سميعًا بصيرًا، قال إبراهيم: {يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ} [مريم: 42] .
ولا بد أن يكون خالقًا؛ لأن الله قال: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} [النحل: 17] {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا} [النحل: 20] .
يدرك هذا ويدرك بأن الله سبحانه وتعالى يمتنع أن يكون حادثًا بعد العدم؛ لأنه نقص، ولقوله تعالى محتجًا على هؤلاء الذين يعبدون الأصنام: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [النحل: 20] ، إذًا يمتنع أن يكون الخالق حادثًا بالعقل.
العقل أيضًا يدرك بأن كل صفة نقص فهي ممتنعة على الله؛ لأن الرب لا بد أن يكون كاملًا فيدرك بأن الله عز وجل مسلوب عنه العجز؛ لأنه صفة نقص، إذا كان الرب عاجزًا وَعُصِيَ وأراد أن يعاقب الذي عصاه وهو عاجز، فلا يمكن!
إذًا؛ العقل يدرك بأن العجز لا يمكن أن يوصف الله به، والعمى كذلك والصمم كذلك والجهل كذلك ... وهكذا على سبيل العموم ندرك ذلك، لكن على سبيل التفصيل لا يمكن أن ندركه فنتوقف فيه على السمع.
سؤال: هل كل ما هو كمال فينا يكون كمالًا في حق الله، وهل كل(8/64)
وبما وصف به رسوله
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ما هو نقص فينا يكون نقصًا في حق الله؟
الجواب: لا؛ لأن المقياس في الكمال والنقص ليس باعتبار ما يضاف للإنسان؛ لظهور الفرق بين الخالق والمخلوق، لكن باعتبار الصفة من حيث هي صفة، فكل صفة كمال، فهي ثابتة لله سبحانه وتعالى.
فالأكل والشرب بالنسبة للخالق نقص؛ لأن سببهما الحاجة، والله تعالى غني عما سواه، لكن هما بالنسبة للمخلوق كمال ولهذا، إذا كان الإنسان لا يأكل، فلا بد أن يكون عليلًا بمرض أو نحوه هذا نقص.
والنوم بالنسبة للخالق نقص، وللمخلوق كمال، فظهر الفرق.
التكبر كمال للخالق ونقص للمخلوق؛ لأنه لا يتم الجلال والعظمة إلا بالتكبر حتى تكون السيطرة كاملة ولا أحد ينازعه. . ولهذا توعد الله تعالى من ينازعه الكبرياء والعظمة، قال: «من نازعني واحدًا منهما عذبته» . (1)
فالمهم أنه ليس كل كمال في المخلوق يكون كمالًا في الخالق ولا كل نقص في المخلوق يكون نقصًا في الخالق إذا كان الكمال أو النقص اعتباريًّا.
هذه ستة مباحث تحت قوله: " ما وصف به نفسه " وكلها مباحث هامة، وقدمناها بين يدي العقيدة؛ لأنه سينبني عليها ما يأتي إن شاء الله تعالى.
قوله: " وبما وصفه به رسوله ": ووصف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لربه ينقسم إلى ثلاثة أقسام: إما بالقول، أو بالفعل، أو بالإقرار.
أما القول، مثل " «ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك. أمرك في»
__________
(1) رواه مسلم/ كتاب البر/ باب تحريم الكبر.(8/65)
«السماء والأرض» (1) وقوله في يمينه: «لا ومقلب القلوب» (2) .
ب- وأما الفعل؛ فهو أقل من القول، مثل إشارته إلى السماء يستشهد الله على إقرار أمته بالبلاغ، وهذا في حجة الوداع في عرفة، «خطب الناس، وقال: " ألا هل بلغت؟ " قالوا: نعم ثلاث مرات. قال " اللهم! اشهد " يرفع إصبعه إلى السماء، وينكتها إلى الناس» (3) . فرفع إصبعه إلى السماء؛ هذا وصف الله تعالى بالعلو عن طريق الفعل.
«وجاءه رجل وهو يخطب الناس يوم الجمعة، قال: يا رسول الله! هلكت الأموال. . فرفع يديه» (4) وهذا أيضًا وصف لله بالعلو عن طريق الفعل.
وغير ذلك من الأحاديث التي فيها فعل النبي عليه الصلاة والسلام إذا ذكر صفة من صفات الله.
وأحيانًا يذكر الرسول عليه الصلاة والسلام الصفة من صفات الله بالقول ويؤكدها بالفعل، وذلك حينما تلا قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58] فوضع إبهامه على أذنه اليمنى، والتي تليها على عينه وهذا إثبات للسمع والبصر بالقول والفعل. (5)
__________
(1) رواه الإمام أحمد (6/20) ، وأبو داود/ كتاب الطب/ باب كيف الرقى، والنسائي ص 299، والبيهقي في "الأسماء والصفات" (1/164) ، والدرامي في "الرد على الجهمية" ص 272، والحاكم (1/344) ، قال شيخ الإسلام: "حديث حسن" وسيأتي ص 418".
(2) البخاري/ كتاب القدر/ باب "يحول بين المرء وقلبه".
(3) رواه مسلم/ كتاب الحج/ باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم.
(4) رواه البخاري/ كتاب الاستسقاء، ومسلم/ كتاب صلاة الاستسقاء
(5) رواه أبو داود/ كتاب السنة/ باب في الجهمية(8/66)
وحينئذ نقول: إن إثبات الرسول عليه والسلام للصفات يكون بالقول ويكون بالفعل، مجتمعين ومنفردين.
جـ - أما الإقرار؛ فهو قليل بالنسبة لما قبله، مثل: «إقراره الجارية التي سألها: " أين الله؟ " قالت: في السماء. فأقرها وقال: " أعتقها» . (1)
وكإقراره «الحبر من اليهود الذي جاء وقال للرسول عليه الصلاة والسلام: إننا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع والثرى على إصبع. . آخر الحديث، فضحك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تصديقًا» لقوله (2) ، وهذا إقرار.
إذا قال قائل: ما وجه وجوب الإيمان بما وصف الرسول به ربه أو: ما دليله؟
نقول: دليله قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} [النساء: 136] ، وكل آية فيها ذكر أن الرسول عليه الصلاة والسلام مبلغ؛ فهي دالة على وجوب قبول ما أخبر به من صفات الله؛ لأنه أخبر بها وبلغها إلى الناس، وكل ما أخبر به؛ فهو تبليغ من الله، ولأن الرسول عليه الصلاة والسلام أعلم الناس بالله وأنصح الناس لعباد الله وأصدق الناس فيما قال، وأفصح الناس في التعبير، فاجتمع في حقه من صفات القبول أربع: العلم والنصح، والصدق، والبيان؛ فيجب علينا أن نقبل كل ما أخبر به عن ربه،
__________
(1) قصة الجارية. رواها مسلم/ كتاب المساجد/ باب تحريم الكلام في الصلاة.
(2) رواه البخاري/ كتاب التفسير/ باب "وما قدروا الله حق قدره". ومسلم/ كتاب صفة القيامة.(8/67)
من غير تحريف
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وهو - والله - أفصح وأنصح وأعلم من أولئك القوم الذين تبعهم هؤلاء من المناطقة والفلاسفة، ومع هذا يقول: «سبحان لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» (1) .
في هذه الجملة بيان صفة إيمان أهل السنة بصفات الله تعالى، فأهل السنة والجماعة يؤمنون بها إيمانًا خاليًا من هذه الأمور الأربعة: التحريف والتعطيل، والتكييف، والتمثيل.
فالتحريف: التغيير وهو إما لفظي وإما معنوي، والغالب أن التحريف اللفظي لا يقع، وإذا وقع، فإنما يقع من جاهل؛ فالتحريف اللفظي يعني تغيير الشكل؛ فمثلًا: فلا تجد أحدًا يقول: " الحمد لله رب العالمين " بفتح الدال، إلا إذا كان جاهلًا. . هذا الغالب!
لكن التحريف المعنوي هو الذي وقع فيه كثير من الناس.
فأهل السنة والجماعة إيمانهم بما وصف الله به نفسه خال من التحريف؛ يعني: تغيير اللفظ أو المعنى.
وتغيير المعنى يسميه القائلون به تأويلًا ويسمون أنفسهم بأهل التأويل، لأجل أن يصبغوا هذا الكلام صبغة القبول؛ لأن التأويل لا تنفر منه النفوس ولا تكرهه، لكن ما ذهبوا إليه في الحقيقة تحريف؛ لأنه ليس عليه دليل صحيح؛ إلا أنهم لا يستطيعون أن يقولوا: تحريفًا! ولو قالوا: هذا تحريف، لأعلنوا على أنفسهم برفض كلامهم.
ولهذا عبر المؤلف رحمه الله بالتحريف دون التأويل مع أن كثيرًا ممن
__________
(1) رواه مسلم/ كتاب الصلاة/ باب ما يقال في الركوع والسجود.(8/68)
يتكلمون في هذا الباب يعبرون بنفي التأويل، يقولون: من غير تأويل، لكن ما عبر به المؤلف أولى لوجوه أربعة:
الوجه الأول: أنه اللفظ الذي جاء به القرآن؛ فإن الله تعالى قال: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء: 46] ، والتعبير الذي عبر به القرآن أولى من غيره؛ لأنه أدل على المعنى.
الوجه الثاني: أنه أدل على الحال، وأقرب إلى العدل، فالمؤول بغير دليل ليس من العدل أن تسميه مؤولًا، بل العدل أن نصفه بما يستحق وهو أن يكون محرفًا.
الوجه الثالث: أن التأويل بغير دليل باطل، يجب البعد عنه والتنفير منه، واستعمال التحريف فيه أبلغ تنفيرًا من التأويل؛ لأن التحريف لا يقبله أحد، لكن التأويل لين، تقبله النفس، وتستفصل عن معناه، أما التحريف، بمجرد ما نقول: هذا تحريف. ينفر الإنسان منه، إذا كان كذلك؛ فإن استعمال التحريف فيمن خالفوا طريق السلف أليق من استعمال التأويل.
الوجه الرابع: أن التأويل ليس مذمومًا كله، قال النبي عليه الصلاة والسلام: «اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل» (1) ، وقال الله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7] ، فامتدحهم بأنهم يعلمون التأويل.
__________
(1) البخاري/ كتاب الوضوء/ باب وضع الماء عند الخلاء، ومسلم/ كتاب فضائل الصحابة/ باب فضل عبد الله بن عباس(8/69)
والتأويل ليس كله مذمومًا؛ لأن التأويل له معان متعددة , يكون بمعنى التفسير , ويكون بمعنى العاقبة والمآل، ويكون بمعنى صرف اللفظ عن ظاهره.
(أ) يكون بمعنى التفسير؛ كثير من المفسرين عندما يفسرون الآية، يقولون: تأويل قوله تعالى كذا وكذا. ثم يذكرون المعنى وسمي التفسير تأويلًا؛ لأننا أولنا الكلام؛ أي: جعلناه يؤول إلى معناه المراد به.
(ب) تأويل بمعنى: عاقبة الشيء، وهذا إن ورد في طلب؛ فتأويله فعله إن كان أمرًا وتركه إن كان نهيًا، وإن ورد في خبر؛ فتأويله وقوعه.
مثاله في الخبر قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 53] ، فالمعنى: ما ينتظر هؤلاء إلا عاقبة ومآل ما أخبروا به، يوم يأتي ذلك المخبر به؛ يقول الذين نسوه من قبل: قد جاءت رسل ربنا بالحق.
ومنه قول يوسف لما خر له أبواه وإخوته سُجَّدًا قال: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} [يوسف: 100] : هذا وقوع رؤياي؛ لأنه قال ذلك بعد أن سجدوا له.
ومثاله في الطلب «قول عائشة رضي الله عنها: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده بعد أن أنزل عليه قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] ، يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: " سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي "، يتأول القرآن» (1) . أي: يعمل به.
__________
(1) رواه البخاري/ كتاب التفسير/ سورة النصر، ومسلم/ كتاب الصلاة/ باب ما يقال في الركوع والسجود.(8/70)
(جـ) المعنى الثالث للتأويل: صرف اللفظ عن ظاهره وهذا النوع ينقسم إلى محمود ومذموم؛ فإن دل عليه دليل؛ فهو محمود النوع ويكون من القسم الأول، وهو التفسير، وإن لم يدل عليه دليل؛ فهو مذموم، ويكون من باب التحريف، وليس من باب التأويل.
وهذا الثاني هو الذي درج عليه أهل التحريف في صفات الله عز وجل.
مثاله قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] : ظاهر اللفظ أن الله تعالى استوى على العرش: استقر عليه، وعلا عليه؛ فإذا قال قائل: معنى استوى: استولى على العرش؛ فنقول: هذا تأويل عندك لأنك صرفت اللفظ عن ظاهره، لكن هذا تحريف في الحقيقة؛ لأنه ما دل عليه دليل، بل الدليل على خلافه؛ كما سيأتي إن شاء الله.
فأما قوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1] ، فمعنى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} ؛ أي سيأتي أمر الله؛ فهذا مخالف لظاهر اللفظ لكن عليه دليل وهو قوله: {فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} .
وكذلك قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] ؛ أي: إذا أردت أن تقرأ، وليس المعني: إذا أكملت القراءة؛ قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ لأننا علمنا من السنة أن النبي عليه الصلاة والسلام إذا أرد أن يقرأ؛ استعاذ بالله من الشيطان الرجيم، لا إذا أكمل القراءة، فالتأويل صحيح.
وكذلك قول أنس بن مالك: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا دخل الخلاء؛ قال: «أعوذ»(8/71)
ولا تعطيل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«بالله من الخبث والخبائث» (1) ؛ فمعنى " إذا دخل ": إذا أراد أن يدخل؛ لأن ذكر الله لا يليق داخل هذا المكان، فلهذا حملنا قوله " إذا دخل " على: إذ أراد أن يدخل: هذا التأويل الذي دل عليه الدليل صحيح، ولا يعدوا، يكون تفسيرًا.
ولذلك قلنا: إن التعبير بالتحريف عن التأويل الذي ليس عليه دليل صحيح أولى؛ لأنه الذي جاء به القرآن، ولأنه ألصق بطريق المحرف، ولأنه أشد تنفيرًا عن هذه الطريقة المخالفة لطريق السلف، ولأن التحريف كله مذموم؛ بخلاف التأويل؛ فإن منه ما يكون مذمومًا ومحمودًا، فيكون التعبير بالتحريف أولى من التعبير بالتأويل من أربعة أوجه.
التعطيل بمعنى التخلية والترك، كقوله تعالى: {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ} [الحج: 45] ؛ أي: مخلاة متروكة.
والمراد بالتعطيل: إنكار ما أثبت الله لنفسه من الأسماء والصفات؛ سواء كان كليًّا أو جزئيًّا، وسواء كان ذلك بتحريف أو بجحود، هذا كله يسمى تعطيلًا.
فأهل السنة والجماعة لا يعطلون أي اسم من أسماء الله، أو أي صفة من صفات الله ولا يجحدونها، بل يقرون بها إقرارًا كاملًا.
فإن قلت: ما الفرق بين التعطيل والتحريف؟
قلنا: التحريف في الدليل والتعطيل في المدلول؛ فمثلًا:
__________
(1) رواه البخاري/ كتاب الوضوء/ باب ما يقول عند الخلاء. ومسلم/ كتاب الحيض/ باب ما يقول إذا أراد دخول الخلاء.(8/72)
إذا قال قائل: معنى قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] ؛ أي بل قوتاه هذا محرف للدليل، ومعطل للمراد الصحيح؛ لأن المراد اليد الحقيقية؛ فقد عطل المعنى المراد، وأثبت معنى غير المراد. وإذا قال: بل يداه مبسوطتان؛ لا أدري! أفوض الأمر إلى الله؛ لا أثبت اليد الحقيقية، ولا اليد المحرف إليها اللفظ. نقول: هذا معطل، وليس بمحرف؛ لأنه لم يغير معنى اللفظ، ولم يفسره بغير مراده، لكن عطل معناه الذي يراد به، وهو إثبات اليد لله عز وجل.
أهل السنة والجماعة يتبرؤون من الطريقتين: الطريقة الأولى: التي هي تحريف اللفظ بتعطيل معناه الحقيقي المراد إلى معنى غير مراد. والطريقة الثانية: وهي طريقة أهل التفويض، فهم لا يفوضون المعنى كما يقول المفوضة بل يقولون: نحن نقول: بل يداه؛ أي: يداه الحقيقيتان مبسوطتان، وهما غير القوة والنعمة.
فعقيدة أهل السنة والجماعة بريئة من التحريف ومن التعطيل.
وبهذا نعرف ضلال أو كذب من قالوا: إن طريقة السلف هي التفويض، هؤلاء ضلوا إن قالوا ذلك عن جهل بطريقة السلف، وكذبوا إن قالوا ذلك عن عمد، أو نقول: كذبوا على الوجهين على لغة الحجاز؛ لأن الكذب عند الحجازيين بمعنى الخطأ.
وعلى كل حال، لا شك أن الذين يقولون: إن مذهب أهل السنة هو التفويض؛ أنهم أخطأوا؛ لأن مذهب أهل السنة هو إثبات المعنى وتفويض الكيفية.
وليعلم أن القول بالتفويض - كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية - من شر(8/73)
أقوال أهل البدع والإلحاد!
عندما يسمع الإنسان التفويض، يقول: هذا جيد، أسلم من هؤلاء وهؤلاء، لا أقول بمذهب السلف، ولا أقول بمذهب أهل التأويل، أسلك سبيلًا وسطًا وأسلم من هذا كله، وأقول: الله أعلم ولا ندري ما معناها. لكن يقول شيخ الإسلام: هذا من شر أقوال أهل البدع والإلحاد
وصدق رحمه الله. وإذا تأملته وجدته تكذيبًا للقرآن وتجهيلًا للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واستطالة للفلاسفة.
تكذيب للقرآن؛ لأن الله يقول: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] ، وأي بيان في كلمات لا يدرى ما معناها؟ ! وهي من أكثر ما يرد في القرآن، وأكثر ما ورد في القرآن أسماء الله وصفاته، إذا كنا لا ندري ما معناها، هل يكون القرآن تبيانًا لكل شيء؟ ! أين البيان؟ !
إن هؤلاء يقولون: إن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يدري عن معاني القرآن فيما يتعلق بالأسماء والصفات وإذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام لا يدري؛ فغيره من باب أولى.
وأعجب من ذلك يقولون: الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتكلم في صفات الله، ولا يدري ما معناه يقول: «ربنا الله الذي في السماء» ، وإذا سئل عن هذا؟ قال: لا أدري وكذلك في قوله: «ينزل ربنا إلى السماء الدنيا» (1) وإذا
__________
(1) أخرجه البخاري/ كتا التوحي/ باب قوله تعالى:] يريدون أن يبدلوا كلام الله [ومسلم/ كتاب صلاة المسافرين/ باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل.(8/74)
سئل ما معنى " ينزل ربنا "؟ قال: لا أدري ... وعلى هذا، فقس.
وهل هناك قدح أعظم من هذا القدح بالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بل هذا من أكبر القدح! رسول من عند الله ليبين للناس وهو لا يدري ما معنى آيات الصفات وأحاديثها وهو يتكلم بالكلام ولا يدري معنى ذلك كله.
فهذان وجهان: تكذيب بالقرآن وتجهيل الرسول.
وفيه فتح الباب للزنادقة الذين تطاولوا على أهل التفويض، وقال: أنتم لا تعرفون شيئًا، بل نحن الذين نعرف، وأخذوا يفسرون القرآن بغير ما أراد الله، وقالوا: كوننا نثبت معاني للنصوص خير من كوننا أميين لا نعرف شيئًا وذهبوا يتكلمون بما يريدون من معنى كلام الله وصفاته! ! ولا يستطيع أهل التفويض أن يردوا عليهم؛ لأنهم يقولون: نحن لا نعلم ماذا أراد الله؛ فجائز أن يكون الذي يريد الله هو ما قلتم! ففتحوا باب شرور عظيمة، ولهذا جاءت العبارة الكاذبة: " طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم "! .
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: " هذه قالها بعض الأغبياء " وهو صحيح، أن القائل غبي.
هذه الكلمة من أكذب ما يكون نطقًا ومدلولًا، " طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم "؛ كيف تكون أعلم وأحكم وتلك أسلم؟ ! لا يوجد سلامة بدون علم وحكمة أبدًا! فالذي لا يدري عن الطريق؛ لا يسلم؛ لأنه ليس معه علم، لو كان معه علم وحكمة؛ لسلم؛ فلا سلامة إلا بعلم وحكمة.
إذا قلت: إن طريقة السلف أسلم، لزم أن تقول: هي أعلم وأحكم وإلا لكنت متناقصًا.(8/75)
إذًا؛ فالعبارة الصحيحة: " طريقة السلف أسلم وأعلم وأحكم "، وهذا معلوم.
وطريقة الخلف ما قاله القائل:
لعمري لقد طفت المعاهد كلها ... وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعًا كف حائر ... على ذقن أو قارعًا سن نادم
هذه الطريقة التي يقول عنها: إنه ما وجد إلا واضعًا كف حائر ذقن. وهذا ليس عنده علم، أو آخر: قارعًا سن نادم لأنه لم يسلك طريق السلامة أبدًا.
والرازي وهو من كبرائهم يقول:
نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وغاية دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
ثم يقول: " لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلًا ولا تروي غليلًا، ووجدت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [الشورى: 11] , وأقرأ في النفي {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110] ، ومن جرب مثل تجربتي؛ عرف مثل معرفتي " أهؤلاء نقول: إن طريقتهم أعلم وأحكم؟ !
الذي يقول: " إني أتمنى أن أموت على عقيدة عجائز نيسابور " والعجائز من عوام الناس، يتمنى أنه يعود إلى الأميات! هل يقال: إنه أعلم(8/76)
ومن غير تكييف
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وأحكم؟ !
أين العلم الذي عندهم؟ !
فتبين أن طريقة التفويض طريق خاطئ؛ لأنه يتضمن ثلاث مفاسد: تكذيب القرآن، وتجهيل الرسول، واستطالة الفلاسفة! وأن الذين قالوا: إن طريقة السلف هي التفويض كذبوا على السلف! أو الذين قالوا: إن طريقة السلف هي التفويض كذبوا على السلف، بل هم يثبتون اللفظ والمعنى ويقررونه، ويشرحونه بأوفى شرح.
أهل السنة والجماعة لا يحرفون ولا يعطلون، ويقولون بمعنى النصوص كما أراد الله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] ، بمعنى: علا عليه وليس معناه: استولى. بيده: يد حقيقية وليست القوة ولا نعمة؛ فلا تحريف عندهم ولا تعطيل.
" تكييف ": لم ترد في الكتاب والسنة، لكن ورد ما يدل على النهي عنها.
التكييف: هو أن تذكر كيفية الصفة، ولهذا تقول: كيف يكيف تكييفًا؛ أي ذكر كيفية الصفة.
التكييف يسأل عنه بـ (كيف) ، فإذا قلت مثلًا: كيف جاء زيد؟ تقول: راكبًا. إذًا: كيفت مجيئه. كيف لون السيارة؟ أبيض. فذكرت اللون.
أهل السنة والجماعة لا يكيفون صفات الله؛ مستندين في ذلك إلى الدليل السمعي والدليل العقلي:
أما الدليل السمعي؛ فمثل قوله تعالى:(8/77)
{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] ، والشاهد في قوله {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} .
فإذا جاء رجل وقال: إن الله استوى على العرش، على هذه الكيفية ووصف كيفية معينة: نقول: هذا قد قال على الله ما لا يعلم! هل أخبرك الله بأنه استوى على هذه الكيفية؟ ! لا، أخبرنا الله بأنه استوى ولم يخبرنا كيف استوى. فنقول: هذا تكييف وقول على الله بغير علم.
ولهذا قال بعض السلف إذا قال لك الجهمي: إن الله ينزل إلى السماء؛ فكيف ينزل؟ فقل: إن الله أخبرنا أنه ينزل، ولم يخبرنا كيف ينزل. وهذه قاعدة مفيدة.
دليل آخر من السمع: قال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36] : لا تتبع ما ليس لك به علم؛ {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36] .
وأما الدليل العقلي، فكيفية الشيء لا تدرك إلا بواحد من أمور ثلاثة: مشاهدته، أو مشاهدة نظيره، أو خبر الصادق عنه أي: إما أن تكون شاهدته أنت وعرفت كيفيته. أو شاهدت نظيره، كما لو قال واحد: إن فلانًا اشترى سيارة داتسون موديل ثمان وثمانين رقم ألفين. فتعرف كيفيتها؛ لأن عندك مثلها أو خبر صادق عنه، أتاك رجل صادق وقال: إن سيارة فلان صفتها كذا وكذا. . ووصفها تمامًا؛ فتدرك الكيفية الآن.
ولهذا أيضًا قال بعض العلماء جوابًا لطيفًا: إن معنى قولنا: " بدون تكييف ": ليس معناه ألا نعتقد لها كيفية، بل نعتقد لها كيفية لكن المنفي(8/78)
علمنا بالكيفية؛ لأن استواء الله على العرش لا شك أن له كيفية، لكن لا تعلم، نزوله إلى السماء الدنيا له كيفية، لكن لا تعلم؛ لأن مامن موجود إلا وله كيفية، لكنها قد تكون معلومة، وقد تكون مجهولة.
سئل الإمام مالك رحمه الله عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] : كيف استوى؟ فأطرق مالك برأسه حتى علاه العرق، ثم رفع رأسه وقال: " الاستواء غير مجهول "؛ أي: من حيث المعنى معلوم؛ لأن اللغة العربية بين أيدينا، كل المواضع التي وردت فيها استوى معداة بـ (على) معناها العلو فقال: " الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول " لأن العقل لا يدرك الكيف؛ فإذا انتفى الدليل السمعي والعقلي عن الكيفية؛ وجب الكف عنها، " والإيمان به واجب "؛ لأن الله أخبر به عنه نفسه، فوجب تصديقه، " والسؤال عنه بدعة " (1) : السؤال عن الكيفية بدعة؛ لأن من هم أحرص منا على العلم ما سألوا عنها وهم الصحابة لما قال الله: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] ؛ عرفوا عظمة الله عز وجل، ومعنى الاستواء على العرش، وأنه لا يمكن أن تسأل: كيف استوى؟ لأنك لن تدرك ذلك فنحن إذا سُئلنا، فنقول: هذا السؤال بدعة.
__________
(1) رواه اللالكائي في "شرح السنة" (664) ، والبيهقي في "الأسماء والصفات (867) ، وأبو نعيم في الحلية (6/325) ، ورواه الدارمي في "الرد على الجهمية" (104) ، وابن عبد البرفي "التمهيد" (7/151) . قال ابن حجر "إسناده جيد" (الفتح: 13/407) . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد قول مالك: "وهذا الجواب ثابت عن ربيعة شيخ مالك، وقد روي هذا الجواب عن أم سلمة رضي الله عنها موقوفاً ومرفوعاً، ولكن ليس في إسناده مما يعتمد عليه، وهكذا سائر قولهم يوافق مالك" "مجموع الفتاوى" (5/365) .(8/79)
وكلام مالك رحمه الله ميزان لجميع الصفات؛ فإن قيل لك مثلًا: إن الله ينزل إلى السماء الدنيا؛ كيف ينزل؟ فالنزول غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة والذين يسألون: كيف يمكن النزول وثلث الليل يتنقل؟ ! فنقول: السؤال هذا بدعة كيف تسأل عن شيء ما سأل عنه الصحابة وهم أحرص منك على الخير وعلى العلم بما يجب لله عز وجل، ولسنا بأعلم من الرسول عليه الصلاة والسلام؛ فهو لم يعلمهم. فسؤالك هذا بدعة، ولولا أننا نحسن الظن بك، لقلنا ما يليق بك بأنك رجل مبتدع.
والإمام مالك رحمه الله قال: " ما أراك إلا مبتدعًا " ثم أمر به فأخرج؛ لأن السلف يكرهون أهل البدع وكلامهم واعتراضاتهم وتقديراتهم ومجادلاتهم.
فأنت يا أخي عليك في هذا الباب بالتسليم، فمن تمام الإسلام لله عز وجل ألا تبحث في هذه الأمور، ولهذا أحذركم دائمًا من البحث فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته على سبيل التعنت والتنطع والشيء الذي ما سأل الصحابة عنه؛ لأننا إذا فتحنا على أنفسنا هذه الأبواب؛ انفتحت علينا الأبواب، وتهدمت الأسوار، وعجزنا عن ضبط أنفسنا؛ فلذلك قل: سمعنا وأطعنا وآمنا وصدقنا؛ آمنا وصدقنا بالخبر وأطعنا الطلب وسمعنا القول، حتى تسلم!
وأي إنسان يسأل فيما يتعلق بصفات الله عن شيء ما سأل عنه الصحابة، فقل كما قال الإمام مالك، فإن لك سلفًا: السؤال عن هذا بدعة. وإذا قلت ذلك؛ لن يلح عليك، وإذا ألح، فقل: يا مبتدع!(8/80)
ولا تمثيل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
السؤال عنه بدعة، اسأل عن الأحكام التي أنت مكلف بها، أما أن تسأل عن شيء يتعلق بالرب عز وجل وبأسمائه وصفاته، ولم يسأل عنه الصحابة؛ فهذا لا نقبله منك أبدًا!
وهناك كلام للسلف يدل على أنهم يفهمون معاني ما أنزل الله على رسوله من الصفات، كما نقل عن الأوزاعي وغيره، نقل عنهم أنهم قالوا في آيات الصفات وأحاديثها: " أمروها كما جاءت بلا كيف "، وهذا يدل على أنهم يثبتون لها معنى من وجهين:
أولًا: أنهم قالوا: " أمروها كما جاءت " ومعلوم أنها ألفاظ جاءت لمعاني ولم تأت عبثًا، فإذا أمررناها كما جاءت؛ لزم من ذلك أن نثبت لها معنى.
ثانيًا: قولهم: " بلا كيف " لأن نفي الكيفية يدل على وجود أصل المعنى؛ لأن نفي الكيفية عن شيء لا يوجد لغو وعبث.
إذًا؛ فهذا الكلام المشهور عند السلف يدل على أنهم يثبتون لهذه النصوص معنى.
يعنى: ومن غير تمثيل؛ فأهل السنة يتبرؤون من تمثيل الله عز وجل بخلقه؛ لا في ذاته ولا في صفاته. والتمثيل: ذكر مماثل للشيء، وبينه وبين التكييف عموم وخصوص مطلق؛ لأن كل ممثل مكيف، وليس كل مكيف ممثلًا؛ لأن التكييف ذكر كيفية غير مقرونة بمماثل؛ مثل أن تقول: لي قلم كيفيته كذا وكذا. فإن قرنت بمماثل؛ صار تمثيلًا؛ مثل أن أقول: هذا القلم مثل هذا القلم؛ لأني ذكرت شيئًا مماثلًا لشيء وعرفت هذا القلم بذكر مماثله.(8/81)
وأهل السنة والجماعة يثبتون لله عز وجل الصفات بدون مماثلة؛ يقولون: إن الله عز وجل له حياة وليست مثل حياتنا، له علم وليس مثل علمنا، له بصر، ليس مثل بصرنا، له وجه وليس مثل وجوهنا له يد وليست مثل أيدينا ... وهكذا جميع الصفات، يقولون: إن الله عز وجل لا يماثل خلقه فيما وصف به نفسه أبدًا، ولهم على ذلك أدلة سمعية وأدلة عقلية:
أ- الأدلة السمعية:
تنقسم إلى قسمين: خبر، وطلب.
- فمن الخبر قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] ، فالآية فيها نفي صريح للتمثيل وقوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] ؛ فإن هذا وإن كان إنشاء، لكنه بمعنى الخبر؛ لأنه استفهام بمعنى النفي وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] ، فهذه كلها تدل على نفي المماثلة، وهي كلها خبرية.
- وأما الطلب؛ فقال الله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} [البقرة: 22] أي: نظراء مماثلين. وقال: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} [النحل: 74] .
فمن مثَّل الله بخلقه؛ فقد كذب الخبر وعصى الأمر ولهذا أطلق بعض السلف القول بالتكفير لمن مثل الله بخلقه، فقال نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري رحمه الله: " من شبه الله بخلقه؛ فقد كفر " (1) ؛ لأنه جمع بين التكذيب بالخبر وعصيان الطلب.
__________
(1) رواه اللالكائي في "شرح السنة" (936) . والذهبي في "العلو" ص116.(8/82)
وأما الأدلة العقلية على انتفاء التماثل بين الخالق والمخلوق: فمن وجوه:
أولًا: أن نقول: لا يمكن التماثل بين الخالق والمخلوق بأي حال من الأحوال لو لم يكن بينهما من التباين إلا أصل الوجود، لكان كافيًا، وذلك أن وجود الخالق واجب، فهو أزلي أبدي، ووجود المخلوق ممكن مسبوق بعدم ويلحقه فناء، فما كانا كذلك لا يمكن أن يقال: إنهما متماثلان.
ثانيًا: أنا نجد التباين العظيم بين الخالق والمخلوق في صفاته وفي أفعاله، في صفاته يسمع عز وجل كل صوت مهما خفي ومهما بعد، لو كان في قعار البحار، لسمعه عز وجل.
«وأنزل الله قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1] ، تقول عائشة: " الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، إني لفي الحجرة، وإنه ليخفى عليَّ بعض حديثها» (1) ، والله تعالى سمعها من على عرشه وبينه وبينها ما لا يعلم مداه إلا الله عز وجل، ولا يمكن أن يقول قائل: إن سمع الله مثل سمعنا.
ثالثًا: نقول: نحن نعلم أن الله تعالى مباين للخلق بذاته: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [البقرة: 255] , {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ} [الزمر: 67] ، ولا يمكن لأحد من الخلق أن يكون هكذا؛ فإذا كان مباينًا للخلق في ذاته؛ فالصفات تابعة للذات، فيكون أيضًا مباينًا للخلق في
__________
(1) رواه البخاري معلقاً/ كتاب التوحيد/ باب [وكان الله سميعاً بصيراً] . وقد وصله الإمام أحمد في "المسند" (6/46) ، وابن كثير 4/286.(8/83)
صفاته عز وجل، ولا يمكن التماثل بين الخالق والمخلوق.
رابعًا: نقول: إننا نشاهد في المخلوقات أشياء تتفق في الأسماء وتختلف في المسميات؛ يختلف الناس في صفاتهم: هذا قوي البصر وهذا ضعيف، وهذا قوي السمع وهذا ضعيف، هذا قوي البدن وهذا ضعيف وهذا ذكر وهذا أنثى ... وهكذا التباين في المخلوقات التي من جنس واحد، فما بالك بالمخلوقات المختلفة الأجناس؟ فالتباين بينها أظهر ولهذا، لا يمكن لأحد أن يقول: إن لي يدًا كيد الجمل، أو لي يدًا كيد الذرة، أو لي يدًا كيد الهر، فعندنا الآن إنسان وجمل وذرة وهر، كل واحد له يد مختلفة عن الثاني، مع أنها متفقة في الاسم فنقول: إذا جاز التفاوت بين المسميات في المخلوقات مع اتفاق الاسم، فجوازه بين الخالق والمخلوق ليس جائزًا فقط، بل هو واجب، فعندنا أربعة وجوه عقلية كلها تدل على أن الخالق لا يمكن أن يماثل المخلوق بأي حال من الأحوال.
ربما نقول أيضًا: هناك دليل فطري، وذلك لأن الإنسان بفطرته بدون أن يلقن يعرف الفرق بين الخالق والمخلوق ولولا هذه الفطرة، ما ذهب يدعو الخالق.
فتبين الآن أن التمثيل منتف سمعًا وعقلًا وفطرة.
فإن قال قائل: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حدثنا بأحاديث تشتبه علينا، هل هي تمثيل أو غير تمثيل؟ ونحن نضعها بين أيديكم:
قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر، لا»(8/84)
«تضامون في رؤيته» (1) ؛ فقال: " كما " والكاف للتشبيه، وهذا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونحن من قاعدتنا أن نؤمن بما قال الرسول كما نؤمن بما قال الله، فأجيبوا عن هذا الحديث؟
نقول: نجيب عن هذا الحديث وعن غيره بجوابين: الجواب الأول مجمل والثاني مفصل.
فالأول المجمل: أنه لا يمكن أن يقع تعارض بين كلام الله وكلام رسوله الذي صح عنه أبدًا؛ لأن الكل حق، والحق لا يتعارض، والكل من عند الله، وما عند الله تعالى لا يتناقض {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] ؛ فإن وقع ما يوهم التعارض في فهمك؛ فاعلم أن هذا ليس بحسب النص، ولكن باعتبار ما عندك؛ فأنت إذا وقع التعارض عندك في نصوص الكتاب والسنة؛ فإما لقلة العلم، وإما لقصور الفهم، وإما للتقصير في البحث والتدبر، ولو بحثت وتدبرت؛ لوجدت أن التعارض الذي توهمته لا أصل له، وإما لسوء القصد والنية؛ بحيث تستعرض ما ظاهره التعارض لطلب التعارض، فتحرم التوفيق؛ كأهل الزيغ الذين يتبعون المتشابه.
ويتفرع على هذا الجواب المجمل أنه يجب عليك عند الاشتباه أن ترد المشتبه إلى المحكم؛ لأن هذه الطريق طريق الراسخين في العلم، قال الله تعالى:
__________
(1) رواه البخاري/ كتاب مواقيت الصلاة/ باب فضل صلاة العصر، ومسلم/ كتاب المساجد/ باب فضل صلاتي الصبح والعصر.(8/85)
{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7] ، ويحملون المتشابه على المحكم حتى يبقى النص كله محكمًا.
وأما الجواب المفصل؛ فأن نجيب عن كل نص بعينه فنقول:
إن قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته» ليس تشبيهًا للمرئي بالمرئي، ولكنه تشبيه للرؤية بالرؤية؛ " سترون.. كما ترون "، فالكاف في: " كما ترون ": داخلة على مصدر مؤول؛ لأن (ما) مصدرية، وتقدير الكلام: كرؤيتكم القمر ليلة البدر وحينئذ يكون التشبيه للرؤية بالرؤية لا المرئي بالمرئي، والمراد أنكم ترونه رؤية واضحة كما ترون القمر ليلة البدر ولهذا أعقبه بقوله: " لا تضامون في رؤيته " أو: " لا تضارون في رؤيته " فزال الإشكال الآن.
- قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إن الله خلق آدم على صورته» (1) ، والصورة مماثلة للأخرى، ولا يعقل صورة إلا مماثلة للأخرى، ولهذا أكتب لك رسالة، ثم تدخلها الآلة الفوتوغرافية، وتخرج الرسالة، فيقال: هذه صورة هذه، ولا فرق بين الحروف والكلمات؛ فالصورة مطابقة للصورة، والقائل: «إن الله خلق آدم على صورته» : الرسول عليه الصلاة والسلام أعلم وأصدق وأنصح وأفصح الخلق.
والجواب المجمل أن نقول: لا يمكن أن يناقض هذا الحديث قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] ، فإن يسر الله لك الجمع؛ فاجمع،
__________
(1) رواه البخاري/ كتاب الاستئذان/ باب بدء السلام، ومسلم/ كتاب البر/ باب النهي عن ضرب الوجه.(8/86)
وإن لم يتيسر، فقل: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7] ، وعقيدتنا أن الله لا مثيل له، بهذا تسلم أمام الله عز وجل.
هذا كلام الله، وهذا كلام رسوله، والكل حق، ولا يمكن أن يكذب بعضه بعضًا؛ لأنه كله خبر وليس حكمًا كي ينسخ؛ فأقول: هذا نفي للمماثلة، وهذا إثبات للصورة؛ فقل: إن الله ليس كمثله شيء، وإن الله خلق آدم على صورته، فهذا كلام الله، وهذا كلام رسوله والكل حق نؤمن به، ونقول: كل من عند ربنا، ونسكت وهذا هو غاية ما نستطيع.
وأما الجواب المفصل؛ فنقول: إن الذي قال: «إن الله خلق آدم على صورته» رسول الذي قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] والرسول لا يمكن أن ينطق بما يكذب المرسل والذي قال: «خلق آدم على صورته» : هو الذي قال: «إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر» (1) ؛ فهل أنت تعتقد أن هؤلاء الذين يدخلون الجنة على صورة القمر من كل وجه أو تعتقد أنهم على صورة البشر لكن في الوضاءة والحسن والجمال واستدارة الوجه وما أشبه ذلك على صورة القمر، لا من كل وجه؟ ! فإن قلت بالأول؛ فمقتضاه أنهم دخلوا وليس لهم أعين وليس لهم آناف وليس لهم أفواه! وإن شئنا قلنا: دخلوا وهم أحجار! وإن قلت بالثاني؛ زال الإشكال، وتبين أنه لا يلزم من كون الشيء على صورة الشيء أن يكون مماثلًا له من كل وجه.
فإن أبى فهمك، وتقاصر عن هذا، وقال: أنا لا أفهم إلا أنه مماثل.
__________
(1) رواه البخاري/ كتاب بدء الخلق/ باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، ومسلم/ كتاب الجنة/ باب في صفات الجنة وأهلها.(8/87)
قلنا: هناك جواب آخر، وهو أن الإضافة هنا من باب إضافة المخلوق إلى خالقه، فقوله: " على صورته "؛ مثل قوله عز وجل في آدم: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [ص: 72] ، ولا يمكن أن الله عز وجل أعطى آدم جزءً من روحه، بل المراد الروح التي خلقها الله عز وجل، لكن إضافتها إلى الله بخصوصها من باب التشريف؛ كما نقول: عباد الله، يشمل الكافر والمسلم والمؤمن والشهيد والصديق والنبي لكننا لو قلنا: محمد عبد الله، هذه إضافة خاصة ليست كالعبودية السابقة.
فقوله: «خلق آدم على صورته» ؛ يعني: صورة من الصور التي خلقها الله وصورها، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [الأعراف: 11] ، والمصور آدم إذًا؛ فآدم على صورة الله، يعني: أن الله هو الذي صوره على هذه الصورة التي تعد أحسن صورة في المخلوقات , {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] ؛ فإضافة الله الصورة إليه من باب التشريف، كأنه عز وجل اعتنى بهذه الصورة ومن أجل ذلك؛ لا تضرب الوجه؛ فتعيبه حسًّا، ولا تقبحه فتقول: قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك؛ فتعيبه معنًى؛ فمن أجل أنه الصورة التي صورها الله وأضافها إلى نفسه تشريفًا وتكريمًا؛ لا تقبحها بعيب حسي ولا بعيب معنوي.
ثم هل يعتبر هذا الجواب تحريفًا أم له نظير؟
نقول: له نظير، كما في: بيت الله، وناقة الله، وعبد الله؛ لأن هذه الصورة (أي: صورة آدم) منفصلة بائنة من الله وكل شيء أضافه الله إلى نفسه وهو منفصل بائن عنه؛ فهو من المخلوقات؛ فحينئذ يزول(8/88)
الإشكال.
ولكن إذا قال لقائل: أيما أسلم المعنى الأول أو الثاني؟ قلنا: المعنى الأول أسلم، ما دمنا نجد أن لظاهر اللفظ مساغًا في اللغة العربية وإمكانًا في العقل، فالواجب حمل الكلام عليه ونحن وجدنا أن الصورة لا يلزم منها مماثلة الصورة الأخرى، وحينئذ يكون الأسلم أن نحمله على ظاهره.
فإذا قلت: ما هي الصورة التي تكون لله ويكون آدم عليها؟
قلنا: إن الله عز وجل له وجه وله عين وله يد وله رجل عز وجل، لكن لا يلزم من أن تكون هذه الأشياء مماثلة للإنسان، فهناك شيء من الشبه لكنه ليس على سبيل المماثلة، كما أن الزمرة الأولى من أهل الجنة فيها شبه من القمر لكن بدون مماثلة، وبهذا يصدق ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة؛ من أن جميع صفات الله سبحانه وتعالى ليست مماثلة لصفات المخلوقين، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.
نسمع كثيرًا من الكتب الني نقرأها يقولون: تشبيه؛ يعبرون بالتشبيه وهم يقصدون التمثيل؛ فأيما أولى: أنعبر بالتشبيه، أو نعبر بالتمثيل؟
نقول: بالتمثيل أولى.
أولًا: لأن القرآن عبر به: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] ، {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} [البقرة: 22] . . وما أشبه ذلك، وكل ما عبر به القرآن؛ فهو أولى من غيره؛ لأننا لا نجد أفصل من القرآن ولا أدل على المعنى المراد من القرآن، والله أعلم بما يريده من كلامه، فتكون موافقة القرآن هي الصواب، فنعبر بنفي التمثيل. وهكذا في كل مكان، فإن موافقة النص في اللفظ أولى من ذكر لفظ مرادف أو مقارب.(8/89)
ثانيًا: أن التشبيه عند بعض الناس يعني إثبات الصفات ولهذا يسمون أهل السنة: مشبهة؛ فإن قلنا: من غير تشبيه. وهذا الرجل لا يفهم من التشبيه إلا إثبات الصفات؛ صار كأننا نقول له: من غير إثبات صفات! فصار معنى التشبيه يوهم معنى فاسدًا فلهذا كان العدول عنه أولى.
ثالثًا: أن نفي التشبيه على الإطلاق غير صحيح؛ لأن ما من شيئين من الأعيان أو من الصفات إلا وبينهما اشتراك من بعض الوجوه، والاشتراك نوع تشابه، فلو نفيت التشبيه مطلقًا، لكنت نفيت كل ما يشترك فيه الخالق والمخلوق في شيء ما.
مثلًا: الوجود؛ يشترك في أصله الخالق والمخلوق، هذا نوع اشتراك ونوع تشابه، لكن فرق بين الوجودين؛ وجود الخالق واجب ووجود المخلوق ممكن.
وكذلك السمع؛ فيه اشتراك، الإنسان له سمع، والخالق له سمع، لكن بينهما فرق، لكن أصل وجود السمع المشترك.
فإذا قلنا: من غير تشبيه. ونفينا مطلق التشبيه؛ صار في هذا إشكال.
وبهذا عرفنا أن التعبير بالتمثيل أولى من ثلاثة أوجه.
فإن قلت: ما الفرق بين التكييف والتمثيل؟
فالجواب: الفرق بينهما من وجهين:
الأول: أن التمثيل ذكر الصفة مقيدة بمماثل؛ فتقول يد فلان مثل يد فلان، والتكييف ذكر الصفة غير مقيدة بمماثل؛ مثل أن تقول: كيفية يد فلان كذا وكذا.(8/90)
بل يؤمنون بأن الله سبحانه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وعلى هذا نقول: كل ممثل مكيف، ولا عكس.
الثاني: أن الكيفية لا تكون إلا في الصفة والهيئة، والتمثيل يكون في ذلك وفي العدد؛ كما في قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12] ؛ أي: في العدد.
أي: يقر أهل السنة والجماعة بذلك إقرارًا وتصديقًا بأن الله ليس كمثله شيء، كما قال عن نفسه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] ، فهنا نفى المماثلة، ثم أثبت السمع والبصر فنفى العيب، ثم أثبت الكمال؛ لأن نفي العيب قبل إثبات الكمال أحسن، ولهذا يقال: التخلية قبل التحلية. فنفي العيوب يبدأ به أولًا، ثم يذكر إثبات الكمال.
وكلمة شيء نكرة في سياق النفي، فتعم كل شيء، ليس شيء مثله أبدًا عز وجل أي مخلوق وإن عظم؛ فليس مماثلًا لله عز وجل؛ لأن مماثلة الناقص نقص، بل إن طلب المفاضلة بين الناقص والكامل تجعله ناقصًا، كما قيل:
ألم تر أن السيف ينقص قدره ... إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
فهنا لو قلنا: إن لله مثيلًا، لزم من ذلك تنقص الله عز وجل، فلهذا نقول: نفى الله عن نفسه مماثلة المخلوقين؛ لأن مماثلة المخلوقين نقص وعيب؛ لأن المخلوق ناقص، وتمثيل الكامل بالناقص يجعله ناقصًا، بل ذكر المفاضلة بينهما يجعله ناقصًا؛ إلا إذا كان في مقام التحدي، كما في قوله تعالى: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمْ مَا يُشْرِكُونَ} [النمل: 59] ، وقوله: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة: 140] .(8/91)
وفي قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} : رد صريح على الممثَّلة الذين يثبتون أن الله سبحانه وتعالى له مثيل.
وحجة هؤلاء يقولون: إن القرآن عربي، وإذا كان عربيًّا؛ فقد خاطبنا الله تعالى بما نفهم، ولا يمكن أن يخاطبنا بما لا نفهم، وقد خاطبنا الله تعالى، فقال: إن له وجهًا وإن له عينًا، وإن له يدين.. وما أشبه ذلك ونحن لا نعقل بمقتضى اللغة العربية من هذه الأشياء إلا مثل ما تشاهد، وعلى هذا، فيجب أن يكون مدلول هذه الكلمات مماثلًا لمدلولها بالنسبة للمخلوقات: يد ويد، وعين وعين، ووجه ووجه.. وهكذا، فنحن إنما قلنا بذلك لأن لدينا دليلًا.
ولا شك أن هذه الحجة واهية يوهيها ما سبق من بيان أن الله ليس له مثيل ونقول: إن الله خاطبنا بما خاطبنا به من صفاته، لكننا نعلم علم اليقين أن الصفة بحسب الموصوف ودليل هذا في الشاهد؛ فإنه يقال للجمل يد وللذرة يد، ولا أحد يفهم من اليد التي أضفناها إلى الجمل أنها مثل اليد التي أضفناها إلى الذرة.
هذا وهو في المخلوقات؛ فكيف إذا كان ذلك من أوصاف الخالق؟ فإن التباين يكون أظهر وأجلى.
وعلى هذا؛ فيكون قول هؤلاء الممثَّلة مردودًا بالعقل كما أنه مردود بالسمع.
قال الله تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، فأثبت لنفسه سبحانه وتعالى السمع والبصر؛ لبيان كمال، ونقص الأصنام التي تعبد من دونه؛ فالأصنام التي تعبد من دون الله تعالى لا يسمعون، ولو سمعوا؛(8/92)
ما استجابوا؛ ولا يبصرون؛ كما قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل: 20،21] ، فهم ليس لهم سمع ولا عقل ولا بصر ولو فرض أن لهم ذلك؛ ما استجابوا: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف: 5] .
فأهل السنة والجماعة يؤمنون بانتفاء المماثلة عن الله؛ لأنها عيب ويثبتون له السمع والبصر، لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] .
وإيمان الإنسان بذلك يثمر للعبد أن يعظمه غاية التعظيم؛ لأنه ليس مثله أحد من المخلوقات، فتعظم هذا الرب العظيم الذي لا يماثله أحد، وإلا؛ لم يكن هناك فائدة من إيمانك بأنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} .
إذا آمنت بأنه سميع؛ فإنك سوف تحترز عن كل قول يغضب الله؛ لأنك تؤمن بأنه يسمعك، فتخشى عقابه؛ فكل قول يكون فيه معصية الله عز وجل؛ فسوف تتحاشاه؛ لأنك تؤمن بأنه سميع، وإذا لم يحدث لك هذا الإيمان هذا الشيء؛ فاعلم أن إيمانك بأن الله سميع إيمان ناقص بلا شك.
إذا آمنت بأن الله سميع؛ فلن تتكلم إلا بما يرضيه ولا سيما إذا كنت تتكلم معبرًا عن شرعه، وهو المفتي والمعلم؛ فإن هذا أشد، والله سبحانه يقول: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 144] ؛ فإن هذا من أظلم الظلم ولهذا قال:(8/93)
فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأحقاف: 10] وهذا من عقوبه من يفتي بلا علم، أنه لا يُهْدَى؛ لأنه ظالم.
فحذار يا أخي المسلم أن تقول قولًا لا يرضي الله؛ سواء قلته على الله، أو على غير هذا الوجه.
وثمرة الإيمان بأن الله بصير أن لا تفعل شيئًا يغضب الله؛ لأنك تعلم أنك لو تنظر نظرة محرمة لا يفهم الناس أنها نظرة محرمة؛ فإن الله تعالى يرى هذه النظرة، ويعلم ما في قلبك، {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19] .
إذا آمنت بهذا؛ لا يمكن أن تفعل فعلًا لا يرضاه أبدًا.
استحيي من الله كما تستحيي من أقرب الناس إليك وأشدهم تعظيمًا منك.
إذًا؛ إذا آمنَّا بأن الله بصير؛ فسوف نتحاشى كل فعل يكون سببًا لغضب الله عز وجل، وإلا؛ فإن إيماننا بذلك ناقص. لو أن أحدًا أشر بأصبعه أو شفته أو بعينه أو برأسه لأمر محرم؛ فالناس الذين حوله لا يعلمون عنه، لكن الله تعالى يراه؛ فليحذر هذا من يؤمن به، ولو أننا نؤمن بما تقتضيه أسماء الله وصفاته؛ لوجدت الاستقامة كاملة فينا فالله المستعان.
؛ أي: لا ينفي أهل السنة والجماعة عن الله ما وصف به نفسه؛ لأنهم متبعون للنص نفيًا وإثباتًا؛ فكل ما وصف الله به نفسه يثبتونه على حقيقته؛ فلا ينفون عن الله ما وصف الله به نفسه، سواء كان من الصفات(8/94)
ولا يحرفون الكلم عن مواضعه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الذاتية أو الفعلية (أو الخبرية) .
الصفات الذاتية؛ كالحياة والقدرة، والعلم.. وما أشبه ذلك، وتنقسم إلى: ذاتية معنوية، وذاتية خبرية، وهي التي مسماها أبعاض لنا وأجزاء؛ كاليد والوجه، والعين، فهذه يسميها العلماء: ذاتية خبرية، ذاتية: لأنها لا تنفصل ولم يزل الله ولا يزال متصفًا بها. خبرية: لأنه متلقاة بالخبر؛ فالعقل لا يدل على ذلك، لولا أن الله أخبرنا أن له يدًا؛ ما علمنا بذلك، لكنه أخبرنا بذلك، بخلاف العلم والسمع والبصر، فإن هذا ندركه بعقولنا مع دلالة السمع، لهذا نقول في مثل هذه الصفات اليد والوجه وما أشبهها: إنها ذاتية خبرية، ولا نقول: أجزاء وأبعاض، بل نتحاشى هذا اللفظ لكن مسماها لنا أجزاء وأبعاض؛ لأن الجزء والبعض ما جاز انفصاله عن الكل؛ فالرب عز وجل لا يتصور أن شيئًا من هذه الصفات التي وصف بها نفسه - كاليد - أن تزول أبدًا؛ لأنه موصوف بها أزلًا وأبدًا ولهذا لا نقول: إنه أبعاض وأجزاء.
والصفات الفعلية: هي المتعلقة بمشيئته إن شاء فعلها، وإن شاء لم يفعلها، وقد ذكرنا أن هذه الصفات الفعلية: منها ما يكون له سبب، ومنها ما ليس له سبب ومنها ما يكون ذاتيًّا فعليًّا.
(الكلم) : اسم، جمع كلمة ويراد به كلام الله وكلام رسوله.
لا يحرفونه عن مواضعه؛ أي: عن مدلولاته، فمثلًا قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] ، يقولون: هي يد حقيقية ثابتة لله من غير تكييف ولا تمثيل. والمحرفون يقولون: قوته، أو نعمته أما أهل السنة؛ فيقولون: القوة شيء واليد شيء آخر، والنعمة شيء واليد شيء آخر؛(8/95)
ولا يلحدون في أسماء الله وآياته
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فهم لا يحرفون الكلم عن مواضعه؛ فإن التحريف من دأب اليهود، {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء: 46] ؛ فكل من حرف نصوص الكتاب والسنة؛ ففيه شبه من اليهود؛ فاحذر هذا، ولا تتشبه بالمغضوب عليهم الذين جعل الله منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت، لا تحرف، بل فسر الكلام على ما أراد الله ورسوله.
ومن كلام الشافعي ما يذكر عنه: " آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت برسول الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله ".
قوله: " ولا يلحدون " أي: أهل السنة والجماعة.
والإلحاد في اللغة: الميل، ومنه سمي اللحد في القبر؛ لأنه مائل إلى جانب منه وليس متوسطًا والمتوسط يسمى شقًّا واللحد أفضل من الشق.
فهم لا يلحدون في أسماء الله، ولا يلحدون أيضًا في آيات الله، فأفادنا المؤلف رحمه الله أن الإلحاد يكون في موضعين: في الأسماء وفي الآيات.
هذا الذي يفيده كلام المؤلف قد دل عليه القرآن قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180] ، فأثبت الله الإلحاد في الأسماء، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} [فصلت: 40] ، فأثبت الله الإلحاد في الآيات.
- فالإلحاد في الأسماء هو الميل فيها عما يجب، وهو أنواع:(8/96)
النوع الأول: أن يسمى الله بما لم يسم به نفسه، كم سماه الفلاسفة علة فاعلة وسماه النصارى: أبًا، وعيسى: الابن، فهذا إلحاد في أسماء الله وكذلك لو سمى الله بأي اسم لم يسم به نفسه، فهو ملحد في أسماء الله.
ووجه ذلك أن أسماء الله عز وجل توقيفية، فلا يمكن أن نثبت له إلا ما ثبت بالنص، فإذا سميت الله بما لم يسم به نفسه، فقد ألحدت وملت عن الواجب.
وتسمية الله بما لم يسم به نفسه سوء أدب مع الله وظلم وعدوان في حقه، لأنه لو أن أحدًا دعاك بغير اسمك أو سماك بغير اسمك، لاعتبرته قد اعتدى عليك وظلمك هذا في المخلوق، فيكف بالخالق؟!
إذًا، ليس لك حق أن تسمي الله بما لم يسم به نفسه، فإن فعلت، فأنت ملحد في أسماء الله.
النوع الثاني: أن ينكر شيئًا من أسمائه، عكس الأول، فالأول سمى الله بما لم يسم به نفسه، وهذا جرد الله مما سمى به نفسه، فينكر الاسم، سواء أنكر كل الأسماء أو بعضها التي تثبت لله، فإذا أنكرها، فقد ألحد فيها.
ووجه الإلحاد فيها: أنه لما أثبتها الله لنفسه، وجب علينا أن نثبتها له، فإذا نفيناها، كان إلحادًا وميلا بها عما يجب فيها.
وهناك من الناس من أنكر الأسماء، كغلاة الجهمية، فقالوا: ليس لله اسم أبدًا! قالوا: لأنك لو أثبت له اسمًا، شبهته بالموجودات، وهذا معروف أنه باطل مردود.(8/97)
النوع الثالث: أن ينكر ما دلت عليه من الصفات، فهو يثبت الاسم، لكن ينكر الصفة التي يتضمنها هذا الاسم، مثل أن يقول: إن الله سميع بلا سمع، وعليم بلا علم، وخالق بلا خلق، وقادر بلا قدرة. . . وهذا معروف عن المعتزلة، وهو غير معقول!
ثم هؤلاء يجعلون الأسماء أعلامًا محضة متغايرة، فيقولوا: السميع غير العليم، لكن كلها ليس لها معنى! السميع لا يدل على السمع! والعليم لا يدل على العلم! لكن مجرد أعلام!!
ومنهم آخرون يقولون: هذه الأسماء شيء واحد، فهي عليم وسميع وبصير كلها واحد، لا تختلف إلا بتركيب الحروف فقط، فيجعل الأسماء شيئًا واحدًا!!
وكل هذا غير معقول، ولذلك نحن نقول: إنه لا يمكن الإيمان بالأسماء حتى تثبت ما تضمنته من الصفات.
ولعلنا من هنا نتكلم على دلالة الاسم، فالاسم له أنواع ثلاثة في الدلالة: دلالة مطابقة، ودلالة تضمن، ودلالة التزام:
1 - فدلالة المطابقة: دلالة اللفظ على جميع مدلوله، وعلى هذا، فكل اسم دال على المسمى به، وهو الله، وعلى الصفة المشتق منها هذا الاسم.
2 - ودلالة التضمن: دلالة اللفظ على بعض مدلوله، وعلى هذا، فدلالة الاسم على الذات وحدها أو على الصفة وحدها من دلالة التضمن.
3 - ودلالة الالتزام: دلالته على شيء يفهم لا من لفظ الاسم لكن من لازمه ولهذا سميناه: دلالة الالتزام.(8/98)
مثل كلمة الخالق: اسم يدل على ذات الله ويدل على صفة الخلق.
إذًا، فباعتبار دلالته على الأمرين يسمى دلالة مطابقة، لأن اللفظ دل على جميع مدلوله، ولا شك أنك إذا قلت: الخالق، فإنك تفهم خالقًا وخلقًا.
- وباعتبار دلالته على الخالق وحده أو على الخلق وحده يسمى دلالة تضمن، لأنه دل على بعض معناه، وباعتبار دلالته على العلم والقدرة يسمى دلالة التزام، إذ لا يمكن خلق إلا بعلم وقدرة، فدلالته على القدرة والعلم دلالة التزام.
وحينئذ، يتبين أن الإنسان إذا أنكر واحدًا من هذه الدلالات، فهو ملحد في الأسماء.
ولو قال: أنا أؤمن بدلالة الخالق على الذات، ولا أؤمن بدلالته على الصفة، فهو ملحد في الاسم.
لو قال: أنا أؤمن بأن (الخالق) تدل على ذات الله وعلى صفة الخلق، لكن لا تدل على صفة العلم والقدرة. قلنا: هذا إلحاد أيضًا، فلازم علينا أن نثبت كل ما دل عليه هذا الاسم، فإنكار شيء مما دل عليه الاسم من الصفة إلحاد في الاسم سواء كانت دلالته على هذه الصفة دلالة مطابقة أو تضمن أو التزام.
ولنضرب مثلا حسيًا تتبين فيه أنواع هذه الدلالات: لو قلت: لي بيت. فكلمة (بيت) فيها الدلالات الثلاث، فتفهم من (بيت) أنها تدل على كل البيت دلالة مطابقة. وتدل على مجلس الرجال وحده، وعلى الحمامات وحدها، وعلى الصالة وحدها، دلالة تضمن، لأن هذه الأشياء(8/99)
جزء من البيت ودلالة اللفظ على جزء معناه دلالة تضمن. وتدل على أن هناك بانيًا بناه دلالة التزام، لأنه ما من بيت إلا وله بانٍ.
النوع الرابع من أنواع الإلحاد في الأسماء: أن يثبت الأسماء لله والصفات، لكن يجعلها دالة على التمثيل، أي دالة على بصر كبصرنا وعلم كعلمنا، ومغفرة كمغفرتنا. . . وما أشبه ذلك، فهذا إلحاد، لأنه ميل بها عما يجب فيها، إذ الواجب إثباتها بلا تمثيل.
النوع الخامس: أن ينقلها إلى المعبودات، أو يشتق أسماء منها للمعبودات، مثل أن يسمي شيئًا معبودًا بالإله، فهذا إلحاد، أو يشتق منها أسماء للمعبودات مثل: اللات من الإله، والعزى من العزيز، ومناة من المنان، فنقول: هذا أيضًا إلحاد في أسماء الله، لأن الواجب عليك أن تجعل أسماء الله خاصة به، ولا تتعدى وتتجاوز فتشتق للمعبودات منها أسماء. هذه أنواع الإلحاد في أسماء الله.
فأهل السنة والجماعة لا يلحدون في أسماء الله أبدًا بل يجرونها على ما أراد الله بها سبحانه وتعالى ويثبتون لها جميع أنواع الدلالات، لأنهم يرون أن ما خالف ذلك، فهو إلحاد.
- وأما الإلحاد في آيات الله تعالى، فالآيات جمع آية، وهي العلامة المميزة للشيء عن غيره، والله عز وجل بعث الرسل بالآيات لا بالمعجزات، لهذا كان التعبير بالآيات أحسن من التعبير بالمعجزات:
أولا: لأن الآيات هي التي يعبر بها في الكتاب والسنة.
ثانيًا: أن المعجزات قد تقع من ساحر ومشعوذ وما أشبه ذلك تعجز غيره.
ثالثًا: أن كلمة (آيات) أدل على المعنى المقصود من كلمة معجزات،(8/100)
فآيات الله عز وجل هي العلامات الدالة على الله عز وجل، وحينئذ تكون خاصة به ولولا أنها خاصة، ما صارت آية له.
وآيات الله عز وجل تنقسم إلى قسمين: آيات كونية، وآيات شرعية:
فالآيات الكونية: ما يتعلق بالخلق والتكوين، مثال ذلك قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [فصلت: 37] {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} [الروم: 20] {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم: 22 - 25] ، فهذه الآيات كونية وإن شئت فقل: كونية قدرية، وكانت آية لله، لأنه لا يستطيع الخلق أن يفعلوها، فمثلا: لا يستطيع أحد أن يخلق مثل الشمس والقمر، ولا يستطيع أن يأتي بالليل إذا جاء النهار، ولا بالنهار إذا جاء الليل، فهذه الآيات كونية.
والإلحاد فيها أن ينسبها إلى غير الله استقلالا أو مشاركة أو إعانة، فيقول: هذا من الولي الفلاني، أو: من النبي الفلاني، أو: شارك فيه النبي الفلاني أو الولي الفلاني، أو: أعان الله فيه، قال الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ: 22] ، فنفى كل شيء يتعلق به المشركون بكون معبوداتهم لا تملك شيئًا في السماوات(8/101)
والأرض استقلالا أو مشاركة ولا معينة لله عز وجل، ثم جاء بالرابع: {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23] ، لما كان المشركون قد يقولون: نعم، هذه الأصنام لا تملك ولا تشارك ولم تعاون، لكنها شفعاء، قال: {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} ، فقطع كل سبب يتعلق به المشركون.
القسم الثاني من الآيات: الآيات الشرعية، وهي ما جاءت به الرسل من الوحي، كالقرآن العظيم وهو آية، لقوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [البقرة: 252] {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: 50 - 51] ، فجعله آيات.
ويكون الإلحاد فيها إما بتكذيبها أو تحريفها أو مخالفتها: فتكذيبها: أن يقول: ليست من عند الله، فيكذب بها أصلا، أو يكذب بما جاء فيها من الخبر مع تصديقه بالأصل، فيقول مثلا: قصة أصحاب الكهف ليست صحيحة، وقصة أصحاب الفيل ليست صحيحة والله لم يرسل عليهم طيرًا أبابيل.
وأما التحريف، فهو تغيير لفظها، أو صرف معناها عما أراد الله بها ورسوله، مثل أن يقول: استوى على العرش، أي: استولى، أو: ينزل إلى السماء الدنيا، أي: ينزل أمره.
وأما مخالفتها، فبترك الأوامر أو فعل النواهي.
قال الله تعالى في المسجد الحرام: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] ، فكل المعاصي إلحاد في الآيات الشرعية، لأنه(8/102)
ولا يكيفون ولا يمثلون صفاته بصفات خلقه لأنه سبحانه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
خروج بها عما يجب لها، إذ الواجب علينا أن نمتثل الأوامر وأن نجتنب النواهي، فإن لم نقم بذلك، فهذا إلحاد.
أي: أهل السنة والجماعة، وسبق أن التكييف ذكر كيفية الصفة، سواء ذكرتها بلسانك أو بقلبك، ف أهل السنة والجماعة لا يكيفون أبدًا، يعني: لا يقولون: كيفية يده كذا وكذا، ولا: كيفية وجهه كذا وكذا، فلا يكيفون هذا باللسان ولا بالقلب أيضًا، يعني: نفس الإنسان لا يتصور كيف استوى الله عز وجل، أو كيف ينزل، أو كيف وجهه، أو كيف يده، ولا يجوز أن يحاول ذلك أيضًا، لأن هذا يؤدي إلى أحد أمرين: إما التمثيل، وإما التعطيل.
ولهذا لا يجوز للإنسان أن يحاول معرفة كيفية استواء الله على العرش، أو يقوله بلسانه، بل ولا يسأل عن الكيفية، لأن الإمام مالكًا رحمه الله قال: "السؤال عنه بدعة"، لا تقل: كيف استوى؟ كيف ينزل؟ كيف يأتي؟ كيف وجهه؟ إن فعلت ذلك، قلنا: إنك مبتدع. . وقد سبق ذكر الدليل على تحريم التكييف، وذكرنا الدليل على ذلك من السمع والعقل.
" ولا يمثلون "، أي: أهل السنة والجماعة: " صفاته بصفات خلقه "، وهذا معنى قوله فيما سبق: " من غير تمثيل " وسبق لنا امتناع التمثيل سمعًا وعقلا، وأن السمع ورد خبرًا وطلبًا في نفي التمثيل، فهم لا يكيفون ولا يمثلون.
(سبحان) : اسم مصدر سبح والمصدر تسبيح، فـ (سبحان) بمعنى تسبيح، لكنها بغير اللفظ، وكل ما دل على معنى المصدر وليس(8/103)
لا سمي له، ولا كفء له، ولا ند له
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بلفظه، فهو اسم مصدر، كـ: سبحان من سبح، وكلام من كلم وسلام من سلم، وإعرابها مفعول مطلق منصوب على المفعولية المطلقة، وعاملها محذوف دائمًا.
ومعنى (سبح) ، قال العلماء: معناها: نزه، أصلها من السبح وهو البعد، كأنك تبعد صفات النقص عن الله عز وجل، فهو سبحانه وتعالى منزه عن كل نقص.
دليل ذلك قوله تعالى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] : هَلْ استفهام، لكنه بمعنى النفي ويأتي النفي بصيغة الاستفهام لفائدة عظيمة، وهي التحدي، لأن هناك فرقًا بين أن أقول: لا سمي له، و: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} ؛ لأن {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} متضمن للنفي وللتحدي أيضًا، فهو مشرب معنى التحدي، وهذه قاعدة مهمة: كلما كان الاستفهام بمعنى النفي، فهو مشرب معنى التحدي، كأني أقول: إن كنت صادقًا، فأتني بسمي له وعلى هذا، فـ {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} : أبلغ من: "سمي له".
والسمي: هو المسامي، أي: المماثل.
الدليل قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] .
الدليل قوله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22] ، أي: تعلمون أنه لا ند له والند بمعنى النظير.
وهذه الثلاثة - السمي والكفء والند - معناها متقارب جدا، لأن معنى الكفء: الذي يكافئه، ولا يكافئ الشيء الشيء إلا إذا كان مثله، فإن لم يكن مثله، لم يكن مكافئًا، إذًا: لا كفء له، أي: ليس له مثيل(8/104)
ولا يقاس بخلقه سبحانه وتعالى. . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
سبحانه وتعالى.
وهذا النفي المقصود منه كمال صفاته، لأنه لكمال صفاته لا أحد يماثله.
القياس ينقسم إلى ثلاثة أقسام: قياس شمول، وقياس تمثيل، وقياس أولوية، فهو سبحانه وتعالى لا يقاس بخلقه قياس تمثيل ولا قياس شمول:
1 - قياس الشمول: هو ما يعرف بالعام الشامل لجميع أفراده، بحيث يكون كل فرد منه داخلا في مسمى ذلك اللفظ ومعناه، فمثلا: إذا قلنا: الحياة، فإنه لا تقاس حياة الله تعالى بحياة الخلق من أجل أن الكل يشمله اسم (حي) .
2 - وقياس التمثيل: هو أن يلحق الشيء مثيله فيجعل ما ثبت للخالق مثل ما ثبت للمخلوق.
3 - وقياس الأولوية: هو أن يكون الفرع أولى بالحكم من الأصل، ولهذا يقول العلماء: إنه مستعمل في حق الله، لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [النحل: 60] ، بمعنى كل صفة كمال، فلله تعالى أعلاها، والسمع والعلم والقدرة والحياة والحكمة وما أشبهها موجودة في المخلوقات، لكن لله أعلاها وأكملها.
ولهذا أحيانًا نستدل بالدلالة العقلية من زاوية القياس بالأولى، فمثلا: نقول: العلو صفة كمال في المخلوق، فإذا كان صفة كمال في المخلوق، فهو في الخالق من باب أولى وهذا دائمًا نجده في كلام العلماء.(8/105)
فإنه سبحانه أعلم بنفسه وبغيره، وأصدق قيلا وأحسن حديثًا من خلقه. . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فقول المؤلف رحمه الله: "ولا يقاس بخلقه"، بعد قوله: "لا سمي ولا كفء له، ولا ند له"، يعني القياس المقتضي للمساواة وهو قياس الشمول وقياس التمثيل.
إذًا، يمتنع القياس بين الله وبين الخلق للتباين بينهما، وإذا كنا في الأحكام لا نقيس الواجب على الجائز، أو الجائز على الواجب، ففي باب الصفات بين الخالق والمخلوق من باب أولى.
لو قال لك قائل: الله موجود، والإنسان موجود، ووجود الله كوجود الإنسان بالقياس.
فنقول: لا يصح، لأن وجود الخالق واجب، ووجود الإنسان ممكن.
فلو قال: أقيس سمع الخالق على سمع المخلوق.
نقول: لا يمكن، سمع الخالق واجب له، لا يعتريه نقص، وهو شامل لكل شيء، وسمع الإنسان ممكن، إذ يجوز أن يولد الإنسان أصم، والمولود سميعًا يلحقه نقص السمع، وسمعه محدود.
إذًا، لا يمكن أن يقاس الله بخلقه، فكل صفات الله لا يمكن أن تقاس بصفات خلقه، لظهور التباين العظيم بين الخالق وبين المخلوق.
قال المؤلف هذا تمهيدًا وتوطئة لوجوب قبول ما دل عليه كلام الله تعالى من صفاته وغيرها، وذلك أنه يجب قبول ما دل عليه الخبر إذا اجتمعت فيه أوصاف أربعة:
الأول: أن يكون صادرًا عن علم، وإليه الإشارة بقوله: " فإنه أعلم بنفسه وبغيره ".(8/106)
الثاني: الصدق، وأشار إليه بقوله: "وأصدق قيلا".
الوصف الثالث: البيان والفصاحة، وأشار إليه بقوله: "وأحسن حديثًا".
الوصف الرابع: سلامة القصد والإرادة، بأن يريد المخبر هداية من أخبرهم.
فدليل الأول - وهو العلم -: قوله تعالى: {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء: 55] ، فهو أعلم بنفسه وبغيره من غيره، فهو أعلم بك من نفسك، لأنه يعلم ما سيكون لك في المستقبل، وأنت لا تعلم ماذا تكسب غدًا؟
وكلمة أَعْلَمُ هنا اسم تفضيل، ولقد تحاشاها بعض العلماء وفسر أَعْلَمُ بـ (عالم) ، فقال: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125] ، أي هو عالم بمن ضل عن سبيله وهو عالم بالمهتدين. قال: لأن أَعْلَمُ اسم تفضيل، وهو يقتضي اشتراك المفضل والمفضل عليه، وهذا لا يجوز بالنسبة لله، لكن (عالم) اسم فاعل وليس فيه مقارنة ولا تفضيل.
فنقول له: هذا غلط، فالله يعبر عن نفسه ويقول: أَعْلَمُ وأنت تقولك عالم! وإذا فسرنا أَعْلَمُ بـ (عالم) ، فقد حططنا من قدر علم الله، لأن (عالم) يشترك فيه غير الله على سبيل المساواة، لكن أَعْلَمُ مقتضاه أن لا يساويه أحد في هذا العلم، فهو أعلم من كل عالم، وهذا أكمل في الصفة بلا شك.
ونقول له: إن اللغة العربية بالنسبة لاسم الفاعل لا تمنع المساواة في الوصف، لكن بالنسبة لاسم التفضيل تمنع المشاركة فيما دل عليه.(8/107)
ونقول أيضًا: في باب المقارنة لا بأس أن نقول: أعلم، بمعنى: أن تأتي باسم التفضيل، ولو فرض خلو المفضل عليه من ذلك المعنى، كما قال الله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان: 24] ، فجاء باسم التفضيل، مع أن المفضل عليه ليس فيه شيء منه إطلاقا.
وفي باب مجادلة الخصم ومحاجته يجوز أن نأتي باسم التفضيل وإن كان المفضل عليه ليس فيه شيء منه، قال الله تعالى: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمْ مَا يُشْرِكُونَ} [النمل: 59] ، ومعلوم أن ما يشركون ليس فيه خير، وقال يوسف: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف: 39] ، والأرباب ليس فيها خير.
فالحاصل أن نقول: إن أَعْلَمُ الواردة في كتاب الله يراد بها معناها الحقيقي، ومن فسرها بـ (عالم) ، فقد أخطأ من حيث المعنى ومن حيث اللغة العربية.
ودليل الوصف الثاني - الصدق -: قوله تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} ، أي: لا أحد أصدق منه، والصدق مطابقة الكلام للواقع، ولا شيء من الكلام يطابق الواقع كما يطابقه كلام الله سبحانه وتعالى، فكل ما أخبر الله به، فهو صدق، بل أصدق من كل قول.
ودليل الوصف الثالث - البيان والفصاحة -: قوله تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} وحسن حديثه يتضمن الحسن اللفظي والمعنوي.
ودليل الوصف الرابع - سلامة القصد والإرادة -: قوله تعالى:
{يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176] ، {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [النساء: 26] .(8/108)
فاجتمع في كلام الله الأوصاف الأربعة التي توجب قبول الخبر.
وإذا كان كذلك، فإنه يجب أن نقبل كلامه على ما هو عليه، وأن لا يلحقنا شك في مدلوله، لأن الله لم يتكلم بهذا الكلام لأجل إضلال الخلق، بل ليبين لهم ويهديهم، وصدر كلام الله عن نفسه أو عن غيره من أعلم القائلين، ولا يمكن أن يعتريه خلاف الصدق، ولا يمكن أن يكون كلامًا عييًا غير فصيح، وكلام الله لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لما استطاعوا؛ فإذا اجتمعت هذه الأمور الأربعة في الكلام، وجب على المخاطب القبول بما دل عليه.
مثال ذلك: قوله تعالى مخاطبًا إبليس: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] ، قال قائل: في هذه الآية إثبات يدين لله عز وجل يخلق بهما من شاء فنثبتهما، لأن كلام الله عز وجل صادر عن علم وصدق، وكلامه أحسن الكلام وأفصحه وأبينه، ولا يمكن أن لا يكون له يدان لكن أراد من الناس أن يعتقدوا ذلك فيه، ولو فرض هذا، لكان مقتضاه أن القرآن ضلال، حيث جاء بوصف الله بما ليس فيه، وهذا ممتنع، فإذا كان كذلك، وجب عليك أن تؤمن بأن لله تعالى يدين اثنتين خلق بهما آدم.
وإذا قلت: المراد بهما النعمة أو القدرة.
قلنا: لا يمكن أن يكون هذا هو المراد، إلا إذا اجترأت على ربك ووصفت كلامه بضد الأوصاف الأربعة التي قلنا، فنقول: هل الله عز وجل حينما قال: بِيَدَيَّ: عالم بأن له يدين؟ فسيقول: هو عالم.(8/109)
ثم رسله صادقون
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فنقول: هل هو صادق؟ فسيقول: هو صادق بلا شك. ولا يستطيع أن يقول: هو غير عالم، أو: غير صادق، ولا أن يقول: عبر بهما وهو يريد غيرهما عيًا وعجزًا، ولا أن يقول: أراد من خلقه أن يؤمنوا بما ليس فيه من الصفات إضلالا لهم! فنقول له: إذًا، ما الذي يمنعك أن تثبت لله اليدين؟! فاستغفر ربك وتب إليه، وقل: آمنت بما أخبر الله به عن نفسه، لأنه أعلم بنفسه وبغيره، وأصدق قيلا، وأحسن حديثًا من غيره وأتم إرادة من غيره أيضًا.
ولهذا أتى المؤلف رحمه الله بهذه الأوصاف الثلاثة ونحن زدنا الوصف الرابع، وهو: إرادة البيان للخلق وإرادة الهداية لهم، لقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [النساء: 26] .
هذا حكم ما أخبر الله به عن نفسه بكلامه الذي هو جامع للكمالات الأربع في الكلام، أما ما أخبرت به الرسل فقال المؤلف: "ثم رسله صادقون مصدقون. . . . ".
الصادق: المخبر بما طابق الواقع، فكل الرسل صادقون فيما أخبروا به ولكن لا بد أن يثبت السند إلى الرسل عليهم السلام، فإذا قالت اليهود: قال موسى كذا وكذا، فلا نقبل، حتى نعلم صحة سنده إلى موسى. وإذا قالت النصارى: قال عيسى كذا وكذا، فلا نقبل، حتى نعلم صحة السند إلى عيسى. وإذا قال قائل: قال محمد رسول الله كذا وكذا، فلا نقبل، حتى نعلم صحة السند إلى محمد.
فرسله صادقون فيما يقولون، فكل ما يخبرون به عن الله وعن غيره من مخلوقاته، فهم صادقون فيه، لا يكذبون أبدًا.
ولهذا أجمع العلماء على أن الرسل عليهم الصلاة والسلام معصومون(8/110)
مَصْدُوقون. . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
من الكذب.
" مَصْدوقون " أو: " مُصَدِّقون ": نسختان: أما على نسخة "مصدوقون"، فالمعنى أن ما أوحي إليهم، فهو صدق، والمصدوق: الذي أخبر بالصدق، والصادق: الذي جاء بالصدق، ومنه «قول الرسول عليه الصلاة والسلام لأبي هريرة حين قال له الشيطان: إنك إذا قرأت آية الكرسي، لم يزل عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى قال له: "صدقك وهو كذوب» (1) ، يعني: أخبرك بالصدق. فالرسل مصدوقون، كل ما أوحي إليهم، فهو صدق، ما كذبهم الذي أرسلهم ولا كذبهم الذي أرسل إليهم، وهو جبريل عليه الصلاة والسلام: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير: 19 - 21] .
وأما على نسخة: (مصدقون) ، فالمعنى أنه يجب على أممهم تصديقهم، وعلى هذا يكون معنى "مصدقون"، أي: شرعًا، يعني: يجب أن يصدقوا شرعًا، فمن كذب بالرسل أو كذبهم، فهو كافر، ويجوز أن يكون "مصدقون" له وجه آخر، أي: أن الله تعالى صدقهم، ومعلوم أن الله تعالى صدق الرسل، صدقهم بقوله وبفعله:
أما بقوله: فإن الله قال لرسوله محمد عليه الصلاة والسلام: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ} [النساء: 166] ، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} [المنافقون: 1] ، فهذا تصديق بالقول.
أما تصديقه بالفعل، فبالتمكين له، وإظهار الآيات، فهو يأتي للناس
__________
(1) علقه البخاري/ كتاب الوكالة إذا وكل رجلاً فترك الوكيل شيئاً فأجازه الموكل.(8/111)
بخلاف الذين يقولون عليه ما لا يعلمون. . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يدعوهم إلا الإسلام، فإن لم يقبلوا، فالجزية، فإن لم يقبلوا، استباح دماءهم ونساءهم وأموالهم، والله تعالى يمكن له، ويفتح عليه الأرض أرضًا بعد أرض، وحتى بلغت رسالته مشارق الأرض ومغاربها، فهذا تصديق من الله بالفعل، كذلك أيضًا ما يجريه الله على يديه من الآيات هو تصديق له سواء كانت الآيات شرعية أم كونية، فالشرعية كان دائمًا يسأل عن الشيء وهو لا يعلمه، فينزل الله الجواب: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] (1) ، إذًا هذا تصديق بأنه رسول ولو كان غير رسول ما أجاب الله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ} [البقرة: 217] . فالجواب: {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ} . . إلخ، فهذا تصديق من الله عز وجل.
والآيات الكونية ظاهرة جدا وما أكثر الآيات الكونية التي أيد الله بها رسوله، سواء جاءت لسبب أو لغير سبب، وهذا معروف في السيرة.
ففهمنا من كلمة: "مصدقون": أنهم مصدقون من قبل الله بالآيات الكونية والشرعية، مصدقون من قبل الخلق، أي: يجب أن يصدقوا وإنما حملنا ذلك على التصديق شرعًا، لأن من الناس من صدق ومن الناس من لم يصدق، لكن الواجب التصديق.
فهؤلاء كاذبون أو ضالون، لأنهم قالوا ما لا يعلمون.
وكأن المؤلف يشير إلى أهل التحريف، لأن أهل التحريف قالوا على
__________
(1) لما رواه البخاري/ كتاب التفسير/ باب (ويسألونك عن الروح) .(8/112)
ولهذا قال سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الله ما لا يعلمون من وجهين: قالوا: إنه لم يرد كذا وأراد كذا! فقالوا في السلب والإيجاب لما لا يعلمون.
مثلا: قالوا: لم يرد بالوجه الحقيقي! فهنا قالوا على الله ما لا يعلمون بالسلب، ثم قالوا: والمراد بالوجه الثواب! فقالوا على الله ما لا يعلمون في الإيجاب.
وهؤلاء الذين يقولون على الله ما لا يعلمون لا يكونون صادقين ولا مصدوقين ولا مصدقين بل قامت الأدلة على أنهم كاذبون مكذوبون بما أوحى إليهم الشيطان.
أي: لأجل كمال كلامه وكلام رسله.
سبق معنى التسبيح وهو تنزيه الله عن كل ما لا يليق به.
أضاف الربوبية إلى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهي ربوبية خاصة، من باب إضافة الخالق إلى المخلوق.
من باب إضافة الموصوف إلى الصفة، ومن المعروف أن كل مربوب مخلوق وهنا قال: {رَبِّ الْعِزَّةِ} ، وعزة الله غير مخلوقة، لأنها من صفاته، فنقول: هذه من باب إضافة الموصوف إلى الصفة وعلى هذا، فـ {رَبِّ الْعِزَّةِ} هنا معناها: صاحب العزة، كما يقال: رب الدار، أي: صاحب الدار.
يعني: عما يصفه المشركون، كما سيذكره المؤلف.
أي: على الرسل.
حمد الله نفسه عز وجل بعد أن نزهها، لأن في الحمد كمال(8/113)
فسبح نفسه عما وصفه به المخالفون للرسل، وسلم على المرسلين لسلامة ما قالوه من النقص والعيب. وهو سبحانه قد جمع فيما وصف وسمى به نفسه بين النفي والإثبات. . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الصفات، وفي التسبيح تنزيه عن العيوب، فجمع في الآية بين التنزيه عن العيوب بالتسبيح، وإثبات الكمال بالحمد.
معنى هذه الجملة واضح، وبقي أن يقال: وحمد نفسه لكمال صفاته بالنسبة لنفسه وبالنسبة لرسله، فإنه سبحانه محمود على كمال صفاته وعلى إرسال الرسل، لما في ذلك من رحمة الخلق والإحسان إليهم.
بين المؤلف رحمه الله في هذه الجملة أن الله تعالى جمع فيما وصف وسمى به نفسه بين النفي والإثبات، وذلك لأن تمام الكمال لا يكون إلا بثبوت صفات الكمال وانتفاء ما يضادها من صفات النقص، فأفادنا رحمه الله أن الصفات قسمان:
1 - صفات مثبتة: وتسمى عندهم: الصفات الثبوتية.
2 - وصفات منفية: ويسمونها: الصفات السلبية، من السلب وهو النفي، ولا حرج من أن نسميها سلبية، وإن كان بعض الناس توقف وقال: لا نسميها سلبية، بل نقول: منفية.
فنقول: ما دام السلب في اللغة بمعنى النفي، فالاختلاف في اللفظ ولا يضر.
فصفات الله عز وجل قسمان: ثبوتية وسلبية، أو إن شئت، فقل: مثبتة ومنفية، والمعنى واحد.
فالمثبتة: كل ما أثبته الله لنفسه، وكلها صفات كمال، ليس فيها نقص بوجه من الوجوه، ومن كمالها أنه لا يمكن أن يكون ما أثبته دالا على التمثيل، لأن المماثلة للمخلوق نقص.(8/114)
وإذا فهمنا هذه القاعدة، عرفنا ضلال أهل التحريف، الذين زعموا أن الصفات المثبتة تستلزم التمثيل، ثم أخذوا ينفونها فرارًا من التمثيل.
ومثاله: قالوا: لو أثبتنا لله وجهًا، لزم أن يكون مماثلا لأوجه المخلوقين، وحينئذ يجب تأويل معناه إلى معنى آخر لا إلى الوجه الحقيقي.
فنقول لهم: كل ما أثبت الله لنفسه من الصفات، فهو صفة كمال ولا يمكن أبدًا أن يكون فيما أثبته الله لنفسه من الصفات نقص.
ولكن، إذا قال: هل الصفات توقيفية كالأسماء، أو هي اجتهادية، بمعنى أن يصح لنا أن نصف الله سبحانه وتعالى بشيء لم يصف به نفسه؟ .
فالجواب أن نقول: إن الصفات توقيفية على المشهور عند أهل العلم، كالأسماء، فلا تصف الله إلا بما وصف به نفسه.
وحينئذ نقول: الصفات تنقسم إلى ثلاثة أقسام: صفة كمال مطلق، وصفة كمال بقيد، وصفة نقص مطلق.
أما صفة الكمال على الإطلاق، فهي ثابتة لله عز وجل، كالمتكلم، والفعال لما يريد، والقادر. . ونحو ذلك.
وأما صفة الكمال بقيد، فهذه لا يوصف الله بها على الإطلاق إلا مقيدًا، مثل: المكر، والخداع، والاستهزاء. . وما أشبه ذلك، فهذه الصفات كمال بقيد، إذا كانت في مقابلة من يفعلون ذلك، فهي كمال، وإن ذكرت مطلقة، فلا تصح بالنسبة لله عز وجل، ولهذا لا يصح إطلاق وصفه بالماكر أو المستهزئ أو الخادع، بل تقيد فنقول: ماكر بالماكرين، مستهزئ بالمنافقين، خادع للمنافقين، كائد للكافرين، فتقيدها لأنها لم(8/115)
تأت إلا مقيدة.
وأما صفة النقص على الإطلاق، فهذه لا يوصف الله بها بأي حال من الأحوال، كالعاجز والخائن والأعمى والأصم، لأنها نقص على الإطلاق، فلا يوصف الله بها وانظر إلى الفرق بين خادع وخائن، قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] ، فأثبت خداعه لمن خادعه لكن قال في الخيانة: {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} [الأنفال: 71] ولم يقل: فخانهم، لأن الخيانة خداع في مقام الائتمان، والخداع في مقام الائتمان نقص، وليس فيه مدح أبدًا.
فإذًا، صفات النقص منفية عن الله مطلقًا.
والصفات المأخوذة من الأسماء هي كمال بكل حال ويكون الله عز وجل قد اتصف بمدلولها، فالسمع صفة كمال دل عليها اسمه السميع، فكل صفة دلت عليها الأسماء، فهي صفة كمال مثبتة لله على سبيل الإطلاق، وهذه نجعلها قسمًا منفصلا، لأنه ليس فيها تفصيل، وغيرها تنقسم إلى الأقسام الثلاثة التي سلف ذكرها، ولهذا لم يسم الله نفسه بالمتكلم مع أنه يتكلم، لأن الكلام قد يكون خيرًا، وقد يكون شرًا، وقد لا يكون خيرًا ولا شرًا، فالشر لا ينسب إلى الله، واللغو كذلك لا ينسب إلى الله، لأنه سفه، والخير ينسب إليه، ولهذا لم يسم نفسه بالمتكلم، لأن الأسماء كما وصفها الله عز وجل: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف: 180] ، ليس فيها أي شيء من النقص ولهذا جاءت باسم التفضيل المطلق.
إذا قال قائل: فهمنا الصفات وأقسامها، فما هو الطريق لإثبات الصفة ما دمنا نقول: إن الصفات توقيفية؟(8/116)
فنقول: هناك عدة طرق لإثبات الصفة:
الطريق الأول: دلالة الأسماء عليها، لأن كل اسم، فهو متضمن لصفة ولهذا قلنا فيما سبق: إن كل اسم من أسماء الله دال على ذاته وعلى الصفة التي اشتق منها.
الطريق الثاني: أن ينص على الصفة، مثل الوجه، واليدين، والعينين. . وما أشبه ذلك، فهذه بنص من الله عز وجل، ومثل الانتقام، فقال عنه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [إبراهيم: 47] ، ليس من أسماء الله المنتقم، خلافًا لما يوجد في بعض الكتب التي فيها عد أسماء الله، لأن الانتقام ما جاء إلا على سبيل الوصف أو اسم الفاعل مقيدًا، كقوله: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} [السجدة: 22] .
الطريق الثالث: أن تؤخذ من الفعل، مثل: المتكلم، فنأخذها من: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] .
هذه هي الطرق التي تثبت بها الصفة وبناء على ذلك نقول: الصفات أعم من الأسماء، لأن كل اسم متضمن لصفة، وليس كل صفة متضمنة لاسم.
وأما الصفات المنفية عن الله عز وجل، فكثيرة ولكن الإثبات أكثر، لأن صفات الإثبات كلها صفات كمال، وكلما تعددت وتنوعت، ظهر من كمال الموصوف ما هو أكثر، وصفات النفي قليلة، ولهذا نجد أن صفات النفي تأتي كثيرًا عامة، غير مخصصة بصفة معينة، والمخصص بصفة لا يكون إلا لسبب، مثل تكذيب المدعين بأن الله اتصف بهذه الصفة التي نفاها عن نفسه أو دفع توهم هذه الصفة التي نفاها.(8/117)
فالقسم الأول العامة، كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] ، قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} في علمه وقدرته وسمعه وبصره وعزته وحكمته ورحمته. . . وغير ذلك من صفاته، فلم يفصل، بل قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} في كل كمال.
أما إذا كان مفصلا، فلا تجده إلا لسبب، كقوله: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} [المؤمنون: 91] ، ردًا لقول من قال: إن لله ولدًا وقوله: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص: 3] كذلك، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38] ، لأنه قد يفرض الذهن الذي لا يقدر الله حق قدره أن هذه السماوات العظيمة والأرض العظيمة إذا كان خلقها في ستة أيام، فسيلحقه التعب، فقال: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38] ، أي: من تعب وإعياء.
فتبين بهذا أن النفي لا يرد في صفات الله عز وجل إلا على سبيل العموم أو على سبيل الخصوص لسبب، لأن صفات السلب لا تتضمن الكمال إلا إذا كانت متضمنة لإثبات، ولهذا نقول: الصفات السلبية التي نفاها الله عن نفسه متضمنة لثبوت كمال ضدها، فقوله: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} : متضمن كمال القوة والقدرة وقوله: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49] : متضمن لكمال العدل وقوله: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 85] : متضمن لكمال العلم والإحاطة. . وهلم جرا، فلا بد أن تكون الصفة المنفية متضمنة لثبوت، وذلك الثبوت هو كمال ضد ذلك المنفي وإلا، لم تكن مدحًا.(8/118)
لا يوجد في الصفات المنفية عن الله نفي مجرد لأن النفي المجرد عدم والعدم ليس بشيء، فلا يتضمن مدحًا ولا ثناء، ولأنه قد يكون للعجز عن تلك الصفة فيكون ذمًا، وقد يكون لعدم القابلية، فلا يكون مدحًا ولا ذمًا.
مثال الأول الذي للعجز قول الشاعر:
قبيلة لا يغدرون بذمة ... ولا يظلمون الناس حبة خردل
ومثال الثاني الذي لعدم القابلية: أن تقول: إن جدارنا لا يظلم أحدًا.
والواجب علينا نحو هذه الصفات التي أثبتها الله لنفسه والتي نفاها أن نقول: سمعنا وصدقنا وآمنا.
هذه هي الصفات فيها مثبت وفيها منفي، أما الأسماء فكلها مثبتة.
لكن أسماء الله تعالى المثبتة منها ما يدل على معنى إيجابي، ومنها ما يدل على معنى سلبي، وهذا هو مورد التقسيم في النفي والإثبات بالنسبة لأسماء الله.
فمثال التي مدلولها إيجابي كثير.
ومثال التي مدلولها سلبي: السلام. ومعنى السلام، قال العلماء: معناه: السالم من كل عيب. إذًا، فمدلوله سلبي، بمعنى: ليس فيه نقص ولا عيب، وكذلك القدوس قريب من معنى السلام، لأن معناه المنزه عن كل نقص وعيب.
فصارت عبارة المؤلف سليمة وصحيحة وهو لا يريد بالنسبة للأسماء أن هناك أسماء منفية، لأن الاسم المنفي ليس باسم لله، لكن مراده أن(8/119)
فلا عدول لأهل السنة والجماعة عما جاء به المرسلون. . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مدلولات أسماء الله ثبوتية وسلبية.
العدول: معناه الانصراف والانحراف، فأهل السنة والجماعة لا يمكن أن يعدلوا عما جاءت به الرسل.
وإنما جاء المؤلف بهذا النفي، ليبين أنهم لكمال اتباعهم رضي الله عنهم لا يمكن أن يعدلوا عما جاءت به الرسل، فهم مستمسكون تمامًا، وغير منحرفين إطلاقًا، عما جاءت به الرسل، بل طريقتهم أنهم يقولون: سمعنا وأطعنا في الأحكام وسمعنا وصدقنا في الأخبار.
ما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام والواضح أننا لا نعدل عنه، لأنه خاتم النبيين، وواجب على جميع العباد أن يتبعوه، لكن ما جاء عن غيره، هل لأهل السنة والجماعة عدول عنه؟ لا عدول لهم عنه؛ لأن ما جاء عن الرسل عليهم الصلاة والسلام في باب الإخبار لا يختلف، لأنهم صادقون ولا يمكن أن ينسخ؛ لأنه خبر، فكل ما أخبرت به الرسل عن الله عز وجل، فهو مقبول وصدق ويجب الإيمان به.
مثلا: قال موسى لفرعون لما قال له: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} [طه: 51 - 52] ، فنفى عن الله الجهل والنسيان، فنحن يجب علينا أن نصدق بذلك، لأنه جاء به رسول من الله: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 49 - 50] ، فلو سألنا سائل: من أين علمنا أن الله أعطى كل شيء خلقه؟ فنقول: من كلام موسى، فنؤمن بذلك، ونقول: أعطى كل شيء خلقه اللائق به، فالإنسان على هذا الوجه، والبعير على هذا الوجه، والبقرة على هذا الوجه، والضأن على(8/120)
هذا الوجه، ثم هدى كل مخلوق إلى مصالحه ومنافعه، فكل شيء يعرف مصالحه ومنافعه، فالنملة في أيام الصيف تدخر قوتها في جحورها، ولكن لا تدخر الحب كما هو، بل تقطم رؤوسه، لئلا ينبت، لأنه لو نبت، لفسد عليها، وإذا جاء المطر وابتل هذا الحب الذي وضعته في الجحور، فإنها لا تبقيه يأكله العفن والرائحة، بل تنشره خارج جحرها حتى ييبس من الشمس والريح، ثم تدخله!
لكن يجب التنبيه إلى أن ما نسب للأنبياء السابقين يحتاج فيه إلى صحة النقل، لاحتمال أن يكون كذبًا، كالذي نسب إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأولى. وقوله رحمه الله: "عما جاء به المرسلون" هل يشمل هذا الأحكام أو أن الكلام الآن في باب الصفات، فيختص بالأخبار؟
إن نظرنا إلى عموم اللفظ، قلنا: يشمل الأخبار والأحكام.
وإن نظرنا إلى السياق، قلنا: القرينة تقتضي أن الكلام في باب العقائد وهي من باب الأخبار.
ولكن نقول: إن كان كلام شيخ الإسلام رحمه الله خاصًا بالعقائد، فهو خاص، وليس لنا فيه كلام. وإن كان عامًا، فهو يشمل الأحكام.
والأحكام التي للرسل السابقين اختلف فيها العلماء: هل هي أحكام لنا إذا لم يرد شرعنا بخلافها، أو ليست أحكامًا لنا؟
والصحيح أنها أحكام لنا، وأن ما ثبت عن الأنبياء السابقين من الأحكام، فهو لنا، إلا إذا ورد شرعنا بخلافه، فإذا ورد شرعنا بخلافه، فهو على خلافه، فمثلا: السجود عند التحية جائز في شريعة يوسف ويعقوب وبنيه، لكن في شريعتنا محرم، كذلك الإبل حرام على اليهود:(8/121)
فإنه الصراط المستقيم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} [الأنعام: 146] ولكن هي في شريعتنا حلال.
فإذًا، يمكن أن نحمل كلام شيخ الإسلام رحمه الله على أنه عام في الأخبار والأحكام، وأن نقول: ما كان في شرع الأنبياء من الأحكام، فهو لنا، إلا بدليل.
ولكن يبقى النظر: كيف نعرف أن هذا من شريعة الأنبياء السابقين؟
نقول: لنا في ذلك طريقان: الطريق الأول: الكتاب، والطريق الثاني: السنة. فما حكاه الله في كتابه عن الأمم السابقين فهو ثابت، وما حكاه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما صح عنه، فهو أيضًا ثابت.
والباقي لا نصدق ولا نكذب، إلا إذا ورد شرعنا بتصديق ما نقل أهل الكتاب، فإننا نصدقه، لا لنقلهم، ولكن لما جاء في شريعتنا. وإذا ورد شرعنا بتكذيب أهل الكتاب، فإننا نكذبه، لأن شرعنا كذبه. فالنصارى يزعمون بأن المسيح ابن الله، فنقول: هذا كذب، واليهود يقولون: عزير ابن الله، فنقول: هذا كذب.
(فإنه) : الضمير يعود على ما جاءت به الرسل ويمكن أن يعود على طريق أهل السنة والجماعة وهو الاتباع وعدم العدول عنه، فما جاءت به الرسل وما ذهب إليه أهل السنة والجماعة هو الصراط المستقيم.
(صراط) : على وزن فعال، بمعنى: مصروط، مثل: فراش، بمعنى: مفروش، وغراس، بمعنى: مغروس، فهو بمعنى اسم المفعول. والصراط إنما يقال للطريق الواسع المستقيم مأخوذ من الزرط وهو بلع اللقمة(8/122)
صراط الذين أنعم الله عليهم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بسرعة، لأن الطريق إذا كان واسعًا، لا يكون فيه ضيق يتعثر الناس فيه، فالصراط يقولون في تعريفه: كل طريق واسع ليس فيه صعود ولا نزول ولا اعوجاج.
إذًا، الطريق الذي جاءت به الرسل هو الصراط المستقيم، الذي ليس فيه عوج ولا أمت، طريق مستقيم ليس فيه انحراف يمينًا ولا شمالا: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام: 153] .
وعليه، فيكون المستقيم صفة كاشفة على تفسيرنا الصراط بأنه الطريق الواسع الذي لا اعوجاج فيه، لأن هذا هو المستقيم أو يقال: إنها صفة مقيدة، لأن بعض الصراط قد يكون غير مستقيم كما قال تعالى: {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات: 23 - 24] ، وهذا الصراط غير مستقيم.
"صراط الذين أنعم الله عليهم"، أي طريقهم وأضافه إليهم لأنهم سالكوه، فهم الذين يمشون فيه، كما أضافه الله إلى نفسه أحيانًا: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 52 - 53] ، باعتبار أنه هو الذي شرعه ووضعه لعباده، وأنه موصل إليه، فهو صراط الله باعتبارين وصراط المؤمنين باعتبار واحد، صراط الله باعتبارين هما: أنه وضعه لعباده، وأنه موصل إليه، وصراط المؤمنين، لأنهم هم الذين يسلكونه وحدهم.
وقوله: "الذين أنعم الله عليهم": النعمة: كل فضل وإحسان من الله عز وجل على عباده، فهو نعمة وكل ما بنا من نعمة، فهو من الله، ونعم الله قسمان: عامة وخاصة، والخاصة أيضًا قسمان خاصة، وخاصة أعم.(8/123)
من النبيين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فالعامة: هي التي تكون للمؤمنين وغير المؤمنين ولهذا، لو سألنا سائل: هل لله على الكافر نعمة؟
قلنا: نعم، لكنها نعمة عامة وهي نعمة ما تقوم به الأبدان لا ما تصلح به الأديان، مثل الطعام والشراب والكسوة والمسكن وما أشبه ذلك، فهذه يدخل فيها المؤمن والكافر.
والنعمة الخاصة: ما تصلح به الأديان من الإيمان والعلم والعمل الصالح، فهذه خاصة بالمؤمنين، وهي عامة للنبيين والصديقين، كالشهداء والصالحين.
ولكن نعمة الله على النبيين والرسل نعمة هي أخص النعم، واستمع إلى قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113] ، فهذه النعمة التي هي أخص لا يلحق المؤمنون فيها النبيين، بل هم دونهم.
وقوله: "صراط الذين أنعم الله عليهم": هي كقوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 6 - 7] .
فمن هم الذين أنعم الله عليهم؟
فسرها تعالى بقوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 69] ، فهؤلاء أربعة أصناف.
النبيون: وهم كل من أوحى الله إليهم ونبأهم فهو داخل في هذه(8/124)
والصديقين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الآية: فيشمل الرسل، لأن كل رسول نبي، وليس كل نبي رسولا وعلى هذا فيكون النبيون شاملا للرسل أولي العزم وغيرهم، وشاملا أيضًا للنبيين الذين لم يرسلوا وهؤلاء أعلى أصناف الخلق.
الصديقون: جمع صديق على وزن فعيل صيغة مبالغة.
فمن هو الصديق؟
أحسن ما يفسر به الصديق قوله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر: 33] ، وقال تعالى {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} [الحديد: 19] ، فمن حقق الإيمان - ولا يتم تحقيق الإيمان إلا بالصدق والتصديق - فهو صديق:
الصدق في العقيدة: بالإخلاص، وهذا أصعب ما يكون على المرء حتى قال بعض السلف: ما جاهدت نفسي على شيء مجاهدتها على الإخلاص، فلا بد من الصدق في المقصد - وهو العقيدة - والإخلاص لله عز وجل.
الصدق في المقال: لا يقول إلا ما طابق الواقع، سواء على نفسه أو على غيره، فهو قائم بالقسط على نفسه وعلى غيره، أبيه وأمه وأخيه وأخته. . وغيرهم.
الصدق في الفعال: وهي أن تكون أفعاله مطابقة لما جاء به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن صدق الفعال أن تكون نابعة عن إخلاص، فإن لم تكن نابعة عن إخلاص، لم تكن صادقة لأن فعله يخالف قوله.
فالصديق إذًا من صدق في معتقده وإخلاصه وإرادته، وفي مقاله وفي(8/125)
والشهداء والصالحين. .. . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فعاله.
وأفضل الصديقين على الإطلاق أبو بكر رضي الله عنه، لأن أفضل الأمم هذه الأمة، وأفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر رضي الله عنه.
والصديقية مرتبة تكون للرجال والنساء، قال الله تعالى في عيسى ابن مريم: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} [المائدة: 75] ، ويقال: الصديقة بنت الصديق عائشة رضي الله عنها، والله تعالى يمن على من يشاء من عباده.
الشهداء قيل: هم الذين قتلوا في سبيل الله، لقوله: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} وقيل: العلماء، لقوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران: 18] ، فجعل أهل العلم شاهدين بما شهد الله لنفسه ولأن العلماء يشهدون للرسل بالبلاغ وعلى الأمة بالتبليغ ولو قال قائل: الآية عامة لمن قتلوا في سبيل الله تعالى وللعلماء، لأن اللفظ صالح للوجهين، ولا يتنافيان، فيكون شاملا للذين قتلوا في سبيل الله وللعلماء الذين شهدوا لله بالوحدانية وشهدوا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالبلاغ وشهدوا على الأمة بأنها بلغت.
الصالحون يشمل كل الأنواع الثلاثة السابقة ومن دونهم في المرتبة، فالأنبياء صالحون، والصديقون صالحون، والشهداء صالحون، فعطفها من باب عطف العام على الخاص.
والصالحون هم الذين قاموا بحق الله وحق عباده، لكن لا على المرتبة السابقة - النبوة والصديقية والشهادة -، فهم دونهم في المرتبة.
هذا الصراط الذي جاءت به الرسل هو صراط هؤلاء الأصناف(8/126)
وقد دخل في هذه الجملة ما وصف الله به نفسه في سورة الإخلاص التي تعدل ثلث القرآن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الأربعة، فغيرهم لا يمشون على ما جاءت به الرسل.
قوله: "دخل في هذه الجملة" يحتمل أنه يريد بها قوله: "وهو قد جمع فيما وصف وسمى به نفسه بين النفي والإثبات" ويحتمل أن يريد ما سبق من أن أهل السنة والجماعة يصفون الله تعالى بما وصف به نفسه وما وصفه به رسوله، وأيًا كان، فإن هذه السورة وما بعدها داخلة في ضمن ما سبق، من أن الله تعالى جمع فيما وصف وسمى به نفسه بين النفي والإثبات وأن أهل السنة يؤمنون بذلك.
(السورة) : هي عبارة عن آيات من كتاب الله مسورة، أي منفصلة عما قبلها وعما بعدها، كالبناء الذي أحاط به السور.
إخلاص الشيء، بمعنى: تنقيته، يعني: التي نقيت ولم يشبهها شيء وسميت بذلك، قيل: لأنها تتضمن الإخلاص لله عز وجل، وأن من آمن بها، فهو مخلص فتكون بمعنى مخلصة لقارئها، أي أن الإنسان إذا قرأها مؤمنًا بها، فقد أخلص لله عز وجل وقيل لأنها مخلَصة - بفتح اللام -، لأن الله تعالى أخلصها لنفسه، فلم يذكر فيها شيئًا من الأحكام ولا شيئًا من الأخبار عن غيره، بل هي أخبار خاصة بالله، والوجهان صحيحان ولا منافاة بينهما.
الدليل قول النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه: «أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة؟ ". فشق ذلك عليهم وقالوا: أينا يطيق ذلك يا رسول الله؟ فقال: "الله الواحد الصمد ثلث القرآن» . (1)
__________
(1) رواه البخاري/ كتاب فضائل القرآن/ باب فضل (قل هو الله أحد) . ومسلم/ كتاب صلاة المسافرين/ باب فضل قراءة قل هو الله أحد(8/127)
حيث يقول {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}
. . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فهذه السورة تعدل ثلث القرآن في الجزاء لا في الإجزاء، وذلك كما ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن: «من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، عشر مرات فكأنما أعتق أربع أنفس من بني إسماعيل» (1) ، فهل يجزئ ذلك عن إعتاق أربع رقاب ممن وجب عليه ذلك وقال هذا الذكر عشر مرات؟ فنقول: لا يجزئ. أما في الجزاء، فتعدل هذا، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، فلا يلزم من المعادلة في الجزاء المعادلة في الإجزاء. ولهذا، لو قرأ سورة الإخلاص في الصلاة ثلاث مرات، لم تجزئه عن قراءة الفاتحة.
قال العلماء: ووجه كونها تعدل ثلث القرآن: أن مباحث القرآن خبر عن الله وخبر عن المخلوقات، وأحكام، فهذه ثلاثة:
1 - خبر عن الله: قالوا: إن سورة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تتضمنه.
2 - خبر عن المخلوقات، كالإخبار عن الأمم السابقة، والإخبار عن الحوادث الحاضرة، وعن الحوادث المستقبلة.
3 - والثالث: أحكام، مثل: أقيموا، آتوا، لا تشركوا. . وما أشبه ذلك.
وهذا هو أحسن ما قيل في كونها تعدل ثلث القرآن.
قُلْ: الخطاب لكل من يصح خطابه.
وسبب نزول هذه السورة: أن المشركين قالوا للرسول عليه الصلاة
__________
(1) رواه البخاري/ كتاب الدعوات/ باب فضل التهليل. ومسلم/ كتاب الذكر والدعاء/ باب فضل التهليل.(8/128)
والسلام: صف لنا ربك؟ فأنزل الله هذه السورة (1) ، وقيل: بل اليهود هم الذين زعموا أن الله خُلِق من كذا ومن كذا مما يقولون من المواد، فأنزل الله هذه السورة (2) . سواء صح السبب أم لم يصح، فعلينا إذا سئلنا أي سؤال عن الله نقول: {اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ} .
هُوَ: ضمير وأين مرجعه؟ قيل: إن مرجعه المسؤول عنه، كأنه يقول: الذي سألتم عنه الله وقيل: هو ضمير الشأن واللَّهُ: مبتدأ ثانٍ وأَحَدٌ: خبر المبتدأ الثاني، وعلى الوجه الأول تكون هُوَ: مبتدأ، اللَّهُ خبر المبتدأ، أَحَدٌ: خبر ثان.
اللَّهُ: هو العلم على ذات الله، المختص بالله عز وجل، لا يتسمى به غيره وكل ما يأتي بعده من أسماء الله فهو تابع له إلا نادرًا، ومعنى اللَّهُ: الإله، وإله بمعنى مألوه أي: معبود، لكن حذفت الهمزة تخفيفًا لكثرة الاستعمال، وكما في (الناس) ، وأصلها: الأناس، وكما في: هذا خير من هذا، وأصله: أخير من هذا لكن لكثرة الاستعمال حذفت الهمزة، فالله عز وجل أَحَدٌ.
أَحَدٌ: لا تأتي إلا في النفي غالبًا أو في الإثبات في أيام الأسبوع، يقال: الأحد، الاثنين. . لكن تأتي في الإثبات موصوفًا بها الرب عز وجل لأنه سبحانه وتعالى أحد، أي: متوحد فيما يختص به في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، أَحَدٌ، لا ثاني له ولا نظير له ولا ند له.
__________
(1) رواه أحمد (5/133) ، والواحدي في "أسباب النزول" (262) .
(2) رواه الواحدي في "أسباب النزول" (262) .(8/129)
{اللَّهُ الصَّمَدُ} .....
ـــــــــــــــــــــــــــــ
{اللَّهُ الصَّمَدُ} : هذه جملة مستأنفة بعد أن ذكر الأحدية ذكر الصمدية، وأتى بها بجملة معرفة في طرفيها، لإفادة الحصر، أي: الله وحده الصمد.
فما معنى الصمد؟
قيل: إن الصَّمَدُ: هو الكامل، في علمه، في قدرته، في حكمته، في عزته، في سؤدده، في كل صفاته. وقيل: الصَّمَدُ: الذي لا جوف له، يعني لا أمعاء ولا بطن، ولهذا قيل: الملائكة صمد، لأنهم ليس لهم أجواف، لا يأكلون ولا يشربون. هذا المعنى روي عن ابن عباس رضي الله عنهما (1) ولا ينافي المعنى الأول، لأنه يدل على غناه بنفسه عن جميع خلقه، وقيل: الصَّمَدُ بمعنى المفعول، أي: المصمود إليه، أي الذي تصمد إليه الخلائق في حوائجها، بمعنى: تميل إليه وتنتهي إليه وترفع إليه حوائجها، فهو بمعنى الذي يحتاج إليه كل أحد.
هذه الأقاويل لا ينافي بعضها بعضًا فيما يتعلق بالله عز وجل، ولهذا نقول: إن المعاني كلها ثابتة، لعدم المنافاة فيما بينها.
ونفسره بتفسير جامع فنقول: الصَّمَدُ: هو الكامل في صفاته الذي افتقرت إليه جميع مخلوقاته، فهي صامدة إليه.
وحينئذ يتبين لك المعنى العظيم في كلمة الصَّمَدُ: أنه مستغنٍ عن كل ما سواه، كامل في كل ما يوصف به، وأن جميع ما سواه مفتقر إليه.
فلو قال لك قائل: إن الله استوى على العرش، هل استواؤه على
__________
(1) رواه ابن أبي عاصم في "السنة" (665) .(8/130)
{لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} . . . . . . . . . . . . . . . ...........
ـــــــــــــــــــــــــــــ
العرش بمعنى أنه مفتقر إلى العرش بحيث لو أزيل لسقط؟ فالجواب: لا، كلا، لأن الله صمد كامل غير محتاج إلى العرش، بل العرش والسماوات والكرسي والمخلوقات كلها محتاجة إلى الله، والله في غنى عنها فنأخذه من كلمة (الصَّمَدُ) .
لو قال قائل: هل الله يأكل أو يشرب؟ أقول: كلا، لأن الله صمد.
وبهذا نعرف أن (الصَّمَدُ) كلمة جامعة لجميع صفات الكمال لله وجامعة لجميع صفات النقص في المخلوقات وأنها محتاجة إلى الله عز وجل.
هذا تأكيد للصمدية والوحدانية، وقلنا: توكيد، لأننا نفهم هذا مما سبق فيكون ذكره توكيدًا لمعنى ما سبق وتقريرًا له، فهو لأحديته وصمديته لم يلد، لأن الولد يكون على مثل الوالد في الخلقة، في الصفة وحتى الشبه.
لما جاء مجزز المدلجي إلى زيد بن حارثة وابنه أسامة، وهما ملتحفان برداء، قد بدت أقدامهما، نظر إلى القدمين. فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض (1) . فعرف ذلك بالشبه.
فلكمال أحديته وكمال صمديته {لَمْ يَلِدْ} والوالد محتاج إلى الولد بالخدمة والنفقة ويعينه عند العجز ويبقي نسله.
{وَلَمْ يُولَدْ} ، لأنه لو ولد، لكان مسبوقًا بوالد مع أنه جل وعلا هو الأول الذي ليس قبله شيء، وهو الخالق وما سواه مخلوق، فكيف
__________
(1) رواه البخاري/ كتاب الفرائض/ باب القائف. ومسلم/ كتاب الرضاع/ باب العمل بإلحاق القائف الولد.(8/131)
وما وصف به نفسه في أعظم آية في كتاب الله. . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يولد؟
وإنكار أنه ولد أبلغ في العقول من إنكار أنه والد ولهذا لم يَدَّعِ أحد أن لله ولدًا.
وقد نفى الله هذا وهذا وبدأ ينفي الولد، لأهمية الرد على مدعيه بل قال: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} [المؤمنون: 91] ، حتى ولو بالتسمي، فهو لم يلد ولم يتخذ ولدًا، بنو آدم قد يتخذ الإنسان منهم ولدًا وهو لم يلده بالتبني أو بالولاية أو بغير ذلك، وإن كان التبني غير مشروع، أما الله عز وجل، فلم يلد ولم يولد، ولما كان يرد على الذهن فرض أن يكون الشيء لا والدًا ولا مولودًا لكنه متولد، نفى هذا الوهم الذي قد يرد، فقال: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} ، وإذا انتفى أن يكون له كفوًا أحد، لزم أن لا يكون متولدًا {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} ، أي: لا يكافئه أحد في جميع صفاته.
في هذه السورة: صفات ثبوتية وصفات سلبية:
الصفات الثبوتية: اللَّهُ التي تتضمن الألوهية، أَحَدٌ تتضمن الأحدية الصَّمَدُ تتضمن الصمدية.
والصفات السلبية: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} .
ثلاث إثبات، وثلاث نفي وهذا النفي يتضمن من الإثبات كمال الأحدية والصمدية.
قوله: (وما وصف به نفسه في أعظم آية في كتاب الله) وهذه الآية تسمى آية الكرسي، لأن فيها ذكر الكرسي: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [البقرة: 255] ، وهي أعظم آية في كتاب الله.(8/132)
والدليل على ذلك: «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سأل أبي بن كعب، قال: "أي آية في كتاب الله أعظم؟ " فقال له: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} فضرب على صدره، وقال: "ليهنك العلم أبا المنذر» . (1)
يعني: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقره بأن هذه أعظم آية في كتاب الله، وأن هذا دليل على علم أُبَي في كتاب الله عز وجل.
وفي هذا الحديث دليل على أن القرآن يتفاضل، كما دل عليه أيضا حديث سورة الإخلاص، وهذا موضع يجب فيه التفصيل، فإننا نقول: أما باعتبار المتكلم به فإنه لا يتفاضل، لأن المتكلم به واحد وهو الله عز وجل، وأما باعتبار مدلولاته وموضوعاته فإنه يتفاضل، فسورة الإخلاص التي فيها الثناء على الله عز وجل بما تضمنته من الأسماء والصفات ليست كسورة المسد التي فيها بيان حال أبي لهب من حيث الموضوع كذلك، يتفاضل من حيث التأثير والقوة في الأسلوب، فإن من الآيات ما تجدها آية قصيرة لكن فيها ردع قوي للقلب وموعظة، وتجد آية أخرى أطول منها بكثير لكن لا تشتمل على ما تشتمل عليه الأولى، فمثلا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] . . إلخ، هذه آية موضوعها سهل، والبحث فيها في معاملات تجري بين الناس وليس فيها ذاك التأثير الذي يؤثره مثل قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185] ، فهذه تحمل معاني عظيمة، فيها زجر وموعظة وترغيب وترهيب،
__________
(1) رواه مسلم/ كتاب صلاة المسافرين/ باب فضل سورة الكهف وآية الكرسي.(8/133)
حيث يقول: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ليست كآية الدين مثلا مع أن آية الدين أطول منها.
{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} في هذه الآية يخبر الله بأنه منفرد بالألوهية، وذلك من قوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} ، لأن هذه جملة تفيد الحصر وطريقة النفي والإثبات هذه من أقوى صيغ الحصر.
أي: ذو الحياة الكاملة المتضمنة لجميع صفات الكمال لم تسبق بعدم، ولا يلحقها زوال، ولا يعتريها نقص بوجه من الوجوه.
والْحَيُّ من أسماء الله، وقد تطلق على غير الله، قال تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} [الأنعام: 95] ، ولكن ليس الحي كالحي، ولا يلزم من الاشتراك في الاسم التماثل في المسمى.
{الْقَيُّومُ} على وزن فيعول، وهذه من صيغ المبالغة، وهي مأخوذة من القيام.
ومعنى {الْقَيُّومُ} ، أي: أنه القائم بنفسه، فقيامه بنفسه يستلزم استغناءه عن كل شيء، لا يحتاج إلى أكل ولا شرب ولا غيرها، وغيره لا يقوم بنفسه بل هو محتاج إلى الله عز وجل في إيجاده وإعداده وإمداده.
ومن معنى {الْقَيُّومُ} كذلك أنه قائم على غيره لقوله تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد: 33] ، والمقابل محذوف تقديره: كمن ليس كذلك، والقائم على كل نفس بما كسبت هو الله عز وجل ولهذا يقول العلماء: القيوم هو القائم على نفسه القائم على غيره، وإذا كان قائمًا على غيره، لزم أن يكون غيره قائمًا به، قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} [الروم: 25] ، فهو إذًا كامل الصفات وكامل(8/134)
{لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} .................
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الملك والأفعال.
وهذان الاسمان هما الاسم الأعظم الذي إذا دعي الله به أجاب ولهذا ينبغي للإنسان في دعائه أن يتوسل به، فيقول: يا حي! يا قيوم! وقد ذكرا في الكتاب العزيز في ثلاثة مواضع: هذا أحدها، والثاني في سورة آل عمران: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران: 2] ، والثالث في سورة طه: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه: 111] .
هذان الاسمان فيهما الكمال الذاتي والكمال السلطاني، فالذاتي في قوله: الْحَيُّ والسلطاني في قوله: الْقَيُّومُ، لأنه يقوم على كل شيء ويقوم به كل شيء.
السنة النعاس وهي مقدمة النوم ولم يقل: لا ينام، لأن النوم يكون باختيار، والأخذ يكون بالقهر.
والنوم من صفات النقص، قال النبي عليه الصلاة والسلام:
«إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام» . (1)
وهذه صفة من صفات النفي وقد سبق أن صفات النفي لا بد أن تتضمن ثبوتا وهو كمال الضد، والكمال في قوله: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} كمال الحياة والقيومية لأنه من كمال حياته أن لا يحتاج إلى النوم ومن كمال قيوميته أن لا ينام، لأن النوم إنما يحتاج إليه المخلوقات الحية
__________
(1) رواه مسلم/ كتاب الإيمان/ باب قوله عليه السلام: "إن الله لا ينام........".(8/135)
{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لنقصها، لأنها تحتاج إلى النوم من أجل الاستراحة من تعب سبق واستعادة القوة لعمل مستقبل، ولما كان أهل الجنة كاملي الحياة، كانوا لا ينامون، كما صحت بذلك الآثار.
لكن لو قال قائل: النوم في الإنسان كمال، ولهذا، إذا لم ينم الإنسان، عُد مريضًا. فنقول: كالأكل في الإنسان كمال ولو لم يأكل، عد مريضًا لكن هو كمال من وجه ونقص من وجه آخر، كمال لدلالته على صحة البدن واستقامته، ونقص لأن البدن محتاج إليه، وهو في الحقيقة نقص.
إذًا ليس كل كمال نسبي بالنسبة للمخلوق يكون كمالا للخالق، كما أنه ليس كل كمال في الخالق يكون كمالا في المخلوق، فالتكبر كمال في الخالق نقص في المخلوق والأكل والشرب والنوم كمال في المخلوق نقص في الخالق، ولهذا قال الله تعالى عن نفسه: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} [الأنعام: 14] .
قوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} : لَهُ: خبر مقدم. وَمَا: مبتدأ مؤخر، ففي الجملة حصر، طريقة تقديم ما حقه التأخير وهو الخبر. لَهُ: اللام هذه للملك. ملك تام، بدون معارض. {مَا فِي السَّمَاوَاتِ} : من الملائكة والجنة وغير ذلك مما لا نعلمه، {وَمَا فِي الْأَرْضِ} : من المخلوقات كلها الحيوان منها وغير الحيوان.
وقوله: {السَّمَاوَاتِ} : تفيد أن السماوات عديدة، وهو كذلك وقد نص القرآن على أنها سبع: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [المؤمنون: 86] .(8/136)
{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ}
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والأرضون أشار القرآن إلى أنها سبع بدون تصريح، وصرحت، بها السنة، قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12] ، مثلهن في العدد دون الصفة، وفي السنة قال النبي عليه الصلاة والسلام: «من اقتطع شبرًا من الأرض ظلمًا، طوقه الله به يوم القيامة من سبع أرضين» . (1)
مَنْ ذَا اسم استفهام أو نقول: مَنْ اسم استفهام، وذَا: ملغاة، ولا يصح أن تكون ذَا: اسمًا موصولا في مثل هذا التركيب، لأنه يكون معنى الجملة: من الذي الذي! وهذا لا يستقيم.
الشفاعة في اللغة: جعل الوتر شفعًا، قال تعالى: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر: 3] . وفي الاصطلاح: هي التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة، فمثلا: شفاعة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأهل الموقف أن يقضى بينهم: هذه شفاعة بدفع مضرة، وشفاعته لأهل الجنة أن يدخلوها بجلب منفعة. أي: عند الله.
أي: إذنه له وهذه تفيد إثبات الشفاعة، لكن بشرط أن يأذن، ووجه ذلك أنه لولا ثبوتها، لكان الاستثناء في قوله: {إِلَّا بِإِذْنِهِ} : لغوًا لا فائدة فيه.
وذكرها بعد قوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} . . . يفيد أن هذا الملك الذي هو خاص بالله عز وجل، أنه ملك تام السلطان، بمعنى أنه لا أحد يستطيع أن يتصرف، ولا بالشفاعة التي هي خير، إلا بإذن الله، وهذا من تمام
__________
(1) رواه البخاري/ كتاب المظالم/ باب إثم من ظلم شيئاً من الأرض، ومسلم/ كتاب المساقاة/ باب تحريم الظلم وغصب الأرض.(8/137)
{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ} ..........
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ربوبيته وسلطانه عز وجل.
وتفيد هذه الجملة أن له إذنًا والإذن في الأصل الإعلام، قال الله تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 3] ، أي إعلام من الله ورسوله، فمعنى {بِإِذْنِهِ} ، أي: إعلامه بأنه راضٍ بذلك.
وهناك شروط أخرى للشفاعة: منها: أن يكون راضيًا عن الشافع وعن المشفوع له، قال الله تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] ، وقال: {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه: 109] .
وهناك آية تنتظم الشروط الثلاثة: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26] ، أي: يرضى عن الشافع والمشفوع له، لأن حذف المعمول يدل على العموم.
إذا قال قائل: ما فائدة الشفاعة إذا كان الله تعالى قد علم أن هذا المشفوع له ينجو؟
فالجواب: أن الله سبحانه وتعالى يأذن بالشفاعة لمن يشفع من أجل أن يكرمه وينال المقام المحمود.
العلم هو إدراك الشيء على ما هو عليه إدراكًا جازمًا، والله عز وجل {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} المستقبل، {وَمَا خَلْفَهُمْ} الماضي، وكلمة مَا من صيغ العموم تشمل كل ماضٍ وكل مستقبل، وتشمل أيضًا ما كان من فعله وما كان من أفعال الخلق.
الضمير في {يُحِيطُونَ} يعود على الخلق الذي دل عليهم قوله:(8/138)
{مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} ، يعني لا يحيط من في السماوات والأرض بشيء من علم الله إلا بما شاء.
يحتمل من علم ذاته وصفاته، يعني: أننا لا نعلم شيئًا عن الله وذاته وصفاته إلا بما شاء مما علمنا إياه ويحتمل أن (علم) هنا بمعنى معلوم، يعني: لا يحيطون بشيء من معلومه، أي: مما يعلمه، إلا بما شاءه، وكلا المعنيين صحيح وقد نقول: إن الثاني أعم، لأن معلومه يدخل فيه علمه بذاته وبصفاته وبما سوى ذلك.
يعني إلا بما شاء مما علمهم إياه، وقد علمنا الله تعالى أشياء كثيرة عن أسمائه وصفاته وعن أحكامه الكونية وأحكامه الشرعية، ولكن هذا الكثير هو بالنسبة لمعلومه قليل، كما قال الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85] .
بمعنى شمل، يعني: أن كرسيه محيط بالسماوات والأرض، وأكبر منها، لأنه لولا أنه أكبر ما وسعها.
الكرسي، قال ابن عباس رضي الله عنهما (1) : "إنه موضع
__________
(1) رواه عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب "السنة" (586) ، وابن أبي شيبة في كتاب "العرش" (61) ، وابن خزيمة في "التوحيد" (248) ، والحاكم في "المستدرك" (2/282) وقال: صحيح عن شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، ورواه الدارقطني في كتاب "الصفات" (36) عن ابن عباس موقوفاً عليه، وعزاه الهيثمي في "مجمع الزوائد" (6/323) للطبراني، وقال: رجاله رجال الصحيح، وقال الألباني في "مختصر العلو" (45) : إسناده صحيح، رجاله كلهم ثقات.(8/139)
{وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ} . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قدمي الله عز وجل"، وليس هو العرش، بل العرش أكبر من الكرسي وقد ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام: «أن السماوات السبع والأرضين السبع بالنسبة للكرسي كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض، وأن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على هذه الحلقة» . (1)
هذا يدل على عظم هذه المخلوقات وعظم المخلوق يدل على عظم الخالق.
يعني: لا يثقله ويكرثه حفظ السماوات والأرض.
وهذه من الصفات المنفية، والصفة الثبوتية التي يدل عليها هذا النفي هي كمال القدرة والعلم والقوة والرحمة.
{الْعَلِيُّ} على وزن فعيل، وهي صفة مشبهة، لأن علوه عز وجل لازم لذاته، والفرق بين الصفة المشبهة واسم الفاعل أن اسم الفاعل طارئ حادث يمكن زواله، والصفة المشبهة لازمة لا ينفك عنها الموصوف.
وعلو الله عز وجل قسمان: علو ذات، وعلو صفات:
فأما علو الذات، فإن معناه أنه فوق كل شيء بذاته، ليس فوقه شيء ولا حذاءه شيء.
وأما علو الصفات، فهي ما دل عليه قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [النحل: 60] ، يعني: أن صفاته كلها عليًا، ليس فيها نقص بوجه
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في كتاب "العرش" رقم (58) ، والبيهقي في "الأسماء والصفات" (862) من حديث أبي ذر رضي الله عنه، وابن مردويه كما عند ابن كثير (1/309) والحديث صححه الألباني في السلسة الصحيحة برقم (109) وقال: إنه لا يصح حديث مرفوع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صفة العرش إلا هذا الحديث.(8/140)
{الْعَظِيمُ} . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
من الوجوه.
{الْعَظِيمُ} ، أيضًا صفة مشبهة، ومعناها: ذو العظمة، وهي القوة والكبرياء وما أشبه ذلك مما هو معروف من مدلول هذه الكلمة.
وهذه الآية تتضمن من أسماء الله خمسة وهي: الله، الحي، القيوم، العلي، العظيم.
وتتضمن من صفات الله ستًا وعشرين صفة منها خمس صفات تضمنتها هذه الأسماء.
السادسة: انفراده بالألوهية.
السابعة: انتفاء السنة والنوم في حقه، لكمال حياته وقيوميته.
الثامنة: عموم ملكه، لقوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} .
التاسعة: انفراد الله عز وجل بالملك، ونأخذه من تقديم الخبر.
العاشرة: قوة السلطان وكماله، لقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} .
الحادية عشرة: إثبات العندية، وهذا يدل على أنه ليس في كل مكان، ففيه الرد على الحلولية.
الثانية عشرة: إثبات الإذن من قوله: {إِلَّا بِإِذْنِهِ} .
الثالثة عشرة: عموم علم الله تعالى لقوله: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} .
الرابعة عشرة والخامسة عشرة: أنه سبحانه وتعالى لا ينسى ما مضى، لقوله: {وَمَا خَلْفَهُمْ} ولا يجهل ما يستقبل، لقوله: {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} .(8/141)
السادسة عشرة: كمال عظمة الله، لعجز الخلق عن الإحاطة به.
السابعة عشرة: إثبات المشيئة، لقوله: {إِلَّا بِمَا شَاءَ} .
الثامنة عشرة: إثبات الكرسي، وهو موضع القدمين.
التاسعة عشرة والعشرون والحادية والعشرون: إثبات العظمة والقوة والقدرة، لقوله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} ، لأن عظمة المخلوق تدل على عظمة الخالق.
الثانية والثالثة والرابعة والعشرون: كمال علمه ورحمته وحفظه، من قوله: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} .
الخامسة والعشرون: إثبات علو الله لقوله: {وَهُوَ الْعَلِيُّ} ومذهب أهل السنة والجماعة أن الله سبحانه وتعالى عالٍ بذاته، وأن علوه من الصفات الذاتية الأزلية الأبدية.
وخالف أهل السنة في ذلك طائفتان: طائفة قالوا: إن الله بذاته في كل مكان وطائفة قالوا: إن الله ليس فوق العالم ولا تحت العالم ولا في العالم ولا يمين ولا شمال ولا منفصل عن العالم ولا متصل.
والذين قالوا بأنه في كل مكان استدلوا بقول الله تعالى: {وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة: 7] ، واستدلوا بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4] ، وعلى(8/142)
هذا، فليس عاليًا بذاته، بل العلو عندهم علو صفة.
أما الذين قالوا: إنه لا يوصف بجهة، فقالوا: لأننا لو وصفناه بذلك، لكان جسمًا، والأجسام متماثلة، وهذا يستلزم التمثيل وعلى هذا، فننكر أن يكون في أي جهة.
ولكننا نرد على هؤلاء وهؤلاء من وجهين:
الوجه الأول: إبطال احتجاجهم.
والثاني: إثبات نقيض قولهم بالأدلة القاطعة.
1 - أما الأول، فنقول لمن زعموا أن الله بذاته في كل مكان: دعواكم هذه دعوى باطلة يردها السمع والعقل:
- أما السمع، فإن الله تعالى أثبت لنفسه أنه العلي والآية التي استدللتم بها لا تدل على ذلك، لأن المعية لا تستلزم الحلول في المكان، ألا ترى إلى قول العرب: القمر معنا، ومحله في السماء؟ ويقول الرجل: زوجتي معي، وهو في المشرق وهي في المغرب؟ ويقول الضابط للجنود: اذهبوا إلى المعركة وأنا معكم، وهو في غرفة القيادة وهم في ساحة القتال؟ فلا يلزم من المعية أن يكون الصاحب في مكان المصاحب أبدًا، والمعية يتحدد معناها بحسب ما تضاف إليه، فنقول أحيانًا: هذا لبن معه ماء وهذه المعية اقتضت الاختلاط. ويقول الرجل متاعي معي، وهو في بيته غير متصل به، ويقول: إذا حمل متاعه معه: متاعي معي وهو متصل به. فهذه كلمة واحدة لكن يختلف معناها بحسب الإضافة، فبهذا نقول: معية الله عز وجل لخلقه تليق بجلاله سبحانه وتعالى، كسائر صفاته، فهي معية تامة حقيقية، لكن هو في السماء.(8/143)
- وأما الدليل العقلي على بطلان قولهم، فنقول: إذا قلت: إن الله معك في كل مكان، فهذا يلزم عليه لوازم باطلة، فيلزم عليه:
أولا: إما التعدد أو التجزؤ، وهذا لازم باطل بلا شك، وبطلان اللازم يدل على بطلان اللزوم.
ثانيًا: نقول: إذا قلت: إنه معك في الأمكنه، لزم أن يزداد بزيادة الناس، وينقص بنقص الناس.
ثالثًا: يلزم على ذلك ألا تنزهه عن المواضع القذرة، فإذا قلت: إن الله معك وأنت في الخلاء فيكون هذا أعظم قدح في الله عز وجل.
فتبين بهذا أن قولهم منافٍ للسمع ومنافٍ للعقل، وأن القرآن لا يدل عليه بأي وجه من الدلالات، لا دلالة مطابقة ولا تضمن ولا التزام أبدًا.
2 - أما الآخرون، فنقول لهم:
أولا: إن نفيكم للجهة يستلزم نفي الرب عز وجل، إذ لا نعلم شيئًا لا يكون فوق العالم ولا تحته ولا يمين ولا شمال، ولا متصل ولا منفصل، إلا العدم، ولهذا قال بعض العلماء: لو قيل لنا صفوا الله بالعدم ما وجدنا أصدق وصفًا للعدم من هذا الوصف.
ثانيًا: قولكم: إثبات الجهة يستلزم التجسيم! نحن نناقشكم في كلمة الجسم:
ما هذا الجسم الذي تنفرون الناس عن إثبات صفات الله من أجله؟!
أتريدون بالجسم الشيء المكون من أشياء مفتقر بعضها إلى بعض لا يمكن أن يقوم إلا باجتماع هذه الأجزاء؟! فإن أردتم هذا، فنحن لا نقره، ونقول: إن الله ليس بجسم بهذا المعنى، ومن قال: إن إثبات علوه يستلزم(8/144)
هذا الجسم، فقوله مجرد دعوى ويكفينا أن نقول: لا قبول.
أما إن أردتم بالجسم الذات القائمة بنفسها المتصفة بما يليق بها، فنحن نثبت ذلك، ونقول: إن لله تعالى ذاتًا، وهو قائم بنفسه، متصف بصفات الكمال، وهذا هو الذي يعلم به كل إنسان.
وبهذا يتبين بطلان قول هؤلاء الذين أثبتوا أن الله بذاته في كل مكان، أو أن الله تعالى ليس فوق العالم ولا تحته ولا متصل ولا منفصل ونقول: هو على عرشه استوى عز وجل.
أما أدلة العلو التي يثبت بها نقيض قول هؤلاء وهؤلاء، والتي تثبت ما قاله أهل السنة والجماعة، فهي أدلة كثيرة لا تحصر أفرادها، وأما أنواعها، فهي خمسة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل، والفطرة.
- أما الكتاب، فتنوعت أدلته على علو الله عز وجل منها التصريح بالعلو والفوقية وصعود الأشياء إليه ونزولها منه وما أشبه ذلك.
- أما السنة، فكذلك، فتنوعت دلالتها، واتفقت السنة بأصنافها الثلاثة على علو الله بذاته، فقد ثبت علو الله بذاته في السنة من قول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفعله وإقراره.
- أما الإجماع، فقد أجمع المسلمون قبل ظهور هذه الطوائف المبتدعة على أن الله تعالى مستوٍ على عرشه فوق خلقه.
قال شيخ الإسلام: "ليس في كلام الله ولا رسوله، ولا كلام الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ما يدل لا نصًا ولا ظاهرًا على أن الله تعالى ليس فوق العرش وليس في السماء، بل كل كلامهم متفق على أن الله فوق كل شيء".(8/145)
ولهذا كان من قرأ هذه الآية في ليلة، لم يزل عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح، وقوله سبحانه. . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وأما العقل، فإننا نقول: كلٌ يعلم أن العلو صفة كمال، وإذا كان صفة كمال، فإنه يجب أن يكون ثابتًا لله، لأن الله متصف بصفات الكمال، ولذلك نقول: إما أن يكون الله في أعلى أو في أسفل أو في المحاذي، فالأسفل والمحاذي ممتنع، لأن الأسفل نقص في معناه، والمحاذي نقص لمشابهة المخلوق ومماثلته، فلم يبق إلا العلو، وهذا وجه آخر في الدليل العقلي.
- وأما الفطرة، فإننا نقول: ما من إنسان يقول: يا رب! إلا وجد في قلبه ضرورة بطلب العلو.
فتطابقت الأدلة الخمسة.
وأما علو الصفات، فهو محل إجماع من كل من يدين أو يتسمى بالإسلام.
السادسة والعشرون: إثبات العظمة لله عز وجل، لقوله: {الْعَظِيمُ} .
هذا طرف من حديث رواه البخاري «عن أبي هريرة رضي الله عنه في قصة استحفاظ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إياه على الصدقة، وأخذ الشيطان منها وقوله لأبي هريرة: إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح فأخبر أبو هريرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك، فقال: "إنه صدقك، وهو كذوب» .
هذا معطوف على (سورة) في قول المؤلف: "ما وصف به نفسه(8/146)
{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في سورة الإخلاص".
{الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} : هذه أربعة أسماء كلها متقابلة في الزمان والمكان، تفيد إحاطة الله سبحانه وتعالى بكل شيء أولا وآخرًا وكذلك في المكان ففيه الإحاطة الزمانية والإحاطة المكانية.
الْأَوَّلُ: فسره النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: «الذي ليس قبله شيء» . (1)
وهنا فسر الإثبات بالنفي فجعل هذه الصفة الثبوتية صفة سلبية، وقد ذكرنا فيما سبق أن الصفات الثبوتية أكمل وأكثر، فلماذا؟
فنقول: فسرها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك، لتوكيد الأولية، يعني أنها مطلقة، أولية ليست أولية إضافية، فيقال: هذا أول باعتبار ما بعده وفيه شيء آخر قبله، فصار تفسيرها بأمر سلبي أدل على العموم باعتبار التقدم الزمني.
وَالْآخِرُ: فسره النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: «الذي ليس بعده شيء» ، ولا يتوهم أن هذا يدل على غاية لآخريته، لأن هناك أشياء أبدية وهي من المخلوقات، كالجنة والنار، وعليه فيكون معنى الْآخِرُ أنه محيط بكل شيء، فلا نهاية لآخريته.
وَالظَّاهِرُ: من الظهور وهو العلو، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33] ، أي: ليعليه، ومنه ظهر الدابة لأنه عالٍ عليها، ومنه قوله تعالى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} [الكهف: 97] ، أي يعلوا عليه، وقال النبي عليه
__________
(1) رواه مسلم/ كتاب الذكر والدعاء/ باب ما يقوم عند النوم.(8/147)
الصلاة والسلام في تفسيرها: «الذي ليس فوقه شيء» ، فهو عالٍ على كل شيء.
وَالْبَاطِنُ: فسره النبي عليه الصلاة والسلام قال: «الذي ليس دونه شيء» وهذا كناية عن إحاطته بكل شيء، ولكن المعنى أنه مع علوه عز وجل، فهو باطن، فعلوه لا ينافي قربه عز وجل، فالباطن قريب من معنى القريب.
تأمل هذه الأسماء الأربعة، تجد أنها متقابلة، وكلها خبر عن مبتدأ واحد لكن بواسطة حرف العطف، والأخبار بواسطة حرف العطف أقوى من الأخبار بدون واسطة حرف العطف، فمثلا: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج: 14 - 16] : هي أخبار متعددة بدون حرف العطف لكن أحيانًا تأتي أسماء الله وصفاته مقترنة بواو العطف وفائدتها:
أولا: توكيد السابق، لأنك إذا عطفت عليه، جعلته أصلا، والأصل ثابت.
ثانيًا: إفادة الجمع ولا يستلزم ذلك تعدد الموصوف، أرأيت قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى: 1 - 3] فالأعلى الذي خلق فسوى هو الذي قدر فهدى.
فإذا قلت: المعروف أن العطف يقتضي المغايرة.
فالجواب: نعم، لكن المغايرة تارة تكون بالأعيان، وتارة تكون بالأوصاف، وهذا تغاير أوصاف، على أن التغاير قد يكون لفظيًا غير معنوي مثل قول الشاعر:(8/148)
{وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَأَلْغَى قَوْلَهَا كَذِبًا وَمَيْنا
فالمين هو الكذب ومع ذلك عطفه عليه، لتغاير اللفظ والمعنى واحد، فالتغاير إما عيني أو معنوي أو لفظي وفلو قلت: جاء زيد وعمرو وبكر وخالد، فالتغاير عيني، لو قلت: جاء زيد الكريم والشجاع والعالم، فالتغاير معنوي، ولو قلت: هذا الحديث كذب مين، فالتغاير لفظي.
واستفدنا من هذه الآية الكريمة إثبات أربعة أسماء لله، وهي الأول والآخر والظاهر والباطن.
واستفدنا منها خمس صفات: الأولية، والآخرية، والظاهرية، والباطنية وعموم العلم.
واستفدنا من مجموع الأسماء: إحاطة الله تعالى بكل شيء زمنًا ومكانًا، لأنه قد يحصل من اجتماع الأوصاف زيادة صفة.
فإذا قال قائل: هل هذه الأسماء متلازمة، بمعنى أنك إذا قلت: الأول، فلا بد أن تقول: الآخر، أو: يجوز فصل بعضها عن بعض؟!
فالظاهر أن المتقابل منها متلازم، فإذا قلت: الأول، فقل: الآخر، وإذا قلت: الظاهر، فقل: الباطن، لئلا تفوت صفة المقابلة الدالة على الإحاطة.
هذا إكمال لما سبق من الصفات الأربع، يعني: ومع ذلك، فهو بكل شيء عليم.
وهذه من صيغ العموم التي لم يدخلها تخصيص أبدًا، وهذا العموم يشمل أفعاله وأفعال العباد الكليات والجزئيات، يعلم ما يقع وما سيقع ويشمل الواجب والممكن والمستحيل، فعلم الله تعالى واسع شامل محيط(8/149)
وقوله سبحانه: {وَتَوَكَّلْ} . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لا يستثنى منه شيء، فأما علمه بالواجب، فكعلمه بنفسه وبما له من الصفات الكاملة، وأما علمه بالمستحيل، فمثل قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] ، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج: 73] ، وأما علمه بالممكن، فكل ما أخبر الله به عن المخلوقات، فهو من الممكن: {يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [النحل: 19] .
إذًا، فعلم الله تعالى محيط بكل شيء.
والثمرة التي ينتجها الإيمان بأن الله بكل شيء عليم: كمال مراقبة الله عز وجل وخشيته، بحيث لا يفقده حيث أمره، ولا يراه حيث نهاه.
التوكل: مأخوذ من وكل الشيء إلى غيره، أي: فوضه إليه، فالتوكل على الغير، بمعنى: التفويض إليه.
وعرف بعض العلماء التوكل على الله بأنه: صدق الاعتماد على الله في جلب المنافع ودفع المضار، مع الثقة به سبحانه وتعالى، وفعل الأسباب الصحيحة.
وصدق الاعتماد: أن تعتمد على الله اعتمادًا صادقًا، بحيث لا تسأل إلا الله، ولا تستعين إلا بالله، ولا ترجو إلا الله، ولا تخاف إلا الله، تعتمد على الله عز وجل بجلب المنافع ودفع المضار، ولا يكفي هذا الاعتماد دون الثقة به وفعل السبب الذي أذن به، بحيث إنك واثق بدون تردد مع فعل السبب الذي أذن فيه.
فمن لم يعتمد على الله واعتمد على قوته، فإنه يخذل، ودليل ذلك ما وقع للصحابة مع نبيهم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة حنين، حين قال الله عز وجل: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} ،(8/150)
حيث قالوا: لن نغلب اليوم من قلة، {فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة: 25 - 26] .
ومن توكل على الله، ولكن لم يفعل السبب الذي أذن الله فيه، فهو غير صادق، بل إن عدم فعل الأسباب سفه في العقل ونقص في الدين، لأنه طعن واضح في حكمة الله.
والتوكل على الله هو شطر الدين، كما قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] ، والاستعانة بالله تعالى هي ثمرة التوكل، {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123] .
ولهذا، فإن من توكل على غير الله لا يخلو من ثلاثة أقسام:
أولا: أن يتوكل توكل اعتماد وتعبد، فهذا شرك أكبر، كأن يعتقد بأن هذا المتوكل عليه هو الذي يجلب له كل خير ويدفع عنه كل شر، فيفوض أمره إليه تفويضًا كاملا في جلب المنافع ودفع المضار، مع اقتران ذلك بالخشية والرجاء، ولا فرق بين أن يكون المتوكل عليه حيًا أو ميتًا، لأن هذا التفويض لا يصح إلا لله.
ثانيًا: أن يتوكل على غير الله بشيء من الاعتماد لكن فيه إيمان بأنه سبب وأن الأمر إلى الله، كتوكل كثير من الناس على الملوك والأمراء في تحصيل معاشهم، فهذا نوع من الشرك الأصغر.
ثالثًا: أن يتوكل على شخص على أنه نائب عنه، وأن هذا المتوكل فوقه، كتوكل الإنسان على الوكيل في بيع وشراء ونحوهما مما تدخله النيابة، فهذا جائز، ولا ينافي التوكل على الله، وقد وكل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(8/151)
{عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} وقوله: {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أصحابه في البيع والشراء ونحوهما.
قوله: {عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} : يقولون: إن الحكم إذا علق بوصف، دل عليه ذلك الوصف.
لو قال قائل: لماذا لم تكن الآية: وتوكل على القوي العزيز، لأن القوة والعزة أنسب فيما يبدو؟!
فالجواب: أنه لما كانت الأصنام التي يعتمد عليها هؤلاء بمنزلة الأموات: كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل: 20 - 21] ، فقال توكل على من ليس صفته كصفة هذه الأصنام وهو الحي الذي لا يموت، على أنه قال في آية أخرى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} [الشعراء: 217] ، لأن العزة أنسب في هذا السياق.
ووجه آخر: أن الحي اسم يتضمن جميع الصفات الكاملة في الحياة، ومن كمال حياته عز وجل أنه أهل لأن يعتمد عليه.
وقوله: {لَا يَمُوتُ} ، يعني لكمال حياته لا يموت فيكون تعلقها بما قبلها المقصود به إفادة أن هذه الحياة كاملة لا يلحقها فناء.
في هذه الآية من أسماء الله: الحي، وفيها من صفاته: الحياة، وانتفاء الموت المتضمن لكمال الحياة، ففيها صفتان واسم.
سبق تعريف العلم، وسبق أن العلم صفة كمال وسبق أن علم الله محيط بكل شيء.
الْحَكِيمُ هذه المادة (ح ك م) : تدل على حكم وإحكام،(8/152)
فعلى الأول يكون الحكيم بمعنى الحاكم، وعلى الثاني يكون الحكيم بمعنى المحكم، إذًا: يدل هذا الاسم الكريم على أن الحكم لله، ويدل على أن الله موصوف بالحكمة، لأن الإحكام هو الإتقان، والإتقان وضع الشيء في موضعه. ففي الآية إثبات حكم وإثبات حكمة:
فالله عز وجل وحده هو الحاكم، وحكم الله إما كوني وإما شرعي:
فحكم الله الشرعي ما جاءت به رسله ونزلت به كتبه من شرائع الدين.
وحكم الله الكوني: ما قضاه على عباده من الخلق والرزق والحياة والموت ونحو ذلك من معاني ربوبيته ومتقتضياتها.
دليل الحكم الشرعي: قوله تعالى في سورة الممتحنة: {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} [الممتحنة: 10] .
ودليل الحكم الكوني: قوله تعالى عن أحد أخوة يوسف: {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يوسف: 80] .
وأما قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} ، فشامل للكوني والشرعي، فالله عز وجل حكيم بالحكم الكوني وبالحكم الشرعي، وهو أيضًا محكم لهما، فكل من الحكمين موافق للحكمة.
لكن من الحكمة ما نعلمه، ومن الحكمة ما لا نعلمه، لأن الله تعالى يقول: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} .
ثم الحكمة نوعان:
الأول: حكمة في كون الشيء على كيفيته وحاله التي هو عليها،(8/153)
وقوله: (وهو العليم الخبير) . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كحال الصلاة، فهي عبادة كبيرة تسبق بطهارة من الحدث والخبث وتؤدى على هيئة معينة من قيام وقعود وركوع وسجود، وكالزكاة، فهي عبادة لله تعالى بأداء جزء من المال النامي غالبًا لمن هم في حاجة إليها، أو في المسلمين حاجة إليهم كبعض المؤلفة قلوبهم.
والنوع الثاني: حكمة في الغاية من الحكم، حيث إن جميع أحكام الله تعالى لها غايات حميدة وثمرات جليلة.
فانظر إلى حكمة الله في حكمه الكوني، حيث يصيب الناس بالمصائب العظيمة لغايات حميدة، كقوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41] ، ففيها رد لقول من يقول: إن أحكام الله تعالى ليست لحكمة، بل هي لمجرد مشيئته.
وفي هذه الآية من أسماء الله: العليم، والحكيم. ومن صفاته: العلم والحكمة.
وفيها من الفوائد المسلكية: أن الإيمان بعلم الله وحكمته يستلزم الطمأنينة التامة لما حكم به من أحكام كونية وشرعية، لصدور ذلك عن علم وحكمة، فيزول عنه القلق النفسي وينشرح صدره.
العليم: سبق الكلام فيه.
الخبير: هو العليم ببواطن الأمور فيكون هذا وصفًا أخص بعد وصف أعم، فنقول: العليم بظواهر الأمور، والخبير ببواطن الأمور، فيكون العلم بالبواطن مذكورًا مرتين: مرة بطريق العموم، ومرة بطريق الخصوص، لئلا يظن أن علمه مختص بالظواهر.(8/154)
{يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} [سبأ: 2] .
{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59] .
وقوله: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} [فاطر: 11] .
وقوله: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12] "
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وكما يكون هذا في المعاني يكون في الأعيان، فمثلا: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} [القدر: 4] : الروح جبريل، وهو من الملائكة فنقول: الملائكة ومنهم جبريل، وخص جبريل بالذكر تشريفًا له ويكون النص عليه مرتين: مرة بالعموم، ومرة بالخصوص.
وفي هذه الآية من أسماء الله تعالى: العليم، والخبير ومن صفاته: العلم، والخبرة.
وفيها من الفوائد المسلكية: أن الإيمان بذلك يزيد المرء خوفًا من الله وخشية، سرًا وعلنًا.
هذه الآيات في تفصيل صفة العلم:
الآية الأولى: قوله: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} [سبأ: 2] :
هذه تفصيل لما سبق من عموم علمه تعالى.
مَا: اسم موصول يفيد العموم، كل ما يلج في الأرض مثل المطر(8/155)
والحب يبذر في الأرض والموتى والدود والنمل وغيره وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا، كالماء والزروع. . وما أشبه ذلك {وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ} ، مثل المطر والوحي والملائكة وأمر الله عز وجل، {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} ، كالأعمال الصالحة والملائكة والأرواح والدعاء.
وهنا قال {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} ، فعدى الفعل بـ (في) وفي سورة المعارج قال: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4] ، فعداه بـ (إلى) ، وهذا هو الأصل، فما وجه كونه عدى بـ (في) في قوله: {يَعْرُجُ فِيهَا} ؟
فالجواب: اختلف نحاة البصرة والكوفة في مثل هذا، فقال نحاة البصرة: إن الفعل يضمن معنى يتلائم مع الحرف، وقال نحاة الكوفة: بل الحرف يضمن معنى يتلائم مع الفعل.
فعلى الرأي الأول: يكون قوله: {يَعْرُجُ فِيهَا} : مضمنًا معنى (يدخل) ، فيصير المعنى: وما يعرج فيدخل فيها، وعليه يكون في الآية دلالة على أمرين: على عروج ودخول.
أما على الرأي الثاني، فنقول: (في) بمعنى (إلى) ويكون هذا من باب التناوب بين الحروف.
لكن على هذا القول لا تجد أن في الآية معنى جديدًا وليس فيها إلا اختلاف لفظ (إلى) لفظ (في) ولهذا كان القول الأول أصح وهو أن تضمن الفعل معنى يتناسب مع الحرف.
ولهذا نظير في اللغة العربية، قال الله تعالى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان: 6] ، والعين يشرب منها والذي يشرب به الإناء، فعلى رأي أهل الكوفة نقول: {يَشْرَبُ بِهَا} الباء بمعنى(8/156)
(من) ، أي: منها، وعلى رأي أهل البصرة يضمن الفعل {يَشْرَبُ} معنى يتلائم مع حرف الباء والذي يتلائم معها يروى ومعلوم أنه لا ري إلا بعد شرب، فيكون هذا الفعل ضمن معنى غايته وهو الري.
وكذلك نقول في {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} : لا دخول في السماء إلا بعد العروج إليها، فيكون الفعل ضمن معنى الغاية.
ففي الآية ذكر الله عز وجل عموم علمه في كل شيء بنوع من التفصيل، ثم فصل في آية أخرى تفصيلا آخر:
الآية الثانية: قوله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59] .
عِنْدَهُ: أي: عند الله وهو خبر مقدم {مَفَاتِحُ} مبتدأ مؤخر.
ويفيد هذا التركيب الحصر والاختصاص، عنده لا عند غيره مفاتح الغيب وأكد هذا الحصر بقوله: {لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} ، ففي الجملة حصر بأن علم هذه المفاتح عند الله بطريقتين: إحداهما: بطريقة التقديم والتأخير والثانية: طريقة النفي والإثبات.
كلمة مَفَاتِحُ، قيل: إنها جمع مِفْتَح، بكسر الميم وفتح التاء: المفتاح، أو إنها جمع مفتاح لكن حذفت منها الياء وهو قليل، ونحن نعرف أن المفتاح ما يفتح به الباب، وقيل: جمع مَفْتِح، بفتح الميم وكسر التاء وهي الخزائن، فـ {مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} خزائنه، وقيل: {مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} ، أي: مبادئه، لأن مفتح كل شيء يكون في أوله، فيكون على هذا: {مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} ، أي: مبادئ الغيب، فإن هذه المذكورات مبادئ لما بعدها.(8/157)
الْغَيْبِ: مصدر غاب يغيب غيبًا، والمراد بالغيب: ما كان غائبًا والغيب أمر نسبي، لكن الغيب المطلق علمه خاص بالله.
هذه المفاتح سواء قلنا إن المفاتح: هي المبادئ، أو: هي الخزائن، أو: المفاتيح، لا يعلمها إلا الله عز وجل، فلا يعلمها ملك، ولا يعلمها رسول، حتى إن أشرف الرسل الملكي وهو جبريل - سأل أشرف الرسل البشري - وهو محمد عليه الصلاة والسلام - قال: أخبرني عن الساعة؟ قال: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل» ، والمعنى: كما أنه لا علم لك بها، فلا علم لي بها أيضًا. فمن ادعى علم الساعة، فهو كاذب كافر، ومن صدقه، فهو أيضًا كافر، لأنه مكذب للقرآن.
وهذه المفاتح؟ فَسَّرَهَا أَعْلَمُ الْخَلْقِ بِكَلامِ اللَّهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين قرأ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34] (1) ، فهي خمسة أمور:
الأول علم الساعة: فعلم الساعة مبدأ مفتاح لحياة الآخرة، وسميت الساعة بهذا، لأنها ساعة عظيمة، يهدد بها جميع الناس، وهي الحاقة والواقعة، والساعة علمها عند الله لا يدري أحد متى تقوم إلا الله عز وجل.
الثاني: تنزيل الغيث: لقوله: {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} : الْغَيْثَ: مصدر ومعناه: إزالة الشدة والمراد به المطر، لأنه بالمطر تزول شدة القحط والجدب وإذا كان هو الذي ينزل الغيث، كان هو الذي يعلم وقت نزوله.
__________
(1) رواه البخاري/ كتاب التفسير/ باب قوله تعالى "إن الله عنده علم الساعة".(8/158)
والمطر نزوله مفتاح لحياة الأرض بالنبات، وبحياة النبات يكون الخير في المرعى وجميع ما يتعلق بمصالح العباد.
وهنا نقطة: قال: {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} ، ولم يقل: وينزل المطر، لأن المطر أحيانًا ينزل ولا يكون فيه نبات، فلا يكون غيثًا، ولا تحيا به الأرض، ولهذا ثبت في "صحيح مسلم ": «لَيْسَتِ السَّنَةُ أَلا تُمْطَرُوا، إِنَّمَا السَّنَةُ أَنْ تُمْطَرُوا وَلا تُنْبِتُ الأَرْضُ شَيْئًا» (1) ، والسنة القحط.
الثالث: علم ما في الأرحام: لقوله: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} ، أي: أرحام الإناث، فهو عز وجل يعلم ما في الأرحام، أي: ما في بطون الأمهات من بني آدم وغيرهم، ومتعلق العلم عام بكل شيء، فلا يعلم ما في الأرحام إلا مَن خَلَقَهَا عز وجل.
فإن قلت: يقال الآن: إنهم صاروا يعلمون الذكر من الأنثى في الرحم، فهل هذا صحيح؟
نقول: إن هذا الأمر وقع ولا يمكن إنكاره، لكنهم لا يعلمون ذلك إلا بعد تكوين الجنين وظهور ذكورته أو أنوثته، وللجنين أحوال أخرى لا يعلمونها، فلا يعلمون متى ينزل، ولا يعلمون إذا نزل إلى متى يبقى حيًا ولا يعلمون هل يكون شقيًا أو سعيدًا، ولا يعلمون هل يكون غنيًا أم فقيرًا. . . إلى غير ذلك من أحواله المجهولة.
إذًا أكثر متعلقات العلم فيما يتعلق بالأجنة مجهول للخلق، فصدق العموم في قوله: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} .
الرابع: علم ما في الغد: وهو ما بعد يومك: لقوله: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا}
__________
(1) رواه مسلم/ كتاب الفتن/ باب في سكنى المدينة.(8/159)
وهذا مفتاح الكسب في المستقبل، وإذا كان الإنسان لا يعلم ما يكسب لنفسه، فعدم علمه بما يكسبه غيره أولى.
لكن لو قال قائل: أنا أعلم ما في الغد، سأذهب إلى المكان الفلاني، أو أقرأ، أو أزور أقاربي فنقول: قد يجزم بأنه سيعمل ولكن يحول بينه وبين العمل مانع.
الخامس: علم مكان الموت: لقوله: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} ، ما يدري أي أحد هل يموت في أرضه أو في أرض أخرى؟ في أرض إسلامية أو أرض كافر أهلها؟ ولا يدري هل يموت في البر أو في البحر أو في الجو؟ وهذا شيء مشاهد.
ولا يدري بأي ساعة يموت، لأنه إذا كان لا يمكنه أن يدري بأي أرض يموت وهو قد يتحكم في المكان، فكذلك لا يدري بأي زمن وساعة يموت.
فهذه الخمسة هي مفاتح الغيب التي لا يعلمها إلا الله وسميت مفاتح الغيب، لأن علم ما في الأرحام مفتاح للحياة الدنيا، {مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} مفتاح للعمل المستقبل {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} مفتاح لحياة الآخرة، لأن الإنسان إذا مات، دخل عالم الآخرة، وسبق بيان علم الساعة وتنزيل الغيث، فتبين أن هذه المفاتح كلها مبادئ لكل ما وراءها، {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} .
ثم قال عز وجل: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام: 59] : هذا إجمال، فمن يحصي أجناس ما في البر؟ كم فيها من عالم الحيوان والحشرات والجبال والأشجار والأنهار أمور لا يعلمها إلا الله عز وجل والبحر كذلك فيه من العوالم ما لا يعلمه إلا خالقه عز وجل، يقولون: إن(8/160)
البحر يزيد على البر ثلاثة أضعاف من الأجناس، لأن البحر أكثر من اليابس.
قال {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا} :
هذا تفصيل، فأي ورقة في أي شجرة صغيرة أو كبيرة، قريبة أو بعيدة تسقط، فالله تعالى يعلمها، ولهذا جاءت (مَا تَسْقُطُ) النافية و (مِنْ) الزائدة، ليكون ذلك نصًا في العموم، والورقة التي تخلق يعلمها من باب أولى، لأن عالم ما يسقط عالم بما يخلق عز وجل.
انظر إلى سعة علم الله تعالى كل شيء يكون، فهو عالم به، حتى الذي لم يحصل وسيحصل، فهو تعالى عالم به.
قال: {وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ} : حبة صغيرة لا يدركها الطرف في ظلمات الأرض يعلمها عز وجل.
{ظُلُمَاتِ} : جمع ظلمة ولنفرض أن حبة صغيرة غائصة في قاع البحر، في ليلة مظلمة مطيرة، فالظلمات: أولا: طين البحر. ثانيًا: ماء البحر. ثالثًا: المطر. رابعًا: السحاب. خامسًا: الليل، فهذه خمس ظلمات من ظلمات الأرض ومع ذلك هذه الحبة يعلمها الله سبحانه وتعالى ويبصرها عز وجل.
قال: {وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ} : هذا عام، فما من شيء إلا وهو إما رطب وإما يابس.
{إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} : {كِتَابٍ} ، بمعنى مكتوب. {مُبِينٍ} أي: مظهر وبين، لأن (أبان) تستعمل متعديًا ولازمًا فيقال: أبان الفجر،(8/161)
بمعنى ظهر الفجر ويقال: أبان الحق بمعنى أظهره والمراد بالكتاب هنا: اللوح المحفوظ.
كل هذه الأشياء معلومة عند الله سبحانه وتعالى ومكتوبة عنده في اللوح المحفوظ، لأن الله تعالى " «لما خلق القلم، قال له: اكتب، قال القلم: ماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة» (1) ، فكتب في تلك اللحظة ما هو كائن إلى يوم القيامة، ثم جعل سبحانه في أيدي الملائكة كتبًا تكتب ما يعمله الإنسان، لأن الذي في اللوح المحفوظ قد كتب فيه ما كان يريد الإنسان أن يفعل، والكتابة التي تكتبها الملائكة هي التي يجزى عليها الإنسان ولهذا يقول الله عز وجل: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} [محمد: 31] ، أما علمه بأن عبده فلانًا سيصبر أو لا يصبر، فهذا سابق من قبل، لكن لا يترتب عليه الثواب والعقاب.
الآية الثالثة: قوله: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} [فاطر: 11] .
مَا: نافية.
{أُنْثَى} فاعل {تَحْمِلُ} لكنه معرب بضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد.
وهنا إشكال: كيف تقول زائد وليس في القرآن زائد؟
__________
(1) رواه أحمد (5/317) ، وأبو داود (4700) ، والترمذي (2155) ، والحاكم (2/498) وصححه، والبيهقي في "الأسماء والصفات" (804) ، والآجري في "الشريعة" (178) ، وابن أبي عاصم في "السنة" (105) ، والحديث صححه الألباني في "الصحيحة" (133) ، وفي "السنة" لابن أبي عاصم (1/48و49) .(8/162)
فالجواب: أنه زائد من حيث الإعراب، أما من حيث المعنى، فهو مفيد وليس في القرآن شيء زائد لا فائدة منه، ولهذا نقول: هو زائد، زائد بمعنى أنه لا يخل بالإعراب إذا حذف، زائد من حيث المعنى يزيد فيه.
وقوله: {مِنْ أُنْثَى} : يشمل أي أنثى، سواء آدمية أو حيوانية أخرى الذي يحمل حيوانًا واضح أنه داخل في الآية، كبقرة، وبعير، وشاة. . وما أشبه ذلك، ويدخل في ذلك الذي يحمل البيض، كالطيور، لأن البيض في جوف الطائر حمل.
{وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} ، فابتداء الحمل بعلم الله، وانتهاؤه وخروج الجنين بعلم الله عز وجل.
الآية الرابعة: قوله: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12] .
{لِتَعْلَمُوا} : اللام للتعليل، لأن الله قال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الطلاق: 12] ، فقد خلق هذه السماوات السبع والأرضين السبع، وأعلمنا بذلك، لنعلم {أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
القدرة وصف يتمكن به الفاعل من الفعل بدون عجز، فهو على كل شيء قدير، يقدر على إيجاد المعدوم وعلى إعدام الموجود، فالسماوات والأرض كانت معدومة، فخلقها الله عز وجل وأوجدها على هذا النظام البديع.
{وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} : كل شيء، الصغير والكبير، والمتعلق بفعله أو بفعل عباده والماضي واللاحق والحاضر، كل ذلك قد(8/163)
أحاط الله سبحانه به علمًا.
وذكر الله عز وجل العلم والقدرة بعد الخلق، لأن الخلق لا يتم إلا بعلم وقدرة، ودلالة الخلق على العلم والقدرة من باب دلالة التلازم وقد سبق أن دلالات الأسماء على الصفات ثلاثة أنواع.
تنبيه: ذكر في "تفسير الجلالين" - عفا الله عنا وعنه - في آخر سورة المائدة ما نصه "وخص العقل ذاته، فليس عليها بقادر "!.
ونحن نناقش هذا الكلام من وجهين:
الوجه الأول: أنه لا حكم للعقل فيما يتعلق بذات الله وصفاته، بل لا حكم له في جميع الأمور الغيبية، ووظيفة العقل فيها التسليم التام، وأن نعلم أن ما ذكره الله من هذه الأمور ليس محالا، ولهذا يقال: إن النصوص لا تأتي بمحال، وإنما تأتي بمحار، أي: بما يحير العقول، لأنها تسمع ما لا تدركه ولا تتصوره.
والوجه الثاني: قوله: "فليس عليها بقادر": هذا خطأ عظيم، كيف لا يقدر على نفسه وهو قادر على غيره، فكلامه هذا يستلزم أنه لا يقدر أن يستوي ولا أن يتكلم ولا أن ينزل إلى السماء الدنيا ولا يفعل شيئًا أبدًا وهذا خطير جدًا!!
لكن لو قال قائل: لعله يريد: "خص العقل ذاته، فليس عليها بقادر"، يعني: لا يقدر على أن يلحق نفسه نقصًا قلنا: إن هذا لم يدخل في العموم حتى يحتاج إلى إخراج وتخصيص، لأن القدرة إنما تتعلق بالأشياء الممكنة، لأن غير الممكن ليس بشيء، لا في الخارج ولا في الذهن" فالقدرة لا تتعلق بالمستحيل، بخلاف العلم.(8/164)
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ} . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فينبغي للإنسان أن يتأدب فيما يتعلق بجانب الربوبية، لأن المقام مقام عظيم، والواجب على المرء نحوه أن يستسلم ويسلم.
إذًا، نحن نطلق ما أطلقه الله، ونقول: إن الله على كل شيء قدير، بدون استثناء.
وفي هذه الآيات من صفات الله تعالى: إثبات عموم علم الله على وجه التفصيل، وإثبات عموم قدرة الله تعالى.
والفائدة المسلكية من الإيمان بالعلم والقدرة: قوة مراقبة الله والخوف منه.
في هذه الآية إثبات صفة القوة لله عز وجل.
جاءت هذه الآية بعد قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات: 56 - 57] ، فالناس يحتاجون إلى رزق الله، أما الله تعالى، فإنه لا يريد منهم رزقًا ولا أن يطعموه.
* {الرَّزَّاقُ} : صيغة مبالغة من الرزق، وهو العطاء، قال تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} [النساء: 8] ، أي: أعطوهم، والإنسان يسأل الله تعالى في صلاته، ويقول: اللهم ارزقني.
وينقسم الرزق إلى قسمين: عام وخاص.
فالعام: كل ما ينتفع به البدن، سواء كان حلالا أو حرامًا، وسواء كان(8/165)
المرزوق مسلمًا أو كافرًا، ولهذا قال السفاريني:
والرزق ما ينفع من حلال ... أو ضده فحل عن المحال
لأنه رازق كل الخلق ... وليس مخلوقٌ بغير رزق
لأنك لو قلت: إن الرزق هو العطاء الحلال. لكان كل الذين يأكلون الحرام، لم يرزقوا، مع أن الله أعطاهم ما تصلح به أبدانهم، لكن الرزق نوعان: طيب وخبيث، ولهذا قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] ، ولم يقل: والرزق، أما الخبائث من الرزق، فهي حرام.
أما الرزق الخاص، فهو ما يقوم به الدين من العلم النافع والعمل الصالح والرزق الحلال المعين على طاعة الله، ولهذا جاءت الآية الكريمة: {الرَّزَّاقُ} ولم يقل: الرازق، لكثرة رزقه وكثرة من يرزقه، فالذي يرزقه الله عز وجل لا يحصى باعتبار أجناسه، فضلا عن أنواعه، فضلا عن آحاده، لأن الله تعالى يقول: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} [هود: 6] ، ويعطي الله الرزق بحسب الحال.
ولكن إذا قال قائل: إذا كان الله هو الرزاق، فهل أسعى بطلب الرزق: أو أبقى في بيتي ويأتيني الرزق؟
فالجواب نقول: اسعَ لطلب الرزق، كما أن الله غفور، فليس معنى هذا أن لا تعمل وتتسبب للمغفرة.
أما قول الشاعر:(8/166)
{ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
جُنُونٌ مِنْكَ أَنْ تَسْعَى لِرِزْقٍ ... وَيُرْزَقُ فِي غِشَاوَتِهِ الْجَنِينُ
فهذا القول باطل. وأما استشهاده بالجنين، فالجواب: أن يقال: الجنين لا يمكن أن يوجه إليه طلب الرزق، لأنه غير قادر، بخلاف القادر.
ولهذا قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك: 15] ، فلا بد من سعي، وأن يكون هذا السعي على وفق الشرع.
القوة: صفة يتمكن الفاعل بها من الفعل بدون ضعف، والدليل قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} [الروم: 54] ، وليست القوة هي القدرة، لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر: 44] ، فالقدرة يقابلها العجز، والقوة يقابلها الضعف، والفرق بينهما: أن القدرة يوصف بها ذو الشعور، والقوة يوصف بها ذو الشعور وغيره. ثانيًا: أن القوة أخص فكل قوي من ذي الشعور قادر، وليس كل قادر قويا. مثال ذلك: تقول: الريح قوية، ولا تقول: قادرة، وتقول: الحديد قوي، ولا تقول: قادر، لكنْ ذو الشعور تقول: إنه قوي، وإنه قادر.
ولما قالت عاد: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت: 15] .
المتين قال ابن عباس رضي الله عنهما: الشديد. أي الشديد في قوته، الشديد في عزته، الشديد في جميع صفات الجبروت، وهو من حيث المعنى توكيد للقوي.(8/167)
وقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ويجوز أن نخبر عن الله بأنه شديد، ولا نسمي الله بالشديد، بل نسميه بالمتين، لأن الله سمى نفسه بذلك.
في هذه الآية إثبات اسمين من أسماء الله، هما: الرزاق، والمتين، وإثبات ثلاث صفات، وهي الرزق، والقوة، وما تضمنه اسم المتين.
والفائدة المسلكية في الإيمان بصفة القوة والرزق، أن لا نطلب القوة والرزق إلا من الله تعالى، وأن نؤمن بأن كل قوة مهما عظمت، فلن تقابل قوة الله تعالى.
هذه الآية ساقها المؤلف لإثبات اسمين من أسماء الله وما تضمناه من صفة، وهما السميع والبصير، ففيها رد على المعطلة.
* قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} : هذا نفي، فهو من الصفات السلبية، والمقصود به إثبات كماله، يعني لكماله لا يماثله شيء من مخلوقاته، وفي هذه الجملة رد على أهل التمثيل.
* قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} : السَّمِيعُ له معنيان أحدهما: بمعنى المجيب. والثاني: بمعنى السامع للصوت.
أما السميع بمعنى المجيب، فمثلوا له بقوله تعالى عن إبراهيم: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} [إبراهيم: 39] ، أي: لمجيب الدعاء.
وأما السميع بمعنى إدراك الصوت، فإنهم قسموه إلى عدة أقسام:
الأول: سمع يراد به بيان عموم إدراك سمع الله عز وجل، وأنه ما من صوت إلا ويسمعه الله.(8/168)
الثاني: سمع يراد به النصر والتأييد.
الثالث: سمع يراد به الوعيد والتهديد.
مثال الأول: قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} [المجادلة: 1] ، فهذا فيه بيان إحاطة سمع الله تعالى بكل مسموع، ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: "الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، والله إني لفي الحجرة، وإن حديثها ليخفى على بعضه".
ومثال الثاني: كما في قوله تعالى لموسى وهارون: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] .
ومثال الثالث: الذي يراد به التهديد والوعيد: قوله تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف: 80] ، فإن هذا يراد به تهديدهم ووعيدهم، حيث كانوا يسرون ما لا يرضى من القول.
والسمع بمعنى إدراك المسموع من الصفات الذاتية، وإن كان المسموع قد يكون حادثًا.
والسمع بمعنى النصر والتأييد من الصفات الفعلية، لأنه مقرون بسبب.
والسمع بمعنى الإجابة من الصفات الفعلية أيضًا.
* وقوله: الْبَصِيرُ، يعني: المدرك لجميع المبصرات، ويطلق(8/169)
البصير بمعنى العليم، فالله سبحانه وتعالى بصير، يرى كل شيء وإن خفي، وهو سبحانه بصير بمعنى: عليم بأفعال عباده، قال تعالى: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحجرات: 18] ، والذي نعمل بعضه مرئي وبعضه غير مرئي، فبصر الله إذًا ينقسم إلى قسمين، وكله داخل في قوله: الْبَصِيرُ.
في هذه الآية إثبات اسمين من أسماء الله، هما: السميع، والبصير. وثلاث صفات، هي: كمال صفاته من نفي المماثلة، والسمع، والبصر.
وفيها من الفوائد المسلكية: الكف عن محاولة تمثيل الله بخلقه، واستشعار عظمته وكماله، والحذر من أن يراك على معصيته أو يسمع منك ما لا يرضاه.
واعلم أن النحاة خاضوا خوضًا كثيرًا في قوله: {كَمِثْلِهِ} ، حيث قالوا: الكاف داخلة على (المثل) ، وظاهره أن لله مثلا ليس له مثل، لأنه لم يقل: ليس كهو، بل قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ} ، فهذا ظاهر الآية من حيث اللفظ لا من حيث المعنى؛ لأننا لو قلنا: هذا ظاهرها من حيث المعنى، لكان ظاهر القرآن كفرًا، وهذا مستحيل، ولهذا اختلفت عبارات النحويين في تخريج هذه الآية على أقوال:
القول الأول: الكاف زائدة، وأن تقدير الكلام: ليس مثله شيء، وهذا القول مريح، وزيادة الحروف في النفي كثيرة، كما في قوله تعالى: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى} [فاطر: 11] ، فيقولون: إن زيادة الحروف في اللغة العربية للتوكيد أمر مطرد.
والقول الثاني: قالوا العكس، قالوا: إن الزائد (مثل) ، ويكون(8/170)
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
التقدير: ليس كهو شيء، لكن هذا ضعيف، يضعفه أن الزيادة في الأسماء في اللغة العربية قليلة جدا أو نادرة، بخلاف الحروف، فإذا كنا لا بد أن نقول بالزيادة، فليكن الزائد الحرف، وهي الكاف.
والقول الثالث: أن (مثل) بمعنى: صفة، والمعنى: "ليس كصفته شيء"، وقالوا: إن الْمِثْل والْمَثَل والشِّبْه والشَّبَه في اللغة العربية بمعنى واحد، وقد قال الله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} [محمد: 15] ، أي: صفة الجنة، وهذا ليس ببعيد من الصواب.
القول الرابع: إنه ليس في الآية زيادة، لكن إذا قلت: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، لزم من ذلك نفي المثل، وإذا كان ليس للمثل مثل، صار الموجود واحدًا، وعلى هذا، فلا حاجة إلى أن نقدر شيئًا. قالوا: وهذا قد وجد في اللغة العربية، مثل قوله: ليس كمثل الفتى زهير.
والحقيقة أن هذه البحوث لو لم تعرض لكم، لكان معنى الآية واضحًا، ومعناها أن الله ليس له مثيل، لكن هذا وجد في الكتب، والراجح أن نقول: إن الكاف زائدة، لكن المعنى الأخير لمن تمكن من تصوره أجود.
هذه الآية تكملة لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58] ، فأمر عز وجل بأن نؤدي الأمانات إلى أهلها، ومنها الشهادة للإنسان له أو عليه، وأن نحكم إذا حكمنا بين الناس بالعدل، فبين الله سبحانه وتعالى أنه يأمرنا بالقيام بالواجب في طريق الحكم وفي الحكم نفسه، وطريق الحكم الذي هو الشهادة تدخل في عموم قوله: {أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} ، والحكم:(8/171)
{وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} ، ثم قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} ، أصلها: نعم ما ولكن أدغمت الميم بالميم من باب الإدغام الكبير، لأن الإدغام لا يكون بين جنسين إلا إذا كان الأول ساكنًا، وهنا صار الإدغام مع أن الأول مفتوح.
* وقوله: {نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} : جعل الله سبحانه الأمر بهذين الشيئين - أداء الأمانة والحكم بالعدل - موعظة، لأنه تصلح به القلوب، وكل ما يصلح القلوب فهو موعظة، والقيام بهذه الأوامر لا شك أنه يصلح القلب.
* ثم قال: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} ، وقوله: كَانَ: هذه فعل، لكنها مسلوبة الزمن، فالمراد بها الدلالة على الوصف فقط، أي: أن الله متصف بالسمع والبصر، وإنما قلنا: إنها مسلوبة الزمن، لأننا لو أبقيناها على دلالتها الزمانية، لكان هذا الوصف قد انتهى، كان في الأول سميعًا بصيرًا، أما الآن فليس كذلك، ومعلوم أن هذا المعنى فاسد باطل، وإنما المراد أنه متصف بهذين الوصفين السمع والبصر على الدوام، و (كان) في مثل هذا السياق يراد به التحقيق.
* قوله: {سَمِيعًا بَصِيرًا} : نقول فيها كما قلنا في الآية التي قبلها: فيها إثبات السمع لله بقسميه، وإثبات البصر بقسميه.
قرأ أبو هريرة هذه الآية، وقال: إن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وضع إبهامه وسبابته على عينه وأذنه. والمراد بهذا الوضع تحقيق السمع والبصر، لا إثبات(8/172)
العين والأذن، فإن ثبوت العين جاءت في أدلة أخرى، والأذن عند أهل السنة والجماعة لا تثبت لله ولا تنفى عنه لعدم ورود السمع بذلك.
فإن قلت: هل لي أن أفعل كما فعل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
فالجواب: من العلماء من قال: نعم، افعل كما فعل الرسول، لست أهدى للخلق من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولست أشد تحرزًا من أن يضاف إلى الله ما لا يليق من الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ومنهم من قال: لا حاجة إلى أن تفعل ما دمنا نعلم أن المقصود هو التحقيق فهذه الإشارة إذًا غير مقصودة بنفسها، إنما هي مقصودة لغيرها، وحينئذ، لا حاجة إلى أن تشير، لا سيما إذا كان يُخشى من هذه الإشارة توهم الإنسان التمثيل، كما لو كان أمامك عامة من الخلق لا يفهمون الشيء على ما ينبغي، فهذا ينبغي التحرز منه، ولكل مقام مقال.
وكذلك ما ورد في حديث ابن عمر كيف يحكي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «قال: "يأخذ الله عز وجل سماواته وأرضيه بيديه، فيقول: أنا الله"، ويقبض أصابعه ويبسطها» (1) . فيقال فيه ما قيل في حديث أبي هريرة.
والفائدة المسلكية من الإيمان بصفتي السمع والبصر: أن نحذر مخالفة الله في أقوالنا وأفعالنا.
وفي الآية من أسماء الله إثبات اسمين هما: السميع، والبصير. ومن الصفات: إثبات السمع، والبصر، والأمر، والموعظة.
__________
(1) رواه مسلم/ كتاب صفات المنافقين.(8/173)
وقوله: {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هذه آيات في إثبات صفتي المشيئة والإرادة:
فالآية الأولى: قوله تعالى: {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} [الكهف: 39] .
* {وَلَوْلَا} : بمعنى: هلا، فهي للتحضيض، والمراد بها هنا التوبيخ، بمعنى أنه يوبخه على ترك هذا القول.
* {إِذْ دَخَلْتَ} : حين دخلت.
· {جَنَّتَكَ} : الجنة، بفتح الجيم هي البستان الكثير الأشجار، سميت بذلك لأن من فيها مستتر بأشجارها وغصونها، فهو مستجن فيها، وهذه المادة (الجيم والنون) تدل على الاستتار، ومنه: الجُنة - بضم الجيم - التي يتترس بها الإنسان عند القتال، ومنها: الجنة - بكسر الجيم -، يعني، الجن، لأنهم مستترون.
* وقوله: {جَنَّتَكَ} : هذه مفرد، والمعلوم من الآيات أن له جنتين، فما هو الجواب حيث كانت هنا مفردة مع أنهما جنتان؟
الجواب: أن يقال: إن المفرد إذا أضيف يعم فيشمل الجنتين. أو أن هذا القائل أراد أن يقلل من قيمة الجنتين، لأن المقام مقام وعظ وعدم إعجاب بما رزقه الله، كأنه يقول: هاتان الجنتان جنة واحدة، تقليلا لشأنهما، والوجه الأول أقرب إلى قواعد اللغة العربية قُلْتَ: جواب لَوْلَا.
* وقوله: {مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} : مَا: يحتمل أن تكون موصولة، ويحتمل أن تكون شرطية: فإن جعلتها موصولة، فهي خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: هذا ما شاء الله، أي: ليس هذا بإرادتي(8/174)
وحولي وقوتي، ولكنه بمشيئة الله، أي: هذا الذي شاءه الله. وإن جعلتها شرطية، ففعل الشرط {شَاءَ} ، وجوابه محذوف، والتقدير: ما شاء الله كان، كما نقول: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. والمراد: كان ينبغي لك أن تقول حين دخلت جنتك: {مَا شَاءَ اللَّهُ} ، لتتبرأ من حولك وقوتك لا تعجب بجنتك.
* وقوله: {لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} : لَا: نافية للجنس. وقُوَّةَ: نكرة في سياق النفي، فتعم، والقوة صفة يتمكن بها الفاعل من فعل ما يريد بدون ضعف.
فإن قيل: ما الجمع بين عموم نفي القوة إلا بالله، وبين قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} [الروم: 54] ، وقال عن عاد: {وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت: 15] ، ولم يقل: لا قوة فيهم، فأثبت للإنسان قوة.
فالجواب: أن الجمع بأحد الوجهين:
الأول: أن القوة التي في المخلوق كانت من الله عز وجل، فلولا أن الله أعطاه القوة، لم يكن قويًا، فالقوة التي عند الإنسان مخلوقة لله، فلا قوة في الحقيقة إلا بالله.
الثاني: أن المراد بقوله: لَا قُوَّةَ، أي: لا قوة كاملة إلا بالله عز وجل.
وعلى كل حال، فهذا الرجل الصالح أرشد صاحبه أن يتبرأ من حوله وقوته، ويقول: هذا بمشيئة الله وبقوة الله.(8/175)
وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في هذه الآية: إثبات اسم من أسماء الله، وهو: الله، وإثبات ثلاث صفات: الألوهية، والقوة، والمشيئة.
ومشيئة الله: هي إرادته الكونية، وهي نافذة فيما يحبه وما لا يحبه، ونافذة على جميع العباد بدون تفصيل، ولا بد من وجود ما شاءه بكل حال، فكل ما شاء الله وقع ولا بد، سواء كان فيما يحبه ويرضاه أم لا.
الآية الثانية: قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253] :
لَوْ: حرف امتناع لامتناع، وإذا كان جوابها منفيًا بـ (ما) ، فإن الأفصح حذف اللام، وإذا كان مثبتًا، فالأكثر ثبوت اللام، كما قال تعالى: {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا} [الواقعة: 65] . فنقول: الأكثر، ولا نقول: الأفصح، لأنه ورد إثبات اللام وحذفها في القرآن الكريم: {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا} [الواقعة: 70] . وقولنا: إن الأفصح حذف اللام في المنفي، لأن اللام تفيد التوكيد، والنفي ينافي التوكيد، ولهذا كان قول الشاعر:
ولو نعطى الخيار لما افترقنا ... ولكن لا خيار مع الليالي
خلاف الأفصح، والأفصح: لو نعطى الخيار ما افترقنا.
* قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} : الضمير يعود على المؤمنين والكافرين، لقوله تعالى: {وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} [البقرة: 253] .
وفي هذا رد واضح على القدرية الذين ينكرون تعلق فعل العبد بمشيئة(8/176)
وقوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الله، لأن الله قال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} ، يعني: ولكنه شاء أن يقتتلوا فاقتتلوا. ثم قال: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} ، أي: يفعل الذي يريده، والإرادة هنا إرادة كونية.
* وقوله: {يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} : الفعل باعتبار ما يفعله سبحانه وتعالى بنفسه فعل مباشر. وباعتبار ما يقدره على العباد فعل غير مباشر، لأنه من المعلوم أن الإنسان إذا صام وصلى وزكى وحج وجاهد، فالفاعل الإنسان بلا شك، ومعلوم أن فعله هذا بإرادة الله.
ولا يصح أن ينسب فعل العبد إلى الله على سبيل المباشرة، لأن المباشر للفعل الإنسان، ولكن يصح أن ينسب إلى الله على سبيل التقدير والخلق.
أما ما يفعله الله بنفسه، كاستوائه على عرشه، وكلامه، ونزوله إلى السماء الدنيا، وضحكه. . . وما أشبه ذلك، فهذا ينسب إلى الله تعالى فعلا مباشرة.
في هذه الآية من الأسماء: الله. ومن الصفات: المشيئة، والفعل، والإرادة.
الآية الثالثة: قوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة: 1] .
* {أُحِلَّتْ لَكُمْ} : المحل هو الله عز وجل، وكذلك النبي عليه الصلاة والسلام يحل ويحرم، لكن بإذن من الله عز وجل، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(8/177)
«أحلت لنا ميتتان ودمان» (1) ، وكان عليه الصلاة والسلام يقول: «إن الله يحرم عليكم» ، كذا يخبر أنه حرم، وربما يحرم تحريمًا يضيفه إلى نفسه، لكنه بإذن الله.
* {بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} : هي الإبل والبقر والغنم، والأنعام جمع نعم، كأسباب جمع سبب.
* {إِلَّا مَا يُتْلَى} : إلا الذي يتلى عليكم في هذه السورة، وهي المذكورة في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة، 3] ، فالاستثناء هنا فيه منقطع وفيه متصل، فبالنسبة للميتة من بهيمة الأنعام متصل، وبالنسبة للحم الخنزير منقطع، لأنه ليس من بهيمة الأنعام.
* وقوله: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ: غَيْرَ} : حال من الكاف في لَكُمْ، يعني: حال كونكم لا تحلون الصيد وأنتم حرم، وهذا الاستثناء منقطع أيضًا، لأن الصيد ليس من بهيمة الأنعام.
وقوله: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ} ، يعني: قاتليه في الإحرام، لأن الذي يفعل الشيء يصير كالمحل له، والصَّيْدِ: هو الحيوان البري المتوحش المأكول، هذا هو الصيد الذي حرم في الإحرام.
* وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} : هذه الإرادة شرعية، لأن المقام مقام تشريع، ويجوز أن تكون إرادة شرعية كونية، ونحمل الحكم على
__________
(1) رواه أحمد (2/97) ، وابن ماجه (3314)(8/178)
وقوله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الحكم الكوني والشرعي، فما أراده كونًا، حكم به وأوقعه، وما أراده شرعًا، حكم به وشرعه لعباده.
في هذه الآية من الأسماء: الله. ومن الصفات: التحليل، والحكم، والإرادة.
الآية الرابعة: قوله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125] .
* قوله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} : المراد بالإرادة هنا الإرادة الكونية، والمراد بالهداية هداية التوفيق، فتجده منشرح الصدر في شرائع الإسلام وشعائره، يفعلها بفرح وسرور وانطلاق.
فإذا عرفت من نفسك هذا، فاعلم أن الله أراد بك خيرًا وأراد لك هداية، أما من ضاق به ذرعًا والعياذ بالله فإن هذا علامة على أن الله لم يرد له هداية، وإلا لانشرح صدره.
ولهذا تجدون الصلاة التي هي أثقل ما يكون على المنافقين قرة عيون المخلصين، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حبب إلي من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة» (1) ، ولا شك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكمل الناس إيمانًا، فانشرح صدره بالصلاة وصارت قرة عينه.
فإذا قيل للشخص: إنه يجب عليك أن تصلي مع الجماعة في المسجد،
__________
(1) رواه أحمد (3/128) ، والنسائي (7/61) ، والحاكم (2/160) .(8/179)
فانشرح صدره، وقال الحمد لله الذي شرع لي ذلك، ولولا أن الله شرعه، لكان بدعة، وأقبل إليه، ورضي به، فهذا علامة على أن الله أراد أن يهديه وأراد به خيرًا.
* قال: {يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ: يَشْرَحْ صَدْرَهُ} : بمعنى يوسع، ومنه قول موسى عليه الصلاة والسلام لما أرسله الله إلى فرعون: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} [طه: 25] ، يعني: وسع لي صدري في مناجاة هذا الرجل ودعوته، لأن فرعون كان جبارًا عنيدًا.
وقوله: {لِلْإِسْلَامِ} : هذا عام لأصل الإسلام وفروعه وواجباته، وكلما كان الإنسان بالإسلام وشرائعه أشرح صدرًا، كان أدل على إرادة الله به الهداية.
* وقوله: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} : من يرد أن يضله، يجعل صدره ضيقا حرجا، أي شديد الضيق، ثم مثل ذلك بقوله: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} ، يعني: كأنه حين يعرض عليه الإسلام يتكلف الصعود إلى السماء، ولهذا جاءت الآية: {يَصَّعَّدُ} ، بالتشديد، ولم يقل: يصعد، كأنه يتكلف الصعود بمشقة شديدة، وهذا الذي يتكلف الصعود لا شك أنه يتعب ويسأم.
ولنفرض أن هذا رجل طلب منه أن يصعد جبلا رفيعًا صعبًا، فإذا قام يصعد هذا الجبل، سوف يتكلف، وسوف يضيق نفسه ويرتفع وينتهب، لأنه يجد من هذا ضيقًا.
وعلى ما وصل إليه المتأخرون الآن، يقولون: إن الذي يصعد في(8/180)
السماء كلما ارتفع وازداد ارتفاعه، كثر عليه الضغط، وصار أشد حرجًا وضيقًا، وسواء كان المعنى الأول أو المعنى الثاني، فإن هذا الرجل الذي يعرض عليه الإسلام وقد أراد الله أن يضله يجد الحرج والضيق كأنما يصعد في السماء.
ونأخذ من هذه الآية الكريمة إثبات إرادة الله عز وجل.
والإرادة المذكورة هنا إرادة كونية لا غير، لأنه قال: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ} ، وهذا التقسيم لا يكون إلا في الأمور الكونيات، أما الشرعية، فالله يريد من كل أحد أن يستسلم لشرع الله.
وفيها من السلوك والعبادة أنه يجب على الإنسان أن يتقبل الإسلام كله، أصله وفرعه، وما يتعلق بحق الله وما يتعلق بحق العباد، وأنه يجب عليه أن يشرح صدره لذلك، فإن لم يكن كذلك، فإنه من القسم الثاني الذين أراد الله إضلالهم.
قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من يرد الله به خيرًا، يفقهه في الدين» (1) ، والفقه في الدين يقتضي قبول الدين، لأن كل من فقه في دين الله وعرفه، قبله وأحبه.
قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] ، فهذا إقسام مؤكد بـ (لا) ، وإقسام بأخص ربوبية من الله عز وجل لعباده -
__________
(1) رواه البخاري/ كتاب العلم/ باب "من يرد الله به خيراً"، ومسلم/ كتاب الزكاة/ باب النهي عن المسألة.(8/181)
وهي ربوبية الله للرسول - على نفي الإيمان عمن لم يقم بهذه الأمور:
الأول: تحكيم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقوله: {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} ، يعني: الرسول، فمن طلب التحاكم إلى غير الله ورسوله، فإنه ليس بمؤمن، فإما كافر كفرًا مخرجًا عن الملة، وإما كافر كفرًا دون ذلك.
الثاني: انشراح الصدر بحكمه، بحيث لا يجدون في أنفسهم حرجًا مما قضى، بل يجدون القبول والانشراح لما قضاه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الثالث: أن يسلموا تسليمًا، وأكد التسليم بمصدر، يعني: تسليمًا كاملا.
فاحذر أيها المسلم أن ينتفي عنك الإيمان.
ولنضرب لهذا مثلا: تجادل رجلان في حكم مسألة شرعية، فاستدل أحدهما بالسنة، فوجد الثاني في ذلك حرجًا وضيقًا، كيف يريد أن يخرج عن متبوعه إلى اتباع هذه السنة؟! فهذا الرجل ناقص بلا شك في إيمانه، لأن المؤمن حقًا هو الذي إذا ظفر بالنص من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، فكأنما ظفر بأكبر غنيمة يفرح بها، ويقول: الحمد لله الذي هداني لهذا. وفلان الذي يتعصب لرأيه ويحاول أن يلوي أعناق النصوص حتى تتجه إلى ما يريده هو لا ما يريده الله ورسوله، فإن هذا على خطر عظيم.
أقسام الإرادة:
الإرادة تنقسم إلى قسمين:(8/182)
القسم الأول: إرادة كونية: وهذه الإرادة مرادفة تمامًا للمشيئة، فـ (أراد) فيها بمعنى (شاء) ، وهذه الإرادة:
أولا: تتعلق فيما يحبه الله وفيما لا يحبه.
وعلى هذا فإذا قال قائل: هل أراد الله الكفر؟ فقل: بالإرادة الكونية نعم أراده، ولو لم يرده الله عز وجل، ما وقع.
ثانيًا: يلزم فيها وقوع المراد، يعني: أن ما أراده الله فلا بد أن يقع، ولا يمكن أن يتخلف.
القسم الثاني: إرادة شرعية: وهي مرادفة للمحبة، فـ (أراد) فيها بمعنى (أحب) ، فهي:
أولا: تختص بما يحبه الله، فلا يريد الله الكفر بالإرادة الشرعية ولا الفسق.
ثانيًا: أنه لا يلزم فيها وقوع المراد، بمعنى: أن الله يريد شيئًا ولا يقع، فهو سبحانه يريد من الخلق أن يعبدوه، ولا يلزم وقوع هذا المراد، قد يعبدونه وقد لا يعبدونه، بخلاف الإرادة الكونية.
فصار الفرق بين الإرادتين من وجهين:
1 - الإرادة الكونية يلزم فيها وقوع المراد، والشرعية لا يلزم.
2 - الإرادة الشرعية تختص فيما يحبه الله، والكونية عامة فيما يحبه وما لا يحبه.
فإذا قال قائل: كيف يريد الله تعالى كونًا ما لا يحبه، بمعنى: كيف(8/183)
يريد الكفر أو الفسق أو العصيان وهو لا يحبه؟!
فالجواب: أن هذا محبوب إلى الله من وجه مكروه إليه من وجه آخر، فهو محبوب إليه لما يتضمنه من المصالح العظيمة، مكروه إليه لأنه معصية.
ولا مانع من أن يكون الشيء محبوبًا مكروها باعتبارين، فها هو الرجل يقدم طفله الذي هو فلذة كبده وثمرة فؤاده، يقدمه إلى الطبيب ليشق جلده ويخرج المادة المؤذية فيه ولو أتى أحد من الناس يريد أن يشقه بظفره وليس بالمشرط، لقاتله، لكن هو يذهب إلى الطبيب ليشقه، وهو ينظر إليه، وهو فرح مسرور، يذهب به إلى الطبيب ليحمي الحديد على النار حتى تلتهب حمراء، ثم يأخذها ويكوي بها ابنه، وهو راضٍ بذلك، لماذا يرضى بذلك وهو ألم للابن؟ لأنه مراد لغيره للمصلحة العظيمة التي تترتب على ذلك.
ونستفيد بمعرفتنا للإرادة من الناحية المسلكية أمرين:
الأمر الأول: أن نعلق رجاءنا وخوفنا وجميع أحوالنا وأعمالنا بالله، لأن كل شيء بإرادته وهذا يحقق لنا التوكل.
الأمر الثاني: أن نفعل ما يريده الله شرعًا، فإذا علمت أنه مراد لله شرعًا ومحبوب إليه، فإن ذلك يقوي عزمنا على فعله.
هذا من فوائد معرفتنا بالإرادة من الناحية المسلكية، فالأول باعتبار الإرادة الكونية، والثاني: باعتبار الإرادة الشرعية.(8/184)
قوله: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هذه آيات في إثبات صفة المحبة:
الآية الأولى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] .
* {وَأَحْسِنُوا} فعل أمر.
والإحسان قد يكون واجبًا، وقد يكون مستحبًا مندوبًا إليه، فما كان يتوقف عليه أداء الواجب، فهو واجب، وما كان زائدًا على ذلك فهو مستحب.
وبناء على ذلك، نقول: {وَأَحْسِنُوا} : فعل الأمر مستعمل في الواجب والمستحب.
والإحسان يكون في عبادة الله، ويكون في معاملة الخلق، فالإحسان في عبادة الله فسره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين سأله جبريل (1) ، فقال: ما الإحسان؟ قال: «أن تعبد الله كأنك تراه» . وهذا أكمل من الذي بعده، لأن الذي يعبد الله كأنه يراه عبادة طلب ورغبة، «فإن لم تكن تراه، فإنه يراك» ، أي: فإن لم تصل إلى هذه الحال، فاعلم أنه يراك والذي يعبد الله على هذه المرتبة يعبده عبادة خوف وهرب، لأنه يخاف ممن يراه.
وأما الإحسان بالنسبة لمعاملة الخلق؟ فقيل في تفسيره: بذل الندى، وكف الأذى، وطلاقة الوجه.
بذل الندى: أي: المعروف، سواء كان ماليًا أو بدنيًا أم جاهيًا.
__________
(1) رواه مسلم/ كتاب الإيمان/ باب بيان أركان الإيمان والإسلام، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه(8/185)
كف الأذى: أن لا تؤذي الناس بقولك ولا بفعلك.
وطلاقة الوجه: أن لا تكون عبوسًا عند الناس، لكن أحيانًا الإنسان يغضب ويعبس، فنقول: هذا لسبب، وقد يكون من الإحسان إذا كان سببًا لصلاح الحال.
ولهذا، إذا رجمنا الزاني أو جلدناه، فهو إحسان إليه.
ويدخل في ذلك إحسان المعاملة في البيع، والشراء، والإجارة، والنكاح. . . وغير ذلك، لأنك إذا عاملتهم بالطيب في هذه الأمور، صبرت على المعسر، وأوفيت الحق بسرعة، هذا يعد بذل الندى، فإن اعتديت بالغش والكذب والتزوير، فأنت لم تكف الأذى، لأن هذا أذية. أحسن في عبادة الله وإلى عباد الله.
* وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} : هذا تعليل للأمر، فهذا ثواب المحسن، أن الله يحبه، ومحبة الله مرتبة عالية عظيمة، ووالله إن محبة الله لتشترى بالدنيا كلها، وهي أعلى من أن تحب الله، فكون الله يحبك أعلى من أن تحبه أنت، ولهذا قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} ، ولم يقل: فاتبعوني، تصدقوا في محبتكم لله. مع أن الحال تقتضي هكذا، ولكن قال: {يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] .
ولهذا قال بعض العلماء: الشأن كل الشأن في أن الله يحبك لا أنك تحب الله.
كل يدعي أنه يحب الله، لكن الشأن في الذي في السماء عز وجل، هل يحبك أم لا؟ إذا أحبك الله عز وجل، أحبتك الملائكة في السماء، ثم(8/186)
{وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يوضع لك القبول في الأرض، فيحبك أهل الأرض (1) ، ويقبلونك، ويقبلون ما جاء منك وهذه من عاجل بشرى المؤمن.
وفي هذه الآية من الأسماء: الله. ومن الصفات الألوهية، والمحبة.
الآية الثانية: قوله: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9] .
* {وَأَقْسِطُوا} : فعل أمر، والإقساط ليس هو القسط، بل هو من فعل رباعي، فالهمزة فيه همزة النفي، هذه الهمزة هي همزة النفي، إذا دخلت على الفعل، نفت معناه، فالفعل (قسط) ، بمعنى: جار، فإذا أدخلت عليه همزة (أقسط) ، صار بمعنى: عدل، أي: أزال القسط، وهو الجور، فيسمون مثل هذه الهمزة همزة السلب، مثل خطئ وأخطأ، خطئ، بمعنى ارتكب الخطأ عن عمد، وأخطأ: ارتكبه عن غير عمد.
* فقوله: {وَأَقْسِطُوا} ، أي: اعدلوا، وهذا واجب، فالعدل واجب في كل ما تجب فيه التسوية:
يدخل في ذلك العدل في معاملة الله عز وجل، ينعم الله عليك بالنعم، فمن العدل أن تقوم بشكره، يبين الله لك الحق، فمن العدل أن تتبع هذا الحق.
ويدخل في ذلك العدل في معاملات الخلق: أن تعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: «من أحب أن»
__________
(1) لما رواه البخاري /كتاب بدء الخلق/ باب ذكر الملائكة، ومسلم/ كتاب البر/ باب "إذا أحب الله عبداً".(8/187)
«يزحزح عن النار ويدخل الجنة، فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس ما يجب أن يؤتى إليه» . (1)
عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به، مثلا: إذا أردت أن تعامل شخصًا معاملة، فاعرضها أولا على نفسك: هل إذا عاملك إنسان بها، هل ترضى أم لا؟ إن كنت ترضى، فعامله، وإلا، فلا تدافعه.
ويدخل في ذلك العدل بين الأولاد في العطية، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم» . (2)
ويدخل في ذلك العدل بين الورثة في الميراث، فيعطى كل واحد نصيبه، ولا يوصى لأحد منهم بشيء.
ويدخل في ذلك العدل بين الزوجات، بأن تقسم لكل واحدة مثل ما تقسم للأخرى.
ويدخل في ذلك العدل في نفسك، فلا تكلفها ما لا تطيق من الأعمال، إن لربك عليك حقًا، ولنفسك عليك حقًا.
وعلى هذا فقس.
وهنا يجب أن ننبه على أن من الناس من يستعمل بدل العدل: المساواة! وهذا خطأ، لا يقال: مساواة، لأن المساواة قد تقتضي التسوية بين شيئين الحكمة تقتضي التفريق بينهما.
__________
(1) رواه مسلم/ كتاب الإمارة/ باب وجوب الوفاء بيعة الخلفاء الأول فالأول.
(2) رواه البخاري/ كتاب الهبة/ باب الإشهاد في الهبة، ومسلم/ كتاب الهبات/ باب كراهية تفضيل بعض الأولاد في الهبة.(8/188)
ومن أجل هذه الدعوة الجائرة إلى التسوية صاروا يقولون: أي فرق بين الذكر والأنثى؟! سووا بين الذكور والإناث! حتى إن الشيوعية قالت: أي فرق بين الحاكم والمحكوم، لا يمكن أن يكون لأحد سلطة على أحد، حتى بين الوالد والولد، ليس للوالد سلطة على الولد. . . وهلم جرا.
لكن إذا قلنا بالعدل، وهو إعطاء كل أحد ما يستحقه، زال هذا المحذور، وصارت العبارة سليمة.
ولهذا، لم يأتِ في القرآن أبدًا: إن الله يأمر بالتسوية! لكن جاء: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} [النحل: 90] ، {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58] .
وأخطأ على الإسلام من قال: إن دين الإسلام دين المساواة! بل دين الإسلام دين العدل، وهو الجمع بين المتساويين، والتفريق بين المفترقين، إلا أن يريد بالمساواة: العدل، فيكون أصاب في المعنى وأخطأ في اللفظ.
ولهذا كان أكثر ما جاء في القرآن نفي المساواة: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] ، {هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ} [الرعد: 16] ، {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد: 10] ، {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 95] .
ولم يأت حرف واحد في القرآن يأمر بالمساواة أبدًا، إنما يأمر بالعدل.(8/189)
{فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وكلمة (العدل) أيضًا تجدونها مقبوله لدى النفوس.
وأحببت أن أنبه على هذا، لئلا نكون في كلامنا إمعة، لأن بعض الناس يأخذ الكلام على عواهنه، فلا يفكر في مدلوله وفيمن وضعه وفي مغزاه عند من وضعه.
وفي الآية من الأسماء والصفات ما سبق في التي قبلها.
الآية الثالثة: قوله: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 7] .
* مَا: شرطية، وفعل الشرط: {اسْتَقَامُوا} ، وجوابه: {فَاسْتَقِيمُوا} ، أي: مهما استقام لكم المعاهدون الذين عاهدتم عند المسجد الحرام بالوفاء بالعهد، فاستقيموا لهم في ذلك.
وهذه الجملة الشرطية تقتضي بمنطوقها، أنهم إذا استقاموا لنا، وجب أن نستقيم لهم، وأن نوفي بعهدهم. وتدل بمفهومها على أنهم إذا لم يستقيموا، لا نستقيم لهم.
والمعاهدون ينقسمون إلى ثلاثة أقسام:
قسم استقاموا على عهدهم وأمناهم، فيجب علينا أن نستقيم لهم، لقوله تعالى: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} .
وقسم خانوا ونقضوا العهد، فهؤلاء لا عهد لهم، لقوله تعالى: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ} [التوبة: 12] .(8/190)
{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وقسم ثالث يظهرون الاستقامة لنا، لكننا نخاف من خيانتهم، بمعنى أنه توجد قرائن تدل على أنهم يريدون الخيانة، فهؤلاء قال الله فيهم: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58] ، أي: انبذ إليهم عهدهم، فقل: لا عهد بيننا وبينكم.
فإذا قال قائل: كيف ينبذ العهد إليهم وهم معاهدون؟!
قلنا: لخوف الخيانة، فهؤلاء لا نأمنهم، لأنه يمكن في يوم من الأيام أن يصبحونا، فهؤلاء ننبذ إليهم على سواء، ولا نخونهم ما دام العهد قائمًا، لأنه لو قال المسلمون: نحن نخاف منهم الخيانة، سنبادرهم بالقتال. قلنا: هذا حرام، لا تقاتلوهم حتى تنبذوا إليهم العهد.
* وقوله: {الْمُتَّقِينَ} : المتقون هم الذين اتخذوا وقاية من عذاب الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه، هذا من أحسن وأجمع ما يقال في تعريف التقوى.
وفي الآية من الأسماء والصفات كالتي قبلها.
الآية الرابعة: قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} [البقرة: 222] .
* التواب: صيغة مبالغة من التوبة، وهو كثير الرجوع إلى الله، والتوبة هي الرجوع إلى الله من معصيته إلى طاعته.
وشروطها خمسة:
الأول: الإخلاص لله تعالى بأن يكون الحامل له على التوبة مخافة الله ورجاء ثوابه.
الثاني: الندم على ما فعل من الذنب، وعلامة ذلك أن يتمنى أنه لم يقع منه.(8/191)
وقوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} ......
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الثالث: الإقلاع عن الذنب، بتركه إن كان محرمًا، أو تداركه إن كان واجبًا يمكن تداركه.
الرابع: العزم على أن لا يعود إليه.
الخامس: أن تكون في وقت تقبل فيه التوبة، وهو ما كان قبل حضور الموت وطلوع الشمس من مغربها، فإن كانت بعد حضور الموت أو بعد طلوع الشمس من مغربها، لم تقبل.
فالتواب: كثير التوبة.
ومعلوم أن كثرة التوبة تسلتزم كثرة الذنب، ومن هنا نفهم بأن الإنسان مهما كثر ذنبه، إذا أحدث لكل ذنب توبة، فإن الله تعالى يحبه، والتائب مرة واحدة من ذنب واحد محبوب إلى الله عز وجل من باب أولى، لأن من كثرت ذنوبه وكثرت توبته يحبه الله، فمن قلت ذنوبه، كانت محبة الله له بالتوبة من باب أولى.
* وقوله: {وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} : الذين يتطهرون من الأحداث ومن الأنجاس في أبدانهم وما يجب تطهيره.
وهنا جمع بين طهارة الظاهر وطهارة الباطن: طهارة الباطن بقوله: {التَّوَّابِينَ} ، والظاهر بقوله: {الْمُتَطَهِّرِينَ} .
وفي الآية من الأسماء والصفات ما سبق في التي قبلها.
الآية الخامسة: قوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] .
يسمي علماء السلف هذه الآية: آية المحنة، يعني الامتحان، لأن قومًا ادعوا أنهم يحبون الله فأمر الله نبيه أن يقول لهم: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} ، وهذا تحدٍ لكل من ادعى محبة الله، أن يقال له: إن كنت(8/192)
وقوله: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} ....
ـــــــــــــــــــــــــــــ
صادقًا في محبة الله، فاتبع الرسول، فمن أحدث في دين رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما ليس منه، وقال: إنني أحب الله ورسوله بما أحدثته، قلنا له: هذا كذب؛ لو كانت محبتك صادقة لاتبعت الرسول عليه الصلاة والسلام، ولم تتقدم بين يديه بإدخال شيء في شريعته ليس من دينه، فكل من كان أتبع لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان لله أحب.
وإذا أحب الله وقام بعبادته، فإن الله تعالى يحبه، بل إن الله عز وجل يعطيه أكثر مما عمل، يقول تعالى في الحديث القدسي: «من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي» ونفس الله أعظم من نفوسنا. «ومن ذكرني في ملأ، ذكرته في ملأ خير منه» . وفي الحديث أيضًا: «أن من تقرب إليه شبرًا تقرب الله إليه ذراعًا، ومن تقرب إليه ذراعًا، تقرب إليه باعًا، ومن أتى إلى الله يمشي، أتاه الله هرولة» . (1)
إذا فعطاء الله -عز وجل- وثوابه أكثر من عملك.
وفي الآية من الأسماء والصفات مما سبق في التي قبلها.
الآية السادسة: قوله: {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} [المائدة: 54] .
* الفاء واقعة في جواب الشرط في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} ، أي: إذا ارتددتم عن دين الله فإن ذلك لا يضر الله شيئًا، {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} ،
__________
(1) رواه البخاري/ كتاب التوحيد/ باب قوله تعالى: "ويحذركم الله نفسه"، ومسلم/ كتاب الذكر والدعاء/ باب الحث على باب الحث على ذكر الله تعالى.(8/193)
وهذا كقوله: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38] .
* فكل من ارتد عن دين الله، فإن الله لا يعبأ به؛ لأنه تعالى غني عنه، بل يزيله ويأتي بخير منه، {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ} بدل منهم {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} ، وإذا كانوا يحبون الله ويحبهم الله فسوف يقومون بطاعته.
*وتمام الآية: {أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين} : أما المؤمنين أذلة، يخفضون أجنحتهم للمؤمنين، ويلينون لهم، ويتطامنون، ومع الكفار أعزة أقوياء، لا يظهرون الذل أمام الكافر أبدًا.
وقد علمنا الرسول -عليه الصلاة والسلام-: «وإذا لقيتموهم في طريق، فاضطروهم إلى أضيقه» (1) فإذا لاقاكم اليهود والنصارى، ولو كانوا ألفًا وأنتم عشرة، نشق هذا الجمع، ولا نفسح لهم الطريق، بل نلجئهم إلى أضيقه، فنريهم العز بديننا لا بأنفسنا؛ لأننا نحن بشر وهم بشر، حتى يتبين لهم أن دين الإسلام هو الظاهر، وأن المتمسك به هو العزيز.
{يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} : يجاهدون في سبيل الله كل من قام ضد دين الله من كافر وفاسق وملحد ومارق يجاهدونه، وكل إنسان يقابلونه من السلاح بما يليق به، فمن قاتلهم بالحديد والنار، قاتلوه بالحديد والنار، ومن قاتلهم بالجدال والخصام الكلامي، جادلوه بمثل ذلك، فهم يجاهدون في الله بكل نوع من أنواع الجهاد.
__________
(1) رواه مسلم/ كتاب السلام/ باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام.(8/194)
وقوله: {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفًا كأنهم بنيان مرصوص} (1) ......
ـــــــــــــــــــــــــــــ
{وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} : لا يخافون نقد الناس عليهم، يقولون الحق ولو كان على أنفسهم.
لكنهم يستعملون الحكمة في هذا الجهاد ويرومون الوصول إلى الغاية، فإذا رأوا أن الدعوة تستوجب التأخر في بعض الأمور تأخروا، وإذا رأوا أن الدعوة تقتضي اللين في بعض الأحوال استعملوه؛ لأنهم يريدون الوصول إلى غاية معينة، والوسيلة حسب ما تقتضيه الحال.
* ثم قال الله تعالى: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} .
وفي الآية من الأسماء والصفات ما سبق في التي قبلها، وزيادة أن الله تعالى يكون محبوبًا.
الآية السابعة: قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4] .
*هذه الآية في سورة الصف، وسورة الصف في الحقيقة هي سورة الجهاد؛ لأن الله تعالى بدأها بالثناء على المقاتلين في سبيله، ثم دعا إلى الجهاد في آخرها، ثم ذكر بين ذلك أن الله سيظهر دينه على كل الأديان ولو كره المشركون.
* {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} : لا يتقدم أحد على أحد ولا يتأخر، حتى في الجهاد.
والصلاة جهاد مصغر، فيها قائد يجب اتباعه، فإن لم تتبعه، بطلت(8/195)
صلاتك، قال النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار، أو يجعل صورته صورة حمار» (1) ، والصف في الصلاة نظير الصف في الجهاد، وكان الرسول- عليه الصلاة والسلام- يصفهم في الجهاد كما يصفهم في الصلاة " «كأنهم بنيان» والبنيان كما قال الرسول -عليه الصلاة والسلام-: «يشد بعضه بعضا» ، (2) يتماسك بعضه ببعض؛ ولهذا قال: {كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} ، فليس كالمفرق: فالمرصوص أشد تماسكًا.
فهؤلاء الذين علق الله المحبة لهم بأعمالهم لهم عدة صفات:
أولًا: يقاتلون، فلا يركنون إلى الخلود والخمول والكسل والجمود الذي يضعف الدين والدنيا.
ثانيًا: الإخلاص، لقوله: {فِي سَبِيلِهِ} .
ثالثًا: يشد بعضهم بعضًا، لقوله: {صَفًّا} .
رابعًا: أنهم كالبنيان، والبنيان حصن منيع.
خامسًا: لا يتخللهم ما يمزقهم، لقوله: {مَرْصُوصٌ} .
هذه خمس صفات علق الله المحبة لهؤلاء عليها.
وفي الآية من الأسماء والصفات ما سبق في التي قبلها.
__________
(1) رواه البخاري/ كتاب الأذان/ باب أثم من رفع رأسه قبل الإمام، ومسلم/ كتاب الصلاة/ باب تحريم سبق الإمام.
(2) رواه البخاري/ كتاب الآداب/ باب تعاون المؤمنين بعضهم بعضاً.، ومسلم كتاب البر والصلة/ باب تراحم المؤمنين.(8/196)
وقوله: {وهو الغفور الودود} ....
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الآية الثامنة: قوله: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} [البروج: 14] .
{الْغَفُورُ} : الساتر لذنوب عباده المتجاوز عنها.
{الْوَدُودُ} مأخوذ من الود، وهو خالص المحبة، وهي بمعنى: واد، وبمعنى: مودود؛ لأنه عز وجل محب ومحبوب، كما قال تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] ، فالله عز وجل واد ومودود، واد لأوليائه، وأولياؤه يودونه يحبونه، يحبون الوصول إليه وإلى جنته ورضوانه.
وفي الآية اسمان من أسماء الله: الغفور، والودود، وصفتان: المغفرة، والود.
وأتمنى لو أن المؤلف أضاف آية تاسعة في المحبة، وهي الخلة، لقوله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125] ، والخليل هو من كان في أعلى المحبة، فالخلة أعلى أنواع المحبة؛ لأن الخليل هو الذي وصل حبه إلى سويداء القلب وتخلل مجاري عروقه، وليس فوق الخلة شيء من أنواع المحبة أبدًا.
يقول الشاعر لمعشوقته:
قد تخللت مسلك الروح مني ... وبذا سمي الخليل خليلًا
فالنبي -عليه الصلاة والسلام- يحب أصحابه كلهم، لكن ما اتخذ واحدًا منهم خليلًا أبدًا، قال النبي -عليه الصلاة -وهو يخطب الناس: «لو كنت متخذًا خليلًا من أمتي لاتخذت أبا بكر» (1) إذًا، أبو بكر هو أحب الناس
__________
(1) رواه مسلم/ كتاب فضائل الصحابة/ باب فضائل أبي بكر الصديق.(8/197)
إليه، لكن لم يصل إلى درجة الخلة؛ لأن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يتخذ أحدًا خليلًا، لكن أخوة الإسلام ومودته، وأما الخلة فهي بينه وبين ربه، قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إن الله اتخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا» . (1)
والخلة لا نعلم أنها ثبتت لأحد من البشر إلا لاثنين، هما إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام؛ لقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إن الله اتخذني خليلًا» .
وهذه الخلة صفة من صفات الله عز وجل؛ لأنها أعلى أنواع المحبة، وهي توقيفية، فلا يجوز أن نثبت لأحد من البشر أنه خليل إلا بدليل، حتى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، إلا هذين الرسولين الكريمين، فهما خليلان لله عز وجل.
وهذه الآية: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} هي التي استشهد بها من قتل الجعد بن درهم رأس المعطلة الجهمية، أول ما أنكر قال: إن الله لم يتخذ إبراهيم خليلًا ولم يكلم موسى تكليمًا، فقتله خالد بن عبد الله القسري رحمه الله، حيث خرج به موثقًا في يوم عيد الأضحى، وخطب الناس، وقال: أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم؛ لأنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلًا، ولم يكلم موسى تكليمًا، ثم نزل فذبحه.
ويقول ابن القيم في ذلك:
ولأجل ذا ضحى بجعد خالد ... القسري يوم ذبائح القربان
__________
(1) رواه مسلم (532) عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه.(8/198)
إذ قال إبراهيم ليس خليله كلا ولا موسى الكليم الداني شكر الضحية كل صاحب سنة لله درك من أخي قربان
فلدينا الآن محبة وود وخلة، فالمحبة والود مطلقة، والخلة خاصة بإبراهيم ومحمد.
ويجب أن يكون اعتمادنا في الأمور الغيبية على الأدلة السمعية، لكن لا مانع من أن نستدل بأدلة عقلية؛ لإلزام من أنكر أن تكون المحبة ثابتة بالأدلة العقلية، مثل الأشاعرة، يقولون: لا يمكن أن تثبت المحبة بين الله وبين العبد أبدًا؛ لأن العقل لا يدل عليها، وكل ما لا يدل عليه العقل فإنه يجب أن ننزه الله عنه.
فنحن نقول: نثبت المحبة بالأدلة العقلية، كما هي ثابتة عندنا بالأدلة السمعية؛ احتجاجًا على من أنكر ثبوتها بالعقل، فنقول وبالله التوفيق:
إثابة الطائعين بالجنات والنصر والتأييد وغيره، هذا يدل بلا شك على المحبة، ونحن نشاهد بأعيننا ونسمع بآذاننا عمن سبق وعمن لحق أن الله عز وجل أيد من أيد من عباده المؤمنين ونصرهم وأثابهم، وهل هذا إلا دليل على المحبة لمن أيدهم ونصرهم وأثابهم عز وجل؟!
وهنا سؤالان:
الأول: بماذا ينال الإنسان محبة الله عز وجل؟ وهذه هي التي يطلبها كل إنسان، والمحبة عبارة عن أمر فطري يكون في الإنسان ولا يملكه؛ ولهذا يروى أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- قال في العدل بين زوجاته:(8/199)
«هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما لا أملك» . (1)
فالجواب: أن المحبة لها أسباب كثيرة:
منها: أن ينظر الإنسان: من الذي خلقه؟ ومن الذي أمده بالنعم منذ كان في بطن أمه؟ ومن الذي أجرى إليك الدم في عروقك قبل أن تنزل إلى الأرض إلا الله عز وجل؟ من الذي دفع عنك النقم التي انعقدت أسبابها، وكثيرًا ما تشاهد بعينك آفات ونقمًا تهلكك، فيرفعها الله عنك؟
وهذا لا شك أنه يجلب المحبة؛ ولهذا ورد في الأثر: «أحبوا الله لما يغذوكم به من النعم» . (2)
وأعتقد لو أن أحدًا أهدى إليك قلمًا لأحببته، فإذا كان كذلك، فأنت انظر نعمة الله عليك النعم العظيمة الكثيرة التي لا تحصيها، تحب الله.
ولهذا إذا جاءت النعمة وأنت في حاجة شديدة إليها، تجد قلبك ينشرح، وتحب الذي أسداها إليك، بخلاف النعم الدائمة، فأنت تذكر هذه النعم التي أعطاك الله، وتذكر أيضًا أن الله فضلك على كثير من عباده المؤمنين، إن كان الله من عليك بالعلم فقد فضلك بالعلم، أو بالعبادة فقد فضلك بالعبادة، أو بالمال فقد فضلك بالمال، أو بالأهل فقد فضلك بالأهل، أو بالقوت فقد فضلك بالقوت، وما من نعمة إلا وتحتها ما هو دونها، فأنت إذا رأيت هذه النعمة العظيمة، شكرت الله وأحببته.
__________
(1) رواه أحمد (6/144) .
(2) رواه الترمذي/ كتاب المناقب (3789) ، والحاكم (2/150)(8/200)
ومنها: محبة ما يحبه الله من الأعمال القولية والفعلية والقلبية، تحب الذي يحبه الله، فهذا يجعلك تحب الله؛ لأن الله يجازيك على هذا أن يضع محبته في قلبك، فتحب الله إذا قمت بما يحب، وكذلك تحب من يحب، والفرق بينهما ظاهر، الأخيرة من الأشخاص، والأولى من الأعمال؛ لأننا أتينا بـ (ما) التي لغير العاقل من الأعمال والأماكن والأزمان، وهذه (من) للعاقل من الأشخاص، تحب النبي عليه الصلاة والسلام، تحب إبراهيم، تحب موسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء، تحب الصديقين، كأبي بكر، والشهداء، وغير ذلك ممن يحبهم الله؛ فهذا يجلب لك محبة الله، وهو أيضًا من أثار محبة الله، فهو سبب وأثر.
ومنها: كثرة ذكر الله، بحيث يكون دائمًا على بالك، حتى تكون كلما شاهدت شيئًا، استدللت به عليه عز وجل، حتى يكون قلبك دائمًا مشغولًا بالله، معرضًا عما سواه، فهذا يجلب لك محبة الله عز وجل.
وهذه الأسباب الثلاثة هي عندي من أقوى أسباب محبة الله عز وجل.
السؤال الثاني: ما هي الآثار المسلكية التي يستلزمها ما ذكر؟
والجواب:
أولًا: قوله: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] :يقتضي أن نحسن، وأن نحرص على الإحسان؛ لأن الله يحبه، وكل شيء يحبه الله فإننا نحرص عليه.
ثانيًا: قوله: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9] يقتضي أن نعدل ونحرص على العدل.(8/201)
ثالثًا: قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 7] : يقتضي أن نتقي الله عز وجل، لا نتقي المخلوقين بحيث إذا كان عندنا من نستحي منه من الناس، تركنا المعاصي، وإذا لم يكن، عصينا، فالتقوى أن نتقي الله عز وجل، ولا يهمك الناس. أصلح ما بينك وبين الله، يصلح الله ما بينك وبين الناس. انظر يا أخي إلى الشيء الذي بينك وبين ربك، ولا يهمك غير ذلك؛ {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج: 38] افعل ما يقتضيه الشرع، وستكون لك العاقبة.
رابعًا: يقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} [البقرة: 222] وهذه تستوجب أن أكثر التوبة إلى الله عز وجل، أكثر أن أرجع إلى الله بقلبي وقالبي، ومجرد قول الإنسان: أتوب إلى الله. هذا قد لا ينفع، لكن تستحضر وأنت تقول:" أتوب إلى الله "أن بين يديك معاصي، ترجع إلى الله منها وتتوب؛ حتى تنال بذلك محبة الله.
{وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] إذا غسلت ثوبك من النجاسة، تحس بأن الله أحبك؛ لأن الله يحب المتطهرين؛ إذا توضأت تحس بأن الله أحبك؛ لأنك تطهرت؛ إذا اغتسلت تحس أن الله أحبك؛ لأن الله يحب المتطهرين....
ووالله إننا لغافلون عن هذه المعاني، أكثر ما نستعمل الطهارة من النجاسة أو من الأحداث، لأنها شرط لصحة الصلاة؛ خوفًا من أن تفسد صلاتنا، لكن يغيب عنا كثيرًا أن نشعر بأن هذا قربة وسبب لمحبة الله لنا، لو كنا نستحضر عندما يغسل الإنسان نقطة بول أصابت ثوبه أن ذلك يجلب محبة الله له لحصلنا خيرًا كثيرًا، لكننا في غفلة.(8/202)
خامسًا: قوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31] هذا أيضًا يستوجب أن نحرص غاية الحرص على اتباع النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بحيث نترسم طريقه، لا نخرج منه، ولا نقصر عنه، ولا نزيد ولا ننقص.
وشعورنا هذا يحمينا من البدع، ويحمينا من التقصير، ويحمينا من الزيادة والغلو، ولو أننا نشعر بهذه الأمور، فانظر كيف يكون سلوكنا آدابنا وأخلاقنا وعباداتنا.
سادسًا: قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] نحذر به من الردة عن الإسلام، التي منها ترك الصلاة مثلًا، فإذا علمنا أن الله يهددنا بأننا إن ارتددنا عن ديننا أهلكنا الله، وأتى بقوم يحبهم ويحبونه، ويقومون بواجبهم نحو ربهم، فإننا نلازم طاعة الله والابتعاد عن كل ما يقرب للردة.
سابعًا: قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4] .
إذا آمنا بهذه المحبة، فعلنا هذه الأسباب الخمسة التي تستلزمها وتوجبها: القتال، وعدم التواني، والإخلاص، بأن يكون في سبيل الله، أن يشد بعضنا بعضًا كأننا بنيان، أن نحكم الرابطة بيننا إحكامًا قويًا كالبنيان المرصوص، أن نصف، وهذا يقتضي التساوي حسًا، حتى لا تختلف القلوب، وهو مما يؤكد الألفة، والإنسان إذا رأى واحدًا عن يمينه وواحدًا عن يساره، يقوى على الإقدام، لكن لو يحيطون به من جميع الجوانب، فستشتد همته.(8/203)
فصار في هذه الآيات ثلاثة مباحث:
1 -إثبات المحبة بالأدلة السمعية.
2 -أسبابها.
3 -الآثار المسلكية في الإيمان بها.
أما أهل البدع الذين أنكروها، فليس عندهم إلا حجة واهية، يقولون:
أولًا: إن العقل لا يدل عليها.
ثانيًا: إن المحبة إنما تكون بين اثنين متجانسين، لا تكون بين رب ومخلوق أبدًا، ولا بأس أن تكون بين المخلوقات. ونحن نرد عليهم فنقول:
نجيبكم عن الأول - وهو أن العقل لا يدل عليها - بجوابين: أحدهما: بالتسليم، والثاني: بالمنع.
التسليم: نقول: سلمنا أن العقل لا يدل على المحبة، فالسمع دل عليها، وهو دليل قائم بنفسه، والله عز وجل يقول في القرآن: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] ،فإذا كان تبيانًا، فهو دليل قائم بنفسه، "وانتفاء الدليل المعين لا يلزم منه انتفاء المدلول"؛ لأن المدلول قد يكون له أدلة متعددة، سواء الحسيات أو المعنويات:
فالحسيات: مثل بلد له عدة طرق توصل إليه، فإذا انسد طريق، ذهبنا مع الطريق الثاني.(8/204)
وقوله: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (1) ................................................ {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} (1) .............................................
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أما المعنويات، فكم من حكم واحد يكون له عدة أدلة، وجوب الطهارة للصلاة مثلًا فيه أدلة متعددة.
فإذًا،إذا قلتم: إن العقل لا يدل على إثبات المحبة بين الخالق والمخلوق، فإن السمع دل عليه بأجلى دليل وأوضح بيان.
الجواب الثاني: المنع؛ أن نمنع دعوى أن العقل لا يدل عليها، ونقول: بل العقل دل على إثبات المحبة بين الخالق والمخلوق، كما سبق.
وأما قولكم: إن المحبة لا تكون إلا بين متجانسين، فيكفي أن نقول: لا قبول لدعواكم؛ لأن المنع كاف في رد الحجة، إذ إن الأصل عدم الثبوت، فنقول: دعواكم أنها لا تكون إلا بين متجانسين ممنوع، بل هي تكون بين غير المتجانسين، فالإنسان عنده ساعة قديمة ما أتعبته بالصيانة وما فسدت عليه قط فتجده يحبها، وعنده ساعة تأخذ نصف وقته في التصليح فتجده يبغضها. وأيضًا نجد أن البهائم تحب وتحب.
فنحن - ولله الحمد - نثبت لله المحبة بينه وبين عباده.
صفة الرحمة
(1) هذه آيات في إثبات صفة الرحمة:
الآية الأولى: قوله: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل: 30] .
هذه آية أتى بها المؤلف ليثبت حكمًا، وليست مقدمة لما بعدها، وقد سبق لنا شرح البسملة، فلا حاجة إلى إعادته.
وفيها من أسماء الله ثلاثة: الله، الرحمن، الرحيم. ومن صفاته:(8/205)
الألوهية، والرحمة (1) الآية الثانية: قوله: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7] . هذا يقوله الملائكة: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر: 7] .
ما أعظم الإيمان وأعظم فائدته!
الملائكة حول العرش يحملونه، يدعون الله للمؤمن.
*وقوله: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً} : يدل على أن كل شيء وصله علم الله، وهو واصل لكل شيء، فإن رحمته وصلت إليه؛ لأن الله قرن بينهما في الحكم {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} .
وهذه هي الرحمة العامة التي تشمل جميع المخلوقات، حتى الكفار؛ لأن الله قرن الرحمة هذه مع العلم، فكل ما بلغه علم الله، وعلم الله بالغ لكل شيء، فقد بلغته رحمته، فكما يعلم الكافر، يرحم الكافر أيضًا.
لكن رحمته للكافر رحمة جسدية بدنية دنيوية قاصرة غاية القصور بالنسبة لرحمة المؤمن، فالذي يرزق الكافر هو الله الذي يرزقه بالطعام والشراب واللباس والمسكن والمنكح وغير ذلك.
أما المؤمنون، فرحمتهم رحمة أخص من هذه وأعظم؛ لأنها رحمة إيمانية دينية دنيوية.
ولهذا تجد المؤمن أحسن حالًا من الكافر، حتى في أمور الدنيا؛ لأن الله يقول: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً}(8/206)
{وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} (1) ......................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[النحل: 97] الحياة الطيبة هذه مفقودة بالنسبة للكفار، حياتهم كحياة البهائم، إذا شبع روث، وإذا لم يشبع جلس يصرخ،هكذا هؤلاء الكفار، إن شبعوا بطروا، وإلا جلسوا يصرخون ولا يستفيدون من دنياهم، لكن المؤمن إن أصابته سراء شكر، فهو في خير في هذا وفي هذا، وقلبه منشرح مطمئن متفق مع القضاء والقدر، لا جزع عند البلاء، ولا بطر عند النعماء، بل هو متوازن مستقيم معتدل. فهذا فرق ما بين الرحمة هذه وهذه.
لكن مع الأسف الشديد أيها الأخوة: إن منا أناسًا آلافًا يريدون أن يلحقوا بركب الكفار في الدنيا، حتى جعلوا الدنيا هي همهم، إن أعطوا رضوا، وإن لم يعطوا إذا هم يسخطون هؤلاء، مهما بلغوا في الرفاهية الدنيوية فهم في جحيم، لم يذوقوا لذة الدنيا أبدًا، إنما ذاقها من آمن بالله وعمل صالحًا؛ ولهذا قال بعض السلف: والله لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف. لأنه حال بينهم وبين هذا النعيم ما هم عليه من الفسوق والعصيان والركون إلى الدنيا، وأنها أكبر همهم ومبلغ علمهم.
قوله: {رَحْمَةً وَعِلْمًا) : (رَحْمَةً} : تمييز محول عن الفاعل، وكذلك {وَعِلْمًا} ؛ لأن الأصل: ربنا وسعت رحمتك وعلمك كل شيء.
وفي الآية من صفات الله: الربوبية،وعموم الرحمة، والعلم.
(1) الآية الثالثة: قوله: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43] .(8/207)
{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (1) . {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} (2) .................
ـــــــــــــــــــــــــــــ
* {بِالْمُؤْمِنِينَ} : متعلق بـ (رحيم) ، وتقديم المعمول يدل على الحصر، فيكون معنى الآية: وكان بالمؤمنين لا غيرهم رحيمًا.
ولكن كيف نجمع بين هذه الآية والتي قبلها: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر:7] ؟
نقول: الرحمة التي هنا غير الرحمة التي هناك، هذه رحمة خاصة متصلة برحمة الآخرة لا ينالها الكفار، بخلاف الأولى. هذا هو الجمع بينهما، وإلا فكل مرحوم، لكن فرق بين الرحمة الخاصة والرحمة العامة.
وفي الآية من الصفات: الرحمة.
ومن الناحية المسلكية: الترغيب في الإيمان.
(1) الآية الرابعة: قوله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156 (يقول جل جلاله ممتدحًا مثنيًا على نفسه {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} ، فأثنى على نفسه عز وجل بأن رحمته وسعت كل شيء من أهل السماء ومن أهل الأرض.
ونقول فيها ما قلنا في الآية الثانية، فليرجع إليه.
(2) الآية الخامسة: قوله: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54] .
* {كَتَبَ} : بمعنى: أوجب على نفسه الرحمة، فالله عز وجل لكرمه وفضله وجوده أوجب على نفسه الرحمة، وجعل رحمته سابقه لغضبه، {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر: 45] ، لكن حلمه ورحمته أوجبت أن يبقى الخلق إلى أجل مسمى.
*ومن رحمته ما ذكره بقوله:(8/208)
{وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (1) .......................
ـــــــــــــــــــــــــــــ
{أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 54] : هذه من رحمته.
* {سُوءًا} : نكرة في سياق الشرط، فتعم كل سوء، حتى الشرك.
* {بِجَهَالَةٍ} : يعني: بسفه، وليس المراد بها عدم العلم، والسفه عدم الحكمة؛ لأن كل من عصى الله فقد عصاه بجهالة وسفه وعدم حكمة.
{ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} : فيغفر ذنبه ويرحمه.
ولم يختم الآية بهذا، إلا سينال التائب المغفرة والرحمة، هذا من رحمته التي كتبها على نفسه، وإلا لكان مقتضى العدل أن يؤاخذه على ذنبه، ويجزيه على عمله الصالح.
فلو أن رجلًا أذنب خمسين يومًا، ثم تاب وأصلح خمسين يومًا، فالعدل أن نعذبه عن خمسين يومًا، ونجازيه بالثواب عن خمسين يومًا، لكن الله عز وجل كتب على نفسه الرحمة، فكل الخمسين يومًا التي ذهبت من السوء تمحى وتزول بساعة، وزد على ذلك: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70] ؛السيئات الماضية تكون حسنات؛ لأن كل حسنة عنها توبة، وكل توبة فيها أجر.
فظهر بهذا أثر قوله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} .
وفي الآية من صفات الله: الربوبية، والإيجاب، والرحمة.
(1) الآية السادسة: قوله: {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس: 107] .
* الله عز وجل هو الغفور الرحيم، جمع عز وجل بين هذين الاسمين؛ لأن بالمغفرة سقوط عقوبة الذنوب، وبالرحمة حصول المطلوب، والإنسان مفقتر إلى هذا وهذا، ومفتقر إلى مغفرة ينجو بها من آثامه، ومفتقر إلى رحمة يسعد بها بحصول مطلوبة.(8/209)
{فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (1) ..........................................
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فـ {الْغَفُورُ} : صيغة مبالغة مأخوذة من الغفر، وهو الستر مع الوقاية؛ لأنه مأخوذ من المغفر، والمغفر شيء يوضع على الرأس في القتال يقي من السهام، وهذا المغفر تحصل به فائدتان هما: ستر الرأس،والوقاية. فـ {الْغَفُورُ} : الذي يستر ذنوب عباده ويقيهم آثامها بالعفو عنها.
ويدل على هذا ما ثبت في الصحيح: «أن الله عز وجل يخلو يوم القيامة بعبده، ويقرره بذنوبه، يقول: عملت كذا، وعملت كذا.. حتى يقر، فيقول الله عز وجل له: قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم» . (1)
*أما {الرَّحِيمُ} :فهو ذو الرحمة الشاملة.وسبق الكلام في ذلك.
(1) الآية السابعة: قوله: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 64] ، قالها عن يعقوب حين أرسل مع أبنائه أخا يوسف الشقيق؛ لأن يوسف -عليه الصلاة والسلام- قال: لا كيل لكم إذا رجعتم، إلا إذا أتيتم بأخيكم، فبلغوا والدهم هذه الرسالة، ومن أجل الحاجة أرسله معهم، وقال لهم عند وداعه: {هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 64] يعني: لن تحفظوه، لكن الله هو الذي يحفظه.
* {خَيْرٌ حَافِظًا} : حَافِظًا: قال العلماء: إنها تمييز، كقول
__________
(1) رواها لبخاري/ كتاب المظالم/ باب قوله تعالى: "ألا لعنة الله على الظالمين"، ومسلم/ كتاب التوبة/ باب قبول توبة القاتل.(8/210)
العرب: لله دره فارسًا. وقيل: إنها حال من فاعل {خَيْرٌ} في قوله: {فَاللَّهُ خَيْرٌ} ، أي: حال كونه حافظًا.
الشاهد من الآية هنا قوله: {وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} ، حيث أثبت الله عز وجل الرحمة، بل بين أنه أرحم الراحمين، لو جمعت رحمة الخلق كلهم، بل رحمات الخلق كلهم، لكانت رحمة الله أشد وأعظم.
أرحم ما يكون من الخلق بالخلق رحمة الأم ولدها، فإن رحمة الأم ولدها لا يساويها شيء من رحمة الناس أبدًا، حتى الأب لا يرحم أولاده مثل أمهم في الغالب.
«جاءت امرأة في السبي تطلب ولدها وتبحث عنه، فلما رأته، أخذته بشفقة وضمته إلى صدرها أمام الناس وأمام الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أترون أن هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ ". قالوا: لا والله يا رسول الله. قال: "لله أرحم بعباده من هذه بولدها» . (1)
جل جلاله، عز ملكه وسلطانه.
كل الراحمين إذا جمعت رحماتهم كلهم، فليست بشيء عند رحمة الله.
ويدلك على هذا أن الله عز وجل خلق مئة رحمة، وضع منها رحمة واحدة يتراحم بها الخلائق في الدنيا. (2)
__________
(1) رواه البخاري/ كتاب الأدب/ باب رحمة الولد، ومسلم/ كتاب التوبة/ باب في سعة رحمة الله.
(2) رواه البخاري/ كتاب الأدب/ باب جعل الله الرحمة في مائة جزء، ومسلم/ كتاب التوبة/ باب في سعة رحمة الله.(8/211)
كل الخلائق تتراحم، البهائم والعقلاء؛ ولهذا تجد البعير الجموح الرموح ترفع رجلها عن ولدها مخافة أن تصيبه عندما يرضع،حتى يرضع بسهولة ويسر، وكذلك تجد السباع الشرسة تجدها تحن على ولدها وإذا جاءها أحد في جحرها مع أولادها، ترمي نفسها عليه، فتدافع عنهم، حتى ترده عن أولادها.
وقد دل على ثبوت رحمة الله تعالى: الكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل:
فأما الكتاب، فجاء به إثبات الرحمة على وجوه متنوعة: تارة بالاسم، كقوله: {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس: 107] وتارة بالصفة، كقوله: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ} [الكهف: 58] وتارة بالفعل، كقوله: {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ} [العنكبوت: 21] وتارة باسم التفضيل، كقوله: {وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92] .
وبمثل هذه الوجوه جاءت السنة.
وأما الأدلة العقلية على ثبوت الرحمة لله تعالى، فمنها ما نرى من الخيرات الكثيرة التي تحصل بأمر الله عز وجل، ومنها ما نرى من النقم الكثيرة التي تندفع بأمر الله، كله دال على إثبات الرحمة عقلًا.
فالناس في جدب وفي قحط، الأرض مجدبة، والسماء قاحطة، لا مطر، ولا نبات، فينزل الله المطر، وتنبت الأرض، وتشبع الأنعام، ويسقي الناس.. حتى العامي الذي لم يدرس، لو سألته وقلت: هذا من أي شيء؟ فسيقول: هذا من رحمة الله،ولا يشك أحد في هذا أبدًا.(8/212)
فرحمة الله عز وجل ثابتة بالدليل السمعي والدليل العقلي.
وأنكر الأشاعرة وغيرهم من أهل التعطيل أن يكون الله تعالى متصفًا بالرحمة، قالوا: لأن العقل لم يدل عليها. وثانيًا: لأن الرحمة رقة وضعف وتطامن للمرحوم، وهذا لا يليق بالله عز وجل؛ لأن الله أعظم من أن يرحم بالمعنى الذي هو الرحمة، ولا يمكن أن يكون لله رحمة!! وقالوا: المراد بالرحمة: إرادة الإحسان، أو: الإحسان نفسه، أي: إما النعم، أو إرادة النعم.
فتأمل الآن كيف سلبوا هذه الصفة العظيمة التي كل مؤمن يرجوها ويؤملها، كل إنسان لو سألته: ماذا تريد؟ قال: أريد رحمة الله {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56] . أنكروا هذا، قالوا: لا يمكن أن يوصف الله بالرحمة!!
ونحن نرد عليهم قولهم من وجهين: بالتسليم، والمنع:
التسليم أن نقول: هب أن العقل لا يدل عليها، ولكن السمع دل عليها، فثبتت بدليل آخر، والقاعدة العامة عند جميع العقلاء: أن انتفاء الدليل المعين لا يستلزم انتفاء المدلول؛ لأنه قد يثبت بدليل آخر. فهب أن الرحمة لم تثبت بالعقل، لكن ثبتت بالسمع، وكم من أشياء ثبتت بأدلة كثيرة.
أما المنع، فنقول: إن قولكم: إن العقل لا يدل على الرحمة: قول باطل، بل العقل يدل على الرحمة، فهذه النعم المشهودة والمسموعة، وهذه النقم المدفوعة، ما سببها؟ إن سببها الرحمة بلا شك، ولو كان الله لا(8/213)
يرحم العباد، ما أعطاهم النعم، ولا دفع عنهم النقم!
وهذا أمر مشهود، يشهد به الخاص والعام، العامي في دكانه أو سوقه يعرف أن هذه النعم من آثار الرحمة.
والعجيب أن هؤلاء القوم أثبتوا صفة الإرادة عن طريق التخصيص، قالوا: الإرادة ثابتة لله تعالى بالسمع والعقل: بالسمع: واضح. وبالعقل: لأن التخصيص يدل على الإرادة، ومعنى التخصيص يعني تخصيص المخلوقات بما هي عليه يدل على الإرادة، كون هذه السماء سماء، وهذه الأرض أرضًا، وهذه النجوم وهذه الشمس ... هذه مختلفة بسبب الإرادة، أراد الله أن تكون السماء سماء، فكانت، وأن تكون الأرض أرضًا، فكانت، والنجم نجمًا، فكان.... وهكذا.
قالوا: فالتخصيص يدل على الإرادة؛ لأنه لولا الإرادة لكان الكل شيئًا واحدًا!
نقول لهم: يا سبحان الله العظيم! هذا الدليل على الإرادة بالنسبة لدلالة النعم على الرحمة أضعف وأخفى من دلالة النعم على الرحمة؛ لأن دلالة النعم على الرحمة يستوي في علمها العام والخاص، ودلالة التخصيص على الإرادة لا يعرفها إلا الخاص من طلبة العلم، فكيف تنكرون ما هو أجلى وتثبتون ما هو أخفى؟! وهل هذا إلا تناقض منكم؟!
ما نستفيده من الناحية المسلكية في هذه الآيات:
الأمر المسلكي: هو أن الإنسان ما دام يعرف أن الله تعالى رحيم، فسوف يتعلق برحمة الله، ويكون منتظرًا لها، فيحمله هذا الاعتقاد على(8/214)
وقوله: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (1) ..........................................
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فعل كل سبب يوصل إلى الرحمة؛ مثل: الإحسان، قال الله تعالى فيه: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56] والتقوى، قال تعالى: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 156] ،والإيمان، فإنه من أسباب رحمة الله، كما قال تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43] وكلما كان الإيمان أقوى، كانت الرحمة إلى صاحبه أقرب بإذن الله عز وجل.
صفة الرضى
هذه من آيات الرضى، فالله سبحانه وتعالى موصوف بالرضى، وهو يرضى عن العمل، ويرضى عن العامل.
يعني: أن رضى الله متعلق بالعمل وبالعامل.
أما بالعمل، فمثل قوله تعالى: {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7] أي: يرض الشكر لكم.
وكما في قوله تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] وكما في الحديث الصحيح: "إن «الله يرضى لكم ثلاثًا، ويكره لكم ثلاثًا» ... ".
فهذا الرضى متعلق بالعمل.
ويتعلق الرضى أيضًا بالعامل، مثل هذه الآية التي ساقها المؤلف: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة: 119] .
فرضى الله صفة ثابتة لله عز وجل، وهي في نفسه، وليست شيئًا منفصلًا عنه كما يدعيه أهل التعطيل.(8/215)
ولو قال لك قائل: فسر لي الرضى. لم تتمكن من تفسيره؛ لأن الرضى صفة في الإنسان غريزية، والغرائز لا يمكن لإنسان أن يفسرها بأجلى وأوضح من لفظها. فنقول: الرضى صفة في الله عز وجل، وهي صفة حقيقية، متعلقة بمشيئته، فهي من الصفات الفعلية، يرضى عن المؤمنين،وعن المتقين،وعن المقسطين وعن الشاكرين، ولا يرضى عن القوم الكافرين، ولا يرضى عن القوم الفاسقين، ولا يرضى عن المنافقين، فهو سبحانه وتعالى يرضى عن أناس ولا يرضى عن أناس، ويرضى أعمالًا ويكره أعمالًا.
ووصف الله تعالى بالرضى ثابت بالدليل السمعي، كما سبق، وبالدليل العقلي، فإن كونه عز وجل يثيب الطائعين ويجزيهم على أعمالهم وطاعاتهم يدل على الرضى.
فإن قلت: استدلالك بالمثوبة على رضى الله عز وجل قد ينازع فيه؛ لأن الله سبحانه قد يعطي الفاسق من النعم أكثر مما يعطي الشاكر. وهذا إيراد قوي.
ولكن الجواب عنه أن يقال: إعطاؤه الفاسق المقيم على معصيته استدراج، وليس عن رضى:
كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف: 182-183] .
وقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه، لم يفلته» ، وتلا قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}(8/216)
وقوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} (1) ...................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[هود: 102] .
وقال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 44-45] .
أما إذا جاءت المثوبة والإنسان مقيم على طاعة الله، فإننا نعرف أن ذلك صادر عن رضى الله عنه.
آيات صفات الغضب والسخط والكراهية والبغض
ذكر المؤلف -رحمه الله -في هذه الصفات خمس آيات:
الآية الأولى: قوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} [النساء: 93] .
* {وَمَنْ} : شرطية. و (من) الشرطية تفيد العموم.
{مُؤْمِنًا} : هو من آمن بالله ورسوله، فخرج به الكافر والمنافق.
لكن من قتل كافرًا له عهد أو ذمة أو أمان، فهو آثم، لكن لا يستحق الوعيد المذكور في الآية.
وأما المنافق فهو معصوم الدم ظاهرًا، ما لم يعلن بنفاقه.
وقوله {مُتَعَمِّدًا} : يدل على إخراج الصغير وغير العاقل؛ لأن(8/217)
هؤلاء ليس لهم قصد معتبر ولا عمد، وعلى إخراج المخطئ، وقد سبق بيانه في الآية التي قبلها.
فالذي يقتل مؤمنًا متعمدًا جزاؤه هذا الجزاء العظيم.
{جَهَنَّمُ} : اسم من أسماء النار.
{خَالِدًا فِيهَا} ، أي: ماكثًا فيها.
( {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ} : الغضب صفة ثابتة لله تعالى على الوجه اللائق به، وهي من صفاته الفعلية.
{وَلَعَنَهُ} : اللعن هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله.
فهذه أربعة أنواع من العقوبة، والخامس قوله: ( {وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} .
خمس عقوبات، واحدة منها كافية في الردع والزجر لمن كان له قلب.
ولكن يشكل على منهج أهل السنة ذكر الخلود في النار، حيث رتب على القتل، والقتل ليس بكفر، ولا خلود في النار عند أهل السنة إلا بالكفر.
وأجيب عن ذلك بعدة أوجه:
الوجه الأول: أن هذه في الكافر إذا قتل المؤمن.
لكن هذا القول ليس بشيء؛ لأن الكافر جزاؤه جهنم خالدًا فيها وإن لم يقتل المؤمن: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [الأحزاب: 64-65] .(8/218)
الوجه الثاني: أن هذا فيمن استحل القتل؛ لأن الذي يستحل قتل المؤمن كافر.
وعجب الإمام أحمد من هذا الجواب، قال: كيف هذا؟! إذا استحل قتله فهو كافر وإن لم يقتله، وهو مخلد في النار وإن لم يقتله.
ولا يستقيم هذا الجواب أيضًا.
الوجه الثالث: أن هذه الجملة على تقدير شرط، أي: فجزاؤه جهنم خالدًا فيها إن جازاه.
وفي هذا نظر، أي فائدة في قوله: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} ، ما دام المعنى إن جازاه فنحن الآن نسأل: إذا جازاه، فهل هذا جزاؤه؟ فإذا قيل: نعم، فمعناه أنه صار خالدًا في النار، فتعود المشكلة مرة أخرى، ولا نتخلص.
فهذه ثلاثة أجوبة لا تسلم من الاعتراض.
الوجه الرابع: أن هذا سبب، ولكن إذا وجد مانع لم ينفذ السبب، كما نقول: القرابة سبب للإرث، فإذا كان القريب رقيقًا، لم يرث؛ لوجود المانع وهو الرق.
ولكن يرد علينا الإشكال من وجه آخر، وهو: ما الفائدة من هذا الوعيد؟
فنقول: الفائدة أن الإنسان الذي يقتل مؤمنًا متعمدًا قد فعل السبب الذي يخلد به في النار، وحينئذ يكون وجود المانع محتملًا، قد يوجد،(8/219)
وقد لا يوجد، فهو على خطر جدًا؛ ولهذا قال النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا» . فإذا أصاب دمًا حرامًا -والعياذ بالله- فإنه قد يضيق بدينه حتى يخرج منه.
وعلى هذا، فيكون الوعيد هنا باعتبار المال؛ لأنه يخشى أن يكون هذا القتل سببًا لكفره، وحينئذ يموت على الكفر، فيخلد.
فيكون في هذه الآية على هذا التقدير ذكر سبب السبب، فالقتل عمدًا سبب لأن يموت الإنسان على الكفر، والكفر سبب للتخليد في النار.
وأظن هذا إذا تأمله الإنسان يجد أنه ليس فيه إشكال.
الوجه الخامس: أن المراد بالخلود المكث الطويل، وليس المراد به المكث الدائم؛ لأن اللغة العربية يطلق فيها الخلود على المكث الطويل كما يقال: فلان خالد في الحبس، والحبس ليس بدائم. ويقولون: فلان خالد خلود الجبال، ومعلوم أن الجبال ينسفها ربي نسفًا فيذرها قاعًا صفصفًا.
وهذا أيضًا جواب سهل لا يحتاج إلى تعب، فنقول: إن الله عز وجل لم يذكر التأبيد، لم يقل: خالدًا فيها أبدًا بل قال: {خَالِدًا فِيهَا} ، والمعنى: أنه ماكث مكثًا طويلًا.
الوجه السادس: أن يقال: إن هذا من باب الوعيد، والوعيد يجوز إخلافه؛ لأنه انتقال من العدل إلى الكرم، والانتقال من العدل إلى الكرم كرم وثناء،وأنشدوا عليه قول الشاعر:
وإني وإن أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي(8/220)
أوعدته بالعقوبة ووعدته بالثواب، لمخلف إيعادي ومنجز موعدي.
وأنت إذا قلت لابنك: والله، إن ذهبت إلى السوق، لأضربنك بهذا العصا. ثم ذهب إلى السوق، فلما رجع، ضربته بيدك، فهذا العقاب أهون على ابنك، فإذا توعد الله عز وجل القاتل بهذا الوعيد، ثم عفا عنه، فهذا كرم.
ولكن هذا في الحقيقة فيه شيء من النظر؛ لأننا نقول: إن نفذ الوعيد، فالإشكال باق، وإن لم ينفذ، فلا فائدة منه.
هذه ستة أوجه في الجواب عن الآية، وأقربها الخامس، ثم الرابع.
مسألة: إذا تاب القاتل، هل يستحق الوعيد؟
الجواب: لا يستحق الوعيد بنص القرآن؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 68-70] وهذا واضح، أن من تاب - حتى من القتل، فإن الله تعالى يبدل سيئاته حسنات.
والحديث الصحيح في «قصة الرجل من بني إسرائيل الذي قتل تسعًا وتسعين نفسًا، فألقى الله في نفسه التوبة، فجاء إلى عابد، فقال له: إنه قتل تسعًا وتسعين نفسًا، فهل له من توبة؟ فالعابد استعظم الأمر وقال: ليس لك توبة! فقتله، فأتم به المائة. فدل على عالم، فقال: إنه قتل مائة نفس، فهل له من توبة؟ قال: نعم، ومن يحول بينك وبين التوبة؟!»(8/221)
«ولكن هذه القرية ظالم أهلها، فاذهب إلى القرية الفلانية، فيها أهل خير وصلاة، فسافر الرجل، وهاجر من بلده إلى بلد الخير والصلاح، فوافته المنية في أثناء الطريق، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، حتى أنزل الله بينهم حكمًا، وقال: قيسوا ما بين القريتين، فإلى أيتهما كان أقرب فهو من أهلها، فكان أقرب إلى أهل القرية الصالحة فقبضته ملائكة الرحمة» .
فانظر كيف كان من بني إسرائيل فقبلت توبته، مع أن الله جعل عليهم آصارًا وأغلالًا، وهذه الأمة رفع عنها الآصار والأغلال، فالتوبة في حقها أسهل، فإذا كان هذا في بني إسرائيل، فكيف بهذه الأمة؟!
فإن قلت: ماذا تقول فيما صح عن ابن عباس - رضي الله عنهما-: أن القاتل ليس له توبة؟!
فالجواب: من أحد الوجهين:
إما أن ابن عباس - رضي الله عنهما- استبعد أن يكون للقاتل عمدًا توبة، ورأى أنه لا يوفق للتوبة، وإذا لم يوفق للتوبة، فإنه لا يسقط عنه الإثم، بل يؤاخذ به.
وإما أن يقال: إن مراد ابن عباس -رضي الله عنهما-: أن لا توبة له فيما يتعلق بحق المقتول؛ لأن القاتل عمدًا يتعلق به ثلاثة حقوق: حق الله، وحق المقتول، والثالث لأولياء المقتول.(8/222)
وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} (1) ........................
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أ-أما حق الله، فلا شك أن التوبة ترفع؛ لقوله تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53] ،وهذه في التائبين.
ب- وأما حق أولياء المقتول، فيسقط إذا سلم الإنسان نفسه لهم، أتى إليهم وقال: أنا قتلت صاحبكم، واصنعوا ما شئتم فهم إما أن يقتصوا، أو يأخذوا الدية، أو يعفوا، والحق لهم.
جـ- وأما حق المقتول، فلا سبيل إلى التخلص منه في الدنيا.
وعلى هذا يحمل قول ابن عباس أنه لا توبة له، أي: بالنسبة لحق المقتول.
على أن الذي يظهر لي أنه إذا تاب توبة نصوحًا، فإنه حتى حق المقتول يسقط، لا إهدارًا لحقه، ولكن الله عز وجل بفضله يتحمل عن القاتل، ويعطي المقتول رفعة درجات في الجنة أو عفوًا عن السيئات؛ لأن التوبة الخالصة لا تبقي شيئًا، ويؤيد هذا عموم آية الفرقان: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} إلى قوله: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70] .
وفي هذه الآية من صفات الله: الغضب، واللعن،وإعداد العذاب.
وفيها من الناحية المسلكية التحذير من قتل المؤمن عمدًا.
(1) * الآية الثانية: قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} [محمد: 28] .(8/223)
وقوله: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} (1) ................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــ
{ذَلِكَ} : المشار إليه ما سبق، والذي سبق هو قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 27-28] يعني: فكيف تكون حالهم في تلك اللحظات إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم عند الموت؟ !
{ذَلِكَ} ، أي: ضرب الوجوه والأدبار.
{بِأَنَّهُمُ} ، أي: بسبب، فالباء للسببية.
{اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ} ، أي: الذي أسخط الله، فصاروا يفعلون كل ما به سخط الله عز وجل من عقيدة أو قول أو فعل.
أما ما فيه رضي الله، فحالهم فيه قوله: {وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} ، أي كرهوا ما فيه رضاه، فصارت عاقبتهم تلك العاقبة الوخيمة، أنهم عند الوفاة تضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم.
وفي هذه الآية من صفات الله: إثبات السخط والرضى.
وسبق الكلام على صفة الرضى، وأما السخط، فمعناه قريب من معنى الغضب.
(1) الآية الثالثة: قوله: {فلما آسفونا انتقمنا منهم} [الزخرف: 55] .
{آسَفُونَا} ، يعني: أعضبونا وأسخطونا.
{فَلَمَّا} : هنا شرطية، فعل الشرط فيها: {آسَفُونَا} ، وجوابه:(8/224)
{انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} .
ففيها رد على من فسروا السخط والغضب بالانتقام؛ لأن أهل التعطيل من الأشعرية وغيرهم يقولون: إن المراد بالسخط والغضب:الانتقام، أو إرادة الانتقام، ولا يفسرون السخط والغضب بصفة من صفات الله يتصف بها هو نفسه، فيقولون: غضبه، أي انتقامه، أو إرادة انتقامه، فهم إما أن يفسروا الغضب بالمفعول المنفصل عن الله وهو الانتقام، أو بالإرادة؛ لأنهم يقرون بها، ولا يفسرونه بأنه صفة ثابتة لله على وجه الحقيقة تليق به.
ونحن نقول لهم: بل السخط والغضب غير الانتقام، والانتقام نتيجة الغضب والسخط، كما نقول: إن الثواب نتيجة الرضى، فالله سبحانه وتعالى يسخط على هؤلاء القوم ويغضب عليهم ثم ينتقم منهم.
وإذا قالوا: إن العقل يمنع ثبوت السخط والغضب لله عز وجل.
فإننا نجيبهم بما سبق في صفة الرضى؛ لأن الباب واحد.
ونقول: بل العقل يدل على السخط والغضب، فإن الانتقام من المجرمين وتعذيب الكافرين دليل على السخط والغضب، وليس دليلًا على الرضى، ولا على انتفاء الغضب والسخط.
ونقول: هذه الآية: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف: 55] ترد عليكم؛ لأنه جعل الانتقام غير الغضب؛ لأن الشرط غير المشروط.
مسألة:
بقي أن يقال: {فَلَمَّا آسَفُونَا} : نحن نعرف أن الأسف هو الحزن(8/225)
وقوله: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} (1) ....................................
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والندم على شيء مضى على النادم لا يستطيع رفعه، فهل يوصف الله بالحزن والندم؟
الجواب: لا، ونجيب عن الآية بأن الأسف في اللغة له معنيان:
المعنى الأول: الأسف بمعنى الحزن، مثل قول الله تعالى عن يعقوب: ( {يَاأَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ} [يوسف: 84] .
الثاني: الأسف بمعنى الغضب، فيقال: أسف عليه يأسف، بمعنى: غضب عليه.
والمعنى الأول: ممتنع بالنسبة لله عز وجل. والثاني: مثبت لله؛ لأن الله تعالى وصف به نفسه، فقال: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} .
وفي الآية من صفات الله: الغضب، والانتقام.
ومن الناحية المسلكية: التحذير مما يغضب الله تعالى.
(1) الآية الرابعة: قوله: {ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم} [التوبة: 46] .
يعني بذلك المنافقين الذين لم يخرجوا مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -في الغزوات؛ لأن الله تعالى كره انبعاثهم؛ لأن عملهم غير خالص له، والله تعالى أغنى الشركاء عن الشرك؛ ولأنهم إذا خرجوا، كانوا كما قال الله تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} [التوبة: 47] ، وإذا كانوا غير مخلصين، وكانوا مفسدين، فإن الله سبحانه وتعالى يكره الفساد ويكره الشرك: فـ {كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} ، يعني: جعل هممهم فاترة عن الخروج للجهاد.(8/226)
{وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 46] قيل: يحتمل أن الله قال ذلك كونًا. ويحتمل أن بعضهم يقول لبعض: اقعد مع القاعدين، ففلان لم يخرج، وفلان لم يخرج، ممن عذرهم الله عز وجل، كالمريض والأعمى والأعرج، ويقولون: إذا قدم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اعتذرنا إليه واستغفر لنا وكفانا.
ويمكن أن نجمع بين القولين؛ لأنه إذا قيل لهم ذلك، وقعدوا، فهم ما قعدوا إلا يقول الله عز وجل.
وفي الآية هنا إثبات أن الله عز وجل يكره، وهذا أيضًا ثابت في الكتاب والسنة:
قال الله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} .....) إلى قوله: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء: 23-38] .
وكما في هذه الآية التي ذكرها المؤلف: ( {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ} [التوبة: 46] .
وقال النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إن الله كره لكم قيل وقال» .
فالكراهة ثابتة بالكتاب والسنة، أن الله تعالى يكره.
وكراهة الله سبحانه وتعالى للشيء تكون للعمل، كما في قوله: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ} [التوبة: 46] ،وكما في قوله: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء: 38] .(8/227)
وقوله: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (1) ............................
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وتكون أيضًا للعامل، كما جاء في الحديث: «إن الله تعالى إذا أبغض عبدًا، نادى جبريل إني أبغض فلانًا، فأبغضه» .
الآية الخامسة: قوله: {كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} [الصف: 3] .
* {كَبُرَ} بمعنى: عظم.
* ( {مَقْتًا} : تمييز محول عن الفاعل، والمقت أشد البغض، وفاعل {كَبُرَ} بعد أن حول الفاعل إلى تمييز: (أن) وما دخلت عليه في قوله: {أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} .
وهذه الآية تعليل للآية التي قبلها وبيان لعاقبتها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} (2) {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2-3] فإن هذا من أكبر الأمور أن يقول الإنسان ما لا يفعل.
ووجه ذلك أن يقال: إذا كنت تقول الشيء ولا تفعله، فأنت بين أمرين: إما كاذب فيما نقول، ولكن تخوف الناس فنقول لهم الشيء وليس بحقيقة. وإما أنك مستكبر عما تقول، تأمر الناس به ولا تفعله، وتنهى الناس عنه وتفعله.
وفي الآية من الصفات: المقت، وأنه يتفاوت.
ومن الناحية المسلكية: التحذير من أن يقول الإنسان ما لا يفعل.(8/228)
قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ} (1) ...................
ـــــــــــــــــــــــــــــ
آيات صفة المجيء والإتيان
ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- ل إثبات صفة المجيء والإتيان آيات أربع:
الآية الأولى: قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ} [البقرة: 210] .
* قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ) : (هَلْ} : استفهام بمعنى النفي، يعني: ما ينظرون، وكلما وجدت (إلا) بعد الاستفهام، فالاستفهام يكون للنفي، هذه قاعدة، قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: «هل أنت إلا أصبع دميت» ، أي: ما أنت.
*ومعنى: {يَنْظُرُونَ} هنا: ينتظرون؛ لأنها لم تتعد بـ (إلى) ، فلو تعدت بـ (إلى) لكان معناها النظر بالعين غالبًا، أما إذا تعدت بنفسها، فهي بمعنى: ينتظرون. أي: ما ينتظر هؤلاء المكذبون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام، وذلك يوم القيامة.
* {يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ} : و {فِي} : هنا بمعنى (مع) ، فهي للمصاحبة، وليس للظرفية قطعًا؛ لأنها لو كانت للظرفية لكانت الظلل محيطة بالله، ومعلوم أن الله تعالى واسع عليم، ولا يحيط به شيء من مخلوقاته.(8/229)
وقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} (1) ....................
ـــــــــــــــــــــــــــــ
* فـ {فِي ظُلَلٍ} ، أي: مع الظلل، فإن الله عند نزوله جل وعلا للفصل بين عباده {تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} : غمام أبيض، ظلل عظيمة، لمجيء الله تبارك وتعالى.
* وقوله: {فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} الغمام، قال العلماء: إنه السحاب الأبيض، كما قال تعالى ممتنًا على بني إسرائيل: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ} [البقرة: 57] والسحاب الأبيض يبقي الجوز مستنيرًا، بخلاف الأسود والأحمر، فإنه تحصل به الظلمة، وهو أجمل منظرًا.
* وقوله: {وَالْمَلَائِكَةُ} : الملائكة -بالرفع- معطوف على لفظ الجلالة الله، يعني: أو تأتيهم الملائكة، وسبق بيان اشتقاق هذه الكلمة، ومن هم الملائكة.
والملائكة تأتي يوم القيامة؛ لأنها تنزل في الأرض، ينزل أهل السماء الدنيا، ثم الثانية، ثم الثالثة، ثم الرابعة،وهكذا ... إلى السابعة، يحيطون بالناس.
وهذا تحذير من هذا اليوم الذي يأتي على هذا الوجه، فهو مشهد عظيم من مشاهد يوم القيامة، يحذر الله به هؤلاء المكذبين.
(1) الآية الثانية: قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام: 158] .
* نقول في {هَلْ يَنْظُرُونَ} ما قلناه في الآية السابقة، أي: ما ينتظر هؤلاء إلا واحدة من هذه الأحوال:
أولًا: {إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ} ، أي: لقبض أرواحهم، قال الله(8/230)
{كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} (1) ................
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الأنفال: 50] .
ثانيًا: {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} يوم القيامة للقضاء بينهم.
ثالثا: {أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} : وهذه طلوع الشمس من مغربها، فسرها بذلك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وإنما ذكر الله هذه الأحوال الثلاث:
لأن الملائكة إذا نزلت لقبض أرواحهم، لا تقبل منهم التوبة؛ لقوله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} [الإنسان: 18] .
وكذلك أيضًا إذا طلعت الشمس من مغربها، فإن التوبة لا تقبل، وحينئذ لا يستطيعون خلاصًا مما هم عليه.
وذكر الحالة الثالثة بين الحالين؛ لأنه وقت الجزاء وثمرة العمل، فلا يستطيعون التخلص في تلك الحال مما عملوه.
والغرض من هذه الآية والتي قبلها تحذير هؤلاء المكذبين من أن يفوتهم الأوان ثم لا يستطيعون الخلاص من أعمالهم.
(1) الآية الثالثة: قوله: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 21-22] .
* {كَلَّا} هنا للتنبيه، مثل (ألا) .(8/231)
{وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا} (1) ..............................
ـــــــــــــــــــــــــــــ
* وقوله: {إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا} : هذا يوم القيامة.
وأكد هذا الدك؛لعظمته، لأنها تدك الجبال والشعاب وكل شيء يدك، حتى تكون الأرض كالأديم، والأديم هو الجلد، قال الله تعالى: {فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} [طه:106-107] . ويحتمل أن يكون تكرار الدك تأسيسًا لا تأكيدًا، ويكون المعنى: دكًا بعد دك.
* قال {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) : (وَجَاءَ رَبُّكَ} ، يعني: يوم القيامة، بعد أن تدك الأرض وتسوى ويحشر الناس يأتي الله للقضاء بين عباده.
* وقوله: {وَالْمَلَكُ} : (الـ) هنا للعموم، يعني: وكل ملك، يعني: الملائكة ينزلون في الأرض.
* {صَفًّا صَفًّا} ، أي: صفًا من وراء صف، كما جاء في الأثر: «تنزل ملائكة السماء الدنيا فيصفون، ومن ورائهم ملائكة السماء الثانية، ومن ورائهم ملائكة السماء الثالثة» (1) هكذا.
(1) الآية الرابعة: قوله: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا} [الفرقان: 25] .
* يعني: اذكر يوم تشقق السماء بالغمام.
* و {تَشَقَّقُ} : أبلغ من تنشق؛ لأن ظاهرها تشقق شيئًا فشيئًا،
__________
(1) رواه الحاكم (4/614) وقال الذهبي: "إسناده قوي". وابن كثير في "تفسيره" (3/316) .(8/232)
ويخرج هذا الغمام، يثور ثوران الدخان، ينبعث شيئًا فشيئًا.
تشقق السماء بالغمام، مثل ما يقال: تشقق الأرض بالنبات، يعني: يخرج الغمام من السماء ويثور متتابعًا، وذلك لمجيء الله عز وجل للفصل بين عباده، فهو يوم رهيب عظيم.
* قوله: ( {وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا} : ينزلون من السماوات شيئًا فشيئًا، تنزل ملائكة السماء الدنيا، ثم الثانية، ثم الثالثة ... وهكذا.
وهذه الآية في سياقها ليس فيها ذكر مجيء الله، لكن فيها الإشارة إلى ذلك؛ لأن تشقق السماء بالغمام إنما يكون لمجيء الله تعالى، بدليل الآيات السابقة.
هذه أربع آيات ساقها المؤلف لإثبات صفة من صفات الله، وهي: المجيء والإتيان.
وأهل السنة والجماعة يثبتون أن الله يأتي بنفسه هو؛ لأن الله تعالى ذكر ذلك عن نفسه، وهو سبحانه أعلم بنفسه وبغيره،وأصدق قيلًا من غيره،وأحسن حديثًا، فكلامه مشتمل على أكمل العلم والصدق والبيان والإرادة، فالله عز وجل يريد أن يبين لنا الحق وهو أعلم وأصدق وأحسن حديثًا.
لكن يبقى السؤال: هل نعلم كيفية هذا المجيء؟
الجواب: لا نعلمه؛ لأن الله سبحانه وتعالى أخبرنا أنه يجيء، ولم يخبرنا كيف يجيء؛ ولأن الكيفية لا تعلم إلا بالمشاهدة أو مشاهدة النظير أو الخبر الصادق عنها، وكل هذا لا يوجد في صفات الله تعالى؛ ولأنه إذا(8/233)
جهلت الذات، جهلت الصفات، أي: كيفيتها، فالذات موجودة وحقيقية،ونعرفها،ونعرف ما معنى الذات، وما معنى الذات،وما معنى النفس، وكذلك نعرف ما معنى المجيء، لكن كيفية الذات أو النفس وكيفية المجيء غير معلوم لنا.
فنؤمن بأن الله يأتي حقيقة وعلى كيفية تليق به مجهولة لنا.
مخالفو أهل السنة والجماعة والرد عليهم:
وخالف أهل السنة والجماعة في هذه الصفة أهل التحريف والتعطيل، فقالوا: إن الله لا يأتي؛ لأنك إذا أثبت أن الله يأتي، ثبت أنه جسم، والأجسام متماثلة.
فنقول: هذه دعوى وقياس باطل؛ لأنه في مقابلة النص، وكل شيء يعود إلى النص بالإبطال، فهو باطل؛ لقوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24] .
فإذا قلت: إن هذا الذي عاد النص بالإبطال هو الحق، صار النص باطلًا ولا بد، وبطلان النص مستحيل. وإن قلت: إن النص هو الحق، صار هذا باطلًا ولا بد.
ثم نقول: ما المانع من أن يأتي الله تعالى بنفسه على الكيفية التي يريدها؟ يقولون: المانع أنك إذا أثبت ذلك، فأنت ممثل.
نقول: هذا خطأ؛ فإننا نعلم أن المجيء والإتيان يختلف حتى بالنسبة للمخلوق، فالإنسان النشيط الذي يأتي كأنما ينحدر من مرتفع من نشاطه، لكنه لا يمشي مرحًا وإن شئت فقل: إنه يمش مرحًا: هل هذا كالإنسان الذي يمشي على عصا ولا ينقل رجلًا من مكانها إلا بعد تعب.(8/234)
والإتيان يختلف من وجه آخر، فإتيان إنسان مثلًا من كبراء البلد أو من ولاة الأمور ليس كإتيان شخص لا يحتفى به.
ماذا يقول المعطل في قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} ونحوها؟
الجواب: يقول: المعنى: جاء أمر ربك، وأتى أمر ربك؟ لأن الله تعالى قال: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1] فيجب أن نفسر كل إتيان أضافه الله إلى نفسه بهذه الآية، ونقول: المراد: أتى أمر الله.
فيقال: إن هذا الدليل الذي استدللت به هو دليل عليك وليس لك،لو كان الله تعالى يريد إتيان أمره في الآيات الأخرى، فما الذي يمنعه أن يقول: أمره؟ فلما أراد الأمر، عبر بالأمر، ولما لم يرده، لم يعبر به.
وهذا في الواقع دليل عليك؛ لأن الآيات الأخرى ليس فيها إجمال حتى نقول: إنها بينت بهذه الآية. فالآيات الأخرى واضحة، وفي بعضها تقسيم يمنع إرادة مجيء الأمر: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام:158] ، هل يستقيم لشخص أن يقول: {يَأْتِيَ رَبُّكَ} أي: أمره في مثل هذا التقسيم؟
فإذا قال قائل: ما تقولون في قوله تعالى: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} [المائدة: 52] .
فالجواب: أن المراد بذلك إتيان الفتح أو الأمر، لكن أضاف الله الإتيان به إلى نفسه؛ لأنه من عنده، وهذا أسلوب معروف في اللغة العربية، فالإتيان إذا قيد بحرف جر مثلًا، فالمراد به ذلك المجرور، وإذا أطلق وأضيف إلى الله بدون قيد، فالمراد به إتيان الله حقيقة.(8/235)
وقوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} ، {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} (1) ..............
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الآداب المسلكية المستفادة من الإيمان بصفة المجيء والإتيان لله تعالى:
الثمرة هي الخوف من هذا المقام وهذا المشهد العظيم الذي يأتي فيه الرب عز وجل للفصل بين عباده وتنزل الملائكة، ولا يبقى أمامك إلا الرب عز وجل والمخلوقات كلها، فإن عملت خيرًا، جوزيت به، وإن عملت سوى ذلك، فإنك ستجزى به، كما قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: «إن الإنسان يخلو به الله عز وجل، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر تلقاء وجهه، فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار، ولو بشق تمرة» .
فالإيمان يمثل هذه الأشياء العظيمة لا شك أنه يولد للإنسان رهبة وخوفًا من الله سبحانه وتعالى واستقامة على دينه.
صفة الوجه لله سبحانه.
(1) ذكر المؤلف- رحمه الله -ل إثبات صفة الوجه لله تعالى آيتين:
الآية الأولى: قوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27] .
وهذه معطوفة على قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن: 26-27] ، ولهذا قال بعض السلف: ينبغي إذا قرأت: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} ، أن تصلها بقوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} ، حتى يتبين نقص المخلوق وكمال الخالق، وذلك للتقابل، هذا فناء وهذا بقاء، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26-27] .(8/236)
* قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} ، أي: لا يفنى.
والوجه: معناه معلوم، لكن كيفيته مجهولة، لا نعلم كيف وجه الله عز وجل، كسائر صفاته، لكننا نؤمن بأن له وجهًا موصوفًا بالجلال والإكرام، وموصوفًا بالبهاء والعظمة والنور العظيم، حتى قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: «حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» .
(سبحان وجهه) ، يعني: بهاءه وعظمته وجلاله ونوره.
(ما انتهى إليه بصره من خلقه) : وبصره ينتهي إلى كل شيء، وعليه، فلو كشف هذا الحجاب - حجاب النور -عن وجهه لاحترق كل شيء.
لهذا نقول: هذا الوجه وجه عظيم، لا يمكن أبدًا أن يماثل أوجه المخلوقات.
وبناء على هذا نقول: من عقيدتنا أننا نثبت أن لله وجهًا حقيقة، ونأخذه من قوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} ، ونقول بأن هذا الوجه لا يماثل أوجه المخلوقين؛ لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] ، ونجهل كيفية هذا الوجه؛ لقوله تعالى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110] .
فإن حاول أحد أن يتصور هذه الكيفية بقلبه أو أن يتحدث عنها بلسانه، قلنا: إنك مبتدع ضال، قائل على الله ما لا تعلم، وقد حرم الله علينا أن نقول عليه ما لا نعلم، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33](8/237)
وقال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36] .
وهنا قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} ، أضاف الربوبية إلى محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهذه الربوبية أخص ما يكون من أنواع الربوبية؛ لأن الربوبية عامة وخاصة، والخاصة خاصة أخص، وخاص فوق ذلك، كربوبية الله تعالى لرسله، فالربوبية الأخص أفضل بلا شك.
* وقوله: {ذُو} : صفة لوجه، والدليل الرفع، ولو كانت صفة للرب، لقال ذي الجلال كما قال في نفس السورة: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 78] ،فلما قال: {ذُو الْجَلَالِ} ، علمنا أنه وصف للوجه.
* {وَالْإِكْرَامِ} : هي مصدر من أكرم، صالحة للمكرم والمكرم، فالله سبحانه وتعالى مكرم، وإكرامه تعالى القيام بطاعته، ومكرم لمن يستحق الإكرام من خلقه بما أعد لهم من الثواب.
فهو لجلاله وكمال سلطانه وعظمته أهل؛ لأن يكرم ويثنى عليه سبحانه وتعالى وإكرام كل أحد بحسبه، فإكرام الله عز وجل أن تقدره حق قدره، وأن تعظمه حق تعظيمه، لا لاحتياجه إلى إكرامك، ولكن ليمن عليك بالجزاء.
الآية الثانية: قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] .(8/238)
* قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ} ، أي: فان، كقوله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26] .
* وقوله: {إِلَّا وَجْهَهُ} : توازي قوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} .
فالمعنى: كل شيء فان وزائل، إلا وجه الله عز وجل، فإنه باق، ولهذا قال: {لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 88] فهو الحكم الباقي الذي يرجع إليه الناس ليحكم بينهم.
وقيل في معنى الآية: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} ، أي: إلا ما أريد به وجهه. قالوا: لأن سياق الآية يدل على ذلك: {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] كأنه يقول: لا تدع مع الله إلهًا آخر فتشرك به؛ لأن عملك وإشراكك هالك، أي: ضائع سدى إلا ما أخلصته لوجه الله، فإنه يبقى؛ لأن العمل الصالح له ثواب باقى لا يفنى في جنات النعيم.
ولكن المعنى الأول أسد وأقوى.
وعلى طريقة من يقول بجواز استعمال المشترك في معنييه، نقول:
يمكن أن نحمل الآية على المعنيين؛ إذ لا منافاة بينهما، فتحمل على هذا وهذا، فيقال: كل شيء يفنى إلا وجه الله عز وجل، وكل شيء من الأعمال يذهب هباء، إلا ما أريد به وجه الله.
وعلى أي التقديرين، ففي الآية دليل على ثبوت الوجه لله عز وجل.
وهو من الصفات الذاتية الخبرية التي مسماها بالنسبة إلينا أبعاض(8/239)
وأجزاء، ولا نقول: من الصفات الذاتية المعنوية، ولو قلنا بذلك، لكنا نوافق من تأوله تحريفًا، ولا نقول: إنها بعض من الله، أو: جزء من الله؛ لأن ذلك يوهم نقصًا لله سبحانه وتعالى.
هذا وقد فسر أهل التحريف وجه الله بثوابه، فقالوا: المراد بالوجه في الآية الثواب، كل شيء يفنى، إلا ثواب الله!
ففسروا الوجه الذي هو صفة كمال، فسروه بشيء مخلوق بائن عن الله قابل للعدم والوجود، فالثواب حادث بعد أن لم يكن، وجائز أن يرتفع، لولا وعد الله ببقائه لكان من حيث العقل جائزًا أن يرتفع، أعني: الثواب.
فهل تقولون الآن: إن وجه الله الذي وصف الله به نفسه من باب الممكن أو من باب الواجب؟
إذا فسروه بالثواب، صار من باب الممكن الذي يجوز وجوده وعدمه.
وقولهم مردود بما يلي:
أولًا: أنه مخالف لظاهر اللفظ، فإن ظاهر اللفظ أن هذا وجه خاص، وليس هو الثواب.
ثانيًا: أنه مخالف لإجماع السلف، فما من السلف أحد قال: إن المراد بالوجه الثواب! وهذه كتبهم بين أيدينا مزبورة محفوظة، أخرجوا لنا نصًا عن الصحابة أو عن أئمة التابعين ومن تبعهم بإحسان أنهم فسروا هذا التفسير، لن تجدوا إلى ذلك سبيلًا أبدًا.(8/240)
ثالثًا: هل يمكن أن يوصف الثواب بهذه الصفات العظيمة: {ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27] لا يمكن. لو قلنا مثلًا جزاء المتقين ذو جلال وإكرام! فهذا لا يجوز أبدًا، والله تعالى وصف هذا الوجه بأنه ذو الجلال والإكرام.
رابعًا: نقول: ما تقولون في قول الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «حجابه النور، لو كشفه؛ لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» . فهل الثواب له هذا النور الذي يحرق ما انتهى إليه بصر الله من الخلق؟ أبدًا، ولا يمكن.
وبهذا عرفنا بطلان قولهم، وأن الواجب علينا أن نفسر هذا الوجه بما أراده الله به، وهو وجه قائم به تبارك وتعالى موصوف بالجلال والإكرام.
فإن قلت: هل كل ما جاء من كلمة (الوجه) مضافًا إلى الله يراد به وجه الله الذي هو صفته؟
فالجواب: هذا هو الأصل، كما في قوله تعالى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52] {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل: 19-21] ... وما أشبهها من الآيات.
فالأصل أن المراد بالوجه المضاف إلى الله وجه الله عز وجل الذي هو صفة من صفاته، لكن هناك كلمة اختلف المفسرون فيها، وهي قوله: تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] :(8/241)
{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا} ، يعني: إلى أي مكان تولوا وجوهكم عند الصلاة. {فَثَمَّ} أي: فهناك وجه الله.
فمنهم من قال: إن الوجه بمعنى الجهة؛ لقوله تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة: 148] فالمراد بالوجه الجهة، أي: فثم جهة الله، أي: فثم الجهة التي يقبل الله صلاتكم إليها.
قالوا: لأنها نزلت في حال السفر، إذا صلى الإنسان النافلة، فإنه يصلي حيث كان وجهه، أو إذا اشتبهت القبلة، فإنه يتحرى ويصلي حيث كان وجهه.
ولكن الصحيح أن المراد بالوجه هنا وجه الله الحقيقي، أي: إلى أي جهة تتوجهون فثم وجه الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله محيط بكل شيء، ولأنه ثبت عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «أن المصلي إذا قام يصلي فإن الله قبل وجهه» ولهذا نهى أن يبصق أما وجهه؛ لأن الله قبل وجهه.
فإذا صليت في مكان لا تدري أين القبلة، واجتهدت وتحريت، وصليت، وصارت القبلة في الواقع خلفك، فالله يكون قبل وجهك، حتى في هذه الحال.
وهذا معنى صحيح موافق لظاهر الآية.
والمعنى الأول لا يخالفه في الواقع.
إذا قلنا: فثم جهة الله، وكان هناك دليل، سواء كان هذا الدليل تفسير(8/242)
الآية الثانية في الوجه الثاني، أو كان الدليل ما جاءت به السنة، فإنك إذا توجهت إلى الله في صلاتك، فهي جهة الله التي يقبل الله صلاتك إليها، فثم أيضًا وجه الله حقًا. وحينئذ يكون المعنيان لا يتنافيان.
واعلم أن هذا الوجه العظيم الموصوف بالجلال والإكرام وجه لا يمكن الإحاطة به وصفًا، ولا يمكن الإحاطة به تصورًا، بل كل شيء تقدره، فإن الله تعالى فوق ذلك وأعظم، كما قال تعالى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110] .
فإن قيل: ما المراد بالوجه في قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] ؟ إن قلت: المراد بالوجه الذات، فيخشى أن تكون حرفت،وإن أردت بالوجه نفس الصفة أيضًا وقعت في محظور، وهو ما ذهب إليه بعض من لا يقدرون الله حق قدره، حيث قالوا: إن الله يفنى إلا وجهه - فماذا تصنع؟!
فالجواب: إن أردت بقولك: إلا ذاته، يعني: أن الله تعالى يبقى هو نفسه مع إثبات الوجه لله، فهذا صحيح، ويكون هنا عبر بالوجه عن الذات لمن له وجه.
وإن أردت بقولك: الذات: أن الوجه عبارة عن الذات بدون إثبات الوجه، فهذا تحريف وغير مقبول.
وعليه فنقول: {إِلَّا وَجْهَهُ} ، أي: إلا ذاته المتصفة بالوجه، وهذا ليس فيه شيء؛ لأن الفرق بين هذا وبين قول أهل التحريف أن هؤلاء يقولون: إن المراد بالوجه الذات؛ لأن له وجهًا، فعبر به عن الذات.(8/243)
وقوله: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ، {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} (1) ..............................
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إثبات اليدين لله تعالى
ذكر المؤلف- رحمه الله -لإثبات اليدين لله تعالى آيتين:
الآية الأولى: قوله: ( {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] .
* {مَا مَنَعَكَ} : الخطاب لإبليس.
* و {مَا مَنَعَكَ} : استفهام للتوبيخ، يعني أي شيء منعك أن تسجد.
* وقوله {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} : ولم يقل: لمن خلقت؛ لأن المراد هنا آدم، باعتبار وصفه الذي لم يشركه أحد فيه، وهو خلق الله إياه بيده، لا باعتبار شخصه.
ولهذا لما أراد إبليس النيل من آدم وحط قدره، قال: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} [الإسراء: 16] .
ونحن قد قررنا أنه إذا عبر بـ (ما) عما يعقل، فإنه يلاحظ فيه معنى الصفة لا معنى العين والشخص، ومنه قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] لم يقل: (من) ؛ لأنه ليس المراد عين هذه المرأة، ولكن المراد الصفة.
فهنا قال: {لِمَا خَلَقْتُ} ، أي: هذا الموصوف العظيم الذي أكرمته بأنني خلقته بيدي، ولم يقصد: لمن خلقت، أي: لهذا الآدمي بعينه.(8/244)
* وقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} : هي كقول القائل: بريت بالقلم والقلم آلة البري، وتقول: صنعت هذا بيدي، فاليد هنا آلة الصنع.
{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ، يعني: أن الله عز وجل خلق آدم بيده، وهنا قال: {بِيَدَيَّ} ، وهي صيغة تثنية، وحذفت النون من التثنية من أجل الإضافة، كما يحذف التنوين، نحن عندما نعرب المثنى وجمع المذكر السالم نقول: النون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والعوض له حكم المعوض، فكما أن التنوين يحذف عند الإضافة، فنون التثنية والجمع تحذف عند الإضافة.
في هذه الآية توبيخ إبليس في تركه السجود لما خلقه الله بيده، وهو آدم عليه الصلاة والسلام.
وفيها: إثبات صفة الخلق: {لِمَا خَلَقْتُ} .
وفيها: إثبات اليدين لله سبحانه وتعالى: اليدين اللتين بهما يفعل، كالخلق هنا. اليدين اللتين بهما يقبض: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر: 67] وبهما يأخذ، فإن الله تعالى يأخذ الصدقة فيربيها كما يربي الإنسان فلوه (1) .
وقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} : فيها أيضًا تشريف لآدم عليه الصلاة والسلام، حيث خلقه الله تعالى بيده.
قال أهل العلم: وكتب الله التوراة بيده، وغرس جنة عدن بيده.
__________
(1) لما رواه البخاري/ كتاب الزكاة/ باب لا يقبل الله صدقة من غلول"، ومسلم/ كتاب الزكاة/ باب قبول الصدقة من الكسب الطيب.(8/245)
فهذه ثلاثة أشياء، كلها كانت بيد الله تعالى.
ولعلنا بالمناسبة لا ننسى ما مر من قول النبي -عليه الصلاة والسلام-: «إن الله خلق آدم على صورته» ، وذكرنا أن أحد الوجهين الصحيحين في تأويلها أن الله خلق آدم على الصورة التي اختارها واعتنى بها؛ ولهذا أضافها الله إلى نفسه إضافة تشريف وتكريم، كإضافة الناقة والبيت إلى الله والمساجد إلى الله. والقول الثاني: أنه على صورته حقيقة ولا يلزم من ذلك التماثل.
الآية الثانية: قوله: ( {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة: 64] .
* {الْيَهُودُ} : هم أتباع موسى عليه الصلاة والسلام.
سموا يهودًا، قيل: لأنهم قالوا: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} [الأعراف: 156] وبناء على هذا يكون الاسم عربيًا؛ لأن هاد يهود - إذا رجع - عربي.
وقيل: إن أصله يهوذا، اسم أحد أولاد يعقوب، واليهود من نسبوا إليه، لكن عند التعريب صارت الذال دالًا، فقيل: يهود.
وأيًا كان، لا يهمنا أن أصله هذا أو هذا.
ولكننا نعلم أن اليهود هم طائفة من بني إسرائيل، اتبعوا موسى عليه الصلاة والسلام.
وهؤلاء اليهود من أشد الناس عتوًا ونفورًا؛ لأن عتو فرعون وتسلطه(8/246)
عليهم جعل ذلك ينطبع في نفوسهم، وصار فيهم العتو على الناس، بل وعلى الخالق عز وجل، فهم يصفون الله تعالى بأوصاف العيوب، قبحهم الله وهم أهلها.
* يقولون: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} ، أي: محبوسة عن الإنفاق، كما قال الله تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} [الإسراء: 29] أي: محبوسة عن الإنفاق.
وقالوا: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ} [آل عمران: 181] .
أما قولهم: إن يد الله مغلولة، فقالوا: لولا أنها مغلولة، لكان الناس كلهم أغنياء، فكونه يجود على زيد ولا يجود على عمرو هذا هو الغل وعدم الإنفاق!!
وقالوا: إن الله فقير لأن الله قال: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} [البقرة: 245] فقالوا للرسول -عليه الصلاة والسلام-: يا محمد، إن ربك افتقر، صار يستقرض منا. قاتلهم الله!!
وقالت اليهود أيضًا: إن الله عاجز لأنه حين خلق السماوات والأرض استراح يوم السبت، وجعل العطلة محل عيد، فصار عيدهم يوم السبت. قاتلهم الله!!
* هنا يقول الله عز وجل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ) : (يَدُ} : أفردوها، لأن اليد الواحد أقل عطاء من اليدين الثنتين؛ ولهذا جاء الجواب بالتثنية والبسط، فقال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} .(8/247)
* ولما وصفوا الله بهذا العيب، عاقبهم الله بما قالوا، فقال: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} ، أي: منعت عن الإنفاق؛ ولهذا كان اليهود أشد الناس جمعًا للمال ومنعًا للعطاء، فهم أبخل عباد الله، وأشدهم شحًا في طلب المال، ولا يمكن أن ينفقوا فلسًا إلا وهم يظنون أنهم سيكسبون بدله درهمًا، ونرى نحن الآن لهم جمعيات كبيرة وعظيمة، لكن هم يريدون من وراء هذه الجمعيات والتبرعات أكثر وأكثر، يريدون أن يسيطروا على العالم.
فإذا، لا تقل أيها الإنسان: كيف نجمع بين قوله تعالى: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} ، وبين الواقع اليوم بالنسبة لليهود؟! لأن هؤلاء القوم يبذلون ليربحوا أكثر.
* {وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} ، أي: طردوا وأبعدوا عن رحمة الله عز وجل؛ لأن البلاء موكل بالمنطق، فهم لما وصفوا الله بالإمساك، طردوا وأبعدوا عن رحمته، قيل لهم: إذا كان الله عز وجل كما قلتم لا ينفق، فليمنعكم رحمته حتى لا يعطيكم من جوده، فعوقبوا بأمرين:
بتحويل الوصف الذي عابوا به الله سبحانه إليهم بقوله: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} .
وبإلزامهم بمقتضى قولهم بإبعادهم عن رحمة الله،؛حتى لا يجدوا جود الله وكرمه وفضله.
* {بِمَا قَالُوا} : الباء هنا للسببية، وعلامة الباء التي للسببية: أن يصح أن يليها كلمة (سبب) .
و (ما) هنا يصح أن تكون مصدرية، ويصح أن تكون موصولة، فإن(8/248)
كانت موصولة، فالعائد محذوف، وتقديره: بالذي قالوه. وإن كانت مصدرية، فالفعل يحول إلى مصدر، أي: بقولهم.
* ثم أبطل الله سبحانه وتعالى دعواهم، فقال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} .
* {بَلْ} : هنا للإضراب الإبطالي.
وانظر كيف اختلف التعبير: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} ، لأن المقام مقام تمدح بالكرم، والعطاء باليدين أكل من العطاء باليد الواحدة.
* {مَبْسُوطَتَانِ} : ضد قولهم: {مَغْلُولَةٌ} ، فيدا الله تعالى مبسوطتان واسعتا العطاء:
كما قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «يد الله ملأى سحاء (كثيرة العطاء) الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق مذ خلق السماوات والأرض، فإنه لم يغض ما فيه يمينه» .
من يحصى ما أنفق الله منذ خلق السماوات والأرض؟! لا يحصيه أحد، ومع ذلك لم يغض ما في يمينه.
وهذا كقوله تعالى في الحديث القدسي: «يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحد، فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا غمس في البحر» .(8/249)
ولننظر إلى المخيط غمس في البحر، فإذا نزعته لا ينقص البحر شيئًا أبدًا، ومثل هذه الصيغة يؤتى بها للمبالغة في عدم النقص؛ لأن عدم نقص البحر في مثل هذه الصورة أمر معلوم، فمستحيل أن البحر ينقص بهذا، فمستحيل أيضًا أن الله عز وجل ينقص ملكه إذا قام كل إنسان من الإنس والجن، فقاوموا فسألوا الله تعالى، فأعطى كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك من ملكه شيئًا.
لا تقل: "نعم، لا ينقص من ملكه شيئًا؛ لأنه انتقل من ملكه إلى ملكه"؛ لأنه لا يمكن أن يكون هذا هو المراد؛ لأنه لو كان هذا المراد، لكان الكلام عبثًا ولغوًا.
لكن المعنى: لو فرض أن هذه العطايا العظيمة أعطيت على أنها خارجة عن ملك الله، لم ينقص ذلك من ملكه شيئًا. ولو كان المعنى هو الأول، لم يكن فيه فائدة، فمعروف أنه لو كان عندك عشرة ريالات، أخرجتها من الدرج الأيمن إلى الدرج الأيسر، وقال إنسان: إن مالك لم ينقص، لقيل: هذا لغو من القول!
المهم أن المعنى: لو أن هذا الذي أعطاه السائلين خارج عن ملكه، فإنه لا ينقصه سبحانه وتعالى.
وليس إنفاق الله تعالى بما نحصل من الدراهم والمتاع، بل كل ما بنا من نعمة فهو من الله تعالى، سواء كانت من نعم الدين أم الدنيا، فذرات المطر من إنفاق الله علينا، وحبات النبات من إنفاق الله.(8/250)
أفبعد هذا يقال كما قالت اليهود عليهم لعائن الله: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} ؟!
لا والله! بل يقال: إن يدي الله عز وجل مبسوطتان بالعطاء والنعم التي لا تعد ولا تحصى.
لكن إذا قالوا: لماذا أعطى زيدًا ولم يعط عمرًا؟
قلنا: لأن الله تعالى له السلطان المطلق والحكمة البالغة؛ ولهذا قال ردًا على شبهتهم: {يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} ، فمن الناس من يعطيه كثيرًا، ومنهم من يعطيه قليلًا، ومنهم من يعطيه وسطًا، تبعًا لما تقتضيه الحكمة، على أن هذا الذي أعطي قليلًا ليس محرومًا من فضل الله وعطائه من جهة أخرى، فالله أعطاه صحة وسمعًا وبصرًا وعقلًا وغير ذلك من النعم التي لا تحصى، ولكن لطغيان اليهود وعدوانهم وأنهم لم ينزهوا الله عن صفات العيب، قالوا: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} .
فالآيتان السابقتان فيهما إثبات صفة اليدين لله عز وجل.
ولكن قد يقول قائل: إن لله أكثر من يدين؛ لقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} [يس: 71] فأيدينا هنا جمع، فلنأخذ بهذا الجمع؛ لأننا إذا أخذنا بالجمع، أخذنا بالمثنى وزيادة، فما هو الجواب؟
فالجواب أن يقال: جاءت اليد مفردة ومثناة وجمعًا:
أما اليد التي جاءت بالإفراد، فإن المفرد المضاف يفيد العموم، فيشمل(8/251)
كل ما ثبت لله من يد، ودليل عموم المفرد المضاف قوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] فـ (نعمت) : مفرد مضاف، فهي تشمل كثيرًا؛ لقوله: {لَا تُحْصُوهَا} ، إذًا: فما هي واحدة ولا ألف ولا مليون ولا ملايين.
{يَدُ اللَّهِ} : نقول هذا المفرد لا يمنع التعدد إذا ثبت؛ لأن المفرد المضاف يفيد العموم.
أما المثنى والجمع، فنقول: إن الله ليس له إلا يدان اثنتان، كما ثبت ذلك في الكتاب والسنة.
ففي الكتاب:
في سورة ص قال: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:57] والمقام مقام تشريف، ولو كان الله خلقه بأكثر من يدين لذكره؛ لأنه كلما ازدادت الصفة التي بها خلق الله هذا الشيء، ازداد تعظيم هذا الشيء.
وأيضًا: في سورة المائدة قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] في الرد على من قالوا: {يَدُ اللَّهِ} ، بالإفراد، والمقام مقام يقتضي كثرة النعم، وكلما كثرت وسيلة العطاء كثر العطاء، فلو كان لله تعالى أكثر من اثنتين لذكرهماالله؛لأن العطاء باليد الواحدة عطاء، فباليدين أكثر وأكمل من الواحدة،وبالثلاث -لو قدر- كان أكثر، فلو كان لله تعالى أكثر من اثنتين لذكرهما.
أما السنة فإن الرسول -عليه الصلاة والسلام -قال: «يطوي الله تعالى»(8/252)
«السماوات بيمينه والأرض بيده الأخرى» .
قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «كلتا يديه يمين» .
ولم يذكر أكثر من اثنتين.
وأجمع السلف على أن لله يدين اثنتين فقط بدون زيادة.
فعندنا النص من القرآن والسنة والإجماع على أن لله تعالى يدين اثنتين، فيكف نجمع بين هذا وبين الجمع: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس: 71] ؟!
فنقول الجمع على أحد الوجهين:
فإما أن نقول بما ذهب إليه بعض العلماء، من أن أقل الجمع اثنان، وعليه، فـ {أَيْدِينَا} لا تدل على أكثر من اثنتين، يعني: لا يلزم أن تدل على أكثر من اثنين، وحينئذ تطابق التثنية: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} ، ولا إشكال فيه.
فإذا قلت: ما حجة هؤلاء على أن الجمع أقله اثنان؟
فالجواب: احتجوا بقوله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] وهما اثنتان، والقلوب جمع، والمراد به قلبان فقط؛ لقوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب: 4] ولا لامرأة كذلك.
واحتجوا أيضًا بقول الله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ}(8/253)
[النساء: 11] فـ ( {إِخْوَةٌ} جمع، والمراد به اثنان.
واحتجوا أيضًا بأن جماعة الصلاة تحصل باثنين.
ولكن جمهور أهل اللغة يقولون: إن أقل الجمع ثلاثة، وإن خروج الجمع إلى الاثنين في هذه النصوص لسبب، وإلا فإن أقل الجمع في الأصل ثلاثة.
وإما أن نقول: إن المراد بهذا الجمع التعظيم، تعظيم هذه اليد، وليس المراد أن لله تعالى أكثر من اثنتين.
ثم إن المراد باليد هنا نفس الذات التي لها يد، وقد قال الله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم: 41] أي: بما كسبوا، سواء كان من كسب اليد أو الرجل أو اللسان أو غيرها من أجزاء البدن، لكن يعبر بمثل هذا التعبير عن الفاعل نفسه.
ولهذا نقول: إن الأنعام التي هي الإبل لم يخلقها الله تعالى بيده، وفرق بين قوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} ، وبين قوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ، فـ: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} ، كأنه قال: مما عملنا؛ لأن المراد باليد ذات الله التي لها يد، والمراد بـ {بِيَدَيَّ} : اليدان دون الذات.
وبهذا يزول الإشكال في صفة اليد التي وردت بالإفراد والتثنية والجمع.
فعلم الآن أن الجمع بين المفرد والتثنية سهل، وذلك لأن هذا مفرد مضاف،فيعم كل ما ثبت لله من يد.
وأما بين التثنية والجمع، فمن وجهين:(8/254)
أحدهما: أنه لا يراد بالجمع حقيقة معناه - وهو الثلاثة فأكثر - بل المراد به التعظيم كما قال الله تعالى: (إنا) و (نحن) و (وقلنا) .... وما أشبه ذلك، وهو واحد، لكن يقول هذا للتعظيم.
أو يقال: إن أقل الجمع اثنان، فلا يحصل هنا تعارض.
وأما قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذاريات: 47] فالأيد هنا بمعنى القوة، فهي مصدر آد يئيد، بمعنى: قوي، وليس المراد بالأيد صفة الله، ولهذا ما أضافها الله إلى نفسه، ما قال: بأيدينا! بل قال: {بِأَيْدٍ} ، أي: بقوة.
ونظير ذلك قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42] فإن لعلماء السلف في قوله: {عَنْ سَاقٍ} : قولين:
القول الأول: أن المراد به الشدة.
والقول الثاني: أن المراد به ساق الله عز وجل.
فمن نظر إلى سياق الآية مع حديث أبي سعيد، قال: إن المراد بالساق هنا ساق الله. ومن نظر إلى الآية بمفردها، قال: المراد بالساق الشدة.
فإذا قال قائل: أنتم تثبتون أن لله تعالى يدًا حقيقية، ونحن لا نعلم من الأيدي إلا أيادي المخلوقين، فيلزم من كلامكم تشبيه الخالق بالمخلوق.
فالجواب أن نقول: لا يلزم من إثبات اليد لله أن نمثل الخالق بالمخلوقين؛(8/255)
لأن إثبات اليد جاء في القرآن والسنة وإجماع السلف، ونفى مماثلة الخالق للمخلوقين يدل عليه الشرع والعقل والحس:
-أما الشرع، فقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] .
وأما العقل، فلا يمكن أن يماثل الخالق المخلوق في صفاته؛ لأن هذا يعد عيبًا في الخالق.
وأما الحس، فكل إنسان يشاهد أيدي المخلوقات متفاوتة ومتباينة من كبير وصغير، وضخم ودقيق.. إلخ، فيلزم من تباين أيدي المخلوقين وتفاوتهم مباينة يد الله تعالى لأيدي المخلوقين وعدم مماثلته لهم سبحانه وتعالى من باب أولى.
هذا، وقد خالف أهل السنة والجماعة في إثبات اليد لله تعالى أهل التعطيل من المعتزلة والجهمية والأشعرية ونحوهم، وقالوا: لا يمكن أن نثبت لله يدًا حقيقية، بل المراد باليد أمر معنوي، وهو القوة!! أو المراد باليد النعمة؛ لأن اليد تطلق في اللغة العربية على القوة وعلى النعمة.
ففي الحديث الصحيح حديث النواس بن سمعان الطويل: «أن الله يوحي إلى عيسى أني أخرجت عبادًا لي لا يدان لأحد بقتالهم» ، والمعنى: لا قوة لأحد بقتالهم، وهم يأجوج ومأجوج.
وأما اليد بمعنى النعمة، كثير، ومنه قول رسول قريش لأبي بكر: «لولا يد لك عندي لم أجزك بها لأجبتك» ، يعني: نعمة.(8/256)
وقول المتنبي:
وكم لظلام الليل عندك من يد ... تحدث أن المانوية تكذب
والمانوية: فرقة من المجوس الذين يقولون: إن الظلمة تخلق الشر، والنور يخلق الخير. فالمتنبي يقول: إنك تعطي في الليل العطايا الكثيرة التي تدل على أن المانوية تكذب؛ لأن ليلك يأتي بخير.
فالمراد بيد الله: النعمة، وليس المراد باليد اليد الحقيقية؛ لأنك لو أثبت لله يدًا حقيقية، لزم من ذلك التجسيم أن يكون الله تعالى جسمًا، والأجسام متماثلة، وحينئذ تقع فيما نهى الله عنه في قوله: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} [النحل: 74] .50 ونحن أسعد بالدليل منك أيها المثبت للحقيقة!! نقول: سبحان من تنزه عن الأعراض والأبعاض والأغراض!! لا تجد مثل هذه السجعة لا في الكتاب ولا في السنة.
وجوابنا على هذا من عدة وجوه:
أولًا: أن تفسير اليد بالقوة أو النعمة مخالف لظاهر اللفظ، وما كان مخالفًا لظاهر اللفظ، فهو مردود، إلا بدليل.
ثانيًا: أنه مخالف لإجماع السلف، حيث إنهم كلهم مجمعون على أن المراد باليد اليد الحقيقية.
فإن قال لك قائل: أين إجماع السلف؟ هات لي كلمة واحدة عن أبي بكر أو عمر أو عثمان أو علي، يقولون: إن المراد بيد الله اليد الحقيقية.؟
أقول له: ائت لي بكلمة واحدة عن أبي بكر أو عمر أو عثمان أو علي(8/257)
أو غيرهم من الصحابة والأئمة من بعدهم يقولون: إن المراد باليد القوة أو النعمة!
فلا يستطيع أن يأتي بذلك.
إذًا، فلو كان عندهم معنى يخالف ظاهر اللفظ، لكانوا يقولون به، ولنقل عنهم، فلما لم يقولون به، علم أنهم أخذوا بظاهر اللفظ وأجمعوا عليه.
وهذه فائدة عظيمة، وهي أنه إذا لم ينقل عن الصحابة ما يخالف ظاهر الكتاب والسنة، فإنهم لا يقولون بسواه؛ لأنهم الذين نزل القرآن بلغتهم، وخاطبهم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -بلغتهم، فلا بد أن يفهموا الكتاب والسنة على ظاهرهما، فإذا لم ينقل عنهم ما يخالفه كان ذلك قولهم.
ثالثًا: أنه يمتنع غاية الامتناع أن يراد باليد النعم أو القوة في مثل قوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] لأنه يستلزم أن تكون النعمة نعمتين فقط، ونعم الله لا تحصى!! ويستلزم أن القوة قوتان، والقوة بمعنى واحد لا يتعدد فهذا التركيب يمنع غاية المنع أن يكون المراد باليد القوة أو النعمة.
هب أنه قد يمكن في قوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] أن يراد بهما النعمة على تأويل، لكن لا يمكن أن يراد بقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} النعمة أبدًا.
أما القوة، فيمتنع أن يكون المراد باليدين القوة في الآيتين جميعًا، في قوله: {بَلْ يَدَاهُ} وفي قوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ؛ لأن القوة لا تتعدد.
رابعًا: أنه لو كان المراد باليد القوة ما كان لآدم فضل على إبليس، بل(8/258)
وقوله: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} ، {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} (13) {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} ، {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} (1) ......
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ولا على الحمير والكلاب؛ لأنهم كلهم خلقوا بقوة الله، ولو كان المراد باليد القوة ما صح الاحتجاج على إبليس؛ إذ إن إبليس سيقول: وأنا يا رب خلقتني بقوتك، فما فضله علي؟!
خامسًا: أن يقال: إن هذه اليد التي أثبتها الله جاءت على وجوه متنوعة يمتنع أن يراد بها النعمة أو القوة، فجاء فيها الأصابع والقبض والبسط والكف واليمين، وكل هذا يمتنع أن يراد بها القوة؛ لأن القوة لا توصف بهذه الأوصاف.
فتبين بهذا أن قول هؤلاء المحرفين الذين قالوا: "المراد باليد القوة "باطل من عدة أوجه.
وقد سبق أن صفات الله عز وجل من الأمور الخبرية الغيبية التي ليس للعقل فيها مجال، وما كان هذا سبيله، فإن الواجب علينا إبقاؤه على ظاهره، من غير أن نتعرض له.
إثبات العينين لله تعالى
(1) ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- لإثبات العينين لله تعالى ثلاث آيات.
الآية الأولى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48] .
* الخطاب هنا للنبي عليه الصلاة والسلام.
* والصبر: بمعنى الحبس، ومنه قوله: قتل صبرًا، أي: قتل وقد حبس للقتل.
فالصبر في اللغة: بمعنى الحبس.(8/259)
وفي الشرع: قالوا: هو الصبر لأحكام الله، يعني: حبس النفس لأحكام الله.
وأحكام الله -عز وجل -شرعية وكونية: والشرعية: أوامر ونواه، فالصبر على طاعة الله صبر على الأوامر، والصبر عن معصيته صبر عن النواهي. والكونية: أقدار الله تعالى: فيصبر على أقداره وقضائه.
وهذا معنى قول بعضهم الصبر ثلاثة أقسام: صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على أقدار الله المؤلمة.
فقوله تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} : يتناول الأقسام الثلاثة:
الصبر على طاعة الله.
وعن معصية الله.
وعلى أقدار الله.
أي: اصبر لحكم ربك الكوني والشرعي.
وبهذا نعرف أن التقسيم الذي ذكره العلماء، وقالوا: إن الصبر ثلاثة أقسام: صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على أقدار الله: داخل في هذه الكلمة: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} .
ووجه الدخول: أن الحكم إما كوني وإما شرعي، والشرعي أوامر ونواه. والنبي- عليه الصلاة والسلام -أمره الله عز وجل بأوامر، ونهاه عن نواهي، وقدر عليه مقدورات:
فالأوامر مثل: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67] {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} [النحل: 125] وهذه أوامر عظيمة، يعني: لو قيل(8/260)
لإنسان: اعبد ربك، فإنه يتمكن من العبادة، لكن الدعوة والتبليغ أمر صعب؛ لأنه يتعب في معاناة الآخرين وجهادهم، فيكون صعبًا.
وأما النواهي، فقد نهاه عن الشرك، قال: {وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 14] ، {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] ... وما أشبه ذلك.
وأما الأحكام القدرية: فقد حصل عليه أذى من قومه، أذى قولي وأذى فعلي، لا يصبر عليه إلا أمثال الرسول عليه الصلاة والسلام:
آذوه بالقول: بالسخرية، والاستهزاء، والتهجين، وتنفير الناس عنه.
وآذوه بالفعل: كان ساجدًا تحت الكعبة في آمن بقعة من الأرض، ساجدًا لربه، فذهبوا، وأتوا بسلى الناقة، ووضعوه على ظهره وهو ساجد!!
ليس هناك أبلغ من هذه الأذية مع العلم بأنه لو يدخل كافر مشرك إلى الحرم، لكان عندهم آمنًا، لا يؤذونه فيه، بل يكرمونه ويطعمونه النبيذ ويسقونه ماء زمزم!! ومحمد -عليه الصلاة والسلام- ساجدًا لله يؤذونه هذا الأذى!!
كانوا يأتون بالعذرة والأنتان والأقذار يضعونه عند عتبة بابه!!
وخرج إلى أهل الطائف، وماذا صار؟! صار الإيذاء العظيم، صف سفهاؤهم وغلمانهم على جانبي الطريق، وجعلوا يرمونه بالحجارة حتى(8/261)
أدموا عقبه، فلم يفق إلا في قرن الثعالب.
* فصبر على حكم الله، ولكنه صبر مؤمن يؤمن بأن العاقبة له؛ لأن الله قال له: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} هذا الاعتناء والحفاوة أكرم شيء يكون به الإنسان أن تقول له: أنت بعيني، أنت بقلبي ... وما أشبه ذلك.
أنت بعيني، معناه: أنا ألاحظك بعيني. وهذا تعبير معروف عند الناس، يكون تمام الحراسة والعناية والحفظ بمثل هذا التعبير: أنت بعيني.
إذًا، قوله: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} ، يعني: فإنك محروس غاية الحراسة، محفوظ غاية الحفظ.
{بِأَعْيُنِنَا} : أعيننا معك، نحفظك، ونرعاك، ونعتني بك.
في الآية الكريمة إثبات العين لله عز وجل، لكنها جاءت بصيغة الجمع، لما سنذكر إن شاء الله تعالى.
العين من الصفات الذاتية الخبرية: الذاتية: لأنه لم يزل ولا يزال متصفًا بها، الخبرية: لأن مسماها بالنسبة إلينا أجزاء وأبعاض.
فالعين منا بعض من الوجه، والوجه بعض من الجسم، لكنها بالنسبة لله لا يجوز أن نقول: إنها بعض من الله؛ لأنه سبق أن هذا اللفظ لم يرد، وأنه يقتضي التجزئة في الخالق، وأن البعض أو الجزء هو الذي يجوز بقاء الكل بفقده، ويجوز أن يفقد، وصفات الله لا يجوز أن تفقد أبدًا، بل هي(8/262)
باقية.
وقد دل الحديث الصحيح عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن لله عينين اثنتين فقط، حين وصف الدجال وقال: «إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور» ، وفي لفظ: «أعور العين اليمنى» .
وقد قال بعض الناس: معنى (أعور) ، أي: معيب، وليس من عور العين!!
وهذا لا شك أنه تحريف وتجاهل للفظ الصحيح الذي في البخاري وغيره: «أعور العين اليمنى، كأن عينه عنبة طافية» وهذا واضح.
ولا يقال أيضًا: (أعور) باللغة العربية، إلا لعور العين، أما إذا قيل: (عور) أو (عوار) ، فربما يراد به مطلق العيب.
وهذا الحديث يدل على أن لله تعالى عينين اثنتين فقط.
ووجه الدلالة أنه لو كان لله أكثر من اثنتين، لكان البيان به أوضح من البيان بالعور؛ لأنه لو كان لله أكثر من عينين لقال: إن ربكم له أعين؛ لأنه إذا كان له أعين أكثر من ثنتين صار وضوح أن الدجال ليس برب أبين.
وأيضًا: لو كان الله -عز وجل -أكثر من عينين لكان ذلك من كماله، وكان ترك ذكره تفويتًا للثناء على الله؛ لأن الكثرة تدل على القوة والكمال(8/263)
والتمام، فلو كان لله أكثر من عينين لبينها الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لئلا يفوتنا اعتقاد هذا الكمال وهو الزائد على العينين الثنتين.
وذكر ابن القيم -رحمه الله -في كتابه "الصواعق المرسلة" حديثًا، لكنه ضعيف؛ لانقطاعه، وهو: «إن العبد إذا قام في الصلاة قام بين عيني الرحمن ... "» (1) . "عيني" هذه تثنية، لكن الحديث ضعيف، واعتمادنا في عقيدتنا هذه على الحديث الصحيح، حديث الدجال؛ لأنه واضح لمن تأمله.
ولقد ذكر ذلك عثمان بن سعيد الدارمي -رحمه الله -في "رده على بشر المريسي "، وكذلك أيضًا ذكره ابن خزيمة في "كتاب التوحيد"، وذكر أيضًا إجماع السلف على ذلك أبو الحسن الأشعري رحمه الله،وأبو بكر الباقلاني، والأمر في هذا واضح.
فعقيدتنا التي ندين لله بها: أن لله تعالى عينين اثنتين، لا زيادة.
فإن قيل: إن من السلف من فسر قوله تعالى: {بِأَعْيُنِنَا} ، بقوله: بمرأى منا. فسره بذلك أئمة سلفيون معروفون، وأنتم تقولون: إن التحريف محرم وممتنع، فما الجواب؟
فالجواب: أنهم فسروها باللازم، مع إثبات الأصل، وهي العين، وأهل التحريف يقولون: بمرأى منا، بدون إثبات العين، وأهل السنة والجماعة يقولون: {بِأَعْيُنِنَا} : بمرأى منا، ومع إثبات العين.
__________
(1) ذكره ابن القيم في كتاب "الصواعق" (256) ، وقال الألباني في "الضعيفة" (1024) : ضعيف جداً.(8/264)
لكن ذكر العين هنا أشد توكيدًا وعناية من ذكر مجرد الرؤية، ولهذا قال: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} .
قالت المعطلة: أجلبتم علينا بالخيل والرجل في إنكاركم علينا التأويل، وأنتم أولتم فأخرجتم الآية عن ظاهرها، فالله يقول: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} ، فخذوا بالظاهر، وإذا أخذتم بالظاهر كفرتم، وإذا لم تأخذوا بالظاهر تناقضتم، فمرة تقولون: يجوز التأويل، ومرة تقولون: لا يجوز التأويل، وتسمونه تحريفًا، وهل هذا إلا تحكم بدين الله؟ !
قلنا: نأخذ بالظاهر، وعلى العين والرأس، وهو طريقتنا، ولا نخالفه.
قالوا: الظاهر من الآية أن محمدا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -بعين الله، وسط العين، كما تقول: زيد بالبيت، زيد بالمسجد، فالباء للظرفية، فيكون زيد داخل البيت وداخل المسجد، فيكون قوله: {بِأَعْيُنِنَا} ، أي: داخل أعيننا،وإذا قلتم بهذا كفرتم؛ لأنكم جعلتم الله محلًا للخلائق، فأنتم حلولية، وإن لم تقولوا به تناقضتم؟
قلنا لهم: معاذ الله،ثم معاذ الله،ثم معاذ الله أن يكون ما ذكرتموه ظاهر القرآن، وأنتم إن اعتقدتم أن هذا ظاهر القرآن كفرتم؛ لأن من اعتقد أن ظاهر القرآن كفر وضلال فهو كافر ضال.
فأنتم توبوا إلى الله من قولكم: إن هذا هو ظاهر اللفظ،واسألوا جميع أهل اللغة من الشعراء والخطباء: هل يقصدون بمثل هذه العبارة أن الإنسان المنظور إليه بالعين حال في جفن العين؟ اسألوا من شئتم من أهل اللغة أحياء وأمواتًا!
فأنت إذا رأيت أساليب اللغة العربية، عرفت أن هذا المعنى الذي ذكروه(8/265)
وألزمونا به لا يرد في اللغة العربية، فضلًا عن أن يكون مضافًا إلى الرب عز وجل، فإضافته إلى الرب كفر منكر، وهو منكر لغة وشرعًا وعقلًا.
فإن قيل: بماذا تفسرون الباء في قوله: {بِأَعْيُنِنَا} ؟
قلنا: نفسرها بالمصاحبة، إذا قلت: أنت بعيني، يعني: أن عيني تصحبك وتنظر إليك، لا تنفك عنك، فالمعنى: أن الله عز وجل بقول لنبيه: أصبر لحكم الله، فإنك محوط بعنايتنا وبرؤيتنا لك بالعين حتى لا ينالك أحد بسوء.
ولا يمكن أن تكون الباء هنا للظرفية؛ لأنه يقتضي أن يكون رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في عين الله، وهذا محال.
وأيضًا فإن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -خوطب بذلك وهو في الأرض، فإذا قلتم: إنه كان في عين الله كانت دلالة القرآن كذبًا.
وهذا وجه آخر في بطلان دعوى أن ظاهر القرآن أن الرسول- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -في عين الله تعالى.
الآية الثانية: قوله تعالى: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} [القمر: 13-14] .
* {وَحَمَلْنَاهُ} : الضمير يعود على نوح عليه الصلاة والسلام.
* وقوله: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} : أي: على سفينة ذات ألواح ودسر، وهذه السفينة كان -عليه الصلاة والسلام- يصنعها، وكان يمر به قومه، فيسخرون منه، فيقول: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود: 38] .(8/266)
صنعها بأمر الله ورعاية الله وعنايته، وقال الله له: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [هود: 37] ، فالله تعالى ينظر إليه وهو يصنع الفلك، ويلهمه كيف يصنعها.
* ووصفها الله هنا في قوله: {ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ) : (ذَاتِ} : بمعنى: صاحبة. والألواح: الخشب. والدسر: ما يربط به الخشب كالمسامير والحبال وما أشبه ذلك، وأكثر المفسرين على أن المراد بها المسامير التي تربط بها الأخشاب.
* ( {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} : هذا الشاهد: {بِأَعْيُنِنَا} : أي ذات الألواح والدسر بأعين الله عز وجل. والمراد بالأعين هنا عينان فقط. كما مر،ومعنى تجري بها، أي: مصحوبة بنظرنا بأعيننا، فالباء هنا للمصاحبة، تجري على الماء الذي نزل من السماء ونبع من الأرض؛ لأن نوحًا -عليه الصلاة والسلام- دعا ربه {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر: 10] قال الله تعالى: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا} [القمر: 11-12] فكانت هذه السفينة تجري بعين الله عز وجل.
قد يقول قائل: لماذا لم يقل: وحملناه على السفينة، أو: حملناه على فلك، بل قال: {عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} ؟
والجواب على هذا أن نقول: عدل عن التعبير بالفلك والسفينة إلى التعبير بذات ألواح ودسر؛ ولوجوه ثلاثة:
الوجه الأول: مراعاة للآيات وفواصلها، فلو قال: حملنا على فلك، لم تتناسب هذه الآية مع ما بعدها ولا ما قبلها. ولو قال: على سفينة، كذلك، لكن من أجل تناسب الآيات في فواصلها وفي كلماتها قال:(8/267)
{عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} .
الوجه الثاني: من أجل أن يتعلم الناس كيف يصنعون السفن، وبيان أنها من الألواح والمسامير؛ ولهذا قال الله تعالى: {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 15] فأبقى الله تعالى علمها آية للخلق يصنعون كما ألهم الله تعالى نوحًا.
الوجه الثالث: الإشارة إلى قوتها، حيث كانت من ألواح ودسر، والتنكير هنا للتعظيم.
وروعي التركيز على مادتها، ونظير ذلك في ذكر الوصف دون الموصوف قوله تعالى: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} [سبأ: 11] ولم يقل: دروعًا؛ من أجل العناية بفائدة هذه الدروع، وهي أن تكون سابغة تامة، فهذه مثلها.
* وقوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} ، نقول فيها ما قلناه في قوله تعالى: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48] .
الآية الثالثة: قوله: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39] .
* الخطاب لموسى عليه الصلاة والسلام.
* فقوله: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} : اختلف المفسرون في معناها: فمنهم من قال: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} ، يعني: أني أحببتك.
ومنهم من قال: ألقيت عليك محبة من الناس، والإلقاء من الله، أي أن: من رآك أحبك، وشاهد هذا أن امرأة فرعون لما رأته أحبته وقالت:(8/268)
{لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [القصص: 9] .
ولو قال قائل: أيمكنكم أن تحملوا الآية على المعنيين؟ لقلنا: نعم بناء على القاعدة، وهو أن الآية إذا كانت تحتمل معنيين لا منافاة بينهما فإنها تحمل عليهما جميعًا، فموسى -عليه الصلاة والسلام- محبوب من الله عز وجل، ومحبوب من الناس، إذا رآه الناس أحبوه، والواقع أن المعنيين متلازمان؛ لأن الله تعالى إذا أحب عبدًا ألقى في قلوب العباد محبته.
ويروى عن ابن عباس -رضي الله عنه -أنه قال: أحبه الله وحببه إلى خلقه.
* ثم قال: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} : الصنع: جعل الشيء على صفة معينة، كصنع صفائح الحديد قدورًا، وصنع الأخشاب أبوابًا، وصنع شيء بحسبه، فصناعة البيت: بناء البيت، وصناعة الحديد: جعلها أواني مثلًا أو محركات، وصنع الآدمي: معناه التربية البدنية والعقلية: تربيته البدنية بالغذاء، وتربيته العقلية بالآداب والأخلاق وما أشبه ذلك.
وموسى -عليه الصلاة والسلام- حصل له ذلك، فإنه ربي على عين الله:
لما التقط آل فرعون، حماه الله -عز وجل- من قتلهم، مع أنهم كانوا يقتلون أبناء بني إسرائيل، فقضى الله تعالى أن هذا الذي تقتل الناس من أجله سيتربى في أحضان آل فرعون، فالناس يقتلون من أجله، وهو يتربى آمنًا في أحضانهم، وانظر إلى هذه القدرة العظيمة!
ومن تربية الله له عرض على المراضع - النساء اللاتي يرضعنه - ولكنه ما رضع من أي واحدة: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} [القصص: 12] فما رضع من امرأة قط، وكانت أخته قد انتدبت من قبل أمه، فرأتهم(8/269)
وقالت: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص: 12] قالوا: نعم، نحن نود هذا. فقالت: اتبعوني. فتبعوها، قال تعالى: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ} [القصص: 13] ولم يرضع من امرأة قط، مع أنه رضيع،لكن هذا من كمال قدرة الله وصدق وعده؛ لأن الله عز وجل قال لها: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 7] .
الأم شفقتها على ابنها لا أحد يتصورها، قيل لها: اجعلي ابنك في صندوق، وألقيه في البحر، وسيأتي إليك.
لولا الإيمان الذي مع هذه المرأة، ما فعلت هذا الشيء،تلقي ابنها في البحر! لو أن ابنها سقط في تابوته في البحر لجرته،فكيف وهي التي تلقيه؟! لكن لثقتها بالرب عز وجل ووعده ألقته في اليم.
وقوله: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} ، بالإفراد، هل ينافي ما سبق من ذكرها بالجمع؟!
الجواب: لا تنافي؛ وذلك لأن المفرد المضاف يعم فيشمل كل ما ثبت لله من عين، وحينئذ لا منافاة بين المفرد وبين الجمع أو التثنية.
إذًا، يبقى النظر بين التثنية والجمع، فكيف نجمع بينهما؟!
الجواب أن نقول: إن كان أقل الجمع اثنين، فلا منافاة؛ لأننا نقول: هذا الجمع دال على اثنتين، فلا ينافيه. وإن كان أقل الجمع ثلاثة، فإن هذا الجمع لا يراد به الثلاثة، وإنما يراد به التعظيم والتناسب بين ضمير الجمع وبين المضاف إليه.
وقد فسر أهل التحريف والتعطيل العين بالرؤية بدون عين، وقالوا:(8/270)
وقوله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (1) ......................
ـــــــــــــــــــــــــــــ
{بِأَعْيُنِنَا} : برؤية منا، ولكن لا عين، والعين لا يمكن أن تثبت لله عز وجل أبدًا؛ لأن العين جزء من الجسم، فإذا أثبتنا العين لله أثبتنا تجزئة وجسمًا، وهذا شيء ممتنع، فلا يجوز، ولكنه ذكر العين من باب تأكيد الرؤية، يعني: كأنما نراك ولنا عين، والأمر ليس كذلك!!
فنقول لهم: هذا القول خطأ من عدة أوجه:
الوجه الأول: أنه مخالف لظاهر اللفظ.
الثاني: أنه مخالف لإجماع السلف.
الثالث: أنه لا دليل عليه، أي: أن المراد بالعين مجرد الرؤية.
الرابع: أننا إذا قلنا بأنها الرؤية، وأثبت الله لنفسه عينًا، فلازم ذلك أنه يرى بتلك العين، وحينئذ يكون في الآية دليل على أنها عين حقيقية.
صفة السمع والبصر لله تعالى
ذكر المؤلف -رحمه الله -في إثبات صفتي السمع والبصر آيات سبعًا: الآية الأولى: قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1] .
* {قَدْ} : للتحقيق.
والمجادلة: هي التي جاءت إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -تشتكي زوجها حين ظاهر منها.
والظهار: أن يقول الرجل لزوجته: أنت علي كظهر أمي. أو كلمة نحوها.(8/271)
وكان الظهار في الجاهلية طلاقًا بائنًا، فجاءت تشتكي إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتبين له كيف يطلقها هذا الرجل ذلك الطلاق البائن وهي أم أولاده، وكانت تحاور النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أي: تراجعه الكلام، فأفتاها الله عز وجل بما أفتاها به في الآيات المذكورة.
*والشاهد من هذه الآيات قوله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ} ، ففي هذا إثبات السمع لله سبحانه وتعالى، وأنه يسمع الأصوات مهما بعدت ومهما خفيت.
قالت عائشة -رضي الله عنها-: "تبارك (أو قالت: الحمد لله) الذي وسع سمعه الأصوات، إني لفي ناحية البيت، وإني ليخفى على بعض حديثها".هذا معنى حديثها.
والسمع المضاف إلى الله -عز وجل- ينقسم إلى قسمين:
سمع يتعلق بالمسموعات، فيكون معناه إدراك الصوت.
2 - وسمع بمعنى الاستجابة، فيكون معناه أن الله يجيب من دعاه؛ لأن الدعاء صوت ينطلق من الداعي، وسمع الله دعاءه يعني: استجاب دعاءه، وليس المراد سمعه مجرد سماع فقط؛ لأن هذا لا فائدة منه، بل الفائدة أن يستجيب الله الدعاء.
فالسمع الذي بمعنى إدراك الصوت ثلاثة أقسام:
أحدها: ما يقصد به التأييد.
والثاني: ما يقصد به التهديد.
والثالث: ما يقصد به بيان إحاطة الله سبحانه وتعالى.(8/272)
{لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} (1) {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} (2) .............................
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1 - أما ما يقصد به التهديد، فكقوله تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} [الزخرف: 80] ،وقوله: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: 181] .
2 -وأما ما يقصد به التأييد، فكقوله تعالى لموسى وهارون: {قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] ، أراد الله -عز وجل- أن يؤيد موسى وهارون بذكر كونه معهما يسمع ويرى، أي: يسمع ما يقولان وما يقال لهما ويراهما ومن أرسلا إليه، وما يفعلان، وما يفعل بهما.
وأما ما يقصد به بيان الإحاطة، فمثل هذه الآية، وهي: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} [المجادلة: 1] .
(1) الآية الثانية: قوله: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: 181] .
* {لَقَدْ} : جملة مؤكدة باللام، و (قد) ، والقسم المقدر، تقديره: والله، فهي مؤكدة بثلاث مؤكدات.
والذين قالوا: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} : هم اليهود قاتلهم الله، فهم وصفوا الله بالعيب، قالوا: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ} .
وسبب قولهم هذا: أنه لما نزل قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} [البقرة: 245] ،قالوا للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: يا محمد، إن ربك افتقر، يسأل القرض منا.
(2) الآية الثالثة: قوله: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف: 80] .(8/273)
وقوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} (1) ..................
ـــــــــــــــــــــــــــــ
* {أَمْ} في مثل هذا التركيب، يقولون: إنها متضمنة معنى (بل) ، والهمزة، يعني: بل أيحسبون، ففيها إضراب وفيها استفهام، أي: بل أيحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم.
* والسر: ما يسره الإنسان إلى صاحبه.
والنجوى: ما يناجي به صاحبه ويخاطبه، فهو أعلى من السر.
والنداء: ما يرفع به صوته لصاحبه.
فها هنا ثلاثة أشياء: سر ومناجاة ونداء.
فمثلًا: إذا كان شخص إلى جانب: وساررته، أي: كلمته بكلام لا يسمعه غيره، نسمي هذا مسارة.
وإذا كان الحديث بين القوم يسمعونه كلهم ويتجاذبونه، سمي مناجاة.
وأما المناداة، فتكون من بعيد لبعيد.
فهؤلاء يسرون ما يقولونه من المعاصي، ويتناجون بها، فيقول الله عز وجل مهددًا إياهم: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى} .
* و {بَلَى} : حرف إيجاب، يعني: بلى نسمع، وزيادة على ذلك: {وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} ، أي: عندهم يكتبون ما يسرون وما به يتناجون، والمراد بالرسل هنا الملائكة الموكلون بكتابة أعمال بني آدم، ففي هذه الآية إثبات أن الله تعالى يسمع سرهم ونجواهم.
(1) الآية الرابعة: قوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] .
* الخطاب لموسى وهارون -عليهما الصلاة والسلام- يقول الله سبحانه(8/274)
وقوله: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} (1) ..............
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وتعالى لهما: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} ، أي: أسمع ما تقولان، وأسمع ما يقال لكما، وأراكما، وأرى أن من أرسلتما إليه، وأرى ما تفعلان، وأرى ما يفعل بكما.
لأنه إما أن يساء إليهما بالقول أو بالفعل، فإن كان بالقول فهو مسموع عند الله، وإن كان بالفعل، فهو مرئي عند الله.
(1) الآية الخامسة: قوله: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق: 14] .
* الضمير في {أَلَمْ يَعْلَمْ} يعود إلى من يسيء إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لقوله: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق: 9-14] ،وقد ذكر المفسرون أن المراد به أبو جهل (1) .
وفي هذه الآية: إثبات صفة الرؤية لله عز وجل.
والرؤية المضافة إلى الله لها معنيان.
المعنى الأول: العلم.
المعنى الثاني: رؤية المبصرات، يعني: إدراكها بالبصر.
فمن الأول: قوله تعالى عن القيامة: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا} [المعارج: 6 - 7] ،فالرؤية هنا رؤية العلم؛ لأن اليوم ليس جسمًا يرى، وأيضًا هو لم يكن بعد، فمعنى: {وَنَرَاهُ قَرِيبًا} ، أي: نعلمه قريبًا.
*وأما قوله: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} ، فهي صالحة لأن تكون بمعنى العلم وبمعنى الرؤية البصرية، وإذا كانت صالحة لهما، ولا منافاة بينهما،
__________
(1) تفسير ابن كثير جـ4 سورة العلق.(8/275)
{الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (1) ...............
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وجب أن تحمل عليهما جميعًا، فيقال: إن الله يرى، أي: يعلم ما يفعله هذا الرجل وما يقوله، ويراه أيضًا.
(1) الآية السادسة: قوله: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الشعراء: 218-220] .
* وقبل هذه الآية قوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} [الشعراء: 217] .
* والرؤية هنا رؤية البصر؛ لأن قوله: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} لا تصح أن تكون بمعنى العلم؛ لأن الله يعلم به حين يقوم وقبل أن يقوم، وأيضًا لقوله: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} وهو يؤيد أن المراد بالرؤية هنا رؤية البصر.
* ومعنى الآية: أن الله تعالى يراه حين يقوم للصلاة وحده وحين يتقلب في الصلاة مع الساجدين في صلاة الجماعة.
* {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) : (إِنَّهُ} ، أي: الله الذي يراك حين تقوم: {هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} .
وفي الآية هنا ضمير الفصل {هُوَ} ، من فوائده الحصر، فهل الحصر هنا حقيقي، بمعنى: أنه حصر لا يوجد شيء من المحصور في غير المحصور فيه، أو هو إضافي؟
الجواب: هو إضافي من وجه،حقيقي من وجه؛ لأن المراد بـ {السَّمِيعُ} هنا: ذو السمع الكامل المدرك لكل مسموع، وهذا هو الخاص بالله عز وجل، والحصر بهذا الاعتبار حقيقي، أما مطلق السمع فقد يكون من الإنسان، كما في قوله تعالى: ( {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان: 2] ،(8/276)
{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} (1) ............................
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فجعل الله تعالى الإنسان سميعًا بصيرًا. وكذلك {عَلِيمٍ} ، فإن الإنسان عليم، كما قال الله تعالى: {وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات: 28] ، لكن العلم المطلق - أي: الكامل - خاص بالله سبحانه وتعالى، فالحصر بهذا الاعتبار حقيقي.
وفي هذه الآية الجمع بين السمع والرؤية.
الآية السابعة: قوله: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105] .
* والذي قبل هذه الآية: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 103-104] .
* في هذه الآية يقول: {فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} .
قال ابن كثير وغيره: قال مجاهد: هذا وعيد - يعني من الله تعالى - للمخالفين أوامره، بأن أعمالهم ستعرض عليه وعلى الرسول والمؤمنين، وهذا كائن لا محالة يوم القيامة، وقد يظهر ذلك للناس في الدنيا.
والرؤية هنا شاملة للعلمية والبصرية.
ففي الآية: إثبات الرؤية بمعنييها: الرؤية العلمية، والرؤية البصرية.
وخلاصة ما سبق من صفتي السمع والرؤية:
أن السمع ينقسم إلى قسمين:(8/277)
1 - سمع بمعنى الاستجابة.
2 - وسمع بمعنى إدراك الصوت.
وأن إدراك الصوت ثلاثة أقسام.
وكذلك الرؤية تنقسم إلى قسمين:
1 - رؤية بمعنى العلم.
2 - ورؤية بمعنى إدراك المبصرات.
وكل ذلك ثابت لله عز وجل.
والرؤية التي بمعنى إدراك المبصرات ثلاثة أقسام:
1 - قسم يقصد به النصر والتأييد، كقوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] .
2 - وقسم يقصد به الإحاطة والعلم، مثل قوله: {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [البقرة: 271] .
3 - وقسم يقصد به التهديد، مثل قوله: {قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 94] .
ما نستفيده من الناحية المسلكية في الإيمان بصفتي السمع والرؤية:
-أما الرؤية، فنستفيد من الإيمان بها الخوف والرجاء: الخوف عند المعصية؛ لأن الله يرانا، والرجاء عند الطاعة؛ لأن الله يرانا. ولا شك أنه سيثيبنا على هذا، فتتقوى عزائمنا بطاعة الله، وتضعف إرادتنا لمعصيته.
- وأما السمع، فالأمر فيه ظاهر؛ لأن الإنسان إذا آمن بسمع الله، استلزم إيمانه كمال مراقبة الله تعالى فيما يقول خوفًا ورجاءً: خوفًا، فلا(8/278)
وقوله: {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} ، وقوله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} ، وقوله: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} ، وقوله: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا} ................
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يقول ما يسمع الله تعالى منه من السوء، ورجاء فيقول الكلام الذي يرضي الله عز وجل.
صفة المكر والكيد والمحال لله تعالى
ذكر المؤلف- رحمه الله -ثلاث صفات متقاربه في أربع آيات: المحال، والمكر، والكيد.
الآية الأولى: في المحال، وهي قوله: {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [سورة الرعد: 13] . * أي: شديد الأخذ بالعقوبة. وقيل: إن المحال بمعنى المكر؛ أي: شديد المكر، وكأنه على هذا التفسير مأخوذ من الحيلة،وهي أن يتخيل بخصمه حتى يتوقع به. وهذا المعنى ظاهر صنيع المؤلف رحمه الله؛ لأنه ذكرها في سياق آيات المكر والكيد.
والمكر؛ قال العلماء في تفسيره: إنه التوصل بالأسباب الخفية إلى الإيقاع بالخصم؛ يعني: أن تفعل أسبابًا خفية فتوقع بخصمك وهو لا يحص ولا يدري، ولكنها بالنسبة لك معلومة مدبرة.
والمكر يكون في موضع مدحًا ويكون في ذمًا: فإن كان في مقابلة من يمكر؛ فهو مدح؛ لأنه يقتضي أنك أنت أقوى منه. وإن كان في غير ذلك؛ فهو ذم ويسمي خيانة.
ولهذا لم يصف الله نفسه به إلا على سبيل المقابلة والتقييد؛ كما قال الله تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [النمل: 50] ، {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال: 30] ، ولا يوصف الله سبحانه(8/279)
وتعالى به على الإطلاق؛ فلا يقال: إن الله ماكر! لا على سبيل الخبر، ولا على سبيل التسمية ولا يقال: إنه كائد،لا على سبيل الخبر، ولا على سبيل التسمية؛ ذلك لأن هذا المعنى يكون مدحًا في حال ويكون ذمًا في حال؛ فلا يمكن أن نصف الله به على سبيل الإطلاق.
فأما قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54] ؛ فهذا كمال؛ ولهذا لم يقل: أمكر الماكرين بل قال: {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} ؛ فلا يكون مكره إلا خيرًا؛ ولهذا يصح أن نصفه بذلك؛ فنقول: هو خير الماكرين. أو نصفه بصفة المكر في سبيل المقابلة؛ أي: مقابلة من يمكر به، فنقول: إن الله تعالى ماكر بالماكرين؛ لقوله تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} .
الآية الثانية: في المكر، وهي قوله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [سورة آل عمران: 54] .
* هذه نزلت في عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، مكر به اليهود ليقتلوه، ولكن كان الله تعالى أعظم منهم مكرًا، رفعه الله، وألقى شبهه على أحدهم، على الذي تولى كبره وأراد أن يقتله، فلما دخل عليه هذا الذي يريد القتل، وإذا عيسى قد رفع، فدخل الناس، فقالوا: أنت عيسى؟ قال: لست عيسى، فقالوا: أنت هو. لأن الله تعالى ألقى عليه شبهه، فقتل هذا الرجل الذي كان يريد أن يقتل عيسى بن مريم؛ فكان مكره عائدًا عليه، {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} .
الآية الثالثة: في المكر أيضًا، وهي قوله: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [النمل: 50] .(8/280)
* هذا في قوم صالح، كان في المدينة التي كان يدعو الناس فيها إلى الله تسعة رهط-أي: أنفار - {تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ} [النمل: 49] ؛ يعني: لنقتلنه بالليل، {ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [النمل: 49] ؛ يعني: أنهم قتلوه بالليل؛ فما يشاهدونه. لكن مكروا ومكر الله! قيل: إنهم لما خرجوا ليقتلوه، فلجئوا إلى غار ينتظرون الليل، انطبق عليهم الغار، فهلكوا، وصالح وأهله لم يمسهم سوء، فيقول الله: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا} .
* {وَمَكَرْنَا} : في الموضعين منكرة للتعظيم؛ أي: مكروا مكرًا عظيمًا، ومكرنا مكرًا أعظم.
الآية الرابعة: في الكيد، وهي قوله: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق: 15-16] .
* {إِنَّهُمْ} ؛ أي: كفار مكة، {يَكِيدُونَ} للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {كَيْدًا} لا نظير له في التنفير منه ومن دعوته، ولكن الله تعالى يكيد كيدًا أعظم وأشد.
* {وَأَكِيدُ كَيْدًا} ؛ يعني: كيدًا أعظم من كيدهم.
ومن كيدهم ومكرهم ما ذكره الله في سورة الأنفال: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال: 30] : ثلاثة آراء.
1 - {لِيُثْبِتُوكَ} ؛ يعني: يحبسوك.
2 - {يَقْتُلُوكَ} ؛ يعني: يعدموك.
3 - {يُخْرِجُوكَ} ؛ يعني: يطردوك.(8/281)
وكان رأي القتل أفضل الآراء عندهم بمشورة من إبليس؛ لأن إبليس جاءهم بصورة شيخ نجدي، وقال لهم: انتخبوا عشرة شبان من عشر قبائل من قريش، وأعطوا كل واحد سيفًا،ثم يعمدون إلى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيقتلونه قتلة رجل واحد، فيضيع دمه في القبائل، فلا تستطيع بنو هاشم أن تقتل واحدًا من هؤلاء الشبان،وحينئذ يلجئون إلى الدية، فتسلمون منه. فقالوا: هذا الرأي! وأجمعوا على ذلك. ولكنهم مكروا مكرًا والله تعالى يمكر خيرًا منه؛ قال الله تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30] ؛ فما حصل لهم الذي يريدون، بل إن الرسول -عليه الصلاة والسلام- خرج من بيته يذر التراب على رؤوس العشرة هؤلاء، ويقرأ: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [يس: 9] فكانوا ينتظرون الرسول -عليه الصلاة والسلام -يخرج، فخرج من بينهم، ولم يشعروا به.
إذًا، صار مكر الله -عز وجل- أعظم من مكرهم؛ لأنه أنجى رسوله منهم وهاجر.
*قال هنا: {يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق: 15-16] والتنكير فيها للتعظيم، وكان كيد الله عز وجل أعظم من كيدهم.
وهكذا يكيد الله -عز وجل- لكل من انتصر لدينه، فإنه يكيد له ويؤيده، قال الله تعالى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} [يوسف: 76] ،يعني: عملنا عملًا حصل به مقصوده دون أن يشعر به أحد.
وهذا من فضل الله -عز وجل- على المرء، أن يقيه شر خصمه على وجه الكيد والمكر على هذا الخصم الذي أراد الإيقاع به.(8/282)
فإن قلت: ما هو تعريف المكر والكيد والمحال؟
فالجواب: تعريفها عند أهل العلم: التوصل بالأسباب الخفية إلى الإيقاع بالخصم؛ يعني: أن توقع بخصمك بأسباب خفية لا يدري عنها.
وهي في محلها صفة كمال يحمد عليها،وفي غير محلها صفة نقص يذم عليها.
ويذكر أن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه -لما بارز عمرو بن ود -والفائدة من المبارزة أنه إذا غلب أحدهما أنكسرت قلوب خصومه-فلما خرج عمرو، صرخ علي: ما خرجت لأبارز رجلين. فالتفت عمرو، فلما التفت ضربه علي -رضي الله عنه- على رقبته حتى أطاح برأسه.
هذا خداع، لكنه جائز، ويحمد عليه؛ لأنه في موضعه؛ فإن هذا الرجل ما خرج ليكرم علي بن أبي طالب ويهنئه، ولكنه خرج ليقتله؛ فكاد له علي بذلك.
والمكر والكيد والمحال من صفات الله الفعلية التي لا يوصف بها على سبيل الإطلاق؛ لأنها تكون مدحًا في حال، وذمًا في حال؛ فيوصف بها حين تكون مدحًا، ولا يوصف بها إذا لم تكن مدحًا؛ فيقال: الله خير الماكرين، خير الكائدين، أو يقال: الله ماكر بالماكرين، خادع لمن يخادعه.
والاستهزاء من هذا الباب، فلا يصح أن نخبر عن الله بأنه مستهزئ على الإطلاق؛ لأن الاستهزاء نوع من اللعب، وهو منفي عن الله؛ قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} [الدخان:(8/283)
38] ، لكن في مقابلة من يستهزئ به يكون كمالًا؛ كما قال تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14] ، قال الله: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15] .
فأهل السنة والجماعة يثبتون هذه المعاني لله عز وجل على سبيل الحقيقة.
لكن أهل التحريف يقولون: لا يمكن أن يوصف بها أبدًا، لكن ذكر مكر الله ومكرهم من باب المشاكلة اللفظية، والمعنى مختلف؛ مثل: ( {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة: 119] .
ونحن نقول لهم: هذا خلاف ظاهر النص، وخلاف إجماع السلف.
وقد قلنا سابقًا: إذا قال قائل: أئت لنا بقول لأبي بكر أو عمر أو عثمان أو علي يقولون فيه: إن المراد بالمكر والاستهزاء والخداع الحقيقة!
فنقول لهم: نعم؛ هم قرؤوا القرآن وآمنوا به، وكونهم لم ينقلوا هذا المعنى المتبادر إلى معنى آخر يدل على أنهم أقروا به، وأن هذا إجماع؛ ولهذا يكفينا أن نقول في الإجماع: لم ينقل عن واحد منهم خلاف ظاهر الكلام، وأنه فسر الرضى بالثواب، أو الكيد بالعقوبة. . . ونحو ذلك.
وهذه الشبهة ربما يوردها علينا أحد من الناس؛ يقولون: أنتم تقولون: هذا إجماع السلف؛ أين إجماعهم؟
نقول: عدم نقل ما يخالف ظاهرها عنهم دليل الإجماع.
ما نستفيده من الناحية المسلكية في إثبات صفة المكر والكيد والمحال:(8/284)
المكر: يستفيد به الإنسان بالنسبة للأمر المسلكي مراقبة الله سبحانه وتعالى، وعدم التحيل على محارمه، وما أكثر المتحيلين على المحارم، فهؤلاء المتحيلون على المحارم إذا علموا أن الله تعالى خير منهم مكرًا وأسرع منهم مكرًا، فإن ذلك يستلزم أن ينتهوا عن المكر.
ربما يفعل الإنسان شيئًا فيما يبدو للناس أنه جائز لا بأس به، لكنه عند الله ليس بجائز، فيخاف، ويحذر.
وهذا له أمثلة كثيرة جدًا في البيوع والأنكحة وغيرهما:
مثال ذلك في البيوع: رجل جاء إلى آخر؛ قال: أقرضني عشرة آلاف درهم. قال: لا أقرضك إلا باثني عشر ألف،وهذا ربًا وحرام سيتجنبه؛ لأنه يعرف أنه ربًا صريح، لكن باع عليه سلعة باثنى عشر آلفًا مؤجلة إلى سنة بيعًا تامًا وكتبت الوثيقة بينهما، ثم إن البائع أتى إلى المشترى، وقال: بعنيه بعشرة آلاف نقدًا. فقال: بعتك إياه. وكتبوا بينهما وثيقة بالبيع.
فظاهر هذا البيع الصحة، ولكن نقول: هذه حيلة؛ فإن هذا لما عرف أنه لا يجوز أن يعطيه عشرة آلاف باثني عشر ألفًا، قال: أبيع السلعة عليه باثني عشر، وأشتريها نقدًا بعشرة.
ربما يتسمر الإنسان في هذه المعاملة؛ لأنها أمام الناس معاملة ليس فيها شيء، لكنها عند الله تحيل على محارمه، وقد يملي الله تعالى لهذا الظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته؛ يعني: يتركه ينمو ماله ويزداد وينمو بهذا الربا لكن إذا أخذه لم يفلته، وتكون هذه الأشياء خسارة عليه فيما بعد، ومآله إلى الإفلاس، ومن الكلمات المشهورة على ألسنة الناس: من عاش في الحيلة مات فقيرًا.(8/285)
وقوله: {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} . . .....
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مثال في الأنكحة: امرأة طلقها زوجها ثلاثًا؛ فلا تحل له إلا بعد زوج، فجاء صديق له، فتزوجها بشرط أنه متى حللها -يعني: متى جامعها -طلقها، ولما طلقها أنت بالعدة، وتزوجها الأول، فإنها ظاهرًا تحل للزوج الأول، لكنها باطنًا لا تحل؛ لأن هذه حيلة.
فمتى علمنا أن الله أسرع مكرًا، وأن الله خير الماكرين؛ أوجب لنا ذلك أن نبتعد غاية البعد عن التحيل على محارم الله.
صفة العفو والمغفرة والرحمة والعزة
(1) ذكر المؤلف -رحمه الله -أربع آيات في صفة العفو والقدرة والمغفرة والرحمة والعزة:
الآية الأولى: في العفو والمقدرة: قوله: {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} [النساء: 149] .
* يعني: إن تفعلوا خيرًا فتبدوه؛ أي: تظهروه للناس، {أَوْ تُخْفُوهُ} ؛ يعني: عن الناس- فإن الله تعالى يعلمه، ولا يخفى عليه شيء.
وفي الآية الثانية: {إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب: 54] ، وهذا أعم، يشمل الخير والشر وما ليس بخير ولا شر.
ولكل آية مكانها ومناسبتها لمن تأمل.
وقوله: {أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ} : العفو: هو التجاوز عن العقوبة؛(8/286)
فإذا أساء إليكم إنسان، فعفوت عنه؛ فإن الله سبحانه وتعالى يعلم ذلك.
ولكن العفو يشترك للثناء على فاعله أن يكون مقرونًا بالإصلاح؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40] ، وذلك أن العفو قد يكون سببًا للزيادة في الطغيان والعدوان، وقد يكون سببًا للانتهاء عن ذلك، وقد لا يزيد المعتدي ولا ينقصه.
1 -فإذا كان سببًا للزيادة في الطغيان؛ كان العفو هنا مذمومًا، وربما يكون ممنوعًا؛ مثل أن نعفوا عن هذا المجرم، ونعلم - أو يغلب على الظن -أنه يذهب فيجرم إجرامًا أكبر، فهنا لا يمدح العافي عنه، بل يذم.
2 -وقد يكون العفو سببًا للانتهاء عن العدوان؛ بحيث يخجل ويقول: هذا الذي عفا عني لا يمكن أن أعتدي عليه مرة أخرى، ولا على أحد غيره. فيخجل أن يكون هو من المعتدين وهذا الرجل من العافين؛ فالعفو محمود ومطلوب،وقد يكون واجبًا.
3 -وقد يكون العفو لا يؤثر ازديادًا ولا نقصًا، فهو أفضل؛ لقوله تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237] .
*وهنا يقول تعالى: {أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} ؛ يعني: إذا عفوتم عن السوء؛ عفا الله عنكم، ويؤخذ هذا الحكم من الجواب: {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} ؛ يعني: فيعفو عنكم مع قدرته على الانتقام منكم، وجمع الله تعالى هنا بين العفو والقدير؛ لأن كمال العفو أن يكون عن قدرة. أما العفو الذي يكون عن عجز؛ فهذا لا يمدح فاعله؛ لأنه عاجز عن الأخذ بالثأر. وأما العفو الذي لا يكون مع قدرة، فقد يمدح،لكنه ليس عفوًا كاملًا، بل العفو الكامل ما كان عن قدرة.(8/287)
{وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم} ...........
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ولهذا جمع الله تعالى بين هذين الاسمين (العفو) و (التقدير) :
فالعفو: هو المتجاوز عن سيئات عباده، والغالب أن العفو يكون عن ترك الواجبات، والمغفرة عن فعل المحرمات.
والقدير: ذو القدرة،وهي صفة يتمكن بها الفاعل من الفعل بدون عجز.
وهذان الاسمان يتضمنان صفتين، وهما العفو والقدرة.
(1) الآية الثانية: في المغفرة والرحمة: قوله: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} النور: 22] .
*هذه الآية نزلت في أبي بكر رضي الله عنه، وذلك أن مسطح بن أثاثه -رضي الله عنه- كان ابن خالة أبي بكر، وكان ممن تكلموا في الإفك.
وقصة الإفك: أن قومًا من المنافقين تكلموا في عرض عائشة -رضي الله عنها- وليس والله قصدهم عائشة، لكن قصدهم رسول الله -صلي الله عليه وسلم-: أن يدنسوا فراشه، وأن يلحقوه العار والعياذ بالله! ولكن الله -ولله الحمد- فضحهم، وقال: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} النور: 11] تكلموا فيها، وكان أكثر من تكلم فيها المنافقون، وتكلم فيها نفر من الصحابة -رضي الله عنهم -معروفون بالصلاح، ومنهم مسطح بن أثاثة، فلما تكلم فيها -وكان هذا من أكبر القطيعة قطعية الرحم، أن يتكلم إنسان في قريبه بما يخدش كرامته، لا سيما وأن ذلك في أم المؤمنين زوجة رسول(8/288)
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أقسم أبو بكر ألا ينفق عليه، وكان أبو بكر هو الذي ينفق عليه، فقال الله تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وكل هذه الأوصاف ثابتة في حق مسطح، فهو قريب ومسكين ومهاجر {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22] ، فقال أبو بكر رضي الله عنه: بلى والله، نحب أن يغفر الله لنا! فرد عليه النفقة.
هذا هو ما نزلت فيه الآية.
أما تفسيرها، فقوله: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا} : اللام لام الأمر، وسكنت لأنها أتت بعد الواو، ولام الأمر تسكن إذا وقعت بعد الواو، كما هنا أو بعد الفاء، أو بعد (ثم) : قال الله تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7] وقال تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29] ، هذا إذا كانت لام أمر، أما إذا كانت لام تعليل، فإنها تبقى مكسورة، لا تسكن، وإن وليت هذه الحروف.
قوله: {وَلْيَعْفُوا} ، يعني: يتجاوزوا عن الأخذ بالذنب.
{وَلْيَصْفَحُوا} ، يعني: يعرضوا عن هذا الأمر، ولا يتكلموا فيه، مأخوذ من صفحة العنق، وهي جانبه؛ لأن الإنسان إذا أعرض، فالذي يبدو منه صفحة العنق.
والفرق بين العفو والصفح: أن الإنسان قد يعفو ولا يصفح، بل يذكر هذا العدوان وهذه الإساءة، لكنه لا يأخذ بالندب، فالصفح أبلغ من مجرد العفو.(8/289)
وقوله: {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} : ألا: للعرض، والجواب: بلى نحب ذلك، فإذا كنا نحب أن يغفر الله لنا، فلنتعرض لأسباب المغفرة.
ثم قال: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} : غفور: هذه إما أن تكون اسم فاعل للمبالغة، وإما أن تكون صفة مشبهة، فإذا كانت صفة مشبهة، فهي دالة على الوصف اللازم الثابت، هذا هو مقتضى الصفة المشبهة، وإن كانت اسم فاعل محولا إلى صيغة التكثير، كانت دالة على وقوع المغفرة من الله بكثرة.
وبعد هذا نقول: إنها جامعة بين الأمرين، فهي صفة مشبهة؛ لأن المغفرة صفة دائمة لله عز وجل، وهي أيضا فعل يقع بكثرة، فما أكثر مغفرة الله عز وجل وما أعظمها.
وقوله: {رَحِيمٌ} : هذه أيضا اسم فاعل محول إلى صيغة المبالغة، وأصل اسم الفاعل من رحم: راحم، لكن حول إلى رحيم لكثرة رحمة الله عز وجل وكثرة من يرحمهم الله عز وجل.
والله سبحانه وتعالى يقرن بين هذين الاسمين؛ لأنهما دالان على معنى متشابه، ففي المغفرة زوال المكروب وآثار الذنب، وفي الرحمة حصول المطلوب، كما قال الله تعالى للجنة: «أنت رحمتي أرحم بك من أشاء» .(8/290)
وقوله: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الآية الثالثة: في العزة، وهي قوله: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8] .
هذه الآية نزلت في مقابلة قول المنافقين: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون: 8] ، يريدون أنهم الأعز، وأن رسول الله والمؤمنين الأذلون، فبين الله تعالى أنه لا عزة لهم، فضلا عن أن يكونوا هم الأعزون، وأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين.
ومقتضى قول المنافقين أن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم والمؤمنين هم الذين يخرجون المنافقين؛ لأنهم أهل العزة، والمنافقون أهل الذلة، ولهذا كانوا يحسبون كل صيحة عليهم، وذلك لذلهم وهلعهم، وكانوا إذا لقوا الذين آمنوا، قالوا: آمنا، خوفا وجبنا، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا: إنا معكم، إنما نحن مستهزءون! وهذا غاية الذل. أما المؤمنون، فكانوا أعزاء بدينهم، قال الله عنهم في مجادلة أهل الكتاب: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64] ، فيعلنونها صريحة، لا يخافون في الله لومة لائم.
وفي هذه الآية الكريمة إثبات العزة لله سبحانه وتعالى.
وذكر أهل العلم أن العزة تنقسم إلى ثلاثة أقسام: عزة القدر، وعزة القهر، وعزة الامتناع:
1- فعزة القدر: معناه أن الله تعالى ذو قدر عزيز، يعني: لا نظير له.
2- وعزة القهر: هي عزة الغلبة، يعني: أنه غالب كل شيء، قاهر كل شيء، ومنه قوله تعالى: {فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص: 23](8/291)
يعني: غلبني في الخطاب. فالله سبحانه عزيز له بل هو غالب كل شيء.
3- وعزة الامتناع: وهي أن الله تعالى يمتنع أن يناله سوء أو نقص، فهو مأخوذ من القوة والصلابة، ومنه قولهم: أرض عزاز، يعني قوية شديدة.
هذه معاني العزة التي أثبتها الله تعالى لنفسه، وهي تدل على كمال قهره وسلطانه، وعلى كمال صفاته، وعلى تمام تنزهه عن النقص.
تدل على كمال قهره وسلطانه في عزة القهر.
وعلى تمام صفاته وكمالها وأنه لا مثيل لها في عزة القدر.
وعلى تمام تنزهه عن العيب والنقص في عزة الامتناع.
قوله: {وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} ، يعني: أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، له عزة، وللمؤمنين أيضا عزة وغلبة.
ولكن يجب أن نعلم أن العزة التي أثبتها الله لرسوله وللمؤمنين ليست كعزة الله، فإن عزة الرسول عليه الصلاة والمؤمنين قد يشوبها ذلة؛ لقوله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران: 123] ، وقد يغلبون أحيانا لحكمة يريدها الله عز وجل، ففي أحد لم يحصل لهم تمام العزة؛ لأنهم غلبوا في النهاية لحكم عظيمة، وكذلك في حنين ولوا مدبرين، ولم يبق مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من اثني عشر ألفا إلا نحو مئة رجل. هذا أيضا فقد للعزة، لكنه مؤقت. أما عزة الله عز وجل، فلا يمكن أبدا أن تفقد.
وبهذا عرفنا أن العزة التي أثبتها الله لرسوله وللمؤمنين ليست كالعزة التي أثبتها لنفسه.(8/292)
وقوله عن إبليس: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وهذا أيضا يمكن أن يؤخذ من القاعدة العامة، وهي أنه: لا يلزم من اتفاق الاسمين أن يتماثل المسميان، ولا من اتفاق الصفتين أن يتماثل الموصوفان.
الآية الرابعة: في العزة أيضا، وهي قوله عن إبليس: {فبعزتك لأغوينهم أجمعين} [ص: 82] .
الباء هنا للقسم، لكنه اختار القسم بالعزة دون غيرها من الصفات؛ لأن المقام مقام مغالبة، فكأنه قال: بعزتك التي تغلب بها من سواك لأغوين هؤلاء وأسيطر عليهم، يعني بني آدم، حتى يخرجوا من الرشد إلى الغي.
ويستثنى من هذا عباد الله المخلصون، فإن إبليس لا يستطيع أن يغويهم، كما قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42] .
ففي هاتين الآيتين إثبات العزة لله.
وفي الآية الثالثة إثبات أن الشيطان يقر بصفات الله!.
فكيف نجد من بني آدم من ينكر صفات الله أو بعضها، أيكون الشيطان أعلم بالله وأعقل مسلكا من هؤلاء النفاة؟ ! .
ما نستفيده من الناحية المسلكية:
في العفو والصفح: هو أننا إذا علمنا أن الله عفو، وأنه قدير، أوجب لنا ذلك أن نسأله العفو دائما، وأن نرجو منه العفو عما حصل منا من التقصير في الواجب.
أما العزة أيضا: نقول: إذا علمنا أن الله عزيز، فإننا لا يمكن أن نفعل(8/293)
وقوله: {تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام}
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فعلا نحارب الله فيه.
مثلا الإنسان المرابي معاملته مع الله المحاربة: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279] . إذا علمنا أن الله ذو عزة لا يغلب، فإنه لا يمكننا أن نقدم على محاربة الله عز وجل.
قطع الطريق محاربة: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33] ، فإذا علمنا أن قطع الطريق محاربة لله، وأن العزة لله، امتنعنا عن العمل، لأن الله هو الغالب.
ويمكن أن نقول فيها فائدة من الناحية المسلكية أيضا، وهي أن الإنسان المؤمن ينبغي له أن يكون عزيزا في دينه، بحيث لا يذل أمام أحد من الناس، كائنا من كان، إلا على المؤمنين، فيكون عزيزا على الكافرين، ذليلا على المؤمنين.
إثبات الاسم لله تعالى
ذكر المؤلف رحمه الله آية في إثبات الاسم لله تعالى، وآيات أخرى كثيرة في تنزيه الله تعالى ونفي المثيل عنه.
آية إثبات الاسم: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 78] .
{تَبَارَكَ} : قال العلماء: معناها: تعالى وتعاظم إن وصف بها الله، كقوله: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14] ، وإن وصف بها اسم الله، كان معناها: أن البركة تكون باسم الله، أي أن اسم الله إذا صاحب شيئا، صارت فيه البركة.(8/294)
ولهذا جاء في الحديث: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بـ " بسم الله " فهو أبتر» (1) ، أي: ناقص البركة.
بل إن التسمية تفيد حل الشيء الذي يحرم بدونها، فإنه إذا سمى الله على الذبيحة صارت حلالا، وإذا لم يسم صارت حراما وميتة، وهناك فرق بين الحلال الطيب الطاهر، والميتة النجسة الخبيثة.
وإذا سمى الإنسان على طهارة الحدث، صحت، وإذا لم يسم، لم تصح على أحد القولين.
وإذا سمى الإنسان على طعامه، لم يأكل معه الشيطان، وإن لم يسم، أكل معه.
وإذا سمى الإنسان على جماعه، وقال: «اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا» ثم قدر بينهما ولد، لم يضره الشيطان أبدا، وإن لم يفعل، فالولد عرضة لضرر الشيطان.
وعليه، فنقول: إن {فَتَبَارَكَ} هنا ليست بمعنى: تعالَى وتعاظَم، بل يتعين أن يكون معناها: حلت البركة باسم الله، أي أن اسمه سبب للبركة إذا صحب شيئا.
وقوله: {ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} : (ذي) : بمعنى صاحب، وهي
__________
(1) أخرجه الخطيب البغدادي في " الجامع " (2/69) ، والسيوطي في " الجامع الصغير " (2/92) وسئل العلامة الجليل/ محمد العثيمين حفظه الله تعالي عن هذا الحديث فقال: " هذا الحديث اختلف العلماء في صحته فمن أهل العلم من صححه واعتمده كالنووي، ومنهم من ضعفه، ولكن تلقي العلماء له بالقبول ووضعهم ذلك الحديث في كتبهم يدل على أن ذلك له أصلاً.. [انتهي من كتاب (العلم) ص 127.(8/295)
وقوله: {فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا} .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
صفة لـ (رب) ، لا لـ (اسم) ، لو كانت صفة لـ (اسم) ، لكانت، ذو.
و {الْجَلَالِ} ، بمعنى: العظمة.
والإكرام، بمعنى: التكريم، وهو صالح؛ لأن يكون الإكرام من الله لمن أطاعه، وممن أطاعه له.
فـ {الْجَلَالِ} : عظمته في نفسه، {وَالْإِكْرَامِ} : عظمته في قلوب المؤمنين، فيكرمونه ويكرمهم.
آيات الصفات المنفية في تنزيه الله ونفي المثل عنه
قوله: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] .
شرع المؤلف رحمه الله بالصفات السلبية، أي صفات النفي.
وقد مر علينا فيما سبق أن صفات الله عز وجل ثبوتية وسلبية أي: منفية؛ لأن الكمال لا يتحقق إلا بالإثبات والنفي، إثبات الكمالات، ونفي النقائض.
قوله: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} : الفاء مفرعة على ما سبق، وهو قوله: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} [مريم: 65] ، فذكر سبحانه وتعالى الربوبية {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} ، وفرع على ذلك وجوب عبادته؛ لأن كل من أقر بالربوبية، لزمه الإقرار بالعبودية والألوهية، وإلا صار متناقضا.
فقوله: {فَاعْبُدْهُ} ، أي: تذلل له محبة وتعظيما، والعبادة، يراد بها المتعبد به، ويراد بها التعبد الذي هو فعل العبد، كما سبق في المقدمة.(8/296)
وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: {وَاصْطَبِرْ} : اصطبر، أصلها في اللغة: اصتبر، فأبدلت التاء طاء لعلة تصريفية. والصبر: حبس النفس. وكلمة (اصطبر) أبلغ من (اصبر) ؛ لأنها تدل على معاناة، فالمعنى اصبر، وإن شق عليك ذلك، واثبت ثبات القرين لقرينه في القتال.
وقوله: {لِعِبَادَتِهِ} ، قيل: إن اللام بمعنى (على) ، أي: اصطبر عليها، كما قال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132] ..
وقيل: بل اللام على أصلها، أي: اصطبر لها، أي كن مقابلا لها بالصبر، كما يقابل القرين قرينه في ميدان القتال.
وقوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} : الاستفهام للنفي، وإذا كان الاستفهام بمعنى النفي، كان مشربا معنى التحدي، يعني: إن كنت صادقا، فأخبرنا: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} ؟ و (السمي) : الشبيه والنظير.
يعني: هل تعلم له مساميا أو نظيرا يستحق مثل اسمه؟
والجواب: لا.
فإذا كان كذلك، فالواجب أن تعبده وحده.
وفيها من الصفات: قوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} ، وهي من الصفات السلبية.
فما الذي تتضمنه من صفات الكمال (لأننا ذكرنا فيما سبق أن الصفات السلبية لا بد أن تتضمن ثبوتا) فما هو الثبوت الذي تضمنه النفي هنا؟
الجواب: الكمال المطلق، فيكون المعنى: هل تعلم له سميا لثبوت كماله المطلق الذي لا يساميه أحد فيه؟ .
الآية الثانية: قوله: {ولم يكن له كفوا أحد} [الإخلاص: 4] .(8/297)
{فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تقدم الكلام عليها، أي: ليس يكافئه أحد، وهو نكرة في سياق النفي فتعم.
و {كُفُوًا} : فيها ثلاث قراءات: كفوا، وكفئا، وكفؤا، فهي بالهمزة ساكنة الفاء ومضمومتها، وبالواو مضمومة الفاء لا غير، وبهذا نعرف خطأ الذين يقرءون بتسكين الفاء مع الواو (كفوا) .
هذه الآية أيضا فيها نفي الكفء لله عز وجل، وذلك لكمال صفاته، فلا أحد يكافئه، لا في علمه، ولا سمعه، ولا بصره، ولا قدرته، ولا عزته، ولا حكمته، ولا غير ذلك من صفاته.
الآية الثالثة: قوله: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22] .
هذا مفرع على قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} ، وكل هذا من توحيد الربوبية، ثم قال: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} [البقرة: 21-22] يعني: في الألوهية؛ لأن أولئك القوم المخاطبين لم يجعلوا لله أندادا في الربوبية، إذا فلا تجعلوا لله أندادا في الألوهية كما أنكم تقرون أنه ليس له أندادا في الربوبية.
وقوله: {أَنْدَادًا} : جمع ند، وند الشيء ما كان منادا (أي مكافئا) له ومشابها، وما زال الناس يقولون: هذا ند لهذا، أي: مقابل له ومكافئ له.
وقوله: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} : الجملة هنا حالية، وصاحب الحال هي الواو في قوله: {فَلَا تَجْعَلُوا} ، والمفعول محذوف، يعني: وأنتم تعلمون(8/298)
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أنه لا ند له.
الجملة الحالية هنا صفة كاشفة، والصفة الكاشفة كالتعليل للحكم، فكأنه قال: لا تجعلوا لله أندادا؛ لأنكم تعلمون أنه لا ند له، فإذا كنتم تعلمون ذلك، فكيف تجعلونه فتخالفون علمكم؟ !
وهذه أيضا سلبية، وذلك من قوله: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ، لأنه لا ند له، لكمال صفاته.
الآية الرابعة: قوله: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله} [البقرة: 165] .
ومن: تبعيضية، والميزان لـ (من) التبعيضية أن يحل محلها: بعض، يعني: وبعض الناس.
{مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا} : يتخذهم أندادا، يعني: في المحبة، كما فسره بقوله: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} ، ويجوز أن نقول: إن المراد بالأنداد ما هو أعم من المحبة، يعني: أندادا يعبدونهم كما يعبدون الله، وينذرون لهم كما ينذرون لله؛ لأنهم يحبونهم كحب الله، يحبون هذه الأنداد كحب الله عز وجل.
وهذا إشراك في المحبة، بحيث تجعل غير الله مثل الله في محبته.
وينطبق ذلك على من أحب رسول الله كحب الله؛ لأنه يجب أن تحب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ محبة ليست كمحبة الله؛ لأنك إنما تحب الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تبعا(8/299)
لمحبة الله عز وجل، لا على أنه مناد لله، فكيف بمن يحبون الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكثر مما يحبون الله؟!
وهنا يجب أن نعرف الفرق بين المحبة مع الله والمحبة لله:
المحبة مع الله: أن تجعل غير الله مثله في محبته أو أكثر. وهذا شرك..
والمحبة في الله أو لله: هي أن تحب الشيء تبعا لمحبة الله عز وجل.
والذي نستفيده من الناحية المسلكية في هذه الآيات:
أولا: في قوله: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} : إذا علمنا أن الله تعالى موصوف بالجلال، فإن ذلك يستوجب أن نعظمه، وأن نجله.
وإذا علمنا أنه موصوف بالإكرام فإن ذلك يستوجب أن نرجو كرمه وفضله.
وبذلك نعظمه بما يستحقه من التعظيم والتكريم.
ثانيا: قوله: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} ، فالفوائد المسلكية في ذلك هو أن يعبد العبد ربه، ويصطبر للعبادة، لا يمل، ولا يتعب، ولا يضجر، بل يصبر عليها صبر القرين لقرينه في المبارزة في الجهاد.
ثالثا: قوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} ، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} ، {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} ، ففيها تنزيه لله عز وجل، وأن الإنسان يشعر في قلبه بأن الله تعالى منزه عن كل نقص، وأنه لا مثيل له، ولا ند له، وبهذا يعظمه حق تعظيمه بقدر استطاعته.
رابعا: قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا} ، فمن فوائدها من الناحية المسلكية: أنه لا يجوز للإنسان أن يتخذ أحدا من الناس محبوبا(8/300)
{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا}
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كمحبة الله، وهذه تسمى المحبة مع الله.
الآية الخامسة: قوله: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111] .
{وَقُلِ} : الخطاب في مثل هذا: إما خاص بالرسول عليه الصلاة والسلام، أو عام لكل من يصح توجيه الخطاب إليه.
فإن كان خاصا بالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو خاص به بالقصد الأول، وأمته تبع له.
وإن كان عاما، فهو يشمل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغيره بالقصد الأول.
{الْحَمْدُ لِلَّهِ} : سبق تفسير هذه الجملة، وأن الحمد هو وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم.
وقوله: لله: اللام هنا للاستحقاق والاختصاص:
للاستحقاق؛ لأن الله تعالى يحمد وهو أهل للحمد.
والاختصاص؛ لأن الحمد الذي يحمد الله به ليس كالحمد الذي يحمد به غيره، بل هو أكمل وأعظم وأعم وأشمل.
وقوله: {الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} : هذا من الصفات السلبية: {لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} لكمال صفاته وكمال غناه عن غيره؛ ولأنه لا مثيل له، فلو اتخذ ولدا، لكان الولد مثله، لو كان له ولد، لكان محتاجا إلى الولد يساعده ويعينه، لو كان له ولد، لكان ناقصا؛ لأنه إذا شابهه أحد من خلقه، فهو نقص.(8/301)
وقوله {وَلَدًا} يشمل الذكر والأنثى ففيه رد على اليهود والنصارى والمشركين:
اليهود قالوا: لله ولد، وهو عزير.
والنصارى قالوا: لله ولد، وهو المسيح.
والمشركون قالوا: لله ولد، وهم الملائكة.
وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} : هذا معطوف على قوله: {لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} ، يعني: والذي لم يكن له شريك في الملك، لا في الخلق، ولا في الملك، ولا في التدبير.
كل ما سوى الله، فهو مخلوق لله، مملوك له، يدبره كما يشاء، ولم يشاركه أحد في ذلك، كما قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} [سبأ: 23] على سبيل التعيين، {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} [سبأ: 23] على سبيل الشيوع، {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ: 23] ، لم يعاونه أحد في هذه السماوات والأرض، {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 22-23] ، وبهذا تقطعت جميع الأسباب التي يتعلق بها المشركون في آلهتهم.
فالآلهة هذه لا تملك من السماوات والأرض شيئا معينا، وليست شريكة لله، ولا معينة، ولا شفاعة، إلا بإذنه، يقول: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} [الإسراء: 111] .
وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} : لم يكن له ولي، لكنه قيد بقوله: {مِنَ الذُّلِّ} .(8/302)
ومن هنا للتعليل؛ لأن الله تعالى له أولياء: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 62-63] ، وقال تعالى في الحديث القدسي: «من عادى لي وليا، فقد آذنته بالحرب» .." ولكن الولي المنفي هو الولي من الذل؛ لأن الله تعالى له العزة جميعا، فلا يلحقه الذل بوجه من الوجوه، لكمال عزته.
وقوله: {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} ، يعني: كبر الله عز وجل تكبيرا، بلسانك وجنانك: اعتقد في قلبك أن الله أكبر من كل شيء، وأن له الكبرياء في السماوات والأرض، وكذلك بلسانك تكبره، تقول: الله أكبر!
وكان من هدي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه أنهم يكبرون كلما علوا نشرا، أي: مرتفعا، وهذا في السفر؛ لأن الإنسان إذا علا في مكانه، قد يشعر في قلبه أنه مستعل على غيره، فيقول: الله أكبر. من أجل أن يخفف تلك العلياء التي شعر بها حين علا وارتفع.
وكانوا إذا هبطوا، قالوا: سبحان الله؛ لأن النزول سفول، فيقول: سبحان الله، أي: أنزهه عن السفول الذي أنا الآن فيه.
وقوله: {تَكْبِيرًا} : هذا مصدر مؤكد، يراد به التعظيم، أي: كبره تكبيرا عظيما.
والذي نستفيده من الناحية المسلكية في هذه الآية:
أن الإنسان يشعر بكمال غنى الله عز جل عن كل أحد، وانفراده(8/303)
{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بالملك، وتمام عزته وسلطانه، وحينئذ يعظم الله سبحانه وتعالى بما يستحق أن يعظم به بقدر استطاعته.
ونستفيد حمد الله تعالى على تنزهه عن العيوب، كما يحمد على صفات الكمال
الآية السادسة: قوله تعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التغابن: 1] .
{يُسَبِّحُ} ، بمعنى: ينزه عن كل صفة نقص وعيب، و (سبح) تتعدى بنفسها وتتعدى باللام.
- أما تعديها بنفسها، فمثل قوله تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفتح: 9] .
- وأما تعديها باللام، فهي كثيرة، فكل السور المبدوءة بهذا متعدية باللام.
قال العلماء: وإذا أريد مجرد الفعل، تعدت بنفسها: {وَتُسَبِّحُوهُ} ، أي: تقولوا: سبحان الله!
وإذا أريد بيان القصد والإخلاص، تعدت باللام، {يُسَبِّحُ لِلَّهِ} ، أي: سبحوا إخلاصا لله واستحقاقا.
فاللام هنا تبين كمال الإرادة من الفاعل، وكمال الاستحقاق من المسبح، وهو الله.
وقوله: {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} : عام يشمل كل شيء.
لكن التسبيح نوعان: تسبيح بلسان المقال، وتسبيح بلسان الحال.(8/304)
{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا}
ـــــــــــــــــــــــــــــ
- أما التسبيح بلسان الحال، فهو عام: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44] .
- وأما التسبيح بلسان المقال، فهو عام كذلك، لكن يخرج منه الكافر، فإن الكافر لم يسبح الله بلسانه، ولهذا يقول تعالى: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الحشر: 23] ، {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات: 159] فهم لم يسبحوا الله تعالى؛ لأنهم أشركوا به ووصفوه بما لا يليق به.
فالتسبيح بلسان الحال يعني: أن حال كل شيء في السماوات والأرض تدل على تنزيه الله سبحانه وتعالى عن العبث وعن النقص، حتى الكافر إذا تأملت حاله، وجدتها تدل على تنزه الله تعالى عن النقص والعيب.
وأما التسبيح بلسان المقال، فيعني: أن يقول: سبحان الله.
وقوله: {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
هذه الصفات الأخيرة صفات ثبوتية، وسبق ذكر معناها، لكن يسبح لله صفة سلبية؛ لأن معناها، تنزيهه عما لا يليق به.
الآية السابعة والثامنة: وقوله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 1-2] .
{تَبَارَكَ} بمعنى: تعالى وتعاظم.
و {الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} : هو الله عز وجل.(8/305)
وقوله: {الْفُرْقَانَ} ، يعني به: القرآن؛ لأنه يفرق بين الحق والباطل، وبين المسلم والكافر، وبين البر والفاجر، وبين الضار والنافع، وغير ذلك مما فيه الفرقان، فكله فرقان.
{عَلَى عَبْدِهِ} : محمد عليه الصلاة والسلام، فوصفه بالعبودية في مقام التحدث عن تنزل القرآن عليه، وهذا المقام من أشرف مقامات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولهذا وصفه الله تعالى بالعبودية في مقام تنزل القرآن عليه، كما هنا، وكما في قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف: 1] ، ووصفه بالعبودية في مقام الدفاع عنه والتحدي: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: 23] ، ووصفه بالعبودية في مقام تكريمه بالمعراج، فقال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء:1] ، وقال في سورة النجم: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 10] ، مما يدل على أن وصف الإنسان بالعبودية لله يعد كمالا؛ لأن العبودية لله هي حقيقة الحرية، فمن لم يتعبد له، كان عابدا لغيره.
قال ابن القيم رحم الله:
هربوا من الرق الذي خلقوا له ... وبلوا برق النفس والشيطان
و" الرق الذي خلقوا له ": عبادة الله عز وجل.
و" بلوا برق النفس والشيطان ": حيث صاروا أرقاء لنفوسهم، وأرقاء للشيطان، فما من إنسان يفر من عبودية الله، إلا وقع في عبودية هواه وشيطانه، قال الله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية: 23] .(8/306)
قوله: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} : اللام هنا للتعليل، والضمير في {لِيَكُونَ} عائد على النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه أقرب مذكور، ولأن الله تعالى قال: {لِتُنْذِرَ بِهِ} [الأعراف: 2] ، وقال تعالى: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19] ، فالمنذر: الرسول عليه الصلاة والسلام.
وقوله: {لِلْعَالَمِينَ} : يشمل الجن والإنس.
وقوله: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : تقدم معناها.
وقوله: {وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} : سبق معناهما، وهما صفة سلبية.
{وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} : الخلق: الإيجاد على وجه معين.
والتقدير: بمعنى التسوية أو بمعنى القضاء في الأزل، والأول أصح، ويدل لذلك قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} [الأعلى:2] ، وبه تكون الآية على الترتيب الذكري والمعنوي، وعلى الثاني تكون الآية على الترتيب الذكري.
ونستفيد من هذه الآيات من الناحية المسلكية:
أنه يجب علينا أن نعرف عظمة الله عز وجل، وننزهه عن كل نقص، وإذا علمنا ذلك، ازددنا محبة له وتعظيما.
ومن آيتي الفرقان نستفيد بيان هذا القرآن العظيم، وأنه مرجع العباد، وأن الإنسان إذا أراد أن تتبين له الأمور، فليرجع إلى القرآن؛ لأن الله سماه فرقانا: {نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان: 1] .
ونستفيد أيضا من الناحية المسلكية التربوية: أن تتأكد وتزداد محبتنا(8/307)