|
المؤلف : محمد بن صالح بن محمد العثيمين (المتوفى : 1421هـ)
جمع وترتيب : فهد بن ناصر بن إبراهيم السليمان
الناشر : دار الوطن - دار الثريا
الطبعة : الأخيرة - 1413 هـ
عدد الأجزاء : 26
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
واضرب مثلا: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} ، برجل له ابن يحبه حبا جما، ولو سقطت عليه شرارة من نار، لكانت كالتي سقطت على قلب أبيه، من محبته له، فمرض هذا الابن فعرض على الأطباء، فقال الطبيب: لا بد من كيه بمسمار من نار، فقال الأب: وهو كذلك، فهذا الكي للابن ليس محبوبا للأب لذاته بل محبوبا لغيره، فتجد هذا الأب أراد وبكل طمأنينة وراحة وانشراح صدر أراد أن يكوي ابنه بمسمار من نار، مع أنه لو سقطت على الابن شرارة لكانت ساقطة على قلب أبيه.
فعلم الآن أن المكروه قد يفعل، لا لذاته ولكن لغيره، فهكذا الكفر والمعاصي والفساد، يريدها الرب - عز وجل - لما تتضمنه من المصالح، فهي مرادة لغيرها لا لذاتها.
(3/202)
المبحث الثالث: قضاء الله والرضا به
:
نحن نؤمن بأن الله سبحانه يقضي كل شيء، فنؤمن بقضاء الله أيّا كان هذا القضاء، ويجب علينا أن نؤمن به ونرضى به أيا كان، لكن هل يجب علينا أن نرضى بالمقضي؟ أو لا نرضى؟
نقول: هذا أقسام، فالمقضي نوعان:
الأول: مقضي شرعا. والثاني: مقضي كونا.
فالمقضي شرعا: يجب علينا أن نرضى به، مثل أن قضى الله علينا بوجوب الصلاة، فيجب أن نؤمن بهذا القضاء، وأن نسلم لوجوب الصلاة، ومثل: أن قضى الله بتحريم الزنى، فيجب علينا أن نؤمن بهذا المقضي، وأن الزنى محرم، ومثل أن قضى الله بحل البيع فيجب علينا أن نرضى بذلك وأن نؤمن بأن البيع حلال، ومثل: أن قضى الله بتحريم الربا، فيجب علينا أن نؤمن بهذا، وأن نستسلم لتحريم الربا.
فالخط العريض لهذا المسألة أن القضاء الشرعي يجب الرضا به، والتسليم به، لأن: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} .
وأما الثاني فهو القضاء الكوني: أي ما يقضي به الله كونا - فإن كان محبوبا للنفس، ملائما للطبع، فالرضا به من طبيعة الإنسان وفطرته، كما لو قضى الله - سبحانه وتعالى - للإنسان بعلم فإنه يرضى به، وكذلك لو قضى الله سبحانه للإنسان بمال فإنه يرضى به، وكذلك لو قضى بولد فإنه يرضى به.
(3/203)
وإما أن يكون المقضي كونا غير ملائم للإنسان، ولا موافق لطبيعته مثل المرض، الفقر، الجهل، فقدان الأولاد، أو ما أشبه ذلك، فهذا اختلف العلماء فيه:
فمنهم من قال: يجب الرضا.
ومنهم من قال يستحب الرضا.
والصحيح: أن الرضا به مستحب.
وأحوال الإنسان عند هذا النوع من القضاء وهو القضاء الذي لا يلائم الطبع ويكون مكروها للإنسان أحواله عنده أربع: السخط، والصبر، والرضا، والشكر.
أولا: السخط: وهو محرم كما لو أصيب رجل بمصيبة وهي تلف المال، فأخذ يتسخط من قضاء الله وقدره وصار يخمش وجهه، ويشق ثوبه، ويجد في نفسه كراهة لتدبير الله - عز وجل -، فهذا محرم، ولهذا لعن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، النائحة والمستمعة وقال: «ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية» .
هل هذا الفعل مع كونه محرما، ومن كبائر الذنوب هل يبرد من حرارة المصيبة؟ أبدا لا يبرد من حرارة المصيبة، بل يزيدها، ويبدأ الإنسان يتسخط ويتحسر ولا يستفيد شيئا؛ لأن هذا القضاء الذي قضاه الله - عز وجل -، لا بد أن يقع مهما كان، يعني لا تقدر أنك لو لم تفعل كذا لم يكن كذا فهذا تقدير وهمي من الشيطان، فهذا المقدر لا بد أن يكون، ولهذا قال النبي، عليه الصلاة والسلام: «ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك» . فلا بد أن يقع كما أراد الله - عز وجل -، وقال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(3/204)
«احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجزن، وإن أصابك شيء - أي بعد أن تحرص على ما ينفعك، وتستعين بالله - إن أصابك شيء لا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا فإن (لو) تفتح عمل الشيطان» .
فلو أن إنسانا خرج للنزهة بسيارته - التي هي من أحسن السيارات - فأصيب بحادث وتكسرت السيارة فبدأ يقول: لو أني -ما خرجت لهذه النزهة ما تكسرت السيارة، ويندم نفسه، ويلوم نفسه، فهل ينفعه هذا؟ أبدا لا ينفع؛ لأن هذا كتب وسيجري الأمر بما كتب مهما كان.
ثانيا: الصبر: يتألم الإنسان من المصيبة جدا ويحزن، ولكنه يصبر، لا ينطق بلسانه، ولا يفعل بجوارحه، قابض على قلبه، موقفه أنه قال: " اللهم أجرني في مصيبتي، واخلف لي خيرا منها ". " إنا لله وإنا إليه راجعون "، فحكم الصبر هنا الوجوب، فيجب على الإنسان أن يصبر على المصيبة، وألا يحدث قولا محرما، ولا فعلا محرما.
ثالثا: الرضا: تصيبه المصيبة فيرضى بقضاء الله، والفرق بين الرضا والصبر، أن الراضي لم يتألم قلبه بذلك أبدا، فهو يسير مع القضاء «إن إصابته ضراء صبر فكان خيرا له وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له» ، ولا يرى الفرق بين هذا وهذا بالنسبة لتقبله لما قدره الله - عز وجل -، أي إن الراضي تكون المصيبة وعدمها عنده سواء. هذه المسألة يقول بعض العلماء: إنها واجبة، لكن جمهور أهل العلم على أنها ليست بواجبة، بل مستحبة، فهذه لا شك أنها أكمل حالا من الصبر، وأما أن نلزم الناس ونقول: يجب عليكم أن تكون المصيبة وعدمها عندكم سواء، فهذا صعب ولا أحد يتحمله، فالصبر يستطيع الإنسان أن يصبر، ولكن الرضا يعجز أن يرضى.
(3/205)
رابعا: الشكر: وهذه قد يستغربها الإنسان، فكيف يمكن للإنسان أن يصاب بمصيبة فيشكر الله، وهل هذا إلا مناف لطبيعة البشر؟ ولكن يكون هذا إذا عرف الإنسان قدر ثواب المصيبة إذا صبر عليها قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} ، وقال: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} ، فيقول: ما أرخص الدنيا عندي، وما أقلها في عيني، إذا كنت أنال بهذه المصيبة التي صبرت عليها أنال هذه الصلوات وهذه الرحمة من الله - عز وجل - وهذا الأجر الذي أوفاه بغير حساب، فيشكر الله على هذه النعمة ويرى أن هذه من نعمة الله عليه؛ لأن كل الدنيا زائلة وفانية، والأجر، والصلوات، والرحمة باقية، فيشكر الله على هذه المصيبة - والشكر هنا على المصيبة مستحب وليس بواجب؛ لأنه أعلى من الرضا - أما الشكر على النعم فهو واجب.
فهذه هي مراتب الإنسان بالنسبة للمقضي كونا مما يخالف الطبيعة ولا يلازم رغبة الإنسان.
وهنا مسألة: إذا قال قائل: ما تقولون في الرضا بالنسبة لما يفعله الإنسان من الأمور الشرعية كما لو زنى إنسان، أو سرق، فهل ترضون بزناه وسرقته؟
فالجواب: أن فيها نظرين: الأول باعتبار أن الله قدرها وأوجدها، فهي من هذه الناحية قضاء كوني يجب علينا أن نرضى به، فلا نقول: لماذا جعل الله الزاني يزني، وجعل السارق يسرق، فليس لنا أن نعترض.
أما بالنسبة لفعل العبد لها فلا نرضى، ولهذا فإننا نقيم عليه الحد قال
(3/206)
تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ، وفي السارق قال الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} ، ومعلوم أن جلدهما، وقطع يد السارق والسارقة غير رضا، فلو كان رضا ما كنا تعرضنا لهم بالعقوبة.
(3/207)
المبحث الرابع: احتجاج المذنبين بالقدر
:
نحن ذكرنا أن كل شيء قد كتبه الله، وكل شيء بمشيئة الله، وكل شيء مخلوق لله، فهل هذا الإيمان يستلزم أن يكون للعاصي حجة على معصية؟ أولا؟ كما لو أمسكنا رجلا يعصي الله، فقلنا له: لم تفعل المعصية؟ فقال: هذا بقضاء الله وقدره، فهذا صحيح، لكن إذا جاء بهذه الكلمة ليحتج بها على معصية، فنقول: هذه الحجة باطلة، ولا حجة لك بالقدر على معصية الله - عز وجل -، ودليل ذلك قال الله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا} ، فلم يقرهم الله سبحانه على احتجاجهم والدليل على أنه لم يقرهم قوله: {حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا} ، ولو كان لهم حجة في ذلك ما أذاقهم الله بأسا.
ولكن سيورد علينا مورد خلاف ما قررناه، سيقول قائل: ألم يقل الله تعالى: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} ، فيكف تقول: إن الله أبطل حجة الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا} والله - عز وجل - يقول لرسوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} ؟
(3/208)
فالجواب: هناك فرق بين المراد في الآيتين، أما قوله: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} ، فهذا تسلية للرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يبين الله له أن شركهم واقع بمشيئة الله، من أجل أن يطمئن الرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويعلم أنه إذا كان بمشيئة الله فلا بد أن يقع، ويكون به الرضا.
أما الآية الثانية: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} ....، فإنما أبطل الله ذلك لأنهم يريدون أن يحتجوا بالقدر على الشرك والمعصية، فهم لو احتجوا بالقدر للتسليم به مع صلاح الحال لقبلنا ذلك منهم، كما لو أنهم عندما أشركوا قالوا: هذا شيء وقع بمشيئة الله، ولكن نستغفر الله ونتوب إليه من ذلك، لقلنا: أنتم صادقون، أما أن يقولوا حين ننهاهم عن الشرك: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} ....، فهذا غير مقبول منهم إطلاقا.
ثانيا: ويدل على بطلان احتجاج العاصي بالقدر أيضا قول الله تعالى حين ذكر الرسل: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} ، قال: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} . ووجه الدلالة بهذه الآية أن القدر لو كان حجة لم تنقطع هذه الحجة بإرسال الرسل؛ لأن القدر قائم حتى بعد إرسال الرسل، فلما كان إرسال الرسل حجة تقطع عذر العاصي تبين أن القدر ليس حجة
(3/209)
للعصاة، ولو كان القدر حجة لهم لبقي حجة لهم حتى بعد إرسال الرسل؛ لأن القدر لا ينقطع بإرسال الرسل.
ثالثا: ومن الأدلة على بطلان الاحتجاج بالقدر أن يقال لمن احتج بالقدر: إن أمامه الآن طريقين، طريق خير، وطريق شر، وهو قبل أن يدخل طريق الشر، هل يعلم أن الله قدر له أن يدخل طريق الشر؟ لا يعلم بلا شك، وإذا كان لا يعلم فلماذا لا يقدر أن الله قدر له طريق الخير؟ ! لأن الإنسان لا يعلم ما قدره الله إلا بعد أن يقع؛ لأن القضاء كما قال بعض العلماء: " سر مكتوم "، لا يعلم إلا بعد أن يقع ونشاهده فنقول للعاصي: أنت أقدمت على المعصية، وحين إقدامك لا تعلم أن الله قدرها لك، فإذا كنت لا تعلم فلماذا لا تقدر أن الله قدر لك الخير فتلج باب الخير؟ !
رابعا: أن نقول له: أنت في شؤون دنياك تختار الخير أم الشر؟ فسيقول: الخير، فنقول له: لماذا لا تختار في شؤون الآخرة ما هو خير؟ !
ومثل ذلك: إذا قلنا له: أنت الآن ستسافر إلى المدينة قال: نعم. فقلنا له: هناك طريقان طريق اليسار غير مسفلت، وفيه قطاع طريق، وأخطار عظيمة، وأما الطريق الأيمن فهو مسفلت وآمن فمن أين ستسافر؟ بالتأكيد أنه سيقول: من الأيمن، فنقول له: لماذا في أمور الدنيا تذهب إلى الأيمن الذي فيه الخير والنجاة؟ ! لماذا لا تذهب مع الطريق الأيسر، الذي فيه قطاع الطريق وغير معبد وتقول: هذا مقدر علي؟ ! فسيقول: أنا لا أعلم المقدر ولكن بنفسي أختار الطيب. فنقول: لماذا لا تختار في طريق الآخرة ما هو طيب؟ !
مثال آخر: إذا أمسكنا واحدا من الناس، وبدأنا نضربه ضربا مبرحا، وهو يصيح ونحن نقول له: هذا قضاء الله وقدره، وكلما صاح ضربناه وقلنا
(3/210)
له: هذا قضاء الله وقدره، فهل يقبل هذه الحجة؟ بالتأكيد أنه لن يقبلها، مع أنه إذا عصى الله قال: هذا قضاء الله وقدره ولكن نحن إذا عصينا الله فيه ما يقبل أن نقول له: هذا قضاء الله وقدره، بل يقول: هذا من فعلكم أنتم، أليست هذه حجة عليه؟ ولهذا يذكر أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - جيء إليه بسارق فأمر بقطع يده؛ لأن السارق يجب أن تقطع يده، فقال: مهلا يا أمير المؤمنين، فوالله ما سرقت إلا بقضاء الله وقدره، فهو صادق لكن أمامه عمر فقال له رضي الله عنه: ونحن لا نقطعك إلا بقضاء الله وقدره، فأمر بقطعه بقضاء الله وقدره، فاحتج عليه عمر بما احتج به هو على عمر.
فإذا قال قائل: إن لدينا حديثا أقر فيه النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الاحتجاج بالقدر وهو: «أن آدم احتج هو وموسى فقال له موسى: أنت أبونا خيبتنا أخرجتنا ونفسك من الجنة، فقال له آدم: أتلومني على شيء قد كتبه الله علي قبل أن يخلقني؟ فقال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فحج آدم موسى، فحج آدم موسى» ، أي غلبه بالحجة مع أن آدم احتج بقضاء الله وقدره. فهل هذا الحديث إلا إقرار للاحتجاج بالقدر؟
فالجواب أن نقول: إن هذا ليس احتجاجا بالقضاء والقدر على فعل العبد ومعصية العبد، لكنه احتجاج بالقدر على المصيبة الناتجة من فعله، فهو من باب الاحتجاج بالقدر على المصائب لا على المعائب، ولهذا قال: «خيبتنا، أخرجتنا ونفسك من الجنة» . ولم يقل: عصيت ربك فأخرجت من الجنة.
إذن احتج آدم بالقدر على الخروج من الجنة الذي يعتبر مصيبة، والاحتجاج بالقدر على المصائب لا بأس به.
(3/211)
أرأيت لو أنك سافرت سفرا، وحصل لك حادث، وقال لك إنسان: لماذا تسافر، لو أنك بقيت في بيتك ما حصل لك شيء؟ فبماذا ستجيبه؟ الجواب: أنك ستقول له: هذا قضاء الله وقدره، أنا ما خرجت لأجل أن أصاب بالحادث، وإنما خرجت لمصلحة فأصبت بالحادث، كذلك آدم عليه الصلاة والسلام، هل عصى الله لأجل أن يخرجه من الجنة؟ لا فالمصيبة إذن التي حصلت له مجرد قضاء وقدر، وحينئذ يكون احتجاجه بالقدر على المصيبة الحاصلة احتجاجا صحيحا، ولهذا قال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فحج آدم موسى فحج آدم موسى» .
مثال آخر: ما تقولون في رجل أصاب ذنبا وندم على هذا الذنب وتاب منه، وجاء رجل من إخوانه يقول له: يا فلان كيف يقع منك هذا الشيء؟ فقال: هذا قضاء الله وقدره. فهل يصح احتجاجه هذا أو لا؟ نعم يصح؛ لأنه تاب فهو لم يحتج بالقدر ليمضي في معصيته، لكنه نادم ومتأسف.
ونظير ذلك أن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دخل على علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وعلى فاطمة بنت محمد رضي الله عنها وصلى الله وسلم على أبيها، فوجدهما نائمين، فكأن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لامهما لماذا لم يقوما؟ فقال علي بن أبي طالب: يا رسول الله إن أنفسنا بيد الله فإن شاء الله أمسكها، وإن شاء أرسلها، فخرج النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يضرب على فخذه وهو يقول: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} فهل الرسول قبل حجته؟ لا، لكن الرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يبين أن هذا من الجدل؛ لأن الرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يعلم أن الأنفس بيد الله، لكن يريد أن يكون الإنسان حازما، فيحرص على أن يقوم ويصلي.
(3/212)
على كل حال تبين لنا أن الاحتجاج بالقدر على المصائب جائز، وكذلك الاحتجاج بالقدر على المعصية بعد التوبة منها جائز، وأما الاحتجاج بالقدر على المعصية تبريرا لموقف الإنسان واستمرارا فيها فغير جائز.
(3/213)
المبحث الخامس: هل الإنسان مسير أم مخير؟
شاعت كلمة بين الناس في هذا الزمن المتأخر وهي قولة: هل الإنسان مسير أم مخير؟
الأفعال التي يفعلها الإنسان يكون مخيرا، فالإنسان مخير، فبإمكانه أن يأكل، ويشرب، ولهذا بعض الناس إذا سمع أذان الفجر قام إلى الماء ليشرب، وذلك باختياره، وكذلك إذا جاء الإنسان النوم فإنه يذهب إلى فراشه لينام باختياره، وإذا سمع أذان المغرب، والتمر أمامه والماء، فإنه يأكل باختياره، وهكذا جميع الأفعال تجد أن الإنسان فيها مخير، ولولا ذلك لكان عقوبة العاصي ظلما، فكيف يعاقب الإنسان على شيء ليس فيه اختيار له، ولولا ذلك لكان ثواب المطيع عبثا، فكيف يثاب الإنسان على شيء لا اختيار له فيه؟ ! وهل هذا إلا من باب العبث؟
إذن فالإنسان مخير، ولكن ما يقع من فعل منه فهو بتقدير الله؛ لأن هناك سلطة فوق سلطته ولكن الله لا يجبره، فله الخيار ويفعل باختياره.
ولهذا إذا وقع الفعل من غير إرادة من الإنسان لا ينسب إليه، قال تعالى في أصحاب الكهف: {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} ، فنسب الفعل نقلبهم إليه سبحانه؛ لأن هؤلاء نوم فلا اختيار لهم، وقال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه» . فنسب الإطعام والسقي إلى الله؛ لأن الناسي ما فعل الشيء باختياره فلم يختر أن يفسد صومه بالأكل والشرب.
(3/214)
الحاصل أن هذه العبارة لم أرها في كتب المتقدمين من السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم، ولا في كلام الأئمة، ولا في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، أو ابن القيم أو غيرهم ممن يتكلمون، لكن حدثت هذه أخيرا، وبدءوا يطنطنون بها " هل الإنسان مسير أم مخير؟ " ونحن نعلم أننا نفعل الأشياء باختيارنا وإرادتنا، ولا نشعر أبدا أن أحدا يكرهنا عليها ويسوقنا إليها سوقا، بل نحن الذين نريد أن نفعل فتفعل، ونريد أن نترك فنترك.
لكن كما أسلفنا أولا في مراتب القدر فإن فعلنا ناشئ عن إرادة جازمة وقدرة تامة، وهذان الوصفان في أنفسنا، وأنفسنا مخلوقة لله، وخالق الأصل خالق للفرع.
فوائد الإيمان بالقضاء والقدر:
الإيمان بالقضاء والقدر له فوائد:
أولا: تكميل الإيمان بالله فإن القدر قدر الله - عز وجل - فالإيمان به من تمام الإيمان بالله - عز وجل -.
ثانيا: استكمال لأركان الإيمان: لأن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذكره ضمن الإيمان في حديث جبريل.
ثالثا: أن الإنسان يبقى مطمئنا لأنه إذا علم أن هذا من الله رضي واطمأن وعرف أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وقد قلنا: إنه لا يمكن أن يغير الشيء عما وقع أبدا، فلا تحاول، ولا تفكر، ولا تقل: (لو) ، فالذي وقع لا يمكن أن يتغير أو يتحول.
رابعا: أن هذا من تمام الإيمان بربوبية الله، وهذا يشبه الفائدة الأولى؛ لأن الإنسان إذا رضي بالله ربا استسلم لقضائه وقدره واطمأن إليه.
(3/215)
خامسا: إن الإيمان بالقدر على وجه الحقيقة يكشف للإنسان حكمة الله - عز وجل - فيما يقدره من خير أو شر، ويعرف به أن وراء تفكيره وتخيلاته من هو أعظم وأعلم، ولهذا كثيرا ما نفعل الشيء أو كثيرا ما يقع الشيء فنكرهه وهو خير لنا. فأحيانا يشاهد الإنسان رأي العين أن الله يعسر عليه أمرا يريده، فإذا حصل ما حصل وجد أن الخير في عدم حدوث ذلك الشيء. وما أكثر ما نسمع أن فلانا قد حجز في الطائرة الفلانية على أنه سيسافر، ثم يأتي فيجد أن الطائرة قد أقلعت، وفاته السفر، فإذا بالطائرة يحصل عليها حادث. فهو عندما حضر أولا ليركب فيها ووجد أنها أقلعت يحزن، لكن عندما يقع الحادث يعرف أن هذا خير له، ولهذا قال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} .
بقي علينا في حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - سؤال جبريل النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عن الإحسان، والساعة حيث قال جبريل للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما الإحسان؟ قال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أن تعبد الله كأنك تراه: فإن لم تكن تراه فإنه يراك، فقال أخبرني عن الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل؟» .
أولا: الإحسان:
الإحسان: ضد الإساءة، وهو أن يبذل الإنسان المعروف ويكف الأذى، فيبذل المعروف لعباد الله في ماله، وعلمه، وجاهه، وبدنه.
فأما المال فأن ينفق، ويتصدق، ويزكي، وأفضل أنواع الإحسان بالمال
(3/216)
الزكاة؛ لأن الزكاة أحد أركان الإسلام، ومبانيه العظام، ولا يتم إسلام المرء إلا بها، وهي أحب النفقات إلى الله - عز وجل -، ويلي ذلك، ما يجب على الإنسان من نفقة لزوجته، وأمه، وأبيه، وذريته، وإخوانه، وبني إخوته، وأخواته وأعمامه، وعماته، وخالاته إلى آخر هذا، ثم الصدقة على المساكين وغيرهم، ممن هم أهل للصدقة كطلاب العلم مثلا.
وأما بذل المعروف في الجاه فهو أن الناس مراتب، منهم من له جاه عند ذوي السلطان فيبذل الإنسان جاهه، يأتيه رجل فيطلب منه الشفاعة إلى ذي سلطان يشفع له عنده، إما بدفع ضرر عنه، أو بجلب خير له.
وأما بعلمه فأن يبذل علمه لعباد الله، تعليما في الحلقات والمجالس العامة والخاصة، حتى لو كنت في مجلس قهوة، فإن من الخير والإحسان أن تعلم الناس، ولو كنت في مجلس عام فمن الخير أن تعلم الناس، ولكن استعمل الحكمة في هذا الباب، فلا تثقل على الناس حيث كلما جلست مجلسا جعلت تعظهم وتتحدث إليهم؛ لأن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان يتخولهم بالموعظة، ولا يكثر؛ لأن النفوس تسأم وتمل فإذا ملت كلت وضعفت، وربما تكره الخير لكثرة من يقوم ويتكلم.
وأما الإحسان إلى الناس بالبدن فقد قال النبي - عليه الصلاة والسلام -: «وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها، أو ترفع له عليها متاعه صدقة» . فهذا رجل تعينه تحمل متاعه معه، أو تدله على طريق أو ما أشبه ذلك فكل ذلك من الإحسان، هذا بالنسبة للإحسان إلى عباد الله.
وأما بالنسبة للإحسان في عبادة الله: فأن تعبد الله كأنك تراه، كما قال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذه العبادة أي عبادة الإنسان ربه كأنه يراه عبادة طلب
(3/217)
وشوق، وعبادة الطلب والشوق يجد الإنسان من نفسه حاثا عليها؛ لأنه يطلب هذا الذي يحبه، فهو يعبده كأنه يراه، فيقصده وينيب إليه ويتقرب إليه - سبحانه وتعالى -، " فإن لم تكن تراه فإنه يراك "، وهذه عبادة الهرب والخوف، ولهذا كانت هذه المرتبة ثانية في الإحسان، إذا لم تكن تعبد الله - عز وجل - كأنك تراه وتطلبه، وتحث النفس للوصول إليه فاعبده كأنه هو الذي يراك، فتعبده عبادة خائف منه، هارب من عذابه وعقابه، وهذه الدرجة عند أهل العبادة أدنى من الدرجة الأولى.
وعبادة الله - سبحانه وتعالى - هي كما قال ابن القيم - رحمه الله -:
وعبادة الرحمن غاية حبه ... مع ذل عابده هما ركنان
فالعبادة مبنية على هذين الأمرين: غاية الحب، وغاية الذل، ففي الحب الطلب، وفي الذل الخوف والهرب، فهذا هو الإحسان في عبادة الله - عز وجل -.
وإذا كان الإنسان يعبد الله على هذا الوجه، فإنه سوف يكون مخلصا لله - عز وجل -، لا يريد بعبادته رياء ولا سمعة، ولا مدحا عند الناس، وسواء أطلع الناس عليه أم لم يطلعوا، الكل عنده سواء، وهو محسن العبادة على كل حال، بل إن من تمام الإخلاص أن يحرص الإنسان على ألا يراه الناس في عبادته، وأن تكون عبادته مع ربه سرا، إلا إذا كان في إعلان ذلك مصلحة للمسلمين أو للإسلام، مثل أن يكون رجلا متبوعا يقتدى به، وأحب أن يبين عبادته للناس ليأخذوا من ذلك نبراسا يسيرون عليه، أو كان هو يحب أن يظهر العبادة ليقتدي بها زملاؤه وقرناؤه وأصحابه ففي هذا خير، وهذه المصلحة التي يلتفت إليها قد تكون أفضل وأعلى من مصلحة
(3/218)
الإخفاء، لهذا يثني الله - عز وجل - على الذين ينفقون أموالهم سرا وعلانية، فإذا كان السر أصلح وأنفع للقلب وأخشع وأشد إنابة إلى الله أسروا، وإذا كان في الإعلان مصلحة للإسلام بظهور شرائعه، وللمسلمين يقتدون بهذا الفاعل وهذا العامل أعلنوه.
والمؤمن ينظر ما هو الأصلح، كلما كان أصلح وأنفع في العبادة فهو أكمل وأفضل.
الساعة وعلامتها:
ثم قال جبريل للنبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أخبرني عن الساعة متى تكون؟ فقال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل؟» فالمسؤول هو الرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والسائل جبريل عليه السلام، وكلنا يعلم أن هذين الرسولين أفضل الرسل فجبريل أفضل الملائكة، ومحمد أفضل البشر، بل أفضل الخلق على الإطلاق، عليه الصلاة والسلام، وكلاهما لا يدري متى تقوم الساعة؛ لأنه لا يدري متى تقوم الساعة إلا الرب - عز وجل - قال تعالى: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ} ، وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا} ، فكان النبين صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقول لجبريل: إذا كنت لا تعلمها فأنا أيضا لا أعلمها، وليس المسؤول بأعلم من السائل، وإذا كانت خفية عليك فهي أيضا خفية علي، فلا يعلمها إلا الله، قال: «فأخبرني عن أماراتها» . أي علاماتها وأشراطها، كما قال تعالى: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} .
(3/219)
وأشراط الساعة هي العلامات الدالة على قربها، وقد قسمها العلماء إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أشراط مضت وانتهت.
القسم الثاني: أشراط لم تزل تتجدد وهي وسط.
القسم الثالث: أشراط كبرى تكون عند قرب قيام الساعة.
فمن الأشراط السابقة المتقدمة: بعثة النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن بعثة الرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكونه خاتم النبيين دليل على قرب الساعة، ولهذا قال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار بالسبابة والوسطى» . أي إنهما متقاربان.
وأما الأشراط التي تتجدد وهي صغيرة، فمثل فتح بيت المقدس وغيرها مما جاءت به السنة عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأما الأشراط الكبرى التي تنتظر فمثل طلوع الشمس من مغربها، فإن هذه الشمس التي تدور الآن، إذا غابت استأذنت من الله - عز وجل - أن تستمر في سيرها، فإن أذن الله لها وإلا قيل لها: ارجعي من حيث جئت، فترجع وتخرج من مغربها، وحينئذ يؤمن الناس إذا رأوها، ولكن: {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} .
ثم ذكر الرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من أشراطها.
أولا: قال: «أن تلد الأمة ربتها» . وفي رواية «أن تلد الأمة ربها» ، ومعنى هذا أن من أشراط الساعة أن الأمة التي كانت تباع وتشترى تلد من يكونون أسيادا ومالكين، فهي كانت مملوكة في الأول، وتلد من يكونون
(3/220)
أسيادا مالكين.
ويكون معنى قوله: (ربتها) أو (ربها) إضافة إلى الجنس، لا إضافة إلى نفس الوالدة؛ لأن الوالدة لا يمكن أن يملكها ابنها، ولكن المراد الجنس كما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} ، فالضمير في جعلناها يعود إلى الذي يرمي به الشهب، لكن لما كانت هذه الشهب تخرج من النجوم أضيفت إلى ضمير يعود عليها، كذلك (ربها) أو (ربتها) فالمراد الجنس أي إن الأمة تلد من يكون سيدا أو تلد الأمة من تكون سيدة.
ثانيا: «وأن الحفاة العراة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان» وهذه الأوصاف تنطبق على الفقراء الذين من البادية يرعون الغنم يتطاولون في البنيان، وهذا يلزم أن أهل البادية يرجعون إلى المدن فيتطاولون في البنيان، بعدما كانوا حفاة، عراة، عالة، يرعون الشاء، وهذا وقع من زمان.
وهنا سؤال: هل الرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لما قال له جبريل: أخبرني عن أماراتها؟ قال: «أن تلد الأمة ربها» ... " إلخ هل أراد الحصر؟ أم أراد التمثيل؟ فالجواب: أنه أراد التمثيل، وفي هذا دليل على أن الشيء قد يفسر ببعض أفراده على سبيل التمثيل، وإلا فهناك أشراط أخرى لم يذكرها النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(فانطلق) ثم قال النبي، عليه الصلاة والسلام: «أتدرون من السائل؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: " هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم» .
(3/221)
فجبريل الذي له ستمائة جناح، وقد سد الأفق، أتى على صورة رجل، ثم قال: «يعلمكم دينكم» ومع أن الذي علمنا الدين هو النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جعل جبريل معلما؛ لأنه الذي سأل وكان التعليم بسببه، فيستفاد منه أن المتسبب كالمباشر.
وقد أخذ الفقهاء قاعدة من هذا في باب الجنايات قالوا: (المتسبب كالمباشر) ولهذا سمى النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جبريل الذي تسبب لتعليم الرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هذا الدين الذي أجاب به جبريل سماه معلما.
الثاني: أن الإنسان إذا سأل عن مسألة وهو يعلمها، لكن من أجل أن يعرفها الناس صار هو المعلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
وبهذا انتهى شرح حديث جبريل والحمد لله رب العالمين.
(3/222)
عقيدة أهل السنة والجماعة
(3/223)
عقيدة أهل السنة والجماعة
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
لسماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه.
أما بعد، فقد اطلعت على العقيدة القيمة الموجزة، التي جمعها أخونا العلامة فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين وسمعتها كلها، فألفيتها مشتملة على بيان عقيدة أهل السنة والجماعة، في باب توحيد الله، وأسمائه، وصفاته، وفي أبواب الإيمان بالملائكة، والكتب، والرسل، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره.
وقد أجاد في جمعها وأفاد وذكر فيها ما يحتاجه طالب العلم، وكل مسلم في إيمانه بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وقد ضم إلى ذلك فوائد جمة تتعلق بالعقيدة قد لا توجد في كثير من الكتب المؤلفة في العقائد. فجزاه الله خيرا، وزاده من العلم والهدى، ونفع بكتابه هذا وبسائر مؤلفاته، وجعلنا وإياه، وسائر إخواننا من الهداة المهتدين الداعين إلى الله على بصيرة، إنه سميع قريب.
قال ممليه الفقير إلى الله تعالى عبد العزيز بن عبد الله بن باز سامحه الله وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية
والإفتاء والدعوة والإرشاد
(3/225)
مقدمة المصنف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، خاتم النبيين وإمام المتقين، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن الله تعالى أرسل رسوله محمدا،، بالهدى ودين الحق، رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، وحجة على العباد أجمعين.
بين به، وبما أنزل عليه من الكتاب والحكمة كل ما فيه صلاح العباد واستقامة أحوالهم، في دينهم ودنياهم: من العقائد الصحيحة، والأعمال القويمة، والأخلاق الفاضلة، والآداب العالية، فترك،، أمته على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.
فسار على ذلك أمته الذين استجابوا لله ورسوله، وهم خيرة الخلق من الصحابة والتابعين، والذين اتبعوهم بإحسان، فقاموا بشريعته وتمسكوا بسنته، وعضوا عليها بالنواجذ: عقيدة، وعبادة، وخلقا، وأدبا. فصاروا هم الطائفة الذين لا يزالون على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم، أو خالفهم، حتى يأتي أمر الله تعالى وهم على ذلك.
ونحن - ولله الحمد - على آثارهم سائرون، وبسيرتهم المؤيدة بالكتاب والسنة مهتدون، نقول ذلك تحدثا بنعمة الله تعالى وبيانا لما يجب أن يكون عليه كل مؤمن.
ونسأل الله تعالى أن يثبتنا وإخواننا المسلمين بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأن يهب لنا منه رحمة، إنه هو الوهاب.
(3/227)
ولأهمية هذا الموضوع، وتفرق أهواء الخلق فيه، أحببت أن أكتب على سبيل الاختصار عقيدتنا، عقيدة أهل السنة والجماعة، وهي: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، سائلا الله تعالى أن يجعل ذلك خالصا لوجهه، موافقا لمرضاته نافعا لعباده.
(3/228)
عقيدتنا
عقيدتنا: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر: خيره وشره.
فنؤمن بربوبية الله تعالى أي بأنه الرب الخالق، الملك، المدبر لجميع الأمور.
ونؤمن بألوهية الله تعالى، أي بأنه الإله الحق، وكل معبود سواه باطل.
ونؤمن بأسمائه وصفاته، أي بأن له الأسماء الحسنى، والصفات الكاملة العليا.
ونؤمن بوحدانيته في ذلك، أي بأنه لا شريك له في ربوبيته، ولا في ألوهيته، ولا في أسمائه وصفاته، قال الله تعالى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} .
نؤمن بأنه: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} .
ونؤمن بأنه: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .
(3/229)
ونؤمن بأن له ملك السماوات والأرض: {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} .
ونؤمن بأنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .
ونؤمن بأنه: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} .
ونؤمن بأنه: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} .
ونؤمن بأن الله: {عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} .
ونؤمن بأن الله يتكلم بما شاء، متى شاء، كيف شاء: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} . {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} .
(3/230)
ونؤمن بأنه: {لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} . {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .
ونؤمن بأن كلماته أتم الكلمات، صدقا في الأخبار وعدلا في الأحكام وحسنا في الحديث قال الله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} . {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} .
ونؤمن بأن القرآن الكريم، كلام الله تعالى تكلم به حقا وألقاه إلى جبريل فنزل به جبريل على قلب النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} . {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} .
ونؤمن بأن الله عز وجل علي على خلقه بذاته، وصفاته لقوله تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} . وقوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} .
(3/231)
ونؤمن بأنه: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} . واستواؤه على العرش، علوه عليه بذاته، علوا خاصا، يليق بجلاله وعظمته، لا يعلم كيفيته إلا هو.
ونؤمن بأنه تعالى مع خلقه، وهو على عرشه، يعلم أحوالهم، ويسمع أقوالهم ويرى أفعالهم ويدبر أمورهم، يرزق الفقير ويجبر الكسير، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء بيده الخير وهو على كل شيء قدير. ومن كان هذا شأنه كان مع خلقه حقيقة، وإن كان فوقهم على عرشه حقيقة {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .
ولا نقول كما تقول الحلولية، من الجهمية وغيرهم: إنه مع خلقه في الأرض.
ونرى أن من قال ذلك، فهو كافر أو ضال لأنه وصف الله بما لا يليق به من النقائص.
ونؤمن بما أخبر به عنه رسوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول: «من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟» .
ونؤمن بأنه سبحانه تعالى يأتي يوم المعاد، للفصل بين العباد لقوله تعالى: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} .
ونؤمن بأنه تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} .
(3/232)
ونؤمن بأن إرادته تعالى نوعان:
كونية: يقع بها مراده، ولا يلزم أن يكون محبوبا له، وهي التي بمعنى المشيئة كقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} . {إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ} .
وشرعية: لا يلزم منها وقوع المراد، ولا يكون المراد فيها إلا محبوبا له كقوله تعالى:
{وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} .
ونؤمن بأن مراده الكوني، والشرعي تابع لحكمته، فكل ما قضاه كونا، أو تعبد به خلقه شرعا فإنه لحكمة، وعلى وفق الحكمة، سواء علمنا منها ما نعلم، أو تقاصرت عقولنا عن ذلك: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} . {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} .
ونؤمن بأن الله تعالى يحب أولياءه، وهم يحبونه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} . {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} . {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} . {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} . {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} .
ونؤمن بأن الله تعالى يرضى ما شرعه من الأعمال والأقوال، ويكره ما
(3/233)
نهى عنه منها: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} .
ونؤمن بأن الله تعالى يرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} .
ونؤمن بأن الله تعالى يغضب على من يستحق الغضب، من الكافرين وغيرهم: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} . {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} .
ونؤمن بأن لله تعالى وجها موصوفا بالجلال والإكرام: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} .
ونؤمن بأن لله تعالى يدين كريمتين عظيمتين: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} . {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} .
ونؤمن بأن لله تعالى عينين اثنتين حقيقيتين لقوله تعالى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} . وقال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حجابه النور لو كشفه»
(3/234)
«لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» .
وأجمع أهل السنة على أن العينين اثنتان، ويؤيده قول النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في الدجال: «إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور» .
ونؤمن بأن الله تعالى {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} .
ونؤمن بأن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} .
ونؤمن بأن الله تعالى لا مثيل له لكمال صفاته {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .
ونؤمن بأنه {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} . لكمال حياته وقيوميته.
ونؤمن بأنه لا يظلم أحدا، لكمال عدله.
وبأنه ليس بغافل عن أعمال عباده، لكمال رقابته وإحاطته.
ونؤمن بأنه لا يعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض، لكمال علمه وقدرته: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} .
وبأنه لا يلحقه تعب، ولا إعياء، لكمال قوته: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} أي من تعب ولا إعياء.
ونؤمن بثبوت كل ما أثبته الله لنفسه، أو أثبته له رسوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من
(3/235)
الأسماء والصفات، لكننا نتبرأ من محذورين عظيمين هما:
التمثيل: أن يقول بقلبه أو لسانه: صفات الله تعالى كصفات المخلوقين.
والتكييف: أن يقول بقلبه أو لسانه: كيفية صفات الله تعالى كذا وكذا.
ونؤمن بانتفاء كل ما نفاه الله عن نفسه، أو نفاه عنه رسوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن ذلك النفي يتضمن إثباتا لكمال ضده.
ونسكت عما سكت الله عنه، ورسوله.
ونرى أن السير على هذا الطريق فرض لا بد منه، وذلك لأن ما أثبته الله لنفسه، أو نفاه عنها سبحانه فهو خبر أخبر الله به عن نفسه، وهو سبحانه أعلم بنفسه، وأصدق قيلا، وأحسن حديثا، والعباد لا يحيطون به علما.
وما أثبته له رسوله، أو نفاه فهو خبر أخبر به عنه، وهو أعلم الناس بربه، وأنصح الخلق، وأصدقهم وأفصحهم.
ففي كلام الله تعالى ورسوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كمال العلم، والصدق، والبيان، فلا عذر في رده، أو التردد في قبوله.
(3/236)
[فصل الاعتماد في الإثبات والنفي على الكتاب والسنة وما سار عليه سلف الأمة] فصل
وكل ما ذكرناه من صفات الله تعالى تفصيلا أو إجمالا، إثباتا أو نفيا، فإننا في ذلك على كتاب ربنا، وسنة نبينا معتمدون، وعلى ما سار عليه سلف الأمة وأئمة الهدى من بعدهم سائرون.
ونرى وجوب إجراء نصوص الكتاب والسنة في ذلك على ظاهرها وحملها على حقيقتها اللائقة بالله عز وجل.
ونتبرأ من طريق المحرفين لها، الذين صرفوها إلى غير ما أراد الله بها ورسوله.
ومن طريق المعطلين لها، الذين عطلوها من مدلولها الذي أراده الله ورسوله.
ومن طريق الغالين فيها الذين حملوها على التمثيل، أو تكلفوا لمدلولها التكييف.
ونعلم علم اليقين أن ما جاء في كتاب الله تعالى أو سنة نبيه، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو حق لا يناقض بعضه بعضا لقوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} . ولأن التناقض في الأخبار يستلزم تكذيب بعضها بعضا، وهذا محال في خبر الله تعالى ورسوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ومن ادعى أن في كتاب الله تعالى أو في سنة رسوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو بينهما تناقضا، فذلك لسوء قصده، وزيغ قلبه فليتب إلى الله ولينزع عن غيه.
(3/237)
ومن توهم التناقض في كتاب الله تعالى أو في سنة رسوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو بينهما، فذلك إما لقلة علمه، أو قصور فهمه، أو تقصيره في التدبر، فليبحث عن العلم، وليجتهد في التدبر حتى يتبين له الحق، فإن لم يتبين له فليكل الأمر إلى عالمه وليكف عن توهمه، وليقل كما يقول الراسخون في العلم: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} . وليعلم أن الكتاب والسنة لا تناقض فيهما ولا بينهما ولا اختلاف.
(3/238)
[فصل الإيمان بالملائكة]
فصل
ونؤمن بملائكة الله تعالى وأنهم: {عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} . خلقهم الله تعالى فقاموا بعبادته، وانقادوا لطاعته {لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} .
حجبهم الله عنا، فلا نراهم، وربما كشفهم لبعض عباده، فقد رأى النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جبريل على صورته له ستمائة جناح قد سد الأفق، وتمثل جبريل لمريم بشرا سويا فخاطبته وخاطبها، وأتى إلى النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعنده الصحابة، بصورة رجل لا يعرف ولا يرى عليه أثر السفر، شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، فجلس إلى النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأسند ركبتيه إلى ركبتي النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ووضع كفيه على فخذيه وخاطب النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وخاطبه النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأخبر النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أصحابه أنه جبريل.
ونؤمن بأن للملائكة أعمالا كلفوا بها.
فمنهم جبريل الموكل بالوحي، ينزل به من عند الله على من يشاء من أنبيائه ورسله.
ومنهم ميكائيل، الموكل بالمطر والنبات.
ومنهم إسرافيل الموكل بالنفخ في الصور حين الصعق والنشور.
ومنهم ملك الموت، الموكل بقبض الأرواح عند الموت.
ومنهم ملك الجبال، الموكل بها.
(3/239)
ومنهم مالك خازن النار.
ومنهم ملائكة موكلون بالأجنة في الأرحام، وآخرون موكلون بحفظ بني آدم، وآخرون موكلون بكتابة أعمالهم، لكل شخص ملكان: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} . وآخرون موكلون بسؤال الميت بعد الانتهاء من تسليمه إلى مثواه، يأتيه ملكان يسألانه عن ربه، ودينه، ونبيه فـ {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} .
ومنهم الملائكة، الموكلون بأهل الجنة: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} .
وقد أخبر النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، «أن البيت المعمور في السماء يدخله - وفي رواية يصلي فيه - كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه آخر ما عليهم» .
(3/240)
[فصل الإيمان بالكتب]
فصل
ونؤمن بأن الله تعالى أنزل على رسله كتبا حجة على العالمين، ومحجة للعاملين يعلمونهم بها الحكمة، ويزكونهم.
ونؤمن بأن الله تعالى أنزل مع كل رسول كتابا لقوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} .
ونعلم من هذه الكتب:
1 - التوراة: التي أنزلها الله تعالى على موسى، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهي أعظم كتب بني إسرائيل: {فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} .
2 - الإنجيل: الذي أنزله الله تعالى على عيسى، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو مصدق للتوراة، ومتمم لها: {وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} . {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} .
3 - الزبور: الذي آتاه الله تعالى داود، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
4 - صحف إبراهيم وموسى، عليهما الصلاة والسلام.
5 - القرآن العظيم: الذي أنزله الله على نبيه، محمد خاتم النبيين
(3/241)
{هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} فكان {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} . فنسخ الله به جميع الكتب السابقة، وتكفل بحفظه عن عبث العابثين، وزيغ المحرفين {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . لأنه سيبقى حجة على الخلق أجمعين، إلى يوم القيامة.
أما الكتب السابقة، فإنها مؤقتة بأمد ينتهي بنزول ما ينسخها، ويبين ما حصل فيها من تحريف وتغيير. ولهذا لم تكن معصومة منه، فقد وقع فيها التحريف والزيادة والنقص.
{مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} .
{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} .
{قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} .
{وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} .
(3/242)
{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ} إلى قوله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} .
(3/243)
[فصل الإيمان بالرسل]
فصل
ونؤمن بأن الله تعالى بعث إلى خلقه: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} .
ونؤمن بأن أولهم نوح، وآخرهم محمد صلى الله وسلم عليهم أجمعين {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} . {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} .
وأن أفضلهم محمد، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم نوح، وعيسى ابن مريم، وهم المخصوصون في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} .
ونعتقد أن شريعة محمد، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حاوية لفضائل شرائع هؤلاء الرسل المخصوصين بالفضل لقوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} .
ونؤمن بأن جميع الرسل بشر مخلوقون، ليس لهم من خصائص الربوبية شيء. قال الله تعالى عن نوح، وهو أولهم: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} .
(3/245)
وأمر الله تعالى محمدا، وهو آخرهم أن يقول: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} . وأن يقول: {لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} . وأن يقول: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} .
ونؤمن بأنهم عبيد من عباد الله، أكرمهم الله تعالى بالرسالة، ووصفهم بالعبودية في أعلى مقاماتهم، وفي سياق الثناء عليهم، فقال في أولهم نوح: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} . وقال في آخرهم محمد، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} . وقال في رسل آخرين: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} . {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} . {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} . وقال في عيسى ابن مريم: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} .
(3/246)
ونؤمن بأن الله تعالى ختم الرسالات برسالة محمد، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأرسله إلى جميع الناس لقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} .
ونؤمن بأن شريعته، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هي دين الإسلام الذي ارتضاه الله تعالى لعباده، وأن الله تعالى لا يقبل من أحد دينا سواه لقوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} ، وقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} . وقوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} .
ونرى أن من زعم اليوم دينا قائما مقبولا عند الله سوى دين الإسلام، من دين اليهودية، أو النصرانية، أو غيرهما، فهو كافر يستتاب فإن تاب وإلا قتل مرتدا؛ لأنه مكذب للقرآن.
ونرى أن من كفر برسالة محمد، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إلى الناس جميعا فقد كفر بجميع الرسل، حتى برسوله الذي يزعم أنه مؤمن به، متبع له، لقوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} . فجعلهم مكذبين لجميع الرسل مع أنه لم يسبق نوحا رسول. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} .
(3/247)
ونؤمن بأنه لا نبي بعد محمد رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن ادعى النبوة بعده أو صدق من ادعاها فهو كافر؛ لأنه مكذب لله، ورسوله، وإجماع المسلمين.
ونؤمن بأن للنبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خلفاء راشدين خلفوه في أمته: علما، ودعوة، وولاية على المؤمنين، وبأن أفضلهم وأحقهم بالخلافة أبو بكر الصديق، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان، ثم علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم أجمعين.
وهكذا كانوا في الخلافة قدرا كما كانوا في الفضيلة، وما كان الله تعالى وله الحكمة البالغة ليولي على خير القرون رجلا، وفيهم من هو خير منه وأجدر بالخلافة.
ونؤمن بأن المفضول من هؤلاء قد يتميز بخصيصة يفوق فيها من هو أفضل منه، لكنه لا يستحق بها الفضل المطلق على من فضله؛ لأن موجبات الفضل كثيرة متنوعة.
ونؤمن بأن هذه الأمة خير الأمم، وأكرمها على الله عز وجل، لقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} .
ونؤمن بأن خير هذه الأمة الصحابة، ثم التابعون، ثم تابعوهم.
وبأنه لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم، أو خالفهم حتى يأتي أمر الله عز وجل.
ونعتقد أن ما جرى بين الصحابة رضي الله عنهم من الفتن، فقد
(3/248)
صدر عن تأويل اجتهدوا فيه. فمن كان منهم مصيبا كان له أجران، ومن كان منهم مخطئا فله أجر واحد، وخطؤه مغفور له.
ونرى أنه يجب أن نكف عن مساوئهم، فلا نذكرهم إلا بما يستحقونه من الثناء الجميل، وأن نطهر قلوبنا من الغل والحقد على أحد منهم، لقوله تعالى فيهم: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} . وقول الله تعالى فينا: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} .
(3/249)
[فصل الإيمان باليوم الآخر]
فصل
ونؤمن باليوم الآخر، وهو يوم القيامة الذي لا يوم بعده، حين يبعث الناس أحياء للبقاء: إما في دار النعيم، وإما في دار العذاب الأليم.
فنؤمن بالبعث وهو إحياء الله تعالى الموتى، حين ينفخ إسرافيل في الصور النفخة الثانية {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} .
فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين، حفاة بلا نعال، عراة بلا ثياب، غرلا بلا ختان {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} .
ونؤمن بصحائف الأعمال تعطى باليمين، أو من وراء الظهور بالشمال {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى سَعِيرًا} . {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} .
ونؤمن بالموازين توضع يوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} .
(3/251)
{فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} . {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} .
ونؤمن بالشفاعة العظمى لرسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خاصة، يشفع عند الله تعالى بإذنه ليقضي بين عباده، حين يصيبهم من الهم والكرب ما لا يطيقون فيذهبون إلى آدم، ثم نوح، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى حتى تنتهي إلى رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ونؤمن بالشفاعة فيمن دخل النار من المؤمنين أن يخرجوا منها، وهي للنبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وغيره من النبيين، والمؤمنين، والملائكة.
وبأن الله تعالى يخرج من النار أقواما من المؤمنين بغير شفاعة، بل بفضله ورحمته.
ونؤمن بحوض رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ماؤه أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، وأطيب من رائحة المسك، طوله شهر، وعرضه شهر، وآنيته كنجوم السماء حسنا وكثرة، يرده المؤمنون من أمته، من شرب منه لم يظمأ بعد ذلك.
ونؤمن بالصراط المنصوب على جهنم، يمر الناس عليه على قدر أعمالهم، فيمر أولهم كالبرق، ثم كمر الريح، ثم كمر الطير، وأشد الرجال، والنبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قائم على الصراط يقول: «يا رب سلم سلم» . حتى تعجز أعمال العباد، فيأتي من يزحف، وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة، تأخذ من أمرت به، فمخدوش ناج، ومكردس في النار.
(3/252)
ونؤمن بكل ما جاء في الكتاب والسنة، من أخبار ذلك اليوم وأهواله، أعاننا الله عليها.
ونؤمن بشفاعة النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأهل الجنة أن يدخلوها. وهي للنبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خاصة.
ونؤمن بالجنة والنار، فالجنة دار النعيم، التي أعدها الله تعالى للمؤمنين المتقين، فيها من النعيم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
والنار دار العذاب، التي أعدها الله تعالى للكافرين الظالمين، فيها من العذاب، والنكال ما لا يخطر على البال {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} .
وهما موجودتان الآن، ولن تفنيا أبد الآبدين {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا} .
{إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ} .
ونشهد بالجنة لكل من شهد له الكتاب والسنة بالعين، أو بالوصف.
(3/253)
فمن الشهادة بالعين: الشهادة لأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ونحوهم ممن عينهم النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ومن الشهادة بالوصف: الشهادة لكل مؤمن، أو تقي.
ونشهد بالنار لكل من شهد له الكتاب والسنة بالعين، أو بالوصف.
فمن الشهادة بالعين: الشهادة لأبي لهب، وعمرو بن لحي الخزاعي، ونحوهما.
ومن الشهادة بالوصف: الشهادة لكل كافر، أو مشرك شركا أكبر، أو منافق.
ونؤمن بفتنة القبر، وهي سؤال الميت في قبره عن ربه، ودينه، ونبيه فـ {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} .
فيقول المؤمن: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد. وأما الكافر والمنافق فيقول: لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته.
ونؤمن بنعيم القبر للمؤمنين {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .
ونؤمن بعذاب القبر للظالمين الكافرين {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} .
والأحاديث في هذا كثيرة معلومة، فعلى المؤمن أن يؤمن بكل ما جاء به الكتاب والسنة من هذه الأمور الغيبية، وأن لا يعارضها بما يشاهد في الدنيا، فإن أمور الآخرة لا تقاس بأمور الدنيا لظهور الفرق الكبير بينهما. والله المستعان.
(3/254)
[فصل الإيمان بالقدر]
فصل
ونؤمن بالقدر: خيره وشره، وهو تقدير الله تعالى للكائنات حسبما سبق به علمه، واقتضته حكمته.
وللقدر أربع مراتب:
المرتبة الأولى: العلم، فنؤمن بأن الله تعالى بكل شيء عليم، علم ما كان، وما يكون، وكيف يكون بعلمه الأزلي الأبدي، فلا يتجدد له علم بعد جهل، ولا يلحقه نسيان بعد علم.
المرتبة الثانية: الكتابة، فنؤمن بأن الله تعالى كتب في اللوح المحفوظ، ما هو كائن إلى يوم القيامة: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} .
المرتبة الثالثة: المشيئة، فنؤمن بأن الله تعالى قد شاء كل ما في السماوات والأرض، لا يكون شيء إلا بمشيئته. ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
المرتبة الرابعة: الخلق، فنؤمن بأن الله تعالى {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} .
وهذه المراتب الأربع شاملة لما يكون من الله تعالى نفسه، ولما يكون من العباد، فكل ما يقوم به العباد من أقوال، أو أفعال أو تروك فهي معلومة لله تعالى، مكتوبة عنده، والله تعالى قد شاءها وخلقها {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} .
(3/255)
{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} . {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} . {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} .
ولكننا مع ذلك نؤمن بأن الله تعالى جعل للعبد اختيارا وقدرة بهما يكون الفعل.
والدليل على أن فعل العبد باختياره وقدرته أمور:
الأول: قوله تعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} . وقوله: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} . فأثبت للعبد إتيانا بمشيئته، وإعدادا بإرادته.
الثاني: توجيه الأمر والنهي إلى العبد، ولو لم يكن له اختيار وقدرة؛ لكان توجيه ذلك إليه من التكليف بما لا يطاق، وهو أمر تأباه حكمة الله تعالى ورحمته وخبره الصادق في قوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} .
الثالث: مدح المحسن على إحسانه، وذم المسيء على إساءته وإثابة كل منهما بما يستحق.
ولولا أن الفعل يقع بإرادة العبد واختياره، لكان مدح المحسن عبثا وعقوبة المسيء ظلما، والله تعالى منزه عن العبث والظلم.
والرابع: أن الله تعالى أرسل الرسل {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} .
(3/256)
ولولا أن فعل العبد يقع بإرادته واختياره، ما بطلت حجته بإرسال الرسل.
الخامس: أن كل فاعل يحس أنه يفعل الشيء، أو يتركه بدون أي شعور بإكراه، فهو يقوم، ويقعد، ويدخل، ويخرج، ويسافر، ويقيم بمحض إرادته، ولا يشعر بأن أحدا يكرهه على ذلك، بل يفرق تفريقا واقعيا بين أن يفعل الشيء باختياره وبين أن يكرهه عليه مكره. وكذلك فرق الشرع بينهما تفريقا حكميا، فلم يؤاخذ الفاعل بما فعله مكرها عليه، فيما يتعلق بحق الله تعالى.
ونرى أنه لا حجة للعاصي على معصيته بقدر الله تعالى؛ لأن العاصي يقدم على المعصية باختياره، من غير أن يعلم أن الله تعالى قدرها عليه، إذ لا يعلم أحد قدر الله تعالى إلا بعد وقوع مقدوره {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} فكيف يصح الاحتجاج بحجة لا يعلمها المحتج بها، حين إقدامه على ما اعتذر بها عنه. وقد أبطل الله تعالى هذه الحجة بقوله: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} .
ونقول للعاصي المحتج بالقدر: لماذا لم تقدم على الطاعة مقدرا أن الله تعالى قد كتبها لك؟ فإنه لا فرق بينها وبين المعصية في الجهل بالمقدور قبل صدور الفعل منك. ولهذا لما أخبر النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الصحابة بأن كل واحد قد كتب مقعده من الجنة، ومقعده من النار قالوا: أفلا نتكل وندع العمل. قال: «لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له» .
ونقول للعاصي المحتج بالقدر: لو كنت تريد السفر لمكة، وكان لها طريقان، أخبرك الصادق أن أحدهما مخوف صعب، والثاني آمن سهل،
(3/257)
فإنك ستسلك الثاني: ولا يمكن أن تسلك الأول وتقول: إنه مقدر علي ولو فعلت لعدك الناس في قسم المجانين.
ونقول له أيضا: لو عرض عليك وظيفتان إحداهما ذات مرتب أكثر، فإنك سوف تعمل فيها دون الناقصة، فكيف تختار لنفسك في عمل الآخرة ما هو الأدنى ثم تحتج بالقدر؟
ونقول له أيضا: نراك إذا أصبت بمرض جسمي، طرقت باب كل طبيب لعلاجك، وصبرت على ما ينالك من ألم عملية الجراحة، وعلى مرارة الدواء، فلماذا لا تفعل مثل ذلك في مرض قلبك بالمعاصي؟
ونؤمن بأن الشر لا ينسب إلى الله تعالى لكمال رحمته وحكمته، قال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «والشر ليس إليك» رواه مسلم. فنفس قضاء الله تعالى ليس فيه شر أبدا؛ لأنه صادر عن رحمة وحكمة.
وإنما يكون الشر في مقتضياته؛ لقول النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في دعاء القنوت الذي علمه الحسن: «وقني شر ما قضيت» . فأضاف الشر إلى ما قضاه. ومع هذا فإن الشر في المقضيات ليس شرا خالصا محضا، بل هو شر في محله من وجه، خير من وجه، أو شر في محله، خير في محل آخر.
فالفساد في الأرض من: الجدب، والمرض، والفقر، والخوف شر، لكنه خير في محل آخر. قال الله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} .
وقطع يد السارق، ورجم الزاني شر بالنسبة للسارق والزاني في قطع اليد وإزهاق النفس، لكنه خير لهما من وجه آخر، حيث يكون كفارة لهما، فلا يجمع لهما بين عقوبتي الدنيا والآخرة، وهو أيضا خير في محل آخر، حيث إن فيه حماية الأموال والأعراض والأنساب.
(3/258)
[فصل ثمرات العقيدة]
فصل
هذه العقيدة السامية المتضمنة لهذه الأصول العظيمة، تثمر لمعتقدها ثمرات جليلة كثيرة.
فالإيمان بالله تعالى وأسمائه وصفاته، يثمر للعبد محبة الله وتعظيمه الموجبين للقيام بأمره واجتناب نهيه، والقيام بأمر الله تعالى واجتناب نهيه، يحصل بهما كمال السعادة في الدنيا والآخرة للفرد والمجتمع {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
ومن ثمرات الإيمان بالملائكة:
أولا: العلم بعظمة خالقهم تبارك وتعالى وقوته وسلطانه.
ثانيا: شكره تعالى على عنايته بعباده، حيث وكل بهم من هؤلاء الملائكة من يقوم بحفظهم وكتابة أعمالهم، وغير ذلك من مصالحهم.
ثالثا: محبة الملائكة على ما قاموا به من عبادة الله تعالى على الوجه الأكمل واستغفارهم للمؤمنين.
ومن ثمرات الإيمان بالكتب:
أولا: العلم برحمة الله تعالى وعنايته بخلقه، حيث أنزل لكل قوم كتابا يهديهم به.
ثانيا: ظهور حكمة الله تعالى، حيث شرع في هذه الكتب لكل أمة ما يناسبها. وكان خاتم هذه الكتب القرآن العظيم، مناسبا لجميع الخلق في كل عصر، ومكان إلى يوم القيامة.
(3/259)
ثالثا: شكر نعمة الله تعالى على ذلك.
ومن ثمرات الإيمان بالرسل:
أولا: العلم برحمة الله تعالى وعنايته بخلقه، حيث أرسل إليهم أولئك الرسل الكرام، للهداية والإرشاد.
ثانيا: شكره تعالى على هذه النعمة الكبرى.
ثالثا: محبة الرسل، وتوقيرهم، والثناء عليهم بما يليق بهم، لأنهم رسل الله تعالى وخلاصة عبيده، قاموا لله بعبادته، وتبليغ رسالته، والنصح لعباده، والصبر على أذاهم.
ومن ثمرات الإيمان باليوم الآخر:
أولا: الحرص على طاعة الله تعالى رغبة في ثواب ذلك اليوم، والبعد عن معصيته، خوفا من عقاب ذلك اليوم.
ثانيا: تسلية المؤمن عما يفوته من نعيم الدنيا، ومتاعها بما يرجوه من نعيم الآخرة وثوابها.
ومن ثمرات الإيمان بالقدر:
أولا: الاعتماد على الله تعالى عند فعل الأسباب؛ لأن السبب والمسبب كليهما بقضاء الله وقدره.
ثانيا: راحة النفس وطمأنينة القلب؛ لأنه متى علم أن ذلك بقضاء الله تعالى، وأن المكروه كائن لا محالة، ارتاحت النفس واطمأن القلب ورضي بقضاء الرب، فلا أحد أطيب عيشا، وأروح نفسا، وأقوى طمأنينة ممن آمن بالقدر.
ثالثا: طرد الإعجاب بالنفس، عند حصول المراد؛ لأن حصول ذلك نعمة من الله بما قدره من أسباب الخير والنجاح، فيشكر الله تعالى على ذلك ويدع الإعجاب.
(3/260)
رابعا: طرد القلق والضجر عند فوات المراد، أو حصول المكروه؛ لأن ذلك بقضاء الله تعالى الذي له ملك السماوات والأرض، وهو كائن لا محالة، فيصبر على ذلك ويحتسب الأجر.
وإلى هذا يشير الله تعالى بقوله: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} .
فنسأل الله تعالى أن يثبتنا على هذه العقيدة، وأن يحقق لنا ثمراتها ويزيدنا من فضله، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا منه رحمة، إنه هو الوهاب، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان.
تمت في 30 \ 10 \ 1404 هـ
(3/261)
القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى
(3/263)
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
لسماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداه.
أما بعد
:
فقد اطلعت على المؤلف القيم الذي كتبه صاحب الفضيلة العلامة أخونا الشيخ محمد بن صالح العثيمين، في الأسماء والصفات وسماه: " القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى ". وسمعته من أوله إلى آخره، فألفيته كتابا جليلا، قد اشتمل على بيان عقيدة السلف الصالح في أسماء الله وصفاته، كما اشتمل على قواعد عظيمة، وفوائد جمة في باب الأسماء والصفات، وأوضح معنى المعية الواردة في كتاب الله - عز وجل - الخاصة، والعامة عند أهل السنة والجماعة، وأنها حق على حقيقتها، لا تقتضي امتزاجا واختلاطا بالمخلوقين، بل هو سبحانه فوق عرشه كما أخبر عن نفسه، وكما يليق بجلاله سبحانه وإنما تقتضي علمه، واطلاعه، وإحاطته بهم، وسماعه لأقوالهم، وحركاتهم، وبصره بأحوالهم، وضمائرهم، وحفظه، وكلاءته لرسله، وأوليائه المؤمنين، ونصره لهم، وتوفيقه لهم إلى غير ذلك مما تقتضيه المعية العامة والخاصة من المعاني الجليلة، والحقائق الثابتة لله - سبحانه -، كما اشتمل على إنكار قول أهل
(3/265)
التعطيل، والتشبيه، والتمثيل، وأهل الحلول والاتحاد، فجزاه الله خيرا، وضاعف مثوبته، وزادنا وإياه علما وهدى وتوفيقا، ونفع بكتابه القراء وسائر المسلمين، إنه ولي ذلك، والقادر عليه.
قاله ممليه الفقير، إلى الله تعالى، عبد العزيز بن عبد الله بن باز سامحه الله وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.
5 \ 11 \ 1404هـ.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء
والدعوة والإرشاد
(3/266)
مقدمة المصنف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان، وسلم تسليما.
وبعد:
فإن الإيمان بأسماء الله وصفاته، أحد أركان الإيمان بالله تعالى، وهي الإيمان بوجود الله تعالى، والإيمان بربوبيته، والإيمان بألوهيته، والإيمان بأسمائه وصفاته.
وتوحيد الله به، أحد أقسام التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات.
فمنزلته في الدين عالية، وأهميته عظيمة، ولا يمكن أحدا أن يعبد الله على الوجه الأكمل، حتى يكون على علم بأسماء الله تعالى، وصفاته، ليعبده على بصيرة، قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} . وهذا يشمل دعاء المسألة، ودعاء العبادة.
فدعاء المسألة، أن تقدم بين يدي مطلوبك من أسماء الله تعالى ما يكون مناسبا مثل أن تقول: يا غفور اغفر لي. ويا رحيم ارحمني. ويا حفيظ احفظني. ونحو ذلك.
ودعاء العبادة: أن تتعبد لله تعالى بمقتضى هذه الأسماء، فتقوم
(3/267)
بالتوبة إليه لأنه التواب، وتذكره بلسانك لأنه السميع، وتتعبد له بجوارحك لأنه البصير، وتخشاه في السر لأنه اللطيف الخبير، وهكذا.
ومن أجل منزلته هذه، ومن أجل كلام الناس فيه بالحق تارة وبالباطل الناشئ عن الجهل أو التعصب تارة أخرى، أحببت أن أكتب فيه ما تيسر من القواعد، راجيا من الله تعالى أن يجعل عملي خالصا لوجهه، موافقا لمرضاته، نافعا لعباده.
وسميته: " القواعد المُثْلى في صفات الله تعالى وأسمائِه الحُسْنَى ".
(3/268)
قواعد في أسماء الله تعالى
القاعدة الأولى: أسماء الله تعالى كلها حسنى:
أي بالغة في الحسن غايته، قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} . وذلك لأنها متضمنة لصفات كاملة لا نقص فيها بوجه من الوجوه، لا احتمالا ولا تقديرا.
* مثال ذلك: " الحي " اسم من أسماء الله تعالى، متضمن للحياة الكاملة التي لم تسبق بعدم، ولا يلحقها زوال. الحياة المستلزمة لكمال الصفات من العلم، والقدرة، والسمع، والبصر وغيرها.
* ومثال آخر: " العليم " اسم من أسماء الله متضمن للعلم الكامل، الذي لم يسبق بجهل، ولا يلحقه نسيان قال الله تعالى: {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} . العلم الواسع المحيط بكل شيء جملة وتفصيلا، سواء ما يتعلق بأفعاله، أو أفعال خلقه، قال الله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} . {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} . {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} .
ومثال ثالث: " الرحمن " اسم من أسماء الله تعالى، متضمن للرحمة
(3/269)
الكاملة، التي قال عنها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لله أرحم بعباده من هذه بولدها» يعني أم صبي وجدته في السبي فأخذته وألصقته ببطنها وأرضعته. ومتضمن أيضا للرحمة الواسعة التي قال الله عنها: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} ، وقال عن دعاء الملائكة للمؤمنين: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} .
والحسن في أسماء الله تعالى، يكون باعتبار كل اسم على انفراده، ويكون باعتبار جمعه إلى غيره فيحصل بجمع الاسم إلى الآخر كمال فوق كمال.
مثال ذلك: " العزيز الحكيم ". فإن الله تعالى يجمع بينهما في القرآن كثيرا. فيكون كل منهما دالا على الكمال الخاص الذي يقتضيه، وهو العزة في العزيز، والحكم والحكمة في الحكيم، والجمع بينهما دال على كمال آخر وهو أن عزته تعالى مقرونة بالحكمة، فعزته لا تقتضي ظلما وجورا وسوء فعل، كما قد يكون من أعزاء المخلوقين، فإن العزيز منهم قد تأخذه العزة بالإثم، فيظلم ويجور ويسيء التصرف. وكذلك حكمه تعالى وحكمته مقرونان بالعز الكامل بخلاف حكم المخلوق وحكمته فإنهما يعتريهما الذل.
القاعدة الثانية: أسماء الله تعالى، أعلام وأوصاف:
فهي أعلام، باعتبار دلالتها على الذات، وأوصاف باعتبار ما دلت عليه من المعاني، وهي بالاعتبار الأول مترادفة لدلالتها على مسمى واحد، وهو الله - عز وجل - وبالاعتبار الثاني متباينة لدلالة كل واحد منها على معناه الخاص في الحي، العليم، القدير، السميع، البصير، الرحمن، الرحيم، العزيز، الحكيم. كلها أسماء لمسمى واحد، وهو الله سبحانه
(3/270)
وتعالى، لكن معنى الحي غير معنى العليم، ومعنى العليم غير معنى القدير، وهكذا.
وإنما قلنا بأنها أعلام وأوصاف، لدلالة القرآن عليه. كما في قوله تعالى: {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} . وقوله: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ} فإن الآية الثانية دلت على أن الرحيم هو المتصف بالرحمة. ولإجماع أهل اللغة والعرف أنه لا يقال: عليم إلا لمن له علم، ولا سميع إلا لمن له سمع، ولا بصير إلا لمن له بصر وهذا أمر أبين من أن يحتاج إلى دليل.
وبهذا علم ضلال من سلبوا أسماء الله تعالى معانيها من أهل التعطيل وقالوا: إن الله تعالى سميع بلا سمع، وبصير بلا بصر، وعزيز بلا عزة وهكذا.. وعللوا ذلك بأن ثبوت الصفات يستلزم تعدد القدماء. وهذه العلة عليلة بل ميتة لدلالة السمع (1) والعقل على بطلانها.
أما السمع: فلأن الله تعالى وصف نفسه بأوصاف كثيرة، مع أنه الواحد الأحد. فقال تعالى: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} . وقال تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} . ففي هذه الآيات الكريمات أوصاف كثيرة لموصوف واحد، ولم يلزم من ثبوتها تعدد القدماء.
وأما العقل: فلأن الصفات ليست ذوات بائنة من الموصوف، حتى يلزم من ثبوتها التعدد، وإنما هي من صفات من اتصف بها، فهي قائمة
__________
(1) السمع هو القرآن والسنة وسيمر بك هذا التعبير كثيراً فانتبه له..
(3/271)
به وكل موجود فلا بد له من تعدد صفاته، ففيه صفة الوجود، وكونه واجب الوجود، أو ممكن الوجود، وكونه عينا قائما بنفسه أو وصفا في غيره.
وبهذا أيضا علم أن: " الدهر " ليس من أسماء الله تعالى؛ لأنه اسم جامد، لا يتضمن معنى يلحقه بالأسماء الحسنى، ولأنه اسم للوقت والزمن، قال الله تعالى، عن منكري البعث: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} يريدون مرور الليالي والأيام.
فأما قوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،: قال الله - عز وجل -: «يؤذيني ابن آدم يسب الدهر، وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار» . فلا يدل على أن الدهر من أسماء الله تعالى وذلك أن الذين يسبون الدهر إنما يريدون الزمان الذي هو محل الحوادث لا يريدون الله تعالى، فيكون معنى قوله: «وأنا الدهر» ما فسره بقوله: «بيدي الأمر أقلب الليل والنهار» ، فهو سبحانه خالق الدهر وما فيه، وقد بين أنه يقلب الليل والنهار، وهما الدهر، ولا يمكن أن يكون المقلب (بكسر اللام) هو المقلب (بفتحها) ، وبهذا تبين أنه يمتنع أن يكون الدهر في هذا الحديث مرادا به الله تعالى.
القاعدة الثالثة: أسماء الله تعالى إن دلت على وصف متعد، تضمنت ثلاثة أمور:
أحدها: ثبوت ذلك الاسم لله - عز وجل -.
الثاني: ثبوت الصفة التي تضمنها لله عز وجل.
الثالث: ثبوت حكمها ومقتضاها. ولهذا استدل أهل العلم على سقوط الحد عن قطاع الطريق بالتوبة، استدلوا على ذلك بقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} لأن
(3/272)
مقتضى هذين الاسمين أن يكون الله تعالى قد غفر لهم ذنوبهم، ورحمهم بإسقاط الحد عنهم.
مثال ذلك: " السميع "، يتضمن إثبات السميع اسما لله تعالى، وإثبات السمع صفة له، وإثبات حكم ذلك ومقتضاه وهو أنه يسمع السر والنجوى كما قال تعالى: {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} .
وإن دلت على وصف غير متعد تضمنت أمرين:
أحدهما: ثبوت ذلك الاسم لله - عز وجل -.
الثاني: ثبوت الصفة التي تضمنها لله - عز وجل -.
* مثال ذلك: " الحي "، يتضمن إثبات الحي اسما لله - عز وجل - وإثبات الحياة صفة له.
القاعدة الرابعة: دلالة أسماء الله تعالى، على ذاته وصفاته تكون بالمطابقة وبالتضمن وبالالتزام.
* مثال ذلك: " الخالق "، يدل على ذات الله، وعلى صفة الخلق بالمطابقة، ويدل على الذات وحدها وعلى صفة الخلق وحدها بالتضمن، ويدل على صفتي العلم والقدرة بالالتزام.
ولهذا لما ذكر الله خلق السماوات والأرض قال: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} ودلالة الالتزام مفيدة جدا لطالب العلم إذا تدبر المعنى ووفقه الله تعالى فهما للتلازم فإنه بذلك يحصل من الدليل الواحد على مسائل كثيرة.
واعلم أن اللازم من قول الله تعالى، وقول رسوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذا صح أن يكون لازما فهو حق وذلك لأن كلام الله ورسوله حق
(3/273)
ولازم الحق حق، ولأن الله تعالى عالم بما يكون لازما من كلامه وكلام رسوله فيكون مرادا.
وأما اللازم من قول أحد سوى قول الله ورسوله، فله ثلاث حالات:
الأولى: أن يذكر للقائل ويلتزم به مثل أن يقول من ينفي الصفات الفعلية لمن يثبتها: يلزم من إثباتك الصفات الفعلية لله - عز وجل - أن يكون من أفعاله ما هو حادث. فيقول المثبت: نعم، وأنا ألتزم بذلك فإن الله تعالى لم يزل ولا يزال فعالا لما يريد ولا نفاد لأقواله وأفعاله كما قال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} . وقال: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} . وحدوث آحاد فعله تعالى لا يستلزم نقصا في حقه.
الحال الثانية: أن يذكر له ويمنع التلازم بينه وبين قوله، مثل أن يقول النافي للصفات لمن يثبتها: يلزم من إثباتك أن يكون الله تعالى مشابها للخلق في صفاته. فيقول المثبت: لا يلزم ذلك؛ لأن صفات الخالق مضافة إليه لم تذكر مطلقة حتى يمكن ما ألزمت به، وعلى هذا فتكون مختصة به لائقة به، كما أنك أيها النافي للصفات تثبت لله تعالى ذاتا وتمنع أن يكون مشابها للخلق في ذاته، فأي فرق بين الذات والصفات؟
وحكم اللازم في هاتين الحالين ظاهر.
الحال الثالثة: أن يكون اللازم مسكوتا عنه، فلا يذكر بالتزام ولا منع، فحكمه في هذه الحال أن لا ينسب إلى القائل؛ لأنه يحتمل لو ذكر له أن يلتزم به أو يمنع التلازم، ويحتمل لو ذكر له فتبين له لزومه وبطلانه أن
(3/274)
يرجع عن قوله لأن فساد اللازم يدل على فساد الملزوم.
ولورود هذين الاحتمالين لا يمكن الحكم بأن لازم القول قول.
فإن قيل: إذا كان هذا اللازم لازما من قوله، لزم أن يكون قولا له؛ لأن ذلك هو الأصل لا سيما مع قرب التلازم.
قلنا: هذا مدفوع بأن الإنسان بشر، وله حالات نفسية وخارجية توجب الذهول عن اللازم، فقد يغفل، أو يسهو، أو ينغلق فكره، أو يقول القول في مضايق المناظرات من غير تفكير في لوازمه، ونحو ذلك.
القاعدة الخامسة: أسماء الله تعالى توقيفية، لا مجال للعقل فيها:
وعلى هذا فيجب الوقوف فيها على ما جاء به الكتاب والسنة، فلا يُزاد فيها ولا ينقص؛ لأن العقل لا يمكنه إدراك ما يستحقه تعالى من الأسماء فوجب الوقوف في ذلك على النص لقوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} . وقوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} . ولأن تسميته تعالى بما لم يسم به نفسه، أو إنكار ما سمى به نفسه، جناية في حقه تعالى فوجب سلوك الأدب في ذلك والاقتصار على ما جاء به النص.
القاعدة السادسة: أسماء الله تعالى غير محصورة بعدد معين:
لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في الحديث المشهور: «أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك» . الحديث رواه أحمد وابن حبان والحاكم، وهو صحيح.
(3/275)
وما استأثر الله تعالى به في علم الغيب لا يمكن لأحدٍ حصره، ولا الإحاطة به.
فأما قوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها (1) دخل الجنة» ، فلا يدل على حصر الأسماء بهذا العدد، ولو كان المراد الحصر لكانت العبارة: «إن أسماء الله تسعة وتسعون اسما من أحصاها دخل الجنة» أو نحو ذلك.
إذن فمعنى الحديث: أن هذا العدد من شأنه أن من أحصاه دخل الجنة، وعلى هذا فيكون قوله " من أحصاها دخل الجنة " جملة مكملة لما قبلها، وليست مستقلة، ونظير هذا أن تقول: عندي مائة درهم أعددتها للصدقة، فإنه لا يمنع أن يكون عندك دراهم أخرى لم تعدها للصدقة.
ولم يصح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تعيين هذه الأسماء. والحديث المروي عنه في تعيينها ضعيف.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوي ص - 382 جـ 6 من مجموع ابن قاسم: تعيينها ليس من كلام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، باتفاق أهل المعرفة بحديثه وقال قبل ذلك (ص - 379) : إن الوليد ذكرها عن بعض شيوخه الشاميين كما جاء مفسرا في بعض طرق حديثه. ا. هـ وقال ابن حجر في فتح الباري ص 215 جـ 11 ط السلفية: ليست العلة عند الشيخين (البخاري ومسلم) ، تفرد الوليد فقط، بل الاختلاف فيه والاضطراب، وتدليسه واحتمال الإدراج ا. هـ.
ولما لم يصح تعيينها عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اختلف السلف فيه وروي عنهم في ذلك أنواع. وقد جمعت تسعة وتسعين اسما مما ظهر لي من كتاب الله تعالى، وسنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
__________
(1) إحصاؤها حفظها لفظاً وفهمها معنى وتمامه أن يتعبد لله تعالى بمقتضاها..
(3/276)
فمن كتاب الله تعالى:
الله الأحد الأعلى الأكرم الإله الأول والآخر والظاهر والباطن البارئ البَرّ البصير التواب الجبار الحافظ الحسيب الحفيظ الحفي الحقّ المبين الحكيم الحليم الحميد الحي القيوم الخبير الخالق الخلاّق الرؤوف الرّحمن الرّحيم الرّزّاق الرّقيب السّلام السّميع الشاكر الشّكور الشهيد الصّمد العالم العزيز العظيم العفُوّ العليم العليّ الغفّار الغفور الغنيّ الفتاح القادر القاهر القدّوس القدير القريب القويّ القهّار الكبير الكريم اللّطيف المؤمن المتعالي المتكبّر المتين المجيب المجيد المحيط المصوّر المقتدر المقيت الملك المليك المولى المهيمن النّصير الواحد الوارث الواسع الودود الوكيل الوليُّ الوهّاب
ومن سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
الجميل (1) الجواد (2) الحكم (3) الحيي (4) الرب (5) الرفيق (6) السُّبّوح (7)
__________
(1) مسلم.
(2) أحمد والترمذي وحسنه البيهقي في الشعب.
(3) أبو داود.
(4) أحمد وأبو داود الترمذي.
(5) أحمد والنسائي.
(6) البخاري ومسلم.
(7) مسلم
(3/277)
السيد (1) الشافي (2) الطيب (3) القابض (4) الباسط (5) المقدم (6) المؤخر (7) المحسن (8) المعطي (9) المنان (10) الوتر (11) .
هذا ما اخترناه بالتتبع واحد وثمانون اسما في كتاب الله تعالى وثمانية عشر اسما في سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإن كان عندنا تردّد في إدخال (الحفي) ؛ لأنه إنما ورد مقيدا في قوله تعالى عن إبراهيم: {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} وكذلك (المحسن) لأننا لم نطلع على رواته في الطبراني وقد ذكره شيخ الإسلام من الأسماء.
ومن أسماء الله تعالى، ما يكون مضافا مثل: مالك الملك ذي الجلال والإكرام.
القاعدة السابعة: الإلحاد في أسماء الله تعالى، هو الميل بها عما يجب فيها. وهو أنواع:
الأول: أن ينكر شيئا منها أو مما دلت عليه من الصفات والأحكام، كما فعل أهل التعطيل من الجهمية وغيرهم. وإنما كان ذلك إلحادا لوجوب الإيمان بها وبما دلت عليه من الأحكام والصفات اللائقة بالله فإنكار شيء من ذلك ميل بها عما يجب فيها.
__________
(1) أحمد وأبو داود.
(2) البخاري.
(3) مسلم.
(4) أبو داود.
(5) أبو داود.
(6) البخاري ومسلم.
(7) البخاري ومسلم.
(8) الطبراني في الأوسط قال الهيثمي: رجاله ثقات.
(9) البخاري ومسلم.
(10) أبو داود والترمذي والنسائي.
(11) البخاري ومسلم.
(3/278)
الثاني: أن يجعلها دالة على صفات تشابه صفات المخلوقين كما فعل أهل التشبيه، وذلك لأن التشبيه معنى باطل لا يمكن أن تدل عليه النصوص، بل هي دالة على بطلانه فجعلها دالة عليه ميل بها عما يجب فيها.
الثالث: أن يسمى الله تعالى بما لم يسم به نفسه، كتسمية النصارى له: (الأب) ، وتسمية الفلاسفة إياه (العلة الفاعلة) ، وذلك لأن أسماء الله تعالى، توقيفية فتسمية الله تعالى بما لم يسم به نفسه ميل بها عما يجب فيها، كما أن هذه الأسماء التي سموه بها نفسها باطلة ينزه الله تعالى عنها.
الرابع: أن يشتق من أسمائه أسماء للأصنام، كما فعل المشركون في اشتقاق العزى من العزيز، واشتقاق اللات من الإله، على أحد القولين، فسموا بها أصنامهم وذلك لأن أسماء الله تعالى مختصة به، لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} . وقوله: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} . وقوله: {لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فكما اختص بالعبادة وبالألوهية الحق وبأنه يسبح له ما في السماوات والأرض فهو مختص بالأسماء الحسنى، فتسمية غيره بها على الوجه الذي يختص بالله - عز وجل - ميل بها عما يجب فيها.
والإلحاد بجميع أنواعه محرم لأن الله تعالى هدد الملحدين بقوله: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . ومنه ما يكون شركا، أو كفرا حسبما تقتضيه الأدلة الشرعية.
(3/279)
قواعد في صفات الله تعالى
القاعدة الأولى: صفات الله تعالى كلها صفات كمال، لا نقص فيها بوجه من الوجوه، كالحياة، والعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والرحمة، والعزة، والحكمة، والعلو، والعظمة، وغير ذلك. وقد دل على هذا السمع، والعقل، والفطرة.
أما السمع: فمنه قوله تعالى: {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . والمثل الأعلى هو الوصف الأعلى.
وأما العقل: فوجهه أن كل موجود حقيقة، فلا بد أن تكون له صفة. إما صفة كمال، وإما صفة نقص. والثاني باطل بالنسبة إلى الرب الكامل المستحق للعبادة، ولهذا أظهر الله تعالى بطلان ألوهية الأصنام باتصافها بالنقص والعجز. فقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} . وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} . وقال عن إبراهيم وهو يحتج على أبيه: {يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} وعلى قومه: {أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} .
(3/280)
ثم إنه قد ثبت بالحس والمشاهدة أن للمخلوق صفات كمال، وهي من الله تعالى، فمعطي الكمال أولى به.
وأما الفطرة: فلأن النفوس السليمة مجبولة مفطورة على محبة الله وتعظيمه، وعبادته، وهل تحب وتعظم وتعبد إلا من علمت أنه متصف بصفات الكمال اللائقة بربوبيته وألوهيته؟
وإذا كانت الصفة نقصا لا كمالَ فيها فهي ممتنعة في حق الله تعالى كالموت والجهل، والنسيان، والعجز، والعمى، والصمم ونحوها لقوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} . وقوله عن موسى: {فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} . وقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} . وقوله: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} . وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الدجال: «إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور» . وقال: «أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم، ولا غائبا» .
وقد عاقب الله تعالى، الواصفين له بالنقص، كما في قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} . وقوله: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} .
(3/281)
ونزه نفسه عما يصفونه به من النقائص، فقال سبحانه: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . وقال تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} .
وإذا كانت الصفة كمالا في حال ونقصا في حال لم تكن جائزة في حق الله ولا ممتنعة على سبيل الإطلاق فلا تثبت له إثباتا مطلقا ولا تنفى عنه نفيا مطلقا بل لا بد من التفصيل: فتجوز في الحال التي تكون كمالا، وتمتنع في الحال التي تكون نقصا وذلك كالمكر، والكيد، والخداع ونحوها فهذه الصفات تكون كمالا إذا كانت في مقابلة من يعاملون الفاعل بمثلها لأنها حينئذ تدل على أن فاعلها قادر على مقابلة عدوه بمثل فعله أو أشد، وتكون نقصا في غير هذه الحال ولهذا لم يذكرها الله تعالى من صفاته على سبيل الإطلاق وإنما ذكرها في مقابلة من يعاملونه ورسله بمثلها كقوله تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} . وقوله: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا} . وقوله: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} . وقوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} . وقوله: {قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} .
(3/282)
ولهذا لم يذكر الله أنه خان من خانوه فقال تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} . فقال: {فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} ، ولم يقل: فخانهم؛ لأن الخيانة خدعة في مقام الائتمان، وهي صفة ذم مطلقا.
وبذا عرف أن قول بعض العوام: " خان الله من يخون " منكر فاحش، يجب النهي عنه.
القاعدة الثانية: باب الصفات أوسع من باب الأسماء، وذلك لأن كل اسم متضمن لصفة كما سبق في القاعدة الثالثة من قواعد الأسماء، ولأن من الصفات ما يتعلق بأفعال الله تعالى، وأفعاله لا منتهى لها، كما أن أقواله لا منتهى لها قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .
ومن أمثلة ذلك: أن من صفات الله تعالى المجيء، والإتيان، والأخذ والإمساك، والبطش، إلى غير ذلك من الصفات التي لا تحصى كما قال تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} . وقال: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} . وقال: {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} . وقال: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} . وقال: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} .
(3/283)
وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} . وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ينزل ربنا إلى السماء الدنيا» .
فنصف الله تعالى بهذه الصفات على الوجه الوارد، ولا نسميه بها، فلا نقول: إن من أسمائه الجائي، والآتي، والآخذ، والممسك، والباطش، والمريد، والنازل، ونحو ذلك، وإن كنا نخبر بذلك عنه ونصفه به.
القاعدة الثالثة: صفات الله تعالى تنقسم إلى قسمين ثبوتية وسلبية:
فالثبوتية: ما أثبته الله تعالى لنفسه في كتابه، أو على لسان رسوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكلها صفات كمال لا نقص فيها بوجه من الوجوه، كالحياة والعلم، والقدرة، والاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا، والوجه، واليدين، ونحو ذلك.
فيجب إثباتها لله تعالى حقيقة على الوجه اللائق به بدليل السمع والعقل.
أما السمع: فمنه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} . فالإيمان بالله يتضمن: الإيمان بصفاته، والإيمان بالكتاب الذي نزل على رسوله يتضمن الإيمان بكل ما جاء فيه من صفات الله، وكوْن محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسوله يتضمن الإيمان بكل ما أخبر به عن مرسله، وهو الله - عز وجل.
وأما العقل: فلأن الله تعالى أخبر بها عن نفسه، وهو أعلم بها من
(3/284)
غيره، وأصدق قيلا، وأحسن حديثا من غيره، فوجب إثباتها له كما أخبر بها من غير تردد، فإن التردد في الخبر إنما يتأتى حين يكون الخبر صادرا ممن يجوز عليه الجهل، أو الكذب، أو العي بحيث لا يفصح عما يريد، وكل هذه العيوب الثلاثة ممتنعة في حق الله - عز وجل - فوجب قبول خبره على ما أخبر به.
وهكذا نقول فيما أخبر به النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عن الله تعالى، فإن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعلم الناس بربه وأصدقهم خبرا وأنصحهم إرادة، وأفصحهم بيانا، فوجب قبول ما أخبر به على ما هو عليه.
والصفات السلبية: ما نفاها الله سبحانه عن نفسه في كتابه، أو على لسان رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكلها صفات نقص في حقه كالموت، والنوم، والجهل، والنسيان، والعجز، والتعب.
فيجب نفيها عن الله تعالى - لما سبق - مع إثبات ضدها على الوجه الأكمل، وذلك لأن ما نفاه الله تعالى عن نفسه فالمراد به بيان انتفائه لثبوت كمال ضده، لا لمجرد نفيه؛ لأن النفي ليس بكمال، إلا أن يتضمن ما يدل على الكمال، وذلك لأن النفي عدم، والعدم ليس بشيء، فضلا عن أن يكون كمالا، ولأن النفي قد يكون لعدم قابلية المحل له، فلا يكون كمالا كما لو قلت: الجدار لا يظلم. وقد يكون للعجز عن القيام به فيكون نقصا، كما في قول الشاعر:
قبيلة لا يغدرون بذمّةٍ ... ولا يظلمون الناس حبة خردل
وقول الآخر:
لكن قومي وإن كانوا ذوي حسب ... ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
(3/285)
* مثال ذلك قوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} . فنفي الموت عنه، يتضمن كمال حياته.
* مثال آخر قوله تعالى: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} . نفي الظلم عنه، يتضمن كمال عدله.
* مثال ثالث قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} . فنفي العجز عنه يتضمن كمال علمه وقدرته. ولهذا قال بعده: {إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} . لأن العجز سببه إما الجهل بأسباب الإيجاد وإما قصور القدرة عنه فلكمال علم الله تعالى وقدرته لم يكن ليعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض.
وبهذا المثال علمنا أن الصفة السلبية قد تتضمن أكثر من كمال.
[القاعدة الرابعة الصفات الثبوتية أكثر بكثير من الصفات السلبية]
القاعدة الرابعة: الصفات الثبوتية صفات مدح وكمال فكلما كثرت وتنوعت دلالاتها ظهر من كمال الموصوف بها ما هو أكثر ولهذا كانت الصفات الثبوتية التي أخبر الله بها عن نفسه أكثر بكثير من الصفات السلبية، كما هو معلوم.
أما الصفات السلبية فلم تذكر غالبا إلاّ في الأحوال التالية:
الأولى: بيان عموم كماله كما في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} .
الثانية: نفي ما ادعاه في حقه الكاذبون، كما في قوله: {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} .
(3/286)
الثالثة: دفع توهم نقص من كماله فيما يتعلّق بهذا الأمر المعين، كما في قوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} . وقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} .
القاعدة الخامسة: الصفات الثبوتية تنقسم إلى قسمين: ذاتية وفعلية:
فالذاتية: هي التي لم يزل ولا يزال متصفا بها، كالعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والعزة، والحكمة، والعلو، والعظمة، ومنها الصفات الخبرية، كالوجه، واليدين، والعينين.
والفعلية: هي التي تتعلق بمشيئته، إن شاء فعلها، وإن شاء لم يفعلها كالاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا.
وقد تكون الصفة ذاتية فعلية باعتبارين، كالكلام، فإنه باعتبار أصله صفة ذاتية؛ لأن الله تعالى لم يزل ولا يزال متكلما، وباعتبار آحاد الكلام صفة فعلية؛ لأن الكلام يتعلق بمشيئته، يتكلم متى شاء بما شاء كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} . وكل صفة تعلقت بمشيئته تعالى فإنها تابعة لحكمته. وقد تكون الحكمة معلومة لنا وقد نعجز عن إدراكها لكننا نعلم علم اليقين أنه سبحانه لا يشاء شيئا إلا وهو موافق للحكمة، كما يشير إليه قوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} .
(3/287)
القاعدة السادسة: يلزم في إثبات الصّفات التخلي عن محذورين عظيمين: أحدهما: التمثيل. والثاني: التكييف.
فأما التمثيل: فهو اعتقاد المثبت أن ما أثبته من صفات الله تعالى مماثل لصفات المخلوقين، وهذا اعتقاد باطل، بدليل السمع، والعقل.
أما السمع: فمنه قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . وقوله: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} . وقوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} . وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} .
وأما العقل فمن وجوه:
الأول: أنه قد علم بالضرورة أن بين الخالق والمخلوق تباينا في الذات، وهذا يستلزم أن يكون بينهما تباين في الصفات لأن صفة كل موصوف تليق به، كما هو ظاهر في صفات المخلوقات المتباينة في الذوات، فقوة البعير مثلا غير قوة الذرة، فإذا ظهر التباين بين المخلوقات مع اشتراكها في الإِمكان والحدوث، فظهور التباين بينها وبين الخالق أجلى وأقوى.
الثاني: أن يُقال: كيف يكون الربّ الخالق الكامل من جميع الوجوه مشابها في صفاته للمخلوق المربوب الناقص المفتقر إلى من يكمله، وهل اعتقاد ذلك إلا تنقص لحق الخالق؟ ! فإن تشبيه الكامل بالناقص يجعله ناقصا.
الثالث: أننا نشاهد في المخلوقات ما يتّفق في الأسماء ويختلف في الحقيقة والكيفية، فنشاهد أن للإنسان يدا ليست كيد الفيل، وله قوة ليست كقوة الجمل، مع الاتفاق في الاسم، فهذه يد وهذه يد وهذه قوة
(3/288)
وهذه قوة، وبينهما تباين في الكيفية والوصف، فعلم بذلك أن الاتفاق في الاسم لا يلزم منه الاتفاق في الحقيقة.
والتشبيه كالتمثيل، وقد يُفرّق بينهما بأن التمثيل التسوية في كل الصّفات، والتشبيه التسوية في أكثر الصّفات، لكن التعبير بنفي التمثيل أولى لموافقة القرآن: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} .
وأما التكييف: فهو أن يعتقد المثبت أن كيفية صفات الله تعالى كذا وكذا، من غير أن يقيّدها بمماثل. وهذا اعتقاد باطل، بدليل السمع، والعقل.
أما السمع: فمنه قوله تعالى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} . وقوله: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} . ومن المعلوم أنه لا علم لنا بكيفية صفات ربنا لأنه تعالى أخبرنا عنها ولم يخبرنا عن كيفيتها، فيكون تكييفنا قفوا لما ليس لنا به علم، وقولا بما لا يمكننا الإحاطة به.
وأما العقل: فلأن الشيء لا تعرف كيفية صفاته إلا بعد العلم بكيفية ذاته أو العلم بنظيره المساوي له، أو بالخبر الصادق عنه، وكل هذه الطرق منتفية في كيفية صفات الله - عز وجل - فوجب بطلان تكييفها.
وأيضا فإننا نقول: أي كيفية تقدّرها لصفات الله تعالى؟
إن أي كيفية تقدرها في ذهنك، فالله أعظم وأجل من ذلك.
وأي كيفية تقدّرها لصفات الله تعالى فإنك ستكون كاذبا فيها، لأنه لا علم لك بذلك.
(3/289)
وحينئذ يجب الكف عن التكييف تقديرا بالجنان، أو تقريرا باللسان، أو تحريرا بالبنان.
ولهذا لما سئل مالك - رحمه الله تعالى - عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟ أطرق - رحمه الله - برأسه حتى علاه الرحضاء (العرق) ثم قال: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة"، وروى عن شيخه ربيعة أيضا: "الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول ". وقد مشى أهل العلم بعدهما على هذا الميزان. وإذا كان الكيف غير معقول ولم يرد به الشرع فقد انتفى عنه الدليلان العقلي والشرعي فوجب الكف عنه.
فالحذر الحذر من التكييف أو محاولته، فإنك إن فعلت وقعت في مفاوز لا تستطيع الخلاص منها، وإن ألقاه الشيطان في قلبك فاعلم أنه من نزغاته، فالجأ إلى ربك فإنه معاذك، وافعل ما أمرك به فإنه طبيبك، قال الله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} . .
القاعدة السابعة: صفات الله تعالى توقيفية لا مجال للعقل فيها فلا نثبت لله تعالى من الصّفات إلا ما دلّ الكتاب والسنة على ثبوته، قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: "لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، لا يتجاوز القرآن والحديث" (انظر القاعدة الخامسة في الأسماء) .
ولدلالة الكتاب والسنة على ثبوت الصفة ثلاثة أوجه:
الأول: التصريح بالصّفة كالعزة، والقوة، والرحمة، والبطش، والوجه، واليدين ونحوها.
(3/290)
الثاني: تضمن الاسم لها مثل: الغفور متضمن للمغفرة، والسميع متضمن للسمع ونحو ذلك (انظر القاعدة الثالثة في الأسماء) .
الثالث: التصريح بفعل أو وصف دال عليها كالاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا، والمجيء للفصل بين العباد يوم القيامة، والانتقام من المجرمين الدال عليها - على الترتيب - قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وقول النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ينزل ربنا إلى السماء الدنيا» . الحديث. وقول الله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} . وقوله: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} . .
(3/291)
قواعد في أدلة الأسماء والصفات
القاعدة الأولى: الأدلة التي تثبت بها أسماء الله تعالى وصفاته، هي: كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا تثبت أسماء الله، وصفاته، بغيرهما.
وعلى هذا فما ورد إثباته لله تعالى من ذلك في الكتاب أو السنة وجب إثباته.
وما ورد نفيه فيهما وجب نفيه، مع إثبات كمال ضدّه.
وما لم يرد إثباته ولا نفيه فيهما وجب التوقف في لفظه فلا يثبت ولا ينفى لعدم ورود الإثبات والنفي فيه.
وأما معناه فيفصل فيه: فإن أُريد به حق يليق بالله تعالى فهو مقبول. وإن أريد به معنى لا يليق بالله عز وجل وجب رده.
فمما ورد إثباته لله تعالى: كل صفة دلّ عليها اسم من أسماء الله تعالى دلالة مطابقة، أو تضمّن، أو التزام.
ومنه كل صفة دل عليها فعل من أفعاله كالاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا، والمجيء للفصل بين عباده يوم القيامة ونحو ذلك من أفعاله التي لا تحصى أنواعها، فضلا عن أفرادها {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} . . (1)
ومنه: الوجه، والعينان، واليدان ونحوها.
ومنه الكلام، والمشيئة، والإرادة بقسميها: الكوني، والشرعي. فالكونية بمعنى المشيئة، والشرعية بمعنى المحبة.
ومنه: الرِّضا، والمحبة، والغضب، والكراهة ونحوها. .
__________
(1) أدلة هذه مذكورة في مواضعها من كتب العقائد.
(3/292)
ومما ورد نفيه عن الله سبحانه لانتفائه وثبوت كمال ضده: الموت، والنوم، والسِّنة، والعجز، والإعياء، والظلم، والغفلة عن أعمال العباد، وأن يكون له مثيل أو كفؤ ونحو ذلك
ومما لم يرد إثباته ولا نفيه لفظ (الجهة) فلو سأل سائل هل نثبت لله تعالى جهة؟ .
قلنا له: لفظ، الجهة، لم يرد في الكتاب والسُّنة إثباتا ولا نفيا، ويغني عنه ما ثبت فيهما من أن الله تعالى في السماء. وأما معناه فإما أن يراد به جهة سفل أو جهة علو تحيط بالله أو جهة علو لا تحيط به.
فالأول باطل؛ لمنافاته لعلو الله تعالى الثابت بالكتاب، والسنة، والعقل والفطرة، والإجماع.
والثاني باطل أيضا؛ لأن الله تعالى أعظم من أن يحيط به شيء من مخلوقاته.
والثالث حق؛ لأن الله تعالى العليّ فوق خلقه ولا يحيط به شيء من مخلوقاته.
ودليل هذه القاعدة السمع والعقل.
فأما السمع فمنه قوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ، وقوله: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} . . وقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ، وقوله:
(3/293)
{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} . .
وقوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} ، وقوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} . .
إلى غير ذلك من النصوص الدالة على وجوب الإِيمان بما جاء في القرآن والسنة.
وكل نص يدل على وجوب الإيمان بما جاء في القرآن فهو دال على وجوب الإيمان بما جاء في السنة؛ لأن مما جاء في القرآن الأمر باتباع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والرد إليه عند التنازع، والرد إليه يكون إليه نفسه في حياته وإلى سنته بعد وفاته.
فأين الإيمان بالقرآن لمن استكبر عن اتباع الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المأمور به في القرآن؟ .
وأين الإيمان بالقرآن لمن لم يرد النزاع إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد أمر الله به في القرآن؟ .
وأين الإيمان بالرسول الذي أمر به القرآن لمن لم يقبل ما جاء في سنته؟!
ولقد قال الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} . ومن المعلوم أن كثيرا من أمور الشريعة العلمية والعملية جاء بيانها بالسنة، فيكون بيانها بالسنة من تبيان القرآن.
وأما العقل فنقول: إن تفصيل القول فيما يجب أو يمتنع أو يجوز في حق الله تعالى من أمور الغيب التي لا يمكن إدراكها بالعقل فوجب الرجوع فيه إلى ما جاء في الكتاب والسنة.
(3/294)
القاعدة الثانية: الواجب في نصوص القرآن والسنة إجراؤها على ظاهرها دون تحريف لا سيما نصوص الصّفات حيث لا مجال للرأي فيها.
ودليل ذلك: السمع، والعقل.
أما السمع: فقوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} . وقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} . وقوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} . . وهذا يدل على وجوب فهمه على ما يقتضيه ظاهره باللسان العربي إلا أن يمنع منه دليل شرعي.
وقد ذم الله تعالى اليهود على تحريفهم، وبين أنهم بتحريفهم من أبعد الناس عن الإيمان. فقال: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} . وقال تعالى: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} . الآية.
وأما العقل: فلأن المتكلّم بهذه النصوص أعلم بمراده من غيره، وقد خاطبنا باللسان العربي المبين فوجب قبوله على ظاهره وإلا لاختلفت الآراء وتفرّقت الأمة.
القاعدة الثالثة: ظواهر نصوص الصّفات معلومة لنا باعتبار ومجهولة لنا باعتبار آخر فباعتبار المعنى هي معلومة
(3/295)
وباعتبار الكيفية التي هي عليها مجهولة.
وقد دلّ على ذلك: السّمع والعقلُ.
وأما السمع فمنه قوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} ، وقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ، وقوله - جل ذكره -: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} . .
والتدبر لا يكون إلا فيما يمكن الوصول إلى فهمه، ليتذكّر الإنسان بما فهمه منه.
وكون القرآن عربيّا ليعقله من يفهم العربية يدل على أن معناه معلوم وإلا لما كان فرق بين أن يكون باللغة العربية أو غيرها.
وبيان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القرآن للناس شامل لبيان لفظه وبيان معناه.
وأما العقل فلأن من المحال أن ينزل الله تعالى كتابا أو يكلّم رسوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بكلام يقصد بهذا الكتاب وهذا الكلام أن يكون هداية للخلق، ويبقى في أعظم الأمور وأشدّها ضرورة مجهول المعنى، بمنزلة الحروف الهجائية التي لا يفهم منها شيء؛ لأن ذلك من السفة الذي تأباه حكمة الله تعالى وقد قال الله تعالى عن كتابه: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} . .
هذه دلالة: السمع، والعقل، على علمنا بمعاني نصوص الصفات.
وأما دلالتهما على جهلنا لها باعتبار الكيفية، فقد سبقت في القاعدة
(3/296)
السادسة من قواعد الصفات.
وبهذا علم بطلان مذهب المفوضة الذين يُفَوِّضُون علم معاني نصوص الصّفات، ويدعون أن هذا مذهب السلف. والسَّلفُ بريئون من هذا المذهب، وقد تواترت الأقوال عنهم بإثبات المعاني لهذه النصوص إجمالا أحيانا وتفصيلا أحيانا وتفويضهم الكيفية إلى علم الله - عزّ وجلّ -..
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه المعروف بـ"العقل والنقل" ص116 جـ1 المطبوع على هامش (منهاج السنة) : وأما التفويض فمن المعلوم أن الله أمرنا بتدبر القرآن وحضنا على عقله وفهمه، فكيف يجوز مع ذلك أن يراد منا الإِعراض عن فهمه ومعرفته وعقله، إلى أن قال ص118: وحينئذ فيكون ما وصف الله به نفسه في القرآن أو كثير مما وصف الله به نفسه لا يعلم الأنبياء معناه بل يقولون كلاما لا يعقلون معناه، قال: ومعلوم أن هذا قدح في القرآن والأنبياء إذ كان الله أنزل القرآن وأخبر أنه جعله هدى وبيانا للناس وأمر الرسول أن يبلغ البلاغ المبين وأن يبين للناس ما نزل إليهم، وأمر بتدبر القرآن وعقله، ومع هذا فأشرف ما فيه وهو ما أخبر به الرّب عن صفاته.. لا يعلم أحد معناه، فلا يعقل ولا يتدبر، ولا يكون الرسول بيّن للناس ما نزل إليهم، ولا بلغ البلاغ المبين.
وعلى هذا التقدير فيقول كل ملحد ومبتدع: الحق في نفس الأمر ما علمته برأيي وعقلي، وليس في النصوص ما يناقض ذلك؛ لأن تلك النصوص مشكلة متشابهة، ولا يعلم أحد معناها، وما لا يعلم أحد معناه لا يجوز أن يستدل به، فيبقى هذا الكلام سدًّا لباب الهُدَى والبيان من جهة الأنبياء، وفتحا لباب من يعارضهم، ويقول: إن الهدى والبيان في طريقنا لا في طريق الأنبياء؛ لأننا نحن نعلم ما نقول ونبينه بالأدلة العقلية، والأنبياء لم يعلموا ما يقولون فضلا عن أن يبينوا مرادهم، فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم
(3/297)
متبعون للسنة والسلف من شر أقوال أهل البدع والإلحاد ا. هـ. كلام الشيخ وهو كلام سديد، من ذي رأي رشيد، وما عليه مزيد رحمه الله تعالى رحمة واسعة، وجمعنا به في جنات النعيم.
القاعدة الرابعة: ظاهر النصوص ما يتبادر منها إلى الذهن من المعاني، وهو يختلف بحسب السياق، وما يضاف إليه الكلام، فالكلمة الواحدة يكون لها معنى في سياق، ومعنى آخر في سياق. وتركيب الكلام يفيد معنى على وجه ومعنى آخر على وجه.
فلفظ (القرية) ، مثلا يراد به القوم تارة، ومساكن القوم تارة أخرى.
فمن الأول قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا} . .
ومن الثاني قوله تعالى عن الملائكة ضيف إبراهيم: {إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} . .
وتقول: صنعت هذا بيدي فلا تكون اليد كاليد في قوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} .؛ لأن اليد في المثال أضيفت إلى المخلوق فتكون مناسبة له، وفي الآية أضيفت إلى الخالق فتكون لائقة به، فلا أحد سليم الفطرة صريح العقل يعتقد أن يد الخالق كيد المخلوق أو بالعكس.
ونقول: ما عندك إلا زيد، وما زيد إلا عندك، فتفيد الجملة الثانية معنى غير ما تفيده الأولى مع اتحاد الكلمات لكن اختلف التركيب فتغير المعنى به.
(3/298)
إذا تقرر هذا فظاهر نصوص الصفات ما يتبادر منها إلى الذهن من المعاني.
وقد انقسم الناس فيه إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: من جعلوا الظاهر المتبادر منها معنى حقا يليق بالله - عز وجل - وأبقوا دلالتها على ذلك، وهؤلاء هم السلف الذين اجتمعوا على ما كان عليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأصحابه، والذين لا يصدق لقب أهل السنة والجماعة إلا عليهم.
وقد أجمعوا على ذلك كما نقله ابن عبد البر فقال: "أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن الكريم والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئا من ذلك ولا يحدون فيه صفة محصورة" ا. هـ.
وقال القاضي أبو يعلى في كتاب "إبطال التأويل": "لا يجوز رد هذه الأخبار، ولا التشاغل بتأويلها، والواجب حملها على ظاهرها، وأنها صفات الله، لا تشبه صفات سائر الموصوفين بها من الخلق، ولا يعتقد التشبيه فيها، لكن على ما روي عن الإمام أحمد وسائر الأئمة" ا. هـ. نقل ذلك عن ابن عبد البر والقاضي شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتوى الحموية ص 87-89 جـ5 من مجموع الفتاوى لابن قاسم.
وهذا هو المذهب الصحيح، والطريق القويم الحكيم، وذلك لوجهين:
الأول: أنه تطبيق تام لما دل عليه الكتاب والسنة من وجوب الأخذ بما جاء فيهما من أسماء الله وصفاته، كما يعلم ذلك من تتبعه بعلم وإنصاف.
الثاني: أن يقال: إن الحق إما أن يكون فيما قاله السلف أو فيما قاله غيرهم والثاني باطل؛ لأنه يلزم منه أن يكون السلف من الصحابة والتابعين
(3/299)
لهم بإحسان تكلموا بالباطل تصريحا أو ظاهرا ولم يتكلموا مرة واحدة لا تصريحا ولا ظاهرا بالحق الذي يجب اعتقاده. وهذا يستلزم أن يكونوا إما جاهلين بالحق وإما عالمين به لكن كتموه وكلاهما باطل، وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم فتعين أن يكون الحق فيما قاله السلف دون غيرهم.
القسم الثاني: من جعلوا الظاهر المتبادر من نصوص الصفات معنى باطلا لا يليق بالله وهو: التشبيه وأبقوا دلالتها على ذلك. وهؤلاء هم المشبهة ومذهبهم باطل محرم من عدة أوجه:
الأول: أنه جناية على النصوص وتعطيل لها عن المراد بها فكيف يكون المراد بها التشبيه، وقد قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ؟.
الثاني: أن العقل دل على مباينة الخالق للمخلوق في الذات والصفات فكيف يحكم بدلالة النصوص على التشابه بينهما؟ .
الثالث: أن هذا المفهوم الذي فهمه المشبه من النصوص مخالف لما فهمه السلف منها فيكون باطلا.
فإن قال المشبه: أنا لا أعقل من نزول الله، ويده إلا مثل ما للمخلوق من ذلك، والله تعالى لم يخاطبنا إلا بما نعرفه ونعقله فجوابه من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الذي خاطبنا بذلك هو الذي قال عن نفسه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . ونهى عباده أن يضربوا له الأمثال، أو يجعلوا له أندادا فقال: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} ، وقال: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ، وكلامه تعالى كله حق يصدق بعضه بعضا، ولا يتناقض.
ثانيها: أن يقال له: ألست تعقل لله ذاتا لا تشبه الذوات؟
(3/300)
فسيقول: بلى! فيقال له: فلتعقل له صفات لا تشبه الصفات، فإن القول في الصفات كالقول في الذات ومن فرق بينهما فقد تناقض!.
ثالثها: أن يقال: ألست تشاهد في المخلوقات ما يتفق في الأسماء ويختلف في الحقيقة والكيفية؟ فسيقول: بلى!. فيقال له: إذا عقلت التباين بين المخلوقات في هذا، فلماذا لا تعقله بين الخالق والمخلوق، مع أن التباين بين الخالق والمخلوق أظهر وأعظم، بل التماثل مستحيل بين الخالق والمخلوق، كما سبق في القاعدة السادسة من قواعد الصفات.
القسم الثالث: من جعلوا المعنى المتبادر من نصوص الصفات معنى باطلا، لا يليق بالله وهو التشبيه، ثم إنهم من أجل ذلك أنكروا ما دلت عليه من المعنى اللائق بالله، وهم أهل التعطيل سواء كان تعطيلهم عامّا في الأسماء والصفات، أم خاصّا فيهما، أو في أحدهما، فهؤلاء صرفوا النصوص عن ظاهرها إلى معانٍ عينوها بعقولهم، واضطربوا في تعيينها اضطرابا كثيرا، وسموا ذلك تأويلا، وهو في الحقيقة تحريف.
ومذهبهم باطل من وجوه:
أحدها: أنه جناية على النصوص حيث جعلوها دالة على معنى باطل غير لائق بالله، ولا مراد له.
الثاني: أنه صرف لكلام الله تعالى وكلام رسوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ظاهره، والله تعالى خاطب الناس بلسان عربيّ مبين، ليعقلوا الكلام ويفهموه على ما يقتضيه هذا اللسان العربي، والنبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خاطبهم بأفصح لسان البشر فوجب حمل كلام الله ورسوله على ظاهره المفهوم بذلك اللسان العربي غير أنه يجب أن يصان عن التكييف، والتمثيل في حق الله عز وجل.
الثالث: أن صرف كلام الله ورسوله عن ظاهره إلى معنى يخالفه
(3/301)
قول على الله بلا علم وهو محرم، لقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} . ولقوله سبحانه: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} .
فالصارف لكلام الله تعالى ورسوله عن ظاهره إلى معنى يخالفه قد قفا ما ليس له به علم. وقال على الله ما لا يعلم من وجهين:
الأول: أنه زعم أنه ليس المراد بكلام الله تعالى ورسوله كذا، مع أنه ظاهر الكلام.
الثاني: أنه زعم أن المراد به كذا لمعنى آخر لا يدل عليه ظاهر الكلام.
وإذا كان من المعلوم أن تعيين أحد المعنيين المتساويين في الاحتمال قولا بلا علم فما ظنك بتعيين المعنى المرجوح المخالف لظاهر الكلام؟!.
مثال ذلك قوله تعالى لإبليس: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} . فإذا صرف الكلام عن ظاهره، وقال: لم يرد باليدين اليدين الحقيقيتين وإنما أراد كذا وكذا. قلنا له: ما دليلك على ما نفيت؟! وما دليلك على ما أثبت؟! فإن أتى بدليل -وأنى له ذلك- وإلا كان قائلا على الله بلا علم في نفيه وإثباته.
الوجه الرابع: في إبطال مذهب أهل التعطيل أن صرف نصوص الصفات عن ظاهرها مخالف لما كان عليه النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(3/302)
وأصحابه، وسلف الأمة وأئمتها، فيكون باطلا؛ لأن الحق بلا ريب فيما كان عليه النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه وسلف الأمة وأئمتها.
الوجه الخامس: أن يقال للمعطل:
هل أنت أعلم بالله من نفسه؟. فسيقول: لا.
ثم يقال له: هل ما أخبر الله به عن نفسه صدق وحق؟ فسيقول: نعم.
ثم يقال له: هل تعلم كلاما أفصح، وأبين من كلام الله تعالى؟ فسيقول: لا.
ثم يقال له: هل تظن أن الله سبحانه وتعالى أراد أن يعمي الحق على الخلق في هذه النصوص ليستخرجوه بعقولهم؟ فسيقول: لا.
هذا ما يقال له باعتبار ما جاء في القرآن.
أما باعتبار ما جاء في السنة فيقال له:
هل أنت أعلم بالله من رسوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟. فسيقول: لا.
ثم يقال له: هل ما أخبر به رسول الله عن الله صدق وحق؟ فسيقول: نعم.
ثم يقال له: هل تعلم أن أحدا من الناس أفصح كلاما، وأبين من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فسيقول: لا.
ثم يقال له: هل تعلم أن أحدا من الناس أنصح لعباد الله من رسول الله؟ فسيقول: لا.
فيقال له: إذا كنت تقر بذلك فلماذا لا يكون عندك الإقدام والشجاعة في إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه، وأثبته له رسوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، على حقيقته وظاهره اللائق بالله؟ وكيف يكون عندك
(3/303)
الإقدام والشجاعة في نفي حقيقته تلك، وصرفه إلى معنى يخالف ظاهره بغير علم؟
وماذا يضيرك إذا أثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه في كتابه، أو سنة نبيه على الوجه اللائق به، فأخذت بما جاء في الكتاب والسنة إثباتا ونفيا؟
أفليس هذا أسلم لك وأقوم لجوابك إذا سئلت يوم القيامة: {مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} .
أو ليس صرفك لهذه النصوص عن ظاهرها، وتعيين معنى آخر مخاطرة منك؟ فلعل المراد يكون -على تقدير جواز صرفها- غير ما صرفتها إليه.
الوجه السادس: في إبطال مذهب أهل التعطيل: أنه يلزم عليه لوازم باطلة، وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم.
فمن هذه اللوازم:
أولا: أن أهل التعطيل لم يصرفوا نصوص الصفات عن ظاهرها إلا حيث اعتقدوا أنه مستلزم أو موهم لتشبيه الله تعالى بخلقه، وتشبيه الله تعالى بخلقه كفر؛ لأنه تكذيب لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} .
قال نعيم بن حماد الخزاعي، أحد مشايخ البخاري رحمهما الله: من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيها ا. هـ.
ومن المعلوم أن من أبطل الباطل أن يجعل ظاهر كلام الله تعالى وكلام رسوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تشبيها وكفرا أو موهما لذلك.
ثانيا: أن كتاب الله تعالى، الذي أنزله تبيانا لكل شيء، وهدى للناس، وشفاء لما في الصدور، ونورا مبينا، وفرقانا بين الحق والباطل لم
(3/304)
يبين الله تعالى فيه ما يجب على العباد اعتقاده في أسمائه وصفاته، وإنما جعل ذلك موكولا إلى عقولهم، يثبتون لله ما يشاءون وينكرون ما لا يريدون. وهذا ظاهر البطلان.
ثالثا: أن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وخلفاءه الراشدين، وأصحابه، وسلف الأمة وأئمتها، كانوا قاصرين أو مقصرين في معرفة وتبيين ما يجب لله تعالى من الصفات أو يمتنع عليه أو يجوز إذ لم يرد عنهم حرف واحد فيما ذهب إليه أهل التعطيل في صفات الله تعالى وسموه تأويلا.
وحينئذ إما أن يكون النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وخلفاؤه الراشدون وسلف الأمة وأئمتها قاصرين لجهلهم بذلك وعجزهم عن معرفته أو مقصرين لعدم بيانهم للأمة وكلا الأمرين باطل!!.
رابعا: أن كلام الله ورسوله ليس مرجعا للناس فيما يعتقدونه في ربهم وإلههم الذي معرفتهم به من أهم ما جاءت به الشرائع، بل هو زبدة الرسالات وإنما المرجع تلك العقول المضطربة المتناقضة وما خالفها، فسبيله التكذيب إن وجدوا إلى ذلك سبيلا، أو التحريف الذي يسمونه تأويلا، إن لم يتمكنوا من تكذيبه.
خامسا: أنه يلزم منه جواز نفي ما أثبته الله ورسوله، فيقال في قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} : إنه لا يجيء، وفي قوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ينزل ربنا إلى السماء الدنيا» : إنه لا ينزل لأن إسناد المجيء، والنزول إلى الله مجاز عندهم، وأظهر علامات المجاز عند القائلين به صحة نفيه، ونفي ما أثبته الله ورسوله من أبطل الباطل، ولا يمكن الانفكاك عنه بتأويله إلى أمره؛ لأنه ليس في السياق ما يدل عليه.
(3/305)
ثم إن من أهل التعطيل من طرد قاعدته في جميع الصفات، أو تعدى إلى الأسماء أيضا، ومنهم من تناقض فأثبت بعض الصفات دون بعض، كالأشعرية والماتريدية: أثبتوا ما أثبتوه بحجة أن العقل يدل عليه، ونفوا ما نفوه بحجة أن العقل ينفيه، أو لا يدل عليه.
فنقول لهم: نفيكم لما نفيتموه بحجة أن العقل لا يدل عليه يمكن إثباته بالطريق العقلي الذي أثبتم به ما أثبتموه كما هو ثابت بالدليل السمعي.
مثال ذلك أنهم أثبتوا صفة الإرادة، ونفوا صفة الرحمة.
أثبتوا صفة الإرادة لدلالة السمع، والعقل عليها.
أما السمع: فمن قوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} .
وأما العقل: فإن اختلاف المخلوقات وتخصيص بعضها بما يختص به من ذات أو وصف دليل على الإرادة.
ونفوا الرحمة، قالوا: لأنها تستلزم لين الراحم، ورقته للمرحوم، وهذا محال في حق الله تعالى.
وأولوا الأدلة السمعية المثبتة للرحمة إلى الفعل أو إرادة الفعل ففسروا الرحيم بالمنعم أو مريد الإنعام.
فنقول لهم: الرحمة ثابتة لله تعالى بالأدلة السمعية، وأدلة ثبوتها أكثر عددا وتنوعا من أدلة الإرادة. فقد وردت بالاسم مثل: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . والصفة مثل: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ} . والفعل مثل: {وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ} .
(3/306)
ويمكن إثباتها بالعقل فإن النعم التي تترى على العباد من كل وجه، والنقم التي تدفع عنهم في كل حين دالة على ثبوت الرحمة لله - عز وجل - ودلالتها على ذلك أبين وأجلى من دلالة التخصيص على الإرادة، لظهور ذلك للخاصة والعامة، بخلاف دلالة التخصيص على الإرادة، فإنه لا يظهر إلا لأفراد من الناس.
وأما نفيها بحجة أنها تستلزم اللين والرقة، فجوابه: أن هذه الحجة لو كانت مستقيمة لأمكن نفي الإرادة بمثلها فيقال: الإرادة ميل المريد إلى ما يرجو به حصول منفعة أو دفع مضرة وهذا يستلزم الحاجة والله تعالى منزه عن ذلك.
فإن أجيب: بأن هذه إرادة المخلوق أمكن الجواب بمثله في الرحمة بأن الرحمة المستلزمة للنقص هي رحمة المخلوق.
وبها تبين بطلان مذهب أهل التعطيل سواء كان تعطيلا عاما أم خاصّا.
وبه علم أن طريق الأشاعرة والماتريدية في أسماء الله وصفاته وما احتجوا به؛ لذلك لا تندفع به شبه المعتزلة والجهمية وذلك من وجهين:
أحدهما: أنه طريق مبتدع لم يكن عليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا سلف الأمة وأئمتها، والبدعة لا تدفع بالبدعة وإنما تدفع بالسنة.
الثاني: أن المعتزلة والجهمية يمكنهم أن يحتجوا لما نفوه على الأشاعرة والماتريدية بمثل ما احتج به الأشاعرة والماتريدية لما نفوه على أهل السنة، فيقولون: لقد أبحتم لأنفسكم نفي ما نفيتم من الصفات بما زعمتموه دليلا عقليّا وأولتم دليله السمعي، فلماذا تحرمون علينا نفي ما نفيناه بما نراه دليلا عقليّا، ونؤول دليله السمعي، فلنا عقول كما أن لكم عقولا، فإن كانت عقولنا خاطئة، فكيف كانت عقولكم صائبة، وإن كانت عقولكم صائبة فكيف
(3/307)
كانت عقولنا خاطئة، وليس لكم حجة في الإنكار علينا سوى مجرد التحكم واتباع الهوى.
وهذه حجة دامغة وإلزام صحيح من الجهمية والمعتزلة للأشاعرة والماتريدية ولا مدفع لذلك ولا محيص عنه إلا بالرجوع لمذهب السلف الذين يطردون هذا الباب ويثبتون لله تعالى من الأسماء والصفات ما أثبته لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إثباتا: لا تمثيل فيه ولا تكييف وتنزيها: لا تعطيل فيه، ولا تحريف، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور.
(تنبيه) علم مما سبق أن كل معطل ممثل، وكل ممثل معطل.
أما تعطيل المعطل فظاهر، وأما تمثيله فلأنه إنما عطل لاعتقاده أن إثبات الصفات يستلزم التشبيه فمثّل أولا، وعطل ثانيا كما أنه بتعطيله مثّله بالناقص.
وأما تمثيل الممثل فظاهر وأما تعطيله فمن ثلاثة أوجه:
الأول: أنه عطل نفس النص الذي أثبت به الصفة، حيث جعله دالا على التمثيل مع أنه لا دلالة فيه عليه وإنما يدل على صفة تليق بالله عز وجل.
الثاني: أنه عطل كل نص يدل على نفي مماثلة الله لخلقه.
الثالث: أنه عطل الله تعالى عن كماله الواجب حيث مثله بالمخلوق الناقص.
(3/308)
[فصل الرد على شبهة أن أهل السنة صرفوا نصوصا من الكتاب والسنة في الصفات عن ظاهرها]
فصل
اعلم أن بعض أهل التأويل أورد على أهل السنة شبهة في نصوص من الكتاب والسنة في الصفات؛ ادعى أن أهل السنة صرفوها عن ظاهرها ليلزم أهل السنة بالموافقة على التأويل أو المداهنة فيه، وقال: كيف تنكرون علينا تأويل ما أولناه مع ارتكابكم لمثله فيما أولتموه؟
ونحن نجيب بعون الله تعالى عن هذه الشبهة بجوابين مجمل، ومفصل.
[الرد المجمل]
أما المجمل فيتلخص في شيئين:
أحدهما: أن لا نسلم أن تفسير السلف لها صرف عن ظاهرها، فإن ظاهر الكلام ما يتبادر منه من المعنى، وهو يختلف بحسب السياق، وما يضاف إليه الكلام، فإن الكلمات يختلف معناها بحسب تركيب الكلام، والكلام مركب من كلمات، وجمل، يظهر معناها ويتعين بضم بعضها إلى بعض.
ثانيهما: أننا لو سلمنا أن تفسيرهم صرف لها عن ظاهرها، فإن لهم في ذلك دليلا من الكتاب والسنة، إما متصلا، وإما منفصلا، وليس لمجرد شبهات يزعمها الصارف براهين وقطعيات يتوصل بها إلى نفي ما أثبته الله لنفسه في كتابه، أو على لسان رسوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
[الرد المفصل على كل نص ادعى أن السلف صرفوه عن ظاهره]
وأما المفصل فعلى كل نص ادعى أن السلف صرفوه عن ظاهره.
ولنمثل بالأمثلة التالية، فنبدأ بما حكاه أبو حامد الغزالي عن بعض الحنبلية أنه قال: إن أحمد لم يتأول إلا في ثلاثة أشياء: «الحجر الأسود يمين الله في الأرض» . «وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن» . «وإني أجد نفس الرحمن من قبل اليمن» . نقله عنه شيخ الإسلام ابن تيمية
(3/309)
ص398جـ5: من مجموع الفتاوى، وقال: هذه الحكاية كذب على أحمد.
المثال الأول: «الحجر الأسود يمين الله في الأرض» .
والجواب عنه: أنه حديث باطل، لا يثبت عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال ابن الجوزي في العلل المتناهية: هذا حديث لا يصح. وقال ابن العربي: حديث باطل فلا يلتفت إليه، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: روي عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بإسناد لا يثبت ا. هـ وعلى هذا فلا حاجة للخوض في معناه.
لكن قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والمشهور يعني في هذا الأثر إنما هو عن ابن عباس قال: "الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن صافحه وقبله، فكأنما صافح الله وقبل يمينه".
ومن تدبر اللفظ المنقول تبين له أنه لا إشكال فيه فإنه قال: «يمين الله في الأرض» ولم يطلق فيقول: يمين الله وحكم اللفظ المقيد يخالف حكم المطلق، ثم قال: "فمن صافحه وقبله، فكأنما صافح الله وقبل يمينه" وهذا صريح في أن المصافح لم يصافح يمين الله أصلا، ولكن شبه بمن يصافح الله، فأول الحديث وآخره يبين أن الحجر ليس من صفات الله تعالى، كما هو معلوم عند كل عاقل ا. هـ ص398 جـ 6 مجموع الفتاوى.
* المثال الثاني: «قلوب العباد بين أصبعين (1) » من أصابع الرحمن".
والجواب: أن هذا الحديث صحيح رواه مسلم في الباب الثاني من كتاب القدر عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن»
__________
(1) أصبع مثلث الهمزة والباء ففيه تسع لغات والعاشرة أصبوع كما قيل:
وهمز أنملة ثلث وثالثة ... التسع في أصبع واختم بأصبوع
أصبوع بضم الهمزة.
(3/310)
«كقلب واحد يصرفه حيث يشاء» ثم قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك» .
وقد أخذ السلف أهل السنة بظاهر الحديث وقالوا: إن لله تعالى أصابع حقيقة نثبتها له كما أثبتها له رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يلزم من كون قلوب بني آدم بين أصبعين منها أن تكون مماسة لها حتى يقال: إن الحديث موهم للحلول فيجب صرفه عن ظاهره.
فهذا السحاب مسخر بين السماء والأرض وهو لا يمس السماء ولا الأرض ويقال: بدر بين مكة والمدينة مع تباعد ما بينها وبينهما، فقلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن حقيقة، ولا يلزم من ذلك مماسة ولا حلول.
* المثال الثالث: «إني أجد نفس الرحمن من قبل اليمن» .
والجواب: أن هذا الحديث رواه الإمام أحمد في المسند من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -قال: قال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،: «ألا إن الإيمان يمان، والحكمة يمانية، وأجد نفس ربكم من قبل اليمن» . قال في مجمع الزوائد "رجاله رجال الصحيح غير شبيب وهو ثقة"، قلت: وكذا قال في التقريب عن شبيب ثقة من الثالثة وقد روى البخاري نحوه في التاريخ الكبير.
وهذا الحديث على ظاهره والنفس فيه اسم مصدر نفس ينفس تنفيسا، مثل فرج يفرج تفريجا وفرجا، هكذا قال أهل اللغة كما في النهاية والقاموس ومقاييس اللغة. قال في مقاييس اللغة: النفس كل شيء يفرج به عن مكروب، فيكون معنى الحديث أن تنفيس الله تعالى عن المؤمنين يكون من أهل اليمن.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهؤلاء هم الذين قاتلوا أهل الردة، وفتحوا الأمصار، فبهم نفس الرحمن عن المؤمنين الكربات". ا. هـ ص398جـ6 مجموع فتاوى شيخ الإسلام لابن قاسم.
(3/311)
* المثال الرابع: قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} والجواب أن لأهل السنة في تفسيرها قولين:
أحدهما: أنها بمعنى ارتفع إلى السماء، وهو الذي رجحه ابن جرير، قال في تفسيره بعد أن ذكر الخلاف: "وأولى المعاني بقول الله جل ثناؤه: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ} . علا عليهن وارتفع، فدبرهن بقدرته، وخلقهن سبع سموات". ا. هـ.
وذكره البغوي في تفسيره: قول ابن عباس وأكثر مفسري السلف. وذلك تمسكا بظاهر لفظ استوى. وتفويضا لعلم كيفية هذا الارتفاع إلى الله عز وجل.
القول الثاني: أن الاستواء هنا بمعنى القصد التام، وإلى هذا القول ذهب ابن كثير في تفسير سورة البقرة، والبغوي في تفسير سورة فصلت.
قال ابن كثير: "أي قصد إلى السماء، والاستواء هاهنا ضمن معنى القصد والإقبال، لأنه عدي بإلى". وقال البغوي: "أي عمد إلى خلق السماء".
وهذا القول ليس صرفا للكلام عن ظاهره، وذلك لأن الفعل استوى اقترن بحرف يدل على الغاية والانتهاء. فانتقل إلى معنى يناسب الحرف المقترن به ألا ترى إلى قوله تعالى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} . حيث كان معناها يروى بها عباد الله لأن الفعل يشرب اقترن بالباء فانتقل إلى معنى يناسبها وهو يروى، فالفعل يضمن معنى يناسب معنى الحرف المتعلق به ليلتئم الكلام.
* المثالان الخامس، والسادس: قوله تعالى في سورة الحديد: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} . وقوله في سورة المجادلة: {وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} .
(3/312)
والجواب: أن الكلام في هاتين الآيتين حق على حقيقته وظاهره. ولكن ما حقيقته وظاهره؟
هل يقال: إن ظاهره وحقيقته أن الله تعالى مع خلقه معية تقتضي أن يكون مختلطا بهم، أو حالا في أمكنتهم؟
أو يقال: إن ظاهره وحقيقته أن الله تعالى مع خلقه معية تقتضي أن يكون محيطا بهم: علما وقدرةً، وسمعا، وبصرا، وتدبيرا، وسلطانا، وغير ذلك من معاني ربوبيته مع علوه على عرشه فوق جميع خلقه؟
ولا ريب أن القول الأول لا يقتضيه السياق، ولا يدل عليه بوجه من الوجوه، وذلك لأن المعية هنا أضيفت إلى الله عز وجل، وهو أعظم وأجل من أن يحيط به شيء من مخلوقاته؛ ولأن المعية في اللغة العربية التي نزل بها القرآن لا تستلزم الاختلاط أو المصاحبة في المكان، وإنما تدل على مطلق المصاحبة، ثم تفسر في كل موضع بحسبه.
وتفسير معية الله -تعالى- لخلقه بما يقتضي الحلول والاختلاط باطل من وجوه:
الأول: أنه مخالف لإجماع السلف فما فسرها أحد منهم بذلك، بل كانوا مجمعين على إنكاره.
الثاني: أنه مناف لعلو الله تعالى الثابت بالكتاب، والسنة، والعقل، والفطرة وإجماع السلف، وما كان منافيا لما ثبت بدليل كان باطلا بما ثبت به ذلك المنافي، وعلى هذا فيكون تفسير معية الله لخلقه بالحلول والاختلاط باطلا بالكتاب والسنة، والعقل، والفطرة، وإجماع السلف.
الثالث: أنه مستلزم للوازم باطلة لا تليق بالله سبحانه وتعالى.
(3/313)
ولا يمكن لمن عرف الله تعالى وقدره حق قدره، وعرف مدلول المعية في اللغة العربية، التي نزل بها القرآن، أن يقول: إن حقيقة معية الله لخلقه تقتضي أن يكون مختلطا بهم أو حالا في أمكنتهم، فضلا عن أن تستلزم ذلك، ولا يقول ذلك إلا جاهل باللغة، جاهل بعظمة الرب جل وعلا.
فإذا تبين بطلان هذا القول تعين أن يكون الحق هو القول الثاني، وهو أن الله تعالى مع خلقه معية تقتضي أن يكون محيطا بهم، علما، وقدرة، وسمعا وبصرا وتدبيرا وسلطانا، وغير ذلك مما تقتضيه ربوبيته مع علوه على عرشه فوق جميع خلقه.
وهذا هو ظاهر الآيتين بلا ريب، لأنهما حق، ولا يكون ظاهر الحق إلا حقا، ولا يمكن أن يكون الباطل ظاهر القرآن أبدا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتوى الحموية ص103جـ5 من مجموع الفتاوى لابن قاسم: ثم هذه المعية تختلف أحكامها بحسب الموارد فلما قال: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} . إلى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} . دل ظاهر الخطاب على أن حكم هذه المعية ومقتضاها أنه مطلع عليكم، شهيد عليكم، ومهيمن عالم بكم، وهذا معنى قول السلف: إنه معهم بعلمه (1) . وهذا ظاهر الخطاب وحقيقته. وكذلك في قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} . إلى قوله: {هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} . الآية.
ولما قال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لصاحبه في الغار: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} .
__________
(1) كان هذا معنى قول السلف إنه معهم بعلمه لأنه إذا كان معلوماً أن الله تعالى معنا مع علوه لم يبق إلا أن يكون مقتضى هذه المعية أنه تعالى عالم بنا مطلع شهيد مهيمن لا أنه معنا بذاته في الأرض.
(3/314)
كان هذا أيضا حقا على ظاهره، ودلت الحال على أن حكم هذه المعية هنا معية الاطلاع والنصر والتأييد.
ثم قال: فلفظ المعية قد استعمل في الكتاب والسنة في مواضع، يقتضي في كل موضع أمورا لا يقتضيها في الموضع الآخر. فإما أن تختلف دلالتها بحسب المواضع، أو تدل على قدر مشترك بين جميع مواردها، وإن امتاز كل موضع بخاصية فعلى التقديرين ليس مقتضاها أن تكون ذات الرب - عز وجل - مختلطة بالخلق حتى يقال:قد صرفت عن ظاهرها ا. هـ.
ويدل على أنه ليس مقتضاها أن تكون ذات الرب - عز وجل - مختلطة بالخلق أن الله تعالى ذكرها في آية المجادلة بين ذكر عموم علمه في أول الآية وآخرها فقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . .
فيكون ظاهر الآية أن مقتضى هذه المعيّة علمه بعباده، وأنه لا يخفى عليه شيء من أعمالهم لا أنه سبحانه مختلط بهم، ولا أنه معهم في الأرض.
أما في آية الحديد، فقد ذكرها الله تعالى مسبوقة بذكر استوائه على عرشه وعموم علمه متلوة ببيان أنه بصير بما يعمل العباد فقال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} .
(3/315)
فيكون ظاهر الآية أن مقتضى هذه المعية علمه بعباده وبصره بأعمالهم مع علوه عليهم واستوائه على عرشه لا أنه سبحانه مختلط بهم ولا أنه معهم في الأرض وإلا لكان آخر الآية مناقضا لأولها الدّالّ على علوه واستوائه على عرشه.
فإذا تبين ذلك علمنا أن مقتضى كونه تعالى مع عباده أنه يعلم أحوالهم، ويسمع أقوالهم، ويرى أفعالهم، ويدبّر شئونهم، فيحيي، ويُميت، ويغني، ويُفقر، ويُؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء إلى غير ذلك مما تقتضيه ربوبيته وكمال سلطانه لا يحجبه عن خلقه شيء، ومن كان هذا شأنه فهو مع خلقه حقيقة، ولو كان فوقهم على عرشه حقيقة (1)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية ص142جـ3 من مجموع الفتاوى لابن قاسم في فصل الكلام على المعية قال: "وكل هذا الكلام الذي ذكره الله سبحانه من أنه فوق العرش وأنه معنا حق على حقيقته لا يحتاج إلى تحريف ولكن يصان عن الظنون الكاذبة". ا. هـ.
وقال في الفتوى الحموية ص102، 103جـ5 من المجموع المذكور: وجِماع الأمر في ذلك أن الكتاب والسنة يحصل منهما كمال الهدى والنور لمن تدبر كتاب الله وسنة نبيه، وقصد اتباع الحق، وأعرض عن تحريف الكلم عن مواضعه والإلحاد في أسماء الله وآياته.
ولا يحسب الحاسب أن شيئا من ذلك يناقض بعضه بعضا البتة مثل أن يقول القائل: ما في الكتاب والسنة من أن الله فوق العرش يخالفه الظاهر من قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ} . وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا»
__________
(1) وقد سبق أن المعية في اللغة العربية لا تستلزم الاختلاط أو المصاحبة في المكان..
(3/316)
«قام أحدكم إلى الصلاة فإنّ الله قبل وجهه» ونحو ذلك فإن هذا غلط.
وذلك أن الله معنا حقيقة، وهو فوق العرش حقيقة، كما جمع الله بينهما في قوله سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} . .
فأخبر أنه فوق العرش، يعلم كل شيء، وهو معنا أينما كنا كما قال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في حديث الأوعال: «والله فوق العرش وهو يعلم ما أنتم عليه» . ا. هـ.
واعلم أن تفسير المعية بظاهرها على الحقيقة اللائقة بالله تعالى لا يناقض ما ثبت من علو الله تعالى بذاته على عرشه وذلك من وجوه ثلاثة:
الأول: أن الله تعالى جمع بينهما لنفسه في كتابه المبين المنزه عن التناقض وما جمع الله بينهما في كتابه فلا تناقض بينهما.
وكل شيء في القرآن تظن فيه التناقض فيما يبدو لك فتدبّره حتى يتبين لك؛ لقوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} . . فإن لم يتبين لك فعليك بطريق الراسخين في العلم الذين يقولون: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} . وكل الأمر إلى منزله الذي يعلمه، واعلم أن القصور في علمك، أوفي فهمك وأن القرآن لا تناقض فيه.
وإلى هذا الوجه أشار شيخ الإسلام في قوله فيما سبق: "كما جمع الله بينهما".
(3/317)
وكذلك ابن القيم كما في مختصر الصواعق لابن الموصلي ص410ط الإمام في سياق كلامه على المثال التاسع مما قيل: إنه مجاز قال: "وقد أخبر الله أنه مع خلقه مع كونه مستويا على عرشه، وقرن بين الأمرين، كما قال تعالى: وذكر آية سورة الحديد، ثم قال: فأخبر أنه خلق السماوات والأرض، وأنه استوى على عرشه، وأنه مع خلقه يبصر أعمالهم من فوق عرشه، كما في حديث الأوعال: «والله فوق العرش يرى ما أنتم عليه» فعلوه لا يناقض معيته، ومعيته لا تبطل علوه بل كلاهما حق". ا. هـ.
الوجه الثاني: أن حقيقة معنى المعية لا يناقض العلو، فالاجتماع بينهما ممكن في حق المخلوق، فإنه يقال: ما زلنا نسير والقمر معنا. ولا يعد ذلك تناقضا، ولا يفهم منه أحد أن القمر نزل في الأرض، فإذا كان هذا ممكنا في حق المخلوق ففي حق الخالق المحيط بكل شيء مع علوه سبحانه من باب أولى، وذلك لأن حقيقة المعية لا تستلزم الاجتماع في المكان.
وإلى هذا الوجه أشار شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتوى الحموية ص103 المجلد الخامس من مجموع الفتاوى لابن قاسم حيث قال: وذلك أن كلمة (مع) في اللغة إذا أطلقت فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة من غير وجوب مماسة أو محاذاة عن يمين أو شمال، فإذا قيدت بمعنى من المعاني دلت على المقارنة في ذلك المعنى، فإنه يقال: ما زلنا نسير والقمر معنا أو والنجم معنا، ويقال: هذا المتاع معي لمجامعته لك، وإن كان فوق رأسك فالله مع خلقه حقيقة وهو فوق عرشه حقيقة. أ. هـ.
وصدق رحمه الله تعالى فإن من كان عالما بك مُطَّلعا عليك، مهيمنا عليك، يسمع ما تقول، ويرى ما تفعل، ويدبر جميع أمورك، فهو معك حقيقة، وإن كان فوق عرشه حقيقة؛ لأن المعية لا تستلزم الاجتماع في المكان.
الوجه الثالث: أنه لو فرض امتناع اجتماع المعية والعلو في حق
(3/318)
المخلوق لم يلزم أن يكون ذلك ممتنعا في حقّ الخالق الذي جمع لنفسه بينهما؛ لأن الله تعالى لا يماثله شيء من مخلوقاته كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . .
وإلى هذا الوجه أشار شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية ص143جـ3 من مجموع الفتاوى حيث قال: وما ذكر في الكتاب والسنة من قربه ومعيته لا ينافي ما ذكر من علوه وفوقيته، فإنه سبحانه ليس كمثله شيء في جميع نعوته وهو علي في دنوه قريب في علوه. ا. هـ.
(تتمة) انقسم الناس في معيّة الله تعالى لخلقه ثلاثة أقسام:
القسم الأول: يقولون: إن معيّة الله لخلقه مقتضاها العلم والإحاطة في المعية العامة ومع النصر والتأييد في المعية الخاصة مع ثبوت علوه بذاته واستوائه على عرشه.
وهؤلاء هم السلف ومذهبهم هو الحق كما سبق تقريره.
القسم الثاني: يقولون: إن معية الله لخلقه مقتضاها أن يكون معهم في الأرض مع نفي علوه واستوائه على عرشه.
وهؤلاء هم الحلولية من قدماء الجهمية وغيرهم، ومذهبهم باطل منكر، أجمع السلف على بطلانه وإنكاره كما سبق.
القسم الثالث: يقولون: إن معية الله لخلقه مقتضاها أن يكون معهم في الأرض مع ثبوت علوه فوق عرشه. ذكر هذا شيخ الإسلام ابن تيمية ص229جـ5 من مجموع الفتاوى.
وقد زعم هؤلاء أنهم أخذوا بظاهر النصوص في المعية والعلو. وكذبوا في ذلك فضلوا، فإن نصوص المعية لا تقتضي ما ادعوه من الحلول؛ لأنه باطل ولا يمكن أن يكون ظاهر كلام الله ورسوله باطلا.
(تنبيه) اعلم أن تفسير السلف لمعية الله تعالى لخلقه بأنه معهم بعلمه
(3/319)
لا يقتضي الاقتصار على العلم بل المعية تقتضي أيضا إحاطته بهم سمعا وبصرا وقدرة وتدبيرا ونحو ذلك من معاني ربوبيته.
(تنبيه آخر) أشرت فيما سبق إلى أن علو الله تعالى ثابت بالكتاب، والسُنة والعقل، والفطرة، والإجماع.
أما الكتاب فقد تنوعت دلالته على ذلك:
فتارة بلفظ العلو، والفوقية، والاستواء على العرش، وكونه في السماء كقوله تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} . {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} . {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} . . {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} .
وتارة بلفظ صعود الأشياء، وعروجها، ورفعها إليه، كقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} . . {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} . {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} .
وتارة بلفظ نزول الأشياء منه ونحو ذلك كقوله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} . . {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ} . .
وأما السنة فقد دلت عليه بأنواعها القولية، والفعلية، والإقرارية، في أحاديث كثيرة، تبلغ حد التواتر، وعلى وجوه متنوعة، كقوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في سجوده: «سبحان ربي الأعلى» . وقوله: «إن الله لما قضى»
(3/320)
«الخلق كتب عنده فوق عرشه إنّ رحمتي سبقت غضبي» . وقوله: «ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء» .
وثبت عنه أنه رفع يديه وهو على المنبر يوم الجمعة يقول: «اللهم أغثنا» . وأنه رفع يده إلى السماء وهو يخطب الناس يوم عرفة حين قالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت فقال: «اللهم اشهد» . وأنه «قال للجارية: (أين الله) قالت: في السماء فأقرها وقال لسيدها: (أعتقها فإنها مؤمنة) .»
وأما العقل فقد دل على وجوب صفة الكمال لله تعالى وتنزيهه عن النقص. والعلو صفة كمال والسفل نقص، فوجب لله تعالى صفة العلو وتنزيهه عن ضده.
وأما الفطرة: فقد دلت على علو الله تعالى دلالة ضرورية فطرية فما من داع أو خائف فزع إلى ربه تعالى إلا وجد في قلبه ضرورة الاتجاه نحو العلو لا يلتفت عن ذلك يُمْنَةً ولا يُسْرَةً.
واسأل المصلين، يقول الواحد منهم في سجوده، "سبحان ربي الأعلى" أين تتجه قلوبهم حينذاك؟
وأما الإجماع فقد أجمع الصحابة والتابعون والأئمة على أن الله تعالى فوق سماواته مستوٍ على عرشه، وكلامهم مشهور في ذلك نصّا وظاهرا، قال الأوزاعي: "كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله تعالى ذكره فوق عرشه ونؤمن بما جاءت به السنة من الصفات". وقد نقل الإجماع على ذلك غير واحد من أهل العلم ومحال أن يقع في ذلك خلاف وقد تطابقت عليه هذه الأدلة العظيمة التي لا يخالفها إلا مكابر طمس على قلبه واجتالته الشياطين عن فطرته نسأل الله تعالى السلامة والعافية.
فعلو الله تعالى بذاته وصفاته من أبين الأشياء وأظهرها دليلا وأحق الأشياء وأثبتها واقعا.
(تنبيه ثالث) اعلم أيها القارئ الكريم، أنه صدر مني كتابة لبعض
(3/321)
الطلبة تتضمن ما قلته في بعض المجالس في معية الله تعالى لخلقه ذكرت فيها: أن عقيدتنا أن لله تعالى معية حقيقية ذاتية تليق به، وتقتضي إحاطته بكل شيء علما، وقدرة، وسمعا، وبصرا، وسلطانا، وتدبيرا، وأنه سبحانه منزّه أن يكون مختلطا بالخلق أو حالا في أمكنتهم، بل هو العلي بذاته وصفاته، وعلوه من صفاته الذاتية التي لا ينفك عنها وأنه مستو على عرشه كما يليق بجلاله، وأن ذلك لا ينافي معيته لأنه تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . .
وأردت بقولي: "ذاتية" توكيد حقيقة معيته تبارك وتعالى.
وما أردت أنه مع خلقه سبحانه في الأرض، كيف وقد قلت في نفس هذه الكتابة كما ترى: إنه سبحانه منزّه أن يكون مختلطا بالخلق أو حالا في أمكنتهم، وأنه العلي بذاته وصفاته، وأن علوه من صفاته الذاتية التي لا ينفك عنها، وقلت فيها أيضا ما نصه بالحرف الواحد:
"ونرى أن من زعم أن الله بذاته في كل مكان فهو كافر أو ضال إن اعتقده، وكاذب إن نسبه إلى غيره من سلف الأمة أو أئمتها" ا. هـ.
ولا يمكن لعاقل عرف الله وقدره حق قدره أن يقول: إن الله مع خلقه في الأرض وما زلت ولا أزال أنكر هذا القول في كل مجلس من مجالسي جرى فيه ذكره. وأسأل الله تعالى أن يثبتني وإخواني المسلمين بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
هذا وقد كتبت بعد ذلك مقالا نشر في مجلة (الدّعوة) التي تصدر في الرياض نشر يوم الاثنين الرابع من شهر محرم سنة 1404 هـ برقم 911 قررت فيه ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى من أن معية الله تعالى لخلقه حق على حقيقتها، وأن ذلك لا يقتضي الحلول والاختلاط
(3/322)
بالخلق، فضلا عن أن يستلزمه، ورأيت من الواجب استبعاد كلمة "ذاتية". وبينت أوجه الجمع بين علو الله تعالى وحقيقة المعية.
واعلم أن كل كلمة تستلزم كون الله تعالى في الأرض أو اختلاطه بمخلوقاته، أو نفي علوه، أو نفي استوائه على عرشه، أو غير ذلك مما لا يليق به تعالى، فإنها كلمة باطلة، يجب إنكارها على قائلها كائنا من كان وبأي لفظ كانت.
وكل كلام يوهم -ولو عند بعض الناس- ما لا يليق بالله تعالى فإن الواجب تجنبه لئلا يظن بالله تعالى ظن السوء، لكن ما أثبته الله تعالى لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فالواجب إثباته وبيان بطلان وهم من توهم فيه ما لا يليق بالله عز وجل.
* المثالان السابع والثامن، قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} . . وقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ} . . حيث فسر القرب فيهما بقرب الملائكة.
والجواب: أن تفسير القرب فيهما بقرب الملائكة ليس صرفا للكلام عن ظاهره لمن تدبره.
أما الآية الأولى: فإن القرب مقيد فيها بما يدل على ذلك، حيث قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} . . ففي قوله: إذ يتلقى دليل على أن المراد به قرب الملكين المتلقيين.
وأما الآية الثانية: فإن القرب فيها مقيد بحال الاحتضار، والذي يحضر الميت عند موته هم الملائكة، لقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} . .
(3/323)
ثم إن في قوله: {وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ} . دليلا بينا على أنهم الملائكة، إذ يدل على أن هذا القريب في نفس المكان ولكن لا نبصره، وهذا يعين أن يكون المراد قرب الملائكة لاستحالة ذلك في حق الله تعالى.
بقي أن يقال: فلماذا أضاف الله القرب إليه، وهل جاء نحو هذا التعبير مرادا به الملائكة؟
فالجواب: أضاف الله تعالى قرب ملائكته إليه؛ لأن قربهم بأمره، وهم جنوده ورسله.
وقد جاء نحو هذا التعبير مرادا به الملائكة، كقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} . . فإن المراد به قراءة جبريل القرآن على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مع أن الله تعالى أضاف القراءة إليه، لكن لما كان جبريل يقرؤه على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بأمر الله تعالى صحت إضافة القراءة إليه تعالى. وكذلك جاء في قوله تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} . . وإبراهيم إنما كان يجادل الملائكة الذين هم رسل الله تعالى.
* المثالان التاسع والعاشر: قوله تعالى عن سفينة نوح: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} . . وقوله لموسى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} . .
والجواب: أن المعنى في هاتين الآيتين على ظاهر الكلام وحقيقته، لكن ما ظاهر الكلام وحقيقته هنا؟
(3/324)
هل يقال: إن ظاهره وحقيقته أن السفينة تجري في عين الله، أو أن موسى، عليه الصلاة والسلام يربى فوق عين الله تعالى؟!.
أو يقال: إن ظاهره أن السفينة تجري وعين الله ترعاها وتكلؤها وكذلك تربية موسى تكون على عين الله تعالى يرعاه ويكلؤه بها.
ولا ريب أن القول الأول باطل من وجهين:
الأول: أنه لا يقتضيه الكلام بمقتضى الخطاب العربي والقرآن الكريم إنما نزل بلغة العرب قال الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} . . وقال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} . . ولا أحد يفهم من قول القائل: فلان يسير بعيني أن المعنى أنه يسير داخل عينه ولا من قول القائل: فلان تخَرّج على عيني، أن تخرجه كان وهو راكب على عينه، ولو ادعى مدع أن هذا ظاهر اللفظ في هذا الخطاب لضحك منه السفهاء فضلا عن العقلاء.
الثاني: أن هذا ممتنع غاية الامتناع، ولا يمكن لمن عرف الله وقدره حق قدره أن يفهمه في حق الله تعالى؛ لأن الله تعالى مستو على عرشه بائن من خلقه لا يحل فيه شيء من مخلوقاته ولا هو حال في شيء من مخلوقاته، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا.
فإذا تبين بطلان هذا من الناحية اللفظية والمعنوية تعين أن يكون ظاهر الكلام هو القول الثاني أن السفينة تجري وعين الله ترعاها وتكلؤها، وكذلك تربية موسى تكون على عين الله يرعاه ويكلؤه بها. وهذا معنى قول بعض السلف بمرأى مني، فإن الله تعالى إذا كان يكلؤه بعينه لزم من
(3/325)
ذلك أن يراه ولازم المعنى الصحيح جزء منه، كما هو معلوم من دلالة اللفظ حيث تكون بالمطابقة والتضمن والالتزام.
* المثال الحادي عشر: قوله تعالى في الحديث القدسي: «وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه» .
والجواب: أن هذا الحديث صحيح رواه البخاري في باب التواضع الثامن والثلاثين من كتاب الرقاق.
وقد أخذ السلف أهل السنة والجماعة بظاهر الحديث وأجروه على حقيقته.
ولكن ما ظاهر هذا الحديث؟
هل يقال: إن ظاهره أن الله تعالى يكون سمع الولي وبصره ويده ورجله؟
أو يقال: إن ظاهره أن الله تعالى يسدد الولي في سمعه وبصره ويده ورجله، بحيث يكون إدراكه وعمله لله وبالله وفي الله؟
ولا ريب أن القول الأول ليس ظاهر الكلام، بل ولا يقتضيه الكلام لمن تدبر الحديث، فإن في الحديث ما يمنعه من وجهين:
الوجه الأول: أن الله تعالى قال: «وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، وقال: ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه» .
فأثبت عبدا ومعبودا ومتقربا ومتقربا إليه، ومحبا ومحبوبا، وسائلا ومسئولا، ومعطيا ومعطى، ومستعيذا ومستعاذا به، ومعيذا ومعاذا. فسياق الحديث يدل على اثنين متباينين كل واحد منهما غير الآخر، وهذا يمنع أن يكون أحدهما وصفا في الآخر أو جزءا من أجزائه.
(3/326)
الوجه الثاني: أن سمع الوليّ وبصره ويده ورجله كلها أوصاف أو أجزاء في مخلوق حادث بعد أن لم يكن، ولا يمكن لأي عاقل أن يفهم أن الخالق الأول الذي ليس قبله شيء يكون سمعا وبصرا ويدا ورجلا لمخلوق، بل إن هذا المعنى تشمئز منه النفس أن تتصوره، ويحسر اللسان أن ينطق به، ولو على سبيل الفرض والتقدير، فكيف يسوغ أن يقال: إنه ظاهر الحديث القدسي، وإنه قد صرف عن هذا الظاهر، سبحانك اللهم وبحمدك لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.
وإذا تبين بطلان القول الأول وامتناعه تعين القول الثاني، وهو أن الله تعالى يسدد هذا الولي في سمعه وبصره وعمله بحيث يكون إدراكه بسمعه وبصره وعمله بيده ورجله كله لله تعالى إخلاصا وبالله تعالى استعانة، وفي الله تعالى شرعا واتباعا، فيتم له بذلك كمال الإخلاص والاستعانة والمتابعة وهذا غاية التوفيق، وهذا ما فسره به السلف وهو تفسير مطابق لظاهر اللفظ موافق لحقيقته متعين بسياقه، وليس فيه تأويل ولا صرف للكلام عن ظاهره ولله الحمد والمنة.
* المثال الثاني عشر: قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يرويه عن الله تعالى أنه قال: «من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا، ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة» .
وهذا الحديث صحيح رواه مسلم في كتاب الذكر والدعاء من حديث أبي ذر رضي الله عنه، وروى نحوه من حديث أبي هريرة أيضا، وكذلك روى البخاري نحوه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في كتاب التوحيد الباب الخامس عشر.
وهذا الحديث كغيره من النصوص الدالة على قيام الأفعال الاختيارية بالله تعالى، وأنه سبحانه فعال لما يريد كما ثبت ذلك في الكتاب والسنة
(3/327)
مثل قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} . . وقوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} . . وقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} . . وقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} . .
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر» . وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما تصدق أحد بصدقة من طيب -ولا يقبل الله إلا الطيب- إلا أخذها الرحمن بيمينه» . إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على قيام الأفعال الاختيارية به تعالى.
فقوله في هذا الحديث: تقربت منه وأتيته هرولة من هذا الباب.
والسلف "أهل السنة والجماعة" يُجْرُون هذه النصوص على ظاهرها وحقيقة معناها اللائق بالله عز وجل من غير تكييف ولا تمثيل، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في شرح حديث النزول ص466جـ5 من مجموع الفتاوى: وأما دنوه نفسه وتقربه من بعض عباده فهذا يثبته من يثبت قيام الأفعال الاختيارية بنفسه، ومجيئه يوم القيامة ونزوله واستواءه على العرش وهذا مذهب أئمة السلف وأئمة الإسلام المشهورين وأهل الحديث والنقل عنهم بذلك متواتر ا. هـ.
فأي مانع يمنع من القول بأنه يقرب من عبده كيف يشاء مع علوه؟
وأي مانع يمنع من إتيانه كيف يشاء بدون تكييف ولا تمثيل؟
وهل هذا إلا من كماله أن يكون فعالا لما يريد على الوجه الذي يليق به؟
(3/328)
وذهب بعض الناس إلى أن قوله تعالى في هذا الحديث القدسي: «أتيته هرولة» . يراد به سرعة قبول الله تعالى وإقباله على عبده المتقرب إليه المتوجه بقلبه وجوارحه، وأن مجازاة الله للعامل له أكمل من عمل العام.
وعلل ما ذهب إليه بأن الله تعالى قال في الحديث: «ومن أتاني يمشي» ومن المعلوم أن المتقرب إلى الله - عز وجل - الطالب للوصول إليه لا يتقرب، ويطلب الوصول إلى الله تعالى بالمشي فقط، بل تارة يكون بالمشي كالسير إلى المساجد ومشاعر الحج والجهاد في سبيل الله ونحوها، وتارة بالركوع والسجود ونحوهما، وقد ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، بل قد يكون التقرب إلى الله تعالى وطلب الوصول إليه والعبد مضطجع على جنبه، كما قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} . .
وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعمران بن حصين: «صلِّ قائما فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب» .
قال:فإذا كان كذلك صار المراد بالحديث بيان مجازاة الله تعالى العبد على عمله، وأن من صدق في الإقبال على ربه، وإن كان بطيئا جازاه الله تعالى بأكمل من عمله وأفضل. وصار هذا هو ظاهر اللفظ بالقرينة الشرعية المفهومة من سياقه.
وإذا كان هذا ظاهر اللفظ بالقرينة الشرعية، لم يكن تفسيره به خروجا به عن ظاهره ولا تأويلا كتأويل أهل التعطيل، فلا يكون حجة لهم على أهل السنة ولله الحمد.
وما ذهب إليه هذا القائل له حظ من النظر، لكن القول الأول أظهر وأسلم وأليق بمذهب السلف.
ويجاب عما جعله قرينة من كون التقرب إلى الله تعالى وطلب الوصول إليه لا يختص بالمشي بأن الحديث خرج مخرج المثال لا الحصر فيكون المعنى
(3/329)
من أتاني يمشي في عبادة تفتقر إلى المشي لتوقفها عليه بكونه وسيلة لها كالمشي إلى المساجد للصلاة أو من ماهيتها كالطواف والسعي. والله تعالى أعلم.
* المثال الثالث عشر: قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} .
والجواب: أن يقال:ما هو ظاهر هذه الآية وحقيقتها حتى يقال: إنها صرفت عنه؟
هل يقال: إن ظاهرها أن الله تعالى خلق الأنعام بيده كما خلق آدم بيده؟
أو يقال: إن ظاهرها أن الله تعالى خلق الأنعام كما خلق غيرها لم يخلقها بيده، لكن إضافة العمل إلى اليد والمراد صاحبها معروف في اللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم.
أما القول الأول فليس هو ظاهر اللفظ لوجهين:
أحدهما: أن اللفظ لا يقتضيه بمقتضى اللسان العربي الذي نزل به القرآن ألاَ ترى إلى قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} ، وقوله: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} ، وقوله: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} فإن المراد ما كسبه الإنسان نفسه وما قدمه وإن عمله بغير يده، بخلاف ما إذا قال: عملته بيدي كما في قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} فإنه يدل على
(3/330)
مباشرة الشيء باليد.
الثاني: أنه لو كان المراد أن الله تعالى خلق هذه الأنعام بيده لكان لفظ الآية خلقنا لهم بأيدينا أنعاما، كما قال الله تعالى في آدم: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} لأن القرآن نزل بالبيان لا بالتعمية لقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} .
وإذا ظهر بطلان القول الأول تعين أن يكون الصواب هو القول الثاني وهو أن ظاهر اللفظ أن الله تعالى خلق الأنعام كما خلق غيرها ولم يخلقها بيده، لكن إضافة العمل إلى اليد كإضافته إلى النفس بمقتضى اللغة العربية بخلاف ما إذا أضيف إلى النفس وعدي بالباء إلى اليد، فتنبه للفرق فإن التنبه للفروق بين المتشابهات من أجود أنواع العلم، وبه يزول كثير من الإشكالات.
* المثال الرابع عشر: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} .
والجواب: أن يقال: هذه الآية تضمنت جملتين:
الجملة الأولى: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} . وقد أخذ السلف "أهل السنة" بظاهرها وحقيقتها، وهي صريحة في أن الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا يبايعون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نفسه، كما في قوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} .
ولا يمكن لأحد أن يفهم من قوله تعالى: {إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} أنهم
(3/331)
يبايعون الله نفسه ولا أن يدعي أن ذلك ظاهر اللفظ لمنافاته لأول الآية والواقع واستحالته في حق الله تعالى.
وإنما جعل الله تعالى مبايعة الرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مبايعة له؛ لأنه رسوله قد بايع الصحابة على الجهاد في سبيل الله تعالى ومبايعة الرسول على الجهاد في سبيل من أرسله مبايعة لمن أرسله؛ لأنه رسوله المبلغ عنه. كما أن طاعة الرسول طاعة لمن أرسله؛ لقوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} .
وفي إضافة مبايعتهم الرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إلى الله تعالى من تشريف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتأييده وتوكيد هذه المبايعة وعظمها ورفع شأن المبايعين ما هو ظاهر لا يخفى على أحد.
الجملة الثانية: قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} وهذه أيضا على ظاهرها وحقيقتها فإن يد الله تعالى فوق أيدي المبايعين؛ لأن يده من صفاته وهو سبحانه فوقهم على عرشه فكانت يده فوق أيديهم. وهذا ظاهر اللفظ، وحقيقته وهو لتوكيد كون مبايعة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مبايعة له عز وجل ولا يلزم منها أن تكون يد الله جل وعلا مباشرة لأيديهم، ألا ترى أنه يقال: السماء فوقنا مع أنها مباينة لنا بعيدة عنا. فيد الله عز وجل فوق أيدي المبايعين لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع مباينته تعالى لخلقه وعلوه عليهم.
ولا يمكن لأحد أن يفهم أن المراد بقوله: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} يد النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا أن يدعي أن ذلك ظاهر اللفظ؛ لأن الله تعالى أضاف اليد إلى نفسه، ووصفها بأنها فوق أيديهم. ويد النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عند مبايعة الصحابة لم تكن فوق أيديهم، بل كان يبسطها
(3/332)
إليهم، فيمسك بأيديهم كالمصافح لهم، فيده مع أيديهم لا فوق أيديهم.
* المثال الخامس عشر: قوله تعالى في الحديث القدسي: «يابن آدم مرضت فلم تعدني» . الحديث.
وهذا الحديث رواه مسلم في باب فضل عيادة المريض من كتاب البر والصلة والآداب رقم 43 ص 1990 ترتيب محمد فؤاد عبد الباقي، رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله تعالى يقول يوم القيامة: يابن آدم مرضت فلم تعدني، قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ ! قال: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟! يابن آدم استطعمتك فلم تطعمني، قال: يا رب وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي، يابن آدم استسقيتك فلم تسقني، قال: يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي» .
والجواب: أن السلف أخذوا بهذا الحديث ولم يصرفوه عن ظاهره بتحريف يتخبطون فيه بأهوائهم وإنما فسروه بما فسره به المتكلم به، فقوله تعالى في الحديث القدسي: «مرضت واستطعمتك واستسقيتك» بينه الله تعالى بنفسه حيث قال: «أما علمت أن عبدي فلانا مرض وأنه استطعمك عبدي فلان. واستسقاك عبدي فلان» وهو صريح في أن المراد به مرض عبد من عباد الله واستطعام عبد من عباد الله واستسقاء عبد من عباد الله والذي فسره بذلك هو الله المتكلم به، وهو أعلم بمراده، فإذا فسرنا المرض المضاف إلى الله والاستطعام المضاف إليه والاستسقاء المضاف إليه، بمرض العبد واستطعامه واستسقائه لم يكن في ذلك صرف للكلام عن
(3/333)
ظاهره؛ لأن ذلك تفسير المتكلم به، فهو كما لو تكلم بهذا المعنى ابتداء. وإنما أضاف الله ذلك إلى نفسه أولا للترغيب والحث كقوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ} . .
وهذا الحديث من أكبر الحجج الدامغة لأهل التأويل الذين يحرفون نصوص الصفات عن ظاهرها بلا دليل من كتاب الله تعالى ولا من سنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنما يحرفونها بشبه باطلة هم فيها متناقضون مضطربون. إذ لو كان المراد خلاف ظاهرها، كما يقولون، لبينه الله تعالى ورسوله ولو كان ظاهرها ممتنعا على الله -كما زعموا- لبينه الله ورسوله كما في هذا الحديث. ولو كان ظاهرها اللائق بالله ممتنعا على الله لكان في الكتاب والسنة من وصف الله تعالى بما يمتنع عليه ما لا يحصى إلا بكلفة وهذا من أكبر المحال.
ولنكتف بهذا القدر من الأمثلة لتكون نبراسا لغيرها، وإلا فالقاعدة عند أهل السنة والجماعة معروفة وهي إجراء آيات الصفات وأحاديثها على ظاهرها من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل.
وقد تقدم الكلام على هذا مستوفى في قواعد نصوص الصفات والحمد لله رب العالمين.
(3/334)
الخاتمة
إذا قال قائل: قد عرفنا بطلان مذهب أهل التأويل في باب الصفات، ومن المعلوم أن الأشاعرة من أهل التأويل لأكثر الصفات، فكيف يكون مذهبهم باطلا وقد قيل: إنهم يمثلون اليوم خمسة وتسعين بالمائة من المسلمين؟!.
وكيف يكون باطلا وقدوتهم في ذلك أبو الحسن الأشعري؟ وكيف يكون باطلا وفيهم فلان وفلان من العلماء المعروفين بالنصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم؟
قلنا:الجواب عن السؤال الأول: أننا لا نسلّم أن تكون نسبة الأشاعرة بهذا القدر بالنسبة لسائر فرق المسلمين، فإن هذه دعوى تحتاج إلى إثبات عن طريق الإحصاء الدقيق.
ثم لو سلمنا أنهم بهذا القدر أو أكثر فإنه لا يقتضي عصمتهم من الخطأ؛ لأن العصمة في إجماع المسلمين لا في الأكثر.
ثم نقول:إن إجماع المسلمين قديما ثابت على خلاف ما كان عليه أهل التأويل، فإن السلف الصالح من صدر هذه الأمة "وهم الصحابة" الذين هم خير القرون والتابعون لهم بإحسان وأئمة الهدى من بعدهم، كانوا مجمعين على إثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله من الأسماء والصفات وإجراء النصوص على ظاهرها اللائق بالله تعالى من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل.
وهم خير القرون بنص الرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإجماعُهم حجة ملزمة،؛ لأنه مقتضى الكتاب والسنة، وقد سبق نقل الإجماع عنهم في القاعدة الرابعة من قواعد نصوص الصفات.
(3/335)
والجواب عن السؤال الثاني: أن أبا الحسن الأشعري وغيره من أئمة المسلمين لا يدّعون لأنفسهم العصمة من الخطأ، بل لم ينالوا الإمامة في الدين إلا حين عرفوا قدر أنفسهم ونزلوها منزلتها وكان في قلوبهم من تعظيم الكتاب والسنة ما استحقوا به أن يكونوا أئمة، قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} . . وقال عن إبراهيم: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . .
ثم إن هؤلاء المتأخرين الذين ينتسبون إليه لم يقتدوا به الاقتداء الذي ينبغي أن يكونوا عليه، وذلك أن أبا الحسن كان له مراحل ثلاث في العقيدة:
المرحلة الأولى - مرحلة الاعتزال: اعتنق مذهب المعتزلة أربعين عاما يقرره ويناظر عليه ثم رجع عنه وصرح بتضليل المعتزلة وبالغ في الرد عليهم. . (1)
المرحلة الثانية: مرحلة بين الاعتزال المحض والسنة المحضة سلك فيها طريق أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب (2) . قال شيخ الإسلام ابن تيمية ص471 من المجلد السادس عشر من مجموع الفتاوى لابن قاسم:
والأشعري وأمثاله برزخ بين السلف والجهمية أخذوا من هؤلاء كلاما صحيحا، ومن هؤلاء أصولا عقلية ظنوها صحيحة وهي فاسدة. ا. هـ.
المرحلة الثالثة: مرحلة اعتناق مذهب أهل السنة والحديث مقتديا بالإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله، كما قرره في كتابه: (الإبانة عن أصول الديانة) وهو من آخر كتبه أو آخرها.
__________
(1) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية ص72جـ4.
(2) مجموع الفتاوى ص556 جـ5.
(3/336)
قال في مقدمته:
(جاءنا -يعني النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بكتاب عزيزٍ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، جمع فيه علم الأولين، وأكمل به الفرائض والدين، فهو صراط الله المستقيم، وحبله المتين، من تمسك به نجا، ومن خالفه ضل وغوى، وفي الجهل تردى وحث الله في كتابه على التمسك بسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقال عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} . . إلى أن قال: فأمرهم بطاعة رسوله كما أمرهم بطاعته ودعاهم إلى التمسك بسنة نبيه، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما أمرهم بالعمل بكتابه، فنبذ كثير ممن غلبت شقوتهم، واستحوذ عليهم الشيطان، سنن نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وراء ظهورهم، وعدلوا إلى أسلاف لهم قلدوهم بدينهم ودانوا بديانتهم، وأبطلوا سنن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورفضوها وأنكروها وجحدوها افتراء منهم على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين.
ثم ذكر - رحمه الله - أصولا من أصول المبتدعة، وأشار إلى بطلانها ثم قال:
فإن قال قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة، والجهمية، والحرورية، والرافضة والمرجئة فعرفونا قولكم الذي به تقولون، وديانتكم التي بها تدينون؟.
قيل له: قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها: التمسك بكتاب ربنا - عز وجل - وبسنة نبينا، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما روي عن الصحابة، والتابعين وأئمة الحديث ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل -نضر الله وجهه ورفع درجته
(3/337)
وأجزل مثوبته- قائلون، ولمن خالف قوله مجانبون؛ لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل) ثم أثنى عليه بما أظهر الله على يده من الحق وذكر ثبوت الصفات، ومسائل في القدر، والشفاعة، وبعض السمعيات، وقرر ذلك بالأدلة النقلية والعقلية.
والمتأخرون الذين ينتسبون إليه، أخذوا بالمرحلة الثانية من مراحل عقيدته، والتزموا طريق التأويل في عامة الصفات، ولم يثبتوا إلا الصفات السبع المذكورة في هذا البيت:
حي عليم قدير والكلام له ... إرادة وكذاك السمع والبصر
على خلاف بينهم وبين أهل السنة في كيفية إثباتها.
ولما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية ما قيل في شأن الأشعرية ص359 من المجلد السادس من مجموع الفتاوى لابن قاسم قال:
ومرادهم الأشعرية الذين ينفون الصفات الخبرية، وأما من قال منهم بكتاب (الإبانة) الذي صنفه الأشعري في آخر عمره ولم يظهر مقالة تناقض ذلك، فهذا يعد من أهل السنة. وقال قبل ذلك في ص310: وأما الأشعرية فعكس هؤلاء وقولهم يستلزم التعطيل، وأنه لا داخل العالم، ولا خارجه وكلامه معنى واحد، ومعنى آية الكرسي وآية الدَّين، والتوراة، والإنجيل واحد، وهذا معلوم الفساد بالضرورة ا. هـ.
وقال تلميذه ابن القيم في النونية ص312 من شرح الهراس ط الإمام:
واعلم بأن طريقهم عكس ال ... طريق المستقيم لمن له عينان
إلى أن قال:
فاعجب لعميان البصائر أبصروا ... كون المقلد صاحب البرهان
ورأوه بالتقليد أولى من سوا ... هـ بغير ما بصر ولا برهان
وعموا عن الوحيين إذ لم يفهموا ... معناهما عجبا لذي الحرمان
(3/338)
وقال، الشيخ محمد أمين الشنقيطي في تفسيره أضواء البيان ص319جـ2 على تفسير آية استواء الله تعالى على عرشه التي في سورة الأعراف: اعلم أنه غلط في هذا خلق لا يحصى كثرة من المتأخرين، فزعموا أن الظاهر المتبادر السابق إلى الفهم من معنى الاستواء واليد مثلا في الآيات القرآنية هو مشابهة صفات الحوادث وقالوا: يجب علينا أن نصرفه عن ظاهره إجماعا، قال: ولا يخفى على أدنى عاقل أن حقيقة معنى هذا القول أن الله وصف نفسه في كتابه بما ظاهره المتبادر منه السابق إلى الفهم الكفر بالله تعالى والقول فيه بما لا يليق به جل وعلا.
والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي قيل له: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} . لم يبين حرفا واحدا من ذلك مع إجماع من يعتد به من العلماء على أنه، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه، وأحرى في العقائد، لا سيما ما ظاهره المتبادر منه الكفر والضلال المبين، حتى جاء هؤلاء الجهلة من المتأخرين فزعموا أن الله أطلق على نفسه الوصف بما ظاهره المتبادر منه لا يليق، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كتم أن ذلك الظاهر المتبادر كفر وضلال يجب صرف اللفظ عنه، وكل هذا من تلقاء أنفسهم من غير اعتماد على كتاب أو سنة، سبحانك هذا بهتان عظيم، ولا يخفى أن هذا القول من أكبر الضلال ومن أعظم الافتراء على الله جل وعلا ورسوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والحق الذي لا يشك فيه أدنى عاقل أن كل وصف وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فالظاهر المتبادر منه السابق إلى فهم من في قلبه شيء من الإيمان هو التنزيه التام عن مشابهة شيء من صفات الحوادث. قال: وهل ينكر عاقل أن السابق إلى الفهم المتبادر لكل
(3/339)
عاقل هو منافاة الخالق للمخلوق في ذاته وجميع صفاته؟ لا والله لا ينكر ذلك إلا مكابر.
والجاهل المفتري الذي يزعم أن ظاهر آيات الصفات لا يليق بالله؛ لأنه كفر وتشبيه، إنما جر إليه ذلك تنجيس قلبه بقذر التشبيه بين الخالق والمخلوق، فأداه شؤم التشبيه إلى نفي صفات الله جل وعلا وعدم الإيمان بها مع أنه جل وعلا هو الذي وصف بها نفسه.
فكان هذا الجاهل مشبّها أولا، ومعطلًا ثانيا فارتكب ما لا يليق بالله ابتداء وانتهاء ولو كان قلبه عارفا بالله كما ينبغي، معظما لله كما ينبغي طاهرا من أقذار التشبيه، لكان المتبادر عنده السابق إلى فهمه أن وصف الله تعالى بالغ من الكمال والجلال ما يقطع أوهام علائق المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين، فيكون قلبه مستعدا للإيمان بصفات الكمال والجلال الثابتة لله في القرآن الكريم والسنة الصحيحة، مع التنزيه التام عن مشابهة صفات الخلق على نحو قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . .ا. هـ كلامه رحمه الله.
والأشعري أبو الحسن - رحمه الله - كان في آخر عمره على مذهب أهل السنة والحديث، وهو إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه في كتابه، أو على لسان رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل.
ومذهب الإنسان ما قاله أخيرا إذا صرح بحصر قوله فيه، كما هي الحال في أبي الحسن كما يعلم من كلامه في الإبانة.
وعلى هذا فتمام تقليده اتباع ما كان عليه أخيرا وهو التزام مذهب أهل الحديث والسنة؛ لأنه المذهب الصحيح الواجب الاتباع الذي التزم به أبو الحسن نفسه.
(3/340)
والجواب عن السؤال الثالث من وجهين:
الأول: أن الحق لا يوزن بالرجال، وإنما يوزن الرجال بالحق، هذا هو الميزان الصحيح، وإن كان لمقام الرجال ومراتبهم أثر في قبول أقوالهم، كما نقبل خبر العدل ونتوقف في خبر الفاسق، لكن ليس هذا هو الميزان في كل حال، فإن الإنسان بشر يفوته من كمال العلم وقوة الفهم ما يفوته، فقد يكون الرجل دينا وذا خلق ولكن يكون ناقص العلم أو ضعيف الفهم فيفوته من الصواب بقدر ما حصل له من النقص والضعف، أو يكون قد نشأ على طريق معين أو مذهب معين لا يكاد يعرف غيره فيظن أن الصواب منحصر فيه ونحو ذلك.
الثاني: أننا إذا قابلنا الرجال الذين على طريق الأشاعرة بالرجال الذين هم على طريق السلف وجدنا في هذه الطريق من هم أجل وأعظم وأهدى وأقوم من الذين على طريق الأشاعرة، فالأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبوعة ليسوا على طريق الأشاعرة.
وإذا ارتقيت إلى من فوقهم من التابعين لم تجدهم على طريق الأشاعرة.
وإذا علوت إلى عصر الصحابة والخلفاء الأربعة الراشدين لم تجد فيهم من حذا حذو الأشاعرة في أسماء الله تعالى وصفاته، وغيرهما مما خرج به الأشاعرة عن طريق السلف.
ونحن لا ننكر أن لبعض العلماء المنتسبين إلى الأشعري قدم صدق في الإسلام والذب عنه، والعناية بكتاب الله تعالى وبسنة رسوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رواية ودراية، والحرص على نفع المسلمين وهدايتهم، ولكن هذا لا يستلزم عصمتهم من الخطأ فيما أخطئوا فيه، ولا قبول قولهم في كل ما قالوه، ولا يمنع من بيان خطئهم ورده لما في ذلك من بيان الحق وهداية الخلق.
(3/341)
ولا ننكر أيضا أن لبعضهم قصدا حسنا فيما ذهب إليه وخفي عليه الحق فيه، ولكن لا يكفي لقبول القول حسن قصد قائله، بل لا بد أن يكون موافقا لشريعة الله - عز وجل - فإن كان مخالفا لها وجب رده على قائله كائنا من كان؛ لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» .
ثم إن كان قائله معروفا بالنصيحة والصدق في طلب الحق اعتذر عنه في هذه المخالفة، وإلا عومل بما يستحقه بسوء قصده ومخالفته.
فإن قال قائل: هل تكفرون أهل التأويل أو تفسقونهم؟
قلنا: الحكم بالتكفير والتفسيق ليس إلينا، بل هو إلى الله تعالى ورسوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو من الأحكام الشرعية التي مردها إلى الكتاب والسنة، فيجب التثبت فيه غاية التثبت فلا يكفر ولا يفسق إلا من دل الكتاب والسنة على كفره أو فسقه.
والأصل في المسلم الظاهر العدالة بقاء إسلامه وبقاء عدالته حتى يتحقق زوال ذلك عنه بمقتضى الدليل الشرعي. ولا يجوز التساهل في تكفيره أو تفسيقه؛ لأن في ذلك محذورين عظيمين:
أحدهما: افتراء الكذب على الله تعالى في الحكم، وعلى المحكوم عليه في الوصف الذي نبزه به.
الثاني: الوقوع فيما نبز به أخاه إن كان سالما منه. ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: «إذا كفر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما» . وفي رواية: «إن كان كما قال وإلا رجعت عليه» . وفيه عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ومن دعا رجلا بالكفر أو قال:عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه» .
(3/342)
وعلى هذا فيجب قبل الحكم على المسلم بكفر أو فسق أن ينظر في أمرين:
أحدهما: دلالة الكتاب أو السنة على أن هذا القول أو الفعل موجب للكفر أو الفسق.
الثاني: انطباق هذا الحكم على القائل المعين أو الفاعل المعين بحيث تتم شروط التكفير أو التفسيق في حقه وتنتفي الموانع.
ومن أهم الشروط أن يكون عالما بمخالفته التي أوجبت أن يكون كافرا أو فاسقا لقوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} . . وقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} . .
ولهذا قال أهل العلم: لا يكفر جاحد الفرائض إذا كان حديث عهد بإسلام حتى يبين له.
ومن الموانع أن يقع ما يوجب الكفر أو الفسق بغير إرادة منه، ولذلك صور:
منها: أن يكره على ذلك فيفعله لداعي الإكراه لا اطمئنانا به، فلا يكفر حينئذ، لقوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} . .
ومنها أن يغلق عليه فكره، فلا يدري ما يقول لشدة فرح أو حزن أو
(3/343)
خوف أو نحو ذلك.
ودليله ما ثبت في صحيح مسلم عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -قال: قال رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه، من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك! أخطأ من شدة الفرح» .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية يرحمه الله ص180جـ12 مجموع الفتاوى لابن قاسم:
وأما التكفير فالصواب أن من اجتهد من أمة محمد، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقصد الحق فأخطأ لم يكفر، بل يغفر له خطؤه ومن تبين له ما جاء به الرسول فشاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى واتبع غير سبيل المؤمنين فهو كافر، ومن اتبع هواه وقصر في طلب الحق وتكلم بلا علم فهو عاص مذنب، ثم قد يكون فاسقا. وقد يكون له حسنات ترجح على سيئاته. ا. هـ.
وقال في ص229جـ3 من المجموع المذكور في كلام له: "هذا مع أني دائما ومن جالسني يعلم ذلك مني، أني من أعظم الناس نهيا عن أن ينسب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية، إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافرا تارة وفاسقا أخرى وعاصيا أخرى، وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية. وما زال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل، ولم يشهد أحد منهم على أحد لا بكفر ولا بفسق ولا بمعصية. وذكر أمثلة ثم قال:
(3/344)
وكنت أبين أن ما نقل عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا فهو أيضا حق، لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين، إلى أن قال:
والتكفير هو من الوعيد، فإنه وإن كان القول تكذيبا لما قاله الرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكن قد يكون الرجل حديث عهد بإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة، وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص أو سمعها، ولم تثبت عنده أو عارضها عنده معارض آخر، أوجب تأويلها وإن كان مخطئا.
وكنت دائما أذكر الحديث الذي في الصحيحين في الرجل الذي قال: «إذا أنا مت فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذروني في اليم فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا من العالمين. ففعلوا به ذلك فقال الله: ما حملك على ما فعلت؟ قال: خشيتك فغفر له» .
فهذا رجل شك في قدرة الله وفي إعادته إذا ذرى، بل اعتقد أنه لا يعاد وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلا لا يعلم ذلك، وكان مؤمنا يخاف الله أن يعاقبه فغفر له بذلك.
والمتأول من أهل الاجتهاد الحريص على متابعة الرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أولى بالمغفرة من مثل هذا. ا. هـ.
وبهذا علم الفرق بين القول والقائل، وبين الفعل والفاعل، فليس كل قول أو فعل يكون فسقا أو كفرا يحكم على قائله أو فاعله بذلك، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ص165جـ35 من مجموع الفتاوى:وأصل ذلك أن المقالة التي هي كفر بالكتاب والسنة والإجماع، يقال:هي كفر قولا يطلق، كما دلت على ذلك الدلائل الشرعية، فإن الإيمان من الأحكام المتلقاة عن الله ورسوله، ليس ذلك مما يحكم فيه الناس بظنونهم وأهوائهم، ولا يجب أن يحكم في كل شخص قال ذلك بأنه كافر حتى يثبت
(3/345)
في حقه شروط التكفير وتنتفي موانعه مثل من قال: إن الخمر أو الربا حلال لقرب عهده بالإسلام، أو لنشوئه في بادية، بعيدة أو سمع كلاما أنكره ولم يعتقد أنه من القرآن الكريم ولا أنه من أحاديث رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما كان بعض السلف ينكر أشياء حتى يثبت عنده أن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالها. إلى أن قال: فإن هؤلاء لا يكفرون حتى تقوم عليهم الحجة بالرسالة كما قال الله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} . وقد عفا الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان". ا. هـ كلامه.
ولهذا علم أن المقالة أو الفعلة قد تكون كفرا أو فسقا ولا يلزم من ذلك أن يكون القائم بها كافرا أو فاسقا، إما لانتفاء شرط التكفير أو التفسيق أو وجود مانع شرعي يمنع منه. ومن تبين له الحق فأصر على مخالفته تبعا لاعتقاد كان يعتقده أو متبوع كان يعظمه، أو دنيا كان يؤثرها، فإنه يستحق ما تقتضيه تلك المخالفة من كفر أو فسوق.
فعلى المؤمن أن يبني معتقده وعمله على كتاب الله تعالى وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيجعلهما إماما له يستضيء بنورهما، ويسير على منهاجهما، فإن ذلك هو الصراط المستقيم الذي أمر الله تعالى به في قوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} . .
وليحذر ما يسلكه بعض الناس من كونه يبني معتقده أو عمله على مذهب معين، فإذا رأى نصوص الكتاب والسنة على خلافه حاول صرف هذه النصوص إلى ما يوافق ذلك المذهب على وجوه متعسفة، فيجعل الكتاب والسنة تابعين لا متبوعين وما سواهما إماما لا تابعا! وهذه طريق من طرق أصحاب الهوى. لا أتباع الهدى وقد ذم الله هذه الطريق في
(3/346)
قوله: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} . .
والناظر في مسالك الناس في هذا الباب يرى العجب العجاب. ويعرف شدة افتقاره إلى اللجوء إلى ربه في سؤال الهداية والثبات على الحق والاستعاذة من الضلال والانحراف.
ومن سأل الله تعالى بصدق وافتقار إليه عالما بغنى ربه عنه وافتقاره هو إلى ربه، هو حري أن يتستجيب الله تعالى له سؤله يقول الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} . .
فنسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن رأى الحق حقّا واتبعه، ورأى الباطل باطلا واجتنبه. وأن يجعلنا هداة مهتدين، وصلحاء مصلحين، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ويهب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب. والحمد لله رب العالمين الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على نبي الرحمة وهادي الأمة إلى صراط العزيز الحميد بإذن ربهم وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
تم في اليوم الخامس عشر من شهر شوال سنة 1404هـ
بقلم مؤلفه الفقير إلى الله
محمد الصالح العثيمين
(3/347)
بسم الله الرحمن الرحيم
نص الكلمة التي نشرناها في مجلة الدعوة السعودية
في عدد 911 الصادر يوم الاثنين الموافق 4\1\1404هـ
الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما.
أما بعد:
فقد كنا تكلمنا في بعض مجالسنا على معنى معية الله تعالى لخلقه، ففهم بعض الناس من ذلك ما ليس بمقصود لنا ولا معتقد لنا؛ فكثر سؤال الناس وتساؤلهم ماذا يقال في معية الله لخلقه؟
وإننا:
أ - لئلا يعتقد مخطئ أو خاطئ في معية الله ما لا يليق به.
ب - ولئلا يتقول علينا متقول ما لم نقله، أو يتوهم واهم فيما نقوله ما لم نقصده.
ج - ولبيان معنى هذه الصفة العظيمة التي وصف الله بها نفسه في عدة آيات من القرآن الكريم ووصفه بها نبيه محمد، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
نقرر ما يأتي:
أولا: معية الله تعالى لخلقه ثابتة بالكتاب والسنة، وإجماع السلف
(3/349)
قال الله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} . . وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} . . وقال تعالى لموسى وهارون حين أرسلهما إلى فرعون: {لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} . . وقال عن رسوله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} . .
وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيثما كنت» . حسنه شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية وضعفه بعض أهل العلم وسبق قريبا ما قاله الله تعالى عن نبيه من إثبات المعية له.
وقد أجمع السلف على إثبات معية الله تعالى لخلقه.
ثانيا: هذه المعية حق على حقيقتها، لكنها معية تليق بالله تعالى ولا تشبه معية أي مخلوق لمخلوق؛ لقوله تعالى عن نفسه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . . وقوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} . . وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} . . وكسائر صفاته الثابتة له حقيقة على وجه يليق به ولا تشبه صفات المخلوقين.
قال ابن عبد البر: أهل السنة مجمعون على الصفات الواردة كلها في القرآن الكريم والسنة والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئا من ذلك ولا يحدون فيه صفة محدودة". ا. هـ.
(3/350)
نقله عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتوى الحموية ص87 من المجلد الخامس من مجموع الفتاوى لابن قاسم.
وقال شيخ الإسلام في هذه الفتوى ص102 من المجلد المذكور: ولا يحسب الحاسب أن شيئا من ذلك يعني مما جاء في الكتاب والسنة يناقض بعضه بعضا ألبتة، مثل أن يقول القائل: ما في الكتاب والسنة من أن الله فوق العرش يخالفه الظاهر من قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} . . وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الله قبل وجهه» . ونحو ذلك فإن هذا غلط وذلك أن الله معنا حقيقة، وهو فوق العرش حقيقة كما جمع الله بينهما في قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} . . فأخبر أنه فوق العرش يعلم كل شيء وهو معنا أينما كنا، كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في حديث الأوعال: «والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه» .
وذلك أن كلمة "مع" في اللغة إذا أطلقت فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة من غير وجوب مماسة أو محاذاة عن يمين أو شمال، فإذا قيدت بمعنى من المعاني دلت على المقارنة في ذلك المعنى، فإنه يقال: ما زلنا نسير والقمر معنا أو والنجم معنا، ويقال هذا المتاع معي لمجامعته لك، وإن كان فوق رأسك فالله مع خلقه حقيقة وهو فوق عرشه حقيقة، ا. هـ كلامه.
ثالثا: هذه المعية تقتضي الإحاطة بالخلق علما وقدرة، وسمعا وبصرا وسلطانا وتدبيرا وغير ذلك من معاني ربوبيته إن كانت المعية عامة لم تخص
(3/351)
بشخص أو صف كقوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} . . وقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} . .
فإن خصت بشخص أو وصف اقتضت مع ذلك النصر والتأييد والتوفيق والتسديد.
مثال المخصوصة بشخص قوله تعالى لموسى وهارون: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} . . وقوله عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} . .
ومثال المخصوصة بوصف قوله تعالى: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} . . وأمثاله في القرآن الكريم كثيرة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتوى الحموية ص103 من المجلد الخامس من مجموع الفتاوى لابن قاسم قال: ثم هذه المعية تختلف أحكامها بحسب الموارد. فلما قال: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} . إلى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} . دل ظاهر الخطاب على أن حكم هذه المعية ومقتضاها أنه مطلع عليكم، شهيد عليكم، ومهيمن عالم بكم، وهذا معنى قول السلف: إنه معهم بعلمه وهذا ظاهر الخطاب وحقيقته. قال: ولما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لصاحبه في الغار: لا تحزن إن الله معنا، كان هذا أيضا حقا على ظاهره، ودلت الحال على أن حكم هذه المعية هنا معية الاطلاع والنصر والتأييد، وكذلك قوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} . .
(3/352)
وكذلك قوله لموسى وهارون: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} . . هنا المعية على ظاهرها وحكمها في هذه المواطن النصر والتأييد.
إلى أن قال: ففرق بين معنى المعية ومقتضاها، وربما صار مقتضاها من معناها فيختلف باختلاف المواضع. ا. هـ.
وقال محمد بن الموصلي في كتاب (استعجال الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة) لابن القيم في المثال التاسع ص409ط الإمام: وغاية ما تدل عليه "مع" المصاحبة والموافقة والمقارنة في أمر من الأمور، وهذا الاقتران في كل موضع بحسبه ويلزمه لوازم بحسب متعلقه، فإذا قيل: الله مع خلقه بطريق العموم كان من لوازم ذلك علمه بهم وتدبيره لهم وقدرته عليهم وإذا كان ذلك خاصا، كقوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} . كان من لوازم ذلك معيته لهم بالنصرة والتأييد والمعونة.
فمعية الله تعالى مع عبده نوعان: عامة وخاصة، وقد اشتمل القرآن الكريم على النوعين، وليس ذلك بطريق الاشتراك اللفظي، بل حقيقتها ما تقدم من الصحبة اللائقة. ا. هـ.
وذكر ابن رجب في شرح الحديث التاسع والعشرين من الأربعين النووية: أن المعية الخاصة تقتضي النصر والتأييد والحفظ والإعانة، وأن العامة تقتضي علمه واطلاعه ومراقبته لأعمالهم.
وقال ابن كثير في تفسير آية المعية في سورة المجادلة: ولهذا حكى غير واحد الإجماع على أن المراد بهذه المعية معية علمه قال: ولا شك في إرادة ذلك، ولكن سمعه أيضا مع علمه بهم وبصره نافذ فيهم فهو سبحانه مطلع على خلقه لا يغيب عنه من أمورهم شيء. ا. هـ.
(3/353)
رابعا: هذه المعية لا تقتضي أن يكون الله تعالى مختلطا بالخلق أو حالا في أمكنتهم ولا تدل على ذلك بوجه من الوجوه؛ لأن هذا معنى باطل مستحيل على الله عز وجل ولا يمكن أن يكون معنى كلام الله ورسوله شيئا مستحيلا باطلا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية ص 115 ط ثالثة من شرح محمد خليل الهراس: وليس معنى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ} أنه مختلط بالخلق، فإن هذا لا توجبه اللغةِ، بل القمر آية من آيات الله تعالى من أصغر مخلوقاته، وهو موضوع في السماء، وهو مع المسافر وغير المسافر أينما كان. ا. هـ.
ولم يذهب إلى هذا المعنى الباطل إلا الحلولية من قدماء الجهمية وغيرهم الذين قالوا: إن الله بذاته في كل مكان. تعالى الله عن قولهم علوّا كبيرا. وكبرت كلمة تخرج من أفواهم، إن يقولون إلا كذبا.
وقد أنكر قولهم هذا من أدركه من السلف والأئمة، لما يلزم عليه من اللوازم الباطلة المتضمنة لوصفه تعالى بالنقائص وإنكار علوه على خلقه.
وكيف يمكن أن يقول قائل: إن الله تعالى بذاته في كل مكان أو إنه مختلط بالخلق وهو سبحانه قد " {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} "؟
خامسا: هذه المعية لا تناقض ما ثبت لله تعالى من علوه على خلقه، واستوائه على عرشه، فإن الله تعالى قد ثبت له العلو المطلق: علو الذات وعلو الصفة، قال الله تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} . . وقال تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} . . وقال تعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . .
(3/354)
وقد تضافرت الأدلة من الكتاب والسنة، والإجماع والعقل، والفطرة على علو الله تعالى.
أما أدلة الكتاب والسنة فلا تكاد تحصر. مثل قوله تعالى: {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} . . وقوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} . . وقوله: {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} . . وقوله: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} . . وقوله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} . . إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.
ومثل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء» . وقوله: «والعرش فوق الماء والله فوق العرش» . وقوله: «ولا يصعد إلى الله إلا الطيب» .
ومثل إشارته إلى السماء يوم عرفة. يقول: «اللهم اشهد» ، يعني على الصحابة حين أقروا أنه بلّغ.
ومثل «إقراره الجارية حين سألها أين الله؟ قالت في السماء، قال: أعتقها فإنها مؤمنة» .
إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة.
وأما الإجماع فقد نقل إجماع السلف على علو الله تعالى غير واحد من أهل العلم.
وأما دلالة العقل على علو الله تعالى فلأن العلو صفة كمال والسفول
(3/355)
صفة نقص، والله تعالى موصوف بالكمال منزه عن النقص.
وأما دلالة الفطرة على علو الله تعالى فإنه ما من داع يدعو ربه إلا وجد من قلبه ضرورة بالاتجاه إلى العلو من غير دراسة كتاب ولا تعليم معلم.
وهذا العلو الثابت لله تعالى بهذه الأدلة القطعية لا يناقض حقيقة المعية وذلك من وجوه:
الأول: أن الله تعالى جمع بينهما لنفسه في كتابه المبين المنزه عن التناقض، ولو كانا متناقضين لم يجمع القرآن الكريم بينهما.
وكل شيء في كتاب الله تعالى تظن فيه التعارض فيما يبدو لك، فأعد النظر فيه مرة بعد أخرى حتى يتبين لك. قال الله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} . .
الثاني: أن اجتماع المعية والعلو ممكن في حق المخلوق. فإنه يقال: ما زلنا نسير والقمر معنا، ولا يعد ذلك تناقضا، ومن المعلوم أن السائرين في الأرض والقمر في السماء، فإذا كان هذا ممكنا في حق المخلوق، فما بالك بالخالق المحيط بكل شيء.
قال الشيخ محمد خليل الهراس ص115 في شرحه العقيدة الواسطية عند قول المؤلف: بل القمر آية من آيات الله تعالى، من أصغر مخلوقاته، وهو مع المسافر وغير المسافر أينما كان قال: وضرب لذلك مثلا بالقمر الذي هو موضوع في السماء، وهو مع المسافر وغيره أينما كان، قال: فإذا جاز هذا في القمر وهو من أصغر مخلوقات الله تعالى، أفلا يجوز بالنسبة إلى اللطيف الخبير الذي أحاط بعباده علما وقدرة، والذي هو شهيد مطلع عليهم يسمعهم ويراهم ويعلم سرهم ونجواهم، بل العالم كله سمواته وأرضه من العرش إلى الفرش بين يديه، كأنه بندقة في يد أحدنا، أفلا يجوز لمن هذا شأنه، أن يقال:إنه مع خلقه مع كونه عاليا عليهم بائنا منهم فوق عرشه؟ . ا. هـ.
(3/356)
الوجه الثالث: أن اجتماع العلو والمعية لو فرض أنه ممتنع في حق المخلوق لم يلزم أن يكون ممتنعا في حق الخالق، فإن الله لا يماثله شيء من خلقه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . . قال شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية ص116ط ثالثة من شرح الهراس: وما ذكر في الكتاب والسنة من قربه ومعيته لا ينافي ما ذكر من علوه وفوقيته، فإنه سبحانه ليس كمثله شيء في جميع نعوته، وهو عليّ في دنوه قريب في علوه. ا. هـ.
وخلاصة القول في هذا الموضوع كما يلي:
1 - أن معية الله تعالى لخلقه ثابتة بالكتاب والسنة وإجماع السلف.
2 - أنها حق على حقيقتها على ما يليق بالله تعالى من غير أن تشبه معية المخلوق للمخلوق.
3 - أنها تقتضي إحاطة الله تعالى بالخلق علما وقدرة، وسمعا وبصرا وسلطانا وتدبيرا، وغير ذلك من معاني ربوبيته، إن كانت المعية عامة، وتقتضي مع ذلك نصرا وتأييدا وتوفيقا وتسديدا إن كانت خاصة.
4 - أنها لا تقتضي أن يكون الله تعالى مختلطا بالخلق، أو حالا في أمكنتهم، ولا تدل على ذلك بوجه من الوجوه.
5 - إذا تدبرنا ما سبق علمنا أنه لا منافاة بين كون الله تعالى مع خلقه حقيقة، وكونه في السماء على عرشه حقيقة. سبحانه وبحمده لا نحصى ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه. وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
حرره الفقير إلى الله تعالى:
محمد الصالح العثيمين في 27\11\1403 هـ
(3/357)
تم بحمد الله تعالى المجلد الثالث
ويليه بمشيئة الله عز وجل المجلد الرابع
(3/358)
فتح رب البرية بتلخيص الحموية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فإن الله تعالى: بعث محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالهدى ودين الحق، رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، وحجة على العباد أجمعين، فأدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وبين للناس جميع ما يحتاجون إليه في أصول دينهم وفروعه، فلم يدع خيراً إلا بينه وحث عليه، ولم يترك شراً إلا حذر الأمة عنه، حتى ترك أمته على المحجة البيضاء، ليلهاكنهارها، فسار عليها أصحابه نيرة مضيئة، وتلقاها عنهم كذلك القرون المفضلة، حتى تجهم الجو بظلمات البدع المتنوعة التي كاد بها مبتدعوها الإسلام وأهله، وصاروا يتخبطون فيها خبط عشواء، ويبنون معتقداتهم على نسج العنكبوت وأوهن. والرب تعالى: يحمي دينه بأوليائه الذين وهبهم من الإيمان، والعلم، والحكمة ما به يصدون هؤلاء الأعداء، ويردون كيدهم في نحورهم فما قام أحد ببدعة إلا قيض الله وله الحمد من أهل السنة من يدحض بدعته، ويبطلها.
وكان في مقدمة القائمين على هؤلاء المبتدعة: شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني، ثم الدمشقي المولود في حران يوم الاثنين الموافق 10 ربيع الأول سنة 661 هجرية والمتوفى محبوساً ظلماً في قلعة دمشق في ذي القعدة سنة 728 هجرية.
وله المؤلفات الكثيرة في بيان السنة، وتوطيد أركانها، وهدم البدع ومما ألفه في هذا الباب رسالة " الفتوى الحموية" التي كتبها جواباً لسؤال ورد عليه في سنة 698 هجرية من " حماة" بلد في الشام يسأل فيه عما يقوله الفقهاء وأئمة الدين في آيات الصفات وأحاديثها؟ فأجاب بجواب يقع في حوالي 83 صفحة وحصل له بذلك محنة، وبلاء فجزاه الله تعالى: عن الإسلام والمسلمين أفضل الجزاء.
ولما كان فهم هذا الجواب والإحاطة به مما يشق على كثير من قرائه أحببت أن ألخص المهم منه مع زيادات تدعو الحاجة إليها وسميته " فتح رب البرية بتلخيص الحموية ".
وقد طبعته لأول مرة في سنة 1380 هجرية، وها أنا أعيد طبعه للمرة الثانية، وربما غيرت ما رأيت من المصلحة تغييره من زيادة أو حذف.
والله أسأل أن يجعل عملنا خالصاً لوجهه ونافعاً لعباده إنه جواد كريم.
(4/13)
الباب الأول: فيما يجب على العبد في دينه
الواجب على العبد في دينه هو اتباع ما قاله الله، وقاله رسوله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والخلفاء الراشدون المهديون من بعده من الصحابة، والتابعين لهم بإحسان، وذلك أن الله بعث محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالبينات، والهدى، وأوجب على جميع الناس أن يؤمنوا به، ويتبعوه ظاهرا وباطنا فقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} .
وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» .
والخلفاء الراشدون هم الذين خلفوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في العلم النافع، والعمل الصالح، وأحق الناس بهذا الوصف هم الصحابة رضي الله عنهم، فإن الله اختارهم لصحبة نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإقامة دينه، ولم يكن الله تعالى- ليختار وهو العليم الحكيم لصحبة نبيه إلا من هم أكمل الناس إيمانا وأرجحهم عقولا، وأقومهم عملا، وأمضاهم عزما، وأهداهم طريقا، فكانوا أحق الناس أن يتبعوا بعد نبيهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن بعدهم أئمة الدين الذين عرفوا بالهدى والصلاح.
(4/14)
الباب الثاني: فيما تضمنته رسالة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بيان الحق
في أصول الدين وفروعه
رسالة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تتضمن شيئين هما: العلم النافع، والعمل الصالح كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} .
فالهدى هو: العلم النافع. ودين الحق هو: العمل الصالح الذي اشتمل على الإخلاص لله، والمتابعة لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والعلم النافع يتضمن كل علم يكون للأمة فيه خير وصلاح في معاشها، ومعادها، وأول ما يدخل في ذلك العلم بأسماء الله وصفاته وأفعاله، فإن العلم بذلك أنفع العلوم. وهو زبدة الرسالة الإلهية، وخلاصة الدعوة النبوية، وبه قوام الدين قولا، وعملا، واعتقادا.
ومن أجل هذا كان من المستحيل أن يهمله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا يبينه بيانا ظاهرا ينفي الشك ويدفع الشبهة، وبيان استحالته من وجوه:
الأول: أن رسالة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت مشتملة على النور والهدى: فإن الله بعثه بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه، وسراجا منيرا، حتى ترك أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، وأعظم النور وأبلغه ما يحصل للقلب بمعرفة الله، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله،
(4/15)
فلا بد أن يكون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد بينه غاية البيان.
الثاني: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علم أمته جميع ما تحتاج إليه من أمور الدين، والدنيا، حتى آداب الأكل، والشرب، والجلوس، والمنام وغير ذلك. قال أبو ذر رضي الله عنه: " لقد توفي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما طائر يقلب جناحيه إلا ذكر لنا منه علما". ولا ريب أن العلم بالله، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، داخل تحت هذه الجملة العامة، بل هو أول ما يدخل فيها لشدة الحاجة إليه.
الثالث: أن الإيمان بالله تعالى، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، هو أساس الدين، وخلاصة دعوة المرسلين، وهو أوجب وأفضل ما اكتسبته القلوب وأدركته العقول، فكيف يهمله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غير تعليم ولا بيان مع أنه كان يعلم ما هو دونه في الأهمية والفضيلة؟!
الرابع: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان أعلم الناس بربه وهو أنصحهم للخلق، وأبلغهم في البيان والفصاحة، فلا يمكن مع هذا المقتضى التام للبيان أن يترك باب الإيمان بالله، وأسمائه، وصفاته، ملتبسا مشتبها.
الخامس: أن الصحابة رضي الله عنهم لا بد أن يكونوا قائلين بالحق في هذا الباب لأن ضد ذلك إما السكوت وإما القول بالباطل، وكلاهما ممتنع عليهم:
أما امتناع السكوت فوجهه أن السكوت إما أن يكون عن جهل منهم بما يحب الله تعالى من الأسماء والصفات وما يجوز عليه منها ويمتنع، وإما أن يكون عن علم منهم بذلك ولكن كتموه، وكل منهما ممتنع:
أما امتناع الجهل: فلأنه لا يمكن لأي قلب فيه حياة، ووعي وطلب للعلم، ونهمة في العبادة إلا أن يكون أكبر همه هو البحث في الإيمان بالله تعالى، ومعرفته بأسمائه وصفاته، وتحقيق ذلك علما واعتقادا، ولا ريب
(4/16)
أن القرون المفضلة وأفضلهم الصحابة هم أبلغ الناس في حياة القلوب، ومحبة الخير، وتحقيق العلوم النافعة، كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» . وهذه الخيرية تعم فضلهم في كل ما يقرب إلى الله من قول، وعمل، واعتقاد.
ثم لو فرضنا أنهم كانوا جاهلين بالحق في هذا الباب لكان جهل من بعدهم من باب أولى، لأن معرفة ما يثبت لله تعالى من الأسماء والصفات، أو ينفى عنه إنما تتلقى من طريق الرسالة، وهم الواسطة بين الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين الأمة، وعلى هذا الفرض يلزم أن لا يكون عند أحد علم في هذا الباب وهذا ظاهر الامتناع.
وأما امتناع كتمان الحق: فلأن كل عاقل منصف عرف حال الصحابة رضي الله عنهم وحرصهم على نشر العلم النافع، وتبليغه الأمة فإنه لن يمكنه أن ينسب إليهم كتمان الحق ولا سيما في أوجب الأمور وهو معرفة الله وأسمائه وصفاته.
ثم إنه قد جاء عنهم من قول الحق في هذا الباب شيء كثير يعرفه من طلبه وتتبعه.
وأما امتناع القول بالباطل عليهم فمن وجهين:
أحدهما: أن القول بالباطل لا يمكن أن يقوم عليه دليل صحيح، ومن المعلوم أن الصحابة رضي الله عنهم أبعد الناس عن القول فيما لم يقم عليه دليل صحيح، خصوصا في أمر الإيمان بالله تعالى، وأمور الغيب فهم أولى الناس بامتثال قوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} . وقوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} .
(4/17)
ثانيهما: أن القول الباطل إما أن يكون مصدره الجهل بالحق، وإما أن يكون مصدره إرادة ضلال الخلق وكلاهما ممتنع في حق الصحابة رضي الله عنهم.
أما امتناع الجهل فقد تقدم بيانه.
وأما امتناع إرادة ضلال الخلق: فلأن إرادة ضلال الخلق قصد سيئ لا يمكن أن يصدر من الصحابة الذين عرفوا بتمام النصح للأمة ومحبة الخير لها.
ثم لو جاز عليهم سوء القصد فيما قالوه في هذا الباب لجاز عليهم سوء القصد فيما يقولون في سائر أبواب العلم والدين، فتعدم الثقة بأقوالهم وأخبارهم في هذا الباب وغيره، وهذا من أبطل الأقوال، لأنه يستلزم القدح في الشريعة كلها.
وإذا تبين أن الصحابة رضي الله عنهم لا بد أن يكونوا قائلين بالحق في هذا الباب فإنهم إما أن يكونوا قائلين ذلك بعقولهم، أو من طريق الوحي. والأول ممتنع، لأن العقل لا يدرك تفاصيل ما يجب لله تعالى من صفات الكمال، فتعين الثاني وهو أن يكونوا تلقوا هذه العلوم من طريق رسالة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيلزم على هذا أن يكون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد بين الحق في أسماء الله وصفاته وهذا هو المطلوب.
(4/18)
الباب الثالث: في طريقة أهل السنة في أسماء الله وصفاته
أهل السنة والجماعة: هم الذين اجتمعوا على الأخذ بسنة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والعمل بها ظاهرا، وباطنا في القول، والعمل، والاعتقاد.
وطريقتهم في أسماء الله وصفاته كما يأتي:
أولا: في الإثبات: فهي إثبات ما أثبته الله لنفسه في كتابه، أو على لسان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غير تحريف، ولا تعطيل، ومن غير تكييف، ولا تمثيل.
ثانيا: في النفي: فطريقتهم نفي ما نفاه الله عن نفسه في كتابه، أوعلى لسان رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع اعتقادهم ثبوت كمال ضده لله تعالى.
ثالثا: فيما لم يرد نفيه ولا إثباته مما تنازع الناس فيه كالجسم، والحيز والجهة ونحو ذلك، فطريقتهم فيه التوقف في لفظه فلا يثبتونه ولا ينفونه لعدم ورود ذلك، وأما معناه فيستفصلون عنه، فإن أريد به باطل ينزه الله عنه ردوه، وإن أريد به حق لا يمتنع على الله قبلوه.
وهذه الطريقة هي الطريقة الواجبة، وهي القول الوسط بين أهل التعطيل، وأهل التمثيل.
وقد دل على وجوبها العقل، والسمع:
فأما العقل فوجه دلالته: أن تفصيل القول فيما يجب، ويجوز، ويمتنع على الله تعالى لا يدرك إلا بالسمع فوجب اتباع السمع في ذلك بإثبات ما أثبته، ونفي ما نفاه، والسكوت عما سكت عنه.
وأما السمع: فمن أدلته قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
(4/19)
وقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . وقوله: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} .
فالآية الأولى: دلت على وجوب الإثبات من غير تحريف، ولا تعطيل لأنهما من الإلحاد.
والآية الثانية: دلت على وجوب نفي التمثيل.
والآية الثالثة: دلت على وجوب نفي التكييف، وعلى وجوب التوقف فيما لم يرد إثباته أو نفيه.
وكل ما ثبت لله من الصفات فإنها صفات كمال، يحمد عليها، ويثنى بها عليه، وليس فيها نقص بوجه من الوجوه فجميع صفات الكمال ثابتة لله تعالى على أكمل وجه.
وكل ما نفاه الله عن نفسه فهو صفات نقص، تنافي كماله الواجب، فجميع صفات النقص ممتنعة على الله تعالى لوجوب كماله. وما نفاه الله عن نفسه فالمراد به انتفاء تلك الصفة المنفية وإثبات كمال ضدها، وذلك أن النفي لا يدل على الكمال حتى يكون متضمنا لصفة ثبوتية يحمد عليها، فإن مجرد النفي قد يكون سببه العجز فيكون نقصا كما في قول الشاعر:
قبيلة لا يغدرون بذمة ... ولا يظلمون الناس حبة خردل
وقد يكون سببه عدم القابلية فلا يقتضي مدحا كما لو قلت: الجدار لا يظلم.
إذا تبين هذا فنقول: مما نفى الله عن نفسه الظلم، فالمراد به انتفاء الظلم عن الله مع ثبوت كمال ضده وهو العدل، ونفى عن نفسه اللغوب
(4/20)
وهو التعب والإعياء، فالمراد نفي اللغوب مع ثبوت كمال ضده وهو القوة، وهكذا بقية ما نفاه الله عن نفسه والله أعلم.
التحريف:
التحريف لغة: التغيير.
وفي الاصطلاح: تغيير النص لفظا، أو معنى. والتغيير اللفظي قد يتغير معه المعنى وقد لا يتغير فهذه ثلاثة أقسام:
1 - تحريف لفظي يتغير معه المعنى، كتحريف بعضهم قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} . إلى نصب الجلالة ليكون التكليم من موسى.
2 - وتحريف لفظي لا يتغير معه المعنى، كفتح الدال من قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وهذا في الغالب لا يقع إلا من جاهل إذ ليس فيه غرض مقصود لفعله غالبا.
3 - تحريف معنوي وهو صرف اللفظ عن ظاهره بلا دليل، كتحريف معنى اليدين المضافتين إلى الله إلى القوة والنعمة ونحو ذلك.
التعطيل:
التعطيل لغة: التفريغ والإخلاء.
وفي الاصطلاح هنا: إنكار ما يجب لله تعالى من الأسماء والصفات، أو إنكار بعضه فهو نوعان:
1 - تعطيل كلي، كتعطيل الجهمية الذين ينكرون الصفات وغلاتهم ينكرون الأسماء أيضا.
2 - تعطيل جزئي، كتعطيل الأشعرية الذين ينكرون بعض
(4/21)
الصفات دون بعض، وأول من عرف بالتعطيل من هذه الأمة هو الجعد بن درهم.
التكييف.
التكييف: حكاية كيفية الصفة، كقول القائل: كيفية يد الله أو نزوله إلى السماء الدنيا كذا وكذا.
التمثيل، والتشبيه:
التمثيل: إثبات مثيل للشيء.
والتشبيه: إثبات مشابه له.
فالتمثيل يقتضي المماثلة، وهي المساواة من كل وجه، والتشبيه يقتضي المشابهة وهي المساواة في أكثر الصفات، وقد يطلق أحدهما على الآخر.
والفرق بينهما وبين التكييف من وجهين:
أحدهما: أن التكييف أن يحكي كيفية الشيء سواء كانت مطلقة أم مقيدة بشبيه، وأما التمثيل والتشبيه فيدلان على كيفية مقيدة بالمماثل والمشابه.
ومن هذا الوجه يكون التكييف أعم، لأن كل ممثل مكيف ولا عكس.
ثانيهما: أن التكييف يختص بالصفات، أما التمثيل فيكون في القدر، والصفة، والذات، ومن هذا الوجه يكون أعم لتعلقه بالذات، والصفات والقدر.
ثم التشبيه الذي ضل به من ضل من الناس على نوعين:
أحدهما: تشبيه المخلوق بالخالق.
والثاني: تشبيه الخالق بالمخلوق.
(4/22)
فأما تشبيه المخلوق بالخالق فمعناه: إثبات شيء للمخلوق مما يختص به الخالق من الأفعال، والحقوق، والصفات.
فالأول: كفعل من أشرك في الربوبية ممن زعم أن مع الله خالقا.
والثاني: كفعل المشركين بأصنامهم حيث زعموا أن لها حقا في الألوهية فعبدوها مع الله.
والثالث: كفعل الغلاة في مدح النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو غيره مثل قول المتنبي يمدح عبد الله بن يحيى البحتري:
فكن كما شئت يا من لا شبيه له ... وكيف شئت فما خلق يدانيكا
وأما تشبيه الخالق بالمخلوق فمعناه: أن يثبت لله تعالى في ذاته، أو صفاته من الخصائص مثل ما يثبت للمخلوق من ذلك، كقول القائل: إن يدي الله مثل أيدي المخلوقين، واستواءه على عرشه كاستوائهم ونحو ذلك.
وقد قيل: إن أول من عرف بهذا النوع هشام بن الحكم الرافضي والله أعلم.
الإلحاد:
الإلحاد في اللغة: الميل.
وفي الاصطلاح: الميل عما يجب اعتقاده، أو عمله وهو قسمان:
أحدهما: في أسماء الله.
الثاني: في آياته.
فأما الإلحاد في أسمائه: فهوالعدول عن الحق الواجب فيها وهو أربعة أنواع:
1 - أن ينكر شيئا منها، أو مما دلت عليه الصفات، كما فعل المعطلة.
(4/23)
2 - أن يجعلها دالة على تشبيه الله بخلقه، كما فعل المشبهة.
3 - أن يسمي الله بما لم يسم به نفسه، لأن أسماء الله توقيفية كتسمية النصارى له "أبا " وتسمية الفلاسفة إياه " علة فاعلة " ونحو ذلك.
4 - أن يشتق من أسمائه أسماء للأصنام كاشتقاق " اللات "من الإله و" العزى" من العزيز.
وأما الإلحاد في آياته: فيكون في الآيات الشرعية. وهي ما جاءت به الرسل من الأحكام، والأخبار، ويكون في الآيات الكونية. وهي ما خلقه الله ويخلقه في السموات والأرض.
فأما الإلحاد في الآيات الشرعية: فهو تحريفها: أو تكذيب أخبارها، أو عصيان أحكامها.
وأما الإلحاد في الآيات الكونية: فهو نسبتها إلى غير الله، أو اعتقاد شريك، أو معين له فيها.
(4/24)
الباب الرابع: في بيان صحة مذهب السلف وبطلان القول بتفضيل مذهب الخلف
في العلم والحكمة على مذهب السلف
سبق القول في بيان طريقة السلف وذكر الدليل على وجوب الأخذ بها، أما هنا فإننا نريد أن نبرهن على أن مذهب السلف هو المذهب الصحيح وذلك من وجهين:
أحدهما: أن مذهب السلف دل عليه الكتاب، والسنة، فإن من تتبع طريقتهم بعلم، وعدل وجدها مطابقة لما في الكتاب والسنة جملة وتفصيلا ولا بد فإن الله تعالى أنزل الكتاب ليدبر الناس آياته، ويعملوا بها إن كانت أحكاما، ويصدقوا بها إن كانت أخبارا، ولا ريب أن أقرب الناس إلى فهمها وتصديقها والعمل بها هم السلف، لأنها جاءت بلغتهم وفي عصرهم، فلا جرم أن يكونوا أعلم الناس بها فقها، وأقومهم عملا.
الثاني: أن يقال: إن الحق في هذا الباب إما أن يكون فيما قاله السلف، أو فيما قاله الخلف. والثاني باطل، لأنه يلزم عليه أن يكون الله ورسوله، والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، قد تكلموا بالباطل تصريحا، أو ظاهرا، ولم يتكلموا مرة واحدة بالحق الذي يجب اعتقاده لا تصريحا ولا ظاهرا فيكون وجود الكتاب والسنة ضررا محضا في أصل الدين، وترك الناس بلا كتاب ولا سنة خيرا لهم وأقوم، وهذا ظاهر البطلان.
هذا وقد قال بعض الأغبياء: طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم.
(4/25)
ومنشأ هذا القول أمران:
أحدهما: اعتقاد قائله- بسبب ما عنده من الشبهات الفاسدة - أن الله تعالى ليس له في نفس الأمر صفة حقيقية دلت عليها هذه النصوص.
الثاني: اعتقاده أن طريقة السلف هي الإيمان بمجرد ألفاظ نصوص الصفات من غير إثبات معنى لها، فيبقى الأمر دائرا بين أن نؤمن بألفاظ جوفاء لا معنى لها وهذه طريقة السلف - على زعمه- وبين أن نثبت للنصوص معاني تخالف ظاهرها الدال على إثبات الصفات لله وهذه هي طريقة الخلف، ولا ريب أن إثبات معاني النصوص أبلغ في العلم والحكمة من إثبات ألفاظ جوفاء ليس لها معنى، ومن ثم فضل هذا الغبي طريقة الخلف في العلم والحكمة على طريقة السلف.
وقول هذا الغبي يتضمن حقا وباطلا: فأما الحق فقوله: " إن مذهب السلف أسلم" وأما الباطل فقوله: " إن مذهب الخلف أعلم وأحكم " وبيان بطلانه من وجوه:
الوجه الأول: أنه يناقض قوله: (إن طريقة السلف أسلم) فإن كون طريقة السلف أسلم من لوازم كونها أعلم وأحكم، إذ لا سلامة إلا بالعلم والحكمة، العلم بأسباب السلامة، والحكمة في سلوك تلك الأسباب، وبهذا يتبين أن طريقة السلف أسلم، وأعلم، وأحكم، وهو لازم لهذا الغبي لزوما لا محيد عنه.
الوجه الثاني: أن اعتقاده أن الله ليس له صفة حقيقية دلت عليها هذه النصوص اعتقاد باطل، لأنه مبني على شبهات فاسدة ولأن الله تعالى قد ثبتت له صفات الكمال عقلا، وفطرة، وشرعا:
فأما دلالة العقل على ثبوت صفات الكمال لله فوجهه أن يقال: إن
(4/26)
كل موجود في الخارج فلا بد أن يكون له صفة إما صفة كمال، وإما صفة نقص، والثاني باطل بالنسبة إلى الرب الكامل المستحق للعبادة، وبذلك استدل الله تعالى على بطلان ألوهية الأصنام باتصافها بصفات النقص والعجز بكونها لا تسمع، ولا تبصر، ولا تنفع، ولا تضر، ولا تخلق، ولا تنصر فإذا بطل الثاني تعين الأول وهو ثبوت صفات الكمال لله.
ثم إنه قد ثبت بالحس والمشاهدة أن للمخلوق صفات كمال، والله سبحانه هو الذي أعطاه إياها فمعطي الكمال أولى به.
وأما دلالة الفطرة على ثبوت صفات الكمال لله فلأن النفوس السليمة مجبولة ومفطورة على محبة الله، وتعظيمه، وعبادته، وهل تحب وتعظم وتعبد إلا من عرفت أنه متصف بصفات الكمال اللائقة بربوبيته وألوهيته.
وأما دلالة الشرع على ثبوت صفات الكمال لله: فأكثر من أن تحصر مثل قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (1) وقوله: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وقوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ} .إلى قوله: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} . ومثل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنما تدعون سميعا، بصيرا، قريبا، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته» .
__________
(1) راجع ص (95) في الفصل الثاني من الباب العشرين.
(4/27)
إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث.
الوجه الثالث: أن اعتقاده أن طريقة السلف مجرد الإيمان بألفاظ النصوص بغير إثبات معناها، اعتقاد باطل كذب على السلف، فإن السلف أعلم الأمة بنصوص الصفات لفظا ومعنى، وأبلغهم في إثبات معانيها اللائقة بالله تعالى على حسب مراد الله ورسوله.
الوجه الرابع: أن السلف هم ورثة الأنبياء والمرسلين فقد تلقوا علومهم من ينبوع الرسالة الإلهية وحقائق الإيمان.
أما أولئك الخلف فقد تلقوا ما عندهم من المجوس، والمشركين وضلال اليهود، واليونان. فكيف يكون ورثة المجوس، والمشركين، واليهود، واليونان، وأفراخهم، أعلم، وأحكم في أسماء الله وصفاته من ورثة الأنبياء والمرسلين؟!
الوجه الخامس: أن هؤلاء الخلف الذين فضل هذا الغبي طريقتهم في العلم والحكمة على طريقة السلف كانوا حيارى مضطربين بسبب إعراضهم عما بعث الله به محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من البينات والهدى، والتماسهم علم معرفة الله تعالى ممن لا يعرفه بإقراره على نفسه وشهادة الأمة عليه حتى قال الرازي وهو من رؤسائهم مبينا ما ينتهي إليه أمرهم:
نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وغاية دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلا ولا تروي غليلا، رأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، اقرأ في الإثبات: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1) . {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ}
__________
(1) راجع ص (91) في الباب التاسع عشر.
(4/28)
واقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي" اهـ كلامه.
فكيف تكون طريقة هؤلاء الحيارى الذين أقروا على أنفسهم بالضلال والحيرة أعلم، وأحكم من طريقة السلف الذين هم أعلام الهدى ومصابيح الدجى، الذين وهبهم الله من العلم والحكمة ما برزوا به على سائر أتباع الأنبياء، والذين أدركوا من حقائق الإيمان والعلوم ما لو جمع إليه ما حصل لغيرهم لاستحيا من يطلب المقارنة فكيف بالحكم بتفضيل غيرهم عليهم؟!
وبهذا يتبين أن طريقة السلف أسلم، وأعلم، وأحكم.
(4/29)
الباب الخامس: في حكاية بعض المتأخرين لمذهب السلف
قال بعض المتأخرين: " مذهب السلف في الصفات إمرار النصوص على ما جاءت به مع اعتقاد أن ظاهرها غير مراد". اهـ.
وهذا القول على إطلاقه فيه نظر فإن لفظ " ظاهر" مجمل يحتاج إلى تفصيل:
فإن أريد بالظاهر ما يظهر من النصوص من الصفات التي تليق بالله من غير تشبيه فهذا مراد قطعا، ومن قال: إنه غير مراد فهو ضال إن اعتقده في نفسه، وكاذب أو مخطئ إن نسبه إلى السلف.
وإن أريد بالظاهر ما قد يظهر لبعض الناس من أن ظاهرها تشبيه الله بخلقه، فهذا غير مراد قطعا، وليس هو ظاهر النصوص لأن مشابهة الله لخلقه أمر مستحيل، ولا يمكن أن يكون ظاهر الكتاب والسنة أمرا مستحيلا، ومن ظن أن هذا هو ظاهرها فإنه يبين له أن ظنه خطأ، وأن ظاهرها بل صريحها إثبات صفات تليق بالله وتختص به.
وبهذا التفصيل نكون قد أعطينا النصوص حقها لفظا ومعنى والله أعلم.
(4/30)
الباب السادس: في لبس الحق بالباطل من بعض المتأخرين
قال بعض المتأخرين: " إنه لا فرق بين مذهب السلف ومذهب المئولين في نصوص الصفات فإن الكل اتفقوا على أن الآيات والأحاديث لا تدل على صفات الله، لكن المتأولون رأوا المصلحة في تأويلها لمسيس الحاجة إليه وعينوا المراد، وأما السلف فأمسكوا عن التعيين لجواز أن يكون المراد غيره". اهـ.
هذا كذب صريح على السلف فما منهم أحد نفى دلالة النصوص على صفات الله التي تليق به، بل كلامهم يدل على تقرير جنس الصفات في الجملة، والإنكار على من نفاها، أو شبه الله بخلقه كقول نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري: " من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيها". اهـ وكلامهم هذا كثير.
ومما يدل على إثبات السلف للصفات، وأنهم ليسوا على وفاق مع أولئك المتأولين: أن أولئك المتأولة كانوا خصوما للسلف، وكانوا يرمونهم بالتشبيه، والتجسيم، لإثباتهم الصفات، ولو كان السلف يوافقونهم في عدم دلالة النصوص على صفات الله لم يجعلوهم خصوما لهم، ويرموهم بالتشبيه والتجسيم وهذا ظاهر. ولله الحمد.
(4/31)
الباب السابع: في أقوال السلف المأثورة في الصفات
اشتهر عن السلف كلمات عامة وأخرى خاصة في آيات الصفات وأحاديثها فمن الكلمات العامة قولهم: " أمروها كما جاءت بلا كيف".
روي هذا عن مكحول، والزهري، ومالك بن أنس، وسفيان الثوري، والليث بن سعد، والأوزاعي.
وفي هذه العبارة رد على المعطلة والمشبهة، ففي قولهم: " أمروها كما جاءت" رد على المعطلة. وفي قولهم: " بلا كيف" رد على المشبهة.
وفيها أيضا دليل على أن السلف كانوا يثبتون لنصوص الصفات المعاني الصحيحة التي تليق بالله تدل على ذلك من وجهين:
الأول: قولهم: "أمروها كما جاءت". فإن معناها إبقاء دلالتها على ما جاءت به من المعاني، ولا ريب أنها جاءت لإثبات المعاني اللائقة بالله تعالى ولو كانوا لا يعتقدون لها معنى لقالوا: " أمروا لفظها ولا تتعرضوا لمعناها ". ونحو ذلك.
الثاني: قولهم: " بلا كيف " فإنه ظاهر في إثبات حقيقة المعنى، لأنهم لو كانوا لا يعتقدون ثبوته ما احتاجوا إلى نفي كيفيته، فإن غير الثابت لا وجود له في نفسه، فنفي كيفيته من لغو القول.
فإن قيل: ما الجواب عما قاله الإمام أحمد في حديث النزول وشبهه: " نؤمن بها ونصدق، لا كيف، ولا معنى".
قلنا: الجواب على ذلك: أن المعنى الذي نفاه الإمام أحمد في كلامه هو المعنى الذي ابتكره المعطلة من الجهمية وغيرهم، وحرفوا به نصوص
(4/32)
الكتاب والسنة عن ظاهرها إلى معاني تخالفه.
ويدل على ما ذكرنا أنه نفى المعنى، ونفى الكيفية، ليتضمن كلامه الرد على كلتا الطائفتين المبتدعتين: طائفة المعطلة، وطائفة المشبهة.
ويدل عليه أيضا ما قاله المؤلف في قول محمد بن الحسن:" اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن، والأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صفة الرب - عز وجل - من غير تفسير، ولا وصف، ولا تشبيه". اهـ.
قال المؤلف: أراد به تفسير الجهمية المعطلة الذين ابتدعوا تفسير الصفات بخلاف ما كان عليه الصحابة، والتابعون من الإثبات. اهـ.
فهذا دليل على أن تفسير آيات الصفات وأحاديثها على نوعين:
الأول: تفسير مقبول: وهو ما كان عليه الصحابة والتابعون من إثبات المعنى اللائق بالله - عز وجل - الموافق لظاهر الكتاب والسنة.
الثاني: تفسير غير مقبول: وهو ما كان بخلاف ذلك.
وهذا المعنى منه مقبول ومنه مردود على ما تقدم.
فإن قيل: هل لصفات الله كيفية؟
فالجواب: نعم! لها كيفية لكنها مجهولة لنا، لأن الشيء إنما تعلم كيفيته بمشاهدته، أو مشاهدة نظيره، أو خبر الصادق عنه، وكل هذه الطرق غير موجودة في صفات الله. وبهذا عرف أن قول السلف: " بلا كيف " معناه بلا تكييف لم يريدوا نفي الكيفية مطلقا لأن هذا تعطيل محض. والله أعلم.
(4/33)
الباب الثامن: في علو الله تعالى وأدلة العلو
علو الله تعالى من صفاته الذاتية، وينقسم إلى قسمين:
علو ذات، وعلو صفات.
فأما علو الصفات فمعناه: أنه ما من صفة كمال إلا ولله تعالى أعلاها وأكملها سواء كانت من صفات المجد والقهر، أم من صفات الجمال والقدر.
وأما علو الذات فمعناه: أن الله بذاته فوق جميع خلقه، وقد دل على ذلك الكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل، والفطرة.
فأما الكتاب والسنة فإنهما مملوءان بما هو صريح، أو ظاهر في إثبات علو الله تعالى بذاته فوق خلقه وقد تنوعت دلالتهما على ذلك:
فتارة بذكر العلو، والفوقية، والاستواء على العرش، وكونه في السماء مثل قوله تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} . {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «والعرش فوق ذلك والله فوق العرش» . «ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء» .
(4/34)
وتارة بصعود الأشياء، وعروجها، ورفعها إليه مثل قوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يصعد إلى الله إلا الطيب» «فيعرج الذين باتوا فيكم إلى ربهم» «يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل» .
وتارة بنزول الأشياء منه ونحو ذلك مثل قوله تعالى: {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر» .
إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث التي تواترت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في علو الله تعالى على خلقه تواترا يوجب علما ضروريا بأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالها عن ربه وتلقتها أمته عنه.
وأما الإجماع: فقد أجمع الصحابة، والتابعون لهم بإحسان، وأئمة أهل السنة على أن الله تعالى فوق سمواته على عرشه، وكلامهم مملوء بذلك نصا وظاهرا قال الأوزاعي: " كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله تعالى ذكره فوق عرشه، ونؤمن بما جاءت به السنة من الصفات) . قال الأوزاعي هذا بعد ظهور مذهب جهم النافي لصفات الله وعلوه ليعرف الناس أن مذهب السلف كان يخالف مذهب جهم.
ولم يقل أحد من السلف قط: إن الله ليس في السماء، ولا أنه بذاته في كل مكان، ولا أن جميع الأمكنة بالنسبة إليه سواء، ولا أنه لا داخل
(4/35)
العالم ولا خارجه، ولا متصل، ولا منفصل، ولا أنه لا تجوز الإشارة الحسية إليه، بل قد أشار إليه أعلم الخلق به في حجة الوداع يوم عرفة في ذلك المجمع العظيم حينما رفع إصبعه إلى السماء يقول: «اللهم اشهد» ، يشهد ربه على إقرار أمته بإبلاغه الرسالة صلوات الله وسلامه عليه.
وأما العقل: فإن كل عقل صريح يدل على وجوب علو الله بذاته فوق خلقه من وجهين:
الأول: أن العلو صفة كمال الله تعالى قد وجب له الكمال المطلق من جميع الوجوه فلزم ثبوت العلو له تبارك وتعالى.
الثاني: أن العلو ضده السفل، والسفل صفة نقص، والله تعالى منزه عن جميع صفات النقص، فلزم تنزيهه عن السفل، وثبوت ضده له وهو العلو.
وأما الفطرة: فإن الله تعالى فطر الخلق كلهم العرب، والعجم حتى البهائم على الإيمان به وبعلوه فما من عبد يتوجه إلى ربه بدعاء أو عبادة إلا وجد من نفسه ضرورة بطلب العلو وارتفاع قلبه إلى السماء لا يلتفت إلى غيره يمينا، ولا شمالا، ولا ينصرف عن مقتضى هذه الفطرة إلا من اجتالته الشياطين والأهواء.
وكان أبو المعالي الجويني يقول في مجلسه: " كان الله ولا شيء وهو الآن على ما كان عليه" (يعرض بإنكار استواء الله على عرشه) فقال أبو جعفر الهمداني: " دعنا من ذكر العرش- أي لأنه ثبت بالسمع - وأخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا ما قال عارف قط: يا الله. إلا وجد من قلبه ضرورة بطلب العلو لا يلتفت يمنة، ولا يسرة فكيف ندفع هذه الضرورة من قلوبنا؟ ".
فصرخ أبو المعالي ولطم رأسه وقال: حيرني الهمداني، حيرني الهمداني.
(4/36)
فهذه الأدلة الخمسة كلها تطابقت على إثبات علو الله بذاته فوق خلقه.
فأما قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} وقوله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} فليس معناهما أن الله في الأرض كما أنه في السماء، ومن توهم هذا، أو نقله عن أحد من السلف فهو مخطئ في وهمه وكاذب في نقله.
وإنما معنى الآية الأولى: أن الله مألوه في السموات وفي الأرض، كل من فيهما فإنه يتأله إليه ويعبده وقيل: معناها أن الله في السموات ثم ابتدأ فقال: {وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} أي: إن الله يعلم سركم وجهركم في الأرض، فليس علوه فوق السموات بمانع من علمه سركم وجهركم في الأرض.
وأما الآية الثانية فمعناها: أن الله إله في السماء، وإله في الأرض، فألوهيته ثابتة فيهما، وإن كان هو في السماء، ونظير ذلك قول القائل: فلان أمير في مكة، وأمير في المدينة. أي: أن إمارته ثابتة في البلدين، وإن كان هو في أحدهما وهذا تعبير صحيح لغة وعرفا والله أعلم.
(4/37)
الباب التاسع: في الجهة
نريد بهذه الترجمة أن نبين هل الجهة ثابتة لله تعالى، أو منتفية عنه؟
والتحقيق في هذا: أنه لا يصح إطلاق الجهة على الله تعالى لا نفيا، ولا إثباتا، بل لا بد من التفصيل:
فإن أريد بها جهة سفل، فإنها منتفية عن الله، وممتنعة عليه لأن الله تعالى قد وجب له العلو المطلق بذاته، وصفاته.
وإن أريد بها جهة علو تحيط به، فهي منتفية عن الله، وممتنعة عليه أيضا فإن الله أعظم وأجل من أن يحيط به شيء من مخلوقاته، كيف وقد وسع كرسيه السموات والأرض؟
{وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}
وإن أريد بها جهة علو تليق بعظمته وجلاله من غير أحاطة به، فهي حق ثابت لله تعالى واجبة له. قال الشيخ أبو محمد عبد القادر الجيلاني في كتابه " الغنية ": " وهو سبحانه بجهة العلو، مستو على العرش، محتو على الملك". اهـ.
ومعنى قوله: " محتو على الملك " أنه محيط بالملك تبارك وتعالى.
فإن قيل: إذا نفيتم أن يكون شيء من مخلوقات الله محيطا به، فما الجواب عما أثبته الله لنفسه في كتابه، وعلى لسان نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأجمع عليه المسلمون من أن الله سبحانه في السماء؟
(4/38)
فالجواب: أن كون الله في السماء لا يقتضي أن السماء تحيط به، ومن قال ذلك فهو ضال إن قاله من عنده وكاذب أو مخطئ إن نسبه إلى غيره، فإن كل من عرف عظمة الله تعالى وإحاطته بكل شيء، وأن الأرض جميعا قبضته يوم القيامة، وأنه يطوي السماء كطي السجل للكتب، فإنه لن يخطر بباله أن شيئا من مخلوقاته يمكن أن يحيط به.
وعلى هذا فيخرج كونه (في السماء) على أحد معنيين:
الأول: أن يراد بالسماء العلو فيكون المعنى أن الله في العلو أي في جهة العلو، والسماء بمعنى العلو ثابت في القرآن قال الله تعالى {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} أي من العلو لا من السماء نفسها، لأن المطر ينزل من السحاب.
الثاني: أن تجعل " في " بمعنى " على " فيكون المعنى أن الله على السماء وقد جاءت "في" بمعنى " على" في مواضع كثيرة من القرآن وغيره قال الله تعالى {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ} - أي على الأرض -.
(4/39)
الباب العاشر: في استواء الله على عرشه
الاستواء في اللغة: يطلق على معان تدور على الكمال والانتهاء، وقد ورد في القرآن على ثلاثة وجوه:
1 - مطلق كقوله تعالى {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} أي كمل.
2 - ومقيد بـ" إلى " كقوله تعالى {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} أي قصد بإرادة تامة.
3 - ومقيد بـ " على " كقوله تعالى {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} ومعناه حينئذ العلو والاستقرار.
فاستواء الله على عرشه معناه علوه واستقراره عليه، علوا واستقرارا يليق بجلاله وعظمته، وهو من صفاته الفعلية التي دل عليها الكتاب، والسنة والإجماع، فمن أدلة الكتاب: قوله تعالى {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}
ومن أدلة السنة: ما رواه الخلال في كتاب السنة بإسناد صحيح على شرط البخاري عن قتادة بن النعمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «لما فرغ الله من خلقه استوى على عرشه» . (1)
__________
(1) ذكره ابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية ص 34.
(4/40)
وقال الشيخ عبد القادر الجيلاني: "إنه مذكور في كل كتاب أنزله الله على كل نبي" اهـ.
وقد أجمع أهل السنة على أن الله تعالى فوق عرشه، ولم يقل أحد منهم: إنه ليس على العرش، ولا يمكن لأحد أن ينقل عنهم ذلك لا نصا ولا ظاهرا.
وقال رجل للإمام مالك رحمه الله: يا أبا عبد الله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟ ! فأطرق مالك برأسه حتى علاه الرحضاء (العرق) ثم قال: " الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا مبتدعا " ثم أمر به أن يخرج.
وقد روي نحو هذا عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن شيخ مالك.
فقوله: " الاستواء غير مجهول" أي غير مجهول المعنى في اللغة فإن معناه العلو والاستقرار.
وقوله: " والكيف غير معقول" معناه أنا لا ندرك كيفية استواء الله على عرشه بعقولنا، وإنما طريق ذلك السمع، ولم يرد السمع بذكر الكيفية فإذا انتفى عنها الدليلان العقلي، والسمعي كانت مجهولة يجب الكف عنها.
وقوله: " الإيمان به واجب"، معناه: أن الإيمان باستواء الله على عرشه على الوجه اللائق واجب، لأن الله أخبر به عن نفسه فوجب تصديقه والإيمان به.
وقوله: " والسؤال عنه بدعة" معناه أن السؤال عن كيفية الاستواء بدعة، لأنه لم يكن معروفا في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه.
وهذا الذي ذكره الإمام مالك رحمه الله في الاستواء ميزان عام لجميع
(4/41)
الصفات التي أثبتها الله لنفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن معناها معلوم لنا، وأما كيفيتها فمجهولة لنا، لأن الله أخبرنا عنها ولم يخبر عن كيفيتها ولأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات فإذا كنا نثبت ذات الله تعالى من غير تكييف لها، فكذلك يكون إثبات صفاته من غير تكييف.
قال بعض أهل العلم: إذا قال لك الجهمي: إن الله ينزل إلى السماء الدنيا فكيف ينزل؟ فقل له: إن الله أخبرنا أنه ينزل ولم يخبرنا كيف ينزل.
وقال آخر: إذا قال لك الجهمي في صفة من صفات الله: كيف هي؟
فقل له: كيف هو بذاته؟ فإنه لا يمكن أن يكيف ذاته فقل له: إذا كان لا يمكن تكييف ذاته فكذلك لا يمكن تكييف صفاته، لأن الصفات تابعة للموصوف.
فإن قال قائل: إذا كان استواء الله على عرشه بمعنى العلو عليه لزم من ذلك أن يكون أكبر من العرش، أو أصغر، أو مساويا وهذا يقتضي أن يكون جسما، والجسم ممتنع على الله.
فجوابه أن يقال: لا ريب أن الله أكبر من العرش، وأكبر من كل شيء، ولا يلزم على هذا القول شيء من اللوازم الباطلة التي ينزه الله عنها.
وأما قوله: " إن الجسم ممتنع على الله" فجوابه: أن الكلام في الجسم وإطلاقه على الله نفيا أو إثباتا من البدع التي لم ترد في الكتاب، والسنة، وأقوال السلف وهو من الألفاظ المجملة التي تحتاج إلى تفصيل:
فإن أريد بالجسم الشيء المحدث المركب، المفتقر كل جزء منه إلى الآخر، فهذا ممتنع على الرب الحي القيوم.
(4/42)
وإن أريد بالجسم ما يقوم بنفسه، ويتصف بما يليق به، فهذا غير ممتنع على الله تعالى، فإن الله قائم بنفسه، متصف بالصفات الكاملة التي تليق به.
لكن لما كان لفظ الجسم يحتمل ما هو حق، وباطل بالنسبة إلى الله صار إطلاق لفظه نفيا، أو إثباتا ممتنعا على الله.
وهذه اللوازم التي يذكرها أهل البدع ليتوصلوا بها إلى نفي ما أثبته الله لنفسه من صفات الكمال على نوعين:
الأول: لوازم صحيحة لا تنافي ما وجب لله من الكمال، فهذه حق يجب القول بها وبيان أنها غير ممتنعة على الله.
الثاني: لوازم فاسدة تنافي ما وجب لله من الكمال، فهذه باطلة يجب نفيها، وأن يبين أنها غير لازمة لنصوص الكتاب، والسنة، لأن الكتاب حق ومعانيهما حق، والحق لا يمكن أن يلزم منه باطل أبدا.
فإن قال قائل: إذا فسرتم استواء الله على عرشه بعلوه عليه، أوهم ذلك أن يكون الله محتاجا إلى العرش ليقله.
فالجواب: أن كل من عرف عظمة الله تعالى، وكمال قدرته، وقوته، وغناه فإنه لن يخطر بباله أن يكون الله محتاجا إلى العرش ليقله، كيف والعرش وغيره من المخلوقات مفتقر إلى الله، ومضطر إليه لا قوام له إلا به، ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره؟!
فإن قيل: هل يصح تفسير استواء الله على عرشه باستيلائه عليه كما فسره به المعطلة فرارا من هذه اللوازم؟
فالجواب: أنه لا يصح وذلك لوجوه منها:
1 - إن هذه اللوازم إن كانت حقا فإنها لا تمنع من تفسير الاستواء بمعناه الحقيقي، وإن كانت باطلا فإنه لا يمكن أن تكون من لوازم
(4/43)
نصوص الكتاب والسنة، ومن ظن أنها لازمة لها فهو ضال.
2 - أن تفسيره بالاستيلاء يلزم عليه لوازم باطلة لا يمكن دفعها كمخالفة إجماع السلف، وجواز أن يقال: إن الله مستو على الأرض ونحوها مما ينزه الله عنه، وكون الله تعالى غير مستول على العرش حين خلق السموات والأرض.
3 - أن تفسيره بالاستيلاء غير معروف في اللغة فهو كذب عليها والقرآن نزل بلغة العرب فلا يمكن أن نفسره بما لا يعرفونه في لغتهم.
4 - أن الذين فسروه بالاستيلاء كانوا مقرين بأن هذا معنى مجازي والمعنى المجازي لا يقبل إلا بعد تمام أربعة أمور:
الأول: الدليل الصحيح المتقضي لصرف الكلام عن حقيقته إلى مجازه.
الثاني: احتمال اللفظ للمعنى المجازي الذي ادعاه من حيث اللغة.
الثالث: احتمال اللفظ للمعنى المجازي الذي ادعاه في ذلك السياق المعين، فإنه لا يلزم من احتمال اللفظ لمعنى من المعاني من حيث الجملة أن يكون محتملا له في كل سياق، لأن قرائن الألفاظ والأحوال قد تمنع بعض المعاني التي يحتملها اللفظ في الجملة.
الرابع: أن يبين الدليل على أن المراد من المعاني المجازية هو ما ادعاه لأنه يجوز أن يكون المراد غيره فلا بد من دليل على التعيين والله أعلم.
(4/44)
فصل
والعرش في اللغة: سرير الملك قال الله تعالى عن يوسف: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} وقال عن ملكة سبأ: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} .
وأما عرش الرحمن الذي استوى عليه: فهو عرش عظيم محيط بالمخلوقات، وهو أعلاها، وأكبرها كما في حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ما السموات السبع والأرضون السبع عند الكرسي إلا كحلقة ملقاة في أرض فلاة، وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة» .
قال المؤلف رحمه الله في الرسالة العرشية: " والحديث له طرق وقد رواه أبو حاتم، وابن حبان في صحيحه، وأحمد في المسند وغيرهم" اهـ.
والكرسي في اللغة: السرير وما يقعد عليه.
أما الكرسي الذي أضافه الله إلى نفسه فهو موضع قدميه تعالى، قال ابن عباس رضي الله عنهما: " الكرسي موضع القدمين، والعرش لا يقدر قدره إلا الله عز وجل". رواه الحاكم في المستدرك، وقال: إنه على شرط الشيخين وقد روي مرفوعا. والصواب أنه موقوف.
وهذا المعنى الذي ذكره ابن عباس رضي الله عنهما في الكرسي هو المشهور بين أهل السنة، وهو المحفوظ عنه، وما روي عنه أنه العلم فغير محفوظ، وكذلك ما روي عن الحسن أنه العرش ضعيف لا يصح عنه قاله ابن كثير رحمه الله تعالى.
(4/45)
الباب الحادي عشر: في المعية
أثبت الله لنفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه مع خلقه.
فمن أدلة الكتاب: قوله تعالى {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} {وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} {إِنَّنِي مَعَكُمَا} .
ومن أدلة السنة: قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيثما كنت» . وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لصاحبه أبي بكر وهما في الغار: " {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} ".
وقد أجمع على ذلك سلف الأمة، وأئمتها.
والمعية في اللغة: مطلق المقارنة والمصاحبة لكن مقتضاها ولازمها يختلف باختلاف الإضافة وقرائن السياق والأحوال:
فتارة تقتضي اختلاطا، كما يقال: جعلت الماء مع اللبن.
وتارة تقتضي تهديدا وإنذارا، كما يقول المؤدب للجاني: اذهب فأنا معك.
وتارة تقتضي نصرا وتأييدا، كمن يقول لمن يستغيث به: أنا معك، أنا معك إلى غير ذلك من اللوازم والمقتضيات المختلفة باختلاف الإضافة والقرائن والأحوال، ومثل هذا اللفظ الذي يتفق في أصل معناه ويختلف مقتضاه وحكمه باختلاف الإضافات والقرائن يسميه بعض الناس مشككا
(4/46)
لتشكيك المستمع هل هو من قبيل المشترك الذي اتحد لفظه واختلف معناه نظرا لاختلاف مقتضاه وحكمه؟ أو هو من قبيل المتواطئ الذي اتحد لفظه ومعناه نظرا لأصل المعنى؟
والتحقيق أنه نوع من المتواطئ، لأن واضع اللغة وضع هذا اللفظ بإزاء القدر المشترك، واختلاف حكمه ومقتضاه إنما هو بحسب الإضافات والقرائن لا بأصل الوضع، لكن لما كانت نوعا خاصا من المتواطأة؟ فلا بأس بتخصيصها بلفظ، إذا تبين ذلك فقد اتضح أن لفظ المعية المضاف إلى الله مستعمل في حقيقته لا في مجازه، غير أن معية الله لخلقه معية تليق به، فليست كمعية المخلوق للمخلوق بل هي أعلى، وأكمل، ولا يلحقها من اللوازم والخصائص ما يلحق معية المخلوق للمخلوق.
هذا وقد فسر بعض السلف معية الله لخلقه: بعلمه بهم، وهذا تفسير للمعية ببعض لوازمها، وغرضهم به الرد على حلولية الجهمية الذين قالوا: إن الله بذاته في كل مكان واستدلوا بنصوص المعية، فبين هؤلاء السلف أنه لا يراد من المعية كون الله معنا بذاته، فإن هذا محال عقلا، وشرعا، لأنه ينافي ما وجب من علوه ويقتضي أن تحيط به مخلوقاته وهو محال.
أقسام معية الله لخلقه:
تنقسم معية الله لخلقه إلى قسمين: عامة، وخاصة:
فالعامة هي التي تقتضي الإحاطة بجميع الخلق من مؤمن، وكافر، وبر، وفاجر في العلم، والقدرة، والتدبير والسلطان وغير ذلك من معاني الربوبية.
وهذه المعية توجب لمن آمن بها كمال المراقبة لله عز وجل، ولذلك قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيثما كنت» .
(4/47)
ومن أمثلة هذا القسم قوله تعالى {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} .
وأما الخاصة فهي التي تقتضي النصر والتأييد لمن أضيفت له وهي مختصة بمن يستحق ذلك من الرسل واتباعهم.
وهذه المعية توجب لمن آمن بها كمال الثبات والقوة.
ومن أمثلتها قوله تعالى {وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} وقوله عن نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} .
فإن قيل: هل المعية من صفات الله الذاتية أو من صفاته الفعلية؟
فالجواب: أن المعية العامة من الصفات الذاتية، لأن مقتضياتها ثابتة لله تعالى أزلا وأبدا، وأما المعية الخاصة فهي من الصفات الفعلية، لأن مقتضياتها تابعة لأسبابها توجد بوجودها وتنتفي بانتفائها.
(4/48)
الباب الثاني عشر: في الجمع بين نصوص علو الله بذاته ومعيته
قبل أن نذكر الجمع بينهما نحب أن نقدم قاعدة نافعة أشار إليها المؤلف رحمه الله في كتاب (العقل والنقل) ص 43-44 ج 1 وخلاصتها:
أنه إذا قيل بالتعارض بين دليلين فإما أن يكونا قطعيين، أو ظنيين، أو أحدهما قطعيا والآخر ظنيا فهذه ثلاثة أقسام:
الأول: القطعيان: وهما ما يقطع العقل بثبوت مدلولهما، فالتعارض بينهما محال، لأن القول بجواز تعارضهما يستلزم إما وجوب ارتفاع أحدهما وهو محال، لأن القطعي واجب الثبوت، وإما ثبوت كل منهما مع التعارض وهو محال أيضا، لأنه جمع بين النقيضين.
فإن ظن التعارض بينهما فإما أن لا يكونا قطعيين، وإما أن لا يكون بينهما تعارض بحيث يحمل أحدهما على وجه، والثاني على وجه آخر، ولا يرد على ذلك ما يثبت نسخه من نصوص الكتاب والسنة القطعية، لأن الدليل المنسوخ غير قائم فلا معارض للناسخ.
الثاني: أن يكونا ظنيين إما من حيث الدلالة، وإما من حيث الثبوت فيطلب الترجيح بينهما ثم يقدم الراجح.
الثالث: أن يكون أحدهما قطعيا، والآخر ظنيا، فيقدم القطعي باتفاق العقلاء، لأن اليقين لا يدفع بالظن.
إذا تبين هذا فنقول: لا ريب أن النصوص قد جاءت بإثبات علو الله بذاته فوق خلقه وأنه معهم، وكل منهما قطعي الثبوت والدلالة وقد جمع الله بينهما في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}
(4/49)
ففي هذه الآية أثبت الله تعالى استواءه على العرش الذي هو أعلى المخلوقات وأثبت أنه معنا وليس بينهما تعارض فإن الجمع بينهما ممكن وبيان إمكانه من وجوه:
الأول: أن النصوص جمعت بينهما فيمتنع أن يكون اجتماعهما محالا لأن النصوص لا تدل على محال ومن ظن دلالتها عليه فقد أخطأ فليعد النظر مرة بعد أخرى، مستعينا بالله، سائلا منه الهداية والتوفيق، باذلا جهده في الوصول إلى معرفة الحق، فإن تبين له الحق فليحمد الله على ذلك، وإلا فليكل الأمر إلى عالمه وليقل: " {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} {سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} ".
والثاني: أنه لا منافاة بين معنى العلو والمعية، فإن المعية لا تستلزم الاختلاط والحلول في المكان - كما تقدم - فقد يكون الشيء عاليا بذاته وتضاف إليه المعية كما يقال: " ما زلنا نسير والقمر معنا " مع أن القمر في السماء، ولا يعد ذلك تناقضا لا في اللفظ ولا في المعنى، فإن المخاطب يعرف معنى المعية هنا، وأنه لا يمكن أن يكون مقتضاها أن القمر في الأرض، فإذا جاز اجتماع العلو والمعية في حق المخلوق ففي حق الخالق أولى.
الثالث: أنه لو فرض أن بين معنى العلو والمعية تناقضا وتعارضا في حق المخلوق فإن ذلك لا يلزم في حق الخالق، لأن الله تعالى ليس كمثله شيء في جميع صفاته، فلا تقاس معيته بمعية خلقه، ولا تقتضي معيته لهم أن يكون مختلطا بهم أو حالا في أمكنتهم لوجوب علوه بذاته، ولأنه لا يحيط
(4/50)
به شيء من مخلوقاته بل هو بكل شيء محيط.
وبنحو هذه الوجوه يمكن الجمع بين ما ثبت من علو الله بذاته وكونه قبل المصلي، فيقال: الجمع بينهما من وجوه:
الأول: أن النصوص جمعت بينهما والنصوص لا تأتي بالمحال.
الثاني: أنه لا منافاة بين معنى العلو والمقابلة، فقد يكون الشيء عاليا وهو مقابل، لأن المقابلة لا تستلزم المحاذاة، ألا ترى أن الرجل ينظر إلى الشمس حال بزوغها فيقول: إنها قبل وجهي. مع أنها في السماء، ولا يعد ذلك تناقضا في اللفظ ولا في المعنى، فإذا جاز هذا في حق المخلوق ففي حق الخالق أولى.
الثالث: أنه لو فرض أن بين معنى العلو والمقابلة تناقضا وتعارضا في حق المخلوق فإن ذلك لا يلزم في حق الخالق، لأن الله تعالى ليس كمثله شيء في جميع صفاته، فلا يقتضي كونه قبل وجه المصلي أن يكون في المكان أو الحائط الذي يصلي إليه، لوجوب علوه بذاته، ولأنه لا يحيط به شيء من المخلوقات، بل هو بكل شيء محيط.
(4/51)
الباب الثالث عشر: في نزول الله إلى السماء الدنيا
في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له» .
وقد روى هذا الحديث عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نحو ثمان وعشرين نفسا من الصحابة رضي الله عنهم، واتفق أهل السنة على تلقي ذلك بالقبول.
ونزوله تعالى إلى السماء الدنيا من صفاته الفعلية التي تتعلق بمشيئته وحكمته وهو نزول حقيقي يليق بجلاله وعظمته.
ولا يصح تحريف معناه إلى نزول أمره، أو رحمته، أو ملك من ملائكته، فإن هذا باطل لوجوه:
الأول: أنه خلاف ظاهر الحديث، لأن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أضاف النزول إلى الله، والأصل أن الشيء إنما يضاف إلى من وقع منه أو قام به فإذا صرف إلى غيره كان ذلك تحريفا يخالف الأصل.
الثاني: أن تفسيره بذلك يقتضي أن يكون في الكلام شيء محذوف والأصل عدم الحذف.
الثالث: أن نزول أمره أو رحمته لا يختص بهذا الجزء من الليل، بل أمره ورحمته ينزلان كل وقت.
فإن قيل: المراد نزول أمر خاص، ورحمة خاصة وهذا لا يلزم أن يكون كل وقت.
فالجواب: أنه لو فرض صحة هذا التقدير والتأويل، فإن الحديث
(4/52)
يدل على أن منتهى نزول هذا الشيء هو السماء الدنيا، وأي فائدة لنا في نزول رحمة إلى السماء الدنيا حتى يخبرنا النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عنها؟!
الرابع: أن الحديث دل على أن الذي ينزل يقول: «من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له» . ولا يمكن أن يقول ذلك أحد سوى الله تعالى.
فصل
في الجمع بين نصوص علو الله تعالى بذاته، ونزوله إلى السماء الدنيا
علو الله تعالى من صفاته الذاتية التي لا يمكن أن ينفك عنها، وهو لا ينافي ما جاءت به النصوص من نزوله إلى السماء الدنيا، والجمع بينهما من وجهين:
الأول: أن النصوص جمعت بينهما، والنصوص لا تأتي بالمحال كما تقدم.
الثاني: أن الله ليس كمثله شيء في جميع صفاته، فليس نزوله كنزول المخلوقين حتى يقال: إنه ينافي علوه ويناقضه والله أعلم.
(4/53)
الباب الرابع عشر: في إثبات الوجه لله تعالى
مذهب أهل السنة والجماعة أن لله وجها حقيقيا يليق به موصوفا بالجلال والإكرام. وقد دل على ثبوته لله الكتاب، والسنة.
فمن أدلة الكتاب قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} .
ومن أدلة السنة قول النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في الدعاء المأثور: «وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك» .
فوجه الله تعالى من صفاته الذاتية الثابتة له حقيقة على الوجه اللائق به.
ولا يصح تحريف معناه إلى الثواب لوجوه منها:
أولا: أنه خلاف ظاهر النص، وما كان مخالفا لظاهر النص فإنه يحتاج إلى دليل، ولا دليل على ذلك.
ثانيا: أن هذا الوجه ورد في النصوص مضافا إلى الله تعالى، والمضاف إلى الله: إما أن يكون شيئا قائما بنفسه، وإما أن يكون غير قائم بنفسه، فإن كان قائما بنفسه فهو مخلوق وليس من صفاته كبيت الله، وناقة الله، وإنما أضيف إليه إما للتشريف، وإما من باب إضافة المملوك والمخلوق إلى مالكه وخالقه. وإن كان غير قائم بنفسه فهو من صفات الله، وليس بمخلوق كعلم الله، وقدرته، وعزته، وكلامه، ويده، وعينه ونحو ذلك،
(4/54)
والوجه بلا ريب من هذا النوع فإضافته إلى الله من باب إضافة الصفة إلى الموصوف.
ثالثا: إن الثواب مخلوق بائن عن الله تعالى، والوجه صفة من صفات الله غير مخلوق ولا بائن، فكيف يفسر هذا بهذا؟!
رابعا: إن ذلك الوجه وصف في النصوص بالجلال والإكرام، وبأن له نورا يستعاذ به، وسبحات تحرق ما انتهى إليه بصر الله من خلقه، وكل هذه الأوصاف تمنع أن يكون المراد به الثواب. والله أعلم.
(4/55)
الباب الخامس عشر: في يدي الله عز وجل
مذهب أهل السنة والجماعة أن لله تعالى يدين، اثنتين، مبسوطتين بالعطاء والنعم. وهما من صفاته الذاتية الثابتة له حقيقة على الوجه اللائق به.
وقد دل على ثبوتهما الكتاب، والسنة.
فمن أدلة الكتاب قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} .
ومن أدلة السنة قوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يد الله ملأى سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه» .
وقد أجمع أهل السنة على أنهما يدان حقيقيتان لا تشبهان أيدي المخلوقين، ولا يصح تحريف معناهما إلى القوة، أو النعمة أو نحو ذلك لوجوه منها:
أولا: إنه صرف للكلام عن حقيقته إلى مجازه بلا دليل.
ثانيا: إنه معنى تأباه اللغة في مثل السياق الذي جاءت به مضافة إلى الله تعالى، فإن الله قال: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ، ولا يصح أن يكون المعنى لما خلقت بنعمتي، أو قوتي.
ثالثا: أنه ورد إضافة اليد إلى الله بصيغة التثنية، ولم يرد في الكتاب
(4/56)
والسنة ولا في موضع واحد إضافة النعمة والقوة إلى الله بصيغة التثنية فكيف يفسر هذا بهذا؟!
رابعا: أنه لو كان المراد بهما القوة لصح أن يقال: إن الله خلق إبليس بيده ونحو ذلك. وهذا ممتنع ولو كان جائزا لاحتج به إبليس على ربه حين قال له: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} .
خامسا: أن اليد التي أضافها الله إلى نفسه تصرفت تصرفا يمنع أن يكون المراد بها النعمة، أو القوة فجاءت بلفظ اليد، والكف، وجاء إثبات الأصابع لله تعالى، والقبض، والهز كقوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يقبض الله سماواته بيده والأرض باليد الأخرى، ثم يهزهن ويقول: أنا الملك» .
وهذه التصرفات تمنع أن يكون المراد بها النعمة، أو القوة.
(4/57)
الباب السادس عشر: في عيني الله تعالى
مذهب أهل السنة والجماعة أن لله عينين، اثنتين، ينظر بهما حقيقة على الوجه اللائق به. وهما من الصفات الذاتية الثابتة بالكتاب، والسنة.
فمن أدلة الكتاب قوله تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} .
ومن أدلة السنة قول النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن ربكم ليس بأعور» «ينظر إليكم أزلين قنطين» «حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» .
فهما عينان حقيقيتان لا تشبهان أعين المخلوقين. ولا يصح تحريف معناهما إلى العلم، والرؤية لوجوه منها:
أولا: إنه صرف للكلام عن حقيقته إلى مجازه بلا دليل.
ثانيا: إن في النصوص ما يمنع ذلك مثل قوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ينظر إليكم" «لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» ، «وإن ربكم ليس بأعور» .
(4/58)
الباب السابع عشر: في الوجوه التي وردت عليها صفتا اليدين والعينين
وردت صفتا اليدين، والعينين في النصوص مضافة إلى الله تعالى على ثلاثة أوجه: الإفراد، والتثنية، والجمع.
فمن أمثلة الإفراد: قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} . {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} .
ومن أمثلة الجمع: قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} . {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} .
ومن أمثلة التثنية: قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} ، وقول النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا قام العبد في الصلاة قام بين عيني الرحمن» . هكذا هو في مختصر الصواعق عن عطاء عن أبي هريرة عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يعزه ولم ترد صفة العينين في القرآن بصورة التثنية.
هذه هي الوجوه الثلاثة التي وردت عليها صفتا اليدين، والعينين.
والجمع بين هذه الوجوه أن يقال:
إن الإفراد لا ينافي التثنية، ولا الجمع؛ لأن المفرد المضاف يعم فيتناول كل ما ثبت لله من يد، أو عين واحدة كانت أو أكثر.
(4/59)
وأما الجمع بين ما جاء بلفظ التثنية وبلفظ الجمع: فإن قلنا: أقل الجمع اثنان فلا منافاة أصلا بين صيغتي التثنية والجمع لاتحاد مدلوليهما، وإن قلنا: أقل الجمع ثلاثة وهو المشهور فالجمع بينهما أن يقال: إنه لا يراد من صيغة الجمع مدلولها الذي هو ثلاثة فأكثر، وإنما أريد بها - والله أعلم - التعظيم والمناسبة، أعني مناسبة المضاف للمضاف إليه، فإن المضاف إليه، وهو " نا " يراد به هنا التعظيم قطعا فناسب أن يؤتى بالمضاف بصيغة الجمع ليناسب المضاف إليه فإن الجمع أدل على التعظيم من الإفراد والتثنية، وإذا كان كل من المضاف والمضاف إليه دالا على التعظيم حصل من بينهما تعظيم أبلغ.
(4/60)
الباب الثامن عشر: في كلام الله سبحانه وتعالى
اتفق أهل السنة والجماعة على أن الله يتكلم، وأن كلامه صفة حقيقية ثابتة له على الوجه اللائق به.
وهو سبحانه يتكلم بحرف وصوت، كيف يشاء، متى شاء، فكلامه صفة ذات باعتبار جنسه، وصفة فعل باعتبار آحاده.
وقد دل على هذا القول الكتاب، والسنة.
فمن أدلة الكتاب قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} وقوله: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} وقوله: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} .
ففي الآية الأولى: إثبات أن الكلام يتعلق بمشيئته، وأن آحاده حادثة.
وفي الآية الثانية: دليل على أنه بحرف، فإن مقول القول فيها حروف.
وفي الآية الثالثة: دليل على أنه بصوت إذ لا يعقل النداء والمناجاة إلا بصوت.
ومن أدلة السنة قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يقول الله تعالى: يا آدم. فيقول: لبيك وسعديك. فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار» .
(4/61)
وكلامه سبحانه هو اللفظ والمعنى جميعا، ليس هو اللفظ وحده أو المعنى وحده، هذا هو قول أهل السنة والجماعة في كلام الله تعالى، أما أقوال غيرهم فإليك ملخصها من مختصر الصواعق المرسلة:
1 - قول الكرامية: وهو كقول أهل السنة إلا أنهم قالوا: " إنه حادث بعد أن لم يكن" فرارا من إثبات حوادث لا أول لها.
2 - قول الكلابية: " إنه معنى قائم بذاته لازم لها كلزوم الحياة والعلم، فلا يتعلق بمشيئته، والحروف والأصوات حكاية عنه خلقها الله لتدل على ذلك المعنى القائم بذاته، وهو أربعة معان: أمر، ونهي، وخبر، واستخبار".
3 - قول الأشعرية: وهو كقول الكلابية إلا أنهم يخالفونهم في شيئين:
أحدهما: في معاني الكلام، فالكلابية يقولون: "إنه أربعة معان". والأشعرية يقولون: إنه معنى واحد، فالخبر، والاستخبار، والأمر، والنهي كل واحد منها هو عين الآخر وليست أنواعا للكلام، بل صفات له، بل التوراة والإنجيل، والقرآن كل واحد منها عين الآخر لا تختلف إلا بالعبارة.
الثاني: أن الكلابية قالوا: " إن الحروف والأصوات حكاية عن كلام الله". وأما الأشعرية فقالوا: " إنها عبارة عن كلام الله".
4 - قول السالمية: "إنه صفة قائمة بذاته لازمة لها كلزوم الحياة، والعلم، فلا يتعلق بمشيئته، وهو حروف وأصوات متقارنة لا يسبق بعضها بعضا، فالباء والسين والميم في البسملة مثلا كل حرف منها مقارن للآخر في آن واحد، ومع ذلك لم تزل ولا تزال موجودة".
5 - قول الجهمية والمعتزلة: " إنه مخلوق من المخلوقات وليس من صفات الله".
(4/62)
ثم من الجهمية من صرح بنفي الكلام عن الله، ومنهم من أقر به وقال: إنه مخلوق.
6 - قول فلاسفة المتأخرين أتباع أرسطو: " إنه فيض من العقل الفعال على النفوس الفاضلة الزكية بحسب استعدادها وقبولها فيوجب لها تصورات، وتصديقات بحسب ما قبلته منه، وهذه التصورات والتصديقات المتخيلة تقوى حتى تصور الشيء المعقول صورا نورانية تخاطبها بكلام تسمعه الآذان.
7 - قول الاتحادية - القائلين بوحدة الوجود -: إن كل كلام في الوجود كلام الله كما قال قائلهم:
وكل كلام في الوجود كلامه ... سواء علينا نثره ونظامه
وكل هذه الأقوال مخالفة لما دل عليه الكتاب، والسنة، والعقل، ومن رزقه الله علما وحكمة فهم ذلك.
فصل
في أن القرآن كلام الله
مذهب أهل السنة والجماعة أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، تكلم به حقيقة، وألقاه إلى جبريل فنزل به على قلب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقد دل على هذا القول الكتاب، والسنة.
فمن أدلة الكتاب قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} يعني القرآن، وقوله: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ}
(4/63)
{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} .
ومن أدلة السنة قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يعرض نفسه على الناس في الموقف: «ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي عز وجل» . وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، للبراء بن عازب: «إذا أويت إلى فراشك فقل: اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت وبنبيك الذي أرسلت» .
وقال عمرو بن دينار: أدركت الناس منذ سبعين سنة يقولون: " الله الخالق وما سواه مخلوق، إلا القرآن فإنه كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود" اهـ.
ومعنى قولهم: " منه بدأ " أن الله تكلم به ابتداء، وفيه رد على الجهمية القائلين بأنه خلقه في غيره.
وأما قولهم: "وإليه يعود" فيحتمل معنيين:
أحدهما: أنه تعود صفة الكلام بالقرآن إليه بمعنى أن أحدا لا يوصف بأنه تكلم به غير الله، لأنه هو المتكلم به، والكلام صفة للمتكلم.
الثاني: أنه يرفع إلى الله تعالى كما جاء في بعض الآثار أنه يسري به من المصاحف والصدور وذلك إنما يقع - والله أعلم - حين يعرض الناس عن العمل بالقرآن إعراضا كليا فيرفع عنهم تكريما له والله المستعان.
(4/64)
فصل
في اللفظ والملفوظ
الكلام في هذا الفصل يتعلق بالقرآن فإنه قد سبق أن القرآن كلام الله غير مخلوق، لكن اللفظ بالقرآن هل يصح أن نقول: أنه مخلوق، أو غير مخلوق، أو يجب السكوت؟
فالجواب أن يقال: إن إطلاق القول في هذا نفيا أو إثباتا غير صحيح، وأما عند التفصيل فيقال: إن أريد باللفظ التلفظ الذي هو فعل العبد فهو مخلوق، لأن العبد وفعله مخلوقان، وإن أريد باللفظ الملفوظ به فهو كلام الله غير مخلوق، لأن كلام الله من صفاته، وصفاته غير مخلوقة، ويشير إلى هذا التفصيل قول الإمام أحمد رحمه الله: " من قال لفظي بالقرآن مخلوق يريد به القرآن فهو جهمي " فقوله: يريد به القرآن يدل على أنه إن أراد به غير القرآن وهو التلفظ الذي هو فعل فليس بجهمي. والله أعلم.
(4/65)
الباب التاسع عشر
في ظهور مقالة التعطيل واستمدادها
شاعت مقالة التعطيل بعد القرون المفضلة - الصحابة والتابعين وتابعيهم - وإن كان أصلها قد نبغ في أواخر عصر التابعين.
وأول من تكلم بالتعطيل الجعد بن درهم فقال: إن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما. فقتله خالد بن عبد الله القسري الذي كان واليا على العراق لهشام بن عبد الملك، خرج به إلى مصلى العيد بوثاقه ثم خطب الناس وقال: أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما ثم نزل وذبحه وذلك في عيد الأضحى سنة 119 هـ.
وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله في النونية:
ولأجل ذا ضحى بجعد ال ... قسري يوم ذبائح القربان
إذ قال: إبراهيم ليس خليله ... كلا ولا موسى الكليم الداني
شكر الضحية كل صاحب سنة ... لله درك من أخي قربان
ثم أخذها عن الجعد رجل يقال له: الجهم بن صفوان وهو الذي ينسب إليه مذهب الجهمية المعطلة، لأنه نشره فقتله سالم بن أحوز صاحب شرطة نصر بن سيار وذلك في مرو سنة 128 هـ.
وفي حدود المائة الثانية عربت الكتب اليونانية والرومانية فازداد الأمر بلاء وشدة.
ثم في حدود المائة الثالثة انتشرت مقالة الجهمية بسبب بشر بن غياث المريسي وطبقته الذين أجمع الأئمة على ذمهم وأكثرهم كفروهم أو
(4/66)
ضللوهم. وصنف عثمان بن سعيد الدارمي كتابا رد به على المريسي سماه " نقض عثمان بن سعيد على الكافر العنيد فيما افترى على الله من التوحيد" من طالع هذا الكتاب بعلم وعدل تبين له ضعف حجة هؤلاء المعطلة، بل بطلانها، وأن هذه التأويلات التي توجد في كلام كثير من المتأخرين كالرازي، والغزالي، وابن عقيل وغيرهم هي بعينها تأويلات بشر.
وأما استمداد مقالة التعطيل فكان من اليهود والمشركين وضلال الصابئين والفلاسفة.
فإن الجعد بن درهم أخذ مقالته على ما قيل من أبان بن سمعان عن طالوت عن لبيد بن الأعصم اليهودي الذي سحر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثم إن الجعد كان - على ما قيل - من أرض حران وفيها خلق كثير من الصابئة والفلاسفة، ولا ريب أن للبيئة تأثيرا قويا في عقيدة الإنسان وأخلاقه.
وكان مذهب النفاة من هؤلاء أن الله ليس له صفات ثبوتية، لأن ثبوت الصفات يقتضي - على زعمهم - أن الله مشابه لخلقه، وإنما يثبتون له صفات سلبية، أو إضافية، أو مركبة منهما.
فالسلبية: ما كان مدلولها عدم أمر لا يليق بالله عز وجل مثل قولهم: " إن الله واحد" بمعنى أنه مسلوب عنه القسمة بالكم، أو القول ومسلوب عنه الشريك.
والإضافية: هي التي لا يوصف الله بها على أنها صفة ثابتة له، ولكن يوصف بها باعتبار إضافتها إلى الغير كقولهم عن الله تعالى "إنه مبدأ وعلة" فهو مبدأ وعلة، باعتبار أن الأشياء صدرت منه لا باعتبار صفة ثابتة له هي البداء والعلية.
والمركبة منهما هي: التي تكون سلبية باعتبار، وإضافية باعتبار،
(4/67)
كقولهم عن الله تعالى: " أنه أول " فهي سلبية باعتبار أنه مسلوب عنه الحدوث إضافية باعتبار أن الأشياء بعده.
فإذا كان هذا هو ما تستمد منه طريقة النفاة فكيف تطيب نفس مؤمن أو عاقل أن يأخذ به ويترك سبيل الذين أنعم الله عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين؟.
(4/68)
الباب العشرون
في طريقة النفاة فيما يجب إثباته أو نفيه من صفات الله
اتفق النفاة على أن يثبتوا لله من الصفات ما اقتضت عقولهم إثباته وأن ينفوا عنه ما اقتضت عقولهم نفيه، سواء وافق الكتاب والسنة، أم خالفهما فطريق إثبات الصفات لله أو نفيها عنه عندهم هو العقل.
ثم اختلفوا فيما لا يقتضي العقل إثباته، أو نفيه، فأكثرهم نفوه وخرجوا ما جاء منه على المجاز، وبعضهم توقف فيه وفوض علمه إلى الله مع نفي دلالته على شيء من الصفات.
وهم يزعمون أنهم وفقوا بهذه الطريقة بين الأدلة العقلية والنقلية، ولكنهم كذبوا في ذلك، لأن الأدلة العقلية والنقلية متفقة على إثبات صفات الكمال لله، وكل ما جاء في الكتاب والسنة من صفات الله فإنه لا يخالف العقل، وإن كان العقل يعجز عن إدراك التفصيل في ذلك.
وقد شابه هؤلاء النفاة في طريقتهم طريقة من قال الله فيهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} .
ووجه مشابهتهم لهم من وجوه:
الأول: أن كل واحد من الفريقين يزعم أنه مؤمن بما أنزل على
(4/69)
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع أنهم لا يقبلون كل ما جاء به.
الثاني: أن هؤلاء النفاة إذا دعوا إلى ما جاء به الكتاب والسنة من إثبات صفات الكمال لله أعرضوا وامتنعوا، كما أن أولئك المنافقين إذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول صدوا وأعرضوا.
الثالث: أن هؤلاء النفاة لهم طواغيت يقلدونهم ويقدمونهم على ما جاءت به الرسل ويريدون أن يكون التحاكم عند النزاع إليهم لا إلى الكتاب والسنة، كما أن أولئك المنافقين يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به.
الرابع: أن هؤلاء النفاة زعموا أنهم أرادوا بطريقتهم هذه عملا حسنا وتوفيقا بين العقل والسمع، كما أن أولئك المنافقين يحلفون أنهم ما أرادوا إلا إحسانا وتوفيقا.
وكل مبطل يتستر في باطله ويتظاهر بالحق فإنه يأتي بالدعاوى الباطلة التي يروج بها باطله، ولكن من وهبه الله علما، وفهما، وحكمة، وحسن قصد فإنه لا يلتبس عليه الباطل ولا تروج عليه الدعاوى الكاذبة. والله المستعان.
فصل
فيما يلزم على طريقة النفاة من اللوازم الباطلة
يلزم على طريقة النفاة لوازم باطلة منها:
أولا: أن الكتاب والسنة صرحا بالكفر والدعوة إليه لأنهما مملوءان من إثبات صفات الله التي زعم هؤلاء النفاة أن إثباتها تشبيه وكفر.
ثانيا: أن الكتاب والسنة لم يبينا الحق، لأن الحق عند هؤلاء هو نفي الصفات، وليس في الكتاب ولا في السنة ما يدل على نفي صفات الكمال عن الله لا نصا ولا ظاهرا.
(4/70)
وغاية المتحذلق من هؤلاء أن يستنتج ذلك (1) من مثل قوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} . {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}
ومن المعلوم لكل عاقل أن المقصود من أمثال هذه النصوص إثبات كمال الله تعالى، وأنه لا شبيه له في صفاته، ولا يمكن أن يراد بها بيان انتفاء الصفات عنه إذ لا ريب أن من دل الناس على انتفاء الصفات عن الله بمثل هذا الكلام فهو إما ملغز في كلامه، أو مدلس، أو عاجز عن البيان، وكل هذه الأمور ممتنعة في كلام الله وكلام رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن كلامهما قد تضمن كمال البيان والإرادة، فليس المقصود به إرادة ضلال الخلق والتعمية عليهم، وليس فيه نقص في البيان والفصاحة.
ثالثا: أن السابقين الأولين من المهاجرين، والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان كانوا قائلين بالباطل وكاتمين للحق، أو جاهلين به، فإنه قد تواتر النقل عنهم بإثبات صفات الكمال لله الذي زعم هؤلاء أنه باطل، ولم يتكلموا مرة واحدة بنفي الصفات الذي زعم هؤلاء أنه الحق، وهذا اللازم ممتنع على خير القرون وأفضل الأمة.
رابعا: أنه إذا انتفت صفة الكمال عن الله لزم أن يكون متصفا بصفات النقص، فإن كل موجود في الخارج لا بد له من صفة فإذا انتفت عنه صفات الكمال لزم أن يكون متصفا بصفات النقص، وبهذا ينعكس الأمر على هؤلاء النفاة ويقعون في شر مما فروا منه.
__________
(1) أي ما يدعيه من نفي الصفات.
(4/71)
فصل
فيما يعتمد عليه النفاة من الشبهات
يعتمد نفاة الصفات على شبهات باطلة (1) يعرف بطلانها كل من رزقه الله علما صحيحا وفهما سليما.
وغالب ما يعتمدون عليه ما يأتي:
1 - دعوى كاذبة مثل أن يدعي الإجماع على قوله، أو أنه هو التحقيق أو أنه قول المحققين، أو أن قول خصمه خلاف الإجماع ونحو ذلك.
2 - شبهة مركبة من قياس فاسد مثل قولهم: إثبات الصفات لله يستلزم التشبيه، لأن الصفات أعراض والعرض لا يقوم إلا بجسم، والأجسام متماثلة.
3 - تمسك بألفاظ مشتركة بين معان يصح نسبتها إلى الله تعالى ومعان لا يصح نسبتها إليه مثل: الجسم والحيز، والجهة فهذه الألفاظ المجملة يتوصلون بإطلاق نفيها عن الله إلى نفي صفاته عنه. (2)
ثم هم يصوغون هذه الشبهات بعبارات مزخرفة طويلة غريبة يحسبها الجاهل بها حقا بما كسيته من زخارف القول فإذا حقق الأمر تبين له أنها شبهات باطلة كما قيل:
حجج تهافت كالزجاج تخالها ... حقا وكل كاسر مكسور
__________
(1) ومنها ما تقدم من قوله تعالى: (هل تعلم له سميًّا) (ولم يكن له كفواً أحد) .
(2) انظر الكلام في الجهة ص 68 الباب التاسع والكلام في الجسم ص 71 الباب العاشر وأما الحيز فيفصل فيه فإن أريد أن الله تحوزه المخلوقات فهو ممتنع وإن أريد أنه منحاز عن المخلوقات مباين لها فصحيح.
(4/72)
والرد على هؤلاء من وجوه:
الأول: نقض شبهاتهم وحججهم، وأنه يلزمهم فيما أثبتوه نظير ما فروا منه فيما نفوه.
الثاني: بيان تناقض أقوالهم واضطرابها، حيث كان كل طائفة منهم تدعي أن العقل يوجب ما تدعي الأخرى أنه يمنعه ونحو ذلك، بل الواحد منهم ربما يقول قولا يدعي أن العقل يوجبه، ثم ينقضه في محل آخر، وتناقض الأقوال من أقوى الأدلة على فسادها.
الثالث: بيان ما يلزم على نفيهم من اللوازم الباطلة فإن فساد اللازم يدل على فساد الملزوم.
الرابع: أن النصوص الواردة في الصفات لا تحتمل التأويل، ولئن احتمله بعضها فليس فيه ما يمنع إرادة الظاهر فتعين المصير إليه.
الخامس: أن عامة هذه الأمور من الصفات يعلم بالضرورة من دين الإسلام أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاء بها، فتأويلها بمنزلة تأويل القرامطة والباطنية للصلاة، والصوم، والحج ونحو ذلك.
السادس: أن العقل الصريح - أي السالم من الشبهات، والشهوات - لا يحيل ما جاءت به النصوص من صفات الله، بل إنه يدل على ثبوت صفات الكمال لله في الجملة، وإن كان في النصوص من التفاصيل في هذا الباب ما تعجز العقول عن إدراكه والإحاطة به.
وقد اعترف الفحول من هؤلاء أن العقل لا يمكنه الوصول إلى اليقين في عامة المطالب الإلهية، وعلى هذا فالواجب تلقي ذلك من النبوات على ما هو عليه من غير تحريف والله أعلم.
(4/73)
الباب الحادي والعشرون
في أن كل واحد من فريقي التعطيل والتمثيل قد جمع بين التعطيل والتمثيل
المعطل: هو من نفى شيئا من أسماء الله، أو صفاته، كالجهمية والمعتزلة والأشعرية ونحوهم.
والممثل: هو من أثبت الصفات لله ممثلا له بخلقه، كمتقدمي الرافضة ونحوهم.
وحقيقة الأمر أن كل معطل ممثل، وكل ممثل معطل.
أما المعطل فتعطيله ظاهر. وأما تمثيله فوجهه: أنه إنما عطل لأنه اعتقد أن إثبات الصفات يستلزم التشبيه فأخذ ينفي الصفات فرارا من ذلك فمثل أولا، وعطل ثانيا.
وأما الممثل فتمثيله ظاهر وأما تعطيله فمن وجوه ثلاثة:
أحدها: أنه عطل نفس النص الذي أثبت به الصفة حيث صرفه عن مقتضى ما يدل عليه، فإن النص دال على إثبات صفة تليق بالله، لا على مشابهة الله لخلقه.
الثاني: أنه إذا مثل الله بخلقه فقد عطل كل نص يدل على نفي مشابهته لخلقه. مثل قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} .
الثالث: أنه إذا مثل الله بخلقه فقد عطله عن كماله الواجب، حيث شبه الرب الكامل من جميع الوجوه بالمخلوق الناقص.
(4/74)
الباب الثاني والعشرون
في تحذير السلف عن علم الكلام
علم الكلام هو ما أحدثه المتكلمون في أصول الدين من إثبات العقائد بالطرق التي ابتكروها، وأعرضوا بها عما جاء الكتاب والسنة به، وقد تنوعت عبارات السلف في التحذير عن الكلام وأهله لما يفضي إليه من الشبهات والشكوك حتى قال الإمام أحمد: " لا يفلح صاحب كلام أبدا".
وقال الشافعي: " حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد، والنعال، ويطاف بهم في العشائر والقبائل، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على علم الكلام " اهـ.
وهم مستحقون لما قاله الإمام الشافعي من وجه ليتوبوا إلى الله ويرتدع غيرهم عن اتباع مذهبهم، وإذا نظرنا إليهم من وجه آخر وقد استولت عليهم الحيرة واستحوذ عليهم الشيطان فإننا نرحمهم ونرق لهم ونحمد الله الذي عافانا مما ابتلاهم به.
فلنا فيهم نظران، نظر من جهة الشرع: نؤدبهم ونمنعهم به من نشر مذهبهم، ونظر من جهة القدر نرحمهم ونسأل الله لهم العافية، ونحمد الله الذي عافانا من حالهم.
وأكثر من يخاف عليهم الضلال هم الذين دخلوا في علم الكلام ولم يصلوا إلى غايته.
ووجه ذلك أن من لم يدخل فيه فهو في عافية، ومن وصل إلى غايته فقد تبين له فساده ورجع إلى الكتاب والسنة كما جرى لبعض كبارهم (1)
__________
(1) راجع ص 59 من الباب الرابع
(4/75)
فيبقى الخطر على من خرج عن الصراط المستقيم ولم يتبين له حقيقة الأمر.
وقد نقل المؤلف رحمه الله في هذه الفتوى كثيرا من كلام من تكلم في هذا الباب من المتكلمين قال: " وإن كنا مستغنين بالكتاب والسنة وآثار السلف عن كل كلام، ولكن كثيرا من الناس قد صار منتسبا إلى بعض طوائف المتكلمين ومحسنا للظن بهم دون غيرهم، ومتوهما أنهم حققوا في هذا الباب ما لم يحققه غيرهم، فلو أتي بكل آية ما تبعها حتى يؤتى بشيء من كلامهم". ثم قال: " وليس كل من ذكرنا قوله من المتكلمين وغيرهم نقول بجميع ما يقوله في هذا وغيره، ولكن الحق يقبل من كل من تكلم به" اهـ.
فبين رحمه الله أن الغرض من نقله بيان الحق من أي إنسان، وإقامة الحجة على هؤلاء من كلام أئمتهم والله أعلم.
(4/76)
الباب الثالث والعشرون
في أقسام المنحرفين عن الاستقامة
في باب الإيمان بالله واليوم الآخر
طريقة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان على الصراط المستقيم علما، وعملا يعرف ذلك من تتبعها بعلم وعدل فقد حققوا الإيمان بالله واليوم الآخر، وأقروا بأن ذلك حق على حقيقته، وهم في عملهم مخلصون لله، متبعون لشرعه، فلا شرك، ولا ابتداع، ولا تحريف، ولا تكذيب.
وأما المنحرفون عن طريقتهم فهم ثلاث طوائف:
أهل التخييل، وأهل التأويل، وأهل التجهيل.
فأما أهل التخييل: فهم الفلاسفة، والباطنية ومن سلك سبيلهم من المتكلمين وغيرهم. وحقيقة مذهبهم أن ما جاءت به الأنبياء مما يتعلق بالإيمان بالله واليوم الآخر أمثال وتخييلات لا حقيقة لها في الواقع، وإنما المقصود بها انتفاع العامة وجمهور الناس، لأن الناس إذا قيل لهم: إن لكم ربا عظيما، قادرا، رحيما، قاهرا، وأمامكم يوما عظيما تبعثون فيه، وتجازون بأعمالكم ونحو ذلك استقاموا على الطريقة المطلوبة منهم، وإن كان هذا لا حقيقة له على زعم هؤلاء.
ثم إن هؤلاء على قسمين: غلاة، وغير غلاة.
فأما الغلاة فيزعمون أن الأنبياء لا يعلمون حقائق هذه الأمور وأن من المتفلسفة الإلهية - ومن يزعمونهم أولياء - من يعلم هذه الحقائق، فزعموا أن من الفلاسفة من هو أعلم بالله واليوم الآخر من النبيين الذين
(4/77)
هم أعلم الناس بذلك.
وأما غير الغلاة فيزعمون أن الأنبياء يعلمون حقائق هذه الأمور ولكنهم ذكروا للناس أمورا تخييلية لا تطابق الحق لتقوم مصلحة الناس، فزعموا أن مصلحة العباد لا تقوم إلا بهذه الطريقة التي تتضمن كذب الأنبياء في أعظم الأمور وأهمها.
فالطائفة الأولى حكمت على الرسل بالجهل. والطائفة الثانية حكمت عليهم بالخيانة والكذب.
هذا هو قول أهل التخييل فيما يتعلق بالإيمان بالله واليوم الآخر.
أما في الأعمال فمنهم من يجعلها حقائق يؤمر بها كل أحد، ومنهم من يجعلها تخييلات ورموزا يؤمر بها العامة دون الخاصة فيؤولون الصلاة بمعرفة أسرارهم، والصيام بكتمانها، والحج بالسفر إلى شيوخهم ونحو ذلك. وهؤلاء هم الملاحدة من الإسماعيلية والباطنية ونحوهم.
وفساد قول هؤلاء معلوم بضرورة الحس، والعقل، والشرع فإننا نشاهد من الآيات الدالة على وجود الله وكمال صفاته ما لا يمكن حصره:
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد
فإن هذه الحوادث المنتظمة لا يمكن أن تحدث إلا بمدبر حكيم قادر على كل شيء.
والإيمان باليوم الآخر دلت عليه جميع الشرائع واقتضته حكمة الله البالغة، ولا ينكره إلا مكابر، أو مجنون، وأهل التخييل لا يحتاجون في الرد عليهم إلى شيء كثير، لأن نفور الناس عنهم معلوم ظاهر.
وأما أهل التأويل: فهم المتكلمون من الجهمية والمعتزلة وأتباعهم.
وحقيقة مذهبهم أن ما جاء به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من نصوص الصفات لم يقصد به ظاهره، وإنما المقصود به معان تخالفه يعلمها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لكنه
(4/78)
تركها للناس يستنتجونها بعقولهم ثم يحاولون صرف ظواهر النصوص إليها، وغرضه بذلك امتحان عقولهم، وكثرة الثواب بما يعانونه من محاولة صرف الكلام عن ظاهره وتنزيله على شواذ اللغة وغرائب الكلام.
وهؤلاء هم أكثر الناس اضطرابا وتناقضا، لأنهم ليس لهم قدم ثابت يمكن تأويله وما لا يمكن، ولا في تعيين المعنى المراد.
ثم إن غالب ما يزعمونه من المعاني يعلم من حال المتكلم وسياق كلامه أنه لم يرده في ذلك الخطاب المعين الذي أولوه.
وهؤلاء كانوا يتظاهرون بنصر السنة ويتسترون بالتنزيه، ولكن الله تعالى هتك أستارهم برد شبهاتهم ودحض حججهم، فلقد تصدى شيخ الإسلام وغيره (1) للرد عليهم أكثر من غيرهم لأن الاغترار بهم أكثر من الاغترار بغيرهم لما يتظاهرون به من نصر السنة.
فصل
مذهب أهل التأويل في نصوص المعاد: الإيمان بها على حقيقتها من غير تأويل، ولما كان مذهبهم في نصوص الصفات صرفها عن حقائقها إلى معان مجازية تخالف ظاهرها، استطال عليهم أهل التخييل فألزموهم القول بتأويل نصوص المعاد كما فعلوا في نصوص الصفات. فقال أهل التأويل لهم: نحن نعلم بالاضطرار أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاء بإثبات المعاد، وقد علمنا فساد الشبهة المانعة منه فلزم القول بثبوته.
وهذا جواب صحيح وحجة قاطعة تتضمن الدفاع عنهم في عدم تأويلهم نصوص المعاد وإلزامهم أهل التخييل أن يقولوا بإثبات المعاد وإجراء نصوصه على حقائقها، لأنه إذا قام الدليل، وانتفى المانع وجب ثبوت المدلول.
__________
(1) انظر الرد عليهم ص 95 في الباب العشرين
(4/79)
وقد احتج أهل السنة على أهل التأويل بهذه الحجة نفسها ليقولوا بثبوت الصفات وإجراء نصوصها على حقيقتها فقالوا لأهل التأويل: نحن نعلم بالاضطرار أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاء بإثبات الصفات لله، وقد علمنا فساد الشبهة المانعة منه فلزم القول بثبوتها، وهذا إلزام صحيح وحجة قائمة لا محيد لأهل التأويل عنها، فإن من منع صرف الكلام عن حقيقته في نصوص المعاد يلزمه أن يمنعه في نصوص الصفات التي هي أعظم وأكثر إثباتا في الكتب الإلهية من إثبات المعاد، وإن لم يفعل فقد تبين تناقضه وفساد عقله.
فصل
وأما أهل التجهيل فهم كثير من المنتسبين إلى السنة وأتباع السلف.
وحقيقة مذهبهم أن ما جاء به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من نصوص الصفات ألفاظ مجهولة لا يعرف معناها حتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتكلم بأحاديث الصفات ولا يعرف معناها.
ثم هم مع ذلك يقولون: ليس للعقل مدخل في باب الصفات. فيلزم على قولهم أن لا يكون عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه وأئمة السلف في هذا الباب علوم عقلية ولا سمعية وهذا من أبطل الأقوال.
وطريقتهم في نصوص الصفات إمرار لفظها مع تفويض معناها ومنهم من يتناقض فيقول: تجرى على ظاهرها مع أن لها تأويلا يخالفه لا يعلمه إلا الله. وهذا ظاهر التناقض فإنه إذا كان المقصود بها التأويل الذي يخالف الظاهر وهو لا يعلمه إلا الله فكيف يمكن إجراؤها على ظاهرها؟
وقد قال الشيخ رحمه الله عن طريقة هؤلاء في كتاب (العقل والنقل) ص 121 ج1: "فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف من شر أقوال أهل البدع والإلحاد " اهـ.
(4/80)
والشبهة التي احتج بها أهل التجهيل هي وقف أكثر السلف على {إِلَّا اللَّهُ} من قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} .
وقد بنوا شبهتهم على مقدمتين:
الأولى: أن آيات الصفات من المتشابهة.
الثانية: أن التأويل المذكور في الآية: هو صرف اللفظ عن ظاهره إلى المعنى الذي يخالف الظاهر فتكون النتيجة أن لآيات الصفات معنى يخالف ظاهرها لا يعلمه إلا الله.
والرد عليهم من وجوه:
الأول: أن نسألهم ماذا يريدون بالتشابه الذي أطلقوه على آيات الصفات. أيريدون اشتباه المعنى وخفاءه، أم يريدون اشتباه الحقيقة وخفاءها؟
فإن أرادوا المعنى الأول - وهو مرادهم - فليست آيات الصفات منه لأنها ظاهرة المعنى، وإن أرادوا المعنى الثاني فآيات الصفات منه لأنه لا يعلم حقيقتها وكيفيتها إلا الله تعالى. وبهذا عرف أنه لا يصح إطلاق التشابه على آيات الصفات بل لا بد من التفصيل السابق.
الثاني: إن قولهم: " إن التأويل المذكور في الآية هو صرف اللفظ عن ظاهره إلى المعنى الذي يخالف الظاهر غير صحيح "، فإن هذا المعنى للتأويل اصطلاح حادث لم يعرفه العرب والصحابة الذين نزل القرآن بلغتهم، وإنما المعروف عندهم أن التأويل يراد به معنيان:
إما التفسير ويكون التأويل على هذا معلوما لأولي العلم كما قال ابن
(4/81)
عباس رضي الله عنهما: " أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله" وعليه يحمل وقف كثير من السلف على قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} من الآية السابقة.
وإما حقيقة الشيء ومآله، وعلى هذا يكون تأويل ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر غير معلوم لنا، لأن ذلك هو الحقيقة والكيفية التي هو عليها وهو مجهول لنا كما قاله مالك وغيره في الاستواء وغيره، وعليه يحمل وقف جمهور السلف على قوله تعالى {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} من الآية السابقة.
الوجه الثالث: إن الله أنزل القرآن للتدبر، وحثنا على تدبره كله ولم يستثن آيات الصفات، والحث على تدبره يقتضي أنه يمكن الوصول إلى معناه، وإلا لم يكن للحث على تدبره معنى؛ لأن الحث على شيء لا يمكن الوصول إليه لغو من القول ينزه كلام الله وكلام رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنه، وهذا - أعني الحث على تدبره كله من غير استثناء- يدل على أن لآيات الصفات معنى يمكن الوصول إليه بالتدبر، وأقرب الناس إلى فهم ذلك المعنى هو النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، لأن القرآن نزل بلغتهم، ولأنهم أسرع الناس إلى امتثال الحث على التدبر خصوصا فيما هو أهم مقاصد الدين.
وقد قال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهما كانوا إذا تعلموا من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عشر آيات لا يتجاوزونها حتى يتعلموها وما فيها من العلم والعمل، قال: فتعلمنا القرآن، والعلم، والعمل جميعا. فكيف يجوز مع هذا أن يكونوا جاهلين بمعاني نصوص الصفات التي هي أهم شيء في الدين؟!
(4/82)
الرابع: إن قولهم يستلزم أن يكون الله قد أنزل في كتابه المبين ألفاظا جوفاء لا يبين بها الحق، وإنما هي بمنزلة الحروف الهجائية والأبجدية، وهذا ينافي حكمة الله التي أنزل الله الكتاب وأرسل الرسول من أجلها.
تنبيه: علم مما سبق أن معاني التأويل ثلاثة:
أحدها: التفسير وهو إيضاح المعنى وبيانه، وهذا اصطلاح جمهور المفسرين ومنه «قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابن عباس: " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل".» وهذا معلوم عند العلماء في آيات الصفات وغيرها.
الثاني: الحقيقة التي يئول الشيء إليها، وهذا هو المعروف من معنى التأويل في الكتاب والسنة كما قال تعالى {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ} {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} فتأويل آيات الصفات بهذا المعنى هو الكنه والحقيقة التي هي عليها، وهذا لا يعلمه إلا الله.
الثالث: صرف اللفظ عن ظاهره إلى المعنى الذي يخالف الظاهر وهو اصطلاح المتأخرين من المتكلمين وغيرهم. وهذان نوعان: صحيح وفاسد:
فالصحيح: ما دل الدليل عليه مثل تأويل قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} إلى أن المعنى إذا أردت أن تقرأ.
والفاسد: ما لا دليل عليه كتأويل استواء الله على عرشه باستيلائه ويده بقوته ونعمته ونحو ذلك.
(4/83)
فصل
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: " تفسير القرآن على أربعة أوجه:
تفسير تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله، فمن ادعى علمه فهو كاذب" اهـ.
فالتفسير الذي تعرفه العرب من كلامها هو تفسير مفردات اللغة كمعرفة معنى القرء، والنمارق، والكهف ونحوها.
والتفسير الذي لا يعذر أحد بجهالته هو تفسير الآيات المكلف بها اعتقادا، أو عملا كمعرفة الله بأسمائه وصفاته، ومعرفة اليوم الآخر، والطهارة، والصلاة، والزكاة وغيرها.
والتفسير الذي يعلمه العلماء هو ما يخفى على غيرهم مما يمكن الوصول إلى معرفته كمعرفة أسباب النزول، والناسخ، والمنسوخ، والعام، والخاص، والمحكم، والمتشابه، ونحو ذلك.
وأما التفسير الذي لا يعلمه إلا الله فهو حقائق ما أخبر الله به عن نفسه، وعن اليوم الآخر، فإن هذه الأشياء نفهم معناها، لكن لا ندرك حقيقة ما هي عليه في الواقع.
مثال ذلك: أننا نفهم معنى استواء الله على عرشه، ولكننا لا ندرك كيفيته التي هي حقيقة ما هو عليه في الواقع. وكذلك نفهم معنى الفاكهة والعسل، والماء، واللبن، وغيرها مما أخبر الله أنه في الجنة ولكن لا ندرك حقيقته في الواقع كما قال تعالى {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} قال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس في
(4/84)
الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء.
وبهذا تبين أن في القرآن ما لا يعلم تأويله إلا الله كحقائق أسمائه وصفاته وما أخبر الله به عن اليوم الآخر، وأما معاني هذه الأشياء فإنها معلومة لنا وإلا لما كان للخطاب بها فائدة. والله أعلم.
(4/85)
الباب الرابع والعشرون
في انقسام أهل القبلة في آيات الصفات وأحاديثها
المراد بأهل القبلة من يصلي إلى القبلة وهم كل من ينتسب إلى الإسلام.
وقد انقسم أهل القبلة في آيات الصفات وأحاديثها إلى ست طوائف:
طائفتان قالوا: تجرى على ظاهرها.
وطائفتان قالوا: تجرى على خلاف ظاهرها.
وطائفتان واقفتان.
فالطائفتان الذين قالوا تجرى على ظاهرها هم:
1 - طائفة المشبهة الذين جعلوها من جنس صفات المخلوقين ومذهبهم باطل أنكره عليهم السلف.
2 - طائفة السلف الذين أجروها على ظاهرها اللائق بالله عز وجل ومذهبهم هو الصواب المقطوع به لدلالة الكتاب، والسنة، والعقل عليه دلالة ظاهرة إما قطعية، وإما ظنية، كما تقدم دليل وجوبها وصحتها في البابين الثالث والرابع.
والفرق بين هاتين الطائفتين، أن الأولى تقول بالتشبيه، والثانية تنكره.
فإن قال المشبه في علم الله ونزوله ويده مثلا: أنا لا أعقل من العلم والنزول، واليد إلا مثل ما يكون للمخلوقين من ذلك.
فجوابه من وجوه:
الأول: أن العقل، والسمع قد دل كل منهما على مباينة الخالق
(4/86)
للمخلوق في جميع صفاته، فصفات الخالق تليق به، وصفات المخلوق تليق به، فمن أدلة السمع على مباينة الخالق للمخلوق قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ومن أدلة العقل أن يقال: كيف يكون الخالق الكامل من جميع الوجوه، الذي الكمال من لوازم ذاته، وهو معطي الكمال مشابها للمخلوق الناقص، الذي النقص من لوازم ذاته، وهو مفتقر إلى من يكمله؟!
الثاني: أن يقال له: ألست تعقل لله ذاتا لا تشبه ذات المخلوقين؟
فسيقول بلى. فيقال له: فلتعقل إذن أن لله صفات لا تشبه صفات المخلوقين، فإن القول في الصفات كالقول في الذات، ومن فرق بينها فقد تناقض.
الثالث: أن يقال: نحن نشاهد من صفات المخلوقات صفات اتفقت في أسمائها، وتباينت في كيفيتها فليست يد الإنسان كيد الحيوان الآخر فإذا جاز اختلاف الكيفية في صفات المخلوقات مع اتحادها في الاسم فاختلاف ذلك بين صفات الخالق والمخلوق من باب أولى، بل التباين بين صفات الخالق والمخلوق واجب كما تقدم.
وأما الطائفتان الذين قالوا: تجرى على خلاف ظاهرها، وأنكروا أن يكون لله صفات ثبوتية، أو أنكروا بعض الصفات، أو أثبتوا الأحوال دون الصفات فهم:
1 - أهل التأويل من الجهمية وغيرهم الذين أولوا نصوص الصفات إلى معان عينوها كتأويل اليد بالنعمة، والاستواء بالاستيلاء ونحو ذلك.
2 - أهل التجهيل المفوضة الذين قالوا: الله أعلم بما أراد بنصوص
(4/87)
الصفات، لكننا نعلم أنه لم يرد إثبات صفة خارجية له تعالى، وهذا القول متناقض فإن قولهم: " نعلم أنه لم يرد إثبات صفة خارجية له" يناقض التفويض، لأن حقيقة التفويض أن لا يحكم المفوض بنفي ولا إثبات وهذا ظاهر.
والفرق بين هاتين الطائفتين: أن الأولى أثبتوا لنصوص الصفات معنى لكنه خلاف ظاهرها، وأما الثانية فيفوضون ذلك إلى الله من غير إثبات معنى، مع قولهم: " أنه لا يراد من تلك النصوص إثبات صفة لله عز وجل".
وأما الطائفتان الذين توقفوا فهم:
1- طائفة جوزوا أن يكون المراد بنصوص الصفات إثبات صفة تليق بالله، وأن لا يكون المراد ذلك، وهؤلاء كثير من الفقهاء وغيرهم.
2- طائفة أعرضوا بقلوبهم وألسنتهم عن هذا كله ولم يزيدوا على قراءة القرآن والحديث.
والفرق بين هذه الطائفة والتي قبلها: أن الأولى تحكم بتجويز الأمرين: الإثبات وعدمه، وأما الثانية، فلا تحكم بشيء أبدا. والله أعلم.
(4/88)
الباب الخامس والعشرون
في ألقاب السوء التي وضعها المبتدعة على أهل السنة
من حكمة الله تعالى أن جعل لكل نبي عدوا من المجرمين يصدون عن الحق بما استطاعوا من قول وفعل بأنواع المكائد، والشبهات، والدعاوى الباطلة، ليتبين بذلك الحق، ويتضح ويعلو على الباطل، وقد لقي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه من هذا شيئا كثيرا كما قال تعالى: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} فقد وضع أولئك الظالمون المشركون للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه ألقاب التشنيع والسخرية مثل: ساحر، مجنون، كاهن، كذاب، ونحو ذلك.
ولما كان أهل العلم والإيمان هو ورثة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقوا من أهل الكلام والبدع مثل ما لقيه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه من أولئك المشركين، فكانت كل طائفة من هذه الطوائف تلقب أهل السنة بما برأهم الله منه من ألقاب التشنيع والسخرية إما لجهلهم بالحق حيث ظنوا صحة ما هم عليه وبطلان ما عليه أهل السنة، وإما لسوء القصد حيث أرادوا بذلك التنفير عن أهل السنة، والتعصب لآرائهم مع علمهم بفسادها.
فالجهمية ومن تبعهم من المعطلة سموا أهل السنة " مشبهة " زعما منهم أن إثبات الصفات يستلزم التشبيه.
والروافض سموا أهل السنة " نواصب " لأنهم يوالون أبا بكر وعمر كما كانوا يوالون آل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والروافض تزعم أن من والى أبا بكر وعمر فقد نصب العداوة لآل البيت، ولذلك كانوا يقولون: " لا ولاء إلا ببراء"
(4/89)
أي لا ولاية لآل البيت إلا بالبراءة من أبي بكر وعمر.
والقدرية النفاة قالوا: أهل السنة " مجبرة " لأن إثبات القدر جبر عند هؤلاء النفاة.
والمرجئة المانعون من الاستثناء في الإيمان يسمون أهل السنة " شكاكا " لأن الإيمان عندهم هو إقرار القلب، والاستثناء شك فيه عند هؤلاء المرجئة.
وأهل الكلام والمنطق يسمون أهل السنة " حشوية " من الحشو وهو ما لا خير فيه ويسمونهم "نوابت ". وهي بذور الزرع التي تنبت معه ولا خير فيها. ويسمونهم " غثاء " وهو ما تحمله الأودية من الأوساخ، لأن هؤلاء المناطقة زعموا أن من لم يحط علما بالمنطق فليس على يقين من أمره، بل هو من الرعاع الذين لا خير فيهم.
والحق أن هذا العلم الذي فخروا به لا يغني من الحق شيئا كما قال الشيخ رحمه الله في كتابه " الرد على المنطقيين ": " إني كنت دائما أعلم أن المنطق اليوناني لا يحتاج إليه الذكي ولا ينتفع به البليد ". اهـ.
(4/90)
الباب السادس والعشرون
في الإسلام والإيمان
الإسلام لغة: الانقياد.
وشرعا: استسلام العبد لله ظاهرا وباطنا بفعل أوامره واجتناب نواهيه فيشمل الدين كله قال الله تعالى {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} .
وأما الإيمان فهو لغة: التصديق قال الله تعالى {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} .
وفي الشرع: إقرار القلب المستلزم للقول والعمل، فهو اعتقاد وقول وعمل، اعتقاد القلب، وقول اللسان، وعمل القلب والجوارح.
والدليل على دخول هذه الأشياء كلها في الإيمان قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره» . وقوله: «الإيمان بضع وسبعون شعبة فأعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان» .
فالإيمان بالله وملائكته إلخ اعتقاد القلب.
وقول لا إله إلا الله قول اللسان.
وإماطة الأذى عن الطريق عمل الجوارح. والحياء عمل القلب.
(4/91)
وبذلك عرف أن الإيمان يشمل الدين كله، وحينئذ لا فرق بينه وبين الإسلام وهذا حينما ينفرد أحدهما عن الآخر، أما إذا اقترن أحدهما بالآخر فإن الإسلام يفسر بالاستسلام الظاهر الذي هو قول اللسان، وعمل الجوارح، ويصدر من المؤمن كامل الإيمان، وضعيف الإيمان قال الله تعالى {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} ومن المنافق لكن يسمى مسلما ظاهرا ولكنه كافر باطنا.
ويفسر الإيمان بالاستسلام الباطن الذي هو إقرار القلب وعمله، ولا يصدر إلا من المؤمن حقا كما قال تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} .
وبهذا المعنى يكون الإيمان أعلى. فكل مؤمن مسلم ولا عكس.
فصل
في زيادة الإيمان ونقصانه
من أصول أهل السنة والجماعة: أن الإيمان يزيد وينقص وقد دل على ذلك الكتاب والسنة.
فمن أدلة الكتاب قوله تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} .
ومن أدلة السنة قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في النساء: «ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن» .
(4/92)
ففي الآية إثبات زيادة الإيمان، وفي الحديث إثبات نقص الدين.
وكل نص يدل على زيادة الإيمان فإنه يتضمن الدلالة على نقصه وبالعكس، لأن الزيادة والنقص متلازمان لا يعقل أحدهما بدون الآخر.
وقد ثبت لفظ الزيادة والنقص منه عن الصحابة ولم يعرف منهم مخالف فيه، وجمهور السلف على ذلك قال ابن عبد البر: وعلى أن الإيمان يزيد وينقص جماعة أهل الآثار والفقهاء أهل الفتيا في الأمصار. وذكر عن مالك روايتين في إطلاق النقص إحداهما: التوقف. والثانية: موافقة الجماعة.
وخالف في هذا الأصل طائفتان:
إحداهما: المرجئة الخالصة الذين يقولون: إن الإيمان إقرار القلب وزعموا أن إقرار القلب لا يتفاوت فالفاسق والعدل عندهم سواء في الإيمان.
الثانية: الوعيدية من المعتزلة والخوارج الذين أخرجوا أهل الكبائر من الإيمان وقالوا: إن الإيمان إما أن يوجد كله، وإما أن يعدم كله، ومنعوا من تفاضله.
وكل من هاتين الطائفتين محجوج بالسمع والعقل.
أما السمع فقد تقدم في النصوص ما دل على إثبات زيادة الإيمان ونقصه.
وأما العقل فنقول للمرجئة: قولكم: " إن الإيمان هو إقرار القلب، وإقرار القلب لا يتفاوت" ممنوع في المقدمتين جميعا.
أما المقدمة الأولي: فتخصيصكم الإيمان بإقرار القلب مخالف لما دل عليه الكتاب والسنة من دخول القول والعمل في الإيمان.
وأما المقدمة الثانية فقولكم: "إن إقرار القلب لا يتفاوت" مخالف
(4/93)
للحس، فإن من المعلوم لكل أحد أن إقرار القلب إنما يتبع العلم ولا ريب أن العلم يتفاوت بتفاوت طرقه فإن خبر الواحد لا يفيد ما يفيده خبر الاثنين وهكذا، وما أدركه الإنسان بالخبر لا يساوي في العلم ما أدركه بالمشاهدة، فاليقين درجات متفاوتة، وتفاوت الناس في اليقين أمر معلوم، بل الإنسان الواحد يجد من نفسه أنه يكون في أوقات وحالات أقوى منه يقينا في أوقات وحالات أخرى.
ونقول: كيف يصح لعاقل أن يحكم بتساوي رجلين في الإيمان أحدهما مثابر على طاعة الله تعالى فرضها ونفلها، متباعد عن محارم الله وإذا بدرت منه المعصية بادر إلى الإقلاع عنها والتوبة منها، والثاني مضيع لما أوجب الله عليه ومنهمك فيما حرم الله عليه غير أنه لم يأت ما يكفره، كيف يتساوى هذا وهذا؟ !
وأما الوعيدية فنقول لهم: قولكم: إن فاعل الكبيرة خارج من الإيمان مخالف لما دل عليه الكتاب والسنة، فإذا تبين ذلك فكيف نحكم بتساوي رجلين في الإيمان أحدهما مقتصد فاعل للواجبات تارك للمحرمات، والثاني ظالم لنفسه يفعل ما حرم الله عليه، ويترك ما أوجب الله عليه من غير أن يفعل ما يكفر به؟ !
ونقول ثانيا: هب أننا أخرجنا فاعل الكبيرة من الإيمان، فكيف يمكن أن نحكم على رجلين بتساويهما في الإيمان وأحدهما مقتصد، والآخر سابق بالخيرات بإذن الله؟ !
(4/94)
فصل
ولزيادة الإيمان أسباب منها:
1 - معرفة أسماء الله وصفاته فإن العبد كلما ازداد معرفة بها وبمقتضياتها، وآثارها ازداد إيمانا بربه وحبا له وتعظيما.
2 - النظر في آيات الله الكونية والشرعية، فإن العبد كلما نظر فيها وتأمل ما اشتملت عليه من القدرة الباهرة، والحكمة البالغة ازداد إيمانا ويقينا بلا ريب.
3 - فعل الطاعة، فإن الإيمان يزداد به بحسب حسن العمل وجنسه وكثرته، فكلما كان العمل أحسن كانت زيادة الإيمان به أعظم وحسن العمل يكون بحسب الإخلاص والمتابعة.
وأما جنس العمل فإن الواجب أفضل من المسنون، وبعض الطاعات أوكد وأفضل من البعض الآخر، وكلما كانت الطاعة أفضل كانت زيادة الإيمان بها أعظم، وأما كثرة العمل فإن الإيمان يزداد بها لأن العمل من الإيمان فلا جرم أن يزيد بزيادته.
4 - ترك المعصية خوفا من الله عز وجل وكلما قوي الداعي إلى فعل المعصية كانت زيادة الإيمان بتركها أعظم، لأن تركها مع قوة الداعي إليها دليل على قوة إيمان العبد وتقديمه ما يحبه الله ورسوله على ما تهواه نفسه.
وأما نقص الإيمان فله أسباب:
الجهل بالله تعالى وأسمائه وصفاته.
الغفلة والإعراض عن النظر في آيات الله وأحكامه الكونية والشرعية، فإن ذلك يوجب مرض القلب أو موته باستيلاء الشهوات والشبهات عليه.
فعل المعصية فينقص الإيمان بحسب جنسها، وقدرها،
(4/95)
والتهاون بها وقوة الداعي إليها أو ضعفه.
فأما جنسها وقدرها فإن نقص الإيمان بالكبائر أعظم من نقصه بالصغائر، ونقص الإيمان بقتل النفس المحرمة أعظم من نقصه بأخذ مال محترم، ونقصه بمعصيتين أكثر من نقصه بمعصية واحدة وهكذا.
وأما التهاون بها فإن المعصية إذا صدرت من قلب متهاون بمن عصاه ضعيف الخوف منه كان نقص الإيمان بها أعظم من نقصه إذا صدرت من قلب معظم لله تعالى شديد الخوف منه لكن فرطت منه المعصية.
وأما قوة الداعي إليها فإن المعصية إذا صدرت ممن ضعفت منه دواعيها كان نقص الإيمان بها أعظم من نقصه إذا صدرت ممن قويت منه دواعيها، ولذلك كان استكبار الفقير، وزنى الشيخ أعظم إثما من استكبار الغني، وزنى الشاب كما في الحديث: «ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم» : وذكر منهم الأشميط؟ الزاني والعائل المستكبر لقلة داعي تلك المعصية فيهما.
ترك الطاعة فإن الإيمان ينقص به والنقص به على حسب تأكد الطاعة فكلما كانت الطاعة أوكد كان نقص الإيمان بتركها أعظم، وربما فقد الإيمان كله كترك الصلاة.
ثم إن نقص الإيمان بترك الطاعة على نوعين: نوع يعاقب عليه وهو ترك الواجب بلا عذر. ونوع لا يعاقب عليه وهو ترك الواجب لعذر شرعي، أو حسي، وترك المستحب، فالأول كترك المرأة الصلاة أيام الحيض، والثاني كترك صلاة الضحى. والله أعلم.
(4/96)
فصل
في الاستثناء في الإيمان
الاستثناء في الإيمان: أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله.
وقد اختلف الناس فيه على ثلاثة أقوال:
أحدها: تحريم الاستثناء، وهو قول المرجئة، والجهمية ونحوهم. ومأخذ هذا القول: أن الإيمان شيء واحد يعلمه الإنسان من نفسه وهو التصديق الذي في القلب، فإذا استثنى فيه كان دليلا على شكه، ولذلك كانوا يسمون الذين يستثنون في الإيمان "شكاكا ".
والثاني: وجوب الاستثناء، وهذا القول له مأخذان:
أن الإيمان هو ما مات الإنسان عليه فالإنسان إنما يكون مؤمنا وكافرا بحسب الموافاة، وهذا شيء مستقبل غير معلوم. فلا يجوز الجزم به، وهذا مأخذ كثير من المتأخرين من الكلابية وغيرهم، لكن هذا المأخذ لم يعلم أن أحدا من السلف علل به وإنما كانوا يعللون بالمأخذ الثاني وهو:
2 - أن الإيمان المطلق يتضمن فعل جميع المأمورات، وترك جميع المحظورات، وهذا لا يجزم به الإنسان من نفسه، ولو جزم لكان قد زكى نفسه وشهد لها بأنه من المتقين الأبرار، وكان ينبغي على هذا أن يشهد لنفسه بأنه من أهل الجنة وهذه لوازم ممتنعة.
القول الثالث: التفصيل فإن كان الاستثناء صادرا عن شك في وجود أصل الإيمان فهذا محرم، بل كفر، لأن الإيمان جزم والشك ينافيه، وإن كان صادرا عن خوف تزكية النفس والشهادة لها بتحقيق الإيمان قولا، وعملا واعتقادا فهذا واجب خوفا من هذا المحذور، وإن كان المقصود من الاستثناء التبرك بذكر المشيئة، أو بيان التعليل وأن ما قام بقلبه من الإيمان بمشيئة الله فهذا جائز.
(4/97)
والتعليق بالمشيئة على هذا الوجه - أعني بيان التعليل - لا ينافي تحقق المعلق فإنه قد ورد التعليق على هذا الوجه في الأمور المحققة كقوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ} .
وبهذا عرف أنه لا يصح إطلاق الحكم على الاستثناء بل لا بد من التفصيل السابق والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
حرر في 8 من ذي القعدة سنة 1380هـ والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
(4/98)
تقريب التدمرية
(4/99)
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله الله تعالى بالهدى، ودين الحق، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وترك أمته على محجة بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه، وأئمة الهدى من بعدهم، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيّن للناس ما نزل إليهم من ربهم بيانا كاملا شاملا في دقيق أمورهم، وجليلها، وظاهرها، وخفيها حتى علمهم ما يحتاجون إليه في مآكلهم، ومشاربهم، ومناكحهم، وملابسهم، ومساكنهم فعلمهم آداب الأكل، والشرب، والتخلي منهما، وآداب النكاح، واللباس ودخول المنزل، والخروج منه، كما علمهم ما يحتاجون إليه في عبادة الله عز وجل كالطهارة، والصلاة، والزكاة، والصوم، والحج وغير ذلك.
وما يحتاجون إليه في معاملة الخلق من بر الوالدين، وصلة الأرحام وحسن الصحبة والجوار وغير ذلك.
وعلمهم كيف يتعاملون بينهم في البيع، والشراء، والرهن، والارتهان والتأجير، والاستئجار، والهبة، والاتهاب وغير ذلك. حتى قال أبو ذر رضي الله عنه: " لقد توفي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما ".
(4/101)
وفي صحيح مسلم «عن سلمان رضي الله عنه أنه قيل له: قد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة؟ قال: "أجل، لقد نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول» . "، وذكر تمام الحديث. هذا فضلا عن أسس هذه العبادات، والأخلاق والمعاملات، وهو ما يعتقده العباد في إلههم ومعبودهم في ذاته، وأسمائه، وصفاته وأفعاله، وما ينشأ عن ذلك من أحكامه الكونية والشرعية المبنية على بالغ الحكمة، وغاية الرحمة فأخذ عنه ذلك الصحابة معينا صافيا نقيا مبنيا على التوحيد الكامل المتضمن لركنين أساسيين: نفي، وإثبات.
فأما الإثبات فهو: إثبات ما يجب لله تعالى من الربوبية، والألوهية والأسماء والصفات، والأفعال.
وأما النفي فهو: نفي مشاركة غير الله تعالى لله فيما يجب له.
ومضى عليه التابعون لهم بإحسان ممن أدركوا زمن الصحابة أو جاءوا بعدهم من أئمة الهدى المستحقين لرضى الله عز وجل حيث يقول الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} . ثم خلف خلوف عموا عن الحق أو تعاموا عنه فضلوا، وأضلوا قصورا أو تقصيرا، أو عدوانا وظلما، فأحدثوا في دين الله تعالى ما ليس منه في العقيدة، والعبادة، والسلوك، وحرفوا من أجل ذلك نصوص الكتاب والسنة، أو كذبوها إن أمكنهم ذلك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: واعلم أن عامة البدع المتعلقة بالعلوم والعبادات إنما وقع في الأمة في أواخر خلافة الخلفاء الراشدين كما أخبر به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث قال: «من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي» - إلى أن قال -
(4/102)
فلما ذهبت دولة الخلفاء الراشدين، وصار ملكا ظهر النقص في الأمراء فلا بد أن يظهر أيضا في أهل العلم والدين فحدث في آخر خلافة علي رضي الله عنه بدعتا الخوارج والرافضة إذ هي متعلقة بالإمامة والخلافة وتوابع ذلك من الأعمال والأحكام الشرعية.
وكان ملك معاوية ملكا ورحمة، فلما ذهب وجاءت إمارة يزيد وجرت فيها فتنة قتل الحسين بالعراق، وفتنة أهل الحرة بالمدينة وحصروا مكة لما قام عبد الله بن الزبير، ثم مات يزيد وتفرقت الأمة: ابن الزبير بالحجاز، وبنو الحكم بالشام، ووثب المختار ابن أبي عبيد وغيره بالعراق وذلك في أواخر عصر الصحابة وقد بقي فيهم مثل عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وجابر بن عبد الله، وأبي سعيد الخدري وغيرهم حدثت بدعة القدرية والمرجئة، فردها بقايا الصحابة ... مع ما كانوا يردونه هم وغيرهم من بدعة الخوارج والروافض.
وعامة ما كانت القدرية إذ ذاك يتكلمون فيه أعمال العباد، كما يتكلم فيها المرجئة فصار كلامهم في الطاعة والمعصية، والمؤمن والفاسق، ونحو ذلك من مسائل الأسماء والأحكام والوعد والوعيد، ولم يتكلموا بعد في ربهم، ولا في صفاته إلا في أواخر عصر صغار التابعين من حين أواخر الدولة الأموية حين شرع القرن الثالث تابعو التابعين ينقرض أكثرهم. فإن الاعتبار بالقرون الثلاثة بجمهور أهل القرن وهم وسطه. وجمهور الصحابة انقرضوا بانقراض خلافة الخلفاء الأربعة حتى إنه لم يكن بقي من أهل بدر إلا نفر قليل. وجمهور التابعين بإحسان انقرضوا في أواخر عصر أصاغر الصحابة في إمارة ابن الزبير وعبد الملك. وجمهور تابعي التابعين في أواخر الدولة الأموية وأوائل الدولة العباسية وصار في ولاة الأمور كثير من الأعاجم وخرج كثير من الأمور عن ولاية العرب وعُرِّبت بعض الكتب العجمية من كتب الفرس، والهند، والروم وظهر ما قاله النبي
(4/103)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثم يفشو الكذب حتى يشهد الرجل ولا يستشهد ويحلف ولا يستحلف» .
حدث ثلاثة أشياء: الرأي، والكلام، والتصوّف.
وحدث التجهم وهو نفي الصفات وبإزائه التمثيل - إلى أن قال- فإن معرفة أصول الأشياء ومبادئها ومعرفة الدين وأصله، وأصل ما تولد فيه من أعظم العلوم نفعا إذ المرء ما لم يحط علما بحقائق الأشياء التي يحتاج إليها يبقى في قلبه حسكة اهـ. (1)
وقال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: بدعة القدر أدركت آخر عصر الصحابة فأنكرها من كان منهم حيا كعبد الله بن عمر، وابن عباس وأمثالهما - رضي الله عنهم- ثم حدثت بدعة الإرجاء بعد انقراض عصر الصحابة فتكلم فيها كبار التابعين الذين أدركوها، ثم حدثت بدعة التجهم بعد انقراض عصر التابعين واستفحل أمرها واستطار شرها في زمن الأئمة كالإمام أحمد وذويه، ثم حدثت بعد ذلك بدعة الحلول وظهر أمرها في زمن الحسين الحلاج، وكلما أظهر الشيطان بدعة من هذه البدع وغيرها أقام الله لها من حزبه وجنده من يردها ويحذر المسلمين منها نصيحة لله، ولكتابه، ولرسوله ولأهل الإسلام اهـ. (2)
وقال ابن حجر -رحمه الله- في شرح البخاري: فمما حدث تدوين الحديث، ثم تفسير القرآن، ثم تدوين المسائل الفقهية المولدة من الرأي المحض، ثم تدوين ما يتعلق بأعمال القلوب.
فأما الأول فأنكره عمر وأبو موسى وطائفة ورخص فيه الأكثرون.
وأما الثاني: فأنكره جماعة من التابعين كالشعبي.
__________
(1) 10/354-368.
(2) 7/61 تهذيب سنن أبي داود.
(4/104)
وأما الثالث: فأنكره الإمام أحمد وطائفة يسيرة وكذا اشتد إنكار أحمد للذي بعده.
ومما حدث أيضا تدوين القول في أصول الديانات فتصدى لها المثبتة والنفاة فبالغ الأول حتى شبه، وبالغ الثاني حتى عطل واشتد إنكار السلف لذلك كأبي حنيفة، وأبي يوسف، والشافعي وكلامهم في ذم أهل الكلام مشهور. وسببه أنهم تكلموا فيما سكت عنه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه وثبت عن مالك أنه لم يكن في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبي بكر، وعمر شيء من الأهواء يعني بدع الخوارج، والروافض، والقدرية، وقد توسع من تأخر عن القرون الثلاثة الفاضلة في غالب الأمور التي أنكرها أئمة التابعين وأتباعهم، ولم يقتنعوا بذلك حتى مزجوا مسائل الديانة بكلام اليونان وجعلوا كلام الفلاسفة أصلا يردون إليه ما خالفه من الآثار بالتأويل ولو مستكرها، ثم لم يكتفوا بذلك حتى زعموا أن الذي رتبوه هو أشرف العلوم وأولاها بالتحصيل وأن من لم يستعمل ما اصطلحوا عليه فهو عامي جاهل، فالسعيد من تمسك بما كان عليه السلف واجتنب ما أحدثه الخلف وإن لم يكن له منه بد فليكتف منه بقدر الحاجة ويجعل الأول المقصود بالأصالة. اهـ. (1)
ولما كان من حكمة الله البالغة أن يجعل للحق معارضين يتبين بمعارضتهم صواب الحق وظهوره على الباطل فإن خالص الذهب لا يظهر إلا بعرضه على النار، قيض الله جل وعلا بقدرته التامة ولطفه الواسع وقهره الغالب من يدحض حجج هؤلاء المعارضين ويبين زيف شبههم وأنها كما قيل:
حجج تهافت كالزجاج تخالها ... حقّا وكل كاسر مكسور
__________
(1) ر 13/253 فتح.
(4/105)
وقال الإمام أحمد - رحمه الله - في خطبة كتاب " الرد على الجهمية: " الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وما أقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عنان الفتنة فهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب مجمعون على مخالفة الكتاب، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون الجهال بما يشبهون عليهم فنعوذ بالله من فتن المضلين. اهـ. (1)
وكان من جملة من قيضهم الله تعالى لنصرة دينه والذب عنه باللسان والبنان والسنان شيخ الإسلام: أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية المولود في حران يوم الاثنين العاشر من شهر ربيع الأول سنة إحدى وستين وستمائة، المتوفى محبوسا ظلما في قلعة دمشق ليلة الاثنين الموافق العشرين من شهر ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبعمائة وصلي عليه في الجامع الأموي بعد صلاة الظهر ولم يتم دفنه لكثرة الزحام إلا قبل العصر بيسير، رحمه الله تعالى رحمة واسعة، وجمعنا به مع من أنعم الله عليهم في جنات النعيم.
ولقد كان له رحمه الله مصنفات كثيرة في مجادلة أهل البدع ومجالدة أفكارهم ما بين مطولة ومتوسطة وقليلة وحصل بذلك نفع كبير أشار ابن القيم - رحمه الله - إلى شيء منها في النونية حيث قال:
__________
(1) ر 7 من اجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم.
(4/106)
وإذا أردت ترى مصارع من خلا ... من أمة التعطيل والكفران
إلى أن قال:
فاقرأ تصانيف الإمام حقيقة ... شيخ الوجود العالم بالرباني
أعني أبا العباس أحمد ذلك الب ... حر المحيط بسائر الخلجان
واقرأ كتاب العقل والنقل الذي ... ما في الوجود له نظير ثان
وكذاك منهاج له في رده ... قول الروافض شيعة الشيطان
ثم ذكر عدة من كتبه ورسائله وقال:
هي في الورى مبثوثة معلومة ... تبتاع بالغالي من الأثمان
إلى أن قال:
وله المقامات الشهيرة في الورى ... قد قامها لله غير جبان
نصر الإله ودينه وكتابه ... ورسوله بالسيف والبرهان
أبدى فضائحهم وبين جهلهم ... وأرى تناقضهم بكل زمان
إلى أن قال:
ومن العجائب أنه بسلاحهم ... أرداهم تحت الحضيض الداني
كانت نواصينا بأيديهم فما ... منا لهم إلا أسير عاني
فغدت نواصيهم بأيدينا فما ... يلقوننا إلا بحبل أمان
وغدت ملوكهم مماليكا لأن ... صار الرسول بمنة الرحمن (1)
وكان من جملة رسائل الشيخ رحمه الله رسالة: " تحقيق الإثبات للأسماء والصفات وحقيقة الجمع بين القدر والشرع " المعروفة باسم:
__________
(1) ر 833-839 شرح الهراس ط الإمام.
(4/107)
التدمرية
والظاهر أن هذه الرسالة ضمن أجوبة أجاب بها الشيخ أهل تدمر (1) وكانت هذه الرسالة من أحسن وأجمع ما كتبه في موضوعها على اختصارها ومن أجل ذلك فإني أستعين الله عز وجل في لم شعثها وجمع شملها وتقريب معانيها لقارئها مع زيادة ما تدعو الحاجة إليه وحذف ما يمكن الاستغناء عنه على وجه لا يخل بالمقصود (2) . وسميته:
" تقريب التدمرية "
وأسال الله تعالى أن يجعل عملي خالصا لوجهه موافقا لمرضاته نافعا لعباده إنه جواد كريم.
__________
(1) مدينة قديمة بوسط سورية ر 500 من الموسوعة العربية الميسرة.
(2) ومما حذفت القاعدة السابعة لأنها غير موجودة في بعض النسخ ويغني عنها ما سبقها من القواعد.
(4/108)
بيان سبب تأليف هذه الرسالة
بين المؤلف سبب تأليف هذه الرسالة بقوله:
أما بعد: فقد سألني من تعينت إجابتهم أن أكتب لهم مضمون ما سمعوه مني في بعض المجالس من الكلام في التوحيد والصفات، وفي الشرع والقدر.
ثم علل وجوب إجابتهم بأمرين:
أحدهما: مسيس الحاجة إلى تحقيق هذين الأصلين لأنه لا بد أن يخطر على القلب في هذين الأصلين ما يحتاج معه إلى بيان الهدى من الضلال، والحق من الباطل.
الثاني: كثرة اضطراب أقوال الناس فيهما، والخوض فيهما بالحق تارة وبالباطل تارات فيلتبس الحق بالباطل على كثير من الناس، ومن ثم احتيج إلى البيان.
(4/109)
الكلام في التوحيد والصفات وفي الشرع والقدر
الكلام في التوحيد والصفات من باب الخبر، الدائر بين النفي والإثبات من قبل المتكلم، المقابل بالتصديق أو التكذيب من قبل المخاطب لأنه خبر عما يجب لله تعالى من التوحيد وكمال الصفات، وعما يستحيل عليه من الشرك والنقص ومماثلة المخلوقات.
مثال ذلك قوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} . ففي قوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} إثبات التوحيد، وفي قوله: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} إثبات كمال الصفات، وفي قوله: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} نفي النقائص عن الله المتضمن لإثبات الكمالات.
وأما الكلام في الشرع والقدر فهو من باب الطلب، الدائر بين الأمر والنهي من قبل المتكلم، المقابل بالطاعة أو المعصية من قبل المخاطب، لأن المطلوب إما محبوب لله ورسوله فيكون مأمورا به، وإما مكروه لله ورسوله فيكون منهيا عنه.
مثال ذلك قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} ففي قوله: اعبدوا الله الأمر بعبادة الله، وفي قوله: {وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} النهي عن الإشراك به.
والفرق بين الخبر والطلب في حقيقتيهما وحكمهما معلوم، فالواجب على العباد إزاء خبر الله ورسوله: التصديق والإيمان به على ما أراد الله
(4/110)
ورسوله تصديقا لا تكذيب معه، وإيمانا لا كفر معه، ويقينا لا شك معه لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} .
والواجب على العباد إزاء الطلب: امتثاله على الوجه الذي أراد الله ورسوله من غير غلو ولا تقصير، فيقومون بالمأمور ويجتنبون المحظور لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} .
(4/111)
فصل
إذا تبين ذلك فهاهنا أصلان:
الأصل الأول في الصفات وهو: أن يوصف الله بما وصف به نفسه وبما وصفته به رسله إثباتا بلا تمثيل، وتنزيها بلا تعطيل كما جمع الله تعالى بينهما في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .
فقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} نفي متضمن لكمال صفاته مبطل لمنهج أهل التمثيل، وقوله: هو السميع البصير إثبات لأسمائه وصفاته وإبطال لمنهج أهل التحريف والتعطيل، فنثبت ما أثبته الله لنفسه وننفي ما نفى الله عن نفسه من غير تحريف، ولا تعطيل، ومن غير تكييف، ولا تمثيل. وهذا هو المنهج السليم الواجب المبني على العلم والحكمة والسداد في القول والاعتقاد وله دليلان أثري ونظري، وإن شئت فقل: سمعي وعقلي:
أما الأثري السمعي فمنه قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . وقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . وقوله: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} . وقوله: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} .
(4/112)
وأما النظري العقلي فلأن القول في أسماء الله وصفاته من باب الخبر المحض الذي لا يمكن للعقل إدراك تفاصيله فوجب الوقوف فيه على ما جاء به السمع.
(4/113)
فصل
والجمع بين النفي والإثبات في باب الصفات هو حقيقة التوحيد فيه وذلك لأن التوحيد مصدر وَحَّد يوحد. ولا يمكن صدق حقيقته إلا بنفي وإثبات، لأن الاقتصار على النفي المحض تعطيل محض. والاقتصار على الإثبات المحض لا يمنع المشاركة.
مثال ذلك: لو قلت: ما زيد بشجاع فقد نفيت عنه صفة الشجاعة وعطلته منها.
ولو قلت: زيد شجاع فقد أثبت له صفة الشجاعة لكن ذلك لا يمنع أن يكون غيره شجاعا أيضا.
ولو قلت: لا شجاع إلا زيد فقد أثبت له صفة الشجاعة، ونفيت أن يشاركه غيره فيها فكنت موحدا له في صفة الشجاعة.
إذن لا يمكن توحيد أحد بشيء إلا بالجمع بين النفي والإثبات.
واعلم أن الصفات الثبوتية التي وصف الله بها نفسه كلها صفات كمال، والغالب فيها التفصيل، لأنه كلما كثر الإخبار عنها وتنوعت دلالتها ظهر من كمال الموصوف بها ما لم يكن معلوما من قبل، ولهذا كانت الصفات الثبوتية التي أخبر الله بها عن نفسه أكثر من الصفات المنفية التي نفاها الله عن نفسه.
وأما الصفات المنفية التي نفاها الله عن نفسه فكلها صفات نقص ولا تليق به كالعجز، والتعب، والظلم، ومماثلة المخلوقين، والغالب فيها الإجمال لأن ذلك أبلغ في تعظيم الموصوف وأكمل في التنزيه فإن تفصيلها لغير سبب يقتضيه فيه سخرية وتنقص في الموصوف.
(4/114)
ألا ترى أنك لو مدحت ملكا فقلت له: أنت كريم، شجاع محنك، قوي الحكم، قاهر لأعدائك إلى غير ذلك من صفات المدح لكان هذا من أعظم الثناء عليه، وكان فيه من زيادة مدحه وإظهار محاسنه ما يجعله محبوبا محترما لأنك فصلت في الإثبات.
ولو قلت: أنت ملك لا يساميك أحد من ملوك الدنيا في عصرك لكان ذلك مدحا بالغا لأنك أجملت في النفي.
ولو قلت: أنت ملك غير بخيل، ولا جبان، ولا فقير، ولا بقال، ولا كناس ولا بيطار، ولا حجام، وما أشبه ذلك من التفصيل في نفي العيوب التي لا تليق به لعُد ذلك استهزاء به وتنقصا لحقه.
وقد يأتي الإجمال في أسماء الله تعالى وصفاته الثبوتية كقوله تعالى في الأسماء: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} . وقوله في الصفات: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} أي الوصف الأعلى.
وقد يأتي التفصيل في الصفات المنفية لأسباب منها:
1 - نفي ما ادعاه في حقه الكاذبون المفترون كقوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} .
2 - دفع توهم نقص في كماله كقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} .
3 - بيان عموم كماله في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} .
(4/115)
أمثلة التفصيل في الإثبات والإجمال في النفي
الأمثلة على التفصيل في الإثبات كثيرة جدا فمنها:
قوله تعالى في سورة الحشر الآية: 22: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} . إلى آخر السورة فقد تضمنت هذه الآيات أكثر من خمسة عشر اسما، وكل اسم منها قد تضمن صفة، أو صفتين، أو أكثر.
وكقوله تعالى في سورة الحج الآية: 59: {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} . إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} فهذه سبع آيات متوالية ختمت كل آية منها باسمين من أسماء الله عز وجل وكل اسم منها متضمن لصفة، أو صفتين، أو أكثر.
وأما أمثلة الإجمال في النفي فمنها قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . وقوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} . وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} .
(4/116)
فصل
واعلم أن الاشتراك في الأسماء والصفات لا يستلزم تماثل المسميات والموصوفات، كما دل على ذلك السمع، والعقل، والحس.
أما السمع: فقد قال الله عن نفسه: {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} . وقال عن الإنسان: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} . ونفى أن يكون السميع كالسميع والبصير كالبصير فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . وأثبت لنفسه علما وللإنسان علما فقال عن نفسه: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ} . وقال عن الإنسان: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} . وليس علم الإنسان كعلم الله تعالى فقد قال الله عن علمه: {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} . وقال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} . وقال عن علم الإنسان: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} .
وأما العقل: فمن المعلوم بالعقل أن المعاني والأوصاف تتقيد وتتميز
(4/117)
بحسب ما تضاف إليه، فكما أن الأشياء مختلفة في ذواتها فإنها كذلك مختلفة في صفاتها وفي المعاني المضافة إليها، فإن صفة كل موصوف تناسبه لا يفهم منها ما يقصر عن موصوفها أو يتجاوزه، ولهذا نصف الإنسان باللين والحديد المنصهر باللين، ونعلم أن اللين متفاوت المعنى بحسب ما أضيف إليه.
وأما الحس: فإننا نشاهد للفيل جسما وقدما وقوة، وللبعوضة جسما وقدما وقوة، ونعلم الفرق بين جسميهما، وقدميهما، وقوتيهما.
فإذا علم أن الاشتراك في الاسم والصفة في المخلوقات لا يستلزم التماثل في الحقيقة مع كون كل منها مخلوقا ممكنا، فانتفاء التلازم في ذلك بين الخالق والمخلوق أولى، وأجلى، بل التماثل في ذلك بين الخالق والمخلوق ممتنع غاية الامتناع.
(4/118)
فصل
في الزائغين عن سبيل الرسل وأتباعهم في أسماء الله وصفاته
الزائغون عن سبيل الرسل، وأتباعهم في أسماء الله وصفاته قسمان: ممثلة، ومعطلة.
وكل منهم غلا في جانب، وقصر في جانب، فالممثلة غلوا في جانب الإثبات وقصّروا في جانب النفي، والمعطلة غلوا في جانب النفي، وقصروا في جانب الإثبات، فخرج كل منهم عن الاعتدال في الجانبين.
فالقسم الأول: الممثلة وطريقتهم أنهم أثبتوا لله الصفات على وجه يماثل صفات المخلوقين فقالوا: لله وجه، ويدان، وعينان، كوجوهنا، وأيدينا وأعيننا، ونحو ذلك.
وشبهتهم في ذلك أن الله تعالى خاطبنا في القرآن بما نفهم ونعقل قالوا: ونحن لا نفهم، ولا نعقل إلا ما كان مشاهدا فإذا خاطبنا عن الغائب بشيء وجب حمله على المعلوم في الشاهد.
ومذهبهم باطل مردود بالسمع، والعقل، والحس.
أما السمع: فقد قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . وقال: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} . ففي الآية الأولى نفى أن يكون له مماثل مع إثبات السمع والبصر له.
(4/119)
وفي الثانية نهى أن تضرب له الأمثال فجمع في هاتين الآيتين بين النفي والنهي.
وأما العقل فدلالته على بطلان التمثيل من وجوه:
الأول: التباين بين الخالق والمخلوق في الذات والوجود، وهذا يستلزم التباين في الصفات، لأن صفة كل موصوف تليق به فالمعاني والأوصاف تتقيد وتتميز بحسب ما تضاف إليه.
الثاني: أن القول بالمماثلة بين الخالق والمخلوق يستلزم نقص الخالق سبحانه، لأن تمثيل الكامل بالناقص يجعله ناقصا.
الثالث: أن القول بمماثلة الخالق للمخلوق يقتضي بطلان العبودية الحق، لأنه لا يخضع عاقل لأحد ويذل له على وجه التعظيم المطلق إلا أن يكون أعلى منه.
وأما الحس: فإننا نشاهد في المخلوقات ما تشترك أسماؤه وصفاته في اللفظ، وتتباين في الحقيقة فللفيل جسم وقوة وللبعوضة جسم وقوة، والتباين بين جسميهما وقوتيهما معلوم فإذا جاز هذا التباين بين المخلوقات كان جوازه بين الخالق والمخلوق من باب أولى، بل التباين بين الخالق والمخلوق واجب والتماثل ممتنع غاية الامتناع.
وأما قولهم: إن الله تعالى خاطبنا بما نعقل ونفهم فصحيح لقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} . وقوله: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} . وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} . ولولا أن الله أراد من عباده عقل وفهم ما جاءت به الرسل لكان لسان قومه ولسان غيرهم سواء،
(4/120)
ولما حصل البيان الذي تقوم به الحجة على الخلق.
وأما قولهم: إذا خاطبنا عن الغائب بشيء وجب حمله على المعلوم في الشاهد فجوابه من وجهين:
أحدهما: أن ما أخبر الله به عن نفسه إنما أخبر به مضافا إلى نفسه المقدسة فيكون لائقا به لا مماثلا لمخلوقاته، ولا يمكن لأحد أن يفهم منه المماثلة إلا من لم يعرف الله تعالى، ولم يقدره حق قدره، ولم يعرف مدلول الخطاب الذي يقتضيه السياق.
الثاني: أنه لا يمكن أن تكون المماثلة مرادة لله تعالى؛ لأن المماثلة تستلزم نقص الخالق جل وعلا، واعتقاد نقص الخالق كفر وضلال، ولا يمكن أن يكون مراد الله تعالى بكلامه الكفر والضلال كيف وقد قال: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} . وقال: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} .
(4/121)
فصل
والقسم الثاني (1) : المعطلة وهم الذين أنكروا ما سمى الله تعالى ووصف به نفسه إنكارا كليا، أو جزئيا، وحرفوا من أجل ذلك نصوص الكتاب والسنة فهم محرفون للنصوص، معطلون للصفات، وقد انقسم هؤلاء إلى أربع طوائف:
الطائفة الأولى: الأشاعرة ومن ضاهاهم من الماتريدية وغيرهم وطريقتهم أنهم أثبتوا لله الأسماء، وبعض الصفات، ونفوا حقائق أكثرها، وردوا ما يمكنهم رده من النصوص، وحرفوا ما لا يمكنهم رده، وسموا ذلك التحريف " تأويلا ".
فأثبتوا لله من الصفات سبع صفات: الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والكلام، والسمع، والبصر، على خلاف بينهم وبين السلف في كيفية إثبات بعض هذه الصفات.
وشبهتهم فيما ذهبوا إليه أنهم اعتقدوا فيما نفوه أن إثباته يستلزم التشبيه أي التمثيل. وقالوا فيما أثبتوه: إن العقل قد دل عليه فإن إيجاد المخلوقات يدل على القدرة، وتخصيص بعضها بما يختص به يدل على الإرادة، وإحكامها يدل على العلم، وهذه الصفات " القدرة، والإرادة، والعلم" تدل على الحياة لأنها لا تقوم إلا بحي، والحي إما أن يتصف بالكلام والسمع والبصر وهذه صفات كمال، أو بضدها وهو الخرس والصمم والعمى وهذه صفات نقص ممتنعة على الله تعالى فوجب ثبوت الكلام، والسمع والبصر.
__________
(1) أي من الزائغين عن سبيل الرسل وأتباعهم.
(4/122)
والرد عليهم من وجوه:
الأول: أن الرجوع إلى العقل في هذا الباب مخالف لما كان عليه سلف الأمة من الصحابة، والتابعين، وأئمة الأمة من بعدهم، فما منهم أحد رجع إلى العقل في ذلك وإنما يرجعون إلى الكتاب والسنة، فيثبتون لله تعالى من الأسماء والصفات ما أثبته لنفسه، أو أثبته له رسله إثباتا بلا تمثيل، وتنزيها بلا تعطيل.
قال إمام أهل السنة أحمد بن حنبل: " نصف الله بما وصف به نفسه ولا نتعدى القرآن والحديث ".
الثاني: أن الرجوع إلى العقل في هذا الباب مخالف للعقل لأن هذا الباب من الأمور الغيبية التي ليس للعقل فيها مجال وإنما تتلقى من السمع فإن العقل لا يمكنه أن يدرك بالتفصيل ما يجب، ويجوز، ويمتنع في حق الله تعالى فيكون تحكيم العقل في ذلك مخالفا للعقل.
الثالث: أن الرجوع في ذلك إلى العقل مستلزم للاختلاف والتناقض فإن لكل واحد منهم عقلا يرى وجوب الرجوع إليه كما هو الواقع في هؤلاء فتجد أحدهم يثبت ما ينفيه الآخر، وربما يتناقض الواحد منهم فيثبت في مكان ما ينفيه، أو ينفي نظيره في مكان آخر، فليس لهم قانون مستقيم يرجعون إليه.
قال المؤلف رحمه الله في الفتوى الحموية: " فيا ليت شعري بأي عقل يوزن الكتاب والسنة، فرضي الله عن الإمام مالك بن أنس حيث قال: أو كلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما جاء به جبريل إلى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجدل هؤلاء " (1) . ومن المعلوم أن تناقض الأقوال دليل على فسادها.
الرابع: أنهم إذا صرفوا النصوص عن ظاهرها إلى معنى زعموا أن
__________
(1) ر 5 / 29 م ف ق.
(4/123)
العقل يوجبه فإنه يلزمهم في هذا المعنى نظير ما يلزمهم في المعنى الذي نفوه مع ارتكابهم تحريف الكتاب والسنة.
مثال ذلك: إذا قالوا: المراد بيدي الله عز وجل: القوة دون حقيقة اليد لأن إثبات حقيقة اليد يستلزم التشبيه بالمخلوق الذي له يد.
فنقول لهم: يلزمكم في إثبات القوة نظير ما يلزمكم في إثبات اليد الحقيقية، لأن للمخلوق قوة فإثبات القوة لله تعالى يستلزم التشبيه على قاعدتكم.
ومثال آخر: إذا قالوا: المراد بمحبة الله تعالى إرادة ثواب المحبوب أو الثواب نفسه دون حقيقة المحبة، لأن إثبات حقيقة المحبة يستلزم التشبيه.
فنقول لهم: إذا فسرتم المحبة بالإرادة لزمكم في إثبات الإرادة نظير ما يلزمكم في إثبات المحبة، لأن للمخلوق إرادة فإثبات الإرادة لله تعالى يستلزم التشبيه على قاعدتكم، وإذا فسرتموها بالثواب، فالثواب مخلوق مفعول لا يقوم إلا بخالق فاعل، والفاعل لا بد له من إرادة الفعل وإثبات الإرادة مستلزم للتشبيه على قاعدتكم.
ثم نقول: إثباتكم إرادة الثواب، أو الثواب نفسه مستلزم لمحبة العمل المثاب عليه، ولولا محبة العمل ما أثيب فاعله فصار تأويلكم مستلزما لما نفيتم فإن أثبتموه على الوجه المماثل للمخلوق ففي التمثيل وقعتم، وإن أثبتموه على الوجه المختص بالله واللائق به أصبتم ولزمكم إثبات جميع الصفات على هذا الوجه.
الخامس: أن قولهم فيما نفوه: " إن إثباته يستلزم التشبيه" ممنوع لأن الاشتراك في الأسماء والصفات، لا يستلزم تماثل المسميات والموصوفات كما تقرر سابقا، ثم إنه منقوض بما أثبتوه من صفات الله، فإنهم يثبتون لله تعالى الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والكلام، والسمع، والبصر،
(4/124)
مع أن المخلوق متصف بذلك فإثباتهم هذه الصفات لله تعالى مع اتصاف المخلوق بها مستلزم للتشبيه على قاعدتهم.
فإن قالوا: إننا نثبت هذه الصفات لله تعالى على وجه يختص به ولا يشبه ما ثبت للمخلوق منها.
قلنا: هذا جواب حسن سديد فلماذا لا تقولون به فيما نفيتموه فتثبتونه لله على وجه يختص به ولا يشبه ما ثبت للمخلوق منه؟ !
فإن قالوا: ما أثبتناه فقد دل العقل على ثبوته فلزم إثباته.
قلنا: عن هذا ثلاثة أجوبة:
أحدها: أنه لا يصح الاعتماد على العقل في هذا الباب كما سبق.
الثاني: أنه يمكن إثبات ما نفيتموه بدليل عقلي يكون في بعض المواضع أوضح من أدلتكم فيما أثبتموه.
مثال ذلك: الرحمة التي أثبتها الله تعالى لنفسه في قوله: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ} . وقوله: {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} . فإنه يمكن إثباتها بالعقل كما دل عليها السمع.
فيقال: الإحسان إلى الخلق بما ينفعهم ويدفع عنهم الضرر يدل على الرحمة كدلالة التخصيص على الإرادة بل هو أبين وأوضح لظهوره لكل أحد.
الثالث: أن نقول: على فرض أن العقل لا يدل على ما نفيتموه فإن عدم دلالته عليه لا يستلزم انتفاءه في نفس الأمر، لأن انتفاء الدليل المعين لا يستلزم انتفاء المدلول، إذ قد يثبت بدليل آخر. فإذا قدرنا أن الدليل العقلي لا يثبته فإن الدليل السمعي قد أثبته، وحينئذ يجب إثباته بالدليل القائم السالم عن المعارض المقاوم.
(4/125)
فإن قالوا: بل العقل يدل على انتفاء ذلك لأن إثباته يستلزم التشبيه والعقل يدل على انتفاء التشبيه.
قلنا: إن كان إثباته يستلزم التشبيه فإن إثبات ما أثبتموه يستلزم التشبيه أيضا، فإن منعتم ذلك لزمكم منعه فيما نفيتموه إذ لا فرق، وحينئذ إما أن تقولوا بالإثبات في الجميع فتوافقوا السلف، وإما أن تقولوا بالنفي في الجميع فتوافقوا المعتزلة ومن ضاهاهم، وأما التفريق فتناقض ظاهر.
(4/126)
فصل
الطائفة الثانية: المعتزلة ومن تبعهم من أهل الكلام وغيرهم.
وطريقتهم أنهم يثبتون لله تعالى الأسماء دون الصفات، ويجعلون الأسماء أعلاما محضة، ثم منهم من يقول: إنها مترادفة فالعليم، والقدير، والسميع، والبصير شيء واحد، ومنهم من يقول: إنها متباينة ولكنه عليم بلا علم، قدير بلا قدرة، سميع بلا سمع، بصير بلا بصر ونحو ذلك.
وشبهتهم أنهم اعتقدوا أن إثبات الصفات يستلزم التشبيه لأنه لا يوجد شيء متصف بالصفات إلا جسم، والأجسام متماثلة، فإثبات الصفات يستلزم التشبيه.
الرد عليهم من وجوه:
الأول: أن الله تعالى سمى نفسه بأسماء ووصف نفسه بصفات فإن كان إثبات الصفات يستلزم التشبيه فإثبات الأسماء كذلك، وإن كان إثبات الأسماء لا يستلزم التشبيه فإثبات الصفات كذلك، والتفريق بين هذا وهذا تناقض، فإما أن يثبتوا الجميع فيوافقوا السلف، وإما أن ينفوا الجميع فيوافقوا غلاة الجهمية والباطنية، وإما أن يفرقوا فيقعوا في التناقض.
الثاني: أن الله تعالى وصف أسماءه بأنها حسنى، وأمرنا بدعائه بها فقال: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} . وهذا يقتضي أن تكون دالة على معان عظيمة تكون وسيلة لنا في دعائنا ولا يصح خلوها عنها.
ولو كانت أعلاما محضة لكانت غير دالة على معنى سوى تعيين
(4/127)
المسمى، فضلا عن أن تكون حسنى ووسيلة في الدعاء.
الثالث: أن الله تعالى أثبت لنفسه الصفات إجمالا وتفصيلا مع نفي المماثلة فقال تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} . وقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . وهذا يدل على أن إثبات الصفات لا يستلزم التمثيل ولو كان يستلزم التمثيل لكان كلام الله متناقضا.
الرابع: أن من لا يتصف بصفات الكمال لا يصلح أن يكون ربا ولا إلها، ولهذا عاب إبراهيم عليه الصلاة والسلام أباه باتخاذه ما لا يسمع ولا يبصر إلها فقال: {يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} .
الخامس: أن كل موجود لا بد له من صفة، ولا يمكن وجود ذات مجردة عن الصفات، وحينئذ لا بد أن يكون الخالق الواجب الوجود متصفا بالصفات اللائقة به.
السادس: أن القول" بأن أسماء الله أعلام محضة مترادفة لا تدل إلا على ذات الله فقط" قول باطل لأن دلالات الكتاب والسنة متضافرة على أن كل اسم منها دال على معناه المختص به مع اتفاقها على مسمى واحد وموصوف واحد فالله تعالى هو الحي القيوم، السميع، البصير، العليم، القدير، فالمسمى والموصوف واحد، والأسماء والصفات متعددة. ألا ترى أن الله تعالى يسمي نفسه باسمين أو أكثر في موضع واحد كقوله: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} . فلو كانت الأسماء مترادفة ترادفا محضا لكان ذكرها مجتمعة
(4/128)
لغوا من القول لعدم الفائدة.
السابع: أن القول " بأن الله تعالى عليم بلا علم، وقدير بلا قدرة وسميع بلا سمع ونحو ذلك" قول باطل مخالف لمقتضى اللسان العربي وغير العربي فإن من المعلوم في جميع لغات العالم أن المشتق دال على المعنى المشتق منه، وأنه لا يمكن أن يقال: عليم لمن لا علم له، ولا قدير لمن لا قدرة له، ولا سميع لمن لا سمع له ونحو ذلك.
وإذا كان كذلك تعين أن تكون أسماء الله تعالى دالة على ما تقتضيه من الصفات اللائقة به فيتعين إثبات الأسماء والصفات لخالق الأرض والسماوات.
الثامن: أن قولهم: " لا يوجد شيء متصف بالصفات إلا جسم " ممنوع فإننا نجد من الأشياء ما يصح أن يوصف وليس بجسم، فإنه يقال: ليل طويل، ونهار قصير، وبرد شديد، وحر خفيف ونحو ذلك، وليست هذه أجساما. على أن إضافة لفظ الجسم إلى الله تعالى إثباتا أو نفيا من الطرق البدعية التي يتوصل بها أهل التعطيل إلى نفي الصفات التي أثبتها الله لنفسه.
التاسع: أن قولهم: " الأجسام متماثلة " باطل ظاهر البطلان فإن تفاوت الأجسام ظاهر لا يمكن إنكاره. قال الشيخ " المؤلف": ولا ريب أن قولهم بتماثل الأجسام قول باطل. (1)
__________
(1) ر 3/ 72 م ف ق.
(4/129)
فصل
الطائفة الثالثة: غلاة الجهمية، والقرامطة، والباطنية ومن تبعهم.
وطريقتهم أنهم ينكرون الأسماء والصفات ولا يصفون الله تعالى إلا بالنفي المجرد عن الإثبات ويقولون: إن الله هو الموجود المطلق بشرط الإطلاق (1) . فلا يقال: هو موجود، ولا حي، ولا عليم، ولا قدير وإنما هذه أسماء لمخلوقاته أو مجاز، لأن إثبات ذلك يستلزم تشبيهه بالموجود الحي، العليم، القدير ويقولون: إن الصفة عين الموصوف، وإن كل صفة عين الصفة الأخرى فلا فرق بين العلم، والقدرة والسمع، والبصر ونحو ذلك.
وشبهتهم أنهم اعتقدوا أن إثبات الأسماء والصفات يستلزم التشبيه والتعدد ووجه ذلك في الأسماء أنه إذا سمي بها لزم أن يكون متصفا بمعنى الاسم فإذا أثبتنا " الحي " مثلا لزم أن يكون متصفا بالحياة لأن صدق المشتق يستلزم صدق المشتق منه وذلك يقتضي قيام الصفات به وهو تشبيه.
وأما في الصفات فقالوا: إن إثبات صفات متغايرة مغايرة للموصوف يستلزم التعدد وهو تركيب ممتنع مناقض للتوحيد.
والرد عليهم من وجوه:
الأول: أن الله تعالى جمع فيما سمى ووصف به نفسه بين النفي والإثبات " وقد سبق أمثلة من ذلك " فمن أقر بالنفي وأنكر الإثبات فقد آمن ببعض الكتاب دون بعض، والكفر ببعض الكتاب كفر بالكتاب كله. قال الله تعالى منكرا على بني إسرائيل:
__________
(1) معنى قولهم: بشرط الإطلاق أنه مطلق عن أي صفة ثبوتية لأن الصفة تقيد الموصوف.
(4/130)
{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} .
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} .
الثاني: أن الموجود المطلق بشرط الإطلاق لا وجود له في الخارج المحسوس وإنما هو أمر يفرضه الذهن ولا وجود له في الحقيقة، فتكون حقيقة القول به نفي وجود الله تعالى إلا في الذهن، وهذا غاية التعطيل والكفر.
الثالث: قولهم: " إن الصفة عين الموصوف، وإن كل صفة عين الصفة الأخرى" مكابرة في المعقولات، سفسطة في البدهيات، فإن من المعلوم بضرورة العقل، والحس أن الصفة غير الموصوف، وأن كل صفة غير الصفة الأخرى فالعلم غير العالم، والقدرة غير القادر، والكلام غير المتكلم، كما أن العلم والقدرة، والكلام، صفات متغايرة.
الرابع: أن وصف الله تعالى بصفات الإثبات أدل على الكمال من وصفه بصفات النفي، لأن الإثبات أمر وجودي يقتضي تنوع الكمالات في حقه، وأما النفي فأمر عدمي لا يقتضي كمالا إلا إذا تضمن إثباتا وهؤلاء النفاة لا يقولون بنفي يقتضي الإثبات.
الخامس: قولهم: " إن إثبات صفات متغايرة مغايرة للموصوف يستلزم التعدد ... " قول باطل مخالف للمعقول، والمحسوس فإنه لا يلزم من تعدد الصفات تعدد الموصوف فها هو الإنسان الواحد يوصف بأنه
(4/131)
حي، سميع بصير، عاقل متكلم إلى غير ذلك من صفاته ولا يلزم من ذلك تعدد ذاته.
السادس: قولهم: في الأسماء " إن إثباتها يستلزم أن يكون متصفا بمعنى الاسم فيقتضي أن يكون إثباتها تشبيها ".
جوابه: أن المعاني التي تلزم من إثبات الأسماء صفات لائقة بالله تعالى غير مستحيلة عليه، والمشاركة في الاسم، أو الصفة لا تستلزم تماثل المسميات والموصوفات.
السابع: قولهم: " إن الإثبات يستلزم تشبيهه بالموجودات ".
جوابه: أن النفي -الذي قالوا به- يستلزم تشبيهه بالمعدومات على قياس قولهم وذلك أقبح من تشبيهه بالموجودات وحينئذ فإما أن يقروا بالإثبات فيوافقوا الجماعة، وإما أن ينكروا النفي كما أنكروا الإثبات فيوافقوا غلاة الغلاة من القرامطة والباطنية وغيرهم، وأما التفريق بين هذا وهذا فتناقض ظاهر.
(4/132)
فصل
الطائفة الرابعة: غلاة الغلاة من الفلاسفة، والجهمية، والقرامطة والباطنية وغيرهم.
وطريقتهم أنهم أنكروا في حق الله تعالى الإثبات والنفي، فنفوا عنه الوجود، والعدم، والحياة، والموت، والعلم، والجهل ونحوها وقالوا: إنه لا موجود ولا معدوم، ولا حي، ولا ميت، ولا عالم، ولا جاهل ونحو ذلك.
وشبهتهم أنهم اعتقدوا أنهم إن وصفوه بالإثبات شبهوه بالموجودات وإن وصفوه بالنفي شبهوه بالمعدومات.
والرد عليهم من وجوه:
الأول: أن تسمية الله ووصفه بما سمى ووصف به نفسه ليس تشبيها ولا يستلزم التشبيه، فإن الاشتراك في الاسم والصفة لا يستلزم تماثل المسميات والموصوفات، وتسميتكم ذلك تشبيها ليس إلا تمويها وتلبيسا على العامة والجهال ولو قبلنا مثل هذه الدعوى الباطلة لأمكن كل مبطل أن يسمي الشيء الحق بأسماء ينفر بها الناس عن قبوله.
الثاني: أنه قَدْ علم بضرورة العقل والحس أن الموجود الممكن لا بد له من موجد واجب الوجود، فإننا نعلم حدوث المحدثات ونشاهدها، ولا يمكن أن تحدث بدون محدث، ولا أن تحدث نفسها بنفسها لقوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} . فتعين أن يكون لها خالق واجب الوجود وهو الله تعالى. ففي الوجود إذن موجودان:
(4/133)
أحدهما: أزلي واجب الوجود بنفسه.
الثاني: محدث ممكن الوجود، موجود بغيره، ولا يلزم من اتفاقهما في مسمى الوجود أن يتفقا في خصائصه، فإن وجود الواجب يخصه، ووجود المحدث يخصه.
فوجود الخالق واجب أزلي ممتنع الحدوث أبدي ممتنع الزوال، ووجود المخلوق ممكن حادث بعد العدم قابل للزوال، فمن لم يثبت ما بينهما من الاتفاق والافتراق لزمه أن تكون الموجودات كلها إما أزلية واجبة الوجود بنفسها أو محدثة ممكنة الوجود بغيرها وكلاهما معلوم الفساد بالاضطرار. (1)
الثالث: أن إنكارهم الإثبات والنفي، يستلزم نفي النقيضين معا وهذا ممتنع، لأن النقيضين لا يمكن اجتماعهما ولا ارتفاعهما، بل لا بد من وجود أحدهما وحده فيلزم -على قياس قولهم- تشبيه الله بالممتنعات لأنه يمتنع أن يكون الشيء لا موجودا، ولا معدوما، ولا حيا، ولا ميتا، إلا أمرا يقدره الذهن ولا حقيقة له، ووصف الله سبحانه بهذا مع كونه مخالفا لبداهة العقول كفر صريح بما جاء به الرسول.
فإن قالوا: نفي النقيضين ممتنع عما كان قابلا لهما أما ما كان غير قابل لهما كالجماد الذي لا يقبل الاتصاف بالسمع والصمم فإنه يمكن نفيهما عنه فيقال: ليس بسميع ولا أصم.
فالجواب من أربعة أوجه:
الوجه الأول: أن هذا لا يصح فيما قالوه من نفي الوجود والعدم فإن تقابلهما تقابل سلب وإيجاب باتفاق العقلاء فإذا انتفى أحدهما لزم ثبوت الآخر، فإذا قيل: ليس بموجود. لزم أن يكون معدوما. وإذا قيل: ليس بمعدوم لزم أن يكون موجودا، فلا يمكن نفيهما معا ولا إثباتهما معا.
__________
(1) ر: 6/ 43 م ف ق.
(4/134)
الوجه الثاني: أن قولهم في الجماد: إنه لا يقبل الاتصاف بالحياة، والموت، والعمى، والبصر، والسمع، والصمم ونحوها مما يكون تقابله تقابل عدم وملكة قول اصطلاحي لا يغير الحقائق مردود بما ثبت من جعل الجماد حيا كما جعل الله عصا موسى حية تلقف ما صنعه السحرة وقد وصف الله تعالى الجماد بأنه ميت في قوله: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} . وأخبر أن الأرض يوم القيامة تحدث أخبارها وهي ما عمل عليها من خير وشر وهذا يستلزم سمعها لما قيل ورؤيتها لما فعل.
الوجه الثالث: أن الذي يقبل الاتصاف بالكمال أكمل من الذي لا يقبله فما يقبل أن يوصف بالعلم، والقدرة، والسمع، والبصر ولو كان خاليا منه أكمل مما لا يقبل ذلك، فقولكم إن الرب لا يقبل أن يتصف بذلك يستلزم أن يكون أنقص من الإنسان القابل لذلك حيث شبهتموه بالجماد الذي لا يقبله.
الوجه الرابع: أنه إذا كان يمتنع انتفاء الوجود والعدم فانتفاء عدم قبول ذلك أشد، وعلى هذا يكون قولهم: إن الرب لا يقبل الاتصاف بالوجود والعدم مستلزما لتشبيهه بأشد الممتنعات.
(4/135)
فصل
علم مما سبق أن كل طائفة من هؤلاء الطوائف الأربع واقعون في محاذير:
الأول: مخالفة طريق السلف.
الثاني: تعطيل النصوص عن المراد بها.
الثالث: تحريفها إلى معان غير مرادة بها.
الرابع: تعطيل الله عن صفات الكمال التي تضمنتها هذه النصوص.
الخامس: تناقض طريقتهم فيما أثبتوه وفيما نفوه.
فنقول لكل واحد منهم في جانب الإثبات: أثبت ما نفيت مع نفي التشبيه، كما أثبت ما أثبت مع نفي التشبيه.
ونقول له في جانب النفي: انف ما أثبت خوفا من التشبيه، كما نفيت ما نفيت خوفا ما التشبيه وإلا كنت متناقضا.
والقول الفصل المطرد السالم من التناقض ما كان عليه سلف الأمة وأئمتها من إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه من الأسماء والصفات، إثباتا بلا تمثيل، وتنزيها بلا تعطيل، وإجراء النصوص على ظاهرها على الوجه اللائق بالله عز وجل من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل.
ويتبين هذا بأصلين، ومثلين، وخاتمة:
فأما الأصلان:
فأحدهما: أن يقال لمن يثبت بعض الصفات دون بعض:
" القول في بعض الصفات كالقول في بعض ".
أي أن من أثبت شيئا مما أثبته الله لنفسه من الصفات أُلزم بإثبات
(4/136)
الباقي، ومن نفى شيئا منه ألزم بنفي ما أثبته وإلا كان متناقضا.
مثال ذلك: إذا كان المخاطب يثبت لله تعالى حقيقة الإرادة، وينفي حقيقة الغضب ويفسره: إما بإرادة الانتقام، وإما بالانتقام نفسه.
فيقال له: لا فرق بين ما أثبتّه من حقيقة الإرادة وما نفيته من حقيقة الغضب، فإن كان إثبات حقيقة الغضب يستلزم التمثيل، فإثبات حقيقة الإرادة يستلزمه أيضا.
وإن كان إثبات حقيقة الإرادة لا يستلزمه، فإثبات الغضب لا يستلزمه أيضا، لأن القول في أحدهما كالقول في الآخر، وعلى هذا يلزمك إثبات الجميع، أو نفي الجميع.
فإن قال: الإرادة التي أثبتها لا تستلزم التمثيل، لأنني أعني بها إرادة تليق بالله عز وجل لا تماثل إرادة المخلوق.
قيل له: فأثبت لله غضبا يليق به ولا يماثل غضب المخلوق.
فإن قال: الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام وهذا لا يليق بالله تعالى.
قيل له: والإرادة ميل النفس إلى جلب منفعة أو دفع مضرة وهذا لا يليق بالله سبحانه وتعالى.
فإن قال: هذه إرادة المخلوق، وأما إرادة الله فتليق به.
قيل له: والغضب بالمعنى الذي قلت غضب المخلوق، وأما غضب الله فيليق به، وهكذا القول في جميع الصفات التي نفاها يقال له فيها ما يقوله هو فيما أثبته.
فإن قال: أُثْبِت ما أثبتُّه من الصفات لدلالة العقل عليه.
أجبنا عنه بثلاثة أجوبة سبق ذكرها آخر الرد على الطائفة الأولى.
(4/137)
الأصل الثاني: أن يقال لمن يقر بذات الله تعالى ويمثل في صفاته أو ينفيها:
" القول في الصفات كالقول في الذات ".
يعني أن من أثبت لله تعالى ذاتا لا تماثل ذوات المخلوقين لزمه أن يثبت له صفات لا تماثل صفات المخلوقين، لأن القول في الصفات كالقول في الذات، وهذا الأصل يخاطب به أهل التمثيل، وأهل التعطيل من المعتزلة ونحوهم.
فيقال لأهل التمثيل: ألستم تثبتون لله ذاتا بلا تمثيل فأثبتوا له صفات بلا تمثيل.
ويقال لأهل التعطيل من المعتزلة ونحوهم: ألستم تقولون بوجود ذات لا تشبه الذوات فكذلك قولوا بصفات لا تشبه الصفات.
مثال ذلك: إذا قال: إن الله استوى على العرش فكيف استواؤه؟
فيقال له: القول في الصفات كالقول في الذات فأخبرنا كيف ذاته؟
فإن قال: لا أعلم كيفية ذاته.
قيل له: ونحن لا نعلم كيفية استوائه.
وحينئذ يلزمه أن يقر باستواء حقيقي غير مماثل لاستواء المخلوقين ولا معلوم الكيفية، كما أقر بذات حقيقية غير مماثلة لذوات المخلوقين ولا معلومة الكيفية، كما قال مالك وشيخه ربيعة وغيرهما في الاستواء: " الاستواء معلوم والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة ". (1)
فقوله: " الاستواء معلوم " أي معلوم المعنى في اللغة العربية التي نزل بها القرآن وله معان بحسب إطلاقه وتقييده بالحرف فإذا قيد بـ (على) كان
__________
(1) نقله المؤلف رحمه الله بالمعنى. والمحفوظ من لفظهما: (الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول) . والخطب في ذلك سهل.
(4/138)
معناه العلو والاستقرار كما قال تعالى {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} . وقال: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} . فاستواء الله تعالى على عرشه علوه عليه علوا خاصا يليق به، على كيفية لا نعلمها، وليس هو العلو المطلق على سائر المخلوقات.
وقوله: " والكيف مجهول " أي أن كيفية استواء الله على عرشه مجهولة لنا وذلك لوجوه ثلاثة:
الأول: أن الله أخبرنا أنه استوى على عرشه ولم يخبرنا كيف استوى.
الثاني: أن العلم بكيفية الصفة فرع عن العلم بكيفية الموصوف وهو الذات، فإذا كنا لا نعلم كيفية ذات الله فكذلك لا نعلم كيفية صفاته.
الثالث: أن الشيء لا تعلم كيفيته إلا بمشاهدته، أو مشاهدة نظيره أو الخبر الصادق عنه، وكل ذلك منتفٍ في استواء الله عز وجل على عرشه وهذا يدل على أن السلف يثبتون للاستواء كيفية لكنها مجهولة لنا.
وقوله: " والإيمان به واجب" أي أن الإيمان بالاستواء على هذا الوجه واجب، لأن الله تعالى أخبر به عن نفسه، وهو أعلم بنفسه، وأصدق قولا وأحسن حديثا، فاجتمع في خبره كمال العلم، وكمال الصدق، وكمال الإرادة وكمال الفصاحة والبيان فوجب قبوله والإيمان به.
وقوله: " والسؤال عنه " أي عن كيفيته بدعة؛ لأن السؤال عنها لم يعرف في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا خلفائه الراشدين، وهو من الأمور الدينية فكان إيراده بدعة، ولأن السؤال عن مثل ذلك من سمات أهل البدع، ثم
(4/139)
إن السؤال عنه مما لا تمكن الإجابة عليه فهو من التنطع في الدين وقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هلك المتنطعون".
وهذا القول الذي قاله مالك وشيخه يقال في صفة نزول الله تعالى إلى السماء الدنيا وغيره من الصفات: إنها معلومة المعنى، مجهولة الكيفية، وإن الإيمان بها على الوجه المراد بها واجب، والسؤال عن كيفيتها بدعة.
(4/140)
فصل
وأما المثلان:
فأحدهما: نعيم الجنة، فقد أخبر الله تعالى أن في الجنة طعاما، وشرابا ولباسا، وزوجات، ومساكن، ونخلا، ورمانا، وفاكهة، ولحما، وخمرا، ولبنا، وعسلا، وماء، وحلية من ذهب ولؤلؤ وفضة وغير ذلك، وكله حق على حقيقته، وهو في الاسم موافق لما في الدنيا من حيث المعنى لكنه مخالف له في الحقيقة.
أما موافقته لما في الدنيا في المعنى فلأن الله تعالى قال عن القرآن: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} . ولولا موافقته له في المعنى ما فهمناه ولا عقلناه.
وأما مخالفته له في الحقيقة فلقوله تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . وقوله في الحديث القدسي: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» . قال ابن عباس رضي الله عنهما: " ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء ".
فإذا كانت هذه الأسماء دالة على مسمياتها حقيقة وكان اتفاقها مع ما في الدنيا من الأسماء لا يستلزم اتفاق المسميات في الحقيقة بل بينهما من التباين ما لا يعلمه إلا الله، فإن مباينة الخالق للمخلوق أعظم وأظهر من مباينة المخلوق للمخلوق، لأن التباين بين المخلوقات تباين بين مخلوق
(4/141)
ومخلوق مثله فإذا ظهر التباين بينها كان بينها وبين الخالق أظهر وأولى.
وقد انقسم الناس في هذا المقام -مقام الإيمان بالله واليوم الآخر- إلى ثلاث فرق:
الفرقة الأولى: السلف والأئمة وأتباعهم آمنوا بما أخبر الله به عن نفسه، وعن اليوم الآخر، وأنه حق على حقيقته مع اعتقادهم التباين بين ما في الدنيا وما في الآخرة، وأن التباين بين الخالق والمخلوق أولى وأعظم وأبين لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .
الفرقة الثانية: طوائف من أهل الكلام يؤمنون بما أخبر الله به عن اليوم الآخر من الثواب والعقاب، وينفون كثيرا مما أخبر الله به عن نفسه من الصفات.
الفرقة الثالثة: القرامطة، والباطنية، والفلاسفة لا يؤمنون بما أخبر الله به عن نفسه، ولا عن اليوم الآخر بل ينكرون حقائق هذا وهذا.
فمذهبهم فيما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر أنه تخييل لا حقيقة له.
وأما في الأمر والنهي فكثير منهم يجعلون للمأمورات والمنهيات تأويلات باطنة تخالف ما يعرفه المسلمون منها فيقولون: المراد بالصلوات معرفة أسرارهم، وبالصيام كتمان أسرارهم، وبالحج السفر إلى شيوخهم، ونحو ذلك مما يعلم بالضرورة من دين الإسلام أنه كذب وافتراء وكفر وإلحاد.
وقد يقولون: إن الشرائع تلزم العامة دون الخاصة، فإذا وصل الرجل إلى درجة العارفين والمحققين عندهم ارتفعت عنه التكاليف فسقطت عنه الواجبات وحلت له المحظورات.
(4/142)
وقد يوجد في المنتسبين إلى التصوف والسلوك من يدخل في بعض هذه المذاهب.
وهؤلاء الباطنية هم الملاحدة الذين أجمع المسلمون على أنهم أكفر من اليهود والنصارى لعظم إلحادهم ومخالفتهم لجميع الشرائع الإلهية.
المثل الثاني: الروح التي بها الحياة وهي أقرب شيء إلى الإنسان، بل هي قوام الإنسان وقد وصفت في النصوص بأنها تقبض من البدن، ويصعد بها إلى السماء، وتعاد إلى البدن، ولا ينكر أحد وجودها حقيقة، وقد عجز الناس عن إدراك كنهها وحقيقتها إلا ما علموه عن طريق الوحي، واضطربوا فيها اضطرابا كثيرا لكونهم لا يشاهدون لها نظيرا.
فمنهم طوائف من أهل الكلام جعلوها البدن، أو جزءا منه، أو صفة من صفاته.
ومنهم طوائف من أهل الفلسفة وصفوها بأمور لا يتصف بها إلا ممتنع الوجود فقالوا: لا هي داخل البدن ولا خارجه، ولا مداخلة له ولا مباينة ولا متحركة ولا ساكنة، ولا تصعد ولا تهبط، ولا هي جسم ولا عرض. وقد يقولون: إنها لا داخل العالم ولا خارجه، ولا مباينة له ولا مداخلة، كما يصفون بذلك الخالق الواجب الوجود.
فإذا قيل لهم: إثبات هذا القول ممتنع في العقل ضرورة، قالوا: هذا ممكن، بدليل أن الكليات ممكنة موجودة وهي غير مشار إليها. وقد غفلوا عن كون الكليات لا توجد كلية إلا في الأذهان لا في الأعيان، فإن الذهن يفرض أشياء في الخيال لا يمكن وجودها في الخارج كأن يتخيل ارتفاع النقيضين أو اجتماعهما مع أن هذا ممتنع.
واعلم أن اضطراب المتكلمين والفلاسفة في الروح كثير وله سببان:
(4/143)
أحدهما: قلة بضاعتهم مما جاء به الوحي في صفاتها.
والثاني: أنهم لا يشاهدون لها نظيرا، فإن الروح ليست من جنس هذا البدن، ولا من جنس العناصر والمولدات منها، وإنما هي من جنس آخر مخالف لهذه الأجناس فعرفها الفلاسفة بالسلوب التي توجب مخالفتها للأجسام المشهودة، وجعلها المتكلمون من جنس الأجسام المشهودة فطريق الفلاسفة فيها تعطيل وطريق المتكلمين فيها تمثيل. وكلا الطريقين خطأ.
وقد صح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الروح إذا قبضت اتبعها البصر وأن الملائكة تجعلها في كفن وتصعد بها إلى السماء ومع هذا فالعقول قاصرة عن إدراك كنهها وحقيقتها كما قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} .
فإذا كانت الروح حقيقة، واتصافها بما وصفت به في الكتاب والسنة حقيقة مع أنها لا تماثل الأجسام المشهودة كان اتصاف الخالق بما يستحقه من صفات الكمال مع مباينته للمخلوقات من باب أولى، وكان عجز أهل العقول عن أن يحدوا الله أو يكيفوه أبين من عجزهم عن حد الروح وتكييفها.
وإذا كان من نفى صفات الروح جاحدا معطلا، ومن مثلها بما يشاهد من المخلوقات جاهلا بها ممثلا، فالخالق سبحانه أولى أن يكون من نفى صفاته جاحدا معطلا، ومن قاسه بخلقه جاهلا به ممثلا.
(4/144)
الخاتمة
هذه الخاتمة تشتمل على قواعد عظيمة مفيدة:
القاعدة الأولى:
أن الله تعالى موصوف بالنفي والإثبات
يعني أن الله تعالى جمع فيما وصف به نفسه بين النفي والإثبات كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . وإنما جمع الله تعالى لنفسه بين النفي والإثبات لأنه لا يتم كمال الموصوف إلا بنفي صفات النقص، وإثبات صفات الكمال، وكل الصفات التي نفاها الله عن نفسه صفات نقص كالإعياء، واللغوب، والعجز، والظلم، ومماثلة المخلوقين.
وكل ما أثبته الله تعالى لنفسه فهو صفات كمال كما قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} . سواء كانت من الصفات الذاتية التي يتصف بها أزلا وأبدا، أم من الصفات الفعلية التي يتصف بها حيث تقتضيها حكمته، وإن كان أصل هذه الصفات الفعلية ثابتا له أزلا وأبدا فإن الله تعالى لم يزل ولا يزال فعالا.
(4/145)
فصل
فمن صفات الله تعالى التي أثبتها لنفسه: الحياة. والعلم. والقدرة. والسمع. والبصر.. والإرادة. والكلام. والعزة. والحكمة. والمغفرة. والرحمة.
فحياته تعالى حياة كاملة مستلزمة لكل صفات الكمال لم يسبقها عدم ولا يلحقها فناء كما قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} . وقال: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} . وقال: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} .
وعلمه تعالى كامل شامل لكل صغير، وكبير، وقريب، وبعيد، لم يسبقه جهل، ولا يلحقه نسيان كما قال الله تعالى عن موسى حين سأله فرعون: ما بال القرون الأولى: {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} . وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .
وقدرته تعالى كاملة لم تسبق بعجز ولا يلحقها تعب قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} . وقال: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} . وقال:
(4/146)
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} .
وحكمته تعالى حكمة بالغة منزهة عن العبث شاملة لخلقه وشرعه قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} . وقال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} وقال: {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .
وحكمته كسائر صفاته لا يحيط بها الخلق فقد نعجز عن إدراك الحكمة فيما خلقه أو شرعه، وقد ندرك منها ما يفتح الله به علينا.
وعلى هذا تجري سائر الصفات التي أثبتها الله تعالى لنفسه فكلها صفات كمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه.
(4/147)
فصل
ومن الصفات التي نفاها الله تعالى عن نفسه: الموت.. والجهل. والنسيان. والعجز.. والسنة. والنوم. واللغوب. والإعياء. والظلم.
قال الله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} .
وقال عن موسى: {فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} .
وقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} .
وقال: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} .
وقال: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} . وقال: {وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ} . وقال: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} .
وكل صفة نفاها الله تعالى عن نفسه فإنها متضمنة لشيئين:
أحدهما: انتفاء تلك الصفة.
الثاني: ثبوت كمال ضدها.
ألا ترى إلى قوله:
(4/148)
{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} . فإن الله تعالى لما نفى عن نفسه العجز بين أن ذلك لكمال علمه وقدرته.
وعلى هذا فنفي الظلم عن نفسه، متضمن لكمال عدله.
ونفي اللغوب والعي، متضمن لكمال قوته.
ونفي السنة والنوم، متضمن لكمال حياته وقيوميته.
ونفي الموت، متضمن لكمال حياته.
وعلى هذا تجري سائر الصفات المنفية.
ولا يمكن أن يكون النفي في صفات الله - عز وجل - نفيا محضا، بل لا بد أن يكون لإثبات كمال وذلك للوجوه التالية:
الأول: أن الله تعالى قال: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} أي الوصف الأكمل وهذا معدوم في النفي المحض.
الثاني: أن النفي المحض عدم محض، والعدم المحض ليس بشيء، وما ليس بشيء فكيف يكون مدحا وكمالا.
الثالث: أن النفي -إن لم يتضمن كمالا- فقد يكون لعدم قابلية الموصوف لذلك المنفي أو ضده، لا لكمال الموصوف كما إذا قيل: " الجدار لا يظلم " فنفي الظلم عن الجدار ليس لكمال الجدار، ولكن لعدم قابلية اتصافه بالظلم أو العدل، وحينئذ لا يكون نفي الظلم عنه مدحا له ولا كمالا فيه.
الرابع: أن النفي -إن لم يتضمن كمالا- فقد يكون لنقص الموصوف أو لعجزه عنه كما لو قيل عن شخص عاجز عن الانتصار لنفسه ممن ظلمه: " إنه لا يجزي السيئة بالسيئة " فإن نفي مجازاته السيئة بمثلها ليس لكمال
(4/149)
عفوه ولكن لعجزه عن الانتصار لنفسه وحينئذ يكون نفي ذلك عنه نقصا وذما لا كمالا ومدحا.
ألم تر إلى قول الحماسي يهجو قومه:
لو كنت من مازن لم تستبح إبلي ... بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا
إلى أن قال:
لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد ... ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ... ومن إساءة أهل السوء إحسانا
يريد بذلك ذمهم ووصفهم بالعجز لا مدحهم بكمال العفو بدليل قوله بعد:
فليت لي بهمو قوما إذا ركبوا ... شنوا الإغارة ركبانا وفرسانا
وبهذا علم أن الذين لا يصفون الله تعالى إلا بالنفي المحض لم يثبتوا في الحقيقة إلها محمودا بل ولا موجودا كقولهم في الله عز وجل: " إنه ليس بداخل العالم، ولا خارجه، ولا مباين، ولا محايث (1) ، ولا فوق، ولا تحت، ولا متصل، ولا منفصل" ونحو ذلك.
ولهذا قال محمود بن سبكتكين (2) لمن ادعى ذلك في الخالق جل وعلا: " ميز لنا بين هذا الرب الذي تثبته وبين المعدوم " (3) . ولقد صدق
__________
(1) المحايث: المداخل. ر 5 / 269 مجموع الفتاوى لابن القاسم.
(2) محمود بن سبكتكين أحد كبار القادة يمين الدولة وأمين الملة استولى على الإمارة سنة 389 وأرسل إليه القادر بالله الخليفة العباسي خلعة السلطنة فقصد بلاد خراسان وامتدت سلطنته من أقاصي الهند إلى نيسابور كان تركي الأصل فصيحاً بليغاً حازماً صائب الرأي شجاعاً مجاهداً فتح في بلاد الكفار من الهند فتوحات هائلة لم تتفق لغيره من الملوك لا قبله ولا بعده ومع ذلك كان في غاية الديانة والصيانة يكره المعاصي والملاهي وأهلها ويحب العلماء والصالحين ويجالسهم ويناظرهم مات في غزنة سنة 421 – 422 هـ عن ثلاث وستين سنة تولى الإمارة فيها ثلاثاً وثلاثين سنة رحمه الله وأكرم مثواه.
(3) هو أبو بكر بن فورك المتكلم المعروف.
(4/150)
رحمه الله فإنه لن يوصف المعدوم بوصف أبلغ من هذا الوصف الذي وصفوا به الخالق جل وعلا.
فمن قال: لا هو مباين للعالم، ولا مداخل للعالم فهو بمنزلة من قال: لا هو قائم بنفسه، ولا بغيره، ولا قديم، ولا محدث، ولا متقدم على العالم، ولا مقارن له.
ومن قال: ليس بحي، ولا سميع، ولا بصير، ولا متكلم، لزمه أن يكون ميتا، أصم، أعمى، أبكم. (1)
__________
(1) انظر الرد على الطائفة الرابعة غلاة الغلاة ص 24.
(4/151)
فصل
القاعدة الثانية: ما أخبر الله تعالى به في كتابه، أو أخبر به رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجب علينا الإيمان به، سواء عرفنا معناه، أم لم نعرفه
لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} . وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} .
ولأن خبر الله تعالى صادر عن علم تام، فهو أعلم بنفسه وبغيره كما قال الله تعالى: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} .
ولأن خبر الله تعالى أصدق الأخبار كما قال تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} .
ولأن كلام الله تعالى أفصح الكلام،وأبلغه، وأبينه كما قال الله تعالى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} . وقال:
(4/152)
{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} . متشابها يشبه بعضه بعضا في الكمال والبيان. وقال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} .
ولأن الله تعالى يريد بما أنزل إلى عباده من الوحي أن يهتدوا ولا يضلوا كما قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} . وقال: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .
وهكذا خبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صادر عن علم فإنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعلم الناس بربه، وأسمائه، وصفاته، وأحكامه.
وخبره أصدق أخبار البشر، وكلامه أفصح كلام البشر، وقصده أفضل مقصود البشر، فهو أنصح الخلق للخلق.
فقد اجتمع في خبر الله تعالى وخبر رسوله كمال العلم، وكمال الصدق وكمال البيان، وكمال القصد والإرادة، وهذه هي مقومات قبول الخبر ولهذا لو صدر الخبر عن جاهل أو كاذب، أو عيي، أو سيئ قصد لم يكن مقبولا لفقده مقومات القبول أو أحدها.
فإذا كانت مقومات قبول الخبر تامة على أكمل وجه في خبر الله ورسوله وجب الإيمان به، وقبوله سواء كان نفيا، أم إثباتا، ولم يبق عذر لمعتذر في رده، أو تحريفه، أو الشك في مدلوله، لا سيما في أسماء الله تعالى وصفاته.
وكذلك ما ثبت باتفاق سلف الأمة وأئمتها وجب قبوله وعامة هذا الباب " باب الأسماء والصفات " منصوص عليه في الكتاب والسنة متفق
(4/153)
عليه بين سلف الأمة.
وأما ما تنازع فيه المتأخرون مما ليس في الكتاب والسنة ولا عند سلف الأمة فليس على أحد، بل وليس لأحد أن يثبت لفظه، أو ينفيه لعدم ورود السمع به، وليس له أن يقبل معناه أو يرده حتى يعلم المراد منه فإن كان حقا وجب قبوله وإن كان باطلا وجب رده.
ولذلك أمثلة، منها:
المثال الأول: الجهة:
أي لو قال قائل: إن الله في جهة، أو هل لله جهة؟
فيقال له: لفظ " الجهة " ليس في الكتاب والسنة إثباته ولا نفيه، فليس فيهما أنه في جهة، أو له جهة، ولا أنه ليس في جهة، أو ليس له جهة، وفي النصوص ما يغني عنه كالعلو، والفوقية، والاستواء على العرش، وصعود الأشياء إليه ونزولها منه.
وقد اضطرب المتأخرون في إثباته ونفيه، فإذا أجريناه على القاعدة قلنا: أما اللفظ فلا نثبته ولا ننفيه لعدم ورود ذلك، وأما المعنى فينظر ماذا يراد بالجهة: أيراد بالجهة شيء مخلوق محيط بالله عز وجل، فهذا معنى باطل لا يليق بالله سبحانه فإن الله لا يحيط به شيء من مخلوقاته فقد وسع كرسيه السماوات والأرض، ولا يؤوده حفظهما، ولا يمكن أن يكون داخل شيء من مخلوقاته.
أم يراد بالجهة ما فوق العالم، فهذا حق ثابت لله عز وجل فإن الله تعالى فوق خلقه عال عليهم، كما دل على ذلك الكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل، والفطرة، وفي صحيح مسلم من حديث معاوية بن الحكم السلمي «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لجارية كانت له: " أين الله؟ " قالت: في السماء. قال: " من أنا؟ " قالت: أنت رسول الله. قال: "أعتقها فإنها مؤمنة» .
(4/154)
المثال الثاني: الحيز أو المتحيز:
فإذا قال قائل: هل نصف الله تعالى بأنه متحيز أو في حيز؟
قلنا: لفظ " التحيز " أو " الحيز " ليس في الكتاب والسنة إثباته ولا نفيه عن الله تعالى، فليس فيهما أنه في حيز، أو متحيز، ولا أنه ليس كذلك وفي النصوص ما يغني عنه مثل الكبير المتعال.
وقد اضطرب المتأخرون في إثبات ذلك لله تعالى أو نفيه عنه فإذا أجريناه على القاعدة قلنا: أما اللفظ فلا نثبته ولا ننفيه لعدم ورود السمع به، وأما المعنى فينظر ماذا يراد بالحيز أو المتحيز أيراد به أن الله تعالى تحوزه المخلوقات وتحيط به، فهذا معنى باطل منفي عن الله تعالى لا يليق به فإن الله أكبر، وأعظم، وأجل من أن تحيط به المخلوقات وتحوزه كيف وقد وسع كرسيه السماوات والأرض، والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه؟ ! وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «يقبض الله تبارك وتعالى الأرض يوم القيامة ويطوي السماوات بيمينه ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض» ؟ " وقال ابن عباس رضي الله عنهما: «ما السماوات السبع والأرضون السبع وما فيهن في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم» .
أم يراد بالحيز أو المتحيز: أن الله منحاز عن المخلوقات أي مباين لها منفصل عنها ليس حالا فيها، ولا هي حالة فيه، فهذا حق ثابت لله عز وجل كما قال أئمة أهل السنة: هو فوق سماواته على عرشه، بائن من خلقه.
(تنبيه) جاء في القاعدة " أنه يجب علينا الإيمان بما أخبر الله به ورسوله سواء عرفنا معناه أم لا " لكن ليعلم أنه ليس في كلام الله ورسوله شيء لا يعرف معناه جميع الأمة، بل لا بد أن يكون معروفا لجميع الأمة أو بعضها لقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} .
(4/155)
وقوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} .
ولأنه لو كان فيه ما لا يعلم معناه أحد لكان بعض الشريعة مجهولا للأمة، ولكن المعرفة والخفاء أمران نسبيان، فقد يكون معروفا لشخص ما كان خفيا على غيره، إما لنقص في علمه، أو قصور في فهمه، أو تقصير في طلبه، أو سوء في قصده.
(4/156)
فصل
القاعدة الثالثة
في إجراء النصوص على ظاهرها
ظاهر النصوص ما يتبادر منها من المعاني بحسب ما تضاف إليه وما يحتف بها من القرائن.
والواجب في النصوص إجراؤها على ظاهرها بدون تحريف لقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} . وقوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} . وقوله: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} .
فإذا كان الله تعالى أنزله باللسان العربي من أجل عقله وفهمه، وأمرنا باتباعه، وجب علينا إجراؤه على ظاهره بمقتضى ذلك اللسان العربي، إلا أن تمنع منه حقيقة شرعية. ولا فرق في هذا بين نصوص الصفات وغيرها، بل قد يكون وجوب التزام الظاهر في نصوص الصفات أولى وأظهر، لأن مدلولها توقيفي محض لا مجال للعقول في تفاصيله.
فإن قال قائل: في نصوص الصفات لا يجوز إجراؤها على ظاهرها لأن ظاهرها غير مراد.
(4/157)
فجوابه أن يقال: ماذا تريد بالظاهر؟ أتريد ما يظهر من النصوص من المعاني اللائقة بالله من غير تمثيل فهذا الظاهر مراد لله ورسوله قطعا، وواجب على العباد قبوله، والإيمان به شرعا، لأنه حق ولا يمكن أن يخاطب الله عباده بما يريد منهم خلاف ظاهره بدون بيان كيف وقد قال: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} . وقال: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} . ويقول عن رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} . ويقول: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . ومن خاطب غيره بما يريد منه خلاف ظاهره بدون بيان فإنه لم يبين له ولم يهده.
أم تريد بالظاهر ما فهمته من التمثيل، فهذا غير مراد لكنه ليس ظاهر نصوص الكتاب والسنة، لأن هذا الظاهر الذي فهمته كفر وباطل بالنص والإجماع، ولا يمكن أن يكون ظاهر كلام الله ورسوله كفرا وباطلا ولا يرتضي ذلك أحد من المسلمين.
وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن نصوص الصفات تجري على ظاهرها اللائق بالله عز وجل من غير تحريف، وأن ظاهرها لا يقتضي تمثيل الخالق بالمخلوق، فاتفقوا على أن لله تعالى حياة، وعلما، وقدرة، وسمعا، وبصرا، حقيقة، وأنه مستو على عرشه حقيقة، وأنه يحب، ويرضى، ويكره، ويغضب حقيقة، وأن له وجها ويدين حقيقة لقوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} . وقوله: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .
(4/158)
{وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . وقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} . وقوله: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} . {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} ، {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} . {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} وقوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} . {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} .
فأجروا هذه النصوص وغيرها من نصوص الصفات على ظاهرها وقالوا: إنه مراد على الوجه اللائق بالله تعالى فلا تحريف، ولا تمثيل.
وبيان ذلك: أن من صفاتنا ما هو معان وأعراض قائمة بنا كالحياة والعلم، والقدرة. ومنها ما هو أعيان وأجسام وهي أبعاض لنا كالوجه واليدين. ومن المعلوم أن الله وصف نفسه بأنه حي، عليم، قدير، ولم يقل المسلمون إن المفهوم من حياته، وعلمه، وقدرته، كالمفهوم من حياتنا، وعلمنا وقدرتنا، فكذلك لما وصف نفسه بأن له وجها ويدين لم يكن المفهوم من وجهه ويديه كالمفهوم من وجوهنا وأيدينا. وإنما قال المسلمون: إن المفهوم من صفات الله في هذا وهذا لا يماثل المفهوم منها في صفاتنا بل كل صفة
(4/159)
تناسب الموصوف وتليق به، فلما كانت ذات الخالق لا تماثل ذوات المخلوقين، فكذلك صفاته لا تماثل صفات المخلوقين. وقد سبق أن القول في الصفات كالقول في الذات.
فتبين بذلك أن من قال: إن ظاهر نصوص الصفات غير مراد فقد أخطأ على كل تقدير، لأنه إن فهم من ظاهرها معنى فاسدا وهو التمثيل فقد أخطأ في فهمه وأصاب في قوله: "غير مراد " وإن فهم من ظاهرها معنى صحيحا وهو المعنى اللائق بالله فقد أصاب في فهمه وأخطأ في قوله: "غير مراد" فهو إن أصاب في معنى ظاهرها أخطأ في نفي كونه مرادا، وإن أخطأ في معنى ظاهرها أصاب في نفي كونه مرادا، فيكون قوله خطأ على كل تقدير.
والصواب الذي لا خطأ فيه أن ظاهرها مراد، وأنه ليس إلا معنى يليق بالله.
(4/160)
فصل
والذين يجعلون ظاهر النصوص معنى فاسدا فينكرونه يكون خطؤهم على وجهين:
الأول: أن يفسروا النص بمعنى فاسد لا يدل عليه اللفظ فينكرونه لذلك ويقولون: إن ظاهره غير مراد.
مثال ذلك: قوله تعالى في الحديث القدسي: «يا بن آدم مرضت فلم تعدني، يا بن آدم استطعمتك فلم تطعمني، يا بن آدم استسقيتك فلم تسقني» . الحديث رواه مسلم.
قالوا: فظاهر الحديث أن الله يمرض، ويجوع، ويعطش وهذا معنى فاسد فيكون غير مراد.
فنقول: لو أعطيتم النص حقه لتبين لكم أن هذا المعنى الفاسد ليس ظاهر اللفظ، لأن سياق الحديث يمنع ذلك فقد جاء مفسرا بقول الله تعالى في الحديث نفسه: «أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده، أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، واستسقاك عبدي فلان فلم تسقه» وهذا صريح في أن الله سبحانه لم يمرض، ولم يجع، ولم يعطش، وإنما حصل المرض، والجوع، والعطش من عبد من عباده.
ومثال آخر: قوله تعالى عن سفينة نوح: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} .
قالوا: فظاهر الآية أن السفينة تجري في عين الله، وهذا معنى فاسد فيكون غير مراد.
فنقول: دعواكم أن ظاهر الآية أن السفينة تجري في عين الله
(4/161)
سبحانه مردودة من جهة التركيب اللفظي ومن جهة المعنى أيضا.
أما التركيب اللفظي: فإنه إذا قال القائل: " فلان يسير بعيني" لم يفهم أحد من هذا التركيب أنه يسير داخل عينيه، ولو ادعى مدع أن هذا ظاهر لفظه لضحك منه السفهاء فضلا عن العقلاء، وإنما يفهم منه أن عينيه تصحبه بالنظر والرعاية، لأن الباء هنا للمصاحبة وليست للظرفية.
وأما المعنى: فإن من المعلوم أن نوحا عليه الصلاة والسلام كان في الأرض، وأنه صنع السفينة في الأرض، وجرت على الماء في الأرض كما قال الله تعالى: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ} . وقال: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} .
ولا يمكن لأحد أن يدعي أن ظاهر اللفظ أن السفينة تجري في عين الله عز وجل، لأن ذلك ممتنع غاية الامتناع في حق الله تعالى، ولا يمكن لمن عرف الله، وقدره حق قدره، وعلم أنه مستو على عرشه، بائن من خلقه، ليس حالا في شيء من مخلوقاته، ولا شيء من مخلوقاته حالا فيه أن يفهم من هذا اللفظ هذا المعنى الفاسد.
وعلى هذا فمعنى الآية الذي هو ظاهر اللفظ أن السفينة تجري والله تعالى يكلؤها بعينه.
ومثال ثالث: في الأثر: «الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فمن صافحه وقبله، فكأنما صافح الله وقبل يمينه» .
(4/162)
قالوا: فظاهر الأثر أن الحجر نفسه يمين الله في الأرض، وهذا معنى فاسد فيكون غير مراد.
فنقول: أولا: هذا الأثر روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإسناد لا يثبت والمشهور أنه عن ابن عباس. قلت: قال ابن الجوزي: هذا حديث لا يصح وقال ابن العربي: حديث باطل فلا يلتفت إليه. اهـ.
ثانيا: أنه -على تقدير صحته- صريح في أن الحجر الأسود ليس نفس يمين الله لأنه قال: «يمين الله في الأرض» فقيده في الأرض ولم يطلق وحكم اللفظ المقيد يخالف المطلق، ومعلوم أن الله تعالى في السماء، ولأنه قال: «فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقَبّل يمينه» ومعلوم أن المشبه غير المشبه به، فالأثر ظاهر في أن مستلم الحجر ليس مصافحا لله، وليس الحجر نفس يمين الله فكيف يجعل ظاهره كفرا يحتاج إلى تأويل.
الوجه الثاني: أن يفسروا اللفظ بمعنى صحيح موافق لظاهره لكن يردونه لاعتقادهم أنه باطل وليس بباطل.
مثال ذلك قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} .
قالوا: فظاهر الآية أن الله علا على العرش، والعرش محدود فيلزم أن يكون الله سبحانه محدودا، وهذا معنى فاسد فيكون غير مراد.
فنقول: إن علو الله تعالى على عرشه - وإن كان العرش محدودا - لا يستلزم معنى فاسدا فإن الله تعالى قد علا على عرشه علوا يليق بجلاله وعظمته، ولا يماثل علو المخلوق على المخلوق، ولا يلزم منه أن يكون الله محدودا، وهو علو يختص بالعرش، والعرش أعلى المخلوقات فيكون الله تعالى عاليا على كل شيء وهذا من كماله وكمال صفاته فكيف يكون معنى فاسدا غير مراد؟!
(4/163)
مثال آخر: قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} . قالوا: فظاهر الآية أن لله تعالى يدين حقيقيتين وهما جارحة، وهذا معنى فاسد فيكون غير مراد.
فنقول: إن ثبوت اليدين الحقيقيتين لله عز وجل لا يستلزم معنى فاسدا، فإن لله تعالى يدين حقيقيتين تليقان بجلاله وعظمته، بهما يأخذ ويقبض، ولا تماثلان أيدي المخلوقين، وهذا من كماله وكمال صفاته قال الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما تصدق أحد بصدقة من طيب - ولا يقبل الله إلا الطيب - إلا أخذها الرحمن بيمينه وإن كانت تمرة فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل» فأي معنى فاسد يلزم من ظاهر النص حتى يقال: إنه غير مراد؟ !
وقد يجتمع الخطأ من الوجهين في مثال واحد مثل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء» .
فقالوا على الوجه الأول: ظاهر الحديث أن قلوب بني آدم بين أصابع الرحمن فيلزم منه المباشرة والمماسة، وأن تكون أصابع الله سبحانه داخل أجوافنا، وهذا معنى فاسد فيكون غير مراد.
وقالوا على الوجه الثاني: ظاهر الحديث أن لله أصابع حقيقية والأصابع جوارح وهذا معنى فاسد فيكون غير مراد.
فنقول على الوجه الأول: إن كون قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن حقيقة لا يلزم منه المباشرة والمماسة، ولا أن تكون أصابع الله
(4/164)
عز وجل داخل أجوافنا ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} . فإن السحاب لا يباشر السماء ولا الأرض ولا يماسهما.
ويقال: سترة المصلي بين يديه وليست مباشرة له ولا مماسة له.
فإذا كانت البينية لا تستلزم المباشرة والمماسة فيما بين المخلوقات فكيف بالبينية فيما بين المخلوق والخالق الذي وسع كرسيه السماوات والأرض وهو بكل شيء محيط، وقد دل السمع والعقل على أن الله تعالى بائن من خلقه، ولا يحل في شيء من خلقه، ولا يحل فيه شيء من خلقه، وأجمع السلف على ذلك.
ونقول على الوجه الثاني: إن ثبوت الأصابع الحقيقية لله تعالى لا يستلزم معنى فاسدا، وحينئذ يكون مرادا قطعا، فإن لله تعالى أصابع حقيقية تليق بالله عز وجل، ولا تماثل أصابع المخلوقين وفي صحيح البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا محمد إنا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع فيقول: أنا الملك فضحك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر ثم قرأ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} » . هذا لفظ البخاري في تفسير سورة الزمر.
فأي معنى فاسد يلزم من ظاهر النص حتى يقال: إنه غير مراد؟ !
(4/165)
ويشبه هذا الخطأ أن يجعل اللفظ نظيرا لما ليس مثله كما قيل في قوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} إنه مثل قوله تعالى: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} فيكون المراد باليد نفس الفاعل في الآيتين. وهذا غلط فإن الفرق بينهما ثابت من وجوه ثلاثة:
الأول: من حيث الصيغة فإن الله قال في الآية الأولى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وهي تخالف الصيغة في الآية الثانية فإن الله قال فيها: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} . ولو كانت الأولى نظيرة للثانية لكان لفظها: (لما خلقت يداي) فيضاف الخلق إليهما، كما أضيف العمل إليها في الثانية.
الثاني: أن الله تعالى أضاف في الآية الأولى الفعل إلى نفسه معدى بالباء إلى اليدين فكان سبحانه هو الخالق وكان خلقه بيديه. ألا ترى إلى قول القائل: كتبت بالقلم فإن الكاتب هو فاعل الكتابة، ومدخول الباء وهو القلم حصلت به الكتابة.
وأما الآية الثانية: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} . فأضاف الفعل فيها إلى الأيدي المضافة إليه وإضافة الفعل إلى الأيدي كإضافته إلى النفس فكأنه قال: مما عملنا. ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} . والمراد بما كسبتم بدليل قوله في آية أخرى: {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} .
الوجه الثالث: أن الله تعالى أضاف الفعل في الآية الأولى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} معدى بالباء إلى يدين اثنتين، ولا يمكن أن يراد بهما
(4/166)
نفسه لدلالة التثنية على عدد محصور باثنين، والرب-جل وعلا- إله واحد فلا يمكن أن يذكر نفسه بصيغة التثنية لدلالة ذلك على صريح العدد وحصره ولكنه تعالى يذكر نفسه تارة بصيغة الإفراد للتوحيد، وتارة يذكر نفسه بصيغة الجمع للتعظيم، وربما يدل الجمع على معاني أسمائه.
أما في الآية الثانية فأضاف الفعل إلى الأيدي المضافة إليه مجموعة للتعظيم فصار المراد بها نفسه المقدسة جل وعلا.
وبهذا تبين الفرق بين قوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} . وقوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} وأنها ليست نظيرا لها. وتبين أيضا أن ظاهر النصوص في الصفات حق ثابت مراد لله تعالى على الوجه اللائق به، وأنه لا يستلزم نقصا في حقه ولا تمثيلا له بخلقه.
لكن لو كنا نخاطب شخصا لا يفهم من ظاهرها إلا ما يقتضي التمثيل فإننا نقول له: إن هذا الظاهر الذي فهمته غير مراد، ثم نبين له أن هذا ليس ظاهر النصوص لأنه باطل لا يقتضيه السياق كما سبق بيانه.
(4/167)
القاعدة الرابعة
توهم بعض الناس في نصوص الصفات والمحاذير المترتبة على ذلك
اعلم أن كثيرا من الناس يتوهم في بعض الصفات التي دلت عليها النصوص، أو كثير منها، أو أكثرها، أو كلها، أنها تماثل صفات المخلوقين، ثم يريد أن ينفي ذلك الوهم الذي توهمه فيقع في أربعة محاذير:
الأول: أنه فهم من النصوص صفات تماثل صفات المخلوقين، وظن أن ذلك هو مدلول النص، وهذا فهم خاطئ، فإن الصفة التي دلت عليها النصوص تناسب موصوفها وتليق به.
وتمثيل الخالق بالمخلوق كفر، وضلال، لأنه تكذيب لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . ولا يمكن أن يكون ظاهر النصوص الكفر والضلال لقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} . وقوله: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} .
الثاني: أنه جنى على النصوص حيث نفى ما تدل عليه من المعاني الإلهية، ثم أثبت لها معاني من عنده، لا يدل عليها ظاهر اللفظ، فكان جانيا على النصوص من وجهين.
الثالث: أنه نفى ما دلت عليه النصوص من الصفات بغير علم فيكون بذلك قائلا على الله ما لا يعلم، وهذا محرم بالنص، والإجماع قال
(4/168)
الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} .
الرابع: أنه إذا نفى عن الله عز وجل ما تقتضيه النصوص من صفات الكمال لزم أن يكون الله سبحانه متصفا بنقيضها من صفات النقص، وذلك لأنه ما من موجود إلا وهو متصف بصفة، ولا يمكن وجود ذات مجردة عن الصفات، فإذا انتفت صفة الكمال عنها، لزم اتصافها بصفات النقص.
وحينئذ يكون من نفى عن الله تعالى ما تقتضيه النصوص من صفات الكمال، متعديا في حق الله تعالى، حيث جمع بين نفي صفات الكمال عنه، وتمثيله بالمنقوصات والمعدومات، بل قد يرتقي به الغلو في النفي إلى تمثيله بالممتنعات المستحيلات.
ويكون أيضا جانيا على النصوص حيث عطلها عما دلت عليه من صفات الكمال لله تعالى، وأثبت لها معاني من عنده لا يدل عليها ظاهرها فيجمع بين النفي، والتمثيل في صفات الله، وبين التحريف، والتعطيل في نصوص الكتاب والسنة، ويكون ملحدا في أسماء الله وآياته وقد قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} .
مثال ذلك: أن الله تعالى أخبر عن نفسه أنه استوى على العرش
(4/169)
فيتوهم واهم أنه كاستواء الإنسان على ظهور الفلك والأنعام، وأنه محتاج إلى العرش كحاجة الإنسان للأنعام والفلك، فلو عثرت الدابة لخر المستوي عليها، ولو انخرقت السفينة لغرق المستوي عليها، فقياس هذا أنه لو عدم العرش لسقط الرب على قياسه الفاسد، فينفي بذلك حقيقة الاستواء، ومنشأ هذا الوهم الذي توهمه في استواء الله على عرشه ظنه أنه مثل استواء الإنسان على ظهور الأنعام والفلك وهذا ظن فاسد؛ لأن الله تعالى أضاف الاستواء إلى نفسه الكريمة، لم يذكر استواء مطلقا يصلح للمخلوق، ولا عاما يتناول المخلوق، فتعين أن يكون استواء خاصا يليق به كسائر صفاته وأفعاله لا يماثل استواء المخلوقين، كما أن الله نفسه لا يماثل المخلوقين.
ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} هل يتوهم أحد أن بناءه إياها كبناء المخلوق سقف البيت بحيث يحتاج إلى زنبيل، ومجارف وضرب لبن، وجبل طين ونحو ذلك، فإذا كان لا يحتاج إلى ذلك في هذا الفعل من أفعاله، لزم أن لا يكون محتاجا إلى العرش في استوائه عليه بل هو سبحانه الغني عن العرش وغيره.
فتجد هذا الذي نفى حقيقة الاستواء الذي هو ظاهر النصوص وقع في تلك المحاذير الأربعة:
1 - فقد مثل ما فهمه من استواء الله على عرشه باستواء المخلوقين.
2 - وعطل النصوص عما دلت عليه من صفة الاستواء اللائق بالله، ثم حرفها إلى معان لا تدل عليها.
3 - وكان نفيه لذلك وتعطيله بلا علم، بل عن جهل، وظن فاسد.
(4/170)
4 - ولزم من نفيه لصفة الكمال التي تضمنها الاستواء ثبوت صفة نقص بفوات هذا الكمال.
مثال آخر: قوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} . فيتوهم واهم أن الله تعالى داخل السماء، وأن السماء تحيط به كما لو قلنا: فلان في الحجرة فإن الحجرة محيطة به، فينفي بناء على هذا الوهم كون الله تعالى في السماء ويقول: إن الذي في السماء ملكه وسلطانه ونحو ذلك.
ومنشأ هذا الوهم ظنه أن (في) التي للظرفية تكون بمعنى واحد في جميع مواردها، وهذا ظن فاسد، فإن (في) يختلف معناها بحسب متعلقها فإنه يفرق بين كون الشيء في المكان، وكون العرض في الجسم، وكون الوجه في المرآة، وكون الكلام في الورق المكتوب فيه، فلو قيل: هل العرش في السماء أو في الأرض؟ لقيل: في السماء مع أن العرش أكبر من السماء كثيرا.
وعلى هذا فيخرج قوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} على أحد وجهين:
إما أن تكون السماء بمعنى العلو، فإن السماء يراد بها العلو كما في قوله تعالى: وأنزل لكم من السماء ماء. والمطر ينزل من السحاب المسخر بين السماء والأرض لا من السماء نفسها، فيكون معنى كونه تعالى في السماء أنه في العلو المطلق فوق جميع المخلوقات، وليس هناك ظرف وجودي يحيط به إذ ليس فوق العالم شيء سوى الله تعالى.
وإما أن تكون (في) بمعنى (على) كما جاءت بمعناها في مثل قوله
(4/171)
تعالى: {فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} أي على الأرض وقوله عن فرعون: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} أي على جذوع النخل وعلى هذا فيكون معنى قوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} أي على السماء أي فوقها والله تعالى فوق السماوات وفوق كل شيء.
فتجد هذا الذي نفى أن يكون الله في السماء حقيقة وقع في المحاذير الأربعة:
1- فقد مثل ما فهمه من كون الله تعالى في السماء بكون المخلوق في الحجرة ونحو ذلك.
2- وعطل النصوص عما دلت عليه من علو الله تعالى في السماء، ثم حرفها إلى معان لا تدل عليها.
3- وكان نفيه وتعطيله بلا علم، بل عن جهل، وظن فاسد.
4- ولزم من نفيه لصفة الكمال التي تضمنها كونه في السماء ثبوت صفة النقص، لأن نفيه لصفة العلو يستلزم أحد أمرين ولا بد:
فإمّا أن يكون الله تعالى في كل مكان بذاته والقول بهذا في غاية الضلال والكفر، لأنه يستلزم إما تعدد الخالق، وإما تبعضه، ويستلزم كذلك أن يكون في محلات القذر والأذى التي يتنزه عنها كل ذي مروءة، فضلا عن الخالق.
وإما أن يكون الله تعالى لا داخل العالم، ولا خارجه، ولا فوق، ولا تحت ولا متصلا، ولا منفصلا، ولا مباينا، ولا محايثا ونحو ذلك من العبارات المتضمنة للتعطيل المحض، وحقيقة هذا نفي وجود الخالق جل وعلا.
(4/172)
القاعدة الخامسة
في علمنا بما أخبر الله تعالى به عن نفسه
ما أخبرنا الله به عن نفسه فهو معلوم لنا من جهة، ومجهول من جهة.
معلوم لنا من جهة المعنى، ومجهول لنا من جهة الكيفية.
أما كونه معلوما لنا من جهة المعنى فثابت بدلالة السمع، والعقل.
فمن أدلة السمع قوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} . وقوله: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} . وقوله: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} . وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه» .
فحث الله تعالى على تدبر القرآن كله ولم يستثن شيئا منه، ووبخ من لم يتدبره، وبين أن الحكمة من إنزاله أن يتدبره الذين أنزل إليهم ويتعظ به أصحاب العقول، ولولا أن له معنى بالتدبر لكان الحث على تدبره من لغو القول، ولكان الاشتغال بتدبره من إضاعة الوقت، ولفاتت الحكمة من إنزاله، ولما حسن التوبيخ على تركه.
والحث على تدبر القرآن شامل لتدبر جميع آياته الخبرية العلمية والحكمية العملية، فكما أننا مأمورون بتدبر آيات الأحكام لفهم معناها
(4/173)
والعمل بمقتضاها، إذ لا يمكن العمل بها بدون فهم معناها، فكذلك نحن مأمورون بتدبر آيات الأخبار لفهم معناها، واعتقاد مقتضاها، والثناء على الله تعالى بها، إذ لا يمكن اعتقاد ما لم نفهمه، أو الثناء على الله تعالى به.
وأما دلالة العقل على فهم معاني ما أخبر الله تعالى به عن نفسه فمن وجهين:
أحدهما: أن ما أخبر الله به عن نفسه أعلى مراتب الأخبار وأغلى مطالب الأخيار، فمن المحال أن يكون ما أخبر الله به عن نفسه مجهول المعنى، وما أخبر به عن فرعون، وهامان، وقارون، وعن قوم نوح، وعاد، وثمود، والذين من بعدهم، معلوم المعنى مع أن ضرورة الخلق لفهم معنى ما أخبر الله به عن نفسه أعظم وأشد.
الثاني: أنه من المحال أن ينزل الله تعالى على عباده كتابا يعرفهم به بأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وأحكامه، ويصفه بأنه عليّ حكيم (1) ، كريم (2) ، عظيم (3) ، مجيد (4) ، مبين بلسان عربي ليعقل ويفهم (5) . ثم تكون كلماته في أعظم المطالب غير معلومة المعنى، بمنزلة الحروف الهجائية التي لا يعلمها الناس إلا أماني، ولا يخرجون بعلمها عن صفة الأمية كما قال تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} .
فإن قلت: ما الجواب عن قوله تعالى:
__________
(1) (وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم) .
(2) (إنه لقرآن كريم) .
(3) (ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم) .
(4) (بل هو قرآن مجيد) .
(5) (حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربياً لعلكم تعقلون) .
(4/174)
{هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب} . فإن هذا يقتضي أن في القرآن آيات متشابهات لا يعلم تأويلهن إلا الله؟
قلنا: الجواب أن للسلف في الوقف في هذه الآية قولين:
أحدهما: الوقف عند قوله: إلا الله وهو قول جمهور السلف والخلف وبناء عليه يكون المراد بالتأويل في قوله: وما يعلم تأويله إلا الله الحقيقة التي يؤول الكلام إليها، لا التفسير الذي هو بيان المعنى فتأويل آيات الصفات على هذا هو حقيقة تلك الصفات وكنهها وهذا من الأمور الغيبية التي لا يدركها العقل ولم يرد بها السمع فلا يعلمها إلا الله.
الثاني: الوصل فلا يقفون على قوله: {إِلَّا اللَّهُ} وهو قول جماعة من السلف والخلف، وبناء عليه يكون المراد بالتأويل في قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} . التفسير الذي هو بيان المعنى. وهذا معلوم للراسخين في العلم كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: " أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله". وقال مجاهد: " عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته أقفه عند كل آية وأسأله عن تفسيرها".
وبهذا تبين أن الآية لا تدل على أن في القرآن شيئا لا يعلم معناه إلا الله تعالى، وإنما تدل على أن في القرآن شيئا لا يعلم حقيقته وكنهه إلا الله، على قراءة الوقف، وتدل على أن الراسخين في العلم يعلمون معنى المتشابه الذي يخفى على كثير من الناس على قراءة الوصل، وعلى هذا فلا تعارض ما ذكرناه من أنه ليس في القرآن شيء لا يعلم معناه.
(4/175)
فصل
وأما كون ما أخبرنا الله به عن نفسه مجهولا لنا من جهة الكيفية فثابت بدلالة السمع، والعقل.
فأما دلالة السمع فمن وجهين:
الأول: قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} . فإن نفي الإحاطة بالله علما، شامل للإحاطة بذاته، وصفاته، فلا يعلم حقيقة ذاته وكنهها إلا هو سبحانه وتعالى، وكذلك صفاته.
الثاني: أن الله أخبرنا عن ذاته وصفاته، ولم يخبرنا عن كيفيتها، وعقولنا لا تدرك ذلك، فتكون الكيفية مجهولة لنا، لا يحل لنا أن نتكلم فيها أو نقدرها بأذهاننا لقوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} . وقوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} .
وأما دلالة العقل على ذلك: فلأن الشيء لا تدرك كيفيته إلا بمشاهدته، أو بمشاهدة نظيره المساوي له، أو الخبر الصادق عنه، وكل هذه الطرق منتفية في كيفية ذات الله تعالى وصفاته، فتكون كيفية ذات الله وصفاته مجهولة لنا.
(4/176)
وأيضا فإننا نقول: ما هي الكيفية التي تقدرها لذات الله تعالى وصفاته؟ ! إن أي كيفية تقدرها في ذهنك، أو تنطق بها بلسانك فالله أعظم وأجل من ذلك، وإن أي كيفية تقدرها في ذهنك، أو تنطق بها بلسانك فستكون كاذبا فيها، لأنه ليس لك دليل عليها.
(4/177)
تتمة
بهذا التقرير الذي تبين به أنه لا يمكن أن يكون في القرآن شيء لا يعلم معناه إلا الله يتبين بطلان مذهب المفوضة الذين يفوضون علم معاني آيات الصفات ويدعون أن هذا هو مذهب السلف وقد ضلوا فيما ذهبوا إليه، وكذبوا فيما نسبوه إلى السلف، فإن السلف إنما يفوضون علم الكيفية دون علم المعنى، وقد تواترت النقول عنهم بإثبات معاني هذه النصوص إجمالا أحيانا، وتفصيلا أحيانا، فمن الإجمال قولهم: " أمروها كما جاءت بلا كيف " ومن التفصيل ما سبق عن مالك في الاستواء.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه " درء تعارض العقل والنقل " المعروف باسم " العقل والنقل" 1\16 المطبوع على هامش منهاج السنة 1\201 تحقيق رشاد سالم " وأما التفويض فمن المعلوم أن الله أمرنا بتدبر القرآن، وحضنا على عقله وفهمه، فكيف يجوز مع ذلك أن يراد منا الإعراض عن فهمه ومعرفته وعقله". إلى أن قال: " فعلى قول هؤلاء يكون الأنبياء والمرسلون لا يعلمون معاني ما أنزل الله عليهم من هذه النصوص، ولا الملائكة، ولا السابقون الأولون، وحينئذ فيكون ما وصف الله به نفسه في القرآن، أو كثير مما وصف الله به نفسه لا يعلم الأنبياء معناه، بل يقولون كلاما لا يعقلون معناه". قال: " ومعلوم أن هذا قدح في القرآن، والأنبياء إذ كان الله أنزل القرآن وأخبر أنه جعله هدى وبيانا للناس، وأمر الرسول أن يبلغ البلاغ المبين، وأن يبين للناس ما نزل إليهم، وأمر بتدبر القرآن وعقله، ومع هذا فأشرف ما فيه وهو ما أخبر به الرب عن صفاته، أو عن كونه خالقا لكل شيء وهو بكل شيء عليم، أو عن كونه أمر، ونهى،
(4/178)
ووعد وتوعد، أو عما أخبر به عن اليوم الآخر لا يعلم أحد معناه فلا يعقل، ولا يتدبر، ولا يكون الرسول بين للناس ما نزل إليهم، ولا بلغ البلاغ المبين، وعلى هذا التقدير فيقول كل ملحد ومبتدع: الحق في نفس الأمر ما علمته برأيي وعقلي، وليس في النصوص ما يناقض ذلك، لأن تلك النصوص مشكلة متشابهة، ولا يعلم أحد معناها وما لا يعلم أحد معناه لا يجوز أن يستدل به، فيبقى هذا الكلام سدا لباب الهدى والبيان من جهة الأنبياء، وفتحا لباب من يعارضهم ويقول: إن الهدى والبيان في طريقنا لا في طريق الأنبياء، لأنا نحن نعلم ما نقول ونبينه بالأدلة العقلية، والأنبياء لم يعلموا ما يقولون، فضلا عن أن يبينوا مرادهم، فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف من شر أقوال أهل البدع والإلحاد". اهـ كلامه رحمه الله.
(4/179)
فصل
في التأويل
التأويل لغة: ترجيع الشيء إلى الغاية المرادة منه، من الأوْل وهو الرجوع.
وفي الاصطلاح: رد الكلام إلى الغاية المرادة منه، بشرح معناه، أو حصول مقتضاه ويطلق على ثلاثة معان:
الأول: " التفسير " وهو توضيح الكلام بذكر معناه المراد به ومنه قوله تعالى عن صاحبي السجن يخاطبان يوسف: {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ} . وقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابن عباس رضي الله عنهما: " «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل» . وسبق قول ابن عباس رضي الله عنهما:" أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله". ومنه قول ابن جرير وغيره من المفسرين: " تأويل قوله تعالى" أي تفسيره.
والتأويل بهذا المعنى معلوم لأهل العلم.
المعنى الثاني: مآل الكلام إلى حقيقته، فإن كان خبرا فتأويله نفس حقيقة المخبر عنه وذلك في حق الله كنه ذاته وصفاته التي لا يعلمها غيره وإن كان طلبا فتأويله امتثال المطلوب.
مثال الخبر: قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ} أي ما ينتظر هؤلاء المكذبون إلا وقوع حقيقة ما أخبروا به من البعث والجزاء، ومنه
(4/180)
قوله تعالى عن يوسف: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} .
ومثال الطلب: قول عائشة رضي الله عنها: «كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي يتأول القرآن أي يمتثل ما أمره الله به في قوله: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} » .
وتقول: فلان لا يتعامل بالربا يتأول قول الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} .
والتأويل بهذا المعنى مجهول حتى يقع فيدرك واقعا.
فأما قوله تعالى: {وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا} . فيحتمل أن يكون المراد بالتأويل فيها التفسير، ويحتمل أن يكون المراد به مآل الكلام إلى حقيقته بناء على الوقف فيها والوصل. فعلى قراءة الوقف عند قوله: {إِلَّا اللَّهُ} . يتعين أن يكون المراد به مآل الكلام إلى حقيقته، لأن حقائق ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر لا يعلمها إلا الله عز وجل، وعلى قراءة الوصل يتعين أن يكون المراد به التفسير، لأن تفسيره معلوم للراسخين في العلم فلا يختص علمه بالله تعالى.
فنحن نعلم معنى الاستواء أنه العلو والاستقرار، وهذا هو التأويل المعلوم لنا، لكننا نجهل كيفيته وحقيقته التي هو عليها وهذا هو التأويل
(4/181)
المجهول لنا، وكذلك نعلم معاني ما أخبرنا الله به من أسمائه وصفاته، ونميز الفرق بين هذه المعاني فنعلم معنى الحياة، والعلم، والقدرة، والسمع، والبصر ونحو ذلك ونعلم أن الحياة ليست هي العلم، وأن العلم ليس هو القدرة وأن القدرة ليست هي السمع، وأن السمع ليس هو البصر، وهكذا بقية الصفات والأسماء، لكننا نجهل حقائق هذه المعاني وكنهها الذي هي عليه بالنسبة إلى الله عز وجل.
وهذان المعنيان للتأويل هما المعنيان المعروفان في الكتاب، والسنة وكلام السلف.
المعنى الثالث للتأويل: صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقتضيه. وإن شئت فقل: صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى يخالف الظاهر لدليل يقتضيه. وهذا اصطلاح كثير من المتأخرين الذين تكلموا في الفقه وأصوله وهو الذي عناه أكثر من تكلم من المتأخرين في تأويل نصوص الصفات وهل هو محمود، أو مذموم، وهل هو حق، أو باطل؟
والتحقيق: أنه إن دل عليه دليل صحيح فهو حق محمود يعمل به ويكون من المعنى الأول للتأويل وهو التفسير، لأن تفسير الكلام تأويله إلى ما أراده المتكلم به سواء كان على ظاهره أم على خلاف ظاهره ما دمنا نعلم أنه مراد المتكلم.
مثال ذلك قوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} . فإن الله تعالى يخوف عباده بإتيان أمره المستقبل، وليس يخبرهم بأمر أتى وانقضى بدليل قوله: {فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} . ومنه قوله تعالى:
(4/182)
{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} . فإن ظاهر اللفظ إذا فرغت من القراءة والمراد إذا أردت أن تقرأ، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يستعيذ إذا أراد أن يقرأ لا إذا فرغ من القراءة.
وإن لم يدل عليه دليل صحيح كان باطلا مذموما، وجديرا بأن يسمى تحريفا لا تأويلا.
مثال ذلك قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} . فإن ظاهره أن الله تعالى علا على العرش علوا خاصا يليق بالله عز وجل وهذا هو المراد فتأويله إلى أن معناه استولى وملك، تأويل باطل مذموم، وتحريف للكلم عن مواضعه لأنه ليس عليه دليل صحيح.
(4/183)
فصل
اعلم أن الله تعالى وصف القرآن بأنه محكم، وبأنه متشابه، وبأن بعضه محكم وبعضه متشابه.
فالأول كقوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} .
والثاني كقوله: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} .
والثالث كقوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} .
فالإحكام الذي وصف به جميع القرآن هو: الإتقان والجودة في اللفظ والمعنى، فألفاظ القرآن كله في أكمل البيان، والفصاحة، والبلاغة، ومعانيه أكمل المعاني، وأجلها، وأنفعها للخلق حيث تتضمن كمال الصدق في الأخبار وكمال الرشد والعدل في الأحكام كما قال الله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} .
والتشابه الذي وصف به جميع القرآن هو تشابه القرآن في الكمال والإتقان، والائتلاف، فلا يناقض بعضه بعضا في الأحكام، ولا يكذب بعضه بعضا في الأخبار كما قال الله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} .
والإحكام الذي وصف به بعض القرآن هو: الوضوح، والظهور
(4/184)
بحيث يكون معناه واضحا بينا لا يشتبه على أحد وهذا كثير في الأخبار والأحكام.
مثاله في الأخبار قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} فكل أحد يعرف شهر رمضان وكل أحد يعرف القرآن.
ومثاله في الأحكام قوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} . فكل أحد يعرف والديه وكل أحد يعرف الإحسان.
وأما التشابه الذي وصف به بعض القرآن فهو: الاشتباه أي خفاء المعنى بحيث يشتبه على بعض الناس دون غيرهم، فيعلمه الراسخون في العلم دون غيرهم.
(4/185)
موقفنا من اختلاف هذه الأوصاف وكيفية الجمع بينها
موقفنا من اختلاف هذه الأوصاف وكيف نجمع بينها أن نقول:
إن وصف القرآن جميعه بالإحكام، ووصفه جميعه بالتشابه لا يتعارضان والجمع بينهما: أن الكلام المحكم المتقن يشبه بعضه بعضا في الكمال، والصدق فلا يتناقض في أحكامه، ولا يتكاذب في أخباره.
وأما وصف القرآن بأن بعضه محكم وبعضه متشابه فلا تعارض بينهما أصلا، لأن كل وصف وارد على محل لم يرد عليه الآخر، فبعض القرآن محكم ظاهر المعنى، وبعضه متشابه خفي المعنى، وقد انقسم الناس في ذلك إلى قسمين:
فالراسخون في العلم يقولون: آمنا به كل من عند ربنا، وإذا كان من عنده فلن يكون فيه اشتباه يستلزم ضلالا، أو تناقضا، ويردون المتشابه إلى المحكم فصار مآل المتشابه إلى الإحكام.
وأما أهل الضلال والزيغ فاتبعوا المتشابه وجعلوه مثارا للشك والتشكيك فضلوا، وأضلوا وتوهموا بهذا المتشابه ما لا يليق بالله عز وجل ولا بكتابه ولا برسوله.
مثال الأول (1) : قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى} . وقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . ونحوهما مما أضاف الله فيه
__________
(1) توهم ما لا يليق بالله عز وجل.
(4/186)
الشيء إلى نفسه بصفة الجمع، فاتبع النصراني هذا المتشابه وادعى تعدد الآلهة وقال: إن الله ثالث ثلاثة، وترك المحكم الدال على أن الله واحد.
وأما الراسخون في العلم: فيحملون الجمع على التعظيم لتعدد صفات الله وعظمها، ويردون هذا المتشابه إلى المحكم في قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} . ويقولون للنصراني: إن الدعوى التي ادعيت -بما وقع لك من الاشتباه- قد كفرك الله بها وكذبك فيها فاستمع إلى قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} أي كفروا بقولهم: إن الله ثالث ثلاثة.
ومثال الثاني (1) : قوله تعالى لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} . وقوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . ففي الآيتين موهم تعارض فيتبعه من في قلبه زيغ ويظن بينهما تناقضا وهو النفي في الأولى، والإثبات في الثانية. فيقول: في القرآن تناقض.
وأما الراسخون في العلم فيقولون: لا تناقض في الآيتين فالمراد بالهداية في الآية الأولى هداية التوفيق، وهذه لا يملكها إلا الله وحده فلا يملكها الرسول ولا غيره. والمراد بها في الآية الثانية هداية الدلالة وهذه تكون من الله تعالى، ومن غيره فتكون من الرسل وورثتهم من العلماء الربانيين.
ومثال الثالث (2) : قوله تعالى لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
__________
(1) توهم ما لا يليق برسول الله صلى الله عليه وسلم.
(2) توهم ما لا يليق بالقرآن..
(4/187)
{فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} . ففي الآية ما يوهم وقوع الشك من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مما أنزل إليه فيتبعه من في قلبه زيغ فيدعي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقع منه ذلك فيطعن في رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأما الراسخون في العلم فيقولون: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقع منه شك ولا امتراء فيما أنزل إليه، كيف وقد شهد الله له بالإيمان في قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} . وقوله: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} .
ويقولون: إن مثل هذا التعبير- {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ} - لا يلزم منه وقوع الشرط بل ولا إمكانه كقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} (1) . فإن وجود الولد لله عز وجل ممتنع غاية الامتناع كما قال تعالى: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} . فكذلك الشك والامتراء من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما أنزل إليه ممتنع غاية الامتناع ولكن جاءت العبارة بهذه الصيغة الشرطية لتأكيد امتناع الشك والامتراء من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما أنزل إليه من الله عز وجل.
__________
(1) في معنى هذه الآية أقوال. أظهرها أنه إن كان للرحمن ولد ـ على سبيل الفرض الممتنع ـ فإن ذلك لن يحملني على عبادة ذلك الولد بل سأكون أول العابدين لله ولن أعبد الولد وذلك لأن المعبود لم يذكر فيها فنصرف المعني إلى من لا تصح العبادة إلا له وهو الله تعالى.
(4/188)
فإن قلت: ما الحكمة من كون بعض القرآن متشابها؟
فالجواب: أن الحكمة من ذلك ابتلاء العباد واختبارهم ليتبين الصادق في إيمانه الراسخ في عمله الذي يؤمن بالله وكلماته، ويعلم أن كلام الله عز وجل ليس فيه تناقض، ولا اختلاف، فيرد ما تشابه منه إلى ما كان محكما، ليصير كله محكما من الشاك الجاهل الزائغ الذي يتبع ما تشابه منه، ليضرب كتاب الله تعالى بعضه ببعض، فيضل ويضل، ويكون إماما في الضلال والشقاء فيفتن الناس في دينهم، ويوقعهم في الشك والحيرة، ويفتن بعضهم ببعض: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} .
(4/189)
تتمة
التشابه الواقع في القرآن نوعان: حقيقي ونسبي:
فالحقيقي: ما لا يعلمه إلا الله عز وجل مثل: حقيقة ما أخبر الله به عن نفسه، وعن اليوم الآخر فإنا- "وإن كنا نعلم معاني تلك الأخبار" - لا نعلم حقائقها وكنهها كما قال الله تعالى عن نفسه: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} . وقال: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} . وقال عما في اليوم الآخر: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . وفي الحديث القدسي الثابت في الصحيحين عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الله قال: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» .
فما أخبر الله به عن نفسه، وعن اليوم الآخر فيه ألفاظ متشابهة تشبه معانيها ما نعلمه في الدنيا، كما أخبر عن نفسه أنه حي، عليم، قدير، سميع، بصير، ونحو ذلك، ونحن نعلم أن ما دلت عليه هذه الأسماء من الصفات ليس مماثلا في الحقيقة لما للمخلوق منها، فحقيقتها لا يعلم معناها إلا الله. كما نعلم أن في الجنة لحما، ولبنا، وعسلا، وماء، وخمرا، ونحو ذلك، ولكن ليس حقيقة ذلك من جنس ما في الدنيا، وحينئذ لا يعلم حقيقتها إلا الله تعالى.
والإخبار عن الغائب لا يفهم إن لم يعبر عنه بالأسماء المعلومة معانيها في الشاهد، ويعلم بها ما في الغائب بواسطة العلم بما في الشاهد، مع
(4/190)
العلم بالفارق المميز، وأن ما أخبر الله به من الغيب أعظم مما يعلم في الشاهد.
وهذا النوع الذي لا يعلمه إلا الله لا يسأل عنه لتعذر الوصول إليه.
وأما النسبي: فهو ما يكون مشتبها على بعض الناس دون بعض، فيعلم منه الراسخون في العلم والإيمان ما يخفى على غيرهم، إما لنقص في علمهم أو تقصير في طلبهم، أو قصور في فهمهم، أو سوء في قصدهم.
وهذا النوع يسأل عن بيانه، لأنه يمكن الوصول إليه إذ ليس في القرآن شيء لا يتبين معناه لأحد من الناس كيف وقد قال الله عز وجل: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} . وقال: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} . وقال: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} . وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} . وقال: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} .
ولهذا النوع أمثلة كثيرة في المسائل العلمية الخبرية، والمسائل العملية الحكمية، وغالب المسائل التي اختلف الناس فيها أو كلها من هذا النوع.
فمن أمثلة ذلك في المسائل العلمية الخبرية: قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . حيث اشتبه على النفاة أهل التعطيل ففهموا منه انتفاء الصفات عن الله تعالى، ظنا منهم أن إثباتها يستلزم مماثلة الله تعالى
(4/191)
للمخلوقين فنفوا عن الله تعالى ما وصف به نفسه أو بعضه، وأعرضوا عن الأدلة السمعية والعقلية الدالة على ثبوت صفات الكمال لله عز وجل، وغفلوا عن كون الاشتراك في أصل المعنى لا يستلزم المماثلة في الحقيقة.
ثم لو أمعنوا في النظر في هذا المنفي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} لتبين لهم أنه يدل على ثبوت الصفات لا على انتفائها؛ لأن نفي المماثلة يدل على ثبوت أصل المعنى لكن لكماله تعالى لا يماثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولولا ثبوت أصل الصفة لم يكن لنفي المثل فائدة.
ومن أمثلة ذلك في المسائل العملية الحكمية قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صلوا كما رأيتموني أصلي» . حيث اشتبه على بعض الناس ففهموا منه أنه شامل للكمية والكيفية وبنوا على ذلك أنه لا تجوز الزيادة في صلاة الليل على العدد الذي كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقوم به، فلا يزاد في التراويح في رمضان على إحدى عشرة، أو ثلاث عشرة ركعة، ولكن من تأمل الحديث وجده دالا على الكيفية فقط، دون الكمية إلا أن تكون الكمية في ضمن الكيفية كعدد الصلاة الواحدة ويدل لذلك ما ثبت في صحيح البخاري وغيره من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما «أن رجلا سأل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو على المنبر: ما ترى في صلاة الليل؟ قال: " مثنى مثنى فإذا خشي الصبح صلى واحدة فأوترت له ما صلى» . وفي رواية أن السائل قال: كيف صلاة الليل؟ ولو كان عدد قيام الليل محصورا لبينه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهذا السائل ولهذا كان الراجح أن يقتصر في قيام الليل على إحدى عشرة أو ثلاث عشرة، وإن زاد على ذلك فلا بأس.
وأمثلة ذلك كثيرة، تعلم من كتب الفقه المعنية بذكر الخلاف والترجيح بين الأقوال، والله المستعان.
(4/192)
القاعدة السادسة
في ضابط ما يجوز لله ويمتنع عنه نفيا وإثباتا
صفات الله تعالى دائرة بين النفي والإثبات -كما سبق- فلا بد من ضابط لهذا وذاك.
فالضابط في النفي أن يُنفى عن الله تعالى:
أولا: كل صفة عيب، كالعمى والصمم والخرس والنوم والموت ونحو ذلك.
ثانيا: كل نقص في كماله كنقص حياته أو علمه أو قدرته أو عزته أو حكمته أو نحو ذلك.
ثالثا: مماثلته للمخلوقين كأن يُجعل علمه كعلم المخلوق أو وجهه كوجه المخلوق أو استواؤه على عرشه كاستواء المخلوق ونحو ذلك.
فمن أدلة انتفاء الأول عنه: قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} فإن ثبوت المثل الأعلى له وهو الوصف الأعلى يستلزم انتفاء كل صفة عيب.
ومن أدلة انتفاء الثاني: قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} .
ومن أدلة انتفاء الثالث: قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} .
وبهذا علم أنه لا يصح الاعتماد في ضابط النفي على مجرد نفي التشبيه وذلك لوجهين:
الأول: أنه إن أريد بالنفي نفي التشابه المطلق - أي نفي التساوي من كل وجه بين الخالق والمخلوق - فإن هذا لغو من القول؛ إذ لم يقل أحد بتساوي الخالق والمخلوق من كل وجه بحيث يثبت لأحدهما من الجائز
(4/193)
والممتنع، والواجب ما يثبت للآخر، ولا يمكن أن يقوله عاقل يتصور ما يقول فإنه مما يعلم بضرورة العقل، وبداهة الحس انتفاؤه وإذا كان كذلك لم يكن لنفيه فائدة.
وإن أريد بالنفي نفي مطلق التشابه - أي نفي التشابه من بعض الوجوه - فهذا النفي لا يصح إذ ما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك يشتركان فيه، وقدر مختص يتميز به كل واحد عن الآخر فيتشابهان من وجه ويفترقان من وجه.
فالحياة " مثلا " وصف مشترك بين الخالق والمخلوق، قال الله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} . وقال: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} . لكن حياة الخالق تختص به فهي حياة كاملة من جميع الوجوه لم تسبق بعدم ولا يلحقها فناء، بخلاف حياة المخلوق فإنها حياة ناقصة مسبوقة بعدم متلوة بفناء، قال الله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} .
فالقدر المشترك "وهو مطلق الحياة" كلي لا يختص بأحدهما دون الآخر، لكن ما يختص به كل واحد ويتميز به لم يقع فيه اشتراك وحينئذ لا محذور من الاشتراك في هذا المعنى الكلي، وإنما المحذور أن يجعل أحدهما مشاركا للآخر فيما يختص به.
ثم إن إرادة ذلك -أعني نفي مطلق التشابه- تستلزم التعطيل المحض، لأنه إذا نفى عن الله تعالى صفة الوجود " مثلا " بحجة أن للمخلوق صفة وجود فإثباتها للخالق يستلزم التشبيه على هذا التقدير؛ لزم على نفيه أن يكون الخالق معدوما، ثم يلزمه على هذا اللازم الفاسد أن
(4/194)
يقع في تشبيه آخر وهو تشبيه الخالق بالمعدوم لاشتراكهما في صفة العدم فيلزمه على قاعدته - تشبيهه بالمعدوم - فإن نفى عنه الوجود والعدم، وقع في تشبيه ثالث أشد وهو تشبيهه بالممتنعات لأن الوجود والعدم نقيضان يمتنع انتفاؤهما كما يمتنع اجتماعهما.
فإن قال قائل: إن الشيء إذا شارك غيره من وجه جاز عليه من ذلك الوجه ما يجوز على الآخر، وامتنع عليه ما يمتنع، ووجب له ما يجب؟.
فالجواب من وجهين:
أحدهما: المنع، فيقال لا يلزم من اشتراك الخالق والمخلوق في أصل الصفة أن يتماثلا فيما يجوز ويمتنع ويجب؛ لأن مطلق المشاركة لا يستلزم المماثلة.
الثاني: التسليم، فيقال هب أن الأمر كذلك، ولكن إذا كان ذلك القدر المشترك لا يستلزم إثبات ما يمتنع على الرب سبحانه، ولا نفي ما يستحقه لم يكن ممتنعا، فإذا اشتركا في صفة الوجود، والحياة، والعلم، والقدرة، واختص كل موصوف بما يستحقه ويليق به، كان اشتراكهما في ذلك أمرا ممكنا لا محذور فيه أصلا، بل إثبات هذا من لوازم الوجود، فإن كل موجودين لا بد بينهما من مثل هذا، ومن نفاه لزمه تعطيل وجود كل موجود، لأن نفي القدر المشترك يلزم منه التعطيل العام.
وهذا الموضع من فهمه فهما جيدا وتدبره زالت عنه عامة الشبهات وانكشف له غلط كثير من الأذكياء في هذا المقام.
(4/195)
فصل
الوجه الثاني: مما يدل على أنه لا يصح الاعتماد في ضابط النفي على مجرد نفي التشبيه: أن الناس اختلفوا في تفسير التشبيه، فقد يفسره بعضهم بما لا يراه الآخرون تشبيها.
مثال ذلك مع المعتزلة ومن سلك طريقهم من النفاة: أنهم جعلوا من أثبت لله تعالى علما قديما، أو قدرة قديمة مشبها ممثلا؛ لأن القدم أخص وصف الإله عند جمهورهم، فمن أثبت له علما قديما، أو قدرة قديمة فقد أثبت له مثيلا. والمثبتون يجيبونهم بالمنع تارة، وبالتسليم تارة.
أما المنع فيقولون: ليس القدم أخص وصف الإله، وإنما أخص وصف الإله ما لا يتصف به غيره، مثل: كونه رب العالمين، وأنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه الإله ونحو ذلك. والصفات وإن وصفت بالقدم كما توصف به الذات لا يقتضي ذلك أن تكون إلها أو ربا أو نحو ذلك، كما أن النبي - مثلا - يوصف بالحدوث، وتوصف صفاته بالحدوث، ولا يقتضي ذلك أن تكون صفاته نبيا.
وعلى هذا فلا يكون إثبات الصفات القديمة لله تعالى تمثيلا، ولا تشبيها.
وأما التسليم فيقولون: نحن وإن سلمنا أن هذا المعنى قد يسمى في اصطلاح بعض الناس تشبيها أو تمثيلا فإنه لم ينفه عقل ولا سمع، وحينئذ فلا مانع من إثباته.
فالقرآن إنما نفى مسمى المثل، والكفء، والند، ونحو ذلك والصفة
(4/196)
في لغة العرب التي نزل بها القرآن ليست مثل الموصوف، ولا كفؤا له، ولا ندا فلا تدخل فيما نفاه القرآن.
فالواجب نفي ما نفته الأدلة الشرعية، والعقلية فقط.
مثال آخر: مع الأشاعرة ونحوهم ممن ينفي علوه على عرشه ونحوه دون صفة الحياة، والعلم، والقدرة ونحوها فيقول: إن هذه الصفات قد تقوم بما ليس بجسم بخلاف العلو فإنه لا يقوم إلا بجسم فلو أثبتناه لزم أن يكون جسما، والأجسام متماثلة فيلزم التشبيه.
والمثبتون يجيبونهم تارة بمنع المقدمة الأولى وهي قولهم: " إن العلو لا يقوم إلا بجسم " وتارة بمنع المقدمة الثانية وهي قولهم: " إن الأجسام متماثلة " وتارة بمنع المقدمتين، وتارة بالاستفصال. فيقولون: إن أردتم بالجسم جسما مؤلفا من لحم وعظم وأجزاء يفتقر بعضها إلى بعض، أو يحتاج إلى مقومات خارجية، فهذا ممتنع بالنسبة إلى الله الغني الحميد، وليس بلازم من إثبات الصفات. وإن أردتم بالجسم ما كان قائما بنفسه موصوفا بالصفات اللائقة به، فهذا حق ثابت لله عز وجل ولا يلزم عليه شيء من اللوازم الباطلة.
وإذا تبين اختلاف الناس في تفسير التشبيه صار الاعتماد على مجرد نفيه باطلا؛ لأنه يلزم منه نفي صفات الكمال عن الله تعالى عند من يرى أن إثباتها يستلزم التشبيه.
وعلى هذا فالضابط الصحيح فيما ينفى عن الله تعالى ما سبق في أول القاعدة.
(4/197)
فصل
فإذا تبين أنه لا يصح الاعتماد في ضابط النفي على مجرد نفي التشبيه وأنه طريق فاسد، فإن أفسد منه ما يسلكه بعض الناس حيث يعتمدون فيما ينفى عن الله تعالى على نفي التجسيم والتحيز ونحو ذلك، فتجدهم إذا أرادوا أن يحتجوا على من وصف الله تعالى بالنقائص من الحزن، والبكاء، والمرض، والولادة ونحوها يقولون له: لو اتصف الله بذلك لكان جسما، أو متحيزا، وهذا ممتنع هذه حجتهم عليه.
وهذه طريقة فاسدة لا يحصل بها المقصود لوجوه:
الأول: أن لفظ " الجسم " و" الجوهر " و" التحيز " ونحوها عبارات مجملة مشتبهة لا تحق حقا، ولا تبطل باطلا، ولذلك لم تذكر فيما وصف الله وسمى به نفسه لا نفيا ولا إثباتا، لا في كتاب الله تعالى، ولا في سنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يسلكه أحد من سلف الأمة وأئمتها، وإنما هي عبارات مبتدعة أنكرها السلف والأئمة.
الثاني: أن وصف الله تعالى بهذه النقائص أظهر فسادا في العقل والدين من وصفه بالتحيز والتجسيم، فإن كفر من وصفه بهذه النقائص معلوم بالضرورة من الدين، بخلاف التحيز والتجسيم لما فيهما من الاشتباه والخفاء.
وإذا كان وصف الله تعالى بهذه النقائص أظهر فسادا من وصفه بالحيز والجسم، فإنه لا يصح الاستدلال بالأخفى على الأظهر؛ لأن الدليل مبين للمدلول ومثبت له، فلا بد أن يكون أبين وأظهر منه.
الثالث: أن من وصفوه بهذه النقائص يمكنهم أن يقولوا نحن نصفه
(4/198)
بذلك ولا نقول بالتجسيم والتحيز كما يقوله من يثبت لله صفات الكمال مع نفي القول بالتجسيم والتحيز فيكون كلام من يصف الله بصفات الكمال ومن يصفه بصفات النقص واحدا، ويبقى الرد عليهما بطريق واحد وهو أن الإثبات مستلزم للتجسيم والتحيز وهذا في غاية الفساد والبطلان.
الرابع: أن الذين اعتمدوا في ضابط ما ينفى عن الله على نفي التجسيم والتحيز نفوا عن الله تعالى صفات الكمال بهذه الطريقة. واتصاف الله تعالى بصفات الكمال واجب ثابت بالسمع، والعقل فيكون كل ما اقتضى نفيه باطلا بالسمع والعقل، وبه يتبين فساد تلك الطريقة وبطلانها.
الخامس: أن سالكي هذه الطريقة متناقضون فكل من أثبت شيئا ونفى غيره ألزمه الآخر بما يوافقه فيه من الإثبات، وكل من نفى شيئا وأثبت غيره ألزمه الآخر بما يوافقه فيه من النفي.
مثال ذلك: أن من أثبتوا لله تعالى الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام دون غيرها من الصفات قال لهم نفاة ذلك كالمعتزلة: إثبات هذه تجسيم لأن هذه الصفات أعراض، والعرض لا يقوم إلا بجسم.
فيرد عليهم أولئك بأنكم أنتم أثبتم أنه حي، عليم، قدير، وقلتم ليس بجسم مع أنكم لا تعرفون حيا، عالما قادرا إلا جسما فأثبتموه على خلاف ما عرفتم فكذلك نحن نثبت هذه الصفات ولا نقول: إنه جسم فهذا تناقض المعتزلة، أما تناقض خصومهم الذين أثبتوا الصفات السبع السابقة دون غيرها فقد قالوا لمن أثبت صفة الرضا، والغضب، ونحوها: إثبات الرضا والغضب، والاستواء، والنزول، والوجه، واليدين ونحوها تجسيم لأننا لا نعرف ما يوصف بذلك إلا ما هو جسم.
(4/199)
فيرد عليهم المثبتة بأنكم أنتم وصفتموه بالحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام، ولا يعرف ما يوصف بذلك إلا ما هو جسم، فإن لزمنا التجسيم فيما أثبتناه لزمكم فيما أثبتموه، وإن لم يلزمكم فيما أثبتموه لم يلزمنا فيما أثبتناه وإن ألزمتمونا به، لأنه لا فرق بين الأمرين وتفريقكم بينهما تناقض منكم.
(4/200)
فصل
وأما الضابط في باب الإثبات فأن نثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه من صفات الكمال على وجه لا نقص فيه بأي حال من الأحوال لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . والمثل الأعلى هو الوصف الأكمل الذي لا يماثله شيء.
فصفات الله تعالى كلها صفات كمال، سواء كانت صفات ثبوت أم صفات نفي، وقد سبق أن النفي المحض لا يوجد في صفات الله تعالى، وأن المقصود بصفات النفي نفي تلك الصفة لاتصافه بكمال ضدها.
ولهذا لا يصح في ضابط الإثبات أن نعتمد على مجرد الإثبات بلا تشبيه لأنه لو صح ذلك لجاز أن يثبت المفتري لله سبحانه كل صفة نقص مع نفي التشبيه، فيصفه بالحزن، والبكاء، والجوع، والعطش ونحوها مما ينزه الله عنه مع نفي التشبيه، فيقول: إن الله يحزن لا كحزن العباد، ويبكي لا كبكائهم، ويجوع لا كجوعهم، ويعطش لا كعطشهم، ويأكل لا كأكلهم، كما أنه يفرح لا كفرحهم، ويضحك لا كضحكهم، ويتكلم لا ككلامهم.
ولجاز أيضا أن يثبت المفتري لله سبحانه أعضاء كثيرة مع نفي التشبيه فيقول: إن لله تعالى كبدا لا كأكباد العباد، وأمعاء لا كأمعائهم، ونحو ذلك مما ينزه الله تعالى عنه، كما أن له وجها لا كوجوههم، ويدين لا كأيديهم.
ثم يقول المفتري لمن نفى ذلك وأثبت الفرح، والضحك، والكلام،
(4/201)
والوجه، واليدين أي فرق بين ما نفيت وما أثبت، إذا جعلت مجرد نفي التشبيه كافيا في الإثبات فأنا لم أخرج عن هذا الضابط فإني أثبت ذلك بدون تشبيه.
فإن قال النافي: الفرق هو السمع (أي الدليل من الكتاب والسنة) فما جاء به الدليل أثبته، وما لم يجئ به لم أثبته.
قال المفتري: السمع خبر والخبر دليل على المخبر عنه، والدليل لا ينعكس فلا يلزم من عدمه عدم المدلول عليه لأنه قد يثبت بدليل آخر، فما لم يرد به السمع يجوز أن يكون ثابتا في نفس الأمر وإن لم يرد به السمع، ومن المعلوم أن السمع لم يرد بنفي كل هذه الأمور بأسمائها الخاصة فلم يرد بنفي الحزن، والبكاء، والجوع، والعطش، ونفي الكبد، والمعدة، والأمعاء وإذا لم يرد بنفيها جاز أن تكون ثابتة في نفس الأمر فلا يجوز نفيها بلا دليل، وبهذا ينقطع النافي لهذه الصفات، حيث اعتمد فيما ينفيه على مجرد نفي التشبيه ويعلم أنه لا يصح الاعتماد عليها، وإنما الاعتماد على ما دل عليه السمع والعقل من وصف الله تعالى بصفات الكمال على وجه لا نقص فيه، وعلى هذا فكل ما ينافي صفات الكمال الثابتة لله فالله منزه عنه؛ لأن ثبوت أحد الضدين نفي للآخر ولما يستلزمه.
وبهذا يمكن دفع ما أثبته هذا المفتري لله تعالى من صفات النقص فيقال: الحزن، والبكاء، والجوع، والعطش صفات نقص منافية لكماله فتكون منتفية عن الله ويقال أيضا: الأكل، والشرب مستلزم للحاجة والحاجة نقص وما استلزم النقص فهو نقص. ويقال أيضا: الكبد، والمعدة، والأمعاء آلات الأكل والشرب والمنزه عن الأكل والشرب منزه عن آلات ذلك.
وأما الفرح، والضحك، والغضب، ونحوها فهي صفات كمال لا
(4/202)
نقص فيها فلا تنتفي عنه لكنها لا تماثل ما يتصف به المخلوق منها، فإنه سبحانه لا كفؤ له، ولا سمي، ولا مثل فلا يجوز أن تكون حقيقة ذاته كحقيقة شيء من ذوات المخلوقين، ولا حقيقة شيء من صفاته كحقيقة شيء من صفات المخلوقين لأنه ليس من جنس المخلوقات، لا الملائكة، ولا الآدميين، ولا السماوات، ولا الكواكب، ولا الهواء، ولا الأرض ولا غير ذلك.
بل يعلم أن حقيقته عن مماثلة شيء من الموجودات أبعد من سائر الحقائق، لأن الحقيقتين إذا تماثلتا جاز على الواحدة ما يجوز على الأخرى ووجب لها ما يجب للأخرى، وامتنع عليها ما يمتنع على الأخرى، فيلزم أن يجوز على الخالق الواجب بنفسه ما يجوز على المخلوق المحدث، وأن يثبت لهذا المخلوق ما يثبت للخالق فيكون الشيء الواحد واجبا بنفسه غير واجب بنفسه، موجودا معدوما، وهذا جمع بين النقيضين.
(4/203)
فصل
الأصل الثاني
في القدر والشرع (1)
القدر تقدير الله تعالى لما كان وما يكون أزلا وأبدا.
والإيمان بالقدر أحد أركان الإيمان الستة التي بينها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجبريل حين سأله عن الإيمان فقال: «أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره» .
والإيمان بالقدر والشرع من تمام الإيمان بربوبية الله تعالى.
وللإيمان بالقدر مراتب أربع:
المرتبة الأولى: الإيمان بأن الله تعالى قد علم بعلمه الأزلي الأبدي ما كان وما يكون من صغير، وكبير، وظاهر، وباطن مما يكون من أفعاله، أو أفعال مخلوقاته.
المرتبة الثانية: الإيمان بأن الله تعالى كتب في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة، فما من شيء كان أو يكون إلا وهو مكتوب مقدر قبل أن يكون.
ودليل هاتين المرتبتين في كتاب الله تعالى، وفي سنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أما الكتاب: فمنه قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} . وقوله:
__________
(1) سبق الكلام على الأصل الأول " الصفات ".
(4/204)
{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} .
وأما السنة: فمنها قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة قال وعرشه على الماء» . أخرجه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
وروى البخاري في صحيحه من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، ثم خلق السماوات والأرض وكتب في الذكر كل شيء» .
وروى الإمام أحمد والترمذي من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: «سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "إن أول ما خلق الله القلم فقال: اكتب، قال رب وما أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة» . وهو حديث حسن.
المرتبة الثالثة: الإيمان بمشيئة الله تعالى، وأنها عامة في كل شيء، فما وجد موجود، ولا عدم معدوم من صغير، وكبير، وظاهر، وباطن في السماوات والأرض إلا بمشيئة الله عز وجل سواء كان ذلك من فعله تعالى، أم من فعل مخلوقاته.
المرتبة الرابعة: الإيمان بخلق الله تعالى وأنه خالق كل شيء من صغير وكبير، وظاهر وباطن، وأن خلقه شامل لأعيان هذه المخلوقات وصفاتها وما يصدر عنها من أقوال وأفعال وآثار.
ودليل هاتين المرتبتين قوله تعالى:
(4/205)
{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . وقوله: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} . وقوله: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} .
ولم يخلق شيئا إلا بمشيئته لأنه تعالى لا مكره له لكمال ملكه وتمام سلطانه. قال الله تعالى مبينا أن فعله بمشيئته: {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} . وقال: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} .
وقال مبينا أن فعل مخلوقاته بمشيئته: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} . وقال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} .
والقدر لا ينافي الأسباب القدرية أو الشرعية التي جعلها الله تعالى أسبابا، فإن الأسباب من قدر الله تعالى، وربط المسببات بأسبابها هو مقتضى الحكمة التي هي من أجل صفات الله عز وجل، والتي أثبتها الله لنفسه في مواضع كثيرة من كتابه.
فمن الأسباب القدرية قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} .
(4/206)
إلى قوله: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
ومن الأسباب الشرعية قوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . وكل فعل رتب الله عليه عقابا أو ثوابا فهو من الأسباب الشرعية باعتبار كونه مطلوبا من العبد، ومن الأسباب القدرية باعتبار وقوعه بقضاء الله وقدره.
والناس في الأسباب طرفان ووسط:
فالطرف الأول: نفاة أنكروا تأثير الأسباب وجعلوها مجرد علامات يحصل الشيء عندها لا بها، حتى قالوا: إن انكسار الزجاجة بالحجر إذا رميتها به حصل عند الإصابة لا بها. وهؤلاء خالفوا السمع، وكابروا الحس، وأنكروا حكمة الله تعالى في ربط المسببات بأسبابها.
والطرف الثاني: غلاة أثبتوا تأثير الأسباب، لكنهم غلوا في ذلك وجعلوها مؤثرة بذاتها، وهؤلاء وقعوا في الشرك، حيث أثبتوا موجدا مع الله تعالى، وخالفوا السمع، والحس. فقد دل الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة على أنه لا خالق إلا الله، كما أننا نعلم بالشاهد المحسوس أن الأسباب قد تتخلف عنها مسبباتها بإذن الله، كما في تخلف إحراق النار لإبراهيم الخليل حين ألقي فيها فقال الله تعالى: {يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} . فكانت بردا وسلاما عليه ولم يحترق بها.
وأما الوسط: فهم الذين هدوا إلى الحق وتوسطوا بين الفريقين وأخذوا بما مع كل واحد منهما من الحق، فأثبتوا للأسباب تأثيرا في مسبباتها
(4/207)
لكن لا بذاتها بل بما أودعه الله تعالى فيها من القوى الموجبة.
وهؤلاء هم الطائفة الوسط الذين وفقوا للصواب وجمعوا بين المنقول والمعقول، والمحسوس، وإذا كان القدر لا ينافي الأسباب الكونية والشرعية فهو لا ينافي أن يكون للعبد إرادة وقدرة يكون بهما فعله، فهو مريد قادر فاعل لقوله تعالى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} . وقوله: {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} . وقوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} . وقوله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} .
لكنه غير مستقل بإرادته وقدرته وفعله، كما لا تستقل الأسباب بالتأثير في مسبباتها لقوله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} . ولأن إرادته، وقدرته، وفعله من صفاته وهو مخلوق فتكون هذه الصفات مخلوقة أيضا، لأن الصفات تابعة للموصوف فخالق الأعيان خالق لأوصافها.
فإن قال قائل: أفلا يصح على هذا التقرير أن يحتج بالقدر من خالف الشرع؟ .
فالجواب: أن الاحتجاج بالقدر على مخالفة الشرع لا يصح كما دل على ذلك الكتاب، والسنة، والنظر.
أما الكتاب: فمن أدلته قوله تعالى:
(4/208)
{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} . فأبطل الله حجتهم هذه بقوله: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا} . ومنها قوله: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} . فبين الله تعالى أن الحجة قامت على الناس بإرسال الرسل ولا حجة لهم على الله بعد ذلك، ولو كان القدر حجة ما انتفت بإرسال الرسل.
وأما السنة: فمن أدلتها ما ثبت في الصحيحين عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " «ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة". قالوا: يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ قال: " اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فييسر لعمل أهل الشقاوة. ثم قرأ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} » .
وأما النظر فمن أدلته:
1- أن تارك الواجب، وفاعل المحرم يقدم على ذلك باختياره لا يشعر أن أحدا أكرهه عليه، ولا يعلم أن ذلك مقدر، لأن القدر سر مكتوم فلا يعلم أحد أن شيئا ما قدره الله تعالى إلا بعد وقوعه، فكيف يصح أن يحتج بحجة لا يعلمها قبل إقدامه على ما اعتذر بها عنه؟!.
ولماذا لم يقدر أن الله تعالى كتبه من أهل السعادة، فيعمل بعملهم،
(4/209)
دون أن يقدر أن الله كتبه من أهل الشقاوة، ويعمل بعملهم؟!.
2- أن إقحام النفس في مآثم ترك الواجب، وفعل المحرم ظلم لها وعدوان عليها كما قال الله تعالى عن المكذبين للرسل:
{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} . ولو أن أحدا ظلم المحتج بالقدر على مخالفته، ثم قال له: ظلمي إياك كان بقدر الله. لم يقبل منه هذه الحجة، فكيف لا يقبل هذه الحجة بظلم غيره له، ثم يحتج بها بظلمه هو لنفسه؟!.
3- أن هذا المحتج لو خير في السفر بين بلدين أحدهما: بلد آمن مطمئن فيه أنواع المآكل، والمشارب، والتنعم، والثاني: بلد خائف قلق، فيه أنواع البؤس، والشقاء، لاختار السفر إلى البلد الأول ولا يمكن أن يختار الثاني محتجا بالقدر، فلماذا يختار الأفضل في مقر الدنيا، ولا يختاره في مقر الآخرة؟!.
فإن قال قائل: ما الجواب عن قوله تعالى لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} . فأخبر أن شركهم واقع بمشيئة الله تعالى!.
قيل له: الجواب عنه: أن الله تعالى أخبر أن شركهم واقع بمشيئته تسلية لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا دفاعا عنهم، وإقامة للعذر لهم، بخلاف احتجاج المشركين على شركهم بمشيئة الله فإنما قصدوا به دفع اللوم عنهم وإقامة العذر على استمرارهم على الشرك، ولهذا أبطل الله احتجاجهم ولم يبطل أن شركهم واقع بمشيئته.
فإن قال قائل: ما الجواب عما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «احتج آدم وموسى، وفي لفظ»
(4/210)
وإننا مع الأسف نرى كثيرا من المسلمين اليوم لم يحققوا هذا الإخلاص لم يحققوا هذه الشهادة التي يقولونها بألسنتهم ويطلقون بها في كل مكان كلهم يقولون: أشهد أن لا إله إلا الله ولكن نجدهم يقومون بضد هذه الشهادة لأنهم يدعون غير الله إما من الملائكة، أو المرسلين أو الأولياء الصالحين أو من الأولياء المدعين.
إذا هل حققوا لا إله إلا الله؟ والله- عز وجل- يقول: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} . فدل هذا على أن الدعاء عبادة وكذلك جاء في الحديث المروي عن النبي- عليه الصلاة والسلام-: «الدعاء هو العبادة» (1) إذا كان كذلك فإننا نقول لهؤلاء القوم الذين يدعون مع الله غيره ليفرج لهم الكربات ويحصل لهم المطلوبات نقول لهم: يا قوم هؤلاء الذين تدعون من دون الله لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ولا شك أننا وإياكم نعتقد ونعلم علم اليقين أنه لا أحد أعظم جاها عند الله- عز وجل- من أنبيائه ورسله وأن محمدا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أفضلهم وخاتمهم وأنه خليل الرحمن كما أن إبراهيم خليل الرحمن لا نشك في هذا أبدا ومع ذلك أمره الله أن يقول: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد جـ 4، ص 271، وأبو داود: كتاب الصلاة: باب الدعاء، والترمذي: كتاب التفسير: سورة غافر (61) ، وابن ماجه: كتاب الدعاء: باب فضل الدعاء.
(4/211)
فانمحى به توجه اللوم على المخالفة، فلم يبق إلا محض القدر الذي احتج به لا ليستمر على ترك الواجب، أو فعل المحظور ولكن تفويضا إلى قدر الله تعالى الذي لا بد من وقوعه.
وقد أشار إلى هذا ابن القيم في -شفاء العليل- وقال: إنه لم يدفع بالقدر حقا ولا ذكره حجة له على باطل ولا محذور في الاحتجاج به، وأما الموضع الذي يضر الاحتجاج به ففي الحال والمستقبل بأن يرتكب فعلا محرما، أو يترك واجبا فيلومه عليه لائم فيحتج بالقدر على إقامته عليه وإصراره فيبطل بالاحتجاج به حقا ويرتكب باطلا، كما احتج به المصرون على شركهم وعبادتهم غير الله فقالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا} . {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} . فاحتجوا به مصوبين لما هم عليه وأنهم لم يندموا على فعله ولم يعزموا على تركه ولم يقروا بفساده فهذا ضد احتجاج من تبين له خطأ نفسه، وندم، وعزم كل العزم على أن لا يعود. . ونكتة المسألة أن اللوم إذا ارتفع صح الاحتجاج بالقدر، وإذا كان اللوم واقعا فالاحتجاج بالقدر باطل، ثم ذكر «حديث علي رضي الله عنه حين طرقه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفاطمة ليلا فقال: " ألا تصليان» ، الحديث. وأجاب عنه بأن احتجاج علي صحيح (ولذلك لم ينكر عليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) (1) . صاحبه يعذر فيه فالنائم غير مفرط واحتجاج غير المفرط بالقدر صحيح.
__________
(1) ما بين القوسين مني.
(4/212)
فصل
في ضرورة الإيمان بالقدر والشرع
لا بد للإنسان من الإيمان بالقدر لأنه أحد أركان الإيمان الستة، ولأنه من تمام توحيد الربوبية، ولأن به تحقيق التوكل على الله تعالى وتفويض الأمر إليه مع القيام بالأسباب الصحيحة النافعة، ولأن به اطمئنان الإنسان في حياته حيث يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، ولأن به ينتفي الإعجاب بالنفس عند حصول المراد، لأنه يعلم أن حصوله بقدر الله، وأن عمله الذي حصل به مراده ليس إلا مجرد سبب يسره الله له، ولأن به يزول القلق والضجر عند فوات المراد، أو حصول المكروه لأنه يعلم أن الأمر كله لله فيرضى ويسلم. وإلى هذين الأمرين يشير قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} .
ولا بد للإنسان أيضا من الإيمان بالشرع وهو ما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام من أمر الله ونهيه، وما يترتب عليهما من الجزاء ثوابا أو عقابا فيقوم بما يلزمه نحو الأمر والنهي، ويؤمن بما يترتب عليهما من الجزاء.
وذلك لأن الإنسان مريد فلا بد له من فعل يدرك به ما يريد، ويدفع به ما لا يريد، ولا بد له من ضابط يضبط تصرفه لئلا يقع فيما يضره، أو
(4/213)
يفوته ما ينفعه من حيث لا يشعر، والشرع الإلهي الذي جاءت به الرسل هو الذي يضبط ذلك، ويصدر الحكم به، ويكون به التمييز بين النافع والضار والصالح والفاسد، لأنه من عند الله العليم، الرحيم، الحكيم.
والعقول وإن كانت تدرك النافع والضار في الجملة، لكن تفصيل ذلك والإحاطة به إحاطة تامة إنما يكون من جهة الشرع.
ولهذا نقول: النفع أو الضرر قد يكون معلوما بالفطرة، وقد يكون معلوما بالعقل، وقد يكون معلوما بالتجارب، وقد يكون معلوما بالشرع. فالشرع يأتي مؤيدا لما شهدت به الفطرة، والعقل، والتجارب وهذه تأتي شاهدة لما جاء به الشرع.
وفي هذا المقام اختلف الناس في الأعمال هل يعرف حسنها وقبحها بالشرع، أو بالعقل؟ .
والتحقيق: أن ذلك يعرف تارة بالشرع، وتارة بالعقل، وتارة بهما، لكن علم ذلك على وجه الشمول، والتفصيل، وعلم غايات الأعمال في الآخرة من سعادة وشقاء ونحو ذلك لا يعلم إلا بالشرع.
(4/214)
فصل
إذا تبين أنه لا بد للإنسان من الإيمان بالقدر، والإيمان بالشرع فاعلم أن الناس انقسموا في ذلك إلى قسمين:
القسم الأول: أهل الهدى والفلاح الذين آمنوا بقضاء الله وقدره على ما سبق بيانه من المراتب الأربع، وآمنوا أيضا بشرعه فقاموا بأمره ونهيه وآمنوا بما ترتب على ذلك من جزاء، ولم يحتجوا بقدره على شرعه، أو بشرعه على قدره، ولم يجعلوا ذلك تناقضا من الخالق، وهؤلاء هم أهل الحق الذين حققوا مقام {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} المؤمنون بمقتضى قوله تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} .
القسم الثاني: أهل الضلال والهلاك المخالفون للجماعة وهم ثلاث فرق: مجوسية، ومشركية، وإبليسية.
فالمجوسية هم: القدرية الذين آمنوا بشرع الله، وكذبوا بقدره، فغلاتهم أنكروا عموم علم الله تعالى وقالوا: إن الله تعالى لم يقدر أعمال العباد ولا علم له بها قبل وقوعها، ومقتصدوهم آمنوا بعلم الله بها قبل وقوعها وأنكروا أن تكون واقعة بقدر الله تعالى وأن تكون مخلوقة له.
وهؤلاء هم المعتزلة ومن وافقهم. ومذهبهم باطل بما سبق في أدلة مراتب القدر.
والمشركية هم: الذين أقروا بقدر الله واحتجوا به على شرعه كما قال
(4/215)
الله تعالى عنهم: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا} .
والإبليسية هم: الذين أقروا بالأمرين بالقدر، وبالشرع لكن جعلوا ذلك تناقضا من الله عز وجل، وطعنوا في حكمته تعالى، وقالوا: كيف يأمر العباد وينهاهم، وقد قدر عليهم ما قدر مما قد يكون مخالفا لما أمرهم به ونهاهم عنه، فهل هذا إلا التناقض المحض والتصرف المنافي للحكمة؟ . وهؤلاء أتباع إبليس فقد احتج على الله عز وجل حين أمره أن يسجد لآدم فقال إبليس: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} .
والرد على هاتين الفرقتين معلوم من الرد على المحتجين بالقدر على معصية الله تعالى.
(4/216)
فصل
وأما الشرع فهو ما جاءت به الرسل من عبادة الله تعالى التي من أجلها خلق الله الجن والإنس لقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} . وذلك هو الإسلام الذي لا يقبل الله من أحد دينا سواه لقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} .
فالإسلام هو الاستسلام لله وحده بالطاعة فعلا للمأمور وتركا للمحظور في كل زمان ومكان كانت الشريعة فيه قائمة، وهذا هو الإسلام بالمعنى العام. وعلى هذا يكون أصحاب الملل السابقة مسلمين حين كانت شرائعهم قائمة لم تنسخ كما قال الله تعالى عن نوح وهو يخاطب قومه: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} .
وقال عن إبراهيم: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} . وقال أيضا: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} .
وقال عن موسى في مخاطبته قومه:
(4/217)
{يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} . وقال عن التوراة: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} .
وقال عن الحواريين أتباع عيسى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} .
وقال عن ملكة سبأ: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
وأما الإسلام بالمعنى الخاص فيختص بشريعة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} . وقال في أمته: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ} .
فلا إسلام بعد بعثته إلا باتباعه، لأن دينه مهيمن على الأديان كلها ظاهر عليها، وشريعته ناسخة للشرائع السابقة كلها قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} .
والذي جاء مصدقا لما مع الرسل قبله هو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} .
(4/218)
وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} . وهذا يعم الظهور قدرا وشرعا.
فمن بلغته رسالة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم يؤمن به ويتبعه لم يكن مؤمنا ولا مسلما بل هو كافر من أهل النار لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة - يعني أمة الدعوة - يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار» . أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وبهذا يعلم أن النزاع فيمن سبق من الأمم هل هم مسلمون أو غير مسلمين؟ نزاع لفظي، وذلك لأن الإسلام بالمعنى العام يتناول كل شريعة قائمة بعث الله بها نبيا فيشمل إسلام كل أمة متبعة لنبي من الأنبياء ما دامت شريعته قائمة غير منسوخة بالاتفاق كما دلت على ذلك النصوص السابقة، وأما بعد بعثة النبي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن الإسلام يختص بما جاء به فمن لم يؤمن به ويتبعه فليس بمسلم.
ومن زعم أن مع دين محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دينا سواه قائما مقبولا عند الله تعالى من دين اليهود، أو النصارى، أو غيرهما فهو مكذب لقول الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} . وقوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} .
وإذا كان الإسلام اتباع الشريعة القائمة، فإنه إذا نسخ شيء منها لم يكن المنسوخ دينا بعد نسخه ولا اتباعه إسلاما.
(4/219)
فاستقبال بيت المقدس -مثلا- كان دينا وإسلاما قبل نسخه، ولم يكن دينا ولا إسلاما بعده. وزيارة القبور لم تكن دينا ولا إسلاما حين النهي عنها وكانت دينا وإسلاما بعد الأمر بها.
(4/220)
فصل
مبنى الإسلام على توحيد الله عز وجل قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} . ولا بد في التوحيد من الجمع بين النفي والإثبات؛ لأن النفي وحده تعطيل، والإثبات وحده لا يمنع المشاركة فلا توحيد إلا بنفي وإثبات.
وقد قسمه العلماء -بالتتبع والاستقراء- إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: توحيد الربوبية.
القسم الثاني: توحيد الألوهية.
القسم الثالث: توحيد الأسماء والصفات.
وقد جمع الله هذه الأقسام في قوله تعالى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} .
فأما توحيد الربوبية: فهو إفراد الله تعالى بالخلق، والملك، والتدبير. ومن أدلته قوله تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} . وقوله: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . وقوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} .
(4/221)
وهذا قد أقر به المشركون الذين بعث فيهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما قال الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} . {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} . وقال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} وقال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} ، إلى قوله: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} .
ولم يكن أحد من هؤلاء المشركين ولا غيرهم ممن يقر بالخالق يعتقد أن أحدا من الخلق شارك الله تعالى في خلق السماوات والأرض، أو غيرهما، ولا أن للعالم صانعين متكافئين في الصفات والأفعال، ولم ينقل أرباب المقالات الذين جمعوا ما قيل في الملل والنحل، والآراء والديانات عن أحد من الناس أنه قال بذلك.
وغاية ما نقلوا قول الثنوية القائلين بالأصلين: النور، والظلمة، وأن النور خلق الخير، والظلمة خلقت الشر، لكنهم لا يقولون بتساويهما وتكافئهما فالنور مضيء موافق للفطرة، بخلاف الظلمة.
والنور قديم، ولهم في الظلمة قولان:
أحدهما: أنها محدثة مخلوقة للنور، فيكون النور أكمل منها.
الثاني: أنها قديمة لكنها لا تخلق إلا الشر.
فصارت الظلمة ناقصة عن النور في مفعولاتها، كما أنها ناقصة عنه في وجودها وصفاتها. وأما قول فرعون لقومه حين جمعهم فنادى:
(4/222)
{أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} . وقوله: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} . فمكابرة لم يصدر عن عقيدة، بل كان يعتقد في قرارة نفسه أن الله هو رب السماوات والأرض ولهذا لم يكذب موسى حين قال له: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} . واقرأ قوله تعالى عن فرعون وقومه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} .
وأما قول من قال من الناس إن بعض الحوادث مخلوقة لغير الله كالقدرية الذين يقولون إن العباد خلقوا أفعالهم، فإنهم يقرون بأن العباد مخلوقون والله تعالى هو خالقهم وخالق قدرتهم.
وكذلك أهل الفلسفة، والطبع، والنجوم الذين يجعلون بعض المخلوقات مبدعة لبعض الأمور يعتقدون أن هذه الفاعلات مخلوقة حادثة.
وبهذا يتقرر أنه لم يكن أحد من الناس يدعي أن للعالم صانعين متكافئين.
(4/223)
فصل
وأما توحيد الألوهية فهو: إفراد الله تعالى بالعبادة بأن يعبد وحده ولا يعبد غيره من ملك، أو رسول، أو نبي، أو ولي، أو شجر، أو حجر، أو شمس، أو قمر، أو غير ذلك كائنا من كان.
ومن أدلته قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} . وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} . وقوله: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} . وقوله: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .
وهذا النوع قد أنكره المشركون الذين بعث فيهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما قال الله تعالى عنهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} . وقال تعالى: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} .
ومن أجل إنكارهم إياه قاتلهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واستباح دماءهم
(4/224)
وأموالهم، وسبى نساءهم وذرياتهم بإذن الله تعالى وأمره، ولم يكن إقرارهم بتوحيد الربوبية مخرجا لهم عن الشرك، ولا عاصما لدمائهم وأموالهم.
وتحقيق هذا النوع أن يعبد الله وحده لا شريك له بشرعه الذي جاءت به رسله كما قال الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} . فمن لم يعبد الله تعالى فهو مستكبر غير موحد، ومن عبده وعبد غيره فهو مشرك غير موحد، ومن عبده بما لم يشرعه فهو مبتدع ناقص التوحيد حيث جعل لله تعالى شريكا في التشريع.
والعبادة تطلق على معنيين:
أحدهما: التعبد وهو فعل العابد فتكون بمعنى التذلل للمعبود حبا وتعظيما وهذان -أعني الحب والتعظيم- أساس العبادة فبالحب يكون طلب الوصول إلى مرضاة المعبود بفعل ما أمر به، وبالتعظيم يكون الهرب من أسباب غضبه بترك ما نهى عنه.
الثاني: المتعبد به فتكون اسما جامعا لكل ما يتعبد به لله تعالى كالطهارة، والصلاة، والصدقة، والصوم، والحج، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، وغير ذلك من أنواع العبادة.
وللعبادة شرطان:
أحدهما: الإخلاص لله عز وجل بأن لا يريد بها سوى وجه الله والوصول إلى دار كرامته، وهذا من تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله.
الثاني: المتابعة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بأن لا يتعبد لله تعالى بغير ما شرعه، وهذا من تحقيق شهادة أن محمدا رسول الله.
فالمشرك في العبادة لا تقبل عبادته، ولا تصح لفقد الشرط الأول.
(4/225)
والمبتدع فيها لا تقبل، ولا تصح لفقد الشرط الثاني.
وقد دل على هذين الشرطين كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فمن أدلة اشتراط الإخلاص من كتاب الله قوله تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} . وقوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} . وقوله: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة المتنوعة الدلالة.
ومن أدلته من السنة ما أخرجه البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «يا أيها الناس إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن هاجر إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه» . هذا أحد ألفاظ البخاري.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قال الله تبارك وتعالى أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه» .
ومن أدلة اشتراط المتابعة لرسول الله من كتاب الله تعالى قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} . وقوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} . وقوله في وصف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .
(4/226)
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة المتنوعة الدلالة.
ومن أدلته من السنة ما أخرجه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» أي مردود. وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول إذا خطب الناس يوم الجمعة: " أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة» . وصح عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «إنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» رواه أحمد وأبو داود.
ولا تتحقق المتابعة إلا بموافقة العبادة للشرع في سببها، وجنسها، وقدرها، وكيفيتها، وزمانها، ومكانها.
والعبادة أنواع كثيرة:
فمنها الصلاة، والذبح؛ لقوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} . وقوله: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} .
فمن صلى لغير الله فهو مشرك، ومن ذبح لغير الله تقربا وتعظيما فهو مشرك.
ومنها التوكل؛ لقوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} .
(4/227)
وقوله: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} . ولهذا لما كان التوكل خاصا به كان وحده هو الحسب كما قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} . فأما قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} . فمعناه أن الله هو حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين فقوله: {مَنِ اتَّبَعَكَ} معطوف على الكاف في قوله: حسبك وليس معطوفا على الله كما ظنه بعض الغالطين، فإن هذا يفسد به المعنى إذ يكون المعنى على هذا التقدير: أن الله والمؤمنين حسب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهذا باطل فإن مقام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعلى وأقوى من مقام من اتبعه فكيف يكون الأدنى حسبا للأعلى والأقوى.
ومنها الخشية، والخوف تعبدا وتقربا لقوله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} . وقوله: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} . وقوله: {فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} فجعل الرهبة له وحده كما جعل العبادة له وحده في قوله: {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} .
ومنها التقوى تعبدا وتقربا لقوله تعالى: {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} .
(4/228)
وقوله: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ} . وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما} .
(4/229)
فصل
وأما توحيد الأسماء والصفات: فهو إفراد الله تعالى بأسمائه وصفاته وذلك بإثبات ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات في كتابه، أو على لسان رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل.
فلا يجوز نفي شيء مما سمى الله به نفسه، أو وصف به نفسه؛ لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . ولأن ذلك تعطيل يستلزم تحريف النصوص أو تكذيبها مع وصف الله تعالى بالنقائص والعيوب.
ولا يجوز تسمية الله تعالى، أو وصفه بما لم يأت في الكتاب والسنة؛ لأن ذلك قول على الله تعالى بلا علم وقد قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} . وقال: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} .
ولا يجوز إثبات اسم أو صفة لله تعالى مع التمثيل لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . وقوله: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} . ولأن ذلك إشراك بالله تعالى
(4/230)
يستلزم تحريف النصوص، أو تكذيبها مع تنقص الله تعالى بتمثيله بالمخلوق الناقص.
ولا يجوز إثبات اسم، أو صفة لله تعالى مع التكييف لأن ذلك قول على الله تعالى بلا علم، يستلزم الفوضى، والتخبط في صفات الله تعالى، إذ كل واحد يتخيل كيفية معينة غير ما تخيله الآخر؛ ولأن ذلك محاولة لإدراك ما لا يمكن إدراكه بالعقول، فإنك مهما قدرت من كيفية فالله أعلى وأعظم.
وهذا النوع من التوحيد هو الذي كثر فيه الخوض بين أهل القبلة فانقسموا في النصوص الواردة فيه إلى ستة أقسام:
القسم الأول: من أجروها على ظاهرها اللائق بالله تعالى من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل.
وهؤلاء هم السلف وهذا هو الصواب المقطوع به لدلالة الكتاب، والسنة، والعقل، والإجماع السابق عليه دلالة قطعية أو ظنية.
القسم الثاني: من أجروها على ظاهرها، لكن جعلوها من جنس صفات المخلوقين.
وهؤلاء هم الممثلة، ومذهبهم باطل بالكتاب، والسنة والعقل، وإنكار السلف.
القسم الثالث: من أجروها على خلاف ظاهرها، وعينوا لها معاني بعقولهم، وحرفوا من أجلها النصوص.
وهؤلاء هم أهل التعطيل فمنهم من عطل تعطيلا كبيرا كالجهمية والمعتزلة ونحوهم، ومنهم من عطل دون ذلك كالأشاعرة.
القسم الرابع: من قالوا: الله أعلم بما أراد بها، فوضوا علم معانيها إلى الله وحده.
(4/231)
وهؤلاء هم أهل التجهيل المفوضة، وتناقض بعضهم فقال: الله أعلم بما أراد، لكنه لم يرد إثبات صفة خارجية له تعالى.
القسم الخامس: من قالوا: يجوز أن يكون المراد بهذه النصوص إثبات صفة تليق بالله تعالى وأن لا يكون المراد ذلك.
وهؤلاء كثير من الفقهاء وغيرهم.
القسم السادس: من أعرضوا بقلوبهم وأمسكوا بألسنتهم عن هذا كله واقتصروا على قراءة النصوص ولم يقولوا فيها بشيء. (1)
وهذه الأقسام سوى الأول باطلة كما قد تبين في غير هذا الموضع.
__________
(1) ذكر هذه الأقسام في الفتوى الحموية.
(4/232)
فصل
وبهذا التقرير عن أقسام التوحيد يتبين غلط عامة المتكلمين في مسمى التوحيد حيث جعلوه ثلاثة أنواع:
الأول: أن الله واحد في ذاته لا قسيم له، أو لا جزء له، أو لا بعض له.
الثاني: أنه واحد في صفاته لا شبيه له.
الثالث: أنه واحد في أفعاله لا شريك له.
وبيان غلطهم من وجوه:
أحدها: أنهم لم يدخلوا فيه توحيد الألوهية وهو أن الله تعالى واحد في ألوهيته لا شريك له فيفرد وحده بالعبادة، مع أن هذا النوع من التوحيد هو الذي من أجله خلق الجن والإنس لقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} .
ومن أجله أرسلت الرسل وأنزلت الكتب لقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} . وقوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} . وقد قام الرسل عليهم الصلاة والسلام بذلك يدعون قومهم {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} أي ما لكم من معبود حق غير الله، فجميع الآلهة سواه باطلة كما قال تعالى:
(4/233)
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} .
ومن أجله قامت المعارك الكلامية، والقتالية بين الرسل وأقوامهم المكذبين لهم كما قال الله تعالى عن قوم نوح: {قَالُوا يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} . وقال عن قوم هود: {قَالُوا يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِي} . وقال في إبراهيم وقومه: {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} . وقال عن المكذبين لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} . وقال: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} . وقال في أعدائه: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} .
(4/234)
والمهم أن هذا التوحيد الذي هذا شأنه قد أغفله عامة المتكلمين الذين يتكلمون في أنواع التوحيد، وهو أحد وجوه غلطهم في مسمى التوحيد.
الوجه الثاني: قولهم: " إن الله واحد في ذاته لا قسيم له. . " إلخ فيه إجمال:
فإن أرادوا به أن الله تعالى لا يتجزأ، ولا يتفرق، ولا يكون مركبا من أجزاء فهذا حق، فإن الله تعالى أحد، صمد، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد.
وإن أرادوا به مع ذلك نفي ما وصف به نفسه كعلوه، واستوائه على عرشه، ووجهه، ويديه ونحو ذلك - وهذا مرادهم - فهو باطل؛ لأن الله تعالى قد أثبت لنفسه من صفات الكمال من هذا وغيره ما هو أهل له. وتوحيده فيها إثباتها له على الوجه اللائق به بدون تمثيل، لا أن تنفى عنه بنوع من التحريف والتعطيل.
الوجه الثالث: قولهم: " واحد في صفاته لا شبيه له " فيه إجمال:
فإن أرادوا به إثبات صفات الله تعالى على الوجه اللائق به من غير أن يماثله أحد فيما يختص به فهذا حق، وهو مذهب السلف لكن عامة المتكلمين لا يريدون ذلك.
وإن أرادوا به نفي أن يكون شيء من المخلوقات مماثلا له من كل وجه فهذا لغو لا حاجة إليه فهو كقول القائل: السماء فوقنا والأرض تحتنا لأن مماثلة الخالق للمخلوق من كل وجه معلوم الانتفاء، بل الامتناع بضرورة العقل، والسمع، وإجماع العقلاء. ولهذا لم يُثبت أحد من الأمم أحدا مماثلا لله تعالى من كل وجه، وغاية من شبه به شيئا أن يشبهه به في بعض الأمور.
(4/235)
وإن أرادوا به نفي أن يكون بين صفات الخالق والمخلوق قدر مشترك مع تميز كل منهما بما يختص به - وهذا مرادهم - فهو باطل، لأنه قد علم بضرورة العقل أن كل موجودين قائمين بأنفسهما لا بد من قدر مشترك بينهما مع تميز كل واحد منهما بما يختص به، كاتفاقهما في مسمى الوجود، والذات والقيام بالنفس ونحو ذلك، ونفي هذا القدر تعطيل محض.
والقول بهذا المراد لا يمنع نفي ما يجب لله تعالى من صفات الكمال عند من يرى أن إثبات ذلك يستلزم التشبيه، فقد سبق أن أهل التعطيل من الجهمية والمعتزلة وغيرهم أدخلوا نفي الصفات في مسمى التوحيد وقالوا من أثبت لله علما، أو قدرة ونحو ذلك فهو مشبه غير موحد، وزاد عليهم غلاة الفلاسفة، والقرامطة فأدخلوا فيه نفي الأسماء وقالوا: من قال إن الله عليم قدير ونحو ذلك فهو مشبه غير موحد، وزاد عليهم غلاة الغلاة فقالوا: إن الله لا يوصف بما يتضمن إثباتا أو نفيا، فمن نفى عنه صفة، أو أثبت له صفة فهو مشبه غير موحد.
وقد سبق الرد على هؤلاء الطوائف في أول الرسالة ولله الحمد.
الوجه الرابع: قولهم: " واحد في أفعاله لا شريك له" وهذا أشهر أنواع التوحيد عندهم، ويعنون به أن خالق العالم واحد، ويظنون أن هذا هو التوحيد المطلوب وأن هذا معنى " لا إله إلا الله " فيجعلون معناها: لا قادر على الاختراع إلا الله.
ومعلوم أن هذا خطأ من وجهين:
الأول: أن هذا الذي قرروه قد أقر به المشركون الذين قاتلهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنهم لم يجعلوا لله شريكا في أفعاله كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}
(4/236)
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} . ومع هذا لم يكونوا موحدين بل هم مشركون بدلالة الكتاب، والسنة، والإجماع المعلوم بالضرورة من دين الإسلام، لكونهم أنكروا توحيد الألوهية وقالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} ولهذا قاتلهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مستبيحا دماءهم وأموالهم وسبي ذراريهم ونسائهم.
الثاني: أن تفسيرهم " لا إله إلا الله " بهذا التفسير الذي ذكروه أي أنه لا قادر على الاختراع إلا الله، يقتضي أن من أقر بأن الله وحده هو القادر على الاختراع دون غيره فقد شهد أن لا إله إلا الله وعصم دمه وماله.
ومعلوم أن تفسيرها بهذا المعنى باطل مخالف لما عرفه المسلمون منها فإن تفسيرها الصحيح: أن لا معبود حق إلا الله هذا هو الذي يعرفه المسلمون من معناها، بل والمشركون ألا ترى إلى قول الله تعالى فيهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} . وكانوا لا يستكبرون عن الإقرار بقلوبهم وألسنتهم بأن الله هو الخالق وحده ولا يدعون أن آلهتهم تخلق شيئا فتبين بذلك أن المشركين أعلم وأفقه بمعنى لا إله إلا الله من هؤلاء المتكلمين، وأن غاية ما يقرره هؤلاء المتكلمون من التوحيد توحيد الربوبية الذي لا يخلص الإنسان من الشرك، ولا يعصم به دمه وماله، ولا يسلم به من الخلود في النار.
وقد سلك هذا المسلك طوائف من أهل التصوف المنتسبين إلى المعرفة والتحقيق والتوحيد، فكان غاية ما عندهم من التوحيد أن يشهد المرء أن الله رب كل شيء، ومليكه، وخالقه لا سيما إذا غاب العارف
(4/237)
بموجوده عن وجوده، وبمشهوده عن شهوده، وبمعروفه عن معرفته، ودخل في فناء توحيد الربوبية بحيث يفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل.
ومعلوم أن هذه الغاية هي ما أقر به المشركون من التوحيد وهي غاية لا يكون بها الرجل مسلما، فضلا عن أن يكون من أولياء الله تعالى وسادة خلقه.
(4/238)
فصل
في الفناء وأقسامه
الفناء لغة: الزوال. قال الله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} .
وفي الاصطلاح ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ديني شرعي وهو الفناء عن إرادة السوي. أي: عن إرادة ما سوى الله عز وجل بحيث يفنى بالإخلاص لله عن الشرك، وبشريعته عن البدعة، وبطاعته عن معصيته، وبالتوكل عليه عن التعلق بغيره، وبمراد ربه عن مراد نفسه إلى غير ذلك مما يشتغل به من مرضاة الله عما سواه.
وحقيقته: انشغال العبد بما يقربه إلى الله عز وجل عما لا يقربه إليه وإن سمي فناء في اصطلاحهم.
وهذا فناء شرعي به جاءت الرسل، ونزلت الكتب، وبه قيام الدين والدنيا، وصلاح الآخرة والدنيا قال الله تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} . وقال: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . وقال: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} .
(4/239)
وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} .
وهذا هو الذوق الإيماني الحقيقي الذي لا يعادله ذوق، ففي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار» . وفي صحيح مسلم عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولا» .
القسم الثاني: صوفي بدعي وهو: الفناء عن شهود السوي أي عن شهود ما سوى الله تعالى، وذلك أنه بما ورد على قلبه من التعلق بالله عز وجل وضعفه عن تحمل هذا الوارد ومقاومته غاب عن قلبه كل ما سوى الله عز وجل ففني بهذه الغيبوبة عن شهود ما سواه، ففني بالمعبود عن العبادة وبالمذكور عن الذكر، حتى صار لا يدري أهو في عبادة وذكر أم لا، لأنه غائب عن ذلك بالمعبود والمذكور لقوة سيطرة الوارد على قلبه.
وهذا فناء يحصل لبعض أرباب السلوك، وهو فناء ناقص من وجوه:
الأول: أنه دليل على ضعف قلب الفاني، وأنه لم يستطع الجمع بين شهود المعبود والعبادة، والأمر والمأمور به، واعتقد أنه إذا شاهد العبادة والأمر اشتغل به عن المعبود والآمر، بل إذا ذكر العبادة والذكر كان ذلك اشتغالا عن المعبود والمذكور.
(4/240)
الثاني: أنه يصل بصاحبه إلى حال تشبه حال المجانين والسكارى حتى إنه ليصدر عنه من الشطحات القولية والفعلية المخالفة للشرع ما يعلم هو وغيره غلطه فيها كقول بعضهم في هذه الحال: "سبحاني. . سبحاني أنا الله. ما في الجبة إلا الله أنصب خيمتي على جهنم" ونحو ذلك من الهذيان والشطح.
الثالث: أن هذا الفناء لم يقع من المخلصين الكمل من عباد الله فلم يحصل للرسل، ولا للأنبياء، ولا للصديقين والشهداء. فهذا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى ليلة المعراج من آيات الله اليقينية ما لم يقع لأحد من البشر وفي هذه الحال كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على غاية من الثبات في قواه الظاهرة والباطنة كما قال الله تعالى عن قواه الظاهرة: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} . وقال عن قواه الباطنة: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} . وهاهم الخلفاء الراشدون أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي - رضي الله عنهم - أفضل البشر بعد الأنبياء وسادات أوليائهم لم يقع لهم مثل هذا الفناء، وهاهم سائر الصحابة مع علو مقامهم وكمال أحوالهم لم يقع لهم مثل هذا الفناء.
وإنما حدث هذا في عصر التابعين فوقع منه من بعض العباد والنساك ما وقع، فكان منهم من يصرخ، ومنهم من يصعق، ومنهم من يموت، وعرف هذا كثيرا في بعض مشايخ الصوفية.
ومن جعل هذا نهاية السالكين فقد ضل ضلالا مبينا، ومن جعله من لوازم السير إلى الله فقد أخطأ.
وحقيقته: أنه من العوارض التي تعرض لبعض السالكين لقوة الوارد على قلوبهم وضعفها عن مقاومته، وعن الجمع بين شهود العبادة والمعبود ونحو ذلك.
(4/241)
القسم الثالث: فناء إلحادي كفري وهو: الفناء عن وجود السوي. أي: عن وجود ما سوى الله عز وجل، بحيث يرى أن الخالق عين المخلوق، وأن الموجود عين الموجد، وليس ثمة رب ومربوب، وخالق ومخلوق، وعابد ومعبود وآمر ومأمور، بل الكل شيء واحد وعين واحدة.
وهذا فناء أهل الإلحاد القائلين بوحدة الوجود كابن عربي، والتلمساني وابن سبعين، والقونوي ونحوهم. . . وهؤلاء أكفر من النصارى من وجهين:
أحدهما: أن هؤلاء جعلوا الرب الخالق عين المربوب المخلوق وأولئك النصارى جعلوا الرب متحدا بعبده الذي اصطفاه بعد أن كانا غير متحدين.
الثاني: أن هؤلاء جعلوا اتحاد الرب ساريا في كل شيء في الكلاب والخنازير والأقذار، والأوساخ، وأولئك النصارى خصوه بمن عظموه كالمسيح. (1)
وتصور هذا القول كاف في رده، إذ مقتضاه: أن الرب والعبد شيء واحد، والآكل والمأكول شيء واحد، والناكح والمنكوح شيء واحد، والخصم والقاضي شيء واحد، والمشهود له وعليه والشاهد شيء واحد، وهذا غاية ما يكون من السفه والضلال.
قال الشيخ رحمه الله: ويذكر عن بعضهم أنه كان يأتي ابنه ويدعي أنه الله رب العالمين (2) فقبح الله طائفة يكون إلهها الذي تعبده هو موطوءها الذي تفترشه.
__________
(1) ر: 2/172 مج ف ق.
(2) ر: 2/378 مج ف ق..
(4/242)
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في النونية عن هذه الطائفة:
فالقوم ما صانوه عن إنس ولا ... جن ولا شجر ولا حيوان
لكنه المطعوم والملبوس وال ... مشموم والمسموع بالآذان
وكذاك قالوا إنه المنكوح وال ... مذبوح بل عين الغوي الزاني
إلى أن قال:
هذا هو المعبود عندهم فقل ... سبحانك اللهم ذا السبحان
يا أمة معبودها موطوؤها ... أين الإله وثغره الطعان
يا أمة قد صار من كفرانها ... جزءا يسيرا جملة الكفران
(4/243)
فصل
ولا يتم الإسلام إلا بالبراءة مما سواه كما قال الله تعالى عن إبراهيم الخليل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} . وبين أن لنا فيه أسوة حسنة فقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} . وقال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .
(4/244)
والبراءة نوعان:
الأول: براءة من عمل.
الثاني: براءة من عامل.
فأما البراءة من العمل: فتجب من كل عمل محرم سواء كان كفرا، أم دونه فيبرأ المؤمن من الشرك، والزنى، وشرب الخمر ونحو ذلك بحيث لا يرضاه ولا يقره، ولا يعمل به، لأن الرضا بذلك، أو إقراره، أو العمل به مضادة لله تعالى ورضا بما لا يرضاه.
وأما البراءة من العامل: فإن كان عمله كفرا وجبت البراءة منه بكل حال من كل وجه لما سبق من الآيات الكريمة، ولأنه لم يتصف بما يقتضي ولاءه.
وإن كان عمله دون الكفر وجبت البراءة منه من وجه دون وجه فيوالى بما معه من الإيمان والعمل الصالح، ويتبرأ منه بما معه من المعاصي؛ لأن الفسوق لا ينافي أصل الإيمان، فقد يكون في الإنسان خصال فسوق، وخصال طاعة، وخصال إيمان، وخصال كفر كما قال الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} . فجعل الله تعالى الطائفتين المقتتلتين إخوة للطائفة المصلحة، ووصفهم بالإيمان مع أن قتال المؤمن لأخيه من خصال الكفر لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» . ولم تكن هذه
(4/245)
الخصلة الكفرية منافية لأصل الإيمان ولا رافعة للأخوة الإيمانية. ولا ريب أن الأخوة الإيمانية مقتضية للمحبة والولاية ويقوى مقتضاها بحسب قوة الإيمان والاستقامة.
وهذا الأصل -أعني أنه قد يجتمع في الإنسان خصلة إيمان، وخصلة كفر- هو ما دل عليه الكتاب، والسنة، وكان عليه السلف والأئمة، فتكون المحبة والولاية تابعة لما معه من خصال الإيمان، والكراهة والعداوة تابعة لما عنده من خصال الكفر.
(4/246)
فصل
المؤمن مأمور بفعل المأمور، وترك المحظور، والصبر على المقدور قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} . وقال: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} . وقال عن لقمان: {يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} . وقال: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} .
ومأمور في جانب الطاعة بالإخلاص والاستغفار قال الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} . وقال: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} . وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} .
وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يا أيها الناس توبوا إلى ربكم فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة ". وقال: "إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة» أخرجهما مسلم.
وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي
(4/247)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» .
والجامع لهذا: أنه لا بد في الأمر من أصلين، ولا بد في القدر من أصلين أيضا.
أما الأصلان في الأمر فهما:
أصل قبل العمل أو مقارن له وهو: الاجتهاد في الامتثال علما، وعملا فيجتهد في العلم بالله تعالى، وأسمائه وصفاته، وأحكامه، ثم يعمل بما يقتضيه ذلك العلم من تصديق الأخبار، والعمل بالأحكام، فعلا للمأمور، وتركا للمحظور.
والثاني: أصل بعد العمل وهو الاستغفار والتوبة من التفريط في المأمور، أو التعدي في المحظور ولهذا كان من المشروع ختم الأعمال بالاستغفار كما قال الله تعالى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} . فقاموا الليل وختموه بالاستغفار، «وكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثا،» وآخر سورة نزلت عليه سورة النصر {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} . فكان بعد نزولها يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي. وكان نزولها إيذانا بقرب أجله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما قال ابن عباس رضي الله عنهما في مجلس أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمحضر من الصحابة فأقره عمر رضي الله عنه وقال: ما أعلم منها إلا ما تقول.
وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول»
(4/248)
«الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكثر أن يقول قبل أن يموت: سبحانك وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك.» فجعل الاستغفار والتوبة خاتمة العمر كما جعلتا خاتمة العمل.
وأما الأصلان في القدر فهما:
أصل قبل المقدور وهو: الاستعانة بالله عز وجل، والاستعاذة به، ودعاؤه رغبة ورهبة فيكون معتمدا على ربه، ملتجئا إليه في حصول المطلوب ودفع المكروه.
والثاني بعد المقدور وهو: الصبر على المقدور حيث يفوت مطلوبه، أو يقع مكروهه فيوطن نفسه عليه بحيث يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن الحال لا يمكن أن تتغير عما قدره الله تعالى فيرضى بذلك ويسلم وينشرح صدره ويذهب عنه الندم والحزن كما قال الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . قال ابن عباس رضي الله عنهما: يهد قلبه لليقين فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه. وقال علقمة في الآية: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم.
فإذا راعى الأمر والقدر على الوجه الذي ذكرنا كان عابدا لله تعالى مستعينا به متوكلا عليه من الذين أنعم الله عليهم. وقد جمع الله بين هذين الأصلين في أكثر من موضع كقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . وقوله: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} . وقوله: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .
(4/249)
فصل
والناس في هذا المقام -مقام الشرع والقدر- أربعة أقسام:
الأول: من حققوا هذه الأصول الأربعة: أصلي الشرع، وأصلي القدر وهم المؤمنون المتقون الذين كان عندهم من عبادة الله تعالى والاستعانة به ما تصلح به أحوالهم، فكانوا لله، وبالله، وفي الله، وهؤلاء أهل القسط والعدل الذين شهدوا مقام الربوبية والألوهية، وهم أعلى الأقسام فإن هذا مقام الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين، والشهداء، والصالحين.
الثاني: من فاتهم التحقيق في أصلي القدر فكان عندهم من عبادة الله تعالى والاستقامة في شرعه ما عندهم، لكن ليس عندهم قوة في الاستعانة بالله والصبر على أحكامه الكونية والشرعية، فيصيبهم عند العمل من العجز والكسل ما يمنعهم من العمل أو إكماله، ويلحقهم بعد العمل من العجب والفخر ما قد يكون سببا لحبوط عملهم وخذلانهم، وهؤلاء أضعف ممن سبقهم وأدنى مقاما وأقل عدلا، لأن شهودهم مقام الإلهية غالب على شهود مقام الربوبية.
الثالث: من فاتهم التحقيق في أصلي الشرع فكانوا ضعفاء في الاستقامة على أمر الله ومتابعة شرعه، لكن عندهم قوة في الاستعانة بالله والتوكل عليه، ولكن قد يكون ذلك في أمور لا يحبها الله تعالى ولا يرضاها فيعان ويمكن له بقدر حاله، ويحصل له من المكاشفات والتأثيرات ما لا يحصل للقسم الذي قبله، لكن ما يحصل له من هذه الأمور يكون من نصيب العاجلة الدنيا أما عاقبته فعاقبة سيئة، لأنه ليس من المتقين وإنما
(4/250)
العاقبة للمتقين قال الله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} . فالله تعالى يعلم أن هؤلاء سيشركون بعد أن ينجيهم لكن لما كانوا في البحر كانوا مخلصين في دعائهم الله تعالى أن ينجيهم صادقين في تفويض الأمر إليه حصل مرادهم، ولما لم يكن لهم عبادة لم يستقم أمرهم وكان عاقبة أمرهم خسرا.
فالفرق بين هؤلاء وبين القسم الذين قبلهم أن الذين قبلهم كان لهم دين ضعيف لضعف استعانتهم بالله وتوكلهم عليه، لكنه مستمر باق إن لم يفسده صاحبه بالعجز والجزع. وهؤلاء لهم حال وقوة لكن لا يبقى لهم إلا ما وافقوا فيه الأمر واتبعوا فيه السنة.
القسم الرابع: من فاتهم تحقيق أصلي الشرع، وأصلي القدر فليس عندهم عبادة لله تعالى، ولا استعانة به، ولا لجوء إليه عند الشدة فهم مستكبرون عن عبادة الله مستغنون بأنفسهم عن خالقهم، وربما لجئوا في الشدائد وإدراك مطالبهم إلى الشياطين فأطاعوها فيما تريد وأعانتهم فيما يريدون فيظن الظان أن هذا من باب الكرامات، وهو من باب الإهانات لأن عاقبتهم الذل والهوان وهذا القسم شر الأقسام.
(4/251)
فصل
في المفاضلة والمقارنة بين أرباب البدع
نظار المتكلمين الذين يدعون التحقيق وينتسبون إلى السنة يرون التوحيد عبارة عن تحقيق توحيد الربوبية.
وطوائف من أهل التصوف الذين ينتسبون إلى التحقيق والمعرفة غاية التوحيد عندهم شهود توحيد الربوبية. ومعلوم أن هذا هو ما أقر به المشركون، وأن الرجل لا يكون به مسلما، فضلا عن أن يكون وليا من أولياء الله، أو من سادات أولياء الله تعالى.
وطائفة أخرى تقرر هذا التوحيد مع نفي الصفات، فيقعون في التقصير والتعطيل وهذا شر من حال كثير من المشركين.
والجهم بن صفوان إمام الجهمية نفاة الصفات يغلو في القضاء والقدر ويقول بالجبر، فيوافق المشركين في قولهم لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء، لكنه يثبت الأمر والنهي فيفارق المشركين إلا أنه يقول بالإرجاء فيضعف الأمر والنهي والعقاب عنده، لأن فاعل الكبيرة عنده مؤمن كامل الإيمان غير مستحق للعقاب.
والنجارية -أتباع الحسين بن محمد النجار - والضرارية -أتباع ضرار بن عمرو وحفص الفرد - يقربون من جهم في مسائل القدر والإيمان مع مقاربتهم له أيضا في نفي الصفات.
والكلابية -أتباع عبد الله بن سعيد بن كلاب - والأشعرية المنتسبون لأبي الحسن الأشعري خير من هؤلاء في باب الصفات فإنهم يثبتون لله
(4/252)
الصفات العقلية، وأئمتهم يثبتون الصفات الخبرية في الجملة، وأما في القدر ومسائل الأسماء والأحكام فأقوالهم متقاربة.
وأصحاب ابن كلاب كالحارث المحاسبي خير من الأشعرية في هذا وهذا.
والكرامية أتباع محمد بن كرام قولهم في الصفات، والقدر، والوعد، والوعيد أشبه من أكثر طوائف أهل الكلام التي في أقوالها مخالفة للسنة. وأما في الإيمان فقولهم منكر لم يسبقهم إليه أحد، فإنهم جعلوا الإيمان قول اللسان فقط وإن لم يكن معه تصديق القلب، فالمنافق عندهم مؤمن ولكنه مخلد في النار.
والمعتزلة أتباع واصل بن عطاء الذي اعتزل مجلس الحسن البصري -يقاربون قول جهم في الصفات فيقولون بنفيها، وأما في القدر والأسماء والأحكام، فيخالفونه ففي القدر يقولون: إن العبد مستقل بعمله كامل الإرادة فيه، ليس لله في عمله تقدير، ولا خلق. ففيهم نوع من الشرك من هذا الباب.
وجهم يقول: إن العبد مجبر على عمله، وليس له إرادة فيه.
وفي الأسماء والأحكام يقول المعتزلة: إن فاعل الكبيرة خارج عن الإيمان غير داخل في الكفر فهو في منزلة بين منزلتين، ولكنه مخلد في النار. ويقول جهم إنه مؤمن كامل الإيمان غير مستحق لدخول النار.
والمعتزلة خير من الجهمية فيما خالفوهم فيه من القدر والأسماء والأحكام فإن إثبات الأمر والنهي، والوعد والوعيد، مع نفي القدر خير من إثبات القدر مع نفي الأمر والنهي، والوعد والوعيد، ولهذا لم يوجد في زمن الصحابة والتابعين من ينفي الأمر والنهي، والوعد والوعيد، ووجد في زمنهم القدرية، والخوارج الحرورية.
(4/253)
وإنما يظهر من البدع أولا ما كان أخف، وكلما ضعف من يقوم بنور النبوة قويت البدعة، وكلما كان الرجل إلى السلف والأئمة أقرب كان قوله أعلى وأفضل.
والمتصوفة الذين يشهدون الحقيقة الكونية مع إعراضهم عن الأمر والنهي شر من القدرية المعتزلة ونحوهم، لأن هؤلاء المتصوفة يشبهون المشركين الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} . والقدرية يشبهون المجوس الذين قالوا: " إن للعالم خالقين " والمشركون شر من المجوس.
أما الصوفية الذين عندهم شيء من تعظيم الأمر والنهي مع مشاهدة توحيد الربوبية وإقرارهم بالقدر فهم خير من المعتزلة، لكنهم معتزلة من وجه آخر حيث جعلوا غاية التوحيد مشاهدة توحيد الربوبية، والفناء فيه فاعتزلوا بذلك جماعة المسلمين وسنتهم، وقد يكون ما وقعوا فيه من البدعة شرا من بدعة أولئك المعتزلة.
وكل هذه الطوائف عندها من الضلال والبدع بقدر ما فارقت به جماعة المسلمين وسنتهم. ودين الله تعالى ما بعث به رسله وأنزل به كتبه، وهو الصراط المستقيم طريق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه خير الأمة التي هي خير الأمم.
وقد أمرنا الله تعالى أن نقول في صلاتنا: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} . فالمغضوب عليهم كاليهود عرفوا الحق فلم يتبعوه، والضالون كالنصارى عبدوا الله بغير علم، وكان يقال: تعوذوا بالله من فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: «خط لنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»
(4/254)
«خطًّا بيده ثم قال: " هذا سبيل الله مستقيمًا". وخط عن يمينه وشماله ثم قال: "هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} » . وقال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: " يا معشر القراء استقيموا وخذوا طريق من قبلكم فوالله لئن اتبعتموهم لقد سبقتم سبقًا بعيدًا، ولئن أخذتم يمينًا وشمالًا لقد ضللتم ضلالًا بعيدًا ". وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: " من كان منكم مستنًا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبر هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، قوم اختارهم الله تعالى: لصحبه نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإقامة دينه فاعرفوا لهم حقهم وتمسكوا بهديهم، فإنهم على الهدى المستقيم".
نسأل الله تعالى: أن يجعلنا منهم وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا.
والحمد لله رب العالمين.
تم في 22\5\1410هـ
تمت مقابلتها على صاحب الفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين.
وذلك يوم الأربعاء الموافق 5\6\1412 هـ بمدينة الرياض والله الموفق.
كتبه: فهد بن ناصر السليمان
(4/255)
تعليقات على العقيدة الواسطية
(4/257)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة السلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فهذه مذكرة للمهم من مقرر السنة الثانية الثانوية في المعاهد العلمية في التوحيد على العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية نسأل الله أن ينفع بها كما نفع بأصلها إنه جواد كريم.
شيخ الإسلام بن تيمية:
هو العالم العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية ولد في حران في العاشر من ربيع الأول سنة 661 هـ ثم تحولت عائلته إلى دمشق فكانت موطن إقامته.
وقد كان - رحمه الله - عالمًا كبيرًا، وعلمًا منيرًا، ومجاهدًا شهيرًا، جاهد في الله بعقله وفكره وعلمه وجسمه، وكان قوي الحجة لا يصمد أحد لمحاجته، ولا تأخذه في الله لومة لائم إذا بان له الحق أن يقول به، ومن ثم حصلت له محن من ذوي السلطان والجاه فحبس مرارًا، وتوفي محبوسًا في قلعة دمشق في 20 من شوال 728 هـ.
العقيدة الواسطية:
كتاب مختصر جامع لخلاصة عقيدة أهل السنة والجماعة من أسماء الله وصفاته وأمر الإيمان بالله واليوم الآخر وما يتصل بذلك من طريقة أهل السنة العملية.
وسبب تأليفها أن بعض قضاة واسط شكوا إلى شيخ الإسلام ما كان عليه الناس من بدع وضلال، وطلبوا منه أن يكتب عقيدة مختصرة تبين طريقة أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته وغير ذلك مما
(4/259)
سيذكر في تلك العقيدة؛ ولذلك سميت العقيدة الواسطية.
أهل السنة والجماعة:
هم من كان على مثل ما عليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه اعتقادًا وقولًا، وسموا بذلك لتمسكهم بالسُّنة ولاجتماعهم عليها.
اعتقاد أهل السنة والجماعة:
هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.
فالإيمان بالله يتضمن الإيمان بوجوده، وبربوبيته، وبألوهيته، وبأسمائه وصفاته.
والإيمان بالملائكة يتضمن الإيمان بوجودهم، والإيمان باسم من علم اسمه كجبريل، والإيمان بصفة من علم وصفه كجبريل أيضًا، والإيمان بأعمالهم ووظائفهم، مثل عمل جبريل ينزل بالوحي، ومالك خازن النار.
والإيمان بالكتب يتضمن تصديق كونها من عند الله، وتصديق ما أخبرت به، والإيمان بأسماء ما علم منها كالتوراة وما لم يعلم فيؤمن به إجمالًا، والتزام أحكامها إذا لم تنسخ.
والإيمان بالرسل يتضمن الإيمان بأنهم صادقون في رسالتهم، وبأسماء من علمت أسماؤه منهم وما لم يعلم فيؤمن به إجمالًا وتصديق ما أخبروا به، والتزام أحكام شرائعهم غير المنسوخة والشرائع السابقة كلها منسوخة بشريعة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والإيمان باليوم الآخر يتضمن الإيمان بكل ما أخبر به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مما يكون بعد الموت.
والإيمان بالقدر يتضمن الإيمان بأن كل شيء واقع بقضاء الله وقدره.
(4/260)
طريقة أهل السنة في أسماء الله وصفاته:
طريقتهم إثبات ما أثبته الله لنفسه في كتابه وعلى لسان رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل. التحريف:
التحريف لغة: التغيير، واصطلاحًا: تغيير لفظ النص أو معناه.
مثال تغيير اللفظ: تغيير قوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} من رفع الجلالة إلى نصبها ليكون التكليم من موسى لا من الله.
ومثال تغيير المعنى: تغيير معنى استواء الله على عرشه من العلو والاستقرار إلى الاستيلاء والملك لينتفي عنه معنى الاستواء الحقيقي.
التعطيل:
التعطيل لغة: الترك والتخلية، واصطلاحًا: إنكار ما يجب لله من الأسماء والصفات، إما كليًا كتعطيل الجهمية، وإما جزئيًا كتعطيل الأشعرية الذين لم يثبتوا من صفات الله إلا سبع صفات. مجموعة في قوله:
حي عليم قدير والكلام له ... إرادة وكذاك السمع والبصر
التكييف والتمثيل والفرق بينهما:
التكييف إثبات كيفية الصفة كأن يقول: استواء الله على عرشه كيفيته كذا وكذا، والتمثيل إثبات مماثل للشيء كأن يقول: يد الله مثل يد الإنسان.
والفرق بينهما أن التمثيل ذكر الصفة مقيدة بمماثل والتكييف ذكرها غير مقيدة به.
(4/261)
حكم هذه الأربعة المتقدمة:
كلها حرام ومنها ما هو كفر أو شرك، ومن ثم كان أهل السنة والجماعة متبرئين من جميعها.
والواجب إجراؤها على ظاهرها، وإثبات حقيقتها لله على الوجه اللائق به والعلة في ذلك:
1 - أن صرفها عن ظاهرها مخالف لطريقة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه.
2- أن صرفها إلى المجاز قول على الله بلا علم وهو حرام.
أسماء الله وصفاته توقيفية
وهل هي من المحكم أو من المتشابه؟
أسماء الله وصفاته توقيفية. والتوقيفي ما توقف إثباته أو نفيه على الكتاب والسنة بحيث لا يجوز إثباته ولا نفيه إلا بدليل منهما، فليس للعقل في ذلك مجال لأنه شيء وراء ذلك.
وأسماء الله وصفاته من المحكم في معناها لأن معناها معلوم، ومن المتشابه في حقيقتها لأن حقائقها لا يعلمها إلا الله.
أسماء الله تعالى غير محصورة:
أسماء الله غير محصورة بعدد معين لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الدعاء المأثور:
«أسألك اللهم بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك» .
وما استأثر الله بعلمه فلا سبيل إلى حصره والإحاطة به.
والجمع بين هذا وبين قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن لله تسعة وتسعين اسمًا من أحصاها دخل الجنة» أن معنى هذا الحديث أن من أسماء الله تسعة وتسعين اختصت بأن من أحصاها دخل الجنة فلا ينافي أن يكون له أسماء أخرى غيرها ونظير ذلك أن تقول:عندي
(4/262)
خمسون درعًا أعددتها للجهاد فلا ينافي أن يكون عندك دروع أخرى. ومعنى إحصاء أسماء الله أن يعرف لفظها ومعناها ويتعبد لله بمقتضاها.
كيف يتم الإيمان بأسماء الله؟
إذا كان الاسم متعديًا فتمام الإيمان به إثبات الاسم وإثبات الصفة التي تضمنها وإثبات الأثر الذي يترتب عليه مثل: الرحيم فتثبت الاسم وهو الرحيم والصفة وهي الرحمة والأثر وهو أنه سبحانه يرحم بهذه الرحمة.
وإن كان الاسم لازمًا فتمام الإيمان به إثباته وإثبات الصفة التي تضمنها مثل: الحي تثبت الاسم وهو الحي والصفة وهي الحياة.
أقسام الصفات باعتبار الثبوت وعدمه:
تنقسم إلى قسمين:
ثبوتية وهي التي أثبتها الله لنفسه كالحياة والعلم، وسلبية وهي التي نفاها الله عن نفسه كالإعياء والظلم.
والصفة السلبية يجب الإيمان بما دلت عليه من نفي وإثبات ضده فقوله تعالى: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} يجب الإيمان بانتفاء الظلم عن الله وثبوت ضده وهو العدل الذي لا ظلم فيه.
أقسام صفات الله باعتبار الدوام والحدوث:
تنقسم إلى قسمين: صفات دائمة لم يزل ولا يزال متصفًا بها كالعلم والقدرة وتسمى صفات ذاتية، وصفات تتعلق بالمشيئة إن شاء فعلها، وإن شاء لم يفعلها كنزوله إلى السماء الدنيا وتسمى صفات فعلية.
وربما تكون الصفة ذاتية فعلية باعتبارين كالكلام فإنه بالنظر إلى أصله صفة ذاتية؛ لأن الله لم يزل ولا يزال متكلمًا.
وباعتبار آحاده وأفراده التي يتكلم بها شيئًا فشيئًا صفة فعلية لأنه يتعلق بمشيئته.
(4/263)
الالحاد:
الإلحاد لغة: الميل، واصطلاحًا: الميل عما يجب اعتقاده أو عمله.
ويكون في أسماء الله لقوله تعالى: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} ويكون في آيات الله لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} وأنواع الإلحاد في أسماء الله أربعة:
1 - أن ينكر شيئًا منها، أو مما تضمنته من الصفات كما فعل الجهمية.
2 - أن يسمي الله بما لم يسم به نفسه كما سماه النصارى أبًا.
3 - أن يعتقد دلالتها على مشابهة الله لخلقه كما فعل المشبهة.
4 - أن يشتق منها أسماء للأصنام كاشتقاق المشركين العزى من العزيز.
الإلحاد في آيات الله نوعان:
1 - الإلحاد في الآيات الكونية التي هي المخلوقات وهو إنكار انفراد الله بها بأن يعتقد أن أحدًا انفرد بها أو ببعضها دونه وأن معه مشاركًا في الخلق أو معينًا.
2 - الإلحاد في الآيات الشرعية التي هي الوحي النازل على الأنبياء وهو تحريفها أو تكذيبها أو مخالفتها.
طريقة القرآن والسنة في صفات الله من حيث الإجمال والتفصيل:
طريقة القرآن والسنة هي الإجمال في النفي والتفصيل في الإثبات غالبًا؛ لأن الإجمال في النفي أكمل وأعم في التنزيه من التفصيل، والتفصيل في الإثبات أبلغ وأكثر من المدح في الإجمال؛ ولذلك تجد الصفات الثبوتية كثيرة
(4/264)
في الكتاب والسنة كالسميع البصير، والعليم القدير، والغفور الرحيم.. الخ.
أما الصفات السلبية فهي قليلة مثل نفي الظلم، والتعب، والغفلة والولادة، والمماثل، والند، والمكافئ.
سورة الإخلاص:
هي {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} وسميت به؛ لأن الله أخلصها لنفسه ولم يذكر فيها إلا ما يتعلق بأسمائه وصفاته؛ ولأنها تخلص قارئها من الشرك والتعطيل، وسبب نزولها أن المشركين قالوا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انسب لنا ربك من أي شيء هو.
وكانت تعدل ثلث القرآن لأنه يتضمن الإخبار عن الله والإخبار عن مخلوقاته والأحكام وهي الأوامر والنواهي، وسورة الإخلاص تضمنت النوع الأول وهو الإخبار عن الله.
وفيها من أسماء الله: الله، الأحد، الصمد، فالله هو المألوه المعبود حبًا وتعظيمًا، والأحد هو المنفرد عن كل شريك ومماثل، والصمد الكامل في صفاته الذي افتقرت إليه جميع مخلوقاته وفيها من صفات الله ما تضمنته الأسماء السابقة:
1 - الألوهية.
2 - الأحدية.
3 - الصمدية.
4 - نفي الولد منه لأنه غني عن الولد ولا مماثل له.
5 - نفي أن يكون مولودًا لأنه خالق كل شيء وهو الأول الذي ليس قبله شيء.
(4/265)
6 - نفي المكافئ له وهو المماثل له في الصفات لأن الله ليس كمثله شيء لكمال صفاته.
آية الكرسي:
آية الكرسي هي قوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} .
وسميت آية الكرسي لذكر الكرسي فيها وهي أعظم آية في كتاب الله من قرأها في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح، وتضمنت من أسماء الله " الله " وتقدم معناه و" الحي " و" القيوم " و" العلي" و"العظيم".
فالحي: ذو الحياة الكاملة المتضمنة لأكمل الصفات التي لم تسبق بعدم ولا يلحقها زوال.
والقيوم: هو القائم بنفسه القائم على غيره فهو الغني عن كل أحد وكل أحد محتاج إليه.
والعلي: هو العالي بذاته فوق كل شيء العالي بصفاته كمالًا فلا يلحقه عيب ولا نقص.
والعظيم: ذو العظمة وهي الجلال والكبرياء، وتضمنت من صفات الله خمس صفات تضمنتها الأسماء السابقة:
7 - انفراد الله بالألوهية.
(4/266)
8 - نفي النوم والسنة وهي النعاس عنه لكمال حياته وقيوميته.
9 - انفراده بالملك الشامل لكل شيء له ما في السماوات وما في الأرض.
10 - كمال عظمته وسلطانه حيث لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه.
11 - كمال علمه وشموله لكل شيء {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} وهو الحاضر والمستقبل {وَمَا خَلْفَهُمْ} وهو الماضي.
12 - المشيئة.
13 - كمال قدرته بعظم مخلوقاته {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} 14 - كمال علمه وقدرته وحفظه ورحمته من قوله: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} أي لا يثقله ولا يعجزه.
الكرسي:
الكرسي موضع قدمي الرحمن سبحانه وتعالى وعظمته كما جاء في الحديث. «ما السماوات السبع والأرضون السبع بالنسبة إلى الكرسي إلا كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض، وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة» .
وهذا يدل على عظمة الخالق سبحانه وتعالى والكرسي غير العرش؛ لأن الكرسي موضع القدمين والعرش هو الذي استوى عليه الله؛ ولأن الأحاديث دلت على المغايرة بينهما.
معنى قوله تعالى:
{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (:.
هذه الأسماء الأربعة فسرها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن " الأول " الذي ليس قبله شيء " والآخر " الذي ليس بعده شيء و" الظاهر" الذي ليس فوقه شيء و" الباطن " الذي ليس دونه شيء.
(4/267)
وقوله: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي محيط علمه بكل شيء جملة وتفصيلًا.
علم الله:
العلم إدراك الشيء على حقيقته - وعلم الله تعالى كامل محيط بكل شيء جملة وتفصيلًا فمن أدلة العلم الجملي قوله تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ومن أدلة العلم التفصيلي قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} ومن أدلة علم الله بأحوال خلقه قوله تعالى: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} .
مفاتح الغيب:
مفاتح الغيب خزائنه أو مفاتيحه وهي المذكورة في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} فالخبير هو العليم ببواطن الأمور.
(4/268)
القدرة:
القدرة: هي التمكن من الفعل بلا عجز، وقدرة الله شاملة كل شيء، ودليلها قوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
القوة:
القوة: هي التمكن من الفعل بلا ضعف، ودليلها قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} والمتين الشديد القوة. والفرق بينها وبين القدرة أنها أخص من القدرة من وجه وأعم من وجه، فهي بالنسبة للقادر ذي الشعور أخص؛ لأنها قدرة وزيادة وهي بالنسبة لعموم مكانها أعم لأنها يوصف بها ذو الشعور وغيره، فيقال للحديد مثلًا: قوي ولا يقال له: قادر.
الحكمة ومعنى الحكيم:
الحكمة: هي وضع الأشياء في مواضعها على وجه متقن، ودليل اتصاف الله بها قوله تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} وللحكيم معنيان:
أحدهما: أن يكون بمعنى ذي الحكمة فلا يأمر بشيء، ولا يخلق شيئًا إلا لحكمة، ولا ينهى عن شيء إلا لحكمة، والثاني: أن يكون بمعنى الحاكم الذي يحكم بما أراد ولا معقب لحكمه.
أنواع حكمة الله:
حكمة الله نوعان: شرعية وكونية. فالشرعية محلها الشرع وهو ما جاءت به الرسل من الوحي، فكله في غاية الإتقان،والحكمة الكونية محلها الكون
(4/269)
أي: مخلوقات الله، فكل ما خلقه الله فهو في غاية الإتقان والمصلحة.
أنواع حُكْم الله:
حُكم الله نوعان: كوني وشرعي، فالكوني ما يقضي به الله تقديرًا وخلقًا ودليله قوله تعالى: عن أحد إخوة يوسف: {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي} .
والشرعي ما يقضي به الله شرعًا ودليله قوله تعالى: {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} .
الرزق:
الرزق إعطاء المرزوق ما ينفعه ودليله قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ} {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} وهو نوعان: عام، وخاص.
فالعام ما يقوم به البدن من طعام وغيره وهو شامل لكل مخلوق.
والخاص ما يصلح به القلب من الإيمان والعلم والعمل الصالح.
مشيئة الله:
مشيئة الله هي إرادته الكونية، وهي عامة لكل شيء من أفعاله وأفعال عباده والدليل قوله تعالى في أفعال الله {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} والدليل في أفعال العباد قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ} .
(4/270)
إرادة الله وأقسامها:
إرادة الله صفة من صفاته وتنقسم إلى قسمين:
كونية وهي التي بمعنى المشيئة، وشرعية وهي التي بمعنى المحبة فدليل الكونية قوله تعالى {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} ودليل الشرعية قوله تعالى {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ}
الفرق بين الإرادة الكونية والشرعية:
الفرق بينهما أن الكونية لا بد فيها من وقوع المراد، وقد يكون المراد فيها محبوبًا إلى الله، وقد يكون غير محبوب، وأما الشرعية فلا يلزم فيها وقوع المراد ولا يكون المراد فيها إلا محبوبًا لله.
محبة الله:
محبة الله صفة من صفاته الفعلية، ودليلها قوله تعالى {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} وقوله تعالى: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} والود خالص المحبة، ولا يجوز تفسير المحبة بالثواب لأنه مخالف لظاهر اللفظ وإجماع السلف وليس عليه دليل.
المغفرة والرحمة:
الدليل على ثبوت صفة المغفرة والرحمة لله قوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} .
(4/271)
والمغفرة ستر الذنب والتجاوز عنه والرحمة صفة تقتضي الإحسان والإنعام وتنقسم إلى قسمين: عامة وخاصة. فالعامة هي الشاملة لكل أحد والدليل قوله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} .
والخاصة التي تختص بالمؤمنين ودليلها قوله تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} ولا يصح تفسير الرحمة بالإحسان لأنه مخالف لظاهر اللفظ وإجماع السلف ولا دليل عليه.
الرضا والغضب والكراهة والمقت والأسف:
الرضا صفة من صفات الله مقتضاها محبة المرضيّ عنه والإحسان إليه ودليلها قوله تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} . والغضب صفة من صفات الله مقتضاها كراهية المغضوب عليه والانتقام منه وقريب منها صفة السخط ودليل اتصاف الله بها قوله تعالى: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} والكراهية صفة من صفات الله الفعلية مقتضاها إبعاد المكروه ومعاداته والدليل عليها قوله تعالى: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ} .
والمقت أشد البغض، والبغض قريب من معنى الكراهية. ودليل المقت
(4/272)
قوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} والأسف له معنيان أحدهما:
الغضب وهذا جائز على الله والدليل قوله تعالى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} أي أغضبونا.
والثاني: الحزن وهذا لا يجوز على الله، ولا يصح أن يوصف به لأن الحزن صفة نقص والله منزه عن النقص.
ولا يجوز تفسير الرضا بالثواب، والغضب بالانتقام، والكراهية والمقت بالعقوبة، لأنه مخالف لظاهر اللفظ وإجماع السلف وليس عليه دليل.
المجيء والإتيان:
المجيء والإتيان من صفات الله الفعلية وهما ثابتتان لله على الوجه اللائق به ودليلهما قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} وقوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} ولا يصح تفسيرهما بمجيء أو إتيان أمره لأنه مخالف لظاهر اللفظ وإجماع السلف ولا دليل عليه.
والمراد بقوله تعالى: {أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} .
طلوع الشمس من مغربها الذي به تنقطع التوبة.
ووجه ذكر المؤلف من أدلة مجيء الله قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا} مع أنه ليس في الآية ذكر المجيء:
(4/273)
أن تشقق السماء بالغمام وتنزيل الملائكة إنما يكونان عند مجيء الله للقضاء بين عباده فيكون من باب الاستدلال بأحد الأمرين على الآخر لما بينهما من التلازم.
الوجه:
الوجه صفة من صفات الله الذاتية الثابتة له حقيقة على الوجه اللائق به، ودليله قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} والجلال العظمة والإكرام إعطاء الطائعين ما أعدّ لهم من الكرامة.
ولا يجوز تفسير الوجه بالثواب لأنه مخالف لظاهر اللفظ وإجماع السلف وليس عليه دليل.
اليد:
إن يدي الله من صفاته الذاتية الثابتة له حقيقة على الوجه اللائق به يبسطهما كيف يشاء ويقبض بهما ما شاء، ودليلهما قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} . ولا يجوز تفسير اليدين بالقوة لأنه مخالف لظاهر اللفظ وإجماع السلف وليس عليه دليل. وفي السياق ما يمنعه وهو التثنية لأن القوة لا يوصف الله بها بصيغة التثنية.
العين:
إن عيني الله من صفاته الذاتية الثابتة له حقيقة على الوجه اللائق به
(4/274)
ينظر بهما ويبصر ويرى ودليل ذلك قوله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} .
ولا يجوز تفسيرهما بالعلم ولا بالرؤية مع نفي العين لأنه مخالف لظاهر اللفظ وإجماع السلف على ثبوت العين لله ولا دليل عليه.
والجواب عن تفسير بعض السلف قوله تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} أي بمرأى منا أنهم لم يريدوا بذلك نفي حقيقة معنى العين وإنما فسروها باللازم مع إثباتهم العين، وهذا لا بأس به بخلاف الذين يفسرون العين بالرؤية وينكرون حقيقة العين.
الوجوه التي وردت عليها صفتا اليدين والعينين:
وردت هاتان الصفتان على ثلاثة أوجه إفراد وتثنية وجمع، فمثال الإفراد قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} وقوله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} ومثال التثنية قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} .
وفي الحديث الشريف «إذا قام أحدكم يصلي فإنه بين عيني الرحمن» .
ومثال الجمع قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} . وقوله تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} .
والجمع بين هذه الوجوه أنه لا منافاة بين الإفراد والتثنية؛ لأن المفرد المضاف يعم فإذا قيل: يد الله وعين الله شمل كل ما ثبت له من يد أو عين
(4/275)
وأما التثنية والجمع فلا منافاة بينهما أيضًا؛ لأن المقصود بالجمع هنا التعظيم وهو لا ينافي التثنية.
السمع:
سمع الله تعالى من الصفات الثابتة له حقيقة على الوجه اللائق به ودليله قوله تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} .
وينقسم إلى قسمين:
الأول: بمعنى الإجابة وهذا من الصفات الفعلية ومثاله قوله تعالى: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} .
الثاني: بمعنى إدراك المسموع وهذا من الصفات الذاتية، ومثاله قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} . وهذا القسم قد يراد به مع إدراك المسموع النصر والتأييد كقوله تعالى لموسى وهارون: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} . وقد يراد به أيضًا التهديد كقوله تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} . وقوله تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى} .
الرؤية:
الرؤية صفة من صفات الله الذاتية الثابتة له حقيقة على الوجه اللائق به، وتنقسم إلى قسمين:
(4/276)
أحدهما: بمعنى البصر وهو إدراك المرئيات والمبصرات، ودليلها قوله تعالى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} . وقوله تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .
الثاني: الرؤية بمعنى العلم، ودليلها قوله تعالى: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا} .أي نعلمه.
والقسم الأول من الرؤية قد يراد به مع إدراك المرئي النصر والتأييد مثل قوله تعالى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} . وقد يراد به أيضًا التهديد كقوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} . المكر والكيد والمحال:
معنى هذه الكلمات الثلاث متقارب وهو: التوصل بالأسباب الخفية إلى الانتقام من العدو.
ولا يجوز وصف الله بها وصفًا مطلقًا بل مقيدًا لأنها عند الإطلاق تحتمل المدح والذم والله سبحانه منزه عن الوصف بما يحتمل الذم.
وأما عند التقييد بأن يوصف الله بها على وجه تكون مدحًا لا يحتمل الذم دالًّا على علمه وقدرته وقوته فهذا جائز لأنه يدل على كمال الله.
والدليل على اتصاف الله تعالى: بهذه الصفات قوله تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} . وقوله تعالى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا} .
(4/277)
وقوله تعالى: {وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} .
يكون المكر والكيد والمِحال صفة مدح:
إذا كان لإثبات الحق وإبطال الباطل ويكون ذمًا فيما عدا ذلك.
ولا يجوز أن يشتق من هذه الصفات أسماء لله فيقال:الماكر والكائد؛ لأن أسماء الله الحسنى لا تحتمل الذم بأي وجه، وهذه عند إطلاقها تحتمل الذم كما سبق.
العفو:
العفو هو المتجاوز عن سيئات الغير وهو من أسماء الله، ودليله قوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} .
من نصوص الصفات السلبية:
سبق لك أن صفات الله ثبوتية وهي التي أثبتها الله لنفسه، وسلبية وهي التي نفاها عن نفسه وأن كل صفة سلبية فإنها تتضمن صفة مدح ثبوتية، وقد ذكر المؤلف - رحمه الله - آيات كثيرة في الصفات السلبية ومنها {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} . {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} . {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} .
والسمي والكفؤ والند معناها متقارب وهو المثيل والنظير، ونفي ذلك من الله يتضمن انتفاء ما ذكر وإثبات كماله حيث لا يماثله أحد لكماله، ومنها قوله تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا}
(4/278)
فأمر الله بحمده لانتفاء صفات النقص عنه وهي اتخاذ الولد ونفيه عن الله يتضمن مع انتفائه كمال غناه، ونفي الشريك عن الله يتضمن كمال وحدانيته وقدرته.
ونفي الولي عنه من الذل يتضمن كمال عزه وقهره ونفي الولي هنا لا ينافي إثباته في موضع آخر كقوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} . وقوله: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} . لأن الولي المنفي هو الولي الذي سببه الذل، أما الولي بمعنى الولاية فليس بمنفي. ومنها قوله تعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} والتسبيح تنزيه الله عن النقص والعيب وذلك يتضمن كمال صفاته.
وفي الآية دليل على أن كل شيء يسبح الله تسبيحًا حقيقيًّا بلسان الحال والمقال إلا الكافر فإن تسبيحه بلسان الحال فقط؛ لأنه يصف الله بلسانه بما لا يليق به.
ومنها قوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} . ففي هذه الآية نفي اتخاذ الولد، ونفي تعدد الآلهة، وتنزيه الله عما وصفه به المشركون وهذا يتضمن مع انتفاء ما ذكر كمال الله وانفراده بما هو من خصائصه وقد برهن الله على امتناع تعدد الآلهة ببرهانين عقليين:
أحدهما: أنه لو كان معه إله لانفرد عن الله بما خلق، ومن المعلوم عقلًا وحسًّا أن نظام العالم واحد لا يتصادم ولا يتناقض وهو دليل على أن مدبره واحد.
(4/279)
والثاني: أنه لو كان مع الله إله آخر لطلب أن يكون العلو له وحينئذ إما أن يغلب أحدهما الآخر فيكون هو الإله، وإما أن يعجز كل منهما عن الآخر فلا يستحق واحد منهما أن يكون إلهًا لأنه عاجز.
ومنها قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} . وهذه المحرمات الخمس أجمعت عليها الشرائع وفيها إثبات الحكمة وإثبات الغيرة له لأنه حرم هذه الأمور، ومعنى قوله: {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} : أي ما لم ينزل به دليلًا وهو قيد لبيان الواقع لأنه لا يمكن أن يقوم الدليل على الإشراك بالله، وعلى هذا فلا مفهوم له وفي هذه الآية ردٌّ على المشبهة في قوله: {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} . لأن المشبهة أشركوا به حيث شبهوه بخلقه وفيها رد على المعطلة في قوله تعالى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} . لأن المعطلة قالوا على الله ما لا يعلمون حيث نفوا صفاته عنه بحجج باطلة وهذا هو وجه مناسبة ذكر هذه الآية في العقيدة.
العلو وأقسامه:
العلو: الارتفاع
وأقسام العلو ثلاثة:
1 - علو الذات ومعناه أن الله بذاته فوق خلقه.
2 - علو القدر ومعناه أن الله ذو قدر عظيم لا يساويه فيه أحد من خلقه ولا يعتريه معه نقص.
3 - علو القهر ومعناه أن الله تعالى: قهر جميع المخلوقات فلا يخرج أحد منهم عن سلطانه وقهره.
(4/280)
وأدلة العلو الكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة.
فمن الكتاب قوله تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} .
ومن السنة قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ربنا الله الذي في السماء» وإقراره الجارية حين سألها أين الله قالت: في السماء فلم ينكر عليها بل قال:أعتقها فإنها مؤمنة.
وفي حجة الوداع أشهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربه على إقرار أمته بالبلاغ «وجعل يرفع أصبعه إلى السماء ثم ينكبها إلى الناس وهو يقول: " اللهم اشهد ".»
وأما الإجماع على علو الله فهو معلوم بين السلف ولم يعلم أن أحدًا منهم قال بخلافه، وأما العقل فلأن العلو صفة كمال والله سبحانه متصف بكل كمال فوجب ثبوت العلو له.
وأما الفطرة فإن كل إنسان مفطور على الإيمان بعلو الله ولذلك إذا دعا ربه وقال:يا رب لم ينصرف قلبه إلا إلى السماء.
والذي أنكره الجهمية من أقسام العلو علو الذات ونرد عليهم بما سبق في الأدلة.
استواء الله على عرشه:
معنى استواء الله على عرشه علوه واستقراره عليه، وقد جاء عن السلف تفسيره بالعلو والاستقرار والصعود والارتفاع، والصعود والارتفاع يرجعان إلى معنى العلو.
ودليله قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وقد ذكر في سبعة مواضع من القرآن.
ونرد على من فسره بالاستيلاء والملك بما يأتي:
1 - أنه خلاف ظاهر النص.
(4/281)
2 - أنه خلاف ما فسره به السلف.
3 - أنه يلزم عليه لوازم باطلة.
والعرش لغة: سرير الملك الخاص به، وشرعًا: ما استوى الله عليه، وهو من أعظم مخلوقات الله، بل أعظم ما علمنا منها، فقد جاء عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «ما السماوات السبع والأرضون السبع بالنسبة إلى الكرسي إلا كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض، وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة» .
المعية:
المعية لغة: المقارنة والمصاحبة.
ودليل ثبوت المعية لله قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} .
وتنقسم إلى قسمين: عامة وخاصة:
فالعامة هي الشاملة لجميع الخلق كقوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} . ومقتضى المعية هنا الإحاطة بالخلق علمًا وقدرة وسلطانًا وتدبيرًا.
والخاصة هي التي تختص بالرسل وأتباعهم كقوله تعالى: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} . وقوله {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} .
وهذه المعية تقتضي مع الإحاطة النصر والتأييد. والجمع بين المعية والعلو من وجهين:
أولًا: أنه لا منافاة بينهما في الواقع، فقد يجتمعان في شيء واحد، ولذلك تقول: ما زلنا نسير والقمر معنا مع أنه في السماء.
(4/282)
ثانيًا: أنه لو فرض أن بينهما منافاة في حق المخلوق لم يلزم أن يكون بينهما منافاة في حق الخالق؛ لأنه ليس كمثله شيء وهو بكل شيء محيط.
ولا يصح تفسير معية الله بكونه معنا بذاته في المكان:
أولًا: لأنه مستحيل على الله حيث ينافي علوه، وعلوه من صفاته الذاتية التي لا ينفك عنها.
ثانيًا: أنه خلاف ما فسرها به السلف.
ثالثًا: أنه يلزم على هذا التفسير لوازم باطلة.
معنى كون الله في السماء:
معناه على السماء أي فوقها، ففي بمعنى على كما جاءت بهذا المعنى في قوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ} أي عليها، ويجوز أن تكون في للظرفية، والسماء على هذا بمعنى العلو، فيكون المعنى أن الله في العلو، وقد جاءت السماء بمعنى العلو في قوله تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} .
ولا يصح أن تكون في للظرفية إذا كان المراد بالسماء الأجرام المحسوسة؛ لأن ذلك يوهم أن السماء تحيط بالله، وهذا معنى باطل؛ لأن الله أعظم من أن يحيط به شيء من مخلوقاته.
قول أهل السنة في كلام الله تعالى:
قول أهل السنة في كلام الله أنه صفة من صفاته لم يزل ولا يزال يتكلم بكلام حقيقي يليق به يتعلق بمشيئته بحروف وأصوات مسموعة لا يماثل أصوات المخلوقين يتكلم بما شاء ومتى شاء وكيف شاء، وأدلتهم على ذلك كثيرة منها:
(4/283)
قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} . وقوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} . والدليل على أنه بصوت قوله تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} .
ومن السنة قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يقول الله تعالى: «يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك، فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثًا إلى النار، فيقول: يا ربي وما بعث النار» .. ".
ودليلهم على أنه بحروف قوله تعالى: {وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} . فمقول القول هنا حروف.
ودليلهم على أنه بمشيئة قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} . فالتكليم حصل بعد مجيء موسى عليه الصلاة والسلام.
وكلام الله تعالى صفة ذات باعتبار أصله، فإن الله لم يزل ولا يزال قادرًا على الكلام متكلمًا، وصفة فعل باعتبار آحاده؛ لأن آحاد الكلام تتعلق بمشيئته متى شاء تكلم.
وأكثر المؤلف من ذكر أدلة الكلام؛ لأنه أكثر ما حصلت فيه الخصومة ووقعت به الفتنة من مسائل الصفات.
قول أهل السنة في القرآن الكريم:
يقولون: القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، منه بدأ، وإليه يعود، فدليلهم على أنه كلام الله قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ}
(4/284)
يعني القرآن.
ودليلهم على أنه منزل قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} . وقوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} .
والدليل على أنه غير مخلوق قوله تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} فجعل الأمر غير الخلق، والقرآن من الأمر لقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} . ولأن القرآن من كلام الله وكلام الله صفة من صفاته. وصفات الله غير مخلوقة.
ومعنى منه بدأ أن الله تكلم به ابتداء، ومعنى إليه يعود أنه يرجع إلى الله في آخر الزمان حينما يرفع من المصاحف والصدور، وتكريمًا له إذا اتخذه الناس هزوًا ولهوًا.
السنة:
السنة لغة: الطريقة، وسنة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما شرعه من قوله أو فعله أو إقراره خبرًا كانت أو طلبًا، والإيمان بما جاء فيها واجب كالإيمان بما جاء في القرآن، سواء في أسماء الله وصفاته أو في غيرها؛ لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} . وقوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} . حديث النزول:
حديث النزول هو قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني»
(4/285)
«فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له» .
ومعنى النزول عند أهل السنة أنه ينزل بنفسه سبحانه نزولًا حقيقيًّا يليق بجلاله ولا يعلم كيفيته إلا هو.
ومعناه عند أهل التأويل نزول أمره، ونرد عليهم بما يأتي:
1 - أنه خلاف ظاهر النص وإجماع السلف.
2 - أن أمر الله ينزل كل وقت، وليس خاصًّا بثلث الليل الآخر.
3 - أن الأمر لا يمكن أن يقول: من يدعوني فأستجيب له.. إلخ.
ونزوله سبحانه إلى السماء الدنيا لا ينافي علوه؛ لأن الله سبحانه ليس كمثله شيء، ولا يقاس نزوله بنزول مخلوقاته.
الفرح والضحك والعَجَب:
الفرح ثابت لله لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لله أشد فرحًا بتوبة عبده من أحدكم براحلته» .. " الحديث.
وهو فرح حقيقي يليق بالله، ولا يصح تفسيره بالثواب؛ لأنه مخالف لظاهر اللفظ وإجماع السلف.
والضحك ثابت لله تعالى لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخلان الجنة» .
وفسره أهل السنة والجماعة بأنه ضحك حقيقي يليق بالله. وفسره أهل التأويل بالثواب، ونرد عليهم بأنه مخالف لظاهر اللفظ وإجماع السلف، وصورتها أن كافرًا يقتل مسلمًا في الجهاد، ثم يسلم ذلك الكافر ويموت على الإسلام، فيدخلان الجنة كلاهما.
والعجب ثابت لله تعالى لقول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عجب ربنا من قنوط عباده وقرب غيره» الحديث.
والممتنع على الله من العَجَب هو ما كان سببه الجهل بطرق المتعجب
(4/286)
منه لأن الله لا يخفى عليه شيء، أما العَجَب الذي سببه خروج الشيء عن نظائره أو عما ينبغي أن يكون عليه فإن ذلك ثابت لله.
وقد فسره أهل السنة بأنه عَجَب حقيقي يليق بالله، وفسره أهل التأويل بثواب الله أو عقوبته ويرد عليهم بأنه خلاف ظاهر النص وإجماع السلف.
القدم:
القدم ثابتة لله تعالى: لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «جهنم يُلقى فيها وهي تقول: هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها رجله وفي رواية عليها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط قط» .
وفسر أهل السنة الرِجْل والقدم بأنها حقيقية على الوجه اللائق بالله.
وفسر أهل التأويل الرجل بالطائفة أي الطائفة الذين يضعهم الله في النار والقدم بالمقدمين إلى النار وأرد عليهم بأن تفسيرهم مخالف لظاهر اللفظ وإجماع السلف وليس عليه دليل.
حديث رقية المريض وحديث الجارية التي سألها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أين الله قالت:في السماء:
في حديث رقبة المريض من صفات الله إثبات ربوبية الله وإثبات علوه في السماء وتقدس أسمائه عن كل نقص، وأن له الأمر في السماء والأرض، فحكمه فيهما نافذ وإثبات الرحمة وإثبات الشفاء لله وهو رفع المرض.
وفي حديث الجارية من صفات الله: إثبات المكان لله وأنه في السماء.
الدليل على أن الله قبل وجه المصلي:
الدليل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا قام أحدكم في الصلاة فلا يبصق قبل وجهه فإن الله قبل وجهه» .. " الحديث.
(4/287)
وهذه المقابلة ثابتة لله حقيقة على الوجه اللائق به، ولا تنافي علوه والجمع بينهما من وجهين:
1 - أن الاجتماع بينهما ممكن في حق المخلوق كما لو كانت الشمس عند طلوعها فإنها قِبل وجه من استقبل المشرق وهي في السماء، فإذا جاز اجتماعهما في المخلوق فالخالق أولى.
2 - أنه لو لم يمكن اجتماعهما في حق المخلوق فلا يلزم أن يمتنع في حق الخالق لأن الله ليس كمثله شيء.
الدليل على قرب الله:
الدليل قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} . وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنما تدعون سميعًا قريبًا» .
وهو قرب حقيقي يليق بالله تعالى ولا ينافي علوه لأنه تعالى: بكل شيء محيط ولا يقاس بخلقه لأنه ليس كمثله شيء.
الدليل على أن الله يُرى:
الدليل على رؤية الله قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} . فقد فسر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزيادة بالنظر إلى وجه الله وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تُغلَبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا» .
والتشبيه في هذا الحديث للرؤية بالرؤية لا للمرئي بالمرئي لأن كاف التشبيه داخلة على فعل الرؤية المؤول بالمصدر ولأن الله ليس كمثله شيء
(4/288)
والمراد بالصلاتين المذكورتين الفجر والعصر.
ورؤية الله في الآخرة لا في الدنيا لقوله تعالى لموسى حين سأله رؤيته: {لَنْ تَرَانِي} . وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا» .
ورؤية الله لا تشمل الكفار لقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} .
وفسر أهل السنة هذه الرؤية برؤية العين للأدلة الآتية:
أولًا: أن الله أضاف النظر إلى الوجه الذي هو محل العين فقال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} .
ثانيا: أنه جاء في الحديث «إنكم سترون ربكم عيانًا» . وفسره أهل التأويل برؤية الثواب أي إنكم سترون ثواب ربكم.
وأرد عليهم بأنه خلاف ظاهر اللفظ وإجماع السلف وليس عليه دليل.
مذهب الجهمية والأشعرية والكلاَّبية في كلام الله:
مذهب الجهمية في كلام الله أنه خلق من مخلوقاته لا صفة من صفاته وإنما أضافه الله إليه إضافة تشريف وتكريم كما أضاف إليه البيت والناقة في قوله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} . وقوله: {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ} .
ومذهب الأشعرية أن الكلام صفة من صفاته لكنه هو المعنى القائم بالنفس وهذه الحروف مخلوقة لتعبر عنه والكلابية يقولون كقول الأشعرية
(4/289)
إلا أنهم سموا الألفاظ حكاية لا عبارة. وعلى مذهبيهما ليس كلام الله بحرف وصوت وإنما هو المعنى القائم بنفسه.
هذه الأمة وسط بين الأمم:
الدليل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} . وقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} .
ومثال كونها وسطًا في العبادات رفع الله عن هذه الأمة من الحرج والمشقة اللذين كانا على من قبلهما فهذه الأمة إذا عدموا الماء تيمموا وصلّوا في أي مكان بينما الأمم الأخرى لا يصلون حتى يجدوا الماء ولا يصلون إلا في أمكنة معينة.
ومثال كونها وسطًا في غير العبادات القصاص في القتل كان مفروضًا على اليهود وممنوعًا عند النصارى ومخيرًا بينه وبين العفو أو الدية عند هذه الأمة.
فِرَق هذه الأمة:
فِرَق هذه الأمة ثلاث وسبعون فرقة والناجي منها من كان على مثل ما عليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه وكلها في النار إلا الناجية لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة. قالوا: من هي يا رسول الله قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي» .
(4/290)
الأصول التي كان أهل السنة وسطًا فيها بين فرق الأمة
هي خمسة:
الأول: أسماء الله وصفاته. أهل السنة وسط فيها بين أهل التعطيل وأهل التمثيل لأن أهل التعطيل ينكرون صفات الله وأهل التمثيل يثبتونها مع التمثيل وأهل السنة يثبتونها بلا تمثيل.
الثاني: القضاء والقدر الذي عبر عنه المؤلف بأفعال الله فأهل السنة وسط فيه بين الجبرية والقدرية لأن الجبرية يثبتون قضاء الله في أفعال العبد ويقولون: إنه مجبر لا قدرة له ولا اختيار والقدرية ينكرون قضاء الله في أفعال العبد ويقولون: إن العبد قادر مختار لا يتعلق فعله بقضاء الله وأهل السنة يثبتون قضاء الله في أفعال العبد ويقولون: إن له قدرة واختيارًا أودعهما الله فيه متعلقين بقضاء الله.
الثالث: الوعيد بالعذاب فأهل السنة وسط فيه بين الوعيدية وبين المرجئة لأن الوعيدية يقولون: فاعل الكبيرة مخلد في النار والمرجئة يقولون: لا يدخل النار ولا يستحق ذلك وأهل السنة يقولون: مستحق لدخول النار دون الخلود فيها.
الرابع: أسماء الإيمان والدين: فأهل السنة وسط فيه بين المرجئة من جهة وبين المعتزلة والحرورية من جهة لأن المرجئة يسمون فاعل الكبيرة مؤمنًا كامل الإيمان والمعتزلة والحرورية يسمونه غير مؤمن لكن المعتزلة يقولون:لا مؤمن ولا كافر في منزلة بين منزلتين والحرورية يقولون: إنه كافر وأهل السنة يقولون: إنه مؤمن ناقص الإيمان أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته.
الخامس: أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأهل السنة وسط فيه بين الروافض
(4/291)
والخوارج لأن الروافض بالغوا في حب آل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغلوا فيهم حتى أنزلوهم فوق منزلتهم والخوارج يبغضونهم ويسبونهم وأهل السنة يحبون الصحابة جميعهم وينزلون كل واحد منزلته التي يستحقها من غير غلو ولا تقصير.
طوائف المبتدعة الذين أشار إليهم المؤلف في هذه الأصول السابقة:
أشار المؤلف إلى طوائف من أهل البدع:
أولًا: الجهمية: وهم أتباع الجهم بن صفوان الذي أخذ التعطيل عن الجعد بن درهم وقتل في خراسان سنة 128 هـ. ومذهبهم في الصفات إنكار صفات الله وغلاتهم ينكرون حتى الأسماء ولذلك سموا بالمعطلة ومذهبهم في أفعال العباد أن العبد مجبور على عمله ليس له قدرة ولا اختيار ومن ثم سموا جبرية. ومذهبهم في الوعيد وأسماء الإيمان والدين أن فاعل الكبيرة مؤمن كامل الإيمان ولا يدخل النار ولذلك سموا مرجئة.
ثانيًا: المعتزلة وهم أتباع واصل بن عطاء الذي اعتزل مجلس الحسن البصري حين كان الحسن يقرر أن فاعل الكبيرة مؤمن ناقص الإيمان فاعتزله واصل وجعل يقرر أن فاعل الكبيرة في منزلة بين منزلتين ومذهبهم في الصفات إنكار صفات الله كالجهمية ومذهبهم في أفعال العباد أن العبد مستقل بفعله ويفعل بإرادة وقدرة مستقلًا عن قضاء الله وقدره عكس الجهمية ولذلك سموا قدرية ومذهبهم في الوعيد أن فاعل الكبيرة مخلد في النار عكس الجهمية القائلين بأنه لا يدخل النار ولذلك سموا الوعيدية ومذهبهم في أسماء الإيمان والدين أن فاعل الكبيرة في منزلة بين منزلتين ليس مؤمنًا ولا كافرًا عكس الجهمية القائلين بأنه مؤمن كامل الإيمان ولذلك سموا أصحاب المنزلة بين منزلتين.
(4/292)
ثالثًا: الخوارج: سموا بذلك لخروجهم على إمام المسلمين ويقال لهم: الحرورية نسبة إلى حروراء موضع بالعراق قرب الكوفة خرجوا فيه على علي بن أبي طالب كانوا من أشد الناس تدينًا في الظاهر حتى قال فيهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه: «يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرًا لمن قتلهم إلى يوم القيامة» .
ومذهبهم في الوعيد أن فاعل الكبيرة مخلد في النار كافر يحل دمه وماله ومن ثم استباحوا الخروج على الأئمة إذا فسقوا.
رابعًا: الروافض: ويقال لهم: الشيعة الذين يغلون في آل بيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويفضلون علي بن أبي طالب رضي الله عنه على جميع الصحابة ومنهم من يفضله على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومنهم من يجعله ربا وسموا شيعة لتشيعهم لآل البيت وسموا روافض لأنهم رفضوا زيد بن علي بن الحسين بن على بن أبي طالب حين سألوه عن أبي بكر وعمر فأثنى عليهما وقال: هما وزيرا جدي يعني النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فانصرفوا عنه ورفضوه.
اليوم الآخر:
اليوم الآخر يوم القيامة ويدخل في الإيمان به كل ما أخبر به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مما يكون بعد الموت كفتنة القبر وعذابه ونعيمه وغير ذلك والإيمان به واجب ومنزلته من الدين أنه أحد أركان الإيمان الستة.
فتنة القبر:
فتنة القبر سؤال الملكين الميت عن ربه ودينه ونبيه فيثبّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت فيقول المؤمن: ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد وأما
(4/293)
المرتاب أو الكافر فيقول: هاه هاه لا أدري سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته.
والفتنة عامة لكل ميت إلا الشهيد ومن مات مرابطًا في سبيل الله وكذلك الرسل لا يُسألون لأنهم المسؤول عنهم.
واختلف في غير المكلف الصغير فقيل يسأل لعموم الأدلة وقيل:لا لعدم تكليفه. واسم الملكين منكر ونكير.
قول أهل السنة في نعيم القبر وعذابه:
قولهم فيه أنه حق ثابت لقوله تعالى: في آل فرعون {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} . وقوله في المؤمنين: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} .
«ولقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الكافر حين يُسأل في قبره: " فيجيب فينادي مناد من السماء أن كذب عبدي فأفرشوه من النار وافتحوا له بابًا إلى النار. وقوله في المؤمن إذا سئل في قبره: فأجاب فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة وافتحوا له بابًا من الجنة» .
والعذاب أو النعيم على الروح فقط وقد يتصل بالبدن أحيانًا والعذاب على الكافرين مستمر أما على المؤمنين فبحسب ذنوبهم والنعيم للمؤمنين خاصة والظاهر استمراره.
التوفيق بين ما ثبت من توسيع القبر للمؤمن وتضييقه على الكافر مع أنه لو فتح لوجد بحاله:
التوفيق من وجهين:
الأول: أن ما ثبت في الكتاب والسنة وجب تصديقة والإيمان به سواء أدركته عقولنا
(4/294)
وحواسنا أم لا لأنه لا يعارض الشرع بالعقل لا سيما في الأمور التي لا مجال للعقل فيها.
الثاني: أن أحوال القبر من أمور الآخرة التي اقتضت حكمة الله أن يحجبها عن حواس الخلق وعقولهم امتحانًا لهم ولا يجوز أن تقاس بأحوال الدنيا لتباين ما بين الدنيا والآخرة.
القيامة:
القيامة صغرى كالموت فكل من مات فقد قامت قيامته وكبرى وهي المقصودة هنا وهي قيام الناس بعد البعث للحساب والجزاء وسميت بذلك لقيام الناس فيها وقيام العدل وقيام الأشهاد.
ودليل ثبوتها الكتاب والسنة والإجماع.
فمن أدلة الكتاب قوله تعالى: {أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} .
ومن أدلة السنة قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنكم تحشرون حفاة عراة غرلًا» .
وأما الإجماع فقد أجمع المسلمون وجميع أهل الأديان السماوية على إثبات يوم القيامة فمن أنكره أو شك فيه فهو كافر.
وللقيامة علامات تسمى الأشراط كخروج الدجال ويأجوج ومأجوج وطلوع الشمس من مغربها وجعلت لها هذه الأشراط لأنها يوم عظيم وهام فكان لها تلك المقدمات.
حشر الناس:
يحشر الناس يوم القيامة حفاة غير منتعلين عراة غير مكتسين غرلًا غير
(4/295)
مختونين لقوله تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} . وقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنكم تحشرون حفاة عراة غرلًا» .
الأشياء التي ذكر المؤلف أنها تكون يوم القيامة:
أولًا: دنو الشمس من الخلق بقدر ميل أو ميلين فيعرق الناس بقدر أعمالهم منهم من يصل عرقه إلى كعبيه ومنهم من يلجمه ومنهم من يكون بين ذلك ومن الناس من يَسْلَم من الشمس فيظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله مثل الشاب إذا نشأ في طاعة الله والرجل المعلق قلبه بالمساجد.
ثانيًا: الموازين جمع ميزان يضعها الله لتوزن فيها أعمال العباد {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} . والميزان حقيقي له كفتان خلافًا للمعتزلة القائلين بأنه العدل لا ميزان حقيقي.
وقد ذكر في القرآن مجموعًا وفي السنة مجموعًا ومفردًا فقيل: إنه ميزان واحد وجمع باعتبار الموزون وقيل:متعدد بحسب الأمم أو الأفراد وأفرد باعتبار الجنس.
ثالثًا: نشر الدواوين أي فتحها وتوزيعها وهي صحائف الأعمال التي كتبتها الملائكة على الإنسان قال الله تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} . فآخذ كتابه بيمينه وهو المؤمن وآخذ كتابه بشماله أو من وراء ظهره لقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ}
(4/296)
{فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى سَعِيرًا} . وفي آية أخرى {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ} . والجمع بين هذه والتي قبلها إما باختلاف الناس وإما بكون الذي يأخذها بشماله تخلع يده من وراء ظهره.
رابعًا: الحساب وهو محاسبة الخلائق على أعمالهم وكيفيته بالنسبة للمؤمن أن الله يخلو به فيقرره بذنوبه ثم يقول: قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم وبالنسبة للكافر أنه يوقف على عمله ويقرر به ثم ينادى على رؤوس الأشهاد. {هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} . وأول ما يحاسب عليه العبد من حقوق الله الصلاة وأول ما يقضى بين الناس في الدماء.
ومن الناس من يدخل الجنة بلا حساب وهم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون ومنهم عكّاشة بن محصن.
خامسًا: الحوض المورود للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عرصات القيامة أي مواقفها يرده المؤمنون من أمته ومن شرب منه لم يظمأ أبدًا طوله شهر وعرضه شهر وآنيته كنجوم السماء وماؤه أشد بياضًا من اللبن وأحلى من العسل وأطيب من رائحة المسك.
ولكل نبي حوض يرده المؤمنون من أمته لكن الحوض الأعظم حوض النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد أنكر المعتزلة وجود الحوض وقولهم مردود بما تواترت به الأحاديث من إثباته.
سادسًا: الصراط وهو الجسر المنصوب على جهنم أدق من الشعر وأحد من السيف عليه كلاليب تخطف الناس بأعمالهم يمرون عليه على قدر
(4/297)
أعمالهم كالطرف، وكالبرق، وكالريح، وكأجاويد الخيل والركاب. ومنهم من يخطف فيلقى في النار فيعذب بقدر عمله فإذا عبروا الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض قصاصًا تزول به الأحقاد والبغضاء ليدخلوا الجنة إخوانًا متصافين.
سابعًا: الشفاعة: وهي التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة ولا تكون إلا بإذن الله للشافع، ورضاه عن المشفوع له، وتنقسم إلى قسمين خاصة بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعامة له ولغيره من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
فالخاصة بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر المؤلف منها نوعين:
الأول: الشفاعة العظمى حيث يشفع في أهل الموقف إلى الله ليقضي بينهم بعد أن تطلب الشفاعة من آدم فنوح فإبراهيم فموسى فعيسى عليهم الصلاة والسلام فلا يشفعون حتى تنتهي إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيشفع فيقبل الله منه وهذا من المقام المحمود الذي وعده الله بقوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} .
الثاني: شفاعته في أهل الجنة أن يدخلوها. وأما العامة فذكر المؤلف منها نوعين:
الأول: الشفاعة فيمن استحق النار من المؤمنين أن لا يدخلها.
الثاني: الشفاعة فيمن دخلها منهم أن يخرج منها وهذان النوعان ينكرهما المعتزلة والخوارج بناء على قولهم: إن فاعل الكبيرة مخلد في النار فلا تنفعه الشفاعة.
ويخرج الله أقوامًا من النار بغير شفاعة بل بفضله ورحمته.
ويبقى في الجنة فضل عمن دخلها من أهل الدنيا فينشئ الله لها أقوامًا فيدخلهم الجنة.
(4/298)
الإيمان بالقضاء والقدر:
الإيمان بالقضاء والقدر واجب ومنزلته من الدين أنه أحد أركان الإيمان الستة لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره. ومعنى الإيمان بالقضاء والقدر أن تؤمن بأن كل ما في الكون من موجودات ومعدومات عامة وخاصة فإنه بمشيئة الله وخلقه وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك.
درجات الإيمان بالقضاء والقدر:
للإيمان بالقدر درجتان كل درجة تتضمن شيئين:
فالدرجة الأولى تتضمن العلم والكتابة ودليلها قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} .
فالعلم أن تؤمن بعلم الله المحيط بكل شيء جملة وتفصيلًا.
والكتابة هي أن تؤمن بأن الله كتب مقادير كل شيء في اللوح المحفوظ بحسب علمه وهي أنواع.
النوع الأول: الكتابة في اللوح المحفوظ قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ودليلها قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله لما خلق القلم قال له: اكتب قال:رب وماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة» .
النوع الثاني: الكتابة العمرية وهي ما يكتبه الملك الموكل بالأرحام على الجنين في بطن أمه إذا تم له أربعة أشهر فيؤمر الملك بكتب رزقه وأجله
(4/299)
وعمله وشقي أم سعيد ودليله حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في الصحيحين. وهذه الدرجة ينكرها غلاة القدرية قديمًا.
وأما الدرجة الثانية فتتضمن شيئين المشيئة والخلق ودليل المشيئة قوله تعالى: {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} . ودليل الخلق قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} .
فأما المشيئة فهي أن تؤمن بمشيئة الله العامة وأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن سواء في ذلك أفعاله أو أفعال الخلق كما قال تعالى: في أفعاله: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} . وقال في أفعال خلقه {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} .
وأما الخلق فهو أن تؤمن أن الله خالق كل شيء سواء من فعله أو أفعال عباده.
دليل الخلق في فعله قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} .
ودليل الخلق في أفعال العباد قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} .
ووجه كونه خالقًا لأفعال العباد أن فعل العبد لا يصدر إلا عن إرادة وقدرة وخالق إرادة العبد وقدرته هو الله.
(4/300)
مشيئة العبد وقدرته:
للعبد مشيئة وقدرة لقوله تعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} . وقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} . فأثبت الله للعبد مشيئة واستطاعة وهي القدرة إلا أنهما تابعتان لمشيئة الله تعالى لقوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} .
من ضل في هذه الدرجة وهي المشيئة والخلق:
ضل فيها طائفتان: الأولى: القدرية حيث زعموا أن العبد مستقل بإرادته وقدرته ليس لله في فعله مشيئة ولا خلق.
الثانية: الجبرية حيث زعموا أن العبد مجبور على فعله ليس له فيه إرادة ولا قدرة.
والرد على الطائفة الأولى القدرية بقوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} . وقوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} .
والرد على الطائفة الثانية الجبرية بقوله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} . {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} . فأثبت للإنسان مشيئة وقدرة.
الاعتماد على القضاء السابق وترك العمل:
لا يجوز الاعتماد على القضاء السابق وترك العمل لأن «الصحابة رضي الله عنهم قالوا: يا رسول الله أفلا نتكل على الكتاب الأول وندع»
(4/301)
«العمل، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اعملوا فكل ميسر لما خلق له أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة» وتلا قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} .
مجوس هذه الأمة:
مجوس هذه الأمة القدرية الذين يقولون: إن العبد مستقل بفعله.
سموا بذلك لأنهم يشبهون المجوس القائلين بأن للعالم خالقين النور يخلق الخير والظلمة تخلق الشر وكذلك القدرية قالوا: إن للحوداث خالقين فالحوادث التي من فعل العبد يخلقها العبد والتي من فعل الله يخلقها الله.
الجبرية يخرجون عن أحكام الله حِكَمَها ومصالحها فما وجه ذلك:
وجه ذلك أن الجبرية لا يفرقون بين فعل العبد اختيارًا وفعله بدون اختيار كلاهما عندهم مجبر عليه كما سبق وإذا كان كذلك صار ثوابه على الطاعة وعقابه على المعصية لا حكمة له إذ الفعل جاء بدون اختياره وما كان كذلك فإن صاحبه لا يمدح عليه فيستحق الثواب ولا يذم عليه فيستحق العقاب.
الإيمان:
الإيمان لغة التصديق، واصطلاحًا: قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح فقول القلب تصديقه وإقراره وعمل القلب إرادته وتوكله ونحو ذلك من حركاته وقول اللسان نطقه وعمل الجوارح الفعل والترك.
(4/302)
والدليل على أن الإيمان يشمل ذلك كله قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته» .. إلخ. وهذا قول القلب. وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان» .
فقول: لا إله إلا الله قول اللسان وإماطة الأذى عن الطريق عمل الجوارح والحياء عمل القلب.
زيادة الإيمان ونقصانه:
الإيمان يزيد وينقص لقوله تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} . وقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في النساء: «ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن» .
وسبب زيادته الطاعة وهي امتثال أمر الله واجتناب نهيه وسبب نقصه معصية الله بالخروج عن طاعته.
الكبيرة:
الكبيرة كل ذنب قرن بعقوبة خاصة كالزنى والسرقة وعقوق الوالدين والغش ومحبة السوء للمسلمين وغير ذلك وحكم فاعلها من حيث الاسم أنه مؤمن ناقص الإيمان أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته وليس خارجًا من الإيمان لقوله تعالى: في القاتل عمدًا: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} . فجعل الله المقتول أخًا للقاتل ولو كان خارجًا من الإيمان ما كان المقتول أخًا له ولقوله تعالى في الطائفتين المقتتلتين: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} . إلى قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}
(4/303)
فجعل الله الطائفتين المقتتلتين مع فعلهما الكبيرة إخوة للطائفة الثالثة المصلحة بينهما.
وحكم فاعل الكبيرة من حيث الجزاء أنه مستحق للجزاء المرتب عليها ولا يخلد في النار وأمره إلى الله إن شاء عذبه بما يستحق وإن شاء غفر له لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} .
الذي خالف أهل السنة في فاعل الكبيرة:
خالفهم في ذلك ثلاث طوائف:
1 - المرجئة: قالوا: إن فاعل الكبيرة مؤمن كامل الإيمان ولا عقاب عليه.
2 - الخوارج: قالوا:إنه كافر مخلد في النار.
3 - المعتزلة: قالوا:لا مؤمن ولا كافر في منزلة بين منزلتين وهو مخلد في النار.
هل الفاسق يدخل في اسم الإيمان.
الفاسق لا يدخل في اسم الإيمان المطلق أي الكامل كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} . وإنما يدخل في مطلق الإيمان أي في أقل ما يقع عليه الاسم كما في قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} . فالمؤمن هنا يشمل الفاسق وغيره.
الصحابي وموقف أهل السنة من الصحابة:
الصحابي من اجتمع بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو رآه ولو لحظة مؤمنًا به ومات على
(4/304)
ذلك وموقف أهل السنة من الصحابة محبتهم والثناء عليهم بما يستحقون وسلامة قلوبهم من البغضاء والحقد عليهم وسلامة ألسنتهم من قول ما فيه نقص أو شتم للصحابة كما وصفهم الله بقوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} . وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» .
اختلاف مراتب الصحابة رضي الله عنهم:
تختلف مراتب الصحابة لقوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} .
وسبب اختلاف مراتبهم قوة الإيمان والعلم والعمل الصالح والسبق إلى الإسلام وأفضلهم جنسًا المهاجرون ثم الأنصار لأن الله قدم المهاجرين عليهم فقال تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} .
ولأنهم جمعوا بين الهجرة من ديارهم وأموالهم والنصرة.
وأفضل الصحابة عينًا أبو بكر ثم عمر بالإجماع ثم عثمان ثم علي على رأي جمهور أهل السنة الذي استقر عليه أمرهم بعدما وقع الخلاف في المفاضلة بين علي وعثمان فقدم قوم عثمان وسكتوا وقدم قوم عليا ثم عثمان وتوقف قوم في التفضيل.
(4/305)
ولا يضلل من قال بأن عليا أفضل من عثمان لأنه قد قال به البعض من أهل السنة.
الخلفاء الأربعة:
الخلفاء الأربعة هم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وترتيبهم في الخلافة أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي.
ويضلل من خالف في خلافة واحد منهم أو خالف في ترتيبهم لأنه مخالف لإجماع الصحابة وإجماع أهل السنة.
وثبتت خلافة أبي بكر بإشارة من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليها حيث قدمه في الصلاة وفي إمارة الحج وبكونه أفضل الصحابة فكان أحقهم بالخلافة.
وثبتت خلافة عمر بعهد أبي بكر إليه بها وبكونه أفضل الصحابة بعد أبي بكر وثبتت خلافة عثمان باتفاق أهل الشورى عليه.
وثبتت خلافة علي بمبايعة أهل الحَل والعقد له وبكونه أفضل الصحابة بعد عثمان.
أهل بدر:
أهل بدر هم الذين قاتلوا في غزوة بدر من المسلمين وعددهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلًا والفضيلة التي حصلت لهم أن الله اطلع عليهم وقال: «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» ومعناه أن ما يحصل منهم من المعاصي يغفره الله بسبب الحسنة الكبيرة التي نالوها في غزوة بدر ويتضمن هذا بشارة بأنه لن يرتد أحد منهم عن الإسلام.
أهل بيعة الرضوان:
أهل بيعة الرضوان هم الذين بايعوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عام الحديبية على قتال قريش وألا يفروا حتى الموت وسببها ما أشيع من أن عثمان قتلته قريش
(4/306)
حين أرسله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليهم للمفاوضة. وسميت بيعة الرضوان لأن الله رضي عنهم بها وعددهم نحو ألف وأربعمائة، والفضيلة التي حصلت لهم هي:
1 - رضى الله عنهم لقوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} .
2- سلامتهم من دخول النار لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبر أنه لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة.
آل بيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
آل بيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زوجاته وكل من تحرم عليه الزكاة من أقاربه المؤمنين كآل علي وجعفر والعباس ونحوهم والواجب نحوهم المحبة والتوقير والاحترام لإيمانهم بالله ولقرابتهم من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولتنفيذ الوصية التي عهد بها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث قال: " «أذكركم الله في أهل بيتي» ولأن ذلك من كمال الإيمان لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «والله لا يؤمنون حتى يحبوكم لله ولقرابتي» .
والذين ضلوا في أهل البيت طائفتان:
الأولى: الروافض حيث غلوا فيهم وأنزلوهم فوق منزلتهم حتى ادعى بعضهم أن عليا إله.
الثانية: النواصب وهم الخوارج الذين نصبوا العداوة لآل البيت وآذوهم بالقول وبالفعل.
زوجات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
زوجات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل نساء الأمة لمكانتهن عند رسول
(4/307)
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولأنهن أمهات المؤمنين ولأنهن زوجات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الآخرة ولطهارتهن من الرجس ولذلك يكفر من قذف واحدة منهن لأن ذلك يستلزم نقص النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتدنيس فراشه وأفضلهن خديجة وعائشة وكل واحدة منهما أفضل من الأخرى من وجه، فمزية خديجة أنها أول من آمن بالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنها عاضدته على أمره في أول رسالته وأنها أم أكثر أولاده بل كلهم إلا إبراهيم وأن لها منزلة عالية عنده فكان يذكرها دائمًا ولم يتزوج عليها حتى ماتت.
ومزية عائشة: حسن عشرتها مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في آخر أمره وأن الله برأها في كتابه مما رماها به أهل الإفك وأنزل فيها آيات تتلى إلى يوم القيامة وأنها حفظت من هدي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسنته ما لم تحفظه امرأة سواها وأنها نشرت العلم الكثير بين الأمة وأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يتزوج بكرًا سواها فكانت تربيتها الزوجية على يده وأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال فيها: «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» .
موقف أهل السنة في الخلاف والفتن التي حصلت بين الصحابة رضي الله عنهم:
موقفهم في ذلك أن ما جرى بينهم فإنه باجتهاد من الطرفين وليس عن سوء قصد والمجتهد إن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر واحد وليس ما جرى بينهم صادرًا عن إرادة علو ولا فساد في الأرض لأن حال الصحابة رضي الله عنهم تأبى ذلك فإنهم أوفر الناس عقولًا وأقواهم إيمانًا وأشدهم طلبًا للحق كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خير الناس قرني» وعلى هذا فطريق السلامة أن نسكت عن الخوض فيما جرى بينهم ونرد أمرهم إلى الله لأن ذلك أسلم من وقوع عداوة أو حقد على أحدهم.
(4/308)
موقف أهل السنة من الآثار الواردة في الصحابة:
موقفهم من الآثار الواردة في مساوئ بعضهم على قسمين:
الأول صحيح: لكنهم معذورون فيه لأنه واقع عن اجتهاد والمجتهد إذا أخطأ له أجر وإن أصاب فله أجران.
الثاني غير صحيح: إما لكونه كذبًا من أصله وإما لكونه زيد فيه أو نقص أو غير عن وجهه وهذا القسم لا يقدح فيهم لأنه مردود.
عصمة الصحابة رضي الله عنهم:
الصحابة ليسوا معصومين من الذنوب فإنهم يمكن أن تقع منهم المعصية كما تقع من غيرهم لكنهم أقرب الناس إلى المغفرة للأسباب الآتية:
1 - تحقيق الإيمان والعمل الصالح.
2 - السبق إلى الإسلام والفضيلة وقد ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنهم خير القرون.
3 - الأعمال الجليلة التي لم تحصل لغيرهم كغزوة بدر وبيعة الرضوان.
4 - التوبة من الذنب فإن التوبة تجب ما قبلها.
5 - الحسنات التي تمحو السيئات.
6 - البلاء وهي المكاره التي تصيب الإنسان فإن البلاء يكفر الذنوب.
7 - دعاء المؤمنين لهم.
8 - شفاعة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي هم أحق الناس بها.
وعلي هذا فالذي ينكَر من فعل بعضهم قليل منغمر في محاسنهم لأنهم خير الخلق بعد الأنبياء وصفوة هذه الأمة التي هي خير الأمم ما كان ولا يكون مثلهم.
(4/309)
الشهادة بالجنة أو النار:
الشهادة بالجنة على نوعين: عامة وخاصة.
فالعامة: أن نشهد لعموم المؤمنين بالجنة دون شخص بعينه ودليلها قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} .
والخاصة أن نشهد لشخص معين بالجنة وهذا يتوقف على دليل من الكتاب والسنة فمن شهد له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شهدنا له مثل: العشرة وثابت بن قيس بن شماس وعكاشة بن محصن وغيرهم من الصحابة.
وكذلك الشهادة بالنار على نوعين: عامة وخاصة.
فالعامة أن نشهد على عموم الكفار بأنهم في النار ودليلها قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا} .
والخاصة أن نشهد لشخص معين بالنار وهذا يتوقف على دليل من الكتاب والسنة مثل أبي لهب وامرأته ومثل أبي طالب وعمرو بن لحي الخزاعي.
قول أهل السنة والجماعة في كرامات الأولياء:
قول أهل السنة في كرامات الأولياء أنها ثابتة واقعة ودليلهم في ذلك ما ذكره الله في القرآن عن أصحاب الكهف وغيرهم وما يشاهده الناس في كل زمان ومكان.
وخالف فيها المعتزلة محتجين بأن إثباتها يوجب اشتباه الولي بالنبي والساحر بالولي والرد عليهم بأمرين:
(4/310)
1 - أن الكرامة ثابتة بالشرع والمشاهدة فإنكارها مكابرة.
2 -أن ما ادعوه من اشتباه الولي بالنبي غير صحيح لأنه لا نبي بعد محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولأن النبي يقول إنه نبي فيؤيده الله بالمعجزة والولي لا يقول: إنه نبي.
وكذلك ما ادعوه من اشتباه الساحر بالولي غير صحيح لأن الولي مؤمن تقي تأتيه الكرامة من الله بدون عمل لها ولا يمكن معارضتها وأما الساحر فكافر منحرف يحصل له أثر سحره بما يتعاطاه من أسبابه ويمكن أن يعارض بسحر آخر.
الولي ومعنى الكرامة:
الولي: كل مؤمن تقي أي قائم بطاعة الله على الوجه المطلوب شرعًا.
والكرامة أمر خارق للعادة يظهره الله تعالى على يد ولي من أوليائه تكريمًا له أو نصرة لدين الله.
وفوائدها:
1 -بيان قدرة الله.
2 - نصرة الدين أو تكريم الولي.
3 - زيادة الإيمان والتثبيت للولي الذي ظهرت على يده وغيره.
4 - أنها من البشرى لذلك الولي.
5 - أنها معجزة للرسول الذي تمسك الولي بدينه لأنها كالشهادة للولي بأنه على حق.
والفرق بينها وبين المعجزة أنها تحصل للولي والمعجزة للنبي والكرامة نوعان:
1 - في العلوم والمكاشفات: بأن يحصل للولي من العلم ما لا يحصل لغيره أو يكشف له من الأمور الغائبة عنه ما لا يكشف لغيره كما حصل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين كشف له وهو يخطب في المدينة عن إحدى
(4/311)
السرايا المحصورة في العراق فقال لقائدها واسمه سارية بن زنيم: الجبل يا سارية فسمعه القائد فاعتصم بالجبل.
2 - في القدرة والتأثيرات: بأن يحصل للولي من القدرة والتأثيرات ما لا يحصل لغيره كما وقع للعلاء بن الحضرمي حين عبر البحر يمشي على متن الماء.
طريقة أهل السنة والجماعة في سيرتهم وعملهم:
طريقتهم في ذلك:
أولًا: اتباع آثار النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظاهرًا وباطنًا وآثار السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار امتثالًا لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي» .. " الحديث. والخلفاء الراشدون هم الذين خلفوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أمته في العلم والإيمان والدعوة إلى الحق وأولى الناس بهذا الوصف الخلفاء الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم.
ثانيًا: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ما توجبه الشريعة والمعروف ما عرف حسنه شرعًا والمنكر ما عرف قبحه شرعًا فما به أَمَر الشارع فهو معروف وما نهى عنه فهو منكر.
وللأمر بالمعروف شروط:
(ا) أن يكون المتولي لذلك عالمًا بالمعروف وبالمنكر.
(ب) أن لا يخاف ضررًا على نفسه.
(ج) أن لا يترتب على ذلك مفسدة أكبر.
ثالثًا: النصح لولاة الأمور وإقامة الحج والجهاد والجمع والأعياد معهم أبرارًا كانوا أو فجارًا والتزام السمع والطاعة لهم ما لم يأمروا بمعصية الله.
رابعًا: النصح لجميع الأمة وبث المحبة والألفة والتعاون بين المسلمين مطبقين في ذلك قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدٌّ بعضه»
(4/312)
«بعضًا» . وقوله: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر» .
خامسًا: الدعوة إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال كالصدق والبر والإحسان إلى الخلق والشكر عند النعم والصبر على البلاء وحسن الجوار والصحبة وغير ذلك من الأخلاق المحمودة شرعًا وعرفًا.
سادسًا: النهي عن مساوئ الأخلاق: كالكذب والعقوق والإساءة إلى الخلق والتسخط من القضاء والكفر بالنعمة والإساءة إلى الجيران والأصحاب وغير ذلك من الأخلاق المذمومة شرعًا أو عرفًا.
الأمور التي يزن بها أهل السنة والجماعة ما كان عليه الناس من العقائد والأعمال والأخلاق:
الأمور التي يزن بها ذلك هي الكتاب والسنة والإجماع. فالكتاب هو القرآن،والسنة قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفعله وإقراره، والإجماع هو اتفاق العلماء المجتهدين من هذه الأمة بعد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على حكم شرعي.
والإجماع الذي ينضبط ما كان عليه السلف الصالح إذ بعدهم كثر الاختلاف وانتشرت الأمة.
ولم يذكر المؤلف القياس لأن مرده إلى هذه الأصول الثلاثة.
الصديقون والشهداء والصالحون والأبدال:
الصديقون هم الصادقون باعتقادهم وقولهم وعملهم والمصدقون بالحق.
والشهداء هم الذين قتلوا في سبيل الله وقيل: العلماء.
والصالحون هم الذين صلحت قلوبهم وجوارحهم بما قاموا به من الأعمال الصالحة.
(4/313)
والأبدال هم الذين يخلف بعضهم بعضًا في نصر الدين والدفاع عنه كلما ذهب منهم واحد خلفه آخر بدله.
وكل هؤلاء الأصناف الأربعة موجودون في أهل السنة والجماعة.
الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة وما المراد بقيامها؟:
الطائفة المنصورة هم أهل السنة والجماعة الذين قال فيهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله" وفي رواية "حتى تقوم الساعة".
والمراد بقيام الساعة قرب قيامها بالفعل وإنما أولناه بذلك لأجل أن يصح الجمع بينه وبين حديث " إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء ".
وأهل السنة والجماعة هم خيار الخلق بعد الأنبياء فلا يمكن أن تدركهم الساعة.
فنسأل الله أن يجعلنا منهم وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا وأن يهب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
تم بحمد الله - تعالى - المجلد الرابع
ويليه بمشيئة الله - عز وجل - المجلد الخامس
(4/314)
شرح لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد
(5/9)
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله، وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فهذا تعليق مختصر على كتاب (لمعة الاعتقاد) الذي ألفه أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي المولود في شعبان سنة 541 هـ بقرية من أعمال نابلس، المتوفى يوم عيد الفطر سنة 620هـ بدمشق رحمه الله تعالى.
وهذا الكتاب جمع فيه مؤلفه زبدة العقيدة، ونظرا لأهمية الكتاب موضوعا، ومنهجا، وعدم وجود شرح له فقد عقدت العزم - مستعينا بالله مستلهما منه الصواب في القصد والعمل - على أن أضع عليه كلمات يسيرة تكشف غوامضه، وتبين موارده، وتبرز فوائده.
والله أرجو أن لا يكلني إلى نفسي طرفة عين، وأن يمدني بروح من عنده، وتوفيق، وأن يجعل عملي مباركا ونافعا إنه جواد كريم.
وقبل الدخول في صميم الكتاب أحب أن أقدم قواعد مهمة فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته.
القاعدة الأولى:
" في الواجب نحو نصوص الكتاب والسنة في أسماء الله وصفاته ": الواجب في نصوص الكتاب والسنة إبقاء دلالتها على ظاهرها من
(5/11)
غير تغيير؛ لأن الله أنزل القرآن بلسان عربي مبين، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يتكلم باللسان العربي، فوجب إبقاء دلالة كلام الله، وكلام رسوله على ما هي عليه في ذلك اللسان؛ ولأن تغييرها عن ظاهرها قول على الله بلا علم، وهو حرام لقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} .
مثال ذلك قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} فإن ظاهر الآية أن لله يدين حقيقيتين، فيجب إثبات ذلك له.
فإذا قال قائل: المراد بهما القوة.
قلنا له: هذا صرف للكلام عن ظاهره، فلا يجوز القول به؛ لأنه قول على الله بلا علم.
القاعدة الثانية:
في أسماء الله، وتحت هذه القاعدة فروع:
الفرع الأول: أسماء الله كلها حسنى، أي بالغة في الحسن غايته؛ لأنها متضمنة لصفات كاملة لا نقص فيها بوجه من الوجوه قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} .
مثال ذلك: " الرحمن " فهو اسم من أسماء الله تعالى، دال على صفة عظيمة هي الرحمة الواسعة. ومن ثم نعرف أنه ليس من أسماء الله: " الدهر" لأنه لا يتضمن معنى يبلغ غاية الحسن، فأما قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر» فمعناه: مالك الدهر المتصرف فيه،
(5/12)
بدليل قوله في الرواية الثانية عن الله تعالى: «بيدي الأمر أقلب الليل والنهار» .
الفرع الثاني: أسماء الله غير محصورة بعدد معين لقوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في الحديث المشهور: «أسألك اللهم بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك» ، وما استأثر الله به في علم الغيب عنده لا يمكن حصره ولا الإحاطة به.
والجمع بين هذا، وبين قوله في الحديث الصحيح: «إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة» : أن معنى هذا الحديث: أن من أسماء الله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة. وليس المراد حصر أسمائه تعالى بهذا العدد، ونظير هذا أن تقول: عندي مائة درهم أعددتها للصدقة. فلا ينافي أن يكون عندك دراهم أخرى أعددتها لغير الصدقة.
الفرع الثالث: أسماء الله لا تثبت بالعقل، وإنما تثبت بالشرع فهي توقيفية، يتوقف إثباتها على ما جاء عن الشرع فلا يزاد فيها ولا ينقص؛ لأن العقل لا يمكنه إدراك ما يستحقه تعالى من الأسماء فوجب الوقوف في ذلك على الشرع، ولأن تسميته بما لم يسم به نفسه، أو إنكار ما سمى به نفسه جناية في حقه تعالى فوجب سلوك الأدب في ذلك.
الفرع الرابع: كل اسم من أسماء الله فإنه يدل على ذات الله، وعلى الصفة التي تضمنها، وعلى الأثر المترتب عليه إن كان متعديا، ولا يتم الإيمان بالاسم إلا بإثبات ذلك كله.
مثال ذلك في غير المتعدي: " العظيم " فلا يتم الإيمان به حتى نؤمن بإثباته اسما من أسماء الله دالا على ذاته تعالى، وعلى ما تضمنه من الصفة وهي العظمة.
(5/13)
ومثال ذلك في المتعدي: " الرحمن " فلا يتم الإيمان به حتى نؤمن بإثباته اسما من أسماء الله دالا على ذاته تعالى، وعلى ما تضمنه من الصفة وهي الرحمة وعلى ما ترتب عليه من أثر وهو أنه يرحم من يشاء.
القاعدة الثالثة:
" في صفات الله " وتحتها فروع أيضا:
الفرع الأول: صفات الله كلها عليا، صفات كمال ومدح، ليس فيها نقص بوجه من الوجوه كالحياة، والعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والحكمة، والرحمة، والعلو، وغير ذلك لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} . ولأن الرب كامل فوجب كمال صفاته.
وإذا كانت الصفة نقصا لا كمال فيها فهي ممتنعة في حقه كالموت والجهل، والعجز، والصمم، والعمى، ونحو ذلك لأنه سبحانه عاقب الواصفين له بالنقص، ونزه نفسه عما يصفونه به من النقائص، ولأن الرب لا يمكن أن يكون ناقصا لمنافاة النقص للربوبية.
وإذا كانت الصفة كمالا من وجه، ونقصا من وجه لم تكن ثابتة لله، ولا ممتنعة عليه على سبيل الإطلاق بل لا بد من التفصيل فتثبت لله في الحال التي تكون كمالا، وتمتنع في الحال التي تكون نقصا كالمكر، والكيد، والخداع ونحوها فهذه الصفات تكون كمالا إذا كانت في مقابلة مثلها؛ لأنها تدل على أن فاعلها ليس بعاجز عن مقابلة عدوه بمثل فعله، وتكون نقصا في غير هذه الحال فتثبت لله في الحال الأولى دون الثانية قال الله تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} ، {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا}
(5/14)
{وَأَكِيدُ كَيْدًا} . {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} . إلى غير ذلك.
فإذا قيل: هل يوصف الله بالمكر مثلا؟
فلا تقل: نعم، ولا تقل: لا، ولكن قل: هو ماكر بمن يستحق ذلك والله أعلم.
الفرع الثاني: صفات الله تنقسم إلى قسمين:
ثبوتية، وسلبية:
فالثبوتية: ما أثبتها الله لنفسه كالحياة، والعلم، والقدرة، ويجب إثباتها لله على الوجه اللائق به؛ لأن الله أثبتها لنفسه وهو أعلم بصفاته.
والسلبية: هي التي نفاها الله عن نفسه كالظلم، فيجب نفيها عن الله لأن الله نفاها عن نفسه لكن يجب اعتقاد ثبوت ضدها لله على الوجه الأكمل؛ لأن النفي لا يكون كمالا حتى يتضمن ثبوتا.
مثال ذلك قوله تعالى: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} ، فيجب نفي الظلم عن الله مع اعتقاد ثبوت العدل لله على الوجه الأكمل.
الفرع الثالث: الصفات الثبوتية تنقسم إلى قسمين: ذاتية، وفعلية.
فالذاتية: هي التي لم يزل ولا يزال متصفا بها كالسمع والبصر.
والفعلية: هي التي تتعلق بمشيئته إن شاء فعلها، وإن شاء لم يفعلها كالاستواء على العرش، والمجيء.
وربما تكون الصفة ذاتية فعلية باعتبارين كالكلام فإنه باعتبار أصل
(5/15)
الصفة صفة ذاتية؛ لأن الله لم يزل ولا يزال متكلما وباعتبار آحاد الكلام صفة فعلية؛ لأن الكلام متعلق بمشيئته يتكلم بما شاء متى شاء.
الفرع الرابع: كل صفة من صفات الله فإنه يتوجه عليها ثلاثة أسئلة:
السؤال الأول: هل هي حقيقية؟ ولماذا؟
السؤال الثاني: هل يجوز تكييفها؟ ولماذا؟
السؤال الثالث: هل تماثل صفات المخلوقين؟ ولماذا؟
فجواب السؤال الأول: نعم حقيقية؛ لأن الأصل في الكلام الحقيقة فلا يعدل عنها إلا بدليل صحيح يمنع منها.
وجواب الثاني: لا يجوز تكييفها لقوله تعالى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} ، ولأن العقل لا يمكنه إدراك كيفية صفات الله.
وجواب الثالث: لا تماثل صفات المخلوقين لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، ولأن الله مستحق للكمال الذي لا غاية فوقه فلا يمكن أن يماثل المخلوق لأنه ناقص.
والفرق بين التمثيل والتكييف أن التمثيل ذكر كيفية الصفة مقيدة بمماثل، والتكييف ذكر كيفية الصفة غير مقيدة بمماثل.
مثال التمثيل: أن يقول القائل: يد الله كيد الإنسان.
ومثال التكييف: أن يتخيل ليد الله كيفية معينة لا مثيل لها في أيدي المخلوقين فلا يجوز هذا التخيل.
(5/16)
القاعدة الرابعة:
" فيما نرد به على المعطلة ".
المعطلة هم الذين ينكرون شيئا من أسماء الله، أو صفاته، ويحرفون النصوص عن ظاهرها، ويقال لهم: " المؤولة " والقاعدة العامة فيما نرد به عليهم أن نقول: إن قولهم خلاف ظاهر النصوص، وخلاف طريقة السلف، وليس عليه دليل صحيح، وربما يكون في بعض الصفات وجه رابع أو أكثر.
(5/17)
"لمعة الاعتقاد"
" اللمعة " تطلق في اللغة على معان منها: البلغة من العيش وهذا المعنى أنسب معنى لموضوع هذا الكتاب، فمعنى لمعة الاعتقاد هنا: البلغة من الاعتقاد الصحيح المطابق لمذهب السلف رضوان الله عليهم.
والاعتقاد: الحكم الذهني الجازم فإن طابق الواقع فصحيح وإلا ففاسد.
" ما تضمنته خطبة الكتاب "
تضمنت خطبة المؤلف في هذا الكتاب ما يأتي:
1 - البداءة بالبسملة، اقتداء بكتاب الله العظيم، واتباعا لسنة رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ومعنى "بسم الله الرحمن الرحيم": أي أفعل الشيء مستعينا ومتبركا بكل اسم من أسماء الله تعالى الموصوف بالرحمة الواسعة. ومعنى (الله) المألوه أي: المعبود حبا وتعظيما تألها وشوقا، و (الرحمن) ذو الرحمة الواسعة، و (الرحيم) الموصل رحمته من شاء من خلقه فالفرق بين الرحمن والرحيم أن الأول باعتبار كون الرحمة وصفا له، والثاني باعتبارها فعلا له يوصلها من شاء من خلقه.
2 - الثناء على الله بالحمد، والحمد: ذكر أوصاف المحمود الكاملة وأفعاله الحميدة مع المحبة له والتعظيم.
3 - أن الله محمود بكل لسان ومعبود بكل مكان أي مستحق وجائز أن يحمد بكل لغة ويعبد بكل بقعة.
4 - سعة علم الله بكونه لا يخلو من علمه مكان وكمال قدرته وإحاطته حيث لا يلهيه أمر عن أمر.
(5/18)
5 - عظمته وكبرياؤه وترفعه عن كل شبيه وند ومماثل لكمال صفاته من جميع الوجوه.
6 - تنزهه وتقدسه عن كل زوجة وولد وذلك لكمال غناه.
7 - تمام إرادته وسلطانه بنفوذ قضائه في جميع العباد فلا يمنعه قوة ملك ولا كثرة عدد ومال.
8 - عظمة الله فوق ما يتصور بحيث لا تستطيع العقول له تمثيلا ولا تتوهم القلوب له صورة؛ لأن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
9 - اختصاص الله بالأسماء الحسنى والصفات العلا.
10 - استواء الله على عرشه وهو علوه واستقراره عليه على الوجه اللائق به.
11 - عموم ملكه للسماوات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى.
12 - سعة علمه، وقوة قهره، وحكمه وأن الخلق لا يحيطون به علما لقصور إدراكهم عما يستحقه الرب العظيم من صفات الكمال والعظمة.
" تقسيم نصوص الصفات وطريقة الناس فيها "
تنقسم نصوص الكتاب والسنة الواردة في الصفات إلى قسمين واضح جلي، ومشكل خفي.
فالواضح: ما اتضح لفظه ومعناه، فيجب الإيمان به لفظا، وإثبات معناه حقا بلا رد ولا تأويل، ولا تشبيه ولا تمثيل؛ لأن الشرع ورد به فوجب الإيمان به، وتلقيه بالقبول والتسليم.
وأما المشكل: فهو ما لم يتضح معناه لإجمال في دلالته، أو قصر في فهم قارئه فيجب إثبات لفظه لورود الشرع به، والتوقف في معناه وترك التعرض له لأنه مشكل لا يمكن الحكم عليه، فنرد علمه إلى الله ورسوله.
وقد انقسمت طرق الناس في هذا المشكل إلى طريقين:
(5/19)
الطريقة الأول: طريقة الراسخين في العلم الذين آمنوا بالمحكم والمتشابه وقالوا: كل من عند ربنا وتركوا التعرض لما لا يمكنهم الوصول إلى معرفته والإحاطة به، تعظيما لله ورسوله وتأدبا مع النصوص الشرعية، وهم الذين أثنى الله عليهم بقوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} .
الطريقة الثانية: طريقة الزائغين الذين اتبعوا المتشابه طلبا للفتنة وصدًّا للناس عن دينهم وعن طريقة السلف الصالح، فحاولوا تأويل هذا المتشابه إلى ما يريدون لا إلى ما يريده الله ورسوله، وضربوا نصوص الكتاب والسنة بعضها ببعض، وحاولوا الطعن في دلالتها بالمعارضة والنقص ليشككوا المسلمين في دلالتها ويعموهم عن هدايتها، وهؤلاء هم الذين ذمهم الله بقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} .
" تحرير القول في النصوص من حيث الوضوح والإشكال "
إن الوضوح والإشكال في النصوص الشرعية أمر نسبي، يختلف فيه الناس بحسب العلم والفهم، فقد يكون مشكلا عند شخص ما هو واضح عند شخص آخر، والواجب عند الإشكال اتباع ما سبق من ترك التعرض له والتخبط في معناه، أما من حيث واقع النصوص الشرعية فليس فيها بحمد الله ما هو مشكل لا يعرف أحد من الناس معناه فيما يهمهم من أمر دينهم ودنياهم؛ لأن الله وصف القرآن بأنه نور مبين، وبيان للناس، وفرقان، وأنه أنزله تبيانا لكل شيء، وهدى ورحمة، وهذا يقتضي أن لا
(5/20)
يكون في النصوص ما هو مشكل بحسب الواقع بحيث لا يمكن أحدا من الأمة معرفة معناه.
" معنى الرد، والتأويل، والتشبيه، والتمثيل، وحكم كل منها "
الرد: التكذيب والإنكار، مثل أن يقول قائل: ليس لله يد لا حقيقة ولا مجازا. وهو كفر لأنه تكذيب لله ورسوله.
والتأويل: التفسير والمراد به هنا تفسير نصوص الصفات بغير ما أراد الله بها ورسوله وبخلاف ما فسرها به الصحابة والتابعون لهم بإحسان.
وحكم التأويل على ثلاثة أقسام:
الأول: أن يكون صادرا عن اجتهاد وحسن نية بحيث إذا تبين له الحق رجع عن تأويله، فهذا معفو عنه لأن هذا منتهى وسعه وقد قال الله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} .
الثاني: أن يكون صادرا عن هوى وتعصب، وله وجه في اللغة العربية فهو فسق وليس بكفر إلا أن يتضمن نقصا أو عيبا في حق الله فيكون كفرا.
القسم الثالث: أن يكون صادرا عن هوى وتعصب وليس له وجه في اللغة العربية، فهذا كفر لأن حقيقته التكذيب حيث لا وجه له.
والتشبيه: إثبات مشابه لله فيما يختص به من حقوق أو صفات، وهو كفر؛ لأنه من الشرك بالله، ويتضمن النقص في حق الله حيث شبهه بالمخلوق الناقص.
والتمثيل: إثبات مماثل لله فيما يختص به من حقوق أو صفات، وهو كفر لأنه من الشرك بالله وتكذيب لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} .
(5/21)
ويتضمن النقص في حق الله حيث مثله بالمخلوق الناقص.
والفرق بين التمثيل والتشبيه: أن التمثيل يقتضي المساواة من كل وجه بخلاف التشبيه.
" ما تضمنه كلام الإمام أحمد في أحاديث النزول وشبهها "
تضمن كلام الإمام أحمد - رحمه لله - الذي نقله عنه المؤلف ما يأتي:
1 - وجوب الإيمان والتصديق بما جاء عن رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من أحاديث الصفات من غير زيادة ولا نقص ولا حد ولا غاية.
2 - أنه لا كيف ولا معنى أي لا نكيف هذه الصفات لأن تكييفها ممتنع لما سبق، وليس مراده أنه لا كيفية لصفاته لأن صفاته ثابتة حقا وكل شيء ثابت فلا بد له من كيفية لكن كيفية صفات الله غير معلومة لنا.
وقوله: ولا معنى أي: لا نثبت لها معنى يخالف ظاهرها كما فعله أهل التأويل وليس مراده نفي المعنى الصحيح الموافق لظاهرها الذي فسرها به السلف فإن هذا ثابت، ويدل على هذا قوله: " ولا نرد شيئا منها ونصفه بما وصف به نفسه ولا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شنعت ولا نعلم كيفية كنه ذلك " فإن نفيه لرد شيء منها، ونفيه لعلم كيفيتها دليل على إثبات المعنى المراد منها.
3 - وجوب الإيمان بالقرآن كله محكمه وهو ما اتضح معناه، ومتشابهه وهو ما أشكل معناه، فنرد المتشابه إلى المحكم ليتضح معناه فإن لم يتضح وجب الإيمان به لفظا، وتفويض معناه إلى الله تعالى.
" ما تضمنه كلام الإمام الشافعي "
تضمن كلام الإمام الشافعي ما يأتي:
1 - الإيمان بما جاء عن الله تعالى في كتابه المبين على ما أراده الله من غير زيادة، ولا نقص، ولا تحريف.
(5/22)
2 - الإيمان بما جاء عن رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في سنة رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، على ما أراده رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من غير زيادة ولا نقص ولا تحريف.
وفي هذا الكلام رد على أهل التأويل، وأهل التمثيل؛ لأن كل واحد منهم لم يؤمن بما جاء عن الله ورسوله على مراد الله ورسوله فإن أهل التأويل نقصوا، وأهل التمثيل زادوا.
" طريق السلف الذي درجوا عليه في الصفات "
الذي درج عليه السلف في الصفات هو الإقرار والإثبات لما ورد من صفات الله تعالى في كتاب الله وسنة رسوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من غير تعرض لتأويله بما لا يتفق مع مراد الله ورسوله.
والاقتداء بهم في ذلك واجب لقوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» . رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي وقال: حسن صحيح وصححه الألباني وجماعة.
" السنة والبدعة وحكم كل منهما "
السنة لغة: " الطريقة ".
واصطلاحا: " ما كان عليه النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأصحابه من عقيدة أو عمل ".
واتباع السنة واجب لقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} . وقوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ» .
والبدعة لغة: " الشيء المستحدث ".
(5/23)
واصطلاحا: " ما أحدث في الدين على خلاف ما كان عليه النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأصحابه من عقيدة أو عمل ".
وهي حرام لقوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} . وقوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» .
الآثار الواردة في الترغيب في السنة والتحذير من البدعة:
1 - من أقوال الصحابة: قال ابن مسعود رضي الله عنه الصحابي الجليل المتوفى سنة 32هـ عن بضع وستين سنة:
(اتبعوا) أي التزموا آثار النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من غير زيادة ولا نقص (ولا تبتدعوا) ولا تحدثوا بدعة في الدين (فقد كفيتم) أي كفاكم السابقون مهمة الدين حيث أكمل الله تعالى الدين لنبيه، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنزل قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} . فلا يحتاج الدين إلى تكميل.
2 - من أقوال التابعين: قال أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز المولود سنة 63هـ المتوفى سنة 101هـ قولا يتضمن ما يأتي:
وجوب الوقوف حيث وقف القوم - يعني بهم النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأصحابه - فيما كانوا عليه من الدين عقيدة وعملا، لأنهم وقفوا عن علم وبصيرة ولو كان فيما حدث بعدهم خير لكانوا به أحرى.
ب - أن ما أحدث بعدهم فليس فيه إلا مخالفة هديهم، والزهد في سنتهم وإلا فقد وصفوا من الدين ما يشفي وتكلموا فيه بما يكفي.
جـ - أن من الناس من قصر في اتباعهم فكان جافيا،
(5/24)
ومن الناس من تجاوزهم فكان غاليا، والصراط المستقيم ما بين الغلو والتقصير.
3 - من أقوال تابعي التابعين: قال الأوزاعي عبد الرحمن بن عمرو المتوفى سنة 157هـ: (عليك بآثار من سلف) الزم طريقة الصحابة والتابعين لهم بإحسان لأنها مبنية على الكتاب والسنة (وإن رفضك الناس) أبعدوك واجتنبوك (وإياك وآراء الرجال) احذر آراء الرجال وهي ما قيل بمجرد الرأي من غير استناد إلى كتاب الله وسنة رسوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، (وإن زخرفوه) جملوا اللفظ وحسنوه فإن الباطل لا يعود حقا بزخرفته وتحسينه.
" مناظرة جرت عند خليفة بين الأدرمي وصاحب بدعة "
لم أطلع على ترجمة للأدرمي ومن معه ولا أعلم نوع البدعة المذكورة والمهم أن نعرف مراحل هذه المناظرة لنكتسب منها طريقا لكيفية المناظرة بين الخصوم وقد بنى الأدرمي - رحمه الله - مناظرته هذه على مراحل ليعبر من كل مرحلة إلى التي تليها حتى يفحم خصمه.
المرحلة الأولى: " العلم " فقد سأله الأدرمي هل علم هذه البدعة النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وخلفاؤه؟
قال البدعي: لم يعلموها.
وهذا النفي يتضمن انتقاص النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وخلفائه حيث كانوا جاهلين بما هو من أهم أمور الدين، ومع ذلك فهو حجة على البدعي إذا كانوا لا يعلمونه ولذلك انتقل به الأدرمي إلى:
المرحلة الثانية: إذا كانوا لا يعلمونها فكيف تعلمها أنت؟ هل يمكن أن يحجب الله عن رسوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وخلفائه الراشدين علم شيء من الشريعة ويفتحه لك؟
فتراجع البدعي وقال: أقول: قد علموها فانتقل به إلى:
المرحلة الثالثة: إذا كانوا قد علموها فهل وسعهم أي أمكنهم أن لا يتكلموا
(5/25)
بذلك ولا يدعوا الناس إليه أم لم يسعهم؟
فأجاب البدعي: بأنهم وسعهم السكوت وعدم الكلام.
فقال له الأدرمي: فشيء وسع رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وخلفاءه لا يسعك أنت، فانقطع الرجل وامتنع عن الجواب لأن الباب انسد أمامه.
فصوب الخليفة رأي الأدرمي، ودعا بالضيق على من لم يسعه ما وسع النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وخلفاءه.
وهكذا كل صاحب باطل من بدعة أو غيرها فلا بد أن يكون مآله الانقطاع عن الجواب.
" الصفات التي ذكرها المؤلف من صفات الله تعالى "
ذكر المؤلف رحمه الله من صفات الله الصفات الآتية وسنتكلم عليها حسب ترتيب المؤلف.
الصفة الأولى: " الوجه ".
الوجه ثابت لله تعالى بدلالة الكتاب، والسنة، وإجماع السلف.
قال الله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} .
وقال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لسعد بن أبي وقاص: «إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها» . متفق عليه.
وأجمع السلف على إثبات الوجه لله تعالى، فيجب إثباته له بدون تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل، وهو وجه حقيقي يليق بالله.
وقد فسره أهل التعطيل بالثواب. ونرد عليهم بما سبق في القاعدة الرابعة.
الصفة الثانية: "اليدان".
اليدان من صفات الله الثابتة له بالكتاب، والسنة، وإجماع السلف.
(5/26)
قال الله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} .
وقال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار» . إلى قوله: «بيده الأخرى القبض يرفع ويخفض» . رواه مسلم والبخاري معناه.
وأجمع السلف على إثبات اليدين لله، فيجب إثباتهما له بدون تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل، وهما يدان حقيقيتان لله تعالى تليقان به.
وقد فسرهما أهل التعطيل بالنعمة أو القدرة ونحوها. ونرد عليهم بما سبق في القاعدة الرابعة، وبوجه رابع أن في السياق ما يمنع تفسيرهما بذلك قطعا كقوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} . وقوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وبيده الأخرى القبض» .
الأوجه التي وردت عليها صفة اليدين وكيف نوفق بينها:
الأول: الإفراد كقوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} .
الثاني: التثنية كقوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} .
الثالث: الجمع كقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} .
والتوفيق بين هذه الوجوه أن نقول: الوجه الأول مفرد مضاف فيشمل كل ما ثبت لله من يد ولا ينافي الثنتين، وأما الجمع فهو للتعظيم لا لحقيقة العدد الذي هو ثلاثة فأكثر وحينئذ لا ينافي التثنية، على أنه قد قيل:
(5/27)
إن أقل الجمع اثنان فإذا حمل الجمع على أقله فلا معارضة بينه وبين التثنية أصلا.
الصفة الثالثة: " النفس ".
النفس ثابتة لله تعالى بالكتاب، والسنة، وإجماع السلف. قال الله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} . وقال عن عيسى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} .
وقال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سبحان الله وبحمده عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته» . رواه مسلم.
وأجمع السلف على ثبوتها على الوجه اللائق به، فيجب إثباتها لله من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل.
الصفة الرابعة: " المجيء ".
مجيء الله للفصل بين عباده يوم القيامة ثابت بالكتاب، والسنة وإجماع السلف.
قال الله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} . و {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} .
وقال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حتى إذا لم يبق إلا من يعبد الله أتاهم رب العالمين» . متفق عليه، في حديث طويل.
وأجمع السلف على ثبوت المجيء لله تعالى، فيجب إثباته له من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل، وهو مجيء حقيقي يليق بالله تعالى.
(5/28)
وقد فسره أهل التعطيل بمجيء أمره. ونرد عليهم بما سبق في القاعدة الرابعة.
الصفة الخامسة " الرضا ".
الرضا من صفات الله الثابتة له بالكتاب، والسنة، وإجماع السلف.
قال الله تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} .
وقال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها» . رواه مسلم.
وأجمع السلف على إثبات الرضا لله تعالى فيجب إثباته له من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل.
وهو رضا حقيقي يليق بالله تعالى.
وقد فسره أهل التعطيل بالثواب. ونرد عليهم بما سبق في القاعدة الرابعة.
الصفة السادسة: " المحبة ".
المحبة من صفات الله الثابتة له بالكتاب، والسنة، وإجماع السلف.
قال الله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} .
وقال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يوم خيبر: «لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله» . متفق عليه.
وأجمع السلف على ثبوت المحبة لله يحب، ويحب، فيجب إثبات ذلك حقيقة من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل.
(5/29)
وهي محبة حقيقية تليق بالله تعالى.
وقد فسرها أهل التعطيل بالثواب والرد عليهم بما سبق في القاعدة الرابعة.
الصفة السابعة: " الغضب ".
الغضب من صفات الله الثابتة له بالكتاب، والسنة، وإجماع السلف.
قال الله تعالى فيمن قتل مؤمنا متعمدا: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} .
وقال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله كتب كتابا عنده فوق العرش إن رحمتي تغلب غضبي» . متفق عليه.
وأجمع السلف على ثبوت الغضب لله، فيجب إثباته من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل.
وهو غضب حقيقي يليق بالله.
وفسره أهل التعطيل بالانتقام، ونرد عليهم بما سبق في القاعدة الرابعة وبوجه رابع: أن الله تعالى غاير بين الغضب والانتقام فقال تعالى: {فَلَمَّا آسَفُونَا} .أي أغضبونا {انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} . فجعل الانتقام نتيجة للغضب فدل على أنه غيره.
الصفة الثامنة: " السخط ".
السخط من صفات الله الثابتة بالكتاب، والسنة، وإجماع السلف.
قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ} .
وكان من دعاء النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك» . الحديث رواه مسلم.
(5/30)
وأجمع السلف على ثبوت السخط لله فيجب إثباته له من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل.
وهو سخط حقيقي يليق بالله.
وفسره أهل التعطيل بالانتقام. ونرد عليهم بما سبق في القاعدة الرابعة.
الصفة التاسعة: " الكراهة ".
الكراهة من الله لمن يستحقها ثابتة بالكتاب، والسنة، وإجماع السلف.
قال الله تعالى: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ} .
وقال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال» . رواه البخاري.
وأجمع السلف على ثبوت ذلك لله فيجب إثباته من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل.
وهي كراهة حقيقية من الله تليق به.
وفسر أهل التعطيل الكراهة بالإبعاد. ونرد عليهم بما سبق في القاعدة الرابعة.
الصفة العاشرة: " النزول ".
نزول الله إلى السماء الدنيا من صفاته الثابتة له بالسنة، وإجماع السلف.
قال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له.» .". الحديث متفق عليه.
وأجمع السلف على ثبوت النزول لله فيجب إثباته له من غير تحريف
(5/31)
ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل.
وهو نزول حقيقي يليق بالله.
وفسره أهل التعطيل بنزول أمره، أو رحمته، أو ملك من ملائكته ونرد عليهم بما سبق في القاعدة الرابعة وبوجه رابع: أن الأمر ونحوه لا يمكن أن يقول: من يدعوني فأستجيب له. . إلخ.
الصفة الحادية عشرة: " العجب ".
العجب من صفات الله الثابتة له بالكتاب، والسنة، وإجماع السلف.
قال الله تعالى: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} . على قراءة ضم التاء.
وقال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يعجب ربك من الشاب ليست له صبوة» . رواه أحمد وهو في المسند ص 151ج4 عن عقبة بن عامر مرفوعا وفيه ابن لهيعة.
وأجمع السلف على ثبوت العجب لله فيجب إثباته له من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل.
وهو عجب حقيقي يليق بالله.
وفسره أهل التعطيل بالمجازاة ونرد عليهم بما سبق في القاعدة الرابعة.
والعجب نوعان:
أحدهما: أن يكون صادرا عن خفاء الأسباب على المتعجب فيندهش له ويستعظمه ويتعجب منه، وهذا النوع مستحيل على الله؛ لأن الله لا يخفى عليه شيء.
(5/32)
الثاني: أن يكون سببه خروج الشيء عن نظائره، أو عما ينبغي أن يكون عليه مع علم المتعجب، وهذا هو الثابت لله تعالى.
الصفة الثانية عشرة: " الضحك ".
الضحك من صفات الله الثابتة له بالسنة، وإجماع السلف.
قال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة» . وتمام الحديث: «يقاتل هذا في سبيل الله فيقتل، ثم يتوب الله على القاتل فيستشهد» . متفق عليه.
وأجمع السلف على إثبات الضحك لله فيجب إثباته له من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل.
وهو ضحك حقيقي يليق بالله تعالى.
وفسره أهل التعطيل بالثواب. ونرد عليهم بما سبق في القاعدة الرابعة.
الصفة الثالثة عشرة: " الاستواء على العرش ":
استواء الله على العرش من صفاته الثابتة له بالكتاب، والسنة، وإجماع السلف.
قال الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} . وذكر استواءه على عرشه في سبعة مواضع من القرآن.
وقال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله لما قضى الخلق كتب عنده فوق عرشه إن رحمتي سبقت غضبي» . رواه البخاري.
وقال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيما رواه أبو داود في سننه: «إن بعد ما بين سماء إلى سماء إما واحدة أو اثنتان أو ثلاث وسبعون سنة إلى أن قال في العرش:»
(5/33)
«بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء ثم الله تعالى فوق ذلك» . وأخرجه أيضا الترمذي، وابن ماجه، وفيه علة أجاب عنها ابن القيم - رحمه الله - في تهذيب سنن أبي داود ص92-93ج7.
وأجمع السلف على إثبات استواء الله على عرشه فيجب إثباته من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل.
وهو استواء حقيقي معناه: العلو والاستقرار على وجه يليق بالله تعالى.
وقد فسره أهل التعطيل بالاستيلاء. ونرد عليهم بما سبق في القاعدة الرابعة ونزيد وجها رابعا: أنه لا يعرف في اللغة العربية بهذا المعنى. ووجها خامسا: أنه يلزم عليه لوازم باطلة مثل أن العرش لم يكن ملكا لله ثم استولى عليه بعد.
والعرش لغة: السرير الخاص بالملك.
وفي الشرع: العرش العظيم الذي استوى عليه الرحمن جل جلاله، وهو أعلى المخلوقات وأكبرها، وصفه الله بأنه عظيم، وبأنه كريم، وبأنه مجيد.
والكرسي غير العرش؛ لأن العرش هو ما استوى عليه الله تعالى، والكرسي موضع قدميه لقول ابن عباس رضي الله عنهما: " الكرسي موضع القدمين، والعرش لا يقدر أحد قدره ". رواه الحاكم في مستدركه. وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
الصفة الرابعة عشرة: " العلو ".
العلو من صفات الله الثابتة له بالكتاب، والسنة، وإجماع السلف.
قال الله تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} .
(5/34)
«وكان النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقول في صلاته في السجود: " سبحان ربي الأعلى» . رواه مسلم من حديث حذيفة.
وأجمع السلف على إثبات العلو لله، فيجب إثباته له من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل، وهو علو حقيقي يليق بالله.
وينقسم إلى قسمين:
علو صفة بمعنى أن صفاته تعالى عليا ليس فيها نقص بوجه من الوجوه ودليله ما سبق.
وعلو ذات بمعنى أن ذاته تعالى فوق جميع مخلوقاته ودليله مع ما سبق:
قوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} .
وقول النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك. .. .» الحديث رواه أبو داود وفيه زيادة ابن محمد قال البخاري: منكر الحديث. «وقوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، للجارية: "أين الله؟ " قالت: في السماء. قال: " أعتقها فإنها مؤمنة» . رواه مسلم في قصة معاوية بن الحكم.
وقوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لحصين بن عبيد الخزاعي والد عمران بن حصين: «اترك الستة، واعبد الذي في السماء» هذا هو اللفظ الذي ذكره المؤلف، وذكره في الإصابة من رواية ابن خزيمة في قصة إسلامه بلفظ غير هذا وفيه إقرار النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لحصين حين قال: " ستة في الأرض وواحدا في السماء ".
وأجمع السلف على ثبوت علو الذات لله وكونه في السماء فيجب إثباته له من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل.
وقد أنكر أهل التعطيل كون الله بذاته في السماء وفسروا معناها أن في السماء ملكه، وسلطانه، ونحوه ونرد عليهم بما سبق في القاعدة الرابعة
(5/35)
وبوجه رابع: أن ملك الله وسلطانه في السماء وفي الأرض أيضا. وبوجه خامس: وهو دلالة العقل عليه لأنه صفة كمال. وبوجه سادس: وهو دلالة الفطرة عليه لأن الخلق مفطورون على أن الله في السماء.
معنى كون الله في السماء
المعنى الصحيح لكون الله في السماء أن الله تعالى على السماء، ففي بمعنى على وليست للظرفية لأن السماء لا تحيط بالله، أو أنه في العلو، فالسماء بمعنى العلو وليس المراد بها السماء المبنية.
تنبيه: ذكر المؤلف - رحمه الله - أنه نقل عن بعض الكتب المتقدمة أن من علامات النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأصحابه أنهم يسجدون بالأرض ويزعمون أن إلههم في السماء، وهذا النقل غير صحيح لأنه لا سند له، ولأن الإيمان بعلو الله والسجود له لا يختصان بهذه الأمة وما لا يختص لا يصح أن يكون علامة، ولأن التعبير بالزعم في هذا الأمر ليس بمدح لأن أكثر ما يأتي الزعم فيما يشك فيه.
جواب الإمام مالك بن أنس بن مالك وليس أبوه أنس بن مالك الصحابي بل غيره وكان جد مالك من كبار التابعين وأبو جده من الصحابة. ولد مالك سنة 93هـ بالمدينة ومات فيها سنة 179هـ وهو في عصر تابعي التابعين.
سئل مالك فقيل: يا أبا عبد الرحمن {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} . كيف استوى؟ فقال رحمه الله: (الاستواء غير مجهول) أي معلوم المعنى وهو العلو والاستقرار (والكيف غير معقول) أي كيفية الاستواء غير مدركة بالعقل لأن الله تعالى أعظم وأجل من أن تدرك العقول كيفية صفاته (والإيمان به) أي الاستواء (واجب) لوروده في الكتاب والسنة (والسؤال عنه) أي عن الكيف (بدعة) لأن السؤال عنه لم يكن في عهد النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
(5/36)
وأصحابه. ثم أمر بالسائل فأخرج من المسجد خوفا من أن يفتن الناس في عقيدتهم وتعزيرا له بمنعه من مجالس العلم.
الصفة الخامسة عشرة: "الكلام".
الكلام صفة من صفات الله الثابتة له بالكتاب، والسنة، وإجماع السلف.
قال الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} . {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} .
وقال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا أراد الله أن يوحي بأمره تكلم بالوحي» . أخرجه ابن خزيمة وابن جرير وابن أبي حاتم.
وأجمع السلف على ثبوت الكلام لله فيجب إثباته له من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل.
وهو كلام حقيقي يليق بالله، يتعلق بمشيئته بحروف وأصوات مسموعة.
والدليل على أنه بمشيئته قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} . فالتكليم حصل بعد مجيء موسى فدل على أنه متعلق بمشيئته تعالى.
والدليل على أنه حروف قوله تعالى: {يَامُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} . فإن هذه الكلمات حروف وهي كلام الله.
والدليل على أنه بصوت قوله تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا}
(5/37)
والنداء والمناجاة لا تكون بصوت. وروي عن عبد الله بن أنيس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه قال: «يحشر الله الخلائق فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك أنا الديان» . علقه البخاري بصيغة التمريض، قال في الفتح: وأخرجه المصنف في الأدب المفرد وأحمد، وأبو يعلى في مسنديهما وذكر له طريقين آخرين.
وكلام الله تعالى قديم النوع، حادث الآحاد، ومعنى قديم النوع أن الله لم يزل، ولا يزال متكلما ليس الكلام حادثا منه بعد أن لم يكن. ومعنى حادث الآحاد: أن آحاد كلامه أي الكلام المعين المخصوص حادث لأنه متعلق بمشيئته متى شاء تكلم بما شاء كيف شاء.
المخالفون لأهل السنة في كلام الله تعالى:
خالف أهل السنة في كلام الله طوائف نذكر منهم طائفتين:
الطائفة الأولى: الجهمية، قالوا: ليس الكلام من صفات الله وإنما هو خلق من مخلوقات الله يخلقه الله في الهواء، أو في المحل الذي يسمع منه وإضافته إلى الله إضافة خلق، أو تشريف مثل ناقة الله، وبيت الله.
ونرد عليهم بما يلي:
أنه خلاف إجماع السلف.
2 - أنه خلاف المعقول؛ لأن الكلام صفة للمتكلم وليس شيئا قائما بنفسه منفصلا عن المتكلم.
3 - أن موسى سمع الله يقول: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} . ومحال أن يقول ذلك أحد إلا الله سبحانه وتعالى.
(5/38)
الطائفة الثانية: الأشعرية، قالوا: كلام الله معنى قائم بنفسه لا يتعلق بمشيئته، وهذه الحروف والأصوات المسموعة مخلوقة للتعبير عن المعنى القائم بنفس الله.
ونرد عليهم بما يلي:
1 - أنه خلاف إجماع السلف.
2 - أنه خلاف الأدلة لأنها تدل على أن كلام الله يسمع، ولا يسمع إلا الصوت ولا يسمع المعنى القائم بالنفس.
3 - أنه خلاف المعهود لأن الكلام المعهود هو ما ينطق به المتكلم لا ما يضمره في نفسه.
تعليق على كلام المؤلف في فصل الكلام:
قوله: (متكلم بكلام قديم) يعني قديم النوع حادث الآحاد لا يصلح إلا هذا المعنى على مذهب أهل السنة والجماعة، وإن كان ظاهر كلامه أنه قديم النوع والآحاد.
قوله: (سمعه موسى من غير واسطة) لقوله تعالى: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} .
قوله: (وسمعه جبريل) لقوله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} .
قوله: (ومن إذن له من ملائكته ورسله) أما الملائكة فلقوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ولكن ربنا إذا قضى أمرا سبح حملة العرش ثم يسبح أهل السماء الذين يلونهم حتى يبلغ التسبيح أهل السماء الدنيا فيقول الذين يلون حملة العرش لحملة العرش: {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} فيخبرونهم» .الحديث رواه
(5/39)
مسلم. وأما الرسل فقد ثبت أن الله كلم محمدا، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة المعراج.
قوله: (وإنه سبحانه يكلم المؤمنين ويكلمونه) لحديث أبي سعيد الخدري أن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: «يقول الله لأهل الجنة يا أهل الجنة فيقولون: لبيك ربنا وسعديك» . الحديث متفق عليه.
قوله: (ويأذن لهم فيزورونه) لحديث أبي هريرة أن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: «إن أهل الجنة إذا دخلوا فيها نزلوا بفضل أعمالهم ثم يؤذن لهم في مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا فيزورون ربهم» . . ." الحديث رواه ابن ماجه والترمذي وقال: غريب وضعفه الألباني.
وقوله: (وقال ابن مسعود: «إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء» وروي ذلك عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أثر ابن مسعود لم أجده بهذا الفظ وذكر ابن خزيمة طرقه في كتاب التوحيد بألفاظ منها: «سمع أهل السماوات للسماوات صلصلة» ، وأما المروي عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو من حديث النواس بن سمعان مرفوعا «إذا أراد الله أن يوحي بأمره تكلم بالوحي فإذا تكلم أخذت السماوات منه رجفة، أو قال: رعدة شديدة من خوف الله، فإذا سمع ذلك أهل السماوات صعقوا. . .» الحديث. رواه ابن خزيمة وابن أبي حاتم. (1)
" القول في القرآن ":
القرآن الكريم من كلام الله تعالى، منزل غير مخلوق، منه بدأ، وإليه يعود، فهو كلام الله حروفه ومعانيه. دليل أنه من كلام الله قوله
__________
(1) (تنبيه) القصة التي ذكرها المؤلف عن موسى عليه السلام ليلة رأى النار ليس لها سند ثابت ويظهر بطلانها لأنه لم يرد في النصوص الصحيحة وصف الله بأنه عن اليمين والشمال. والله أعلم.
(5/40)
تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} . يعني القرآن.
ودليل أنه منزل قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} .
ودليل أنه غير مخلوق قوله تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} . فجعل الأمر غير الخلق والقرآن من الأمر لقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} ، {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ} . ولأن كلام الله صفة من صفاته وصفاته غير مخلوقة.
ودليل أنه منه بدأ، أن الله أضافه إليه، ولا يضاف الكلام إلا إلى من قاله مبتدئا.
ودليل أنه إليه يعود أنه ورد في بعض الآثار أنه يرفع من المصاحف والصدور في آخر الزمان.
القرآن حروف وكلمات:
القرآن حروف وكلمات، وقد ذكر المؤلف - رحمه الله - لذلك أدلة ثمانية:
1 - أن الكفار قالوا: إنه شعر، ولا يمكن أن يوصف بذلك إلا ما هو حروف وكلمات.
2 - أن الله تحدى المكذبين به أن يأتوا بمثله، ولو لم يكن حروفا
(5/41)
وكلمات لكان التحدي غير مقبول، إذ لا يمكن التحدي إلا بشيء معلوم يدرى ما هو.
3 - أن الله أخبر بأن القرآن يتلى عليهم {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} . ولا يتلى إلا ما هو حروف وكلمات.
4 - أن الله أخبر بأنه محفوظ في صدور أهل العلم ومكتوب في اللوح المحفوظ {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} . {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} . ولا يحفظ ويكتب إلا ما هو حروف وكلمات.
5 - قول النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف منه عشر حسنات، ومن قرأه ولحن فيه فله بكل حرف حسنة» . صححه المؤلف ولم يعزه ولم أجد من خرجه.
6 - قول أبي بكر وعمر: إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه.
7 - قول علي رضي الله عنه: من كفر بحرف منه فقد كفر به كله.
8 - إجماع المسلمين - كما نقله المؤلف - على أن من جحد منه سورة أو آية، أو كلمة، أو حرفا متفقا عليه فهو كافر.
وعدد سور القرآن 114منها 29 افتتحت بالحروف المقطعة.
أوصاف القرآن:
وصف الله القرآن الكريم بأوصاف عظيمة كثيرة ذكر المؤلف منها ما يلي:
(5/42)
1 - أنه كتاب الله المبين، أي: المفصح عما تضمنه من أحكام وأخبار.
2 - أنه حبل الله المتين، أي: العهد القوي الذي جعله الله سببا للوصول إليه والفوز بكرامته.
3 - أنه سور محكمات أي: مفصل السور، كل سورة منفردة عن الأخرى، والمحكمات المتقنات المحفوظات من الخلل والتناقض.
4 - أنه آيات بينات، أي علامات ظاهرات على توحيد الله، وكمال صفاته، وحسن تشريعاته.
5 - أن فيه محكما ومتشابها، فالمحكم: ما كان معناه واضحا، والمتشابه: ما كان معناه خفيا ولا يعارض هذا ما سبق برقم "3" لأن الإحكام هناك بمعنى الإتقان والحفظ من الخلل والتناقض، وهنا بمعنى وضوح المعنى، وإذا رددنا المتشابه هنا إلى المحكم صار الجميع محكما.
6 - أنه حق لا يمكن أن يأتيه الباطل من أي جهة {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} .
7 - أنه بريء مما وصفه به المكذبون من قولهم: إنه شعر: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} . وقول بعضهم: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} . فقال الله متوعدا هذا القائل: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} .
8 - أنه معجزة لا يمكن لأحد أن يأتي بمثله وإن عاونه غيره
(5/43)
{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} .
"رؤية الله في الآخرة "
رؤية الله في الدنيا مستحيلة لقوله تعالى لموسى وقد طلب رؤية الله: {لَنْ تَرَانِي} .
ورؤية الله في الآخرة ثابتة بالكتاب، والسنة، وإجماع السلف.
قال الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} . وقال: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} . فلما حجب الفجار عن رؤيته دل على أن الأبرار يرونه وإلا لم يكن بينهما فرق.
وقال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنكم سترون ربكم كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته» . متفق عليه، وهذا التشبيه للرؤية بالرؤية لا للمرئي بالمرئي؛ لأن الله ليس كمثله شيء، ولا شبيه له ولا نظير.
وأجمع السلف على رؤية المؤمنين لله تعالى دون الكفار بدليل الآية الثانية.
يرون الله تعالى في عرصات القيامة وبعد دخول الجنة كما يشاء الله تعالى.
وهي رؤية حقيقية تليق بالله.
وفسرها أهل التعطيل بأن المراد بها رؤية ثواب الله، أو أن المراد بها رؤية العلم واليقين. ونرد عليهم باعتبار التأويل الأول بما سبق في القاعدة الرابعة، وباعتبار التأويل الثاني بذلك وبوجه رابع: أن العلم واليقين حاصل للأبرار في الدنيا وسيحصل للفجار في الآخرة.
(5/44)
" القدر ":
من صفات الله تعالى أنه الفعال لما يريد كما قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} . فلا يخرج شيء عن إرادته وسلطانه، ولا يصدر شيء إلا بتقديره وتدبيره، بيده ملكوت السماوات والأرض، يهدي من يشاء برحمته ويضل من يشاء بحكمته، لا يسأل عما يفعل لكمال حكمته وسلطانه، وهم يسألون لأنهم مربوبون محكومون.
والإيمان بالقدر واجب وهو أحد أركان الإيمان الستة لقول النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره» . رواه مسلم وغيره. وقال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «آمنت بالقدر خيره وشره، حلوه، ومره» . فالخير والشر باعتبار العاقبة والحلاوة والمرارة باعتبار وقت إصابته. وخير القدر ما كان نافعا وشره ما كان ضارا أو مؤذيا.
والخير والشر هو بالنسبة للمقدور وعاقبته، فإن منه ما يكون خيرا كالطاعات، والصحة، والغنى، ومنه ما يكون شرا كالمعاصي، والمرض، والفقر، أما بالنسبة لفعل الله فلا يقال: إنه شر لقول النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في دعاء القنوت الذي علمه الحسن بن علي: «وقني شر ما قضيت» (1) . فأضاف الشر إلى ما قضاه لا إلى قضائه.
والإيمان بالقدر لا يتم إلا بأربعة أمور (2) :
الأول: الإيمان بأن الله عالم كل ما يكون جملة وتفصيلا بعلم سابق
__________
(1) أخرجه الخمسة وأطال ابن حجر الكلام عليه في التلخيص.
(2) جمع بعضهم هذه الأربعة في بيت فقال:
علم كتابة مولانا مشيئته ... كذاك خلق وإيجاد تكوين
(5/45)
لقوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} .
الثاني: أن الله كتب في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء لقوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} أي نخلق الخليقة، ولقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله قدر مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة» . رواه مسلم.
الثالث: أنه لا يكون شيء في السماوات والأرض إلا بإرادة الله ومشيئته الدائرة بين الرحمة والحكمة، يهدي من يشاء برحمته، ويضل من يشاء بحكمته، لا يسأل عما يفعل لكمال حكمته وسلطانه، وهم يسألون، وما وقع من ذلك فإنه مطابق لعلمه السابق ولما كتبه في اللوح المحفوظ لقوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} . {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} . فأثبت وقوع الهداية والضلال بإرادته.
الرابع: أن كل شيء في السماوات والأرض مخلوق لله تعالى، لا خالق غيره ولا رب سواه لقوله تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} . وقال على لسان إبراهيم: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} .
القدر ليس حجة للعاصي على فعل المعصية:
أفعال العباد كلها من طاعات ومعاص كلها مخلوقة لله كما سبق
(5/46)
ولكن ليس ذلك حجة للعاصي على فعل المعصية وذلك لأدلة كثيرة منها:
1 - أن الله أضاف عمل العبد إليه وجعله كسبا له فقال: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} . ولو لم يكن له اختيار في الفعل وقدرة عليه ما نسب إليه.
2 - أن الله أمر العبد ونهاه، ولم يكلفه إلا ما يستطيع لقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} . {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} . ولو كان مجبورا على العمل ما كان مستطيعا على الفعل، أو الكف؛ لأن المجبور لا يستطيع التخلص.
3 - أن كل واحد يعلم الفرق بين العمل الاختياري والإجباري، وأن الأول يستطيع التخلص منه.
4 - أن العاصي قبل أن يقدم على المعصية لا يدري ما قدر له، وهو باستطاعته أن يفعل أو يترك، فكيف يسلك الطريق الخطأ ويحتج بالقدر المجهول؟ ! أليس من الأحرى أن يسلك الطريق الصحيح ويقول: هذا ما قدر لي؟ !
5 - أن الله أخبر أنه أرسل الرسل لقطع الحجة: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} . ولو كان القدر حجة للعاصي لم تنقطع بإرسال الرسل.
التوفيق بين كون فعل العبد مخلوقا لله وكونه كسبا للفاعل:
عرفت مما سبق أن فعل العبد مخلوق لله، وأنه كسب للعبد يجازى عليه الحسن بأحسن، والسيئ بمثله فكيف نوفق بينهما؟
(5/47)
التوفيق بينهما أن وجه كون فعل العبد مخلوقا لله تعالى أمران:
الأول: أن فعل العبد من صفاته، والعبد وصفاته مخلوقان لله تعالى.
الثاني: أن فعل العبد صادر عن إرادة قلبية وقدرة بدنية، ولولاهما لم يكن فعل، والذي خلق هذه الإرادة والقدرة هو الله تعالى، وخالق السبب خالق للمسبب، فنسبة فعل العبد إلى خلق الله له نسبة مسبب إلى سبب، لا نسبة مباشرة؛ لأن المباشر حقيقة هو العبد فلذلك نسب الفعل إليه كسبا وتحصيلا، ونسب إلى الله خلقا وتقديرا، فلكل من النسبتين اعتبار، والله أعلم.
المخالفون للحق في القضاء والقدر والرد عليهم:
المخالفون للحق في القضاء والقدر طائفتان:
الطائفة الأولى: الجبرية يقولون: العبد مجبور على فعله وليس له اختيار في ذلك.
ونرد عليهم بأمرين:
1 - أن الله أضاف عمل الإنسان إليه وجعله كسبا له يعاقب ويثاب بحسبه، ولو كان مجبورا عليه ما صح نسبته إليه ولكان عقابه عليه ظلما.
2 - أن كل واحد يعرف الفرق بين الفعل الاختياري والاضطراري في الحقيقة والحكم، فلو اعتدى شخص على آخر وادعى أنه مجبور على ذلك بقضاء الله وقدره لعد ذلك سفها مخالفا للمعلوم بالضرورة.
الطائفة الثانية: القدرية يقولون: العبد مستقل بعمله ليس لله فيه إرادة، ولا قدرة، ولا خلق.
ونرد عليهم بأمرين:
1 -أنه مخالف لقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} . {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} .
(5/48)
2 - أن الله مالك السماوات والأرض فكيف يكون في ملكه ما لا تتعلق به إرادته وخلقه؟ !
أقسام الإرادة والفرق بينها:
إرادة الله تنقسم إلى قسمين كونية وشرعية:
فالكونية: هي التي بمعنى المشيئة كقوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} .
والشرعية: هي التي بمعنى المحبة كقوله تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} .
والفرق بينهما أن الكونية يلزم فيها وقوع المراد ولا يلزم أن يكون محبوبا لله، وأما الشرعية فيلزم أن يكون المراد فيها محبوبا لله ولا يلزم وقوعه.
الإيمان:
الإيمان لغة: التصديق.
واصطلاحا: قول باللسان وعمل بالأركان وعقد بالجنان.
مثال القول: لا إله إلا الله.
ومثال العمل: الركوع.
ومثال العقد: الإيمان بالله وملائكته وغير ذلك مما يجب اعتقاده.
والدليل على أن هذا هو الإيمان قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}
(5/49)
فجعل الإخلاص، والصلاة، والزكاة من الدين.
وقال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق» . رواه مسلم. بلفظ «فأفضلها قول: " لا إله إلا الله» وأصله في الصحيحين.
والإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية لقوله تعالى: {فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} . {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} .
وقال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه مثقال برة، أو خردلة، أو ذرة من إيمان» . رواه البخاري بنحوه فجعله النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، متفاضلا، وإذا ثبتت زيادته ثبت نقصه؛ لأن من لازم الزيادة أن يكون المزيد عليه ناقصا عن الزائد.
(5/50)
" فصل في السمعيات "
السمعيات كل ما ثبت بالسمع أي بطريق الشرع ولم يكن للعقل فيه مدخل، وكل ما ثبت عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من أخبار فهو حق يجب تصديقه سواء شاهدناه بحواسنا، أو غاب عنا، وسواء أدركناه بعقولنا أم لم ندركه لقوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} . وقد ذكر المؤلف من ذلك أمورا:
الأمر الأول: الإسراء والمعراج:
الإسراء لغة: السير بالشخص ليلا وقيل: بمعنى سرى.
وشرعا: سير جبريل بالنبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من مكة إلى بيت المقدس لقوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} .
والمعراج لغة: الآلة التي يعرج بها وهي المصعد.
وشرعا: السلم الذي عرج به رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من الأرض إلى السماء لقوله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} . إلى قوله: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} . وكانا في ليلة واحدة عند الجمهور، وللعلماء خلاف متى كانت؟ فيروى بسند منقطع عن ابن عباس وجابر رضي الله عنهم أنها ليلة الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول
(5/51)
ولم يعينا السنة رواه ابن أبي شبية.
ويروى عن الزهري وعروة أنها قبل الهجرة بسنة رواه البيهقي فتكون في ربيع الأول، ولم يعينا الليلة، وقاله ابن سعد وغيره وجزم به النووي. ويروى عن السدي أنها قبل الهجرة بستة عشر شهرا. رواه الحاكم. فتكون في ذي القعدة.
وقيل: قبل الهجرة بثلاث سنين. وقيل: بخمس. وقيل: بست.
وكان يقظة لا مناما؛ لأن قريشا أكبرته وأنكرته، ولو كان مناما لم تنكره لأنها لا تنكر المنامات.
وقصته: أن جبريل أمره الله أن يسري بالنبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إلى بيت المقدس على البراق، ثم يعرج به إلى السماوات العلا سماء، سماء، حتى بلغ مكانا سمع فيه صريف الأقلام، وفرض الله عليه الصلوات الخمس، وأطلع على الجنة والنار، واتصل بالأنبياء الكرام، وصلى بهم إماما، ثم رجع إلى مكة فحدث الناس بما رأى فكذبه الكافرون، وصدق به المؤمنون وتردد فيه آخرون.
الأمر الثاني: مجيء ملك الموت إلى موسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«جاء ملك الموت بصورة إنسان إلى نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام ليقبض روحه، فلطمه موسى ففقأ عينه، فرجع الملك إلى الله وقال: " أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت " فرد الله عليه عينه وقال: " ارجع إليه، وقل له يضع يده على متن ثور فله بما غطى يده بكل شعرة سنة " فقال موسى: ثم ماذا؟ قال: ثم الموت قال: فالآن، فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية حجر، قال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فلو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر» . وهذا الحديث ثابت في الصحيحين وإنما أثبته المؤلف في العقيدة لأن بعض المبتدعة أنكره معللا
(5/52)
ذلك بأنه يمتنع أن موسى يلطم الملك. ونرد عليهم: بأن الملك أتى موسى بصورة إنسان لا يعرف موسى من هو؟ يطلب منه نفسه، فمقتضى الطبيعة البشرية أن يدافع المطلوب عن نفسه، ولو علم موسى أنه ملك لم يلطمه، ولذلك استسلم له في المرة الثانية حين جاء بما يدل أنه من عند الله، وهو إعطاؤه مهلة من السنين بقدر ما تحت يده من شعر ثور.
الأمر الثالث: أشراط الساعة:
الأشراط جمع شرط وهو لغة العلامة. والساعة لغة الوقت أو الحاضر منه. والمراد بها هنا: القيامة، فأشراط الساعة شرعا العلامات الدالة على قرب يوم القيامة قال الله تعالى: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} . وذكر المؤلف من أشراط الساعة ما يأتي:
1 - (خروج الدجال) وهو لغة صيغة مبالغة من الدجل، وهو الكذب والتمويه.
وشرعا: رجل مموه يخرج في آخر الزمان يدعي الربوبية. وخروجه ثابت بالسنة، والإجماع قال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قولوا: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات» . رواه مسلم. وكان النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يتعوذ منه في الصلاة متفق عليه.
وأجمع المسلمون على خروجه.
وقصته أنه يخرج من طريق بين الشام والعراق، فيدعو الناس إلى عبادته فأكثر من يتبعه اليهود والنساء والأعراب. ويتبعه سبعون ألفا من يهود أصفهان، فيسير في الأرض كلها كالغيث استدبرته الريح، إلا مكة والمدينة فيمنع منهما، ومدته أربعون يوما: يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم
(5/53)
كجمعة، وباقي أيامه كالعادة، وهو أعور العين مكتوب بين عينه ك ف ر يقرؤه المؤمن فقط، وله فتنة عظيمة منها أنه يأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت، معه جنة ونار، فجنته نار، وناره جنة. حذر منه النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال: " من سمع به فلينأ عنه، ومن أدركه فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف، أو بفواتح سورة الكهف ".
2 - (نزول عيسى ابن مريم) : نزول عيسى ابن مريم ثابت بالكتاب، والسنة، وإجماع المسلمين.
قال الله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} أي: موت عيسى وهذا حين نزوله كما فسره أبو هريرة بذلك.
وقال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «والله لينزلن عيسى بن مريم حكما وعدلا» . الحديث متفق عليه.
وقد أجمع المسلمون على نزوله، فينزل عند المنارة البيضاء في شرقي دمشق واضعا كفيه على أجنحة ملكين، فلا يحل لكافر يجد من ريح نفسه إلا مات، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه، فيطلب الدجال حتى يدركه بباب لد فيقتله، ويكسر الصليب، ويضع الجزية، وتكون السجدة واحدة لله رب العالمين ويحج ويعتمر، كل هذا ثابت في صحيح مسلم وبعضه في الصحيحين كليهما. وروى الإمام أحمد وأبو داود أن عيسى يبقى بعد قتل الدجال أربعين سنة ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون. وذكر البخاري في تاريخه أنه يدفن مع النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالله أعلم.
3 - (يأجوج ومأجوج) اسمان أعجميان أو عربيان مشتقان من المأج وهو الاضطراب، أو من أجيج النار وتلهبها.
وهما أمتان من بني آدم موجودتان بدليل الكتاب، والسنة.
(5/54)
قال الله تعالى في قصة ذي القرنين: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا قَالُوا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} الآيات.
وقال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يقول الله يوم القيامة: يا آدم قم فابعث بعث النار من ذريتك» ، إلى أن قال رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أبشروا فإن منكم واحدا ومن يأجوج ومأجوج ألفا» . أخرجاه في الصحيحين.
وخروجهم الذي يكون من أشراط الساعة لم يأت بعد، ولكن بوادره وجدت في عهد النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد ثبت في الصحيحين أن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: «فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق بأصبعه الإبهام والتي تليها» .
وقد ثبت خروجهم في الكتاب، والسنة.
قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} . وقال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنها لن تقوم الساعة حتى تروا قبلها عشر آيات ". فذكر: الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى بن مريم، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم» . رواه مسلم وقصتهم في حديث النواس بن سمعان أن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال في عيسى بن مريم بعد قتله الدجال: «فبينما هو كذلك إذ أوحى الله إلى عيسى أني قد أخرجت عبادا لي لا يدان لأحد بقتالهم فحرز عبادي إلى الطور. ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون فيمر»
(5/55)
«أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها، ويمر آخرهم ويقول: لقد كان بهذه مرة ماء، ثم يسيرون حتى ينتهوا إلى جبل الخمر، وهو جبل بيت المقدس، فيقولون: لقد قتلنا من في الأرض هلم فلنقتل من في السماء، فيرمون بنشابهم إلى السماء، فيرد الله عليهم نشابهم مخضوبة دما، ويحصر نبي الله وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرا من مائة دينار لأحدكم اليوم، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة، ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله فيرسل عليهم طيرا كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله» . رواه مسلم.
4 - (خروج دابة) . الدابة لغة: كل ما دب على الأرض. والمراد بها هنا: الدابة التي يخرجها الله قرب قيام الساعة. . وخروجها ثابت بالقرآن والسنة.
قال الله تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ} .
وقال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنها لن تقوم الساعة حتى تروا قبلها عشر آيات " وذكر منها الدابة» . رواه مسلم.
وليس في القرآن والسنة الصحيحة ما يدل على مكان خروج هذه الدابة وصفتها، وإنما وردت في ذلك أحاديث في صحتها نظر. وظاهر القرآن أنها دابة تنذر الناس بقرب العذاب والهلاك والله أعلم.
5 - (طلوع الشمس من مغربها) طلوع الشمس من مغربها ثابت بالكتاب والسنة.
(5/56)
قال الله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} . والمراد بذلك طلوع الشمس من مغربها.
وقال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون، وذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا» . متفق عليه.
فتنة القبر:
الفتنة لغة: الاختبار، وفتنة القبر: سؤال الميت عن ربه، ودينه، ونبيه، وهي ثابتة بالكتاب والسنة.
قال الله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} . وقال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «المسلم إذا سئل في القبر شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فذلك قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} » متفق عليه.
والسائل ملكان لقول النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم قال: يأتيه ملكان فيقعدانه» . رواه مسلم. واسمهما منكر ونكير كما رواه الترمذي عن أبي هريرة مرفوعا وقال: حسن غريب. قال الألباني: وسنده حسن وهو على شرط مسلم، والسؤال عام للمكلفين من المؤمنين والكافرين، ومن هذه الأمة وغيرهم على القول الصحيح وفي غير المكلفين خلاف، وظاهر كلام ابن القيم في كتاب (الروح) ترجيح السؤال. ويستثنى من ذلك الشهيد لحديث رواه النسائي، ومن مات مرابطا في سبيل الله لحديث رواه مسلم.
(5/57)
عذاب القبر أو نعيمه:
عذاب القبر أو نعيمه حق ثابت بظاهر القرآن، وصريح السنة، وإجماع أهل السنة. قال الله تعالى في سورة الواقعة: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ} ، إلى قوله: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} . إلخ السورة. . وكان النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يتعوذ بالله من عذاب القبر، وأمر أمته بذلك. وقال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في حديث البراء بن عازب المشهور في قصة فتنة القبر قال في المؤمن: «فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي فافرشوه من الجنة، والبسوه من الجنة، وافتحوا له بابا إلى الجنة، فيأتيه من ريحها، وطيبها، ويفسح له في قبره مد بصره. وقال في الكافر: فينادي مناد من السماء أن كذب عبدي فافرشوه من النار، وافتحوا له بابا من النار، فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه» . الحديث رواه أحمد وأبو داود.
وقد اتفق السلف وأهل السنة على إثبات عذاب القبر ونعيمه ذكره ابن القيم في كتاب (الروح) .
وأنكر الملاحدة عذاب القبر متعللين بأننا لو نبشنا القبر لوجدناه كما هو.
نرد عليهم بأمرين:
1 - دلالة الكتاب، والسنة، وإجماع السلف على ذلك.
2 - أن أحوال الآخرة لا تقاس بأحوال الدنيا فليس العذاب أو النعيم في القبر المحسوس في الدنيا.
(5/58)
هل عذاب القبر أو نعيمه على الروح أو على البدن؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: مذهب سلف الأمة وأئمتها أن العذاب أو النعيم يحصل لروح الميت وبدنه، وأن الروح تبقى بعد مفارقة البدن منعمة، أو معذبة وأنها تتصل بالبدن أحيانا فيحصل له معها النعيم أو العذاب.
النفخ في الصور:
النفخ معروف. والصور لغة: القرن.
وشرعا: قرن عظيم التقمه إسرافيل ينتظر متى يؤمر بنفخه، وإسرافيل أحد الملائكة الكرام الذين يحملون العرش، وهما نفختان:
إحداهما: نفخة الفزع ينفخ فيه فيفزع الناس ويصعقون إلا من شاء الله.
والثانية: نفخة البعث ينفخ فيه فيبعثون ويقومون من قبورهم.
وقد دل على النفخ في الصور الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة.
قال الله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} . {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} .
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ورفع ليتا ثم لا يبقى أحد إلا صعق ثم ينزل الله مطرا كأنه الطل أو الظل (شك الراوي) فتنبت»
(5/59)
«منه أجساد الناس ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون» . رواه مسلم في حديث طويل.
وقد اتفقت الأمة على ثبوته.
(البعث والحشر)
البعث لغة: الإرسال، والنشر.
وشرعا: إحياء الأموات يوم القيامة.
والحشر لغة: الجمع.
وشرعا: جمع الخلائق يوم القيامة لحسابهم والقضاء بينهم.
والبعث والحشر حق ثابت بالكتاب، والسنة، وإجماع المسلمين قال الله تعالى: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} . وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} .
وقال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي ليس فيها علم لأحد» . متفق عليه.
وأجمع المسلمون على ثبوت الحشر يوم القيامة.
ويحشر الناس حفاة لا نعال عليهم، عراة لا كسوة عليهم، غرلا لا ختان فيهم لقوله تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} . وقول النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنكم تحشرون حفاة، عراة، غرلا، ثم قرأ: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} وأول من يكسى إبراهيم» . متفق عليه.
وفي حديث عبد الله بن أنيس المرفوع الذي رواه أحمد: «يحشر الناس يوم القيامة عراة غرلا، بهما ". قلنا: وما بهما؟ قال: " ليس معهم شيء» . الحديث.
(5/60)
(الشفاعة)
الشفاعة لغة: جعل الوتر شفعا.
واصطلاحا: التوسط للغير بجلب منفعة، أو دفع مضرة.
والشفاعة يوم القيامة نوعان: خاصة بالنبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعامة له ولغيره.
فالخاصة به، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، شفاعته العظمى في أهل الموقف عند الله ليقضي بينهم حين يلحقهم من الكرب والغم ما لا يطيقون، فيذهبون إلى آدم، فنوح فإبراهيم، فموسى، فعيسى، وكلهم يعتذرون فيأتون إلى النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيشفع فيهم إلى الله فيأتي سبحانه وتعالى للقضاء بين عباده.
وقد ذكرت هذه الصفة في حديث الصور المشهور لكن سنده ضعيف متكلم فيه وحذفت من الأحاديث الصحيحة فاقتصر منها على ذكر الشفاعة في أهل الكبائر.
قال ابن كثير وشارح الطحاوية: وكان مقصود السلف من الاقتصار على الشفاعة في أهل الكبائر هو الرد على الخوارج ومن تابعهم من المعتزلة.
وهذه الشفاعة لا ينكرها المعتزلة والخوارج ويشترط فيها إذن الله لقوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} .
النوع الثاني العامة: وهي الشفاعة فيمن دخل النار من المؤمنين أهل الكبائر أن يخرجوا منها بعدما احترقوا وصاروا فحما وحميما. لحديث أبي سعيد قال: قال رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أما أهل النار الذين هم أهلها فلا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن أناس، أو كما قال تصيبهم النار بذنوبهم، أو قال: بخطاياهم فيميتهم إماتة حتى إذا صاروا فحما أَذِنَ في الشفاعة» . الحديث رواه أحمد.
(5/61)
قال ابن كثير في النهاية ص204 ج2: وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه من هذا الوجه.
وهذه الشفاعة تكون للنبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وغيره من الأنبياء، والملائكة والمؤمنين لحديث أبي سعيد عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفيه: «فيقول الله تعالى: شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط قد عادوا حمما» . متفق عليه.
وهذه الشفاعة ينكرها المعتزلة والخوارج بناء على مذهبهم أن فاعل الكبيرة مخلد في النار فلا تنفعه الشفاعة.
ونرد عليهم بما يأتي:
1 - أن ذلك مخالف للمتواتر من الأحاديث عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
2 - أنه مخالف لإجماع السلف.
ويشترط لهذه الشفاعة شرطان:
الأول: إذن الله في الشفاعة لقوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} .
الثاني: رضا الله عن الشافع والمشفوع له لقوله تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} . فأما الكافر فلا شفاعة له لقوله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} أي لو فرض أن أحدا شفع لهم لم تنفعهم الشفاعة.
وأما شفاعة النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لعمه أبي طالب حتى كان في ضحضاح من نار وعليه نعلان يغلي منهما دماغه، وإنه لأهون أهل النار عذابا، قال
(5/62)
النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار» . رواه مسلم. فهذا خاص بالنبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبعمه أبي طالب، فقط، وذلك والله أعلم لما قام به من نصرة النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والدفاع عنه، وعما جاء به.
(الحساب)
الحساب لغة: العدد.
وشرعا: إطلاع الله عباده على أعمالهم.
وهو ثابت بالكتاب، والسنة، وإجماع المسلمين.
قال الله تعالى: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} . وكان النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقول في بعض صلاته: «اللهم حاسبني حسابا يسيرا ". فقالت عائشة رضي الله عنها: ما الحساب اليسير؟ قال: " أن ينظر في كتابه فيتجاوز عنه» . رواه أحمد. وقال الألباني: إسناده جيد.
وأجمع المسلمون على ثبوت الحساب يوم القيامة.
وصفة الحساب للمؤمن: أن الله يخلو به فيقرره بذنوبه، حتى إذا رأى أنه قد هلك. قال الله له: سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم فيعطى كتاب حسناته.
وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رءوس الخلائق هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين. متفق عليه من حديث ابن عمر.
والحساب عام لجميع الناس إلا من استثناهم النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهم سبعون ألفا من هذه الأمة منهم عكاشة بن محصن يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب. متفق عليه. وروى أحمد من حديث ثوبان مرفوعا أن مع كل واحد سبعين ألفا، قال ابن كثير: حديث صحيح وذكر له شواهد.
(5/63)
وأول من يُحاسب هذه الأمة لقول النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة المقضي بينهم قبل الخلائق» . متفق عليه، وروى ابن ماجه عن ابن عباس مرفوعا: «نحن آخر الأمم وأول من يحاسب» الحديث.
وأول ما يحاسب عليه العبد من حقوق الله الصلاة لقول النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله» . رواه الطبراني في الأوسط، وسنده لا بأس به إن شاء الله، قال المنذري في الترغيب والترهيب ص246 ج1: وأول ما يقضى بين الناس في الدماء لقول النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء» . متفق عليه.
(الموازين)
الموازين جمع ميزان، وهو لغة: ما تقدر به الأشياء خفة وثقلا.
وشرعا: ما يضعه الله يوم القيامة لوزن أعمال العباد.
وقد دل عليه الكتاب، والسنة، وإجماع السلف.
قال الله تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} . {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} .
وقال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم» . متفق عليه.
(5/64)
وأجمع السلف على ثبوت ذلك.
وهو ميزان حقيقي، له كفتان، لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في صاحب البطاقة قال: «فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة» . الحديث رواه الترمذي وابن ماجه. قال الألباني: إسناده صحيح.
واختلف العلماء هل هو ميزان واحد أو متعدد؟
فقال بعضهم: متعدد بحسب الأمم، أو الأفراد، أو الأعمال؛ لأنه لم يرد في القرآن إلا مجموعا، وأما إفراده في الحديث فباعتبار الجنس.
وقال بعضهم: هو ميزان واحد؛ لأنه ورد في الحديث مفردا، وأما جمعه في القرآن فباعتبار الموزون، وكلا الأمرين محتمل. والله أعلم.
والذي يوزن العمل لظاهر الآية السابقة والحديث بعدها.
وقيل: صحائف العمل لحديث صاحب البطاقة.
وقيل: العامل نفسه لحديث أبي هريرة أن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: «إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة ". وقال اقرءوا: {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} » . متفق عليه.
وجمع بعض العلماء بين هذه النصوص بأن الجميع يوزن، أو أن الوزن حقيقة للصحائف، وحيث إنها تثقل وتخف بحسب الأعمال المكتوبة صار الوزن كأنه للأعمال، وأما وزن صاحب العمل فالمراد به قدره وحرمته. وهذا جمع حسن والله أعلم.
(5/65)
(نشر الدواوين)
النشر لغة: فتح الكتاب أو بث الشيء.
وشرعا: إظهار صحائف الأعمال يوم القيامة وتوزيعها.
والدواوين: جمع ديوان وهو لغة: الكتاب يحصى فيه الجند ونحوهم.
وشرعا: الصحائف التي أحصيت فيها الأعمال التي كتبها الملائكة على العامل.
فنشر الدواوين إظهار صحائف الأعمال يوم القيامة، فتتطاير إلى الأيمان والشمائل، وهو ثابت بالكتاب، والسنة، وإجماع الأمة.
قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى سَعِيرًا} . {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ} .
«وعن عائشة رضي الله عنها أنها سألت النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هل تذكرون أهليكم؟ قال: أما في ثلاثة مواطن فلا يذكر أحد أحدا: عند الميزان حتى يعلم أيخف ميزانه أم يثقل، وعند تطاير الصحف حتى يعلم أين يقع كتابه في يمينه، أم في شماله، أم وراء ظهره، وعند الصراط إذا وضع بين ظهراني جهنم حتى يجوز» . رواه أبو داود والحاكم وقال: صحيح على شرطهما.
وأجمع المسلمون على ثبوت ذلك.
(5/66)
(صفة أخذ الكتاب)
المؤمن يأخذ كتابه بيمينه فيفرح ويستبشر ويقول: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} .
والكافر يأخذه بشماله، أو من وراء ظهره، فيدعو بالويل والثبور، ويقول: {يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} .
(الحوض)
الحوض لغة: الجمع. يقال: حاض الماء يحوضه إذا جمعه، ويطلق على مجتمع الماء.
وشرعا: حوض الماء النازل من الكوثر في عرصات القيامة للنبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ودل عليه السنة المتواترة، وأجمع عليه أهل السنة.
قال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إني فرطكم على الحوض» . متفق عليه.
وأجمع السلف أهل السنة على ثبوته، وقد أنكر المعتزلة ثبوت الحوض، ونرد عليهم بأمرين:
1 - الأحاديث المتواترة عن الرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
2 - إجماع أهل السنة على ذلك.
(صفة الحوض)
طوله شهر، وعرضه شهر، وزواياه سواء، وآنيته كنجوم السماء، وماؤه أبيض من اللبن، وأحلى من العسل، وأطيب من ريح المسك، فيه ميزابان يمدانه من الجنة، أحدهما من ذهب، والثاني من فضة، يرده المؤمنون من أمة محمد، ومن يشرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبدا، وكل
(5/67)
هذا ثابت في الصحيحين أو أحدهما.
وهو موجود الآن لقوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن» ، رواه البخاري.
واستمداده من الكوثر لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وأعطاني الكوثر وهو نهر في الجنة يسيل في حوض» . رواه أحمد. قال ابن كثير: وهو حسن الإسناد والمتن.
ولكل نبي حوض، ولكن حوض النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أكبرها وأعظمها وأكثرها واردة لقول النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن لكل نبي حوضا، وإنهم ليتباهون أيهم أكثر واردة، وإني لأرجو أن أكون أكثرهم واردة» . رواه الترمذي وقال: غريب، وروى ذلك ابن أبي الدنيا وابن ماجه من حديث أبي سعيد، وفيه ضعف، لكن صححه بعضهم من أجل تعدد الطرق.
(الصراط)
الصراط لغة: الطريق.
وشرعا: الجسر الممدود على جهنم ليعبر الناس عليه إلى الجنة.
وهو ثابت بالكتاب، والسنة، وقول السلف.
قال الله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} . فسرها عبد الله بن مسعود، وقتادة، وزيد بن أسلم بالمرور على الصراط.
وفسرها جماعة منهم ابن عباس بالدخول في النار لكن ينجون منها.
وقال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثم يضرب الجسر على جهنم، وتحل الشفاعة، ويقولون: اللهم سلم سلم» . متفق عليه.
واتفق أهل السنة على إثباته.
(5/68)
(صفة الصراط)
«سئل النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عن الصراط فقال: " مدحضة مزلة، عليه خطاطيف وكلاليب، وحسكة مفلطحة لها شوكة عقيفاء، تكون بنجد، يقال لها: السعدان» . رواه البخاري وله من حديث أبي هريرة: «وبه كلاليب مثل شوك السعدان» ، غير أنها لا يعلم قدر عظمها إلا الله، يخطف الناس بأعمالهم. وفي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد رضي الله عنه، قال: «بلغني أنه أدق من الشعر، وأحد من السيف» . وروى الإمام أحمد نحوه عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا.
(العبور على الصراط وكيفيته)
لا يعبر الصراط إلا المؤمنون على قدر أعمالهم لحديث أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفيه: «فيمر المؤمنون كطرف العين، وكالبرق، وكالريح، وكالطير، وكأجاويد الخيل والركاب، فناج مسلم، ومخدوش مرسل، ومكدوس في جهنم» . متفق عليه. وفي صحيح مسلم: «تجري بهم أعمالهم، ونبيكم قائم على الصراط يقول: يارب سلم سلم، حتى تعجز أعمال العباد حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفا» . وفي صحيح البخاري: «حتى يمر آخرهم يسحب سحبا» .
وأول من يعبر الصراط من الأنبياء محمد، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن الأمم أمته لقول النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فأكون أنا وأمتي أول من يجيزها ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل ودعاء الرسول يومئذ: اللهم سلم سلم» . رواه البخاري.
(5/69)
(الجنة والنار)
الجنة لغة: البستان الكثير الأشجار.
وشرعا: الدار التي أعدها الله في الآخرة للمتقين.
والنار لغة: معروفة.
وشرعا: الدار التي أعدها الله في الآخرة للكافرين.
وهما مخلوقتان الآن لقوله تعالى في الجنة: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} وفي النار: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} . والإعداد التهيئة، ولقوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حين صلى صلاة الكسوف: «إني رأيت الجنة، فتناولت منها عنقودا، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، ورأيت النار، فلم أر كاليوم منظرا قط أفظع» . متفق عليه.
والجنة والنار لا تفنيان لقوله: {جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} . والآيات في تأبيد الخلود في الجنة كثيرة، وأما في النار فذكر في ثلاثة مواضع: في النساء {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} . وفي الأحزاب: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} . وفي الجن {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} .
(5/70)
وقال الله تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} .
(مكان الجنة والنار)
الجنة في أعلى عليين لقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} . وقوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في حديث البراء بن عازب المشهور في قصة فتنة القبر: «فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوه إلى الأرض» .
والنار في أسفل سافلين لقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} . وقوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في حديث البراء بن عازب السابق: «فيقول الله تعالى: اكتبوا كتاب عبدي في سجين في الأرض السفلى» .
(أهل الجنة وأهل النار)
أهل الجنة كل مؤمن تقي لأنهم أولياء الله، قال الله تعالى في الجنة: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} . {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} . وأهل النار كل كافر شقي، قال الله تعالى في النار: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} . {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ} .
(5/71)
(ذبح الموت)
الموت زوال الحياة، وكل نفس ذائقة الموت، وهو أمر معنوي غير محسوس بالرؤية، ولكن الله تعالى يجعله شيئا مرئيا مجسما، ويذبح بين الجنة والنار لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: «يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح، فينادي منادٍ: يا أهل الجنة فيشرئبون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت وكلهم قد رآه، ثم ينادي: يا أهل النار، فيشرئبون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم هذا الموت، وكلهم قد رآه. فيذبح. ثم يقول: يا أهل الجنة، خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت ". ثم قرأ: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} » . أخرجه البخاري في تفسير هذه الآية، وروى نحوه في صفة الجنة والنار من حديث ابن عمر مرفوعا.
(5/72)
فصل
في حقوق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه
أفضل الخلق عند الله الرسل، ثم النبيون، ثم الصديقون، ثم الشهداء، ثم الصالحون، وقد ذكر الله هذه الطبقات في كتابه في قوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} .
وأفضل الرسل أولو العزم منهم، وهم خمسة: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد عليهم الصلوات من الله والتسليم، وقد ذكرهم الله في موضعين من كتابه: في الأحزاب: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} . وفي الشورى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} .
وأفضلهم محمد، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أنا سيد الناس يوم القيامة» . متفق عليه، وصلاتهم خلفه ليلة المعراج وغير ذلك من الأدلة.
ثم إبراهيم؛ لأنه أبو الأنبياء وملته أصل الملل، ثم موسى؛ لأنه أفضل أنبياء بني إسرائيل وشريعته أصل شرائعهم، ثم نوح وعيسى لا يجزم بالمفاضلة بينهما؛ لأن لكل منهما مزية.
(5/73)
خصائص النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
اختص النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بخصائص نتكلم على ما ذكر المؤلف منها:
1 - خاتم النبيين لقوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} .
2 - سيد المرسلين، وسبق دليله.
3 - لا يتم إيمان عبد حتى يؤمن برسالته؛ لقوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} . وغيره من الأنبياء يبعثون إلى أقوام معينين كل إلى قومه.
4 - لا يقضى بين الناس إلا بشفاعته وسبق دليل ذلك في الشفاعة.
5 - سبق أمته الأمم في دخول الجنة لعموم قوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة» . وسبق.
6 - صاحب لواء الحمد يحمله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يوم القيامة، ويكون الحامدون تحته، لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر» . رواه الترمذي، وقد روى الأولى والأخيرة مسلم.
7 - صاحب المقام المحمود أي العمل الذي يحمده عليه الخالق والمخلوق لقوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} . وهذا
(5/75)
المقام هو ما يحصل من مناقبه، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يوم القيامة من الشفاعة وغيرها.
8 - صاحب الحوض المورود، والمراد الحوض الكبير الكثير واردوه، أما مجرد الحياض فقد مر أن لكل نبي حوضا.
9 -11 - إمام النبيين، وخطيبهم، وصاحب شفاعتهم لحديث أبي بن كعب أن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: «إذا كان يوم القيامة كنت إمام النبيين وخطيبهم، وصاحب شفاعتهم غير فخر» . رواه الترمذي وحسنه.
12 - أمته خير الأمم لقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} . فأما قوله تعالى: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} . فالمراد عالمي زمانهم.
فضائل الصحابة
الصحابي من اجتمع بالنبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مؤمنا به ومات على ذلك.
وأصحاب النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أفضل أصحاب الأنبياء لقول النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خير الناس قرني» . الحديث رواه البخاري وغيره.
وأفضل الصحابة المهاجرون لجمعهم بين الهجرة والنصرة، ثم الأنصار.
وأفضل المهاجرين الخلفاء الأربعة الراشدون: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي رضي الله عنهم.
فأبو بكر هو الصديق عبد الله بن عثمان بن عامر من بني تيم بن مرة بن كعب، أول من آمن برسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من الرجال وصاحبه في الهجرة، ونائبه في الصلاة والحج، وخليفته في أمته، أسلم على يديه خمسة من المبشرين بالجنة: عثمان، والزبير، وطلحة، وعبد الرحمن بن عوف،
(5/76)
وسعد بن أبي وقاص، توفي في جمادى الآخرة سنة 13هـ عن63 سنة وهؤلاء الخمسة مع أبي بكر، وعلي بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، هم الثمانية الذين سبقوا الناس بالإسلام قاله ابن إسحاق يعني من الذكور بعد الرسالة.
وعمر هو أبو حفص الفاروق عمر بن الخطاب من بني عدي بن كعب بن لؤي، أسلم في السنة السادسة من البعثة بعد نحو أربعين رجلا وإحدى عشرة امرأة، ففرح المسلمون به وظهر الإسلام بمكة بعده. استخلفه أبو بكر على الأمة فقام بأعباء الخلافة خير قيام إلى أن قتل شهيدا في ذي الحجة سنة 23هـ عن63 سنة.
وعثمان هو أبو عبد الله ذو النورين عثمان بن عفان من بني أمية بن عبد شمس بن عبد مناف. أسلم قبل دخول النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دار الأرقم كان غنيا سخيا، تولى الخلافة بعد عمر بن الخطاب باتفاق أهل الشورى إلى أن قتل شهيدا في ذي الحجة سنة 35هـ عن 90 سنة على أحد الأقوال.
وعلي وهو أبو الحسن علي بن أبي طالب، واسم أبي طالب عبد مناف بن عبد المطلب، أول من أسلم من الغلمان، أعطاه رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الراية يوم خيبر ففتح الله على يديه، وبويع بالخلافة بعد قتل عثمان رضي الله عنهما فكان هو الخليفة شرعا إلى أن قتل شهيدا في رمضان سنة 40هـ عن 63سنة.
وأفضل هؤلاء الأربعة أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما: «كنا نخير بين الناس في زمن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنخير أبا بكر، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان» . رواه البخاري ولأبي داود: «كنا نقول ورسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حي: أفضل أمة النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بعده أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان» زاد الطبراني في رواية:
(5/77)
«فيسمع ذلك النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا ينكره» . هذا ولم أجد اللفظ ذكره المؤلف بزيادة علي بن أبي طالب.
وأحقهم بالخلافة بعد النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أبو بكر رضي الله عنه لأنه أفضلهم وأسبقهم إلى الإسلام، ولأن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قدمه في الصلاة، ولأن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على تقديمه ومبايعته ولا يجمعهم الله على ضلالة، ثم عمر رضي الله عنه لأنه أفضل الصحابة بعد أبي بكر، ولأن أبا بكر عهد بالخلافة إليه، ثم عثمان رضي الله عنه لفضله، وتقديم أهل الشورى له وهم المذكرون في هذا البيت:
علي وعثمان وسعد وطلحة ... زبير وذو عوف رجال المشورة
ثم علي رضي الله عنه لفضله، وإجماع أهل عصره عليه.
وهؤلاء الأربعة هم الخلفاء الراشدون المهديون الذين قال فيهم النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ» .
وقال: «الخلافة بعدي ثلاثون سنة» . رواه أحمد وأبو داود والترمذي قال الألباني: وإسناده حسن. فكان آخرها خلافة علي هكذا قال المؤلف وكأنه جعل خلافة الحسن تابعة لأبيه، أو لم يعتبرها حيث إنه رضي الله عنه تنازل عنها.
فخلافة أبي بكر رضي الله عنه سنتان وثلاثة أشهر وتسع ليال من 13 ربيع الأول سنة 11هـ إلى 22 جمادى الآخرة سنة 13هـ.
وخلافة عمر رضي الله عنه عشر سنوات وستة أشهر وثلاثة أيام من 23 جمادى الآخرة سنة 13هـ إلى 26 ذي الحجة سنة 23هـ.
وخلافة عثمان رضي الله عنه اثنتا عشرة سنة إلا اثني عشر يوما من 1 محرم سنة 24هـ إلى 18 ذي الحجة سنة 35 هـ.
(5/78)
وخلافة علي رضي الله عنه أربع سنوات وتسعة أشهر من 19 ذي الحجة سنة 35هـ إلى 19 رمضان سنة 40هـ.
فمجموع خلافة هؤلاء الأربعة تسع وعشرون سنة وستة أشهر وأربعة أيام.
ثم بويع الحسن بن علي رضي الله عنهما يوم مات أبوه علي رضي الله عنه، وفي ربيع الأول سنة 41هـ سلم الأمر إلى معاوية وبذلك ظهرت آية النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في قوله: «الخلافة بعدي ثلاثون سنة» وقوله في الحسن: «إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» . رواه البخاري.
الشهادة بالجنة أو النار
الشهادة بالجنة أو بالنار ليس للعقل فيها مدخل فهي موقوفة على الشرع، فمن شهد له الشارع بذلك شهدنا له، ومن لا فلا، لكننا نرجو للمحسن، ونخاف على المسيء.
وتنقسم الشهادة بالجنة أو بالنار إلى قسمين عامة وخاصة.
فالعامة هي المعلقة بالوصف مثل أن نشهد لكل مؤمن بأنه في الجنة أو لكل كافر بأنه في النار أو نحو ذلك من الأوصاف التي جعلها الشارع سببا لدخول الجنة أو النار.
والخاصة هي المعلقة بشخص مثل أن نشهد لشخص معين بأنه في الجنة، أو لشخص معين بأنه في النار فلا نعين إلا ما عينه الله أو رسوله.
المعينون من أهل الجنة
المعينون من أهل الجنة كثيرون ومنهم: العشرة المبشرون بالجنة وخصوا بهذا الوصف لأن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جمعهم في حديث واحد فقال: «أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة»
(5/79)
«في الجنة، والزبير في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وسعد بن أبي وقاص في الجنة، وسعيد بن زيد في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة» . رواه الترمذي وصححه الألباني.
وقد سبق الكلام على الخلفاء الأربعة وأما الباقون فجمعوا في هذا البيت:
سعيد وسعد وابن عوف وطلحة ... وعامر فهر والزبير الممدح
فطلحة هو ابن عبيد الله من بني يتم بن مرة أحد الثمانية السابقين إلى الإسلام قتل يوم الجمل في جمادى الآخرة سنة 36هـ عن 64سنة.
والزبير هو ابن العوام من بني قصي بن كلاب ابن عمة رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، انصرف يوم الجمل عن قتال علي فلقيه ابن جرموز فقتله في جمادى الأولى سنة 36هـ عن 67سنة.
وعبد الرحمن بن عوف من بني زهرة بن كلاب توفي سنة 32هـ عن 72 سنة ودفن بالبقيع.
وسعد بن أبي وقاص هو ابن مالك من بني عبد مناف بن زهرة أول من رمى بسهم في سبيل الله، مات في قصره بالعقيق على عشرة أميال من المدينة ودفن بالبقيع سنة 55هـ عن 82 سنة.
وسعيد بن زيد هو ابن زيد بن عمرو بن نفيل العدوي كان من السابقين إلى الإسلام، توفي بالعقيق ودفن بالمدينة سنة 51هـ عن بضع وسبعين سنة.
وأبو عبيدة هو عامر بن عبد الله بن الجراح من بني فهر، من السابقين إلى الإسلام توفي في الأردن في طاعون عمواس سنة 18هـ عن 58 سنة.
وممن شهد له النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بالجنة الحسن، والحسين، وثابت بن قيس.
(5/80)
قال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة» . رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح.
قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في ثابت بن قيس: «إنك لست من أهل النار، ولكنك من أهل الجنة» . رواه البخاري.
فالحسن سبط رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وريحانته وهو أمير المؤمنين ابن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ولد في 15 رمضان سنة 3هـ ومات في المدينة ودفن في البقيع في ربيع الأول سنة 50هـ.
والحسين سبط رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وريحانته وهو ابن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ولد في شعبان سنة 4هـ وقتل في كربلاء في 10 محرم سنة 61هـ.
وثابت وهو ابن قيس بن شماس الأنصاري الخزرجي خطيب الأنصار قتل شهيدا يوم اليمامة سنة 11هـ في آخرها، أو أول سنة 12هـ.
المعينون من أهل النار في الكتاب والسنة
من المعينين بالقرآن: أبو لهب عبد العزى بن عبد المطلب عم النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وامرأته أم جميل أروى بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان لقوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} إلى آخر السورة.
ومن المعينين بالسنة: أبو طالب عبد مناف بن عبد المطلب لقول النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أهون أهل النار عذابا أبو طالب وهو منتعل نعلين يغلي منهما دماغه» . رواه البخاري.
ومنهم عمرو بن عامر بن لحي الخزاعي قال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رأيته يجر أمعاءه في النار» . رواه البخاري وغيره.
(5/81)
تكفير أهل القبلة بالمعاصي
أهل القبلة هم المسلمون المصلون إليها، لا يكفرون بفعل الكبائر، ولا يخرجون من الإسلام بذلك، ولا يخلدون في النار لقوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} إلى قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} . فأثبت الأخوة الإيمانية مع القتال وهو من الكبائر، ولو كان كفرا لانتفت الأخوة الإيمانية.
وقال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقول الله تعالى: «من كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان فأخرجوه» . يعني من النار. متفق عليه.
وخالف في هذا طائفتان:
الأولى: الخوارج قالوا: فاعل الكبيرة كافر خالد في النار.
الثانية: المعتزلة قالوا: فاعل الكبيرة خارج عن الإيمان ليس بمؤمن ولا كافر في منزلة بين منزلتين وهو خالد في النار.
ونرد على الطائفتين بما يأتي:
1 - مخالفتهم لنصوص الكتاب، والسنة.
2- مخالفتهم لإجماع السلف.
حقوق الصحابة رضي الله عنهم
للصحابة رضي الله عنهم فضل عظيم على هذه الأمة حيث قاموا بنصرة الله، ورسوله، والجهاد في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، وحفظ دين الله بحفظ كتابه، وسنة رسوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، علما، وعملا، وتعليما حتى بلغوه الأمة نقيا طريا.
(5/82)
وقد أثنى الله عليهم في كتابه أعظم ثناء حيث يقول في سورة الفتح: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} . إلى آخر السورة.
وحمى رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حمى كرامتهم - حيث يقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» . متفق عليه. فحقوقهم على الأمة من أعظم الحقوق، فلهم على الأمة:
1 - محبتهم بالقلب، والثناء عليهم باللسان بما أسدوه من المعروف والإحسان.
2 - الترحم عليهم، والاستغفار لهم تحقيقا لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} .
3 - الكف عن مساوئهم التي إن صدرت عن أحد منهم فهي قليلة بالنسبة لما لهم من المحاسن والفضائل وربما تكون صادرة عن اجتهاد مغفور وعمل معذور لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تسبوا أصحابي» . الحديث.
حكم سب الصحابة
سب الصحابة على ثلاثة أقسام:
الأول: أن يسبهم بما يقتضي كفر أكثرهم، أو أن عامتهم فسقوا، فهذا كفر؛ لأنه تكذيب لله ورسوله بالثناء عليهم والترضي عنهم، بل من شك في كفر مثل هذا فإن كفره متعين؛ لأن مضمون هذه المقالة أن نقلة الكتاب أو السنة كفار، أو فساق.
(5/83)
الثاني: أن يسبهم باللعن والتقبيح، ففي كفره قولان لأهل العلم وعلى القول بأنه لا يكفر يجب أن يجلد ويحبس حتى يموت أو يرجع عما قال.
الثالث: أن يسبهم بما لا يقدح في دينهم كالجبن والبخل فلا يكفر ولكن يعزر بما يردعه عن ذلك، ذكر معنى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب "الصارم المسلول " ونقل عن أحمد في ص 573 قوله: (لا يجوز لأحد أن يذكر شيئا من مساوئهم، ولا يطعن على أحد منهم بعيب أو نقص، فمن فعل ذلك أدب، فإن تاب وإلا جلد في الحبس حتى يموت أو يرجع) .
حقوق زوجات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
زوجات النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، زوجاته في الدنيا والآخرة، وأمهات المؤمنين ولهن من الحرمة والتعظيم ما يليق بهن كزوجات لخاتم النبيين فهن من آل بيته طاهرات، مطهرات، طيبات، مطيبات، بريئات، مبرآت من كل سوء يقدح في أعراضهن وفرشهن، فالطيبات للطيبين، والطيبون للطيبات، فرضي الله عنهن وأرضاهن أجمعين وصلى الله وسلم على نبيه الصادق الأمين.
زوجاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، اللاتي كان فراقهن بالوفاة وهن:
1 - خديجة بنت خويلد أم أولاده - ما عدا إبراهيم - تزوجها رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بعد زوجين: الأول عتيق بن عابد، والثاني أبو هالة التميمي ولم يتزوج، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عليها حتى ماتت سنة 10 من البعثة قبل المعراج.
2 - عائشة بنت أبي بكر الصديق أريها، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في المنام مرتين أو ثلاثا وقيل: هذه امرأتك فعقد عليها ولها ست سنين بمكة ودخل عليها في المدينة ولها تسع سنين توفيت سنة 58هـ.
(5/84)
3 - سودة بنت زمعة العامرية، تزوجها بعد زوج مسلم هو السكران بن عمرو أخو سهيل بن عمرو توفيت آخر خلافة عمر وقيل: سنة 54هـ.
4 - حفصة بنت عمر بن الخطاب تزوجها، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بعد زوج مسلم هو خنيس بن حذافة الذي قتل في أحد وماتت سنة 41هـ.
5 - زينب بنت خزيمة الهلالية أم المساكين تزوجها بعد استشهاد زوجها عبد الله بن جحش في أحد وماتت سنة 4هـ بعد زواجها بيسير.
6 - أم سلمة هند بنت أبي أمية المخزومية تزوجها بعد موت زوجها أبي سلمة عبد الله ابن عبد الأسد من جراحة أصابته في أحد وماتت سنة 61هـ.
7 - زينب بنت جحش الأسدية بنت عمته، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تزوجها بعد مولاه زيد بن حارثة سنة 5هـ وماتت سنة 20هـ.
8 - جويرية بنت الحارث الخزاعية تزوجها بعد زوجها مسافع بن صفوان وقيل: مالك بن صفوان سنة 6هـ وماتت سنة 56هـ.
9 - أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان تزوجها بعد زوج أسلم ثم تنصر هو عبيد الله بن جحش وماتت في المدينة في خلافة أخيها سنة 44هـ.
10 - صفية بنت حيي بن أخطب من بني النضير من ذرية هارون بن عمران، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أعتقها وجعل عتقها صداقها بعد زوجين أولهما سلام بن مشكم. والثاني كنانة بن أبي الحقيق بعد فتح خيبر سنة 6هـ وماتت سنة 50هـ.
11 - ميمونة بنت الحارث الهلالية تزوجها سنة 7هـ في عمرة القضاء بين زوجين: الأول ابن عبد ياليل والثاني أبو رهم بن عبد العزى، بنى بها في سرف وماتت فيه سنة 51هـ.
(5/85)
فهؤلاء زوجات النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، اللاتي كان فراقهن بالوفاة اثنتان توفيتا قبله وهما: خديجة، وزينب بنت خزيمة، وتسع توفي عنهن وهن البواقي.
وبقي اثنتان لم يدخل بهما، ولا يثبت لهما من الأحكام والفضيلة ما يثبت للسابقات وهما:
1 - أسماء بنت النعمان الكندية تزوجها النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم فارقها واختلف في سبب الفراق فقال ابن إسحاق إنه وجد في كشحها بياضا ففارقها فتزوجها بعده المهاجر بن أبي أمية.
2 - أميمة بنت النعمان بن شراحيل الجونية وهي التي قالت: " أعوذ بالله منك " ففارقها والله أعلم.
وأفضل زوجات النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خديجة، وعائشة رضي الله عنهما، ولكل منهما مزية على الأخرى، فلخديجة في أول الإسلام ما ليس لعائشة من السبق والمؤازرة، والنصرة، ولعائشة في آخر الأمر ما ليس لخديجة من نشر العلم، ونفع الأمة، وقد برأها الله مما رماها به أهل النفاق من الإفك في سورة النور.
قذف أمهات المؤمنين
قذف عائشة بما برأها الله منه كفر؛ لأنه تكذيب للقرآن وفي قذف غيرها من أمهات المؤمنين قولان لأهل العلم: أصحهما أنه كفر؛ لأنه قدح في النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن الخبيثات للخبيثين.
معاوية بن أبي سفيان
هو أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب، ولد قبل البعثة بخمس سنين، وأسلم عام الفتح وقيل: أسلم بعد الحديبية وكتم إسلامه ولاه عمر الشام واستمر عليه، وتسمى بالخلافة بعد الحكمين عام 37هـ
(5/86)
واجتمع الناس عليه بعد تنازل الحسن بن علي سنة 41هـ كان يكتب للنبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن جملة كتاب الوحي، توفي في رجب سنة 60هـ عن 78سنة، وإنما ذكره المؤلف وأثنى عليه للرد على الروافض الذين يسبونه ويقدحون فيه، وسماه خال المؤمنين لأنه أخو أم حبيبة إحدى أمهات المؤمنين وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة ص 199 ج2 نزاعا بين العلماء هل يقال لإخوة أمهات المؤمنين: أخوال المؤمنين أم لا؟
الخلافة
الخلافة منصب كبير، ومسئولية عظيمة، وهي تولي تدبير أمور المسلمين بحيث يكون هو المسئول الأول في ذلك، وهي فرض كفاية؛ لأن أمور الناس لا تقوم إلا بها.
وتحصل الخلافة بواحد من أمور ثلاثة:
الأول: النص عليه من الخليفة السابق، كما في خلافة عمر بن الخطاب فإنها بنص من أبي بكر رضي الله عنه.
الثاني: اجتماع أهل الحل والعقد سواء كانوا معينين من الخليفة السابق كما في خلافة عثمان رضي الله عنه، فإنها باجتماع من أهل الحل والعقد المعينين من قبل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أم غير معينين كما في خلافة أبي بكر رضي الله عنه على أحد الأقوال، وكما في خلافة علي رضي الله عنه.
الثالث: القهر والغلبة كما في خلافة عبد الملك بن مروان حين قتل ابن الزبير وتمت الخلافة له.
(5/87)
حكم طاعة الخليفة
طاعة الخليفة وغيره من ولاة الأمور واجبة في غير معصية الله لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} .
ولقوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «السمع والطاعة على المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» . متفق عليه.
وسواء كان الإمام برا وهو القائم بأمر الله فعلا وتركا، أو فاجرا وهو الفاسق لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إلا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يدا من طاعة» . رواه مسلم.
والحج والجهاد مع الأئمة ماضيان نافذان، وصلاة الجمعة خلفهم جائزة سواء كانوا أبرارا أو فجارا؛ لأن مخالفتهم في ذلك توجب شق عصا المسلمين والتمرد عليهم.
والحديث الذي ذكره المؤلف «ثلاث من أصل الإيمان» . . ." إلخ ضعيف كما رمز له السيوطي في الجامع الصغير، وفيه راو قال المزي: إنه مجهول. وقال المنذري في مختصر أبي داود: شبه مجهول.
والثلاث الخصال المذكورة فيه هي: «الكف عمن قال: لا إله إلا الله» والثانية: " «الجهاد ماض» إلخ. والثالثة: «الإيمان بالأقدار» .
والخروج على الإمام محرم لقول عبادة بن الصامت رضي الله عنه: «بايعنا رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، على السمع والطاعة في منشطنا، ومكرهنا، وعسرنا، ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان» . متفق عليه.
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يكون عليكم أمراء تعرفون وتنكرون فمن أنكر فقد»
(5/88)
«برئ، ومن كره فقد سلم، ولكن من رضي وتابع " قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: " لا ما صلوا لا ما صلوا. أي من كره بقلبه وأنكر بقلبه» . رواه مسلم.
ومن فوائد الحديثين أن ترك الصلاة كفر بواح؛ لأن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لم يجز الخروج على الأئمة إلا بكفر بواح، وجعل المانع من قتالهم فعل الصلاة فدل على أن تركها مبيح لقتالهم، وقتالهم لا يباح إلا بكفر بواح كما في حديث عبادة.
هجران أهل البدع
الهجران مصدر هجر وهو لغة: الترك.
والمراد بهجران أهل البدع: الابتعاد عنهم، وترك محبتهم، وموالاتهم، والسلام عليهم، وزيارتهم، وعيادتهم، ونحو ذلك.
وهجران أهل البدع واجب لقوله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} . ولأن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هجر كعب بن مالك وصاحبيه حين تخلفوا عن غزوة تبوك.
لكن إن كان في مجالستهم مصلحة لتبيين الحق لهم وتحذيرهم من البدعة فلا بأس بذلك، وربما يكون ذلك مطلوبا لقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} . وهذا قد يكون بالمجالسة، والمشافهة، وقد يكون بالمراسلة، والمكاتبة، ومن هجر أهل البدع: ترك النظر في كتبهم خوفا من الفتنة بها، أو ترويجها بين الناس فالابتعاد عن مواطن الضلال واجب لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في الدجال: «من سمع به فلينأ عنه فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه مما»
(5/89)
«يبعث به من الشبهات» . رواه أبو داود قال الألباني: وإسناده صحيح.
لكن إن كان الغرض من النظر في كتبهم معرفة بدعتهم للرد عليها فلا بأس بذلك لمن كان عنده من العقيدة الصحيحة ما يتحصن به وكان قادرا على الرد عليهم، بل ربما كان واجبا؛ لأن رد البدعة واجب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
الجدال والخصام في الدين
الجدال: مصدر جادل، والجدل منازعة الخصم للتغلب عليه، وفي القاموس الجدل: اللدد في الخصومة، والخصام: المجادلة فهما بمعنى واحد.
وينقسم الخصام والجدال في الدين إلى قسمين:
الأول: أن يكون الغرض من ذلك إثبات الحق وإبطال الباطل وهذا مأمور به إما وجوبا، أو استحبابا بحسب الحال لقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} .
الثاني: أن يكون الغرض منه التعنيت، أو الانتصار للنفس، أو للباطل فهذا قبيح منهي عنه لقوله تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} . وقوله: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} .
علامة أهل البدع وذكر بعض طوائفهم:
لأهل البدع علامات منها:
1 - أنهم يتصفون بغير الإسلام، والسنة بما يحدثونه من البدع القولية، والفعلية، والعقيدية.
(5/90)
2 - أنهم يتعصبون لآرائهم، فلا يرجعون إلى الحق وإن تبين لهم.
3 - أنهم يكرهون أئمة الإسلام والدين.
ومن طوائفهم:
1 - الرافضية: وهم الذين يغلون في آل البيت ويكفرون من عداهم من الصحابة، أو يفسقونهم، وهم فرق شتى فمنهم الغلاة الذين ادعوا أن عليا إله ومنهم دون ذلك.
وأول ما ظهرت بدعتهم في خلافة علي بن أبي طالب حين قال له عبد الله بن سبأ: أنت الإله فأمر علي - رضي الله عنه - بإحراقهم وهرب زعيمهم عبد الله بن سبأ إلى المدائن.
ومذهبهم في الصفات مختلف: فمنهم المشبه، ومنهم المعطل، ومنهم المعتدل.
وسموا رافضة لأنهم رفضوا زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب حين سألوه عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فترحم عليهما فرفضوه وأبعدوا عنه.
وسموا أنفسهم شيعة لأنهم يزعمون أنهم يتشيعون لآل البيت وينتصرون لهم ويطالبون بحقهم في الإمامة.
2 - الجهمية: نسبة إلى الجهم بن صفوان الذي قتله سالم أو سلم بن أحوز سنة 121هـ.
مذهبهم في الصفات التعطيل، والنفي، وفي القدر القول بالجبر، وفي الإيمان القول بالإرجاء وهو أن الإيمان مجرد الإقرار بالقلب وليس القول والعمل من الإيمان ففاعل الكبيرة عندهم مؤمن كامل الإيمان فهم معطلة، جبرية، مرجئة وهم فرق كثيرة.
(5/91)
3 - الخوارج: وهم الذين خرجوا لقتال علي بن أبي طالب بسبب التحكيم.
مذهبهم التبرؤ من عثمان، وعلي، والخروج على الإمام إذا خالف السنة وتكفير فاعل الكبيرة، وتخليده في النار، وهم فرق عديدة.
4 - القدرية: وهم الذين يقولون بنفي القدر عن أفعال العبد، وأن للعبد إرادة وقدرة مستقلتين عن إرادة الله وقدرته، وأول من أظهر القول به معبد الجهني في أواخر عصر الصحابة تلقاه عن رجل مجوسي في البصرة.
وهم فرقتان غلاة، وغير غلاة، فالغلاة ينكرون علم الله، وإرادته، وقدرته، وخلقه لأفعال العبد وهؤلاء انقرضوا أو كادوا. وغير الغلاة يؤمنون بأن الله عالم بأفعال العباد، لكن ينكرون وقوعها بإرادة الله، وقدرته، وخلقه، وهو الذي استقر عليه مذهبهم.
5 - المرجئة: وهم الذين يقولون بإرجاء العمل عن الإيمان أي تأخيره عنه فليس العمل عندهم من الإيمان، والإيمان مجرد الإقرار بالقلب، فالفاسق عندهم مؤمن كامل الإيمان، وإن فعل ما فعل من المعاصي أو ترك ما ترك من الطاعات، وإذا حكمنا بكفر من ترك بعض شرائع الدين فذلك لعدم الإقرار بقلبه لا لترك هذا العمل، وهذا مذهب الجهمية وهو مع مذهب الخوارج على طرفي نقيض.
6 - المعتزلة: أتباع واصل بن عطاء الذي اعتزل مجلس الحسن البصري، وقرر أن الفاسق في منزلة بين منزلتين لا مؤمن ولا كافر، وهو مخلد في النار، وتابعه في ذلك عمرو بن عبيد.
ومذهبهم في الصفات التعطيل كالجهمية، وفي القدر قدرية ينكرون تعلق قضاء الله وقدره بأفعال العبد، وفي فاعل الكبيرة أنه مخلد في النار وخارج من الإيمان في منزلة بين منزلتين الإيمان والكفر، وهم عكس الجهمية في هذين الأصلين.
(5/92)
7 - الكرامية: أتباع محمد بن كرام المتوفى سنة 255هـ يميلون إلى التشبيه، والقول بالإرجاء وهم طوائف متعددة.
8 - السالمة: أتباع رجل يقال له: ابن سالم يقولون بالتشبيه.
وهذه هي الطوائف التي ذكرها المؤلف ثم قال: ونظائرهم مثل الأشعرية أتباع أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري كان في أول أمره يميل إلى الاعتزال حتى بلغ الأربعين من عمره، ثم أعلن توبته من ذلك، وبين بطلان مذهب المعتزلة وتمسك بمذهب أهل السنة رحمه الله، أما من ينتسبون إليه فبقوا على مذهب خاص يعرف بمذهب الأشعرية لا يثبتون من الصفات إلا سبعا زعموا أن العقل دل عليها ويؤولون ما عداها وهي المذكورة في هذا البيت:
حي عليم قدير والكلام له ... إرادة وكذاك السمع والبصر
ولهم بدع أخرى في معنى الكلام، والقدر وغير ذلك.
الخلاف في الفروع
الفروع جمع فرع وهو لغة ما بني على غيره.
واصطلاحا: ما لا يتعلق بالعقائد كمسائل الطهارة، والصلاة ونحوها.
والاختلاف فيها ليس بمذموم حيث كان صادرا عن نية خالصة واجتهاد، لا عن هوى وتعصب؛ لأنه وقع في عهد النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم ينكره حيث قال في غزوة بني قريظة: «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة ". فحضرت الصلاة قبل وصولهم فأخر بعضهم الصلاة حتى وصلوا بني قريظة وصلى بعضهم حين خافوا خروج الوقت ولم ينكر النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، على واحد منهم» . رواه البخاري، ولأن الاختلاف فيها موجود في الصحابة وهم
(5/93)
خير القرون، ولأنه لا يورث عداوة، ولا بغضاء، ولا تفرق كلمة بخلاف الاختلاف في الأصول.
وقول المؤلف: " المختلفون فيه محمودون في اختلافهم " ليس ثناء على الاختلاف فإن الاتفاق خير منه، وإنما المراد به نفي الذم عنه، وأن كل واحد محمود على ما قال؛ لأنه مجتهد فيه مريد للحق فهو محمود على اجتهاده واتباع ما ظهر له من الحق وإن كان قد لا يصيب الحق، وقوله: " إن الاختلاف في الفروع رحمة وإن اختلافهم رحمة واسعة "، أي داخل في رحمة الله وعفوه حيث لم يكلفهم أكثر مما يستطيعون ولم يلزمهم بأكثر مما ظهر لهم، فليس عليهم حرج في هذا الاختلاف، بل هم فيه داخلون تحت رحمة الله وعفوه، إن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطئوا فلهم أجر واحد.
الإجماع وحكمه
الإجماع لغة: العزم والاتفاق.
واصطلاحا: اتفاق العلماء المجتهدين من أمة محمد، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، على حكم شرعي بعد النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وهو حجة لقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} . وقول النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تجتمع أمتي على ضلالة» . رواه الترمذي.
(5/94)
التقليد
التقليد لغة: وضع القلادة في العنق.
واصطلاحا: اتباع قول الغير بلا حجة.
وهو جائز لمن لا يصل إلى العلم بنفسه لقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} .
والمذاهب المشهورة أربعة:
المذهب الحنفي: وإمامه أبو حنيفة النعمان بن ثابت إمام أهل العراق، ولد سنة 80هـ وتوفي سنة 150هـ.
المالكي: وإمامه أبو عبد الله مالك بن أنس، إمام دار الهجرة، ولد سنة 93هـ وتوفي سنة 179هـ.
الشافعي: وإمامه أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، ولد سنة 150هـ وتوفي سنة 204هـ.
الحنبلي: وإمامه أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل، ولد سنة 164هـ وتوفي سنة 241هـ.
وهناك مذاهب أخرى كمذهب الظاهرية، والزيدية، والسفيانية، وغيرهم، وكل يؤخذ من قوله ما كان صوابا، ويترك من قوله ما كان خطأ، ولا عصمة إلا في كتاب الله، وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
نسأل الله أن يجعلنا من المتمسكين بكتابه وسنة رسوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ظاهرا وباطنا، وأن يتوفانا على ذلك، وأن يتولانا في الدنيا والآخرة، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب.
(5/95)
والحمد لله كثيرا، كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لكرم وجهه، عز جلاله، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
تم في عصر الجمعة الموافق 10\1\1392هـ.
بقلم مؤلفه
الفقير إلى الله
محمد الصالح العثيمين
(5/96)
نبذة في العقيدة
(5/97)
[أهمية علم التوحيد]
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى آله، وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان، وسلم تسليما.
أما بعد: فإن (علم التوحيد) أشرف العلوم، وأجلها قدرا، وأوجبها مطلبا؛ لأنه العلم بالله تعالى، وأسمائه، وصفاته، وحقوقه على عباده.
ولأنه مفتاح الطريق إلى الله تعالى، وأساس شرائعه.
ولذا أجمعت الرسل على الدعوة إليه، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} .
وشهد لنفسه تعالى بالوحدانية، وشهد بها له ملائكته، وأهل العلم، قال الله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .
ولما كان هذا شأن التوحيد، كان لزاما على كل مسلم أن يعتني به تعلما، وتعليما، وتدبرا، واعتقادا، ليبني دينه على أساس سليم، واطمئنان، وتسليم يسعد بثمراته، ونتائجه.
الدين الإسلامي:
الدين الإسلامي: (هو الدين الذي بعث الله به محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ختم الله به الأديان وأكمله لعباده، وأتم به عليهم النعمة، ورضيه لهم دينا، فلا يقبل
(5/99)
من أحد دينا سواه، قال الله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} .
وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} .
وقال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} .
وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} .
وقد فرض الله تعالى على جميع الناس أن يدينوا لله تعالى به فقال مخاطبا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} .
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار» .
والإيمان به: (تصديق ما جاء به مع القبول، والإذعان، لا مجرد التصديق) . ولهذا لم يكن أبو طالب مؤمنا بالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع تصديقه لما جاء به، وشهادته بأنه من خير الأديان.
والدين الإسلامي: متضمن لجميع المصالح التي تضمنتها الأديان
(5/100)
السابقة، متميز عليها بكونه صالحا لكل زمان، ومكان وأمة، قال الله تعالى مخاطبا رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} .
ومعنى كونه صالحا لكل زمان، ومكان، وأمة: أن التمسك به لا ينافي مصالح الأمة في أي زمان، أو مكان، بل هو صلاحها، وليس معنى ذلك أنه خاضع لكل زمان ومكان وأمة كما يريده بعض الناس.
والدين الإسلامي: هو دين الحق الذي ضمن الله تعالى لمن تمسك به حق التمسك أن ينصره، ويظهره على من سواه، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} .
وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} .
والدين الإسلامي: عقيدة، وشريعة، فهو كامل في عقيدته، وشرائعه:
1 - يأمر بتوحيد الله تعالى، وينهى عن الشرك.
2 - يأمر بالصدق، وينهى عن الكذب.
3 - يأمر بالعدل (1) ، وينهى عن الجور.
__________
(1) العدل: هو المساواة بين المتماثلات والتفريق بين المختلفات، وليس العدل المساواة المطلقة كما ينطق به بعض الناس حين يقول: دين الإسلام دين المساواة ويطلق فإن المساواة بين المختلفات جور لا يأتي به الإسلام ولا يحمد فاعله.
(5/101)
4 - يأمر بالأمانة، وينهى عن الخيانة.
5 - يأمر بالوفاء، وينهى عن الغدر.
6 - يأمر ببر الوالدين، وينهى عن العقوق.
7 - يأمر بصلة الأرحام وهم الأقارب، وينهى عن القطيعة.
8 - يأمر بحسن الجوار، وينهى عن سيئه.
وعموم القول أن (الإسلام) يأمر بكل خلق فاضل، وينهى عن كل خلق سافل.
ويأمر بكل عمل صالح، وينهى عن كل عمل سيئ.
قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} .
(5/102)
أركان الإسلام
أركان الإسلام: أسسه التي ينبني عليها، وهي - خمسة - مذكورة فيما رواه - ابن عمر رضي الله عنهما - عن النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أنه قال: «بني الإسلام على خمسة: على أن يوحد الله (وفي رواية على خمس) : شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، والحج ". فقال رجل: الحج، وصيام رمضان، قال: لا، صيام رمضان، والحج. هكذا سمعته من رسول الله (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . متفق عليه. واللفظ لمسلم.
1 - أما شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله فهي: الاعتقاد الجازم المعبر عنه باللسان بهذه الشهادة، كأنه بجزمه في ذلك مشاهد له، وإنما جعلت هذه الشهادة ركنا واحدا مع تعدد المشهود به:
إما لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مبلغ عن الله تعالى،فالشهادة له بالعبودية والرسالة من تمام شهادة أن لا إله إلا الله.
وإما لأن هاتين الشهادتين أساس صحة الأعمال وقبولها، إذ لا صحة لعمل، ولا قبول، إلا بالإخلاص لله تعالى، والمتابعة لرسوله (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، فبالإخلاص تتحقق شهادة أن لا إله إلا الله، وبالمتابعة لرسول الله تتحقق شهادة أن محمدا عبده ورسوله.
ومن ثمرات الشهادة العظيمة: تحرير القلب والنفس من الرق للمخلوقين، والاتباع لغير المرسلين.
2 - وأما إقام الصلاة: فهو التعبد لله تعالى بفعلها على وجه الاستقامة والتمام في أوقاتها وهيئاتها.
(5/103)
ومن ثمراته: انشراح الصدر، وقرة العين، والانزجار عن الفحشاء والمنكر.
3 - وأما إيتاء الزكاة: فهو التعبد لله تعالى ببذل القدر الواجب في الأموال الزكوية المستحقة.
ومن ثمراته: تطهير النفس من الخلق الرذيل (البخل) ، وسد حاجة الإسلام والمسلمين.
4 - وأما صوم رمضان: فهو التعبد لله تعالى بالإمساك عن المفطرات نهار رمضان.
ومن ثمراته: ترويض النفس عن ترك المحبوبات طلبا لمرضاة الله عز وجل.
5 - وأما حج البيت: فهو التعبد لله تعالى بقصد البيت الحرام للقيام بشعائر الحج.
ومن ثمراته: ترويض النفس على بذل المجهود المالي والبدني في طاعة الله تعالى، ولهذا كان الحج نوعا من الجهاد في سبيل الله تعالى.
وهذه الثمرات التي ذكرناها لهذه الأسس وما لم نذكره تجعل من الأمة أمة إسلامية نقية، تدين لله دين الحق، وتعامل الخلق بالعدل والصدق؛ لأن ما سواها من شرائع الإسلام يصلح بصلاح هذه الأسس، وتصلح أحوال الأمة بصلاح أمر دينها، ويفوتها من صلاح أحوالها بقدر ما فاتها من صلاح أمور دينها.
ومن أراد استبانة ذلك فليقرأ قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ}
(5/104)
{أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} . ولينظر في تاريخ من سبق، فإن في التاريخ عبرة لأولي الألباب، وبصيرة لمن لم يحل دون قلبه حجاب. والله المستعان.
(5/105)
أسس العقيدة الإسلامية
الدين الإسلامي - كما سبق - عقيدة وشريعة، وقد أشرنا إلى شيء من شرائعه وذكرنا أركانه التي تعتبر أساسا لشرائعه.
- أما " العقيدة الإسلامية " فأسسها الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره.
وقد دل على هذه الأسس كتاب الله وسنة رسوله (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) .
ففي كتاب الله تعالى يقول الله: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} .
ويقول في القدر: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} .
وفي سنة رسول الله (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يقول النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) مجيبا لجبريل حين سأله عن الإيمان: «الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره» . رواه مسلم.
(5/106)
الإيمان بالله تعالى
الإيمان بالله يتضمن أربعة أمور:
الأول: الإيمان بوجود الله تعالى:
وقد دل على وجوده تعالى: الفطرة، والعقل، والشرع، والحس.
1 - أما دلالة الفطرة على وجوده: فإن كل مخلوق قد فطر على الإيمان بخالقه من غير سبق تفكير أو تعليم، ولا ينصرف عن مقتضى هذه الفطرة إلا من طرأ على قلبه ما يصرفه عنها لقول النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه» . رواه البخاري.
2 - وأما دلالة العقل على وجود الله تعالى: فلأن هذه المخلوقات سابقها ولاحقها لا بد لها من خالق أوجدها إذ لا يمكن أن توجد نفسها بنفسها، ولا يمكن أن توجد صدفة.
لا يمكن أن توجد نفسها بنفسها لأن الشيء لا يخلق نفسه، لأنه قبل وجوده معدوم فكيف يكون خالقا؟
ولا يمكن أن توجد صدفة؛ لأن كل حادث لا بد له من محدث، ولأن وجودها على هذا النظام البديع، والتناسق المتآلف، والارتباط الملتحم بين الأسباب ومسبباتها، وبين الكائنات بعضها مع بعض يمنع منعا باتا أن يكون وجودها صدفة، إذ الموجود صدفة ليس على نظام في أصل وجوده فكيف يكون منتظما حال بقائه وتطوره؟
وإذا لم يمكن أن توجد هذه المخلوقات نفسها بنفسها، ولا أن توجد صدفة تعين أن يكون لها موجد وهو الله رب العالمين.
(5/107)
وقد ذكر الله تعالى هذا الدليل العقلي والبرهان القطعي في سورة الطور، حيث قال: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} يعني أنهم لم يخلقوا من غير خالق، ولا هم الذين خلقوا أنفسهم، فتعين أن يكون خالقهم هو الله تبارك وتعالى، ولهذا «لما سمع - جبير بن مطعم - رضي الله عنه رسول الله (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يقرأ سورة الطور فبلغ هذه الآيات: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ} وكان - جبير - يومئذ مشركا قال: (كاد قلبي أن يطير، وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي» رواه - البخاري - مفرقا.
ولنضرب مثلا يوضح ذلك، فإنه لو حدثك شخص عن قصر مشيد، أحاطت به الحدائق، وجرت بينها الأنهار، ومليء بالفرش والأسرة، وزين بأنواع الزينة من مقوماته ومكملاته، وقال لك: إن هذا القصر وما فيه من كمال قد أوجد نفسه، أو وجد هكذا صدفة بدون موجد، لبادرت إلى إنكار ذلك وتكذيبه، وعددت حديثه سفها من القول، أفيجوز بعد ذلك أن يكون هذا الكون الواسع بأرضه، وسمائه، وأفلاكه، وأحواله، ونظامه البديع الباهر، قد أوجد نفسه، أو وجد صدفة بدون موجد؟ !
3 - وأما دلالة الشرع على وجود الله تعالى: فلأن الكتب السماوية كلها تنطق بذلك، وما جاءت به من الأحكام المتضمنة لمصالح الخلق دليل على أنها من رب حكيم عليم بمصالح خلقه، وما جاءت به من الأخبار الكونية التي شهد الواقع بصدقها دليل على أنها من رب قادر على إيجاد ما أخبر به.
4 - وأما أدلة الحس على وجود الله فمن وجهين:
أحدهما: أننا نسمع ونشاهد من إجابة الداعين، وغوث المكروبين، ما يدل دلالة قاطعة على وجوده تعالى، قال الله تعالى: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ}
(5/108)
وقال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} وفي صحيح البخاري عن - أنس بن مالك - رضي الله عنه: «أن أعرابيا دخل يوم الجمعة والنبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يخطب، فقال: " يا رسول الله، هلك المال، وجاع العيال، فادع الله لنا " فرفع يديه ودعا فثار السحاب أمثال الجبال فلم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته. وفي الجمعة الثانية قام ذلك الأعرابي أو غيره فقال: " يا رسول الله تهدم البناء، وغرق المال، فادع الله لنا " فرفع يديه وقال: " اللهم حوالينا ولا علينا " فما يشير إلى ناحية إلا انفرجت» .
وما زالت إجابة الداعين أمرا مشهودا إلى يومنا هذا لمن صدق اللجوء إلى الله تعالى وأتى بشرائط الإجابة.
الوجه الثاني: أن (آيات الأنبياء) التي تسمى (المعجزات) ويشاهدها الناس، أو يسمعون بها، برهان قاطع على وجود مرسلهم، وهو الله تعالى؛ لأنها أمور خارجة عن نطاق البشر، يجريها الله تعالى، تأييدا لرسله ونصرا لهم.
مثال ذلك آية موسى (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) حين أمره الله تعالى أن يضرب بعصاه البحر، فضربه فانفلق اثني عشر طريقا يابسا، والماء بينهما كالجبال، قال الله تعالى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} .
ومثال ثان: (آية عيسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) حيث كان يحيي الموتى، ويخرجهم من قبورهم بإذن الله، قال الله تعالى عنه: {وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ} ، وقال:
(5/109)
{وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي} .
ومثال ثالث (لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) حين طلبت منه قريش آية، فأشار إلى القمر فانفلق فرقتين فرآه الناس، وفي ذلك قوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} .
فهذه الآيات المحسوسة التي يجريها الله تعالى تأييدا لرسله، ونصرا لهم، تدل دلالة قطعية على وجوده تعالى.
الثاني: الإيمان بربوبيته:
[أي بأنه وحده الرب لا شريك له ولا معين] .
والرب: من له الخلق، والملك، والأمر، فلا خالق إلا الله، ولا مالك إلا هو، ولا أمر إلا له، قال تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} وقال: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} .
ولم يعلم أن أحدا من الخلق أنكر ربوبية الله سبحانه، إلا أن يكون مكابرا غير معتقد بما يقول، كما حصل من - فرعون - حين قال لقومه: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} ، وقال: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} لكن ذلك ليس عن عقيدة. قال الله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} وقال موسى لفرعون فيما حكى الله عنه:
(5/110)
{لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} .
ولهذا كان المشركون يقرون بربوبية الله تعالى، مع إشراكهم به في الألوهية، قال الله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} .
وقال الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} وقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} .
وأمر الرب سبحانه شامل للأمر الكوني والشرعي فكما أنه مدبر الكون القاضي فيه بما يريد حسب ما تقتضيه حكمته، فهو كذلك الحاكم فيه بشرع العبادات وأحكام المعاملات حسبما تقتضيه حكمته، فمن اتخذ مع الله تعالى مشرعا في العبادات، أو حاكما في المعاملات فقد أشرك به ولم يحقق الإيمان.
الثالث: الإيمان بألوهيته:
أي (بأنه وحده الإله الحق لا شريك له) ، و"الإله" بمعنى "المألوه" أي "المعبود" حبا وتعظيما، وقال الله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} وقال تعالى:
(5/111)
{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . وكل ما اتخذ إلها مع الله يعبد من دونه فألوهيته باطلة، قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} وتسميتها آلهة لا يعطيها حق الألوهية قال الله تعالى في (اللات والعزى ومناة) : {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} وقال عن هود: إنه قال لقومه: {أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} . وقال عن يوسف إنه قال لصاحبي السجن: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} . ولهذا كانت الرسل عليهم الصلاة والسلام يقولون لأقوامهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ، ولكن أبى ذلك المشركون، واتخذوا من دون الله آلهة، يعبدونهم مع الله سبحانه وتعالى، ويستنصرون بهم ويستغيثون.
وقد أبطل الله تعالى اتخاذ المشركين هذه الآلهة ببرهانين عقليين:
الأول: أنه ليس في هذه الآلهة التي اتخذوها شيء من خصائص الألوهية، فهي مخلوقة لا تخلق، ولا تجلب نفعا لعابديها، ولا تدفع عنهم ضررا، ولا تملك لهم حياة، ولا موتا، ولا يملكون شيئا من السماوات ولا يشاركون فيه.
قال الله تعالى:
(5/112)
{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا} .
وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} . وقال: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} .
وإذا كانت هذه حال تلك الآلهة فإن اتخاذها آلهة من أسفه السفه وأبطل الباطل.
والثاني: أن هؤلاء المشركين كانوا يقرون بأن الله تعالى وحده الرب الخالق الذي بيده ملكوت كل شيء، وهو يجير ولا يجار عليه، وهذا يستلزم أن يوحدوه بالألوهية كما وحدوه بالربوبية كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} .
وقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} .
وقال: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} .
الرابع: الإيمان بأسمائه وصفاته أي (إثبات ما أثبته الله لنفسه في كتابه، أو
(5/113)
سنة رسوله (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) من الأسماء والصفات على الوجه اللائق به من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل، قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . وقال: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .
وقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .
وقد ضل في هذا الأمر طائفتان:
إحداهما: (المعطلة) الذين أنكروا الأسماء، والصفات، أو بعضها، زاعمين أن إثباتها لله يستلزم التشبيه، أي تشبيه الله تعالى بخلقه، وهذا الزعم باطل لوجوه منها:
الأول: أنه يستلزم لوازم باطلة كالتناقض في كلام الله سبحانه، وذلك أن الله تعالى أثبت لنفسه الأسماء، والصفات، ونفى أن يكون كمثله شيء، ولو كان إثباتها يستلزم التشبيه لزم التناقض في كلام الله وتكذيب بعضه بعضا.
الثاني: أنه لا يلزم من اتفاق الشيئين في اسم أو صفة أن يكونا متماثلين، فأنت ترى الشخصين يتفقان في أن كلا منهما إنسان سميع، بصير، متكلم، ولا يلزم من ذلك أن يتماثلا في المعاني الإنسانية، والسمع، والبصر، والكلام، وترى الحيوانات لها أيد وأرجل، وأعين، ولا يلزم من اتفاقها هذا أن تكون أيديها وأرجلها، وأعينها متماثلة.
فإذا ظهر التباين بين المخلوقات فيما تتفق فيه من أسماء، أو صفات، فالتباين بين الخالق والمخلوق أبين وأعظم.
الطائفة الثانية: (المشبهة) الذين أثبتوا الأسماء والصفات مع تشبيه الله
(5/114)
تعالى بخلقه زاعمين أن هذا مقتضى دلالة النصوص؛ لأن الله تعالى يخاطب العباد بما يفهمون، وهذا الزعم باطل لوجوه منها:
الأول: أن مشابهة الله تعالى لخلقه أمر باطل يبطله العقل، والشرع، ولا يمكن أن يكون مقتضى نصوص الكتاب والسنة أمرا باطلا.
الثاني: أن الله تعالى خاطب العباد بما يفهمون من حيث أصل المعنى، أما الحقيقة والكنه الذي عليه ذلك المعنى فهو مما استأثر الله تعالى بعلمه فيما يتعلق بذاته، وصفاته.
فإذا أثبت الله لنفسه أنه سميع، فإن السمع معلوم من حيث أصل المعنى (وهو إدراك الأصوات) لكن حقيقة ذلك بالنسبة إلى سمع الله تعالى غير معلومة؛ لأن حقيقة السمع تتباين حتى في المخلوقات، فالتباين فيها بين الخالق والمخلوق، أبين وأعظم.
وإذا أخبر الله تعالى عن نفسه أنه استوى على عرشه فإن الاستواء من حيث أصل المعنى معلوم، لكن حقيقة الاستواء التي هو عليها غير معلومة بالنسبة إلى استواء الله على عرشه؛ لأن حقيقة الاستواء تتباين في حق المخلوق، فليس الاستواء على كرسي مستقر كالاستواء على رحل بعير صعب نفور، فإذا تباينت في حق المخلوق، فالتباين فيها بين الخالق والمخلوق أبين وأعظم.
والإيمان بالله تعالى على ما وصفنا يثمر للمؤمنين ثمرات جليلة منها:
الأولى: تحقيق توحيد الله تعالى بحيث لا يتعلق بغيره رجاء، ولا خوف، ولا يعبد غيره.
الثانية: كمال محبة الله تعالى، وتعظيمه بمقتضى أسمائه الحسنى وصفاته العليا.
الثالثة: تحقيق عبادته بفعل ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه.
(5/115)
الإيمان بالملائكة
الملائكة: (عالم غيبي مخلوقون، عابدون لله تعالى، وليس لهم من خصائص الربوبية والألوهية شيء، خلقهم الله تعالى من نور، ومنحهم الانقياد التام لأمره، والقوة على تنفيذه) .
قال الله تعالى: {وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} .
وهم عدد كثير لا يحصيهم إلا الله تعالى، وقد ثبت في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه في قصة المعراج «أن النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) رُفع له البيت المعمور في السماء يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا لم يعودوا إليه آخر ما عليهم» .
والإيمان بالملائكة يتضمن أربعة أمور:
الأول: الإيمان بوجودهم.
الثاني: الإيمان بمن علمنا اسمه منهم باسمه (كجبريل) ومن لم نعلم اسمه نؤمن بهم إجمالا.
الثالث: الإيمان بما علمنا من صفاتهم، كصفة (جبريل) فقد «أخبر النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أنه رآه على صفته التي خُلِقَ عليها وله ستمائة جناح قد سد الأفق» .
وقد يتحول الملك بأمر الله تعالى إلى هيئة رجل، كما حصل (لجبريل) حين أرسله تعالى إلى - مريم - فتمثل لها بشرا سويا، وحين «جاء إلى النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وهو جالس في أصحابه جاءه بصفة رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه أحد من الصحابة،»
(5/116)
«فجلس إلى النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وسأل النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) عن الإسلام، والإيمان، والإحسان، والساعة، وأماراتها، فأجابه النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فانطلق. ثم قال (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : " هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم» . رواه مسلم.
وكذلك الملائكة الذين أرسلهم الله تعالى إلى إبراهيم ولوط كانوا في صورة رجال.
الرابع: الإيمان بما علمنا من أعمالهم التي يقومون بها بأمر الله تعالى، كتسبيحه، والتعبد له ليلا ونهارا بدون ملل ولا فتور.
وقد يكون لبعضهم أعمال خاصة.
مثل: جبريل الأمين على وحي الله تعالى يرسله الله به إلى الأنبياء والرسل.
ومثل: ميكائيل الموكل بالقطر أي بالمطر والنبات.
ومثل إسرافيل: الموكل بالنفخ في الصور عند قيام الساعة وبعث الخلق.
ومثل: ملك الموت الموكل بقبض الأرواح عند الموت.
ومثل: مالك الموكل بالنار وهو خازن النار.
ومثل: الملائكة الموكلين بالأجنة في الأرحام إذا تم للإنسان أربعة أشهر في بطن أمه، بعث الله إليه ملكا وأمره بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد.
ومثل: الملائكة الموكلين بحفظ أعمال بني آدم وكتابتها لكل شخص، ملكان: أحدهما عن اليمين والثاني عن الشمال.
ومثل: الملائكة الموكلين بسؤال الميت إذا وضع في قبره يأتيه ملكان يسألانه عن ربه، ودينه، ونبيه.
(5/117)
والإيمان بالملائكة يثمر ثمرات جليلة منها:
الأولى: العلم بعظمة الله تعالى، وقوته، وسلطانه، فإن عظمة المخلوق من عظمة الخالق.
الثانية: شكر الله تعالى على عنايته ببني آدم، حيث وكل من هؤلاء الملائكة من يقوم بحفظهم، وكتابة أعمالهم، وغير ذلك من مصالحهم.
الثالثة: محبة الملائكة على ما قاموا به من عبادة الله تعالى.
وقد أنكر قوم من الزائغين كون الملائكة أجساما، وقالوا: إنهم عبارة عن قوى الخير الكامنة في المخلوقات، وهذا تكذيب لكتاب الله تعالى، وسنة رسوله (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، وإجماع المسلمين.
قال الله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} .
وقال: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} .
وقال: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} .
وقال: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} .
وقال في أهل الجنة: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} .
(5/118)
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قال: «إذا أحب الله العبد نادى جبريل: إن الله يحب فلانا فأحبه، فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض» .
وفيه أيضا عنه قال: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد الملائكة يكتبون الأول فالأول، فإذا جلس الإمام طووا الصحف، وجاءوا يستمعون الذكر» .
وهذه النصوص صريحة في أن الملائكة أجسام لا قوى معنوية، كما قال الزائغون، وعلى مقتضى هذه النصوص أجمع المسلمون.
(5/119)
الإيمان بالكتب
الكتب: جمع (كتاب) بمعنى (مكتوب) .
والمراد بها هنا: [الكتب التي أنزلها تعالى على رسله رحمة للخلق، وهداية لهم؛ ليصلوا بها إلى سعادتهم في الدنيا والآخرة] .
والإيمان بالكتب يتضمن أربعة أمور:
الأول: الإيمان بأن نزولها من عند الله حقا.
الثاني: الإيمان بما علمنا اسمه منها باسمه كالقرآن الذي نزل على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، (والتوراة) التي أنزلت على موسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (والإنجيل) الذي أنزل على عيسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، (والزبور) الذي أوتيه داود صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأما ما لم نعلم اسمه فنؤمن به إجمالا.
الثالث: تصديق ما صح من أخبارها، كأخبار القرآن، وأخبار ما لم يبدل أو يحرف من الكتب السابقة.
الرابع: العمل بأحكام ما لم ينسخ منها، والرضا والتسليم به سواء فهمنا حكمته أم لم نفهمها، وجميع الكتب السابقة منسوخة بالقرآن العظيم، قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} أي (حاكما عليه) ، وعلى هذا فلا يجوز العمل بأي حكم من أحكام الكتب السابقة إلا ما صح منها وأقره القرآن.
(5/120)
والإيمان بالكتب يثمر ثمرات جليلة منها:
الأولى: العلم بعناية الله تعالى بعباده حيث أنزل لكل قوم كتابا يهديهم به.
الثانية: العلم بحكمة الله تعالى في شرعه حيث شرع لكل قوم ما يناسب أحوالهم. كما قال الله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} .
الثالثة: شكر نعمة الله في ذلك.
(5/121)
الإيمان بالرسل
الرسل: جمع (رسول) بمعنى (مرسل) أي (مبعوث) بإبلاغ شيء.
والمراد هنا: من أوحي إليه من البشر بشرع وأُمر بتبليغه.
وأول الرسل نوح وآخرهم محمد (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) .
قال الله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} .
وفي صحيح البخاري عن - أنس بن مالك - رضي الله عنه في «حديث الشفاعة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ذكر أن الناس يأتون إلى آدم ليشفع لهم فيعتذر إليهم، ويقول: ائتوا نوحا أول رسول بعثه الله. .. وذكر تمام الحديث» .
وقال الله في محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} .
ولم تخل أمة من رسول يبعثه الله تعالى بشريعة مستقلة إلى قومه.
أو نبي يوحى إليه بشريعة من قبله ليجددها، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} .
وقال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} . وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} .
(5/122)
- والرسل بشر مخلوقون ليس لهم من خصائص الربوبية والألوهية شيء، قال الله تعالى عن نبيه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو سيد الرسل وأعظمهم جاها عند الله: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .
وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} .
وتلحقهم خصائص البشرية من المرض، والموت، والحاجة إلى الطعام والشراب، وغير ذلك، قال الله تعالى عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام في وصفه لربه تعالى: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} .
وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «"إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني» .
وقد وصفهم الله تعالى بالعبودية له في أعلى مقاماتهم، وفي سياق الثناء عليهم فقال تعالى في نوح صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} . وقال في محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} .
وقال في إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب (صلى الله عليهم وسلم) :
{وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ}
(5/123)
{إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ} .
وقال في عيسى ابن مريم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} .
والإيمان بالرسل يتضمن أربعة أمور:
الأول: الإيمان بأن رسالتهم حق من الله تعالى، فمن كفر برسالة واحد منهم فقد كفر بالجميع، كما قال الله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} فجعلهم الله مكذبين لجميع الرسل، مع أنه لم يكن رسول غيره حين كذبوه، وعلى هذا فالنصارى الذين كذبوا محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يتبعوه هم مكذبون للمسيح ابن مريم غير متبعين له أيضا، لا سيما وأنه قد بشرهم بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا معنى لبشارتهم به إلا أنه رسول إليهم ينقذهم الله به من الضلالة، ويهديهم إلى صراط مستقيم.
الثاني: الإيمان بمن علمنا اسمه منهم باسمه مثل: محمد وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ونوح (عليهم الصلاة والسلام) وهؤلاء الخمسة هم أولو العزم من الرسل، وقد ذكرهم الله تعالى في موضعين من القرآن: في (سورة الأحزاب) في قوله:
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} وفي (سورة الشورى) في قوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} .
(5/124)
وأما من لم نعلم اسمه منهم فنؤمن به إجمالا قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} .
الثالث: تصديق ما صح عنهم من أخبارهم.
الرابع: العمل بشريعة من أرسل إلينا منهم، وهو خاتمهم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المرسل إلى جميع الناس قال الله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} .
وللإيمان بالرسل ثمرات جليلة منها:
الأولى: العلم برحمة الله تعالى وعنايته بعباده حيث أرسل إليهم الرسل ليهدوهم إلى صراط الله تعالى، ويبينوا لهم كيف يعبدون الله؛ لأن العقل البشري لا يستقل بمعرفة ذلك.
الثانية: شكره تعالى على هذه النعمة الكبرى.
الثالثة: محبة الرسل عليهم الصلاة والسلام وتعظيمهم، والثناء عليهم بما يليق بهم؛ لأنهم رسل الله تعالى، ولأنهم قاموا بعبادته، وتبليغ رسالته، والنصح لعباده.
وقد كذب المعاندون رسلهم زاعمين أن رسل الله تعالى لا يكونون من البشر، وقد ذكر الله تعالى هذا الزعم وأبطله بقوله:
(5/125)
{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} فأبطل الله تعالى هذا الزعم بأنه لا بد أن يكون الرسول بشرا؛ لأنه مرسل إلى أهل الأرض، وهم بشر، ولو كان أهل الأرض ملائكة لنزل الله عليهم من السماء ملكا رسولا، ليكون مثلهم، وهكذا حكى الله تعالى عن المكذبين للرسل أنهم قالوا: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} .
(5/126)
الإيمان باليوم الآخر
اليوم الآخر: [يوم القيامة الذي يبعث الناس فيه للحساب والجزاء] .
وسمي بذلك لأنه لا يوم بعده، حيث يستقر أهل الجنة في منازلهم، وأهل النار في منازلهم.
والإيمان باليوم الآخر يتضمن ثلاثة أمور:
الأول: الإيمان بالبعث: وهو إحياء الموتى حين ينفخ في الصور النفخة الثانية، فيقوم الناس لرب العالمين، حفاة غير منتعلين، عراة غير مستترين، غرلا غير مختتنين، قال الله تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} .
والبعث: حق ثابت دل عليه الكتاب والسنة وإجماع المسلمين، قال الله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} .
وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يحشر الناس يوم القيامة حفاة غرلا» . متفق عليه.
وأجمع المسلمون على ثبوته، وهو مقتضى الحكمة، حيث تقتضي أن يجعل الله تعالى لهذه الخليقة معادا يجازيهم فيه على ما كلفهم به على ألسنة رسله، قال الله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} ، وقال لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} .
(5/127)
الثاني: الإيمان بالحساب والجزاء: يحاسب العبد على عمله، ويجازى عليه، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع المسلمين.
قال الله تعالى: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} ، وقال: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} ، وقال: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه (1) ويستره، فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي رب، حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى أنه قد هلك قال: قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، فيعطى كتاب حسناته، وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رءوس الخلائق: {هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} » . متفق عليه.
وصح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أن من هم بحسنة فعملها، كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وأن من هم بسيئة فعملها، كتبها الله سيئة واحدة» .
وقد أجمع المسلمون على إثبات الحساب والجزاء على الأعمال، وهو مقتضى الحكمة؛ فإن الله تعالى أنزل الكتب، وأرسل الرسل، وفرض على العباد قبول ما جاءوا به، والعمل بما يجب العمل به منه، وأوجب قتال المعارضين له، وأحل دماءهم وذرياتهم، ونساءهم، وأموالهم، فلو لم يكن حساب ولا جزاء؛ لكان هذا من العبث الذي ينزه الرب الحكيم عنه، وقد
__________
(1) كنفه: ستره.
(5/128)
أشار الله تعالى إلى ذلك بقوله: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} .
الثالث: الإيمان بالجنة والنار: وأنهما المآل الأبدي للخلق، فالجنة دار النعيم التي أعدها الله تعالى للمؤمنين المتقين، الذين آمنوا بما أوجب الله عليهم الإيمان به، وقاموا بطاعة الله ورسوله، مخلصين لله متبعين لرسوله، فيها من أنواع النعيم: «ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» .
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} ، وقال تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
وأما النار فهي دار العذاب التي أعدها الله تعالى للكافرين الظالمين، الذين كفروا به، وعصوا رسله، فيها من أنواع العذاب والنكال ما لا يخطر على البال، قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} ، وقال: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} ، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ} .
ويلتحق بالإيمان باليوم الآخر: الإيمان بكل ما يكون بعد الموت
(5/129)
مثل:
فتنة القبر: وهي سؤال الميت بعد دفنه عن ربه ودينه ونبيه، فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت، فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويضل الله الظالمين فيقول الكافر: هاه، هاه، لا أدري، ويقول المنافق أو المرتاب (1) : لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئا فقلته.
عذاب القبر ونعيمه: فيكون للظالمين من المنافقين والكافرين، قال الله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} .
وقال تعالى في آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} .
وفي صحيح مسلم من حديث زيد بن ثابت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «فلولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه، ثم أقبل بوجهه فقال: تعوذوا بالله من عذاب النار، قالوا: نعود بالله من عذاب النار، فقال: تعوذوا بالله من عذاب القبر، قالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر، قال: تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن. قالوا: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، قال: تعوذوا بالله من فتنة الدجال. قالوا: نعوذ بالله من فتنة الدجال» .
وأما نعيم القبر فللمؤمنين الصادقين، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}
__________
(1) أو للشك من الراوي كما في الصحيحين.
(5/130)
وقال تعالى: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} إلى آخر السورة.
وعن البراء بن عازب - رضي الله عنه - أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال في المؤمن إذا أجاب الملكين في قبره: «ينادي منادٍ من السماء أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابا إلى الجنة، قال: فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مد بصره» رواه أحمد وأبو داود في حديث طويل.
وللإيمان باليوم الآخر ثمرات جليلة منها:
الأولى: الرغبة في فعل الطاعة والحرص عليها رجاء لثواب ذلك اليوم.
الثانية: الرهبة من فعل المعصية والرضا بها خوفا من عقاب ذلك اليوم.
الثالثة: تسلية المؤمن عما يفوته من الدنيا بما يرجوه من نعيم الآخرة وثوابها.
وقد أنكر الكافرون البعث بعد الموت زاعمين أن ذلك غير ممكن، وهذا الزعم باطل دل على بطلانه الشرع والحس والعقل.
أما من الشرع: فقد قال الله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} ، وقد اتفقت جميع الكتب السماوية عليه.
(5/131)
وأما الحس: فقد أرى الله عباده إحياء الموتى في هذه الدنيا، وفي سورة البقرة خمسة أمثلة على ذلك؛ وهي:
المثال الأول: قوم موسى حين قالوا له: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} ، فأماتهم الله تعالى ثم أحياهم، وفي ذلك يقول الله تعالى مخاطبا بني إسرائيل: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .
المثال الثاني: في قصة القتيل الذي اختصم فيه بنو إسرائيل، فأمرهم الله تعالى أن يذبحوا بقرة فيضربوه ببعضها ليخبرهم بمن قتله، وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} .
المثال الثالث: في قصة القوم الذين خرجوا من ديارهم فرارا من الموت وهم ألوف، فأماتهم الله تعالى ثم أحياهم، وفي ذلك يقول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} .
المثال الرابع: في قصة الذي مر على قرية ميتة فاستبعد أن يحييها الله تعالى، فأماته الله تعالى مائة سنة ثم أحياه، وفي ذلك يقول الله تعالى:
(5/132)
{أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ (1) وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
المثال الخامس: في قصة إبراهيم الخليل حين سأل الله تعالى أن يريه كيف يحيي الموتى، فأمره الله تعالى أن يذبح أربعة من الطير، ويفرقهن أجزاء على الجبال التي حوله، ثم يناديهن، فتلتئم الأجزاء بعضها إلى بعض، ويأتين إلى إبراهيم سعيا، وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .
فهذه أمثلة حسية واقعة تدل على إمكان إحياء الموتى، وقد سبق الإشارة إلى ما جعله الله تعالى من آيات عيسى ابن مريم في إحياء الموتى، وإخراجهم من قبورهم بإذن الله تعالى.
وأما دلالة العقل فمن وجهين:
أحدهما: أن الله تعالى فاطر السماوات والأرض وما فيهما، خالقهما ابتداء، والقادر على ابتداء الخلق لا يعجز عن إعادته، قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} ، وقال تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} ، وقال آمرا بالرد على من أنكر
__________
(1) لم يتغير.
(5/133)
إحياء العظام، وهي رميم: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} .
الثاني: أن الأرض تكون ميتة هامدة ليس فيها شجرة خضراء، فينزل عليها المطر فتهتز خضراء حية فيها من كل زوج بهيج، والقادر على إحيائها بعد موتها، قادر على إحياء الأموات، قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، وقال تعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} .
وقد ضل قوم من أهل الزيغ فأنكروا عذاب القبر ونعيمه، زاعمين أن ذلك غير ممكن لمخالفة الواقع، قالوا: فإنه لو كشف عن الميت في قبره لوجد كما كان عليه، والقبر لم يتغير بسعة ولا ضيق.
وهذا الزعم باطل بالشرع والحس والعقل.
أما الشرع: فقد سبقت النصوص الدالة على ثبوت عذاب القبر ونعيمه في فقرة (ب) مما يلتحق بالإيمان باليوم الآخر.
وفي صحيح البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: «خرج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بعض حيطان المدينة، فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما» ، وذكر الحديث، وفيه «أن أحدهما كان لا يستتر من البول - وفي رواية: " من بوله " - وأن الآخر كان يمشي بالنميمة» .
وأما الحس: فإن النائم يرى في منامه أنه كان في مكان فسيح بهيج يتنعم فيه، أو أنه كان في مكان موحش يتألم منه، وربما يستيقظ أحيانا مما
(5/134)
رأى، ومع ذلك فهو على فراشه في حجرته على ما هو عليه، والنوم أخو الموت، ولهذا سماه الله تعالى (وفاة) ؛ قال الله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} .
وأما العقل: فإن النائم في منامه يرى الرؤيا الحق المطابقة للواقع، وربما رأى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على صفته، ومن رآه على صفته فقد رآه حقا، ومع ذلك، فالنائم في حجرته على فراشه بعيدا عما رأى، فإذا كان هذا ممكنا في أحوال الدنيا أفلا يكون ممكنا في أحوال الآخرة؟
وأما اعتمادهم فيما زعموه على أنه لو كشف عن الميت في قبره لوجد كما كان عليه، والقبر لم يتغير بسعة ولا ضيق، فجوابه من وجوه منها:
الأول: أنه لا تجوز معارضة ما جاء به الشرع بمثل هذه الشبهات الداحضة التي لو تأمل المعارض بها ما جاء به الشرع حق التأمل لعلم بطلان هذه الشبهات، وقد قيل:
وكم من عائب قولا صحيحا ... وآفته من الفهم السقيم
الثاني: أن أحوال البرزخ من أمور الغيب التي لا يدركها الحس، ولو كانت تدرك بالحس لفاتت فائدة الإيمان بالغيب، ولتساوى المؤمنون بالغيب والجاحدون في التصديق بها.
الثالث: أن العذاب والنعيم وسعة القبر وضيقه إنما يدركها الميت دون غيره، وهذا كما يرى النائم في منامه أنه في مكان ضيق موحش، أو في مكان واسع بهيج، وهو بالنسبة لغيره لم يتغير منامه هو في حجرته وبين فراشه وغطائه، ولقد كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوحى إليه وهو بين أصحابه، فيسمع الوحي، ولا يسمعه الصحابة، وربما يتمثل له الملك رجلا فيكلمه،
(5/135)
والصحابة لا يرون الملك ولا يسمعونه.
الرابع: أن إدراك الخلق محدود بما مكنهم الله تعالى من إدراكه، ولا يمكن أن يدركوا كل موجود، فالسماوات السبع والأرض ومن فيهن، وكل شيء يسبح بحمد الله تسبيحا حقيقيا، يسمعه الله تعالى من شاء من خلقه أحيانا، ومع ذلك هو محجوب عنا، وفي ذلك يقول الله تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} ، وهكذا الشياطين والجن يسعون في الأرض ذهابا وإيابا، وقد حضرت الجن إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واستمعوا لقراءته وأنصتوا وولوا إلى قومهم منذرين، ومع هذا فهم محجوبون عنا، وفي ذلك يقول الله تعالى: {يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} ، وإذا كان الخلق لا يدركون كل موجود، فإنه لا يجوز أن ينكروا ما ثبت من أمور الغيب ولم يدركوه.
(5/136)
الإيمان بالقدر
(القدر) بفتح الدال: (تقدير الله تعالى للكائنات حسبما سبق به علمه، واقتضته حكمته) .
والإيمان بالقدر يتضمن أربعة أمور:
الأول: الإيمان بأن الله تعالى علم بكل شيء جملة وتفصيلا، أزلا وأبدا، سواء كان ذلك مما يتعلق بأفعاله أو بأفعال عباده.
الثاني: الإيمان بأن الله كتب ذلك في اللوح المحفوظ، وفي هذين الأمرين يقول الله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} .
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة» .
الثالث: الإيمان بأن جميع الكائنات لا تكون إلا بمشيئة الله تعالى، سواء كانت مما يتعلق بفعله أم مما يتعلق بفعل المخلوقين، قال الله تعالى فيما يتعلق بفعله: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} ، وقال: {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} ، وقال: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} ، وقال تعالى فيما يتعلق بفعل المخلوقين: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ} ،
(5/137)
وقال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} .
الرابع: الإيمان بأن جميع الكائنات مخلوقة لله تعالى بذواتها وصفاتها وحركاتها، قال الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} ، وقال: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} ، وقال عن نبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام إنه قال لقومه: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} .
والإيمان بالقدر على ما وصفنا لا ينافي أن يكون للعبد مشيئة في أفعاله الاختيارية وقدرة عليها؛ لأن الشرع والواقع دالان على إثبات ذلك له.
أما الشرع: فقد قال الله تعالى في المشيئة: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا} ، وقال: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} ، وقال في القدرة: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} ، وقال: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} .
وأما الواقع: فإن كل إنسان يعلم أن له مشيئة وقدرة بهما يفعل وبهما يترك، ويفرق بين ما يقع بإرادته كالمشي، وما يقع بغير إرادته كالارتعاش، لكن مشيئة العبد وقدرته واقعتان بمشيئة الله تعالى وقدرته لقول الله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}
(5/138)
، ولأن الكون كله ملك لله تعالى فلا يكون في ملكه شيء بدون علمه ومشيئته.
والإيمان بالقدر على ما وصفنا لا يمنح العبد حجة على ما ترك من الواجبات أو فعل من المعاصي، وعلى هذا فاحتجاجه به باطل من وجوه:
الأول: قوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} ، ولو كان لهم حجة بالقدر ما أذاقهم الله بأسه.
الثاني: قوله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} ، ولو كان القدر حجة للمخالفين لم تنتفِ بإرسال الرسل؛ لأن المخالفة بعد إرسالهم واقعة بقدر الله تعالى.
الثالث: ما رواه البخاري ومسلم - واللفظ للبخاري - عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ما منكم من أحد إلا قد كتب مقعده من النار أو من الجنة، فقال رجل من القوم: ألا نتكل يا رسول الله؟ قال: لا، اعملوا فكل ميسر، ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} » الآية، وفي لفظ لمسلم: «فكل ميسر لما خلق له» ، فأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالعمل، ونهى عن الاتكال على القدر.
الرابع: أن الله تعالى أمر العبد ونهاه، ولم يكلفه إلا ما يستطيع، قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} ، وقال: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}
(5/139)
، ولو كان العبد مجبرا على الفعل لكان مكلفا بما لا يستطيع الخلاص منه، وهذا باطل، ولذلك إذا وقعت منه المعصية بجهل أو نسيان أو إكراه، فلا إثم عليه لأنه معذور.
الخامس: أن قدر الله تعالى سر مكتوم لا يعلم به إلا بعد وقوع المقدور، وإرادة العبد لما يفعله سابقة على فعله، فتكون إرادته الفعل غير مبنية على علم منه بقدر الله، وحينئذ تنتفي حجته بالقدر إذ لا حجة للمرء فيما لا يعلمه.
السادس: أننا نرى الإنسان يحرص على ما يلائمه من أمور دنياه حتى يدركه، ولا يعدل عنه إلى ما لا يلائمه ثم يحتج على عدوله بالقدر، فلماذا يعدل عما ينفعه في أمور دينه إلى ما يضره ثم يحتج بالقدر؟ أفليس شأن الأمرين واحدا؟ !
وإليك مثالا يوضح ذلك: لو كان بين يدي الإنسان طريقان أحدهما ينتهي به إلى بلد كلها فوضى وقتل ونهب وانتهاك للأعراض وخوف وجوع، والثاني ينتهي به إلى بلد كلها نظام، وأمن مستتب، وعيش رغيد، واحترام للنفوس والأعراض والأموال، فأي الطريقين يسلك؟
إنه سيسلك الطريق الثاني الذي ينتهي به إلى بلد النظام والأمن، ولا يمكن لأي عاقل أبدا أن يسلك طريق بلد الفوضى والخوف، ويحتج بالقدر، فلماذا يسلك في أمر الآخرة طريق النار دون الجنة ويحتج بالقدر؟
مثال آخر: نرى المريض يؤمر بالدواء فيشربه ونفسه لا تشتهيه، وينهى عن الطعام الذي يضره فيتركه ونفسه تشتهيه، كل ذلك طلبا للشفاء والسلامة، ولا يمكن أن يمتنع عن شرب الدواء، أو يأكل الطعام الذي يضره ويحتج بالقدر، فلماذا يترك الإنسان ما أمر الله ورسوله، أو يفعل ما نهى
(5/140)
الله ورسوله عنه ثم يحتج بالقدر؟
السابع: أن المحتج بالقدر على ما تركه من الواجبات أو فعله من المعاصي، لو اعتدى عليه شخص فأخذ ماله أو انتهك حرمته ثم احتج بالقدر، وقال: لا تلمني فإن اعتدائي كان بقدر الله، لم يقبل حجته، فكيف لا يقبل الاحتجاج بالقدر في اعتداء غيره عليه، ويحتج به لنفسه في اعتدائه على حق الله تعالى؟ !
ويذكر أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه رفع إليه سارق استحق القطع، فأمر بقطع يده فقال: مهلا يا أمير المؤمنين، فإنما سرقت بقدر الله، فقال عمر: ونحن إنما نقطع بقدر الله.
وللإيمان بالقدر ثمرات جليلة منها:
الأولى: الاعتماد على الله تعالى عند فعل الأسباب بحيث لا يعتمد على السبب نفسه؛ لأن كل شيء بقدر الله تعالى.
الثانية: أن لا يعجب المرء بنفسه عند حصول مراده؛ لأن حصوله نعمة من الله تعالى، بما قدره من أسباب الخير، والنجاح، وإعجابه بنفسه ينسيه شكر هذه النعمة.
الثالثة: الطمأنينة، والراحة النفسية بما يجري عليه من أقدار الله تعالى، فلا يقلق بفوات محبوب، أو حصول مكروه؛ لأن ذلك بقدر الله الذي له ملك السماوات والأرض وهو كائن لا محالة، وفي ذلك يقول الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} ، ويقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عجبا لأمر»
(5/141)
«المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له» . رواه مسلم.
وقد ضل في القدر طائفتان:
إحداهما: (الجبرية) الذين قالوا: إن العبد مجبر على عمله، وليس له فيه إرادة ولا قدرة.
الثانية: (القدرية) الذين قالوا: إن العبد مستقل بعمله في الإرادة والقدرة، وليس لمشيئة الله تعالى وقدرته فيه أثر.
والرد على الطائفة الأولى (الجبرية) بالشرع والواقع:
أما الشرع: فإن الله تعالى أثبت للعبد إرادة ومشيئة، وأضاف العمل إليه، قال الله تعالى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} ، وقال: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} ... الآية، وقال: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} .
وأما الواقع: فإن كل إنسان يعلم الفرق بين أفعاله الاختيارية التي يفعلها بإرادته كالأكل والشرب والبيع والشراء، وبين ما يقع عليه بغير إرادته كالارتعاش من الحمى، والسقوط من السطح، فهو في الأول فاعل مختار بإرادته من غير جبر، وفي الثاني غير مختار ولا مريد لما وقع عليه.
والرد على الطائفة الثانية (القدرية) بالشرع والعقل.
أما الشرع: فإن الله تعالى خالق كل شيء، وكل شيء كائن بمشيئته، وقد بين الله تعالى في كتابه أن أفعال العباد تقع بمشيئته، فقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}
(5/142)
، وقال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} .
وأما العقل: فإن الكون كله مملوك لله تعالى، والإنسان من هذا الكون فهو مملوك لله تعالى، ولا يمكن للمملوك أن يتصرف في ملك المالك إلا بإذنه ومشيئته.
(5/143)
أهداف العقيدة الإسلامية
الهدف (لغة) يطلق على معان منها: (الغرض ينصب ليرمى إليه وكل شيء مقصود) .
وأهداف العقيدة الإسلامية: مقاصدها، وغاياتها النبيلة المترتبة على التمسك بها وهي كثيرة متنوعة، فمنها:
أولا: إخلاص النية والعبادة لله تعالى وحده؛ لأنه الخالق لا شريك له، فوجب أن يكون القصد والعبادة له وحده.
ثانيا: تحرير العقل والفكر من التخبط الفوضوي الناشئ عن خلو القلب من هذه العقيدة؛ لأن من خلا قلبه منها فهو إما فارغ القلب من كل عقيدة وعابد للمادة الحسية فقط، وإما متخبط في ضلالات العقائد والخرافات.
ثالثا: الراحة النفسية والفكرية فلا قلق في النفس ولا اضطراب في الفكر؛ لأن هذه العقيدة تصل المؤمن بخالقه، فيرضى به ربا مدبرا، وحاكما مشرعا، فيطمئن قلبه بقدره، وينشرح صدره للإسلام، فلا يبغي عنه بديلا.
رابعا: سلامة القصد والعمل من الانحراف في عبادة الله تعالى أو معاملة المخلوقين؛ لأن من أسسها الإيمان بالرسل المتضمن لاتباع طريقتهم ذات السلامة في القصد والعمل.
خامسا: الحزم والجد في الأمور، بحيث لا يفوت فرصة للعمل الصالح إلا استغلها فيه رجاء للثواب، ولا يرى موقع إثم إلا ابتعد عنه خوفا من العقاب؛ لأن من أسسها الإيمان بالبعث والجزاء على الأعمال: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} ، وقد حث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(5/144)
على هذه الغاية في قوله: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن (لو) تفتح عمل الشيطان» رواه مسلم.
سادسا: تكوين أمة قوية تبذل كل غال ورخيص في تثبيت دينها، وتوطيد دعائمه، غير مبالية بما يصيبها في سبيل ذلك، وفي هذا يقول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} .
سابعا: الوصول إلى سعادة الدنيا والآخرة بإصلاح الأفراد والجماعات، ونيل الثواب والمكرمات، وفي ذلك يقول الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
هذه بعض أهداف العقيدة الإسلامية، نرجو الله تعالى أن يحققها لنا ولجميع المسلمين، إنه جواد كريم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(5/145)
أسماء الله
وصفاته
وموقف أهل السنة منها
(5/147)
أسماء الله وصفاته وموقف أهل السنة منها
[مقدمة]
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله الله تعالى بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده بلسانه ويده وماله، حتى أتاه اليقين، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الإخوة الحاضرون، فإني أذكركم ونفسي بما أنعم الله به على هذه البلاد من نعمة الإسلام قديما وحديثا، هذه البلاد التي كانت محل الرسالة رسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاتم النبيين الذي بعث إلى الناس كافة، بل إلى الجن والإنس.
هذه البلاد التي كما بدأ منها الإسلام فإليها يعود كما ثبت به الحديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حيث قال: «إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها» .
هذه البلاد التي لا أعلم والله شاهد على ما في قلبي، لا أعلم بلادا إسلامية في عصرنا أقوى منها تمسكا بدين الله، لا بالنسبة لشعبها، ولكن بالنسبة لشعبها ومن ولاه الله أمرها، وهذه النعمة الكبيرة أيها الإخوة إذا لم
(5/149)
نشكرها فإنها كغيرها من النعم توشك أن تزول، يوشك أن يحل بدل الإيمان الكفر، وبدل الإسلام الاستكبار، إذا لم نقيد هذه النعمة بالمحافظة عليها وحمايتها والمدافعة دونها.
أيها الإخوة، إن هذه البلاد بما أنعم الله به عليها من هذه النعمة العظيمة، وهي نعمة الإسلام أولا وأخيرا كانت مركزا لتوجيه الضربات عليها من أجل صد أهلها عن دينهم، ليس في الأخلاق فحسب ولكن في الأخلاق والعقائد، ولذلك كان لزاما على شبابها، وأخص الشباب لأسباب ثلاثة: لأنهم رجال المستقبل، ولأنهم أقوى عزيمة، وأشد حزما ممن بردت أنفسهم بالشيخوخة، ولأنهم الذين تركز عليهم هذه الضربات.
إنني أوجه إلى الشباب أن يحموا بلادهم من كيد أعدائهم، فإن أعداءهم يوجهون الضربات تلو الضربات ليقضوا على هذه المنة العظيمة التي من الله بها علينا، ألا وهي دين الإسلام.
أيها الشباب: استعينوا بالله سبحانه وتعالى بما علمكم من شريعته، ثم بحكمة الشيوخ ذوي الثقة والأمانة والعلم والبرهان، فاستعينوا بذلك على حماية بلادكم من كيد أعدائها، واعلموا أن الدنيا تبع للدين، وأنها لن تتم النعمة، ولن تتم الحياة الدنيا، ولن تكون حياة طيبة، إلا بالإيمان والعمل الصالح كما قال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
أيها الإخوة: إن المشكلات في عصرنا هذا كثيرة، وإني اخترت الكلام في:
(5/150)
أسماء الله وصفاته، وموقف أهل السنة منها
ولعل الكثير منكم يقول: لماذا اخترت هذا الموضوع بالذات؟ ألسنا كلنا، وبالأخص أهل هذه الجزيرة، ألسنا كلنا نؤمن بأسماء الله وصفاته على ما يليق به، ولا نتعرض لها بتحريف ولا تعطيل؟ أليست العجوز منا والشيخ والصغير والذكر والأنثى، كل على حدٍ سواء لا يجول في أفكارهم شيء من التحريف أو الانحراف في أسماء الله وصفاته؟ فلماذا اخترت هذا الموضوع بالذات؟
وإن جوابي على هذا أن أقول: إنني اخترت هذا الموضوع لأمرين هامين:
أحدهما: أهمية هذا الموضوع، فإن هذا الموضوع ليس كما يظن بعض الناس، ولا أعني ببعض الناس عامتهم، بل حتى بعض طلبة العلم يظنون أن البحث في هذا الباب -في باب أسماء الله وصفاته- ليس بذي قيمة تذكر، والحقيقة أن هذا الفكر فكر خاطئ؛ لأن معرفة الله تعالى بأسمائه وتوحيده بذلك وصفاته هو أحد أقسام التوحيد الثلاثة:
فقد قسم أهل العلم التوحيد إلى ثلاثة أقسام:
أحدها: توحيد الربوبية.
والثاني: توحيد الألوهية.
والثالث: توحيد الأسماء والصفات.
إذن فهو عنصر هام في باب التوحيد يجب علينا أن نعرفه، كما أنه أيضا - أعني معرفة الأسماء والصفات - هو أحد أركان الإيمان بالله، فإن الإيمان بالله لا يتم إلا بأربعة أمور:
أحدها: الإيمان بوجوده تعالى.
(5/151)
والثاني: الإيمان بربوبيته، وعموم ملكه، وقوة سلطانه.
والثالث: الإيمان بألوهيته، وأنه وحده المستحق للعبادة، وأن ما سواه فعبادته باطلة.
أما الأمر الرابع من أركان الإيمان بالله التي لا يمكن أن يتم الإيمان بالله إلا بها - وهو موضوع محاضرتنا هذه - فهو الإيمان بأسماء الله وصفاته.
إنني لا أتصور أن أحدا يمكن أن يعبد ربا لا يعرف أسماءه وصفاته، وكيف يكون ذلك وهو يمد يديه له: يا رب، يا رب؟ إذا كان لا يعلم أن له صفات وأسماء يدعى بها فكيف يتخذه إلها قادرا، ملجأ ومعاذا ونصيرا؟ ولهذا قال إبراهيم الخليل لأبيه: {يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} .
فمعرفة أسماء الله وصفاته أمر مهم في دين الله، ولا بد أن يعرفه الإنسان ويحققه.
أما السبب الثاني لاختياري هذا الموضوع: فهو كثرة الكلام فيه بالباطل في الآونة الأخيرة، كنا في وقت الطلب نقرؤه على أنه أمر بعيد عنا زمنا ومكانا، ولكننا وجدناه الآن فيما بيننا في الصحف المقروءة، وكذلك في الكتب المقررة في بعض جهات التعليم.
إذن لا بد أن نعرف موقف أهل السنة والجماعة بالنسبة لأسماء الله وصفاته؛ حتى نكون يقظين حذرين، وعالمين بما نحكم به فيما ينشر أو فيما يقرر.
فالكلام في أسماء الله وصفاته في الآونة الأخيرة كثر اللغط فيه، وكثر القول فيه بالحق تارة، وبالباطل تارات، ولهذا لا بد أن نحقق هذا الأمر تحقيقا بالغا حتى لا تجرف بنا الأهواء أو الأفكار التي على خطأ، وليست على صواب في هذا الأمر، وإنني ألخص الكلام في العناصر التالية:
(5/152)
العنصر الأول: في موقف أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات.
العنصر الثاني: في نصوص الأسماء والصفات.
العنصر الثالث: في العدول عن هذا الموقف.
العنصر الرابع: في أن التطرف في التنزيه يستلزم إبطال الدين كله.
العنصر الخامس: في أن بعض أهل التحريف والتعطيل اعتدوا على أهل السنة فرموهم بالتشبيه والتمثيل والتجسيم.
العنصر السادس: في أن أهل التحريف والتعطيل ادعوا على أهل السنة أنهم أولوا بعض النصوص ليلزموا أهل السنة بالتأويل في بقية النصوص أو بالمداهنة، وفي إبطال هذه الدعوى.
(5/153)
العنصر الأول: موقف أهل السنة في أسماء الله تبارك وتعالى
أسماء الله تعالى كل ما سمى به نفسه في كتابه، أو سماه به أعلم الخلق به رسوله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وموقف أهل السنة من هذه الأسماء أنهم يؤمنون بها على أنها أسماء لله تسمى بها الله عز وجل، وأنها أسماء حسنى ليس فيها نقص بوجه من الوجوه كما قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
فهم يثبتون الأسماء على أنها أسماء لله، ويثبتون أيضا ما تضمنته هذه الأسماء من الصفات، فمثلا من أسماء الله " العليم " فيثبتون العليم اسما لله سبحانه وتعالى، ويقولون: يا عليم، فيثبتون أنه يسمى بالعليم، ويثبتون بأن العلم صفة له دل عليها اسم العليم، فالعليم اسم مشتق من العلم، وكل اسم مشتق من معنى فلا بد أن يتضمن ذلك المعنى الذي اشتق منه، وهذا أمر معلوم في العربية واللغات جميعا.
ويثبتون كذلك ما دل عليه الاسم من الأثر إن كان الاسم مشتقا من مصدر متعدٍّ، فمثلا " الرحيم " من أسماء الله، يؤمنون بالرحيم على أنه اسم من أسمائه، ويؤمنون بما تضمنه من صفة الرحمة، وأن الرحمة صفة حقيقية ثابتة لله دل عليها اسم الرحيم، وليست إرادة الإحسان ولا الإحسان نفسه، وإنما إرادة الإحسان والإحسان نفسه من آثار هذه الرحمة، كذلك يؤمنون بأثر هذه الرحمة، والأثر أنه يرحم بهذه الرحمة من يستحقها كما قال الله تعالى: {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} .
هذه قاعدة أهل السنة والجماعة بالنسبة للأسماء: يؤمنون بأنها أسماء
(5/154)
تسمى الله بها فيدعون الله بها.
ثانيا: يؤمنون بما تضمنه الاسم من الصفة؛ لأن جميع أسماء الله مشتقة، والمشتق كما هو معروف يكون دالا على المعنى الذي اشتق منه.
ثالثا: يؤمنون بما تضمنه الاسم من الأثر إذا كان الاسم متعديا كالعليم والرحيم والسميع والبصير.
أما إذا كان الاسم مشتقا من مصدر لازم فإنه لا يتعدى مسماه مثل الحياة، فالله تعالى من أسمائه " الحي "، و" الحي " دل على صفة الحياة، والحياة وصف للحي نفسه لا يتعدى إلى غيره، ومثل " العظيم " فهذا الاسم والعظمة هي الوصف، والعظمة وصف للعظيم نفسه لا تتعدى إلى غيره، فعلى هذا تكون الأسماء على قسمين: متعدٍّ ولازم، والمتعدي لا يتم الإيمان به إلا بالأمور الثلاثة: الإيمان بالاسم، ثم بالصفة، ثم بالأثر.
وأما اللازم فإنه لا يتم الإيمان به إلا بإثبات أمرين:
أحدهما: الاسم.
والثاني: الصفة.
أما موقف أهل السنة والجماعة في الصفات فهو إثبات كل صفة وصف الله بها نفسه، أو وصفه بها رسوله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكن إثباتا بلا تكييف ولا تمثيل ولا تحريف ولا تعطيل، سواء كانت هذه الصفة من الصفات الذاتية أم من الصفات الفعلية.
فإذا قال قائل: فرقوا لنا بين الصفات الذاتية والصفات الفعلية.
قلنا: الصفات الذاتية هي التي تكون ملازمة لذات الخالق، أي أنه متصف بها أزلا وأبدا.
والصفات الفعلية هي التي تتعلق بمشيئته، فيفعلها الله تبعا لحكمته سبحانه وتعالى.
(5/155)
مثال الأول: صفة الحياة صفة ذاتية؛ لأن الله لم يزل ولا يزال حيا، كما قال الله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} ، وفسرها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: "أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء"، وقال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} .
كذلك السمع والبصر والقدرة، كل هذه من الصفات الذاتية، ولا حاجة إلى التعداد لأننا عرفناها بالضابط: "كل صفة لم يزل الله ولا يزال متصفا بها فإنها من الصفات الذاتية" لملازمتها للذات، وكل صفة تتعلق بمشيئته يفعلها الله حيث اقتضتها حكمته فإنها من الصفات الفعلية مثل: استوائه على العرش، ونزوله إلى السماء الدنيا، فاستواء الله على العرش من الصفات الفعلية لأنه متعلق بمشيئته، كما قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} .
فجعل الفعل معطوفا على ما قبله بـ "ثم" الدالة على الترتيب، ثم النزول إلى السماء الدنيا وصفه به أعلم الخلق به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حيث قال فيما ثبت عنه ثبوتا متواترا قال: «ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له» ، وهذا النزول من الصفات الفعلية لأنه متعلق بمشيئة الله تعالى، فأهل السنة والجماعة يؤمنون بذلك، ولكنهم في هذا الإيمان يتحاشون التمثيل أو التكييف، أي أنهم لا يمكن أن يقع في نفوسهم أن نزوله كنزول المخلوقين، أو استواءه على العرش كاستوائهم، أو إتيانه للفصل بين عباده كإتيانهم؛ لأنهم يؤمنون بأن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، ويعلمون بمقتضى العقل ما بين الخالق والمخلوق من
(5/156)
التباين العظيم في الذات والصفات والأفعال، ولا يمكن أن يقع في نفوسهم كيف ينزل؟ أو كيف استوى على العرش؟ أو كيف يأتي للفصل بين عباده يوم القيامة؟ أي أنهم لا يكيفون صفاته مع إيمانهم بأن لها كيفية لكنها غير معلومة لنا، وحينئذ لا يمكن أبدا أن يتصوروا الكيفية، ولا يمكن أن ينطقوا بها بألسنتهم أو يعتقدوها في قلوبهم.
يقول تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} .، ويقول: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} .
ولأن الله أجل وأعظم من أن تحيط به الأفكار قال تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} .
وأنت متى تخيلت أي كيفية فعلى أي صورة تتخيلها؟ ! إن حاولت ذلك فإنك في الحقيقة ضال، ولا يمكن أن تصل إلى حقيقة؛ لأن هذا أمر لا يمكن الإحاطة به، وليس من شأن العبد أن يتكلم فيه أو أن يسأل عنه، ولهذا قال الإمام مالك رحمه الله فيما اشتهر عنه بين أهل العلم حين سأله رجل فقال: يا أبا عبد الله "الرحمن على العرش استوى" كيف استوى؟ فأطرق مالك برأسه حتى علاه الرحضاء -يعني العرق وصار ينزف عرقا- لأنه سؤال عظيم، ثم قال تلك الكلمة المشهورة: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة"، وروي عنه أنه قال: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة".
(5/157)
فإذن نحن نعلم معاني صفات الله، ولكننا لا نعلم الكيفية، ولا يحل لنا أن نسأل عن الكيفية، ولا يحل لنا أن نكيف، كما أنه لا يحل لنا أن نمثل أو نشبه؛ لأن الله تعالى يقول في القرآن: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .
فمن أثبت لله مثيلا في صفاته فقد كذب القرآن، وظن بربه ظن السوء، وقد تنقص ربه حيث شبهه وهو الكامل من كل وجه بالناقص، وقد قيل:
ألم تر أن السيف ينقص قدره ... إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
وأنا أقول هذا على سبيل التوضيح للمعنى، وإلا ففرق عظيم بين الخالق والمخلوق، فرق لا يوجد مثله بين المخلوقات بعضها مع بعض.
المهم أيها الإخوة أنه يجب علينا أن نؤمن بكل ما وصف الله به نفسه، وما وصفه به رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سواء كانت تلك الصفة ذاتية أم فعلية، ولكن بدون تكييف، وبدون تمثيل.
التكييف ممتنع؛ لأنه قول على الله بغير علم، وقد قال الله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} .
والتمثيل ممتنع؛ لأنه تكذيب لله في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، وقول بما لا يليق بالله تعالى من تشبيهه بالمخلوقين.
(5/158)
العنصر الثاني: في نصوص الأسماء والصفات:
المعترك بين أهل السنة وأهل البدعة في هذه النصوص معترك يتبين به الفرق الشاسع بين أهل السنة وأهل البدعة، فأهل السنة يثبتون النصوص على حقيقتها وظاهرها اللائق بالله من غير تحريف ولا تعطيل، هذه الطريق التي مشى عليها أهل السنة والجماعة.
واخترنا كلمة "تحريف" على كلمة "تأويل" لأن التحريف معناه باطل بكل حال، ذم الله تعالى من سلكه في قوله: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} .
أما التأويل ففيه ما هو صحيح مقبول، وفيه ما هو فاسد مردود، والفاسد المردود هو بمعنى التحريف، ولهذا اختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في العقيدة الواسطية وهي خلاصة عقيدة أهل السنة والجماعة اختار التحريف بدل التأويل، وإن كان يوجد في كثير من كتب العقائد التعبير بـ (التأويل) .
لكنهم يريدون بالتأويل ما هو بمعنى التحريف أي التأويل الذي لا دليل عليه، بل الدليل نقيضه، وهذا في الحقيقة تحريف.
فأهل السنة والجماعة يقولون: نحن نؤمن بهذه الآيات والأحاديث ولا نحرفها؛ لأن تحريفها قول على الله بغير علم من وجهين، يتبين ذلك في قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} .
قال أهل السنة والجماعة: جاء ربك أي هو نفسه يجيء سبحانه وتعالى، لكنه مجيء يليق بجلاله وعظمته لا يشبه مجيء المخلوقين، ولا يمكن أن نكيفه، وعلينا أن نضيف الفعل إلى الله كما أضافه الله إلى نفسه.
(5/159)
فنقول: إن الله تعالى يجيء يوم القيامة مجيئا حقيقيا يجيء هو نفسه، وقال أهل التحريف: معناه وجاء أمر ربك.
وهذا جناية على النص من وجهين:
الوجه الأول: نفي ظاهره، فأين لهم العلم من أن الله تعالى لم يرد ظاهره؟ هل عندهم علم من أن الله لم يرد ظاهر ما أضافه لنفسه؟ ! والله تعالى يقول عن القرآن: إنه نزل بلسان عربي مبين، فعلينا أن نأخذ بدلالة هذا اللفظ حسب مقتضى هذا اللسان العربي المبين، فمن أين لنا أن يكون الله تعالى لم يرد ظاهر اللفظ؟ !
فالقول بنفي ظاهر النص قول على الله بغير علم.
الوجه الثاني: إثبات معنى لم يدل عليه ظاهر اللفظ، فهل عنده علم أن الله تعالى أراد المعنى الذي صرف ظاهر اللفظ إليه؟ ! هل عنده علم أن الله أراد مجيء أمره؟ ! قد يكون المراد جاء شيء آخر ينسب إلى الله غير الأمر.
فإذن كل محرف أي كل من صرف الكلام عن ظاهره بدون دليل من الشرع فإنه قائل على الله بغير علم من وجهين:
الأول: نفيه ظاهر الكلام.
الثاني: إثباته خلاف ذلك الظاهر.
لهذا كان أهل السنة والجماعة يتبرءون من التحريف، ويرون أنه جناية على النصوص، وأنه لا يمكن أن يخاطبنا الله تعالى بشيء ويريد خلاف ظاهره بدون أن يبين لنا، وقد أنزل الله الكتاب تبيانا لكل شيء، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين للناس ما أنزل إليهم من ربهم بإذن ربهم.
أما التمثيل فمن الواضح أن القول به تكذيب للقرآن؛ لأن الله
(5/160)
تعالى يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، ولهذا كان عقيدة أهل السنة والجماعة، بل طريقة أهل السنة والجماعة في نصوص الصفات من الآيات والأحاديث، هو إثباتها على حقيقتها وظاهرها اللائق بالله بدون تحريف وبدون تعطيل، وقد حكى إجماع أهل السنة على ذلك ابن عبد البر في كتابه (التمهيد) ، ونقله عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وكذلك نقل عن القاضي ابن يعلى أنه قال: "أجمع أهل السنة على تحريم التشاغل بتأويل آيات النصوص وأحاديثها، وأن الواجب إبقاؤها على ظاهرها".
(5/161)
العنصر الثالث: " العدول عن هذا الموقف تطرف دائر بين الإفراط والتفريط "
العدول عن هذا الموقف -أعني موقف أهل السنة والجماعة- تطرف إما إفراط، وإما تفريط؛ لأن الناس انقسموا في هذا الباب إلى ثلاثة أقسام: طرفان ووسط، طرف غلا في التنزيه حتى نفى ما أثبته الله لنفسه، وطرف آخر غلا في الإثبات حتى أثبت ما نفاه الله عن نفسه.
فإن من أهل البدع من أثبت النصوص على ظاهرها، ولكنه جعل هذا الظاهر من جنس صفات المخلوقين والعياذ بالله، فأثبت النقص لربه بإلحاقه بالمخلوق الناقص، وأخطأ في ظنه أن ظاهرها التمثيل.
أثبت أن لله تعالى سمعا، وأن لله تعالى وجها، وأن لله تعالى عينا، وأن له يدا، لكنه جعل ذلك كله من جنس صفات المخلوقين، غلا في الإثبات حتى بلغ به إلى التمثيل، وقد قال نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري: من شبه الله بخلقه فقد كفر، ولا شك أنه كافر، وأن الله سبحانه وتعالى لم يرد بهذه النصوص هذا الظاهر الذي ادعاه هذا الممثل.
وقد يقول القائل: أين دليلك على أن الله ما أراده؟
فأقول: الدليل عندي نقلي، وعقلي:
أما النقلي فآيات متعددة تنفي المماثلة عن الله، وأصرحها وأبينها قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} .
وأما الدليل العقلي: فإنه لا يمكن أبدا أن يكون الخالق مماثلا للمخلوق في أي صفة من صفاته لظهور الفرق العظيم بينهما في الذات والصفات والأفعال.
(5/162)
ومن أهل البدع من حرف النصوص عن ظاهرها، ونفى مدلولها اللائق بالله، وهؤلاء المحرفون انقسموا إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: قسم غلا في ذلك غلوا عظيما حتى نفى النقيضين في حق الله، فقال: لا تقل: إن الله موجود، ولا تقل: غير موجود، إن قلت: موجود شبهته بالموجودات، وإن قلت: غير موجود شبهته بالمعدومات، ولا ريب أن هذا تنكره العقول كلها؛ لأن رفع أحد النقيضين أمر مستحيل، والتقابل بين الوجود والعدم من تقابل النقيضين اللذين لا يمكن اجتماعهما ولا ارتفاعهما.
القسم الثاني: من قال: نثبت السلب ولا نثبت الإيجاب، فلا نصف الله بصفات ثبوتية، ولكن نصفه بالأسلوب والإضافات، ونثبت الأسماء مجردة عن المعاني، وهذا ما عليه عامة الجهمية والمعتزلة.
القسم الثالث: من يقول: نثبت بعض الصفات لدلالة العقل عليها، وننكر بعض الصفات لأن العقل لا يثبتها، وبعضهم يقول: لأن العقل ينكرها.
وكل هذه الأقسام الثلاثة -وإن كانت تختلف من حيث البعد عن الحق- كلها على غير صواب فهي متطرفة، فالقول الوسط ما عليه أهل السنة والجماعة: أن نثبت لله ما أثبته لنفسه من الصفات، ولكنه إثبات مجرد عن التكييف، وعن التمثيل، وبذلك نكون عملنا بالنصوص الشرعية من الجانبين، ولم ننظر بعين أعور، وبذلك نكون قد تأدبنا مع الله ورسوله، فلم نقدم بين يدي الله ورسوله، وإنما التزمنا غاية الأدب، سمعنا وآمنا وأطعنا، ما أثبته الله لنفسه أثبتناه، وما أثبته له رسوله أثبتناه، وما نفاه الله عن نفسه نفيناه، وما نفاه عنه رسوله نفيناه، وما سكت عنه سكتنا عنه.
(5/163)
العنصر الرابع: التطرف في التنزيه يستلزم إبطال الدين كله
ذكرنا أن من الناس من تطرف في التنزيه حتى أنكر الصفات، أو أنكر بعضها، أو أنكر الإيجابية منها، أو أنكر الإيجابي والسلبي، فأقول: إن التطرف في التنزيه في كل أقسامه يؤدي إلى إبطال الدين كله.
مثال ذلك: إذا كان المنزه يثبت بعض الصفات وينكر بعضها قلنا له: لماذا تثبت؟ ولماذا تنكر؟
قال: أثبت هذه الصفات لأن العقل دل عليها، وأنكر هذه الصفات لأن العقل لم يدل عليها، أو دل على نفيها.
فيقول له القوم الآخرون: نحن ننكر جميع الصفات لأن العقل لا يدل عليها، أو لأن العقل دل على نفيها، فلا يستطيع الأول أن يرد على هؤلاء؛ لأنه إذا رد عليهم بأن العقل يثبت ذا وينكر ذا أو لا يثبته قال: أنا عقلي لا يثبت ما تثبت، وما دام المرجع هو العقل فإن ما أنكرته أنت بحجة العقل فأنا أنكر ما أنكر بحجة العقل، ولكن الأمر لا ينتهي عند موضوع الصفات.
بل يأتينا أهل التخييل الذين أنكروا اليوم الآخر، وأنكروا رسالة الرسل، بل أنكروا وجود الله رأسا -والعياذ بالله- فيقولون: عقولنا لا تقبل أن تحيا العظام وهي رميم، لا تقبل وجود جنة ولا نار، فيحتجون بالعقل كما احتج هؤلاء بالعقل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وإثبات الصفات في القرآن والسنة أكثر من إثبات المعاد، فأي إنسان ينكر الصفات فإنه لا يمكن أن يدفع إنكار من أنكر المعاد، ولا ريب أن إنكار المعاد وإنكار الشرائع إبطال للدين كله، والخلاص من هذا هو اتباع طريق السلامة، أن نثبت ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات، وننفي ما نفاه الله عن نفسه
(5/164)
من الصفات، ونسكت عما سكت عنه، وبهذا لا يمكن لأي إنسان أن يفحمنا؛ لأننا قلنا: إن هذه المسائل الغيبية إنما تدرك بالشرع والمنقول عن المعصوم والعقول مضطربة ومختلفة، وكل إنسان من مدعي العقل يدعي وجوب ما يدعي الآخر أنه ممتنع، أو ما يدعي الآخر أنه من الممكنات لا من الواجبات.
(5/165)
العنصر الخامس: أن بعض أهل التحريف والتعطيل قالوا: إن أهل السنة مشبهة ومجسمة وممثلة
من الغرائب أن يدعى على الإنسان ما ينكره، فأهل السنة والجماعة ينكرون التشبيه، وينكرون التمثيل، ويقولون: من شبه الله بخلقه فقد كفر، فكيف يمكن أن يلزموا بما هم معترفون بإنكاره؟ هذا عدوان محض.
أهل السنة والجماعة يقولون: نحن لا نشبه، ولا نمثل، وإنما نثبت لله ما أثبته الله لنفسه، وما أثبته له رسوله بدون تمثيل وبدون تكييف، فما بالكم تشوهون طريقنا وتقولون: أنتم ممثلة ومشبهة؟ ! ولكن لا غرو أن يرمى أهل السنة والجماعة بمثل هذه الألقاب السيئة؛ لأن رمي أهل الحق بالألقاب السيئة أمر موروث عن أعداء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فالأنبياء قيل: إنهم سحرة، وقيل: إنهم مجانين: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} ، ولكن هل الحق يغيض بمثل هذه الألقاب؟ لا بل يفيض ويزداد قوة، ويزداد وضوحا وبيانا، ولله الحمد أهل السنة والجماعة متبرئون من هذه العيوب التي يصمهم بها من يحرفون الكلم عن مواضعه.
كذلك يقولون: أنتم مجسمة، كيف مجسمة؟ وما معنى مجسمة؟ ! هذه الكلمة كلمة "التجسيم" لو قرأت القرآن من أوله إلى آخره، ومررت على ما جاء عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من السنة من أولها إلى آخرها، لم تجد لفظ "الجسم" مثبتا لله ولا منفيا عنه في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فما بالنا نتعب أذهاننا وأفكارنا، ونظهر ذلك بمظهر سوء بالنسبة لمن أثبت لله
(5/166)
صفات الكمال على الوجه الذي أراد الله.
إذا كانت كلمة " الجسم " غير واردة في الكتاب، ولا في السنة، فإن أهل السنة والجماعة يمشون فيها على طريقتهم، يقفون فيها موقف الساكت فيقولون: لا نثبت الجسم ولا ننكره من حيث اللفظ، ولكننا قد نستفصل في المعنى فنقول للقائل: ماذا تريد بالجسم؟ إن أردت الذات الحقيقية المتصفة بالصفات الكاملة اللائقة بها، فإن الله سبحانه وتعالى لم يزل ولا يزال حيا عليما قادرا متصفا بصفات الكمال اللائقة به، وإن أردت شيئا آخر كجسمية الإنسان التي يفتقر كل جزء من البدن إلى الجزء الآخر منه، ويحتاج إلى ما يمده حتى يبقى فهذا معنى لا يليق بالله عز وجل، وبهذا نكون أعطينا المعنى حقه.
أما اللفظ: فلا يجوز لنا أبدا أن نثبته أو ننفيه، ولكننا نتوقف فيه؛ لأننا إن أثبتنا قيل لنا: ما الدليل؟ وإن نفينا قيل لنا: ما الدليل؟ وعلى هذا فيجب السكوت من حيث اللفظ، أما من حيث المعنى فعلى التفصيل الذي بيناه.
(5/167)
العنصر السادس: ادعى أهل التحريف والتعطيل على أهل السنة أنهم أولوا بعض النصوص ليلزموهم بتأويل البقية أو المداهنة فيها
هذه دعوى تلبيس وتشكيك، وقد نشرت في الصحف، نشرها من نشرها وقال: أنتم يا أهل السنة تشنعون علينا، تقولون: أنتم تأولون، وأنتم يا أهل السنة قد أولتم، فما بالكم تشنعون علينا بالتأويل وأنتم تسلكونه؟
حقيقة إن هذه الحجة حجة قوية إذا ثبتت؛ لأنه لا يحق لأي إنسان أن يتحكم فيما يمكن تأويله أو يجب، وفيما لا يمكن، ولكن أهل السنة والجماعة يقولون: هذه دعوى تلبيس وتشكيك، فإننا لسنا على هذه الطريقة، وأنتم رميتمونا بذلك إما لإلزامنا أن نقول بالتأويل كما قلتم به، وإما لإلزامنا أن نسكت عن تحريفكم ونداهن، ولكنا بعون الله لن نسكت على ما نرمى به ونحن منه بريئون.
وهذا التأويل الذي ادعاه بعض أهل التأويل ورمى به أهل السنة والجماعة لنا عنه جوابان:
الجواب الأول: أن نمنع أن يكون طريق أهل السنة في ذلك تأويلا؛ لأن التأويل في اصطلاح المتأخرين -وهو الذي يعنيه هؤلاء- هو صرف اللفظ عن ظاهره.
وأهل السنة يقولون: ظاهر الكلام ما دل عليه الكلام باعتبار السياق، أو باعتبار حال المتكلم به، هذا هو ظاهر الكلام، وليس للكلمات معنى خلقت له لا تستعمل في غيره، ولكن معنى الكلمات إنما يظهر بسياقها وبحال المتكلم بها، نحن كنا قرأنا في البلاغة أو بعض منا قرأ في البلاغة ورأى أن الاستفهام يأتي لعدة معان، وقرأنا في حروف الجر ومعانيها، وعلمنا أن بعض الحروف يأتي لعدة معان، فما الذي يعين هذه
(5/168)
المعاني؟ أليس السياق؟ إذن فحقيقة الكلام ما دل عليه سياقه، وظاهره ما دل عليه سياقه، وذلك باعتبار نظم الكلام، وباعتبار حال المتكلم به، فهذا الجواب جواب مجمل أن نقول: لا نسلم بأن ظاهر الكلام خلاف ما دل عليه سياقه أو حال المتكلم به، بل ما دل عليه السياق فهو حقيقة الكلام وظاهره مطلقا، حتى لو استعملت هذه الكلمة في غير هذا الموضع لمعنى آخر، فإن استعمالها في هذا الموضع للمعنى الذي دل عليه السياق هو في الواقع حقيقتها، هذا جواب.
الجواب الثاني: لو سلمنا أن في اللفظ إخراجا له عن ظاهره، فإن أهل السنة والجماعة لا يمكن أبدا أن يخرجوا لفظا عن ظاهره إلا بدليل من الكتاب أو السنة، متصل أو منفصل، وأنا أتحدى أي واحد يأتي إلي بدليل من الكتاب أو السنة في أسماء الله وصفاته أخرجه أهل السنة عن ظاهره، إلا أن يكون لهم دليل بذلك من كتاب الله أو من سنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحينئذ إذا كان ما أخرجه إليه أهل السنة من المعنى ثابتا بدليل من الكتاب والسنة، فإنهم في الحقيقة لم يخرجوا عما أراد الله به؛ لأنهم علموا مراد الله به من الدليل الثاني من الكتاب والسنة، وليسوا بحمد الله يخرجون شيئا من النصوص عما يقال: إنه ظاهره من أجل عقولهم؛ حتى يتوصلوا إلى نفي ما أثبته الله لنفسه، وإثبات ما لم يدل عليه ظاهر الكلام، هذا لا يوجد ولله الحمد في أي واحد من أهل السنة، والأمر إذا شئتم فارجعوا إليه في كتبهم المختصرة والمطولة، ونحن نضرب لذلك بعض الأمثلة لا كل الأمثلة؛ لأننا لو تتبعنا الأمثلة كلها التي قيل: إن أهل السنة والجماعة صرفوها عن ظاهرها لطال بنا الكلام، لكننا نذكر عدة أمثلة فقط:
المثال الأول: قال أهل التأويل: أنتم يا أهل السنة أولتم قول الله
(5/169)
عز وجل: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} ، فقلتم: إن معنى الاستواء هنا " القصد والإرادة "، وقلتم: إن معنى الاستواء في قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} " العلو والارتفاع "، وما هذا إلا تأويل منكم لأحد النصين لا يمكن أن تخرجوا عنه، ومعلوم أن استوى على كذا ظاهرة جدا في العلو عليه، يبقى استوى إلى كذا معناها القصد، إذن أخرجتم كلمة استوى عن ظاهرها.
وجوابنا على ذلك أن نقول: " استوى " كلمة يتحدد معناها بحسب متعلقها فمثلا: " استوى على العرش " معناها العلو على وجه يليق بجلاله، ولا يشبه استواء المخلوق على المخلوق.
"استوى إلى السماء" اختلف الحرف فكان " إلى "، و" إلى " للغاية، وليست للعلو، ومعلوم أنها إذا كانت للغاية فإن الفعل مضمن معنى يدل على الغاية وهو: القصد والإرادة، وإلى هذا النحو ذهب بعض أهل السنة فقالوا: " استوى إلى السماء " أي قصد إلى السماء، والقصد إذا كان تاما يعبر عنه بالاستواء؛ لأن الأصل في اللغة العربية أن مادة الاستواء تدل على الكمال كما في قوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} .
وجواب آخر أن نقول: " استوى إلى السماء" بمعنى ارتفع، قال البغوي: وهو مروي عن ابن عباس وأكثر المفسرين، ولكن هذا يجب أن لا نظن أن الله سبحانه وتعالى قد انتفى عنه العلو حين خلق الأرض، بل إنه سبحانه وتعالى لم يزل ولا يزال عاليا؛ لأن العلو صفة ذاتية، ولكن الاستواء هنا وإن كان بمعنى الارتفاع إلا أننا لا نعلم كيفيته، وهذا جواب آخر عن الآية.
(5/170)
والخلاصة الآن أننا إذا فسرنا "استوى إلى السماء" بمعنى قصد إليها على الكمال فإننا لم نخرج عن ظاهر اللفظ، وذلك لاختلاف حرف الجر الذي تعلق باستوى في قوله: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} ، وفي قوله: {اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} ، وإذا قلنا بالقول الثاني الذي هو مروي عن ابن عباس وأكثر المفسرين بأنه ارتفع فإنه لا يجوز لنا أن نتوهم بأن الله تعالى لم يكن عاليا من قبل.
أما المثال الثاني: قال أهل التأويل: أنتم يا أهل السنة فسرتم قوله تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} أي بمرأى منا، وهذا خلاف ظاهر اللفظ.
نقول لهم: ماذا تفهمون من هذا اللفظ؟ هل أحد يمكن أن يفهم أن الباء للظرفية، وأن سفينة نوح تجري في عين الله؟ أبدا لا أحد يفهم هذا إطلاقا، وإتيان الباء للظرفية في بعض المواضع وارد، لكن في هذه الآية لا يمكن أبدا أن يكون كذلك.
إذن فهذا الظاهر الذي زعمتم أنه ظاهر الآية لا نسلم أبدا أنه ظاهرها، لكن الذين فسروا {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} بمرأى منا هؤلاء فسروا اللفظ بلازمه، وذلك صحيح، وليس خروجا باللفظ عن ظاهره؛ لأن دلالة اللفظ على معناه: إما دلالة مطابقة، أو دلالة تضمن، أو دلالة التزام، وكل من الدلالات لا يخرج اللفظ عن ظاهره، هذه الدلالات الثلاث أوضحها بالمثال:
"البيت" يعني الدار، تدل على جملة الدار وكتلتها جميعا بالمطابقة، أي تدل على بناء مكون من حجر وغرف وساحات وغيرها بالمطابقة.
(5/171)
وتدل على كل حجرة أو كل غرفة أو كل ساحة بالتضمن.
وتدل على أن هذا البيت لا بد له من بان بناه بالالتزام.
فنحن نقول: تجري بأعيننا إذا كان الله تعالى يراها بعينه ويرعاها، فإنها تجري بمرأى منه، وهذا معنى صحيح، ويمكن أن نجيب بجواب آخر بأن معناها: تجري مرئية بأعيننا، والمهم أن نثبت من هذه الآية أن لله سبحانه وتعالى عينا لا تشبه أعين المخلوقين، ولا يمكن أن نتصور لها كيفية، وبذلك لم نخرج عن ظاهر اللفظ.
وقد فسر ابن عباس -رضي الله عنهما- قوله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} أنها العين الحقيقية، والمعنى أن موسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يربى على عين الله، أي: على رؤية بعين الله سبحانه وتعالى.
المثال الثالث: قال أهل التأويل: أنتم يا أهل السنة أولتم قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ} إلى أن المراد أقرب بملائكتنا وهذا تأويل؛ لأنا لو أخذنا بظاهر اللفظ لكان الضمير نحن يعود إلى الله، وأقرب خبر المبتدأ، وفيه ضمير مستتر يعود على الله، فيكون القرب لله عز وجل، ومعلوم أنكم أهل السنة لا تقولون بذلك، لا تقولون: إن الله تعالى يقرب من المحتضر بذاته حتى يكون في مكانه؛ لأن هذا أمر لا يمكن أن يكون، إذ إنه قول أهل الحلول الذين ينكرون علو الله عز وجل، ويقولون: إنه بذاته في كل مكان، وأنتم أهل السنة تنكرون ذلك أشد الإنكار، إذن ماذا تقولون أنتم يا أهل السنة؟ ألستم تقولون: نحن أقرب إليه أي إلى المحتضر بملائكتنا، أي الملائكة تحضر إلى الميت وتقبض روحه؟ ! هذا تأويل.
(5/172)
قلنا: الجواب على ذلك سهل ولله الحمد، فإن الذي يحضر الميت هم الملائكة {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} ، {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} ، فالذي يحضر إلى المحتضر عند الموت هم الملائكة، وأيضا في نفس الآية ما يدل على أنه ليس المراد قرب الله سبحانه وتعالى نفسه، فإنه قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ} .
فهذا يدل على أن هذا القريب حاضر، لكن لا نبصره، وذلك لأن الملائكة عالم غيبي الأصل فيهم الخفاء وعدم الرؤية، وعلى هذا فنحن لم نخرج بالآية عن ظاهرها لوجود لفظ فيها يعين المراد، ونحن على العين والرأس والقلب نقبل كل شيء كان بدليل من كتاب الله، ومن سنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
المثال الرابع: قال أهل التأويل: أنتم يا أهل السنة أولتم قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} ، فقلتم: وهو معكم بعلمه، وهذا تأويل، فإن الله تعالى يقول: {وَهُوَ مَعَكُمْ} ، والضمير في قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ} يعود إلى الله، فأنتم يا أهل السنة أولتم هذا النص وقلتم: إنه معكم بالعلم، فإذن كيف تنكرون علينا التأويل؟
قلنا: نحن لم نؤول الآية، بل إنما فسرناها بلازمها وهو: العلم؛ وذلك لأن قوله: وهو معكم لا يمكن لأي إنسان يعرف قدر الله عز وجل
(5/173)
ويعرف عظمته أن يتبادر إلى ذهنه أنه هو ذاته مع الخلق في أمكنتهم، فإن هذا أمر مستحيل، كيف يكون الله معك في البيت، ومع الآخر في المسجد، ومع الثالث في الطريق، ومع الرابع في البر، ومع الخامس في الجو، ومع السادس في البحر. . إلخ؟ لو قلنا بهذا فكم إلها يكون؟ لو قلنا بهذا لزم أن يكون الله إما متعددا أو متجزئا -تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا- وهذا أمر لا يمكن، ولهذا نقول: من فهم هذا الفهم فهو ضال في فهمه، ومن اعتقده فإنه ضال إن قلد غيره بذلك، وكافر إذا بلغه العلم وأصر على قوله، ومن نسب إلى أحد من السلف أن ظاهر الآية أن الله معهم بذاته في أمكنتهم، فإنه بلا شك كاذب عليهم.
إذن أهل السنة والجماعة يقولون: نحن نؤمن بأن الله تعالى فوق عرشه، وأنه لا يحيط به شيء من مخلوقاته، وأنه مع خلقه كما قال في كتابه، ولكن مع إيماننا بعلوه، ولا يمكن أن يكون مقتضى معيته إلا الإحاطة بالخلق علما وقدرة وسلطانا وسمعا وبصرا وتدبيرا، وغير ذلك من معاني الربوبية، أما أن يكون حالا في أمكنتهم، أو مختلطا بهم كما يقول أهل الحلول والاتحاد، فإن هذا أمر باطل لا يمكن أن يكون هو ظاهر الكتاب والسنة، وعلى هذا فنحن لم نؤول الآية ولم نصرفها عن ظاهرها؛ لأن الذي قال عن نفسه: {وَهُوَ مَعَكُمْ} هو الذي قال عن نفسه: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} ، وهو الذي قال عن نفسه: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} إذن فهو فوق عباده، ولا يمكن أن يكون في أمكنتهم، ومع ذلك فهو معهم محيط بهم علما وقدرة وسلطانا وتدبيرا وغير ذلك.
وإذا أضيفت المعية إلى من يستحق النصر من الرسل وأتباعهم
(5/174)
اقتضت مع الإحاطة علما وقدرة، اقتضت نصرا وتأييدا، فنحن ولله الحمد ما خرجنا بهذا اللفظ عن ظاهره حتى يلزمونا بذلك.
وقد بين شيخ الإسلام رحمه الله في كتبه المختصرة والمطولة أنه لا تعارض بين معنى المعية حقيقة وبين علو الله سبحانه وتعالى، قال: " لأن الله سبحانه ليس كمثله شيء في جميع صفاته، فهو علي في دنوه، قريب في علوه ".
وقال: " إن الناس يقولون: ما زلنا نسير والقمر معنا، مع أن القمر في السماء، وهم يقولون: معنا، فإذا كان هذا ممكنا في حق المخلوق كان في حق الخالق من باب أولى".
والمهم أننا نحن معشر أهل السنة ما قلنا أبدا ولا نقول إن ظاهر الآية هو ما فهمتموه، وأننا صرفناها عن ظاهرها، بل نقول: إن الآية معناها أنه سبحانه مع خلقه حقيقة معية تليق به، محيط بهم علما وقدرة وسلطانا وتدبيرا وغير ذلك؛ لأنه لا يمكن الجمع بين نصوص المعية وبين نصوص العلو إلا على هذا الوجه الذي قلناه، والله سبحانه وتعالى يفسر كلامه بعضه بعضا.
المثال الخامس: قال أهل التأويل: إنه ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: قال الله تعالى: «من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه» .
وأنتم يا أهل السنة هل تقولون: إن الله يكون سمع وبصر ويد ورجل من يحبه حقيقة؟ إن لم تقولوا بذلك فقد صرفتم الحديث عن ظاهره؛
(5/175)
لأن الله يقول: «كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها» .
وجوابنا: أنه لا أحد يفهم أن ظاهر الحديث هو هذا، أي أن الله يكون سمع الإنسان وبصره ورجله ويده حقيقة، لا أحد يفهم هذا، إلا من كان بليد الفهم، أو مظلم القلب بالتقليد، أو بالدعوى الباطلة.
فالحديث لا يدل على أن حقيقة سمع الإنسان وبصره ورجله ويده هو الله عز وجل، وحاشاه عز وجل عن ذلك، لا يدل على هذا بأي وجه من الوجوه، اقرأ الحديث: «من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب» ، «وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه» ، فأثبت عابدا ومعبودا، ومتقربا ومتقربا إليه، «ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه» فأثبت محبا ومحبوبا، «ولئن سألني لأعطينه» فأثبت سائلا ومسئولا، ومعطيا ومعطى "، «ولئن استعاذني لأعيذنه» فأثبت مستعيذا ومستعاذا به، ومن المعلوم أن كل واحد من هذين هو غير الآخر بلا ريب.
إذا تقرر هذا فكيف يمكن أن يفهم أحد من قوله تعالى في هذا الحديث القدسي: " كنت سمعه " أن الله سيكون جزءا في هذا المخلوق الذي يتقرب إليه، والذي يستعيذ به، والذي يسأله؟ هذا لا يمكن لأحد أن يفهمه أبدا من سياق الحديث، وبهذا يكون معنى الحديث وظاهر الحديث وحقيقة الحديث: أن الله سبحانه وتعالى يسدد هذا الإنسان في سمعه وبصره وسعيه، فلا يسمع إلا بالله ولله وفي الله، ولا ينظر إلا لله وبالله وفي الله، ولا يبطش إلا لله وبالله، ولا يمشي إلا لله وبالله وفي الله، هذا هو معنى الحديث، وحقيقته وظاهره، وليس فيه ولله الحمد أي شيء من التأويل.
المثال السادس: قال أهل التأويل: إنكم يا أهل السنة أولتم قول
(5/176)
الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن» ، حيث قلتم: إن المراد أن الله سبحانه وتعالى متصرف في القلوب، ولا يمكن أن تكون القلوب بين إصبعين من أصابع اليد، فإن هذا يقتضي الحلول، وأن أصابع الله حالة في صدر كل إنسان.
قلنا: هذا كذب على السلف، والسلف ما أولوا هذا التأويل، ولا قالوا: إن الحديث كناية عن سلطان الله تعالى، وتصرفه في القلوب، بل قالوا: نثبت أن لله تعالى أصابع، وأن كل قلب من بني آدم فهو بين إصبعين من أصابعه على وجه الحقيقة، ولا يلزم من ذلك الحلول أبدا، فإن البينية بين شيئين لا يلزم منها المماسة والمباشرة، أرأيتم قول الله تعالى: {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} ؟ هل يلزم من ذلك التعبير أن يكون السحاب لاصقا بالسماء والأرض؟ لا يمكن، فقلوب بني آدم كلها كما قال نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو أعلم الخلق بالله: «بين إصبعين من أصابع الرحمن» ، ولا يلزم من ذلك أن يكون مماسا لهذه القلوب، بل نقول كما قال نبينا، ونقول هذا على وجه الحقيقة، وليس فيه تأويل.
ونثبت مع ذلك أيضا أن الله تعالى يتصرف في هذه القلوب كما يشاء، كما جاء في الحديث، ونقول: اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك.
المثال السابع والأخير: فهو الحجر الأسود يمين الله في الأرض، قال أهل التأويل: إنكم تؤولون هذا الحديث، لأنكم لا يمكن أن تقولوا: إن الحجر هو يد الله.
ونقول: هذا حق، لا يمكن لأحد أن يقول: إن الحجر الأسود هو يد الله عز وجل، ولكن قبل أن نجيب على هذا نقول: إن هذا الحديث باطل، ولا يثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(5/177)
قال ابن العربي: إنه حديث باطل.
وقال ابن الجوزي في " العلل المتناهية ": إنه حديث لا يصح.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: " روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإسناد لا يثبت ".
وعلى هذا فإنه ليس واردا على أهل السنة والجماعة لأنه لا يصح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن قال شيخ الإسلام: إنه مشهور عن ابن عباس، ولكنه مع ذلك لا يعطي المعنى الذي قاله هؤلاء، وأن الحجر الأسود يمين الله؛ لأنه قال: «يمين الله في الأرض» فقيده، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: والكلام إذا قيد ليس كالكلام المطلق ما قال: يمين الله وسكت، قال: في الأرض، ومعلوم أن يمين الله ليست في الأرض، كذلك أيضا قال في نفس الحديث كما رواه شيخ الإسلام ابن تيمية: «فمن صافحه فكأنما صافح الله» ، والتشبيه يدل على أن المشبه به ليس هو المشبه، وإنما هو غيره.
وخلاصة القول:
أن أهل السنة والجماعة -ولله الحمد- لا يمكن أن يخرجوا الكلام عن ظاهره؛ لأن ظاهر الكلام وحقيقته ما دل عليه سياقه، وهو مختلف بحسب السياق وبحسب الأحوال، فإن لم يمكن ذلك وأبى إنسان إلا أن يجعل معنى الكلمة معنى ذاتيا لها، فإننا نقول: لا يمكن لأهل السنة والجماعة أن يتركوا هذا المعنى الذي ادعى أنه ذاتي لها إلا بدليل من الكتاب والسنة، ومتى دل الكتاب والسنة على شيء وجب القول به، سواء وافق ما يقال: إنه ظاهر اللفظ أو خالفه، ونحن كلنا نلتمس ما قاله الله عن نفسه، وما قاله عنه رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويدلكم لهذا ما ثبت في صحيح مسلم أن الله تعالى يقول: «عبدي جعت فلم تطعمني، عبدي مرضت فلم تعدني، فيقول: كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ كيف أعودك وأنت رب»
(5/178)
«العالمين؟ فيقول الله عز وجل: أما علمت أن عبدي فلانا جاع فلم تطعمه، مرض فلم تعده» .
هذا الحديث يدلنا دلالة ظاهرة على أن ما جاء في الكتاب والسنة مما أضافه إلى نفسه فهو حق على ظاهره، ما لم يرد عن الله ورسوله صرفه عن ذلك، فإن ورد صرفه عن ظاهره فإننا آخذون به، وهذا الحديث الأخير دليل واضح على منع التأويل الذي ليس له دليل من الكتاب والسنة، ولعلنا نقتصر على هذا خوفا من التطويل، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
(5/179)
منهاج
أهل السنة
والجماعة
في العقيدة والعمل
(5/181)
منهاج أهل السنة والجماعة في العقيدة والعمل
[المقدمة]
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله الله تعالى بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} .
(5/183)
المراد بأهل السنة والجماعة وبيان طريقهم
أهل السنة والجماعة هم الذين هداهم الله تعالى لما اختلف فيه من الحق بإذنه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وكلنا نعلم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث بالهدى ودين الحق، الهدى: الذي ليس فيه ضلالة، ودين الحق: الذي ليس فيه غواية، وبقي الناس في عهده على هذا المنهاج السليم القويم، وكذلك عامة زمن خلفائه الراشدين، ولكن الأمة بعد ذلك تفرقت تفرقا عظيما متباينا، حتى كانوا على ثلاث وسبعين وفرقة، كلها في النار إلا واحدة، وهي ما كان عليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، بهذا نقول: إن هذه الفرقة هي فرقة أهل السنة والجماعة، وهذا الوصف لا يحتاج إلى شرح في بيان أنهم هم الذين على الحق؛ لأنهم أهل السنة المتمسكون بها، وأهل الجماعة المجتمعون عليها، ولا تكاد ترى طائفة سواهم إلا وهم بعيدون عن السنة بقدر ما ابتدعوا في دين الله سبحانه وتعالى، ولا تجد فرقة غيرهم إلا وجدتهم فرقة متفرقين فيما هم عليه من النحلة.
وقد قال سبحانه وتعالى لرسوله عليه الصلاة والسلام: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} .
إذن لا حاجة لنا إلى التطويل بتعريف أهل السنة والجماعة؛ لأن هذا اللقب يبرهن على معناه برهانا كاملا، وأنهم المتمسكون بالسنة المجتمعون عليها، ونحن نلخص الكلام في نقاط رئيسية هي:
(5/184)
أولا: بيان طريق أهل السنة والجماعة في أسماء الله تعالى وصفاته مع أمثلة توضح تلك الطريقة:
أهل السنة والجماعة طريقتهم في أسماء الله وصفاته أنهم يعتبرون أن ما ثبت من أسماء الله وصفاته في كتاب الله، أو فيما صح عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هو حق على حقيقته، يراد به ظاهره، ولا يحتاج إلى تحريف المحرفين؛ وذلك لأن تحريف المحرفين مبني على سوء فهم أو سوء قصد، حيث ظنوا أنهم إذا أثبتوا تلك النصوص أو تلك الأسماء والصفات على ظاهرها، ظنوا أن ذلك إثبات للتمثيل ولهذا صاروا يحرفون الكلم عن مواضعه وقد يكونون ممن لم يفهموا هذا الفهم، ولكن لهم سوء قصد في تفريق هذه الأمة الإسلامية شيعا كل حزب بما لديهم فرحون.
وأهل السنة والجماعة يؤمنون بأن ما سمى الله به نفسه، وما وصف الله به نفسه في كتابه، أو على لسان رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو حق على حقيقته وعلى ظاهره، ولا يحتاج إلى تحريف المحرفين بل هو أبعد ما يكون عن ذلك، وهو أيضا لا يمكن أن يفهم منه ما لا يليق بالله عز وجل من صفات النقص أو المماثلة بالمخلوقين، بهذه الطريقة المثلى يسلمون من الزيغ والإلحاد في أسماء الله وصفاته، فلا يثبتون لله إلا ما أثبته لنفسه، أو أثبته له رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، غير زائدين في ذلك ولا ناقصين عنه، ولهذا كانت طريقتهم أن أسماء الله وصفاته توقيفية لا يمكن لأحد أن يسمي الله بما لم يسم به نفسه، أو أن يصف الله بما لم يصف به نفسه.
فإن أي إنسان يقول إن من أسماء الله كذا، أو ليس من أسماء الله، أو أن من صفات الله كذا، أو ليس من صفات الله، بلا دليل؛ لأنه لا شك أنه قول على الله بلا علم، وقد قال الله سبحانه وتعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}
(5/185)
وقال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} .
ثم إن طريقتهم في أسماء الله تعالى أن ما سمى الله به نفسه، فإن كان من الأسماء المتعدية، فإنهم يرون من شرط تحقيق الإيمان به ما يلي:
1 - أن يؤمن المرء بذلك الاسم اسما له عز وجل.
2 - أن يؤمن بما دل عليه من الصفة سواء كانت الدلالة تضمنا أو التزاما.
3 - أن يؤمن بأثر ذلك الاسم الذي كان مما دل عليه الاسم من الصفة، ونحن هنا نضرب مثلا:
من أسماء الله تعالى: " السميع " يجب على طريق أهل السنة والجماعة أن يثبت هذا الاسم من أسماء الله، فيدعى الله به ويعبد به، فيقال مثلا: عبد السميع، ويقال: يا سميع يا عليم وما أشبه ذلك؛ لأن الله تعالى يقول: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} .
وكذلك أيضا يثبت ما دل عليه هذا الاسم من الصفة وهي السمع، فنثبت لله سمعا عاما شاملا لا يخفى عليه أي صوت وإن ضعف.
كما نثبت أيضا أثر هذه الصفة وهي أن الله تبارك وتعالى يسمع كل شيء، وبهذا ننتفع انتفاعا كبيرا من أسماء الله؛ لأنه يلزم من هذه الأمور الثلاثة التي أثبتناها في الاسم إذا كان متعديا أن نتعبد الله بها، فنحقق قول الله عز وجل: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} .
فأنت إذا آمنت بأن الله يسمع فإنك لن تسمع ربك ما يغضبه عليك،
(5/186)
لن تسمعه إلا ما يكون به راضيا عنك؛ لأنك تؤمن أنك مهما قلت من قول سواء كان سرا أم علنا فإن الله تبارك وتعالى يسمعه، وسوف ينبئك بما كنت تقول في يوم القيامة، وسوف يحاسبك على ذلك على حسب ما تقتضيه حكمته في كيفية من يحاسبهم تبارك وتعالى، إذن القاعدة عند أهل السنة والجماعة أن الاسم من أسماء الله إذا كان متعديا فإنه لا يمكن تحقيق الإيمان به إلا بالإيمان بهذه الأمور الثلاثة:
1 - أن نؤمن به اسما من أسماء الله فنثبته من أسمائه.
2 - أن نؤمن بما دل عليه من صفة.
3 - أن نؤمن بما يترتب على تلك الصفة من الأثر.
وبهذا يتحقق الإيمان بأسماء الله تبارك وتعالى المتعدية.
أما إذا كان الاسم لازما فإنهم يثبتون هذا الاسم من أسماء الله، ويسمون الله به، ويدعون الله به، ويثبتون ما دل عليه الاسم من صفة على الوجه الأكمل اللائق بالله تعالى، ولكن هنا لا يكون أثر؛ لأن هذا الاسم مشتق من شيء لا يتعدى موصوفه، فلذلك لا يكون له أثر، ونضرب مثلا بـ " الحي " فإن الحي من أسماء الله عز وجل، نثبته اسما لله فنقول: من أسماء الله تعالى: " الحي "، وندعو الله به فنقول: " يا حي، يا قيوم ".
ونؤمن بما دل عليه من صفة، سواء كان ذلك تضمنا أو التزاما، وهي الحياة الكاملة التي تتضمن كل ما يكون من صفات الكمال في الحي من علم وقدرة وسمع وبصر وكلام وغير ذلك، فعلى هذا نقول: إذا كان الاسم من أسماء الله غير متعد فإن تحقيق الإيمان به يكون بأمرين:
أحدهما: إثباته اسما من أسماء الله.
والثاني: إثبات ما دل عليه من الصفة على وجه الكمال اللائق بالله تبارك وتعالى.
(5/187)
أما الصفات فإننا لا نصف الله إلا بما وصف به نفسه سواء ذكر الصفة وحدها بدون أن يتسمى بما دلت عليه، أو كانت هذه الصفة مما دلت عليها أسماؤه، فإنه يجب علينا أن نؤمن بهذه الصفة على حقيقتها، مثال ذلك: أثبت الله تبارك وتعالى لنفسه أنه استوى على عرشه، وهو يخاطبنا بالقرآن النازل باللسان العربي المبين، وكل الناس الذين لهم ذوق في اللغة العربية يعلمون معنى استوى في اللغة العربية، ولهذا قال الإمام مالك رحمه الله تعالى وقد سئل عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟ فقال: " الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة "، هذا هو اللفظ المشهور عنه، واللفظ الذي نقل عنه بالسند قال: " الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة "، وهذا اللفظ أدق من اللفظ الذي سقناه قبل؛ لأن كلمة " الكيف غير معقول " تدل على أنه إذا انتفى عنه الدليلان النقلي والعقلي فإنه لا يمكن التكلم به.
هذه الصفة من صفات الله لم يرد اسم من أسماء الله مشتق منها فلم يرد من أسمائه المستوي، ولكننا نقول: إنه استوى على العرش، ونؤمن بهذه الصفة على الوجه اللائق به، ونعلم أن معنى الاستواء هو العلو، فهو علو خاص بالعرش، ليس العلو المطلق على جميع المخلوقات، بل هو علو خاص، ولهذا نقول في قوله تعالى: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} : أي علا واستقر على وجه يليق بجلاله وعظمته، وليس كاستواء الإنسان على البعير والكرسي مثلا؛ لأن استواء الإنسان على البعير والكرسي استواء مفتقر إلى مكانه الذي يستوي عليه، أما استواء الله جل ذكره فإنه ليس استواء
(5/188)
مفتقر، بل إن الله تبارك وتعالى غني عن كل شيء، كل شيء مفتقر إلى الله، والله تبارك وتعالى غني عنه.
ومن زعم أنه بحاجة إلى عرش يقله فقد أساء الظن بربه عز وجل، فهو سبحانه وتعالى غير مفتقر إلى شيء من مخلوقاته، بل جميع مخلوقاته مفتقرة إليه، كذلك النزول إلى سماء الدنيا حينما يبقى ثلث الليل الآخر نؤمن به على أنه نزول حقيقي، لكنه يليق بالله عز وجل لا يشبه نزول المخلوقين، ومن هنا نقول إنه يجب على المؤمن أن يتحاشى أمرا يلقيه الشيطان في باله أمرا خطيرا للغاية -وهو أمر حمل أهل البدع على تحريف النصوص من أجل هذا الأمر الذي يجعله الشيطان في قلوب الناس- ألا وهو تخيل كيفية صفة من صفات الله، أو تخيل كيفية ذات الله عز وجل.
فاعلم أنه لا يجوز أبدا أن يتخيل كيفية ذات الله، أو كيفية صفة من صفاته، واعلم أنك إن تخيلت أو حاولت التخيل فإنك لا بد أن تقع في أحد محذورين:
إما التحريف والتعطيل، وإما التمثيل والتشبيه، ولهذا يجب عليكم أيها الإخوة أن لا تتخيلوا أي شيء من كيفية صفات الله عز وجل، لا أقول: لا تثبتوا المعنى؛ لأن المعنى يجب أن يثبت، لكن تخيل كيفية تلك الصفة لا يمكن أن تتخيلها، وعلى أي مقياس تقيس هذا التخيل؟
لا يمكن أبدا أن تتخيل كيفية صفات الله عز وجل لا بالتقدير ولا بالقول، يجب عليك أن تتجنب هذا؛ لأنك تحاول ما لا يمكن الوصول إليه، بل تحاول ما يخشى أن يوقعك في أمر عظيم لا تستطيع الخلاص منه إلا بسلوك التمثيل والتعطيل؛ وذلك لأن الرب جلت عظمته لا يمكن لأحد أن يتخيله على كيفية معينة؛ لأنه إن فعل ذلك فقد قفا ما ليس له به علم، وقد قال الله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} .
(5/189)
وإن تخيله على وصف مقارب بمثيل فقد مثل الله، والله سبحانه وتعالى يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .
وبهذا نعلم أن من أنكر صفات الله أنكرها لأنه تخيل أولا، ثم قالوا: هذا التخيل يلزم منه التمثيل، ثم حرفوا، ولهذا نقول: إن كل معطل ومنكر للصفات فإنه ممثل سبق تمثيله تعطيله، مثل أولا وعطل ثانيا، ولو أنه قدر الله حق قدره ولم يتعرض لتخيل صفاته سبحانه ما احتاج إلى هذا الإنكار، وإلى هذا التعطيل.
(5/190)
ثانيا: طريقة أهل السنة والجماعة في عبادة الله
طريقتهم أنهم يعبدون الله لله وبالله وفي الله.
أما كونهم يعبدون الله لله فمعنى ذلك الإخلاص، يخلصون لله عز وجل، لا يريدون بعبادتهم إلا ربهم، لا يتقربون إلى أحد سواه، إنما يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب، ويرجون رحمته، ويخافون عذابه، ما يعبدون الله لأن فلانا يراهم، وما يعبدون الله لأنهم يعظمون بين الناس، ولا يعبدون الله لأنهم يلقبون بلقب العابد، لكن يعبدون الله لله.
وأما كونهم يعبدون الله بالله أي مستعينين به، لا يمكن أن يفخروا بأنفسهم، أو أن يروا أنهم مستقلون بعبادتهم عن الله، بل هم محققون لقول الله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، فـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} يعبدون الله لله، {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} يعبدون الله بالله، فيستعينونه على عبادته تبارك وتعالى.
وأما كونهم يعبدون الله في الله أي في دين الله، في الدين الذي شرعه على ألسنة رسله، وهم وأهل السنة والجماعة في هذه الأمة يعبدون الله بما شرعه على لسان رسوله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا يزيدون فيه، ولا ينقصون منه، فهم يعبدون الله في الله في شريعته، في دينه، لا يخرجون عنه لا زيادة ولا نقصا، لذلك كانت عبادتهم هي العبادة الحقة السالمة من شوائب الشرك والبدع؛ لأن من قصد غير الله بعبادته فقد أشرك به، ومن تعبد الله بغير شريعته فقد ابتدع في دينه، والله سبحانه وتعالى يقول:
(5/191)
{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} .
فعبادتهم لله في دين الله، لا يبتدعون ما تستحسنه أهواؤهم، لا أقول: ما تستحسنه عقولهم لأن العقول الصحيحة لا تستحسن الخروج عن شريعة الله؛ لأن لزوم شريعة الله مقتضى العقل الصريح، ولهذا كان الله سبحانه وتعالى ينعى على المكذبين لرسوله عقولهم ويقول: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} .
لو كنا نتعبد لله بما تهواه نفوسنا وعلى حسب أهوائنا لكنا فرقا وشيعا، كل يستحسن ما يريد فيتعبد لله به، وحينئذ لا يتحقق فينا وصف الله سبحانه وتعالى في قوله: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} .
ولننظر إلى هؤلاء الذين يتعبدون لله بالبدع التي ما أذن الله بها، ولا أنزل بها من سلطان، كيف كانوا فرقا يكفر بعضهم بعضا ويفسق بعضهم بعضا، وهم يقولون: إنهم مسلمون؟ لقد كفر بعض الناس بعضا في أمور لا تخرج الإنسان إلى الكفر، ولكن الهوى أصمهم وأعمى أبصارهم.
نحن نقول إننا إذا سرنا على هذا الخط لا نعبد الله إلا في دين الله، فإننا سوف نكون أمة واحدة، لو عبدنا الله تعالى بشرعه وهداه لا بهوانا لكنا أمة واحدة، فشريعة الله هي الهدى وليست الهوى.
إذن لو أن أحدا من أهل البدع ابتدع طريقة عقدية (أي تعود للعقيدة) أو عملية (تعود إلى العمل) من قول أو فعل، ثم قال: إن هذه حسنة، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة» ، قلنا له بكل بساطة: هذا الحسن الذي
(5/192)
ادعيت أنه ثابت في هذه البدعة هل كان خافيا لدى الرسول عليه الصلاة والسلام، أو كان معلوما عنده لكنه كتمه ولم يطلع عليه أحد من سلف الأمة حتى ادخر لك علمه؟ !
والجواب: إن قال بالأول فشر، وإن قال بالثاني فأطم وأشر.
فإن قال: إن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يعلم حسن هذه البدعة، ولذلك لم يشرعها.
قلنا: رميت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأمر عظيم حيث جهلته في دين الله وشريعته.
وإن قال: إنه يعلم ولكن كتمه عن الخلق.
قلنا له: وهذه أدهى وأمر لأنك وصفت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي هو الأمين الكريم، وصفته بالخيانة وعدم الجود بعلمه، وهذا أشر من وصفه بعدم الجود بماله، مع أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان أجود الناس، وهنا شر قد يكون احتمالا ثالثا بأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علمها وبلغها ولكن لم تصل إلينا، فنقول له: وحينئذ طعنت في كلام الله عز وجل؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ، وإذا ضاعت شريعة من شريعة الذكر فمعنى ذلك أن الله لم يقم بحفظه، بل نقص من حفظه إياه بقدر ما فات من هذه الشريعة التي نزل من أجلها هذا الذكر.
وعلى كل حال فإن كل إنسان يبتدع ما يتقرب به إلى ربه من عقيدة أو عمل قولي أو فعلي فإنه ضال؛ لقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كل بدعة ضلالة» ، وهذه كلية عامة لا يستثنى منها شيء إطلاقا، فكل بدعة في دين الله فإنها ضلالة وليس فيها من الحق شيء، فإن الله تعالى يقول: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} .
(5/193)
ثم نقول: إن الحديث لا يدل على كل بدعة، بل قال: «من سن في الإسلام» ، وما خرج عن شريعة الرسول ليس من الإسلام بل قد قال: «من سن في الإسلام سنة حسنة» ، وبهذا نعرف أنه لا بد أن تكون هذه السنة مما أثبته الإسلام وإلا ليست سنة في الإسلام، ومن علم سبب الحديث الذي ذكرناه علم أن المراد بالسنة المبادرة بالعمل أو السبق إلى تنفيذ سنة كان أسبق الناس بها؛ لأن سبب الحديث معلوم، وهو أن جماعة جاءوا إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانوا فقراء، فحث المسلمين على التصدق عليهم، فأتى رجل من الأنصار بصرة قد أثقلت يده فوضعها بين يديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها» ، وبهذا عرفنا المراد أن من سنها ليس من شرعها، لكن من عمل بها أولا لأنه بذلك أي بعمله أولا يكون هو إماما للناس فيها، فيكون قدوة خير وحسنة، فيكون له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة.
ولا يرد على ذلك ما ابتدع من الوسائل الموصلة إلى الأمور المشروعة، فإن هذه وإن تلجلج بها أهل البدع وقعدوا بها بدعهم فإنه لا نصيب لهم منها، إلا أن يكون الراقم على الماء له نصيب من الحروف بارزة في الماء.
أقول: إن بعض الناس يستدلون على تحسين بدعهم التي ابتدعوها في دين الله، والتي يلزم منها ما سبق ذكره، بما أحدث من الوسائل لغايات محمودة.
احتجوا على ذلك بجمع القرآن، وبتوحيده في مصحف واحد وبالتأليف، وببناء دور العلم، وغير ذلك مما هو وسائل لا غايات، فهناك فرق بين الشيء الذي يكون وسيلة إلى غاية محمودة مثبتة شرعا، لكنها لا تتحقق إلا بفعل هذه الوسيلة، فهذه الوسيلة طبعا تتجدد بتجدد الزمن، وتختلف باختلاف العصور، ها هو قوله عز وجل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}
(5/194)
، وإعداد القوة على عهده عليه الصلاة والسلام غير إعداد القوة في زمننا هذا، فإذا ما أحدثنا عملا معينا نتوصل به إلى إعداد القوة فإن هذه بدعة وسيلة وليست بدعة غاية يتقرب بها إلى الله، ولكنها بدعة وسيلة، ومن القواعد المقررة عند أهل العلم أن للوسائل أحكام المقاصد، وبهذا نعرف أن ما تلجلج به مبتدع الحوادث في دين الله باستدلالهم بمثل هذه القضايا أنه ليس لهم فيها دليل أبدا؛ لأن كل ما حصل فهو وسائل لغايات محمودة.
فجمع القرآن والتصنيف وما أشبه ذلك كله وسائل لغايات هي مشروعة في نفسها، فيجب على الإنسان أن يفرق بين الغاية والوسيلة، فما قصد لذاته فقد تم تشريعه من عند الرسول عليه الصلاة والسلام بما أوحاه الله إليه من الكتاب العظيم، ومن السنة المطهرة، ولدينا ولله الحمد آية نتلوها في كتاب الله، وهي قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} ، فلو كان في المحدثات ما يكمل به الدين لكانت قد شرعت وبينت وبلغت وحفظت، ولكن ليس فيها شيء يكون فيه كمال الدين، بل نقص في دين الله.
قد يقول بعض الناس: إننا نجد في هذه الحوادث نجد عاطفة دينية ورقة قلبية واجتماعا عليها، فنقول: إن الله تعالى أخبر عن الشيطان أنه قال: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} ، يزينها الشيطان في قلب الإنسان ليصده عما خلق له، عن عبادة الله التي شرع فترضخ النفس بواسطة تسلط الشيطان على المرء حتى يصده عن دين الحق، «وقد أخبر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى»
(5/195)
«الدم،» بل في القرآن قبل ذلك، قال الله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} ، فجعل الله للشيطان سلطانا على من تولاه وأشرك به، أي جعل لله شريكا به بواسطة الشيطان، وكل من جعل له متبوعا في بدعة من دين الله فقد أشرك بالله عز وجل، وجعل هذا المتبوع شريكا لله تعالى في الحكم.
وحكم الله الشرعي والقدري لا شريك له فيه أبدا {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} ، وركزت على هذا الأمر لكي يعلم أهل الإحداث المحدثون أنه لا حجة لهم فيما أحدثوه، واعلم رحمك الله أنه لا طريق إلى الوصول إلى الله عز وجل وإلى دار كرامته إلا من الطريق الذي وضعه هو سبحانه وتعالى على لسان رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
لله المثل الأعلى لو أن ملكا من الملوك فتح بابا للدخول عليه، وقال: من أراد أن يصل إلي فليدخل من هذا الباب، فما ظنكم بمن ذهب إلى أبواب أخرى؟ هل يصل إليه؟ كلا بالطبع.
والملك العظيم، ملك الملوك، وخالق الخلق، جعل طريقا إليه خاصا بما جاءه به رسله وعلى رأسهم خاتمهم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الذي بعد بعثه لا يمكن لأي بشر أن ينال السعادة إلا من طريقه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والحقيقة أن تعظيم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن الأدب مع الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أن نسلك ما سلك، ونذر ما ترك، وأن لا نتقدم بين يديه، فنقول في دينه ما لم يقل، أو نحدث في دينه ما لم يشرع.
(5/196)
هل من محبة الرسول عليه الصلاة والسلام وتعظيمه أن نحدث في دينه شيئا يقول هو عنه: «كل بدعة ضلالة» ، ويقول: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» ؟ هل هذا من محبة الرسول؟ ! هل هذا من محبة الله عز وجل؟ ! أن تشرع في دين الله ما لم يشرع {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} .
(5/197)
ثالثا: طريقة أهل السنة والجماعة في حق الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
من المعلوم أنه لا يتم الإسلام إلا بشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، والشهادة لا تتحقق إلا بثلاثة أمور:
1 - عقيدة في القلب.
2 - نطق في اللسان.
3 - عمل في الأركان.
ولهذا يقول المنافقون للرسول عليه الصلاة والسلام إذا جاءوه: نشهد إنك لرسول الله، ويقول الباري جل ذكره فيهم: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} لماذا؟ لأن هذه الشهادة فقد منها أعظم ركن فيها وهو العقيدة، فهم يقولون بألسنتهم ما لا يعتقدونه في قلوبهم، فمن قال: أشهد أن محمدا رسول الله ولكن قلبه خال من هذه الشهادة، فإنه لم يحقق شهادة أن محمدا رسول الله.
ومن اعتقد ذلك ولم يقله بلسانه فإنه لم يحقق شهادة أن محمدا رسول الله.
ومن قال ذلك لكن لم يتبعه في شريعته فإنه لم يحقق شهادة أن محمدا رسول الله، وكيف تخالفه وأنت تعتقد بأنه رسول رب العالمين، وأن شريعة الله هو ما جاء به؟
كيف تقول إنك شهدت أن محمدا رسول الله على وجه التحقيق؟ لهذا نعتقد أن كل من عصى الله ورسوله فإنه لم يحقق شهادة أن محمدا رسول الله.
لست أقول إنه ما يشهد، ولكنه لم يحقق، وقد نقص من تحقيقه إياه بقدر ما حصل منه من مخالفة.
(5/198)
إذن طريقة أهل السنة والجماعة في حق رسول الله عليه الصلاة والسلام الشهادة له بقلوبهم وألسنتهم وأعمالهم أنه رسول الله، كذلك أيضا يحبونه حب تقدير وتعظيم حبا تابعا لمحبة الله عز وجل.
وليسوا يحبونه من باب التعبد له بمحبته؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام يتعبد لله به -أي بشرعه- ولكنه لا يعبد هو.
فهم يحبون الرسول عليه الصلاة والسلام لأنه رسول رب العالمين، ومحبتهم له من محبة الله تبارك وتعالى، ولولا أن الله أرسل محمد بن عبد الله القرشي الهاشمي لكان رجلا من بني هاشم لا يستحق هذه المرتبة التي استحقها بالرسالة.
إذن نحن نحبه ونعظمه لأننا نحب الله ونعظمه، فمن أجل أنه رسول الله، وأن الله تبارك وتعالى هدى به الأمة حينئذ نحبه، فالرسول عليه الصلاة والسلام عند أهل السنة والجماعة محبوب؛ لأنه رسول رب العالمين، ولا شك أنه أحق الناس، بل أحق الخلق وأجدرهم بتحمل هذه الرسالة العظيمة عليه الصلاة والسلام.
كذلك أيضا يعظمون الرسول عليه الصلاة والسلام حق التعظيم، ويرون أنه أعظم الناس قدرا عند الله عز وجل.
لكن مع ذلك لا ينزلونه فوق منزلته التي أنزله الله، يقولون إنه عبد الله، بل «هو أعبد الناس لله عز وجل حتى إنه يقوم حتى تتورم قدماه، فيقال: كيف ذلك وقد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول: " أفلا أحب أن أكون عبدا شكورا؟» .
من يحقق العبادة كتحقيق الرسول عليه الصلاة والسلام؟ ولهذا قال: «إني والله أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقى» ، فهو بلا شك أعظم العابدين عبادة وأشدهم تحقيقا لها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولهذا حين تحدث عن البصل والكراث قال المسلمون: حرمت، فقال: «أيها الناس إنه ليس لي»
(5/199)
«تحريم ما أحل الله» .
انظروا إلى هذا الأدب مع الله عز وجل، هكذا العبودية، ولهذا هم يقولون: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبد من عباد الله، وهو أكمل الناس في عبوديته لله.
ويؤمنون أيضا بأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يعلم الغيب إلا ما أطلعه الله عليه، لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ولا لغيره، والله تعالى قد أمره أن يبلغ ذلك إلى الأمة فقال: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} .
وما هي وظيفته؟ {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} ، ومن زعم أن الرسول عليه الصلاة والسلام يعلم شيئا من الغيب غير ما أطلعه الله عليه فهو كافر بالله ورسوله؛ لأنه مكذب لله ورسوله.
فإن الرسول أمر أن يقول وقال، قال قولا يتلى إلى يوم القيامة، قوله: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} .
وبمناسبة هذه الآية الكريمة أود أن أقول: إن القرآن الكريم أحيانا تصدر الأخبار فيه بكلمة: (قل) وكل شيء صدر بهذه الكلمة معناه أن الله سبحانه وتعالى اعتنى به عناية خاصة؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قد أمر أن يقول كل القرآن {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} ، لكن هذا الذي خص بكلمة (قل) فيه عناية خاصة استحق أن يصدر بالأمر بالتبليغ على وجه الخصوص، مثل هذه الآية ومثلها في الأحكام: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ}
(5/200)
، والأمثلة كثيرة في القرآن، إذن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يعلم الغيب إلا ما أطلعه الله، ولا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، بل ولا لغيره أيضا {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ} ، لو أراد الله بي شيئا ما أجارني أحد منه، ولن أجد من دونه ملتحدا.
ويعتقدون أن الرسول عليه الصلاة والسلام بشر ليس له من شئون الربوبية شيء، ولا يعلم الغيب إلا ما أطلعه الله عليه، حتى إنه عليه الصلاة والسلام يسأل أحيانا عن شيء من الأحكام الشرعية فيتوقف حتى يأتيه الوحي، حتى إنه أحيانا يصدر القول فيأتيه الاستثناء أو الاستدراك من عند الله عز وجل، فقد «سئل عليه الصلاة والسلام عن الشهادة هل تكفر كل شيء؟ فقال: " نعم "، ثم قال: " أين السائل؟ " فقال: " إلا الدين، أخبرني بذلك جبريل آنفا» ، أحيانا يجتهد عليه الصلاة والسلام، ولكن يأتيه الوحي من الله عز وجل بأن الخير في كذا وكذا خلاف ما اجتهد فيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
إذن الرسول عليه الصلاة والسلام عبد عابد لله عز وجل، وليس له من شئون الربوبية شيء، هذا هو قول أهل السنة والجماعة في رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
يعتقد أهل السنة والجماعة أيضا أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشر تجوز عليه كل الخصائص البشرية والجسدية، فينام ويأكل ويشرب ويمرض ويتألم ويحزن ويرضى ويغضب عليه الصلاة والسلام، ويموت كما يموت الناس، {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} ، {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا}
(5/201)
، ولا ريب أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد مات ميتة جسدية فارقت روحه جسده فيها، وقام أهله وأصحابه بما يقومون به في غيره من شئون الموتى، سوى أنه عليه الصلاة والسلام لم يجرد عند تغسيله، والمعروف أنه لم يصل عليه جماعة، إنما كان الناس يصلون عليه أفرادا؛ لأنه الإمام عليه الصلاة والسلام.
ومن زعم أنه حي في قبره حياة جسدية لا حياة برزخية، وأنه يصلي ويصوم ويحج، وأنه يعلم ما تقوله الأمة وتفعله، فإنه قد قال قولا بلا علم.
فالرسول عليه الصلاة والسلام انقطع عمله بموته كما قال هو نفسه: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» .
فعمله الذي يعمله بنفسه انقطع بموته، ولكن لا شك أن كل علم علمناه من شريعة الله فإنه بواسطته عليه الصلاة والسلام، وحينئذ فيكون منتفعا من كل هذه العلوم التي علمناها بعد موته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكذلك الأعمال الصالحة التي نعملها كانت بدلالته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيكون له مثل أجر العاملين.
(5/202)
رابعا: طريقة أهل السنة والجماعة في حق الصحابة رضي الله عنهم
أهل السنة والجماعة يعرفون للصحابة قدرهم، وأنهم خير القرون بشهادة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال فيما ثبت عنه من حديث عمران بن حصين: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» ، فالصحابة خير هذه الأمة بلا شك، ولكنهم على مراتب، بعضهم أفضل من بعض.
قال الله تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} ، وقال الله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} .
ولكن هذه المراتب وهذه الفضائل يجب أن نعرف أن الواحد فيهم له مرتبة على الإطلاق، وله مرتبة خاصة، أي أنه قد يكون أفضل من غيره على سبيل العموم والإطلاق، ويكون في غيره خصلة هو أفضل منه، فيها وأهل السنة والجماعة يقولون: إن أفضل الصحابة الخلفاء الأربعة، وأفضلهم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، يرتبونهم في الفضل حسب ترتيبهم في الخلافة، ولكن لا يلزم من كون أبي بكر أفضل الصحابة ألا يتميز أحد من الصحابة عن أبي بكر بمنقبة خاصة.
وقد يكون لعلي بن أبي طالب منقبة ليست لأبي بكر، وقد يكون لعمر منقبة ليست لأبي بكر، كذلك قد يكون لعثمان، ولكن الكلام على الفضل المطلق والمرتبة الكلية العامة، فإن مراتب الصحابة تختلف اختلافا
(5/203)
اتفق عليه أهل السنة والجماعة، وهو دلالة القرآن، ودلالة السنة أيضا.
فإن خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف تنازعا في أمر، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لخالد: «لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» .
كذلك أيضا أهل السنة والجماعة يقولون: إن بعض الصحابة له مزية ليست لغيرهم، فيجب أن ننزلهم في منازلهم، فإذا كان الصحابي من آل بيت الرسول عليه الصلاة والسلام كعلي بن أبي طالب وحمزة والعباس وابن عباس وغيرهم فإننا نحبه أكثر من غيره من حيث قربه من الرسول عليه الصلاة والسلام، لا على سبيل الإطلاق، فنعرف له حقه بقرابته من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكنه لا يلزم من ذلك أن نفضله على غيره تفضيلا مطلقا ممن له قدم راسخ في الإسلام أكثر من هذا القريب من الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن المراتب والفضائل هي صفات يتميز الإنسان بصفة منها لا يتميز بها الآخر.
وأهل السنة والجماعة في آل البيت لا يغلون غلو الروافض، ولا ينصبون العداوة لهم نصب النواصب، ولكنهم وسط بين طرفين، يعرفون لهم حقهم بقرابتهم من الرسول عليه الصلاة والسلام، ولكنهم لا يتجاوزون بهم منزلتهم.
(5/204)
خامسا: طريقة أهل السنة والجماعة في حق الأولياء والأئمة
أئمة هذه الشريعة الإسلامية ولله الحمد أئمة مشهورون أثنت عليهم الأمة وعرفت لهم قدرهم، ولكنها لا تعتقد فيهم العصمة، فليس عند أهل السنة والجماعة أحد معصوم من الخطأ ولا من الإقرار على الخطأ، إلا الرسول عليه الصلاة والسلام فإنه معصوم من الإقرار على الخطأ، أما غيره مهما بلغت إمامته فإنه ليس معصوما أبدا، كل يخطئ وكل يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الذي أمرنا الله تعالى بطاعته على الإطلاق.
فهم يقولون لا شك أن في هذه الأمة أئمة، ولا شك أن فيها أولياء، ولكننا لا نريد بذلك أن نثبت العصمة لأحد من هؤلاء الأئمة، ولا أن نثبت لأحد من الأولياء أنه يعلم الغيب أو يتصرف في الكون، وهم أيضا لا يجعلون الولي من قال عن نفسه: إنه ولي، أو أتى بالدعايات الباطلة لأجل أن يجلب الناس إليه يقولون: إن الولي بينه الله تعالى بقوله:
{أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} ، هؤلاء الأولياء: الذين آمنوا، وكانوا يتقون، فالإيمان: العقيدة، والتقوى: العمل قولا كان أو فعلا، وأخذ شيخ الإسلام من هذه الآية عبارة طيبة وهي قوله: " من كان مؤمنا تقيا كان لله وليا "، هذا الولي حقيقة، لا الولي الذي يجلب الناس إليه، ويجمع الحاشية ويقول: أنا أفعل، ويستعين بالشياطين على معرفة الخفي، ثم يبهر الناس بما يقول فيقولون: هذا ولي، لا لأن الولاية تكون باتباع الرسول عليه الصلاة والسلام، وبإيمانه وتقواه، فإن كان مؤمنا تقيا فهو ولي.
(5/205)
ولكن هؤلاء الأولياء أيضا لا يلزم في كل ولي أن يجعل الله له كرامة، فما أكثر الأولياء الذين لا كرامة لهم؛ لأن الكرامة في الغالب لا تأتي إلا لنصر حق أو دفع باطل، لا لتثبيت شخص بعينه، فلا يلزم إذن أن يكون لكل ولي كرامة، قد يحيا الولي ويموت وليس له كرامة، وقد يكون له كرامات متعددة، وهذه الكرامات كما قال أهل العلم: كل كرامة لولي فإنها آية للنبي الذي اتبعه، ولا أقول: " معجزة " لأن الأولى أن تسمى آية؛ لأن هذا التعبير القرآني والآية أبلغ من المعجزة؛ لأن الآية معناها العلامة على صدق ما جاء به هذا الرسول، والمعجزة قد تكون على يد مشعوذ أو على يد إنسان قوي يفعل ما يعجز عنه غيره، لكن التعبير بـ "الآية" أبلغ وأدق، وهي التعبير القرآني، فنسمي المعجزات بالآيات، هذا هو الصواب.
يوجد أناس حسب ما نسمع في هذه الأمة يدعون أنهم أولياء، ولكن من تأمل حالهم وجد أنهم بعيدون عن الولاية، وأنه لا حظ لهم فيها، لكن لهم شياطين يعينونهم على ما يريدون، فيخدعون بذلك البسطاء من الناس.
(5/206)
سادسا: طريقة أهل السنة والجماعة في إصلاح المجتمع
يرى أهل السنة والجماعة أن المجتمع الإسلامي لا يكمل صلاحه إلا إذا تمشى مع ما شرعه الله سبحانه وتعالى له، ولهذا يرون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمعروف: كل ما عرفه الشرع وأقره، والمنكر: كل ما أنكره الشرع وحرمه، فهم يرون أن المجتمع الإسلامي لا يصلح إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأننا لو فقدنا هذا المقوم لحصل التفرق، كما يشير إليه قول الله عز وجل: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} .
وهذا المقوم وللأسف في هذا الوقت ضاع أو كاد؛ لأنك لا تجد شخصا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر حتى في المحيط القليل المحصور إلا ما ندر.
وإذا ترك الناس هكذا كل إنسان يعمل ما يريد تفرق الناس، ولكن إذا تآمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر صاروا أمة واحدة، ولكن لا يلزم إذا رأيت أمرا معروفا أن يكون معروفا عند غيرك، إلا في شيء لا مجال للاجتهاد فيه، إنما ما للاجتهاد فيه مجال فقد أرى أن هذا من المعروف، ويرى الآخر أنه ليس منه، وحينئذ يكون المرجع في ذلك كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} ، ولكن طريقة أهل السنة والجماعة في هذا الباب العظيم
(5/207)
الذي فضلت فيه هذه الأمة على غيرها أنهم يرون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من مقومات المجتمع الإسلامي، ولكنه يحتاج إلى أمور:
أولا: أن يكون الإنسان عالما بالحكم بحيث يعرف أن هذا معروف، وأن هذا منكر، أما أن يأتي عن جهل، ثم يأمر بشيء يراه معروفا في ظنه، وهو ليس بمعروف، فهذا قد يكون ضره أكبر من نفعه، لذلك لو فرضنا شخصا تربى في مجتمع يرون أن هذه البدعة معروف، ثم يأتي إلى مجتمع جديد غيره يجدهم لا يفعلونها، فيقوم وينكر عليهم عدم الفعل، ويأمرهم بها، فهذا خطأ، فلا تأمر بشيء إلا حيث تعرف أنه معروف في شريعة الله، ليس بعقيدتك أنت وما نشأت عليه، فلا بد من معرفة الحكم، وأن هذا معروف حتى تأمر به، وكذلك المنكر.
ثانيا: لا بد أن تعلم أن هذا المعروف لم يفعل، وأن هذا المنكر قد فعل، وكم من إنسان أمر شخصا بمعروف فإذا هو فاعله، فيكون في هذا الأمر عبئا على غيره، وربما يضع ذلك من قدره بين الناس.
وإذا رأينا هدي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجدنا أن هذه طريقته، «دخل رجل يوم الجمعة والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطب وجلس، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أصليت؟ " قال: لا، قال: " فقم فصل ركعتين» ، صلاة الركعتين لداخل المسجد من المعروف ولا شك، ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام ما أمره به مباشرة حتى علم أنه لم يفعله، فأنت قد تأمر هذا الرجل أن يفعل شيئا، وإذا هو قد فعله فتتسبب إلى التعجل وعدم التريث وتحط من قدرك، ولكن اسأل وتحقق إذا لم يفعل حينئذ تأمر به.
وكذلك أيضا بالنسبة للمعاصي، فبعض الناس قد ينهى شخصا عما يراه منكرا وليس بمنكر.
مثال ذلك:
رأيت رجلا يصلي الفريضة وهو جالس، فنهيته بأنه ليس له حق أن
(5/208)
يصلي وهو جالس، فهذا غير صحيح، لكن اسأل أولا لماذا جلس؟ قد يكون له عذر في جلوسه وأنت لا تعلم، حينئذ تكون متسرعا، ويكون ذلك ناقصا من قدرك، هذا أمر أيضا لا بد منه: أن تعرف الحكم الشرعي، وأن تعرف الحال التي عليها المأمور والمنهي حتى تكون على بصيرة من أمرك.
ثالثا: أن لا يترتب على فعل المعروف ما هو منكر أعظم مفسدة من منفعة المعروف، فإن ترتب على فعل المعروف منكر هو أشد ضررا من المنفعة الحاصلة بهذا المعروف فإن درء المفاسد أولى من جلب المصالح، وهذه الكلمة المعروفة هي القاعدة التي دل عليها القرآن ليست أيضا على إطلاقها، أي أنه ليست كل مفسدة درؤها أولى من جلب مصلحة، بل إذا تكافأت مع المصلحة فدرء المفسدة أولى، وإذا كانت أعظم من المصلحة فدرء المفسدة أولى، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} ، فسب آلهة المشركين كل يعلم أنه مصلحة وأن فيه خيرا، لكن إذا تضمنت هذه المصلحة ما هو أنكر -وأنكر من باب التفاضل الذي ليس في الطرف الآخر منه شيء- إذا تضمن مفسدة عظيمة فإنها تترك؛ لأننا إذا سببنا آلهتهم ونحن نسبها بحق سبوا الله عدوا بغير علم.
فهذه نقطة ينبغي أن نتفطن لها عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أما إذا كانت المفسدة تنغمر في جانب المصلحة فإننا نفضل المصلحة ولا يهمنا، وهذا عليه شيء كثير من أحكام الله الشرعية والكونية.
فمثلا هذا المطر الذي ينزل وفيه مصلحة عامة لكن فيه ضررا على إنسان بنى سقفه الآن وجاء المطر فأفسده، لكن هذه المفسدة القليلة منغمرة في جانب المصلحة العامة، وهكذا أيضا الأحكام الشرعية كالأحكام
(5/209)
الكونية، وهذا أمر ينبغي التنبه له، وهو أننا قد لا يكون من المصلحة أن ننهى عن هذا المنكر لأنه يتضمن مفسدة أكبر، ولكننا نتريث حتى تتم الأمور.
ولهذا جاءت الشريعة الإسلامية بالتدرج في التشريع حتى يقبلها الناس شيئا فشيئا، وهكذا المنكر لا بد أن نأخذ الناس فيه بالمعالجة حتى يتم الأمر، هذه هي الثلاثة الأمور:
1 - العلم بالحكم.
2 - العلم بالحال.
3 - أن لا يترتب على فعل المعروف منكر أعظم مفسدة.
(5/210)
سابعا: قول أهل السنة والجماعة في الإيمان
الإيمان حقيقته عند أهل السنة والجماعة هي: " اعتقاد القلب، وقول اللسان، وعمل الجوارح "، ويستدلون لقولهم هذا بقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان» ، فالقول قول اللسان: «لا إله إلا الله» ، وعمل الجوارح وعمل القلب " «الحياء» «وإماطة الأذى عن الطريق» .
أما عقيدة القلب فقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره» .
وهم أيضا يقولون: إن الإيمان يزيد وينقص، فالقرآن قد دل على زيادته، والضرورة العقلية تقتضي أن كل ما ثبت أنه يزيد فهو ينقص إذ لا تعقل الزيادة بدون نقص {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} ، {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} ، ولا شك في ذلك، ومتى قلنا: إن الإيمان قول وعمل فإنه لا شك أن الأقوال تختلف، فليس من قال: " سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر " مرة كمن قالها أكثر، وكذلك أيضا نقول: إن الإيمان الذي هو عقيدة القلب يختلف قوة وضعفا، وقد قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} ، فإنه ليس الخبر كالمعاينة والمشاهدة.
رجل أخبر بخبر أخبره رجل واحد حصل عنده شيء من هذا الخبر، فإذا جاء ثان ازداد قوة فيه، وإذا جاءه الثالث ازداد قوة وهلم، وعليه
(5/211)
نقول: الإيمان يزيد وينقص حتى في عقيدة القلب، وهذا أمر يعلمه كل إنسان من نفسه، وأما من أنكر زيادته ونقصانه فإنه مخالف للشرع والواقع، فهو يزيد وينقص.
وبهذا تم ما أردنا الكلام عليه، والله الموفق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
(5/212)
القضاء والقدر
(5/213)
القضاء والقدر
[المقدمة]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله الله تعالى بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه، وسراجا منيرا، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد. ..
فأيها الإخوة الكرام إننا في هذا اللقاء الذي نرجو أن يفتح الله علينا فيه من خزائن فضله ورحمته، وأن يجعلنا من الهداة المهتدين، ومن القادة المصلحين، ومن المستمعين المنتفعين، نبحث في أمر مهم يهم جميع المسلمين، ألا وهو " قضاء الله وقدره "، والأمر ولله الحمد واضح، ولولا أن التساؤلات قد كثرت، ولولا أن الأمر اشتبه على كثير من الناس، ولولا كثرة من خاض في الموضوع بالحق تارة وبالباطل تارات، ونظرا إلى أن الأهواء انتشرت وكثرت، وصار الفاسق يريد أن يبرر لفسقه بالقضاء والقدر، لولا هذا وغيره ما كنا نتكلم في هذا الأمر.
والقضاء والقدر ما زال النزاع فيه بين الأمة قديما وحديثا، فقد روي «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج على أصحابه وهم يتنازعون في القدر، فنهاهم عن ذلك، وأخبر أنه ما أهلك الذين من قبلكم إلا هذا الجدال» .
ولكن فتح الله على عباده المؤمنين السلف الصالح الذين سلكوا طريق
(5/215)
العدل فيما عملوا وفيما قالوا؛ وذلك أن قضاء الله تعالى وقدره من ربوبيته سبحانه وتعالى لخلقه، فهو داخل في أحد أقسام التوحيد الثلاثة التي قسم أهل العلم إليها توحيد الله عز وجل:
القسم الأول: توحيد الألوهية، وهو إفراد الله تعالى بالعبادة.
القسم الثاني: توحيد الربوبية، وهو إفراد الله تعالى بالخلق والملك والتدبير.
القسم الثالث: توحيد الأسماء والصفات، وهو توحيد الله تعالى بأسمائه وصفاته.
فالإيمان بالقدر هو من ربوبية الله عز وجل، ولهذا قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: " القدر قدرة الله ". اهـ؛ لأنه من قدرته ومن عمومها بلا شك، وهو أيضا سر الله تعالى المكتوم الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، مكتوب في اللوح المحفوظ، في الكتاب المكنون الذي لا يطلع عليه أحد، ونحن لا نعلم بما قدره الله لنا أو علينا، أو بما قدره الله تعالى في مخلوقاته إلا بعد وقوعه أو الخبر الصادق عنه.
أيها الإخوة إن الأمة الإسلامية انقسمت في القدر إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: غلوا في إثبات القدر وسلبوا العبد قدرته واختياره، وقالوا: إن العبد ليس له قدرة ولا اختيار، وإنما هو مسير لا مخير كالريشة في مهب الريح، ولم يفرقوا بين فعل العبد الواقع باختياره وبين فعله الواقع بغير اختياره، ولا شك أن هؤلاء ضالون لأنه مما يعلم بالضرورة من الدين، والعقل والعادة أن الإنسان يفرق بين الفعل الاختياري والفعل الإجباري.
القسم الثاني: غلوا في إثبات قدرة العبد واختياره حتى نفوا أن يكون لله تعالى مشيئة أو اختيار أو خلق فيما يفعله العبد، وزعموا أن العبد
(5/216)
مستقل بعمله، حتى غلا طائفة منهم فقالوا: إن الله تعالى لا يعلم بما يفعله العباد إلا بعد أن يقع منهم، وهؤلاء أيضا غلوا وتطرفوا تطرفا عظيما في إثبات قدرة العبد واختياره.
القسم الثالث: وهم الذين آمنوا فهداهم الله لما اختلف فيه من الحق، وهم أهل السنة والجماعة، سلكوا في ذلك مسلكا وسطا قائما على الدليل الشرعي وعلى الدليل العقلي، وقالوا: إن الأفعال التي يحدثها الله تعالى في الكون تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: ما يجريه الله تبارك وتعالى من فعله في مخلوقاته فهذا لا اختيار لأحد فيه، كإنزال المطر وإنبات الزرع والإحياء والإماتة والمرض والصحة وغير ذلك من الأمور الكثيرة التي تشاهد في مخلوقات الله تعالى، وهذه بلا شك ليس لأحد فيها اختيار وليس لأحد فيها مشيئة، وإنما المشيئة فيها لله الواحد القهار.
القسم الثاني: ما تفعله الخلائق كلها من ذوات الإرادة فهذه الأفعال تكون باختيار فاعليها وإرادتهم؛ لأن الله تعالى جعل ذلك إليهم، قال الله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} ، وقال تعالى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} ، وقال تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} ، والإنسان يعرف الفرق بين ما يقع منه باختياره وبين ما يقع منه باضطرار وإجبار، فالإنسان ينزل من السطح بالسلم نزولا اختياريا يعرف أنه مختار، ولكنه يسقط هاويا من السطح ويعرف أنه ليس مختارا لذلك، ويعرف الفرق بين الفعلين، وأن الثاني إجبار والأول اختيار، وكل إنسان يعرف ذلك.
(5/217)
وكذلك الإنسان يعرف أنه إذا أصيب بمرض سلس البول فإن البول يخرج منه بغير اختياره، وإذا كان سليما من هذا المرض فإن البول يخرج منه باختياره، ويعرف الفرق بين هذا وهذا، ولا أحد ينكر الفرق بينهما، وهكذا جميع ما يقع من العبد يعرف فيه الفرق بين ما يقع اختيارا وبين ما يقع اضطرارا وإجبارا، بل إن من رحمة الله عز وجل أن من الأفعال ما هو باختيار العبد ولكن لا يلحقه منه شيء كما في فعل الناسي والنائم، يقول الله تعالى في قصة أصحاب الكهف: {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} ، وهم الذين يتقلبون، ولكن الله تعالى نسب الفعل إليه؛ لأن النائم لا اختيار له ولا يؤاخذ بفعله، فنسب فعله إلى الله عز وجل، ويقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه» ، فنسب هذا الإطعام وهذا الإسقاء إلى الله عز وجل؛ لأن الفعل وقع منه بغير ذكر فكأنه صار بغير اختياره، وكلنا يعرف الفرق بين ما يجده الإنسان من ألم بغير اختياره وما يجده من خفة في نفسه أحيانا بغير اختياره، ولا يدري ما سببه، وبين أن يكون الألم هذا ناشئا من فعل هو الذي اكتسبه، أو هذا الفرح ناشئا من شيء هو الذي اكتسبه، وهذا الأمر ولله الحمد واضح لا غبار عليه.
أيها الإخوة: إننا لو قلنا بقول الفريق الأول الذين غلوا في إثبات القدر لبطلت الشريعة من أصلها؛ لأن القول بأن فعل العبد ليس له فيه اختيار يلزم منه أن لا يحمد على فعل محمود، ولا يلام على فعل مذموم؛ لأنه في الحقيقة بغير اختيار وإرادة منه، وعلى هذا فالنتيجة إذن أن الله تبارك وتعالى يكون -تعالى عن ذلك علوا كبيرا- ظالما لمن عصى إذا عذبه وعاقبه على معصيته؛ لأنه عاقبه على أمر لا اختيار له فيه ولا إرادة، وهذا بلا شك مخالف للقرآن صراحة يقول الله تبارك وتعالى: {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ}
(5/218)
{أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} ، فبين سبحانه أن هذا العقاب منه ليس ظلما، بل هو كمال العدل لأنه قد قدم إليهم بالوعيد، وبين لهم الطرق، وبين لهم الحق، وبين لهم الباطل، فلم يبق لهم حجة عند الله عز وجل، ولو قلنا بهذا القول الباطل لبطل قول الله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} ، فإن الله تبارك وتعالى نفى أن يكون للناس حجة بعد إرسال الرسل؛ لأنهم قامت عليهم الحجة بذلك، فلو كان القدر حجة لهم لكانت هذه الحجة باقية حتى بعد بعث الرسل؛ لأن قدر الله تعالى لم يزل ولا يزال موجودا قبل إرسال الرسل وبعد إرسال الرسل، إذن فهذا القول تبطله النصوص، ويبطله الواقع كما فصلنا بالأمثلة السابقة.
أما أصحاب القول الثاني فإنهم أيضا ترد عليهم النصوص والواقع؛ ذلك لأن النصوص صريحة في أن مشيئة الإنسان تابعة لمشيئة الله عز وجل، قال الله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ، {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ، والذين يقولون بهذا القول هم في الحقيقة مبطلون لجانب من جوانب الربوبية، وهم أيضا مدعون بأن في
(5/219)
ملك الله تعالى ما لا يشاؤه ولا يخلقه، والله تبارك وتعالى شاءٍ لكل شيء، خالق لكل شيء، مقدر لكل شيء، وهم أيضا مخالفون لما يعلم بالاضطرار من أن الخلق كله ملك لله عز وجل ذواته وصفاته، لا فرق بين الصفة والذات، ولا بين المعنى وبين الجسد، إذن فالكل لله عز وجل، ولا يمكن أن يكون في ملكه ما لا يريد تبارك وتعالى، ولكن يبقى علينا إذا كان الأمر راجعا إلى مشيئة الله تبارك وتعالى، وأن الأمر كله بيده، فما طريق الإنسان إذن؟ وما حيلة الإنسان إذا كان الله تعالى قد قدر عليه أن يضل ولا يهتدي؟
فنقول: الجواب عن ذلك: أن الله تبارك وتعالى إنما يهدي من كان أهلا للهداية، ويضل من كان أهلا للضلالة، يقول الله تبارك وتعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} ، ويقول تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} ، فبين الله تبارك وتعالى أن أسباب إضلاله لمن ضل إنما هو بسبب من العبد نفسه، والعبد كما أسلفنا آنفا لا يدري ما قدر الله تعالى له؛ لأنه لا يعلم بالقدر إلا بعد وقوع المقدور، فهو لا يدري هل قدر الله له أن يكون ضالا أم أن يكون مهتديا؟ فما باله يسلك طريق الضلال ثم يحتج بأن الله تعالى قد أراد له ذلك؟ أفلا يجدر به أن يسلك طريق الهداية ثم يقول إن الله تعالى قد هداني للصراط المستقيم؟ ! أيجدر به أن يكون جبريا عند الضلالة قدريا عند الطاعة.
كلا لا يليق بالإنسان أن يكون جبريا عند الضلالة والمعصية، فإذا ضل أو عصى الله قال: هذا أمر قد كتب علي وقدر علي، ولا يمكنني أن أخرج عما قضى الله وقدر، وإذا كان في جانب الطاعة ووفقه الله تعالى للطاعة
(5/220)
والهداية زعم أن ذلك منه ثم من به على الله، وقال: أنا أتيت به من عند نفسي، فيكون قدريا في جانب الطاعة، جبريا في جانب المعصية، هذا لا يمكن أبدا، فالإنسان في الحقيقة له قدرة وله اختيار، وليس باب الهداية بأخفى من باب الرزق وبأخفى من أبواب طلب العلم، والإنسان كما هو معلوم لدى الجميع قد قدر له ما قدر من الرزق، ومع ذلك هو يسعى في أسباب الرزق في بلده وخارج بلده يمينا وشمالا، لا يجلس في بيته ويقول: إن قدر لي رزق فإنه يأتيني، بل هو يسعى في أسباب الرزق مع أن الرزق نفسه مقرون بالعمل كما ثبت ذلك عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد» .
فهذا الرزق أيضا مكتوب كما أن العمل من صالح أو سيئ مكتوب، فما بالك تذهب يمينا وشمالا وتجوب الأرض والفيافي طلبا لرزق الدنيا، ولا تعمل عملا صالحا لطلب رزق الآخرة والفوز بدار النعيم؟ ! إن البابين واحد ليس بينهما فرق، فكما أنك تسعى لرزقك وتسعى لحياتك وامتداد أجلك فإذا مرضت بمرض ذهبت إلى أقطار الدنيا تريد الطبيب الماهر الذي يداوي مرضك، ومع ذلك فإن لك ما قدر من الأجل لا يزيد ولا ينقص، ولست تعتمد على هذا وتقول: أبقى في بيتي مريضا طريحا وإن قدر الله لي أن يمتد الأجل امتد، بل نجدك تسعى بكل ما تستطيع من قوة وبحث لتبحث عن الطبيب الذي ترى أنه أقرب الناس أن يقدر الله الشفاء على يديه، فلماذا لا يكون عملك في طريق الآخرة وفي العمل الصالح كطريقك فيما تعمل للدنيا؟ ! وقد سبق أن قلنا: إن القضاء سر مكتوم لا يمكن أن تعلم عنه، فأنت الآن بين طريقين: طريق يؤدي بك إلى السلامة وإلى الفوز
(5/221)
والسعادة والكرامة، وطريق يؤدي بك إلى الهلاك والندامة والمهانة، وأنت الآن واقف بينهما ومخير ليس أمامك من يمنعك من سلوك طريق اليمين ولا من سلوك طريق الشمال، إذا شئت ذهبت إلى هذا، وإذا شئت ذهبت إلى هذا، فما بالك تسلك طريق اليمين وتقول: إنه قد قدر لي؟ ! فلو أنك أردت السفر إلى بلد ما وكان أمامك طريقان أحدهما معبد قصير آمن، والآخر غير معبد وطويل ومخوف، لوجدنا أنك تختار المعبد القصير الآمن ولا تذهب إلى الطريق الذي ليس بمعبد وليس بقصير وليس بآمن، هذا في الطريق الحسي إذن فالطريق المعنوي موازٍ له ولا يختلف عنه أبدا، ولكن النفوس والأهواء هي التي تتحكم أحيانا في العقل وتغلب على العقل، والمؤمن ينبغي أن يكون عقله غالبا على هواه، وإذا حكم عقله فالعقل بالمعنى الصحيح يعقل صاحبه عما يضره ويدخله فيما ينفعه ويسره.
بهذا تبين لنا أن الإنسان يسير في عمله الاختياري سيرا اختياريا ليس إجباريا، وأنه كما يسير لعمل دنياه سيرا اختياريا، وهو إن شاء جعل هذه السلعة أو تلك تجارته، فكذلك أيضا هو في سيره إلى الآخرة يسير سيرا اختياريا، بل إن طرق الآخرة أبين بكثير من طرق الدنيا؛ لأن الذي بين طرق الآخرة هو الله تعالى في كتابه وعلى لسان رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا بد أن تكون طرق الآخرة أكثر بيانا وأجلى وضوحا من طرق الدنيا، ومع ذلك فإن الإنسان يسير في طرق الدنيا التي ليس ضامنا لنتائجها، ولكنه يدع طرق الآخرة التي نتائجها مضمونة معلومة لأنها ثابتة بوعد الله، والله تبارك وتعالى لا يخلف الميعاد.
بعد هذا نقول: إن أهل السنة والجماعة قرروا هذا وجعلوه عقيدتهم ومذهبهم: أن الإنسان يفعل باختياره، وأنه يقول كما يريد، ولكن إرادته واختياره تابعان لإرادة الله تبارك وتعالى ومشيئته، ثم يؤمن أهل السنة
(5/222)
والجماعة بأن مشيئة الله تعالى تابعة لحكمته وأنه سبحانه وتعالى ليست مشيئته مطلقة مجردة ولكنها مشيئة تابعة لحكمته؛ لأن من أسماء الله تعالى "الحكيم"، والحكيم هو الحاكم المحكم الذي يحكم الأشياء كونا وشرعا، ويحكمها عملا وصنعا، والله تعالى بحكمته يقدر الهداية لمن أرادها لمن يعلم سبحانه وتعالى أنه يريد الحق وأن قلبه على الاستقامة، ويقدر الضلالة لمن لم يكن كذلك لمن إذا عرض عليه الإسلام يضيق صدره كأنما يصعد في السماء فإن حكمة الله تبارك وتعالى تأبى أن يكون هذا من المهتدين إلا أن يجدد الله له عزما ويقلب إرادته إلى إرادة أخرى والله تعالى على كل شيء قدير، ولكن حكمة الله تأبى إلا أن تكون الأسباب مربوطة بها مسبباتها.
ومراتب القضاء والقدر عند أهل السنة والجماعة أربع مراتب:
المرتبة الأولى: العلم وهي أن يؤمن الإنسان إيمانا جازما بأن الله تعالى بكل شيء عليم وأنه يعلم ما في السماوات والأرض جملة وتفصيلا سواء كان ذلك من فعله أو من فعل مخلوقاته، وأنه لا يخفى على الله شيء في الأرض ولا في السماء.
المرتبة الثانية: الكتابة وهي أن الله تبارك وتعالى كتب عنده في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء.
وقد جمع الله تعالى بين هاتين المرتبتين في قوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} فبدأ سبحانه بالعلم وقال: (إن ذلك في كتاب (أي أنه مكتوب في اللوح المحفوظ كما جاء به الحديث عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب قال: رب ماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن فجرى في تلك»
(5/223)
«الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة» . ولهذا «سئل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عما نعمله: أشيء مستقبل أم شيء قد قضي وفرغ منه؟ قال: إنه قد قضي وفرغ منه» . وقال أيضا حين «سئل: أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب الأول؟ قال: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له» فأمرهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالعمل، فأنت يا أخي اعمل وأنت ميسر لما خلقت له.
ثم تلا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} .
المرتبة الثالثة: المشيئة، وهي أن الله تبارك وتعالى شاء لكل موجود أو معدوم في السماوات أو في الأرض، فما وجد موجود إلا بمشيئة الله تعالى، وما عدم معدوم إلا بمشيئة الله تعالى، وهذا ظاهر في القرآن الكريم، وقد أثبت الله تعالى مشيئته في فعله ومشيئته في فعل العباد فقال الله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ} {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} فبين الله تعالى أن فعل الناس كائن بمشيئته، وأما فعله تعالى فكثير قال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} وقوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} إلى آيات كثيرة تثبت المشيئة في فعله تبارك وتعالى، فلا يتم الإيمان بالقدر إلا أن نؤمن بأن مشيئة الله عامة لكل موجود أو معدوم، فما من معدوم إلا وقد شاء الله تعالى عدمه، وما من موجود إلا
(5/224)
وقد شاء الله تعالى وجوده، ولا يمكن أن يقع شيء في السماوات ولا في الأرض إلا بمشيئة الله تعالى.
المرتبة الرابعة: الخلق أي أن نؤمن بأن الله تعالى خالق كل شيء فما من موجود في السماوات والأرض إلا الله خالقه، حتى الموت يخلقه الله تبارك وتعالى، وإن كان هو عدم الحياة. يقول الله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} فكل شيء في السماوات أو في الأرض فإن الله تعالى خالقه لا خالق إلا الله تبارك وتعالى، وكلنا يعلم أن ما يقع من فعله سبحانه وتعالى بأنه مخلوق له، فالسماوات والأرض، والجبال والأنهار، والشمس والقمر، والنجوم والرياح، والإنسان والبهائم كلها مخلوقات الله، وكذلك ما يحدث لهذه المخلوقات من صفات وتقلبات وأحوال كلها أيضا مخلوقة لله عز وجل. ولكن قد يشكل على الإنسان كيف يصح أن نقول في فعلنا وقولنا الاختياري إنه مخلوق لله عز وجل؟
فنقول: نعم يصح أن نقول ذلك؛ لأن فعلنا وقولنا ناتج عن أمرين:
أحدهما: القدرة.
والثاني: الإرادة.
فإذا كان فعل العبد ناتجا عن إرادته وقدرته فإن الذي خلق هذه الإرادة وجعل قلب الإنسان قابلا للإرادة هو الله عز وجل، وكذلك الذي خلق فيه القدرة هو الله عز وجل ويخلق السبب التام الذي يتولد عنه المسبب. نقول: إن خلق السبب التام خالق للمسبب أي إن خالق المؤثر خالق للأثر، فوجه كونه تعالى خالقا لفعل العبد أن نقول إن فعل العبد وقوله ناتج عن أمرين هما:
(5/225)
الإرادة.
القدرة.
فلولا الإرادة لم يفعل، ولولا القدرة لم يفعل؛ لأنه إذا أراد وهو عاجز لم يفعل، لعجزه عن الفعل وإذا كان قادرا ولم يرد لم يكن الفعل، فإذا كان الفعل ناتجا عن إرادة جازمة وقدرة كاملة فالذي خلق الإرادة الجازمة والقدرة الكاملة هو الله، وبهذا الطريق عرفنا كيف يمكن أن نقول: إن الله تعالى خالق لفعل عبده، وإلا فالعبد هو الفاعل في الحقيقة فهو المتطهر وهو المصلي، وهو المزكي، وهو الصائم، وهو الحاج، وهو المعتمر، وهو العاصي، وهو المطيع لكن هذه الأفعال كلها كانت ووجدت بإرادة وقدرة مخلوقتين لله عز وجل، والأمر ولله الحمد واضح.
وهذه المراتب الأربع المتقدمة يجب أن تثبت لله عز وجل، وهذا لا ينافي أن يضاف الفعل إلى فاعله من ذوي الإرادة.
كما إننا نقول: النار تحرق والذي خلق الإحراق فيها هو الله تعالى بلا شك، فليست محرقة بطبيعتها بل هي محرقة بكون الله تعالى جعلها محرقة، ولهذا لم تكن النار التي ألقي فيها إبراهيم محرقة؛ لأن الله قال لها: {كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} فكانت بردا وسلاما على إبراهيم، فالنار بذاتها لا تحرق ولكن الله تعالى خلق فيها قوة الإحراق، وقوة الإحراق هي في مقابل فعل العباد كإرادة العبد وقدرته، فبالإرادة والقدرة يكون الفعل، وبالمادة المحرقة في النار يكون الإحراق، فلا فرق بين هذا وهذا، ولكن العبد لما كان له إرادة وشعور واختيار وعمل صار الفعل ينسب إليه حقيقة وحكما وصار مؤاخذا بالمخالفة معاقبا عليها لأنه يفعل باختيار ويدع باختيار.
(5/226)
وأخيرا نقول: على المؤمن أن يرضى بالله تعالى ربا، ومن تمام رضاه بالربوبية أن يؤمن بقضاء الله وقدره، ويعلم أنه لا فرق في هذا بين الأعمال التي يعملها وبين الأرزاق التي يسعى لها، وبين الآجال التي يدافعها، الكل بابه سواء، والكل مكتوب، والكل مقدر، وكل إنسان ميسر لما خلق له.
أسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن ييسرون لعمل أهل السعادة وأن يكتب لنا الصلاح في الدنيا والآخرة، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
تمت بحمد الله تعالى.
(5/227)
شرح حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(5/229)
شرح حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو الصادق المصدوق: «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها» . متفق عليه.
قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فيؤمر بكتب أربع كلمات: رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد» . يرد فيه إشكال حيث جاء في حديث النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه» . فيفهم منه أن الأجل يتمدد.
والجواب: أنه محدد، وأن من كتب له أن يموت في مدة معينة فإنه لا يتعداها ولا ينقص عنها، وأن من وصل رحمه فقد كتب له في الأصل أنه واصل وأن أجله محدود، والفائدة من قوله عليه الصلاة والسلام: «من أحب» هي حث الناس على صلة الرحم، ليكتب له هذا كغيره من الأسباب التي تترتب عليها مسبباتها.
وفي هذا الحديث أيضا أن عمل الجنين يكتب وهذا يشمل العمل الصالح والسيئ؛ لأن كلمة (عمل) مفرد مضاف، وهو يكون للعموم،
(5/231)
والدليل قوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} فكلمة نعمة مفرد، وكلمة لا تحصوها تدل أنه مفرد يعم الجمع. فكل مفرد مضاف يفيد العموم.
وعمل الإنسان كتب قبل أن تخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، ولهذا سئل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عما نعمله في هذه الدنيا من أعمال الدنيا والآخرة هل هو شيء مستأنف أو شيء قد فرغ منه؟ فأخبر أنه قد فرغ منه، وقال: «ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار". قالوا: يا رسول الله، أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب الأول؟ قال: "لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له» .
فعملك مكتوب، ولكن لو سئلت هل تعلم ما كتب لك من العمل؟ لا تدري ماذا يكون لك في الغد قال الله تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} فإذا كنت لا تدري فإنه يبطل احتجاجك بالقدر، ولهذا أبطل الله حجة الذين يحتجون على شركهم بالقدر، فقال سبحانه: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا} ووجه إبطال هذه الحجة قوله تعالى: {حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا} ولو كان لهم حجة في ذلك ما أذاقهم الله بأسه، فإذا كنت لا تدري ماذا كتب لك فلا احتجاج لك بالقدر، ولهذا فأنت لا تدري ماذا كتب لك من الرزق، ولهذا تسعى في طلب الرزق، والعمل كالرزق مقدور لك ولكن يجب عليك أن تسعى للعمل كما تسعى للرزق وتقوم بطاعة الله. وكذلك فلا احتجاج لأحد بالقدر على معصية الله، فمن الناس من
(5/232)
إذا أمرته بالطاعة أجابك بكلمة حق أريد بها باطل، فيقول: نسأل الله أن يهدينا. ولا شك أن الإنسان ينبغي أن يسأل الله الهداية، لكن هذا أراد بقوله دفع اللوم عن نفسه ولو كان صادقا في طلب الهداية لجد في الهداية وعمل لها. فكما أنك لن ترزق الولد بمجرد التمني بل لا بد أن تأخذ بأسبابه فتتزوج فإنك لكي تنال الهداية لا بد أن تتجه إلى ربك، وإذا اتجهت إليه سبحانه فثق أن ما يؤتيك الله سبحانه أكثر من عملك. وفي الحديث القدسي: «من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه» . فانظر ما يؤتيك الله سبحانه وتعالى إذا تقربت إليه يكون سمعك، وبصرك، ويدك ورجلك، أي يسددك في جميع أعمالك، في كل ما تدركه بجوارحك، وإذا سألته أعطاك، وإذا استعذت به أعاذك.
وثبت كذلك عن رسول الله، عليه الصلاة والسلام أنه أخبر عن ربه أن من تقرب إلى الله شبرا تقرب الله إليه ذراعا، ومن تقرب إليه ذراعا تقرب إليه باعا، ومن أتاه يمشي أتاه الله هرولة. فأقبل على ربك تجد أكثر بكثير من عملك، أما أن تعرض وتقول: أسأل الله أن يهديني، فهذا أشبه ما يكون بالاستهزاء بالله سبحانه.
ولهذا فنقول لمن يزعم أنه يترك العمل ويتكل على ما كتب، نقول له: اعمل فقد جاءتك الرسل ونزلت الكتب وبين الخير ورغب فيه، وبين الشر وحذر منه، وأوتيت عقلا فما عليك إلا أن تقوم بما يقتضيه هذا العقل من اتباع ما جاءت به الرسل. ولهذا قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له» ثم تلا قول الله عز وجل: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}
(5/233)
وهؤلاء الذين يحتجون بالقدر لو ضربهم أحد أو أخذ مالهم ثم احتج عليهم بأن هذا قضاء وقدر فلن يقبلوا، ولهذا فالاحتجاج بالقدر إبطال للشرع؛ لأن كل من يقترف إثما من زنى، أو قتل، أو شرب خمر، وغيره سيقول: هذا قضاء وقدر فتفسد الأرض ويفسد الشرع.
وقد ذكر أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتي بسارق فأمر بقطع يده، فقال السارق: مهلا يا أمير المؤمنين، والله ما سرقت إلا بقضاء الله وقدره، فقال عمر: ونحن نقطع يدك بقضاء الله وقدره. فاحتج عليه عمر بما احتج به هو على عمله السيئ.
وقد يورد البعض هنا ما جاء في السنة من احتجاج آدم على موسى بقوله: «أتلومني على شيء كتبه الله علي قبل أن أخلق". وذلك حين قال موسى لآدم: "خيبتنا، أخرجتنا ونفسك من الجنة". فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فحج آدم موسى» أي غلبه في الحجة.
فقال أهل العلم: إن موسى لم يلم آدم على ما وقع منه من المعصية والأكل من الشجرة وإنما ذكر المصيبة وهي الإخراج من الجنة. وموسى أعلم وأفقه وآدب من أن يلوم أباه على ذنب قد تاب منه، وقال الله فيه: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} وإنما كان العتب من جهة الإخراج من الجنة وهي مصيبة، ويجوز للإنسان أن يحتج بالقدر على المصيبة؛ لأنها ليست من فعله بل من تقدير الله.
ونظير ذلك رجل سافر فأصيب في سفره بحادث فجئت تلومه على سفره فلا يتوجه هذا اللوم؛ لأنه لم يسافر من أجل الحادث وسيقول لك: هذا بقضاء الله وقدره. ويقبل منه هذا.
(5/234)
وهكذا آدم فهو لم يأكل من الشجرة من أجل أن يخرج من الجنة، ولكن الشيطان وسوس له وقاسمه وغره فنسي ما عهد الله إليه ألا يقرب هذه الشجرة فحصلت المصيبة وأخرج من الجنة.
فاحتجاج آدم بالقدر على المصيبة، وهذا جائز لا بأس به.
(5/235)
وكذلك يورد البعض هنا ما جاء «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاء إلى علي وفاطمة رضي الله عنهما وهما نائمان لم يقوما لصلاة الليل، فكأنه لامهما، فقال علي: يا رسول الله، إن أنفسنا بيد الله. يعني كنا نائمين، فخرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو يضرب على فخذه ويقول: "وكان الإنسان أكثر شيء جدلا» . فقال المحتجون بالقدر: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم ينكر على علي احتجاجه بالقدر.
وأجاب أهل العلم على ذلك، فأجاب عنها ابن القيم بأنهما لما يحتجا على الاستمرار في المعصية وإنما على أمر قد فرغ وانتهى، وفرق بين شخص يحتج بالقدر على أمر قد مضى وهو نادم عليه ويعزم ألا يعود إليه، وبين شخص يحتج بالقدر ليبرر استمراره على المعصية فالأول يقبل، والثاني لا يقبل.
وهذا وجه جيد أن الإنسان إذا أصاب معصية وندم واحتج بالقدر بعد ندمه وتوبته فلا بأس بذلك ولا حرج، وليس كذلك من يحتج بالقدر ليبرر خطأه ويستمر عليه، فهذا لا يقبل أبدا.
وإن قال قائل: ما الجمع بين إبطال الله احتجاج المشركين على شركهم بمشيئته، وما أثبته الله من أن شركهم وقع بمشيئته، فقد قال سبحانه: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} مع ما سبق قوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} .
فالجمع أنهم يحتجون بالمشيئة لدفع اللوم والعتاب ويقولون: إن تعذيب الله لهم ظلم بزعمهم أنه قدره عليهم ثم يعاقبهم عليه. أما الآية الأخرى فهي تسلية لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإعلام أن لله تعالى حكمة في وقوع الشرك من بني آدم، ولو شاء سبحانه لجعل الناس أمة واحدة على الحق لكن ليبلو بعض الناس ببعض.
ثم قال عليه الصلاة والسلام: «وشقي أم سعيد» . الشقاء هو الخيبة وعدم إدراك الآمال. والسعادة هي النجاة والفلاح وحصول الأمل، وهما في الدنيا والآخرة، فالشقي في الدنيا شقي في الآخرة، والسعيد في الدنيا سعيد في الآخرة، ولكن سعادة الدنيا ليست بكثرة المال، والولد، والمتاع، وإنما بالعمل الصالح، ودليل ذلك قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} فلا حياة طيبة إلا لمن عمل صالحا وهو مؤمن، سواء كان ذكرا أو أنثى.
وحياة المترفين ليست طيبة؛ لأن لديهم من التنغيص والنكد ما يتكدر به العيش، فتجده إذا فاتته ذرة من الترف انقبض وانزعج وأصيب بالضغط والبلاء، أما المؤمن فلو فاته هذا الشيء فهو مطمئن راض بقضاء الله وقدره، لا يهمه هذا الشيء ما دام من عند الله. ولهذا فالمؤمن بين أمرين إما شكر على نعمة، وإما صبر على ضراء، كما قال عليه الصلاة والسلام: «عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له» .
وقال بعض السلف: "لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا فيه بالسيوف ". وقد صدق والله، فالملوك وأبناء الملوك في ترف، لكن المؤمن وإن لم يكن في ترف فهو في نعيم قلب، فالإنسان تكتب سعادته
(5/236)
وشقاوته وهو في بطن أمه، لكنه لا يعذر بترك السعي للسعادة بل هو مأمور بأن يسعى لما فيه سعادته وفلاحه في الدنيا والآخرة.
ثم قال في الحديث: «فوالذي نفسي بيده إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها» .
هاتان الجملتان فيهما خوف شديد، وفيهما رجاء عظيم، فالخوف من أن يعمل الإنسان بعمل أهل الجنة ثم يختم له بالنار -والعياذ بالله- والعكس بالعكس، وهذا شيء مشاهد في هذا وفي هذا، وكله قد وقع في عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد «كان مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في إحدى المعارك رجل شجاع مقدام لا يدع شيئا للكفار إلا قضى عليه، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هذا من أهل النار" فعظم ذلك على الصحابة، إذ كيف يكون من أهل النار وعمله عمل أهل الجنة؟! فقال رجل: والله لألزمنه. فتابعه، فبينما هو يقاتل أصابه سهم، فحزن وغضب ورأى أنه لا خير له في البقاء بعد هذا، فأخذ بسيفه ووضعه على صدره واتكأ عليه حتى خرج السيف من ظهره، فقتل نفسه، ومعلوم أن قاتل نفسه في النار، ولهذا لم يصل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على قاتل نفسه، فقاتل نفسه يعذب في النار بما انتحر به خالدا فيها مخلدا.
فلما أصبح الرجل الذي كان يراقبه ذهب إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: أشهد أنك رسول الله. فقال: "وما ذاك؟ " قال: إن الرجل الذي قلت: إنه من أهل النار حدث له كذا وكذا. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار» .
فهذا يبين ما جاء في الرواية الأولى وهو أن المقصود بقوله عليه الصلاة والسلام: «ليعمل بعمل أهل الجنة» أن ذلك فيما يبدو للناس وهذا والحمد لله يخفف الأمر.
(5/237)
وقوله عليه الصلاة والسلام: «حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع» أي: حتى يقترب أجله، فهو فيما يبدو للناس يعمل بعمل أهل الجنة، أما فيما يخفى على الناس ففي قلبه سريرة خبيثة أودت به وأهلكته، ولهذا فأنا أحث دائما أن يحرر الإنسان قلبه ويراقب قلبه، فأعمال الجوارح بمنزلة الماء تسقى به الشجرة لكن الأصل هو القلب، وكثير من الناس يحرص ألا يخطئ في العمل الظاهر، وقلبه مليء بالحقد على المسلمين وعلمائهم، وعلى أهل الخير، وهذا يختم له بسوء الخاتمة والعياذ بالله، لأن القلب إذا كان فيه سريرة خبيثة فإنها تهوي بصاحبه في مكان سحيق.
فالحسد، وهو كراهية نعمة الله على الآخرين وإن لم يتمن زوالها، وقد اشتهر بين العلماء تعريف الحسد بأنه تمني زوال نعمة الله على الغير ولكن المعنى الدقيق للحسد هو كراهية نعمة الله على غيره سواء تمنى زوالها أو لم يتمن.
وهذا الحسد موجود في كثير من الناس وهو من خصال اليهود كما هو من خصال إبليس لعنه الله، فقال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} فإذا وجدت في قلبك حسدا على المسلمين جماعات أو أفرادا فاعلم أن في قلبك خصلة من خصال اليهود والعياذ بالله، فطهر قلبك من هذا الحسد، واعلم أن هذا الخير الذي فيه غيرك إنما هو فضل من الله فلا تعترض على فضل الله ولا تكره تقدير الله: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} .
وكذلك البغضاء، بغض المؤمنين أو دين الإسلام حتى وإن كان الشخص لا ينفذه لقول الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} .
(5/238)
ولا إحباط للعمل إلا إذا كان هناك كفر.
فليلاحظ الإنسان قلبه فيزيل عنه الحسد والبغضاء والحقد والكراهية والغل ويجعله صافيا مخلصا لله تعالى وصافيا للمؤمنين.
وأيضا فمن أسباب سوء الخاتمة محبة الكفار؛ لأنها سريرة خبيثة، بل الواجب على المسلم محبة المسلمين وموالاتهم وكراهية الكفار ومعاداتهم، فإذا كان الأمر بالعكس عند أحد الناس فذلك أمر خطير يخشى على صاحبه أن يختم له بسوء الخاتمة.
والمعاملة بالربا أيضا من أسباب سوء الخاتمة، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في كتابه "الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي" أن رجلا من الناس كان يعامل بالربا، فلما حضرته الوفاة جعلوا يلقنونه الشهادة فيقول: عشرة، أحد عشر. لأنه ليس في قلبه إلا إرادة الدنيا فختم له بسوء الخاتمة. لأن الربا من أعظم الذنوب، حتى قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إنه ورد فيه من الوعيد ما لم يرد على أي ذنب آخر دون الكفر، ولو لم يكن فيه إلا قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} والمحارب لله ورسوله يجب أن يكون حربا على المؤمنين أيضا؛ لأن المؤمن يوالي من والاه الله ورسوله ويعادي من عاداه الله ورسوله." أسأل الله لي ولكم حسن الخاتمة وأن يتوفنا على الإيمان وأن يهب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب.
ومما ورد من الأمثلة على أن من أكرمه الله سبحانه بحسن الخاتمة مع ما كان عليه من عمل أهل النار، ما وقع للأصيرم من بني عبد الأشهل، فقد كان رجلا كافرا، ولما سمع الصيحة لغزوة أحد خرج إلى
(5/239)
القتال، فقاتل حتى قتل، فنظر إلى أصحابه وهو في آخر الرمق، فقالوا: ما الذي جاء بك؟ فقد علمنا أنك تكره هذا الأمر. فأخبرهم أنه خرج عندما سمع الهيعة، وطلب منهم أن يبلغوا رسول الله منه السلام، فصار خاتمة هذا الرجل الشهادة ومآله السعادة.
أسال الله عز وجل أن يختم لي ولكم بخاتمة السعادة إنه سميع مجيب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
(5/240)
الإبداع في بيان كمال الشرع وخطر الابتداع.
(5/241)
الإبداع في بيان كمال الشرع وخطر الابتداع.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحق، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، وترك أمته على محجة بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، بين فيها ما تحتاجه الأمة في جميع شؤونها حتى قال أبو ذر رضي الله عنه: «ما ترك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طائرا يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما» . «وقال رجل من المشركين لسلمان الفارسي رضي الله عنه: علمكم نبيكم حتى الخراءة -آداب قضاء الحاجة- قال: "نعم، لقد نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي برجيع أو عظم» .
وإنك لترى هذا القرآن العظيم قد بين الله تعالى فيه أصول الدين وفروع الدين، فبين التوحيد بجميع أنواعه، وبين حتى آداب المجالس والاستئذان قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} وقال تعالى:
(5/243)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} .
حتى آداب اللباس، قال الله تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} .
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} وقال تعالى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} وقال تعالى: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي يتبين بها أن هذا الدين شامل كامل لا يحتاج إلى زيادة كما أنه لا يجوز فيه النقص، ولهذا قال الله تعالى في وصف القرآن: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} فما من شيء يحتاج الناس إليه في معادهم ومعاشهم إلا بينه الله تعالى في كتابه إما نصا، أو إيماء وإما منطوقا، وإما مفهوما.
أيها الأخوة: إن بعض الناس يفسر قول الله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}
(5/244)
(يفسر قوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ} على أن الكتاب القرآن.
والصواب: أن المراد بالكتاب هنا اللوح المحفوظ، وأما القرآن فإن الله تعالى وصفه بأبلغ من النفي وهو قوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} . ولعل قائلا يقول: أين نجد أعداد الصلوات الخمس في القرآن؟ وعدد كل صلاة في القرآن؟ وكيف يستقيم أننا لا نجد في القرآن بيان أعداد ركعات كل صلاة والله يقول: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} ؟ . والجواب على ذلك أن الله تعالى بين لنا في كتابه أنه من الواجب علينا أن نأخذ بما قاله الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبما دلنا عليه {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} فما بينته السنة فإن القرآن قد دل عليه؛ لأن السنة أحد قسمي الوحي الذي أنزله الله على رسوله وعلمه إياه كما قال الله تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} وعلى هذا فما جاء في السنة فقد جاء في كتاب الله عز وجل.
أيها الأخوة: إذا تقرر ذلك عندكم فهل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ توفي وقد بقي شيء من الدين المقرب إلى الله تعالى لم يبينه؟
أبدا، فالنبي عليه الصلاة والسلام بين كل الدين إما بقوله وإما بفعله وإما بإقراره ابتداء أو جوابا عن سؤال، وأحيانا يبعث الله أعرابيا من أقصى البادية ليأتي إلى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسأله عن شيء من أمور الدين لا يسأله عنه
(5/245)
الصحابة الملازمون لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولهذا كانوا يفرحون أن يأتي أعرابي يسأل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن بعض المسائل. ويدلك على أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما ترك شيئا مما يحتاجه الناس في عبادتهم ومعاملتهم وعيشتهم إلا بينه، يدلك على ذلك قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} .
إذا تقرر ذلك عندك أيها المسلم فاعلم أن كل من ابتدع شريعة في دين الله ولو بقصد حسن فإن بدعته هذه مع كونها ضلالة تعتبر طعنا في دين الله عز وجل، تعتبر تكذيبا لله تعالى في قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} . لأن هذا المبتدع الذي ابتدع شريعة في دين الله تعالى وليست في دين الله تعالى كأنه يقول بلسان الحال: إن الدين لم يكمل لأنه قد بقي عليه هذه الشريعة التي ابتدعها يتقرب بها إلى الله عز وجل.
ومن عجب أن يبتدع الإنسان بدعة تتعلق بذات الله عز وجل وأسمائه وصفاته، ثم يقول إنه في ذلك معظم لربه، إنه في ذلك منزه لربه، إنه في ذلك متمثل لقوله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} إنك لتعجب من هذا أن يبتدع هذه البدعة في دين الله المتعلقة بذات الله التي ليس عليها سلف الأمة ولا أئمتها ثم يقول: إنه هو المنزه لله، وإنه هو المعظم لله، وإنه هو الممتثل لقول الله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} (. وأن من خالف ذلك فهو ممثل مشبه، أو نحو ذلك من ألقاب السوء.
كما إنك لتعجب من قوم يبتدعون في دين الله ما ليس منه فيما يتعلق برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويدعون بذلك أنهم هم المحبون لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنهم المعظمون لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن من لم يوافقهم في بدعتهم هذه فإنه مبغض
(5/246)
لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى غير ذلك من ألقاب السوء التي يلقبون بها من لم يوافقهم على بدعتهم فيما يتعلق برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ومن العجب أن مثل هؤلاء يقولون: نحن المعظمون لله ولرسوله، وهم إذا ابتدعوا في دين الله، وفي شريعته التي جاء بها رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما ليس منها فإنهم بلا شك متقدمون بين يدي الله ورسوله، وقد قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} .
أيها الأخوة: إني سائلكم ومناشدكم بالله عز وجل وأريد منكم أن يكون الجواب من ضمائركم لا من عواطفكم، من مقتضى دينكم لا من مقتضى تقليدكم، كأن سواء فيما يتعلق بذات الله، وصفات الله، وأسماء الله، أو فيما يتعلق برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم يقولون: نحن المعظمون لله ولرسول الله، أهؤلاء أحق بأن يكونوا معظمين لله ولرسول الله؟ أم أولئك القوم الذين لا يحيدون قيد أنملة عن شريعة الله، يقولون فيما جاء من الشريعة: آمنا وصدقنا فيما أخبرنا به، وسمعنا وأطعنا فيما أمرنا به أو نهينا عنه، ويقولون فيما لم تأت به الشريعة: أحجمنا وانتهينا، وليس لنا أن نتقدم بين يدي الله ورسوله، وليس لنا أن نقول في دين الله ما ليس منه. أيها أحق أن يكون محبا لله ورسوله ومعظما لله ورسوله؟.
لا شك أن الذين قالوا: آمنا وصدقنا فيما أخبرنا به وسمعنا وأطعنا فيما أمرنا به، وقالوا: نحن أقل قدرا في نفوسنا من أن نجعل في شريعة الله ما ليس منها، أو أن نبتدع في دين الله ما ليس منه، لا شك أن هؤلاء هم الذين عرفوا قدر أنفسهم، وعرفوا قدر خالقهم، هؤلاء هم الذين عظموا
(5/247)
الله ورسوله، وهم الذين أظهروا صدق محبتهم لله ورسوله.
لا أولئك الذين يبتدعون في دين الله ما ليس منه في العقيدة، أو القول، أو العمل، وإنك لتعجب من قوم يعرفون قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار» ويعلمون أن قوله: "كل بدعة" كلية عامة شاملة، مسورة بأقوى أدوات الشمول والعموم "كل" والذي نطق بهذه الكلية صلوات الله وسلامه عليه يعلم مدلول هذا اللفظ وهو أفصح الخلق، وأنصح الخلق للخلق لا يتلفظ إلا بشيء يقصد معناه. إذن فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حينما قال: «كل بدعة ضلالة» كان يدري ما يقول، وكان يدري معنى ما يقول، وقد صدر هذا القول منه عن كمال نصح للأمة.
وإذا تم في الكلام هذه الأمور الثلاثة -كمال النصح والإرادة، وكمال البيان والفصاحة، وكمال العلم والمعرفة- دل ذلك على أن الكلام يراد به ما يدل عليه من المعنى، أفبعد هذه الكلية يصح أن نقسم البدعة إلى أقسام ثلاثة، أو إلى أقسام خمسة؟ أبدا، هذا لا يصح.
وما ادعاه العلماء من أن هناك بدعة حسنة. فلا تخلو من حالين:
1 - أن لا تكون بدعة لكن يظنها بدعة.
2 - أن تكون بدعة فهي سيئة لكن لا يعلم عن سوئها.
فكل ما ادعي أنه بدعة حسنة فالجواب عنه بهذا. وعلى هذا فلا مدخل لأهل البدع في أن يجعلوا من بدعهم بدعة حسنة وفي يدنا هذا السيف الصارم من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كل بدعة ضلالة» . إن هذا السيف الصارم إنما صنع في مصانع النبوة والرسالة، إنه لم يصنع في مصانع مضطربة، لكنه صنع في مصانع النبوة، وصاغه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذه الصياغة البليغة فلا يمكن
(5/248)
لمن بيده مثل هذا السيف الصارم أن يقابله أحد ببدعة يقول: إنها حسنة ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «كل بدعة ضلالة» .
وكأني أحس أن في نفوسكم دبيبا يقول: ما تقول في قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه الموفق للصواب حينما أمر أبي بن كعب وتميما الداري أن يقوما بالناس في رمضان، فخرج والناس على إمامهم مجتمعون فقال: " نعمت البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون ".
فالجواب عن ذلك من وجهين:
الوجه الأول: أنه لا يجوز لأحد من الناس أن يعارض كلام الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأي كلام، لا بكلام أبي بكر الذي هو أفضل الأمة بعد نبيها، ولا بكلام عمر الذي هو ثاني هذه الأمة بعد نبيها، ولا بكلام عثمان الذي هو ثالث هذه الأمة بعد نبيها، ولا بكلام علي الذي هو رابع هذه الأمة بعد نبيها، ولا بكلام أحد غيرهم لأن الله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} قال الإمام أحمد رحمه الله: "أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك". ا. هـ. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتقولون: قال أبو بكر وعمر! ".
الوجه الثاني: أننا نعلم علم اليقين أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه من أشد الناس تعظيما لكلام الله تعالى ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان مشهورا بالوقوف على حدود الله تعالى حتى كان يوصف بأنه كان وقافا عند
(5/249)
كلام الله تعالى. وما قصة المرأة التي عارضته -إن صحت القصة- في تحديد المهور بمجهولة عند الكثير حيث عارضته بقوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} . فانتهى عمر عما أراد من تحديد المهور. لكن هذه القصة في صحتها نظر. لكن المراد بيان أن عمر كان وقافا عند حدود الله تعالى لا يتعداها، فلا يليق بعمر رضي الله عنه وهو من هو أن يخالف كلام سيد البشر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأن يقول عن بدعة:"نعمت البدعة" وتكون هذه البدعة هي التي أرادها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: «كل بدعة ضلالة» بل لا بد أن تنزل البدعة التي قال عنها عمر: إنها "نعمت البدعة" على بدعة لا تكون داخلة تحت مراد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: «كل بدعة ضلالة» فعمر رضي الله عنه يشير بقوله: "نعمت البدعة هذه" إلى جمع الناس على إمام واحد بعد أن كانوا متفرقين، وكان أصل قيام رمضان من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد ثبت في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام في الناس ثلاث ليال وتأخر عنهم في الليلة الرابعة وقال: (إني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها» . فقيام الليل في رمضان جماعة من سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، وسماها عمر رضي الله عنه بدعة باعتبار أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما ترك القيام صار الناس متفرقين يقوم الرجل لنفسه، ويقوم الرجل ومعه الرجل، والرجل ومعه الرجلان، والرهط والنفر في المسجد، فرأى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه برأيه السديد الصائب أن يجمع الناس على إمام واحد، فكان هذا الفعل بالنسبة لتفرق الناس من قبل بدعة، فهي بدعة اعتبارية إضافية، وليست بدعة مطلقة إنشائية أنشأها عمر رضي الله عنه؛ لأن هذه السنة كانت موجودة في عهد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهي سنة، لكنها تركت منذ عهد الرسول عليه الصلاة والسلام حتى أعادها عمر رضي الله عنه،
(5/250)
وبهذا التقعيد لا يمكن أبدا أن يجد أهل البدع من قول عمر هذا منفذا لما استحسنوه من بدعهم.
وقد يقول قائل: هناك أشياء مبتدعة قبلها المسلمون وعملوا بها وهي لم تكن معروفة في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كالمدارس، وتصنيف الكتب، وما أشبه ذلك وهذه البدعة استحسنها المسلمون وعملوا بها ورأوا أنها من خيار العمل، فكيف تجمع بين هذا الذي يكاد أن يكون مجمعا عليه بين المسلمين وبين قول قائد المسلمين ونبي المسلمين ورسول رب العالمين صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كل بدعة ضلالة» ؟
فالجواب أن نقول: هذا في الواقع ليس ببدعة، بل هذا وسيلة إلى مشروع، والوسائل تختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة، ومن القواعد المقررة أن الوسائل لها أحكام المقاصد، فوسائل المشروع مشروعة، ووسائل غير المشروع غير مشروعة، بل وسائل المحرم حرام. والخير إذا كان وسيلة للشر كان شرا واستمع إلى الله عز وجل يقول: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (. وسب آلهة المشركين ليس عدوا بل حق وفي محله، لكن سب رب العالمين عدو وفي غير محله وعدوان وظلم، ولهذا لما كان سب آلهة المشركين المحمود سببا مفضيا إلى سب الله كان محرما ممنوعا، سقت هذا دليلا على أن الوسائل لها أحكام المقاصد، فالمدارس وتصنيف العلم وتأليف الكتب وإن كان بدعة لم يوجد في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على هذا الوجه إلا أنه ليس مقصدا بل هو وسيلة، والوسائل لها أحكام المقاصد. ولهذا لو بنى شخص مدرسة لتعليم علم محرم كان البناء حراما، ولو بنى مدرسة لتعليم علم شرعي كان البناء مشروعا.
(5/251)
فإن قال قائل: كيف تجيب عن قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة» وسن بمعنى "شرع"؟.
فالجواب: أن من قال: «من سن في الإسلام سنة حسنة» هو القائل: «كل بدعة ضلالة» ولا يمكن أن يصدر عن الصادق المصدوق قول يكذب له قولا آخر، ولا يمكن أن يتناقض كلام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبدا، ولا يمكن أن يرد على معنى واحد مع التناقض أبدا، ومن ظن أن كلام الله تعالى أو كلام رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متناقض فليعد النظر، فإن هذا الظن صادر إما عن قصور منه، وإما عن تقصير. ولا يمكن أن يوجد في كلام الله تعالى أو كلام رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تناقض أبدا.
وإذا كان كذلك فبيان عدم مناقضة حديث «كل بدعة ضلالة» لحديث «من سن في الإسلام سنة حسنة» أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «من سن في الإسلام» والبدع ليست من الإسلام، ويقول "حسنة" والبدعة ليست بحسنة، وفرق بين السن والتبديع.
وهناك جواب لا بأس به: أن معنى "من سن" من أحيا سنة كانت موجودة فعدمت فأحياها وعلى هذا فيكون "السن" إضافيا نسبيا كما تكون البدعة إضافية نسبية لمن أحيا سنة بعد أن تركت.
وهناك جواب ثالث يدل له سبب الحديث وهو قصة النفر الذين وفدوا إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكانوا في حالة شديدة من الضيق، فدعا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى التبرع لهم، فجاء رجل من الأنصار بيده صرة من فضة كادت تثقل يده فوضعها بين يدي الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجعل وجه النبي عليه الصلاة والسلام يتهلل من الفرح والسرور وقال: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر»
(5/252)
«من عمل بها إلى يوم القيامة» فهنا يكون معنى "السن" سن العمل تنفيذا وليس العمل تشريعا، فصار معنى «من سن في الإسلام سنة حسنة» من عمل بها تنفيذا لا تشريعا؛ لأن التشريع ممنوع «كل بدعة ضلالة» .
وليعلم أيها الإخوة أن المتابعة لا تتحقق إلا إذا كان العمل موافقا للشريعة في أمور ستة:
الأول: السبب فإذا تعبد الإنسان لله عبادة مقرونة بسبب ليس شرعيا فهي بدعة مردودة على صاحبها.
مثال ذلك: أن بعض الناس يحيي ليلة السابع والعشرين من رجب بحجة أنها الليلة التي عرج فيها برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالتهجد عبادة، ولكن لما قرن بهذا السبب كان بدعة؛ لأنه بنى هذه العبادة على سبب لم يثبت شرعا. وهذا الوصف -موافقة العبادة للشريعة في السبب- أمر مهم يتبين به ابتداع كثير مما يظن أنه من السنة وليس من السنة.
الثاني: الجنس، فلا بد أن تكون العبادة موافقة للشرع في جنسها، فلو تعبد إنسان لله بعبادة لم يشرع جنسها فهي غير مقبولة.
مثال ذلك: أن يضحي رجل بفرس، فلا يصح أضحية؛ لأنه خالف الشريعة في الجنس، فالأضاحي لا تكون إلا من بهيمة الأنعام؛ الإبل، البقر، الغنم.
الثالث: القدر، فلو أراد إنسان أن يزيد صلاة على أنها فريضة فنقول: هذه بدعة غير مقبولة لأنها مخالفة للشرع في القدر، ومن باب أولى لو أن الإنسان صلى الظهر مثلا خمسا فإن صلاته لا تصح بالاتفاق.
الرابع: الكيفية فلو أن رجلا توضأ فبدأ بغسل رجليه، ثم مسح رأسه ثم غسل يديه، ثم وجهه فنقول: وضؤوه باطل؛ لأنه مخالف للشرع في الكيفية.
(5/253)
الخامس: الزمان فلو أن رجلا ضحى في أول أيام ذي الحجة فلا تقبل الأضحية لمخالفة الشرع في الزمان.
وسمعت أن بعض الناس في شهر رمضان يذبحون الغنم تقربا لله تعالى بالذبح، وهذا العمل بدعة على هذا الوجه؛ لأنه ليس هناك شيء يتقرب به إلى الله بالذبح إلا الأضحية، والهدي والعقيقة، أما الذبح في رمضان مع اعتقاد الأجر على الذبح كالذبح في عيد الأضحى فبدعة. وأما الذبح لأجل اللحم فهذا جائز.
السادس: المكان، فلو أن رجلا اعتكف في غير مسجد فإن اعتكافه لا يصح، وذلك لأن الاعتكاف لا يكون إلا في المساجد، ولو قالت امرأة: أريد أن أعتكف في مصلى البيت. فلا يصح اعتكافها لمخالفة الشرع في المكان. ومن الأمثلة: لو أن رجلا أراد أن يطوف فوجد المطاف قد ضاق ووجد ما حوله قد ضاق فصار يطوف من وراء المسجد فلا يصح طوافه؛ لأن مكان الطواف البيت، قال الله تعالى لإبراهيم الخليل: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ}
فالعبادة لا تكون عملا صالحا إلا إذا تحقق فيها شرطان: الأول: الإخلاص.
الثاني: المتابعة.
والمتابعة لا تتحقق إلا بالأمور الستة الآنفة الذكر.
وإنني أقول لهؤلاء الذين ابتلوا بالبدع - الذين قد تكون مقاصدهم حسنة ويريدون الخير -: إذا أردتم الخير فلا والله نعلم طريقا خيرا من طريق السلف رضي الله عنهم.
أيها الإخوة، عضوا على سنة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالنواجذ، واسلكوا طريق السلف الصالح، وكونوا على ما كانوا عليه وانظروا هل يضيركم ذلك شيئا؟.
(5/254)
وإني أقول -وأعوذ بالله أن أقول ما ليس لي به علم- أقول: إنك لتجد الكثير من هؤلاء الحريصين على البدع يكون فاترا في تنفيذ أمور ثبتت شرعيتها وثبتت سنيتها، فإذا فرغوا من هذه البدع قابلوا السنن الثابتة بالفتور، وهذا كله من نتيجة أضرار البدع على القلوب، فالبدع أضرارها على القلوب عظيمة، وأخطارها على الدين جسيمة، فما ابتدع قوم في دين الله بدعة إلا أضاعوا من السنة مثلها أو أشد، كما ذكر ذلك بعض أهل العلم من السلف.
لكن الإنسان إذا شعر أنه تابع لا مشرع حصل له بذلك كمال الخشية والخضوع والذل، والعبادة لرب العالمين، وكمال الاتباع لإمام المتقين وسيد المرسلين ورسول رب العالمين محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
إنني أوجه نصيحة إلى كل إخواني المسلمين الذين استحسنوا شيئا من البدع سواء فيما يتعلق بذات الله، أو أسماء الله، أو صفات الله، أو فيما يتعلق برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتعظيمه، أن يتقوا الله ويعدلوا عن ذلك، وأن يجعلوا أمرهم مبنيا على الاتباع لا على الابتداع، على الإخلاص لا على الإشراك، على السنة لا على البدعة، على ما يحبه الرحمن لا على ما يحبه الشيطان، ولينظروا ماذا يحصل لقلوبهم من السلامة والحياة والطمأنينة، وراحة البال والنور العظيم.
وأسأل الله تعالى أن يجعلنا هداة مهتدين، وقادة مصلحين، وأن ينير قلوبنا بالإيمان والعلم، وأن لا يجعل ما علمنا وبالا علينا، وأن يسلك بنا طريق عباده المؤمنين، وأن يجعلنا من أوليائه المتقين وحزبه المفلحين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(5/255)
شرح حديث عائشة رضي الله عنها.
(5/257)
شرح حديث عائشة رضي الله عنها.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» . رواه البخاري ومسلم، وفي رواية لمسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» .
عائشة هي بنت أبي بكر الصديق، تزوجها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهي صغيرة لها ست سنوات، ودخل عليها وهي صغيرة أيضا لها تسع سنوات، ومات عنها ولها ثماني عشرة سنة، وكان عندها من العلم الكثير الذي نفع الله به الأمة، وكنيتها أم عبد الله، والصحيح أنها لم تلد، وقيل إنها تكنت بابن أختها عبد الله بن الزبير.
قوله: " أحدث " أي أتى بشيء جديد.
" في أمرنا " أي في ديننا.
" ما ليس منه " أي باعتبار الشرع.
" رد " بمعنى مردود، وهذه الكلمة مصدر، والفعل (رد) ، والمصدر هنا بمعنى اسم المفعول (مردود) ، ويأتي المصدر بمعنى اسم المفعول، ولذلك شواهد من اللغة، منها كلمة (الحمل) فهي بمعنى (المحمول) كما في قوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ} أي محمول.
وفي هذا الحديث يخبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بجملة شرطية أن من أحدث في دين الله ما ليس منه فهو رد مردود على صاحبه، حتى إن كان أحدثه عن حسن نية فإنه لا يقبل منه؛ لأن الله لا يقبل من الدين إلا ما شرع.
ولهذا كان من القواعد المقررة عند أهل العلم " أن الأصل في العبادات الحظر والمنع حتى يقوم دليل على المشروعية" قال سبحانه:
(5/259)
{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} وهذا إنكار عليهم.
وعلى العكس من ذلك فالأصل في المعاملات والأفعال والأعيان الإباحة والحل حتى يقوم دليل على المنع.
وهذا الحديث ورد في العبادات وهي التي يقصد الإنسان بها التعبد والتقرب إلى الله، فنقول لمن يزعم شيئا عبادة: هات الدليل على أن هذا عبادة، وإلا فقولك مردود.
ويحتاج هذا الحديث إلى تحرير بالغ.
فأولا: ينبغي معرفة هل هذا عبادة أم عادة.
فمثلا لو أن رجلا قال لصاحبه الذي نجا من هلكة: ما شاء الله، هنيئا لك. فقال له رجل: هذه بدعة. فهذا القول غير صحيح؛ لأن هذا من أمور العادة وليس من أمور العبادة. وفي الشرع ما يشهد لهذا، حيث جعل الناس يهنئون كعب بن مالك بتوبة الله عليه في حديثه الطويل. وكثير من التهاني التي تحدث بين الناس لا يزعم أحد أنها بدعة إلا بدليل؛ لأنها أمور عادات لا عبادات، وكمن قابل رجلا نجح في امتحان فقال له: مبروك. فمن يقول هذه بدعة غير محق في ذلك.
وإذا تردد الأمر بين كونه عبادة أو عادة، فالأصل أنه عادة ولا ينهى عنه حتى يقوم دليل على أنه عبادة.
وتوجد أشياء ابتدعها الناس في دين الله، كإحداث أذكار معينة بصيغ وعدد ووقت وهي لم تشرع على هذا الوجه لا في الزمن ولا العدد، ولا الهيئة، كمن يسبح ألف مرة ويلتزم بذلك ويجعله في الصباح مثلا، فهذا العمل بدعة، مردود على صاحبه لا ثواب له.
فإن قال: كيف تنكرون أن أقول: سبحان الله؟ فنقول: نحن لا ننكر عليك سبحان الله، بل ننكر عليك أن تأتي بها على هذه الصفة التي
(5/260)
لم ترد، أما أن تسبح آناء الليل وأطراف النهار تسبيحا غير مقيد بزمن، ولا عدد، ولا هيئة فلا ننكر عليك.
وكذلك ما يحدث في ليلة الثاني عشر من ربيع الأول من اجتماع الناس وإتيانهم بصيغ من الصلاة والسلام على رسول الله لم ترد عن الرسول ولا أصحابه، بل هي محشوة من الغلو في رسول الله الذي حذر أمته منه، ويأخذون في ترانيم على صفات معينة، فكل هذا بدع مردودة.
وإذا قالوا: نحن نصلي على رسول الله لننال ثواب الصلاة عليه. فنقول لهم: تحديدها بزمان، وعدد معين، وصيغة معينة قد تكون غير واردة أو منهيا عنها، كل هذا جعلها بدعة مردودة.
واعلم أنك لن تحدث بدعة في دين الله إلا انتزع الله من قلبك من السنة ما يقابل هذه البدعة؛ لأن القلب وعاء إن ملأته بالخير لم يبق فيه مكان للشر، وإن ملأته بالشر لم يبق فيه مكان للخير، وإذا ملأته بالسنة لم يبق فيه مكان للبدعة، وإذا ملأته بالبدعة لم يبق فيه مكان للسنة.
وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: تجد هؤلاء الحريصين على البدع عندهم قصور وفتور في اتباع السنن، ولا يكادون يأتون بها على الوجه المطلوب.
ولذلك فإذا تعبد إنسان في ليلة السابع والعشرين من شهر رجب بعبادات من أذكار وصلوات على رسول الله وغير ذلك، فهذه بدعة، ونجيب على من يفعل ذلك من وجهين:
الأول: أنه لم يثبت أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عرج به في هذه الليلة، وهذا يبطل كل ما ينبني على هذا.
الوجه الثاني: لو سلمنا بذلك فهذا لا يقتضي أن نثبت لها شيئا من العبادات؛ لأن الصحابة لم يجعلوا فيها شيئا من هذه العبادات، والواجب على المؤمن أن يتبع ما جاء به الشرع، ولو اتبعنا ما كان عليه سلفنا الصالح
(5/261)
فعلا وتركا صرنا أسعد مما نحن عليه اليوم.
وهذا الحديث كذلك ميزان للأعمال الظاهرة، كما أن حديث عمر في النية ميزان للأعمال الباطنة، فحديث عائشة عن المتابعة، وحديث عمر عن النية، والعبادة لا تقبل إلا بالإخلاص والمتابعة.
وهنا نذكر مثلا ما يفعله الناس من التسابق على الجليد، فهذا لا ينكر عليه؛ لأن هذا من العادات لا من العبادات، وكذلك المصارعة فيما لا ضرر فيه، فإن اشتمل على ضرر كان حراما، ليس لأنه بدعة، بل لما فيه من الضرر.
فالبدعة تكون في الأمور التعبدية، أما أمور العادات فإن كان فيها ضرر منعت وإلا فالأصل فيها الحل.
وكذلك من لبس لباسا غير معهود ولم ينه الشرع عنه فلا ننكر عليه.
ولو أن رجلا داوم على حلق رأسه كلما نبت شعره حلقه، فهذا من الأمور العادية، ولهذا «لما رأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غلاما قد حلق بعض رأسه، قال: "احلقه كله أو اتركه كله» . وهذا دليل على أنه ليس من باب العبادة وإلا لأرشد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى إبقاء الشعر، ولهذا فالراجح من أقوال أهل العلم أن إطلاق الشعر من الأمور العادية إن اعتادها الناس فعلت وإلا فلا.
ولو لبس الإنسان لباسا يخالف العادة ولكنه غير محرم شرعا فلا ينبغي لئلا يكون لباس شهرة، ولباس الشهرة هو الذي يشتهر به الإنسان حتى يقال: هذا الثوب مثل ثوب فلان، وقد يكون بالدون وقد يكون بالأعلى، حتى قال بعض العلماء: لو أن رجلا فقيرا لبس ثياب الأغنياء صار في حقه ثوب شهرة، ولو أن رجلا غنيا لبس ثياب الفقراء صار في حقه ثوب شهرة، وإنما يلبس كل إنسان ما يناسب حاله. واليوم والحمد لله لم يعد هناك فرق كبير بين ثوب الغني والفقير.
(5/262)
وبناء على ما تقدم فإنه لا يستحب أن يقصد العمرة في ليلة السابع والعشرين من رمضان، ومن قصد ذلك فقد أتى بشيء لا دليل عليه، فليلة القدر وإن كان لها خاصية لكنها لا تطلب بأداء العمرة فيها بل بقيامها لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» . ولم يقل: من اعتمر. وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عمرة في رمضان تعدل حجة» ولم يقل: عمرة في ليلة سبع وعشرين تعدل حجة.
فننصح لإخواننا الذين يريدون وجه الله أن تكون أعمالهم موافقة لشرع الله سبحانه لأن مجرد إخلاص النية وإرادة وجه الله لا يكفي في قبول العلم كما سبق بيانه. ولم أجد في سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يدل على استحباب العمرة ليلة السابع والعشرين، بل هي كغيرها من أيام رمضان في فضل الاعتكاف لما سبق من قوله عليه الصلاة والسلام: «عمرة في رمضان» .
ولا يفيد الإنسان أن يعبد الله بالعاطفة بدون أصل شرعي يرجع إليه لأن ذلك اتباع للهوى، فللشرع حدود معينة مضبوطة من كل وجه حتى لا يتفرق الناس فيها شيعا كل حزب بما لديهم فرحون.
ثم إن ليلة القدر ليست مخصوصة بليلة سبع وعشرين، فالنصوص الواردة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تدل أنها تتنقل في الأعوام، ففي عام تكون ليلة ثلاث وعشرين، وفي آخر ليلة خمس وعشرين، وغيره ليلة تسع وعشرين وثمان وعشرين، وست وعشرين.. وهكذا.
وقد ثبت في الصحيحين «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعتكف العشر الأوسط ابتغاء ليلة القدر فخرج على أصحابه ليلة إحدى وعشرين وأخبرهم أنه كان يعتكف طلبا لليلة القدر وأنه رأى ليلة القدر في العشر الأواخر ولكنه أنسيها حكمة من الله تعالى، وقال عليه الصلاة والسلام: "وقد رأيتني أسجد في صبيحتها في ماء وطين". قال أنس: فمطرت السماء تلك الليلة فقام رسول»
(5/263)
«الله عليه الصلاة والسلام يصلي الفجر فرأيت على جبهته أثر الماء والطين. وكانت تلك ليلة إحدى وعشرين. وقال عليه الصلاة والسلام: "التمسوها في خامسة تبقى، في رابعة تبقى، ... » إلى آخر الحديث.
وهذا يدل أنها تنتقل ولا تتعين في ليلة سبع وعشرين. ونرى كثيرا من المسلمين يجتهدون في ليلة سبع وعشرين ويتساهلون فيما عداها، وقد تكون في غيرها فيحرمون خيرها.
وينبغي للإنسان أن يجتهد في تلك الليالي كلها في الدعاء بقلب خالص وأمل في الله سبحانه، وأن يحرص على اجتناب أكل الحرام، لأنه من أسباب رد الدعاء، وذلك في قوله عليه الصلاة والسلام: «إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا» وفي الحديث: «ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر يمد يده إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام، وملبسه حرام، ومشربه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب له» . فذكر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أسباب إجابة الدعاء السفر وهو مظنة للإجابة، وكذلك ذكر الشعث والغبر ولا شك أن كون الإنسان غير مترف ولا مهتم بأمور ملبسه ومظهره بل مهتم بإصلاح قلبه، وكذلك ذكر مد اليدين إلى السماء وهو من إظهار الافتقار إلى الله وإظهار الضعف والحاجة لله سبحانه، وذكر كذلك قوله: يا رب يا رب، ودعوة الله بهذا الاسم هو توسل إلى الله بأسمائه وخلقه للناس وربوبيته لهم.
ثم ذكر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن مأكله ومشربه وملبسه وغذاءه كله من حرام، فيمنع إجابة الدعاء.
و (أنى) للاستفهام بمعنى الاستبعاد، أي بعيد أن يستجيب الله له.
ولهذا فأحذر إخواني من أكل الحرام، وهو ليس فقط كما يظن البعض أكل الخنزير والميتة وشرب الخمر، بل يشمل أكل الحرام لذاته
(5/264)
كهذه الأشياء، وأكله لكسبه بأن يكون الشيء حلالا ثم يصير حراما كالمغصوب والمسروق.
وكذلك المرابي ومن يأكل الربا سواء بصراحة أو بتحايل، والحيلة في ذلك أقبح من الصراحة لأنها تتضمن مفسدتين: المحرم والمخادعة والخيانة لله سبحانه، وهذا لا يخادع إلا نفسه فالله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
وكذلك الذي يكسب المال بالغش والخداع، فيظهر السلعة بمظهر طيب وهي رديئة فيظنها المشتري جيدة ويدفع فيها الثمن الكثير وهي في الحقيقة لا تساوي هذا الثمن. وقد يظن هذا البائع الغشاش أنه ربح ولكنه في الحقيقة خاسر، لأن المغبون سيأخذ من حسناته يوم يكون أحوج إلى الحسنة من الدنيا وما عليها ولا يستطيع أن يفدي نفسه.
وقد «مر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بصاحب تمر فأدخل يده في التمر فإذا أسفله مبلول، فقال: "ما هذا يا صاحب الطعام"؟ فقال: أصابته السماء يا رسول الله، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من غش فليس منا» . وكان الواجب على هذا أن يظهر الرديء حتى يعرفه الناس.
ومن ذلك أيضا الكسب عن طريق الكذب، كمن يحلف أن هذه السلعة تساوي مائة وهي لا تساوي أكثر من خمسين، وقد يغتر من لا يعرف سعر هذه السلعة، فهذه الزيادة قد جاءت بالكذب وقد يزين له الشيطان أن المشتري قد اشترى برضاه، ولكن نقول له: لو علم المشتري أن القيمة الحقيقية أقل مما دفع فإنه لن يرضى، فهو إذا لم يشتر عن تراضٍ، بل بكذب وتغرير ودجل.
وقد تجد من يبيع السلعة بمائة ويبيعها من بجواره بخمسين، ولا شك أن هذا فرق كبير ليس مما يجري به العرف ويوجد بين الناس عادة ويتراضون به.
فالخلاصة أن الأصل في العبادات الحظر والمنع حتى يقوم دليل على
(5/265)
المشروعية وأن كل من أحدث في دين الله ما ليس منه فهو رد مردود على صاحبه، وأن الله لا يقبل من الدين إلا ما شرع، وأنه لا بد من الإخلاص لله عز وجل والمتابعة لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(5/266)
مفاتح الغيب
(5/267)
مفاتح الغيب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله، وأصحابه أجمعين أما بعد ... نتكلم في هذا الدرس إن شاء الله تعالى عن مفاتح الغيب: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} وقد بينها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث تلا قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}
هذه مفاتح الغيب، وسميت مفاتح لأن كل واحد منها فاتحة لشيء بعده:
{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} فالساعة فاتحة للآخرة التي هي النهاية.
{وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} والغيث فاتحة لحياة النبات.
{وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} فاتحة لحياة كل شيء.
{وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} فاتحة للمستقبل.
{وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} فاتحة لقيامة كل إنسان بحسبه، علم الساعة: القيامة العامة، وأما قوله تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}
(5/269)
فهو فاتحة لقيامة كل إنسان، لأن من مات فقد قامت قيامته.
أولا: إن الله عنده علم الساعة:
علم الساعة لا يمكن لأحد أن يدركه إلا الرب عز وجل، فها هو «أفضل الرسل من الملائكة جبريل يسأل أفضل الرسل من البشر محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقول: أخبرني عن الساعة؟ فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما المسؤول عنها بأعلم من السائل» . أي علمي وعلمك فيها سواء، فكما أنك لا تعلمها فأنا كذلك لا أعلمها، ولهذا من ادعى علم الساعة فهو مكذب للقرآن، ومكذب للسنة، ومكذب لإجماع المسلمين وخارج عن المسلمين.
يقول الله -تبارك وتعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} وقال تعالى: {وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} وتقديم الخبر في قوله: {وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} يفيد الحصر، لأن من طرق الحصر تقديم ما حقه التأخير.
ومن صدق من ادعى علم الساعة فهو كافر أيضا، لأن من صدق من يكذب بالقرآن أو بالسنة فقد كذب القرآن والسنة، وعلى هذا فلا يمكن أن نصدق شخصا يدعي أنه يعلم متى تكون الساعة، ومن صدقه فهو
(5/270)
كافر لتكذيبه الكتاب والسنة وإجماع المسلمين.
لكن هل للساعة علامات؟
فالجواب: نعم قال تعالى: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ}
ثانيا: نزول الغيث: {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} وهنا لم يقل: يعلم نزول الغيث، بل قال: {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} وإذا كان تنزيل الغيث ليس لأحد سوى الله، فعلم نزوله ليس لأحد سوى الله عز وجل.
ولكن قد يقول قائل: ما الحكمة في أن الله عز وجل قال في الساعة: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} وفي الغيث قال: {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} دون أن يقول: ويعلم نزول الغيث؟ مع أن عدم العلم بنزول الغيث مستفاد من كون الذي ينزل الغيث هو الله وحده، فإذا كان الذي ينزل الغيث هو الله وحده لزم من ذلك أنه لا يعلم أحد نزول الغيث إلا من ينزله؟.
لكن الحكمة -والله أعلم- أن الذي ينفع الناس ويستفيد الناس منه ويلمسونه بأيديهم هو الغيث وهو الذي يكون مفتاحا لحياة الأرض.
إذن لا يعلم متى ينزل المطر إلا الله، لأن الذي ينزل المطر والغيث هو الله.
لكن يرد علينا أننا نسمع في الإذاعات، يقولون: سينزل غدا مطر في جهات معينة، فهل هذا ينافي أن علم نزول الغيث خاص بالله؟.
(5/271)
فالجواب: أن هذا يشكل على كثير من الناس، فيظن أن هذه التوقعات -التي تذاع في الإذاعات- يظن أنها تعارض قول الله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} والحقيقة أنها لا تعارض ذلك، لأن علمهم بهذا علم مستند إلى محسوس لا إلى غيب، وهذا المحسوس هو أن الله عز وجل حكيم، كل شيء يقع له سبب، فالأشياء مربوطة بأسبابها، فقد تكون الأسباب معلومة لكل أحد، وقد تكون معلومة لبعض الناس، وقد تكون غير معلومة لأحد، فإننا لا نعلم سبب كل شيء وحكمة كل شيء، المطر إذا أراد الله عز وجل إنزاله، فإن الجو يتغير تغيرا خاصا، يتكون معه السحاب، ثم نزول المطر، كما أن الحامل عندما يريد الله عز وجل أن يخرج منها الولد فإن الجنين ينشأ في بطنها شيئا فشيئا حتى يصل إلى الغاية، فهؤلاء عندهم مراصد دقيقة، تلامس الجو، ويعرف بها تكيف الجو، فيقولون إنه سيكون مطر، ولهذا نجدهم لا يتجاوز علمهم أكثر من ثمان وأربعين ساعة هذا أكثر ما سمعت، وإن كان قد قيل: إنهم وصلوا إلى أن يعلموا مدى ثلاثة أيام، على كل حال فعلمهم محدود، لأنه مبني على أسباب حسية لا تدرك إلا بواسطة هذه الآلات، ونحن مثلا بحسنا القاصر إذا رأينا السماء ملبدة بالغيوم، ورأينا هذا السحاب يرعد ويبرق، فإننا نتوقع أن يكون ذلك مطرا، هم كذلك يتوقعون إذا رأوا في الجو تكيفا معينا يصلح معه أن يكون المطر وحينئذ لا معارضة بين الآية وبين الواقع، على أنهم أيضا يتوقعون توقعا فربما يخطئون وربما يصيبون.
(5/272)
ثالثا: ويعلم ما في الأرحام: أولا: قوله تعالى: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} ما اسم موصول يفيد العموم، وتعلق العلم بهذا العام هو تعلق عام أيضا، فعلم ما في الأرحام لا يقتصر على علم كونه ذكرا أو أنثى، واحدا أم متعددا، بل علم ما في الأرحام أشمل من ذلك، فهو يشمل كونه ذكرا أو أنثى، يشمل كونه واحدا أو متعددا، يشمل يخرج حيًّا أو يخرج ميتا، يشمل أن هذا الجنين سيبقى مدة طويلة في الدنيا أو مدة قصيرة، يشمل أن هذا الجنين سيكون ذا مال كثير أو فقر مدقع، يشمل أن هذا الجنين سيكون عالما أو جاهلا، فكل ما يتعلق بهذا الجنين يدخل في قوله: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} فهو شامل عام خاص بالله تعالى.
ولكن يشكل على هذا أنه في عصرنا الحاضر توصل الطب إلى أن يعلم أن ما في بطن هذه الأنثى ذكر أو أنثى، فهل يبقى معارضة في الآية؟ فالجواب: أنه ليس هناك معارضة للآية؛ لأنهم لا يعلمون أنه ذكر أو أنثى إلا بعد أن يكون ذكرا أو أنثى، أما قبل ذلك فلا يستطيعون العلم بأنه ذكر أو أنثى، وإذا كان ذكرا أو أنثى وخُلق ذكرا أو خلق أنثى فإنه يكون من عالم الغيب عند أكثر الناس، ويكون من عالم الشهادة عند من يحصل له العلم بذلك، فالملك مثلا يرسله الله تعالى إلى الرحم، ويعلمه الله عز وجل أنه ذكر أو أنثى، يقول: يا رب ذكر أو أنثى؟ فيأمره الله - تعالى- بما أراد، فصار هذا علم شهادة بالنسبة للملك، وقبل أن يكون
(5/273)
ذكرا أو أنثى فهو علم غيب حتى بالنسبة للملائكة.
إذن كونه يكون علم شهادة بواسطة تقدم الطب لا يعارض الآية الكريمة.
وبهذه المناسبة أود أن أقول لكم: كل ما جاء به القرآن، وصحت به السنة، فإنه لا يمكن أن يعارض الواقع.
رابعا: وما تدري نفس ماذا تكسب غدا؟
وانظر إلى التعبير بقوله: {مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} فإن الإنسان قد يدري ماذا سيعمل غدا، ولكنه لا يدري هل سيكسب ذلك العمل أم لا. فلو أن شخصا عنده عمل في المكتب، ومرتب شؤونه، وقال: غدا أول شيء أعمله كذا وكذا، فإنه يكون قد علم ماذا يعمل غدا، ولكنه لا يعلم هل سيكسب ذلك العمل ويحصل له أم لا، ولهذا قال سبحانه: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا}
فأنت قد تخطط لعمل مستقبل كغد مثلا، لكن لا تكسبه، فقد يحول بينك وبينه مانع من موت، أو مرض، أو شغل آخر ترى أنه أقدم منه أو ما أشبه ذلك.
خامسا: وما تدري نفس بأي أرض تموت:
وصدق الله فلا أحد يستطيع أن يحكم بأنه سيموت في الأرض الفلانية، فقد يقول الإنسان: أنا لن أخرج من بلدي، فسأموت في بلدي، لكن هذا قد لا يتم، فأحيانا يكون الإنسان في بلده لا يخرج أبدا منها فيمرض، وتحدثه نفسه وتحدوه همته وعزيمته إلى أن يسافر للعلاج، فإذا وصل إلى البلد الذي
(5/274)
قرر أن يتعالج فيه مات فور وصوله، وهذا موجود ويحدث، إذن فهو لا يعلم بأي أرض يموت، ومن باب أولى أيضا فإنه لا يعلم في أي وقت يموت؛ لأن الإنسان يتصرف في مكانه، فربما يقول قائل: إذا أحسَّ بالموت ورأى أنه لا شفاء له مثلا قال: أذهب إلى الأرض الفلانية وأموت فيها، فإذا كان لا يعلم هذا فما بالك بالزمن الذي لا يمكن تحديده أبدا؟! فالذي لا يعلم المكان لا يعلم الزمان من باب أولى.
ولقد جرت مسألتان إحداهما أدركتها أنا، والثانية حُدثت بها من ثقة.
أما الأولى: فإنه كان راكبان على دباب -دراجة نارية- يمران بشارع فرعي، وهناك سيارة تمر بالشارع العام، فلما رأى صاحب السيارة هذا الدباب وقف من أجل أن يعبر الدباب، والراكبان على الدباب لما رأيا السيارة وقفا لتعبر السيارة، فهذا تصرف سليم، لكن في خلال دقيقة أو دقيقتين تحركت السيارة وتحرك الدباب واصطدما، فمات أحد الراكبين، فبماذا نفسر هذه الواقعة؟
نفسرها بأن هذا الرجل الذي مات بقي له من عمره دقيقتان أو دقيقة، لو شاء الله عز وجل لعبر كل من السيارة والدباب بسلام، أو لعبرا من أول ما التقيا بسرعة وحصل الحادث، لكن حصل التوقف لمدة دقيقة أو دقيقتين من أجل أن يستكمل الأجل لهذا الذي مات، وهذه من آيات الله عز وجل قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها» .
أما المسألة الثانية: فقد حدثني بها من أثق به، فقد كان الناس في السابق يأتون مكة عن طريق البر على الجمال، وكان الناس في ذلك الوقت ينزلون جميعا ويسيرون جميعا؛ لأن البلاد غير آمنة تماما، يقول: فخرج
(5/275)
الحجاج إلى مكة، وكانوا يمشون في الريعان -أي الجبال والأودية- على حدود الحجاز من نجد، وكان أحد القوم معه أمه مريضة وهو يمرضها، فسار الناس من مكان نزولهم ليلا، وهو جالس يمرض أمه، ويمهد لها الفراش من أجل أن تنام على الراحلة مستقرة، ولما أكمل رحل المركب لأمه مشى، ولكنه أخطأ القوم؛ لأنهم تجاوزوا كثيرا، يقول: فدخل في طريق جادة صغيرة مع أحد الريعان، وصار يمشي وهو يظن أنه على إثرهم حتى ارتفعت الشمس، وخاف على نفسه من العطش، فتبدى -ظهر- له خباء بدو -أي خيمة صغيرة- فاتجه إليها ووصل إليهم، وقال: أين طريق الحجاج؟ قالوا له: طريق الحجاج وراءك، لكن انزل أنت والمرأة معك حتى تستريح وندلك، فنزل بأمه يقول: فما أن وضع أمه على الأرض حتى فاضت روحها، سبحان الله العظيم، فمن يقول: إن امرأة من القصيم تأتي إلى الحجاز إلى هذه الأماكن التي قد لا يحلم أن يصل إليها، حتى تموت في هذا المكان؟! {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} .
هذه مفاتح الغيب التي لا يعلمها إلا الله عز وجل. والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
(5/276)
التوسل
(5/277)
التوسل
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
التوسل في اللغة: مأخوذ من الوسيلة، والوسيلة والوصيلة والتوسل والتوصل معناهما متقارب؛ لأن السين والصاد دائما يتناوبان، يعني أحدهما يستعير المكان من الآخر، ولهذا يقرأ قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} ويقرأ: (اهدنا السراط..) بالسين، وكلتاهما قراءة سبعية، فيجوز أن تقرأ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} أو تقول: (اهدنا السراط المستقيم سراط الذين أنعمت عليهم) .
فالتوسل والتوصل معناهما متقارب جدًّا.
والوسيلة هي السبب الموصل إلى المقصود.
وهو على نوعين:
النوع الأول:
عبادة يراد بها التوصل إلى رضوان الله والجنة، ولهذا نقول: جميع العبادات وسيلة إلى النجاة من النار ودخول الجنة. قال الله تعالى:
(5/279)
{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} فإذا صمت رمضان فإنه يقال: هذا وسيلة إلى مغفرة الذنوب، وقمت رمضان وسيلة أيضا لمغفرة الذنوب، وقمت ليلة القدر وسيلة لمغفرة الذنوب، وكل هذا لا بد أن يكون إيمانا واحتسابا، إذن الأعمال الصالحة كلها وسيلة، والغرض من الأعمال الصالحة قوله تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} ولهذا كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستعيذ من النار فيقول: «أعوذ بالله من النار» . ويل لأهل النار.
أما النوع الثاني من الوسيلة: فهو ما يتخذ وسيلة لإجابة الدعاء وهو أقسام:
القسم الأول: التوسل إلى الله تعالى بأسمائه سواء كان بالأسماء على سبيل العموم أو باسم معين منها.
فمثال الأول التوسل بالأسماء على سبيل العموم ما ثبت في الحديث الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه في دعاء الهم والغم: «اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض فيَّ حكمك، عدل فيَّ قضاؤك، أسألك اللهم بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي» .
والشاهد من الحديث قوله: «بكل اسم هو لك» . ونقول نحن: اللهم إني أسألك بأسمائك الحسنى، ودليل هذا القسم قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}
(5/280)
أما الثاني وهو التوسل باسم خاص فمثل أن تقول: "يا غفور اغفر لي، يا رحيم ارحمني، اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني". وهذا توسل باسم لكنه خاص.
وفي هذا النوع يجب أن يكون الاسم مناسبا للدعاء، فإذا أردت أن تسأل الله الرزق تقول: يا رزاق، والمغفرة: يا غفور، والعفو: يا عفو، وهكذا.
لكن لو قلت: اللهم يا شديد العقاب اعف عني فهذا غير مناسب، فكيف تتوسل باسم يدل على العقوبة إلى عفو الله عز وجل؟ إنما تدعو الله تعالى بالأسماء المناسبة لما تدعو به.
القسم الثاني: التوسل إلى الله تعالى بصفاته سواء كان ذلك على سبيل العموم أو بصفة خاصة، ومن الصفات الأفعال، فإن الأفعال صفات، مثال ذلك أن تقول: "اللهم إني أسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا" وهذا التوسل صحيح، والتوسل بالصفات يكون كذلك عامًّا، ويكون خاصًّا، فمثال العام ما ذكرته آنفًا، ومثال الخاص: "أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر"، فهنا توسل بصفة من صفات الله عز وجل.
ومن التوسل بالأفعال: "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ".
فأنت تسأل الله الذي منَّ بصلاته على إبراهيم وعلى آل إبراهيم أن يمن بصلاته على محمد وعلى آل محمد، فالكاف في قولك: "كما صليت" ليست للتشبيه ولكنها للتعليل، والكاف تأتي للتعليل كما قال ابن مالك في الألفية:
شبه بكاف وبها التعليل قد ... يعنى وزائدا لتوكيد ورد
والشاهد من البيت قوله: "وبها التعليل قد يعنى" يعني قد يراد بها التعليل. "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم "،
(5/281)
يعني لأنك صليت على إبراهيم، فمنتك على عبدك وخليلك إبراهيم وآله، نتوسل بها إليك، أن تصلي على خليلك محمد وآله.
ومثال ذلك في القرآن على أن الكاف للتعليل قوله تعالى: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} واذكروه لأنه هداكم، وعلى كل حال المسألة معروفة، والكاف للتعليل.
وإذا قلنا: إن الكاف للتعليل في قوله: "كما صليت" سلمنا من شبهة مشهورة عند العلماء، وهذه الشبهة يقولون: إذا قلنا الكاف للتشبيه حصل إشكال؛ لأن معنى ذلك: أننا نطلب أن الله يصلي على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله صلاة دون صلاة إبراهيم وآله، بناء على أن المشبه أقل من المشبه به، فإذا قلت: فلان كالبحر في كرمه، فمقتضى ذلك أنه دون البحر، فإذا جعلنا الكاف في قوله: "كما صليت" للتشبيه معناه أننا نطلب من الله صلاة تكون في الواقع دون الصلاة على إبراهيم وآله.
فإذا قلنا: إن الكاف للتعليل فالمعنى أنك تسأل الله الذي مَنَّ بصلاته على إبراهيم وعلى آل إبراهيم أن يمن بصلاته على محمد وعلى آل محمد، وبذلك يزول الإشكال نهائيا.
ولا حاجة إلى ما ذكره بعض الناس وتكلف فيه من أهل العلم.
ومعنى "اللهم صل على محمد "، صلاة الله على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معناها: اللهم أثن عليه في الملأ الأعلى، واذكره بالجميل.
وليست صلاة الله على عبده بمعنى رحمته، وإن كان بعض العلماء قال: " إن الصلاة من الله الرحمة " لكنه قول مرجوح بالآية التي قال الله فيها: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} والعطف يقتضي التغاير.
(5/282)
القسم الثالث: التوسل إلى الله تعالى بالإيمان به، أي أن يتوسل الإنسان إلى الله تعالى بالإيمان به وبرسوله فيقول: اللهم بإيماني بك وبرسولك أسألك كذا وكذا. فيصح هذا، ودليله قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} إلى أن قال: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا} أي فبسبب إيماننا برسولك فاغفر لنا، فجعلوا الإيمان به وسيلة للمغفرة.
فالتوسل بالإيمان بالله، والإيمان برسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والتوسل بمحبة الله، ومحبة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جائز؛ لأن الإيمان بالله سبب موصل للمغفرة، ومحبة الله ورسوله سبب موصل للمغفرة، فصح أن يتوسل إلى الله تعالى به.
القسم الرابع: التوسل إلى الله تعالى بحال الداعي، أي أن يتوسل الداعي إلى الله بحاله ولا يذكر شيئا مثل أن يقول: "اللهم إني أنا الفقير إليك، اللهم إني أنا الأسير بين يديك" وما أشبه ذلك، والدليل على ذلك قول موسى عليه الصلاة والسلام حين سقى للمرأتين ثم تولى إلى الظل فقال: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} ولم يذكر شيئا.
ووجه هذه الآية أن حال الداعي إذا وصفها الإنسان فإنها تقتضي الرحمة واللطف والإحسان، لا سيما إذا كانت بين يدي أرحم الراحمين جل وعلا.
أرأيت لو أن رجلا مشى معك وقال: أنا فقير أبو عائلة لا أستطيع التكسب غريب الدار، فيسأل ويتوسل إليك بحاله، فأنت إذن تعرف الأمر وتعطيه إذا كنت كريما.
(5/283)
والقسم الخامس: التوسل بدعاء من ترجى إجابة دعائه، ودليل ذلك ما ثبت في صحيح مسلم «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان يخطب الناس يوم الجمعة، فدخل رجل فاستقبل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال: يا رسول الله هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يغيثنا، فرفع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يديه ثم قال: "اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا" ثلاث مرات. قال أنس بن مالك: "والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة" والقزعة هي القطعة الصغيرة من الغيم، وما بيننا وما بين سلع من بيت ولا دار وسلع جبل بالمدينة تأتي من نحوه السحب قال: فخرجت من ورائه سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت، فما نزل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من منبره إلا والمطر يتحادر من لحيته» .
وفي هذا آيتان: آية من آيات الله، وآية من آيات رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أما من آيات الله فالقدرة العظيمة بهذه السرعة نشأ السحاب ورعد وبرق وأمطر، فما إن نزل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من منبره إلا والمطر يتحادر من لحيته، والمعروف أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان لا يطيل الخطبة، وهذا أتى في أثناء الخطبة.
وأما كونه آية من آيات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن الله أجاب دعاءه بهذه السرعة، وآيات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جلب الماء من السماء أو من الأرض معلومة، فبقي المطر ينزل أسبوعا كاملا حتى سال الوادي المعروف بالمدينة باسم قناة، سال شهرا كاملا، «فجاء الرجل أو رجل آخر من الجمعة الثانية والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطب فقال: يا رسول الله، تهدم البناء وغرق المال، فادع الله يمسكها، فرفع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يديه وقال: "اللهم حوالينا ولا علينا"، وجعل يشير بيده، فما يشير إلى ناحية إلا انفرجت، ليس بقدرة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن بقدرة الله عز وجل، "اللهم حوالينا ولا علينا" فجعل السحاب يتفرق، يمطر حول المدينة، ولا يمطر في المدينة، فخرجوا من الصلاة وهم يمشون في الشمس» .
(5/284)
فالرجل قال: "ادع الله يمسكها" والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لم يسأل الله أن يمسكها؛ لأن إمساكها ليس من المصلحة، لكنه دعا بدعاء تحصل به المصلحة وتزول المفسدة، قال: «اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام وبطون الأودية ومنابت الشجر» . وفي هاتين القصتين كان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يرفع يديه وهو يخطب.
وفي الأول عندما سأل الله الغيث رفع الصحابة أيديهم معه وهم يستمعون الخطبة، فيستفاد من هذا أن الخطيب إذا دعا بالغيث أو دعا بالصحو أنه يرفع يديه وأن الناس يرفعون أيديهم معه إذا دعا بالغيث، وفيما عدا ذلك إذا دعا الخطيب في خطبة الجمعة لا يرفع يديه ولا يرفع الناس؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم أنكروا على بشر بن مروان حين خطب ودعا في الخطبة ورفع يديه، فرفع اليدين في الدعاء في حال الخطبة ليس من هدي الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إلا إذا دعا باستسقاء أو استصحاء.
«كذلك كانوا في غزوة الحديبية، ونفد الماء الذي معهم فجاء الناس إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقالوا: يا رسول الله نفد الماء، وكان بين يديه ركوة -إناء من جلد- فوضع يديه في الماء فجعل الماء يفور أمثال العيون حتى استفى الناس ورووا» . والله على كل شيء قدير.
وهذه الآية تأييد للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد تكون الآية التي يرسلها الله عز وجل تكذيبا لمن أرسلت إليه:
يقال: إن مسيلمة الكذاب ادعى النبوة، فجاء إليه قوم فدعوه بالوصف الكاذب، وهو "يا رسول الله" وهو من أكذب عباد الله، قالوا: إن بئرا لنا نزحت وليس فيها إلا ماء قليل تأتي إليها لعل الله يأتي فيها البركة، فجاء إلى البئر وأخذ ماء بفمه ومجه فيها ينتظر أن يخرج الماء إلى أعلى، ولكن الماء الذي فيها غار بالكلية، فالماء الذي كان موجودا ذهب، فهذه آية من آيات الله، ولكنها آية لتكذيب هذا الرجل وليست لتأييده وتصديقه.
(5/285)
ولكن ينبغي أن تلاحظ أنك إذا طلبت من شخص أن يدعو لك وهو ممن ترجى إجابته أن يكون غرضك بذلك مصلحته هو لا مصلحتك أنت.
فإذا سألت إنسانا مرجو الإجابة بالدعاء أن تقصد بطلبك منه أن يدعو لك لمصلحته هو لا مصلحتك أنت فكيف يكون مصلحته؟ لأن الإنسان إذا دعا لأخيه بظهر الغيب قال له الملك: آمين ولك مثله، فإذا دعا لك أخوك الذي طلبت منه أن يدعو لك بظهر الغيب قال الملك: آمين ولك بمثله.
أما إذا طلبت منه أن يدعو لك وأنت لا تريد إلا مصلحتك فقط، فإن هذا يخشى أن يكون من المسألة المذمومة، لأن من جملة ما بايع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه عليه أن لا يسألوا الناس شيئا.
وهذه مسألة ينبغي أن يتنبه لها حتى لا نقع في ذل المسألة.
القسم السادس: التوسل إلى الله بالعمل الصالح. وهو أن يذكر الإنسان بين يدي دعائه عملا صالحا يكون سببا في حصول المطلوب، ومثاله قصة الثلاثة الذين حدث عنهم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، «ثلاثة من بني إسرائيل آواهم المبيت إلى غار، فدخلوا الغار فأراد الله عز وجل بحكمته أن تنطبق عليهم صخرة ابتلاء وامتحانا وعبرة لعباده انطبقت عليهم الصخرة فأرادوا أن يدفعوها فعجزوا فقال بعضهم لبعض: إنه لا يخرجكم من ذلك إلا أن تتوسلوا إلى الله تعالى بصالح أعمالكم، فتوسلوا إلى الله بصالح أعمالهم فقال أحدهم: اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا، فأتي بي طلب الشجر يوما فرحت عليهما فوجدتهما نائمين وكرهت أن أغبق أحدا قبلهما، فبقي الإناء على يدي حتى برق الفجر، ثم استيقظا فسقيتهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فاصرف عنا ما نحن فيه، أو فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت»
(5/286)
«الصخرة قليلا لكنهم لا يستطيعون الخروج.
أما الثاني: "فذكر أن له ابنة عم وكان يحبها حبا شديدا فأرادها على نفسها فأبت، ثم إنه في سنة من السنوات ألمت بها الحاجة فجاءت إليه تطلب دفع حاجتها فأعادها إلا أن تمكنه من نفسها -هي للضرورة مكنته من نفسها- فلما جلس منها مجلس الرجل من امرأته قالت له: يا هذا اتق الله، ولا تفض الخاتم إلا بحقه -فهذه كلمة عظيمة مؤثرة- قال: فقمت عنها وهي أحب الناس إلي -يعني ما تركتها رغبة لأني لا أريدها لكنه تركها خوفا من الله عز وجل حين ذكر به- وأعطاها حاجتها" فجمع هذا الرجل بين كمال العفة والصلة، قال: "اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة إلا أنهم لا يستطيعون الخروج".
أما الثالث: فذكر أن له أجراء -يعني أناسا استأجرهم- وأعطى كل واحد منهم أجره، إلا واحدا لم يعطه أجره، فنماه له، وصار فيه إبل وغنم وبقر ورقيق حتى جاء العامل يطلب أجره فقال له: كل ما ترى من الإبل والغنم والرقيق كله لك، فقال له الأجير: اتق الله، لا تستهزئ بي، فقال: لا أستهزئ بك هذه أجرتك، فأخذها الأجير وذهب بها كلها فهذه المعاملة والوفاء التام من هذا الرجل؛ لأنه من الممكن أنه إذا جاء يطلب أجره أن يعطيه أجره وينتهي، لكن لأمانته ووفائه أعطاه كل ما نماه أجره، قال: اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة وخرجوا يمشون» .
فلو قال قائل: اللهم إني أسألك ببر والدي أن توفقني لبر أولادي بي، فهذا توسل صحيح، وهو توسل بالعمل الصالح.
أما القسم الذي لا يجوز أن تتوسل إلى الله تعالى به فهو ما ليس بوسيلة في الواقع مثل أن تتوسل بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذاته، أو أن تتوسل بجاه
(5/287)
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن ذلك لا ينفعك أنت، فجاه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومنزلته عند الله ينتفع بها الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نفسه، أما أنت فليس لك فيها منفعة وكذلك ذاته من باب أولى.
ويدل على أن التوسل بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الآن ليس بصحيح «أن الصحابة قحطوا في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فخرج يستسقي بهم فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا -والصحابة يتوسلون بنبيهم بدعائه- وإنا نستشفع إليك بعم نبينا فاسقنا. فيقوم العباس بن عبد المطلب ويدعو الله تعالى بالسقيا فيسقون» . وهذا دليل على معنى التوسل بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الوارد عن الصحابة أن معناه أنهم يتوسلون بدعائه لا بذاته.
أما توسل المشركين بأصنامهم وأوثانهم وتوسل الجاهلين بأوليائهم فهو توسل شركي، لا نقول: توسل بدعي بل هو توسل شركي، ولا يصح أن نسميه توسلا بل هو شرك محض.
لأن هؤلاء المتوسلين يدعون من يزعمون أنهم وسيلة، يأتي الرجل إلى من يزعمه وليا ويقول: يا ولي الله أنقذني -بهذا اللفظ- يا آل البيت أنقذوني، يا نبي الله أنقذني، فهذا لا يصح أن نسميه وسيلة ولكن نسميه شركا؛ لأن دعاء غير الله شرك في الدين وسفه في العقل، شرك في الدين لأنهم اتخذوا شريكا مع الله، وسفه في العقل لأن الله يقول: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ}
ويوم القيامة لا ينفعونهم {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} فوصف الله هذه المدعوات بأنها عاجزة لا يستجيبون
(5/288)
أبدا لو دعوهم إلى يوم القيامة، وبأنها غافلة لا تدري من يدعوها ولا تحس بشيء من ذلك، وبأنه إذا كان يوم القيامة وهو وقت الحاجة الحقيقية إذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين، كدعاء الأولياء والأصنام وما أشبهها.
فلا يصح أن نقول: إنها وسيلة بل هو شرك أكبر مخرج عن الدين: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} فسمى الله هذا الداعي كافرا.
فإن قال قائل: إن هؤلاء ربما يدعون هذه الأصنام أو هؤلاء الأولياء ويحصل مطلوبهم، ثم يأتون ويقولون: دعونا الولي الفلاني فأجاب، دعونا هذا الصنم فأجاب، فما موقفنا من ذلك؟
فالجواب: موقفنا من ذلك أن الله تعالى قد يحدث هذا الشيء عند الدعاء لا بالدعاء امتحانا للداعي، فقد يأتي الإنسان ويدعو هذا الولي صاحب القبر بدعاء ثم يحدث له ما دعا به امتحانا من الله عز وجل، لا لأن هذا الولي هو الذي أعطاه إياه، لأننا نعلم علم اليقين أن هذا الولي لن ينفعه ولن يستجيب له، لكن قد يبتلى والابتلاء بتسهيل المعصية وارد في الأمم السابقة، وفي هذه الأمة، ففي الأمم السابقة قال الله تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} فحرم الله عليهم أن يصطادوا السمك يوم السبت، فبقوا على ذلك مدة من الزمن، فابتلاهم الله فصارت الحيتان يوم السبت تأتي شرعا على وجه الماء من كثرتها وغير يوم السبت لا يشاهدونها، واليهود أهل مكر وكيد وخيانة، وأهل طمع وشح، قالوا: كيف لا تأتينا كل يوم عدا
(5/289)
يوم السبت ونحن ممنوعون من اصطيادها فماذا نصنع، أنحرم منها؟ بل ندبر حيلة نعمل شبكة وننصبها يوم الجمعة، فإذا جاء السمك يوم السبت دخلت في الشبكة وإذا دخل لا يستطيع الخروج، فإذا كان يوم الأحد نأتي إلى الشبكة ونأخذ السمك الذي فيها.
فهذه حيلة فيقولون: نحن ما نصطاد يوم السبت، فالشبك نصبناه يوم الجمعة والحيتان جاءت يوم السبت، ونحن أخذنا الحيتان يوم الأحد، ولقد عاقبهم الله على ذلك فقال: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} فأمرهم الله أن يكونوا قردة، وهذا أمر كوني، فكانوا قردة وإنما أراد الله عز وجل أن يكونوا قردة؛ لأن القردة أشبه ما يكون بالإنسان فلما كان القرد أشبه ما يكون بالإنسان، وكان فعل هؤلاء شبيها بالمباح، لأن ظاهره الإباحة وباطنه التحريم، قال الله تعالى: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} ولكن القردة الموجودة الآن غير القردة التي قلبت إليها هؤلاء الطائفة من اليهود؛ لأن القردة الذين مسخ بنو إسرائيل إليهم، ذهبوا وفنوا بالكلية، فهذه القردة جنس من الحيوان. وهذا ابتلاء من الله عز وجل أن الحيتان تأتي يوم السبت كثيرة وتنقطع في غير يوم السبت، ولكن لم يصبر بنو إسرائيل على ذلك فاحتالوا على محارم الله.
وفي هذه الأمة ابتلى الله عز وجل أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ببلوى، إذا أحرم الإنسان بحج أو عمرة حرم عليه الصيد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} فأراد الله عز وجل أن يبتلي أصحاب الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأرسل الله إليهم صيدا تناله أيديهم ورماحهم، فالصيد الذي يجري على رجله صاروا يمسكونه بأيديهم، مثل الأرانب والظباء، وصيد الطائر
(5/290)
الذي لا ينال إلا بالسهام ينالونه برماحهم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} والحكمة: {لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} فهل الصحابة وهم محرمون صاروا يمسكون هذا الصيد بأيديهم أو ينالونه برماحهم؟ أبدا ولا أحد من الصحابة صاد صيدا ولا حتى تحيل عليه.
وبهذا نعرف الفرق بين صلاحية هذه الأمة وبين بني إسرائيل على أنه وجد من خلف هذه الأمة من شابه اليهود في التحيل على محارم الله، فهناك من يتحيلون على الربا، وهناك من يتحيلون على النكاح، وهناك من يتحيلون على ظلم إخوانهم بأنواع الحيل، وكل من تحيل من هذه الأمة إلى الشيء المحرم بحيله فهو مشابه لأسخف عباد الله، وهم اليهود.
وهناك أناس الآن يقولون: إذا أعطيت الإنسان عشرة آلاف ريال نقدا بأحد عشر ألف ريال إلى أجل فهذا حرام، قال: إذا نحلل هذا الحرام، فأبيع عليه أكياسا من الهيل بأحد عشر ألفا وهي لا تساوي الآن إلا عشرة إلى سنة، ثم يشتريها هذا المدين ويبيعها على صاحب الدكان، برغم أن صاحب الدكان لا يشتريها منك بمثل ما اشتريتها أنت، فيبيعها لصاحب الدكان بتسعة آلاف وخمسمائة فقط، فيكوى هذا المدين من الجانبين، فيكوى من جهة الذي باع عليه، ومن جهة صاحب الدكان، ثم يأخذ المدين الدراهم ويخرج بها وهذا لا يعد بيعا؛ لأن الذي اشتراه هو الدائن، ما يقلبه ولا ينظر ما فيه.
وأظن أن صاحب الدكان لو أتى بأكياس من القش ولفها وقال: هذا الذي فيها هيل، أو أتى بأكياس من الرمل، وقال: إن الذي فيها سكر وباعها على الدائن، وباعها الدائن على المدين، لأنه ما نظر فيها الدائن ولا يقلبها، والمدين كذلك لا يقلبها ولا ينظر فيها فترجع إلى صاحب
(5/291)
الدكان، فهذا لا يعد بيعا صحيحا.
ولكن هذا العمل جامع بين مفسدتين: مفسدة الربا ومفسدة الخداع لله عز وجل وللمؤمنين {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}
فهذه الحيلة والعياذ بالله يسميها بعض العلماء الحيلة الربوية الثلاثية، وفيها مفاسد عظيمة.
وأما بيع السيارات ممن كانت عنده لشخص يريد السيارة نفسها بثمن مؤجل، لكنه أكثر من الثمن الحاضر فهذا لا بأس به وهو جائز بالإجماع كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية، مثال ذلك: أنا أحتاج إلى سيارة وأتيت إلى شخص صاحب معرض يبيع السيارات على عشرين ألفا، فقلت له: أنا ليس عندي دراهم الآن، بع علي سيارة بخمسة وعشرين ألفا كل شهر خمسمائة ريال، وقال صاحب الدكان: لا بأس. فهذا جائز، حتى لو خيره صاحب المعرض وقال: هذه السيارة إما بعشرين نقدا، وإما بخمسة وعشرين مؤجلة، فقال: آخذها بخمسة وعشرين مؤجلة، فإن هذا ليس به بأس، وليس هذا بيع دراهم بدراهم؛ لأن الذي اشترى السيارة لم تثبت عليه الدراهم مرتين، فالأصل وقع على سلعة بدراهم، وليس دراهم بدراهم.
بهذا انتهى ما أردنا الكلام عليه حول التوسل والحمد لله رب العالمين.
(5/292)
آيات الأنبياء وأثرها في المجتمع
(5/293)
آيات الأنبياء وأثرها في المجتمع
[تمهيد]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فيسرني أن أتقدم إليكم أيها الحاضرون الكرام بمحاضرة عنوانها (آيات الأنبياء وأثرها في المجتمع) .
(5/295)
تمهيد
خلق الله تعالى آدم عليه الصلاة والسلام بيده من تراب، ثم سواه ونفخ فيه من روحه، وعلمه الأسماء كلها، وأسجد له ملائكته، وركب فيه العقل، وخلق له زوجته حواء، فبث منهما رجالا كثيرا ونساء، ومن هنا ابتدأ خلق البشر، وانتشروا في الأرض، وكانوا يتعبدون بما أوحاه الله إلى أبيهم من الوحي والتشريع المناسب في ذلك الوقت، ولم يكن هناك شيء يفتنهم عما كان يعبد به أبوهم ويقتدون به فيه، ولما طال الزمن، وتباعد النسل، وانتشر العمران في الأرض، وتنافس الناس في الدنيا حصل الاختلاف بينهم والانحراف عن طريقة أبيهم فبعث الله الرسل، وكان أول رسول إلى أهل الأرض نوحا عليه الصلاة والسلام. قال الله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} -أي على دين واحد فاختلفوا- {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان بين نوح وآدم عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق واختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين.
(5/297)
حكمة إرسال الرسل
لما كان العقل البشري لا يتمكن من عبادة الله تعالى على الوجه الذي يرضاه ويحبه، وكذلك لا يستطيع التنظيم والتشريع المناسب للأمة على اختلاف طبقاتها إذ لا يحيط بذلك إلا الله وحده، كان من حكمة الله ورحمته أن أرسل الرسل، وأنزل الكتب لإصلاح الخلق، وإقامة الحجة عليهم قال الله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} فحكمة إرسال الرسل تتلخص في:
الأول: إقامة الحجة على الخلق حتى لا يحتج أحد على الله فيقول: {لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} لقد قطع الله هذه الحجة من أساسها بإرسال الرسل وتأييدهم بالآيات البينات الدالة على صدقهم، وصحة نبوتهم، وسلامة طريقتهم.
الثاني: توجيه الناس وإرشادهم لما فيه الخير والصلاح لهم في دينهم ودنياهم، فإن الناس مهما أوتوا من الفهم، والعقل، والذكاء لا يمكنهم أن تستقل عقولهم بالتنظيم العام المصلح للأمة بأكملها كأمة متماسكة متكافئة متساوية في إعطاء ذي الحق حقه. قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مثلي كمثل رجل استوقد نارا فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش -وهي الدواب التي تقع في النار- يقعن فيها وجعل يحجزهن ويغلبنه فيها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنت تقتحمون فيها» . رواه البخاري، فالرسل يذودون الناس عما يضرهم ويدعونهم إلى ما ينفعهم.
الثالث: جمع الأمة على دين واحد ورجل واحد، فإن انقياد الناس لما
(5/299)
يشاهدونه من الآيات المؤيدة للأنبياء أسرع وأقوى وأشد تماسكا فإنهم يجتمعون عليه عن عقيدة راسخة وإيمان ثابت فيحصل الصلاح والإصلاح.
تأييد الرسل بالآيات وكونها من جنس ما شاع في عصرهم.
لو جاءنا رجل من بيننا وقال: إنه نبي يوحى إليه، وإن طاعته فرض، وإن من عصاه فله النار، ومن أطاعه فله الجنة، ثم نظم قوانين، وسن سننا وقال: امشوا على هذه النظم وإلا فلكم النار ما كان أحد ليقبل منه مهما بلغ في الصدق والأمانة حتى يأتي ببرهان يدل على صدقه، فلو رد أحد دعوة هذا المدعي الذي لم يأت ببرهان على صدقه ما كان ملوما، فالقضية التي تسلم بها العقول: أن المدعي عليه البينة، وإلا فلا يجب قبول ما ادعاه.
وإتماما لإقامة الحجة بالرسل على الخلق أيد الله رسله بالآيات المبينات الدالة على صدقهم، وأنهم رسل الله حقا، فاصطفى للرسالة من الناس من يعلم أنه أهل للرسالة، وكفؤ لها، ويستطيع القيام بأعبائها والصبر على مكايد أعدائها {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} فاصطفى الرجال الكمل الأقوياء أهل الحضارة واللين والفهم {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} أي: أهل المدن، فإن القرية هي المدينة كما سمى الله مكة قرية {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ}
(5/300)
وسماها أم القرى {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} .
وما بعث الله رسولا إلا أيده بالآيات الدالة على صدق رسالته وصحة دعواه. قال الله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} أي: بالآيات البينات الواضحات، التي لا تدع مجالا للشك في صدق ما جاء به الرسول المرسل. قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما من نبي من الأنبياء إلا قد أعطي من الآيات ما آمن على مثله البشر» . رواه البخاري ومسلم.
وهذا من حكمة الله العليا، ورحمته بعباده أن أيد الرسل بالآيات لئلا يبقى أمرهم مشكلا، فيقع الناس في الحيرة والشك، ولا يطمئنون إلى ما جاؤوا به.
وهذه الآيات التي جاءت بها الرسل لا بد أن تكون خارجة عن طوق البشر، إذ لو كانت في استطاعتهم ما صح أن تكون آية لإمكان البشر أن يدعي الرسالة ويأتي بها إذا كانت تحت قدرته، ولكن آيات الرسل لا يمكن للبشر أن يأتوا بمثلها، وقد جاءت كبريات الآيات من جنس ما برز به أهل العصر الذي بعث فيه ذلك الرسول كما قرر ذلك أهل العلم واستشهدوا على ذلك بآيات موسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، فإن عهد موسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ترقى فيه السحر، حتى بلغ السحرة الغاية في المهارة، والحذق فكان من أكبر الآيات التي جاء بها موسى ما يربو على فعل السحرة وهو يشبه في ظاهره السحر، وإن كان يختلف اختلافا كبيرا؛ لأن ما جاء به موسى حقيقة ما يراه الناظر بخلاف السحر فإنه يخيل للناظر وليست حقيقته كما يراه، فكان من الآيات التي جاء بها موسى عصاه التي يلقيها فتكون حية -ثعبانا- ويأخذها فتعود في يده عصاه الأولى، وقد ألقاها عند
(5/301)
فرعون حين دعاه إلى الإيمان بالله، وكذلك كان موسى يدخل يده في جيبه فتخرج بيضاء من غير سوء، أي: من غير عيب وبرص، وقد أخرجها كذلك عند فرعون حين دعاه إلى الإيمان بالله، فلما رأى فرعون هاتين الآيتين كابر وقال للملأ حوله: {إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} وقد ألقى موسى عصاه كذلك عندما ألقى السحرة حبالهم وعصيهم في المجتمع العظيم الذي قرره موسى حين طلب فرعون أن يجعل بينه وبينه موعدا ليغالبه في سحره كما زعم، فلما اجتمع العالم والسحرة وألقوا حبالهم وعصيهم، وقالوا: بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون فجاؤوا بسحر عظيم، حتى كانت تلك الحبال والعصي يخيل إلى رائيها أنها تسعى، فألقى موسى عصاه بأمر الله تعالى فإذا هي تلقف ما يأفكون فتلتهم هذه الحبال والعصي عن آخرها، فعلم السحرة وهم أهل السحر وأعلم الناس به أن ما جاء به موسى ليس بسحر، وإنما هو من الأمور التي لا يمكن للبشر معارضتها، فألقي السحرة ساجدين قالوا: آمنا برب العالمين رب موسى وهارون.
وكذلك كان لهذه العصا مجال آخر حينما كان موسى يستسقي لقومه فيضرب بها الحجر فيتفجر منه اثنتا عشرة عينا بقدر قبائل بني إسرائيل.
وكان لها مجال آخر أيضا حينما وصل موسى وقومه إلى البحر وخلفهم فرعون بجنوده، فأوحى الله إليه أن اضرب بعصاك البحر، فضربه فانفلق اثني عشر طريقا فسلكه موسى وقومه فنجوا.
وفي زمن عيسى عليه الصلاة والسلام كان علم الطب مترقيا إلى حد كبير، فجاءت آياته بشكل ما كان مترقيا في عهده من الطب، إلا أنه أتى بأمر لا يستطيع الطب مثله، فكان يخلق من الطين صورة كهيئة الطير
(5/302)
فينفخ فيها فتكون طيرا يطير بإذن الله والناس يشاهدون ذلك، وكان أيضا يبرئ الأكمه وهو الذي خلق أعمى، ويبرئ الأبرص بإذن الله تعالى، وهذان المرضان من الأمراض التي لا يستطيع الأطباء في ذلك الوقت وإلى هذا الوقت فيما أعلم أن يبرئوهما، بل قال بعض العلماء: إنه إنما سمي المسيح لأنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برئ، وذكر في القرآن أن عيسى يحيي الموتى بإذن الله، وفي آية أخرى يخرج الموتى، وهذان عملان مختلفان: العمل الأول إحياء الموتى قبل دفنهم، والثاني إحياؤهم وإخراجهم من قبورهم بعد الدفن، ولا ريب أن هذه الآيات التي أعطيها عيسى عليه الصلاة والسلام يعجز عن مثلها البشر، فتأييده بها دليل وبرهان على أنه رسول من الله الخالق القادر عليها.
وقد يؤيد الله الرسل بآيات أخرى، ولكن أبرز الآيات وأعظمها يكون من جنس ما شاع في عصر الرسول، ولذا أيد الله رسوله محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بآيات كثيرة أبرزها وأعظمها هذا القرآن الكريم هو كلام رب العالمين، لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد؛ لأنه شاع في عصر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فن البلاغة والفصاحة، وصار البيان والفصاحة معترك الفخر والسيادة كما يعلم ذلك من تتبع التاريخ.
معجزات الأنبياء أو آيات الأنبياء
معجزات الأنبياء هي الآيات التي أعجزوا بها البشر أن يأتوا بمثلها والله تعالى يسميها آيات، وهي علامات دالة على صدق الرسل صلوات الله وسلامه عليهم فيما جاؤوا به من الرسالة.
والمعجزة في اصطلاح العلماء: أمر خارق للعادة؛ أي جار على خلاف العادة الكونية التي أجراها الله تعالى في الكون سالم عن المعارضة يظهره الله تعالى على يد الرسول تأييدا له.
(5/303)
مثال ذلك: انشقاق القمر، ونبع الماء من أصابع يد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغير ذلك مما سيمر بك.
فالأمر الجاري على وفق العادة لا يسمى معجزة، كما لو قال قائل: أريكم معجزة أن لا يمضي ساعة حتى تطلع الشمس، وكان ذلك قبل طلوع الشمس بأقل من ساعة، فإن الشمس إذا طلعت في زمن طلوعها لا يعد طلوعها معجزة لهذا القائل؛ لأن طلوعها في وقته على وفق العادة وليس خارقا للعادة.
وإذا كان الشيء الخارق للعادة غير سالم من المعارضة فلا يسمى معجزة، مثل الأمور التي تقع من السحرة والمشعوذين ونحوهم؛ لأن الأمور التي يأتون بها يمكن معارضتها بفعل ساحر أو مشعوذ آخر.
وإذا كان الشيء الخارق للعادة جاريا على يد ولي من الأولياء فلا يسمى معجزة، اصطلاحا، وإنما يسمى كرامة، ولكن هذه الكرامة الحاصلة للولي هي في الواقع معجزة للرسول الذي كان الولي متبعا له، إذ الكرامة دليل على صحة طريقة ذلك الولي.
فوائد آيات الأنبياء ومعجزاتهم
1 - بيان قدرة الله تعالى، فإن هذه الآيات لا بد أن تكون أمورا خارقة للعادة كشاهدة، دليل على صحة ما جاء به الرسل، وإذا كانت خارقة للعادة كانت دليلا على قدرة الخالق، وأنه قادر على تغيير مجرى العادة التي كان الناس يألفونها، ولذا تجد المرء يندهش عند هذه الآيات، ولا يمكنه إلا أن يصدق برسالة الرسول الذي جاء بها حيث جاء بما لا يقدر عليه أحد سوى الله عز وجل.
2 - بيان رحمة الله بعباده، فإن هذه الآيات التي يرونها مؤيدة للرسل تزيد إيمانهم وطمأنينتهم لصحة الرسالة، ومن ثم يزداد يقينهم وثوابهم ولا
(5/304)
يحصل لهم حيرة ولا شك ولا ارتباك.
3 - بيان حكمة الله البالغة حيث لم يرسل رسولا فيدعه هملا من غير أن يؤيده بما يدل على صدقه، وإن المرء لو أرسل شخصا بأمر مهم من غير أن يصحبه بدليل، أو أمارة على صحة إرساله إياه لعد ذلك سفها منه وموقفا سلبيا من هذا الرسول، فكيف برسالة عظيمة من أحكم الحاكمين؟ إنها لا بد أن تكون مؤيدة بالبراهين والآيات البينات.
4 - رحمة الله بالرسول الذي أرسله الخالق حيث ييسر قبول رسالته بما يجريه على يديه من الآيات ليتسنى إقناع الخلق بأمور لا يستطيعون معارضتها ولا يمكنهم ردها إلا جحودا وعنادا قال الله تعالى: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ} أي: لما يرون من الآيات الدالة على صدقك.
وقال تعالى عن فرعون وقومه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} 5 - إقامة الحجة على الخلق، فإن الرسول لو أتى بدون آية دالة على صدقه لكان للناس حجة في رد قوله وعدم الإيمان به، فإذا جاء بالآيات المقنعة الدالة على رسالته لم يكن للناس أي حجة في رد قوله.
6 - بيان أن هذا الكون خاضع لقدرة الله وتدبيره، ولو كان مدبرا لنفسه أو طبيعة تتفاعل مقوماتها وتتكون من ذلك نتائجها وآثارها لما تغيرت فجأة، واختلفت عادتها بمجرد دعوى شخص لتؤيده بما ادعاه، فانظر إلى الأكوان الفلكية التي لا تتغير بعوامل الزمن إلا بإرادة الله، ولقد أجراها الله تعالى كما قدر لها، تجري منذ خلقها الله حتى يأذن بانتهائها. وفي ليلة من الليالي «طلبت قريش من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آية»
(5/305)
«فأشار إلى القمر فانشق نصفين متباعدين يراهما الناس بأعينهم، حتى ادعت قريش جحودا وعنادا أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سحرهم، وسألوا القادمين إلى مكة عن ذلك فأخبروهم أنهم رأوا انشقاق القمر في تلك الليلة» . أفلا يدل هذا على أن هذا الكون العلوي منه والسفلي خاضع للرب الخالق العليم؟ وقد سبق آنفا ما ذكرناه من آيات موسى، وعيسى عليهما الصلاة والسلام من كون العصا حية وضرب البحر بها حتى انفلق والحجر حتى انفجر، وإحياء الموتى، وإخراجهم من قبورهم آية لعيسى، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
آيات النبي محمد، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه: (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح) قال: والآيات والبراهين الدالة على نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كثيرة، وهي أكثر وأعظم من آيات غيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ويسميها من يسميها من النظار (معجزات) ، وتسمى دلائل النبوة وأعلام النبوة ونحو ذلك، وهذه الألفاظ التي سميت بها آيات الأنبياء كانت أدل على المقصد من لفظ المعجزات، ولهذا لم يكن لفظ المعجزات موجودا في الكتاب والسنة، وإنما فيه لفظ الآية والبينة والبرهان. قال رحمه الله: والآيات نوعان: منها ما مضى وصار معلوما بالخبر، ومنها ما هو باق إلى اليوم كالقرآن، والإيمان والعلم اللذين في اتباعه، وكشريعته التي جاء بها وذكر أمثلة أخرى لذلك سنعرض إن شاء الله لشيء منها تفصيلا. فمن هذه الآيات:
1 - القرآن الكريم، وهو أعظم آيات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنه الآية السابقة الباقية، فمنذ أوحى الله إليه به حتى اليوم وهو آية شاهدة على نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(5/306)
فالقرآن كلام الله تعالى لفظا ومعنى، تكلم الله نفسه كلاما حقيقيا فأوحاه إلى جبريل، ثم نزل به جبريل على قلب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوعاه، وحفظه وتكفل الله له بحفظه حيث قال: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} وإذا كان الله قد تكفل ببيانه فمعناه أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيحفظه ويعيه حتى يبلغه الناس ويبينه لهم وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} والقرآن آية من آيات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدالة على صدقه من عدة أوجه:
الأول: عجز الخلق كلهم أن يأتوا مجتمعين أو منفردين بمثل هذا القرآن قال الله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} يعني لا يمكن أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم معينا لبعض، وذلك لأن القرآن كلام الله ولا يمكن أن يشبهه شيء من كلام المخلوقين، لا من حيث اللفظ، ولا من حيث المعنى، ولا من حيث التأثير، ولا من حيث الثمرة والآثار الحميدة.
الثاني: من حيث اللفظ في قوته، ورصانته، وتركيبه، وأسلوبه، ونظمه، وبيانه، ووضوحه، وشموله للمعاني العديدة الواسعة التي لا تزال تظهر عند التأمل والتفكير، حتى كأنك لتسمع الآية التي ما تزال تقرؤها فينقدح لك منها معنى جديد، كأنك لم تسمع الآية من قبل وكأن الآية نزلت لتوها من أجله. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: نفس نظم القرآن وأسلوبه عجيب بديع، ليس من جنس أساليب الكلام المعروفة، ولم يأت أحد بنظير هذا الأسلوب، فإنه ليس من جنس الشعر، ولا الرجز، ولا
(5/307)
الرسائل، ولا الخطابة، ولا نظمه نظم شيء من كلام الناس عربهم وعجمهم، ونفس فصاحة القرآن وبلاغته، هذا عجيب خارق للعادة ليس له نظير في كلام جميع الخلق. وقال الشيخ محمد رشيد رضا في كتابه (الوحي المحمدي) تحت عنوان: الفصل الرابع: إن القرآن لو أنزل بأساليب الكتب المألوفة المعهودة وترتيبها لفقد أعظم مزايا هدايته المقصودة بالقصد الأول. وأقول أيضا: إنه لو أنزل هكذا لفقد بهذا الترتيب أخص مراتب إعجازه المقصود بالدرجة الثانية. وقال: لو كان القرآن مرتبا مبوبا كما ذكر لكان خاليا من أعظم مزاياه شكلا وموضوعا، يعلم هذا وذاك مما نبينه من فوائد نظمه وأسلوبه الذي أنزله به رب العالمين، العليم، الحكيم، الرحيم، وهو مزج تلك المقاصد كلها بعضها ببعض، وتفريقها في سوره الكثيرة الطويلة منها، والقصيرة بالمناسبات المختلفة وتكرارها بالعبارات البليغة المؤثرة في القلوب المحركة للشعور المنافية للسآمة والملل إلى أن قال: والقابلة لأنواع أخرى من الإلقاء الخطابي في الترغيب والترهيب، والتعجيب، والتعيب، والتكريه، والتحبيب، والزجر، والتأنيب، واستفهام الإنكار، والتقرير، والتهكم، والتوبيخ، بما لا نظير له في كلام البشر من خطابة ولا شعر ولا رجز ولا سجع، فبهذا الأسلوب الرفيع في النظم البديع وبلاغة التعبير الرفيع كان القرآن كما ورد في معنى وصفه لا تبلى جدته ولا تخلقه كثرة الترديد. اهـ كلامه.
الوجه الثالث: من إعجاز القرآن من حيث أهدافه العالية وآدابه الكاملة وتشريعاته المصلحة، فقد جاء بإصلاح العقيدة من الإيمان بالله، وبما له من الأسماء والصفات والأفعال، والإيمان بجميع ملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وما يتعلق بذلك، وجاء بإخلاص العبادة لله، وتحرير الفكر، والعقل، والشعور من عبادة غير الله
(5/308)
والتعلق به خوفا، ورجاءً، ومحبة، وتعظيما، وجاء بالآداب الكاملة التي يشهد بكمالها وصلاحها وإصلاحها كل عقل سليم أمر بالبر والصلة، والصدق، والعدل، والرحمة، والإحسان، ونهى عن كل ما يخالف ويناقض من الظلم، والبغي، والعدوان.
أما تشريعاته فناهيك بها من نظم مصلحة للعباد والبلاد في المعاش، والمعاد، وإصلاحا في العبادة، وإصلاحا في المعاملة في الأحوال الشخصية، والاجتماعية، والاقتصادية، والفردية، والكمالية فيما لو اجتمع الخلق كلهم على سن نظم تماثلها أو تقاربها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
الوجه الرابع: من إعجاز القرآن قوة تأثيره على النفوس والقلوب، فإنه ينفذ إلى القلب نفوذ السهم في الرمية، ويسيطر على العقول سيطرة الشمس على أفق الظلام كما شهد بذلك الموالي والمعادي، حتى إن الرجل العادي -فضلا عن المتعلم- ليسمع القرآن فيجد من نفسه جاذبية عظيمة تجذبه إليه قسرا، يعرف أن هذا ليس من كلام البشر، فقد سمع الوليد بن المغيرة -عم أبي جهل - القرآن مرة من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال لقومه من بني مخزوم: لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس، ولا من كلام الجن، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليحطم ما تحته، وإنه ليعلو وما يعلى. «واجتمع مرة كبراء قريش فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر، فليأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا وشتت أمرنا وعاب ديننا فليكلمه ولينظر ما يرد عليه. فقالوا: ما نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة، فكلم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعرض عليه كل ما يمكن إغراؤه من المال والجاه والنساء، فلما أتم كلامه تلا عليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أول سورة فصلت، فلما بلغ قوله تعالى:»
(5/309)
« {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} قام عتبة فأمسك بفم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وناشده الرحم أن يكف عنه، فلما رجع عتبة بن ربيعة إلى قومه وجدوه متغيرا، وقص عليهم خبره وما وقع من الرعب في قلب بقراءة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال لهم: لقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب فخفت أن ينزل بكم العذاب، ولقد كلمني بكلام ما سمعت أذناي بمثله قط، فما دريت ما أقول» . اهـ. ولقد كان بعض الكبراء من قريش يأتون ليلا خفية يستمعون تلاوة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للقرآن كما جرى ذلك لأبي جهل وأبي سفيان وغيرهما.
وهذه القصص وأمثالها تدل دلالة ظاهرة على تأثير القرآن في النفوس وأخذه بمجامع القلوب، ولكن هذا التأثير قد لا يظهر لكل أحد إنما يظهر لمن كان له ذوق ومعرفة بأساليب الكلام، وبلاغة اللسان.
ومن يك ذا فم مر مريض ... يجد مرّا به الماء الزلالا
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بعد أن ذكر أنواعا من إعجاز القرآن: وهذه الأمور من ظهرت له من أهل العلم والمعرفة ظهر له إعجازه من هذا الوجه، ومن لم يظهر له ذلك اكتفى بالأمر الظاهر الذي يظهر له ولأمثاله، كعجز جميع الخلق عن الإتيان بمثله مع تحدي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإخباره بعجزهم، فإن هذا أمر ظاهر لكل أحد.
الوجه الخامس: من إعجاز القرآن تلك الآثار الجليلة التي حصلت لأمة القرآن باتباعه والعمل بأهدافه السامية، وتعاليمه الرشيدة، فقد ارتقى بأمة القرآن التي اعتنت به لفظا وفهما وتطبيقا ارتقى بها إلى أوج العلا في العبادة والآداب والكرامة والعزة، لقد عرف سلف هذه الأمة قيمة هذا القرآن الكريم فكانوا لا يتجاوزون عشر آيات حتى يتعلموها،
(5/310)
وما فيها من العلم والعمل، فتعلموا القرآن والعلم والعمل جميعا، فسادوا جميع العالم وصارت لهم العزة والغلبة والظهور والتمكين في الأرض، والعلوم النافعة مع أنهم كانوا قبل ذلك متفرقين ضالين أميين مغلوبين بين الأمم، ولن يعود لأمة القرآن ذلك العز والظهور والغلبة حتى يرجعوا إلى المعين الذي روي به أسلافهم، فيأخذوا منه صافيا من غير كدر، لن يعود لهم ذلك حتى يرجعوا إلى كتاب الله وسنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويتفهموهما ويطبقوهما اعتقادا وقولا وعلما وعملا وكيفا، مؤمنين بذلك معتقدين أن هذا هو طريق الصلاح والإصلاح والسلامة، وإن من المؤسف حقا أن ترى الكثير من المسلمين اليوم لا يلتفتون إلى الكتاب والسنة، ولا يتفهمونهما، ولا يطبقونهما بل أكثرهم لا يقرأ من القرآن في عامه كله إلا ما يقرؤه في صلاته، هذا مع قلة تفهم في اللغة العربية، وآدابها، وأساليبها، فلم يكن عندهم ذوق لغوي، ولا شرعي لكتاب الله، وسنة رسوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولذلك ابتعدوا عن مقومات الدين، وآثاره ونتائجه بقدر ما ابتعدوا عن كتاب الله وسنة رسول الله، وإنا لنرجو من الله تعالى أن يهيئ لأمة القرآن من أمرها رشدا، وأن يبعث لها قادة فكر وسياسة لما فيه الخير والصلاح، والرجوع إلى ما كان عليه السلف الصالح فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها. 2- ومن آيات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما أظهره الله شاهدا على صدقه من الآيات الأفقية كما قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} ولذلك أمثلة:
المثال الأول: انشقاق القمر، فقد انشق القمر وصار فرقتين وشاهد
(5/311)
الناس ذلك وقد أشار الله إلى ذلك في القرآن قال الله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} وقد أجمع العلماء على وقوع ذلك في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل الهجرة، وقد رآه الناس بمكة. وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين رآه: «اشهدوا اشهدوا» وقدم المسافرون من كل وجه فأخبروا أنهم رأوه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وجعل الآية في انشقاق القمر دون الشمس وسائر الكواكب لأنه أقرب إلى الأرض من الشمس والنجوم، وكان الانشقاق فيه دون سائر أجزاء الفلك إذ هو الجسم المستنير الذي يظهر الانشقاق فيه لكل من يراه ظهورا لا يتمارى فيه، وأنه إذا قبل الانشقاق فقبول محله أولى بذلك وقد عاينه الناس وشاهدوه، وكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ هذه السورة في المجامع الكبار مثل صلاة العيدين، وكل الناس يقر بذلك، ولا ينكره ولو لم يكن قد انشق لأسرع الناس إلى تكذيب ذلك. ا. هـ كلام شيخ الإسلام ابن تيمية.
وقد استبعد أناس وقوع انشقاق القمر وحاولوا تحريف معنى القرآن في ذلك، وقد أخطؤوا خطأ كبيرا في هذا الإنكار فالقرآن لا يتحمل المعنى الذي حرفوه إليه، والنصوص الثابتة الكثيرة من الأحاديث صريحة في انشقاقه انشقاقا حسيا مشهودا، ولا يقدح في ذلك ما زعمه بعضهم من كونه لم ينقل في تاريخ غير التاريخ الإسلامي فإن نقله في التاريخ الإسلامي كاف في ذلك، وقد جاء به القرآن الكريم ولعل الناس الذين لم ينقلوه لم يشاهدوه، لعله وقع وهم نيام أو كانوا في النهار ولم يشعروا به، أو كان في تلك الساعة مانع من سحاب أو غيره، وقد أخبر المسافرون الذين قدموا مكة بمشاهدته، وهو لم يستمر فيما يظهر وإنما كان آية شاهدها الناس ثم عاد إلى حاله الأولى.
(5/312)
المثال الثاني: المعراج فإنه من أكبر الآيات فلقد أسري بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ليلة واحدة إلى بيت المقدس، واجتمع هناك بالأنبياء، وصلى بهم، ثم عرج به جبريل حتى بلغ سدرة المنتهى فوق سبع السماوات، وأوحى الله تعالى إليه ما أوحى، وشاهد، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من آيات الله الكبرى ما شاهد، ومر بالأنبياء في كل سماء، ورجع إلى مكة، كل ذلك في ليلة واحدة مع بعد المسافة الأرضية بين مكة وبين بيت المقدس، ثم البعد العظيم بين السماء والأرض وبين السماء الدنيا وما فوقها إلى سدرة المنتهى، وقد أخبر الله تعالى في القرآن عن الإسراء في سورة الإسراء وعن المعراج في سورة النجم إذا هوى.
المثال الثالث: نزول المطر باستسقائه مباشرة، وإقلاع المطر باستصحائه مباشرة ففي صحيح البخاري وصحيح مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «أصابت سنة أي جدب على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبينا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطب في يوم الجمعة قام أعرابي فقال: يا رسول الله هلك المال، وجاع العيال، فادع الله لنا. فرفع يديه وما نرى في السماء قزعة (أي قطعة سحاب) فوالذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته، فمطرنا يومنا ذلك، ومن الغد، ومن بعد الغد حتى الجمعة الأخرى وقام ذلك الأعرابي أو غيره فقال: يا رسول الله تهدم البناء، وغرق المال، فادع الله لنا. فرفع يديه وقال: "اللهم حوالينا ولا علينا" فما يشير إلى ناحية من السحاب إلا انفرجت فأقلع المطر وخرجنا نمشي في الشمس» .
ومن آيات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما وقع مطابقا لما أخبر به، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من أمور الغيب التي وقعت في عهده، وبعده ولذلك أمثلة أيضا:
المثال الأول: ما رواه مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن
(5/313)
عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يرينا مصارع أهل بدر قبل ابتداء القتال يقول: "هذا مصرع فلان غدا إن شاء الله، هذا مصرع فلان" فوالذي بعثه بالحق ما أخطؤوا الحدود التي حددها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» .
المثال الثاني: إخباره، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عن ظهور نار في أرض الحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببصرى، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببصرى» . فقد خرجت هذه النار في جمادى الآخرة سنة 654هـ شرقي المدينة فأقامت نحوا من شهر وملأت تلك الأودية وشاهد الناس أعناق الإبل ببصرى وهي بلدة بالشام. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهذه النار كانت تحرق الحجر.
ومن أمثلة ذلك ما أخبر به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مما سيكون من الفتن، وتغير أحوال الناس وغير ذلك.
ومن آيات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما رواه البخاري وغيره عن جابر رضي الله عنه قال: «عطش الناس يوم الحديبية ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بين يديه ركوة (إناء للماء) فتوضأ منها، ثم أقبل الناس نحوه فقالوا: ليس عندنا ماء نتوضأ به ونشرب إلا ما في الركوة التي عندك، فوضع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يده في الركوة فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون قال: فشربنا وتوضأنا،. قيل لجابر: كم كنتم؟ قال: لو كنا مئة ألف لكفانا، كنا ألفا وخمسمائة» .
ومن آيات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تكثير الطعام كما جرى ذلك يوم الخندق وجرى ذلك لأبي هريرة مع أهل الصفة وآياته، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كثيرة جدا، وقد ذكر أهل العلم من ذلك الشيء الكثير، ومن أوسع ما رأيت في ذلك تاريخ ابن كثير رحمه الله حيث كتب في آيات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مجلدا كبيرا وذلك أن جميع
(5/314)
آيات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قد جرى مثلها للنبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأمته أو ما هو أعظم منها. وهذه الآيات التي يجريها الله على أيدي أنبيائه وأوليائه كلها شاهدة بما له تعالى من كمال العلم، والقدرة، والرحمة، وأن الأمور كلها بيده يجريها كما يشاء، لا يسأل عما يفعل وهم يُسألون فلله الحمد والمنة سبحانه لا نحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
(5/315)
رسالة
حول الصعود إلى القمر
(5/317)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، ونصلي ونسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
فقد تواترت الأخبار بإنزال مركبة فضائية على سطح القمر بعد المحاولات العديدة التي استنفدت فيها الطاقات الفكرية والمادية والصناعية عدة سنوات وقد أثار هذا النبأ تساؤلات وأخذا وردا بين الناس.
فمن قائل: إن هذا باطل مخالف للقرآن، ومن قائل: إن هذا ثابت والقرآن يؤيده، فالذين ظنوا أنه مخالف للقرآن قالوا: إن الله أخبر أن القمر في السماء فقال: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} . وقال: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} . وإذا كان القمر في السماء فإنه لا يمكن الوصول إليه، لأن الله جعل السماء سقفا محفوظا، والنبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أشرف الخلق ومعه جبريل أشرف الملائكة وكان يستإذا ويستفتح عند كل سماء ليلة المعراج ولا يحصل لهما دخول السماء إلا بعد أن يفتح لهما فكيف يمكن لمصنوعات البشر أن تنزل على سطح القمر وهو في السماء المحفوظة.
والذين ظنوا أن القرآن يؤيده قالوا: إن الله قال في سورة الرحمن: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} . والسلطان العلم وهؤلاء
(5/319)
استطاعوا أن ينفذوا من أقطار الأرض بالعلم فكان عملهم هذا مطابقا للقرآن وتفسيرا له.
وإذا صح ما تواترت به الأخبار من إنزال مركبة فضائية على سطح القمر فإن الذي يظهر لي أن القرآن لا يكذبه ولا يصدقه فليس في صريح القرآن ما يخالفه، كما أنه ليس في القرآن ما يدل عليه ويؤيده.
1- أما كون القرآن لا يخالفه فلأن القرآن كلام الله تعالى المحيط بكل شيء علما فهو سبحانه يعلم ما كان وما يكون من الأمور الماضية والحاضرة، والمستقبلة، سواء منها ما كان من فعله، أو من خلقه فكل ما حدث أو يحدث في السماوات أو في الأرض من أمور صغيرة، أو كبيرة ظاهرة، أو خفية فإن الله تعالى عالم به ولم يحدث إلا بمشيئته وتدبيره لا جدال في ذلك.
فإذا كان كذلك فالقرآن كلامه وهو سبحانه أصدق القائلين ومن أصدق من الله قيلا، وكلامه أحسن الكلام وأبلغه في البيان، ومن أحسن من الله حديثا فلا يمكن أن يقع في كلامه الصادر عن علمه، والبالغ في الصدق والبيان غايته لا يمكن أن يقع في كلام هذا شأنه ما يخالف الواقع المحسوس أبدا، ولا أن يقع في المحسوس ما يخالف صريحه أبدا.
ومن فهم أن في القرآن ما يخالف الواقع، أو أن من المحسوس ما يقع مخالفا للقرآن ففهمه خطأ بلا ريب.
والآيات التي يظنها بعض الناس دالة على أن القمر في السماء نفسها ليس فيها التصريح بأنه مرصع في السماء نفسها التي هي السقف المحفوظ نعم ظاهر اللفظ أن القمر في السماء نفسها، ولكن إن ثبت وصول السفن الفضائية إليه ونزولها على سطحه فإن ذلك دليل على أن القمر ليس في
(5/320)
السماء الدنيا التي هي السقف المحفوظ وإنما هو في فلك بين السماء والأرض كما قال -تعالى-: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} . وقال -تعالى: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} . قال ابن عباس -رضي الله عنهما: "يدورون كما يدور المغزل في الفلكة، وذكر الثعلبي والماوردي عن الحسن البصري أنه قال: "الشمس والقمر والنجوم في فلك بين السماء والأرض غير ملصقة به ولو كانت ملصقة به ما جرت" ذكره عنهما القرطبي في تفسير سورة يس.
والقول بأن الشمس والقمر في فلك بين السماء والأرض لا ينافي ما ذكر الله من كونهما في السماء، فإن السماء يطلق تارة على كل ما علا قال ابن قتيبة: "كل ما علاك فهو سماء" فيكون معنى كونهما في السماء أي في العلو أو على تقدير مضاف أي في جهة السماء.
وقد جاءت كلمة السماء في القرآن مرادا بها العلو كما في قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا} . يعني المطر، والمطر ينزل من السحاب المسخر بين السماء والأرض.
وإذا ثبت ما ذكروا عن سطحية القمر فإن ذلك يزيدنا معرفة في آيات الله العظيمة حيث كان هذا الجرم العظيم وما هو أكبر منه وأعظم يجري بين السماء والأرض إلى الأجل الذي عينه الله تعالى لا يتغير ولا يتقدم ولا يتأخر عن السير الذي قدره له العزيز العليم، ومع ذلك فتارة يضيء كله فيكون
(5/321)
بدرا، وتارة يضيء بعضه فيكون قمرا أو هلالا ذلك تقدير العزيز العليم.
وأما ما اشتهر من كون القمر في السماء الدنيا، وعطارد في الثانية والزهرة في الثالثة، والشمس في الرابعة، والمريخ في الخامسة، والمشتري في السادسة، وزحل في السابعة فإن هذا مما تلقي عن علماء الفلك والهيئة وليس فيه حديث صحيح عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويدل على ذلك أن ابن كثير رحمه الله مع سعة اطلاعه لما تكلم على أن الشمس في الفلك الرابع قال: "وليس في الشرع ما ينفيه بل في الحس وهو الكسوفات ما يدل عليه ويقتضيه". ا. هـ فقوله: "وليس في الشرع ما ينفيه". واستدلاله على ثبوته بالحس دليل على أنه ليس في الشرع ما يثبته أي ما يثبت أن الشمس في الفلك الرابع والله أعلم.
2- وأما كون القرآن لا يدل على وصول السفن الفضائية إلى القمر فلأن الذين ظنوا ذلك استدلوا بقوله تعالى: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} . وفسروا السلطان بالعلم.
وهذا الاستدلال مردود من وجوه:
الأول: أن سياق الآية يدل على أن هذا التحدي يكون يوم القيامة ويظهر ذلك جليا لمن قرأ هذه السورة من أولها فإن الله ذكر فيها ابتداء خلق الإنسان والجان، وما سخر للعباد في آفاق السماوات والأرض، ثم ذكر فناء من عليها ثم قال: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ} . وهذا الحساب ثم تحدى الجن بأنه لا مفر لهم ولا مهرب من أقطار السماوات والأرض
(5/322)
فيستطيعون الهروب ولا قدرة لهم على التناصر فينصروا وينجوا من المرهوب، ثم أعقب ذلك بذكر الجزاء لأهل الشر بما يستحقون، ولأهل الخير بما يؤملون ويرجون.
ولا شك أن السياق يبين المعنى ويعينه فرب كلمة أو جملة صالحة لمعنى في موضع ولا تصلح له في موضع آخر، وأنت ترى أحيانا كلمة واحدة لها معنيان متضادان يتعين المراد منهما بواسطة السياق كما هو معروف في كلمات الأضداد في اللغة.
فلو قدر أن الآية الكريمة تصلح أن تكون في سياق ما خبرا لما سيكون في الدنيا فإنها في هذا الموضع لا تصلح له بل تتعين أن تكون للتهديد والتعجيز يوم القيامة وذلك لما سبقها ولحقها من السياق.
الثاني: أن جميع المفسرين ذكروا أنها للتهديد والتعجيز وجمهورهم على أن ذلك يوم القيامة وقد تكلم الشيخ محمد الأمين الشنقيطي على هذه الآية في سورة الحجر عند قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} . ووصف من زعم أنها تشير إلى الوصول إلى السماء وصفه بأنه لا علم عنده بكتاب الله.
الثالث: أنه لو كان معناها الخبر عما سيحدث لكان معناها يا معشر الجن والإنس إنكم لن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض إلا بعلم وهذا تحصيل حاصل فإن كل شيء لا يمكن إدراكه إلا بعلم أسباب إدراكه والقدرة على ذلك، ثم إن هذا المعنى يسلب الآية روعتها في معناها وفي مكانها فإن الآية سبقها الإنذار البليغ بقوله تعالى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ} .
(5/323)
وتلاها الوعيد الشديد في قوله: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ} .
الرابع: أن دلالة الآية على التحدي ظاهرة جدا.
أولا: لما سبقها ويتلوها من الآيات.
ثانيا: أن ذكر معشر الجن والإنس مجتمعين معشرا واحدا فهو قريب من مثل قوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} .
ثالثا: أن قوله: {إِنِ اسْتَطَعْتُمْ} ظاهر في التحدي خصوصا وقد أتى بـ "إن" دون "إذا" تدل على وقوع الشرط بخلاف "إن".
الخامس: إنه لو كان معناها الخبر لكانت تتضمن التنويه بهؤلاء والمدح لهم حيث عملوا وبحثوا فيما سخر الله لهم حتى وصلوا إلى النفوذ وفاتت النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأصحابه الذين هم أسرع الناس امتثالا لما دعا إليه القرآن.
السادس: أن الآية الكريمة علقت الحكم بالجن والإنس ومن المعلوم أن الجن حين نزول القرآن كانوا يستطيعون النفوذ من أقطار الأرض إلى أقطار السماء كما حكى الله عنهم {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} . فكيف يعجزهم الله بشيء كانوا يستطيعونه، فإن
(5/324)
قيل: إنهم كانوا لا يستطيعونه بعد بعثة النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قلنا: هذا أدل على أن المراد بالآية التعجيز لا الخبر.
السابع: أن الآية علقت الحكم بالنفوذ من أقطار السماوات والأرض ومن المعلوم أنهم ما استطاعوا ولن يستطيعوا أن ينفذوا من أقطار السماوات مهما كانت قوتهم.
الثامن: أن الآية الكريمة أعقبت بقوله تعالى: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ} . ومعناها والله أعلم انكم يا معشر الجن والإنس لو حاولتما النفوذ من ذلك لكان يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس والمعروفأإن هذه الصواريخ لم يرسل عليها شواظ من نار ولا نحاس فكيف تكون هي المقصود بالآية.
التاسع: أن تفسيرهم السلطان هنا بالعلم فيه نظر فإن السلطان ما فيه سلطة للواحد على ما يريد السيطرة عليه والغلبة ويختلف باختلاف المقام فإذا كان في مقام العمل ونحوه فالمراد به القوة والقدرة ومنه قوله تعالى عن إبليس: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} . فالسلطان في هذه الآية بمعنى القدرة ولا يصح أن يكون بمعنى العلم، ومنه السلطان المذكور في الآية التي نحن بصددها فإن النفوذ عمل يحتاج إلى قوة وقدرة والعلم وحده لا يكفي وهؤلاء لم يتوصلوا إلى ما ذكر عنهم بمجرد العلم ولكن بالعلم والقدرة والأسباب التي سخرها الله لهم، وإذا كان السلطان في مقام المحاجة والمجادلة كان المراد به البرهان والحجة التي يخصم بها
(5/325)
خصمه ومنه قوله تعالى: {إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا} أي من حجة وبرهان ولم يأت السلطان في القرآن مرادا به مجرد العلم والاشتقاق يدل على أن المراد بالسلطان ما به سلطة للعبد وقدرة وغلبة.
فتبين بهذا أن الآية الكريمة لا يراد بها الإشارة إلى ما ذكر من السفن الفضائية وإنزالها إلى القمر وهذه الوجوه التي ذكرناها منها ما هو ظاهر ومنها ما يحتاج إلى تأمل وإنما نبهنا على ذلك خوفا من تفسير كلام الله بما لا يراد به لأن ذلك يتضمن محذورين:
أحدهما: تحريف الكلم عن مواضعه حيث أخرج عن معناه المراد به.
الثاني: التقول على الله بلا علم حيث زعم أن الله أراد هذا المعنى مع مخالفته للسياق وقد حرم الله على عباده أن يقولوا عليه ما لا يعلمون. بقي أن يقال: إذا صح ما ذكر من إنزال المركبة الفضائية على سطح القمر فهل بالإمكان إنزال إنسان على سطحه؟ .
فالجواب: أن ظاهر القرآن عدم إمكان ذلك وأن بني آدم لا يحيون إلاّ في الأرض يقول الله تعالى: {فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} . فحصر الحياة في الأرض والموت فيها والإخراج منها، وطريق الحصر فيها تقديم ما حقه التأخير، ونحو هذه الآية قوله تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} . حيث حصر ابتداء الخلق من الأرض، وأنها هي التي نعاد فيها بعد الموت ونخرج
(5/326)
منها يوم القيامة، كما أن هناك آيات تدل على أن الأرض محل عيشة الإنسان {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} . فظاهر القرآن بلا شك يدل على أن لا حياة للإنسان إلا في هذه الأرض التي منها خلق، وإليها يعاد، ومنها يخرج، فالواجب أن نأخذ بهذا الظاهر وأن لا تبعد أوهامنا في تعظيم صناعة المخلوق إلى حد نخالف به ظاهر القرآن رجما بالغيب، ولو فرض أن أحدا من بني آدم تمكن من النزول على سطح القمر وثبت ذلك ثبوتا قطعيا أمكن حمل الآية على أن المراد بالحياة المذكورة الحياة المستقرة الجماعية كحياة الناس على الأرض، وهذا مستحيل والله أعلم.
وبعد فإن البحث في هذا الموضوع قد يكون من فضول العلم لولا ما دار حوله من البحث والمناقشات حتى بالغ الناس في رده وإنكاره، وغلا بعضهم في قبوله وإثباته، فالأولون جعلوه مخالفا للقرآن، والآخرون جعلوه مؤيدا بالقرآن فأحببت أن أكتب ما حررته هنا على حسب ما فهمته بفهمي القاصر وعلمي المحدود. وأسأل الله أن يجعل ذلك خالصا لوجهه نافعا لعباده والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله، وصحبه أجمعين.
تم بحمد الله تعالى المجلد الخامس ويليه بمشيئة الله عز وجل المجلد السادس
(5/327)
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح ثلاثة الأصول
ترجمة مؤلف كتاب (ثلاثة الأصول)
شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب
رحمه الله تعالى
*نسبه:
هو الإمام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي بن محمد بن أحمد بن راشد ابن بريد بن محمد بن مشرف بن عمر من أوهبة بني تيم.
*مولده:
ولد هذا العالم في بلدة العيينة سنة 1115 هجرية في بيت علم وشرف ودين، فأبوه عالم كبير، وجده سليمان عالم نجد في زمانه.
*نشأته:
حفظ القرآن قبل بلوغ عشر سنين، ودرس في الفقه حتى نال حظاً وافراً وكان موضع الإعجاب من والده لقوة حفظه، وكان كثير المطالعة في كتب التفاسير والحديث، وجد في طلب العلم ليلاً ونهاراً، فكان يحفظ المتون العلمية في شتى الفنون، ورحل في طلب العلم في ضواحي نجد وفي مكة وقرأ على علمائها، ثم رحل إلى المدينة النبوية فقرأ على علمائها، ومنهم العلامة الشيخ عبد الله بن إبراهيم الشمري، كما قرأ على ابنه الفرضي الشهير إبراهيم بن الشمري مؤلف العذب الفائض في شرح ألفية الفرائض وعرفاه بالمحدث الشهير محمد حياة السندي فقرأ عليه في علم الحديث ورجاله وأجازه بالأمهات. وكان الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله تعالى ـ قد وهبه الله فهماً ثاقباً وذكاءً مفرطاً وأكب على المطالعة والبحث، والتأليف وكان يثبت ما يمر عليه من الفوائد أثناء القراءة والبحث وكان لا يسأم من الكتابة وقد خط كتباً كثيرة من مؤلفات ابن تيمية وابن القيم - رحمهما الله - ولا تزال بعض المخطوطات الثمينة بقلمه السيال موجودة بالمتاحف.
(6/9)
ولما توفي والده (سنة 1153 هـ) أخذ يعلن جهرا بالدعوة السلفية إلى توحيد الله وإنكار المنكر ويهاجم المبتدعة أهل القبور (الأوثان والأصنام) ، وقد شد أزره الولاة من آل سعود وقويت شوكته وذاع خبره.
*مؤلفاته:
وله - رحمه الله تعالى - مؤلفات نافعة نذكر منها:
1 - الكتاب الجليل المفيد المسمى: كتاب التوحيد، وقد طبع أكثر من ألف طبعة كلما نفدت طبعه أعيد طبعه.
2 - كتاب "كشف الشبهات".
3- كتاب "الكبائر".
4- كتاب "ثلاثة الأصول".
5- كتاب "مختصر الإنصاف والشرح الكبير".
6- كتاب " مختصر زاد المعاد".
7- وله فتاوى ورسائل جمعت باسم مجموعة مؤلفات الإمام محمد بن عبد الوهاب تحت إشراف جامعة الإمام محمد بن سعود.
*وفاته:
وقد توفي رحمه الله تعالى عام 1206 هـ فرحمه الله رحمة واسعة وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء إنه سميع مجيب والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
بقلم (الفقير إلى الله تعالى)
فهد بن ناصر بن إبراهيم السليمان: عفا الله عنه.
(6/10)
ترجمة الشارح
فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
حفظه الله تعالى
*نسبه: هو أبو عبد الله محمد بن صالح بن محمد بن عثيمين الوهيبي التميمي.
*مولده:
ولد في مدينة عنيزة في السابع والعشرين من شهر رمضان المبارك عام 1347 هـ.
*نشأته:
قرأ القرآن الكريم على جده من جهة أمه عبد الرحمن بن سليمان آل دامغ رحمه الله فحفظه، ثم اتجه إلى طلب العلم فتعلم الخط والحساب وبعض فنون الآداب، وكان الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله قد أقام اثنين من طلبة العلم عنده ليدرسا الطلبة الصغار أحدهما الشيخ علي الصالحي، والثاني الشيخ محمد بن عبد العزيز المطوع رحمه الله، قرأ عليه مختصر العقيدة الواسطية للشيخ عبد الرحمن السعدي، ومنهاج السالكين في الفقه للشيخ عبد الرحمن أيضاً، والأجرومية والألفية.
وقرأ على الشيخ عبد الرحمن بن علي بن عودان في الفرائض والفقه.
وقرأ على الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي الذي يعتبر شيخه الأول حيث لازمه وقرأ عليه التوحيد والتفسير والحديث والفقه وأصول الفقه والفرائض ومصطلح الحديث والنحو والصرف.
وكانت لفضيلة الشيخ منزلة عظيمة عند شيخه رحمه الله فعندما انتقل والد الشيخ محمد -رحمه الله - إلى الرياض إبان أول تطوره رغب في أن ينتقل معه ولده - الشيخ حفظه الله -فكتب له الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله "إن هذا لا يمكن نريد محمداً أن يمكث هنا حتى يستفيد".
ويقول فضيلة الشيخ حفظه الله: "إنني تأثرت به كثيراً في طريقة التدريس وعرض العلم وتقريبه للطلبة بالأمثلة والمعاني، وكذلك أيضاً تأثرت به من ناحية الأخلاق لأن الشيخ عبد الرحمن رحمه الله كان على جانب كبير من الأخلاق الفاضلة، وكان رحمه الله على قدر كبير في العلم والعبادة، وكان يمازح الصغير، ويضحك إلى الكبير، وهو من أحسن من رأيت أخلاقاً".
· قرأ على سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حيث يعتبر شيخه الثاني، فابتدأ عليه قراءة صحيح البخاري وبعض رسائل شيخ الإسلام ابن تيمية وبعض الكتب الفقهية.
يقول الشيخ: "تأثرت بالشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله من جهة العناية بالحديث، وتأثرت به من جهة الأخلاق أيضاً وبسط نفسه للناس".
· في عام 1371هـ، يقول الشيخ حفظه الله:
"دخلت المعهد الإسلامي من السنة الثانية، والتحقت به بمشورة من الشيخ علي الصالحي، وبعد أن استأذنت من الشيخ عبد الرحمن السعدي عليه رحمة الله، وكان المعهد العلمي في ذلك الوقت ينقسم إلى قسمين خاص وعام، فكنت في القسم الخاص، وكان في ذلك الوقت أيضاً من شاء أن يقفز كما يعبرون بمعنى أنه يدرس السنة المستقبلة له في أثناء الإجازة ثم يختبرها في أول العام الثاني، فإذا نجح انتقل إلى السنة التي بعدها وبهذا اختصرت الزمن" اهـ.
· وبعد سنتين تخرج وعين مدرساً في معهد عنيزة العلمي مع مواصلة الدراسة انتساباً في كلية الشريعة ومواصلة طلب العلم على يد الشيخ عبد الرحمن السعدي.
· ولما توفي فضيلة الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تولى إمامة الجامع الكبير بعنيزة والتدريس في مكتبة عنيزة الوطنية بالإضافة إلى التدريس في المعهد العلمي ثم انتقل إلى التدريس في كليتي الشريعة وأصول الدين بفرع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالقصيم حتى الآن، بالإضافة إلى عضوية هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية، ولفضيلة الشيخ حفظه الله نشاط كبير في الدعوة إلى الله عز وجل وتبصير الدعاة في كل مكان وله جهود مشكورة في هذا المجال.
· والجدير بالذكر أن سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله قد عرض بل ألح على فضيلة الشيخ في تولي القضاء، بل أصدر قراره بتعيينه حفظه الله تعالى رئيساً للمحكمة الشرعية بالأحساء فطلب منه الإعفاء، وبعد مراجعات واتصال شخصي من فضيلة الشيخ سمح رحمه الله تعالى بإعفائه من منصب القضاء.
· مؤلفاته:
له حفظه الله تعالى مؤلفات كثيرة تبلغ 40 ما بين كتاب ورسالة وسوف تجمع إن شاء الله تعالى في مجموع الفتاوى والرسائل.
(/)
بسم (1) الله (2) الرحمن (3) الرحيم (4)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ابتدأ المؤلف رحمه الله كتابه بالبسملة اقتداء بكتاب الله عز وجل فإنه مبدوء بالبسملة، واتباعا لحديث «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر» (1) ، واقتداء بالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنه يبدأ كتبه بالبسملة.
الجار والمجرور متعلق بمحذوف فعل مؤخر مناسب للمقام، تقديره باسم الله أكتب أو أصنف.
وقدرناه فعلا؛ لأن الأصل في العمل الأفعال.
وقدرناه مؤخرا لفائدتين:
الأولى: التبرك بالبداءة باسم الله سبحانه وتعالى.
الثانية: إفادة الحصر؛ لأن تقديم المتعلق يفيد الحصر.
وقدرناه مناسبا؛ لأنه أدل على المراد، فلو قلنا مثلا عندما نريد أن نقرأ كتابا: باسم الله أبتدئ، ما يدرى بماذا أبتدئ، لكن باسم الله أقرأ يكون أدل على المراد الذي أبتدئ به.
(2) الله علم على الباري جل وعلا، وهو الاسم الذي تتبعه جميع الأسماء حتى إنه في قوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} لا نقول: إن لفظ الجلالة "اللهِ" صفة بل نقول: هي عطف بيان؛ لئلا يكون لفظ الجلالة تابعا تبعية النعت للمنعوت.
(3) الرحمن اسم من الأسماء المختصة بالله عز وجل لا يطلق على غيره والرحمن معناه المتصف بالرحمة الواسعة.
(4) الرحيم يطلق على الله عز وجل وعلى غيره، ومعناه ذو الرحمة الواصلة،
__________
(1) عزاه السيوطي في الجامع الصغير "للرهاوي" 4/147، وأخرجه الخطيب في "الجامع" 2/69. وقد أخرج الحديث بطرق كثيرة وألفاظ متعددة، وقد سئل شيخنا العلامة محمد العثيمين -حفظه الله ورعاه-عن هذا الحديث فقال: "هذا الحديث اختلف العلماء في صحته فمن أهل العلم من صححه واعتمده كالنووي، ومنهم من ضعفه. ولكن تلقي العلماء هذا الحديث بالقبول ووضعهم ذلك الحديث في كتبهم يدل على أن له أصلاً. . ." انتهى من كتاب (العلم) لفضيلة شيخنا-يسر الله نشره _.
(6/11)
اعلم (1) رحمك الله (2) أنه يجب علينا تعلم أربع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فالرحمن ذو الرحمة الواسعة، والرحيم ذو الرحمة الواصلة، فإذا جمعا صار المراد بالرحيم الموصل رحمته إلى من يشاء من عباده، كما قال الله تعالى: {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} .
(1) العلم: هو إدراك الشيء على ما هو عليه إدراكا جازما.
مراتب الإدراك ست:
الأولى: العلم، وهو إدراك الشيء على ما هو عليه إدراكا جازما.
الثانية: الجهل البسيط، وهو عدم الإدراك بالكلية.
الثالثة: الجهل المركب، وهو إدراك الشيء على وجه يخالف ما هو عليه.
الرابعة: الوهم، وهو إدراك الشيء مع احتمال ضد راجح.
الخامسة: الشك، وهو إدراك الشيء مع احتمال مساو.
السادسة: الظن، وهو إدراك الشيء مع احتمال ضد مرجوح.
والعلم ينقسم إلى قسمين: ضروري ونظري.
فالضروري ما يكون إدراك المعلوم فيه ضروريا، بحيث يضطر إليه من غير نظر، ولا استدلال كالعلم بأن النار حارة مثلا.
والنظري ما يحتاج إلى نظر واستدلال كالعلم بوجوب النية في الوضوء. (2) رحمك الله أفاض عليك من رحمته التي تحصل بها على مطلوبك، وتنجو من محذورك، فالمعنى غفر الله لك ما مضى من ذنوبك، ووفقك وعصمك فيما يستقبل منها، هذا إذا أفردت الرحمة، أما إذا قترنت بالمغفرة فالمغفرة لما مضى من الذنوب، والرحمة التوفيق للخير والسلامة من الذنوب في المستقبل.
(6/12)
مسائل (1) الأولى العلم
وهو معرفة الله (2) ومعرفة نبيه (3)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وصنيع المؤلف رحمه الله تعالى يدل على عنايته وشفقته بالمخاطب وقصد الخير له.
(1) هذه المسائل التي ذكرها المؤلف رحمه الله تعالى تشمل الدين كله، فهي جديرة بالعناية لعظم نفعها.
(2) أي معرفة الله عز وجل بالقلب معرفة تستلزم قبول ما شرعه، والإذعان والانقياد له، وتحكيم شريعته التي جاء بها رسوله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويتعرف العبد على ربه بالنظر في الآيات الشرعية في كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والنظر في الآيات الكونية التي هي المخلوقات، فإن الإنسان كلما نظر في تلك الآيات ازداد علما بخالقه ومعبوده، قال الله عز وجل: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} .
(3) أي معرفة رسوله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المعرفة التي تستلزم قبول ما جاء به من الهدى ودين الحق، وتصديقه فيما أخبر، وامتثال أمره فيما أمر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وتحكيم شريعته والرضا بحكمه قال الله عز وجل: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} . وقال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} . وقال عز وجل:
(6/13)
ومعرفة دين الإسلام (1) بالأدلة (2)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . قال الإمام أحمد رحمه الله: "أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك".
قوله: معرفة دين الإسلام: الإسلام بالمعنى العام هو التعبد لله بما شرع منذ أن أرسل الله الرسل إلى أن تقوم الساعة كما ذكر الله عز وجل ذلك في آيات كثيرة تدل على أن الشرائع السابقة كلها إسلام لله عز وجل. قال الله تعالى عن إبراهيم: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} .
والإسلام بالمعنى الخاص بعد بعثة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يختص بما بعث به محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن ما بعث به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نسخ جميع الأديان السابقة، فصار من اتبعه مسلما، ً ومن خالفه ليس بمسلم، فَأَتبْاع الرسل مسلمون في زمن رسلهم، فاليهود مسلمون في زمن موسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والنصارى مسلمون في زمن عيسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأما حين بعث النبي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكفروا به فليسوا بمسلمين.
وهذا الدين الإسلامي هو الدين المقبول عند الله النافع لصاحبه قال الله عز وجل: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} وقال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وهذا الإسلام هو الإسلام الذي امتن الله به على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمته، قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} .
(2) قوله: بالأدلة جمع دليل وهو ما يرشد إلى المطلوب، والأدلة على معرفة
(6/14)
الثانية: العمل به (1)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ذلك سمعية، وعقلية، فالسمعية ما ثبت بالوحي وهو الكتاب والسنة، والعقلية ما ثبت بالنظر والتأمل، وقد أكثر الله عز وجل من ذكر هذا النوع في كتابه، فكم من آية قال الله فيها: ومن آياته كذا وكذا، وهكذا يكون سياق الأدلة العقلية الدالة على الله تعالى.
وأما معرفة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالأدلة السمعية فمثل قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} الآية. وقوله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} . وبالأدلة العقلية بالنظر، والتأمل فيما أتى به من الآيات البينات التي أعظمها كتاب الله عز وجل المشتمل على الأخبار الصادقة النافعة والأحكام المصلحة العادلة، وما جرى على يديه من خوارق العادات، وما أخبر به من أمور الغيب التي لا تصدر إلا عن وحي والتي صدقها ما وقع منها.
(1) قوله العمل به أي العمل بما تقتضيه هذه المعرفة من الإيمان بالله، والقيام بطاعته بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه من العبادات الخاصة، والعبادات المتعدية، فالعبادات الخاصة مثل الصلاة، والصوم، والحج، والعبادات المتعدية كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله وما أشبه ذلك.
والعمل في الحقيقة هو ثمرة العلم، فمن عمل بلا علم فقد شابه النصارى، ومن علم ولم يعمل فقد شابه اليهود.
(6/15)
الثالثة: الدعوة إليه (1)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أي الدعوة إلى ما جاء به الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من شريعة الله تعالى على مراتبها الثلاث أو الأربع التي ذكرها الله عز وجل في قوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} والرابعة قوله: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} .
ولا بد لهذه الدعوة من علم بشريعة الله عز وجل حتى تكون الدعوة عن علم وبصيرة. لقوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} والبصيرة تكون فيما يدعو إليه بأن يكون الداعية عالما بالحكم الشرعي، وفي كيفية الدعوة، وفي حال المدعو.
ومجالات الدعوة كثيرة منها: الدعوة إلى الله تعالى بالخطابة، وإلقاء المحاضرات، ومنها الدعوة إلى الله بالمقالات، ومنها الدعوة إلى الله بحلقات العلم، ومنها الدعوة إلى الله بالتأليف ونشر الدين عن طريق التأليف، ومنها الدعوة إلى الله في المجالس الخاصة فإذا جلس الإنسان في مجلس في دعوة مثلا، فهذا مجال للدعوة إلى الله عز وجل، ولكن ينبغي أن تكون على وجه لا ملل فيه ولا إثقال، ويحصل هذا بأن يعرض الداعية مسألة علمية على الجالسين ثم تبتدئ المناقشة، ومعلوم أن المناقشة والسؤال والجواب له دور كبير في فهم ما أنزل الله على رسوله وتفهيمه، وقد يكون أكثر فعالية من إلقاء خطبة أو محاضرة إلقاء مرسلا كما هو معلوم.
(6/16)
الرابعة: الصبر على الأذى فيه (1)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والدعوة إلى الله عز وجل هي وظيفة الرسل عليهم الصلاة والسلام وطريقة من تبعهم بإحسان، فإذا عرف الإنسان معبوده، ونبيه، ودينه ومن الله عليه بالتوفيق لذلك فإن عليه السعي في إنقاذ إخوانه بدعوتهم إلى الله عز وجل وليبشر بالخير، «قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه يوم خيبر: "انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا خير لك من حمر النعم» (1) متفق على صحته. ويقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما رواه مسلم: «" من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا"» (2) . وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما رواه مسلم أيضا: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله» (3) .
(1) الصبر حبس النفس على طاعة الله، وحبسها عن معصية الله، وحبسها عن التسخط من أقدار الله فيحبس النفس عن التسخط والتضجر والملل، ويكون دائما نشيطا في الدعوة إلى دين الله وإن أوذي، لأن أذية الداعين إلى الخير من طبيعة البشر إلا من هدى الله قال الله تعالى لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} وكلما قويت الأذية قرب النصر، وليس النصر مختصا بأن ينصر الإنسان في حياته ويرى أثر دعوته قد تحقق بل النصر يكون، ولو
__________
(1) رواه البخاري، كتاب الجهاد، باب: دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام والنبوة. ومسلم. كتاب فضائل الصحابة، باب: فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
(2) مسلم، كتاب العلم، باب: من سن سنة حسنة أو سيئة.
(3) مسلم، كتاب الإمارة باب: فضل إعانة الغازي في سبيل الله بمركوب وغيره.
.
(6/17)
بعد موته بأن يجعل الله في قلوب الخلق قبولا لما دعا إليه وأخذا به وتمسكا به، فإن هذا يعتبر نصرا لهذا الداعية وإن كان ميتا، فعلى الداعية أن يكون صابرا على دعوته، مستمرا فيها، صابرا على ما يدعو إليه من دين الله عز وجل، صابرا على ما يعترض دعوته، صابرا على ما يعترضه هو من الأذى، وهاهم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أوذوا بالقول وبالفعل قال الله تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} سورة الذاريات، الآية: 52} وقال عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ} ولكن على الداعية أن يقابل ذلك بالصبر، وانظر إلى قول الله عز وجل لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا} كان من المنتظر أن يقال: فاشكر نعمة ربك، ولكنه عز وجل قال: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} وفي هذا إشارة إن كل من قام بهذا القرآن فلابد أن يناله ما يناله مما يحتاج إلى صبر، وانظر إلى حال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين ضربه قومه، فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول:
"اللهم اغفر لقومي؛ فإنهم لا يعلمون" (1) فعلى الداعية أن يكون صابرا محتسبا.
والصبر ثلاثة أقسام:
1 - صبر على طاعة الله.
2 - صبر عن محارم الله.
3 - صبر على أقدار الله التي يجريها إما مما لا كسب للعباد فيه، وإما مما يجريه الله على أيدي بعض العباد من الإيذاء والاعتداء.
__________
(1) رواه البخاري، كتاب استتابة المرتدين والمعاندين. ومسلم، كتاب الجهاد، باب: غزوة أحد.
(6/18)
والدليل قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) قوله: والدليل أي على هذه المراتب الأربع قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ} أقسم الله عز وجل في هذه السورة بالعصر الذي هو الدهر، وهو محل الحوادث من خير وشر، فأقسم الله عز وجل به على أن الإنسان كل الإنسان في خسر، إلا من اتصف بهذه الصفات الأربع: الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر.
قال ابن القيم - رحمه الله تعالى-: جهاد النفس أربع مراتب:
إحداها: أن يجاهدها على تعلم الهدى، ودين الحق الذي لا فلاح لها، ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به.
الثانية: أن يجاهدها على العمل به بعد علمه.
الثالثة: أن يجاهدها على الدعوة إليه وتعليمه من لا يعلمه.
الرابعة: أن يجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله وأذى الخلق، ويتحمل ذلك كله لله، فإذا استكمل هذه المراتب الأربع صار من الربانيين".
فالله عز وجل أقسم في هذه السورة بالعصر على أن كل إنسان فهو في خيبة، وخسر مهما كثر ماله وولده وعظم قدره وشرفه، إلا من جمع هذه الأوصاف الأربعة:
أحدها: الإيمان، ويشمل كل ما يقرب إلى الله تعالى من اعتقاد صحيح وعلم نافع.
(6/19)
الثاني: العمل الصالح، وهو كل قول، أو فعل يقرب إلى الله، بأن يكون فاعله لله مخلصا، ولمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متبعا.
الثالث: التواصي بالحق، وهو التواصي على فعل الخير، والحث عليه والترغيب فيه.
الرابع: التواصي بالصبر بأن يوصي بعضهم بعضا بالصبر على فعل أوامر الله تعالى، وترك محارم الله، وتحمل أقدار الله.
والتواصي بالحق والتواصي بالصبر يتضمنان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، اللذين بهما قوام الأمة وصلاحها ونصرها، وحصول الشرف والفضيلة لها: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} .
(1)
(6/20)
قال الشافعي رحمه الله تعالى (1) : " لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم" (2) وقال البخاري -رحمه الله (3) -: "باب العلم قبل القول والعمل". والدليل قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} ، فبدأ بالعلم قبل القول والعمل (4) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الشافعي هو أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع الهاشمي القرشي، ولد في غزة سنة 150 هـ. وتوفي بمصر سنة 204 هـ. وهو أحد الأئمة الأربعة، على الجميع رحمة الله تعالى.
(2) مراده رحمه الله أن هذه السورة كافية للخلق في الحث على التمسك بدين الله بالإيمان، والعمل الصالح، والدعوة إلى الله، والصبر على ذلك، وليس مراده أن هذه السورة كافية للخلق في جميع الشريعة.
وقوله: " لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم" لأن العاقل البصير إذا سمع هذه السورة، أو قرأها فلا بد أن يسعى إلى تخليص نفسه من الخسران، وذلك باتصافه بهذه الصفات الأربع:
الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر.
(3) البخاري هو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري، ولد ببخارى في شوال سنة أربع وتسعين ومائة، ونشأ يتيما في حجر والدته، وتوفي رحمه الله في خرتنك بلدة على فرسخين من سمرقند ليلة عيد الفطر سنة ست وخمسين ومائتين.
(4) استدل البخاري رحمه الله بهذه الآية على وجوب البداءة بالعلم قبل القول والعمل، وهذا دليل أثري يدل على أن الإنسان يعلم أولا ثم
(6/21)
يعمل ثانيا، وهناك دليل عقلي نظري يدل على أن العلم قبل القول والعمل، وذلك لأن القول أو العمل لا يكون صحيحا مقبولا حتى يكون على وفق الشريعة، ولا يمكن أن يعلم الإنسان أن عمله على وفق الشريعة إلا بالعلم.
ولكن هناك أشياء يعلمها الإنسان بفطرته كالعلم بأن الله إله واحد، فإن هذا قد فطر عليه العبد، ولهذا لا يحتاج إلى عناء كبير في التعلم، أما المسائل الجزئية المنتشرة فهي التي تحتاج إلى تعلم، وتكريس جهود.
(6/22)
اعلم رحمك الله: أنه يجب على كل مسلم ومسلمة تعلم ثلاث مسائل والعمل بهن، الأولى: أن الله خلقنا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ودليل ذلك أعني أن الله خلقنا سمعي وعقلي:
أما السمعي فكثير، ومنه قوله عز وجل: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} وقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} الآية، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} وقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} وقوله: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} وقوله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} وقوله: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} وقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} إلى غير ذلك من الآيات.
أما الدليل العقلي على أن الله خلقنا فقد جاءت الإشارة إليه في قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} فإن الإنسان لم يخلق نفسه؛ لأنه قبل وجوده عدم، والعدم ليس بشيء، وما ليس بشيء لا يوجد شيئا، ولم يخلقه أبوه ولا أمه ولا أحد من الخلق، ولم يكن ليأتي صدفة بدون موجد؛ لأن كل حادث لا بد له من محدث؛ ولأن وجود هذه المخلوقات على هذا النظام البديع والتناسق المتآلف يمنع منعا باتا أن يكون صدفة. إذ الموجود صدفة ليس على نظام في أصل وجوده فكيف يكون منتظما حال بقائه وتطوره، فتعين بهذا أن يكون الخالق هو الله وحده فلا خالق ولا آمر إلا الله، قال الله تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} .
(6/23)
ورزقنا (1)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ولم يعلم أن أحدا من الخلق أنكر ربوبية الله سبحانه وتعالى إلا على وجه المكابرة كما حصل من فرعون، «وعندما سمع جبير بن مطعم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ سورة الطور، فبلغ قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ} وكان جبير بن مطعم يومئذ مشركا قال: "كاد قلبي أن يطير، وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي".» (1)
(1) أدلة هذه المسألة كثيرة من الكتاب والسنة والعقل، أما الكتاب: فقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} وقال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ} وقوله: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} والآيات في هذا كثيرة.
وأما السنة: فمنها «قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الجنين: يبعث إليه ملك فيؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد» (2) .
وأما الدليل العقلي على أن الله رزقنا؛ فلأننا لا نعيش إلا على طعام وشراب، والطعام والشراب خلقه الله عز وجل كما قال الله تعالى:
__________
(1) البخاري، كتاب التفسير، سورة الطور.
(2) البخاري، كتاب القدر. ومسلم، كتاب القدر.
(6/24)
ولم يتركنا هملا (1)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ} ففي هذه الآيات بيان أن رزقنا طعاما وشرابا من عند الله عز وجل.
(1) هذا هو الواقع الذي تدل عليه الأدلة السمعية والعقلية:
أما السمعية فمنها قوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} وقوله: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} .
وأما العقل: فلأن وجود هذه البشرية لتحيا، ثم تتمتع كما تتمتع الأنعام، ثم تموت إلى غير بعث ولا حساب أمر لا يليق بحكمة الله عز وجل بل هو عبث محض، ولا يمكن أن يخلق الله هذه الخليقة، ويرسل إليها الرسل، ويبيح لنا دماء المعارضين المخالفين للرسل عليهم الصلاة والسلام، ثم تكون النتيجة لا شيء، هذا مستحيل على حكمة الله عز وجل.
(6/25)
بل أرسل إلينا رسولا (1)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أي إن الله عز وجل أرسل إلينا معشر هذه الأمة أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولا يتلو علينا آيات ربنا، ويزكينا، ويعلمنا الكتاب والحكمة، كما أرسل إلى من قبلنا، قال الله تبارك وتعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} ولا بد أن يرسل الله الرسل إلى الخلق لتقوم عليهم الحجة وليعبدوا الله بما يحبه ويرضاه قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} ولا يمكن أن نعبد الله بما يرضاه إلا عن طريق الرسل عليهم الصلاة والسلام لأنهم هم الذين بينوا لنا ما يحبه الله ويرضاه، وما يقربنا إليه عز وجل فبذلك كان من حكمة الله أن أرسل إلى الخلق رسلا مبشرين ومنذرين الدليل قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا} .
(6/26)
فمن أطاعه دخل الجنة (1) ومن عصاه دخل النار (2) والدليل قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا} .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هذا حق مستفاد من قوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} ومن قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} ومن قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} وقوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} . وقوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} والآيات في ذلك كثيرة.
ومن قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى" فقيل: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: " من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني دخل النار» رواه البخاري.
(2) هذا أيضا حق مستفاد من قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} وقوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} وقوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} ومن قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث السابق: " «ومن عصاني دخل النار» .
(6/27)
الثانية: (1) أن الله لا يرضى أن يشرك معه أحد في عبادته لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل. والدليل قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أي المسألة الثانية مما يجب علينا علمه أن الله سبحانه وتعالى لا يرضى أن يشرك معه في عبادته أحد، بل هو وحده المستحق للعبادة، ودليل ذلك ما ذكره المؤلف رحمه الله من قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} فنهى الله تعالى أن يدعو الإنسان مع الله أحدا، والله لا ينهي عن شيء إلا وهو لا يرضاه سبحانه وتعالى، وقال الله عز وجل: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} ، وقال تعالى: {فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} ، فالكفر والشرك لا يرضاه الله سبحانه وتعالى، بل إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب لمحاربة الكفر والشرك والقضاء عليهما، قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} وإذا كان الله لا يرضى بالكفر والشرك فإن الواجب على المؤمن أن لا يرضى بهما، لأن المؤمن رضاه وغضبه تبع رضا الله وغضبه، فيغضب لما يغضب الله ويرضى بما يرضاه الله عز وجل، وكذلك إذا كان الله لا يرضى الكفر ولا الشرك، فإنه لا يليق بمؤمن أن يرضى بهما.
والشرك أمره خطير قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} وقال النبي
(6/28)
الثالثة (1) أن من أطاع الرسول، ووحد الله لا يجوز له موالاة من حاد الله ورسوله ولو كان أقرب قريب، والدليل قوله تعالى:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار» (1) رواه مسلم.
(1) أي المسألة الثالثة مما يجب علينا علمه الولاء والبراء، والولاء والبراء أصل عظيم جاءت فيه النصوص الكثيرة قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} وقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} . وقال
(6/29)
{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عز وجل: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} الآية. ولأن موالاة من حاد الله، ومداراته تدل على أن ما في قلب الإنسان من الإيمان بالله ورسوله ضعيف؛ لأنه ليس من العقل أن يحب الإنسان شيئا هو عدو لمحبوبه، وموالاة الكفار تكون بمناصرتهم ومعاونتهم على ما هم عليه من الكفر والضلال، وموادتهم تكون بفعل الأسباب التي تكون بها مودتهم فتجده يوادهم أي يطلب ودهم بكل طريق، وهذا لا شك ينافي الإيمان كله أو كماله، فالواجب على المؤمن معاداة من حاد الله ورسوله ولو كان أقرب قريب إليه، وبغضه والبعد عنه ولكن هذا لا يمنع نصيحته ودعوته للحق.
(6/30)
اعلم (1) أرشدك الله (2) لطاعته (3) : أن الحنيفية (4) ملة (5) إبراهيم (6) : أن تعبد الله وحده (7) مخلصا له الدين (8)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تقدم الكلام على العلم فلا حاجة إلى إعادته هنا.
(2) الرشد: الاستقامة على طريق الحق.
(3) الطاعة: موافقة المراد فعلا للمأمور وتركا للمحظور.
(4) الحنيفية: هي الملة المائلة عن الشرك، المبنية على الإخلاص لله عز وجل.
(5) أي طريقه الديني الذي يسير عليه عليه الصلاة والسلام.
(6) إبراهيم هو خليل الرحمن قال عز وجل: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} وهو أبو الأنبياء، وقد تكرر ذكر منهجه في مواضع كثيرة للاقتداء به.
(7) قوله: "أن تعبد الله" هذه خبر "أن" في قوله: "أن الحنيفية" والعبادة بمفهومها العام هي: "التذلل لله محبة وتعظيما بفعل أوامره، واجتناب نواهيه على الوجه الذي جاءت به شرائعه ". أما المفهوم الخاص للعبادة -يعني تفصيلها- فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال، والأعمال الظاهرة والباطنة كالخوف، والخشية، والتوكل والصلاة والزكاة والصيام، وغير ذلك من شرائع الإسلام".
الإخلاص هو التنقية، والمراد به هنا أن يقصد المرء بعبادته وجه الله عز وجل، والوصول إلى دار كرامته بحيث لا يعبد معه غيره لا ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا قال الله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .
(6/31)
وبذلك (1) أمر الله جميع الناس وخلقهم لها كما قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} ومعنى يعبدون يوحدون (2)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وقال الله تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} .
(1) أي بالحنيفية وهي عبادة الله مخلصا له الدين أمر الله جميع الناس وخلقهم لها، كما قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} وبين الله عز وجل في كتابه أن الخلق إنما خلقوا لهذا فقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} .
(2) يعني التوحيد من معنى العبادة، وإلا فقد سبق لك معنى العبادة، وعلى أي شيء تطلق وأنها أعم من مجرد التوحيد.
واعلم أن العبادة نوعان:
عبادة كونية وهي الخضوع لأمر الله تعالى الكوني، وهذه شاملة لجميع الخلق لا يخرج عنها أحد لقوله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} فهي شاملة للمؤمن والكافر، والبر والفاجر.
(6/32)
وأعظم ما أمر الله به التوحيد وهو: إفراد الله بالعبادة (1)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والثاني: عبادة شرعية، وهي الخضوع لأمر الله تعالى الشرعي، وهذه خاصة بمن أطاع الله تعالى، واتبع ما جاءت به الرسل مثل قوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} . فالنوع الأول لا يحمد عليه الإنسان؛ لأنه بغير فعله لكن قد يحمد على ما يحصل منه من شكر عند الرخاء، وصبر على البلاء بخلاف النوع الثاني فإنه يحمد عليه.
(1) التوحيد لغة مصدر وحد يوحد، أي جعل الشيء واحدا، وهذا لا يتحقق إلا بنفي، وإثبات نفي الحكم عما سوى الموحد، وإثباته له فمثلا نقول: إنه لا يتم للإنسان التوحيد حتى يشهد أن لا إله إلا الله فينفي الألوهية عما سوى الله تعالى ويثبتها لله وحده.
وفي الاصطلاح عرفه المؤلف بقوله: " التوحيد هو إفراد الله بالعبادة " أي أن تعبد الله وحده لا تشرك به شيئا، لا تشرك به نبيا مرسلا، ولا ملكا مقربا ولا رئيسا ولا ملكا ولا أحدا من الخلق، بل تفرده وحده بالعبادة محبة وتعظيما، ورغبة ورهبة، ومراد الشيخ رحمه الله التوحيد الذي بعثت الرسل لتحقيقه؛ لأنه هو الذي حصل به الإخلال من أقوامهم.
وهناك تعريف أعم للتوحيد وهو: "إفراد الله سبحانه وتعالى بما يختص به".
(6/33)
وأنواع التوحيد ثلاثة:
الأول: توحيد الربوبية وهو "إفراد الله سبحانه وتعالى بالخلق، والملك والتدبير" قال الله عز وجل: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} وقال تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وقال تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} .
الثاني: توحيد الألوهية وهو "إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة، بأن لا يتخذ الإنسان مع الله أحدا يعبده، ويتقرب إليه كما يعبد الله تعالى ويتقرب إليه".
الثالث: توحيد الأسماء والصفات، وهو "إفراد الله سبحانه وتعالى بما سمى به نفسه، ووصف به نفسه في كتابه، أو على لسان رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذلك بإثبات ما أثبته، ونفي ما نفاه من غير تحريف، ولا تعطيل، ومن غير تكييف، ولا تمثيل".
ومراد المؤلف هنا توحيد الألوهية، وهو الذي ضل فيه المشركون الذين قاتلهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
واستباح دماءهم وأموالهم وأرضهم وديارهم
وسبى نساءهم وذريتهم، وأكثر ما يعالج الرسل أقوامهم على هذا النوع من التوحيد. قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ} . فالعبادة لا تصح إلا لله عز وجل، ومن أخل بهذا التوحيد فهو مشرك كافر وإن أقر بتوحيد الربوبية والأسماء والصفات، فلو فرض أن رجلا
(6/34)
وأعظم ما نهى عنه الشرك وهو دعوة غيره معه، والدليل قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} (1)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يقر إقرارا كاملا بتوحيد الربوبية والأسماء والصفات، ولكنه يذهب إلى القبر فيعبد صاحبه أو ينذر له قربانا يتقرب به إليه، فإنه مشرك كافر خالد في النار قال الله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} وإنما كان التوحيد أعظم ما أمر الله به؛ لأنه الأصل الذي ينبني عليه الدين كله، ولهذا بدأ به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الدعوة إلى الله، وأمر من أرسله للدعوة أن يبدأ به.
(1) أعظم ما نهى الله عنه الشرك، وذلك لأن أعظم الحقوق هو حق الله عز وجل، فإذا فرط فيه الإنسان فقد فرط في أعظم الحقوق هو توحيد الله عز وجل قال الله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} وقال تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} وقال عز وجل: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أعظم الذنب أن تجعل لله ندا وهو خلقك» (1) وقال عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم عن جابر، رضي الله عنه: «من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار» . وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من مات وهو يدعو لله ندا دخل النار» (1) رواه البخاري.
(6/35)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
واستدل المؤلف رحمه الله تعالى لأمر الله تعالى بالعبادة، ونهيه عن الشرك بقوله عز وجل: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} فأمر الله سبحانه وتعالى بعبادته، ونهى عن الشرك به، وهذا يتضمن إثبات العبادة له وحده، فمن لم يعبد الله فهو كافر مستكبر، ومن عبد الله وعبد معه غيره فهو كافر مشرك، ومن عبد الله وحده فهو مسلم مخلص.
والشرك نوعان: شرك أكبر، وشرك أصغر.
فالنوع الأول: الشرك الأكبر وهو كل شرك أطلقه الشارع، وكان متضمنا لخروج الإنسان عن دينه.
النوع الثاني: الشرك الأصغر وهو كل عمل قولي أو فعلي أطلق عليه الشرع وصف الشرك، ولكنه لا يخرج من الملة.
وعلى الإنسان الحذر من الشرك أكبره وأصغره، فقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} . قال بعض أهل العلم: هذا الوعيد يشمل كل شرك ولو كان أصغر.
(1)
(6/36)
فإذا قيل لك: ما الأصول (1) الثلاثة التي يجب على الإنسان معرفتها (2) ؟ فقل: معرفة العبد ربه (3)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الأصول جمع أصل، وهو ما يبنى عليه غيره، ومن ذلك أصل الجدار وهو أساسه، وأصل الشجرة الذي يتفرع منه الأغصان، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} .
وهذه الأصول الثلاثة يشير بها المصنف رحمه إلى الأصول التي يسأل عنها الإنسان في قبره: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟
(2) أورد المؤلف رحمه الله تعالى هذه المسألة بصيغة السؤال، وذلك من أجل أن ينتبه الإنسان لها؛ لأنها مسألة عظيمة وأصول كبيرة؛ وإنما قال: إن هذه هي الأصول الثلاثة التي يجب على الإنسان معرفتها لأنها هي الأصول التي يسال عنها المرء في قبره إذا دفن وتولى عنه أصحابه أتاه ملكان فأقعداه فسألاه من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فأما المؤمن فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد، وأما المرتاب أو المنافق فيقول: هاه هاه لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئا فقلته.
(3) معرفة الله تكون بأسباب:
منها النظر والتفكر في مخلوقاته عز وجل فإن ذلك يؤدي إلى معرفته ومعرفة عظيم سلطانه وتمام قدرته، وحكمته، ورحمته قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} . وقال عز وجل: {إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا}
(6/37)
وقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} وقال عز وجل: {إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ} وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} .
ومن أسباب معرفة العبد ربه النظر في آياته الشرعية، وهي الوحي الذي جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام، فينظر في هذه الآيات وما فيها من المصالح العظيمة التي لا تقوم حياة الخلق في الدنيا ولا في الآخرة إلا بها، فإذا نظر فيها وتأملها وما اشتملت عليه من العلم والحكمة ووجد انتظامها وموافقتها لمصالح العباد عرف بذلك ربه عز وجل كما قال الله عز وجل: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} .
ومنها ما يلقي الله عز وجل في قلب المؤمن من معرفة الله سبحانه وتعالى حتى كأنه يرى ربه رأي العين قال النبي عليه الصلاة والسلام حين سأله جبريل ما الإحسان؟ قال: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".
(6/38)
ودينه (1) ونبيه محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أي معرفة الأصل الثاني وهو دينه الذي كلف العمل به وما تضمنه من الحكمة والرحمة ومصالح الخلق، ودرء المفاسد عنها، ودين الإسلام من تأمله حق التأمل تأملا مبنيا على الكتاب والسنة عرف أنه دين الحق، وأنه الدين الذي لا تقوم مصالح الخلق إلا به، ولا ينبغي أن نقيس الإسلام بما عليه المسلمون اليوم، فإن المسلمين قد فرطوا في أشياء كثيرة، وارتكبوا محاذير عظيمة حتى كأن العائش بينهم في بعض البلاد الإسلامية يعيش في جو غير إسلامي.
والدين الإسلامي -بحمد الله تعالى- متضمن لجميع المصالح التي تضمنتها الأديان السابقة متميز عليها بكونه صالحا لكل زمان ومكان وأمة، ومعنى كونه صالحا لكل زمان ومكان وأمة: أن التمسك به لا ينافي مصالح الأمة في أي زمان أو مكان بل هو صلاحها، وليس معناه أنه خاضع لكل زمان ومكان وأمة، فدين الإسلام يأمر بكل عمل صالح، وينهى عن كل عمل سيئ فهو يأمر بكل خلق فاضل، وينهى عن كل خلق سافل.
هذا هو الأصل الثالث وهو معرفة الإنسان نبيه محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتحصل بدراسة حياة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما كان عليه من العبادة، والأخلاق، والدعوة إلى الله عز وجل، والجهاد في سبيله وغير ذلك من جوانب حياته عليه الصلاة والسلام، ولهذا ينبغي لكل إنسان يريد أن يزداد معرفة بنبيه وإيمانا به أن يطالع من سيرته ما تيسر في حربه وسلمه،
(6/39)
فإذا قيل لك: من ربك (1) ؟ فقل: ربي الله الذي رباني وربى جميع العالمين بنعمه (2) ، وهو معبودي ليس لي معبود سواه (3)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وشدته ورخائه وجميع أحواله نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من المتبعين لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، باطنا وظاهرا، وأن يتوفانا على ذلك إنه وليه والقادر عليه.
(1) أي من هو ربك الذي خلقك، وأمدك، وأعدك، ورزقك.
(2) التربية هي عبارة عن الرعاية التي يكون بها تقويم المربى، ويشعر كلام المؤلف رحمه الله أن الرب مأخوذ من التربية؛ لأنه قال: "الذي رباني وربى جميع العالمين بنعمه" فكل العالمين قد رباهم الله بنعمه وأعدهم لما خلقوا له، وأمدهم برزقه قال الله تبارك وتعالى في محاورة موسى وفرعون: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} . فكل أحد من العالمين قد رباه الله عز وجل بنعمه.
ونعم الله عز وجل على عباده كثيرة لا يمكن حصرها قال الله تبارك وتعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} فالله هو الذي خلقك وأعدك، وأمدك ورزقك فهو وحده المستحق للعبادة.
(3) أي وهو الذي أعبده وأتذلل له خضوعا ومحبة وتعظيما، أفعل ما يأمرني به، وأترك ما ينهاني عنه، فليس لي أحد أعبده سوى الله عز وجل، قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} .
(6/40)
والدليل قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (1)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) استدل المؤلف رحمه الله لكون الله سبحانه وتعالى مربيا لجميع الخلق بقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} يعني الوصف بالكمال والجلال والعظمة لله تعالى وحده.
{رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي مربيهم بالنعم وخالقهم ومالكهم، والمدبر لهم كما يشاء عز وجل.
(6/41)
وكل ما سوى الله عالم وأنا واحد من ذلك العالم (1) ، فإذا قيل لك: بم عرفت ربك (2) ؟ فقل: بآياته ومخلوقاته (3) ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر، ومن مخلوقاته السماوات السبع والأرضون السبع ومن فيهن وما بينهما (4) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) العالم كلَ من سوى الله، وسُمّوا عالما لأنهم علم على خالقهم ومالكهم ومدبرهم ففي كل شيء آية لله تدل على أنه واحد.
وأنا المجيب بهذا واحد من ذلك العالم، وإذا كان ربي وجب علي أن أعبده وحده.
(2) أي إذا قيل لك: بأي شيء عرفت الله عز وجل؟
فقل: عرفته بآياته ومخلوقاته.
(3) الآيات: جمع آية وهي العلامة على الشيء التي تدل عليه وتبينه.
وآيات الله تعالى نوعان: كونية وشرعية، فالكونية هي المخلوقات، والشرعية هي الوحي الذي أنزله الله على رسله، وعلى هذا يكون قول المؤلف رحمه الله: "بآياته ومخلوقاته" من باب عطف الخاص على العام إذا فسرنا الآيات بأنها الآيات الكونية والشرعية أو من باب عطف المباين المغاير إذا خصصنا الآيات بالآيات الشرعية. وعلى كل فالله عز وجل يعرف بآياته الكونية وهي المخلوقات العظيمة وما فيها من عجائب الصنعة وبالغ الحكمة، وكذلك يعرف بآياته الشرعية وما فيها من العدل، والاشتمال على المصالح، ودفع المفاسد.
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد
(4) كل هذه من آيات الله الدالة على كمال القدرة، وكمال الحكمة، وكمال
(6/42)
الرحمة، فالشمس آية من آيات الله عز وجل لكونها تسير سيرا منتظما بديعا منذ خلقها الله عز وجل وإلى أن يأذن الله تعالى بخراب العالم، فهي تسير لمستقر لها كما قال تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} وهي من آيات الله تعالى بحجمها وآثارها، أما حجمها فعظيم كبير، وأما آثارها فما يحصل منها من المنافع للأجسام والأشجار والأنهار، والبحار وغير ذلك، فإذا نظرنا إلى الشمس هذه الآية العظيمة ما مدى البعد الذي بيننا وبينها، ومع ذلك فإننا نجد حرارتها هذه الحرارة العظيمة، ثم انظر ماذا يحدث فيها من الإضاءة العظيمة التي يحصل بها توفير أموال كثيرة على الناس فإن الناس في النهار يستغنون عن كل إضاءة، ويحصل بهذا مصلحة كبيرة للناس من توفير أموالهم ويعد هذا من الآيات التي لا ندرك إلا اليسير منها.
كذلك القمر من آيات الله عز وجل حيث قدره منازل لكل ليلة منزلة {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} فهو يبدو صغيرا، ثم يكبر رويدا رويدا حتى يكمل، ثم يعود إلى النقص، وهو يشبه الإنسان حيث إنه يخلق من ضعف، ثم لا يزال يترقى من قوة إلى قوة حتى يعود إلى الضعف مرة أخرى فتبارك الله أحسن الخالقين.
(6/43)
والدليل (1) قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} وقوله (2) تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أي والدليل على أن الليل والنهار، والشمس والقمر من آيات الله عز وجل قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ} . . . . إلخ أي من العلامات البينة المبينة لمدلولها الليل والنهار في ذاتهما واختلافهما، وما أودع الله فيهما من مصالح العباد وتقلبات أحوالهم، وكذلك الشمس والقمر في ذاتهما وسيرهما وانتظامهما وما يحصل بذلك من مصالح العباد ودفع مضارهم.
ثم نهى الله تعالى العباد أن يسجدوا للشمس أو القمر وإن بلغا مبلغا عظيما في نفوسهم؛ لأنهما لا يستحقان العبادة لكونهما مخلوقين، وإنما المستحق للعبادة هو الله تعالى الذي خلقهن.
(2) وقوله أي من الأدلة على أن الله خالق السماوات والأرض قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} الآية وفيها من آيات الله:
أولا: إن الله خلق هذه المخلوقات العظيمة في ستة أيام ولو شاء لخلقها بلحظة، ولكنه ربط المسببات بأسبابها كما تقتضيه حكمته.
(6/44)
ثانيا: أنه استوى على العرش أي علا عليه علوا خاصا به كما يليق بجلاله وعظمته وهذا عنوان كمال الملك والسلطان.
ثالثا: أنه يغشي الليل النهار أن يجعل الليل غشاء للنهار، أي غطاء له فهو كالثوب يسدل على ضوء النهار فيغطيه.
رابعا: أنه جعل الشمس والقمر والنجوم مذللات بأمره جل سلطانه يأمرهن بما يشاء لمصلحة العباد.
خامسا: عموم ملكه وتمام سلطانه حيث كان له الخلق والأمر لا لغيره.
سادسا: عموم ربوبيته للعالمين كلهم.
(6/45)
والرب هو المعبود (1) والدليل (2) قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} (3) {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} (4) {وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} . (5)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) يشير المؤلف رحمه الله تعالى إلى قول الله عز وجل: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} . فالرب هو المعبود أي هو الذي يستحق أن يعبد أو هو الذي يعبد لاستحقاقه للعبادة وليس المعنى أن كل من عبد فهو رب، فالآلهة التي تعبد من دون الله واتخذها عبادها أربابا من دون الله ليست أربابا.
(1) والرب هو: الخالق، المالك، المدبر لجميع الأمور.
(2) أي الدليل على أن الرب هو المستحق للعبادة.
(3) النداء موجه لجميع الناس من بني آدم أمرهم الله عز وجل أن يعبدوه وحده لا شريك له.
فلا يجعلوا له أندادا، ويبين أنه إنما استحق العبادة لكونه هو الخالق وحده لا شريك له.
(4) قوله: {الَّذِي خَلَقَكُمْ} هذه صفة كاشفة تعلل ما سبق أي اعبدوه؛ لأنه ربكم الذي خلقكم، فمن أجل كونه الرب الخالق كان لزاما عليكم أن تعبدوه، ولهذا نقول: يلزم كل من أقر بربوبية الله أن يعبده وحده وإلا كان متناقضا.
(5) أي من أجل أن تحصلوا على التقوى، والتقوى هي اتخاذ وقاية من عذاب الله عز وجل باتباع أوامره، واجتناب نواهيه.
(6/46)
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا} (1) {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} (2) {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} (3) {فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} (4) {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} (5) {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (6) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أي جعلها فراشا ومهادا نستمتع فيها من غير مشقة ولا تعب كما ينام الإنسان على فراشه.
(2) أي فوقنا لأن البناء يصير فوق السماء بناء لأهل الأرض وهي سقف محفوظ كما قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} .
(3) أي أنزل من العلو من السحاب ماء طهورا لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون، كما في سورة النحل.
(4) أي عطاء لكم وفي آية أخرى: {مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} .
(5) أي لا تجعلوا لهذا الذي خلقكم، وخلق الذين من قبلكم، وجعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء، وأنزل لكم من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم لا تجعلوا له أندادا تعبدونها كما تعبدون الله، أو تحبونها كما تحبون الله فإن ذلك غير لائق بكم لا عقلا ولا شرعا.
(6) أي تعلمون أنه لا ند له وأنه بيده الخلق والرزق والتدبير فلا تجعلوا له شريكا في العبادة.
(6/47)
قال ابن كثير - رحمه الله تعالى (1) _: " الخالق لهذه الأشياء هو المستحق للعبادة ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هو عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر القرشي الدمشقي الحافظ المشهور صاحب التفسير والتاريخ من تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيمية توفي سنة أربع وسبعين وسبعمائة.
(6/48)
وأنواع العبادة التي أمر الله بها (1) : مثل الإسلام، والإيمان، والإحسان؛ ومنه الدعاء، والخوف، والرجاء، والتوكل، والرغبة، والرهبة، والخشوع، والخشية، والإنابة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) لما بين المؤلف رحمه الله تعالى أن الواجب علينا أن نعبد الله وحده لا شريك له، بين فيما يأتي شيئا من أنواع العبادة فقال: وأنواع العبادة مثل الإسلام، والإيمان، والإحسان.
وهذه الثلاثة الإسلام، والإيمان، والإحسان هي الدين كما جاء ذلك فيما رواه مسلم من حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: «بينما نحن عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخديه، قال: يا محمد أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا. قال: صدقت. قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل. قال: فأخبرني عن أماراتها؟ قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان،»
(6/49)
والاستعانة، والاستعاذة، والاستغاثة، والذبح، والنذر، وغير ذلك من أنواع العبادة التي أمر الله بها كلها لله تعالى (1) . والدليل قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} ، فمن صرف منها شيئا لغير الله فهو مشرك كافر، والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«ثم انطلق فلبثت مليا ثم قال لي: يا عمر أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم» فجعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذه الأشياء هي الدين، وذلك أنها متضمنة للدين كله.
(1) أي كل أنواع العبادة مما ذكر وغيره لله وحده لا شريك له فلا يحل صرفها لغير الله تعالى.
(2) ذكر المؤلف رحمه الله تعالى جملة من أنواع العبادة، وذكر أن من صرف منها شيئا لغير الله فهو مشرك كافر، واستدل بقول الله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} وبقوله: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} ووجه الدلالة من الآية الأولى أن الله تعالى أخبر أن المساجد وهي مواضع السجود أو أعضاء السجود لله ورتب على ذلك قوله: {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} أي لا تعبدوا معه غيره فتسجدوا له، ووجه الدلالة من الآية الثانية بأن الله سبحانه وتعالى بين أن من يدعو مع الله إلها آخر فإنه كافر لأنه قال: {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} وفي قوله: {لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ}
(6/50)
وفي الحديث: "الدعاء مخ العبادة". والدليل قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إشارة إلى أنه لا يمكن أن يكون برهان على تعدد الآلهة فهذه الصفة {لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} صفة كاشفة مبينة للأمر وليست صفة مقيدة تخرج ما فيه برهان؛ لأنه لا يمكن أن يكون برهان على أن مع الله إلها آخر.
هذا شروع من المؤلف رحمه الله تعالى في أدلة أنواع العبادة التي ذكرها في قوله: "وأنواع العبادة التي أمر الله بها مثل الإسلام والإيمان والإحسان ومنه الدعاء. . " إلخ، فبدأ رحمه الله بذكر الأدلة على الدعاء، وسيأتي إن شاء الله تفصيل أدلة الإسلام والإيمان والإحسان.
واستدل المؤلف رحمه الله بما يروى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه قال: «الدعاء مخ العبادة» (1) واستدل كذلك بقوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} فدلت الآية الكريمة على أن الدعاء من العبادة ولولا ذلك ما صح أن يقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} فمن دعا غير الله عز وجل بشيء لا يقدر عليه إلا الله فهو مشرك كافر سواء كان المدعو حيا أو ميتا. ومن دعا حيا بما يقدر عليه مثل أن يقول: يا فلان أطعمني، يا فلان اسقني فلا شيء فيه، ومن دعا ميتا أو غائبا بمثل هذا فإنه مشرك لأن الميت أو الغائب لا يمكن أن يقوم بمثل هذا فدعاؤه إياه
__________
(1) أخرجه الترمذي، كتاب الدعوات، باب: فضل الدعاء. وقال: حديث غريب من هذا الوجه.
(6/51)
ودليل الخوف قوله تعالى: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يدل على أنه يعتقد أن له تصرفا في الكون فيكون بذلك مشركا.
واعلم أن الدعاء نوعان: دعاء مسألة ودعاء عبادة.
فدعاء المسألة هو دعاء الطلب أي طلب الحاجات وهو عبادة إذا كان من العبد لربه، لأنه يتضمن الافتقار إلى الله تعالى واللجوء إليه، واعتقاد أنه قادر كريم واسع الفضل والرحمة. ويجوز إذا صدر من العبد لمثله من المخلوقين إذا كان المدعو يعقل الدعاء ويقدر على الإجابة كما سبق في قول القائل: يا فلان أطعمني.
وأما دعاء العبادة فأن يتعبد به للمدعو طلبا لثوابه وخوفا من عقابه وهذا لا يصح لغير الله وصرفه لغير الله شرك أكبر مخرج عن الملة وعليه يقع الوعيد في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} .
(1) الخوف هو الذعر، وهو انفعال يحصل بتوقع ما فيه هلاك أو ضرر أو أذى، وقد نهى الله سبحانه وتعالى عن خوف أولياء الشيطان وأمر بخوفه وحده.
والخوف ثلاثة أنواع:
النوع الأولى: خوف طبيعي كخوف الإنسان من السبع والنار والغرق وهذا لا يلام عليه العبد قال الله تعالى عن موسى عليه الصلاة والسلام: {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} لكن إذا كان هذا الخوف
(6/52)
ودليل الرجاء قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (1)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كما ذكر الشيخ رحمه الله سببا لترك واجب أو فعل محرم كان حراما؛ لأن ما كان سببا لترك واجب أو فعل محرم فهو حرام ودليله قوله تعالى: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} .
والخوف من الله تعالى يكون محمودا، ويكون غير محمود.
فالمحمود ما كانت غايته أن يحول بينك وبين معصية الله بحيث يحملك على فعل الواجبات وترك المحرمات، فإذا حصلت هذه الغاية سكن القلب واطمأن وغلب عليه الفرح بنعمة الله، والرجاء لثوابه. وغير المحمود ما يحمل العبد على اليأس من روح الله والقنوط وحينئذ يتحسر العبد وينكمش وربما يتمادى في المعصية لقوة يأسه.
النوع الثاني: خوف العبادة أن يخاف أحدا يتعبد بالخوف له فهذا لا يكون إلا لله تعالى. وصرفه لغير الله تعالى شرك أكبر.
النوع الثالث: خوف السر كأن يخاف صاحب القبر، أو وليا بعيدا عنه لا يؤثر فيه لكنه يخافه مخافة سر فهذا أيضا ذكره العلماء من الشرك.
الرجاء طمع الإنسان في أمر قريب المنال، وقد يكون في بعيد المنال تنزيلا له منزلة القريب.
والرجاء المتضمن للذل والخضوع لا يكون إلا لله عز وجل وصرفه لغير الله تعالى شرك إما أصغر، وإما أكبر بحسب ما يقوم بقلب الراجي. وقد استدل المؤلف له بقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} .
(6/53)
ودليل التوكل قوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وقال: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (1)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
واعلم أن الرجاء المحمود لا يكون إلا لمن عمل بطاعة الله ورجا ثوابها، أو تاب من معصيته ورجا قبول توبته، فأما الرجاء بلا عمل فهو غرور وتمن مذموم.
(1) التوكل على الشيء الاعتماد عليه.
والتوكل على الله تعالى: الاعتماد على الله تعالى كفاية وحسبا في جلب المنافع، ودفع المضار، وهو من تمام الإيمان، وعلاماته؛ لقوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وإذا صدق العبد في اعتماده على الله تعالى كفاه الله تعالى ما أهمه لقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} أي كافيه ثم طمأن المتوكل بقوله: {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} فلا يعجزه شيء أراده.
واعلم أن التوكل أنواع:
الأول: التوكل على الله تعالى وهو من تمام الإيمان وعلامات صدقه وهو واجب لا يتم الإيمان إلا به وسبق دليله.
الثاني: توكل السر بأن يعتمد على ميت في جلب منفعة، أو دفع مضرة فهذا شرك أكبر؛ لأنه لا يقع إلا ممن يعتقد أن لهذا الميت تصرفا سريا في الكون، ولا فر ق بين أن يكون نبيا، أو وليا، أو طاغوتا عدوّا لله تعالى.
الثالث: التوكل على الغير فيما يتصرف فيه الغير مع الشعور بعلو مرتبته
(6/54)
ودليل الرغبة (1) والرهبة (2) والخشوع (3) قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (1)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وانحطاط مرتبة المتوكل عنه مثل أن يعتمد عليه في حصول المعاش ونحوه، فهذا نوع من الشرك الأصغر لقوة تعلق القلب به والاعتماد عليه. أما لو اعتمد عليه على أنه سبب، وأن الله تعالى هو الذي قدر ذلك على يده، فإن ذلك لا بأس به، إذا كان للمتوكل عليه أثر صحيح في حصوله.
الرابع: التوكل على الغير فيما يتصرف فيه المتوكل بحيث ينيب غيره في أمر تجوز فيه النيابة فهذا لا بأس به بدلالة الكتاب، والسنة، والإجماع فقد قال يعقوب لبنيه: {يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ} ووكل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، على الصدقة عمالا وحفاظا، ووكل في إثبات الحدود وإقامتها، ووكل علي بن أبي طالب رضي الله عنه في هديه في حجة الوداع أن يتصدق بجلودها وجلالها، وأن ينحر ما بقي من المائة بعد أن نحر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيده ثلاثا وستين. وأما الإجماع على جواز ذلك فمعلوم من حيث الجملة.
(1) الرغبة: محبة الوصول إلى الشيء المحبوب.
(2) الرهبة: الخوف المثمر للهرب من المخوف فهي خوف مقرون بعمل.
(3) الخشوع: الذل والتطامن لعظمة الله بحيث يستسلم لقضائه الكوني والشرعي.
في هذه الآية الكريمة وصف الله تعالى الخلص من عباده بأنهم
(6/55)
ودليل الخشية قوله تعالى: {فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} (1)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يدعون الله تعالى رغبا ورهبا مع الخشوع له، والدعاء هنا شامل لدعاء العبادة ودعاء المسألة، فهم يدعون الله رغبة فيما عنده وطمعا في ثوابه مع خوفهم من عقابه وآثار ذنوبهم، والمؤمن ينبغي أن يسعى إلى الله تعالى بين الخوف والرجاء، ويغلب الرجاء في جانب الطاعة لينشط عليها ويؤمل قبولها، ويغلب الخوف إذا هم بالمعصية ليهرب منها وينجو من عقابها.
وقال بعض العلماء: يغلب جانب الرجاء في حال المرض وجانب الخوف في حال الصحة؛ لأن المريض منكسر ضعيف النفس وعسى أن يكون قد اقترب أجله فيموت وهو يحسن الظن بالله عز وجل، وفي حال الصحة يكون نشيطا مؤملا طول البقاء فيحمله ذلك على الأشر والبطر فيغلب جانب الخوف ليسلم من ذلك.
وقيل: يكون رجاؤه وخوفه واحدا سواء لئلا يحمله الرجاء على الأمن من مكر الله، والخوف على اليأس من رحمة الله تعالى، وكلاهما قبيح مهلك لصاحبه.
(1) الخشية هي الخوف المبني على العلم بعظمة من يخشاه وكمال سلطانه لقول الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} أي العلماء بعظمته، وكمال سلطانه فهي أخص من الخوف، ويتضح الفرق بينهما بالمثال فإذا خفت من شخص لا تدري هل هو قادر عليك أم لا فهذا خوف، وإذا خفت من شخص تعلم أنه قادر عليك فهذه خشية. ويقال في أقسام أحكام الخشية ما يقال في أقسام أحكام الخوف.
(6/56)
ودليل الإنابة قوله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} (1)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الإنابة الرجوع إلى الله تعالى بالقيام بطاعته، واجتناب معصيته، وهي قريبة من معنى التوبة إلا أنها أرق منها لما تشعر به من الاعتماد على الله واللجوء إليه، ولا تكون إلا لله تعالى، ودليلها قوله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} .
والمراد بقوله تعالى: {وَأَسْلِمُوا لَهُ} الإسلام الشرعي وهو الاستسلام لأحكام الله الشرعية وذلك أن الإسلام لله تعالى نوعان:
الأول: إسلام كوني وهو الاستسلام لحكمه الكوني وهذا عام لكل من في السماوات والأرض من مؤمن وكافر، وبر وفاجر لا يمكن لأحد أن يستكبر عنه ودليله قوله تعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} .
الثاني: إسلام شرعي وهو الاستسلام لحكمه الشرعي وهذا خاص بمن قام بطاعته من الرسل وأتباعهم بإحسان، ودليله في القرآن كثير ومنه هذه الآية التي ذكرها المؤلف رحمه الله.
(6/57)
ودليل الاستعانة قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وفي الحديث «إذا استعنت فاستعن بالله (1) » (1)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الاستعانة طلب العون وهي أنواع:
الأول: الاستعانة بالله وهي: الاستعانة المتضمنة لكمال الذل من العبد لربه، وتفويض الأمر إليه، واعتقاد كفايته وهذه لا تكون إلا لله تعالى ودليلها قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ووجه الاختصاص أن الله تعالى قدم المعمول {إِيَّاكَ} وقاعدة اللغة العربية التي نزل بها القرآن أن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر والاختصاص وعلى هذا يكون صرف هذا النوع لغير الله تعالى شركا مخرجا عن الملة.
الثاني: الاستعانة بالمخلوق على أمر قادر عليه فهذه على حسب المستعان عليه فإن كانت على بر فهي جائزة للمستعين مشروعة للمعين لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} . وإن كانت على إثم فهي حرام على المستعين والمعين لقوله تعالى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} .
وإن كانت على مباح فهي جائزة للمستعين والمعين لكن المعين قد يثاب على ذلك ثواب الإحسان إلى الغير ومن ثم تكون في حقه مشروعة لقوله تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} .
الثالث: الاستعانة بمخلوق حي حاضر غير قادر فهذه لغو لا طائل تحتها مثل أن يستعين بشخص ضعيف على حمل شيء ثقيل.
الرابع: الاستعانة بالأموات مطلقا أو بالأحياء على أمر غائب لا يقدرون على مباشرته فهذا شرك لأنه لا يقع إلا من شخص يعتقد أن
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد 1 / 293، والترمذي 4/575.
(6/58)
ودليل الاستعاذة قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} (1)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لهؤلاء تصرفا خفيا في الكون.
الخامس: الاستعانة بالأعمال والأحوال المحبوبة إلى الله تعالى وهذه مشروعة بأمر الله تعالى في قوله: {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} .
وقد استدل المؤلف رحمه الله تعالى للنوع الأول بقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا استعنت فاستعن بالله» .
(1) الاستعاذة: طلب الإعاذة، والإعاذة الحماية من مكروه فالمستعيذ محتم بمن استعاذ به ومعتصم به والاستعاذة أنواع:
الأول: الاستعاذة بالله تعالى وهي المتضمنة لكمال الافتقار إليه والاعتصام به واعتقاد كفايته وتمام حمايته من كل شيء حاضر أو مستقبل، صغير أو كبير، بشر أو غير بشر ودليلها قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} إلى آخر السورة وقوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} إلى آخر السورة.
الثاني: الاستعاذة بصفة من صفاته ككلامه وعظمته وعزته ونحو ذلك، ودليل ذلك قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق» وقوله: «أعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي» وقوله في دعاء الألم: «أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر» ، وقوله: «أعوذ برضاك من سخطك» ، وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين نزل قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} فقال: "أعوذ بوجهك".
(6/59)
ودليل الاستغاثة قوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} (1)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الثالث: الاستعاذة بالأموات أو بالأحياء غير الحاضرين القادرين على العوذ فهذا شرك، ومنه قوله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} .
الرابع: الاستعاذة بما يمكن العوذ به من المخلوقين من البشر أو الأماكن أو غيرها فهذا جائز ودليله قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذكر الفتن: «من تشرف لها تستشرفه ومن وجد ملجأ أو معاذا فليعذبه» . متفق عليه وقد بين صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا الملجأ والمعاذ بقوله: «فمن كان له إبل فليلحق بإبله» الحديث رواه مسلم، وفي صحيحه أيضا عن جابر رضي الله عنه «أن امرأة من بني مخزوم سرقت فأتى بها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فعاذت بأم سلمة» . الحديث، وفي صحيحه أيضا عن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «يعوذ عائذ بالبيت، فيبعث إليه بعث» الحديث.
ولكن إن استعاذ من شر ظالم وجب إيواؤه وإعاذته بقدر الإمكان، وإن استعاذ ليتوصل إلى فعل محظور أو الهرب من واجب حرم إيواؤه.
(1) الاستغاثة طلب الغوث وهو الإنقاذ من الشدة والهلاك، وهو أقسام:
الأول: الاستغاثة بالله عز وجل وهذا من أفضل الأعمال وأكملها وهو دأب الرسل وأتباعهم، ودليله ما ذكره الشيخ رحمه الله {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} وكان ذلك في غزوة بدر حين نظر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المشركين في ألف رجل
(6/60)
وأصحابه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا فدخل العريش يناشد ربه عز وجل رافعا يديه مستقبل القبلة يقول: «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض» (3) وما زال يستغيث بربه رافعا يديه حتى سقط رداؤه عن منكبيه فأخذ أبو بكر رضي الله عنه رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه، وقال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك فأنزل الله هذه الآية.
الثاني: الاستغاثة بالأموات أو بالأحياء غير الحاضرين القادرين على الإغاثة فهذا شرك؛ لأنه لا يفعله إلا من يعتقد أن لهؤلاء تصرفا خفيا في الكون فيجعل لهم حظا من الربوبية قال الله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} .
الثالث: الاستغاثة بالأحياء العالمين القادرين على الإغاثة فهذا جائز كالاستعانة بهم قال الله تعالى في قصة موسى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} .
الرابع: الاستغاثة بحي غير قادر من غير أن يعتقد أن له قوة خفية مثل أن يستغيث الغريق برجل مشلول فهذا لغو وسخرية بمن استغاث به فيمنع منه لهذه العلة، ولعلة أخرى وهي الغريق ربما اغتر بذلك غيره فتوهم أن لهذا المشلول قوة خفية ينقذ بها من الشدة.
(6/61)
ودليل الذبح قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ} الآية ومن السنة: «لعن الله من ذبح لغير الله» . (1)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الذبح إزهاق الروح بإراقة الدم على وجه مخصوص ويقع على وجوه:
الأول: أن يقع عبادة بأن يقصد به تعظيم المذبوح له والتذلل له والتقرب إليه، فهذا لا يكون إلا لله تعالى على الوجه الذي شرعه الله تعالى، وصرفه لغير الله شرك أكبر، ودليله ما ذكره الشيخ رحمه الله وهو قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ} .
الثاني: أن يقع إكراما لضيف أو وليمة لعرس أو نحو ذلك فهذا مأمور به إما وجوبا أو استحبابا؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه» (1) وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعبد الرحمن بن عوف: «أولم ولو بشاة» .
الثالث: أن يقع على وجه التمتع بالأكل أو الاتجار به ونحو ذلك، فهذا من قسم المباح فالأصل فيه الإباحة لقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} وقد يكون مطلوبا أو منهيا عنه حسب ما يكون وسيلة له.
(6/62)
ودليل النذر (1) قوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} (1)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أي دليل كون النذر من العبادة قوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} .
(2) وجه الدلالة من الآية أن الله أثنى عليهم لإيفائهم بالنذر وهذا يدل على أن الله يحب ذلك، وكل محبوب لله من الأعمال فهو عبادة.
ويؤيد ذلك قوله: {وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} .
واعلم أن النذر الذي امتدح الله تعالى هؤلاء القائمين به هو جميع العبادات التي فرضها الله عز وجل فإن العبادات الواجبة إذا شرع فيها الإنسان فقد التزم بها، ودليل ذلك قوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} .
والنذر الذي هو إلزام الإنسان نفسه بشيء ما، أو طاعة لله غير واجبة مكروه، وقال بعض العلماء: إنه محرم لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نهى عن النذر وقال: «إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل» ومع ذلك فإذا نذر الإنسان طاعة لله وجب عليه فعلها؛ لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من نذر أن يطيع الله فليطعه» (2) .
والخلاصة أن النذر يطلق على العبادات المفروضة عموما، ويطلق على النذر الخاص وهو إلزام الإنسان نفسه بشيء لله عز وجل وقد قسم العلماء النذر الخاص إلى أقسام ومحل بسطها كتب الفقه.
(6/63)
الأصل الثاني: (1) : معرفة دين الإسلام بالأدلة وهو: الاستسلام (2) لله بالتوحيد (3) والانقياد له بالطاعة (4) ، والبراءة من الشرك وأهله (5)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أي من الأصول الثلاثة: معرفة دين الإسلام بالأدلة يعني أن يعرف دين الإسلام بأدلته من الكتاب والسنة.
(2) دين الإسلام وإن شئت فقل: الإسلام هو "الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله" فهو متضمن لأمور ثلاثة.
(3) أي بأن يستسلم العبد لربه استسلاما شرعيا، وذلك بتوحيد الله عز وجل وإفراده بالعبادة، وهذا الإسلام هو الذي يحمد عليه العبد ويثاب عليه، أما الاستسلام القدري فلا ثواب فيه لأنه لا حيلة للإنسان فيه قال الله تعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} .
(4) وذلك بفعل أوامره واجتناب نواهيه؛ لأن الطاعة طاعة في الأمر بفعله وطاعة في النهي بتركه.
(5) البراءة من الشرك أي أن يتبرأ منه، ويتخلى منه وهذا يستلزم البراءة من أهله قال الله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} ".
(6/64)
وهو ثلاث مراتب (1) : الإسلام، والإيمان والإحسان، وكل مرتبة لها أركان (2) فأركان الإسلام خمسة (3) : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله (4) ، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) بين المؤلف رحمه الله تعالى أن الدين الإسلامي ثلاث مراتب بعضها فوق بعض وهي الإسلام، والإيمان، والإحسان.
(2) دليل ذلك قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الذي رواه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين جاء جبريل يسأل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الإسلام والإيمان والإحسان، وبين له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك وقال: «هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم» .
(3) دليل ذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «"بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام» .
(4) شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ركن واحد، وإنما كانتا ركنا واحدا مع أنهما من شقين؛ لأن العبادات تنبني على تحقيقهما معا، فلا تقبل العبادة إلا بالإخلاص لله عز وجل، وهو ما تتضمنه شهادة أن لا إله إلا الله واتباع الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو ما تتضمنه أن محمدا رسول الله.
(6/65)
فدليل الشهادة قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (1) ومعناها: لا معبود بحق إلا الله؛ "لا إله" نافيا جميع ما يعبد من دون الله " إلا الله" مثبتا العبادة لله وحده لا شريك له في عبادته، كما أنه لا شريك له في ملكه (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في الآية الكريمة شهادة الله لنفسه بأنه لا إله إلا هو، وشهادة الملائكة وشهادة أهل العلم بذلك، وأنه تعالى قائم بالقسط أي العدل، ثم قرر ذلك بقوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وفي هذه الآية منقبة عظيمة لأهل العلم حيث أخبر أنهم شهداء معه ومع الملائكة والمراد بهم أولو العلم بشريعته ويدخل فيهم دخولا أوليا رسله الكرام. وهذه الشهادة أعظم شهادة لعظم الشاهد والمشهود به، فالشاهد هو الله وملائكته، وأولو العلم، والمشهود به توحيد الله في ألوهيته وتقرير ذلك في قوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .
(2) قوله: ومعناها أي معنى لا إله إلا الله لا معبود بحق إلا الله فشهادة أن لا إله إلا الله أن يعترف الإنسان بلسانه وقلبه بأنه لا معبود حق إلا الله عز وجل لأن "إله" بمعنى مألوه، والتأله التعبد، وجملة " لا إله إلا الله" مشتملة على نفي وإثبات، أما النفي فهو " لا إله" وأما الإثبات فهو "إلا الله" و"الله" لفظ الجلالة بدل من خبر " لا " المحذوف والتقدير "لا إله حق إلا الله" وبتقديرنا الخبر بهذه الكلمة "حق" يتبين الجواب عن الإشكال التالي: وهو كيف يقال: " لا إله إلا الله" مع أن هناك آلهة تعبد من دون الله وقد سماها الله تعالى آلهة وسماها عابدوها آلهة قال الله تبارك
(6/66)
وتعالى: {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ} وكيف يمكن أن نثبت الألوهية لغير الله عز وجل والرسل يقولون لأقوامهم {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} والجواب على هذا الإشكال يتبين بتقدير الخبر في " لا إله إلا الله" فنقول: هذه الآلهة التي تعبد من دون الله هي آلهة لكنها آلهة باطلة ليست آلهة حقة، وليس لها من حق الألوهية شيء، ويدل لذلك قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} ويدل لذلك أيضا قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} وقوله تعالى عن يوسف عليه الصلاة والسلام: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} . إذا فمعنى " لا إله إلا الله " لا معبود حق إلا الله عز وجل، فأما المعبودات سواه فإن ألوهيتها التي يزعمها عابدوها ليست حقيقية أي ألوهية باطلة.
(6/67)
وتفسيرها الذي يوضحها، قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ} (1) {لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ} (2) {مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} (3) {فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} (4) {وَجَعَلَهَا} (5) {كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} (1) {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (2)
وقوله: {قُلْ} (1) {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ} (2) {سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا}
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) إبراهيم هو خليل الله إمام الحنفاء، وأفضل الرسل بعد محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبوه آزر.
(2) (براء) صفة مشبهة من البراءة وهي أبلغ من بريء. وقوله: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} يوافي قول: " لا إله ".
(3) خلقني ابتداء على الفطرة وقوله: {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} يوافي قول: "إلا الله" فهو سبحانه وتعالى لا شريك له في عبادته كما أنه لا شريك له في ملكه ودليل ذلك قوله تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ففي هذه الآية حصر الخلق، والأمر لله رب العالمين وحده، فله الخلق وله الأمر الكوني والشرعي.
(4) {سَيَهْدِينِ} سيدلني على الحق ويوفقني له. (5) {وَجَعَلَهَا} أي هذه الكلمة وهي البراءة من كل معبود سوى الله.
(6) {فِي عَقِبِهِ} في ذريته.
(7) {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي إليها من الشرك.
(1) الخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمناظرة أهل الكتاب اليهود والنصارى.
(2) {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} هذه الكلمة هي ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فلا نعبد إلا الله هي معنى "لا إله إلا الله"، ومعنى {سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}
(6/68)
{نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} (3) {فَإِنْ تَوَلَّوْا} (4) {فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (5) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أننا نحن وإياكم سواء فيها.
(3) أي لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله عز وجل بحيث يعظم كما يعظم الله عز وجل، ويعبد كما يعبد الله، ويجعل الحكم لغيره.
(4) {فَإِنْ تَوَلَّوْا} أعرضوا عما دعوتموهم إليه.
(5) أي فأعلنوا لهم وأشهدوهم أنكم مسلمون لله، بريئون مما هم عليه من العناد والتولي عن هذه الكلمة العظيمة "لا إله إلا الله".
(6/69)
ودليل شهادة أن محمدا رسول الله قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} (1) {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} (2) {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} (3) {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (4) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) قوله: {مِنْ أَنْفُسِكُمْ} أي من جنسكم بل هو من بينكم أيضا، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} .
(2) أي يشق عليه ما شق عليكم.
(3) أي على منفعتكم ودفع الضر عنكم.
(4) أي ذو رأفة ورحمة بالمؤمنين، وخص المؤمنين بذلك لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مأمور بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم، وهذه الأوصاف لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تدل على أنه رسول الله حقا كما دل على ذلك قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} وقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} والآيات في هذا المعنى كثيرة جدا تدل على أن محمدا رسول الله حقا.
(6/70)
(1) ومعنى شهادة أن محمدا رسول الله: طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) معنى شهادة "أن محمدا رسول الله" هو الإقرار باللسان والإيمان بالقلب بأن محمد بن عبد الله القرشي الهاشمي رسول الله - عز وجل - إلى جميع الخلق من الجن والإنس كما قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} ولا عبادة لله تعالى إلا عن طريق الوحي الذي جاء به محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} .
ومقتضى هذه الشهادة أن تصدق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما أخبر، وأن تمتثل أمره فيما أمر، وأن تجتنب ما عنه نهى وزجر، وأن لا تعبد الله إلا بما شرع، ومقتضى هذه الشهادة أيضا أن لا تعتقد أن لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حقا في الربوبية وتصريف الكون، أو حقا في العبادة، بل هو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبد لا يعبد ورسول لا يكذب، ولا يملك لنفسه ولا لغيره شيئا من النفع أو الضر إلا ما شاء الله كما قال الله تعالى: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} . فهو عبد مأمور يتبع ما أمر به، وقال الله تعالى: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} وقال سبحانه: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .
(6/71)
وبهذا تعلم أنه لا يستحق العبادة لا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا من دونه من المخلوقين، وأن العبادة ليست إلا لله تعالى وحده. {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} . وأن حقه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أن تنزله المنزلة التي أنزله الله تعالى إياها وهي أنه عبد الله ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه.
(6/72)
ودليل الصلاة، والزكاة (1) وتفسير التوحيد قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} (2) {وَذَلِكَ} (3) {دِينُ الْقَيِّمَةِ} (4)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أي الدليل على أن الصلاة والزكاة من الدين قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} . وهذه الآية عامة شاملة لجميع أنواع العبادة فلا بد أن يكون الإنسان فيها مخلصا لله عز وجل حنيفا متبعا لشريعته.
(2) هذا من باب عطف الخاص على العام، لأن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة من العبادة ولكنه سبحانه وتعالى نص عليهما لما لهما من الأهمية فالصلاة عبادة البدن، والزكاة عبادة المال وهما قرينتان في كتاب الله عز وجل.
(3) أي عبادة الله مخلصين له الدين حنفاء، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة.
(4) أي دين الملة القيمة التي لا اعوجاج فيها لأنها دين الله عز وجل ودين الله مستقيم كما قال الله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} .
وهذه الآية الكريمة كما تضمنت ذكر العبادة والصلاة والزكاة فقد تضمنت حقيقة التوحيد وأنه الإخلاص لله عز وجل من غير ميل إلى الشرك، فمن لم يخلص لله لم يكن موحدا، ومن جعل عبادته لغير الله لم يكن موحدا.
(6/73)
ودليل الصيام (1) قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (2) ، ودليل الحج (3) قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أي دليل وجوبه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} وفي قوله: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} فوائد:
أولا: أهمية الصيام حيث فرضه الله عز وجل على الأمم من قبلنا وهذا يدل على محبة الله عز وجل له وأنه لازم لكل أمة.
ثانيا: التخفيف على هذه الأمة حيث إنها لم تكلف وحدها بالصيام الذي قد يكون فيه مشقة على النفوس والأبدان.
ثالثا: الإشارة إلى أن الله تعالى أكمل لهذه الأمة دينها حيث أكمل لها الفضائل التي سبقت لغيرها.
(2) بين الله عز وجل في هذه الآية حكمة الصيام بقوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} أي تتقون الله بصيامكم وما يترتب عليه من خصال التقوى وقد أشار النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى هذه الفائدة بقوله: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» .
(3) أي دليل وجوبه قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} إلخ.
وهذه الآية نزلت في السنة التاسعة من الهجرة وبها كانت فريضة الحج ولكن الله عز وجل قال: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} ففيه دليل على أن من لم يستطع فلا حج عليه.
(6/74)
{وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (4) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(4) في قوله تعالى {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} دليل على أن ترك الحج ممن استطاع إليه سبيلا يكون كفرا ولكنه كفر لا يخرج من الملة على قول جمهور العلماء لقول عبد الله بن شقيق: "كان أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة".
(6/75)
المرتبة الثانية (1) :الإيمان (2) وهو بضع (3) وسبعون شعبة (4) ، فأعلاها قول: لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى (5) عن الطريق، والحياء (6) شعبة من الإيمان
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أي من مراتب الدين.
(2) الإيمان في اللغة التصديق.
وفي الشرع "اعتقاد بالقلب وقول باللسان وعمل بالجوارح وهو بضع وسبعون شبعة".
(3) البضع: بكسر الباء من الثلاثة إلى التسعة.
(4) الشبعة: الجزء من الشيء.
(5) أي إزالة الأذى وهو ما يؤذي المارة من أحجار وأشواك، ونفايات وقمامة وما له رائحة كريهة ونحو ذلك.
(6) الحياء صفة انفعالية تحدث عند الخجل وتحجز المرء عن فعل ما يخالف المروءة.
والجمع بين ما تضمنه كلام المؤلف رحمه الله تعالى من أن الإيمان بضع وسبعون شعبة وأن الإيمان أركانه ستة أن نقول: الإيمان الذي هو العقيدة أصوله ستة وهي المذكورة في حديث جبريل عليه الصلاة والسلام حينما سأل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الإيمان فقال: «الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره» متفق عليه.
وأما الإيمان الذي يشمل الأعمال وأنواعها وأجناسها فهو بضع وسبعون
(6/76)
وأركانه ستة: أن تؤمن بالله (1)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
شعبة، ولهذا سمى الله تعالى الصلاة إيمانا في قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} قال المفسرون: يعني صلاتكم إلى بيت المقدس؛ لأن الصحابة كانوا قبل أن يؤمروا بالتوجه إلى الكعبة يصلون إلى بيت المقدس.
(1) الإيمان بالله يتضمن أربعة أمور:
الأول: الإيمان بوجود الله تعالى:
وقد دل على وجوده تعالى: الفطرة، والعقل، والشرع، والحس.
1- أما دلالة الفطرة على وجوده: فإن كل مخلوق قد فطر على الإيمان بخالقه من غير سبق تفكير أو تعليم، ولا ينصرف عن مقتضى هذه الفطرة إلا من طرأ على قلبه ما يصرفه عنها؛ لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه» . رواه البخاري.
2 - وأما دلالة العقل على وجود الله تعالى: فلأن هذه المخلوقات سابقها ولاحقها لا بد لها من خالق أوجدها إذ لا يمكن أن توجد نفسها بنفسها، ولا يمكن أن توجد صدفة.
لا يمكن أن توجد نفسها بنفسها لأن الشيء لا يخلق نفسه، لأنه قبل وجوده معدوم فكيف يكون خالقا؟
ولا يمكن أن توجد صدفة، لأن كل حادث لا بد له من محدث، ولأن وجودها على هذا النظام البديع، والتناسق المتآلف، والارتباط الملتحم بين
(6/77)
الأسباب ومسبباتها، وبين الكائنات بعضها مع بعض يمنع منعا باتا أن يكون وجودها صدفة، إذ الموجود صدفة ليس على نظام في أصل وجوده فكيف يكون منتظما حال بقائه وتطوره؟!
وإذا لم يمكن أن توجد هذه المخلوقات نفسها بنفسها، ولا أن توجد صدفة تعين أن يكون لها موجد وهو الله رب العالمين.
وقد ذكر الله تعالى هذا الدليل العقلي والبرهان القطعي في سورة الطور، حيث قال: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} يعني أنهم لم يخلقوا من غير خالق، ولا هم الذين خلقوا أنفسهم، فتعين أن يكون خالقهم هو الله تبارك وتعالى، ولهذا «لما سمع - جبير بن مطعم - رضي الله عنه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ سورة الطور فبلغ هذه الآيات: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ} وكان - جبير يومئذ مشركا قال: "كاد قلبي أن يطير، وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي» رواه - البخاري - مفرقا (1) .
ولنضرب مثلا يوضح ذلك، فإنه لو حدثك شخص عن قصر مُشيد، أحاطت به الحدائق، وجرت بينها الأنهار، وملئ بالفرش والأسرة، وزين بأنواع الزينة من مقوماته ومكملاته، وقال لك: إن هذا القصر وما فيه من كمال قد أوجد نفسه، أو وجد هكذا صدفة بدون موجد، لبادرت إلى إنكار ذلك وتكذيبه، وعددت حديثه سفها من القول، أفيجوز بعد ذلك أن يكون
(6/78)
هذا الكون الواسع بأرضه وسمائه، وأفلاكه وأحواله، ونظامه البديع الباهر، قد أوجد نفسه، أو وجد صدفة بدون موجد؟ !
3 - وأما دلالة الشرع على وجود الله تعالى: فلأن الكتب السماوية كلها تنطق بذلك، وما جاءت به من الأحكام المتضمنة لمصالح الخلق دليل على أنها من رب حكيم عليم بمصالح خلقه، وما جاءت به من الأخبار الكونية التي شهد الواقع بصدقها دليل على أنها من رب قادر على إيجاد ما أخبر به.
4 - وأما أدلة الحس على وجود الله فمن وجهين:
أحدهما: أننا نسمع ونشاهد من إجابة الداعين، وغوث المكروبين، ما يدل دلالة قاطعة على وجوده تعالى، قال الله تعالى: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} وقال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} وفي صحيح البخاري عن - أنس بن مالك - رضي الله عنه: «"أن أعرابيا دخل يوم الجمعة والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطب، فقال: (يا رسول الله) ، هلك المال، وجاع العيال، فادع الله لنا، فرفع يديه ودعا فثار السحاب أمثال الجبال فلم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته. وفي الجمعة الثانية قام ذلك الأعرابي أو غيره فقال: (يا رسول الله) تهدم البناء وغرق المال، فادع الله لنا، فرفع يديه وقال: "اللهم حوالينا ولا علينا"، فما يشير إلى ناحية إلا انفرجت» (1) .
وما زالت إجابة الداعين أمرا مشهودا إلى يومنا هذا لمن صدق اللجوء
(6/79)
إلى الله تعالى وأتى بشرائط الإجابة.
الوجه الثاني: أن آيات الأنبياء التي تسمى (المعجزات) ويشاهدها الناس، أو يسمعون بها، برهان قاطع على وجود مرسلهم، وهو الله تعالى، لأنها أمور خارجة عن نطاق البشر، يجريها الله تعالى تأييدا لرسله ونصرا لهم.
مثال ذلك: آية موسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين أمره الله تعالى أن يضرب بعصاه البحر، فضربه فانفلق اثني عشر طريقا يابسا، والماء بينها كالجبال، قال الله تعالى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} .
ومثال ثان: آية عيسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث كان يحيي الموتى، ويخرجهم من قبورهم بإذن الله، قال الله تعالى: {وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ} وقال: {وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي} .
ومثال ثالث: لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين طلبت منه قريش آية، فأشار إلى القمر فانفلق فرقتين فرآه الناس، وفي ذلك قوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} . فهذه الآيات المحسوسة التي يجريها الله تعالى تأييدا لرسله، ونصرا لهم، تدل دلالة قطعية على وجوده تعالى.
الثاني: الإيمان بربوبيته:
أي بأنه وحده الرب لا شريك له ولا معين.
والرب: من له الخلق والملك، والأمر، فلا خالق إلا الله، ولا مالك
(6/80)
إلا هو، ولا أمر إلا له، قال تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} وقال: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} .
ولم يعلم أن أحدا من الخلق أنكر ربوبية الله سبحانه، إلا أن يكون مكابرا غير معتقد بما يقول، كما حصل من - فرعون - حين قال لقومه: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} وقال: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} لكن ذلك ليس عن عقيدة، قال الله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} وقال موسى لفرعون فيما حكى الله عنه: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} .
ولهذا كان المشركون يقرون بربوبية الله تعالى، مع إشراكهم به في الألوهية، قال الله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} .
وقال الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} وقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} .
وأمر الرب سبحانه شامل للأمر الكوني والشرعي فكما أنه مدبر الكون القاضي فيه بما يريد حسب ما تقتضيه حكمته، فهو كذلك الحاكم فيه بشرع العبادات وأحكام المعاملات حسبما تقتضيه حكمته، فمن اتخذ
(6/81)
مع الله تعالى مشرعا في العبادات أو حاكما في المعاملات فقد أشرك به ولم يحقق الإيمان.
الثالث: الإيمان بألوهيته:
أي (بأنه وحده الإله الحق لا شريك له) و"الإله" بمعنى المألوه" أي "المعبود حبا وتعظيما، وقال الله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} وقال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . وكل ما اتخذ إلها مع الله يعبد من دونه فألوهيته باطلة، قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} وتسميتها آلهة لا يعطيها حق الألوهية قال الله تعالى في (اللات والعزى ومناة) : {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} وحكى عن هود أنه قال لقومه: {أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} وحكى عن يوسف أنه قال لصاحبي السجن: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} ولهذا كانت الرسل عليهم الصلاة والسلام يقولون لأقوامهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ولكن أبى ذلك المشركون، واتخذوا من دون الله آلهة، يعبدونهم مع الله سبحانه وتعالى، ويستنصرون بهم، ويستغيثون.
وقد أبطل الله تعالى اتخاذ المشركين هذه الآلهة ببرهانين عقليين:
(6/82)
الأول: أنه ليس في هذه الآلهة التي اتخذوها شيء من خصائص الألوهية، فهي مخلوقة لا تخلق، ولا تجلب نفعا لعابديها، ولا تدفع عنهم ضررا، ولا تملك لهم حياة ولا موتا، ولا يملكون شيئا من السماوات ولا يشاركون فيه.
قال الله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا} .
وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} .
وقال: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} .
وإذا كانت هذه حال تلك الآلهة، فإن اتخاذها آلهة من أسفه السفه، وأبطل الباطل.
الثاني: أن هؤلاء المشركين كانوا يقرون بأن الله تعالى وحده الرب الخالق الذي بيده ملكوت كل شيء، وهو يجير ولا يجار عليه، وهذا يستلزم أن يوحدوه بالألوهية كما وحده بالربوبية كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} وقال:
(6/83)
{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} .
الرابع: الإيمان بأسمائه وصفاته: أي (إثبات ما أثبته الله لنفسه في كتابه، أو سنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأسماء والصفات على الوجه اللائق به من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل، قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وقال: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .
وقد ضل في هذا الأمر طائفتان:
إحداهما: (المعطلة) الذين أنكروا الأسماء، والصفات، أو بعضها، زاعمين أن إثباتها لله يستلزم التشبيه، أي تشبيه الله تعالى بخلقه، وهذا الزعم باطل لوجوه منها:
الأول: أنه يستلزم لوازم باطلة كالتناقض في كلام الله سبحانه، وذلك أن الله تعالى أثبت لنفسه الأسماء والصفات، ونفى أن يكون كمثله شيء، ولو كان إثباتها يستلزم التشبيه لزم التناقض في كلام الله، وتكذيب بعضه بعضا.
الثاني: أنه لا يلزم من اتفاق الشيئين في اسم أو صفة أن يكونا متماثلين، فأنت ترى الشخصين يتفقان في أن كلا منهما إنسان سميع،
(6/84)
بصير، متكلم، ولا يلزم من ذلك أن يتماثلا في المعاني الإنسانية، والسمع والبصر، والكلام، وترى الحيوانات لها أيد وأرجل، وأعين ولا يلزم من اتفاقها هذا أن تكون أيديها وأرجلها، وأعينها متماثلة.
فإذا ظهر التباين بين المخلوقات فيما تتفق فيه من أسماء، أو صفات، فالتباين بين الخالق والمخلوق أبين وأعظم.
الطائفة الثانية: (المشبهة) الذين أثبتوا الأسماء والصفات مع تشبيه الله تعالى بخلقه زاعمين أن هذا مقتضى دلالة النصوص، لأن الله تعالى يخاطب العباد بما يفهمون وهذا الزعم باطل لوجوه منها:
الأول: أن مشابهة الله تعالى لخلقه أمر باطل يبطله العقل، والشرع، ولا يمكن أن يكون مقتضى نصوص الكتاب والسنة أمرا باطلا.
الثاني: أن الله تعالى خاطب العباد بما يفهمون من حيث أصل المعنى، أما الحقيقة والكنه الذي عليه ذلك المعنى فهو مما استأثر الله تعالى بعلمه فيما يتعلق بذاته، وصفاته.
فإذا اثبت الله لنفسه أنه سميع، فإن السمع معلوم من حيث أصل المعنى (وهو إدراك الأصوات) لكن حقيقة ذلك بالنسبة إلى سمع الله تعالى غير معلومة، لأن حقيقة السمع تتباين حتى في المخلوقات، فالتباين فيها بين الخالق والمخلوق، أبين وأعظم.
وإذا أخبر الله تعالى عن نفسه أنه استوى على عرشه فإن الاستواء من حيث أصل المعنى معلوم، لكن حقيقة الاستواء التي هو عليه غير معلومة
(6/85)
بالنسبة إلى استواء الله على عرشه لأن حقيقة الاستواء تتباين في حق المخلوق، فليس الاستواء على كرسي مستقر كالاستواء على رحل بعير صعب نفور، فإذا تباينت في حق المخلوق، فالتباين فيها بين الخالق والمخلوق أبين وأعظم.
والإيمان بالله تعالى على ما وصفْنا يثمر للمؤمنين ثمرات جليلة منها:
الأولى: تحقيق توحيد الله تعالى بحيث لا يتعلق بغيره رجاء، ولا خوف، ولا يعبد غيره.
الثانية: كمال محبة الله تعالى، وتعظيمه بمقتضى أسمائه الحسنى وصفاته العليا.
الثالثة: تحقيق عبادته بفعل ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه.
(6/86)
وملائكته (1)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الملائكة: عالم غيبي مخلوقون، عابدون لله تعالى، وليس لهم من خصائص الربوبية والألوهية شيء، خلقهم الله تعالى من نور، ومنحهم الانقياد التام لأمره، والقوة على تنفيذه. قال الله تعالى: {وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} .
وهم عدد كثير لا يحصيهم إلا الله تعالى، وقد ثبت في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه في قصة المعراج أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رفع له البيت المعمور في السماء يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا لم يعودا إليه آخر ما عليهم. (1)
والإيمان بالملائكة يتضمن أربعة أمور:
الأول: الإيمان بوجودهم.
الثاني: الإيمان بمن علمنا اسمه منهم باسمه (كجبريل) ومن لم نعلم اسمه نؤمن بهم إجمالا.
الثالث: الإيمان بما علمنا من صفاتهم، كصفة (جبريل) فقد أخبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه رآه على صفته التي خلق عليها وله ستمائة جناح قد سد الأفق.
وقد يتحول الملك بأمر الله تعالى إلى هيئة رجل، كما حصل (لجبريل) حين أرسله تعالى إلى- مريم -فتمثل لها بشرا سويا، وحين جاء إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو جالس في أصحابه جاءه بصفة رجل شديد بياض الثياب شديد
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة. ومسلم، كتاب الإيمان، باب: الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم وفرض الصلوات. ولفظه في مسلم: "… ثم رفع لي البيت المعمور فقلت: يا جبريل ما هذا؟ قال: هذا البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا منه لم يعودوا فيه آخر ما عليهم" حديث (264) (164) .
(6/87)
سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه أحد من الصحابة، فجلس إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وسأل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الإسلام، والإيمان والإحسان، والساعة، وأماراتها، فأجابه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فانطلق. ثم قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم» . رواه مسلم.
وكذلك الملائكة الذين أرسلهم الله تعالى إلى إبراهيم، ولوط كانوا في صورة رجال.
الرابع: الإيمان بما علمنا من أعمالهم التي يقومون بها بأمر الله تعالى، كتسبيحه، والتعبد له ليلا ونهارا بدون ملل ولا فتور.
وقد يكون لبعضهم أعمال خاصة.
مثل: جبريل الأمين على وحي الله تعالى يرسله الله به إلى الأنبياء والرسل.
ومثل: ميكائيل الموكل بالقطر أي بالمطر والنبات.
ومثل: إسرافيل الموكل بالنفخ في الصور عند قيام الساعة وبعث الخلق.
ومثل: ملك الموت الموكل بقبض الأرواح عند الموت.
ومثل: مالك الموكل بالنار وهو خازن النار.
ومثل: الملائكة الموكلين بالأجنة في الأرحام إذا تم للإنسان أربعة أشهر في بطن أمه، بعث الله إليه ملكا وأمره بكتب رزقه، وأجله، وعمله،
(6/88)
وشقي أو سعيد.
ومثل: الملائكة الموكلين بحفظ أعمال بني آدم وكتابتها لكل شخص، ملكان: أحدهما عن اليمين، والثاني عن الشمال.
ومثل: الملائكة الموكلين بسؤال الميت إذا وضع في قبره يأتيه ملكان يسألانه عن ربه، ودينه، ونبيه.
والإيمان بالملائكة يثمر ثمرات جليلة منها:
الأولى: العلم بعظمة الله تعالى، وقوته، وسلطانه، فإن عظمة المخلوق من عظمة الخالق.
الثانية: شكر الله تعالى على عنايته ببني آدم، حيث وكل من هؤلاء الملائكة من يقوم بحفظهم، وكتابة أعمالهم، وغير ذلك من مصالحهم. الثالثة: محبة الملائكة على ما قاموا به من عبادة الله تعالى.
وقد أنكر قوم من الزائغين كون الملائكة أجساما، وقالوا: إنهم عبارة عن قوى الخير الكامنة في المخلوقات، وهذا تكذيب لكتاب الله تعالى، وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإجماع المسلمين.
قال الله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} .
وقال: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} .
وقال: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} .
(6/89)
وقال: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} .
وقال في أهل الجنة: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} .
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إذا أحب الله العبد نادى جبريل إن الله يحب فلانا فأحبه، فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء، إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض» .
وفيه أيضا عنه قال: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المساجد الملائكة يكتبون الأول فالأول، فإذا جلس الإمام طووا الصحف وجاؤوا يستمعون الذكر» .
وهذه النصوص صريحة في أن الملائكة أجسام لا قوى معنوية، كما قال الزائغون وعلى مقتضى هذه النصوص أجمع المسلمون.
(6/90)
وكتبه (1)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الكتب: جمع (كتاب) بمعنى (مكتوب) .
والمراد بها هنا: الكتب التي أنزلها تعالى على رسله رحمة للخلق، وهداية لهم، ليصلوا بها إلى سعادتهم في الدنيا والآخرة.
والإيمان بالكتب يتضمن أربعة أمور:
الأول: الإيمان بأن نزولها من عند الله حقا.
الثاني: الإيمان بما علمنا اسمه منها باسمه كالقرآن الذي نزل على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والتوراة التي أنزلت على موسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والإنجيل الذي أنزل على عيسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والزبور الذي أوتيه داود صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأما ما لم نعلم اسمه فنؤمن به إجمالا.
الثالث: تصديق ما صح من أخبارها، كأخبار القرآن، وأخبار ما لم يبدل أو يحرف من الكتب السابقة.
الرابع: العمل بأحكام ما لم ينسخ منها، والرضا والتسليم به سواء فهمنا حكمته أم لم نفهمها، وجميع الكتب السابقة منسوخة بالقرآن العظيم قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} أي (حاكما عليه) وعلى هذا فلا يجوز العمل بأي حكم من أحكام الكتب السابقة إلا ما صح منها وأقره القرآن.
والإيمان بالكتب يثمر ثمرات جليلة منها:
الأولى: العلم بعناية الله تعالى بعباده حيث أنزل لكل قوم كتابا يهديهم به.
(6/91)
الثانية: العلم بحكمة الله تعالى في شرعه حيث شرع لكل قوم ما يناسب أحوالهم. كما قال الله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} .
الثالثة: شكر نعمة الله في ذلك.
(6/92)
ورسله (1)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الرسل: جمع (رسول) بمعنى (مرسل) أي (مبعوث) بإبلاغ شيء.
والمراد هنا: من أوحي إليه من البشر بشرع وأمر بتبليغه.
وأول الرسل نوح وآخرهم محمد (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قال الله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} .
وفي صحيح البخاري عن- أنس بن مالك - رضي الله عنه في حديث الشفاعة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ذكر أن الناس يأتون إلى آدم ليشفع لهم فيعتذر إليهم ويقول: ائتوا نوحا أول رسول بعثه الله - وذكر تمام الحديث) .
وقال الله تعالى في محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} .
ولم تخل أمة من رسول يبعثه الله تعالى بشريعة مستقلة إلى قومه، أو نبي يوحى إليه بشريعة من قبله ليجددها، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} وقال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} .
والرسل بشر مخلوقون ليس لهم من خصائص الربوبية والألوهية شيء، قال الله تعالى عن نبيه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو سيد الرسل المرسلين وأعظمهم جاها
(6/93)
عند الله: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .
وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} .
وتلحقهم خصائص البشرية من المرض، والموت، والحاجة إلى الطعام والشراب، وغير ذلك، قال الله تعالى عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام في وصفه لربه تعالى: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} .
وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني» .
وقد وصفهم الله تعالى بالعبودية له في أعلى مقاماتهم، وفي سياق الثناء عليهم فقال تعالى في نوح صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} وقال في محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} .
وقال في إبراهيم، وإسحاق ويعقوب صلى الله عليهم وسلم:
(6/94)
{وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ} . وقال في عيسى ابن مريم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} .
والإيمان بالرسل يتضمن أربعة أمور:
الأول: الإيمان بأن رسالتهم حق من الله تعالى، فمن كفر برسالة واحد منهم فقد كفر بالجميع. كما قال الله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} فجعلهم الله مكذبين لجميع الرسل مع أنه لم يكن رسول غيره حين كذبوه.
وعلى هذا فالنصارى الذين كذبوا محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يتبعوه هم مكذبون للمسيح ابن مريم غير متبعين له أيضا، لا سيما وأنه قد بشرهم بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا معنى لبشارتهم به إلا أنه رسول إليهم ينقذهم الله به من الضلالة، ويهديهم إلى صراط مستقيم.
الثاني: الإيمان بمن علمنا اسمه منهم باسمه مثل: محمد وإبراهيم، وموسى، وعيسى ونوح عليهم الصلاة والسلام، وهؤلاء الخمسة هم أولو العزم من الرسل، وقد ذكرهم الله تعالى في موضعين من القرآن: في سورة الأحزاب في قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} . وفي سورة الشورى في قوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} .
(6/95)
وأما من لم نعلم اسمه منهم فنؤمن به إجمالا قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} .
الثالث: تصديق ما صح عنهم من أخبارهم.
الرابع: العمل بشريعة من أرسل إلينا منهم، وهو خاتمهم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المرسل إلى جميع الناس قال الله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} .
وللإيمان بالرسل ثمرات جليلة منها:
الأولى: العلم برحمة الله تعالى وعنايته بعباده حيث أرسل إليهم الرسل ليهدوهم إلى صراط الله تعالى، ويبينوا لهم كيف يعبدون الله، لأن العقل البشري لا يستقل بمعرفة ذلك.
الثانية: شكره تعالى على هذه النعمة الكبرى.
الثالثة: محبة الرسل عليهم الصلاة والسلام وتعظيمهم، والثناء عليهم بما يليق بهم؛ لأنهم رسل الله تعالى، ولأنهم قاموا بعبادته، وتبليغ رسالته، والنصح لعباده.
وقد كذب المعاندون رسلهم زاعمين أن رسل الله تعالى لا يكونون من
(6/96)
البشر وقد ذكر الله تعالى هذا الزعم وأبطله بقوله: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} فأبطل الله تعالى هذا الزعم بأنه لا بد أن يكون الرسول بشرا لأنه مرسل إلى أهل الأرض، وهم بشر، ولو كان أهل الأرض ملائكة لنزل الله عليهم من السماء ملكا رسولا، ليكون مثلهم، وهكذا حكى الله تعالى عن المكذبين للرسل أنهم قالوا: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} .
(6/97)
واليوم الآخر، (1)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) اليوم الآخر: يوم القيامة الذي يبعث الناس فيه للحساب والجزاء.
وسمي بذلك لأنه لا يوم بعده، حيث يستقر أهل الجنة في منازلهم، وأهل النار في منازلهم.
والإيمان باليوم الآخر يتضمن ثلاثة أمور:
الأول: الإيمان بالبعث: وهو إحياء الموتى حين ينفخ في الصور النفخة الثانية، فيقوم الناس لرب العالمين، حفاة غير منتعلين، عراة غير مستترين، غرلا غير مختتنين، قال الله تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} .
والبعث: حق ثابت دل عليه الكتاب، والسنة، وإجماع المسلمين. قال الله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} .
وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يحشر الناس يوم القيامة حفاة غرلا» . متفق عليه.
وأجمع المسلمون على ثبوته، وهو مقتضى الحكمة حيث تقتضي أن يجعل الله تعالى لهذه الخليقة معادا يجازيهم فيه على ما كلفهم به على ألسنة رسله قال الله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} وقال لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} .
الثاني: الإيمان بالحساب والجزاء: يحاسب العبد على عمله، ويجازى
(6/98)
عليه، وقد دل على ذلك الكتاب، والسنة، وإجماع المسلمين، قال الله تعالى: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} ، وقال: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} ، وقال: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما-أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -قال: «إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره، فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي رب حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى أنه قد هلك قال: قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، فيعطى كتاب حسناته، وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الخلائق هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين» . متفق عليه.
وصح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أن من هم بحسنة فعملها، كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وأن من هم بسيئة فعملها كتبها الله سيئة واحدة» .
وقد أجمع المسلمون على إثبات الحساب والجزاء على الأعمال، وهو مقتضى الحكمة فإن الله تعالى أنزل الكتب، وأرسل الرسل، وفرض على العباد قبول ما جاءوا به، والعمل بما يجب العمل به منه، وأوجب
(6/99)
قتال المعارضين له وأحل دماءهم، وذرياتهم، ونساءهم، وأموالهم.
فلو لم يكن حساب، ولا جزاء لكان هذا من العبث الذي ينزه الرب الحكيم عنه، وقد أشار الله تعالى إلى ذلك بقوله: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} .
الثالث: الإيمان بالجنة والنار، وأنهما المآل الأبدي للخلق، فالجنة دار النعيم التي أعدها الله تعالى للمؤمنين المتقين، الذين آمنوا بما أوجب الله عليهم الإيمان به، وقاموا بطاعة الله ورسوله، مخلصين لله متبعين لرسوله. فيها من أنواع النعيم " ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر". قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} .
وقال تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
وأما النار فهي دار العذاب التي أعدها الله تعالى للكافرين الظالمين، الذين كفروا به وعصوا رسله، فيها من أنواع العذاب والنكال ما لا يخطر على البال قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} ، وقال: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} وقال
(6/100)
تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ} .
ويلتحق بالإيمان باليوم الآخر: الإيمان بكل ما يكون بعد الموت مثل:
(أ) فتنة القبر: وهي سؤال الميت بعد دفنه عن ربه، ودينه، ونبيه، فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت، فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ويضل الله الظالمين فيقول الكافر: هاه، هاه، لا أدري. ويقول المنافق أو المرتاب: لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته.
(ب) عذاب القبر ونعيمه: فيكون العذاب للظالمين من المنافقين والكافرين قال الله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} .
وقال تعالى في - آل فرعون -: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} .
وفي صحيح مسلم من حديث زيد بن ثابت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «فلولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه، ثم أقبل بوجهه فقال: تعوذوا بالله من عذاب النار. قالوا: نعوذ بالله من عذاب النار. فقال: تعوذوا بالله من عذاب القبر.»
(6/101)