ـ[مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين]ـ
المؤلف: محمد بن صالح بن محمد العثيمين (المتوفى: 1421هـ)
جمع وترتيب: فهد بن ناصر بن إبراهيم السليمان
الناشر: دار الوطن - دار الثريا
الطبعة: الأخيرة - 1413 هـ
عدد الأجزاء: 26
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع](/)
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً} {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً} .
أما بعد:
فإن من أكبر نعم الله علينا أن حفظ هذا الدين برجاله المخلصين، وهم العلماء العاملون الذين كانوا أعلاماً يهتدى بهم وأئمة يقتدى بهم وأقطاباً تدور عليهم معارف الأمة، وأنواراً تتجلى بهم غياهب الظلمة، فهم السياج المتين الذي حال بين الدين وأعدائه، والنور المبين الذي تستنير به الأمة عند اشتباه الحق وخفائه، وهم ورثة الأنبياء في أممهم وأمناؤهم على دينهم، وهم شهداء الله في أرضه، فليس في الأمة كمثلهم ناصحاً مخلصاً، يعلمون أحكام الله ويعظون عباد الله ويقودون الأمة لما فيه الخير والصلاح، فهم القادة حقاً، وهم الزعماء المصلحون، وهم أهل الخشية {إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءٌ} . لهذا وغيره، كان على الأمة أن تعرف حقهم وتدعو لهم وتقوم بما يجب لهم، ومن ذلك نشر علمهم بين الأمة حتى يستفيد العام والخاص منه، ومن هذا المنطلق استعنت بالله عز وجل على جمع فتاوي فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين حفظه الله تعالى.
وقد بدأت في جمعها مساء يوم الأربعاء الموافق 22/2/1407هـ، بعد أن أخذت الإذن والموافقة على ذلك من فضيلة الشيخ، وقد جمعتها من فتاوي نور على الدرب وفتاوي الحرم المكي لأعوام 1406، 1407، 1408 هـ، وكذلك من أشرطة فقه العبادات، وبعض المحاضرات، وما ينشر في الصحف والمجلات من الفتاوي وما يرسله إلي الشيخ من فتاوى بالإضافة إلى مصادر أخرى، وكنت أعرض ما أجمعه على فضيلة الشيخ فيقرؤه بنفسه ويصححه بعناية فائقة، وقد أعطى الشيخ(1/15)
هذه الفتاوي الكثير من وقته الثمين حتى كانت ترافقه في أسفاره، فجزاه الله عني وعن المسلمين خير الجزاء. وقد بدأ الشيخ حفظه الله في المراجعة يوم الجمعة الموافق 29/10/1407 هـ.
ومما ينبغي التنبيه عليه أن بعض الأسئلة قد تتكرر وفي ذلك جملة من الفوائد لا تخفى، منها أن بعض الإجابات تكون مختصرة وبعضها متوسط وبعضها مطول، ولكلٍّ طالب، كما أن الأدلة تتنوع في تلك الفتاوى بحيث يجتمع لدى القارىء أكثر من دليل في المسألة الواحدة، إلى غير ذلك من المصالح. وقد أسميت ما جمعته " مجموع فتاوي ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين ". فوافق فضيلة الشيخ على هذه التسمية مشكوراً.
وفي ختام هذه الكلمة أحمد الله تعالى على ما من به ويسره من جمع هذه الفتاوي وأتقدم بالشكر الجزيل لفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين، على ما بذله ويبذله من جهد عظيم لخدمة هذا المجموع، وأسال الله عز وجل له حسن المثوبة والدرجات العلا، كما أسأله تعالى أن يحسن لنا وله العاقبة في الأولى والآخرة، وأن يوفقنا جميعاً لما يحب ويرضى، وأن يجعل أعمالنا خالصة مقبولة عنده، نافعة لعباده، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
كتبه
فهد بن ناصر السليمان
غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين(1/16)
التوحيد
(1) سئل فضيلة الشيخ - أعلى الله درجته في المهديين -: عن تعريف التوحيد وأنواعه.
فأجاب - حفظه الله - بقوله: التوحيد لغة: " مصدر وحد يوحد، أي جعل الشيء واحدا " وهذا لا يتحقق إلا بنفي وإثبات، نفي الحكم عما سوى المُوحد، وإثباته له، فمثلا نقول: إنه لا يتم للإنسان التوحيد حتى يشهد أن لا إله إلا الله فينفي الألوهية عما سوى الله عز وجل ويثبتها لله وحده، وذلك أن النفي المحض تعطيل محض، والإثبات المحض لا يمنع مشاركة الغير في الحكم، فلو قلت مثلا: " فلان قائم " فهنا أثبتَّ له القيام لكنك لم توحده به؛ لأنه من الجائز أن يشاركه غيره في هذا القيام، ولو قلت: " لا قائم " فقد نفيت محضا ولم تثبت القيام لأحد، فإذا قلت: " لا قائم إلا زيد " فحينئذ تكون وحدت زيدا بالقيام حيث نفيت القيام عمن سواه، وهذا هو تحقيق التوحيد في الواقع، أي أن التوحيد لا يكون توحيدا حتى يتضمن نفيا وإثباتا.
وأنواع التوحيد بالنسبة لله عز وجل تدخل كلها في تعريف عام وهو " إفراد الله سبحانه وتعالى بما يختص به ".
وهي حسب ما ذكره أهل العلم ثلاثة:
الأول: توحيد الربوبية.
الثاني: توحيد الألوهية.
الثالث: توحيد الأسماء والصفات.
وعلموا ذلك بالتتبع والاستقراء والنظر في الآيات والأحاديث(1/17)
فوجدوا أن التوحيد لا يخرج عن هذه الأنواع الثلاثة فنوعوا التوحيد إلى ثلاثة أنواع:
الأول: توحيد الربوبية: وهو " إفراد الله - سبحانه وتعالى - بالخلق، والملك، والتدبير " وتفصيل ذلك:
أولا: بالنسبة لإفراد الله - تعالى - بالخلق: فالله - تعالى - وحده هو الخالق لا خالق سواه، قال الله - تعالى -:
{هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} . وقال - تعالى - مبينا بطلان آلهة الكفار: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} . فالله - تعالى - وحده هو الخالق خلق كل شيء فقدره تقديرا، وخَلْقُهُ يشمل ما يقع من مفعولاته، وما يقع من مفعولات خلقه أيضا، ولهذا كان من تمام الإيمان بالقدر أن تؤمن بأن الله - تعالى - خالقٌ لأفعال العباد كما قال الله - تعالى -: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} .
ووجه ذلك أن فعل العبد من صفاته، والعبد مخلوق لله، وخالق الشيء خالق لصفاته، ووجه آخر أن فعل العبد حاصل بإرادة جازمة وقدرة تامة، والإرادة والقدرة كلتاهما مخلوقتان لله - عز وجل - وخالق السبب التام خالق للمسبب.
فإن قيل: كيف نجمع بين إفراد الله - عز وجل - بالخلق مع أن الخلق قد يثبت لغير الله كما يدل عليه قول الله - تعالى -: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} . «وقول النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في المصورين:
»(1/18)
«" يقال لهم: أحيوا ما خلقتم "؟» .
فالجواب على ذلك: أن غير الله - تعالى - لا يخلق كخلق الله فلا يمكنه إيجاد معدوم، ولا إحياء ميت، وإنما خلق غير الله - تعالى - يكون بالتغيير وتحويل الشيء من صفة إلى صفة أخرى وهو مخلوق لله - عز وجل -، فالمصور مثلا، إذا صور صورة فإنه لم يحدث شيئا غاية ما هنالك أنه حول شيئا إلى شيء كما يحول الطين إلى صورة طير أو صورة جمل، وكما يحول بالتلوين الرقعة البيضاء إلى صورة ملونة فالمداد من خلق الله - عز وجل -، والورقة البيضاء من خلق الله - عز وجل -، هذا هو الفرق بين إثبات الخلق بالنسبة إلى الله - عز وجل - وإثبات الخلق بالنسبة إلى المخلوق، وعلى هذا يكون الله - سبحانه وتعالى - منفردا بالخلق الذي يختص به.
ثانيا: إفراد الله - تعالى - بالملك، فالله - تعالى - وحده هو المالك كما قال الله - تعالى -: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
وقال - تعالى -: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ} . فالمالك الملك المطلق العام الشامل هو الله - سبحانه وتعالى - وحده، ونسبة الملك إلى غيره نسبة إضافية فقد أثبت الله - عز وجل - لغيره الملك كما في قوله - تعالى -: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} . وقوله: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} . إلى غير ذلك من النصوص الدالة على أن لغير الله - تعالى - ملكا لكن هذا الملك ليس كملك الله - عز وجل -(1/19)
فهو ملك قاصر، وملك مقيد، ملك قاصر لا يشمل، فالبيت الذي لزيد لا يملكه عمرو، والبيت الذي لعمرو لا يملكه زيد، ثم هذا الملك مقيد بحيث لا يتصرف الإنسان فيما ملك إلا على الوجه الذي أذن الله فيه ولهذا نهى النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عن إضاعة المال، وقال الله - تبارك وتعالى -: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} . وهذا دليل على أن ملك الإنسان ملك قاصر وملك مقيد، بخلاف ملك الله - سبحانه وتعالى - فهو ملك عام شامل وملك مطلق يفعل الله - سبحانه وتعالى - ما يشاء ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
ثالثا: التدبير، فالله - عز وجل - منفرد بالتدبير فهو الذي يدبر الخلق ويدبر السماوات والأرض كما قال الله - سبحانه وتعالى -: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} . وهذا التدبير شامل لا يحول دونه شيء ولا يعارضه شيء. والتدبير الذي يكون لبعض المخلوقات كتدبير الإنسان أمواله وغلمانه وخدمه وما أشبه ذلك هو تدبير ضيق محدود، ومقيد غير مطلق، فظهر بذلك صدق صحة قولنا: إن توحيد الربوبية هو " إفراد الله بالخلق والملك، والتدبير ".
النوع الثاني: توحيد الألوهية وهو " إفراد الله - سبحانه وتعالى - بالعبادة " بأن لا يتخذ الإنسان مع الله أحدا يعبده ويتقرب إليه كما يعبد الله - تعالى - ويتقرب إليه. وهذا النوع من التوحيد هو الذي ضل فيه المشركون الذين قاتلهم النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واستباح دماءهم وأموالهم وأرضهم وديارهم وسبى نساءهم وذريتهم، وهو الذي بعثت به الرسل(1/20)
وأنزلت به الكتب مع أخويه توحيدي الربوبية، والأسماء والصفات، لكن أكثر ما يعالج الرسل أقوامهم على هذا النوع من التوحيد - وهو توحيد الألوهية - بحيث لا يصرف الإنسان شيئا من العبادة لغير الله - سبحانه وتعالى - لا لملك مقرب، ولا لنبي مرسل، ولا لولي صالح، ولا لأي أحد من المخلوقين؛ لأن العبادة لا تصح إلا لله - عز وجل -، ومن أخل بهذا التوحيد فهو مشرك كافر وإن أقر بتوحيد الربوبية، وبتوحيد الأسماء والصفات. فلو أن رجلا من الناس يؤمن بأن الله - سبحانه وتعالى - هو الخالق المالك المدبر لجميع الأمور، وأنه - سبحانه وتعالى - المستحق لما يستحقه من الأسماء والصفات لكن يعبد مع الله غيره لم ينفعه إقراره بتوحيد الربوبية والأسماء والصفات. فلو فرض أن رجلا يقر إقرارا كاملا بتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات لكن يذهب إلى القبر فيعبد صاحبه أو ينذر له قربانا يتقرب به إليه فإن هذا مشرك كافر خالد في النار، قال الله - تبارك وتعالى -: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} . ومن المعلوم لكل من قرأ كتاب الله - عز وجل - أن المشركين الذين قاتلهم النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واستحل دماءهم، وأموالهم وسبى نساءهم، وذريتهم، وغنم أرضهم كانوا مقرين بأن الله - تعالى - وحده هو الرب الخالق لا يشكون في ذلك، ولكن لما كانوا يعبدون معه غيره صاروا بذلك مشركين مباحي الدم والمال.
النوع الثالث: توحيد الأسماء والصفات وهو " إفراد الله - سبحانه وتعالى - بما سمى الله به نفسه، ووصف به نفسه في كتابه أو على لسان رسوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذلك بإثبات ما أثبته من غير تحريف، ولا(1/21)
تعطيل، ومن غير تكييف، ولا تمثيل ". فلا بد من الإيمان بما سمى الله به نفسه ووصف به نفسه على وجه الحقيقة لا المجاز، ولكن من غير تكييف، ولا تمثيل، وهذا النوع من أنواع التوحيد ضل فيه طوائف من هذه الأمة من أهل القبلة الذين ينتسبون للإسلام على أوجه شتى:
منهم من غلا في النفي والتنزيه غلوّا يخرج به من الإسلام، ومنهم متوسط، ومنهم قريب من أهل السنة، ولكن طريقة السلف في هذا النوع من التوحيد هو أن يسمى الله ويوصف بما سمى ووصف به نفسه على وجه الحقيقة، لا تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل.
مثال ذلك: أن الله - سبحانه وتعالى - سمى نفسه بالحي القيوم فيجب علينا أن نؤمن بأن الحي اسم من أسماء الله - تعالى - ويجب علينا أن نؤمن بما تضمنه هذا الاسم من وصف وهي الحياة الكاملة التي لم تسبق بعدم ولا يلحقها فناء، وسمى الله نفسه بالسميع فعلينا أن نؤمن بالسميع اسما من أسماء الله - سبحانه وتعالى - وبالسمع صفة من صفاته، وبأنه يسمع وهو الحكم الذي اقتضاه ذلك الاسم وتلك الصفة، فإن سميعا بلا سمع أو سمعا بلا إدراك مسموع هذا شيء محال وعلى هذا فقس.
مثال آخر: قال الله - تعالى -: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} . فهنا قال الله - تعالى -: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} فأثبت لنفسه يدين موصوفتين بالبسط وهو العطاء الواسع، فيجب علينا أن نؤمن بأن لله - تعالى - يدين اثنتين مبسوطتين بالعطاء والنعم، ولكن يجب علينا أن لا نحاول بقلوبنا تصورا، ولا بألسنتنا نطقا أن نكيف تلك اليدين ولا أن نمثلهما بأيدي(1/22)
المخلوقين؛ لأن الله - سبحانه وتعالى - يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . ويقول: الله - تعالى -: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} . ويقول: - عز وجل -: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} . فمن مثل هاتين اليدين بأيدي المخلوقين فقد كذب قول الله - تعالى -: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . وقد عصى الله - تعالى - في قوله: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} . ومن كيفهما وقال: هما على كيفية معينة أيّا كانت هذه الكيفية فقد قال على الله ما لا يعلم وقفى ما ليس له به علم.
ونضرب مثالا ثانيا في الصفات: وهو استواء الله على عرشه فإن الله - تعالى - أثبت لنفسه أنه استوى على العرش في سبعة مواضع من كتابه كلها بلفظ (استوى) وبلفظ (على العرش) وإذا رجعنا إلى الاستواء في اللغة العربية وجدناه إذا عدي بعلى لا يقتضي إلا الارتفاع والعلو، فيكون معنى قوله - تعالى -: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وأمثالها من الآيات: أنه علا على عرشه علوّا خاصا غير العلو العام على جميع الأكوان وهذا العلو ثابت لله - تعالى - على وجه الحقيقة فهو عالٍ على عرشه علوّا(1/23)
يليق به - عز وجل - لا يشبه علو الإنسان على السرير، ولا علوه على الأنعام، ولا علوه على الفلك الذي ذكره الله في قوله: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} . فاستواء المخلوق على شيء لا يمكن أن يماثله استواء الله على عرشه؛ لأن الله ليس كمثله شيء.
وقد أخطأ خطأ عظيما من قال: إن معنى استوى على العرش استولى على العرش؛ لأن هذا تحريف للكلم عن مواضعه، ومخالف لما أجمع عليه الصحابة - رضوان الله عليهم - والتابعون لهم بإحسان، ومستلزم للوازم باطلة لا يمكن لمؤمن أن يتفوه بها بالنسبة لله - عز وجل -. والقرآن الكريم نزل باللغة العربية بلا شك كما قال الله - سبحانه وتعالى -: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} . ومقتضى صيغة " استوى على كذا " في اللغة العربية العلو والاستقرار، بل هو معناها المطابق للفظ. فمعنى استوى على العرش أي: علا عليه علوّا خاصا يليق بجلاله وعظمته، فإذا فسر الاستواء بالاستيلاء فقد حرف الكلم عن مواضعه حيث نفى المعنى الذي تدل عليه لغة القرآن وهو العلو وأثبت معنى آخر باطلا.
ثم إن السلف والتابعين لهم بإحسان مجمعون على هذا المعنى إذ لم يأت عنهم حرف واحد في تفسيره بخلاف ذلك، وإذا جاء اللفظ في القرآن والسنة ولم يرد عن السلف تفسيره بما يخالف ظاهره فالأصل أنهم أبقوه على ظاهره واعتقدوا ما يدل عليه.(1/24)
فإن قال قائل: هل ورد لفظ صريح عن السلف بأنهم فسروا استوى بـ (علا) ؟
قلنا: نعم ورد ذلك عن السلف، وعلى فرض أن لا يكون ورد عنهم صريحا فإن الأصل فيما دل عليه اللفظ في القرآن الكريم والسنة النبوية أنه باق على ما تقتضيه اللغة العربية من المعنى فيكون إثبات السلف له على هذا المعنى.
أما اللوازم الباطلة التي تلزم من فسر الاستواء بالاستيلاء فهي:
أولا: أن العرش قبل خلق السماوات والأرض ليس ملكا لله - تعالى - لأن الله - تعالى - قال: " {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} .
وعلى هذا فلا يكون الله مستوليا على العرش قبل خلق السماوات ولا حين خلق السماوات والأرض.
ثانيا: أنه يصح التعبير بقولنا: إن الله استوى على الأرض، واستوى على أي شيء من مخلوقاته وهذا بلا شك ولا ريب معنى باطل لا يليق بالله - عز وجل -.
ثالثا: أنه تحريف للكلم عن مواضعه.
رابعا: أنه مخالف لإجماع السلف الصالح رضوان الله عليهم.
وخلاصةُ الكلام في هذا النوع - توحيد الأسماء والصفات - أنه يجب علينا أن نثبت لله ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله من الأسماء والصفات على وجه الحقيقة من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل.(1/25)
(2) وسئل فضيلة الشيخ: هل الإيمان هو التوحيد؟
فأجاب - حفظه الله - بقوله: التوحيد: " إفراد الله - عز وجل - بما يختص به ويجب له ". والإيمان هو " التصديق المتضمن للقبول والإذعان ".
وبينهما عموم وخصوص فكل موحد مؤمن، وكل مؤمن موحد بالمعنى العام.
ولكن أحيانا يكون التوحيد أخص من الإيمان، والإيمان أخص من التوحيد. والله أعلم.
(3) وسئل فضيلته: عن شرك المشركين الذين بعث فيهم النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
فأجاب قائلا: بالنسبة لشرك المشركين الذين بعث فيهم النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنه ليس شركا في الربوبية؛ لأن القرآن الكريم يدلُّ على أنهم إنما كانوا يشركون في العبادة فقط.
أما في الربوبية فيؤمنون بأن الله وحده هو الربٌّ، وأنه مُجيبُ دعوة المضطرين، وأنه هو الذي يكشف السوء إلى غير ذلك مما ذكر الله عنهم من إقرارهم بربوبية الله - عز وجل - وحده.
ولكنهم كانوا مشركين بالعبادة يعبدون غير الله معه، وهذا شرك مخرج عن الملة؛ لأن التوحيد هو عبارة - حسب دلالة اللفظ - عن جعل الشيء واحدا، والله - تبارك وتعالى - له حقوق يجب أن يفرد بها وهذه الحقوق تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
1 - حقوق ملك.
2 - حقوق عبادة.(1/26)
3 - حقوق أسماء وصفات.
ولهذا قسم العلماء التوحيد إلى ثلاثة أقسام: توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، وتوحيد العبادة.
فأما توحيد الربوبية: فهو إفراد الله - تبارك وتعالى - بالخلق والملك والأمر، كما قال الله - تعالى -: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} . فالخلق والأمر - وهو التدبير - هو الربوبية وهو مختص بالله - عز وجل - فلا خالق إلا الله ولا مالك ولا مدبر إلا الله - عز وجل -.
وأمَّا توحيد الأسماء والصفات: فهو إفراد الله - تبارك وتعالى - بأسمائه وصفاته بحيث يؤمن العبد بما أثبت الله لنفسه في كتابه أو أثبته له رسوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من الأسماء والصفات على الوجه الذي أراد الله ورسوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلى الوجه اللائق به من غير إثبات مثيل له؛ لأن إثبات المثيل لله - تعالى - شرك به.
وأما توحيد العبادة: فهو إفراد الله - تبارك وتعالى - بالعبادة، بمعنى أن تعبد الله مخلصا له الدين، لقوله - تعالى -: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} . فالمشركون إنما أشركوا في هذا القسم، قسم العبادة حيث كانوا يعبدون مع الله غيره، وقد قال الله - تبارك وتعالى -: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} أي في عبادته.
وقال - تعالى -: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} .(1/27)
وقال - تعالى -: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} .
وقال - تعالى -: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} .
وقال - تعالى - في سورة الإخلاص: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} .
وقولي: في سورة الإخلاص يعني إخلاص العمل فهي سورة إخلاص العمل وإن كانت تسمى سورة الكافرون لكنها في الحقيقة سورة إخلاص عملي كما أن سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} سورة إخلاص علمي وعقيدة. والله الموفق.(1/28)
مصادر التلقي(1/29)
(4) وسئل فضيلة الشيخ - حفظه الله -: عمن يرى أن أحاديث الآحاد لا تثبت بها العقيدة؟
فأجاب بقوله: جوابنا على من يرى أن أحاديث الآحاد لا تثبت بها العقيدة لأنها تفيد الظن، والظن لا تبنى عليه العقيدة أن نقول:
هذا رأي غير صواب لأنه مبني على غير صواب وذلك من عدة وجوه:
1 - القول بأن حديث الآحاد لا يفيد إلا الظن ليس على إطلاقه، بل في أخبار الآحاد ما يفيد اليقين إذا دلت القرائن على صدقه، كما إذا تلقته الأمة بالقبول مثل حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه «إنما الأعمال بالنيات» فإنه خبر آحاد ومع ذلك فإننا نعلم أن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قاله وهذا ما حققه شيخ الإسلام ابن تيمية والحافظ ابن حجر وغيرهما.
2 - أن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يرسل الآحاد بأصول العقيدة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإرساله حجة ملزمة، كما بعث معاذا إلى اليمن واعتبر بعثه حجة ملزمة لأهل اليمن بقبوله.
3 - إذا قلنا بأن العقيدة لا تثبت بأخبار الآحاد أمكن أن يقال: والأحكام العملية لا تثبت بأخبار الآحاد؛ لأن الأحكام العملية يصحبها عقيدة أن الله - تعالى - أمر بهذا أو نهى عن هذا، وإذا قبل هذا القول تعطل كثير من أحكام الشريعة، وإذا رد هذا القول فليرد القول بأن(1/31)
العقيدة لا تثبت بخبر الآحاد إذ لا فرق كما بينا.
4 - أن الله - تعالى - أمر بالرجوع إلى قول أهل العلم لمن كان جاهلا فيما هو من أعظم مسائل العقيدة وهي الرسالة. فقال - تعالى -: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} . وهذا يشمل سؤال الواحد والمتعدد.
والحاصل أن خبر الآحاد إذا دلت القرائن على صدقه أفاد العلم وثبتت به الأحكام العملية والعلمية، ولا دليل على التفريق بينهما، ومن نسب إلى أحد من الأئمة التفريق بينهما فعليه إثبات ذلك بالسند الصحيح عنه، ثم بيان دليله المستند إليه.
(5) سئل الشيخ: هل يجوز للمسلم أن يقتني الإنجيل ليعرف كلام الله لعبده ورسوله عيسى عليه الصلاة والسلام؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يجوز اقتناء شيء من الكتب السابقة على القرآن من إنجيل أو توراة أو غيرهما لسببين:
السبب الأول: أن كل ما كان نافعا فيها فقد بينه الله - سبحانه وتعالى - في القرآن الكريم.
السبب الثاني: أن في القرآن ما يغني عن كل هذه الكتب لقوله - تعالى -: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} . وقوله - تعالى -: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} . فإن ما في الكتب السابقة من(1/32)
خير موجود في القرآن.
أما قول السائل إنه يريد أن يعرف كلام الله لعبده ورسوله عيسى، فإن النافع منه لنا قد قصه الله في القرآن فلا حاجة للبحث في غيره، وأيضا فالإنجيل الموجود الآن محرف، والدليل على ذلك أنها أربعة أناجيل يخالف بعضها بعضا وليست إنجيلا واحدا، إذن فلا يعتمد عليه.
أما طالب العلم الذي لديه علم يتمكن به من معرفة الحق من الباطل فلا مانع من معرفته لها لرد ما فيها من الباطل وإقامة الحجة على معتنقيها.
(6) وسئل فضيلته: عن أصول أهل السنة والجماعة في العقيدة وغيرها من أمور الدين؟
فأجاب بقوله: قاعدة أهل السنة والجماعة في العقائد وغيرها من أمور الدين، هو التمسك التام بكتاب الله وسنة رسوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما عليه الخلفاء الراشدون من هدي وسنة، لقول الله - تعالى -: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} . ولقوله - تعالى -: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} . ولقول الله - تعالى -: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} . وهذا وإن كان في قسمة الغنائم فهو في الأمور الشرعية من باب أولى، ولأن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان يخطب الناس يوم الجمعة، فيقول: «أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، صلى الله عليه»(1/33)
«وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار» .
ولقوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،: «عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» . والنصوص في هذا كثيرة، فطريق أهل السنة والجماعة ومنهاجهم هو التمسك التام بكتاب الله وسنة رسوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده، ومن ذلك أنهم يقيمون الدين ولا يتفرقون فيه امتثالا لقول الله - تعالى -: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} . وهم وإن حصل بينهم من الخلاف ما يحصل مما للاجتهاد فيه مساغ، فإن هذا الخلاف لا يؤدي إلى اختلاف قلوبهم بل تجدهم متآلفين متحابين، وإن حصل منهم هذا الاختلاف الذي طريقه الاجتهاد.(1/34)
أهل السنة والجماعة(1/35)
(7) سئل فضيلة الشيخ - رفع الله درجته في المهديين - من هم أهل السنة والجماعة؟
فأجاب - حفظه الله تعالى - بقوله: أهل السنة والجماعة هم الذين تمسكوا بالسنة، واجتمعوا عليها، ولم يلتفتوا إلى سواها، لا في الأمور العلمية العقدية، ولا في الأمور العملية الحكمية، ولهذا سموا أهل السنة، لأنهم متمسكون بها، وسموا أهل الجماعة، لأنهم مجتمعون عليها.
وإذا تأملت أحوال أهل البدعة وجدتهم مختلفين فيما هم عليه من المنهاج العقدي أو العملي، مما يدل على أنهم بعيدون عن السنة بقدر ما أحدثوا من البدعة.
(8) وسئل - حفظه الله تعالى - عن افتراق أمة النبي محمد، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بعد وفاته؟
فأجاب بقوله: أخبر النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيما صح عنه أنَّ «اليهود افترقوا على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وَأَنَّ هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، وهذه الفرق كلها في النار إلا واحدة، وهي ما كان على مثل ما كان عليه النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأصحابه،» وهذه الفرقة هي الفرقة الناجية التي نجت في الدنيا من البدع، وتنجو في الآخرة من النار، وهي الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة التي لا تزال ظاهرة قائمة بأمر الله - عز وجل -.
وهذه الفرق الثلاث والسبعون التي واحدة منها على الحق والباقي(1/37)
على الباطل، قد حاول بعض الناس أن يعددها، وشعّب أهل البدع إلى خمس شعب، وجعل من كل شعبة فروعا ليصلوا إلى هذا العدد الذي عينه النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورأى بعض الناس أن الأولى الكف عن التعداد لأن هذه الفرق ليست وحدها هي التي ضلت بل قد ضل أناس ضلالا أكثر مما كانت عليه من قبل، وحدثت بعد أن حصرت هذه الفرق باثنتين وسبعين فرقة، وقالوا: إن هذا العدد لا ينتهي ولا يمكن العلم بانتهائه إلا في آخر الزمان عند قيام الساعة، فالأولى أن نجمل ما أجمله النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونقول: إن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، ثم نقول: كل من خالف ما كان عليه النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأصحابه فهو داخل في هذه الفرق، وقد يكون الرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أشار إلى أصول لم نعلم منها الآن إلا ما يبلغ العشرة وقد يكون أشار إلى أصول تتضمن فروعا كما ذهب إليه بعض الناس فالعلم عند الله - عز وجل -.
(9) وسئل الشيخ: عن أبرز خصائص الفرقة الناجية؟ وهل النقص من هذه الخصائص يخرج الإنسان من الفرقة الناجية؟
فأجاب فضيلته بقوله: أبرز الخصائص للفرقة الناجية هي التمسك بما كان عليه النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في العقيدة، والعبادة، والأخلاق، والمعاملة، هذه الأمور الأربعة تجد الفرقة الناجية بارزة فيها:
ففي العقيدة تجدها متمسكة بما دل عليه كتاب الله، وسنة رسوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من التوحيد الخالص في ألوهية الله، وربوبيته، وأسمائه وصفاته.
وفي العبادات تجد هذه الفرقة متميزة في تمسكها التام وتطبيقها لما(1/38)
كان عليه النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في العبادات في أجناسها، وصفاتها، وأقدارها، وأزمنتها، وأمكنتها، وأسبابها، فلا تجد عندهم ابتداعا في دين الله، بل هم متأدبون غاية الأدب مع الله ورسوله لا يتقدمون بين يدي الله ورسوله في إدخال شيء من العبادات لم يأذن به الله.
وفي الأخلاق تجدهم كذلك متميزين عن غيرهم بحسن الأخلاق كمحبة الخير للمسلمين، وانشراح الصدر، وطلاقة الوجه، وحسن المنطق والكرم والشجاعة إلى غير ذلك من مكارم الأخلاق ومحاسنها.
وفي المعاملات تجدهم يعاملون الناس بالصدق، والبيان اللذين أشار إليهما النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في قوله: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما» .
والنقص من هذه الخصائص لا يخرج الإنسان عن كونه من الفرقة الناجية لكن لكل درجات مما عملوا، والنقص في جانب التوحيد ربما يخرجه عن الفرقة الناجية مثل الإخلال بالإخلاص، وكذلك في البدع ربما يأتي ببدع تخرجه عن كونه من الفرقة الناجية.
أما في مسألة الأخلاق والمعاملات فلا يخرج الإخلال بهما من هذه الفرقة وإن كان ذلك ينقص مرتبته.
وقد نحتاج إلى تفصيل في مسألة الأخلاق فإن من أهم ما يكون من الأخلاق اجتماع الكلمة، والاتفاق على الحق الذي أوصانا به الله - تعالى - في قوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} .(1/39)
وأخبر أن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا أن محمدا، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، برئ منهم فقال الله - عز وجل -: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} . فاتفاق الكلمة وائتلاف القلوب من أبرز خصائص الفرقة الناجية - أهل السنة والجماعة - فهم إذا حصل بينهم خلاف ناشئ عن الاجتهاد في الأمور الاجتهادية لا يحمل بعضهم على بعض حقدا، ولا عداوة، ولا بغضاء بل يعتقدون أنهم إخوة حتى وإن حصل بينهم هذا الخلاف، حتى إن الواحد منهم ليصلي خلف من يرى أنه ليس على وضوء ويرى الإمام أنه على وضوء، مثل أن الواحد منهم يصلي خلف شخص أكل لحم إبل، وهذا الإمام يرى أنه لا ينقض الوضوء، والمأموم يرى أنه ينقض الوضوء فيرى أن الصلاة خلف ذلك الإمام صحيحة، وإن كان هو لو صلاها بنفسه لرأى أن صلاته غير صحيحة، كل هذا لأنهم يرون أن الخلاف الناشئ عن اجتهاد فيما يسوغ فيه الاجتهاد ليس في الحقيقة بخلاف؛ لأن كل واحد من المختلفين قد تبع ما يجب عليه اتباعه من الدليل الذي لا يجوز له العدول عنه، فهم يرون أن أخاهم إذا خالفهم في عمل ما اتباعا للدليل هو في الحقيقة قد وافقهم؛ لأنهم هم يدعون إلى اتباع الدليل أينما كان، فإذا خالفهم موافقة لدليل عنده، فهو في الحقيقة قد وافقهم؛ لأنه تمشى على ما يدعون إليه ويهدون إليه من تحكيم كتاب الله وسنة رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يخفى على كثير من أهل العلم ما حصل من الخلاف بين الصحابة في مثل هذه الأمور، حتى في عهد النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يعنف أحدا منهم، فإنه عليه الصلاة والسلام لما رجع من غزوة الأحزاب وجاءه جبريل وأشار(1/40)
إليه أن يخرج إلى بني قريظة الذين نقضوا العهد فندب النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أصحابه فقال: «لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة» . فخرجوا من المدينة إلى بني قريظة وأرهقتهم صلاة العصر فمنهم من أخر صلاة العصر حتى وصل إلى بني قريظة بعد خروج الوقت لأن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: «لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة» . ومنهم من صلى الصلاة في وقتها، وقال: إن الرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أراد منا المبادرة إلى الخروج ولم يرد منا أن نؤخر الصلاة عن وقتها - وهؤلاء هم المصيبون - ولكن مع ذلك لم يعنف النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أحدا من الطائفتين، ولم يحمل كل واحد على الآخر عداوة، أو بغضاء بسبب اختلافهم في فهم هذا النص، لذلك أرى أن الواجب على المسلمين الذين ينتسبون إلى السنة أن يكونوا أمة واحدة، وأن لا يحصل بينهم تحزب، هذا ينتمي إلى طائفة، والآخر إلى طائفة أخرى، والثالث إلى طائفة ثالثة، وهكذا، بحيث يتناحرون فيما بينهم بأسنة الألسن، ويتعادون ويتباغضون من أجل اختلاف يسوغ فيه الاجتهاد، ولا حاجة إلى أن أخص كل طائفة بعينها، ولكن العاقل يفهم ويتبين له الأمر.
فأرى أنه يجب على أهل السنة والجماعة أن يتحدوا حتى وإن اختلفوا فيما يختلفون فيه فيما تقتضيه النصوص حسب أفهامهم فإن هذا أمر فيه سعة ولله الحمد، والمهم ائتلاف القلوب واتحاد الكلمة ولا ريب أن أعداء المسلمين يحبون من المسلمين أن يتفرقوا سواء كانوا أعداء يصرحون بالعداوة، أو أعداء يتظاهرون بالولاية للمسلمين، أو للإسلام وهم ليسوا كذلك، فالواجب أن نتميز بهذه الميزة التي هي ميزة للطائفة الناجية وهي الاتفاق على كلمة واحدة.(1/41)
(10) وسئل - جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيرا - عن المراد بالوسط في الدين؟
فأجاب بقوله: الوسط في الدين أن لا يغلو الإنسان فيه فيتجاوز ما حد الله - عز وجل - ولا يقصر فيه فينقص عما حد الله - سبحانه وتعالى -.
الوسط في الدين أن يتمسك بسيرة النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والغلو في الدين أن يتجاوزها، والتقصير أن لا يبلغها.
مثال ذلك، رجل قال: أنا أريد أن أقوم الليل ولا أنام كل الدهر؛ لأن الصلاة من أفضل العبادات فأحب أن أحيي الليل كله صلاة فنقول: هذا غال في دين الله وليس على حق، وقد وقع في عهد النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مثل هذا، «اجتمع نفر فقال بعضهم: أنا أقوم ولا أنام، وقال الآخر: أنا أصوم ولا أفطر، وقال الثالث: أنا لا أتزوج النساء، فبلغ ذلك النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال، عليه الصلاة والسلام: " ما بال أقوامٍ يقولون كذا وكذا أنا أصوم وأفطر، وأقوم، وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني "» فهؤلاء غلوا في الدين وتبرأ منهم الرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنهم رغبوا عن سنته، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، التي فيها صوم وإفطار، وقيام ونوم، وتزوج نساء.
أما المقصر: فهو الذي يقول: لا حاجة لي بالتطوع فأنا لا أتطوع وآتي بالفريضة فقط، وربما أيضا يقصر في الفرائض فهذا مقصر.
والمعتدل: هو الذي يتمشى على ما كان عليه الرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وخلفاؤه الراشدون.
مثال آخر: ثلاثة رجال أمامهم رجل فاسق، أحدهم قال: أنا لا أسلم على هذا الفاسق وأهجره وأبتعد عنه ولا أكلمه.(1/42)
والثاني يقول: أنا أمشي مع هذا الفاسق وأسلم عليه وأبش في وجهه وأدعوه عندي وأجيب دعوته وليس عندي إلا كرجل صالح.
والثالث يقول: هذا الفاسق أكرهه لفسقه وأحبه لإيمانه ولا أهجره إلا حيث يكون الهجر سببا لإصلاحه، فإن لم يكن الهجر سببا لإصلاحه بل كان سببا لازدياده في فسقه فأنا لا أهجره.
فنقول: الأول مفرط غالٍ - من الغلو - والثاني مفرط مقصر، والثالث متوسط.
وهكذا نقول في سائر العبادات ومعاملات الخلق، الناس فيها بين مقصر وغال ومتوسط.
ومثال ثالث: رجل كان أسيرا لامرأته توجهه حيث شاءت لا يردها عن إثم ولا يحثها على فضيلة، قد ملكت عقله وصارت هي القوّامة عليه.
ورجل آخر عنده تعسف وتكبر وترفع على امرأته لا يبالي بها وكأنها عنده أقل من الخادم.
ورجل ثالث وسط يعاملها كما أمر الله ورسوله: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} «لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقا رضي منها خلقا آخر» . فهذا الأخير متوسط والأول غالٍ في معاملة زوجته، والثالث مقصر. وقس على هذه بقية الأعمال والعبادات.(1/43)
الإيمان والإسلام(1/45)
(11) وسئل فضيلة الشيخ: عن تعريف الإسلام والفرق بينه وبين الإيمان؟
فأجاب - حفظه الله - بقوله: الإسلام بالمعنى العام هو: " التعبد لله - تعالى - بما شرعه من العبادات التي جاءت بها رسله، منذ أن أرسل الله الرسل إلى أن تقوم الساعة " فيشمل ما جاء به نوح، عليه الصلاة والسلام، من الهدى والحق، وما جاء به موسى، وما جاء به عيسى، ويشمل ما جاء به إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، إمام الحنفاء، كما ذكر الله - تبارك وتعالى - ذلك في آيات كثيرة تدل على أن الشرائع السابقة كلها إسلام لله - عز وجل -.
والإسلام بالمعنى الخاص بعد بعثة النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يختص بما بعث به محمد، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن ما بعث به، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نسخ جميع الأديان السابقة فصار من اتبعه مسلما، ومن خالفه ليس بمسلم؛ لأنه لم يستسلم لله بل استسلم لهواه، فاليهود مسلمون في زمن موسى، عليه الصلاة والسلام، والنصارى مسلمون في زمن عيسى، عليه الصلاة والسلام، وأما حين بعث محمد، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكفروا به فليسوا بمسلمين ولهذا لا يجوز لأحد أن يعتقد أن دين اليهود والنصارى الذي يدينون به اليوم دين صحيح مقبول عند الله مساو لدين الإسلام، بل من اعتقد ذلك فهو كافر خارج عن دين الإسلام؛ لأن الله(1/47)
- عز وجل - يقول: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} . ويقول: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} . وهذا الإسلام الذي أشار الله إليه هو الإسلام الذي امتن الله به على محمد، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأمته، قال الله - تعالى -: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} . وهذا نص صريح في أن من سوى هذه الأمة بعد أن بعث محمد، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ليسوا على الإسلام، وعلى هذا فما يدينون الله به لا يقبل منهم ولا ينفعهم يوم القيامة، ولا يحل لنا أن نعتبره دينا قائما قويما، ولهذا يخطئ خطأ كبيرا من يصف اليهود والنصارى بقوله إخوة لنا، أو أن أديانهم اليوم قائمة لما أسلفناه آنفا.
وإذا قلنا: إن الإسلام هو التعبد لله - سبحانه وتعالى - بما شرع شمل ذلك الاستسلام له ظاهرا وباطنا فيشمل الدين كله عقيدة، وعملا، وقولا، أما إذا قرن الإسلام بالإيمان فإن الإسلام يكون الأعمال الظاهرة من نطق اللسان وعمل الجوارح، والإيمان الأعمال الباطنة من العقيدة وأعمال القلوب، ويدل على هذا التفريق قوله - تعالى -: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} . وقال - تعالى - في قصة لوط: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} . فإنه فرق هنا بين المؤمنين والمسلمين لأن(1/48)
البيت الذي كان في القرية بيت إسلامي في ظاهره إذ إنه يشمل امرأة لوط التي خانته بالكفر وهي كافرة، أما من أخرج منها ونجا فإنهم المؤمنون حقا الذين دخل الإيمان في قلوبهم، ويدل لذلك - أي للفرق بين الإسلام والإيمان عند اجتماعهما - حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وفيه «أن جبريل سأل النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عن الإسلام والإيمان؟ فقال له النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت ". وقال في الإيمان: " أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره» .
فالحاصل أن الإسلام عند الإطلاق يشمل الدين كله ويدخل فيه الإيمان، وأنه إذا قرن مع الإيمان فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة من أقوال اللسان وعمل الجوارح، وفسر الإيمان بالأعمال الباطنة من اعتقادات القلوب وأعمالها.
(12) سئل الشيخ - أعظم الله مثوبته -: عن تعريف الإيمان عند أهل السنة والجماعة وهل يزيد وينقص؟
فأجاب بقوله: الإيمان عند أهل السنة والجماعة هو " الإقرار بالقلب، والنطق باللسان، والعمل بالجوارح ". فهو يتضمن الأمور الثلاثة:
1 - إقرار بالقلب.
2 - نطق باللسان.
3 - عمل بالجوارح.
وإذا كان كذلك فإنه سوف يزيد وينقص، وذلك لأن الإقرار(1/49)
بالقلب يتفاضل فليس الإقرار بالخبر كالإقرار بالمعاينة، وليس الإقرار بخبر الرجل كالإقرار بخبر الرجلين وهكذا، ولهذا قال إبراهيم، عليه الصلاة والسلام: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} . فالإيمان يزيد من حيث إقرار القلب وطمأنينته وسكونه، والإنسان يجد ذلك من نفسه فعندما يحضر مجلس ذكر فيه موعظة، وذكر للجنة والنار يزداد الإيمان حتى كأنه يشاهد ذلك رأي العين، وعندما توجد الغفلة ويقوم من هذا المجلس يخف هذا اليقين في قلبه.
كذلك يزداد الإيمان من حيث القول فإن من ذكر الله عشر مرات ليس كمن ذكر الله مائة مرة، فالثاني أزيد بكثير.
وكذلك أيضا من أتى بالعبادة على وجه كامل يكون إيمانه أزيد ممن أتى بها على وجه ناقص.
وكذلك العمل فإن الإنسان إذا عمل عملا بجوارحه أكثر من الآخر صار الأكثر أزيد إيمانا من الناقص، وقد جاء ذلك في القرآن والسنة - أعني إثبات الزيادة والنقصان - قال - تعالى -: {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} . وقال - تعالى -: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} . وفي الحديث(1/50)
الصحيح عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: «ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن» . فالإيمان إذا يزيد وينقص.
ولكن ما سبب زيادة الإيمان؟
للزيادة أسباب:
السبب الأول: معرفة الله - تعالى - بأسمائه وصفاته، فإن الإنسان كلما ازداد معرفة بالله، وبأسمائه، وصفاته ازداد إيمانا بلا شك، ولهذا تجد أهل العلم الذين يعلمون من أسماء الله وصفاته ما لا يعلمه غيرهم تجدهم أقوى إيمانا من الآخرين من هذا الوجه.
السبب الثاني: النظر في آيات الله الكونية، والشرعية، فإن الإنسان كلما نظر في الآيات الكونية التي هي المخلوقات ازداد إيمانا قال - تعالى -: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} . والآيات الدالة على هذا كثيرة، أعني الآيات الدالة على أن الإنسان بتدبره وتأمله في هذا الكون يزداد إيمانه.
السبب الثالث: كثرة الطاعات، فإن الإنسان كلما كثرت طاعاته ازداد بذلك إيمانا سواء كانت هذه الطاعات قولية، أم فعلية، فالذكر يزيد الإيمان كمية وكيفية، والصلاة والصوم، والحج تزيد الإيمان أيضا كمية وكيفية.
أما أسباب النقصان فهي على العكس من ذلك:
فالسبب الأول: الجهل بأسماء الله وصفاته يوجب نقص الإيمان لأن الإنسان إذا نقصت معرفته بأسماء الله وصفاته نقص إيمانه.(1/51)
السبب الثاني: الإعراض عن التفكر في آيات الله الكونية والشرعية، فإن هذا يسبب نقص الإيمان، أو على الأقل ركوده وعدم نموه.
السبب الثالث: فعل المعصية فإن للمعصية آثارا عظيمة على القلب وعلى الإيمان ولذلك قال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» . الحديث.
السبب الرابع: ترك الطاعة، فإن ترك الطاعة سبب لنقص الإيمان، لكن إن كانت الطاعة واجبة وتركها بلا عذر، فهو نقص يلام عليه ويعاقب، وإن كانت الطاعة غير واجبة، أو واجبة لكن تركها بعذر فإنه نقص لا يلام عليه، ولهذا جعل النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، النساء ناقصات عقل ودين وعلل نقصان دينها بأنها إذا حاضت لم تصل ولم تصم، مع أنها لا تلام على ترك الصلاة والصيام في حال الحيض بل هي مأمورة بذلك، لكن لما فاتها الفعل الذي يقوم به الرجل صارت ناقصة عنه من هذا الوجه.
(13) وسئل أيضا: كيف نجمع بين حديث جبريل الذي فسر فيه النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الإيمان «بأن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره» . وحديث وفد عبد القيس الذي فسر فيه النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الإيمان «بشهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأداء الخمس من الغنيمة» ؟
فأجاب بقوله: قبل الإجابة على هذا السؤال أود أن أقول: إن الكتاب والسنة ليس بينهما تعارض أبدا، فليس في القرآن ما يناقض بعضه(1/52)
بعضا، وليس في السنة الصحيحة عن رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ما يناقض بعضه بعضا، وليس في القرآن ولا في السنة ما يناقض الواقع أبدا؛ لأن الواقع واقع حق، والكتاب والسنة حق، ولا يمكن التناقض في الحق، وإذا فهمت هذه القاعدة انحلت عنك إشكالات كثيرة. قال الله - تعالى -: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} . فإذا كان الأمر كذلك فأحاديث النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا يمكن أن تتناقض فإذا فسر النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الإيمان بتفسير، وفسره في موضع آخر بتفسير آخر يعارض في نظرك التفسير الأول، فإنك إذا تأملت لم تجد معارضة: ففي حديث جبريل، عليه الصلاة والسلام، قسم النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الدين إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: الإسلام.
القسم الثاني: الإيمان.
القسم الثالث: الإحسان.
وفي حديث وفد عبد القيس لم يذكر إلا قسما واحدا وهو الإسلام. فالإسلام عند الإطلاق يدخل فيه الإيمان لأنه لا يمكن أن يقوم بشعائر الإسلام إلا من كان مؤمنا فإذا ذكر الإسلام وحده شمل الإيمان، وإذا ذكر الإيمان وحده شمل الإسلام، وإذا ذكرا جميعا صار الإيمان يتعلق بالقلوب، والإسلام يتعلق بالجوارح، وهذه فائدة مهمة لطالب العلم فالإسلام إذا ذكر وحده دخل فيه الإيمان قال الله - تعالى -:(1/53)
{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} . ومن المعلوم أن دين الإسلام عقيدة وإيمان وشرائع، وإذا ذكر الإيمان وحده دخل فيه الإسلام، وإذا ذكرا جميعا صار الإيمان ما يتعلق بالقلوب، والإسلام ما يتعلق بالجوارح، ولهذا قال بعض السلف: " الإسلام علانية، والإيمان سر "؛ لأنه في القلب، ولذلك ربما تجد منافقا يصلي ويتصدق ويصوم فهذا مسلم ظاهرا غير مؤمن كما قال - تعالى -: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} .
(14) وسئل: كيف نجمع بين أن الإيمان هو «الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره» . وقول النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الإيمان بضع وسبعون شعبة» .. إلخ "؟
فأجاب قائلا: الإيمان الذي هو العقيدة أصوله ستة وهي المذكورة في حديث جبريل، عليه الصلاة والسلام، حينما سأل النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عن الإيمان فقال: «الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره» . متفق عليه.
وأما الإيمان الذي يشمل الأعمال، وأنواعها، وأجناسها فهو بضع وسبعون شعبة، ولهذا سمى الله - تعالى - الصلاة إيمانا في قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} . قال المفسرون: إيمانكم يعني صلاتكم إلى بيت المقدس؛ لأن الصحابة كانوا قبل أن يؤمروا بالتوجه إلى الكعبة كانوا يصلون إلى المسجد الأقصى.(1/54)
(15) سئل فضيلة الشيخ: عن معنى قول النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،: «إنَّ الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها» ؟
فأجاب - حفظه الله - بقوله: هذا الحديث يقول فيه الرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها» . و" يأرز " بكسر الراء ويجوز فيها الفتح والضم، ومعنى " يأرز " يرجع ويثبت في المدينة كما أن الحية إذا خرجت من جحرها رجعت إليه، وهذا إشارة من النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إلى أن هذا الدين سوف يرجع إلى المدينة بعد أن تفسد البلدان الأخرى كما أن الحية تخرج وتنتشر في الأرض ثم بعد ذلك ترجع إلى جحرها.
وفيه أيضا إشارة إلى أن الإسلام كما انطلق من المدينة فإنه يرجع إليها أيضا، فإن الإسلام بقوته وسلطته لم ينتشر إلا من المدينة وإن كان أصله نابعا في مكة، ومكة هي المهبط الأول للوحي، لكن لم يكن للمسلمين دولة وسلطان وجهاد إلا بعد أن هاجروا إلى المدينة، فلهذا كان الإسلام بسلطته ونفوذه وقوته منتشرا من المدينة وسيرجع إليها في آخر الزمان.
وقال بعض أهل العلم: إن هذا إشارة إلى أمر سبق، وأن المعنى أن الناس يفدون إلى المدينة ويرجعون إليها ليتلقوا من رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الشريعة والتعاليم الإسلامية.
ولكن المعنى الأول هو ظاهر الحديث وهو الأصح.
(16) وسئل فضيلته: هل يشهد للرجل بالإيمان بمجرد اعتياده المساجد كما جاء في الحديث؟(1/55)
فأجاب بقوله: نعم لا شك أن الذي يحضر الصلوات في المساجد، حضوره لذلك، دليل على إيمانه، لأنه ما حمله على أن يخرج من بيته ويتكلف المشي إلى المسجد إلا الإيمان بالله - عز وجل -.
وأما قول السائل: " كما جاء في الحديث " فهو يشير إلى ما يروى عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان» . ولكن هذا الحديث ضعيف لا يصح عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(17) سئل فضيلة الشيخ: عن هذا التقسيم للإيمان هل هو صحيح أو لا؟ " الإيمان خمسة: إيمان مطبوع وهو إيمان الملائكة، وإيمان معصوم وهو إيمان الأنبياء، وإيمان مقبول وهو إيمان المؤمنين، وإيمان مردود وهو إيمان المنافقين، وإيمان موقوف وهو إيمان المبتدعة "؟.
فأجاب بقوله: أقول في هذا التقسيم: إنه ليس بصحيح، لا من أجل التقسيم لأن التقسيم قد يكون صحيحا في أصله ولا مشاحة في الاصطلاح والتقسيم، لكنه ليس بصحيح في حد ذاته فإن المنافقين قد نفى الله الإيمان عنهم في القرآن فقال - تعالى -: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} . وإيمان البشر مطبوعون عليه لولا وجود المانع المقاوم. قال النبي، عليه الصلاة والسلام: " «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه» . صحيح أن الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم، وصحيح أن الأنبياء، عليهم الصلاة(1/56)
والسلام، لا يمكن أن يرتدوا بعد إيمانهم، ولكن التقسيم الثاني غير صحيح وهو أنه جعل الملائكة مطبوعين على الإيمان دون البشر، والبشر كما تقدم قد طبعوا على الإيمان بالله وتوحيده، وخير من ذلك أن نرجع إلى تقسيم السلف الصالح لأنه هو التقسيم الذي يكون مطابقا للكتاب والسنة للإجماع عليه. وهو أن الإيمان قول باللسان، وعمل بالأركان، واعتقاد بالجنان.
(18) سئل الشيخ: عن رجل يوسوس له الشيطان بوساوس عظيمة فيما يتعلق بالله - عز وجل - وهو خائف من ذلك جدا؟
فأجاب فضيلته بقوله: ما ذكر من جهة مشكلة السائل التي يخاف من نتائجها، أقول له: أبشر بأنه لن يكون لها نتائج إلا النتائج الطيبة؛ لأن هذه وساوس يصول بها الشيطان على المؤمنين، ليزعزع العقيدة السليمة في قلوبهم، ويوقعهم في القلق النفسي والفكري ليكدر عليهم صفو الإيمان، بل صفو الحياة إن كانوا مؤمنين.
وليست حاله بأول حال تعرض لأهل الإيمان، ولا هي آخر حال، بل ستبقى مادام في الدنيا مؤمن. ولقد كانت هذه الحال تعرض للصحابة - رضي الله عنهم - فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «جاء أناس من أصحاب رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إلى النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، فقال: " أو قد وجدتموه؟ ". قالوا: نعم، قال: " ذاك صريح الإيمان» . رواه مسلم، وفي الصحيحين عنه أيضا أن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: «يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول:»(1/57)
«من خلق ربك؟! فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته» .
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - «أن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جاءه رجل فقال: إني أحدث نفسي بالشيء لأن أكون حممة أحب إلي من أن أتكلم به، فقال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الحمد لله الذي رد أمره إلى الوسوسة» . رواه أبو داود.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في كتاب الإيمان: والمؤمن يبتلى بوساوس الشيطان بوساوس الكفر التي يضيق بها صدره. كما «قالت الصحابة: يا رسول الله إن أحدنا ليجد في نفسه ما لأن يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يتكلم به. فقال: " ذاك صريح الإيمان ".» وفي رواية «ما يتعاظم أن يتكلم به. قال: " الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة» أي حصول هذا الوسواس مع هذه الكراهة العظيمة له، ودفعه عن القلب هو من صريح الإيمان، كالمجاهد الذي جاءه العدو فدافعه حتى غلبه، فهذا عظيم الجهاد، إلى أن قال: " ولهذا يوجد عند طلاب العلم والعبادة من الوساوس والشبهات ما ليس عند غيرهم، لأنه (أي الغير) لم يسلك شرع الله ومنهاجه، بل هو مقبل على هواه في غفلة عن ذكر ربه، وهذا مطلوب الشيطان بخلاف المتوجهين إلى ربهم بالعلم والعبادة، فإنه عدوهم يطلب صدهم عن الله - تعالى - " ا. هـ. المقصود منه ذكره في ص 147 من الطبعة الهندية.
فأقول لهذا السائل: إذا تبين لك أن هذه الوساوس من الشيطان فجاهدها وكابدها، واعلم أنها لن تضرك أبدا مع قيامك بواجب المجاهدة والإعراض عنها، والانتهاء عن الانسياب وراءها، كما قال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله تجاوز عن أمتي ما وسوست به صدورها ما لم»(1/58)
«تعمل به أو تتكلم» . متفق عليه.
وأنت لو قيل لك: هل تعتقد ما توسوس به؟ وهل تراه حقّا؟ وهل يمكن أن تصف الله - سبحانه - به؟ لقلت: ما يكون لنا أن نتكلم بهذا، سبحانك هذا بهتان عظيم، ولأنكرت ذلك بقلبك ولسانك، وكنت أبعد الناس نفورا عنه، إذا فهو مجرد وساوس وخطرات تعرض لقلبك، وشباك شرك من الشيطان الذي يجري من ابن آدم مجرى الدم، ليرديك ويلبس عليك دينك.
ولذلك تجد الأشياء التافهة لا يلقي الشيطان في قلبك الشك فيها أو الطعن، فأنت تسمع مثلا بوجود مدن مهمة كبيرة مملوءة بالسكان والعمران في المشرق والمغرب ولم يخطر ببالك يوما من الأيام الشك في وجودها أو عيبها بأنها خراب ودمار لا تصلح للسكنى، وليس فيها ساكن ونحو ذلك، إذ لا غرض للشيطان في تشكك الإنسان فيها، ولكن الشيطان له غرض كبير في إفساد إيمان المؤمن، فهو يسعى بخيله ورجله ليطفئ نور العلم والهداية في قلبه، ويوقعه في ظلمة الشك والحيرة، والنبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بين لنا الدواء الناجع الذي فيه الشفاء، وهو قوله: «فليستعذ بالله ولينته» . فإذا انتهى الإنسان عن ذلك واستمر في عبادة الله طلبا ورغبة فيما عند الله زال ذلك عنه، بحول الله، فأعرض عن جميع التقديرات التي ترد على قلبك في هذا الباب وها أنت تعبد الله وتدعوه وتعظمه، ولو سمعت أحدا يصفه بما توسوس به لقتلته إن أمكنك، إذن فما توسوس به ليس حقيقة واقعة بل هو خواطر ووساوس لا أصل لها، كما لو انفتح على شخص طاهر الثوب قد غسل ثوبه لحينه ثم أخذ الوهم يساوره لعله تنجس لعله لا تجوز الصلاة به، فإنه لا يلتفت إلى هذا.(1/59)
ونصيحتي تتلخص فيما يأتي:
1 - الاستعاذة بالله، والانتهاء بالكلية عن هذه التقديرات كما أمر بذلك النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
2 - ذكر الله - تعالى - وضبط النفس عن الاستمرار في الوساوس.
3 - الانهماك الجدي في العبادة والعمل امتثالا لأمر الله، وابتغاء لمرضاته، فمتى التفت إلى العبادة التفاتا كليا بجد وواقعية نسيت الاشتغال بهذه الوساوس - إن شاء الله -.
4 - كثرة اللجوء إلى الله والدعاء بمعافاتك من هذا الأمر.
وأسأل الله - تعالى - لك العافية والسلامة من كل سوء ومكروه.
(19) وسئل أيضا: عن شخص يوسوس إليه الشيطان بهذا السؤال: " من خلق الله؟ " فهل يؤثر ذلك عليه؟
فأجاب بقوله: هذا الوسواس لا يؤثر عليه وقد أخبر النبي، عليه الصلاة والسلام، أن الشيطان يأتي إلى الإنسان فيقول: من خلق كذا؟ ومن خلق كذا؟ إلى أن يقول: من خلق الله؟ وأعلمنا رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بالدواء الناجع وهو أن نستعيذ بالله من الشيطان الرجيم وننتهي عن هذا.
فإن طرأ عليك هذا الشيء وخطر ببالك فقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وانته عنه وأعرض إعراضا كليا وسيزول بإذن الله.
(20) وسئل الشيخ: هل يجب على الكافر أن يعتنق الإسلام؟
فأجاب بقوله: يجب على كل كافر أن يعتنق دين الإسلام ولو كان(1/60)
نصرانيا أو يهوديا؛ لأن الله - تعالى - يقول في الكتاب العزيز: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} . فواجب على جميع الناس أن يؤمنوا برسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إلا أن هذا الدين الإسلامي من رحمة الله - عز وجل - وحكمته أنه أباح لغير المسلمين أن يبقوا على ديانتهم بشرط أن يخضعوا لأحكام المسلمين فقال - تعالى -: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} . وفي صحيح مسلم من حديث بريدة أن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أمره بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيرا وقال: «ادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال فأيتهن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم» . ومن هذه الخصال أن يبذلوا الجزية.
ولهذا كان القول الراجح من أقوال أهل العلم أن الجزية تقبل من غير اليهود والنصارى.
فالحاصل أن غير المسلمين يجب عليهم إما الدخول في الإسلام، وإما الخضوع لأحكام الإسلام، والله الموفق.(1/61)
(21) سئل فضيلة الشيخ: كيف يمكن الجمع بين الأحاديث الآتية: «كان الله ولم يك شيء قبله، وكان عرشه على الماء وكتب بيده كل شيء ثم خلق السماوات والأرض» . وفي مسند الإمام أحمد «عن لقيط بن صبرة قلت: يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال: " كان في عماية..» . وحديث: «أول ما خلق الله القلم» . فظاهر هذه الأحاديث متعارض في أي المخلوقات أسبق في الخلق، وكذلك ما جاء أن أول المخلوقات هو محمد رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟.
فأجاب بقوله: هذه الأحاديث متفقة مؤتلفة وليست بمختلفة، فأول ما خلق الله من الأشياء المعلومة لنا هو العرش واستوى عليه بعد خلق السماوات، كما قال - تعالى -: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} .
وأما بالنسبة للقلم فليس في الحديث دليل على أن القلم أول شيء خلق، بل معنى الحديث أنه في حين خلق القلم أمره الله بالكتابة، فكتب مقادير كل شيء.
وأما محمد، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو كغيره من البشر، خلق من ماء أبيه عبد الله بن عبد المطلب، ولم يتميز على البشر من حيث الخلقة، كما قال عن نفسه: «إنما أنا بشر أنسى كما تنسون» . فهو عليه الصلاة(1/62)
والسلام، يجوع، ويعطش، ويبرد، ويصيبه الحر، ويمرض، ويموت، فكل شيء يعتري البشرية من حيث الطبيعة البشرية فإنه يعتريه، لكنه يتميز بأنه يوحى إليه وأنه أهل للرسالة كما قال - تعالى -: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} .(1/63)
الربوبية(1/65)
(22) سئل فضيلة الشيخ: عن حكم من يدعي علم الغيب؟
فأجاب بقوله: الحكم فيمن يدعي علم الغيب أنه كافر؛ لأنه مكذب لله - عز وجل - قال الله - تعالى -: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} . وإذا كان الله - عز وجل - يأمر نبيه محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يعلن للملأ أنه لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله، فإن من ادعى علم الغيب فقد كذب الله - عز وجل - في هذا الخبر. ونقول لهؤلاء: كيف يمكن أن تعلموا الغيب والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يعلم الغيب؟! هل أنتم أشرف أم الرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! فإن قالوا: نحن أشرف من الرسول، كفروا بهذا القول، وإن قالوا: هو أشرف، فنقول: لماذا يحجب عنه الغيب وأنتم تعلمونه؟! وقد قال الله - عز وجل - عن نفسه: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} . وهذه آية ثانية تدل على كفر من ادعى علم الغيب، وقد أمر الله - تعالى - نبيه، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أن يعلن للملأ بقوله: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} .(1/67)
(23) سئل فضيلة الشيخ: كيف نوفق بين علم الأطباء الآن بذكورة الجنين وأنوثته، وقوله - تعالى -: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} ، وما جاء في تفسير ابن جرير عن مجاهد أن رجلا سأل النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عما تلد امرأته، فأنزل الله الآية وما جاء عن قتادة - رحمه الله -؟ وما المخصص لعموم قوله - تعالى -: {مَا فِي الْأَرْحَامِ} ؟
فأجاب بقوله: قبل أن أتكلم عن هذه المسألة أحب أن أبين أنه لا يمكن أن يتعارض صريح القرآن الكريم مع الواقع أبدا، وأنه إذا ظهر في الواقع ما ظاهره المعارضة، فإما أن يكون الواقع مجرد دعوى لا حقيقة له، وإما أن يكون القرآن الكريم غير صريح في معارضته؛ لأن صريح القرآن الكريم وحقيقة الواقع كلاهما قطعي، ولا يمكن تعارض القطعيين أبدا.
فإذا تبين ذلك فقد قيل: إنهم الآن توصلوا بواسطة الآلات الدقيقة للكشف عما في الأرحام، والعلم بكونه أنثى أو ذكرا فإن كان ما قيل باطلا فلا كلام، وإن كان صدقا فإنه لا يعارض الآية، حيث إن الآية تدل على أمر غيبي هو متعلق علم الله - تعالى - في هذه الأمور الخمسة، والأمور الغيبية في حال الجنين هي: مقدار مدته في بطن أمه، وحياته، وعمله، ورزقه، وشقاوته أو سعادته، وكونه ذكرا أم أنثى، قبل أن يخلَّق، أما بعد أن يخلق، فليس العلم بذكورته أو أنوثته من علم الغيب، لأنه بتخليقه صار من علم الشهادة، إلا أنه مستتر في الظلمات الثلاثة، التي لو أزيلت لتبين أمره، ولا يبعد أن يكون فيما خلق الله - تعالى - من الأشعة أشعة قوية(1/68)
تخترق هذه الظلمات حتى يتبين الجنين ذكرا أم أنثى. وليس في الآية تصريح بذكر العلم بالذكورة والأنوثة، وكذلك لم تأت السنة بذلك.
وأما ما نقله السائل عن ابن جرير عن مجاهد أن رجلا سأل النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عما تلد امرأته، فأنزل الله الآية. فالمنقول هذا منقطع لأن مجاهدا - رحمه الله - من التابعين.
وأما تفسير قتادة - رحمه الله - فيمكن أن يحمل على أن اختصاص الله - تعالى - بعلمه ذلك إذا كان لم يخلق، أما بعد أن يخلَّق فقد يعلمه غيره. قال ابن كثير - رحمه الله - في تفسير آية لقمان: وكذلك لا يعلم ما في الأرحام مما يريد أن يخلقه - تعالى - سواه، ولكن إذا أمر بكونه ذكرا أو أنثى أو شقيا أو سعيدا علم الملائكة الموكلون بذلك ومن شاء من خلقه. ا. هـ.
وأما سؤالكم عن المخصص لعموم قوله - تعالى -: {مَا فِي الْأَرْحَامِ} . فنقول: إن كانت الآية تتناول الذكورة والأنوثة بعد التخليق فالمخصص الحس والواقع، وقد ذكر علماء الأصول أن المخصصات لعموم الكتاب والسنة إما النص، أو الإجماع، أو القياس، أو الحس، أو العقل، وكلامهم في ذلك معروف.
وإذا كانت الآية لا تتناول ما بعد التخليق وإنما يراد بها ما قبله، فليس فيها ما يعارض ما قيل من العلم بذكورة الجنين وأنوثته.
والحمد لله أنه لم يوجد ولن يوجد في الواقع ما يخالف صريح القرآن الكريم، وما طعن فيه أعداء المسلمين على القرآن الكريم من حدوث أمور ظاهرها معارضة القرآن الكريم فإنما ذلك لقصور فهمهم لكتاب الله - تعالى -، أو تقصيرهم في ذلك لسوء نيتهم، ولكن عند أهل الدين والعلم من البحث والوصول إلى الحقيقة ما يدحض شبهة هؤلاء ولله الحمد والمنة.(1/69)
والناس في هذه المسألة طرفان ووسط:
فطرف تمسك بظاهر القرآن الكريم الذي ليس بصريح، وأنكر خلافه من كل أمر واقع متيقن، فجلب بذلك الطعن إلى نفسه في قصوره أو تقصيره، أو الطعن في القرآن الكريم حيث كان في نظره مخالفا للواقع المتيقن.
وطرف أعرض عما دل عليه القرآن الكريم وأخذ بالأمور المادية المحضة، فكان بذلك من الملحدين.
وأما الوسط فأخذوا بدلالة القرآن الكريم وصدقوا بالواقع، وعلموا أنَّ كلاّ منهما حق، ولا يمكن أن يناقض صريح القرآن الكريم أمرا معلوما بالعيان، فجمعوا بين العمل بالمنقول والمعقول، وسلمت بذلك أديانهم وعقولهم، وهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
وفقنا الله وإخواننا المؤمنين لذلك، وجعلنا هداة مهتدين، وقادة مصلحين، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت، وإليه أنيب.
(24) سئل فضيلة الشيخ: عن دوران الأرض؟ ودوران الشمس حول الأرض؟ وما توجيهكم لمن أسند إليه تدريس مادة الجغرافيا وفيها أن تعاقب الليل والنهار بسبب دوران الأرض حول الشمس؟
فأجاب فضيلته بقوله: خلاصة رأينا حول دوران الأرض أنه من الأمور التي لم يرد فيها نفي ولا إثبات لا في الكتاب ولا في السنة، وذلك لأن قوله - تعالى -: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} . ليس(1/70)
بصريح في دورانها، وإن كان بعض الناس قد استدل بها عليه محتجا بأن قوله: {أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} يدل على أن للأرض حركة، لولا هذه الرواسي لاضطربت بمن عليها.
وقوله: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا} ليس بصريح في انتفاء دورانها، لأنها إذا كانت محفوظة من الميدان في دورانها بما ألقى الله فيها من الرواسي صارت قرارا، وإن كانت تدور.
أما رأينا حول دوران الشمس على الأرض الذي يحصل به تعاقب الليل والنهار، فإننا مستمسكون بظاهر الكتاب والسنة من أن الشمس تدور على الأرض دورانا يحصل به تعاقب الليل والنهار، حتى يقوم دليل قطعي يكون لنا حجة بصرف ظاهر الكتاب والسنة إليه - وأنى ذلك - فالواجب على المؤمن أن يستمسك بظاهر القرآن الكريم والسنة في هذه الأمور وغيرها.
ومن الأدلة على أن الشمس تدور على الأرض دورانا يحصل به تعاقب الليل والنهار، قوله - تعالى -: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ} . فهذه أربعة أفعال أسندت إلى الشمس (طلعت) ، (تزاور) ، (غربت) ، (تقرضهم) . ولو كان تعاقب الليل والنهار بدوران الأرض لقال: وترى الشمس إذا تبين سطح الأرض إليها تزاور كهفهم عنها أو نحو ذلك، وثبت «عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه قال لأبي ذر حين غربت الشمس: " أتدري أين تذهب؟ " فقال: الله ورسوله أعلم. قال: " فإنها تذهب»(1/71)
«وتسجد تحت العرش وتستأذن فيؤذن لها، وأنها تستأذن فلا يؤذن لها ويقال: ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها ".» ففي هذا إسناد الذهاب والرجوع والطلوع إليها وهو ظاهر في أن الليل والنهار يكون بدوران الشمس على الأرض.
وأما ما ذكره علماء الفلك العصريون، فإنه لم يصل عندنا إلى حدّ اليقين فلا ندع من أجله ظاهر كتاب ربّنا وسنة نبينا.
ونقول لمن أسند إليه تدريس مادة الجغرافيا يبين للطلبة أن القرآن الكريم والسنة كلاهما يدل بظاهره على أن تعاقب الليل والنهار، إنما يكون بدوران الشمس على الأرض لا بالعكس.
فإذا قال الطالب: أيهما نأخذ به أظاهر الكتاب والسنة أم ما يدعيه هؤلاء الذين يزعمون أن هذه من الأمور اليقينيات؟
فجوابه: أنا نأخذ بظاهر الكتاب والسنة؛ لأن القرآن الكريم كلام الله - تعالى - الذي هو خالق الكون كله، والعالم بكل ما فيه من أعيان وأحوال، وحركة وسكون، وكلامه - تعالى - أصدق الكلام وأبينه، وهو - سبحانه - أنزل الكتاب تبيانا لكل شيء، وأخبر - سبحانه - أنه يبين لعباده لئلا يضلوا، وأما السنة فهي كلام رسول رب العالمين، وهو أعلم الخلق بأحكام ربه وأفعاله، ولا ينطق بمثل هذه الأمور إلا بوحي من الله - عز وجل - لأنه لا مجال لتلقيها من غير الوحي. وفي ظني - والله أعلم - أنه سيجئ الوقت الذي تتحطم فيه فكرة علماء الفلك العصريين كما تحطمت فكرة داروين حول نشأة الإنسان.
(25) سئل فضيلة الشيخ: عن دوران الشمس حول الأرض؟(1/72)
فأجاب بقوله: ظاهر الأدلة الشرعية تثبت أن الشمس هي التي تدور على الأرض، وبدورتها يحصل تعاقب الليل والنهار على سطح الأرض وليس لنا أن نتجاوز ظاهر هذه الأدلة إلا بدليل أقوى من ذلك يسوغ لنا تأويلها عن ظاهرها. ومن الأدلة على أن الشمس تدور على الأرض دورانا يحصل به تعاقب الليل والنهار ما يلي: 1- قال الله - تعالى - عن إبراهيم في محاجته لمن حاجه في ربه: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} . فكون الشمس يؤتى بها من المشرق دليل ظاهر على أنها التي تدور على الأرض.
2 - وقال أيضا عن إبراهيم: {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} . فجعل الأفول من الشمس لا عنها ولو كانت الأرض التي تدور لقال: " فلما أفل عنها ".
3 - قال - تعالى -: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ} . فجعل الازورار والقرض من الشمس وهو دليل على أن الحركة منها ولو كانت من الأرض لقال يزاور كهفهم عنها، كما أن إضافة الطلوع والغروب إلى الشمس يدل على أنها هي التي تدور وإن كانت دلالتها أقل من دلالة قوله: (تزاور) ، (تقرضهم) .
4 - وقال - تعالى -: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} .(1/73)
قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: يدورون في فلكة كفلكة المغزل. اشتهر ذلك عنه.
5 - وقال - تعالى -: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} . فجعل الليل طالبا للنهار، والطالب مندفع لاحق، ومن المعلوم أن الليل والنهار تابعان للشمس.
6 - وقال - تعالى -: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} . فقوله: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ} أي يديره عليه ككور العمامة دليل على أن الدوران من الليل والنهار على الأرض، ولو كانت الأرض التي تدور عليهما لقال: " يكور الأرض على الليل والنهار ". وفي قوله: {كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} المبين لما سبقه دليل على أن الشمس والقمر يجريان جريا حسيا مكانيا لأن تسخير المتحرك بحركته أظهر من تسخير الثابت الذي لا يتحرك.
7 - وقال - تعالى -: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا} . ومعنى (تلاها) أتى بعدها وهو دليل على سيرهما ودورانهما على الأرض، ولو كانت الأرض التي تدور عليهما لم يكن القمر تاليا للشمس بل كان تاليا لها أحيانا وتالية له أحيانا لأن الشمس أرفع منه والاستدلال بهذه الآية يحتاج إلى تأمل.(1/74)
8 - وقال - تعالى -: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} . فإضافة الجريان إلى الشمس وجعله تقديرا من ذي عزة وعلم يدل على أنه جريان حقيقي بتقدير بالغ، بحيث يترتب عليه اختلاف الليل والنهار والفصول. وتقدير القمر منازل يدل على تنقله فيها ولو كانت الأرض التي تدور لكان تقدير المنازل لها من القمر لا للقمر. ونفي إدراك الشمس للقمر وسبق الليل للنهار يدل على حركة اندفاع من الشمس والقمر والليل والنهار.
9 - «وقال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأبي ذر - رضي الله عنه - وقد غربت الشمس: " أتدري أين تذهب؟ " قال: الله ورسوله أعلم. قال: " فإنها تذهب فتسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها، فيوشك أن تستأذن فلا يؤذن لها فيقال لها ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها ".» أو كما قال، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. متفق عليه. فقوله: «ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها» ظاهر جدا في أنها تدور على الأرض وبدورانها يحصل الطلوع والغروب.
10 - الأحاديث الكثيرة في إضافة الطلوع والغروب والزوال إلى الشمس فإنها ظاهرة في وقوع ذلك منها لا من الأرض عليها.
ولعل هناك أدلة أخرى لم تحضرني الآن ولكن فيما ذكرت فتح باب وهو كاف فيما أقصد. والله الموفق.(1/75)
الشهادتان(1/77)
(26) سئل فضلية الشيخ: عن الشهادتين؟
فأجاب قائلا: الشهادتان " شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله " هما مفتاح الإسلام ولا يمكن الدخول إلى الإسلام إلا بهما، ولهذا أمر النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، معاذ بن جبل - رضي الله عنه - حين بعثه إلى اليمن أن يكون أول ما يدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله.
فأما الكلمة الأولى: " شهادة أن لا إله إلا الله " فأن يعترف الإنسان بلسانه وقلبه بأنه لا معبود حق إلا الله - عز وجل - لأن إله بمعنى مألوه والتأله التعبد. والمعنى أنه لا معبود حق إلا الله وحده، وهذه الجملة مشتملة على نفي وإثبات، أما النفي فهو " لا إله " وأما الإثبات ففي " إلا الله " والله " لفظ الجلالة " بدل من خبر " لا " المحذوف، والتقدير " لا إله حق إلا الله " فهو إقرار باللسان بعد أن آمن به القلب بأنه لا معبود حق إلا الله - عز وجل - وهذا يتضمن إخلاص العبادة لله وحده ونفي العبادة عما سواه.
وبتقديرنا الخبر بهذه الكلمة " حق " يتبين الجواب عن الإشكال الذي يورده كثير من الناس وهو: كيف تقولون لا إله إلا الله مع أن هناك آلهة تعبد من دون الله وقد سماها الله - تعالى - آلهة وسماها عابدها آلهة؟ قال الله - تبارك وتعالى -: {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ} . وقال - تعالى -: {وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} .(1/79)
وقال - تعالى -: {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} . وقوله: {لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا} . فكيف يمكن أن نقول لا إله إلا الله مع ثبوت الألوهية لغير الله - عز وجل -؟ وكيف يمكن أن نثبت الألوهية لغير الله - عز وجل - والرسل يقولون لأقوامهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ؟
والجواب على هذا الإشكال يتبين بتقدير الخبر في لا إله إلا الله فنقول: هذه الآلهة التي تعبد من دون الله هي آلهة، لكنها آلهة باطلة ليست آلهة حقة وليس لها من حق الألوهية شيء، ويدل لذلك قوله - تعالى -: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} . ويدل لذلك أيضا قوله - تعالى -: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} . وقوله - تعالى - عن يوسف، عليه الصلاة والسلام: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} . إذن فمعنى " لا إله إلا الله " لا معبود حق إلا الله - عز وجل -، فأما المعبودات سواه فإن ألوهيتها التي يزعمها عابدها ليست حقيقية، أي ألوهية باطلة، بل الألوهية الحق هي ألوهية الله - عز وجل -.(1/80)
أما معنى شهادة " أن محمدا رسول الله " فهو الإقرار باللسان والإيمان بالقلب بأن محمد بن عبد الله القرشي الهاشمي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رسول الله - عز وجل - إلى جميع الخلق من الجن والإنس كما قال الله - تعالى -: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} . وقال - تعالى -: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} . ومقتضى هذه الشهادة أن تصدق رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيما أخبر، وأن تمتثل أمره فيما أمر، وأن تجتنب ما عنه نهى وزجر، وأن لا تعبد الله إلا بما شرع، ومقتضى هذه الشهادة أيضا أن لا تعتقد أن لرسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حقّا في الربوبية وتصريف الكون، أو حقا في العبادة، بل هو، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عبد لا يعبد، ورسول لا يكذب، ولا يملك لنفسه ولا لغيره شيئا من النفع أو الضر إلا ما شاء الله كما قال الله - تعالى -: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} . فهو عبد مأمور يتبع ما أمر به، وقال الله - تعالى -: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} . وقال - سبحانه -: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .(1/81)
فهذا معنى شهادة (أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله) .
وبهذا المعنى تعلم أنه لا يستحق العبادة لا رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا من دونه من المخلوقين، وأن العبادة ليست إلا لله - تعالى - وحده {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} . وأن حقه، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أن تنزله المنزلة التي أنزله الله - تعالى - إياها وهو أنه عبد الله ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه.
(27) وسئل فضيلته: كيف كانت " لا إله إلا الله " مشتملة على جميع أنواع التوحيد؟
فأجاب بقوله: هي تشمل جميع أنواع التوحيد كلها، إما بالتضمن، وإما بالالتزام، وذلك أن قول القائل: " أشهد أن لا إله إلا الله " يتبادر إلى الذهن أن المراد بها توحيد العبادة - الذي يسمى توحيد الألوهية - وهو متضمن لتوحيد الربوبية؛ لأن كل من عبد الله وحده، فإنه لن يعبده حتى يكون مقرا له بالربوبية، وكذلك متضمن لتوحيد الأسماء والصفات؛ لأن الإنسان لا يعبد إلا من علم أنه مستحق للعبادة، لما له من الأسماء والصفات، ولهذا قال إبراهيم لأبيه: {يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} . فتوحيد العبادة متضمن لتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات.(1/82)
(28) سئل فضيلة الشيخ: عن قول بعض الناس إن معنى " لا إله إلا الله " إخراج اليقين الفاسد على الأشياء وإدخال اليقين الصادق على الله، أنه هو الضار والنافع والمحيي والمميت، وكل شيء لا يضر ولا ينفع وأن الله هو الذي وضع فيه الضر والنفع؟
فأجاب بقوله: قول هذا القائل قول ناقص، فإن هذا معنى من معاني " لا إله إلا الله " ومعناها الحقيقي الذي دعا إليه رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكفر به المشركون أنه لا معبود بحق إلا الله، فالإله بمعنى مفعول، وتأتي فِعال بمعنى مفعول وهذا كثير، ومنه فراش بمعنى مفروش، وبناء بمعنى مبني، وغراس بمعنى مغروس، فإله بمعنى مألوه، أي الذي تألهه القلوب وتحبه وتعظمه ولا يستحق هذا حقّا إلا الله. فهذا معنى لا إله إلا الله.
وقد قسم العلماء التوحيد إلى أقسام ثلاثة: ربوبية، وألوهية، وأسماء وصفات، فتوحيد الربوبية هو إفراد الله - سبحانه - بالخلق والملك والتدبير، وتوحيد الألوهية هو إفراد الله - سبحانه - بالعبادة، وتوحيد الأسماء والصفات هو إفراد الله بما يجب له من الأسماء والصفات بأن نثبتها لله - تعالى - على وجه الحقيقة من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل.
وقد يقول البعض: إن هذا التقسيم للتوحيد بدعة. ولكن نقول: بتتبع النصوص الواردة في التوحيد وجدناها لا تخرج عن هذه الأقسام الثلاثة، والاستدلال المبني على التتبع والاستقراء ثابت حتى في القرآن، كما في قوله(1/83)
- تعالى -: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} . والجواب: لا هذا ولا هذا. ولهذا قال - تعالى -: {كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ} .
وبعض المتكلمين قالوا: التوحيد أن تؤمن أن الله واحد في أفعاله لا شريك له، واحد في ذاته لا جزء له، واحد في صفاته لا شبيه له، وهذا تقسيم قاصر.
(29) سئل - حفظه الله -: عن أول واجب على الخلق؟
فأجاب بقوله: أول واجب على الخلق هو أول ما يدعى الخلق إليه، وقد بينه النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لمعاذ بن جبل - رضي الله عنه - حين بعثه لليمن فقال له: «إنك تأتي قوما أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله» . فهذا أول واجب على العباد أن يوحدوا الله - عز وجل -، وأن يشهدوا لرسوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بالرسالة. وبتوحيد الله - عز وجل - والشهادة لرسوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يتحقق الإخلاص، والمتابعة اللذان هما شرط لقبول كل عبادة.(1/84)
العبادة(1/85)
(30) سئل فضيلة الشيخ - جزاه الله خيرا -: عن الحكمة من خلق الجن والإنس؟
فأجاب قائلا: قبل أن أتكلم عن هذا السؤال أحب أن أنبه على قاعدة عامة فيما يخلقه الله - عز وجل - وفيما يشرعه.
وهذه القاعدة مأخوذة من قوله - تعالى -: {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} . وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} . وغيرهما من الآيات الكثيرة الدالة على إثبات الحكمة لله - عز وجل - فيما يخلقه وفيما يشرعه أي في أحكامه الكونية، وأحكامه الشرعية، فإنه ما من شيء يخلقه الله - عز وجل - إلا وله حكمة سواء كان ذلك في إيجاده أو في إعدامه، وما من شيء يشرعه الله - تعالى - إلا لحكمة سواء كان ذلك في إيجابه، أو تحريمه، أو إباحته، لكن هذه الحكم التي يتضمنها حكمه الكوني والشرعي قد تكون معلومة لنا، وقد تكون مجهولة، وقد تكون معلومة لبعض الناس دون بعض حسب ما يؤتيهم الله - سبحانه وتعالى - من العلم والفهم، إذا تقرر هذا فإننا نقول: إن الله - سبحانه وتعالى - خلق الجن والإنس لحكمة عظيمة وغاية حميدة، وهي عبادته - تبارك وتعالى - كما قال - سبحانه وتعالى -: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} . وقال - تعالى -:(1/87)
{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} . وقال - تعالى -: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن لله - تعالى - حكمة بالغة من خلق الجن والإنس وهي عبادته، والعبادة هي: " التذلل لله - عز وجل - محبة وتعظيما بفعل أوامره واجتناب نواهيه على الوجه الذي جاءت به شرائعه ". قال الله - تعالى -: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} . فهذه الحكمة من خلق الجن والإنس، وعلى هذا فمن تمرد على ربه واستكبر عن عبادته فإنه يكون نابذا لهذه الحكمة التي خلق الله العباد من أجلها، وفعله يشهد أن الله خلق الخلق عبثا وسدى، وهو وإن لم يصرح بذلك لكن هذا هو مقتضى تمرده واستكباره عن طاعة ربه.
(31) وسئل فضيلته: عن مفهوم العبادة؟
فأجاب بقوله: العبادة لها مفهوم عام، ومفهوم خاص.
فالمفهوم العام: هي " التذلل لله محبة وتعظيما بفعل أوامره، واجتناب نواهيه على الوجه الذي جاءت به شرائعه ".
والمفهوم الخاص: يعني تفصيلها. قال فيه شيخ الإسلام ابن تيمية: هي " اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال، والأعمال الظاهرة والباطنة كالخوف، والخشية، والتوكل، والصلاة، والزكاة، والصيام، وغير ذلك من شرائع الإسلام ".
وقد يكون قصد السائل بمفهوم العبادة ما ذكره بعض العلماء من أن(1/88)
العبادة إمّا عبادة كونية، أو عبادة شرعية، يعني أن الإنسان قد يكون متذللا لله - سبحانه وتعالى - تذللا كونيا وتذللا شرعيا.
فالعبادة الكونية تشمل المؤمن والكافر، والبر والفاجر لقوله - تعالى -: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} . فكل من في السماوات والأرض فهو خاضع لله - سبحانه وتعالى - كونا فلا يمكن أبدا أن يضاد الله أو يعارضه فيما أراد - سبحانه وتعالى - بالإرادة الكونية.
وأما العبادة الشرعية: فهي التذلل له - سبحانه وتعالى - شرعا فهذه خاصة بالمؤمنين بالله - سبحانه وتعالى - القائمين بأمره، ثم إن منها ما هو خاص أخص كعبودية الرسل، عليهم الصلاة والسلام، مثل قوله - تعالى -: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} وقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} . وقوله: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} . وغير ذلك من وصف الرسل، عليهم الصلاة والسلام، بالعبودية.
والعابدون بالعبودية الكونية لا يثابون عليها؛ لأنهم خاضعون لله - تعالى - شاءوا أم أبوا، فالإنسان يمرض، ويفقر، ويفقد محبوبه من غير أن يكون مريدا لذلك بل هو كاره لذلك لكن هذا خضوع لله - عز وجل - خضوعا كونيا.(1/89)
(32) وسئل - حفظه الله تعالى -: هل يجوز للإنسان أن يدعو على نفسه بالموت؟
فأجاب قائلا: دعاء الإنسان على نفسه بالموت حرام ولا يجوز لأن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقول: «لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به» . فعلى الإنسان أن يصبر ويحتسب وأن يسأل الله الهداية والثبات، وإذا كان مصابا بضر فليسأل الله العافية فإن الأمر كله لله. والله ولي التوفيق.
(33) وسئل: عن قول الإنسان في دعائه: " إن شاء الله "؟
فأجاب قائلا: لا ينبغي للإنسان إذا دعا الله - سبحانه وتعالى - أن يقول: " إن شاء الله " في دعائه بل يعزم المسألة ويعظم الرغبة فإن الله - سبحانه وتعالى - لا مكره له، وقد قال - سبحانه وتعالى -: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} . فوعد بالاستجابة وحينئذ لا حاجة إلى أن يقال إن شاء الله لأن الله - سبحانه وتعالى - إذا وفق العبد للدعاء فإنه يجيبه إما بمسألته، أو بأن يرد عنه شرا، أو يدخرها له يوم القيامة، وقد ثبت عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه قال: «لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ليعزم المسألة وليعظم الرغبة فإن الله - تعالى - لا مكره له» .
فإن قال قائل: ألم يثبت «عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه كان يقول: للمريض: " لا بأس طهور إن شاء الله» ؟
فنقول: بلى ولكن هذا يظهر أنه ليس من باب الدعاء وإنما هو من باب الخبر والرجاء وليس دعاء، فإن الدعاء من آدابه أن يجزم به المرء. والله أعلم.(1/90)
(34) سئل فضيلة الشيخ: عن الجمع بين قول النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت، ليعزم المسألة وليعظم الرغبة فإن الله لا مكره له» وقوله: «ذهب الظمأ وابتلّت العروق وثبت الأجر إن شاء الله» ؟
فأجاب بقوله: الحديث الأول صحيح، وفي لفظ: «إن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه» . وهذه الصيغة التي نهى عنها رسول الله: «اللهم اغفر لي إن شئت» تشعر بمعان فاسدة:
منها أن أحدا يكره الله، ومنها أن مغفرة الله ورحمته أمر عظيم لا يعطيه الله لك، ولذلك قال: «فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه» . وأنت لو سألت رجلا من الناس فقلت: أعطني مليون ريال إن شئت. فهذا يتعاظمه ولذلك قلت له: إن شئت. وكذلك فهو مشعر بأنك مستغن عن عطية المسئول فإن أعطاك وإلا فلا يهمك، ولهذا نهى رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عن قول «إن شئت» .
أما ما جاء في الحديث الثاني من قول «إن شاء الله» فهي أخف وقعا من قول إن شئت؛ لأن القائل قد يريد بها التبرك لا التعليق.
فوجه الجمع أن التعبير بإن شاء الله أهون من إن شئت.
ويرد على ذلك أن هذا يفيد أن قول إن شاء الله منهي عنه لكن دون قول إن شئت. فكيف يكون منهيا عنه ثم يقوله النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما في الحديث الثاني الذي ذكره السائل؟ وإن كان فيه نظر من حيث الصحة، لكن ثبت في الحديث الصحيح «أن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان إذا عاد مريضا يقول: " لا بأس طهور إن شاء الله ".» وهذه(1/91)
الجملة وإن كانت خبرية فمعناها طلبي. والجواب أن هذه الجملة مبنية على الرجاء لأن يكون المرض طهورا من الذنب وهذا كما في حديث: «وثبت الأجر إن شاء الله» . فهو على الرجاء.
(35) سئل فضيلة الشيخ: ما المراد بقول النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يسأل بوجه الله إلا الجنة» ؟
فأجاب - رعاه الله - بقوله: اختلف في المراد به على قولين:
القول الأول: أن المراد لا تسألوا أحدا من المخلوقين بوجه الله فإذا أردت أن تسأل أحدا من المخلوقين لا تسأله بوجه الله، لأنه لا يسأل بوجه الله إلا الجنة، والخلق لا يقدرون على إعطاء الجنة، فإذا لا يسألون بوجه الله مطلقا.
القول الثاني: أنك إذا سألت الله فإن كان الجنة وما يستلزم دخولها فاسأل بوجه الله، وإن كان من أمور الدنيا فلا تسأل بوجه الله، فأمور الآخرة تسأل بوجه الله كقولك مثلا: أسألك بوجهك أن تنجيني من النار «. والنبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، استعاذ بوجه الله لما نزل قوله - تعالى -: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} قال: أعوذ بوجهك {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قال: أعوذ بوجهك {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} قال: هذه أهون أو أيسر» .
ولو قيل: إنه يحتمل المعنيين جميعا لكان له وجه.(1/92)
(36) وسئل فضيلة الشيخ: لماذا يدعو الإنسان ولا يستجاب له؟ والله - عز وجل - يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} ؟
فأجاب فضيلته بقوله: الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وأسأل الله - تعالى - لي ولإخواني المسلمين التوفيق للصواب عقيدة، وقولا، وعملا، يقول: الله - عز وجل -: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} . ويقول السائل: إنه دعا الله - عز وجل - ولم يستجب الله له فيستشكل هذا الواقع مع هذه الآية الكريمة التي وعد الله - تعالى - فيها من دعاه بأن يستجيب له والله - سبحانه وتعالى - لا يخلف الميعاد. والجواب على ذلك أن للإجابة شروطا لا بد أن تتحقق وهي:
الشرط الأول: الإخلاص لله - عز وجل - بأن يخلص الإنسان في دعائه فيتجه إلى الله - سبحانه وتعالى - بقلب حاضر صادق في اللجوء إليه عالم بأنه - عز وجل - قادر على إجابة الدعوة، مؤمل الإجابة من الله - سبحانه وتعالى -.
الشرط الثاني: أن يشعر الإنسان حال دعائه بأنه في أمسِّ الحاجة بل في أمس الضرورة إلى الله - سبحانه وتعالى - وأن الله - تعالى - وحده هو الذي يجيب دعوة المضطر إذا دعاه ويكشف السوء، أما أن يدعو الله - عز وجل - وهو يشعر بأنه مستغن عن الله - سبحانه وتعالى - وليس في ضرورة(1/93)
إليه وإنما يسأل هكذا عادة فقط فإن هذا ليس بحري بالإجابة.
الشرط الثالث: أن يكون متجنبا لأكل الحرام فإن أكل الحرام حائل بين الإنسان والإجابة كما ثبت في الصحيح عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه قال: «إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين " فقال - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} . وقال - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} . ثم ذكر النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام. قال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فأنى يستجاب له» . فاستبعد النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أن يستجاب لهذا الرجل الذي قام بالأسباب الظاهرة التي بها تستجلب الإجابة وهي:
أولا: رفع اليدين إلى السماء أي إلى الله - عز وجل - لأنه - تعالى - في السماء فوق العرش، ومد اليد إلى الله - عز وجل - من أسباب الإجابة كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في المسند: «إن الله حيي كريم، يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفرا» .
ثانيا: هذا الرجل دعا الله - تعالى - باسم الرب " يا رب يا رب " والتوسل إلى الله - تعالى - بهذا الاسم من أسباب الإجابة؛ لأن الرب هو الخالق المالك المدبر لجميع الأمور فبيده مقاليد السماوات والأرض، ولهذا تجد أكثر الدعاء الوارد في القرآن الكريم بهذا الاسم:(1/94)
{رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} . الآيات. فالتوسل إلى الله - تعالى - بهذا الاسم من أسباب الإجابة.
ثالثا: هذا الرجل كان مسافرا والسفر غالبا من أسباب الإجابة؛ لأن الإنسان في السفر يشعر بالحاجة إلى الله - عز وجل - والضرورة إليه أكثر مما إذا كان مقيما في أهله، وأشعث أغبر كأنه غير معني بنفسه كأن أهم شيء عنده أن يلتجئ إلى الله ويدعوه على أي حال كان هو سواء كان أشعث أغبر أم مترفا، والشعث والغبر له أثر في الإجابة كما في الحديث الذي روي عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، «أن الله - تعالى - ينزل إلى السماء الدنيا عشية عرفة يباهي الملائكة بالواقفين فيها يقول: " أتوني شعثا غبرا ضاحين من كل فج عميق» .
هذه الأسباب لإجابة الدعاء لم تجد شيئا؛ لكون مطعمه حراما، وملبسه حراما، وغذي بالحرام، قال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فأنى يستجاب له؟» . فهذه الشروط لإجابة الدعاء إذا لم تتوافر فإن الإجابة تبدو بعيدة، فإذا توافرت ولم يستجب الله للداعي، فإنما ذلك لحكمة يعلمها الله - عز وجل - ولا يعلمها هذا الداعي، فعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم، وإذا تمت هذه الشروط ولم يستجب الله - عز وجل - فإنه إما أن يدفع عنه من السوء ما هو أعظم، وإما أن يدخرها له يوم القيامة فيوفيه الأجر أكثر وأكثر؛ لأن هذا الداعي الذي دعا بتوفر الشروط ولم يستجب له ولم يصرف(1/95)
عنه من السوء ما هو أعظم، يكون قد فعل الأسباب ومنع الجواب لحكمة فيعطى الأجر مرتين مرة على دعائه ومرة على مصيبته بعدم الإجابة فيدخر له عند الله - عز وجل - ما هو أعظم وأكمل.
ثم إن المهم أيضا أن لا يستبطئ الإنسان الإجابة، فإن هذا من أسباب منع الإجابة أيضا كما جاء في الحديث عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «" يستجاب لأحدكم ما لم يعجل ". قالوا: كيف يعجل يا رسول الله؟ قال: " يقول: دعوت ودعوت ودعوت فلم يستجب لي» . فلا ينبغي للإنسان أن يستبطئ الإجابة فيستحسر عن الدعاء ويدع الدعاء بل يلح في الدعاء فإن كل دعوة تدعو بها الله - عز وجل - فإنها عبادة تقربك إلى الله - عز وجل - وتزيدك أجرا، فعليك يا أخي بدعاء الله - عز وجل - في كل أمورك العامة والخاصة الشديدة واليسيرة، ولو لم يكن من الدعاء إلا أنه عبادة لله - سبحانه وتعالى - لكان جديرا بالمرء أن يحرص عليه. والله الموفق.
(37) سئل فضيلة الشيخ: هناك أدعية يتناقلها بعض الطلاب فيما بينهم على سبيل الطرفة والضحك بحيث يخصصوا لمدرس كل مادة دعاء خاصا، فما حكم هذا العمل؟ ومن الأمثلة:
دعاء مدرس اللغة العربية: اللهم اجعلني فاعلا للخير ومرفوعا عن الشر.
دعاء مدرس الرياضيات: اللهم اجعلني مستقيما في حياتي ولا تجعل الدنيا حادة عليَّ.(1/96)
دعاء مدرس الجيولوجيا: اللهم أبعدني عن العوامل المؤثرة في النفوس، واجعلني في حبك بركانا، ولكلمتك زلزالا، واجعلني من معدن صلب وصخر قوي واجعل لي صلابة عالية.
فأجاب بقوله: دعاء الله - تعالى - عبادة يتقرب بها العبد إلى الله - عز وجل - لقوله - تعالى -: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} ولا يحل للمسلم أن يتخذ دعاء الله - تعالى - هزؤا يتندر به ويتنطع به فإن هذا خطر عظيم وخطأ جسيم.
والواجب على العبد إن كان صادقا في دعاء ربه أن يدعو الله - عز وجل - بأدب وصدق افتقارا إليه وأن يدعو الله بما يحتاجه من أمور دينه ودنياه على الوجه الذي جاءت به السنة.
أما هذه الصيغ التي ذكرها السائل ففيها عدة محاذير:
الأول: أنها تقال على سبيل التندر والتنطع وقد «قال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هلك المتنطعون " قالها ثلاثا» .
الثاني: أنها لا تنم عن داع يعتبر نفسه مفتقرا إلى الله - تعالى - يدعوه دعاء خائف راجٍ.
الثالث: أن بعضها يحمل معاني فاسدة أو معاني أشبه ما تكون باللغو كما في دعاء مدرس الجيولوجيا.
ونصيحتي لهؤلاء أن يتقوا الله ويخافوا مقامه وأن لا يتخذوا آيات الله هزؤا، وأن يعلموا أن مقام الرب عظيم لا يخاطب - جل وعلا - بمثل هذه الكلمات السخيفة المتكلفة، نسأل الله لنا ولهم الهداية.(1/97)
(38) وسئل فضيلة الشيخ: عن معنى الإخلاص؟ وإذا أراد العبد بعبادته شيئا آخر فما الحكم؟
فأجاب بقوله: الإخلاص لله - تعالى - معناه: " أن يقصد المرء بعبادته التقرب إلى الله - سبحانه وتعالى - والتوصل إلى دار كرامته ".
وإذا أراد العبد بعبادته شيئا آخر ففيه تفصيل حسب الأقسام التالية:
القسم الأول: أن يريد التقرب إلى غير الله - تعالى - في هذه العبادة ونيل الثناء عليها من المخلوقين فهذا يحبط العمل، وهو من الشرك. وفي الصحيح من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: قال الله - تعالى -: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه» . القسم الثاني: أن يقصد بها الوصول إلى غرض دنيوي كالرئاسة، والجاه، والمال دون التقرب بها إلى الله - تعالى - فهذا عمله حابط لا يقربه إلى الله - تعالى - لقول الله - تعالى -: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
والفرق بين هذا والذي قبله أن الأول قصد أن يثنى عليه من قبل أنه عابد لله - تعالى - وأما هذا - الثاني - فلم يقصد أن يثنى عليه من قبل أنه عابد لله ولا يهمه أن يثني الناس عليه بذلك.
القسم الثالث: أن يقصد بها التقرب إلى الله - تعالى - والغرض الدنيوي الحاصل بها مثل أن يقصد مع نية التعبد لله - تعالى - بالطهارة(1/98)
تنشيط الجسم وتنظيفه، وبالصلاة تمرين الجسم وتحريكه، وبالصيام تخفيف الجسم وإزالة فضلاته، وبالحج مشاهدة المشاعر والحجاج فهذا ينقص أجر الإخلاص، ولكن إن كان الأغلب عليه نية التعبد فقد فاته كمال الأجر، ولكن لا يضره ذلك باقتراف إثم أو وزر لقوله - تعالى - في الحجاج: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} .
وإن كان الأغلب عليه نية غير التعبد فليس له ثواب في الآخرة وإنما ثوابه ما حصله في الدنيا، وأخشى أن يأثم بذلك لأنه جعل العبادة التي هي أعلى الغايات وسيلة للدنيا الحقيرة، فهو كمن قال الله فيهم: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} . وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة - رضي الله عنه - «أن رجلا قال: يا رسول الله رجل يريد الجهاد وهو يريد عرضا من عرض الدنيا. فقال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا أجر له ". فأعاد ثلاثا والنبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقول: " لا أجر له ".» وفي الصحيحين عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: «من كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه» .
وإن تساوى عنده الأمران فلم تغلب نية التعبد ولا نية غير التعبد فمحل نظر، والأقرب أنه لا ثواب له كمن عمل لله - تعالى - ولغيره.
والفرق بين هذا القسم والذي قبله أن غرض غير التعبد في القسم السابق حاصل بالضرورة فإرادته إرادة حاصلة بعمله بالضرورة وكأنه أراد(1/99)
ما يقتضيه العمل من أمر الدنيا.
فإن قيل: ما هو الميزان لكون مقصوده في هذا القسم أغلبه التعبد أو غير التعبد؟
قلنا: الميزان أنه إذا كان لا يهتم بما سوى العبادة حصل أم لم يحصل فقد دل على أن الأغلب نية التعبد والعكس بالعكس.
وعلى كل حال فإن النية التي هي قول القلب أمرها عظيم وشأنها خطير فقد ترتقي بالعبد إلى درجة الصديقين وقد ترده إلى أسفل السافلين، قال بعض السلف: " ما جاهدت نفسي على شيء مجاهدتها على الإخلاص ". فنسأل الله لنا ولكم الإخلاص في النية، والصلاح في العمل.
(39) وسئل فضيلته: عن مذهب أهل السنة والجماعة في الرجاء والخوف؟
فأجاب بقوله: اختلف العلماء هل يُقدم الإنسان الرجاء أو يقدم الخوف على أقوال:
فقال الإمام أحمد - رحمه الله -: " ينبغي أن يكون خوفه ورجاؤه واحدا، فلا يغلب الخوف ولا يغلب الرجاء ". قال - رحمه الله -: " فأيهما غلب هلك صاحبه "؛ لأنه إن غلب الرجاء وقع الإنسان في الأمن من مكر الله، وإن غلب الخوف وقع في القنوط من رحمة الله.
وقال بعض العلماء: " ينبغي تغليب الرجاء عند فعل الطاعة وتغليب الخوف عند إرادة المعصية "؛ لأنه إذا فعل الطاعة فقد أتى بموجب حسن الظن، فينبغي أن يغلب الرجاء وهو القبول، وإذا هم بالمعصية أن يغلب(1/100)
الخوف لئلا يقع في المعصية.
وقال آخرون: " ينبغي للصحيح أن يغلب جانب الخوف وللمريض أن يغلب جانب الرجاء" لأن الصحيح إذا غلب جانب الخوف تجنب المعصية، والمريض إذا غلب جانب الرجاء لقي الله وهو يحسن الظن به.
والذي عندي في هذه المسألة أن هذا يختلف باختلاف الأحوال وأنه إذا خاف إذا غلب جانب الخوف أن يقنط من رحمة الله وجب عليه أن يرد ويقابل ذلك بجانب الرجاء، وإذا خاف إذا غلب جانب الرجاء أن يأمن مكر الله فليرد ويغلب جانب الخوف، والإنسان في الحقيقة طبيب نفسه إذا كان قلبه حيّا، أما صاحب القلب الميت الذي لا يعالج قلبه ولا ينظر أحوال قلبه فهذا لا يهمه الأمر.
(40) وسئل فضيلته: هل يجوز للإنسان أن يستعيذ بكلمات الله؟
فأجاب بقوله: نعم، يجوز ذلك لأن كلمات الله من صفاته، ولهذا استدل العلماء بقول النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من نزل منزلا فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك» . استدلوا بهذا الحديث على أن كلام الله من صفاته غير مخلوق لأن الاستعاذة بالمخلوق لا تجوز، ولو كانت الكلمات مخلوقة ما أرشد النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إلى الاستعاذة بها.
(41) سئل فضيلة الشيخ: هل اتخاذ الأسباب ينافي التوكل؟ فبعض الناس إبان حرب الخليج اتخذ الأسباب(1/101)
وبعضهم تركها وقال: إنه متوكل على الله؟
فأجاب بقوله: الواجب على المؤمن أن يعلق قلبه على الله - عز وجل - وأن يصدق الاعتماد عليه في جلب المنافع ودفع المضار فإن الله وحده هو الذي بيده ملكوت السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله كما قال الله - تعالى -: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} . وقال موسى لقومه: {يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} . وقال الله - تعالى -: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} . وقال - تعالى -: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} . فالواجب على المؤمن أن يعتمد على ربه رب السماوات والأرض ويحسن الظن به.
ولكن يفعل الأسباب الشرعية والقدرية الحسية التي أمر الله - تعالى - بها؛ لأن أخذ الأسباب الجالبة للخير المانعة من الشر من الإيمان بالله - تعالى - وحكمته ولا تنافي التوكل، فها هو سيد المتوكلين محمد، رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان يتخذ الأسباب الشرعية والقدرية فكان يعوذ نفسه عند النوم بالإخلاص والمعوذتين، وكان يلبس الدروع في الحروب، وخندق على المدينة حين اجتمع أحزاب الشرك حولها حماية لها، وقد جعل(1/102)
الله - تعالى - ما يتقي به العبد شرور الحروب من نعمه التي يستحق الشكر عليها فقال عن نبيه داود: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} . وأمر الله داود أن يجيد صنعها ويجعلها سابغة لأنها تكون أقوى في التحصين.
وعلى هذا فإن أهل البلاد القريبة من مواقع الحرب التي يخشى أن يصيبها من آثاره ليس عليهم حرج في الاحتياط باستعمال الكمامات المانعة من تسرب الغازات المهلكة إلى أبدانهم، والتحصينات المانعة من تسربه إلى بيوتهم؛ لأن هذا من الأسباب الواقية من الشر المحصنة من البأس، ولا حرج عليهم أن يدخروا لأنفسهم من الأطعمة وغيرها ما يخافون أن يحتاجوا إليه فلا يجدوه، وكلما قويت الخشية من ذلك كان طلب الاحتياط أقوى. ولكن يجب أن يكون اعتمادهم على الله - عز وجل - فيستعملوا هذه الأسباب بمقتضى شرع الله وحكمته على أنها أسباب أذن الله لهم فيها لا على أنها الأصل في جلب المنافع ودفع المضار، وأن يشكروا الله - تعالى - حيث يسر لهم مثل هذه الأسباب وأذن لهم بها.
والله أسأل أن يقينا جميعا أسباب الفتن والهلاك، وأن يحقق لنا ولإخواننا قوة الإيمان به والتوكل عليه والأخذ بالأسباب التي أذن بها على الوجه الذي يرضى به عنا إنه جواد كريم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(1/103)
(42) سئل فضيلة الشيخ: ما حكم التعلق بالأسباب؟
فأجاب - حفظه الله - بقوله: التعلق بالأسباب أقسام:
القسم الأول: ما ينافي التوحيد في أصله، وهو أن يتعلق الإنسان بشيء لا يمكن أن يكون له تأثير ويعتمد عليه اعتمادا كاملا معرضا عن الله مثل تعلق عباد القبور بمن فيها عند حلول المصائب. وهذا شرك أكبر مخرج عن الملة وحكم الفاعل ما ذكره الله - تعالى - بقوله: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} .
القسم الثاني: أن يعتمد على سبب شرعي صحيح مع غفلته عن المسبِّب وهو الله - تعالى - فهذا نوع من الشرك ولكن لا يخرج من الملة؛ لأنه اعتمد على السبب ونسي المسبب وهو الله - تعالى -.
القسم الثالث: أن يتعلق بالسبب تعلقا مجردا لكونه سببا فقط، مع اعتماده الأصلي على الله فيعتقد أن هذا السبب من الله، وأن الله لو شاء قطعه ولو شاء لأبقاه وأنه لا أثر للسبب في مشيئة الله - عز وجل - فهذا لا ينافي التوحيد لا أصلا ولا كمالا.
ومع وجود الأسباب الشرعية الصحيحة ينبغي للإنسان أن لا يعلق نفسه بالسبب بل يعلقها بالله، فالموظف الذي يتعلق قلبه بمرتبه تعلقا كاملا مع الغفلة عن المسبب وهو الله فهذا نوع من الشرك، أما إذا اعتقد أن المرتب سبب والمسبب هو الله - سبحانه وتعالى - فهذا لا ينافي التوكل، والرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان يأخذ بالأسباب مع اعتماده على المسبب وهو الله - عز وجل -.(1/104)
(43) سئل فضيلة الشيخ: عن حكم الرقية؟ وعن حكم كتابة الآيات وتعليقها في عنق المريض؟
فأجاب بقوله: الرقية على المريض المصاب بسحر أو غيره من الأمراض لا بأس بها إن كانت من القرآن الكريم أو من الأدعية المباحة فقد ثبت عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه كان يرقي أصحابه، ومن جملة ما يرقيهم به: «ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض، كما رحمتك في السماء فاجعل رحمتك في الأرض، أنزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك على هذا الوجع» فيبرأ. ومن الأدعية المشروعة: «بسم الله أرقيك من كل داء يؤذيك من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك بسم الله أرقيك» ، ومنها أن يضع الإنسان يده على الألم الذي يؤلمه من بدنه فيقول: «أعوذ بالله وعزته من شر ما أجد وأحاذر» إلى غير ذلك مما ذكره أهل العلم من الأحاديث الواردة عن الرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،.
وأما كتابة الآيات والأذكار وتعليقها فقد اختلف أهل العلم في ذلك: فمنهم من أجازه، ومنهم من منعه، والأقرب المنع من ذلك؛ لأن هذا لم يرد عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنما الوارد أن يقرأ على المريض، أما أن تعلق الآيات أو الأدعية على المريض في عنقه أو في يده أو تحت وسادته وما أشبه ذلك، فإن ذلك من الأمور الممنوعة على القول الراجح لعدم ورودها، وكل إنسان يجعل من الأمور سببا لأمر آخر بغير إذن من الشرع، فإن عمله هذا يعد نوعا من الشرك لأنه إثبات سبب لم يجعله الله سببا.(1/105)
(44) وسئل: هل الرقية تنافي التوكل؟ .
فأجاب بقوله: التوكل هو صدق الاعتماد على الله - عز وجل - في جلب المنافع ودفع المضار مع فعل الأسباب التي أمر الله بها، وليس التوكل أن تعتمد على الله بدون فعل الأسباب، فإن الاعتماد على الله بدون فعل الأسباب طعن في الله - عز وجل - وفي حكمته - تبارك وتعالى - لأن الله - تعالى - ربط المسببات بأسبابها، وهنا سؤال: من أعظم الناس توكلا على الله؟
الجواب: هو الرسول، عليه الصلاة والسلام، وهل كان يعمل الأسباب التي يتقي بها الضرر؟.
الجواب: نعم كان إذا خرج إلى الحرب يلبس الدروع ليتوقى السهام، وفي غزوة أحد ظاهر بين درعين، أي لبس درعين كل ذلك استعدادا لما قد يحدث، ففعل الأسباب لا ينافي التوكل، إذا اعتقد الإنسان أن هذه الأسباب مجرد أسباب فقط لا تأثير لها إلا بإذن الله - تعالى -، وعلى هذا فالقراءة قراءة الإنسان على نفسه، وقراءته على إخوانه المرضى لا تنافي التوكل، وقد ثبت عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه كان يرقي نفسه بالمعوذات وثبت أنه كان يقرأ على أصحابه إذا مرضوا. والله أعلم.
(45) وسئل - حفظه الله -: عن حكم تعليق التمائم والحجب؟
فأجاب بقوله: هذه المسألة أعني تعليق الحجب والتمائم تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أن يكون المعلق من القرآن وقد اختلف في ذلك أهل العلم سلفا وخلفا. فمنهم من أجاز ذلك ورأى أنه داخل في قوله - تعالى -:(1/106)
{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} ، وقوله - تعالى -: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ} ، وأن من بركته أن يعلق ليدفع به السوء.
ومنهم من منع ذلك وقال إن تعليقها لم يثبت عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه سبب شرعي يدفع به السوء أو يرفع به، والأصل في مثل هذه الأشياء التوقيف، وهذا القول هو الراجح وأنه لا يجوز تعليق التمائم ولو من القرآن الكريم، ولا يجوز أيضا أن تجعل تحت وسادة المريض، أو تعلق في الجدار وما أشبه ذلك، وإنما يدعى للمريض ويقرأ عليه مباشرة كما كان النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يفعل.
القسم الثاني: أن يكون المعلق من غير القرآن الكريم مما لا يفهم معناه فإنه لا يجوز بكل حال لأنه لا يدرى ماذا يكتب فإن بعض الناس يكتبون طلاسم وأشياء معقدة، حروف متداخلة ما تكاد تعرفها ولا تقرأها فهذا من البدع وهو محرم ولا يجوز بكل حال. والله أعلم.
(46) وسئل فضيلة الشيخ: عن حكم النفث في الماء؟
فأجاب بقوله: النفث في الماء علي قسمين:
القسم الأول: أن يراد بهذا النفث التبرك بريق النافث فهذا لا شك أنه حرام ونوع من الشرك؛ لأن ريق الإنسان ليس سببا للبركة والشفاء ولا أحد يتبرك بآثاره إلا محمد، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أما غيره فلا يتبرك بآثاره فالنبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يتبرك بآثاره في حياته وكذلك بعد مماته إذا بقيت تلك الآثار كما كان عند أم سلمة - رضي الله عنها - جلجل من فضة(1/107)
فيه شعرات من شعر النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يستشفي بها المرضى، فإذا جاء مريض صبت على هذه الشعرات ماء ثم حركته ثم أعطته الماء، لكن غير النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا يجوز لأحد أن يتبرك بريقه، أو بعرقه، أو بثوبه، أو بغير ذلك، بل هذا حرام ونوع من الشرك، فإذا كان النفث في الماء من أجل التبرك بريق النافث فإنه حرام ونوع من الشرك وذلك لأن كل من أثبت لشيء سببا غير شرعي ولا حسي فإنه قد أتى نوعا من الشرك، لأنه جعل نفسه مسببا مع الله، وثبوت الأسباب لمسبباتها إنما يتلقى من قبل الشرع فلذلك كل من تمسك بسبب لم يجعله الله سببا، لا حسّا ولا شرعا، فإنه قد أتى نوعا من الشرك.
القسم الثاني: أن ينفث الإنسان بريق تلا فيه القرآن الكريم مثل أن يقرأ الفاتحة - والفاتحة رقية وهي من أعظم ما يرقى به المريض - فيقرأ الفاتحة وينفث في الماء فإن هذا لا بأس به، وقد فعله بعض السلف وهو مجرب ونافع بإذن الله وقد «كان النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ينفث في يديه عند نومه بقل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس فيمسح بها وجهه وما استطاع من جسده» - صلوات الله وسلامه عليه - والله الموفق.
(47) وسئل فضيلة الشيخ: جاء في الفتوى السابقة رقم " 46 " أن التبرك بريق أحد غير النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حرام ونوع من الشرك باستثناء الرقية بالقرآن حيث إن هذا يشكل مع ما جاء في الصحيحين من حديث عائشة - رضي الله(1/108)
عنها - «أن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان يقول في الرقية: " بسم الله تربة أرضنا بريقة بعضنا يشفى سقيمنا بإذن ربنا» فنرجو من فضيلتكم التكرم بالتوضيح؟
فأجاب بقوله: ذكر بعض العلماء أن هذا مخصوص برسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبأرض المدينة فقط وعلى هذا فلا إشكال.
ولكن رأى الجمهور أن هذا ليس خاصّا برسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا بأرض المدينة بل هو عام في كل راق وفي كل أرض ولكنه ليس من باب التبرك بالريق المجردة بل هو ريق مصحوب برقية وتربة للاستشفاء وليس لمجرد التبرك. وجوابنا في الفتوى السابقة هو التبرك المحض بالريق وعليه فلا إشكال لاختلاف الصورتين.
(48) وسئل - حفظه الله -: هل تجوز كتابة بعض آيات القرآن الكريم " مثل آية الكرسي " على أواني الطعام والشراب لغرض التداوي بها؟
فأجاب بقوله: يجب أن نعلم أن كتاب الله - عز وجل - أعز وأجل من أن يمتهن إلى هذا الحد ويبتذل إلى هذا الحد، كيف تطيب نفس مؤمن أن يجعل كتاب الله - عز وجل - وأعظم آية في كتاب الله وهي آية الكرسي أن يجعلها في إناء يشرب فيه ويمتهن ويرمى في البيت ويلعب به الصبيان؟! هذا العمل لا شك أنه حرام، وأنه يجب على من عنده شيء من هذه الأواني أن يطمس هذه الآيات التي فيها، بأن يذهب بها إلى الصانع فيطمسها، فإن لم يتمكن من ذلك فالواجب عليه أن يحفر لها في مكان طاهر ويدفنها،(1/109)
وأما أن يبقيها مبتذلة ممتهنة يشرب بها الصبيان ويلعبون بها، فإن الاستشفاء بالقرآن على هذا الوجه لم يرد عن السلف الصالح - رضي الله عنهم -.
(49) وسئل فضيلة الشيخ: عن حكم لبس السوار لعلاج الروماتيزم؟
فأجاب - حفظه الله - بقوله: اعلم أن الدواء سبب للشفاء، والمسبب هو الله - تعالى - فلا سبب إلا ما جعله الله - تعالى - سببا، والأسباب التي جعلها الله - تعالى - أسبابا نوعان:
النوع الأول: أسباب شرعية كالقرآن الكريم والدعاء كما «قال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في سورة الفاتحة: " وما يدريك أنها رقية؟» ، وكما كان النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يرقي المرضى بالدعاء لهم فيشفي الله - تعالى - بدعائه من أراد شفاءه به.
النوع الثاني: أسباب حسية كالأدوية المادية المعلومة عن طريق الشرع كالعسل، أو عن طريق التجارب مثل كثير من الأدوية وهذا النوع لا بد أن يكون تأثيره عن طريق المباشرة لا عن طريق الوهم والخيال، فإذا ثبت تأثيره بطريق مباشر محسوس صح أن يتخذ دواء يحصل به الشفاء بإذن الله - تعالى - أما إذا كان مجرد أوهام وخيالات يتوهمها المريض فتحصل له الراحة النفسية بناء على ذلك الوهم والخيال ويهون عليه المرض وربما ينبسط السرور النفسي على المرض فيزول، فهذا لا يجوز الاعتماد عليه ولا إثبات كونه دواء؛ لئلا ينساب الإنسان وراء الأوهام والخيالات، ولهذا نُهي عن لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع المرض أو دفعه؛ لأن ذلك ليس سببا(1/110)
شرعيا ولا حسيا، وما لم يثبت كونه سببا شرعيا ولا حسيا لم يجز أن يجعل سببا فإن جعله سببا نوع من منازعة الله - تعالى - في ملكه وإشراك به حيث شارك الله - تعالى - في وضع الأسباب لمسبباتها، وقد ترجم الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - لهذه المسألة في كتاب التوحيد بقوله: " باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لدفع البلاء أو رفعه ".
وما أظن السوار الذي أعطاه الصيدلي لصاحب الروماتيزم الذي ذكر في السؤال إلا من هذا النوع، إذ ليس ذلك السوار سببا شرعيا ولا حسيا تعلم مباشرته لمرض الروماتيزم حتى يبرئه فلا ينبغي للمصاب أن يستعمل ذلك السوار حتى يعلم وجه كونه سببا، والله الموفق.(1/111)
الأسماء والصفات(1/113)
(50) سئل فضيلة الشيخ: عما يتعلمه طلبة المدارس في بعض البلاد الإسلامية من أن مذهب أهل السنة هو " الإيمان بأسماء الله - تعالى -، وصفاته، من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل ". وهل تقسيم أهل السنة إلى قسمين: مدرسة ابن تيمية وتلاميذه، ومدرسة الأشاعرة والماتريدية تقسيم صحيح؟ وما موقف المسلم من العلماء المئولين؟
فأجاب بقوله: لا شك أن ما يتعلمه الطلبة في المدارس من أن مذهب أهل السنة هو: (الإيمان بأسماء الله - تعالى -، وصفاته، من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل) ، هو المطابق للواقع بالنسبة لمذهب أهل السنة، كما تشهد بذلك كتبهم المطولة والمختصرة، وهو الحق الموافق لما جاء في الكتاب والسنة، وأقوال السلف، وهو مقتضى النظر الصحيح، والعقل الصريح، ولسنا بصدد سرد أفراد الأدلة في ذلك، لعدم طلبه في السؤال، وإنما نجيب على ما طلب وهو تقسيم أهل السنة إلى طائفتين في مدرستين:
إحداهما: مدرسة ابن تيمية وتلاميذه، المانعين لصرف النصوص عن ظواهرها.
الثانية: مدرسة الأشاعرة والماتريدية، الموجبين لصرفها عن ظواهرها في أسماء الله وصفاته.
فنقول: من المعلوم أن بين هاتين المدرستين اختلافا بينا في المنهاج(1/115)
فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته، فالمدرسة الأولى يقرر معلموها وجوب إبقاء النصوص على ظواهرها فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته، مع نفي ما يجب نفيه عن الله - تعالى -، من التمثيل أو التكييف، والمدرسة الثانية يقرر معلموها وجوب صرف النصوص عن ظواهرها فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته.
وهذان المنهاجان متغايران تماما، ويظهر تغايرهما بالمثال التالي:
قال الله - تعالى -: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} . وقال فيما حكاه عن معاتبة إبليس حين أبى أن يسجد لآدم بأمر الله: {يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} . فقد اختلف معلمو المدرستين في المراد باليدين اللتين أثبتهما الله - تعالى - لنفسه.
فقال أهل المدرسة الأولى: يجب إبقاء معناهما على ظاهره، وإثبات يدين حقيقيتين لله - تعالى -، على وجه يليق به.
وقال أهل المدرسة الثانية: يجب صرف معناهما عن ظاهره، ويحرم إثبات يدين حقيقيتين لله - تعالى -، ثم اختلفوا في المراد بهما هل هو القوة، أو النعمة.
وبهذا المثال يتبين أن منهاجي أهل المدرستين مختلفان متغايران، ولا يمكن بعد هذا التغاير أن يجتمعا في وصف واحد، هو " أهل السنة ".
إذن فلا بد أن يختص وصف أهل السنة بأحدهما دون الآخر، فلنحكم بينهما بالعدل، ولنعرضهما على ميزان القسط وهو كتاب الله - تعالى -، وسنة رسوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكلام الصحابة، والتابعين لهم بإحسان من سلف الأمة وأئمتها. وليس في هذا الميزان ما يدل بأي وجه(1/116)
من وجوه الدلالة، المطابقة، أو التضمن، أو الالتزام صريحا أو إشارة على ما ذهب إليه أهل المدرسة الثانية، بل في هذا الميزان ما يدل دلالة صريحة، أو ظاهرة، أو إشارية على ما ذهب إليه أهل المدرسة الأولى، وعلى هذا فيتعين أن يكون وصف أهل السنة خاصا بهم لا يشاركهم فيه أهل المدرسة الثانية؛ لأن الحكم بمشاركتهم إياهم جور، وجمع بين الضدين، والجور ممتنع شرعا، والجمع بين الضدين ممتنع عقلا.
وأما قول أهل المدرسة الثانية (المئولين) : لا مانع من تأويل أسماء الله وصفاته إذا لم يتعارض هذا مع نص شرعي.
فنقول: مجرد صرف اللفظ عن ظاهره بلا دليل شرعي مخالف للدليل، وقول على الله - تعالى - بلا علم، وقد حرم الله - تعالى - ذلك في قوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} ، وقوله: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} . وهؤلاء المئولون لأسماء الله - تعالى - وصفاته ليس لهم علم مأثور فيما أولوها إليه، ولا نظر معقول، سوى شبه يحتجون بها يناقض بعضها بعضا، ويلزم عليها من النقص في ذات الله - تعالى - وصفاته، ووحيه أكثر مما زعموه من النقص في إثباتها على ظاهرها، وليس هذا موضع البسط في ذلك.
وإنما المقصود بيان أن وصف (أهل السنة) لا يمكن أن يعطى لطائفتين يتغاير منهاجهما غاية التغاير، وإنما يستحقه من كان قوله موافقا(1/117)
للسنة فقط، ولا ريب أن أهل المدرسة الأولى (غير المئولين) أحق بالوصف المذكور من أهل المدرسة الثانية (المئولين) ، لمن نظر في منهاجيهما بعلم وإنصاف فلا يصح تقسيم أهل السنة إلى الطائفتين بل هم طائفة واحدة.
وأما احتجاجهم بقول ابن الجوزي في هذا الباب فنقول: أقوال أهل العلم يحتج لها ولا يحتج بها، فليس قول واحد من أهل العلم بحجة على الآخرين.
وأما قولهم: إن الإمام أحمد أول في حديث: «قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن» ، وحديث: «الحجر الأسود يمين الله في الأرض» ، وقوله - تعالى -: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} .
فنقول: لا يصح عن الإمام أحمد - رحمه الله - أنه تأول الحديثين المذكورين، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في الفتاوى ص 398 جـ 5 من مجموع ابن القاسم: " وأما ما حكاه أبو حامد الغزالي من أن أحمد لم يتأول إلا في ثلاثة أشياء «الحجر الأسود يمين الله في الأرض» و «قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن» ، و «إني أجد نفس الرحمن من قبل اليمن» ، فهذه الحكاية كذب على أحمد، لم ينقلها أحد عنه بإسناد، ولا يعرف أحد من أصحابه نقل ذلك عنه ". ا. هـ.
وأما قوله - تعالى -: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} ، فإن الإمام أحمد لم يتأولها وإنما فسرها ببعض لوازمها، وهو العلم ردا على الجهمية، الذين فسروها بخلاف المراد بها، حيث زعموا أنها تقتضي كون الله - تعالى - في كل مكان بذاته - تعالى الله عن قولهم - فبين - رحمه الله تعالى - أن المعية هنا بمعنى الإحاطة بالخلق التي من جملتها العلم بهم. وذلك أن المعية لا تقتضي(1/118)
الحلول والاختلاط بل هي في كل موضع بحسبه، ولهذا يقال: سقاني لبنا معه ماء. ويقال: صليت مع الجماعة. ويقال: فلان معه زوجته.
ففي المثال الأول: اقتضت المزج والاختلاط، وفي الثاني اقتضت المشاركة في المكان والعمل بدون اختلاط، وفي الثالث اقتضت المصاحبة وإن لم يكن اشتراك في مكان أو عمل، وإذا تبين أن معنى المعية يختلف بحسب ما تضاف إليه، فإن معية الله - تعالى - لخلقه تختلف عن معية المخلوقين لمثلهم، ولا يمكن أن تقتضي المزج والاختلاط أو المشاركة في المكان؛ لأن ذلك ممتنع على الله - عز وجل - لثبوت مباينته لخلقه وعلوه عليهم. وعلى هذا يكون معنا وهو على العرش فوق السماوات، لأنه محيط بنا علما، وقدرة، وسلطانا، وسمعا، وبصرا، وتدبيرا، وغير ذلك مما تقتضيه ربوبيته، فإذا فسرها مفسر بالعلم لم يخرج بها عن مقتضاها، ولم يكن متأولا إلا عند من يفهم من المعية المشاركة في المكان أو المزج والاختلاط على كل حال. وقد سبق أن هذا ليس بمتعين في كل حال.
هذا بالنسبة لما نقل عن الإمام أحمد في تأويل هذه النصوص الثلاثة.
أما بالنظر لها من حيث هي فقد تقدم قريبا أنه لا تأويل في الآية الكريمة إذا فسرها مفسر بالعلم، لأنه تفسير لها ببعض مقتضياتها لا نقل لها عن المعنى الذي تقتضيه.
وأما حديث: «إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء» . فقد رواه مسلم في صحيحه في كتاب القدر في الباب الثالث منه رقم 17 ص 2045، وليس فيه تأويل عند أهل السنة والجماعة حيث يؤمنون بما دل عليه من إثبات الأصابع لله(1/119)
- تعالى - على الوجه اللائق به، ولا يلزم من كون قلوبنا بين أصبعين منها أن تماس القلب، فإن السحاب مسخر بين السماء والأرض ولا يمس السماء ولا الأرض، فكذلك قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن ولا يستلزم ذلك المماسة.
وأما حديث: «الحجر الأسود يمين الله في الأرض» فقد قال فيه شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى ص 397 جـ 6 من مجموع ابن قاسم: قد روي عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بإسناد لا يثبت، والمشهور إنما هو عن ابن عباس. قال: «الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه» . وفي ص 44 جـ 3 من المجموع المذكور: " صريح في أن الحجر الأسود ليس هو صفة الله ولا نفس يمينه، لأنه قال: " يمين الله في الأرض " فقيده في الأرض ولم يطلق فيقول: يمين الله، وحكم اللفظ المقيد يخالف المطلق. وقال: «فمن قبله وصافحه فكأنما صافح الله وقبل يمينه» ، ومعلوم أن المشبه غير المشبه به ". ا. هـ.
قلت: وعلى هذا فلا يكون الحديث من صفات الله - تعالى - التي أولت إلى معنى يخالف الظاهر فلا تأويل فيه أصلا.
وأما قولهم: إن هناك مدرستين: إحداهما مدرسة ابن تيمية فيقال: نسبة هذه المدرسة إلى ابن تيمية توهم أنه لم يسبق إليها، وهذا خطأ فإن ما ذهب إليه ابن تيمية هو ما كان عليه السلف الصالح وأئمة الأمة، فليس هو الذي أحدث هذه المدرسة كما يوهمه قول القائل الذي يريد أن يقلل من شأنها، والله المستعان.
وأما موقفنا من العلماء المئولين فنقول: من عرف منهم بحسن النية وكان لهم قدم صدق في الدين، واتباع السنة فهو معذور بتأويله السائغ،(1/120)
ولكن عذره في ذلك لا يمنع من تخطئة طريقته المخالفة لما كان عليه السلف الصالح من إجراء النصوص على ظاهرها، واعتقاد ما دل عليه ذلك الظاهر من غير تكييف، ولا تمثيل، فإنه يجب التفريق بين حكم القول وقائله، والفعل وفاعله، فالقول الخطأ إذا كان صادرا عن اجتهاد وحسن قصد لا يذم عليه قائله، بل يكون له أجر على اجتهاده، لقول النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر» . متفق عليه، وأما وصفه بالضلال فإن أريد بالضلال الضلال المطلق الذي يذم به الموصوف، ويمقت عليه، فهذا لا يتوجه في مثل هذا المجتهد الذي علم منه حسن النية، وكان له قدم صدق في الدين واتباع السنة، وإن أريد بالضلال مخالفة قوله للصواب من غير إشعار بذم القائل فلا بأس بذلك؛ لأن مثل هذا ليس ضلالا مطلقا، لأنه من حيث الوسيلة صواب، حيث بذل جهده في الوصول إلى الحق، لكنه باعتبار النتيجة ضلال حيث كان خلاف الحق.
وبهذا التفصيل يزول الإشكال والتهويل، والله المستعان.
(51) سئل فضيلة الشيخ: عن عقيدة أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته؟ وعن الفرق بين الاسم والصفة؟ وهل يلزم من ثبوت الاسم ثبوت الصفة؟ ومن ثبوت الصفة ثبوت الاسم؟
فأجاب بقوله: عقيدة أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته هي إثبات ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات من غير تحريف، ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل.(1/121)
والفرق بين الاسم والصفة: أن الاسم: ما سمي الله به، والصفة: ما وصف الله به. وبينهما فرق ظاهر.
فالاسم يعتبر علما على الله - عز وجل - متضمنا للصفة.
ويلزم من إثبات الاسم إثبات الصفة. مثاله: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (غفور) اسم يلزم منه المغفرة و (رحيم) يلزم منه إثبات الرحمة.
ولا يلزم من إثبات الصفة إثبات الاسم، مثل الكلام لا يلزم أن نثبت لله اسم المتكلم، بناء على ذلك تكون الصفات أوسع؛ لأن كل اسم متضمن لصفة وليست كل صفة متضمنة لاسم.
(52) سئل فضيلة الشيخ - جزاه الله خيرا -: هل أسماء الله - تعالى - محصورة؟
فأجاب بقوله: أسماء الله ليست محصورة بعدد معين، والدليل على ذلك قوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في الحديث الصحيح: «اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك» ، إلى أن قال: «أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو عملته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك» . وما استأثر الله به في علم الغيب لا يمكن أن يعلم به، وما ليس معلوما ليس محصورا.
وأما قوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة» ، فليس معناه أنه ليس له إلا هذه الأسماء، لكن معناه أن من أحصى من أسمائه هذه التسعة والتسعين فإنه يدخل الجنة، فقوله: " من أحصاها " تكميل للجملة الأولى وليست استئنافية منفصلة، ونظير هذا قول العرب: عندي مائة فرس أعددتها للجهاد في سبيل الله.(1/122)
فليس معناه أنه ليس عنده إلا هذه المائة، بل هذه المائة معدة لهذا الشيء.
وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - اتفاق أهل المعرفة في الحديث على أن عدها وسردها لا يصح عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ا. هـ. وصدق - رحمه الله - بدليل الاختلاف الكبير فيها فمن حاول تصحيح هذا الحديث قال: إن هذا أمر عظيم لأنها توصل إلى الجنة فلا يفوت على الصحابة أن يسألوه، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عن تعيينها فدل هذا على أنها قد عينت من قبله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. لكن يجاب عن ذلك بأنه لا يلزم ولو كان كذلك لكانت هذه الأسماء التسعة والتسعون معلومة أشد من علم الشمس ولنقلت في الصحيحين وغيرهما؛ لأن هذا مما تدعو الحاجة إليه وتلح بحفظه فكيف لا يأتي إلا عن طريق واهية وعلى صور مختلفة. فالنبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لم يبينها لحكمة بالغة وهي أن يطلبها الناس ويتحروها في كتاب الله وسنة رسوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتى يتبين الحريص من غير الحريص.
وليس معنى إحصائها أن تكتب في رقاع ثم تكرر حتى تحفظ ولكن معنى ذلك:
أولا: الإحاطة بها لفظا.
ثانيا: فهمها معنى.
ثالثا: التعبد لله بمقتضاها ولذلك وجهان:
الوجه الأول: أن تدعو الله بها لقوله - تعالى -: {فَادْعُوهُ بِهَا} بأن تجعلها وسيلة إلى مطلوبك، فتختار الاسم المناسب لمطلوبك، فعند سؤال المغفرة تقول: يا غفور اغفر لي، وليس من المناسب أن تقول: يا شديد(1/123)
العقاب اغفر لي، بل هذا يشبه الاستهزاء، بل تقول: أجرني من عقابك.
الوجه الثاني: أن تتعرض في عبادتك لما تقتضيه هذه الأسماء، فمقتضى الرحيم الرحمة، فاعمل العمل الصالح الذي يكون جالبا لرحمة الله، هذا هو معنى إحصائها، فإذا كان كذلك فهو جدير لأن يكون ثمنا لدخول الجنة.
(53) وسئل فضيلة الشيخ: عن أقسام صفات الله - تعالى - باعتبار لزومها لذاته المقدسة وعدم لزومها؟
فأجاب بقوله: تنقسم صفات الله - تعالى - باعتبار لزومها لذاته المقدسة وعدم لزومها إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: صفات ذاتية.
القسم الثاني: صفات فعلية.
القسم الثالث: صفات ذاتية فعلية باعتبارين.
فأما الصفات الذاتية فيراد بها الصفات اللازمة لذاته - تعالى -، التي لم يزل ولا يزال متصفا بها مثل الحياة، والعلم، والقدرة، والعزة، والحكمة، والعظمة، والجلال، والعلو ونحوها من صفات المعاني، وسميت ذاتية للزومها للذات، ومثل اليدين، والعينين، والوجه، وقد تسمى هذه بالصفات الخبرية.
وأما الصفات الفعلية فهي التي تتعلق بمشيئته، وليست لازمة لذاته لا باعتبار نوعها، ولا باعتبار آحادها، مثل الاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا، والمجيء للفصل بين العباد يوم القيامة، فهذه الصفات صفات فعلية تتعلق بمشيئته، إن شاء فعلها، وإن شاء لم يفعلها، وهي(1/124)
صفات حادثة في نوعها وآحادها، فالاستواء على العرش لم يكن إلا بعد خلق العرش، والنزول إلى السماء الدنيا لم يكن إلا بعد خلق السماء، والمجيء يوم القيامة لم يكن قبل يوم القيامة.
وأما الصفات الذاتية الفعلية فهي التي إذا نظرت إلى نوعها وجدت أن الله تعالى لم يزل ولا يزال متصفا بها، فهي لازمة لذاته، وإذا نظرت إلى آحادها وجدت أنها تتعلق بمشيئته وليست لازمة لذاته، ومثلوا لذلك بكلام الله تعالى، فإنه باعتبار نوعه من الصفات الذاتية؛ لأن الله لم يزل ولا يزال متكلما، فكلامه من كماله الواجب له سبحانه، وباعتبار آحاد الكلام أعني باعتبار الكلام المعين الذي يتكلم به سبحانه متى شاء، من الصفات الفعلية؛ لأنه كان بمشيئته سبحانه.
وصرح بالقسمين الأولين في التنبيهات السنية على العقيدة الواسطية ص 20 للشيخ ابن رشيد.
وقد أشار إلى نحو مما ذكرنا في الفتاوى مجموع ابن قاسم ص 150 - 160 مج 6.
(54) سئل فضيلة الشيخ: عن علو الله تعالى، وعن قول من يقول: إنه عن الجهات الست خال وإنه في قلب العبد المؤمن.
فأجاب بقوله: مذهب السلف رضوان الله عليهم أن الله تعالى بذاته فوق عباده وقد قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}(1/125)
وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} . وقال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} . وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} . وقال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} . فإذا تبين أن طريقة المؤمنين عند التنازع هي الرجوع إلى كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والسمع والطاعة لهما، وعدم الخيار فيما سواهما، وأن الإيمان لا يكون إلا بذلك، مع انتفاء الحرج وتمام التسليم، فإن الخروج عن هذا الطريق موجب لما قال الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} .
وعلى هذا فإن المتأمل في هذه المسألة - مسألة علو الله تعالى - بذاته على خلقه بعد ردها إلى كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه(1/126)
وسلم يتبين له أن الكتاب والسنة قد دلا دلالة صريحة بجميع وجوه الدلالة على علو الله تعالى بذاته فوق خلقه، بعبارات مختلفة منها:
1 - التصريح بأن الله تعالى في السماء كقوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} . وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في رقية المريض: «ربنا الله الذي في السماء» ، إلى آخر الحديث، رواه أبو داود، وقوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشها فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطا عليها حتى يرضى عنها» . رواه مسلم.
2 - التصريح بفوقيته تعالى، كقوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} . وقوله: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} . وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله لما قضى الخلق كتب عنده فوق عرشه إن رحمتي سبقت غضبي» . رواه البخاري.
3 - التصريح بصعود الأشياء إليه، ونزولها منه، والصعود لا يكون إلا إلى أعلى، والنزول لا يكون إلا من أعلى، كقوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} . وقوله: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} . وقوله: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ}(1/127)
وقوله تعالى في القرآن الكريم: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} . والقرآن كلام الله تعالى، كما قال سبحانه: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} . وإذا كان القرآن الكريم كلامه وهو تنزيل منه دل ذلك على علوه بذاته تعالى وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني» . إلى آخر الحديث، وهو صحيح ثابت في الصحيحين وغيرهما. وفي حديث البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علمه ما يقول: إذا أوى إلى فراشه، ومنه: «آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت» . وهو في صحيح البخاري وغيره.
4 - التصريح بوصفه تعالى بالعلو، كما في قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} . وقوله: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} . «وقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سبحان ربي الأعلى» .
5 - إشارة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى السماء حين يشهد الله تعالى في موقف عرفة ذلك الموقف العظيم، الذي شهد فيه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكبر جمع من أمته، حين «قال لهم: ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم. فقال: اللهم اشهد. يرفع أصبعه إلى السماء وينكتها إلى»(1/128)
«الناس،» وذلك ثابت في صحيح مسلم من حديث جابر، وهو ظاهر في أن الله تعالى في السماء وإلا لكان رفعه إياها عبثا.
6 - «سؤال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للجارية حين قال لها: أين الله؟ قالت: في السماء، قال: أعتقها فإنها مؤمنة» . رواه مسلم من حديث طويل عن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه وهو صريح في إثبات العلو الذاتي لله تعالى؛ لأن "أين"، إنما يستفهم بها عن المكان، وقد أقر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذه المرأة حين سألها أين الله؟ فأقرها على أنه تعالى في السماء، وبين أن هذا مقتضى الإيمان حين قال: «أعتقها فإنها مؤمنة» . فلا يؤمن العبد حتى يقر ويعتقد أن الله تعالى في السماء، فهذه أنواع من الأدلة السمعية الخبرية من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تدل على علو الله تعالى بذاته فوق خلقه، أما أفراد الأدلة فكثيرة لا يمكن حصرها في هذا الموضع، وقد أجمع السلف الصالح رضوان الله عليهم على القول بمقتضى هذه النصوص وأثبتوا لله تعالى العلو الذاتي، وهو أنه سبحانه عال بذاته فوق خلقه، كما أنهم مجمعون على إثبات العلو المعنوي له وهو علو الصفات، قال الله تعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . وقال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} وقال تعالى: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} .(1/129)
وقال: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} إلى غير ذلك من الآيات الدالة على كماله في ذاته وصفاته وأفعاله.
وكما أن علو الله تعالى الذاتي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة وإجماع السلف، فقد دل عليه العقل والفطرة.
أما دلالة العقل: فيقال: لا ريب أن العلو صفة كمال، وأن ضده صفة نقص، والله تعالى قد ثبت له صفات الكمال فوجب ثبوت العلو له تعالى، ولا يلزم على إثباته له شيء من النقص، فإنا نقول: إن علوه تعالى ليس متضمنا لكون شيء من مخلوقاته محيطا به، ومن ظن أن إثبات العلو له يستلزم ذلك فقد وهم في ظنه، وضل في عقله.
وأما دلالة الفطرة على علو الله تعالى بذاته: فإن كل داع لله تعالى دعاء عبادة، أو دعاء مسألة لا يتجه قلبه حين دعائه إلا إلى السماء، ولذلك تجده يرفع يديه إلى السماء بمقتضى فطرته، كما قال ذلك الهمداني لأبي المعالي الجويني: " ما قال عارف قط: يا رب إلا وجد من قلبه ضرورة بطلب العلو ". فجعل الجويني يلطم على رأسه ويقول: "حيرني الهمداني، حيرني الهمداني ". هكذا نقل عنه، سواء صحت عنه أم لم تصح، فإن كل أحد يدرك ذلك، وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر الرجل يمد يديه إلى السماء، يا رب، يا رب» إلى آخر الحديث. ثم إنك تجد الرجل يصلي وقلبه نحو السماء لا سيما حين يسجد. ويقول: "سبحان ربي الأعلى" لأنه يعلم أن معبوده في السماء سبحانه وتعالى.
وأما قولهم: "إن الله تعالى عن الجهات الست خال"، فهذا(1/130)
القول على عمومه باطل؛ لأنه يقتضي إبطال ما أثبته الله تعالى لنفسه، وأثبته له أعلم خلقه به، وأشدهم تعظيما له، وهو رسوله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أنه سبحانه في السماء التي هي في جهة العلو، بل إن ذلك يقتضي وصف الله تعالى بالعدم؛ لأن الجهات الست هي الفوق، والتحت، واليمين، والشمال، والخلف، والأمام، وما من شيء موجود إلا تتعلق به نسبة إحدى هذه الجهات، وهذا أمر معلوم ببداهة العقول، وإن نفيت هذه الجهات عن الله تعالى لزم أن يكون معدوما، والذهن وإن كان قد يفرض موجودا خاليا من تعلق هذه النسب به لكن هذا شيء يفرضه الذهن، ولا يوجد في الخارج، ونحن نؤمن ونرى لزاما على كل مؤمن بالله أن يؤمن بعلوه تعالى فوق خلقه، كما دل على ذلك الكتاب والسنة، وإجماع السلف، والعقل، والفطرة، كما قررناه من قبل. ولكننا مع ذلك نؤمن بأن الله تعالى محيط بكل شيء، وأنه لا يحيط به شيء من مخلوقاته، وأنه سبحانه غني عن خلقه فلا يحتاج لشيء من مخلوقاته. ونحن نرى أيضا أنه لا يجوز لمؤمن أن يخرج عما يدل عليه الكتاب والسنة، لقول أحد من الناس كائنا من كان، كما أسلفنا الأدلة على ذلك في أول جوابنا هذا.
وأما قولهم: "إن الله تعالى في قلب المؤمن". فهذا لا دليل عليه من كتاب الله تعالى، ولا سنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا كلام أحد من السلف الصالح فيما نعلم، وهو أيضا على إطلاقه باطل، فإنه إن أريد به أن الله تعالى حال في قلب العبد فهو باطل قطعا، فإن الله تعالى أعظم وأجل من ذلك، ومن العجائب - والعجائب جمة - أن ينفر شخص مما دل عليه الكتاب والسنة من كون الله تعالى في السماء، ثم يطمئن بما لم يدل عليه الكتاب والسنة من زعمه أن الله تعالى في قلب(1/131)
المؤمن، إذ ليس في الكتاب والسنة حرف واحد يدل على ذلك.
وإن أريد بكون الله تعالى في قلب العبد المؤمن أنه دائما يذكر ربه في قلبه، فهذا حق، ولكن يجب أن يعبر عنه بعبارة تدل على حقيقته وينتفي عنها المدلول الباطل، فيقال مثلا: إن ذكر الله تعالى دائما في قلب العبد المؤمن. ولكن الذي يظهر من كلام من يتكلم بها أنه يريد أن يستبدلها عن كون الله تعالى في السماء، وهي بهذا المعنى باطلة كما سبق.
فليحذر المؤمن من إنكار ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله، وأجمع عليه السلف إلى عبارات مجملة غامضة تحتمل من المعاني الحق والباطل، وليلتزم سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، حتى يدخل في قول الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} .
جعلنا الله وإياكم منهم، ووهب لنا جميعا منه رحمة، إنه هو الوهاب.
(55) سئل فضيلة الشيخ: عن قول بعض الناس إذا سئل: "أين الله"؟ قال: "الله في كل مكان". أو "موجود". فهل هذه الإجابة صحيحة على إطلاقها؟
فأجاب بقوله: هذه إجابة باطلة لا على إطلاقها ولا تقييدها فإذا(1/132)
سئل أين الله؟ فليقل: "في السماء"، كما أجابت بذلك «المرأة التي سألها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أين الله" قالت: في السماء» .
وأما من قال: "موجود" فقط. فهذا حيدة عن الجواب ومراوغة منه.
وأما من قال: "إن الله في كل مكان". وأراد بذاته فهذا كفر؛ لأنه تكذيب لما دلت عليه النصوص، بل الأدلة السمعية، والعقلية، والفطرية من أن الله - تعالى - عليٌّ على كل شيء وأنه فوق السماوات مستو على عرشه.
(56) سئل الشيخ: عن توضيح ما جاء في كتاب "عقيدة أهل السنة والجماعة" من قول فضيلته: "ومن كان هذا شأنه كان مع خلقه حقيقة، وإن كان فوقهم على عرشه حقيقة".
فأجاب بقوله: فقولنا: "ومن كان هذا شأنه كان مع خلقه حقيقة، وإن كان فوقهم على عرشه حقيقة". نريد بذلك أن هذه الآية كغيرها من آيات الصفات يراد بها حقيقة معناها مع تنزيه الله تعالى، عما لا يليق به من كونه مختلطا بخلقه، بل هو سبحانه على عرشه بائن من خلقه.
وحقيقة المعية لا تستلزم الاختلاط، ولهذا تقول العرب: "ما زلنا نسير والقمر معنا"، مع أن القمر في السماء، ولا يفهم أحد من ذلك أن القمر في الأرض، فالرب جل وعلا أعظم وأجل فهو مع خلقه، كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية، حيث قال: "وكل هذا الكلام الذي ذكره الله - من أنه فوق العرش وأنه معنا - حق على حقيقته لا يحتاج إلى تحريف". وقال قبل ذلك: "وليس معنى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ}(1/133)
أنه مختلط بالخلق، فإن هذا لا توجبه اللغة، بل القمر آية من آيات الله من أصغر مخلوقاته، وهو موضوع في السماء وهو مع المسافر وغير المسافر أينما كان" ا. هـ. كلامه. وبهذا التقرير علم أن الله تعالى مع خلقه حقا وإن كان بذاته فوق عرشه ولا تناقض بين هذا وهذا.
وبه أيضا بطل احتجاج أهل التأويل من الأشعرية وغيرهم على أهل السنة، حيث قالوا لأهل السنة: لم تنكرون علينا التأويل فيما نئوله من آيات الصفات وأحاديثها بصرفها عن حقيقتها، وأنتم تئولون نصوص المعية وتصرفونها عن حقيقتها.
(57) سئل فضيلة الشيخ: عن تفسير استواء الله عز وجل على عرشه بأنه علوه تعالى على عرشه على ما يليق بجلاله.
فأجاب بقوله: تفسير استواء الله تعالى على عرشه بأنه علوه تعالى على عرشه على ما يليق بجلاله هو تفسير السلف الصالح. قال ابن جرير إمام المفسرين في تفسيره: "من معاني الاستواء: العلو والارتفاع كقول القائل: استوى فلان على سريره يعني علوه عليه". وقال في تفسير قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} "يقول: جل ذكره: الرحمن على عرشه ارتفع وعلا". اهـ. ولم ينقل عن السلف ما يخالفه.
ووجهه: أن الاستواء في اللغة يستعمل على وجوه:
الأول: أن يكون مطلقا غير مقيد فيكون معناه الكمال كقوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} .(1/134)
الثاني: أن يكون مقرونا بالواو فيكون بمعنى التساوي كقولهم: استوى الماء والعتبة.
الثالث: أن يكون مقرونا بإلى فيكون بمعنى القصد كقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ} .
الرابع: أن يكون مقرونا بعلى فيكون بمعنى العلو والارتفاع كقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} .
وذهب بعض السلف إلى أن الاستواء المقرون بإلى كالمقرون بعلى فيكون معناه الارتفاع والعلو، كما ذهب بعضهم إلى أن الاستواء المقرون بعلى بمعنى الصعود والاستقرار إذا كان مقرونا بعلى.
وأما تفسيره بالجلوس فقد نقل ابن القيم في الصواعق 4 \ 1303 عن خارجة بن مصعب في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قوله: "وهل يكون الاستواء إلا الجلوس" ا. هـ. وقد ورد ذكر الجلوس في حديث أخرجه الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا. والله أعلم.
(58) سئل فضيلته: عن قول من يقول: إن الله مستو على عرشه بطريقة رمزية كما بُيِّنَ كثير من أشياء الجنة للبشر في لغتهم كي يفهموا ويدركوا معانيها.
فأجاب - حفظه الله تعالى - بقوله: لو تأمل المتكلم الكلام وأعطاه حقه من التأمل لعلم أن القرآن المبين ليس فيه شيء تكون معانيه رمزية، فإن الرموز مخالفة لبيان القرآن الكريم، بعيدة عن دلالاته كيف وقد قال الله عنه: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى} . وقال(1/135)
تعالى: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} . وقال في وصفه: {حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} . وقال: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} . فكيف يكون هذا القرآن العظيم الذي نزل تبيانا لكل شيء، وفصلت آياته، ووصفه من أنزله بأنه مبين، وأنه جعله قرآنا عربيا من أجل عقله وفهمه أقول: كيف يكون ما هذا شأنه ووصفه رموزا في أعظم المطالب وهي صفات الله عز وجل؟!!
إذا كنا نمنع منعا باتا الدلالات الرمزية في الأحكام التكليفية التي متعلقها أعمال العباد التي قد يسوغ الاجتهاد في بعضها حسبما تقتضيه الشريعة، فكيف نسوغ لأنفسنا أن نعمل بالدلالات الرمزية في الأخبار المحضة التي لا مجال للرأي فيها بوجه من الوجوه، لا سيما ما يتعلق بأسماء الله وصفاته؟
إننا لو سوغنا ذلك لأنفسنا لتلاعب الناس في كلام الله، وكلام رسوله وصار كل واحد من الناس، أو كل طائفة من الناس تدعي أن هذه الآية أو هذا الحديث رمز لكذا وكذا، فتبطل الشريعة بهذا المعيار عقيدة ومنهجا.
ولا أدري هل يمكن لقدم مؤمن أن تثبت في الدنيا، أو إذا لاقى ربه يوم القيامة على دعوى أن في كلام الله تعالى ما دلالته رمزية، وقد أخبر الله تعالى عنه أنه جعله قرآنا عربيا لنعقله ونفهمه على مقتضى اللسان العربي الذي نزل به؟
إذن يجب علينا أن نفهم كلام الله تعالى على مقتضى اللسان العربي وقد علم من ذلك اللسان العربي أن الاستواء إذا تعدى بـ (على) كان معناه العلو والارتفاع، لكن يجب أن نفهم فيما يتعلق باستواء الله(1/136)
تعالى على عرشه أمرين:
أحدهما: أن استواءه على عرشه ليس كاستواء الإنسان على الفلك والأنعام والسرر لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ولأنه لا يمكن أن تكون صفات الخالق كصفات خلقه لتباين ما بين الخالق والمخلوق.
ثانيهما: أنا لا نعلم كيفية استوائه لقوله تعالى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} ولأن الله تعالى أخبرنا عن استوائه ولم يخبرنا عن كيفيته، والغائب المخبر عنه لا تعلم كيفيته إلا بمشاهدته، أو مشاهدة نظيره، أو الخبر الصادق عنه. ولهذا لمّا سئل مالك إمام دار الهجرة عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قال: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة". فبين - رحمه الله - أن الاستواء معلوم حيث نفى جهله وهو العلو والارتفاع. وأن الكيف لا يدرك بالعقل وإنما يدرك بالسمع، ولم يرد به فيبقى مجهولا، وأن الإيمان بالاستواء واجب على حسب مراد الله تعالى سواء فهمنا كيفيته أم لم نفهمها، وأن السؤال عنه أي عن الكيف بدعة، لأنه من سمات أهل البدع، ولأنه لم يسبق السؤال عنه من الصحابة الذين هم أحرص الناس على سلامة العقيدة وتصحيحها وفهم كلام الله ورسوله.
وهذا هو القول الحق الصحيح في استواء الله تعالى على عرشه وفي بقية صفاته أن تجري على ظاهر الخطاب المفهوم بمقتضى اللسان العربي لكن بدون تكييف ولا تمثيل.
فإن قال قائل: إذا فسرتم استواء الله على عرشه بعلوه عليه وارتفاعه لزمكم أن تقولوا: إنه مستو على كل شيء كما أنه عال على كل شيء.
فالجواب على ذلك أن هذا ليس بلازم لنا؛ لأن الاستواء على الشيء(1/137)
أخص من مطلق العلو عليه، فهو علو خاص بما يكون عليه الاستواء ولهذا فسره بعض السلف بالاستقرار.
وقوله: "كما بين كثير من أشياء الجنة للبشر في لغتهم كي يفهموا ويدركوا معانيها". فهذا حق ولكن هل يقول: أحد إن قوله تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} لا يدل على أن في الجنتين فاكهة ونخلا، ورمانا، وإنما يدل على أن فيهما شيئا رمز إليه بفاكهة، ونخل، ورمان. أو يقول: إن في الجنتين فاكهة، ونخلا، ورمانا على وجه الحقيقة ولكن لا تماثل ما في الدنيا من النخل، والرمان، والفاكهة.
فإن قال بالأول لم يكن للتعبير بالفاكهة، والنخل، والرمان فائدة أصلا إذ الرمز إلى المراد بهذه الثلاثة أو غيرها سواء. وإن قال بالثاني فهو حق؛ لأن في الجنة فاكهة، ونخلا، ورمانا، لكن لا يماثل ما في الدنيا لقوله تعالى في الحديث القدسي: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» .
وهكذا نقول في استواء الله على عرشه: إنه حق على ما تقتضيه اللغة العربية لكن لا يماثل استواء المخلوقين لما سبق من انتفاء التماثل بينهما سمعا وعقلا.
(59) سئل فضيلة الشيخ: قلتم - حفظكم الله - في استواء الله على عرشه: "إنه علو خاص على العرش يليق بجلال الله تعالى وعظمته، فنأمل التكرم من فضيلتكم بإيضاح ذلك؟
فأجاب بقوله: قولنا في استواء الله تعالى على عرشه: "إنه علو خاص على العرش يليق بجلال الله تعالى وعظمته" نريد به أنه علو(1/138)
يختص به العرش وليس هو العلو العام الشامل لجميع المخلوقات، ولهذا لا يصح أن نقول: استوى على المخلوقات، أو على السماء، أو على الأرض مع أنه عال على ذلك، وإنما نقول: هو عال على جميع المخلوقات عال على السماء، عال على الأرض ونحو ذلك، وأما العرش فنقول: إن الله تعالى عال على عرشه ومستو على عرشه، فالاستواء أخص من مطلق العلو. ولهذا كان استواء الله تعالى على عرشه من صفاته الفعلية المتعلقة بمشيئته بخلاف علوه فإنه من صفاته الذاتية التي لا ينفك عنها.
وقد صرح بمثل ما قلنا شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - تعالى في شرح حديث النزول ص 522 مج 5 مجموع الفتاوي جمع ابن قاسم: "فإن قيل: فإذا كان إنما استوى على العرش بعد أن خلق السماوات والأرض في ستة أيام فقبل ذلك لم يكن على العرش؟ قيل: الاستواء علو خاص فكل مستو على شيء عال عليه، وليس كل عال على شيء مستويا عليه، ولهذا لا يقال: لكل ما كان عاليا على غيره: إنه مستو عليه واستوى عليه، ولكن كل ما قيل فيه: استوى على غيره فإنه عال عليه". اهـ. المقصود منه وتمامه فيه.
وأما قولنا: "يليق بجلاله وعظمته" فالمراد به أن استواءه على عرشه كسائر صفاته يليق بجلاله وعظمته، ولا يماثل استواء المخلوقين، فهو عائد إلى الكيفية التي عليها هذا الاستواء؛ لأن الصفات تابعة للموصوف، فكما أن لله تعالى ذاتا لا تماثل الذوات، فإن صفاته لا تماثل الصفات {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ليس كمثله شيء في ذاته ولا صفاته. ولهذا قال الإمام مالك رحمه الله في الاستواء حين سئل كيف استوى؟ قال: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب،(1/139)
والسؤال عنه بدعة". وهذا ميزان لجميع الصفات فإنها ثابتة لله تعالى كما أثبتها لنفسه على الوجه اللائق به من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل.
وبهذا تبين فائدة القول بأن الاستواء على العرش علو خاص على العرش مختص به؛ لأن العلو العام ثابت لله عز وجل قبل خلق السماوات والأرض، وحين خلقهما، وبعد خلقهما، لأنه من صفاته الذاتية اللازمة كالسمع، والبصر، والقدرة، والقوة ونحو ذلك بخلاف الاستواء.
(60) وسئل: عن صحة حديث: «لو دليتم بحبل إلى الأرض السابعة لوقع على الله» ؟ وما معناه؟
فأجاب بقوله: هذا الحديث اختلف العلماء في تصحيحه، والذين قالوا: إنه صحيح يقول: ون: إن معنى الحديث لو أدليتم بحبل لوقع على الله عز وجل لأن الله تعالى محيط بكل شيء، فكل شيء هو في قبضة الله سبحانه وتعالى وكل شيء فإنه لا يغيب عن الله تعالى، حتى إن السماوات السبع والأرضين السبع في كف الرحمن عز وجل كخردلة في يد أحدنا يقول: الله تعالى في القرآن الكريم: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} . ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون دالا على أن الله سبحانه وتعالى في كل مكان، أو على أن الله تعالى في أسفل الأرض السابعة فإن هذا ممتنع شرعا، وعقلا، وفطرة؛ لأن علو الله سبحانه وتعالى قد دل عليه كتاب الله، وسنة رسوله صلّى الله عليه(1/140)
وسلم والإجماع، والعقل، والفطرة. فمن الكتاب: قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} . وقوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} والآيات في هذه كثيرة جدا في كتاب الله فكل آية تدل على صعود الشيء إلى الله، أو رفع الشيء إلى الله، أو نزول الشيء من الله فإنها تدل على علو الله عز وجل.
وأما السنة: فإنها متواترة على علو الله عز وجل والسنة دلت على علو الله عز وجل من قول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفعله وإقراره. قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء» . فهذا قول منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدل على علو الله عز وجل «وخطب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أمته يوم عرفة فقال لهم: "ألا هل بلغت"؟ قالوا: نعم. فرفع إصبعه إلى السماء يقول: "اللهم اشهد» . فهذا فعل منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدل على علو الله عز وجل وإقراره «حين سأل الجارية "أين الله" قالت: في السماء. قال: " أعتقها فإنها مؤمنة» . وأما الإجماع: فقد أجمع الصحابة والتابعون لهم بإحسان من أئمة هذه الأمة وعلمائها على أن الله سبحانه وتعالى فوق كل شيء، ولم ينقل عنهم حرف واحد أن الله ليس في السماء، أو أنه مختلط بالخلق أو أنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا متصل، ولا منفصل، ولا مباين، ولا محاذ، بل النصوص عنهم كلها متفقة على أن الله تعالى في العلو وفوق كل شيء.(1/141)
أما العقل: فقد دل على علو الله بأن نقول: هل العلو صفة كمال أو السفل؟ الجواب بالعلو والله عز وجل قد قال في كتابه: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} فكل وصف أكمل فهو الله عز وجل وإذا كان العقل يدل على أن العلو كمال وجب أن يثبت العلو لله عز وجل، وتقرير ذلك أن يقال: إن الله عز وجل إما أن يكون في الأعلى، أو في الأسفل، أو في المحاذي ففي الأسفل مستحيل لنقصه، وفي المحاذي مستحيل أيضا لنقصه، لأنه يلزم أن يكون مساويا للمخلوق، فلم يبق إلا العلو فالله عال فوق كل شيء.
أما الفطرة: فإن كل إنسان مفطور على أن الله تعالى في السماء تجد الإنسان يقول: يا الله ويتجه إلى السماء فما يجد في قلبه ضرورة إلا إلى العلو. إذن فنحن نقول: إن الله تعالى فوق كل شيء، وإذا كان فوق كل شيء فإنه لا يمكن أن يكون المراد بهذا الحديث: " «لو دليتم بحبل إلى الأرض السابعة لوقع على الله» أن الله في الأرض.
فإن قيل: هل قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} يقتضي أن الله في الأرض كما هو في السماء؟
فالجواب: لا لأن الله تعالى يخبر عن الألوهية، ولا يخبر عن مكانه أنه في السماء والأرض، لكن يخبر أنه إله في السماء وإله في الأرض، كما تقول: فلان أمير في مكة وأمير في المدينة، فالمعنى أن إمارته ثابتة في مكة وفي المدينة وإن كان هو قطعا في أحد البلدين وليس فيهما جميعا. فهذه الآية(1/142)
تدل على أن ألوهية الله ثابتة في الأرض وفي السماء، وإن كان هو سبحانه وتعالى في السماء.
(61) سئل فضيلة الشيخ: عن المعية في قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} ؟ هل هي معية ذاتية أو معية علم وإحاطة؟
فأجاب بقوله: نحن نعلم أن الله فوق كل شيء، وأنه استوى على العرش فإذا سمعنا قوله سبحانه: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} فلا يمكن أن يفهم أحد أنه معنا على الأرض، لا يتصور ذلك عاقل فضلا عن مؤمن ولكنه معنا سبحانه وهو فوق العرش فوق سماواته.
ولا يستغرب هذا فإن المخلوقات وهي لا تنسب للخالق تكون في السماء ونقول: إنها معنا. فيقول: شيخ الإسلام: تقول العرب: ما زلنا نسير والقمر معنا. ومع ذلك فالقمر مكانه في السماء. فالله مع خلقه، ولكنه في السماء، ومن زعم بأنه مع خلقه في الأرض كما تقول الجهمية فأرى أنه كافر يجب أن يتوب إلى الله ويقدر ربه حق قدره، ويعظمه حق تعظيمه، وأن يعلم أنه سبحانه وسع كرسيه السماوات والأرض فكيف تكون الأرض محلا له.
وقد جاء في الحديث: «ما السماوات السبع والأرضون السبع في الكرسي إلا كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض» . والحلقة الصغيرة. مع أن العرش مخلوق والكرسي مخلوق، فما بالك بالخالق سبحانه. فكيف يقال: إن الأرض تسع الله سبحانه أو أنه في الأرض، ومن مخلوقاته سبحانه ما وسع السماوات والأرض، ولا يقول: عن رب العزة مثل هذه المقولات إلا من لا يقدر الله حق قدره، ولم يعظمه حق تعظيمه. بل الرب عز وجل فوق كل شيء مستو على عرشه وهو سبحانه بكل شيء عليم.(1/143)
(62) سئل فضيلة الشيخ: هل سبق أحد شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم في أن المعية حقيقية تليق بالله ينزه فيها الباري عن أن يكون مختلطا بالخلق أو حالا في أمكنتهم؟ وعن الحديث القدسي: «وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل» . . ."؟ وعن قول ابن القيم في الصواعق مختصرها: "فهو قريب من المحسنين بذاته ورحمته" هل هو صحيح وهل سبقه أحد في ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا أعلم أحدا صرح بذلك، لكن الذي يظهر أن الكلام فيها كغيرها من الصفات، تفهم على حقيقتها مع تنزيه الله عما لا يليق به، كما يفهم الاستواء والنزول وغيرهما، ولهذا لم يتكلم الصحابة فيما أعلم بلفظ الذات في الاستواء والنزول، أي لم يقولوا: استوى على العرش بذاته، أو ينزل إلى السماء الدنيا بذاته؛ لأن ذلك مفهوم من اللفظ، فإن الفعل أضيف إلى الله تعالى، إما إلى الاسم الظاهر، أو الضمير، فإذا أضيف إليه كان الأصل أن يراد به ذات الله عز وجل لكن لما حدث تحريف معنى الاستواء والنزول احتاجوا إلى توكيد الحقيقة بذكر الذات، وكذلك لما حدث القول بالحلول وشبه القائلون به بآيات المعية بين السلف بطلان تلبيسهم، وأنه لا يراد بها أنه معهم بذاته مختلطا بهم، كما فهم أولئك الحلولية، وأن المراد بها بيان إحاطته بالخلق علما، وذكروا العلم؛ لأنه أعم الصفات متعلقا، ولأنها جاءت في سياقه.
والمهم أن هذه المسألة كغيرها من مسائل الصفات تجري على ظاهرها على ما يليق بالله عز وجل وما ورد عن السلف فإنه داخل في(1/144)
معناها، لأنه من لوازمه، واقتصروا عليه خوف المحذور، وإلا فلا يخفى أن حقيقة المعية أوسع من العلم وأبلغ، ولظهور هذه المسألة وأنها لم تخرج عن نظائرها لم يكن فيها كلام عن الصحابة رضي الله عنهم اللهم إلا ما ذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره عنه، قال: "هو على العرش، وعلمه معهم"، ثم اشتهر ذلك بين السلف حين انتشر تفسير الجهمية لها بالحلول.
وأما سؤالكم عن الحديث القدسي: " «وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه» . فأنت ترى أن الله تعالى ذكر في الحديث عبدا ومعبودا، ومتقربا ومتقربا إليه، ومحبا ومحبوبا، وسائلا ومسئولا، ومعطيا ومعطى، ومستعيذا، ومستعاذا به، ومعيذا ومعاذا فالحديث يدل على اثنين متباينين، كل واحد منهما غير الآخر، فإذا كان كذلك لم يكن ظاهر قوله: " كنت سمعه وبصره ويده ورجله" أن الخالق يكون جزءا من المخلوق، أو وصفا فيه، تعالى الله عن ذلك وإنما ظاهره وحقيقته أن الله تعالى يسدد هذا العبد في سمعه، وبصره، وبطشه، ومشيه، فيكون سمعه لله تعالى إخلاصا وبه استعانة وفيه شرعا، واتباعا، وهكذا بصره، وبطشه ومشيه.
وأما سؤالكم عن قول ابن القيم في الصواعق (مختصرها) : فهو قريب من المحسنين بذاته، ورحمته، فهل يصح؟ وهل سبقه أحد في ذلك؟
فإن ابن القيم - رحمه الله تعالى - قاله أخذا بظاهر قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}(1/145)
فهذه الضمائر: عِبَادِي، عَنِّي فَإِنْ ي، قَرِيبٌ، أُجِيبُ، دَعَانِ، لَيْ، بِي، كلها تعود إلى الله عز وجل فكما أنه نفسه المعبود المسئول عنه المجيب لدعوة الداعي الواجب الإيمان به فهو القريب كذلك، ولا يلزم من ذلك الحلول؛ لأن الله تعالى ليس كمثله شيء في جميع صفاته، فهو قريب في علوه.
وقد سبقه إلى مثل ذلك شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - حيث قال في شرح النزول ص 508 ج 5 من مجموع الفتاوي: "ولهذا لما ذكر الله سبحانه قربه من داعيه وعابديه قال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} . فهنا هو نفسه سبحانه القريب الذي يجيب دعوة الداع". إلى أن قال ص 510: "وأما قرب الرب قربا يقوم به بفعله القائم بنفسه فهذا تنفيه الكلابية، ومن يمنع قيام الأفعال الاختيارية بذاته، وأما السلف وأئمة الحديث والسنة فلا يمنعون ذلك، وكذلك كثير من أهل الكلام". اهـ.
(63) سئل فضيلة الشيخ: عن إثبات العينين لله تعالى، ودليل ذلك؟
فأجاب بقوله: الجواب على ذلك يتحرر في مقامين:
المقام الأول: أن لله تعالى عينين، فهذا هو المعروف عن أهل السنة والجماعة، ولم يصرح أحد منهم بخلافه فيما أعلم. وقد نقل ذلك عنهم أبو الحسن الأشعري في كتابه: "اختلاف المصلين ومقالات(1/146)
الإسلاميين". قال: مقالة أهل السنة وأصحاب الحديث فذكر أشياء ثم قال: "وأن له عينين بلا كيف كما قال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} . نقله عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتوى الحموية ص 90\5 من مجموع الفتاوى لابن قاسم، ونقل عنه أيضا مثله في ص 92 عن كتابه: "اختلاف أهل القبلة في العرش". ونقل عنه أيضا مثله في ص 94 عن كتابه: "الإبانة في أصول الديانة". وذكر له في هذا الكتاب ترجمة باب بلفظ: "باب الكلام في الوجه، والعينين، والبصر، واليدين". ونقل شيخ الإسلام في هذه الفتوى ص 99 عن الباقلاني في كتابه: "الإبانة". قوله: صفات ذاته التي لم يزل ولا يزال متصفا بها هي الحياة والعلم، إلى أن قال: "والعينان واليدان".
ونقل ابن القيم ص 118، 119، 120 في كتابه: "اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية " عن أبي الحسن الأشعري وعن الباقلاني في كتابيه: "الإبانة والتمهيد" مثل ما نقل عنه شيخ الإسلام، ونقل قبل ذلك في ص 114 عن الأشعري في كتابه: "الإبانة" أنه ذكر ما خالفت به المعتزلة كتاب الله تعالى وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإجماع الصحابة إلى أن قال: "وأنكروا أن يكون لله عينان مع قوله تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} .
وقال الحافظ ابن خزيمة في: "كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب" ص 30 بيان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي جعله الله مبينا عنه في قوله عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} .(1/147)
فبين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن لله عينين، فكان بيانه موافقا لبيان محكم التنزيل، ثم ذكر الأدلة، ثم قال في ص 35: "نحن نقول: لربنا الخالق عينان يبصر بهما ما تحت الثرى".
وقال في ص 55، 56: "فتدبروا يا أولي الألباب ما نقوله في هذا الباب في ذكر اليدين ليجري قولنا في ذكر الوجه والعينين تستيقنوا بهداية الله إياكم، وشرحه جل وعلا صدوركم للإيمان بما قصه الله عز وجل في محكم تنزيله، وبينه على لسان نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من صفات خالقنا - عز وجل - وتعلموا بتوفيق الله إياكم أن الحق والصواب والعدل في هذا الجنس مذهبا مذهب أهل الآثار ومتبعي السنن، وتقفوا على جهل من يسميهم مشبهة" اهـ.
فتبين بما نقلناه أن مقالة أهل السنة والحديث أن لله تعالى عينين تليقان بجلاله وعظمته لا تكيفان، ولا تشبهان أعين المخلوقين، لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . روى عثمان بن سعيد الدارمي ص 47 من رده على المريسي بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قرأ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} . فوضع أصبعه الدعاء على عينيه وإبهامه على أذنيه» .
المقام الثاني: في ذكر الأدلة على إثبات العينين:
قال البخاري رحمه الله تعالى: باب قول الله تعالى:
{وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي}(1/148)
وقوله جل ذكره: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} ثم ساق بسنده حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال ذكر الدجال عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «إنه لا يخفى عليكم أن الله ليس بأعور وأشار بيده إلى عينه وإن المسيح الدجال أعور العين اليمنى كأن عينه عنبة طافية» .
وقد استدل بحديث الدجال على أن لله تعالى عينين عثمان بن سعيد الدارمي في كتابه: "الرد على بشر المريس " الذي أثنى عليه شيخ الإسلام ابن تيمية. وقال: "إن فيهما من تقرير التوحيد والأسماء والصفات بالعقل والنقل ما ليس في غيرهما" يعني هذا الكتاب وكتابه الثاني: "الرد على الجهمية " قال الدارمي في الكتاب المذكور (ص 43 ط أنصار السنة المحمدية) ، بعد أن ساق آيتي صفة العينين: ثم ذكر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدجال فقال: إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، قال: والعور عند الناس ضد البصر، والأعور عندهم ضد البصير بالعينين.
وقال في ص 48 ففي تأويل قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الله ليس بأعور بيان أنه بصير ذو عينين خلاف الأعور.
واستدل به أيضا الحافظ ابن خزيمة في كتاب التوحيد كما في ص 31 وما بعدها.
ووجه الاستدلال به ظاهر جدا فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أراد أن يبين لأمته شيئا مما ينتفي به الاشتباه عليهم في شأن الدجال في أمر محسوس، يتبين لذوي التفكير العالمين بالطرق العقلية وغيرهم، بذكر أن(1/149)
الدجال أعور العين والرب سبحانه ليس بأعور، ولو كان لله تعالى أكثر من عينين لكان البيان به أولى لظهوره وزيادة الثناء به على الله تعالى، فإن العين صفة كمال فلو كان لله أكثر من اثنتين كان الثناء بذلك على الله أبلغ.
وتقرير ذلك أن يقال: ما زاد على العينين فإما أن يكون كمالا في حق الله تعالى أو نقصا، فإن كان نقصا فهو ممتنع على الله تعالى لامتناع صفات النقص في حقه، وإن كان كمالا فكيف يهمله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع كونه أبلغ في الثناء على الله تعالى!! فلما لم يذكره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، علم أنه ليس بثابت لله عز وجل وهذا هو المطلوب.
فإن قيل: ترك ذكره من أجل بيان نقص الدجال بكونه أعور.
قلنا: يمكن أن يذكر مع بيان نقص الدجال فيجمع بين الأمرين حتى لا يفوت ذكر كمال صفة الله عز وجل.
واعلم أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر هذه العلامة الحسية ليبين نقص الدجال وأنه ليس بصالح؛ لأن يكون ربا، ولظهورها لجميع الناس لكونها علامة حسية بخلاف العلامات العقلية، فإنها قد تحتاج إلى مقدمات تخفى على كثير من الناس، لا سيما عند قوة الفتنة، واشتداد المحنة، كما في هذه الفتنة فتنة الدجال، وكان هذا من حسن تعليمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حيث يعدل في بيانه إلى ما هو أظهر وأجلى مع وجود علامات أخرى.
وقد ذكر ابن خزيمة - رحمه الله - في "كتاب التوحيد" ص 31 حديثا ساقه في ضمن الأدلة على أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أن لله تعالى عينين، فساقه بسنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه أنه يقرأ قوله(1/150)
تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} . إلى قوله: {سَمِيعًا بَصِيرًا} . فيضع إبهامه على أذنه، والتي تليها على عينه. ويقول: هكذا سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرؤها ويضع أصبعيه.
وقد سبقت رواية الدارمي له بلفظ التثنية، وذكر الحافظ ابن حجر في الفتح (ص 373\13 ط خطيب) أن البيهقي ذكر له شاهدا من حديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه - سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: على المنبر: «إن ربنا سميع بصير وأشار إلى عينيه» وسنده حسن. اهـ.
وقد ذكر صاحب مختصر الصواعق (ص 359 ط الإمام) ، قبيل المثال السادس حديثا عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن العبد إذا قام إلى الصلاة فإنه بين عيني الرحمن» الحديث. لكنه لم يعزه فلينظر في صحته.
وبهذا تبين وجوب اعتقاد أن لله تعالى عينين، لأنه مقتضى النص وهو المنقول عن أهل السنة والحديث.
فإن قيل: ما تصنعون بقوله تعالى: {أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} وقوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} حيث ذكر الله تعالى العين بلفظ الجمع؟
قلنا: نتلقاها بالقبول والتسليم، ونقول: إن كان أقل الجمع اثنين كما قيل به إما مطلقا أو مع الدليل فلا إشكال؛ لأن الجمع هنا قد دل(1/151)
الدليل على أن المراد به اثنتان فيكون المراد به ذلك، وإن كان أقل الجمع ثلاثة فإننا نقول جمع العين هنا كجمع اليد في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} . يراد به التعظيم والمطابقة بين المضاف والمضاف إليه، وهو "نا" المفيد للتعظيم دون حقيقة العدد، وحينئذ لا يصادم التثنية.
فإن قيل: فما تصنعون بقوله تعالى يخاطب موسى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} . حيث جاءت بالإفراد؟
قلنا: لا مصادمة بينها وبين التثنية؛ لأن المفرد المضاف لا يمنع التعدد فيما كان متعددا، ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} . وقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} . فإن النعمة اسم مفرد، ومع ذلك فأفرادها لا تحصى.
وبهذا تبين ائتلاف النصوص واتفاقها وتلاؤمها، وأنها - ولله الحمد - كلها حق، وجاءت بالحق، لكنها تحتاج في بعض الأحيان إلى تأمل وتفكير، بقصد حسن، وأداة تامة، بحيث يكون عند العبد صدق نية بطلب الحق واستعداد تام لقبوله، وعلم بمدلولات الألفاظ، ومصادر الشرع وموارده، قال الله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} . فحث على تدبر القرآن الكريم وأشار إلى أنه بتدبره(1/152)
يزول عن العبد ما يجد في قلبه من الشبهات، حتى يتبين له أن القرآن حق يصدق بعضه بعضا. والله المستعان.
(64) سئل فضيلة الشيخ: عما ذكره الرازي من أن ظاهر قوله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} . يقتضي أن يكون موسى مستقرا على تلك العين لاصقا بها مستعليا عليها. وأن قوله تعالى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} . يقتضي أن تكون آلة تلك الصنعة هي تلك العين؟
فأجاب بقوله: ما ذكره الرازي من أن ظاهر قوله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} . يقتضي أن يكون موسى مستقرا على تلك العين لاصقا بها مستعليا عليها، وأن قوله تعالى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} يقتضي أن تكون آلة تلك الصنعة هي تلك العين.
أقول: إن ادعاءه أن ذلك ظاهر الآيتين ادعاء باطل؛ لأن هذا المعنى الذي ادعى أنه ظاهر الكلام معنى باطل، لا يقوله عاقل، كما اعترف به هو، فإذا كان معنى باطلا لا يقوله عاقل، فكيف يسوغ لمؤمن بل لعاقل أن يقول: إن هذا ظاهر كلام الله تعالى؟!
إن من جوز أن يكون هذا ظاهر كلام الله عز وجل فقد قدح في الله عز وجل وفي كلامه الكريم، حيث جعل مدلوله معنى باطلا، لا يقوله العقلاء، وإذا تعذر أن يكون هذا المعنى الباطل ظاهر هذا الكلام تعين أن يكون ظاهره معنى آخر يليق بالله تعالى، وهو في الآية الأولى(1/153)
أن تربية موسى على عين الله تعالى، وينظر إليه بعينه، كما تقول: جرى هذا الشيء على عيني، أي حصل وأنا أشاهده وأراه بعيني.
والمعنى في الآية الثانية أن صنع نوح، عليه الصلاة والسلام، السفينة كان بعين الله تعالى، أي مصحوبا بعينه يراه الله تعالى بعينه، فيسدده ويصلح صنيعه، كما تقول: صنعت هذا بعيني، أي صنعته وأنا أرعاه بعيني، وإن كانت آلة الصنع اليد أو الآلة. وتقول: كتبته بعيني، أي كتبته وأنا أنظر إليه بعيني وإن كانت الكتابة باليد أو بالآلة.
وهذا التعبير لهذا المعنى تعبير عربي مشهور، والقرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين، فهو محمول على ما تقتضيه اللغة العربية، إلا أن يكون هناك حقيقة شرعية انتقل المعنى إليها كالصلاة والصيام ونحوها، فيحمل على الحقيقة الشرعية. وكتاب التأسيس الذي نقل السائل منه هذه الكلمات قد نقضه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - فليت السائل يحصل على نسخة من نقضه.
(65) سئل فضيلة الشيخ: عمن يقول: إن كون الدجال أعور لا يثبت أن الله ذو عينين وإنما يثبت أنه يرى كل شيء يمر؟
فأجاب حفظه الله بقوله: لو تأمل القائل حديث الدجال لرأى أنه يدل دلالة واضحة على أن الله تعالى له عينان اثنتان فقط، ففي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال في الدجال: «أعور العين كأن عينه عنبة طافية» .(1/154)
وفي صحيح مسلم أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر الدجال فقال: «إن الله ليس بأعور ألا وإن المسيح الدجال أعور العين اليمنى كأن عينه عنبة طافية» .
ووجه الدلالة من الحديث أنه لو كان لله تعالى أكثر من عينين لكان الزائد كمالا بلا شك؛ لأنه لا يمكن أن يتصف الله تعالى بما ليس بكمال، وهذا الكمال يحصل به التمييز فيقول: إن الله له أعين، فلو كان ثابتا لكان ذكره هو الواجب، لأنه أبلغ في وصف الرب بالكمال مع التمييز.
وقد نقل أبو الحسن الأشعري وغيره أن هذا هو ما عليه أهل السنة، أعني إثبات أن الله تعالى له عينان فقط، وإنما جمعت في قوله تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} لأنها أضيفت إلى اسم جمع فكان جمعها أولى من أجل التناسب بين المتضايفين كما جمعت اليد في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} من أجل التناسب بين المتضايفين.
قال ابن القيم - رحمه الله - في الصواعق 1\254: "إن دعوى الجهمي أن ظاهر القرآن يدل على أن لله تعالى أيديا كثيرة على جنب واحد وأعينا كثيرة على وجه واحد عضن للقرآن، وتنقص له وذم، ولا يدل ظاهر القرآن ولا باطنه على ذلك بوجه ما، ولا فهمه من له عقل".
إلى أن قال: "فهذا الأشعري والناس قبله وبعده ومعه لم يفهموا من الأعين أعينا كثيرة على وجه، ولا أيديا كثيرة على شق واحد، حتى جاء هذا الجهمي فعضن القرآن وادعى أن هذا ظاهره، وإنما قصد هذا وأمثاله التشنيع على من بدعه وضلله من أهل السنة والحديث". اهـ.
(66) سئل فضيلة الشيخ: ما الأمور التي يجب تعليقها بالمشيئة والأمور التي لا ينبغي تعليقها بالمشيئة؟(1/155)
فأجاب بقوله: كل شيء مستقبل فإن الأفضل أن تعلقه بالمشيئة لقول الله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} . أما الشيء الماضي فلا يعلق بالمشيئة إلا إذا قصد بذلك التعليل.
فمثلا لو قال لك شخص: دخل شهر رمضان هذا العام ليلة الأحد إن شاء الله. فلا يحتاج أن نقول: إن شاء الله لأنه مضى وعلم. ولو قال لك قائل: لبست ثوبي إن شاء الله - وهو لابسه - فلا يحسن أن يعلق بالمشيئة؛ لأنه شيء مضى، وانتهى إلا إذا قصد التعليل أي قصد أن اللبس كان بمشيئة الله. فهذا لا بأس به.
فلو قال قائل حين صلى: صليت إن شاء الله إن قصد فعل الصلاة فإن الاستثناء هنا لا ينبغي، لأنه صلى وإن قصد إن شاء الله الصلاة المقبولة فهنا يصح أن يقول: إن شاء الله، لأنه لا يعلم أقبلت أم لم تقبل.
(67) وسئل فضيلة الشيخ - حفظه الله تعالى - ورعاه: عن أقسام الإرادة؟
فأجاب بقوله: الإرادة تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: إرادة كونية.
القسم الثاني: إرادة شرعية.
فما كان بمعنى المشيئة فهو إرادة كونية، وما كان بمعنى المحبة فهو إرادة شرعية، مثال الإرادة الشرعية قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} لأن يُرِيدُ هنا بمعنى يحب ولا تكون بمعنى المشيئة؛ لأنه لو كان المعنى: "والله يشاء أن يتوب عليكم"، لتاب على جميع العباد وهذا(1/156)
أمر لم يكن فإن أكثر بني آدم من الكفار، إذن {يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} يعني يحب أن يتوب عليكم، ولا يلزم من محبة الله للشيء أن يقع؛ لأن الحكمة الإلهية البالغة قد تقتضي عدم وقوعه.
ومثال الإرادة الكونية قوله تعالى: {إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} لأن الله لا يحب أن يغوي العباد، إذا لا يصح أن يكون المعنى إن كان الله يحب أن يغويكم، بل المعنى إن كان الله يشاء أن يغويكم.
ولكن بقي لنا أن نقول: ما الفرق بين الإرادة الكونية والشرعية من حيث وقوع المراد؟
فنقول: الكونية لا بد فيها من وقوع المراد إذا أراد الله شيئا كونا فلا بد أن يقع {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} .
أما الإرادة الشرعية فقد يقع المراد وقد لا يقع قد يريد الله عز وجل هذا الشيء شرعا ويحبه ولكن لا يقع؛ لأن المحبوب قد يقع وقد لا يقع.
فإذا قال قائل: هل الله يريد المعاصي؟
فنقول: يريدها كونا لا شرعا؛ لأن الإرادة الشرعية بمعنى المحبة والله لا يحب المعاصي، ولكن يريدها كونا أي مشيئة فكل ما في السماوات والأرض فهو بمشيئة الله.
(68) سئل فضيلة الشيخ: عن الإلحاد في أسماء الله تعالى وأنواعه؟(1/157)
فأجاب قائلا: الإلحاد في اللغة: هو الميل، ومنه قول الله تعالى: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} . ومنه اللحد في القبر فإنه سمي لحدا لميله إلى جانب منه، ولا يعرف الإلحاد إلا بمعرفة الاستقامة، لأنه كما قيل: بضدها تتبين الأشياء. فالاستقامة في باب أسماء الله وصفاته أن نجري هذه الأسماء والصفات على حقيقتها اللائقة بالله عز وجل من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل، على القاعدة التي يمشي عليها أهل السنة والجماعة في هذا الباب، فإذا عرفنا الاستقامة في هذا الباب فإن خلاف الاستقامة هو الإلحاد، وقد ذكر أهل العلم للإلحاد في أسماء الله تعالى أنواعا يجمعها أن نقول: هو الميل بها عما يجب اعتقاده فيها. وهو على أنواع:
النوع الأول: إنكار شيء من الأسماء، أو ما دلت عليه من الصفات، ومثاله: من ينكر أن اسم الرحمن من أسماء الله تعالى كما فعل أهل الجاهلية، أو يثبت الأسماء، ولكن ينكر ما تضمنته من الصفات كما يقول: بعض المبتدعة: أن الله تعالى رحيم بلا رحمة، وسميع بلا سمع.
النوع الثاني: أن يسمي الله - سبحانه وتعالى - بما لم يسم به نفسه. ووجه كونه إلحادا أن أسماء الله سبحانه وتعالى توقيفية، فلا يحل لأحد أن يسمي الله تعالى باسم لم يسم به نفسه؛ لأن هذا من القول على الله بلا علم ومن العدوان في حق الله عز وجل وذلك كما صنع الفلاسفة فسموا الإله بالعلة الفاعلة، وكما صنع النصارى فسموا الله تعالى باسم الأب ونحو ذلك.
النوع الثالث: أن يعتقد أن هذه الأسماء دالة على أوصاف(1/158)
المخلوقين، فيجعلها دالة على التمثيل.
ووجه كونه إلحادا: أن من اعتقد أن أسماء الله سبحانه وتعالى دالة على تمثيل الله بخلقه فقد أخرجها عن مدلولها ومال بها عن الاستقامة، وجعل كلام الله وكلام رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دالا على الكفر؛ لأن تمثيل الله بخلقه كفر لكونه تكذيبا لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . ولقوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} . قال نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري رحمهما الله: "من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه تشبيه".
النوع الرابع: أن يشتق من أسماء الله - تعالى - أسماء للأصنام، كاشتقاق اللات من الآلهة، والعزى من العزيز، ومناة من المنان.
ووجه كونه إلحادا: أن أسماء الله تعالى خاصة به، فلا يجوز أن تنقل المعاني الدالة عليها هذه الأسماء إلى أحد من المخلوقين ليعطى من العبادة ما لا يستحقه إلا الله عز وجل. هذه أنواع الإلحاد في أسماء الله تعالى.
(69) وسئل فضيلة الشيخ: عن اسم الله تعالى الجبار؟
فأجاب بقوله: الجبار له ثلاثة معان:
الأول: جبر القوة، فهو - سبحانه وتعالى - الجبار الذي يقهر الجبابرة ويغلبهم بجبروته وعظمته، فكل جبار وإن عظم فهو تحت قهر الله عز(1/159)
وجل وجبروته وفي يده وقبضته.
الثاني: جبر الرحمة، فإنه سبحانه يجبر الضعيف بالغنى والقوة، ويجبر الكسير بالسلامة، ويجبر المنكسرة قلوبهم بإزالة كسرها، وإحلال الفرج والطمأنينة فيها، وما يحصل لهم من الثواب والعاقبة الحميدة إذا صبروا على ذلك من أجله.
الثالث: جبر العلو فإنه سبحانه فوق خلقه عال عليهم، وهو مع علوه عليهم قريب منهم يسمع أقوالهم، ويرى أفعالهم، ويعلم ما توسوس به نفوسهم. قال ابن القيم في النونية في معنى الجبار:
وكذلك الجبار من أوصافه ... والجبر في أوصافه قسمان
جبر الضعيف وكل قلب قد غدا ... ذا كسرة فالجبر منه دان
والثانِ جبر القهر بالعز الذي ... لا ينبغي لسواه من إنسان
وله مسمى ثالث وهو العلو ... فليس يدنو منه من إنسان
من قولهم جبارة للنخلة ال ... عليا التي فاقت لكل بنان
(70) سئل فضيلة الشيخ: هل من أسماء الله تعالى: "الحي القيوم "؟
فأجاب بقوله: لا شك أن من أسماء الله الحسنى "الحي القيوم" بل ورد أنهما اسم الله الأعظم، لتضمنهما معاني أسماء الله وصفاته الذاتية والفعلية، وهما مذكوران في ثلاث آيات من القرآن الكريم: في آية الكرسي: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} . وفي أول سورة آل عمران:(1/160)
{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} . وفي سورة طه: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} . وآية الكرسي أعظم آية في كتاب الله، من قرأها في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح.
(71) سئل فضيلة الشيخ: عما جاء في الترغيب والترهيب عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «مر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأبي عياش وهو يصلي ويقول: "اللهم إني أسالك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت يا حنان، يا منان، يا بديع السماوات والأرض» . ." رواه الإمام أحمد، واللفظ له، ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجه، فهل الحنان من أسماء الله تعالى؟
فأجاب فضيلته بقوله: لقد راجعت الأصول مسند أحمد، وأبي داود، والنسائي، وابن ماجه، فقد أورده الإمام أحمد في المسند في عدة مواضع من الجزء الثالث، ص 120 -158 - 245 - 265، وأورده أبو داود في الجزء الأول باب الدعاء ص 343، وأورده النسائي في الجزء الثالث باب الدعاء بعد الذكر ص 44، وأورده ابن ماجه في الجزء الثاني كتاب الدعاء باب اسم الله الأعظم ص 1268، وليس فيهن ذكر الحنان سوى طريق واحدة عند الإمام أحمد فيها الحنان دون المنان وهي التي في ص 158، وليست باللفظ المذكور في الترغيب، واللفظ المذكور في(1/161)
الترغيب ليس فيه عند أحمد سوى ذكر المنان وقد رأيت كلاما لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أنكر فيه أن يكون الحنان من أسماء الله تعالى فإذا كانت الروايات أكثرها بعدم إثباته، فالذي أرى أن يتوقف فيه. والله أعلم.
(72) سئل فضيلة الشيخ: هل من أسماء الله عز وجل "المنان"، "المنتقم"، "الهادي"، "المعين "؟
فأجاب بقوله: أما المنان فقد صح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأما المنتقم فليس من أسماء الله؛ لأن الله تعالى لم يذكر هذا الوصف لنفسه إلا مقيدا، وكل وصف جاء مقيدا فهو ليس من أسماء الله؛ لأن أسماء الله كمال على الإطلاق لا تحتاج إلى تقييد، والله سبحانه وتعالى إنما ذكر المنتقم في مقابلة الإجرام فقال: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} وحينئذ لا يكون المنتقم من أسماء الله.
أما "الهادي" فبعض العلماء أثبته من أسماء الله وبعضهم قال: بل هذا من أوصاف الله وليس اسما.
"والمعين" كذلك ليس من أسماء الله، ولكنه من صفاته فإنه هو الذي يعين من شاء من عباده.
ومن العلماء من قال: إنه من أسمائه لأنه دال على معنى حسن وليس فيه نقص بوجه من الوجوه.
والله سبحانه وتعالى يقول: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} .(1/162)
(73) سئل فضيلة الشيخ: هل الدهر من أسماء الله؟
فأجاب بقوله: الدهر ليس من أسماء الله سبحانه وتعالى ومن زعم ذلك فقد أخطأ وذلك لسببين:
السبب الأول: أن أسماءه - سبحانه وتعالى - حسنى، أي بالغة في الحسن أكمله، فلا بد أن تشتمل على وصف ومعنى هو أحسن ما يكون من الأوصاف والمعاني في دلالة هذه الكلمة، ولهذا لا تجد في أسماء الله تعالى اسما جامدا، والدهر اسم جامد لا يحمل معنى إلا أنه اسم للأوقات.
السبب الثاني: أن سياق الحديث يأبى ذلك، لأنه قال: «أقلب الليل والنهار» والليل والنهار هما الدهر فكيف يمكن أن يكون المقلب بفتح اللام هو المقلب بكسر اللام؟!
(74) سئل الشيخ - غفر الله له: عن قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث القدسي: «قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار» ؟
فأجاب قائلا: قوله في الحديث المشار إليه في السؤال: «يؤذيني ابن آدم» أي إنه سبحانه يتأذى بما ذكر في الحديث، لكن ليست الأذية التي أثبتها الله لنفسه كأذية المخلوق، بدليل قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} فقدم نفي المماثلة على الإثبات، لأجل أن يرد الإثبات على قلب خال من توهم المماثلة، ويكون الإثبات حينئذ على(1/163)
الوجه اللائق به تعالى، وأنه لا يماثل في صفاته، كما لا يماثل في ذاته، وكل ما وصف الله به نفسه ليس فيه احتمال للتمثيل، إذ لو أجزت احتمال التمثيل في كلامه سبحانه وكلام رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صفات الله، لأجزت احتمال الكفر في كلام الله سبحانه وكلام رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأن تمثيل صفات الله تعالى بصفات المخلوقين كفر لأنه تكذيب لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .
وقوله: أنا الدهر أي مدبر الدهر ومصرفه. كما قال الله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} . كما قال في هذا الحديث: «أقلب الليل والنهار» والليل والنهار هما الدهر.
ولا يقال: بأن الله نفسه هو الدهر، ومن قال ذلك فقد جعل المخلوق خالقا، والمقلب مقلبا.
فإن قيل: أليس المجاز ممنوعا في كلام الله وكلام رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفي اللغة؟
أجيب: بلى، ولكن الكلمة حقيقة في معناها الذي دل عليه السياق والقرائن، وهنا في الكلام محذوف تقديره "وأنا مقلب الدهر" لأنه فسره بقوله: «أقلب الليل والنهار» ولأن العقل لا يمكن أن يجعل الخالق الفاعل هو المخلوق المفعول.
(75) سئل فضيلة الشيخ: كيف نجمع بين قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «المقسطون على منابر من نور على يمين»(1/164)
«الرحمن وكلتا يديه يمين» وبين قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثم يطوي الأرضين السبع ثم يأخذهن بشماله» ؟
فأجاب بقوله: كلمة "بشماله" اختلف فيها الرواة: فمنهم من أثبتها، ومنهم من أنكرها، وقال: لا تصح عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصل هذه التخطئة هو ما ثبت في صحيح مسلم أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «المقسطون على منابر من نور على يمين الرحمن وكلتا يديه يمين» . وهذا يقتضي أنه ليس هناك يد يمين ويد شمال.
ولكن قد روى مسلم في صحيحه إثبات الشمال لله تعالى فإذا كانت محفوظة فهي عندي لا تنافي «كلتا يديه يمين» لأن المعنى أن اليد الأخرى ليست كيد الشمال بالنسبة للمخلوق ناقصة عن اليد اليمنى، فقال: «كلتا يديه يمين» أي ليس فيهما نقص. فلما كان الوهم ربما يذهب إلى أن إثبات الشمال يعني النقص في هذه اليد دون الأخرى قال: «كلتا يديه يمين» ويؤيده قوله: «المقسطون على منابر من نور على يمين الرحمن» فإن المقصود بيان فضلهم ومرتبتهم وأنهم على يمين الرحمن سبحانه.
وعلى كل فإن يديه سبحانه اثنتان بلا شك، وكل واحدة غير الأخرى وإذا وصفنا اليد الأخرى بالشمال فليس المراد أنها أنقص من اليد اليمنى بل كلتا يديه يمين.
والواجب علينا أن نقول: إن ثبتت عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نؤمن بها، وإن لم تثبت فنقول: كلتا يديه يمين.
(76) سئل فضيلة الشيخ: ما معنى قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله خلق آدم على صورته» ؟(1/165)
فأجاب فضيلته بقوله: هذا الحديث أعني قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله خلق آدم على صورته» . ثابت في الصحيح، ومن المعلوم أنه لا يراد به ظاهره بإجماع المسلمين والعقلاء؛ لأن الله عز وجل وسع كرسيه السماوات والأرض، والسماوات والأرض كلها بالنسبة للكرسي موضع القدمين كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على هذه الحلقة فما ظنك برب العالمين؟ لا أحد يحيط به وصفا ولا تخيلا، ومن هذا وصفه لا يمكن أن يكون على صورة آدم ستون ذراعا لكن يحمل على أحد معنيين:
الأول: أن الله خلق آدم على صورة اختارها، وأضافها إلى نفسه تعالى تكريما وتشريفا.
الثاني: أن المراد خلق آدم على صورته تعالى من حيث الجملة، ومجرد كونه على صورته لا يقتضي المماثلة والدليل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أضوء كوكب في السماء» ولا يلزم أن تكون هذه الزمرة مماثلة للقمر؛ لأن القمر أكبر من أهل الجنة بكثير، فإنهم يدخلون الجنة طولهم ستون ذراعا، فليسوا مثل القمر.
(77) سئل فضيلة الشيخ: عما أضافه الله تعالى إلى نفسه مثل وجه الله، ويد الله ونحو ذلك؟
فأجاب قائلا: أقسام ما أضافه الله إلى نفسه ثلاثة:
القسم الأول: العين القائمة بنفسها، فإضافتها من باب إضافة المخلوق إلى خالقه، وهذه الإضافة قد تكون على سبيل العموم كقوله(1/166)
تعالى: {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} . وقد تكون على سبيل الخصوص لشرفيته كقوله تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} وقوله: {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} . وهذا القسم مخلوق.
القسم الثاني: العين التي يقوم بها غيرها مثل قوله تعالى: {وَرُوحٌ مِنْهُ} . فإضافة هذه الروح إلى الله من باب إضافة المخلوق إلى خالقه تشريفا فهي روح من الأرواح التي خلقها الله، وليست جزءا من الله، إذ إن هذه الروح حلت في عيسى، عليه السلام، وهو عين منفصلة عن الله وهذا القسم مخلوق.
القسم الثالث: أن يكون وصفا محضا يكون فيه المضاف صفة الله وهذا القسم غير مخلوق؛ لأن جميع صفات الله غير مخلوقة، ومثاله قدرة الله وعزة الله وهو في القرآن كثير.
(78) وسئل: عن حكم إضافة الحوادث إلى صفة من صفات الله؟
فأجاب بقوله: إضافة الحوادث إلى صفة من صفات الله بمعنى أنه من مقتضى هذه الصفة لا بأس به، مثل أن نقول: اقتضت حكمة الله أن يعذب الظالم، أو أوجب القضاء والقدر أن يشقى فلان أو يسعد فلان ويدل لذلك قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لو سبق القضاء والقدر»(1/167)
«شيء لسبقته العين» .
أما إذا أضيفت الحوادث إلى صفة من صفات الله وكأن الصفة هي التي فعلت دون الموصوف فلا يجوز؛ لأن المؤثر هو الله تعالى وهو الخالق المدبر لجميع الأمور.
(79) سئل فضيلة الشيخ: هل أهل السنة يئولون اليد في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} ؟
فأجاب بقوله: ينبغي أن نعلم أن التأويل عند أهل السنة ليس مذموما كله، بل المذموم منه ما لم يدل عليه دليل، وما دل عليه الدليل يسمى تفسيرا، سواء كان الدليل متصلا بالنص، أو منفصلا عنه، فصرف الدليل عن ظاهره ليس مذموما على الإطلاق.
ومثال التأويل بالدليل المتصل ما جاء في الحديث الثابت في صحيح مسلم في قوله تعالى في الحديث القدسي: «عبدي جعت فلم تطعمني، ومرضت فلم تعدني» فظاهر هذا الحديث أن الله نفسه هو الذي جاع وهو الذي مرض، وهذا غير مراد قطعا، ففسر هذا الحديث بنفس الحديث: «فقال: أما علمت أن عبدي فلانا جاع فلم تطعمه، وعبدي فلانا مرض فلم تعده» . فالذي صرف ظاهر اللفظ الأول إلى هذا المعنى هو الحديث القدسي نفسه، فلا يقال: إن صرف ظاهر اللفظ الأول إلى هذا المعنى الثاني تأويل مذموم.(1/168)
وقال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} . ظاهر اللفظ أنك إذا بدأت القراءة لم تستعذ. لكن قد دل الدليل المنفصل على أن معنى: إِذَا قَرَأْتَ أي إذا أردت أن تقرأ. لكن عبر عن الإرادة بالفعل ليبين أن المراد بذلك الإرادة المقترنة بالفعل لا الإرادة السابقة، ولو أراد التعبير بالفعل لكان الإنسان إذا أراد في الصباح أن يقرأ في المساء قلنا له: استعذ بالله من الشيطان الرجيم؛ لأنك ستقرأ في آخر الليل، لكن لما عبر بالفعل عن الإرادة دل على أن الإرادة هي الإرادة التي يقترن بها الفعل.
فإذا فهمنا هذه القاعدة، وهي أن التأويل الذي قام الدليل عليه ليس مذموما عرفنا الجواب عن الآية التي ساقها السائل.
فهل الصحابة في صلح الحديبية كانوا يبايعون الله؟ هم في الحقيقة كانوا يبايعون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مباشرة وذلك في قوله سبحانه: {يُبَايِعُونَكَ} لكن لما كان الرسول مبلغا عن الله سبحانه صارت مبايعة الرسول كمبايعة الله، وصار الذي يبايعه كأنما يبايع الله.
وقوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} المعلوم أن يد الله حقيقة ليست فوق أيديهم، وأن التي فوق أيديهم عند المبايعة هي يد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لكن الرسول كان مبلغا عن الله.
ويجوز أن نقول: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} على سبيل العلو المطلق، فالله سبحانه بذاته فوق كل شيء. والله أعلم.(1/169)
(80) سئل فضيلة الشيخ: هل يوصف الله بالمكر؟ وهل يسمى به؟
فأجاب بقوله: لا يوصف الله تعالى بالمكر إلا مقيدا فلا يوصف الله تعالى به وصفا مطلقا، قال الله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} .
ففي هذه الآية دليل على أن لله مكرا، والمكر هو التوصل إلى إيقاع الخصم من حيث لا يشعر. ومنه جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري: «الحرب خدعة» .
فإن قيل: كيف يوصف الله بالمكر مع أن ظاهره أنه مذموم؟
قيل: إن المكر في محله محمود يدل على قوة الماكر، وأنه غالب على خصمه ولذلك لا يوصف الله به على الإطلاق، فلا يجوز أن تقول: "إن الله ماكر" وإنما تذكر هذه الصفة في مقام يكون مدحا مثل قوله تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} . وقوله: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} . ومثل قوله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ} . ولا تنفى عنه هذه الصفة على سبيل الإطلاق، بل إنها في المقام الذي تكون مدحا يوصف بها، وفي المقام الذي لا تكون فيه مدحا لا يوصف بها.
وكذلك لا يسمى الله به فلا يقال: إن من أسماء الله الماكر، والمكر من الصفات الفعلية؛ لأنها تتعلق بمشيئة الله سبحانه.(1/170)
(81) وسئل رعاه الله: هل يوصف الله بالخيانة؟ والخداع كما قال الله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} ؟
فأجاب بقوله: أما الخيانة فلا يوصف الله بها أبدا لأنها ذم بكل حال، إذ إنها مكر في موضع الائتمان وهو مذموم قال الله تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} . ولم يقل: فخانهم.
وأما الخداع فهو كالمكر يوصف الله تعالى به حين يكون مدحا ولا يوصف به على سبيل الإطلاق قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} .
(82) سئل فضيلة الشيخ: عما جاء في كتاب شرح العقيدة الواسطية من أن صفة (الحي) مسبوقة بالعدم؟
فأجاب بقوله: حياة الله - عز وجل - حياة كاملة، لم تسبق بعدم، ولا يلحقها زوال، وشرح العقيدة الواسطية الذي قرأ فيه هذا السائل أن حياة الله عز وجل تسبق بعدم خطأ بلا شك، وهذا خطأ مطبعي فيما يظهر، لأنه إذا قيل: حياة كاملة فالحياة الكاملة لا تسبق بعدم، فحياة الله عز وجل حياة كاملة، متضمنة لجميع الصفات الكاملة، فلم تسبق بعدم ولا يلحقها زوال.
(83) سئل الشيخ: هل يوصف الله تعالى بالنسيان؟(1/171)
فأجاب - حفظه الله تعالى - بقوله: للنسيان معنيان:
أحدهما: الذهول عن شيء معلوم مثل قوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} . ومثل قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} . على أحد القولين، ومثل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنما أنا بشر كما تنسون فإذا نسيت فذكروني» . وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها» . وهذا المعنى للنسيان منتف عن الله عز وجل بالدليلين السمعي، والعقلي.
أما السمعي: فقوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} وقوله عن موسى: {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} . فقوله: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} أي مستقبلهم يدل على انتفاء الجهل عن الله تعالى، وقوله: {وَمَا خَلْفَهُمْ} أي ماضيهم يدل على انتفاء النسيان عنه. والآية الثانية دلالتها على ذلك ظاهرة.
وأما العقلي: فإن النسيان نقص، والله تعالى منزه عن النقص، موصوف بالكمال، كما قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . وعلى هذا فلا يجوز وصف الله بالنسيان بهذا المعنى على كل حال.(1/172)
والمعنى الثاني للنسيان: الترك عن علم وعمد، مثل قوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} . الآية، ومثل قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} . على أحد القولين. ومثل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أقسام أهل الخيل: «ورجل ربطها تغنيا وتعففا، ولم ينس حق الله في رقابها وظهورها فهي له كذلك ستر» . وهذا المعنى من النسيان ثابت لله تعالى عز وجل قال الله تعالى: {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ} . وقال تعالى في المنافقين: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} . وفي صحيح مسلم في كتاب الزهد والرقائق عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟
فذكر الحديث، وفيه: «أن الله تعالى يلقى العبد فيقول: أفظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا. فيقول: فإني أنساك كما نسيتني» .
وتركه سبحانه للشيء صفة من صفاته الفعلية الواقعة بمشيئته التابعة لحكمته، قال الله تعالى: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} . وقال تعالى: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} . وقال: {وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً} . والنصوص في ثبوت(1/173)
الترك وغيره من أفعاله المتعلقة بمشيئته كثيرة معلومة، وهي دالة على كمال قدرته وسلطانه. وقيام هذه الأفعال به سبحانه لا يماثل قيامها بالمخلوقين، وإن شاركه في أصل المعنى، كما هو معلوم عند أهل السنة.
(84) وسئل الشيخ: هل نفهم من حديث: «إن الله لا يمل حتى تملوا» المتفق عليه أن الله يوصف بالملل؟
فأجاب قائلا: من المعلوم أن القاعدة عند أهل السنة والجماعة أننا نصف الله تبارك وتعالى بما وصف به نفسه من غير تمثيل، ولا تكييف.
فإذا كان هذا الحديث يدل على أن لله مللا فإن ملل الله ليس كمثل مللنا نحن، بل هو ملل ليس فيه شيء من النقص، أما ملل الإنسان فإن فيه أشياء من النقص؛ لأنه يتعب نفسيا وجسميا مما نزل بعد لعدم قوة تحمله، وأما ملل الله إن كان هذا الحديث يدل عليه فإنه ملل يليق به عز وجل، ولا يتضمن نقصا بوجه من الوجه.
(85) سئل فضيلة الشيخ: هل نثبت صفة الملل لله عز وجل؟
فأجاب بقوله: جاء في الحديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله: «فإن الله لا يمل حتى تملوا» فمن العلماء من قال إن هذا دليل على إثبات الملل لله، لكن ملل الله ليس كملل المخلوق، إذ إن ملل المخلوق نقص، لأنه يدل على سأمه وضجره من هذا الشيء، أما ملل الله فهو كمال وليس فيه نقص، ويجري هذا كسائر الصفات التي نثبتها لله على وجه الكمال وإن كانت في حق المخلوق ليست كمالا.(1/174)
ومن العلماء من يقول: إن قوله: «لا يمل حتى تملوا» يراد به بيان أنه مهما عملت من عمل فإن الله يجازيك عليه، فاعمل ما بدا لك فإن الله لا يمل من ثوابك حتى تمل من العمل، وعلى هذا فيكون المراد بالملل لازم الملل.
ومنهم من قال: إن هذا الحديث لا يدل على صفة الملل لله إطلاقا لأن قول القائل: لا أقوم حتى تقوم لا يستلزم قيام الثاني وهذا أيضا «لا يمل حتى تملوا» لا يستلزم ثبوت الملل لله عز وجل.
وعلى كل حال يجب علينا أن نعتقد أن الله تعالى منزه عن كل صفة نقص من الملل وغيره، وإذا ثبت أن هذا الحديث دليل على الملل فالمراد به ملل ليس كملل المخلوق.
(86) وسئل فضيلة الشيخ رعاه الله تعالى: عن أنواع التعطيل؟
فأجاب بقوله: التعطيل نوعان:
الأول: تعطيل تكذيب وجحد، وهذا كفر. ومثاله رجل قال: إن الله لم يستو على العرش. فهذا جحود وتكذيب؛ لأن الله تعالى يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} . ومن كذب خبر الله فهو كافر.
الثاني: تعطيل تأويل، وهذا هو معترك الخلاف بين العلماء هل يحكم على من عطل تأويلا بالكفر أولا؟ ومثاله رجل أثبت أن الله على العرش استوى، لكن قال: أقول: إن معناه استولى فهذا تعطيل تأويل، وهذا(1/175)
قد لا يكفر به الإنسان، ولهذا لا نكفر من فسر الاستواء بالاستيلاء.
وهذا النوع في الحقيقة فيه تفصيل: فأحيانا يكون الإنسان مبتدعا غير كافر، وأحيانا يكون مبتدعا كافرا حسب ما تقتضيه النصوص الشرعية في ذلك.
(87) سئل فضيلة الشيخ: عن حكم إنكار شيء من أسماء الله تعالى أو صفاته؟
فأجاب - حفظه الله - بقوله: الإنكار نوعان:
النوع الأول: إنكار تكذيب، وهذا كفر بلا شك، فلو أن أحدا أنكر اسما من أسماء الله، أو صفة من صفاته الثابتة في الكتاب والسنة، مثل أن يقول: ليس لله يد، فهو كافر بإجماع المسلمين؛ لأن تكذيب خبر الله ورسوله كفر مخرج عن الملة.
النوع الثاني: إنكار تأويل، وهو أن لا يجحدها، ولكن يئولها وهذا نوعان:
الأول: أن يكون لهذا التأويل مسوغ في اللغة العربية فهذا لا يوجب الكفر.
الثاني: أن لا يكون له مسوغ في اللغة العربية فهذا موجب للكفر، لأنه إذا لم يكن له مسوغ صار تكذيبا، مثل أن يقول: ليس لله يد حقيقة، ولا بمعنى النعمة، أو القوة، فهذا كافر؛ لأنه نفاها نفيا مطلقا فهو مكذب حقيقة، ولو قال في قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} المراد بيديه السماوات(1/176)
والأرض فهو كافر، لأنه لا يصح في اللغة العربية، ولا هو مقتضى الحقيقة الشرعية فهو منكر مكذب.
لكن إن قال: المراد باليد النعمة أو القوة فلا يكفر لأن اليد في اللغة تطلق بمعنى النعمة قال الشاعر:
وكم لظلام الليل عندك من يد ... تحدث أن المانوية تكذب
من "يد" أي: من نعمة؛ لأن المانوية يقولون: إن الظلمة لا تحدث الخير وإنما تحدث الشر.
(88) سئل فضيلة الشيخ: عن حكم من يعتقد أن صفات الخالق مثل صفات المخلوق؟
فأجاب بقوله: الذي يعتقد أن صفات الخالق مثل صفات المخلوق ضال، ذلك أن صفات الخالق لا تماثل صفات المخلوقين بنص القرآن الكريم قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . ولا يلزم من تماثل الشيئين في الاسم أو الصفة أن يتماثلا في الحقيقة هذه قاعدة معلومة.
أليس للآدمي وجه. وللبعير وجه؟ اتفقا في الاسم لكن لم يتفقا في الحقيقة. وللجمل يد، وللذرة يد، فهل اليدان متماثلتان؟
الجواب لا، إذن لماذا لا تقول: لله - عز وجل - وجه ولا يماثل أوجه المخلوقين، ولله يد ولا تماثل أيدي المخلوقين؟ ! قال الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} .(1/177)
وقال: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} . هل هناك يد من أيدي المخلوقين تكون كهذه اليد؟ لا. إذا يجب أن نعلم أن الخالق لا يماثل المخلوق، لا في ذاته، ولا في صفاته: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ولذلك لا يجوز أبدا أن تتخيل كيفية صفة من صفات الله، أو أن تظن أن صفات الله كمثل صفات المخلوق.
(89) وسئل فضيلته: عن الحكمة من إيجاد الكرام الكاتبين مع أن الله يعلم كل شيء؟
فأجاب فضيلته بقوله: نقول في مثل هذه الأمور: إننا قد ندرك حكمتها وقد لا ندرك، فإن كثيرا من الأشياء لا نعلم حكمتها كما قال الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} فإن هذه المخلوقات لو سألنا سائل ما الحكمة أن الله جعل الإبل على هذا الوجه، وجعل الخيل على هذا الوجه وجعل الحمير على هذا الوجه، وجعل الآدمي على هذا الوجه، وما أشبه ذلك. لو سألنا عن الحكمة في هذه الأمور ما علمناها، ولو سئلنا ما الحكمة في أن الله عز وجل جعل صلاة الظهر أربعا، وصلاة العصر أربعا، والمغرب ثلاثا، وصلاة العشاء أربعا وما أشبه ذلك ما استطعنا أن نعلم الحكمة في ذلك وبهذا علمنا أن كثيرا من الأمور الكونية، وكثيرا من الأمور الشرعية تخفى(1/178)
علينا حكمتها، وإذا كان كذلك فإنا نقول: إن التماسنا للحكمة في بعض الأشياء المخلوقة أو المشروعة، إن من الله علينا بالوصول إليها فذاك زيادة فضل وخير وعلم، وإن لم نصل إليها فإن ذلك لا ينقصنا شيئا.
ثم نعود إلى جواب السؤال وهو ما الحكمة في أن الله عز وجل وكل بنا كراما كاتبين يعلمون ما نفعل؟
فالحكمة من ذلك بيان أن الله - سبحانه وتعالى - نظم الأشياء وقدرها، وأحكمها إحكاما متقنا، حتى إنه سبحانه وتعالى جعل على أفعال بني آدم وأقوالهم كراما كاتبين موكلين بهم يكتبون ما يفعلون، مع أنه سبحانه وتعالى عالم بما يفعلون قبل أن يفعلوه، ولكن كل هذا من أجل بيان كمال عناية الله عز وجل بالإنسان، وكمال حفظه تبارك وتعالى وأن هذا الكون منظم أحسن نظام ومحكم أحسن إحكام. والله عليم حكيم.
(90) وسئل: أيهما أولى: التعبير بالتمثيل أم التعبير بالتشبيه؟
فأجاب قائلا: التعبير بالتمثيل خير من التعبير بالتشبيه لوجوه ثلاثة:
الوجه الأول: أن نفي التمثيل هو الذي ورد في القرآن الكريم، ولم يرد في القرآن نفي التشبيه، واللفظ الذي هو التعبير القرآني خير من اللفظ الذي هو التعبير الإنساني قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} .
الوجه الثاني: أن التشبيه لا يصح نفيه على الإطلاق لأنه ما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك اتفقا فيه وإن اختلفا في الحقيقة، فلله وجود(1/179)
وللإنسان وجود، ولله حياة وللإنسان حياة، وهذا الاشتراك في أصل المعنى - الحياة - نوع من التشابه، لكن الحقيقة أن صفات الخالق ليست كصفات المخلوق، فحياة الخالق ليست كحياة المخلوق، فحياة المخلوق ناقصة مسبوقة بعدم وملحوقة بفناء، وهي أيضا ناقصة في حد ذاتها، يوم يكون طيبا، ويوم يكون مريضا، ويوم يكون متكدرا، ويوم يكون مسرورا، وهي أيضا حياة ناقصة في جميع الصفات، البصر ناقص، السمع ناقص، العلم ناقص، القوة ناقصة، بخلاف حياة الخالق جل وعلا فإنها كاملة من كل وجه.
الوجه الثالث: أن بعض أهل التعطيل يسمون المثبتين للصفات مشبهة فإذا قلت: من غير تشبيه فهم هؤلاء أن المراد من غير إثبات صفة ولذلك نقول: إن التعبير بقولنا: من غير تمثيل أولى من التعبير بالتشبيه.
(91) سئل فضيلة الشيخ عن: الفرق بين التشبيه والتمثيل في الأسماء والصفات؟
فأجاب بقوله: التشبيه والتمثيل في الأسماء والصفات بينهما فرق، ولهذا ينبغي أن نقول: "من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل"، بدل قول: "من غير تأويل، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تشبيه".
فالتعبير بالتمثيل أولى لأمور:
أولا: أنه الموافق للفظ القرآن في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} ولم يقل: ليس كشبهه شيء ولا(1/180)
قال: فلا تضربوا لله الأشباه.
ثانيا: أن التشبيه صار وصفا يختلف الناس في فهمه فعند بعض الناس إثبات الصفات يسمى تشبيها، ويسمون من أثبت صفة لله مشبها، فتجد ذلك عند المعتزلة كما يقول: الزمخشري في تفسيره الكشاف: وقالت المشبهة، ويقصد أهل السنة والجماعة.
ثالثا: أن نفي التشبيه على الإطلاق بين صفات الخالق وصفات المخلوق لا يصح، لأنه ما من صفتين ثابتتين إلا وبينهما اشتراك في أصل المعنى، وهذا الاشتراك نوع من المشابهة: فالعلم مثلا، للإنسان علم، وللرب سبحانه علم، فاشتركا في أصل المعنى، لكن لا يستويان. أما التمثيل فيصح أن تنفي نفيا مطلقا.
وأيضا فلا يقال: من غير تأويل بل من غير تحريف؛ لأن التأويل في أسماء الله وصفاته ليس منفيا على كل حال، بل ما دل عليه الدليل فهو تأويل ثابت وهو بمعنى التفسير، وإنما المنفي هو التحريف وهو صرف اللفظ عن ظاهره بغير دليل، كما صنع أهل التعطيل الذين اختلفوا فيما نفوا وأثبتوا من أسماء الله وصفاته، فمنهم من أثبت الأسماء وبعض الصفات ونفى أكثر الصفات، ومنهم من أثبت الأسماء ونفى الصفات كلها، ومنهم من نفى الأسماء والصفات كلها، ومنهم من نفى كل إثبات وكل نفي فقال: لا تصف الله بإثبات ولا نفي.
وأهل السنة بريئون من هذا ويثبتون لله تعالى كل ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات.
وكذلك فقد جاء النص بذم التحريف في قوله: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ}(1/181)
ولم يقل: يئولون، والتزام الألفاظ الشرعية التي جاء بها الكتاب والسنة أولى من إحداث ألفاظ أخرى؛ لأن ما جاء في الشرع أشد وأقوى.
(92) سئل فضيلة الشيخ: عن صفة الهرولة؟
فأجاب بقوله: صفة الهرولة ثابتة لله تعالى كما في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «يقول: الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي» فذكر الحديث، وفيه: «وإن أتاني يمشي أتيته هرولة» ، وهذه الهرولة صفة من صفات أفعاله التي يجب علينا الإيمان بها من غير تكييف ولا تمثيل؛ لأنه أخبر بها عن نفسه وهو أعلم بنفسه، فوجب علينا قبولها بدون تكييف؛ لأن التكييف قول على الله بغير علم وهو حرام، وبدون تمثيل؛ لأن الله يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .(1/182)
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد الصالح العثيمين إلى أخيه المكرم الشيخ. . . حفظه الله تعالى، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: ففي هذا اليوم وصل إلي كتابكم، وقد فهمت ما فيه، وقد تضمن ملاحظة فضيلتكم على كلامي فيما يتعلق بالحديث القدسي الذي رواه النبي عن ربه تبارك وتعالى، أنه قال: «من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا، ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة» . وكان في إثبات الهرولة لله تعالى إشكال عندكم.
فيا محب: تعلم أن هذا الحديث أخبر الله تعالى به عن نفسه، ونقله عنه أمينه على وحيه ورسوله إلى عباده، ومبلغ رسالته على الوجه الأتم، ونقله عن هذا الرسول أمناء أمته من الصحابة والتابعين، وأئمة الأمة من أهل الحديث والفقه، وتلقته الأمة بالقبول.
وتعلم يا محب: أن الله - تبارك وتعالى - أعلم بنفسه وبغيره: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} ، {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ}
وتعلم يا محب: أن الله تعالى لم يطلع خلقه على ما علمه إياهم من أسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه، إلا ليبين لهم الحق حتى لا(1/183)
يضلوا: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .
وتعلم يا محب: أنه لا أحد أحسن من الله حديثا ولا أصدق منه قيلا، وأن كلامه جل وعلا في أعلى غاية الفصاحة والبيان.
وقد قال سبحانه عن نفسه: «من أتاني يمشي أتيته هرولة» . فلا تستوحش يا أخي من شيء أثبته الله تعالى لنفسه بعد أن علمت ما سبق، واعلم أنك إذا نفيت أن الله تعالى يأتي هرولة فسيكون مضمون هذا النفي صحة أن يقال: إن الله لا يأتي هرولة. وفي هذا ما فيه.
ومن المعلوم أن السلف يؤمنون بأن الله تعالى يأتي إتيانا حقيقيا للفصل بين عباده يوم القيامة على الوجه اللائق به، كما دل على ذلك كتاب الله تعالى، وليس في هذا الحديث القدسي إلا أن إتيانه يكون هرولة لمن أتاه يمشي فمن أثبت إتيان الله تعالى، حقيقة لم يشكل عليه أن يكون شيء من هذا الإتيان بصفة الهرولة على الوجه اللائق به. وأي مانع يمنع من أن نؤمن بأن الله تعالى يأتي هرولة، وقد أخبر الله تعالى به عن نفسه وهو سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء، وليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
وليس في إتيان الله تعالى هرولة على الوجه اللائق به بدون تكييف ولا تمثيل شيء من النقص، حتى يقال: إنه ليس ظاهر الكلام، بل هو فعل من أفعاله يفعله كيف يشاء، ولهذا لم يأت في كلام الله تعالى عنه، ولا في كلام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يصرفه عن ذلك كما أتى في الحديث القدسي: «إن الله تعالى يقول يوم القيامة: يا ابن آدم»(1/184)
«مرضت فلم تعدني» . الحديث.
وأما قول فضيلتكم: "لم أجد عن الصحابة والتابعين ذكر لإثبات هذه الصفة" أي الهرولة، فإن فضيلتكم لا يخفى عليه أن هذه الصفة جاء إثباتها لله تعالى فيما أخبر الله به نفسه عن نفسه " أتيته هرولة "، وفيما نقله عنه أمينه على وحيه ورسوله إلى من أرسله إليهم من خلقه، وفيما رواه الصحابة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفيما رواه التابعون عن الصحابة، وفيما رواه أئمة الأمة بعدهم إلى عصرنا هذا، كلهم يقولون عن الله: " أتيته هرولة ".
فقد ذكرت في كلام الله في الحديث القدسي، وفي كلام رسوله، وفي كلام الصحابة، وفي كلام التابعين، وفي كلام الأئمة بعدهم رواية ودراية نقلا وقبولا، ولله الحمد.
ولا يخفى على فضيلتكم القاعدة العامة عند السلف من أن نصوص الصفات تجري على ظاهرها اللائق بالله تعالى بلا كيف؛ كما اشتهر عنهم قولهم: "أمروها كما جاءت بلا كيف". وهذه القاعدة تجري على كل فرد من أفراد النصوص، وإن لم ينصوا عليه بعينه، ولا يمكننا أن نخرج عنها نصا واحدا إلا بدليل عن السلف أنفسهم، ولو قلنا: إنه لا بد أن ينصوا على كل نص بعينه لم يكن لهذه القاعدة فائدة. ومن ذلك هذا الحديث الذي نحن بصدد الكلام عليه، فإن ظاهره ثبوت إتيان الله تعالى هرولة، وهذا الظاهر ليس ممتنعا على الله عز وجل؛ لأنه لا يتضمن نقصا فيكون داخلا في القاعدة المذكورة، فيثبت لله تعالى حقيقة، ويصان عن الأوهام الباطلة من التمثيل والتكييف.
ولا يخفى على فضيلتكم أن هذا الحديث ليس فيه شيء من(1/185)
المشاكلة؛ فإن الإشكال عندكم فيما ظهر لي ليس في مجرد الإتيان، ولكن في إثبات الهرولة. والهرولة إنما ذكرت في الحديث في إتيان الله تعالى فقط. أما في إتيان المخلوق فقال: " من أتاني يمشي " والفرق بين مطلق المشي والهرولة ظاهر وحينئذ فلا مشاكلة.
ثم إن المشاكلة عند من قال بها تكون في أحد الطرفين حقيقة، وفي الثاني غير حقيقة، لكن ذكرت بلفظه للتشاكل.
ثم إن فتح باب المشاكلة ينفتح به إشكالات، ألا ترى أن الذاهبين لذلك أنكروا من أجله صفات يثبتها السلف أهل السنة:
فقالوا: إن الاستهزاء الذي أخبر الله عنه نفسه في قوله: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} من المشاكلة.
وقالوا: إن الخداع الذي أخبر الله به عن نفسه في قوله: {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} من المشاكلة.
وقالوا: إن المكر الذي أخبر الله به عن نفسه في قوله: {وَيَمْكُرُ اللَّهُ} من المشاكلة.
وقالوا: إن الكيد الذي أخبر الله به عن نفسه في قوله: {وَأَكِيدُ كَيْدًا} من المشاكلة.
وقالوا: إن الرضى الذي أخبر الله به عن نفسه في قوله: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ}(1/186)
من المشاكلة.
إلى غير هذا مما ذكروه ونفوا من أجله حقيقة ما وصف الله به نفسه من ذلك.
ولعل فضيلتكم يرجع إلى ما كتبته عن القول الثاني في تفسير الحديث، والذي ذهب إليه بعض الناس، فإن العلة فيه عندي غير المشاكلة؛ لأني أرى أن التعليل بالمشاكلة تعليل ينفتح به ما لا يمكن دفعه، كما أنه عند التأمل لا مشاكلة في الحديث لما بينته آنفا.
وأما ما تفضل به فضيلته من ملاحظة على قولي: " إن الحديث خرج مخرج المثال فيكون المعنى من أتاني يمشي في عبادة تفتقر إلى المشي" من وجهين:
أحدها: أن لفظ (مَن) من صيغ العموم.
الثاني: أنه تفسير وتأويل لا ينضبط.
فلا يخفى على فضيلتكم أن لفظ (مَن) وغيرها من الأسماء الموصلة أو الشرطية، عام في أفراد ما تدل عليه الصلة أو فعل الشرط فقط، فإذا قلت: من أخبرني بقدوم فلان فله كذا، كان عاما في جميع أفراد من يخبرك بقدومه، لكنه لا يتناول من أخبرك بقدوم غيره، أو من أخبرك عنه بشيء غير القدوم، فقوله تعالى في الحديث القدسي: «من أتاني يمشي في عبادة تستلزم المشي» . لم نكن أخرجنا لفظ (مَن) عن العموم حيث جعلناها شاملة لكل فرد من أفراد من أتى الله يمشي، وإتيان الله تعالى مشيا إنما يكون في عبادة(1/187)
تفتقر إلى المشي ليتحقق أنه أتى الله تعالى مشيا.
وبعد هذا يتبين أن ما قلته في التفسير منضبط غير مشكل، وأنه أبعد عن أن يلزمنا الخصوم من أهل التأويل بموافقتهم أو مداهنتهم فيما أولوه من صفات الله عز وجل حيث أبقي الحديث على حقيقته اللائقة بالله تعالى، من غير تكييف ولا تمثيل.
وإن الإنسان ليجد في نفسه الخوف من أن يلقى الله عز وجل، وهو يقول: "إن الله تعالى لا يأتي هرولة" بعد أن أثبت الله ذلك لنفسه، وسبحان من قال عن نفسه: {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} .
ولقد تأملت هذه المسألة، وكلما هممت أن أقول بما ذهب إليه بعض الناس في هذا الحديث، وجدتني خائفا أن أقول في كلام الله عز وجل ما لا أعلم، وأن بقائي على ما يدل عليه ظاهر الحديث مع تنزيه الله عز وجل عما لا يليق به من مماثلة الخلق، ومع الكف عن تكييف صفاته أسلم في عقيدتي، وأبعد لي عن التكلف ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
وإني لأشكر فضيلتكم على ما أتحفتموني به من كلام شيخ الإسلام في نقضه كلام الرازي، فنعم التحفة، ونعم من أتحف بها أصلا ونقلا.
ولا يخفى على فضيلتكم ما لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - من التحقيق في المنقول والمعقول مما جعل كلامه - رحمه الله تعالى - له الأثر في النفوس والقبول تغمده الله برحمته وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرا.
لكن لا يخفى على فضيلتكم أن جل كلامه الذي نقلتم إنما هو في(1/188)
مسألة التقرب؛ لأنه هو الذي ذكر بلفظ المساحة، ومع ذلك فقد أورده الشيخ رحمه الله تعالى بذلك الترديد حيث قال:
"إما أن يكون ظاهر اللفظ في تقرب العبد إلى ربه هو تقرب بالمساحة المذكورة أو لا يكون، فإن كان ذلك هو ظاهر اللفظ، فإما أن يكون ممكنا أو لا يكون، فإن كان ممكنا فالآخر أيضا ممكن، ولا يكون في ذلك مخالفة للظاهر، وإن لم يكن ممكنا فمن أظهر الأشياء للإنسان علمه بنفسه وسعيه، فيكون قد ظهر للمخاطب معنى قربه بنفسه، وقد علم أن قرب ربه إليه من جنس ذلك، فيكون الآخر أيضا ظاهرا في الخطاب. فلا يكون ظاهر الخطاب هو المعنى الممتنع بل ظاهره هو المعنى الحق، ومن المعلوم أنه ليس ظاهر الخطاب أن العبد يتقرب إلى الله تعالى بحركة بدنه شبرا وذراعا ومشيا وهرولة. لكن قد يقال: عدم ظهور هذا هو للقرينة الحسية العقلية، وهو أن العبد يعلم أن تقربه ليس على هذا الوجه، وذلك لا يمنع أن يكون ظاهر اللفظ متروكا. فيقال: هذه القرينة الحسية الظاهرة لكل أحد هي أبلغ من القرينة اللفظية، فيكون بمعنى الخطاب ما ظهر بها لا ما ظهر بدونها ". اهـ. المقصود منه.
فأنت ترى - حفظك الله - أن الشيخ - رحمه الله تعالى - جعل الأمر مترددا بين أن يكون التقرب بالمساحة ظاهر اللفظ أو لا يكون، وأنه إن كان ظاهر اللفظ فإما أن يكون ممكنا أو لا يكون، وأنه إن كان ممكنا فالآخر أيضا ممكن، وإن لم يكن ممكنا فالآخر من جنس ذلك، ولا يمكن أن يكون غير الممكن ظاهر الخطاب لامتناعه، يعني أننا إذا قلنا: إن تقرب العبد إلى ربه بالمساحة (الشبر والذراع) غير ممكن، صار تقرب الله تعالى الذراع والباع غير ممكن، وإذا كان غير ممكن امتنع أن يكون هو ظاهر الخطاب(1/189)
لأنه لا يمكن أن يكون ظاهر كلام الله تعالى أمرا مستحيلا.
وأما قوله رحمه الله تعالى: "ومن المعلوم أنه ليس ظاهر الخطاب أن العبد يتقرب إلى الله تعالى بحركة بدنه شبرا وذراعا ومشيا وهرولة". فإنه قد يقال: ما الذي يمنع ذلك فإن العبد يتقرب إلى ربه بحركة قلبه وحركة بدنه، ولهذا يقال: القلوب جوالة، فقلب يحوم حول العرش، وقلب يتجول حول الحش. وحركة القلب وشعور العبد بقربه من ربه بقلبه أمر معلوم، وكذلك حركة البدن التي يتقرب العبد بها إلى ربه بقلبه أمر معلوم، وكذلك حركة البدن التي يتقرب العبد بها إلى ربه بكون الحركة في شأن موسى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} . قال ابن كثير رحمه الله: "كلمه الله تعالى وناداه وقربه فناجاه".
ولا يخفى على فضيلتكم ما رواه الإمام أحمد وابن حبان والحاكم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن الله يباهي بأهل عرفات أهل السماء، فيقول لهم: انظروا إلى عباد جاءوني شعثا غبرا» . وما رواه أحمد ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول:ما أراد هؤلاء» . ودنوه - جل وعلا - كما يعلم فضيلتكم لا ينافي علوه تعالى، قال شيخ الإسلام في الفتاوى: (جمع ابن قاسم) 46 \ 5) : " وأصل هذا أن قربه سبحانه ودنوه من بعض مخلوقاته لا يستلزم أن تخلو ذاته من فوق العرش، بل هو فوق العرش، ويقرب من خلقه كيف يشاء،(1/190)
كما قال ذلك من قاله من السلف، وهذا كقربه إلى موسى لما كلمه من الشجرة ". إلى أن قال 464: " وإذا كان المنادي هو الله رب العالمين، وقد ناداه من موضع معين وقربه إليه دل ذلك على ما قاله السلف من قربه ودنوه من موسى عليه السلام، مع أن هذا قرب مما دون السماء". إلى أن قال 465: " وقربه من العباد بتقربهم إليه مما يقربه جميع من يقول: إنه فوق العرش، سواء قالوا مع ذلك: إنه تقوم به الأفعال الاختيارية أم لم يقولوا.
وأما من ينكر ذلك فمنهم من يفسر قرب العباد بكونهم يقاربونه ويشابهونه من بعض الوجوه، فيكونون قريبين منه، وهذا تفسير أبي حامد والمتفلسفة، ومنهم من يفسر قربهم بطاعته، ويفسر قربه بإثابته، وهذا تفسير جمهور الجهمية، فإنهم ليس عندهم قرب ولا تقريب أصلا.
ومما يدخل في معاني القرب - وليس في الطوائف من ينكره - قرب المعروف والمعبود إلى قلوب العارفين والعابدين، فإن كل من أحب شيئا فإنه لا بد أن يعرفه، ويقرب من قلبه، والذي يبغضه يبعد من قلبه".
إلى أن قال 466: "والذين يثبتون تقريبه العباد إلى ذاته هو القول المعروف للسلف والأئمة، وهو قول الأشعري وغيره من الكلابية، فإنهم يثبتون قرب العباد إلى ذاته". إلى أن قال: "وأما دنوه نفسه وتقربه من بعض عباده فهذا يثبته من يثبت قيام الأفعال الاختيارية بنفسه ومجيئه يوم القيامة، ونزوله، واستوائه على العرش، وهذا مذهب أئمة السلف، وأئمة الإسلام المشهورين، وأهل الحديث والنقل عنهم بذلك متواتر، وأول من أنكر هذا في الإسلام الجهمية، ومن وافقهم من المعتزلة".
وفي ص 31 \ 6: "لكن عموم المسلمين وسلف الأمة وأهل السنة من جميع الطوائف تقر بذلك، فيكون العبد متقربا بحركة روحه وبدنه إلى(1/191)
ربه، مع إثباتهم أيضا التقرب منهما إلى الأماكن المشرفة، وإثباتهم أيضا تحول روحه وبدنه من حال إلى حال.
فالأول: مثل معراج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعروج روح العبد إلى ربه، وقربه منه في السجود وغير ذلك.
والثاني: مثل الحج إلى بيته وقصده في المساجد.
والثالث: مثل ذكره له ودعائه ومحبته وعبادته وهو في بيته، لكن في هذين يقرون أيضا بقرب الروح أيضا إلى الله نفسه فيجمعون بين الأنواع كلها ".
قال في ص 13 \ 6: " وإذا كان قرب عباده منه نفسه وقربه منهم ليس ممتنعا عند الجماهير من السلف وأتباعهم من أهل الحديث والفقهاء والصوفية وأهل الكلام لم يجب أن يتأول كل نص فيه ذكر به، من جهة امتناع القرب عليه، ولا يلزم من جواز القرب عليه أن يكون كل موضع ذكر فيه قربه يراد به قربه بنفسه، بل يبقى هذا من الأمور الجائزة، وينظر في النص الوارد فإن دل على هذا حمل عليه، وإن دل على هذا حمل عليه، وهذا كما تقدم في لفظ الإتيان والمجيء ". اهـ.
ففي هذا الكلام من تقرير تقرب العبد إلى ربه بحركة روحه وبدنه، وأن قرب العباد منه نفسه وقره منهم ليس ممتنعا عند الجماهير من السلف وأتباعهم، ما يخالف ما ذكره في نقضه على الرازي، وعليه فيكون للشيخ رحمه الله تعالى في هذا قولان، ولكن أيهما أقرب أن يكون أرجح عنده؟
قد يقال: إن الثاني أقرب أن يكون أرجح؛ لأن فيه زيادة، ولأنه ساقه جازما به، بخلاف الأول فإنه كان فيه ترديد. والله أعلم.(1/192)
وخلاصة القول: أن إبقاء النص على ظاهره أولى وأسلم فيما أراه، ولو ذهب ذاهب إلى تأويله لظهور القرينة عنده في ذلك لوسعه الأمر لاحتماله. والله تعالى رقيب على قول كل قائل وقلبه. فنسأل الله تعالى الهداية والتوفيق، لما يحب ويرضى إنه جواد كريم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(1/193)
فصل
قال فضيلة الشيخ غفر الله له ولوالديه، ولجميع المسلمين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، وبعد، فقد اطلعت على تعليق كتبه مختصر تفسير المنار الشيخ القاضي محمد أحمد كنعان ص 378 - 389 جـ 2 تضمن مسائل ثلاثا يجب التنبيه عليها:
الأولى: قوله: " فالإمام مالك وغيره من السلف نفوا الكيف أصلا معلوما ومجهولا؛ لأنهما في النتيجة سواء من حيث نسبة الكيف إلى الله تعالى، والكيف عليه تعالى محال ".
وهذا القول غير صحيح، فإن السلف لا ينفون الكيف مطلقا؛ لأن نفي الكيف مطلقا نفي للوجود؛ إذ ما من موجود إلا وله كيفية، لكنها قد تكون معلومة، وقد تكون مجهولة، وكيفية ذات الله تعالى وصفاته مجهولة، وكيفية ذات الله تعالى وصفاته مجهولة لنا، ولا يحل لنا أن نكيف شيئا من ذلك؛ لأننا إن قيدنا هذه الكيفية بما نشاهده فهذا هو التمثيل الممتنع في حق الله تعالى، فإن الله تعالى ليس كمثله شيء في ذاته ولا في صفاته، وإن لم نقيد الكيفية بما نشاهده وإنما تصورنا كيفية معينة لا نظير لها فيما نشاهد كان ذلك قولا على الله تعالى بغير علم، وهو حرام؛ لقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} . وعلى هذا فثبت كيفية لا نعلمها ولا يحل(1/194)
لنا أن نتصورها بشيء معين، سواء قيدناها بمماثل نشاهده أم لا.
وأما قوله: "إن الإمام مالك لا يقول: والكيف مجهول ". فالجزم بأنه لا يقول بذلك جزم بما لا علم فيه. وأما كون هذا غير الوارد عنه فصحيح، فإن الوارد بالسند عنه قوله: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة". كما رواه البيهقي وأبو الشيخ الأصبهاني، وقوله رحمه الله: "غير معقول" أي أنا لا ندركه بعقولنا، فإذا لم ندركه بعقولنا ولم يرد به السمع، فقد انتفى عنه الدليلان العقلي والسمعي، فوجب الكف عنه، وتعذرت الإجابة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتوى الحموية: "فقول ربيعة ومالك: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب". موافق لقول الباقين: "أمروها كما جاءت بلا كيف" فإنما نفوا علم الكيفية ولم ينفوا حقيقة الصفة ". اهـ.
فتأمل قول الشيخ: " فإنما نفوا علم الكيفية ". ولم يقل: نفوا الكيفية يتبين لك أن السلف يثبتون الكيفية لكنها مجهولة لنا، ويدل لذلك أن الإمام مالكا وشيخه - رحمهما الله - لم يقولا: الكيف مستحيل أو غير ممكن ولو كان هذا هو الحق الذي يجب لله لبينه السلف رحمهم الله.
والحاصل أن نفي الكيفية عن الاستواء مطلقا هو تعطيل محض لهذه الصفة؛ لأننا إذا أثبتنا الاستواء حقيقة لزم أن يكون له كيفية، وهكذا يقال في بقية الصفات.
المسألة الثانية قوله: " ولا يجوز أن يفهم من الاستواء معنى لا يليق بالله، مثل الاستقرار، أو الجلوس، أو القعود ".
وهذا القول غير صحيح على إطلاقه، فإن قوله: " لا يجوز أن يفهم من الاستواء معنى لا يليق بالله " صحيح فإن كل ما وصف الله تعالى به(1/195)
نفسه من الاستواء وغيره لا يجوز أن نفهم منه معنى لا يليق بالله، ولكن ما هو المرجع والميزان فيما يليق بالله تعالى وما لا يليق؟
إن قلت: المرجع إلى ذلك العقول لزم من ذلك محذوران عظيمان:
أحدهما أن يكون المرجع فيما يجب لله تعالى من صفات الكمال وما ينزه من صفات النقص هو العقل، ومن المعلوم قصور العقول عن إدراك ما يجب لله تعالى إثباتا أو نفيا على سبيل التفصيل. قال الله تعالى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} . فإذا علم قصور العقول عن ذلك فكيف يمكن أن تكون ميزانا لما لا يمكن أن تدركه؟ !
الثاني: أن عقول هؤلاء الذين زعموا أن المرجع في ذلك العقول كانت مضطربة متناقضة يوجب بعضها ما يرى الآخر امتناعه، فكيف تكون هذه العقول المضطربة أدلة وبراهين في إثبات ما يثبت لله تعالى ونفي ما ينفى عنه؟ !
وأما تمثيله لما لا يليق بالله بتفسير الاستواء على العرش بالاستقرار عليه والجلوس والقعود فغير صحيح، فأما تفسير استواء الله تعالى على عرشه باستقراره عليه فهو مشهور عن السلف، نقله ابن القيم في النونية وغيره. وأما الجلوس والقعود فقد ذكره بعضهم، لكن في نفسي منه شيء. والله أعلم.
المسألة الثالثة: قوله: " أو المكان " يعني أنه لا يليق بالله عز وجل. وهذا أيضا غير صحيح على إطلاقه، فإنه إن أراد بنفي المكان المكان المحيط بالله - عز وجل - فهذا النفي صحيح، فإن الله تعالى لا يحيط به شيء من مخلوقاته، وهو أعظم وأجل من أن يحيط به شيء، كيف(1/196)
{وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} .
وإن أراد بنفي المكان نفي أن يكون الله تعالى في العلو فهذا النفي غير صحيح، بل هو باطل بدلالة الكتاب والسنة، وإجماع السلف والعقل والفطرة، وقد ثبت «عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال للجارية: " أين الله؟ ". قالت: في السماء. قال لمالكها: " أعتقها فإنها مؤمنة» . وكل من دعا الله عز وجل فإنه لا ينصرف قلبه إلا إلى العلو، هذه هي الفطرة التي فطر الله الخلق عليها لا ينصرف عنها إلا من اجتالته الشياطين، لا تجد أحدا يدعو الله عز وجل وهو سليم الفطرة ثم ينصرف قلبه يمينا أو شمالا أو إلى أسفل، أو لا ينصرف إلى جهة، بل لا ينصرف قلبه إلا إلى فوق.(1/197)
يسبه؛ لأنه محل هذه الأمور المكروهة فهذا محرم؛ لأنه مناف للصبر الواجب وليس بكفر؛ لأنه ما سب الله مباشرة، ولو سب الله مباشرة لكان كافرا.
94 - سئل فضيلة الشيخ: كيف نجمع بين قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يرويه عن ربه عز وجل: «يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر» . . " الحديث، وبين قول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الدنيا ملعونة ملعون ما فيها» الحديث؟
فأجاب قائلا: حديث «الدنيا ملعونة ملعون ما فيها» لا أدري عن صحته، والذي أظن أنه ضعيف، ولكن على تقدير صحته فليس هذا من باب السب، إنما هو من باب الخبر وأنه لا خير فيها إلا عالم ومتعلم، أو ذكر الله وما والاه، وأما سب الدهر فهو عيبه ولومه والتسخط مما وقع فيه، وإضافة هذا الشيء إلى الدهر مع أن الأمر كله بيد الله عز وجل كما جاء في الحديث نفسه: «وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار» .
95 - سئل فضيلة الشيخ عن هذه العبارات: " هذا زمان أقشر"، أو "الزمن غدار" أو "يا خيبة الزمن الذي رأيتك فيه"؟
فأجاب بقوله: هذه العبارات التي ذكرت في السؤال تقع على وجهين:
الوجه الأولى: أن تكون سبا وقدحا في الزمن فهذا حرام، ولا يجوز؛ لأن ما حصل في الزمن فهو من الله عز وجل، فمن سبه فقد سب الله،(1/198)
ولهذا قال الله تعالى في الحديث القدسي: «يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار» . والوجه الثاني: أن يقولها على سبيل الإخبار فهذا لا بأس به، ومنه قوله تعالى عن لوط، عليه الصلاة والسلام: {وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} أي شديد، وكل الناس يقولون: هذا يوم شديد. وهذا يوم فيه كذا وكذا من الأمور وليس فيه شيء.
وأما قول: "هذا الزمن غدار" فهذا سب؛ لأن الغدر صفة ذم ولا يجوز.
وقول: "يا خيبة اليوم الذي رأيتك فيه" إذا قصد يا خيبتي أنا، فهذا لا بأس فيه، وليس سبا للدهر، وإن قصد الزمن أو اليوم فهذا سب فلا يجوز.(1/199)
النزول(1/201)
(96) سئل فضيلة الشيخ: عن حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: «يتنزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له» . رواه البخاري؟
فأجاب بقوله: هذا الحديث حديث عظيم ذكر بعض أهل العلم أنه بلغ حد التواتر عن النبي، ولا شك أنه حديث مستفيض مشهور، وقد شرحه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - بكتاب مستقل، لما فيه من الفوائد العظيمة، ففيه ثبوت النزول لله سبحانه وتعالى لقوله:" يتنزل ربنا" والنزول من صفات الله الفعلية؛ لأنه فعل وهذا النزول نزول الله نفسه حقيقة؛ لأن الرسول أضافه إلى الله، ونحن نعلم أن الرسول أعلم الناس بالله، ونعلم كذلك أن الرسول أفصح الخلق، ونعلم كذلك أنه أصدق الخلق فيما يخبر به، فليس في كلامه شيء من الكذب، ولا يمكن أن يتقول على الله تعالى شيئا لا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، ولا في أحكامه، قال الله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} . ونعلم كذلك أن رسول الله صلى الله عليه(1/203)
وسلم أنصح الخلق، وأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يساويه أحد من الخلق في النصحية للخلق، ونعلم كذلك أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يريد من العباد إلا أن يهتدوا، وهذا من تمام نصحه أنه لا يريد منهم أن يضلوا، فهو عليه الصلاة والسلام، أعلم الخلق بالله، وأنصح الخلق للخلق، وأفصح الخلق فيما ينطق به، وكذلك لا يريد إلا الهداية للخلق فإذا قال: " ينزل ربنا " فإن أي إنسان يقول: خلاف ظاهر هذا اللفظ قد اتهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إما بأنه غير عالم، فمثلا إذا قال: المراد ينزل أمره. نقول: أنت أعلم بالله من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فالرسول يقول: " ينزل ربنا " وأنت تقول: ينزل أمره أأنت أعلم أم رسول الله؟ ! أو أنه اتهمه بأنه لا يريد النصح للخلق حيث عمى عليهم فخاطبهم بما يريد خلافه، ولا شك أن الإنسان الذي يخاطب الناس بما يريد خلافه غير ناصح لهم أو نقول: أنت الآن اتهمت الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنه غير فصيح، بل هو عيي يريد شيئا ولكن لا ينطق به، يريد ينزل أمر ربنا ولكن يقول: ينزل ربنا لأنه لا يفرق بين هذا وهذا، فكلامك هذا لا يخلو من وصمة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعليك أن تتقي الله، وأن تؤمن بما قال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أن الله تعالى نفسه ينزل حقيقة.
(97) وسئل فضيلته: هل يستلزم نزول الله - عز وجل - أن يخلو العرش منه أو لا؟
فأجاب بقوله: نقول: أصل هذا السؤال تنطع، وإيراده غير مشكور عليه مورده، لأننا نسأل هل أنت أحرص من الصحابة على فهم صفات الله؟ إن قال: نعم فقد كذب. وإن قال: لا. قلنا: فليسعك ما وسعهم،(1/204)
فهم ما سألوا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقالوا: يا رسول الله إذا نزل هل يخلو منه العرش؟ وما لك ولهذا السؤال، قل: ينزل واسكت. يخلو منه العرش أو ما يخلو، هذا ليس إليك، أنت مأمور بأن تصدق الخبر ولا سيما ما يتعلق بذات الله وصفاته؛ لأنه أمر فوق العقول فإذا نقول: هذا السؤال تنطع أصلا لا يرد، وكل إنسان يريد الأدب كما تأدب الصحابة مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه لا يورده، فإذا قدر أن شخصا ابتلي بأن وجد العلماء بحثوا في هذا واختلفوا فيه، فمنهم من يقول: يخلو، ومنهم من يقول: لا يخلو، ومنهم من توقف، فالسبيل الأقوم في هذا هو التوقف، ثم القول بأنه لا يخلو منه العرش، وأضعف الأقوال القول بأنه يخلو منه العرش، فالتوقف أسلمها وليس هذا مما يجب علينا القول به؛ لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يبينه والصحابة لم يستفسروا عنه، ولو كان هذا مما يجب علينا أن نعتقده لبينه الله ورسوله بأي طريق، ونحن نعلم أنه أحيانا يبين الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحق من عنده، وأحيانا يتوقف فينزل الوحي، وأحيانا يأتي أعرابي فيسأل عن شيء، وأحيانا يسأل الصحابة أنفسهم عن الشيء، كل هذا لم يرد في هذا الحديث، فإذا لو توقفنا وقلنا: الله أعلم فليس علينا سبيل لأن هذا هو الواقع.
(98) وسئل: هل إذا نزل تقله السماء؟
فأجاب بقوله: هذا لا يكون، لأنك لو قلت: إن السماء تقله لزم أنه يكون محتاجا إليها، كما تكون أنت محتاجا إلى السقف إذا أقلك، ومعلوم أن الله غني عن كل شيء، وأن كل شيء محتاج إلى الله، فإذا نجزم بأن السماء لا تقله، لأنها لو أقلته لكان محتاجا إليها وهذا مستحيل على الله عز وجل.(1/205)
(99) وسئل: هل السماء الثانية فما فوقها تكون فوقه إذا نزل إلى السماء الدنيا؟
فأجاب بقوله: لا، ونجزم بهذا لأننا لو قلنا بإمكان ذلك لبطلت صفة العلو، وصفة العلو لازمة لله، وهي صفة ذاتية لا تنتفي عن الله ولا يمكن أن يكون شيء فوقه. حينئذ يبقى الإنسان منبهتا كيف ينزل إلى السماء الدنيا ولا تقله ولا تكون السماوات الأخرى فوقه هل يمكن هذا؟! الجواب: إذا كنت منبهتا من هذا فإنما تنبهت إذا قست صفات الخالق بصفات المخلوق، صحيح أن المخلوق إذا نزل إلى المصباح صار السطح فوقه وصار سطح المصباح يقله، لكن الخالق لا يمكن أن يقاس بخلقه، فلا تقل: كيف؟ ولم؟
فإذا هذان السؤالان: هل السماء تقله؟
الجواب: لا لأنك إن فرضت هذا لزم أن يكون الله محتاجا إلى السماء، والله تعالى غني عن كل شيء، وكل شيء محتاج إليه.
والسؤال الثاني: هل تكون السماوات فوقه ما عدا السماء الدنيا؟
الجواب: لا؛ لأنك لو فرضت ذلك لزم انتفاء صفة العلو لله مع أن العلو من صفات الله الذاتية التي لا ينفك عنها.
فالسؤال هذا من أصله بدعة كما قال مالك للذي سأله عن الاستواء كيف استوى؟ قال: "السؤال عنه بدعة " يعني لأنه ما سأل الصحابة عنه، فأنت الآن ابتدعت في دين الله حيث سألت عن أمر ديني ما سأل عنه الصحابة وهم أفضل منك، وأحرص منك على العلم بصفات الله، لكن مع ذلك لو قال: أنا يساورني القلق أخشى أن أعتقد بصفات الله ما لا يجوز، فبينوا لي وأنقذوني، فحينئذ نبين له لأن الإنسان قد يبتلى بمثل هذه(1/206)
الأمور، ويأتيه الشيطان ويوسوس له، ويقول: كيف؟ وكيف؟ حتى يؤدي به إلى أحد محذورين: إما التمثيل، وإما التعطيل، فإذا جاءنا يسأل ويقول: أنقذوني ما زال هذا يتردد في خاطري ما يكفيني أن تقولوا: بدعة كيف أذهب ما في خاطري وقلبي. نقول: نبين لك.
(100) وسئل: هل الذي ينزل هو الله عز وجل أو لا؟
فأجاب بقوله: ذكرنا فيما سبق أن الذي ينزل هو الله نفسه، هكذا قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو أعلم الخلق به، وأنصحهم، وأفصحهم مقالا، وأصدقهم فيما يقول: فهو أعلم، وأنصح، وأفصح، وأصدق، وكل هذه الصفات الأربع موجودة في كلامه عليه الصلاة والسلام، فوالله ما كذب في قوله: «ينزل ربنا» ولا غش الأمة ولا نطق بعي ولا نطق عن جهل {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} بل هو الصادق المصدوق صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " «ينزل ربنا عز وجل» . لكن قال بعض الناس: إن الذي ينزل أمر الله وقال آخرون: الذي ينزل رحمة الله، وقال آخرون: الذي ينزل ملك من ملائكة الله، سبحان الله هل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يعرف أن يعبر هذا التعبير لا يعرف أن يقول: تنزل رحمة الله، أو ينزل أمر الله، أو ينزل ملك من ملائكة الله؟ الجواب: يعرف أن يعبر ولو كان المراد ينزل أمره أو رحمته، أو ملكه، لكان الرسول عليه الصلاة والسلام ملبسا على الأمة حين قال: «ينزل ربنا» ولم يكن مبينا للأمة بل ملبسا عليهم؛ لأن الذي يقول: لك: «ينزل ربنا» وهو يريد ينزل أمره هل وضح لك وبين أو غشك ولبس عليك؟ الجواب: غشك ولبس عليك فإذا(1/207)
الذي ينزل هو الرب عز وجل.
وهذا التحريف ولا نقول: هذا التأويل فالقول بأن مثل هذا التحريف تأويل تلطيف للمسألة، وكل تأويل لا يدل عليه دليل فهو تحريف، نقول: هذا التحريف لا شك أنه باطل فإذا قلنا: إن الذي ينزل أمر الله في ثلث الليل فمقتضاه:
أولا: أنه في غير ثلث الليل لا ينزل أمر الله، وأمر الله نازل في كل لحظة {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} .
ثانيا: أمر الله ما ينتهي بالسماء الدنيا قال تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ} . وليس إلى السماء الدنيا فقط، فبطل هذا التحريف من جهة أن الأمر لا يختص بهذا الجزء من الليل، وأن الأمر لا ينتهي إلى السماء بل ينزل إلى الأرض.
ورحمة الله أيضا نفس الشيء نقول رحمة الله عز وجل تنزل كل لحظة، ولو فقدت رحمة الله من العالم لحظة لهلك، فكل لحظة تنزل الرحمة وتنزل إلى الأرض، إذا ما الفائدة لنا بنزول الرحمة إلى السماء فقط، إذا لم تصلنا الرحمة فلا فائدة لنا منها، فبطل تفسيره بالرحمة بل ما يترتب على تفسيره بالأمر أو بالرحمة من اللوازم الفاسدة أعظم مما يتوهمه من صرف اللفظ إلى الأمر أو الرحمة من المفاسد في تفسيره بنزول الله نفسه.
ثالثا: هل يمكن للأمر أو الرحمة أن تقول: من يدعوني فأستجيب له إلخ؟
الجواب: لا يمكن أن تقول رحمة الله من يدعوني، ولا يمكن أن يقول أمر الله: من يدعوني، فالذي يقول هو الله عز وجل كذلك إذا قيل:(1/208)
إن الذي ينزل ملك من ملائكته نقول: الملك إذا نزل إلى السماء الدنيا لا يمكن أن يقول: من يدعوني. أبدا لو قال الملك: من يدعوني صار من دعاة الشرك؛ لأن الذي يجيب الداعي إذا دعاه هو الله عز وجل فلا يمكن للملك أن يقول: هكذا، حتى لو فرض أن الله أمره أن يقول لقال: من يدعو الله فيستجيب له، ولا يمكن لملك من الملائكة وهم لا يعصون الله أن يقول: من يدعوني فأستجيب له، وبهذا بطل تحريف هذا الحديث إلى هذا المعنى أن يكون النازل ملكا.
وتحريف نصوص الصفات من القرآن والسنة يجري فيها هذا المجرى، يعني أن كل التحريفات إذا تأملتها وجدت أنه يترتب عليها من المفاسد أضعاف ما يترتب على المفاسد التي توهموها لو أجروا اللفظ على ظاهره، ولهذا نجد الصحابة رضي الله عنهم سلموا من هذا، فلا يوجد عنهم حرف واحد في تحريف نصوص الصفات؛ لأنه ليس فيها إشكال عندهم يجرونها على ظاهرها، كما يجرون آيات الأحكام على ظاهرها، والغريب أن هؤلاء الذين يحرفون في نصوص الصفات وهم لا يستطيعون أن يعقلوها لو حرف أحد من نصوص الأحكام - مع أن الأحكام مربوطة بالمصالح والمصالح للعقول فيها مدخل - لو حرف أحد في نصوص الأحكام لأقاموا عليه الدنيا، وقالوا: ما يمكن أن تخرج اللفظ عن ظاهره، مع أن الأحكام مربوطة بالمصالح والمصالح للعقل فيها مجال، لكن صفات الله غير مربوطة بهذا، صفات الله طريقها الخبر المجرد يعني ما فيه تلق في صفات الله نفيا، أو إثباتا إلا من الكتاب والسنة، ومع ذلك نجد من يلعب بنصوص الكتاب والسنة فيما يتعلق بصفات الله ويحرفها حينما يرى أن العقل يقتضي ذلك، مع أن العقل الذي يدعي أنه يقتضي ذلك، عقل(1/209)
من؟ عقل زيد أو عمرو أو بكر. . كل واحد منهم له عقل يقول: هذا هو الحق، ولهذا تجدهم يتناقضون، بل إن الواحد منهم ينقض كلامه بعضه بعضا، يؤلف كتابا فينقض به ما في الكتاب الأول وهكذا.
حجج تهافت كالزجاج تخالها ... حقا وكل كاسر مكسور
فهم يتناقضون لأنهم على غير برهان وعلى غير أساس، فلهذا نقول: الطريق السليم، والمنهج الحكيم هو: ما درج عليه السلف من إجراء هذه النصوص على ظاهرها.
فإذا قال قائل: ظاهرها التمثيل.
قلنا له: أخطأت ليس ظاهرها التمثيل، وكيف يكون ظاهرها التمثيل وهي مضافة إلى الله تعالى والله لا يماثله أحد في ذاته فكذلك في صفاته. فمثلا قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} إذا قال: أنا لا أثبت الوجه حقيقة لأن ظاهره التمثيل، نقول: أخطأت ليس ظاهره التمثيل؛ لأن الله تعالى لم يذكر وجها مطلقا حتى يحمل على المعهود، وإنما ذكر وجها مضافا إلى ذاته {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} فإذا كان مضافا إلى ذاته وأنت تؤمن بأن ذاته لا تماثل ذوات المخلوقين وجب أن يكون وجهه لا يماثل أوجه المخلوقين. والله أكبر عليك لو قيل: يد الفيل ما فهمت أنها كيد الهرة؛ لأنها أضيفت إلى الفيل وليست يدا مطلقة حتى تقول: تشترك مع غيرها فلا يمكن أن تفهم من قول القائل: يد فيل أنه كقول القائل: يد هر، أبدا فيكف تفهم إذا قيل: يد الله بأنها كيد زيد أو عمرو؟ أبدا ما يمكن أن تفهم هذا، فكل من قال: إن ظاهر نصوص الصفات التمثيل فإنه كاذب سواء تعمد الكذب أم لم يتعمده؛ لأنه حتى الذي يقول عن تأويل خاطئ(1/210)
يسمى كاذبا أليس الرسول عليه الصلاة والسلام قد «قال لأبي السنابل لما أخبر بأن أبا السنابل قال لسبيعة الأسلمية: لن تنكحي حتى يمضي عليك أربعة أشهر وعشر، قال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كذب أبو السنابل.» مع أنه ما تعمد الكذب لكنه قال قولا خاطئا فنحن نقول هذا كاذب سواء تعمد أم لم يتعمد فليس في نصوص الصفات، ولله الحمد ما يقتضي التمثيل لا عقلا ولا سمعا، ثم إن لدينا آية من كتاب الله عز وجل تمحو كل ما ادعى أن فيه تمثيلا وهي قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . فأنت إذا جاءك نص إثبات فاقرنه بنص هذا النفي ولا تؤمن ببعض الكتاب وتكفر ببعض بل اقرنه به. فمثلا قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} نقول: وليس كمثل وجه الله شيء لأن الله يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وعلى هذا فقس، والأمر ولله الحمد ظاهر جدا ولولا كثرة الناس الذين سلكوا هذا المسلك أعني مسلك التأويل في قولهم والتحريف فيما نرى، لولا كثرتهم لكان الأمر غير مشكل على أحد إطلاقا؛ لأنه واضح ليس فيه إشكال، فلهذا نقول: يجب علينا أن نؤمن بأن الله عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا هو نفسه كما نؤمن بأنه هو نفسه الذي خلق السماوات وأضاف الخلق إليه، وينزل إلى السماء هو؛ لأن الإضافة في "ينزل" كالإضافة في "خلق، ويخلق "، ولا فرق فالنازل هو الله، والخالق هو الله، والرازق هو الله، والباسط هو الله، وهكذا ولا فرق بينهما، والإنسان المؤمن الذي يتقي الله عز وجل لا يمكن أن يحرف ما أضافه الله إلى(1/211)
نفسه ويضيفه إلى أمر آخر، وإذا أداه اجتهاده إلى ذلك فإنه يكون معذورا لا مشكورا؛ لأن هناك فرقا بين السعي المشكور وهو ما وافق الحق، وبين العمل المعذور وهو ما خالف الحق لكن نعرف من صاحبه النصح إلا أنه التبس عليه الحق، فإن في هؤلاء المئولة الذين نرى أن عملهم تحريف فيهم من يعلم منه النصيحة لله، ولكتابه، ولرسوله، وللمسلمين، لكن التبس عليهم الحق فضلوا الطريق في هذه المسألة.
وفي قوله: «فيقول: من يدعوني فأستجيب له» في هذا إثبات القول لله وأنه بحرف وصوت؛ لأن أصل القول لا بد أن يكون بصوت ولو كان قولا بالنفس لقيده الله كما قال تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ} فإذا أطلق القول فلا بد أن يكون بصوت، ثم إن كان من بعد سمي نداء، وإن كان من قرب سمي نجاء.
فإذا قال قائل: نحن لا نسمع هذا القول؟
فنقول: أخبرنا به من قوله عندنا أشد يقينا مما لو سمعنا وهو الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نعلم علم اليقين بأن الله يقول: بخبر أصدق الخلق صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونحن لو سمعنا قولا، لظننا أنه وجبة شيء سقط، أو حفيف أشجار من رياح فنتوهم فيما نسمع لكن ما قاله رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا نتوهم فيه، فيكون خبر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندنا بمنزلة ما سمعنا بآذاننا، بل أشد يقينا، إذا صح عنه، وهذا الحديث قد صح عنه فهو متواتر أو هو مشهور مستفيض عند أهل السنة والحديث فلذلك نقول: إن الله يقول هذا فينبغي لك وأنت تتهجد لله في هذا الزمن من الليل أن تشعر بأن الله ينادي يقول: من يدعوني(1/212)
فأستجيب له، فتدعو الله تعالى وأنت موقن بهذا والدعاء أن تقول: " يا رب" فهذا دعاء.
وقوله: " من يسألني " أي من يطلب مني شيئاً مثل أن تقول: (يا رب أسألك الجنة) فهذا سؤال، واجتمع في قول القائل: يا رب أسالك الجنة الدعاء والسؤال.
وقوله: " من يستغفرني فأغفر له" أي من يطلب مني المغفرة مثل أن تقول: يا رب اغفر لي فهذا استغفار، وإذا قال القائل: "اللهم إني أسالك الجنة" فقوله: "اللهم" دعاء لأن أصلها يا الله. وقوله "أسالك الجنة" هذا سؤال فيكون فيه سؤال ودعاء وفي حديث أبي بكر الذي علمه إياه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم ".
فهذا متضمن لثلاثة، الدعاء في قوله: " اللهم "، والاستغفار في قوله: " فاغفر لي "، وفي قوله: "وارحمني " دعاء بالرحمة.
قوله: "من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له" "من " هنا اسم استفهام، والمراد به التشويق وليس المراد به الاستخبار، لأن الله عز وجل يعلم، لكن المراد به التشويق يشوق سبحانه وتعالى عباده أن يسألوه، وأن يدعوه، وأن يستغفروه وفي هذا غاية الكرم والجود من الله سبحانه وتعالى أنه هو الذي يشوق عباده إلى سؤاله، ودعائه، ومغفرته كقوله: {يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم} انظر إلى هذا الخطاب الرفيق الشيق(1/213)
ففيه التشويق والرفق {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} ولم يقل: "يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله" ما قال هكذا وإن كان قالها في آيات أخرى لكن في هذه الآية ما قال هكذا؛ لأن المقام يقتضي ذلك فالسورة كلها سورة جهاد من أولها إلى آخرها {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} . المهم أن في هذا الحديث وأمثاله من كرم الله عز وجل ما هو ظاهر لمن تأمله، وأهم شيء فيما تكلمنا عليه مسألة الصفات فأنا أكرر أن تلتزموا فيها ما التزمه السلف، وأن لا تحيدوا يمينا ولا شمالا، ولا تسألوا عما لم يسأله السلف، فإن هذا من التنطع والتكلف والابتداع في دين الله، وإني أقول لكم: إن الإنسان كلما تعمق في هذه الأمور فأخشى أن ينقص في قلبه من إجلال الله وعظمته بقدر ما حصل من هذا التعمق في البحث في هذه الأمور واسأل العامي، العامي إذا ذكرت الله عنده اقشعر جلده وإذا ذكرت نزوله إلى السماء الدنيا اقشعر جلده لكن أولئك الذين يتعمقون في الصفات ويحاولون أن يسألوا حتى عن الأظافر نسأل الله لنا ولهم الهداية هؤلاء إذا ذكر عندهم حديث النزول بدءوا يوردون على أنفسهم أو على غيرهم كيف تكون الحال وثلث الليل يتنقل على الكرة الأرضية؟ وكيف تكون الحال حين نزوله بالنسبة للعلو وبالنسبة للعرش؟
ونحو ذلك من الأسئلة التي تشطح بهم عن تعظيم الله عز وجل وهؤلاء بلا شك سينقص من إجلال الله عز وجل في قلوبهم بقدر ما حاولوا من التعمق في هذه الأمور، وليس إجلالنا لله عز وجل كإجلال الصحابة ولا قريبا منه، وليس حرصنا على العلم بصفات الله كحرص(1/214)
الصحابة وهم ما سألوا هذه الأسئلة، ولذلك - وأنا أنصحكم لله وأرجو منكم ألا تتعمقوا في هذه الأمور فتسألوا عن أشياء لم يسأل عنها الصحابة - خذوا ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واتركوا ما عدا ذلك لئلا يوقعكم الشيطان في أمر تعجزون عن التخلص منه قد يوقعكم في التمثيل ويلزمكم إلزاما بأن تعتقدوا ذلك؛ لأن الإنسان الذي يتعمق إلى هذا الحد يخشى عليه، خذوا ما جاء في الكتاب وصحيح السنة واحمدوا الله على العافية واسلكوا سبيل السابقين، والله أعلم.
(101) سئل الشيخ: كيف نجمع بين حديث أبي هريرة في النزول، وبين الواقع إذ الليل عندنا مثلا نهار في أمريكا؟
فأجاب بقوله: سؤالكم عن الحديث الصحيح الذي رواه الشيخان وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له» ، هذا لفظ البخاري في باب الدعاء والصلاة من آخر الليل. فتسألون كيف يمكن الجمع بين هذا الحديث، وبين الواقع إذ الليل عندنا مثلا نهار في أمريكا.
فجوابه: أنه لا إشكال في ذلك بحمد الله تعالى حتى يطلب الجمع، فإن هذا الحديث من صفات الله تعالى الفعلية، والواجب علينا نحو صفات الله تعالى سواء أكانت ذاتية كالوجه واليدين، أم معنوية كالحياة والعلم، أم فعلية كالاستواء على العرش والنزول إلى السماء الدنيا فالواجب علينا نحوها ما يلي:(1/215)
1 - الإيمان بها على ما جاءت به النصوص من المعاني والحقائق اللائقة بالله تعالى.
2 - الكف عن محاولة تكييفها تصورا في الذهن، أو تعبيرا في النطق؛ لأن ذلك من القول على الله تعالى بلا علم. وقد حرمه الله تعالى في قوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} . وفي قوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} . ولأن الله تعالى أعظم وأجل من أن يدرك المخلوق كنه صفاته وكيفيتها، ولأن الشيء لا يمكن إدراكه إلا بمشاهدته، أو مشاهدة نظيره، أو الخبر الصادق عنه، وكل ذلك منتف بالنسبة لكيفية صفات الله تعالى.
3 - الكف عن تمثيلها بصفات المخلوقين سواء كان ذلك تصورا في الذهن، أم تعبيرا في النطق لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .
فإذا علمت هذا الواجب نحو صفات تعالى، لم يبق إشكال في حديث النزول ولا غيره من صفات الله تعالى وذلك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبر أمته أن الله تعالى ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر مخاطبا بذلك جميع أمته في مشارق الأرض ومغاربها، وخبره هذا من علم الغيب الذي أظهره الله تعالى عليه، والذي أظهره(1/216)
عليه وهو الله تعالى عالم بتغير الزمن على الأرض، وأن ثلث الليل عند قوم يكون نصف النهار عند آخرين مثلا.
وإذا كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخاطب الأمة جميعا بهذا الحديث الذي خصص فيه نزول الله تبارك وتعالى، بثلث الليل الآخر فإنه يكون عاما لجميع الأمة، فمن كانوا في الثلث الآخر من الليل تحقق عندهم النزول الإلهي، وقلنا لهم: هذا وقت نزول الله تعالى بالنسبة إليكم، ومن لم يكونوا في هذا الوقت فليس ثم نزول الله تعالى بالنسبة إليهم، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حدد نزول الله تعالى إلى السماء الدنيا بوقت خاص، فمتى كان ذلك الوقت كان النزول، ومتى انتهى انتهى النزول، وليس في ذلك أي إشكال. وهذا وإن كان الذهن قد لا يتصوره بالنسبة إلى نزول المخلوق لكن نزول الله تعالى ليس كنزول خلقه حتى يقاس به، ويجعل ما كان مستحيلا بالنسبة إلى المخلوق مستحيلا بالنسبة إلى الخالق، فمثلا إذا طلع الفجر بالنسبة إلينا وابتدأ ثلث الليل بالنسبة إلى من كانوا غربا قلنا: إن وقت النزول الإلهي بالنسبة إلينا قد انتهى. وبالنسبة إلى أولئك قد ابتدأ، وهذا في غاية الإمكان بالنسبة إلى صفات الله تعالى، فإن الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في شرح حديث النزول: "فالنزول الإلهي لكل قوم مقدار ثلث ليلهم، فيختلف مقداره بمقادير الليل في الشمال والجنوب، كما اختلف في المشرق والمغرب، وأيضا فإنه إذا كان ثلث الليل عند قوم فبعده بلحظة ثلث الليل عند ما يقاربهم من البلاد، فيحصل النزول الإلهي الذي أخبر به الصادق المصدوق أيضا عند(1/217)
أولئك، إذا بقي ثلث ليلهم وهكذا إلى آخر العمارة". اهـ. كلامه رحمه الله.
(102) سئل الشيخ - أعلى الله درجته في المهديين: من المعلوم أن الليل يدور على الكرة الأرضية والله عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فمقتضى ذلك أن يكون كل الليل في السماء الدنيا فما الجواب عن ذلك؟
فأجاب بقوله: الواجب علينا أن نؤمن بما وصف الله وسمى به نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل، فالتحريف في النصوص، والتعطيل في المعتقد، والتكييف في الصفة، والتمثيل في الصفة أيضا، إلا أنه أخص من التكييف لأنه تكييف مقيد بمماثلة، فيجب أن تبرأ عقيدتنا من هذه المحاذير الأربعة. ويجب على الإنسان أن يمنع نفسه عن السؤال بـ "لم"؟ وكيف؟ فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته، وكذا يمنع نفسه عن التفكير في الكيفية، وهذا الطريق إذا سلكه الإنسان استراح كثيرا، وهذه حال السلف رحمهم الله ولهذا جاء رجل إلى مالك بن أنس رحمه الله قال: يا أبا عبد الله " {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} " كيف استوى؟
فأطرق برأسه وعلته الرحضاء وقال: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا مبتدعا".
وهذا الذي يقول: إن الله ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر كل ليلة، فيلزم من هذا أن يكون كل الليل في السماء الدنيا؛ لأن(1/218)
الليل يدور على جميع الأرض، فالثلث ينتقل من هذا المكان إلى المكان الآخر.
جوابنا عليه أن نقول: هذا سؤال لم يسأله الصحابة رضوان الله عليهم ولو كان هذا يرد على قلب المؤمن المستسلم لبينه الله ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونقول: ما دام ثلث الليل الأخير في هذه الجهة باقيا فالنزول فيها محقق، ومتى انتهى الليل انتفى النزول ونحن لا ندرك كيفية نزول الله ولا نحيط به علما ونعلم أنه سبحانه ليس كمثله شيء، وعلينا أن نستسلم وأن نقول: سمعنا، وآمنا، واتبعنا، وأطعنا هذه وظيفتنا.
(103) سئل الشيخ: عما جاء في صحيفة. . . من قول الكاتب: "إن نزول الله تعالى يكون في وقت لا يدريه إلا هو "؟
فأجاب بقوله: لقد وددت أن الكاتب لم يستعجل بكتابة مثل هذا الجواب؛ لأن المقام خطير حيث يتعلق بصفة من صفات الله تعالى، وهذه الجملة التي وقع عنها السؤال لعلها سهو أو سبقة قلم، فإن نزول الله تعالى في وقت معلوم، حدده وعينه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بثلث الليل، وهو واضح لا إشكال فيه، ولا يقع فيه إشكال إلا على من تصور أن نزول الله تعالى كنزول المخلوقين، أما من قدر الله تعالى حق قدره وعلم أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا ينطق بمثل هذه الأمور الغيبية إلا بما أظهره الله عليه، وأنه صادق فيما أخبر به من ذلك، فإنه لن يشكل عليه هذا الحديث، فإنه يقول: نزول الله تعالى ليس كنزول غيره، فإنه يكون نازلا إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الآخر بالنسبة(1/219)
لمن كانوا في ذلك الوقت، وليس نازلا بالنسبة لمن لم يكونوا فيه، هذا مقتضى الحديث، وليس فيه إشكال.
لذا أرجو أن يكون فيما كتبت كفاية، وأن يعيد الكاتب كتابة الجواب حسبما يتبين له من هذه الكتابة التي هي مقتضى الحديث وعين دلالته، لا أقول: لمن تأمله؛ لأنه بمنتهى الوضوح بدون تأمل والله الموفق.(1/220)
الرؤية(1/221)
(104) وسئل حفظه الله تعالى: عن مذهب السلف في رؤية الله عز وجل؟ وعمن يزعم "أن الله لا يرى بالعين وأن الرؤية عبارة عن كمال اليقين "؟
فأجاب قائلا: يقول: الله عز وجل في القرآن الكريم حين ذكر القيامة: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} . فأضاف النظر إلى الوجوه، والذي يمكن به النظر في الوجوه العين، ففي الآية دليل على أن الله سبحانه وتعالى يرى بالعين، ولكن رؤيتنا لله عز وجل لا تقتضي الإحاطة به لأن الله تعالى يقول: {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} . فإذا كنا لا يمكن أن نحيط بالله علما والإحاطة العلمية أوسع وأشمل من الإحاطة البصرية دل ذلك على أنه لا يمكن أن نحيط به إحاطة بصرية ويدل لذلك قوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} . فالأبصار وإن رأته لا يمكن أن تدركه، فالله عز وجل يرى بالعين رؤية حقيقية، ولكنه لا يدرك بهذه الرؤية، لأنه عز وجل أعظم من أن يحاط به، وهذا هو الذي ذهب إليه السلف، ويرون أن أكمل نعيم ينعم به الإنسان أن ينظر إلى وجه الله عز وجل ولهذا كان من دعاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أسألك لذة النظر إلى وجهك» . قال: "لذة النظر"؛ لأن لهذا النظر لذة عظيمة لا يدركها إلا من أدركها بنعمة من الله وفضل منه،(1/222)
وأرجو الله تعالى أن يجعلني وإياكم منهم. هذه هي حقيقة الرؤية التي أجمع عليها السلف.
أما من زعم أن الله لا يرى بالعين وأن الرؤية عبارة عن كمال اليقين فإن قوله هذا باطل مخالف للأدلة ويكذبه الواقع؛ لأن كمال اليقين موجود في الدنيا أيضا قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تفسير الإحسان: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» . وعبادتك لله كأنك تراه هذا هو كمال اليقين، فدعوى أن النصوص الواردة في الرؤية تعني كمال اليقين؛ لأن المتيقن يقينا كاملا كالذي يشاهد بالعين دعوى باطلة وتحريف للنصوص، وليس بتأويل بل هو تحريف باطل يجب رده على من قال به، والله المستعان.
(105) وسئل الشيخ: هل ثبت أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى الله عز وجل في اليقظة وفي المنام؟
فأجاب بقوله: رؤية الله عز وجل في اليقظة لم تثبت، حتى ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى ربه بعينه. ولا يمكن لأحد أن يرى الله تعالى في الدنيا بعينه يقظة؛ لأن موسى لما قال: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} قال الله له: {لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} .(1/224)
أما في المنام فقد ورد حديث في السنن صححه كثير من الحفاظ أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى ربه في المنام، وقد شرح ابن رجب هذا الحديث في رسالة مختصرة فأحيل السائل عليها.
(106) سئل فضيلة الشيخ: عما جاء في شرح لمعة الاعتقاد من قول فضيلته: " رؤية الله في الدنيا مستحيلة". وقد ذكر الشنقيطي - رحمه الله - أن رؤية الله عز وجل بالأبصار جائزة عقلا في الدنيا والآخرة، وأما شرعا فهي جائزة وواقعة في الآخرة، وأما في الدنيا فممنوعة شرعا. وما نقله النووي عن بعض أهل العلم من أن رؤية الله تعالى في الدنيا جائزة، فنرجو من فضيلتكم توضيح ذلك؟
فأجاب بقوله: ما ذكرته في شرح لمعة الاعتقاد لا ينافي ما ذكره الشيخ الشنقيطي وغيره من أن رؤية الله تعالى في الدنيا ممكنة، فإن قولي: "إنه مستحيل" أي بحسب خبر الله عز وجل بأنه لن يراه، إذ لا يمكن أن يتخلف مدلول خبره تعالى، وقد جاءت بمثل ذلك السنة، حيث قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يتحدث عن الدجال: «واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا» . أخرجه مسلم.
ثم اعلم أن المستحيل في حق الله تعالى نوعان:
أحدهما: مستحيل لكونه لا يليق بجلاله كالجهل والعجز ونحوهما، فهذا لا يمكن لمن عرف الله تعالى وقدره حق قدره أن يخطر بباله جوازه أو ينطق لسانه بسؤاله.
الثاني: مستحيل بالنسبة لغيره لكمال صفات الله تعالى، كرؤية(1/225)
الإنسان ربه في الدنيا، فإن هذا مستحيل لكون البشر لا يطيق أن يرى الله تعالى في الدنيا لنقص حياة البشر حينئذ. ولذلك تكون الرؤية ممكنة يوم القيامة؛ لأن حياة البشر حينذاك أكمل.
وعلى كل حال فقد دلت النصوص وإجماع السلف على أن الله تعالى لم يره أحد في الدنيا يقظة، وإن كان قد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما ما ظاهره أن نبينا محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى الله تعالى، فالله أعلم.(1/226)
رسالة(1/227)
من محمد الصالح العثيمين إلى أخيه المكرم الشيخ: حفظه الله تعالى وهدانا وإياه صراطه المستقيم، وجعلنا جميعا هداة مهتدين وصالحين مصلحين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فبناء على ما أوجب الله علينا من النصيحة لله تعالى، ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم، وعلى ما تقتضيه الأخوة الإيمانية من المودة والمحبة في الله ولله، فإني أبين لكم ما لاحظته في مقالات نشرت لفضيلتكم في مجلة. . . . . في العدد. . . . تحت عنوان (حوار مفتوح) وفي الأعداد. . . .،. . . .،. . . .،. . . .،. . . .، تحت عنوان (عقيدة أهل السنة في ميزان الشرع) .
وذلك في النقاط التالية:
أولا: ذكرتم أن الأشعرية والماتريدية من أهل السنة والجماعة في باب أسماء الله وصفاته، وذلك بناء على تقسيمكم مذهب أهل السنة والجماعة إلى مذهبين:
أحدهما: مذهب السلف الذي ذكرتم أنه اشتهر بمذهب أهل التفويض.
والثاني: مذهب الخلف الذي اشتهر بمذهب أهل التأويل.
والحق أن هذا التقسيم غير صحيح وذلك.
1 - لأنه لا يمكن عقلا: ولا شرعا أن نجمع في وصف واحد بين طائفتين مختلفتين في طريقتهما، فهل يمكن أن نقول: إن طريقة من قال:(1/229)
إن الله استوى على عرشه حقيقة، وينزل إلى السماء الدنيا حقيقة، ويجيء للفصل بين عباده حقيقة، ويحب المقسطين حقيقة، ويرضى حقيقة، ويكره حقيقة، ويغضب حقيقة، وكل ذلك وجميع ما وصف الله به نفسه حق على حقيقته بدون تمثيل، ولا تكييف، هل يمكن أن نقول: إن طريقة هؤلاء هي طريقة من نفى حقيقة هذه الأمور وسلك فيها طريق التأويل، الذي سماه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - تحريفا كما في عقيدته الواسطية ومناظرته عليها.
إننا إن قلنا: إن طريقة أولئك هي طريقة هؤلاء فقد جمعنا بين النقيضين الإثبات والنفي، وامتناع الجمع بين النقيضين أمر معلوم عند جميع العقلاء من بني آدم.
إذا تبين ذلك تعين أن نقول: إن إحدى الطائفتين فقط هم أهل السنة والجماعة، فإما أن تكون طائفة السلف أهل التحقيق، وإما أن تكون طائفة الخلف أهل التأويل، ولا يمكن أحدا أن يقول: إن أهل السنة والجماعة طائفة الخلف دون طائفة السلف؛ لأن طائفة السلف تعني المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان من سلف الأمة، وأئمتها، ومنهم أبو الحسن الأشعري - رحمه الله - في مذهبه الذي استقر عليه أخيرا في كتابه (الإبانة) وبين أنه قائل بما قال به الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - والإمام أحمد - رحمه الله - كما تعلمون مشهور بلقب إمام أهل السنة ومذهبه في الصفات الإثبات دون التأويل، ولو كان من مذهب أهل السنة التأويل ما صح أن يطلق إمام أهل السنة على من لا يراه، إذن فأهل السنة والجماعة طائفة واحدة فقط، وهم الذين اجتمعوا على التمسك بسنة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحققوا ذلك عقيدة، وقولا، وعملا فمنهاجهم الباطن(1/230)
والظاهر ما كان عليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولهذا سموا أهل السنة لتمسكهم بها، وسموا أهل الجماعة لاجتماعهم على ذلك.
2 - أن فضيلتكم صرح في ص. . . . عدد. . . . بأن الأشعرية والماتريدية مخطئون، وإذا كانوا على السنة والجماعة فهل يصح أن نقول: إنهم مخطئون؟ هل يمكن أن تكون السنة خطأ؟ هل يمكن أن يكون الاجتماع على السنة خطأ؟ في ظني أن الجواب من فضيلتكم على هذا بالنفي الصريح البات.
وإن كنتم سامحكم الله قد قلتم في ص. . . . عدد. . . . بالحرف الواحد: "مذهب الأشاعرة على الوجه الصحيح" وهذا مناقض لكلامكم الأخير.
3 - إن شيخ الإسلام وغيره من المتكلمين في الأسماء والصفات أنكروا على الأشاعرة ومن حذا حذوهم ممن يثبتون بعض الصفات وينكرون بعضها بتأويل، وبينوا تناقضهم، وأن طريقتهم مخالفة لطريقة أهل السنة والجماعة، وأنهم يلزمهم فيما أثبتوه نظير ما يلزمهم فيما نفوه، وأن ما نفوه يمكن إثباته بمثل ما أثبتوا به ما أثبتوه، بل بما هو أبين وأظهر (راجع العقيدة الواسطية، ورسالة التدمرية) لشيخ الإسلام ابن تيمية.
إذن فمن نفى شيئا من صفات الله تعالى بتكذيب، أو تأويل فليس من أهل السنة والجماعة من أي طائفة كان، وإلى أي شخص ينتسب، ولكننا لا ننكر أن يكون لبعض هؤلاء قدم صدق في الإسلام، والذب عنه، والعناية بسنة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رواية ودراية والحرص على نفع المسلمين وهدايتهم وهم على ذلك مشكورون، وبما وعد الله عليه من الثواب مجزيون ولهم منا على ذلك المودة، والمحبة، والدعاء بالمغفرة(1/231)
والرحمة، ولكن يجب أن نزن لهم بالقسطاس المستقيم فننزلهم منزلتهم، ونعطيهم مالهم، ولا نضيف لهم ما ليس فيهم.
ثانيا: ذكر فضيلتكم ص. . . . عدد. . . . أن الخلاف بين أهل السنة - السلف والخلف - على ما ذكرتم خلاف بين الفاضل والأفضل، وهذا يقتضي أن يكون المرء مخيرا بين إجراء نصوص الصفات على ظاهرها اللائق بالله عز وجل، وهو ما درج عليه السلف الصالح، وبين صرفها عن ظاهرها إلى معان تخالف الظاهر، وتستلزم تعطيل حقائقها، وغاية ما في ذلك أن يكون ترك الأفضل إلى الفاضل، فمثله كمثل من زاد في الطمأنينة والخشوع والذكر في الصلاة على الوجه الموافق للأكمل ومن اقتصر في صلاته على الواجب.
وهذا الذي ذكرتم غير صحيح، فما زال أئمة أهل السنة ينكرون على من أول نصوص الصفات أو بعضها، ولولا أن كتابي هذا إلى رجل يعلم ذلك، أو يمكنه أن يعلمه بالرجوع إلى كتبهم لنقلت من كتبهم ما تيسر في هذا الباب.
ولا ريب أن تأويل نصوص الصفات عن ظاهرها تحريف محرم وذلك من وجوه:
1 - أنه جناية على النصوص حيث صرفها عن ظاهرها، والله سبحانه وتعالى خاطب الناس بلسان عربي مبين، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خاطبهم بأفصح لسان البشر، فوجب حمل كلاميهما على ظاهرهما المفهوم بمقتضى اللسان العربي، غير أنه يجب أن يصان عن التكييف، والتمثيل في صفات الله.
2 - أن صرف كلام الله عن ظاهره إلى معنى يخالفه قول على الله(1/232)
بغير علم وقد قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} . وقال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} . فالصارف لكلام الله عن ظاهره قال على الله بلا علم من وجهين:
الأول: أنه زعم أن الله لم يرد بكلامه كذا.
الثاني: أنه قال: إنه أراد به كذا لمعنى آخر لم يدل عليه ظاهر الكلام.
مثال ذلك قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} . فإذا صرف الكلام عن ظاهره قال لم يرد باليدين اليدين الحقيقيتين وإنما أراد القدرة قلنا: ما دليلك على ما نفيت؟ وما دليلك على ما أثبت؟ فإن أتى بدليل - وأنى له - وإلا كان قائلا على الله بلا علم في نفيه وإثباته.
3 - أن صرف نصوص الصفات عن ظاهرها مخالف لما كان عليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، وسلف الأمة، وأئمتها.
4 - أنه يلزم على طريقته لوازم باطلة وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم فمن ذلك:
أ - أنهم لم يصرفوا هذه النصوص إلا حين اعتقدوا أن ظاهرها مستلزم لتشبيه الله تعالى بخلقه وتشبيه الله تعالى بخلقه كفر، كما قال نعيم بن حماد الخزاعي: "من شبه الله بخلقه فقد كفر" ومن المعلوم أن(1/233)
من أبطل الباطل أن يجعل ظاهر كلام الله تعالى وكلام رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كفرا وتشبيها، وهم قد جعلوه مستلزما، أو موهما لذلك جل ربي، وكلامه عن هذا اللازم، والإيهام.
ب - أن الله تعالى لم يبين الحق الذي يجب على العباد اعتقاده في باب أسماء الله تعالى وصفاته وإنما جعل ذلك موكولا إلى عقولهم يثبتون ما شاءوا، وينكرون ما شاءوا ويئولون النصوص المثبتة لما أنكروه، وهذا من أبطل الباطل، فكيف يدع الله تعالى بيان هذا الباب الذي هو من أوجب الواجبات ويكل أمره إلى عقول متناقضة يمنع بعضها ما يوجبه الآخر، أو يجوزه على الله عز وجل.
ج - أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخلفاءه الراشدين، وسلف الأمة وأئمتها كانوا قاصرين أو مقصرين في معرفة ما يجب لله تعالى من الصفات وما يمتنع عليه إذ لم يرد عنهم حرف واحد في التأويل الذي سلكه أولئك المئولون، وحينئذ إما أن يكون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخلفاؤه الراشدون، وسلف الأمة، وأئمتها جاهلين بذلك قاصرين عن معرفته، وإما أن يكونوا عالمين به، لكن كتموه وقصروا في بيانه للناس، وكلا الأمرين باطل.
فإذا تبين ذلك علم أن الخلاف بين السلف والخلف في صفات الله تعالى ليس خلافا بين الأفضل والفاضل، ولكنه خلاف بين الواجب والمحرم والحق والباطل، وأن طريق الخلف في ذلك محرم باطل.
واعلم يا فضيلة الشيخ أن القول إذا كان باطلا محرما فلا يلزم أن يكون قائله آثما إذا كان لم يقصر في طلب الحق واتباعه، ولكن اجتهد فأخطأ، ولكن عدم إثمه عند الله تعالى لا يلزمنا أن نصوب قوله، أو(1/234)
نقول: إنه من السنة، فالتفريق بين القول والقائل، والفعل والفاعل أمر ينبغي التفطن له، والواجب علينا أن ننكر ما خالف الحق مهما كان القائل به، ومهما كان عدد القائلين، ونعتذر عن قائله إذا علمنا منه صدق النية في طلب الحق واتباع ما تبين له منه.
ثالثا: ذكر فضيلتكم ص. . . . عدد. . . . أننا إذا أخرجنا الأشاعرة والماتريدية من صف المسلمين، وجعلناهم في عداد الضالين وأسقطناهم من أهل السنة والجماعة فمعنى ذلك أن نحكم بالكفر والضلالة على ما يزيد على نسبة 95 في المائة من المسلمين.
وأظن أن فضيلتكم يعلم أنه لا يخرج الأشاعرة والماتريدية من صف المسلمين إلا جاهل بحالهم، أو جاهل بأسباب الكفر والخروج عن الإسلام، أما أهل العلم بذلك فلم يخرجوهم من الإسلام، بل ولا من أهل السنة والجماعة في غير ما خالفوا به أهل السنة والجماعة، والإنسان قد يكون فيه شعبة من المخالفة للحق، وشعبة من الموافقة له، ولا يخرجه ذلك عن أهل الحق إخراجا مطلقا بل يعطى ما يستحقه ويوصف بما هو أهله من هذا وهذا حتى يكون الوزن بالقسطاس المستقيم.
وأما أن يكون الأشاعرة والماتريدية في المسلمين بهذه النسبة 95 % فهذا أمر ينظر فيه، وحتى لو صحت هذه النسبة فإنها لا تقتضي عصمتهم من الخطأ؛ لأن العصمة في إجماع المسلمين، وإجماع المسلمين ثابت على خلاف ما كانت عليه هذه النسبة، فإن السلف الصالح من صدر هذه الأمة مجمعون على إثبات ما وصف الله به نفسه، ووصفه به رسوله، وعلى إجراء النصوص في ذلك على ظاهرها اللائق بالله تعالى من غير تأويل، وهم أحق بالاتباع وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتوى الحموية ص 87(1/235)
من المجلد الخامس من مجموع ابن القاسم للفتاوى عن ابن عبد البر قوله: "أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في الكتاب والسنة، والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئا من ذلك، ولا يحدون فيه صفة محصورة". اهـ. ونقل أيضا ص 89 منه عن القاضي أبي يعلى قوله: "لا يجوز رد هذه الأخبار ولا التشاغل بتأويلها، والواجب حملها على ظاهرها، وأنها صفات لله لا تشبه صفات سائر الموصوفين بها من الخلق، ولا يعتقد التشبيه فيها ولكن على ما روي عن الإمام أحمد وسائر الأئمة ". اهـ.
وبهذا تبين أن أهل السنة مجمعون على خلاف ما كان عليه أهل التأويل وإجماعهم هو الحجة الظاهرة.
رابعا: ذكر فضيلتكم ص. . . . عدد. . . . كلاما هذا نصه: "أما ما يتخيله بعض الجهلة من أدعياء العلم اليوم الذين يصورون الله تعالى بصورة غريبة عجيبة، ويجعلون الله تعالى كأنه جسم مركب من أعضاء وحواس، له وجه، ويدان، وعينان، وله ساق، وأصابع، وهو ينزل، ويمشي، ويهرول، ويقولون في تقرير هذه الصفات: إن الله يجلس كما يجلس الواحد على السرير وينزل كما ينزل أحدنا على الدرج"، ثم ذكرتم أن السلف الصالح رضوان الله عليهم لم يكن يخطر ببالهم عندما أثبتوا الصفات شيء من هذا أصلا، بل لم يكن يتلفظ الواحد منهم بمعنى الاستواء حتى لا يتوهم السامع التشبيه ثم نقلتم قول مالك المشهور فيه.
وليت غيرك قال هذا فإنه من الغريب العجيب أن تجعل ما نطق به الكتاب، والسنة، وأجمع عليه سلف الأمة تخيلا من بعض الجهلة.(1/236)
ألم تقرأ قول الله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} .
أم تقرأ قوله تعالى عنه نفسه: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} . وقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} .
ألم تقرأ قوله تعالى عن سفينة نوح: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} . وقوله لموسى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} . ألم يبلغك ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقا واحدا» قال ابن كثير في تفسير سورة "ن": وهذا الحديث مخرج في الصحيحين وفي غيرهما من طرق، وله ألفاظ وهو حديث طويل مشهور.
ألم تسمع بما رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن؟» . وبما رواه هو والبخاري وغيرهما من حديث ابن مسعود رضي الله عنه في قصة «الحبر الذي جاء إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا محمد إن الله يمسك السماوات يوم القيامة على إصبع، والأرضين على إصبع، وذكر الحديث وفيه: فضحك النبي صلى الله عليه»(1/237)
«وسلم تعجبا وتصديقا له ثم قرأ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} » . . وبما رواه البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن الله تعالى يقبض يوم القيامة الأرضين على إصبع وتكون السماوات بيمينه ثم يقول: أنا الملك» . قال ابن كثير في تفسيره آخر سورة الزمر: تفرد به يعني البخاري من هذا الوجه ورواه مسلم من وجه آخر.
ألم يثبت عندك ما رواه أبو هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له؟» وهذا الحديث رواه البخاري ومسلم وغيرهما حتى قال ابن القيم في الصواعق: " إنه قد تواترت به الأخبار عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورواه عنه نحو ثمان وعشرين نفسا من الصحابة ". اهـ. مختصر الصواعق ص 380 ط الإمام. ثم ذكر بعد ذلك أسماء الصحابة الذين رووه وأحاديثهم فراجعه، وراجع شرح الحديث المذكور لشيخه ابن تيمية يتبين لك حقائق وتنحل عنك إشكالات. والله الموفق.
ألم يرو البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «يقول: الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة"» . وروى مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى(1/238)
الله عليه وسلم مثله فيمن تقرب إلى الله تعالى. فارجع إلى حديث أبي هريرة في البخاري ص 384 من الفتح ط السلفية وفي مسلم ص 2068 ط الحلبي تحقيق محمد فؤاد وإلى حديث أبي ذر في نفس الصفحة من مسلم.
ألم يقل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله لا يخفى عليكم إن الله ليس بأعور وأشار بيده إلى عينه وإن المسيح أعور عين اليمنى كأن عينه عنبة طافية» . متفق عليه وهذا لفظ البخاري.
فهذه الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الصحيحة فيها الدلالة الصريحة على ثبوت الوجه، واليدين، والعينين، والساق، والأصابع، والنزول والهرولة لله جل وعلا. فهل فوق علم الله علم؟ وهل فوق علم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بربه علم البشر؟ وهل يمكن أن يقال: لما ثبت في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنه من تخيل بعض الجهلة أدعياء العلم؟ سبحانك هذا بهتان عظيم.
نعم من اعتقد أن هذه الصفات ثابتة لله تعالى على وجه تماثل به صفات المخلوق، أو أنها موهمة لذلك فإنه من الجهلة أدعياء العلم أما من اعتقد ثبوتها لله تعالى على الوجه اللائق به من غير تكييف، ولا تمثيل فذاك هو العالم بالله، المعظم لكتابه، السالك مسلك الأدب معه، ومع رسوله حيث لم يقدم بين يدي الله ورسوله، ولم يدع في كلامهما ما هو خلاف ظاهره وينف ما هو ظاهره.
وأما قولكم: "إن السلف لم يكن يخطر ببالهم حين أثبتوا الصفات شيء من هذا أصلا، وأن الواحد منهم لم يكن يتلفظ بمعنى الاستواء" إلخ.(1/239)
فإني أظن أنكم لو تأملتم طريقة السلف لعلمتم أنها على خلاف قولكم هذا عنهم، فإن السلف كان يخطر ببالهم أنها ثابتة بدون تكييف ولا تمثيل، فقد خطر ببالهم الحق والباطل فيما يتعلق بصفات الله تعالى، فأثبتوا الحق ونفوا الباطل، ولم يكونوا بحمد الله بلهاء لا يخطر ببالهم شيء أو لا يميزون بين الحق والباطل، وتفسيرهم لآيات الصفات وأحاديثها على الوجه اللائق بالله تعالى أمر معلوم يسير تتبعه على فضيلتكم، ومنه ما جاء في كتاب التمهيد لابن عبد البر ص 131 ج 7 حيث قال: "والاستواء معلوم في اللغة ومفهوم، وهو العلو والارتفاع على الشيء والاستقرار، والتمكن فيه، قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {اسْتَوَى} قال علا قال: وتقول العرب استويت فوق الدابة واستويت فوق البيت، وقال غيره: استوى أي انتهى شبابه واستقر فلم يكن في شبابه مزيد. قال أبو عمر: الاستواء الاستقرار في العلو وبهذا خاطبنا الله عز وجل ثم ذكر آيات الزخرف، وهود، والمؤمنون.
وذكر البخاري في صحيحه "عن أبي العالية: استوى إلى السماء ارتفع. وقال مجاهد: استوى علا على العرش". اهـ. ص 403 فتح ط السلفية وقال البغوي في تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} . قال ابن عباس وأكثر مفسري السلف: أي ارتفع إلى السماء. وقال في تفسير قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} . قال الكلبي ومقاتل: استقر وقال أبو عبيدة: صعد.
فهذه أيها الشيخ أربعة معان للاستواء عند السلف وإليها أشار ابن(1/240)
القيم في نونيته حيث قال:
فلهم عبارات عليها أربع ... قد حصلت للفارس الطعان
وهي استقر وقد علا وكذا ار ... تفع الذي ما فيه من نكران
وكذاك قد صعد الذي هو رابع ... وأبو عبيدة صاحب الشيباني
يختار هذا القول في تفسيره ... أدرى من الجهمي بالقرآن
أفبعد إثبات أربعة معان للاستواء عن السلف يصح أن نقول: إن الواحد منهم لم يكن يتلفظ بمعنى الاستواء؟
وأما جواب مالك لمن سأله عن كيفية الاستواء بقوله: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول" فإن مالكا لم يسأل عن معنى الاستواء حتى يقال: إنه أحجم عن الإفصاح بمعناه، وإنما سئل عن الكيفية، فأجاب بأنها مجهولة لنا، ولكن لقوة احتراسه خاف أن يتوهم واهم بأن المعنى مجهول أيضا فقال: الاستواء معلوم ولم يفصح بالمعنى لظهوره، ولذلك لم يقع السؤال عنه.
وأما قول فضيلتكم: "إن بإمكان مالك أن يقول: الاستواء هو الجلوس" فلا أظن ذلك بإمكانه لأن تفسير الاستواء بالجلوس لم يثبت عن السلف فيما أعلم. والله أعلم.
خامسا: ذكر فضيلتكم في ص. . . . عدد. . . . أن الأشاعرة ذكروا هذا الكلام لأنه ظهر في عصرهم ناس ضلوا بسبب العقيدة فأولوا هذه الصفات دفعا لأولئك منهم على نية حسنة. . . . فالأشاعرة إنما أرادوا تنزيه الله جل وعلا لئلا يضل بعض الناس بتشبيه الخالق بعباده.
وهذا الذي ذكرتموه قد يكون هو الواقع من بعضهم، وقد يكون الواقع للآخرين أن هذا هو عقيدتهم، وأنهم يعتقدون أن إثبات الحقيقة يستلزم التشبيه.(1/241)
وعلى كل حال فهذا مسلك فاسد إذ لا يمكن معالجة الداء بداء، ولا تفنيد البدعة ببدعة، وإنما يعالج الداء بالدواء الناجع، وتفند البدعة بالسنة، ولهذا لم يأت الأشاعرة بطائل في الرد على أهل التأويل الكلي في الصفات، فإن من المعروف أن الأشاعرة لا يثبتون من الصفات إلا سبعا وهي: الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام، على خلاف بينهم وبين السلف في كيفية إثبات بعضها، أما ما عدا هذه الصفات فإنهم ينكرون حقيقتها بتأويلها إلى ما زعموا أن العقل يجيزه دون الحقيقة. فإن أهل التأويل الكلي استطالوا على الأشاعرة فقالوا: إذا كنتم تبيحون لأنفسكم التأويل فيما أولتموه بدون دليل سمعي بل بمقتضى عقولكم فلماذا تنكرون علينا ما أولناه بمقتضى عقولنا مما لا تئولونه، فإن كانت عقولنا خاطئة فأين الصواب في عقولكم؟ وإن كانت عقولكم صائبة فأين الخطأ في عقولنا؟ وليس لكم علينا حجة في الإنكار سوى مجرد التحكم. وهذا الإيراد من أهل التأويل الكلي على الأشاعرة وارد لا محيص للأشاعرة عنه إلا بالرجوع لمذهب السلف الذين يطردون هذا الباب، ويثبتون لله تعالى ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات في كتابه، أو على لسان رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إثباتا بلا تمثيل ولا تكييف، وتنزيها بلا تعطيل، ولا تحريف.
ولا يكفي في قبول القول وإقراره حسن قصد قائله بل لا بد من موافقته لشريعة الله تعالى، فإن كان مخالفا وجب رده وإنكاره مهما كان قائله، لكن إن كان قائله ممن عرف بحسن القصد والنصيحة لدين الله وعباد الله اعتذر عنه في هذه المخالفة، وإلا أعطي ما يستحقه لسوء قصده ومخالفته.(1/242)
سادسا: ذكر فضيلتكم ص. . . ص. . . أن الأسلم في موضوع الصفات أن نفوض الأمر إلى علام الغيوب الذي لا تخفى عليه خافية وفي ص. . . عدد. . . قلتم: وضمن هذا الإطار الذي فيه تنزيه الله جل وعلا عن مشابهته الخلق، أو مشابهة الخلق له يؤمن السلف الصالح بجميع ما ورد من آيات الصفات وأحاديث الصفات، ويفوضون علم ذلك إلى الله تعالى. . . وقد اشتهر هذا المذهب بأنه مذهب أهل التفويض. وفي ص. . . عدد. . . ذكرتم أنه اشتهر لعلماء أهل السنة مذهبان هما:
أ - مذهب أهل التفويض.
ب - مذهب أهل التأويل.
ثم ذكرتم ص. . . عدد. . . أن مذهبهم ليس التفويض المطلق كما قد يتوهم البعض من الناس وإنما هو مسلك آخر، ثم ذكرتم أنه يتلخص في شيئين:
أحدهما: تأويل ما لا بد من تأويله من آيات الصفات وأحاديثها.
والثاني: إثبات ما أثبته القرآن أو السنة والإيمان بها على مراد الله بطريق التسليم والتفويض دون تشبيه، أو تعطيل، أو تجسيم، أو تمثيل. . . على ضوء هذا يؤمن السلف الصالح في نفي المثلية ونفي التجسيم.
والتفويض الذي ذكرتموه هنا لم تبينوا بيانا ظاهرا ما المراد به؟ هل هو تفويض المعنى، أو تفويض الكيفية؟ فإن كان الأول فليس هذا مذهب السلف؛ لأنهم يثبتون المعنى على حقيقته ويعرفونه تمام المعرفة لكن على الوجه اللائق بالله تعالى من غير تكييف، ولا تمثيل قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه المعروف بـ (العقل والنقل) الذي طبع على هامش كتابه (منهاج السنة) في ص 116 ج 1: "وأما التفويض فمن المعلوم أن الله أمرنا أن نتدبر القرآن وحضنا على عقله وفهمه، فكيف يجوز مع ذلك أن يراد منا(1/243)
الإعراض عن فهمه ومعرفته وعقله". إلى أن قال: "فتعين أن يكون الحق مذهب السلف أهل الحديث والسنة والجماعة" وقال في ص 118 بعد كلام سبق: "ومعلوم أن هذا قدح في القرآن وفي الأنبياء، إذ كان الله أنزل القرآن وأخبر أنه جعله هدى وبيانا للناس، وأمر الرسول أن يبلغ البلاغ المبين، وأن يبين للناس ما نزل إليهم، وأمر بتدبر القرآن وعقله، ومع هذا فأشرف ما فيه وهو ما أخبر به الرب عن صفاته. . . لا يعلم معناه فلا يعقل، ولا يتدبر، ولا يكون الرسول بين للناس ما نزل إليهم، ولا بلغ البلاغ المبين وعلى هذا التقدير فيقول كل ملحد، وكل مبتدع: الحق في نفس الأمر ما علمته برأيي وعقلي، وليس في النصوص ما يناقض ذلك؛ لأن تلك النصوص مشكلة متشابهة، ولا يعلم أحد معناها، وما لا يعلم أحد معناه لا يجوز أن يستدل به، فيبقى هذا الكلام سدا لباب الهدى والبيان من جهة الأنبياء، وفتحا لباب من يعارضهم، ويقول: إن الهدى والبيان في طريقنا، لا في طريق الأنبياء لأنا نحن نعلم ما نقول ونبينه بالأدلة العقلية، والأنبياء لم يعلموا ما يقولون، فضلا عن أن يبينوا مرادهم، فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف من شر أقوال أهل البدع والإلحاد". اهـ. كلام الشيخ.
وعلى هذا فيجب الإفصاح عن المراد بالتفويض في كلامكم وبيان أنه تفويض الكيفية لا المعنى الحقيقي لئلا يعتقد القارئ أنكم تريدون تفويض المعنى الذي هو من شر أقوال أهل البدع والإلحاد لما يلزم عليه من اللوازم الباطلة التي ذكر بعضها شيخ الإسلام في كلامه هذا.
ولا يكفي في الإفصاح عن ذلك قولكم: "والإيمان به على مراد الله" فإن مراد الله على رأي المفوضين للمعنى غير معلوم لهم، وإن كان هو(1/244)
معلوما لغيرهم حيث يؤمنون بأن الله تعالى أراد بها المعنى الحقيقي الذي يدل عليه اللسان العربي الذي نزل به القرآن لكنه على الوجه اللائق بالله تعالى من غير تكييف، ولا تمثيل.
وقولكم: "إن مذهب السلف يتلخص في شيئين: أحدهما: تأويل ما لا بد من تأويله" إلخ قول غير صحيح، فإن السلف بحمد الله لم يكونوا يئولون شيئا من نصوص الصفات عن ظاهره كما يفعله أهل التأويل، وإنما كانوا يجرونها على حقيقتها وظاهرها على ما أراده الله ورسوله. وقد تقدم ما نقلناه عن ابن عبد البر، والقاضي أبي يعلى من حملها كلها على الحقيقة، وأنه لا يجوز التشاغل بتأويلها.
وقد ذكر فضيلتكم في ص. . . وما بعدها من العدد. . . أمثلة ذكرتم أنه لا بد من تأويلها وسوف نذكرها ونبين بحول الله وهدايته أنه ليس فيها من تأويل أهل التعطيل شيء حتى يمكن أن تكون حجة لهم على أهل الإثبات بالموافقة أو المداهنة كما قلت أنت في ص. . . عدد. . . بالحرف الواحد. "فلماذا نحكم بضلال الأشاعرة بسبب التأويل ونبيح لأنفسنا التأويل".
ونحن نجيب عن الأمثلة التي ذكرتم بجوابين مجمل ومفصل:
أما المجمل: فإن التأويل الذي سلكه النفاة صرف اللفظ عن ظاهره لصارف من عند أنفسهم لا يدل عليه سياق الكلام والتأويل الذي سلكه أهل الإثبات في بعض ما ذكرتموه ليس صرفا للكلام عن ظاهره؛ لأن في سياقه ما يدل على المعنى المراد، ولا ريب أن ظاهر الكلام ما دل عليه سياقه بحسب الوضع اللغوي أو حال المتكلم عنه.(1/245)
وأما المفصل:
فالمثال الأول قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} . ذكر فضيلتكم أنها مئولة إلى معنى القصد والإرادة، ولا ريب أن هذا المعنى قال به طائفة من أهل السنة وذلك من أجل تعدية الفعل بـ (إلى) الدالة على الغاية والانتهاء، والفعل قد يضمن معنى يخالف المعنى المشتق منه من أجل الحرف المعدى به ألا ترى قوله تعالى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} . حيث كان الفعل {يَشْرَبُ} بمعنى (يروى) من أجل تعديه بـ (الباء) ، وعلى هذا فليس في الكلام صرف عن ظاهره لوجود دليل في السياق يقتضي هذا المعنى.
والقول الثاني لأهل السنة أن {اسْتَوَى} بمعنى ارتفع كما نقله البغوي في تفسيره عن ابن عباس، وأكثر المفسرين تمسكا بظاهر معنى الفعل وتفويضا لكيفية هذا الارتفاع إلى الله تعالى والله أعلم.
المثال الثاني والثالث: قوله تعالى في سورة الحديد: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} . وقوله في سورة المجادلة: {وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} . ذكر فضيلتكم أن السلف أولوا المعية إلى معنى العلم، ثم ذكرتم تعليل ذلك في آية سورة الحديد بأنه كيف يكون الله تعالى على عرشه وهو مع كل إنسان في كل مكان، وذكرتم في آية المجادلة(1/246)
أن السلف لم يفسروها بمعية الذات لئلا تتعدد الذات الإلهية.
ولا ريب أن السلف فسروا معية الله تعالى لخلقه في الآيتين بالعلم وحكى بعض أهل العلم إجماع السلف عليه، وهم بذلك لم يئولوها تأويل أهل التعطيل، ولم يصرفوا الكلام عن ظاهره وذلك من وجوه ثلاثة:
الأول: أن الله تعالى ذكرها في سورة المجادلة بين علمين فقال في أول الآية: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} . وقال في آخرها: {أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فدل ذلك على أن المراد أنه يعلمهم ولا يخفى عليه شيء من أحوالهم.
الثاني: أن الله تعالى ذكرها في سورة الحديد مقرونة باستوائه على عرشه الذي هو أعلى المخلوقات فقال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} إلى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} . فدل على أن المراد معية الإحاطة بهم علما وبصرا، لا أنه معهم بذاته في كل مكان وإلا لكان أول الآية وآخرها متناقضا.
الثالث: أن العلم من لوازم المعية، ولازم اللفظ من معناه فإن دلالة اللفظ على معناه من وجوه ثلاثة: دلالة مطابقة، ودلالة تضمن، ودلالة التزام ولهذا يمكن أن نقول: هو سبحانه معنا بالعلم، والسمع، والبصر، والتدبير والسلطان وغير ذلك من معاني ربوبيته كما قال تعالى لموسى وهارون: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} . وقال هنا في سورة الحديد:(1/247)
{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} . فإذا كان العلم من لوازم المعية صح أن نفسرها به وبغيره من اللوازم التي لا تنافي ما ثبت لله تعالى من صفات الكمال ولا يعد ذلك خروجا بالكلام عن ظاهره.
على أن من المحققين من علماء أهل السنة من فسر المعية بظاهرها على الحقيقة اللائقة بالله تعالى وقال: لا يمتنع أن يكون الله تعالى معنا حقيقية وهو على عرشه حقيقة كما جمع الله تعالى بينهما في آية سورة الحديد. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية ص 142 من المجلد الثالث من مجموع الفتاوى لابن قاسم: "وكل هذا الكلام الذي ذكره الله سبحانه من أنه فوق العرش وأنه معنا، حق على حقيقته، لا يحتاج إلى تحريف، ولكن يصان عن الظنون الكاذبة" وقال قبيل ذلك: "وليس معنى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ} أنه مختلط بالخلق فإن هذا لا توجبه اللغة، وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة وخلاف ما فطر الله عليه الخلق، بل القمر آية من آيات الله من أصغر مخلوقاته هو موضوع في السماء وهو مع المسافر وغير المسافر أينما كان، وهو سبحانه فوق العرش رقيب على خلقه مهيمن عليهم مطلع إليهم إلى غير ذلك من معاني ربوبيته. وقال في الفصل الذي يليه ص 143: "وما ذكر في الكتاب والسنة من قربه ومعيته، لا ينافي ما ذكر من علوه وفوقيته، فإنه سبحانه ليس كمثله شيء في جميع نعوته، وهو علي في دنوه قريب في علوه". اهـ.
وقال في الفتوى الحموية ص 102 من المجلد الخامس من مجموع الفتاوى لابن القاسم: "ولا يحسب الحاسب أن شيئا من ذلك (يعني مما جاء في الكتاب والسنة) يناقض بعضه بعضا البتة، مثل أن يقول القائل:(1/248)
ما في الكتاب والسنة من أن الله فوق العرش يخالفه الظاهر من قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الله قبل وجهه» . ونحو ذلك فإن هذا غلط وذلك أن الله معنا حقيقة وهو فوق العرش حقيقة كما جمع بينهما في قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} . فأخبر أنه فوق العرش يعلم كل شيء وهو معنا أينما كنا كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث الأوعال: «والله فوق العرش وهو يعلم ما أنتم عليه» وذلك أن كلمة "مع" في اللغة إذا أطلقت فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة من غير وجوب مماسة أو محاذاة عن يمين أو شمال، فإذا قيدت بمعنى من المعاني دلت على المقارنة في ذلك بالمعنى، فإنه يقال: ما زلنا نسير والقمر معنا أو النجم معنا، ويقال: "هذا المتاع معي لمجامعته لك وإن كان فوق رأسك فالله مع خلقه حقيقة وهو فوق عرشه حقيقة ". اهـ.
وليس تفسير المعية بمعناها الحقيقي اللائق بالله تعالى بمناف لما فسرها به السلف من العلم، فإن العلم من لوازم معناها، ولازم المعنى منه فلا يناقض حقيقته.
وتفسير المعية بمعناها الحقيقي لا يقتضي أن الله تعالى حال مع خلقه في أمكنتهم، ولا يدل على ذلك بأي وجه من وجوه الدلالة، ولا يفهم ذلك منه إلا من غلظ طبعه عن معرفة اللغة، وحجب قلبه عن تعظيم الله تعالى ومعرفة ما يجب له من الكمال والجلال، ولم يفهم أحد من السلف(1/249)
عن معية الله لخلقه هذا الفهم الخاطئ الضال، وإنما فهمه الحلولية الذين لم يقدروا الله حق قدره من قدماء الجهمية وغيرهم، ولا ريب أن من اعتقد ذلك في الله تعالى فهو كافر أو ضال، ومن نقله عن غيره من السلف أو الأئمة فهو كاذب.
المثال الرابع والخامس: قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} . وقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ} .
ذكر فضيلتكم على المثال الرابع ما نصه: " كيف يمكن فهم النص الكريم بدون تأويل {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} . هل الله تعالى ملتصق بالإنسان التصاق عرق الوريد؟ أليس في هذا الفهم الخاطئ ما يؤيد دعاوى بعض أهل الضلال من جهلة المتصوفة، أو الزنادقة والملاحدة الذين يقولون بالحلول والاتحاد؟ ".
وذكرتم على المثال الخامس {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ} قولين أحدهما: أقرب إلى الميت بعلمنا واطلاعنا. والثاني: أقرب إليه بملائكتنا الحاضرين لقبض روحه.
ولا ريب أن للعلماء في تفسير الآيتين قولين:
أحدهما: أن المراد به قربه تعالى بعلمه وإحاطته، والذين فسروه بذلك ظنوا أن تفسيره بقرب ذاته يستلزم الحلول والاتحاد، أو يوهم ذلك ففروا منه إلى تفسيره بالعلم والإحاطة وسندوا تفسيرهم بأمرين:
1 - أن الله تعالى ذكر القرب في سورة "ق" بعد العلم فقال: {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} فدل ذلك(1/250)
على أن المراد قربه بعلمه وإحاطته.
2 - أن العلم من لوازم القرب إذا كان القريب كامل الصفات ولازم اللفظ من معناه - كما سبق في كلامنا على المعية - وتفسير اللفظ بلازم معناه لا سيما مع وجود قرائن لفظية في السياق لا يخرج الكلام عن ظاهره، ولا يعد تأويلا.
القول الثاني: أن المراد بقربه تعالى قرب ملائكته وسندوا تفسيرهم بأمرين أيضا:
أحدهما: أن الله تعالى ذكر القرب مقيدا فقيده في سورة ق بقوله: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} . فإن قوله: {إِذْ يَتَلَقَّى} متعلق بقوله: {أَقْرَبُ} فيكون هذا تفسيرا لمعنى القرب وقيده في سورة الواقعة بحال الاحتضار فقال: {وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ} . ثم إن في قوله: {وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ} . دليلا على أن هذا الأقرب في نفس المكان ولكن لا نبصره وهذا لا يكون إلا للملائكة لأن الله تعالى لا يمكن أن يحل في مكان المحتضر.
والشيء إذا أضافه الله تعالى إلى نفسه بلفظ الجمع لم يمتنع أن يراد ملائكته كما في قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} . والذي يقرأه على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو جبريل، وإذا كان في الكلام ما يدل على المراد من سياق الكلام، أو قرائن الأحوال لم يكن تفسيره بمقتضى ذلك صرفا للكلام عن ظاهره، ولا يعد تأويلا.(1/251)
والقول الثاني في تفسير القرب في الآيتين هو ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وضعف تفسيره بالعلم والإحاطة، وقال في شرح حديث النزول ص 494 ج 5 من مجموع الفتاوى لابن قاسم: "ليس في الكتاب والسنة وصفه بقرب عام من كل موجود حتى يحتاجوا أن يقولوا بالعلم والقدرة والرؤية" قال: "وكأنهم ظنوا أن لفظ القرب مثل لفظ المعية". ثم ذكر الفرق بينهما بمقتضى النص واللغة وقال ص 502: " فلا يجعل لفظ مثل لفظ مع تفريق القرآن بينهما".
وأما القرب المذكور في قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} .
والقرب المذكور في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما رواه أبو موسى عنه: «أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم، ولا غائبا، تدعون سميعا بصيرا قريبا» . رواه البخاري في الباب التاسع من كتاب التوحيد. ومسلم في الباب الثالث عشر من كتاب الذكر والدعاء وزاد: «والذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلة أحدكم» . ورواه أحمد في المسند ص 402 ج 4 بلفظ «من عنق راحلته» .
أقول: أما القرب المذكور في هذه الآية والحديث فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في شرح حديث النزول ص 508 ج 5 من مجموع الفتاوى لابن قاسم: " فهنا هو نفسه سبحانه وتعالى القريب المجيب الذي يجيب دعوة الداعي لا الملائكة" إلى أن قال ص 510: "وأما قرب الرب قربا يقوم به بفعله القائم بنفسه فهذا تنفيه الكلابية، ومن يمنع قيام(1/252)
الأفعال الاختيارية بذاته، وأما السلف وأئمة الحديث والسنة فلا يمنعون ذلك وكذلك كثير من أهل الكلام". وقال قبل ذلك ص 466: " وأما دنوه بنفسه وتقربه من بعض عباده فهذا يثبته من يثبت قيام الأفعال الاختيارية بنفسه ومجيئه يوم القيامة، ونزوله واستواءه على العرش، وهذا مذهب أئمة السلف وأئمة الإسلام المشهورين، وأهل الحديث والنقل عنهم بذلك متواتر".
وقال قبل ذلك ص 460: " وأصل هذا أن قربه تعالى ودنوه من بعض مخلوقاته لا يستلزم أن تخلو ذاته من فوق العرش، بل هو فوق العرش ويدنو من خلقه كيف يشاء كما قال ذلك من قاله من السلف". ا. هـ. وقد سبق ما نقلناه عن العقيدة الواسطية له من أن ما ذكر في الكتاب والسنة من قربه ومعيته لا ينافي ما ذكر من علوه وفوقيته، فإنه ليس كمثله شيء في جميع نعوته فهو علي في دنوه قريب في علوه.
وقال محمد بن الموصلي في مختصره للصواعق المرسلة لابن القيم ص 410 - 413 ط الإمام: "فهو قريب من المحسنين بذاته ورحمته قربًا ليس له نظير، وهو مع ذلك فوق سمواته على عرشه" قال: " والذي يسهل عليك فهم هذا معرفة عظمة الرب وإحاطته بخلقه، وأن السموات السبع في يده كخردلة في يد العبد، وأنه سبحانه يقبض السماوات بيده، والأرض بيده الأخرى ثم يهزهن فكيف يستحيل في حق من هذا بعض عظمته أن يكون فوق عرشه ويقرب من خلقه كيف شاء وهو على العرش ". ا. هـ.
وإنما ذهب الشيخان إلى أن المراد بالقرب في الآية والحديث قرب الله تعالى بنفسه لدلالة اللفظ عليه بدون مانع شرعي ولا عقلي.
ففي الآية الكريمة أضاف الله الضمائر من أولها إلى آخرها لنفسه(1/253)
بضمير الواحد فقال: عِبَادِي، عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ، أُجِيبُ، دَعَانِ، لِي، بِي، ومحال أن تكون هذه الضمائر لغيره.
وفي الحديث قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «" تدعون سميعًا بصيرًا قريبًا "، " والذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته» والصحابة إنما يدعون الله فيكون القريب هو نفسه، وهذا غير مستحيل بالنسبة إلى الله - تعالى - فإنه - تعالى - ليس كمثله شيء، فليس قربه لعبده كقرب غيره، بل هو قرب لا نظير له، لائق بجلاله وعظمته لا يكيف، ولا يمثل، ولا ينافي علوه، واستواءه على عرشه.
المثال السادس والسابع: قوله - تعالى - عن سفينة نوح: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} . وقوله عن موسى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} . قال فضيلتكم عن الآية الأولى: هل يصح أن نفسرها على ظاهرها أن السفينة تسير وتجري في عين الله؟ وقلتم عن الثانية: هل يفهم عاقل أن موسى ربي في عين الله؟.
والحقيقة أنه لا يمكن أن نقول: إن السفينة تجري في عين الله؟ ولا أن موسى ربي في عين الله ولكن من يقول إن هذا هو ظاهر الكلام حتى يتعين صرفه عن ظاهره؟. فالله - تعالى - لم يقل: "تجري في أعيننا" ولم يقل: " ولتصنع في عيني" حتى يقال: إن ظاهر الكلام أن عين الله ظرف للسفينة وظرف لموسى وإنما قال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} . كما قال:(1/254)
{وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} . وقد فسرها ابن عباس وقتادة بعين الله - تعالى - حقيقة نقله ابن جرير عنهما ص 309 ج 15 تحقيق محمود محمد شاكر. والمعنى: تجري مرئية بأعيننا. واصنع الفلك مرئيًّا بأعيننا وحسب وحينا، وهذا معنى صحيح موافق لظاهر الكلام غير مستحيل على الله - تعالى - فإنه قد جاء في الكتاب والسنة وإجماع السلف ثبوت العين لله - تعالى - حقيقة على الوجه اللائق به من غير تكييف ولا تمثيل.
وأما تفسيرها بمرأى منا فهو صحيح أيضًا لأنه تفسير باللازم، فإنها إذا كانت تجري بعين الله - تعالى - لزم أن يراها، والتفسير باللازم غير خارج عن دلالة ظاهر اللفظ كما سبق من أن دلالة اللفظ على معناه من وجوه ثلاثة فلا يكون تأويلا، ولا صرفًا له عن ظاهره.
وقال: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} قال ابن كثير ص 422 ج 5 ط أولى المنار: " قال أبو عمران الجوني: تربى بعين الله وقال قتادة: تغذى على عيني". ا. هـ. وهذا تفسير للعين بحقيقة معناها، والمعنى: ولتربى على مرأى مني بعيني، وهو معنى صحيح موافق لظاهر الكلام غير مستحيل على الله - تعالى - كما سبق.
وأما تفسيرها بمرأى مني فنقول فيه كما قلنا في الآية السابقة.
المثال الثامن: ذكر فضيلتكم حديث الحجر الأسود يمين الله في أرضه وذكرت في ص ... من عدد ... أنه حديث صحيح وأنه يتعين تأويله.
وهذا الحديث لا يصح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال ابن الجوزي في العلل المتناهية ص 85 ج 2 نشر إدارة العلوم الأثرية: " هذا(1/255)
حديث لا يصح، وإسحاق بن بشر قد كذبه أبو بكر بن أبي شيبة وغيره وقال الدارقطني هو في عداد من يضع الحديث". ا. هـ. وذكر حديثًا آخر من حديث عبد الله بن عمرو وقال: " لا يثبت، قال أحمد: عبد الله بن مؤمل أحاديثه مناكير، وقال علي بن الجنيد: شبه المتروك " ا. هـ. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ص 397 ج 6 من مجموع الفتاوي لابن قاسم: " روي عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بإسناد لا يثبت، والمشهور إنما هو عن ابن عباس قال: الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه. ومن تدبر اللفظ المنقول تبين له أنه لا إشكال فيه إلا على من لم يتدبره، فإنه قال: "يمين الله في الأرض" فقيده بقوله "في الأرض" ولم يطلق فيقول: يمين الله وحكم اللفظ المقيد يخالف حكم اللفظ المطلق ثم قال: فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه، ومعلوم أن المشبه غير المشبه به وهذا صريح في أن المصافح لم يصافح يمين الله أصلا، ولكن شبه بمن يصافح الله فأول الحديث وآخره يبين أن الحجر ليس من صفات الله كما هو معلوم لكل عاقل". ا. هـ. وفي سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للألباني رقم 222 ص 25 من الجزء الثالث المجلد الأول قال: هو حديث موضوع وذكره من رواية الكاهلي إسحاق بن بشر، ونقل عن ابن العربي قوله: هذا حديث باطل فلا يلتفت إليه، ثم ذكر الألباني للكاهلي متابعًا من طريق أبي علي الأهوازي وقال: إنه متهم، فالحديث باطل على كل حال، ثم نقل عن ابن قتيبة أنه أخرجه عن ابن عباس موقوفًا عليه، وقال الألباني: الموقوف أشبه وإن كان في سنده ضعيف جدًا فإن إبراهيم هذا وهو الخوزي متروك كما قاله أحمد والنسائي.
فإذا كان الحديث موضوعًا باطلا لا يثبت عن النبي صلى الله عليه(1/256)
وسلم وفي ثبوته عن ابن عباس رضي الله عنهما نظر فإنه لا يحتاج إلى الخوض في معناه، ولا وجه لإلزام أهل السنة وهم السلف بالقول بتأويله. ثم على تقدير ثبوته عن ابن عباس رضي الله عنهما وتسليم أنه من المرفوع حكمًا فإنه لا يحتاج إلى تأويل لوضوح معناه كما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله - تعالى -. المثال التاسع: ذكر فضيلتكم قوله - تعالى - في الحديث القدسي: «ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه» .
وهذا حديث صحيح خرجه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إن الله قال: «من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب» وذكر تمام الحديث.
ولا ريب أنه لا يراد من الحديث أن يكون الله تعالى وتقدس عين سمع الولي، وبصره، ويده ورجله، ولا يمكن أن يقال: إن هذا ظاهر الحديث لمن تدبره تدبرًا جيدًا حتى يقال: إنه يحتاج إلى التأويل بصرفه عن ظاهره، فإن في سياق الحديث ما يمنع القول بهذا، وذلك أن الله تعالى قال فيه: «وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه» . وقال: «ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه» . فأثبت عبدًا ومعبودًا. ومتقربًا ومتقربًا إليه. ومحبًا ومحبوبًا. وسائلا ومسؤولا. ومعطيًا ومعطى. ومستعيذًا ومستعاذًا به. ومعيذًا ومعاذًا. فسياق الحديث يدل على اثنين متباينين كل واحد منهما غير الآخر وعلى هذا فيمتنع أحدهما أن يكون وصفًا في الآخر، أو جزءًا من أجزائه، ولا يمكن لأحد أن يفهم هذا الفهم من مثل هذا(1/257)
السياق أبدًا، اللهم إلا أن يكون بليد الفكر، أو معرضًا عن التدبر، أو ذا هوى أعماه.
ولا يفهم أحد من مثل هذا السياق - إذا تدبره وكان ذا فكر سليم - إلا أن المراد به تسديد الله - تعالى - للعبد إدراكًا وعملا، بحيث يكون إدراكه بسمعه وبصره بالله ولله وفي الله وكذلك عمله بجوارحه فيتم له بذلك كمال الاستعانة، والإخلاص، والمتابعة وهذا غاية التوفيق. وهذا ما فسره به السلف وهو تفسير مطابق للفظ متعين بالسياق، وليس فيه تأويل ولا صرف للكلام عن ظاهره ولله الحمد والمنة.
المثال العاشر: ذكر فضيلتكم الحديث القدسي بلفظ: «ولئن أتاني يمشي أتيته هرولة» .
والحديث رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: يقول الله تعالى: " «أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني» وتمام الحديث: «وإن تقرب إلي شبرًا تقربت إليه ذراعًا، وإن تقرب إلي ذراعًا تقربت إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة» . ورواه مسلم من حديث أبي ذر بنحوه دون أوله.
وهذا الحديث كغيره من النصوص الدالة على قيام الأفعال الاختيارية بالله - تعالى -، وأنه - سبحانه - فعال لما يريد، كما ثبت ذلك في الكتاب والسنة مثل قوله - تعالى -: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} . وقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ}(1/258)
وقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} . وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ينزل ربنا إلى السماء الدنيا» . وقوله في هذا الحديث: «من تقرب إلي شبرًا تقربت إليه ذراعًا.. وإن أتاني يمشي أتيته هرولة» . هو من هذا الباب وكلها أفعال متعلقة بمشيئته كما قال تعالى: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} . وقال: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} . لكن أفعاله كسائر صفاته لا تكيف ولا تمثل بالمخلوقين.
وعلى هذا فنؤمن بأن الله - تعالى - يتقرب من عبده المتقرب إليه كما يشاء ويأتي هرولة لمن أتى إليه يمشي كما يشاء من غير تكييف ولا تمثيل وليس في ذلك ما ينافي كمال الله عز وجل.
وذهب بعض العلماء من أهل السنة إلى أن قوله: «أتيته هرولة» يراد به سرعة قبول الله - تعالى - وإقباله على العبد المتقرب إليه المتوجه بقلبه وجوراحه إلى ربه وقال: إن هذا هو ظاهر اللفظ بدليل أن الله - تعالى - قال: «ومن أتاني يمشي» . ومن المعلوم أن طالب الوصول إلى الله لا يطلبه بالمشي فقط بل يطلبه تارة بالمشي كالسير إلى المساجد، والمشاعر، والجهاد، ونحوها، وتارة بالركوع والسجود ونحوهما، فعلم بذلك أن المراد بذلك كيفية طلب الوصول إلى الله تعالى، وأن الله - تعالى - يجازي الطالب بأعظم من عمله وأفضل. وإذا كان هذا ظاهر اللفظ بالقرينة الشرعية(1/259)
المفهومة من سياقه لم يكن تفسيره بذلك تأويلا ولا صرفًا له عن ظاهره والله أعلم.
المثال الحادي عشر: ذكر فضيلتكم الحديث القدسي بلفظ: ابن آدم مرضت فلم تعدني، استطعمتك فلم تطعمني، استسقيتك فلم تسقني.
وهذا الحديث رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: «إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني، قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلانًا مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده» وذكر تمام الحديث رقم 43 من كتاب البر والصلة والآداب ص 1990.
وهو حديث صحيح أخذ به السلف ولم يصرفوه عن ظاهره بتأويل يتخبطون فيه بأهوائهم، وإنما فسروه بما فسره الله - تعالى - به حيث قال: «أما علمت أن عبدي فلانًا مرض» . إلخ. وقال في الإطعام: «أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي» . وقال في الإسقاء: «استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما إنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي» . وهو صريح في أن المراد مرض عبد من عباد الله، واستطعام عبد من عباد الله، واستسقاء عبد من عباد الله، والذي فسره بذلك هو الله - تعالى - الذي تكلم به، وهو أعلم بمراده، فإذا فسر بما فسره به الله - تعالى - لم يكن في ذلك صرف له عن ظاهره ولا تأويل كما لو تكلم الله - تعالى - بالمعنى ابتداء.
وهذا الحديث من أكبر الحجج الدامغة لأهل التأويل الذين صرفوا نصوص الصفات عن ظاهرها بلا دليل من كتاب الله، ولا سنة رسوله،(1/260)
ولا أقوال السلف الصالح بل بشبه واهية هم فيها متناقضون مضطربون، إذ لو كان المراد خلاف ظاهرها لبينه الله - تعالى - ورسوله ولو كان ظاهرها اللائق بالله ممتنعًا على الله - تعالى - لكان في الكتاب، والسنة من وصف الله - تعالى - بما يمتنع عليه ما لا يحصى إلا بكلفة وهذا من أكبر المحال.
المثال الثاني عشر: ذكر فضيلتكم قول الله - عز وجل -: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} . أننا نأبى أن نفهم من هذه الآية أن الله خلق الأنعام (الإبل والبقر والغنم) بيده حقيقة.
وكأنكم تريدون أن تدخلوا هذه الآية في ضمن ما أوله السلف وهذا غير صحيح فإن الآية الكريمة ليس فيها ما يدل على أن خلق هذه الأنعام بيده، بل صريح الآية أن الله - تعالى - هو الذي خلقها {خَلَقْنَا لَهُمْ} ولم يقل بيده بل قال: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} ولو كان المراد أن الله خلقها بيده لقال: " خلقنا لهم بأيدينا ". كما قال في آدم: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} . والعمل يضاف إلى اليد في اللغة والمراد بها صاحب اليد.
أرأيت قول الله - تعالى -: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} . وقوله: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} . فإن المراد بما كسب الإنسان نفسه وإن عمله بغير يده، بخلاف ما إذا قيل: " عملته بيدي " ونحوه فإنه يدل على أن اليد هي التي حصل بها الفعل.(1/261)
وعلى هذا فليس في الآية الكريمة صرف عن ظاهرها، لأنها ليس فيها ما يدل على أن الأنعام مخلوقة بيد الله وإنما تدل على أن الله - تعالى - خلق هذه الأنعام وأنها من جملة ما عمله الله - تعالى - وصنعه لنا، ولو كانت الآية كما فهم فضيلتكم أو كما حاولتم أن تؤولوها به لكانت جميع المخلوقات مخلوقة بيد الله - تعالى -.
المثال الثالث عشر: ذكر فضيلتكم قول الله - تعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} . وذكرتم عن ابن جرير فيها تأويلين: أحدهما: يد الله فوق أيديهم عند البيعة لأنهم كانوا يبايعون الله ببيعتهم نبيه، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والثاني: قوة الله فوق قوتهم في نصرة رسوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنهم بايعوا رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، على نصرته.
ولا ريب أن المعنى الأول أقرب إلى ظاهر اللفظ فيكون هو الراجح وليس فيه تأويل بصرفه عن ظاهره وذلك لأن قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ} صريح مطابق للواقع كما في قوله: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} . فالمبايع مباشرة هو النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وليس الله - تعالى - ولا يمكن لأحد أن يفهم أنه الله - تعالى - ولا أن يقول: إن ذلك ظاهر اللفظ لكن لما كان النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رسولا من عند الله مبلغًا عنه صارت مبايعة لمن أرسله. وهذه الآية كقوله - تعالى -: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} .(1/262)
وفي هذه الآية من تشريف النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتأييده وتأكيد بيعته ما لا يخفى على أحد.
أما قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} . فهي على حقيقتها وظاهرها وذلك لأن يد الله - تعالى - صفة من صفاته وهو سبحانه فوقهم على العرش استوى، فكانت يده فوق أيديهم كما قرر ذلك ابن القيم وانظره ص 349 ط الإمام من كتاب (استعجال الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة) المعروف باسم (مختصر الصواعق) .
وهذا التقرير ظاهر مطابق لظاهر اللفظ، وهو أولى من قول من جعله على سبيل التخييل، بأنه لما كانت مبايعة النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مبايعة لله كانت يد النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كأنها يد الله - تعالى - وذلك أن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عند المبايعة ليس يجعل يده فوق أيديهم، وإنما كان يمسك بأيديهم ويصافحهم، فيده مع أيديهم لا فوقها، وبهذا تبين أنه ليس في الآية تأويل يصرفها عن ظاهرها والحمد لله رب العالمين.
وبالإجابة على هذه الأمثلة يتبين أنه ليس للأشاعرة وغيرهم حجة على أهل السنة بإلزامهم بالموافقة أو المداهنة في تأويلهم لما أولوه من صفات الكمال التي أثبتها الله - تعالى - لنفسه، ولو سلمنا أن لهم حجة في ذلك لسلمنا أن للمعتزلة حجة فيما أولوه من الصفات التي يثبتها الأشاعرة، ولسلمنا أن للقرامطة وغيرهم من غلاة الجهمية ومن سلك سبيلهم حجة فيما أولوه من الأسماء، بل لسلمنا أن للفلاسفة وغيرهم حجة فيما ذهبوا إليه من تأويل نصوص المعاد، ولهذا كان لا سبيل لأحد في دفع شبه هؤلاء(1/263)
الزائغين إلا بالتزام سبيل السلف الراسخين في العلم، الثابتين على القاعدة المستقرة التي لا يشذ عنها شيء من مسائل الدين الكبيرة والصغيرة نسأل الله - تعالى - أن يجعلنا منهم في الدنيا والآخرة.
سابعًا: ذكر فضيلتكم ص.. عدد.. أن مذهب السلف أنه يجب علينا أن نصف الله - تعالى - بجميع ما وصف به نفسه من صفات على ما يليق به سبحانه، فننزهه عن الجسمية، والشكل، والصورة، والاحتياج، وكررتم القول بنفي التجسيم في مواضع من كلامكم.
ونفي الجسمية والتجسيم لم يرد في الكتاب، والسنة، ولا في كلام السلف فالواجب على العبد التأدب مع الله ورسوله وسلف الأمة فلا ينفي عن الله - تعالى - إلا ما نفاه عن نفسه ولا يثبت له إلا ما أثبته لنفسه، أما ما لم يرد به نفي ولا إثبات مما يحتمل حقًّا وباطلا فإن الواجب السكوت عنه، فلا يُنفى ولا يُثبت لفظه، وأما معناه فيسأل عنه فإن أريد به حق قبل، وإن أريد به باطل رد، وعلى هذا فيسأل من نفى التجسيم ماذا تريد بالجسم؟ فإن قال: أريد به الشيء المركب المفتقر بعضه إلى بعض في الوجود والكمال قلنا: نفي الجسم بهذا المعنى حق فإن الله - تعالى - واحد أحد صمد غني حميد. وإن قال: أريد به الشيء المتصف بالصفات القائمة به من الحياة، والعلم والقدرة، والاستواء والنزول، والمجيء، والوجه، واليد ونحو ذلك مما وصف الله به نفسه قلنا: نفي الجسم بهذا المعنى باطل، فإن لله - تعالى - ذاتًا حقيقية، وهو متصف بصفة الكمال التي وصف بها نفسه من هذه الصفات وغيرها على الوجه اللائق به.
ومن أجل احتمال الجسم لهذا وهذا كان إطلاق لفظه نفيًا وإثباتًا من البدع التي أحدثت في الإسلام قال شيخ الإسلام ابن تيمية ص 152 ج 4(1/264)
من مجموع الفتاوي لابن قاسم: " لفظ التجسيم لا يوجد في كلام أحد من السلف لا نفيًا ولا إثباتًا فكيف يحل أن يقال: مذهب السلف نفي التجسيم أو إثباته بلا ذكر لذلك اللفظ ولا لمعناه عنهم". وقال قبل ذلك ص 146: " وأول من ابتدع الذم بها المعتزلة الذين فارقوا جماعة المسلمين" ا. هـ. يعني أن المعتزلة جعلوا من أثبت الصفات مجسمًا وشنعوا عليهم بهذه الألفاظ المبتدعة ليغزوا بذلك عوام المسلمين.
وأما الصورة فقد روى البخاري ومسلم من حديثي أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما ما يدل دلالة صريحة على ثبوتها لله - تعالى - روى البخاري في: باب الصراط جسر جهنم ص 444 ج 11 فتح ط السلفية عن عطاء عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: «قال أناس: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: " هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ ". قالوا: لا يا رسول الله. قال: " هل تضارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ ". قالوا: لا يا رسول الله. قال: " فإنكم ترونه كذلك يوم القيامة» . وذكر الحديث وفيه: «وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون فيقول: أنا ربكم. فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا أتانا ربنا عرفناه، فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون فيقول: أنا ربكم. فيقولون: أنت ربنا فيتبعونه» . وذكر تمام الحديث قال عطاء وأبو سعيد جالس مع أبي هريرة لا يغير عليه شيئًا من حديثه ورواه عن أبي سعيد الخدري عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في باب قول الله - تعالى -: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} . ص 419 ج 13 فتح ط السلفية، ورواه مسلم عنهما في كتاب(1/265)
الإيمان حديث أبي هريرة رقم 299 ص 163 تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي وحديث أبي سعيد رقم 302 ص 167.
فهل أحد أعلم بالله - تعالى - وما يجب له، أو يمتنع في حقه، أو يجوز من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ ! وهل أحد من الخلق أنصح من رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لعباد الله؟ وهل أحد من الخلق أفصح لسانًا وأبلغ بيانًا من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وهل أحد من قرون هذه الأمة أحفظ أمانة من أصحاب رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الذين اختارهم الله - تعالى - لصحبة نبيه ونقل شريعته؟ .
وقد أثبت رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيما أخبر به عن ربه وهو الصادق المصدوق أن لله - تعالى - صورة، لكننا نعلم علم اليقين أن هذه الصورة ليست مماثلة لصورة أحد من المخلوقين، وأنها أعظم وأجل مما يتخيله المفكرون، وأنه لا يحل لأحد أن يتخيل اليوم هذه الصورة في ذهنه، أو يعبر عن كيفيتها بلسانه قال الله - تعالى -: {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} . وقال: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} . وقال - تعالى -: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} .
فلا يحل لأحد أن يثبت لله - تعالى - ما لم يعلم أن الله أثبته، ولا أن ينفي عنه ما لم يعلم أن الله نفاه، فكيف يحل أن ننفي ما أثبته الله - تعالى -(1/266)
لنفسه إما في كتابه، أو على لسان رسوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فتنزيه الله - تعالى - عن الصورة اللائقة بجلاله وعظمته رد لما أثبته له رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والسلف رضوان الله - تعالى - عليهم بريئون من هذا التنزيه.
وأما الشكل فإن أريد به الصورة فقد عرفت الكلام فيها، وإن أريد به مماثلة المخلوقين فالله - تعالى - منزه عنه.
ثامنًا: ذكر فضيلتكم ص ... من العدد ... أن الخلف هم علماء أهل السنة من المتأخرين الذين ظهروا في القرن الرابع الهجري وفي نهاية القرن الثالث.
والمعروف أنه إذا قيل: (الخلف) في باب أسماء الله وصفاته فإنما يعنى بهم الذين أحالوا الاعتقاد في هذا الباب إلى ما يقتضيه العقل، وكذبوا بما يمكنهم تكذيبه مما يخالف عقولهم، أو مما لا تقتضيه عقولهم، وصرفوا ما لا يمكنهم تكذيبه عن ظاهره.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتوى الحموية ص 10 ج 5 من مجموع الفتاوي لابن القاسم في معرض الرد على من قال: طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم قال: "والإشارة بالخلف إلى ضرب من المتكلمين الذين كثر في باب الدين اضطرابهم وغلظ عن معرفة الله حجابهم". ا. هـ. وذكر كلامًا ينبغي معرفته.
تاسعًا: ذكر فضيلتكم حين قسمتم - زعمًا - أهل السنة إلى ذوي مذهبين أنه ما كان أحد من أصحاب المذهبين ينسب غيره إلى الضلالة، ولا يصفه بما يصفه الجاهلون اليوم من الخروج عن الدين والمروق من الإسلام إلخ.(1/267)
ونحن لا نعلم أن أحدًا من أهل السنة نسب الأشاعرة، والماتريدية إلى الخروج عن الدين، والمروق عن الإسلام.
وأما وصفهم بالضلال باعتبار ما قالوه في صفات الله فإنه موجود في كلام أهل السنة، بل هو في كلامكم أنتم حينما قررتم في عدة مواضع من كلامكم أنهم كانوا مخطئين، والخطأ نقيض الصواب، والصواب هو الحق وقد قال الله - تعالى -: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في ص 359 ج 6 مجموع الفتاوي لابن قاسم بعد أن ذكر الجهمية ومن تبعهم من المعتزلة وبعض الأشعرية قال: " ولهذا كانوا يقولون: إن البدع مشتقة من الكفر وآيلة إليه ويقولون: إن المعتزلة مخانيث الفلاسفة، والأشعرية مخانيث المعتزلة، وكان يحيى بن عمار يقول: المعتزلة الجهمية الذكور، والأشعرية الجهمية الإناث" قال الشيخ: " ومرادهم الأشعرية الذين ينفون الصفات الخبرية، وأما من قال منهم بكتاب الإبانة الذي صنفه الأشعري في آخر عمره ولم يظهر مقالة تناقض ذلك فهذا يعد من أهل السنة لكن مجرد الانتساب إلى الأشعري بدعة". ا. هـ. وقال قبل ذلك في ص 310: " وأما الأشعرية فعكس هؤلاء، وقولهم يستلزم التعطيل، وأنه لا داخل العالم، ولا خارجه، وكلامه معنى واحد، ومعنى آية الكرسي، وآية الدين، والتوراة، والإنجيل واحد، وهذا معلوم الفساد بالضرورة " ا. هـ.
وقال تلميذه ابن القيم في النونية ص 312 من شرح محمد خليل الهراس ط الإمام:
واعلم بأن طريقهم عكس الطري ... ق المستقيم لمن له عينان(1/268)
إلى أن قال:
فاعجب لعميان البصائر أبصروا ... كون المقلد صاحب البرهان
ورأوه بالتقليد أولى من سوا ... هـ بغير ما بصر ولا برهان
وعموا عن الوحيين إذ لم يفهموا ... معناهما عجبًا لذي الحرمان
وقال الشيخ محمد أمين الشنقيطي في تفسيره (أضواء البيان) ص 319 ج 2 على تفسير آية استواء الله على عرشه: "اعلم أنه غلط في هذا خلق لا يحصى كثرة من المتأخرين، فزعموا أن الظاهر المتبادر السابق إلى الفهم من معنى الاستواء، واليد مثلا في الآيات القرآنية هو مشابهة صفات الحوادث، وقالوا يجب علينا أن نصرفه عن ظاهره إجماعًا". قال: " ولا يخفى على أدنى عاقل أن حقيقة معنى هذا القول، أن الله وصف نفسه في كتابه بما ظاهره المتبادر منه السابق إلى الفهم الكفر بالله - تعالى -، والقول فيه بما لا يليق به، جل وعلا والنبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لم يبين حرفًا واحدًا من ذلك حتى جاء هؤلاء الجهلة من المتأخرين فزعموا أن الله أطلق على نفسه الوصف بما ظاهره المتبادر منه لا يليق به، والنبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كتم أن ذلك الظاهر كفر وضلال يجب صرف اللفظ عنه، وكل هذا من تلقاء أنفسهم من غير اعتماد على كتاب أو سنة - سبحانك هذا بهتان عظيم -. ولا يخفى أن هذا القول من أكبر الضلال ومن أعظم الافتراء على الله - جل وعلا - وعلى رسوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إلى أن قال: " والجاهل المفتري الذي يزعم أن ظاهر آيات الصفات لا يليق بالله، لأنه كفر وتشبيه، وإنما جر إليه ذلك تنجيس قلبه بقذر التشبيه بين الخالق والمخلوق، فأداه شؤم التشبيه إلى نفي صفات الله - جل وعلا - وعدم الإيمان بها، مع أنه جل وعلا هو الذي وصف بها نفسه". إلى أن قال:(1/269)
" ولو كان قلبه عارفًا بالله كما ينبغي معظما لله كما ينبغي طاهرا من أقذار التشبيه لكان المتبادر عنده السابق إلى فهمه أن وصف الله - تعالى - بالغ من الكمال والجلال ما يقطع أوهام علائق المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين". ا. هـ.
فهذا كلام أهل العلم رحمهم الله - تعالى - في بيان ضلال من تأولوا نصوص صفات الله - تعالى - أو بعضها، وحرفوا فيها الكلم عن مواضعه بصرفها إلى معاني تخالف ظاهرها بلا دليل من الكتاب والسنة. ولكن لا يلزم من ضلال المتأول أن يستحق الوصف بالضلال المطلق الموجب للذم المطلق إذا علم منه حسن القصد والصدق في طلب الحق؛ لأن المجتهد إذا أصاب كان له أجران وإن أخطأ كان له أجر واحد، والخطأ مغفور.
عاشرًا: ذكر فضيلتكم كلاما في الأشاعرة غريبًا فقلتم ص ... عدد ... لهم تأويلات مخالفة لما ذهب إليه السلف، وذكرت في نفس الصفحة أنهم أولوا بما يتفق مع القرآن، وأن عقيدتهم على الوجه الصحيح وذكرت في ص ... عدد ... عن طائفتي أهل السنة: السلف وأهل التأويل كما قسمتهم ما نصه: مع اعتقادهم جميعًا صفات الله - تعالى - دون تعطيل أو تجسيم، وذكرت في الصفحة نفسها أنهم مالوا إلى التأويل في بعض الصفات لأنهم كان من اللازم عليهم أن يصارعوا الباطل بنفس السلاح الذي يتسلح به خصومهم، وأن يقاوموا ضلالهم بالحجة الساطعة والبرهان القاطع.
وذكرت في عدة مواضع أنهم مخطئون في تأويلهم كما في ص ... عدد ... وفي أول ص ... عدد ... وأول ص ... عدد ... وهذا الاختلاف في كلامكم: إما أن يكون للتردد في أمرهم، وإما(1/270)
أن يكون للتهيب من إبطال طريقتهم، وإما للتمويه على القارئ. فالأخير أعيذك بالله منه وأعيذ سائر علمائنا منه. وأما الثاني فلا ينبغي أن نتهيب من وصف القول الذي تبين خطؤه أنه ضلال لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} . وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} . فنهى الله - تعالى - أن يحملنا بغض قوم على عدم العدل، فمثله أن يحملنا حب قوم على عدم العدل، ومن المعلوم أنه ليس من العدل أن نقول: هؤلاء الأشاعرة على حق، والسلف على الباطل، وليس من الممكن أن نقول: إن الجميع على حق، لاختلاف منهجيهما، فتعين أن نقول: إن السلف هم الذين على الحق، وأن نتذكر قول الله - عز وجل -: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} . وفي صحيح البخاري «أن أبا موسى الأشعري سئل عن ابنة وابنة ابن وأخت فقال: للابنة النصف، وللأخت النصف، وائت ابن مسعود فسيتابعني فسئل ابن مسعود وأخبر بقول أبي موسى فقال: " لقد ضللت إذًا وما أنا من المهتدين، أقضي فيها بما قضى النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، للابنة النصف، ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت» . فتأمل كيف وصف ابن مسعود مخالفة الحق بالضلال، ونسبه إلى نفسه في مسألة من مسائل فقه الفرائض، فكيف لا توصف مخالفة الحق بالضلال في مسألة(1/271)
من مسائل الفقه الأكبر، فقه أسماء الله - تعالى - وصفاته.؟!
وأما الاحتمال الثالث (التردد في أمرهم) فإن من تدبر كتاب الله - تعالى - طالبًا الهدى منه، وتدبر ما ثبت من سنة رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بهذا القصد تبين له الحق، واتضح له أن طريق السلف هو الصواب والهدى، وأنه هو الذي يمكن أن نرد به شبه المبطلين، ونسد به سبل الزائغين، وأنه هو المحجة الساطعة والبرهان القاطع. وقد سبق في كتابنا هذا بيان أن أهل التأويل من المعتزلة وغيرهم احتجوا لباطلهم بطريق الأشاعرة، وأن طريق الأشاعرة كانت حجة لهم حيث احتج أولئك المعتزلة وغيرهم عليهم بما احتجوا به (أعني الأشاعرة) لأنفسهم فقالوا: إذا كان طريق إثبات الصفات عندكم العقل فما لم يدل عليه العقل صرفتموه عن ظاهره فإننا نحتج عليكم به فإن عقولنا لا تقتضي إثبات الصفات التي أثبتموها فنحن نصرف نصوصها عن ظاهرها كما أنكم فعلتم ذلك مع أهل السنة فقلتم: إن عقولنا لا تقتضي إثبات ما زاد على الصفات السبع التي نثبتها فنحن نصرف نصوصها عن ظاهرها.
وإذا تبين أن طريق السلف هو الحق والهدى والحجة فلماذا نتردد في طريق من خالفه، ونتذبذب في الحكم عليهم؟ إن الدين، والعقل، والحزم والشجاعة كلها تقتضي أن نقول للحق: هو حق، ولما خالفه: هو ضلال، مهما كان القائل به كمًّا أو كيفًا، ليبين الحق ويتميز، فيعبد الناس ربهم على بصيرة ويدعوا إليه على بصيرة.
إنكم لو تأملتم طريقة الأشاعرة في باب أسماء الله - تعالى - وصفاته حق التأمل لتبين لكم أنه لا وجه للتردد في شأنهم ولا لتهيُّب إبطال طريقتهم.(1/272)
فالله يقول عن نفسه: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} .
وهم يقولون: ليس لله - تعالى - وجه.
والله يقول عن نفسه مخاطبًا موسى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} .
وهم يقولون: ليس لله عين.
والله يقول عن نفسه: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} .
وهم يقولون: ليس لله يدان.
والله يقول عن نفسه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} .
وهم يقولون: ما استوى على العرش.
والله يقول عن نفسه: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ} . ويقول: {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} .
وهم يقولون: إن الله لا يجيء ولا يأتي.
والله يقول عن نفسه: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} .
وهم يقولون: إن الله لا يحب.(1/273)
والله يقول عن نفسه: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} .
وهم يقولون: إن الله لا يرضى.
والله يقول عن نفسه: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} .
وهم يقولون: إن الله لا يكره.
والله - تعالى - يقول: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ} .
وهم يقولون: إن الله لا يغضب.
والله يقول عن نفسه: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ} .
وهم يقولون: ليس لله - تعالى - رحمة هي وصفه.
والنبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال عن ربه: «ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر» متفق عليه.
وهم يقولون: إن الله لا ينزل.
والنبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال عن ربه: «وإذا أبغض عبدًا دعا جبريل فيقول إني أبغض فلانًا فأبغضه» رواه مسلم.
وهم يقولون: إن الله لا يبغض.
والنبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: «ولا يزال يدعو حتى يضحك الله منه فإذا ضحك الله منه قال: ادخل الجنة» متفق عليه.(1/274)
وهم يقولون: إن الله لا يضحك.
والنبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال عن ربه: «لله أشد فرحا بتوبة أحدكم من أحدكم بضالته إذا وجدها» رواه مسلم.
وهم يقولون: إن الله لا يفرح.
والنبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال عن ربه: «عجب الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل» رواه البخارى.
وهم يقولون: إن الله لا يعجب.
إلى غير ذلك من الصفات التي أثبتها الله - تعالى - لنفسه في كتابه، أو على لسان رسوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهم ينكرون أن تكون لله - تعالى - على الحقيقة، ويقولون: هي مجاز عن معانٍ عينوها بعقولهم، وزعموا أنها المرادة بكلام الله - تعالى - وكلام رسوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإذا كانت هذه النصوص مجازًا بإقرارهم، فإن أبرز علامات المجاز صحة نفيه فيكون نفيها سائغًا على زعمهم مع أن الله أثبتها لنفسه والله المستعان.
حادي عشر: في ص ... عدد ... دعا فضيلتكم إلى الكف عن مهاجمة أتباع المذاهب والأشاعرة، والإخوان، حتى الصوفيين أصحاب الطرق المعروفة وعللتم ذلك بأن الجميع يريدون وجه الله ويجمعهم شيء واحد وهو حب الإسلام، وخدمة الدين، ومنهم من يخطئ في الأسلوب، أو في الطريق ثم دعوتم إلى أن نوجههم بالحسنى إلى الجادة.
ولا ريب أن التوجيه بالحسنى مطلوب، وأن للدعوة إلى سبيل الله - تعالى - أربع مراتب ذكرها الله - تعالى - في آيتين أولاهما: قوله - تعالى -: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(1/275)
والثانية: قوله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} .
وكثير من هؤلاء المخالفين للسلف تقوم عليهم الحجة بأوضح بيان وأفصح عبارة، ولكنهم يعاندون وربما يعتدون، ويستطيلون على أهل الحق بوصفهم بألقاب السوء، لينفروا الناس عن الحق الذي هم عليه. ومثل هؤلاء لا يمكن الدعوة إلى مداهنتهم وترك مهاجمتهم؛ لأن ذلك إضعاف لجانب الحق، وذل وخنوع لأهل الباطل.
وأما التعليل الذي ذكرتموه من أن الجميع يريدون وجه الله ويجمعهم حب الإسلام وخدمة الدين، فلا ريب أن بعضهم يدعي ذلك، ولكن الإخلاص وحده لا يكفي بل لا بد من عمل صالح ولا يكون العمل صالحًا حتى يكون مخلصًا لله، متبعًا فيه شريعته التي كان عليها رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان قال الله تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} . فلم يكتفِ بمجرد إسلام الوجه لله - تعالى - بل قيد ذلك بقوله: {وَهُوَ مُحْسِنٌ} ومن المعلوم أن المشركين الذين يعبدون الأصنام ويتخذونهم أولياء كانوا يدعون حسن القصد يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} . وأن من هؤلاء الطوائف - الذين دعوتم إلى ترك مهاجمتهم وزعمتم أنهم يريدون(1/276)
وجه الله - من اتخذ من دون الله أولياء يحبونهم كحب الله أو أشد.
ثم إن كل من يدعي أنه يريد وجه الله والدار الآخرة، فإنه غير مقبول في دعواه حتى يأتي بالبينة التي نصبها الله - تعالى - برهانًا على ذلك، في قوله - تعالى - لرسوله محمد، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} . فمن ادعى أنه يريد وجه الله، وأنه يحب دينه وهو الإسلام، نظرنا في موقفه تجاه الإسلام فإن كان على ما كان عليه رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في العقيدة، والقول، والعمل كان صادقًا في دعواه، وإن قصر في ذلك علمنا أنه قد نقص من صدقه بقدر ما قصر فيه.
وليعلم فضيلتكم أن كثرة العدد ليست وحدها السبب في نصرة الإسلام وعزة المؤمنين فقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لن يغلب اثنا عشر ألفًا من قلة» كما رواه أحمد وأبو داود وغيرهما وأعله الترمذي، وأنما النصرة لمن نصر الله عز وجل واتبع رسوله ظاهرًا وباطنًا، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} . وقال - تعالى -: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} . وقال جل ذكره: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}(1/277)
فنسأل الله - تعالى - أن يجمع المسلمين على كلمة الحق، وأن يعيذهم من البدع والفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وأن يصلح لهم ولاة أمورهم، وأن يجعلنا وإياكم من الهداة المهتدين، وقادة الخير المصلحين، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
24\12\1403 هـ.(1/278)
الملائكة(1/279)
(107) سئل فضيلة الشيخ - حفظه الله -: أيهما أفضل الملائكة أم الصالحون من البشر؟
فأجاب بقوله: هذه المسألة وهي المفاضلة بين الملائكة وبين الصالحين من البشر محل خلاف بين أهل العلم وكل منهم أدلى بدلوه فيما يحتج به من النصوص، ولكن القول الراجح أن يقال: إن الصالحين من البشر أفضل من الملائكة باعتبار النهاية فإن الله - سبحانه وتعالى - يعد لهم من الثواب ما لا يحصل مثله للملائكة فيما نعلم، بل إن الملائكة في مقرهم أي في مقر الصالحين وهو الجنة يدخلون عليهم من كل باب {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} .
أما باعتبار البداية فإن الملائكة أفضل لأنهم خلقوا من نور وجبلوا على طاعة الله - عز وجل - والقوة عليها كما قال الله - تعالى - في ملائكة النار: {عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} . وقال - عز وجل -: {وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} هذا هو القول الفصل في هذه المسألة.(1/281)
وبعد فإن الخوض فيها وطلب المفاضلة بين صالحي البشر والملائكة من فضول العلم الذي لا يضطر الإنسان إلى فهمه والعلم به والله المستعان.(1/282)
الجن(1/283)
(108) وسئل فضيلة الشيخ: هل الجن من الملائكة؟
فأجاب بقوله: الجن ليسوا من الملائكة؛ لأن الملائكة خلقوا من نور والجن خلقوا من نار قال الله - تعالى -: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} . وثبت عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أن الملائكة خلقوا من نور؛ ولأن الملائكة كما وصفهم الله - تعالى - بقوله: {عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} . والجن فيهم المؤمن والكافر والمطيع والعاصي قال الله - تعالى -: {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ} . وقال عن الجن: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} . وقال عنهم أيضًا: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} . ولأن الملائكة - كما قال أهل العلم - صمد لا يأكلون ولا يشربون، والجن يأكلون ويشربون، فقد ثبت عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه قال للجن الذين وفدوا إليه: «لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه تجدونه أوفر ما يكون لحمًا» فتبين بهذه الأدلة أن الملائكة ليسوا من الجن فأما قوله - تعالى -: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ}(1/285)
فإنما استثناه لأنه كان معهم حينذاك وليس منهم ويبين ذلك قوله - تعالى - في سورة الكهف: {فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} . فعلل فسقه عن أمر ربه بكونه من الجن، ولو كان الملائكة من الجن لأمكن أن يفسقوا عن أمر ربهم كما فسق إبليس، وهذا الاستثناء يسمى استثناء منقطعًا كما يقول: النحويون: " جاء القوم إلا حمارًا " وهو كلام عربي فصيح، فاستثنى الحمار من القوم وإن لم يكن منهم.
(109) وسئل - جزاه الله عنا وعن المسلمين خيرًا -: هل إبليس من الملائكة؟
فأجاب بقوله: إبليس ليس من الملائكة لأن إبليس خلق من نار والملائكة خلقت من نور، ولأن طبيعة إبليس غير طبيعة الملائكة، فالملائكة وصفهم الله - تعالى - بأنهم: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} . ووصفهم الله - تعالى - بقوله: {وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} .أما الشيطان فإنه على العكس من ذلك فإنه كان مستكبرًا كما قال - تعالى -: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} ، ولكن لما وجه الخطاب إلى الملائكة بالسجود لآدم وكان إبليس من بينهم - أي معهم مشاركًا لهم(1/286)
في العبادة - وإن كان قلبه - والعياذ بالله - منطويًا على الكفر والاستكبار صار الخطاب متوجهًا إلى الجميع فلهذا صح استثناؤه منهم فقال - تعالى -: {فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ} وإلا فأصله ليس منهم بلا شك كما قال - تعالى -: {فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} . والله أعلم.
(110) وسئل فضيلته: هل للجن تأثير على الإنس وما طريق الوقاية منهم؟
فأجاب بقوله: لا شك أن الجن لهم تأثير على الإنس بالأذية التي قد تصل إلى القتل، وربما يؤذونه برمي الحجارة، وربما يروعون الإنسان إلى غير ذلك من الأشياء التي ثبتت بها السنة ودل عليها الواقع، فقد ثبت «أن الرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أذن لبعض أصحابه أن يذهب إلى أهله في إحدى الغزوات - وأظنها غزوة الخندق - وكان شابًا حديث عهد بعرس، فلما وصل إلى بيته وإذا امرأته على الباب فأنكر عليها ذلك، فقالت له: ادخل فدخل فإذا حية ملتوية على الفراش وكان معه رمح فوخزها بالرمح حتى ماتت وفي الحال - أي الزمن الذي ماتت فيه الحية - مات الرجل فلا يدرى أيهما أسبق موتًا الحية أم الرجل» فلما بلغ ذلك النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، «فنهى عن قتل الجنَّان التي تكون في البيوت إلا الأبتر وذا الطفيتين» . وهذا دليل على أن الجن قد يعتدون على الإنس وأنهم يؤذونهم كما أن الواقع شاهد بذلك فإنه قد تواترت الأخبار واستفاضت بأن الإنسان قد يأتي إلى الخربة فيرمى بالحجارة وهو لا يرى أحدًا من الإنس في هذه الخربة، وقد يسمع أصواتًا وقد يسمع حفيفًا كحفيف الأشجار وما أشبه(1/287)
ذلك مما يستوحش به ويتأذى به، وكذلك أيضًا قد يدخل الجني إلى جسد الآدمي، إما بعشق، أو لقصد الإيذاء، أو لسبب آخر من الأسباب ويشير إلى هذا قوله - تعالى -: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} . وفي هذا النوع قد يتحدث الجني من باطن الإنسي نفسه ويخاطب من يقرأ عليه آيات من القرآن الكريم وربما يأخذ القارئ عليه عهدًا ألا يعود إلى غير ذلك من الأمور الكثيرة التي استفاضت بها الأخبار وانتشرت بين الناس، وعلى هذا فإن الوقاية المانعة من شر الجن أن يقرأ الإنسان ما جاءت به السنة مما يتحصن به منهم مثل آية الكرسي، فإن آية الكرسي إذا قرأها الإنسان في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح. والله الحافظ.
(111) وسئل فضيلة الشيخ: هل للجن حقيقة؟ وهل لهم تأثير؟ وما علاج ذلك؟
فأجاب قائلا: أما حقيقة حياة الجن فالله أعلم بها ولكننا نعلم أن الجن أجسام حقيقية وأنهم خلقوا من النار وأنهم يأكلون ويشربون ويتزاوجون ولهم ذرية كما قال الله - تعالى - في الشيطان: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} وأنهم مكلفون بالعبادات فقد أرسل إليهم النبي، عليه الصلاة والسلام، وحضروا واستمعوا القرآن كما قال الله تعالى:(1/288)
{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} وكما قال - تعالى -: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} إلى آخر الآيات. وثبت عن النبي، عليه الصلاة والسلام، أنه قال للجن الذين وفدوا إليه وسألوه الزاد قال: «لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه تجدونه أوفر ما يكون لحمًا» ، وهم - أعني الجن - يشاركون الإنسان إذا أكل ولم يذكر اسم الله على أكله، ولهذا كانت التسمية على الأكل واجبة وكذلك على الشرب كما أمر بذلك النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعليه فإن الجن حقيقة واقعة وإنكارهم تكذيب للقرآن وكفر بالله - عز وجل - وهم يؤمرون، وينهون ويدخل كافرهم النار كما قال الله تعالى: {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} ومؤمنهم يدخل الجنة أيضًا لقوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ذَوَاتَا أَفْنَانٍ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} . والخطاب للجن والإنس. ولقوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ}(1/289)
إلى غير ذلك من الآيات والنصوص الدالة على أنهم مكلفون يدخلون الجنة إذا آمنوا ويدخلون النار إذا لم يؤمنوا.
أما تأثيرهم على الإنس فإنه واقع أيضًا فإنهم يؤثرون على الإنس، إما أن يدخلوا في جسد الإنسان فيصرع ويتألم، وإما أن يؤثروا عليه بالترويع والإيحاش وما أشبه ذلك.
والعلاج من تأثيرهم بالأوراد الشرعية مثل قراءة آية الكرسي، فإن من قرأ آية الكرسي في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح.
(112) وسئل: هل يجوز للإنسان أن يدعو الله أن يهدي شيطانه؟
فأجاب قائلا: لا يجوز أن يدعو أحد بهذا، لأنه ينافي حكمة الله وقضاءه وقدره، فإن الله - سبحانه - قضى بحكمته على إبليس باللعنة إلى يوم الدين.
(113) سئل فضيلة الشيخ: عن حكم خدمة الجن للإنس.
فأجاب بقوله: ذكر شيخ الإسلام - رحمه الله - في المجلد الحادي عشر من مجموع الفتاوى ما مقتضاه أن استخدام الإنس للجن له ثلاث حالات:
الأولى: أن يستخدمه في طاعة الله كأن يكون نائبًا عنه في تبليغ الشرع، فمثلا إذا كان له صاحب من الجن مؤمن يأخذ عنه العلم(1/290)
فيستخدمه في تبليغ الشرع لنظرائه من الجن، أو في المعونة على أمور مطلوبة شرعًا فإنه يكون أمرًا محمودًا أو مطلوبًا وهو من الدعوة إلى الله - عز وجل - والجن حضروا النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقرأ عليهم القرآن وولوا إلى قومهم منذرين، والجن فيهم الصلحاء، والعباد والزهاد، والعلماء؛ لأن المنذر لا بد أن يكون عالمًا بما ينذر عابدًا.
الثانية: أن يستخدمهم في أمور مباحة فهذا جائز بشرط أن تكون الوسيلة مباحة، فإن كانت محرمة فهو محرم مثل أن لا يخدمه الجني إلا أن يشرك بالله كأن يذبح للجني ويركع له أو يسجد ونحو ذلك.
الثالثة: أن يستخدمهم في أمور محرمة كنهب أموال الناس وترويعهم وما أشبه ذلك، فهذا محرم لما فيه من العدوان والظلم، ثم إن كانت الوسيلة محرمة أو شركًا كان أعظم وأشد.
(114) وسئل: عن حكم سؤال الجن وتصديقهم فيما يقولون.
فأجاب قائلا: سؤال الجن وتصديقهم فيما يقولون: قال عنه شيخ الإسلام في مجموع الفتاوي: إن من يسأل الجن أو يسأل من يسأل الجن على وجه التصديق لهم في كل ما يخبرون به والتعظيم للمسئول فهو حرام.
وأما إن كان ليمتحن حاله ويختبر باطن أمره، وعنده ما يميز به صدقه من كذبه فهذا جائز، ثم استدل له، ثم ذكر ما روي عن أبي موسى الأشعري أنه أبطأ عليه خبر عمر - رضي الله عنه - وكان هناك امرأة لها قرين أي صاحب من الجن فسأله عنه فأخبره أنه ترك عمر يسم إبل الصدقة.(1/291)
(115) سئل الشيخ: هل الجن يعلمون الغيب؟
فأجاب بقوله: الجن لا يعلمون الغيب ولا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله واقرأ قوله - تعالى -: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} . ومن ادعى علم الغيب فهو كافر. ومن صدق من يدعي علم الغيب فإنه كافر أيضًا لقوله - تعالى -: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} . فلا يعلم غيب السماوات والأرض إلا الله وحده، وهؤلاء الذين يدعون أنهم يعلمون الغيب في المستقبل كل هذا من الكهانة وقد ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أن من أتى عرافًا فسأله لم تقبل له صلاة أربعين يومًا» فإن صدقه فإنه يكون كافرًا؛ لأنه إذا صدقه بعلم الغيب فقد كذب قوله - تعالى -: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} .
(116) وسئل فضيلة الشيخ: هناك من يحضر الجن بطلاسم يقولها ويجعلهم يخرجون له كنوزًا مدفونة في الأرض منذ زمن بعيد فما حكم هذا العمل؟
فأجاب قائلا: هذا العمل ليس بجائز فإن هذه الطلاسم التي يحضرون بها الجن ويستخدمونهم بها لا تخلو من شرك في الغالب والشرك أمره خطير قال الله -تعالى:(1/292)
{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} والذي يذهب إليهم يغريهم ويغرهم، يغريهم بأنفسهم وأنهم على حق، ويغرهم بما يعطيهم من الأموال فالواجب مقاطعة هؤلاء، وأن يدع الإنسان الذهاب إليهم، وأن يحذر إخوانه المسلمين من الذهاب إليهم، والغالب في أمثال هؤلاء أنهم يحتالون على الناس ويبتزون أموالهم بغير حق، ويقولون القول تخرصًا ثم إن وافق القدر أخذوا ينشرونه بين الناس ويقولون: نحن قلنا وصار كذا ونحن قلنا وصار كذا، وإن لم يوافق ادعوا دعاوى باطلة أنها هي التي منعت هذا الشيء، وإني أوجه النصيحة إلى من ابتلي بهذا الأمر وأقول لهم: احذروا أن تمتطوا الكذب على الناس والشرك بالله - عز وجل - وأخذ أموال الناس بالباطل، فإن أمد الدنيا قريب والحساب يوم القيامة عسير، وعليكم أن تتوبوا إلى الله - تعالى - من هذا العمل، وأن تصححوا أعمالكم، وتطيبوا أموالكم والله الموفق.
(117) سئل فضيلة الشيخ: هل هناك دليل على أن الجن يدخلون الإنس؟
فأجاب بقوله: نعم هناك دليل من الكتاب والسنة، على أن الجن يدخلون الإنس، فمن القرآن قوله - تعالى -: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} قال ابن كثير - رحمه الله -: " لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه، وتخبط الشيطان له".(1/293)
ومن السنة قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» .
وقال الأشعري في مقالات أهل السنة والجماعة: "إنهم - أي أهل السنة - يقولون: إن الجني يدخل في بدن المصروع". واستدل بالآية السابقة.
وقال عبد الله ابن الإمام أحمد: " قلت لأبي: إن قومًا يزعمون أن الجني لا يدخل في بدن الإنسي فقال: يا بني يكذبون هو ذا يتكلم على لسانه".
وقد جاءت أحاديث عن رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رواها الإمام أحمد والبيهقي، أنه أتي بصبي مجنون فجعل النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقول: «اخرج عدو الله، اخرج عدو الله» ، وفي بعض ألفاظه: «اخرج عدو الله أنا رسول الله» . فبرأ الصبي.
فأنت ترى أن في هذه المسألة دليلا من القرآن الكريم ودليلين من السنة، وأنه قول أهل السنة والجماعة وقول أئمة السلف، والواقع يشهد به ومع هذا لا ننكر أن يكون للجنون سبب آخر من توتر الأعصاب واختلال المخ وغير ذلك.(1/294)
فصل
(118) قال فضيلة الشيخ - جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء -:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي خلق الجن والإنس ليعبدوه، وشرع لهم ما تقتضيه حكمته ليجازيهم بما عملوه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وكان الله على كل شيء قديرًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، المبعوث إلى الإنس والجن بشيرًا ونذيرًا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فقد قال الله - تعالى -: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} .
والجن عالم غيبي خلقوا من نار، وكان خلقهم قبل خلق الإنس، كما قال الله - تعالى -: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} وهم مكلفون، يوجه إليهم أمر الله - تعالى - ونهيه، فمنهم المؤمن، ومنهم الكافر، ومنهم المطيع، ومنهم العاصي، قال الله - تعالى - عنهم:(1/295)
{وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} . وقال: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} أي جماعات متفرقة وأهواء، كما يكون ذلك في الإنس، فالكافر منهم يدخل النار بالإجماع، والمؤمن يدخل الجنة كالإنس، قال الله - تعالى -: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} . والظلم بينهم وبين الإنس محرم، كما هو بين الآدميين. لقوله - تعالى - في الحديث القدسي: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا» . رواه مسلم، ومع هذا فإنهم يعتدون على الإنس أحيانًا، كما يعتدي الإنس عليهم أحيانًا، فمن عدوان الإنس عليهم أن يستجمر الإنسان بعظم أو روث، ففي صحيح مسلم عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن «الجن سألوا النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الزاد فقال: " لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه، يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحمًا، وكل بعرة علف لدوابكم» . وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم» .
ومن عدوان الجن على الإنس أنهم يتسلطون عليهم بالوسوسة التي يلقونها في قلوبهم، ولهذا أمر الله - تعالى - بالتعوذ من ذلك فقال: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} . وتأمل كيف قال الله تعالى: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} فبدأ بذكر الجن؛ لأن وسوستهم(1/296)
أعظم، ووصولهم إلى الإنسان أخفى.
فإن قلت: كيف يصلون إلى صدور الناس فيوسوسون فيها؟
فاستمع الجواب من محمد رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حين قال لرجلين من الأنصار: «إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرًا، أو قال: شيئًا» . وفي رواية: «يبلغ من ابن آدم مبلغ الدم» .
ومن عدوان الجن على الإنس أنهم يخيفونهم، ويلقون في قلوبهم الرعب، ولا سيما حين يلتجئ الإنس إليهم، ويستجيرون بهم، قال الله - تعالى -: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} أي خوفًا وإرهابًا وذعرًا.
ومن عدوان الجن على الإنس أن الجني يصرع الإنسي فيطرحه، ويدعه يضطرب حتى يغمى عليه، وربما قاده إلى ما فيه هلاكه من إلقائه في حفرة أو ماء يغرقه، أو نار تحرقه وقد شبه الله - تعالى - آكلي الربا عند قيامهم من قبورهم بالمصروع الذي يتخبطه الشيطان، قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} . قال ابن جرير: " وهو الذي يتخبطه فيصرعه". وقال ابن كثير: " إلا كما يقوم المصروع حال صرعه، وتخبط الشيطان له". وقال البغوي: " يتخبطه الشيطان أي يصرعه، ومعناه أن آكل الربا يبعث يوم القيامة كمثل المصروع". وروى الإمام أحمد في مسنده 4\171 - 172 عن يعلى بن مرة - رضي الله عنه - «أن امرأة أتت النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،»(1/297)
«بابن لها قد أصابه لمم، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اخرج عدو الله أنا رسول الله". قال: فبرأ الصبي فأهدت أمه إلى النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كبشين وشيئًا من أقط وسمن، فأخذ النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الأقط والسمن وأحد الكبشين ورد عليها الآخر،» وإسناده ثقات. وله طرق قال عنها ابن كثير في تاريخه (البداية والنهاية) : " فهذه طرق جيدة متعددة، تفيد غلبة الظن أو القطع عند المتبحرين أن يعلى بن مرة حدث بهذه القصة في الجملة".
قال ابن القيم - رحمه الله تعالى - وهو أحد تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيمية البارزين في كتابه (زاد المعاد) 4\66: " الصرع صرعان: صرع من الأرواح الخبيثة الأرضية، وصرع من الأخلاط الرديئة. والثاني هو الذي يتكلم فيه الأطباء في سببه وعلاجه. وأما صرع الأرواح فأئمتهم - أي الأطباء - وعقلاؤهم يعترفون به، ولا يدفعونه. وأما جهلة الأطباء وسقطهم وسفلتهم ومن يعتقد الزندقة فضيلة، فأولئك ينكرون صرع الأرواح، ولا يقرون بأنها تؤثر في بدن المصروع، وليس معهم إلا الجهل! وإلا فليس في الصناعة الطبية ما يدفع ذلك، والحس والوجود شاهدان به، ومن له عقل ومعرفة بهذه الأرواح وتأثيراتها يضحك من جهل هؤلاء وضعف عقولهم".
وطريق التخلص من هذا النوع من الصرع في أمرين: وقاية، وعلاج:
فأما الوقاية فتكون بقراءة الأوراد الشرعية من كتاب الله - تعالى -، وصحيح سنة رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبقوة النفس وعدم الجريان وراء الوساوس والتخيلات التي لا حقيقة لها، فإن جريان الإنسان(1/298)
وراء الوساوس والأوهام يؤدي إلى أن تتعاظم هذه الأوهام والوساوس حتى تكون حقيقة.
وأما العلاج أعني علاج صرع الأرواح، فقد اعترف كبار الأطباء أن الأدوية الطبيعية لا تؤثر فيه. وعلاجه بالدعاء، والقراءة، والموعظة، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يعالج بقراءة آية الكرسي، والمعوذتين، وكثيرًا ما يقرأ في أذن المصروع: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} . قال تلميذه ابن القيم: " حدثني أنه قرأ مرة هذه الآية في أذن المصروع فقالت الروح: نعم ومد بها صوته! قال: فأخذت له عصًا وضربته بها في عروق عنقه حتى كلت يدي من الضرب. وفي أثناء ذلك قالت: أنا أحبه، فقلت لها: هو لا يحبك. قالت: أنا أريد أن أحج به. فقلت لها: هو لا يريد أن يحج معك. قالت: أنا أدعه كرامة لك. قلت: لا ولكن طاعة لله ورسوله. قالت: فأنا أخرج. فقعد المصروع يلتفت يمينًا وشمالا وقال: ما جاء بي إلى حضرة الشيخ". هذا كلام ابن القيم - رحمه الله - عن شيخه، وقال ابن مفلح في كتاب: (الفروع) ، وهو من تلاميذ شيخ الإسلام أيضًا: " كان شيخنا إذا أتي بالمصروع وعظ من صرعه، وأمره ونهاه، فإن انتهى وفارق المصروع أخذ عليه العهد أن لا يعود، وإن لم يأتمر ولم ينته ولم يفارق ضربه حتى يفارقه"، والضرب في الظاهر على المصروع، وإنما يقع في الحقيقة على من صرعه. وأرسل الإمام أحمد إلى مصروع ففارقه الصارع، فلما مات أحمد عاد إليه.
وبهذا تبين أن صرع الجن للإنس ثابت بمقتضى دلالة الكتاب والسنة، والواقع، وأنكر ذلك المعتزلة. ولولا ما أثير حول هذه المسألة من(1/299)
بلبلة وجدال أدى إلى جعل كتاب الله - تعالى - دالا على معانٍ تخييلية لا حقيقة لها، ولولا أن إنكار هذا يستلزم تسفيه أئمتنا وعلمائنا من أهل السنة، أو تكذيبهم أقول: لولا هذا وهذا ما تكلمت في هذه المسألة لأنها من الأمور المعلومة بالحس، والمشاهدة، وما كان معلومًا بالحس والمشاهدة لا يحتاج إلى دليل لأن الأمور الحسية دليل بنفسها، وإنكارها مكابرة أو سفسطة. فلا تخدعوا أنفسكم، ولا تتعجلوا، واستعيذوا بالله من شرور خلقه من الجن والإنس، واستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور التواب الرحيم.
(119) سئل فضيلة الشيخ - حفظه الله - هل الجن أسلموا برسالة محمد، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وآمنوا بالرسل من قبل هل فرض عليهم الحج وإن كان كذلك فأين يحجون؟.
فأجاب حفظه الله بقوله: إن الجن مكلفون بلا شك، مكلفون بطاعة الله - سبحانه وتعالى - وإن منهم المسلم والكافر، ومنهم الصالح ومن دون ذلك كما ذكر الله - تعالى - في سورة الجن عنهم حيث قالوا: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} وقالوا: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} .
وقد صرف الله نفرًا من الجن إلى رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاستمعوا القرآن وآمنوا به وذهبوا دعاة إلى قومهم كما قال الله - تعالى -:(1/300)
{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} .
وهذا يدل على أن الجن كانوا مؤمنين بالرسل السابقين وأنهم يعلمون كتبهم لقولهم: {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} وقد ثبت عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه أكرم وفد الجن الذين وفدوا إليه بأن قال: «لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه تجدونه أوفر ما يكون لحمًا، وكل بعرة فهي علف لدوابكم» ولهذا نهى النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عن الاستجمار بالعظام وعن الاستجمار بالروث وقال: «إن العظام زاد إخوانكم من الجن» .
والظاهر أنهم مكلفون بما يكلف به الإنس من العبادات ولا سيما أصولها كالأركان الخمسة، وحجهم يكون كحج الإنس زمنًا ومكانًا وإن كانوا يختلفون عن الإنس في جنس العبادات التي لا تناسب حالهم فتكون مختلفة عن التكليف الذي يكلف به الإنس. والله أعلم.(1/301)
القرآن(1/303)
(120) سئل فضيلة الشيخ: عن عقيدة السلف في القرآن الكريم؟
فأجاب قائلا: عقيدة السلف في القرآن الكريم كعقيدتهم في سائر أسماء الله وصفاته وهي عقيدة مبنية على ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكلنا يعلم أن الله - سبحانه وتعالى - وصف القرآن الكريم بأنه كلامه، وأنه منزل من عنده قال - تعالى -: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} . والمراد بلا ريب بكلام الله هنا القرآن الكريم وقال - تعالى -: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} وقال - عز وجل -: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} فالقرآن كلام الله - تعالى - لفظًا ومعنى، تكلم الله به حقيقة وألقاه إلى جبريل الأمين، ثم نزل به جبريل على قلب النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين.
ويعتقد السلف أن القرآن منزل نزله الله - عز وجل - على محمد، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، منجمًا - أي مفرقًا - في ثلاث وعشرين سنة حسب ما تقتضيه حكمة الله - عز وجل -، ثم إن النزول يكون ابتدائيًا، ويكون سببيًا بمعنى أن بعضه ينزل لسبب معين اقتضى نزوله، وبعضه ينزل بغير(1/305)
سبب، وبعضه ينزل في حكاية حال مضت للنبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأصحابه، وبعضه ينزل في أحكام شرعية ابتدائية على حسب ما ذكره أهل العلم في هذا الباب.
ثم إن السلف يقولون: إن القرآن من عند الله ابتداء وإليه يعود في آخر الزمان هذا قول السلف في القرآن الكريم.
ولا يخفى علينا أن الله - تعالى - وصف القرآن الكريم بأوصاف عظيمة، وصفه بأنه حكيم، وبأنه كريم، وبأنه عظيم، وبأنه مجيد، وهذه الأوصاف التي وصف الله بها كلامه تكون لمن تمسك بهذا الكتاب وعمل به ظاهرًا وباطنًا فإن الله - تعالى - يجعل له من المجد، والعظمة، والحكمة، والعزة، والسلطان، ما لا يكون لمن لم يتمسك بكتاب الله - عز وجل - ولهذا أدعو من هذا المنبر جميع المسلمين حكاما ومحكومين، علماء وعامة إلى التمسك بكتاب الله - عز وجل - ظاهرًا وباطنًا حتى تكون لهم العزة، والسعادة، والمجد، والظهور في مشارق الأرض ومغاربها، وأسأل الله - تعالى - أن يعيننا على تحقيق ذلك.
(121) سئل فضيلة الشيخ: عن فتنة القول بخلق القرآن؟
فأجاب قائلا: في عهد الإمام أحمد - رحمه الله - وقبله ظهرت فتنة خلق القرآن، وكان يقوم بها المعتزلة، فيقولون: إن كلام الله - عز وجل - مخلوق من جملة المخلوقات وليس وصفًا من أوصاف الله - عز وجل - فهو غير قائم بالله بل هو مخلوق منفصل عن الله، فلا يفرقون بين السماء وبين كلام الله ولا بين الأرض وبين كلام الله، فالكل - كما يقولون - مخلوق،(1/306)
وكذلك الأنعام والمطر، فالكل منزل، ولا شك أنه يلزم على قولهم لوازم باطلة، فيلزم أن يصح قول من يقول: كلام الناس هو كلام الله لأن كلام الناس مخلوق، ويلزم على ذلك إبطال التقسيم في قوله تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} . فإن الأمر إنما يكون عن طريق الكلام، فإذا صار الكلام مخلوقًا فالكل مخلوق وليس هناك خلق وأمر بل ليس هناك إلا خلق. ويؤدي كذلك إلى إبطال دلالة القرآن الكريم، وله لوازم كثيرة ذكرها أهل العلم في الكتب المطولة.
وقد امتحن الإمام أحمد - رحمه الله - وغيره من أهل العلم؛ لأن المأمون - وكان خليفة المسلمين - تزعم قيادة هذا القول ودعا الناس إليه، وكما هو معلوم إذا التزم الحاكم شيئًا يصعب على الناس الخروج عنه، فلم يصبر على مخالفة هذا إلا أفذاذ قليلون من الرجال، وكان هو الذي صمد صمودًا تامًّا كاملا - رحمه الله - ولهذا انصب عليه العذاب والحبس واشتهر بهذا - رحمه الله - وحمى الله به عقيدة أهل السنة من القول بخلق القرآن، فبقي الناس والحمد لله يقولون: القرآن كلام الله منزل غير مخلوق.(1/307)
الرسل(1/309)
(122) سئل فضيلة الشيخ: هل الأنبياء المذكورون في قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ} رسل أم لا؟ ومن أول الرسل؟
فأجاب بقوله: النبيون المذكورون في قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} . كلهم رسل لقوله - تعالى - في سياقها: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} وكل من ذكر في القرآن من النبيين فهم رسل لقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} .
وأول الرسل نوح وآخرهم محمد، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لقوله تعالى: {كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} وقد ثبت في حديث الشفاعة أن الناس يأتون نوحًا فيقولون له: أنت أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض، ولقوله - تعالى - في محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} .وإذا كان(1/311)
خاتم النبيين فهو خاتم الرسل قطعًا إذ لا رسالة إلا بنبوة ولهذا يقال: كل رسول نبي وليس كل نبي رسولا.
(123) وسئل فضيلته: هل الرسل عليهم الصلاة والسلام سواء في الفضيلة؟
فأجاب بقوله: الرسل عليهم الصلاة والسلام، ليسوا سواء في الفضيلة لقوله - تعالى -: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} . وقوله - تعالى -: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} .
ويجب علينا أن نؤمن بجميع الرسل أنهم حق صادقون فيما جاءوا به مصدقون فيما أوحي إليهم لقوله - تعالى -: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ} . إلى قوله: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} . ولأن هذا طريق النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمؤمنين قال الله - تعالى -: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} .
فلا نفرق بين أحد من الرسل في الإيمان به، وأنه صادق، مصدوق ورسالته حق ولكن نفرق في أمرين:
الأول: الأفضلية فنفضل بعضهم على بعض كما فضل الله بعضهم(1/312)
على بعض ورفع بعضهم درجات، لكن لا نقول ذلك على سبيل المفاخرة أو التنقص للمفضول كما في صحيح البخاري «أن يهوديًا أقسم فقال: لا والذي اصطفى موسى على البشر، فلطم وجهه رجل من الأنصار حين سمعه وقال: تقول هذا ورسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بين أظهرنا، فذهب اليهودي إلى رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال: إن لي ذمة وعهدًا فما بال فلان لطم وجهي؟ فقال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، للأنصاري: " لم لطمت وجهه؟ " فذكره فغضب النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتى رئي في وجهه ثم قال: " لا تفضلوا بين أنبياء الله» . وكما في صحيحه أيضًا عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: «لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى» .
الثاني: الاتباع فلا نتبع إلا من أرسل إلينا وهو محمد، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن شريعة النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نسخت جميع الشرائع لقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} .
(124) وسئل فضيلة الشيخ: هل هناك فرق بين الرسول والنبي؟
فأجاب بقوله: نعم، فأهل العلم يقولون: إن النبي هو من أوحى الله إليه بشرع ولم يأمره بتبليغه بل يعمل به في نفسه دون إلزام بالتبليغ.
والرسول هو من أوحى الله إليه بشرع وأمره بتبليغه والعمل به. فكل(1/313)
رسول نبي، وليس كل نبي رسولا، والأنبياء أكثر من الرسل، وقد قص الله بعض الرسل في القرآن ولم يقصص البعض الآخر.
قال - تعالى -: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} .
وبناء على هذه الآية يتبين أن كل من ذكر في القرآن من الأنبياء فهو رسول.
(125) سئل فضيلة الشيخ: قلتم في الفتوى السابقة رقم " 124 ": إن النبي من أوحي إليه بالشرع ولم يؤمر بتبليغه أما الرسول فهو من أوحي إليه بالشرع وأمر بتبليغه ولكن كيف لا يؤمر النبي بتبليغ الشرع وقد أوحي إليه؟
فأجاب بقوله: أوحى الله إلى النبي بالشرع من أجل إحياء الشرع بمعنى أن من رآه واقتدى به واتبعه دون أن يلزم بإبلاغه، ومن ذلك ما حصل لآدم عليه الصلاة والسلام، فإن آدم كان نبيًا مكلمًا كما جاء ذلك عن رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومع هذا فليس من الرسل لأنه قد دلت السنة بل دل القرآن، والسنة، وإجماع الأمة على أن أول رسول أرسله الله هو نوح عليه السلام. وآدم لا بد أن يكون متعبدًا لله بوحي من الله فيكون قد أوحي إليه ولم يؤمر بالتبليغ ولهذا لا يعد من الرسل.(1/314)
(126) سئل فضيلة الشيخ - جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيرًا -: من أول الرسل؟
فأجاب بقوله: أول الرسل عليهم الصلاة والسلام، نوح عليه الصلاة والسلام، وآخرهم محمد، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأما قبل نوح فلم يبعث رسول، وبهذا نعلم خطأ المؤرخين الذين قالوا: إن إدريس، عليه الصلاة والسلام، كان قبل نوح؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: في كتابه: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} وفي الحديث الصحيح في قصة الشفاعة «أن الناس يأتون إلى نوح فيقولون له: أنت أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض» ، فلا رسول قبل نوح، ولا رسول بعد محمد، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لقوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} .
وأما نزول عيسى ابن مريم، عليه السلام في آخر الزمان فإنه لا ينزل على أنه رسول مجدد، بل ينزل على أنه حاكم بشريعة النبي محمد، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن الواجب على عيسى وعلى غيره من الأنبياء الإيمان بمحمد، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما قال الله - تعالى -: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} وهذا الرسول المصدق(1/315)
لما معهم هو محمد، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما صح ذلك عن ابن عباس وغيره.
(127) سئل: هل آدم عليه الصلاة والسلام، رسول أو نبي؟
فأجاب بقوله: آدم ليس برسول ولكنه نبي، كما جاء في الحديث الذي أخرجه ابن حبان في صحيحه «أن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سئل عن آدم أَنَبِيٌّ هو؟ قال: " نعم نبي مكلم» ، ولكنه ليس برسول والدليل قوله - تعالى -: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} وقوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في حديث الشفاعة: «إن الناس يذهبون إلى نوح فيقولون: " أنت أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض» وهذا نص صريح بأن نوحًا أول الرسل.
(128) وسئل فضيلته: عن عقيدة المسلمين في عيسى ابن مريم، عليه الصلاة والسلام؟
فأجاب: عقيدة المسلمين في عيسى ابن مريم، عليه الصلاة والسلام، أنه أحد الرسل الكرام، بل أحد الخمسة الذين هو أولو العزم وهم: محمد، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإبراهيم ونوح، وموسى، وعيسى، عليهم الصلاة والسلام، ذكرهم الله في موضعين من كتابه، في سورة الأحزاب:(1/316)
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} ، وفي سورة الشورى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} . وأن عيسى عليه الصلاة والسلام، بشر من بني آدم مخلوق من أم بلا أب، وأنه عبد الله ورسوله فهو عبد لا يُعبد، ورسول لا يكذب، وأنه ليس له من خصائص الربوبية شيء بل هو كما قال الله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} وأنه، عليه الصلاة والسلام، لم يأمر قومه بأن يتخذوه وأمه إلهين من دون الله، وإنما قال لهم ما أمره الله به: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} وأنه، عليه السلام خلق بكلمة الله - عز وجل - كما قال الله - تعالى -: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وأنه ليس بينه وبين محمد، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رسول كما قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} ولا يتم إيمان أحد حتى يؤمن بأن عيسى عبد الله ورسوله، وأنه مبرأ ومنزه عما وصفه به اليهود الذين قالوا: "إنه ابن بغي وإنه(1/317)
نشأ من الزنا" - والعياذ بالله - وقد برأه الله - تعالى - من ذلك، كما أنهم - أي المسلمين - يتبرؤون من طريق النصارى الذين ضلوا في فهم الحقيقة بالنسبة لعيسى ابن مريم حيث اتخذوه وأمه إلهين من دون الله، وقال بعضهم: إنه ابن الله، وقال بعضهم: إنه ثالث ثلاثة.
أما فيما يتعلق بقتله وصلبه فالله - سبحانه وتعالى - قد نفى أن يكون قد قتل أو صلب نفيًا صريحًا قاطعًا فقال - عز وجل -: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} فمن اعتقد أن عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، قتل وصلب فقد كذب القرآن، ومن كذب القرآن فقد كفر، فنحن نؤمن بأن عيسى، عليه الصلاة والسلام لم يقتل ولم يصلب، ولكننا نقول: إن اليهود باءوا بإثم القتل والصلب حيث زعموا أنهم قتلوا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وهم لم يقتلوه حقيقة بل قتلوا من شبه لهم، حيث ألقى الله شبهه على واحد منهم فقتلوه وصلبوه، وقالوا: إننا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله، فاليهود باءوا بإثم القتل والصلب بإقرارهم على أنفسهم، والمسيح عيسى ابن مريم برأه الله من ذلك وحفظه ورفعه - سبحانه وتعالى - عنده إلى السماء وسوف ينزل في آخر الزمان إلى الأرض فيحكم بشريعة النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم يموت في الأرض ويدفن فيها ويخرج منها كما يخرج سائر بني آدم لقول الله - تعالى -: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى}(1/318)
، وقوله: {فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} .
(129) وسئل فضيلة الشيخ - حفظه الله تعالى -: عن وصف النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بحبيب الله؟
فأجاب بقوله: النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حبيب الله لا شك فهو حاب لله ومحبوب لله، ولكن هناك وصف أعلى من ذلك وهو خليل لله، فالرسول، عليه الصلاة والسلام، خليل الله كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا» . ولهذا من وصفه بالمحبة فقط فإنه نزله عن مرتبته، فالخلة أعظم من المحبة وأعلى، فكل المؤمنين أحباء الله، ولكن الرسول، عليه الصلاة والسلام، في مقام أعلى من ذلك وهي الخلة فقد اتخذه الله خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، لذلك نقول: إن محمدًا رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خليل الله، وهذا أعلى من قولنا: حبيب الله لأنه متضمن للمحبة، وزيادة لأنه غاية المحبة.
(130) وسئل الشيخ حفظه الله تعالى: عن حكم جعل مدح النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تجارة؟
فأجاب بقوله: حكم هذا محرم، ويجب أن يعلم بأن المديح للنبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ينقسم إلى قسمين:
أحدهما: أن يكون مدحًا فيما يستحقه، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بدون(1/319)
أن يصل إلى درجة الغلو فهذا لا بأس به أي لا بأس أن يمدح رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بما هو أهله من الأوصاف الحميدة الكاملة في خلقه وهديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والقسم الثاني: من مديح الرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قسم يخرج بالمادح إلى الغلو الذي نهى عنه النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال: «لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله» . فمن مدح النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بأنه غياث المستغيثين، ومجيب دعوة المضطرين، وأنه مالك الدنيا والآخرة، وأنه يعلم الغيب وما شابه ذلك من ألفاظ المديح فإن هذا القسم محرم بل قد يصل إلى الشرك الأكبر المخرج من الملة، فلا يجوز أن يمدح الرسول، عليه الصلاة والسلام، بما يصل إلى درجة الغلو لنهي النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عن ذلك.
ثم نرجع إلى اتخاذ المديح الجائز حرفة يكتسب بها الإنسان فنقول أيضًا: إن هذا حرام ولا يجوز؛ لأن مدح الرسول، عليه الصلاة والسلام، بما يستحق وبما هو أهل له، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من مكارم الأخلاق والصفات الحميدة، والهدي المستقيم مدحه بذلك من العبادة التي يتقرب بها إلى الله، وما كان عبادة فإنه لا يجوز أن يتخذ وسيلة إلى الدنيا لقول الله - تعالى -: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . والله الهادي إلى سواء الصراط.(1/320)
(131) سئل فضيلة الشيخ: عمن قال: إن تزوج النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان لغرضين: أحدهما: مصلحة الدعوة، والثاني: التمشي مع ما فطره الله عليه من التمتع بما أحل الله له؟
فأجاب بقوله: من المعلوم أن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بشر أكرمه الله - تعالى - بالنبوة والرسالة إلى الناس كافة، وأن اتصافه بما تقتضيه الطبيعة البشرية من الحاجة إلى الأكل، والشرب، والنوم، والبول، والغائط ومدافعة البرد، والحر، والعدو، ومن التمتع بالنكاح، وأطايب المأكول والمشروب وغيرها من مقتضيات الطبيعة البشرية لا يقدح في نبوته ورسالته، بل قد قال الله له: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} وقال هو عن نفسه: «إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون» . وانتفاء علم الغيب، وطرو النسيان على العلم قصور في مرتبة العلم من حيث هو علم، لكن لما كان من طبيعة البشر الذي خلقه الله ضعيفًا في جميع أموره، لم يكن ذلك قصورًا في مقام النبوة، ونقصًا في حق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولا ريب أن شهوة النكاح من طبيعة الإنسان فكمالها فيه من كمال طبيعته، وقوتها فيه تدل على سلامة البنية واستقامة الطبيعة، ولهذا ثبت في صحيح البخاري من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنه قال: «كنا نتحدث أنه يعني النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أعطي قوة ثلاثين» . يعني على النساء، وهذا والله أعلم، ليتمكن من إدراك ما أحل الله منهن بلا حصر ولا مهر، ولا ولي، فيقوم بحقوقهن، ويحصل بكثرتهن ما حصل من المصالح العظيمة الخاصة بهن والعامة للأمة جميعًا، ولولا هذه القوة التي(1/321)
أمده الله بها ما كان يدرك أن يتزوج بكل هذا العدد، أو يقوم بحقهن من الإحصان والعشرة.
ولو فرض أن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تزوج امرأة لمجرد قضاء الوطر من الشهوة والتمشي مع ما تقتضيه الفطرة بل الطبيعة لم يكن في ذلك قصور في مقام النبوة، ولا نقص في حقه، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كيف وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تنكح المرأة لأربع: لمالها، وحسبها، وجمالها، ودينها، فاظفر بذات الدين» . بل قد قال الله له: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} . لكننا لا نعلم حتى الآن أن رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تزوج امرأة لمجرد قضاء الوطر من الشهوة، ولو كان كذلك لاختار الأبكار الباهرات جمالا، الشابات سنًّا، كما قال لجابر - رضي الله عنه - حين أخبره أنه تزوج ثيبًا، قال: «فهلا بكرًا تلاعبها وتلاعبك» ؟ . وفي رواية: «وتضاحكها وتضاحكك» . وفي رواية: «ما لك وللعذارى ولعابها» ، رواه البخاري، وإنما كان زواجه، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إما تأليفًا، أو تشريفًا، أو جبرًا أو مكافأة، أو غير ذلك من المقاصد العظيمة. وقد أجملها في فتح الباري ص 115 ج 9 المطبعة السلفية حيث قال: " والذي تحصل من كلام أهل العلم في الحكمة في استكثاره من النساء عشرة أوجه:
أحدها: أن يكثر من يشاهد أحواله الباطنة فينتفي عنه ما يظن به المشركون من أنه ساحر أو غير ذلك.
ثانيها: لتتشرف به قبائل العرب بمصاهرته فيهم.
ثالثها: الزيادة في تألفهم لذلك.(1/322)
رابعها: الزيادة في التكليف حيث كلف أن لا يشغله ما حبب إليه منهن عن المبالغة في التبليغ.
خامسها: لتكثر عشيرته من جهة نسائه فتزداد أعوانه على من يحاربه.
سادسها: نقل الأحكام الشرعية التي لا يطلع عليها الرجال؛ لأن أكثر ما يقع مع الزوجة مما شأنه أن يختفي مثله.
سابعها: الاطلاع على محاسن أخلاقه الباطنة. فقد تزوج أم حبيبة وأبوها يعاديه، وصفية بعد قتل أبيها وعمها وزوجها، فلو لم يكن أكمل الخلق في خلقه لنفرن منه، بل الذي وقع أنه كان أحب إليهن من جميع أهلهن.
ثامنها: ما تقدم مبسوطًا من خرق العادة له في كثرة الجماع مع التقلل من المأكول والمشروب، وكثرة الصيام والوصال. وقد أمر من لم يقدر على مؤن النكاح بالصوم، وأشار إلى أن كثرته تكسر شهوته، فانخرقت هذه العادة في حقه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
تاسعها وعاشرها: ما تقدم عن صاحب الشفاء من تحصينهن والقيام بحقوقهن. ا. هـ.
قلت: الثامنة حاصلة لأن الله أعطاه قوة ثلاثين رجلا كما سبق.
وثم وجه حادي عشر: وهو إظهار كمال عدله في معاملتهن لتتأسى به الأمة في ذلك.
وثاني عشر: كثرة انتشار الشريعة فإن انتشارها من عدد أكثر من انتشارها من واحدة.
وثالث عشر: جبر قلب من فات شرفها كما في صفية بنت حيي(1/323)
وجويرية بنت الحارث سيد بني المصطلق.
ورابع عشر: تقرير الحكم الشرعي وانتشال العقيدة الفاسدة التي رسخت في قلوب الناس من منع التزوج بزوجة ابن التبني، كما في قصة زينب فإن اقتناع الناس بالفعل أبلغ من اقتناعهم بالقول، وانظر اقتناع الناس بحلق النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رأسه في الحديبية ومبادرتهم بذلك حين حلق بعد أن تباطئوا في الحلق مع أمره لهم به.
وخامس عشر: التأليف وتقوية الصلة كما في أمر عائشة وحفصة، فإن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، شد صلته بخلفائه الأربعة عن طريق المصاهرة، مع ما لبعضهم من القرابة الخاصة، فتزوج ابنتي أبي بكر وعمر، وزوج بناته الثلاث بعثمان - وعلي رضي الله عن الجميع - فسبحان من وهب نبيه، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هذه الحكم، وأمده بما يحققها قدرًا وشرعًا، فأعطاه قوة الثلاثين رجلا، وأحل له ما شاء من النساء يرجي من يشاء منهن، ويؤوي إليه من يشاء، وهو سبحانه الحكيم العليم.
وأما عدم تزوجه بالواهبة نفسها، فلا يدل على أنه تزوج من سواها لمجرد الشهوة، وقضاء وطر النكاح.
وأما ابنة الجون فلم يعدل عن تزوجها بل دخل عليها وخلا بها، ولكنها استعاذت بالله منه، فتركها النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال: «لقد عذت بعظيم فالحقي بأهلك» . ولكن هل تزوجها النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لمجرد جمالها وقضاء وطر النكاح أو لأمر آخر؟ إن كان لأمر آخر سقط الاستدلال به على أن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان يتزوج لمجرد قضاء الوطر، وإن كان لأجل قضاء الوطر فإن من حكمة الله - تعالى - أن حال بينه وبين هذه المرأة بسبب استعاذتها منه.(1/324)
وأما سودة - رضي الله عنها - فقد خافت أن يطلقها النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكبر سنها فوهبت يومها لعائشة، وخوفها منه لا يلزم من أن يكون قد هم به. وأما ما روي أنه طلقها بالفعل فضعيف لإرساله.
وأما زواجه، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بزينب فليس لجمالها بل هو لإزالة عقيدة سائدة بين العرب، وهي امتناع الرجل من تزوج مفارقة من تبناه، فأبطل الله التبني وأبطل الأحكام المترتبة عليه عند العرب، ولما كانت تلك العقيدة السائدة راسخة في نفوس العرب كان تأثير القول في اقتلاعها بطيئًا، وتأثير الفعل فيها أسرع فقيض الله - سبحانه - بحكمته البالغة أن يقع ذلك من النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في تزوجه بمفارقة مولاه زيد بن حارثة الذي كان تبناه من قبل ليطمئن المسلمون إلى ذلك الحكم الإلهي، ولا يكون في قلوبهم حرج منه، وقد أشار الله - تعالى - إلى هذه الحكمة بقوله - تعالى -: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} . ثم تأمل قوله تعالى: {زَوَّجْنَاكَهَا} . فإنه يشعر بأن تزويجها إياه لم يكن عن طلب منه، أو تشوف إليه، وإنما هو قضاء من الله لتقرير الحكم الشرعي وترسيخه، وعدم الحرج منه وبهذا يعرف بطلان ما يروى أن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أتى زيدًا ذات يوم لحاجة فرأى زينب فوقعت في نفسه وأعجبه حسنها فقال: " سبحان الله مقلب القلوب". فأخبرت زينب زيدًا بذلك ففطن له فكرهها وطلقها بعد مراجعة النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقوله: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ} . فهذا الأثر باطل مناقض لما ذكر الله - تعالى - من الحكمة في(1/325)
تزويجها إياه، وقد أعرض عنه ابن كثير - رحمه الله - فلم يذكره، وقال: أحببنا أن نضرب عنها - أي عن الآثار الواردة عن بعض السلف صفحًا - لعدم صحتها فلا نوردها، ويدل على بطلان هذا الأثر أنه لا يليق بحال الأنبياء فضلا عن أفضلهم وأتقاهم لله - عز وجل - وما أشبه هذه القصة بتلفيق قصة داود عليه الصلاة والسلام، وتحيله على التزوج بزوجة من ليس له إلا زوجة واحدة، على ما ذكر في بعض كتب التفسير عند قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ} . إلى آخر القصة فإن من علم قدر الأنبياء وبعدهم عن الظلم والعدوان والمكر والخديعة علم أن هذه القصة مكذوبة على نبي الله داود عليه الصلاة والسلام.
والحاصل أنه وإن جاز للنبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أن يتزوج لمجرد قضاء الوطر من النكاح وجمال المرأة وأن ذلك لا يقدح في مقامه، فإننا لا نعلم أن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تزوج زواجًا استقرت به الزوجة وبقيت معه من أجل هذا الغرض. والله أعلم.
(132) سئل فضيلة الشيخ: لماذا وجه الله الخطاب إلى الرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في قوله: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ} مع أن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، معصوم من الشرك؟
فأجاب بقوله: الخطاب هنا للرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في ظاهر سياق الآية.(1/326)
وقال بعض العلماء: لا يصح أن يكون للرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن الرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يستحيل أن يقع منه ذلك والآية على تقدير " قل " وهذا ضعيف لإخراج الآية عن سياقها.
والصواب: أنه إما خاص بالرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والحكم له ولغيره، وإما عام لكل من يصح خطابه ويدخل فيه الرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكونه يوجه إليه مثل هذا الخطاب لا يقتضي أن يكون ذلك ممكنًا منه قال - تعالى -: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} فالخطاب له ولجميع الرسل ولا يمكن أن يقع، فلا يمكن أن يقع منه، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، - باعتبار حاله - شركٌ أبدًا، والحكمة من النهي أن يكون غيره متأسيًا به فإذا كان النهي موجهًا إلى من لا يمكن أن يقع منه باعتبار حاله فهو إلى من يمكن منه من باب أولى.
(133) سئل فضيلة الشيخ: ما معنى قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة» ؟ ومن الذي تصدق رؤياه؟
فأجاب بقوله: معنى قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة» أن رؤيا المؤمن تقع صادقة لأنها أمثال يضربها الملك للرائي، وقد تكون خبرًا عن شيء واقع، أو شيء سيقع فيقع مطابقًا للرؤيا فتكون هذه الرؤيا كوحي النبوة في صدق مدلولها وإن كانت تختلف عنها ولهذا كانت جزءًا من ستة وأربعين جزءًا من النبوة(1/327)
وتخصيص الجزء بستة وأربعين جزءًا من الأمور التوقيفية التي لا تعلم حكمتها كأعداد الركعات والصلوات.
وأما الذي تصدق رؤياه فهو الرجل المؤمن الصدوق إذا كانت رؤياه صالحة، فإذا كان الإنسان صدوق الحديث في يقظته وعنده إيمان وتقوى فإن الغالب أن الرؤيا تكون صادقة، ولهذا جاء هذا الحديث مقيدًا في بعض الروايات بالرؤيا الصالحة من الرجل الصالح، وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: «أصدقهم رؤيا أصدقهم حديثًا» .
ولكن ليعلم أن ما يراه الإنسان في منامه ثلاثة أقسام:
القسم الأول: رؤيا حق صالحة وهي التي أخبر عنها النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنها جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة، وغالبًا ما تقع، ولكن أحيانًا يكون وقوعها على صفة ما رآه الإنسان في منامه تمامًا، وأحيانًا يكون وقوعها على صفة ضرب الأمثال في المنام، يضرب له المثل ثم يكون الواقع على نحو هذا المثل وليس مطابقًا له تمامًا، مثل ما رأى النبي، عليه الصلاة والسلام، قبيل غزوة أحد أن في سيفه ثلمة، ورأى بقرًا تنحر، فكان الثلمة التي في سيفه استشهاد عمه حمزة - رضي الله عنه - لأن قبيلة الإنسان بمنزلة سيفه في دفاعهم عنه ومعاضدته ومناصرته، والبقر التي تنحر كان استشهاد من استشهد من الصحابة - رضي الله عنهم - لأن في البقر خيرًا كثيرًا، وكذلك الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا أهل علم ونفع للخلق وأعمال صالحة.
القسم الثاني: الحلم وهو ما يراه الإنسان في منامه مما يقع له في مجريات حياته، فإن كثيرًا من الناس يرى في المنام ما تحدثه نفسه في اليقظة(1/328)
وما جرى عليه في اليقظة وهذا لا حكم له.
القسم الثالث: إفزاع من الشيطان، فإن الشيطان يصور للإنسان في منامه ما يفزعه من شيء في نفسه، أو ماله، أو في أهله، أو في مجتمعه؛ لأن الشيطان يحب إحزان المؤمنين كما قال الله - تعالى -: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} فكل شيء ينكد على الإنسان في حياته ويعكر صفوه عليه فإن الشيطان حريص عليه سواء ذلك في اليقظة أو في المنام؛ لأن الشيطان عدو كما قال الله - تعالى -: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} وهذا النوع الأخير أرشدنا رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إلى التحرز منه فأمر من رأى في منامه ما يكره أن يستعيذ بالله من الشيطان، ومن شر ما رأى، وأن يتفل عن يساره ثلاث مرات، وأن ينقلب على جنبه الآخر، وأن لا يحدث أحدًا بما رأى فإذا فعل هذه الأمور فإن ما رآه مما يكره في منامه لا يضره شيئًا. وهذا يقع كثيرًا من الناس ويكثر السؤال عنه لكن الدواء له ما بينه النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما في حديث جابر عند مسلم: «إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها فليبصق عن يساره ثلاثًا، وليستعذ بالله من الشيطان ثلاثًا، وليتحول عن جنبه الذي كان عليه» . وكما في حديث أبي سعيد الخدري عند البخاري: «إذا رأى أحدكم ما يكره فإنما هي من الشيطان فليستعذ من شرها ولا يذكرها لأحد فإنها لا تضره» . وكما في حديث أبي قتادة عند مسلم قال: «كنت أرى الرؤيا فتمرضني حتى سمعت رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقول: الرؤيا الصالحة من الله فإذا رأى أحدكم ما يحب فلا يحدث»(1/329)
«بها إلا من يحب، وإن رأى ما يكره فليتفل عن يساره ثلاثًا، وليتعوذ بالله من شر الشيطان وشرها، ولا يحدث بها أحدًا فإنها لن تضره» . وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: «فإن رأى أحدكم ما يكره فليقم فليصل ولا يحدث بها الناس» . أخرجه مسلم.
فأمر النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من رأى ما يكره بأمور:
1 - أن يبصق عن يساره ثلاثًا.
2 - أن يستعيذ بالله من شر الشيطان ثلاثًا.
3 - أن يستعيذ بالله من شر ما رأى.
4 - أن يتحول عن جنبه الذي كان عليه إلى الجنب الآخر.
5 - أن لا يحدث بها أحدًا.
6 - أن يقوم فيصلي.
(134) سئل فضيلة الشيخ: كيف نجمع بين قوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} . وقوله: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} ؟
فأجاب - حفظه الله - بقوله: قوله - تعالى -: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} كقوله - تعالى -: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} . فالأنبياء والرسل لا شك أن بعضهم أفضل من بعض فالرسل أفضل من الأنبياء، وأولو العزم من الرسل أفضل ممن سواهم، وأولو(1/330)
العزم من الرسل هم الخمسة الذين ذكرهم الله - تعالى - في آيتين من القرآن إحداهما في سورة الأحزاب: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} . محمد، عليه الصلاة والسلام، ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم.
والآية الثانية في سورة الشورى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} . فهؤلاء خمسة وهم أفضل ممن سواهم.
وأما قوله - تعالى - عن المؤمنين: {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} . فالمعنى لا نفرق بينهم في الإيمان بل نؤمن أن كلهم رسل من عند الله حقًّا وأنهم ما كذبوا فهم صادقون مصدقون وهذا معنى قوله: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} أي في الإيمان بل نؤمن أن كلهم، عليهم الصلاة والسلام، رسل من عند الله حقًّا.
لكن في الإيمان المتضمن للاتباع - هذا يكون لمن بعد الرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، - خاص بالرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هو المتبع؛ لأن شريعته نسخت ما سواها من الشرائع وبهذا نعلم أن الإيمان يكون للجميع كلهم نؤمن بهم وأنهم رسل الله حقًا وأن شريعته التي جاء بها حق، وأما بعد أن بعث الرسول، عليه الصلاة(1/331)
والسلام، فإن جميع الأديان السابقة نسخت بشريعته، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصار الواجب على جميع الناس أن ينصروا محمدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحده، ولقد نسخ الله - تعالى - بحكمته جميع الإديان سوى دين الرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولهذا قال الله - تعالى -: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} فكانت الأديان سوى دين الرسول، عليه الصلاة والسلام، كلها منسوخة لكن الإيمان بالرسل وأنهم حق هذا أمر لا بد منه.
(135) سئل فضيلة الشيخ - حفظه الله -: عن معجزات الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
فأجاب - حفظه الله - بقوله: معجزات النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهي الآيات الدالة على رسالته، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنه رسول الله حقًّا كثيرة جدًا وأعظم آيات جاء بها هذا القرآن الكريم كما قال الله - تعالى -: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .
فالقرآن العظيم أعظم آية جاء بها رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنفع لمن تدبرها واقتدى بها لأنها آية باقية إلى يوم القيامة.(1/332)
أما الآيات الأخرى الحسية التي مضت وانقضت أو لا تزال تحدث فهي كثيرة وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - جملة صالحة منها في آخر كتابه " الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح "، هذا الكتاب الذي ينبغي لكل طالب علم أن يقرأه لأنه بين فيه شطح النصارى الذين بدلوا دين المسيح، عليه الصلاة والسلام، وخطأهم وضلالهم وأنهم ليسوا على شيء مما كانوا عليه فيما حرفوه وبدلوه وغيروه. والكتاب مطبوع وبإمكان كل إنسان الحصول عليه، وفيه فوائد عظيمة منها ما أشرت إليه، بيان الشيء الكثير من آيات النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكذلك ابن كثير - رحمه الله - في " البداية والنهاية " ذكر كثيرًا من آيات النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمن أحب فليرجع إليه.
(136) سئل فضيلة الشيخ - حفظه الله تعالى -: عمن يعتقد أن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نور من نور الله وليس ببشر وأنه يعلم الغيب ثم هو يستغيث به، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، معتقدًا أنه يملك النفع والضر، فهل تجوز الصلاة خلف هذا الرجل أو من كان على شاكلته أفيدونا جزاكم الله خيرًا؟.
فأجاب بقوله: من اعتقد أن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نور من الله وليس ببشر وأنه يعلم الغيب فهو كافر بالله ورسوله وهو من أعداء الله ورسوله وليس من أولياء الله ورسوله لأن قوله هذا تكذيب لله ورسوله ومن كذب الله ورسوله فهو كافر والدليل على أن قوله هذا تكذيب لله ورسوله(1/333)
قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} وقوله تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} وقوله تعالى: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} وقوله تعالى: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني» .
ومن استغاث برسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، معتقدًا أنه يملك النفع والضر فهو كافر مكذب لله - تعالى - مشرك به لقوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} وقوله تعالى: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} وقوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأقاربه: «لا أغني عنكم من الله شيئًا» كما قال ذلك لفاطمة وصفية عمة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولا تجوز الصلاة خلف هذا الرجل ومن كان على شاكلته ولا تصح الصلاة خلفه ولا يحل أن يجعل إمامًا للمسلمين.
تم بحمد الله - تعالى - المجلد الأول
ويليه بمشيئة الله - عز وجل - المجلد الثاني(1/334)
اليوم الآخر
(137) سئل فضيلة الشيخ: هل أشراط الساعة الكبرى تأتي بالترتيب؟ وهل الحيوانات تشعر بعلامات القيامة دون الإنس والجن؟ .
فأجاب بقوله: أشراط الساعة الكبرى بعضها مرتب ومعلوم، وبعضها غير مرتب ولا يعلم ترتيبه، فمما جاء مرتبا: نزول عيسى ابن مريم، وخروج يأجوج ومأجوج، والدجال، فإن الدجال يبعث، ثم ينزل عيسى ابن مريم فيقتله، ثم يخرج يأجوج ومأجوج.
وقد رتب السفاريني - رحمه الله- في عقيدته هذه الأشراط، لكن بعض هذا الترتيب تطمئن إليه النفس، وبعضها ليس كذلك. والترتيب لا يهمنا، وإنما يهمنا أن للساعة علامات عظيمة إذا وقعت فإن الساعة تكون قد قربت، وقد جعل الله للساعة أشراطا؛ لأنها حدث هام، يحتاج الناس إلى تنبيههم لقرب حدوثه.
ولا ندري هل تشعر البهائم بذلك، ولكن البهائم تبعث يوم القيامة، وتحشر، ويقتص من بعضها لبعض، فيقتص للشاة الجلحاء من القرناء.
(138) سئل فضيلة الشيخ: عن أحاديث خروج المهدي، هل هي صحيحة أو لا؟
فأجاب بقوله: أحاديث المهدي تنقسم إلى أربعة أقسام:
القسم الأول: أحاديث مكذوبة.
القسم الثاني: أحاديث ضعيفة.(2/11)
القسم الثالث: أحاديث حسنة، لكنها بمجموعها تصل إلى درجة الصحة، على أنها صحيح لغيره.
وقال بعض العلماء: إن فيها ما هو صحيح لذاته، وهذا هو القسم الرابع.
ولكنه ليس المهدي المزعوم، الذي يقال: إنه في سرداب في العراق، فإن هذا لا أصل له، وهو خرافة، ولا حقيقة له، ولكن المهدي الذي جاءت الأحاديث بإثباته رجل كغيره من بني آدم، يخلق ويولد في وقته، ويخرج إلى الناس في وقته، فهذه هي قصة المهدي، وإنكاره مطلقا خطأ، وإثباته مطلقا خطأ، كيف ذلك؟
إثباته على وجه يشمل المهدي المنتظر، الذي يقال: إنه في السرداب هذا خطأ؛ لأن اعتقاد هذا المهدي المختفي خبل في العقل، وضلال في الشرع، وليس له أصل، وإثبات المهدي الذي أخبر به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتكاثرت فيه الأحاديث، والذي سيولد في وقته، ويخرج في وقته هذا حق.
(139) وسئل فضيلة الشيخ: من هم يأجوج ومأجوج؟
فأجاب- حفظه الله تعالى - بقوله: يأجوج ومأجوج أمتان من بني آدم موجودتان، قال الله - تعالى - في قصة ذي القرنين: ( {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا قَالُوا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا}(2/12)
{فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} .
ويقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يقول الله يوم القيامة: يا آدم، قم فابعث بعث النار من ذريتك» ، إلى أن قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أبشروا فإن منكم واحدا، ومن يأجوج ومأجوج ألفا» . وخروجهم الذي هو من أشراط الساعة وجدت بوادره في عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ففي حديث أم حبيبة - رضي الله عنها - قالت: «خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوما فزعا محمرا وجهه، يقول: " لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بأصبعه الإبهام والتي تليها» .
(140) وسئل فضيلة الشيخ: عن الدجال؟ ولماذا حذر الأنبياء أقوامهم منه مع أنه لا يخرج إلا في آخر الزمان؟
فأجاب قائلا: أعظم فتنة على وجه الأرض منذ خلق آدم إلى قيام الساعة هي فتنة الدجال، كما قال ذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولهذا ما من نبي من نوح إلى محمد - صلوات الله عليهم وسلامه - إلا أنذر قومه به تنويها بشأنه، وتعظيما له، وتحذيرا منه، وإلا فإن الله يعلم أنه لن يخرج إلا في آخر الزمان، ولكن أمر الرسل أن ينذروا قومهم إياه من أجل أن تتبين عظمته وفداحته، وقد صح ذلك عن النبي - عليه الصلاة والسلام - وقال: «إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم - صلوات الله وسلامه عليه؛ يعني أكفيكم إياه- وإلا فامرؤ حجيج نفسه والله خليفتي على كل مسلم» .(2/13)
نِعْمَ الخليفة ربنا - جل وعلا-.
فهذا الدجال شأنه عظيم، بل هو أعظم فتنة، كما جاء في الحديث منذ خلق آدم إلى أن تقوم الساعة، فكان حريّا بأن يخص من بين فتن المحيا بالتعوذ من فتنته في الصلاة: «أعوذ بالله من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال» .
وأما الدجال فهو مأخوذ من الدجل وهو التمويه؛ لأن هذا مموه بل أعظم مموه، وأشد الناس دجلا.
(141) وسئل فضيلته: عن وقت خروج المسيح الدجال.
فأجاب بقوله: خروج المسيح الدجال من علامات الساعة، ولكنه غير محدد؛ لأنه لا يعلم متى تكون الساعة إلا الله، فكذلك أشراطها ما نعلم منها إلا ما ظهر، فوقت خروجه غير معلوم لنا، لكننا نعلم أنه من أشراط الساعة.
(142) وسئل عن مكان خروج الدجال.
فأجاب بقوله: يخرج من المشرق من جهة الفتن والشر كما، قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الفتنة هاهنا» وأشار إلى المشرق، فالمشرق: منبع الشر والفتن، يخرج من المشرق من خراسان، مارّا بأصفهان، داخلا الجزيرة من بين الشام والعراق، ليس له هم إلا المدينة؛ لأن فيها البشير النذير - عليه الصلاة والسلام - فيحب أن يقضي على أهل المدينة، ولكنها محرمة عليه، كما ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «على كل باب منها ملائكة يحفظونها» . هذا الرجل يخرج خلة بين الشام والعراق، ويتبعه من يهود أصفهان سبعون ألفا؛ لأنهم جنوده، فاليهود من أخبث عباد الله، وهو(2/14)
أضل عباد الله، فيتبعونه ويؤوونه وينصرونه، ويكونون مسالح له - أي جنودا مجندين- هم، وغيرهم ممن يتبعهم، قال النبي - عليه الصلاة والسلام -: «"يا عباد الله، فاثبتوا. يا عباد الله، فاثبتوا» . يثبتنا عليه الصلاة والسلام؛ لأن الأمر خطير، وقال - عليه الصلاة والسلام -: «من سمع بالدجال فلينأ عنه، فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه مما يبعث به من الشبهات» . يأتيه الإنسان، ويقول: لن يضلني، ولن أتأثر به، ولكن لا يزال يلقي عليه من الشبهات حتى يتبعه والعياذ بالله.
(143) وسئل عن: دعوة الدجال وما يدعو إليه.
فأجاب بقوله: ذكر أنه أول ما يخرج يدعو إلى الإسلام، ويقول: إنه مسلم، وينافح عن الإسلام، ثم بعد ذلك يدعي النبوة، وأنه نبي، ثم بعد ذلك يدعي أنه إله، فهذه دعوته نهايتها بداية فرعون، وهي ادعاء الربوبية.
(144) وسئل عن: فتنة الدجال.
فأجاب بقوله: من حكمة الله - عز وجل أنه - سبحانه وتعالى - يعطي الدجال آيات فيها فتن عظيمة، فإنه يأتي إلى القوم يدعوهم فيتبعونه، فيصبحون وقد نبتت أراضيهم، وشبعت مواشيهم، فتعود إليهم أطول ما كانت ذرى، وأسبغ ضروعا، وأمد خواصر؛ يعني أنهم يعيشون برغد؛ لأنهم اتبعوه.
ويأتي القوم فيدعوهم فلا يتبعونه، فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم، وهذه فتنة عظيمة، لا سيما في الأعراب، ويمر بالخربة، فيقول: أخرجي كنوزك، فتخرج كنوزها تتبعه كيعاسيب النحل من ذهب وفضة، وغيرها بدون آلات، وبدون أي شيء، فتنة من الله - عز وجل- فهذه(2/15)
حاله، ومعاملته مع أهل الدنيا لمن يريد التمتع بالدنيا، أو يبأس فيها.
ومن فتنته أن الله - تعالى - جعل معه جنة ونارا بحسب رؤيا العين، لكن جنته نار، وناره جنة، فمن أطاعه أدخل هذه الجنة فيما يرى الناس، ولكنها نار محرقة والعياذ بالله، ومن عصاه أدخله النار فيما يراه الناس، ولكنها جنة وماء عذب طيب.
إذن يحتاج الأمر إلى تثبيت من الله - عز وجل - إن لم يثبت الله المرء هلك وضل، فيحتاج إلى أن يثبت الله المرء على دينه ثباتا قويا.
ومن فتنته أنه يخرج إليه رجل من الناس ممتلئ شبابا، فيقول له: أنت الدجال الذي ذكر لنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيدعوه، فيأبى أن يتبعه فيضربه، ويشجه في المرة الأولى، ثم يقتله، ويقطعه قطعتين، ويمشي بينهما تحقيقا للمباينة بينهما، ثم يدعوه فيقوم يتهلل وجهه، ويقول: أنت الدجال الذي ذكر لنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم يأتي ليقتله فلا يسلط عليه، يعجز عن قتله، ولن يسلط على أحد بعده، فهذا من أعظم الناس شهادة عند الله؛ لأنه في هذا المقام العظيم الرهيب الذي لا نتصوره نحن في هذا المكان، لا يتصور رهبته إلا من باشره، ومع ذلك يصرح على الملأ إعذارا وإنذارا، بأنك أنت الدجال الذي ذكر لنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، هذه حاله، وما يدعو إليه.
(145) وسئل فضيلته: عن مقدار لبث الدجال في الأرض.
فأجاب بقوله: مقدار لبثه في الأرض: أربعون يوما فقط، لكن يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامنا، هكذا حدث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، «قال الصحابة - رضي الله عنهم -: يا رسول الله، هذا اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم واحد؟ قال: " لا، اقدروا»(2/16)
«له قدره"» ، انظروا إلى هذا المثال لنأخذ منه عبرة، كيف كان تصديق أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لرسول الله، ما ذهبوا يحرفون، أو يؤولون، أو يقولون: إن اليوم لا يمكن أن يطول؛ لأن الشمس تجري في فلكها، ولا تتغير، ولكنه يطول لكثرة المشاق فيه وعظمها، فهو يطول؛ لأنه متعب - بكسر العين - ما قالوا هكذا، كما يقول بعض المتحذلقين، ولكن صدقوا بأن هذا اليوم سيكون اثني عشر شهرا حقيقة، بدون تحريف، وبدون تأويل.
وهكذا حقيقة المؤمن ينقاد لما أخبر الله به ورسوله من أمور الغيب، وإن حار فيها عقله، لكن يجب أن تعلم أن خبر الله ورسوله لا يكون في شيء محال عقلا، لكن يكون في شيء تحار فيه العقول؛ لأنها لا تدركه، فالرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخبر أن أول يوم من أيام الدجال كسنة، لو أن هذا الحديث مر على المتأخرين، الذين يدعون أنهم هم العقلاء لقالوا: إن طوله مجاز، عما فيه من التعب والمشقة؛ لأن أيام السرور قصيرة، وأيام الشرور طويلة، ولكن الصحابة - رضي الله عنهم- من صفائهم وقبولهم سلموا في الحال، وقالوا بلسان الحال: إن الذي خلق الشمس، وجعلها تجري في أربع وعشرين ساعة في اليوم والليلة قادر على أن يجعلها تجري في اثني عشر شهرا؛ لأن الخالق واحد - عز وجل - فهو قادر، ولذلك سلموا. وقالوا: كيف نصلي؟
ما سألوا عن الأمر الكوني؛ لأنهم يعلمون أن قدرة الله فوق مستواهم، سألوا عن الأمر الشرعي الذين هم مكلفون به وهو الصلاة، وهذا والله حقيقة الانقياد والقبول، قالوا: «يا رسول الله، فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: " لا، اقدروا له قدره» . وسبحان الله العظيم، إذا تأملت تبين لك أن هذا الدين تام كامل، لا يمكن أن تكون مسألة يحتاج الناس إليها إلى يوم القيامة إلا وجد لها أصل، كيف أنطق الله(2/17)
الصحابة أن يسألوا هذا السؤال؟
أنطقهم الله حتى يكون الدين كاملا، لا يحتاج إلى تكميل، وقد احتاج الناس إلى هذا الآن في المناطق القطبية، يبقى الليل فيها ستة أشهر، والنهار ستة أشهر، فنحتاج إلى هذا الحديث، انظر كيف أفتى الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذه الفتوى قبل أن تقع هذه المشكلة؛ لأن الله - تعالى - قال في كتابه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} . والله لو نتأمل الكلمة {أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} لعلمنا أنه لا يوجد شيء ناقص في الدين أبدا، فهو كامل من كل وجه، لكن النقص فينا؛ إما قصور في عقولنا، أو في أفهامنا، أو في إرادات ليست منضبطة، يكون الإنسان يريد أن ينصر قوله، فيعمى عن الحق - نسأل الله العافية -.
فلو أننا نظرنا في علم، وفهم، وحسن نية لوجدنا أن الدين ولله الحمد لا يحتاج إلى مكمل، وأنه لا يمكن أن تقع مسألة صغيرة ولا كبيرة، إلا وجد حلها في الكتاب والسنة، لكن لما كثر الهوى، وغلب على الناس صار بعض الناس يعمى عليهم الحق، ويخفى عليهم، وتجدهم إذا نزلت فيهم الحادثة التي لم تكن معروفة من قبل بعينها، وإن كان جنسها معروفا تجدهم يختلفون فيها أكثر من أصابعهم، إذا كانت تحتمل قولين وجدت فيها عشرة، كل هذا؛ لأن الهوى غلب على الناس الآن، وإلا فلو كان القصد سليما والفهم صافيا، والعلم واسعا لتبين الحق.
على كل حال، أقول: إن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخبر أن الدجال يبقى أربعين يوما، وبعد الأربعين يوما ينزل المسيح عيسى ابن مريم، الذي رفعه الله إليه، وقد جاء في الأحاديث الصحيحة: «أنه ينزل عند المنارة البيضاء، شرقي دمشق، واضعا كفيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسه»(2/18)
«قطر، وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ، فلا يحل لكافر يجد ريحه إلا مات» .
وهذه من آيات الله، فيلحق الدجال عند باب لد في فلسطين، فيقتله هناك، وحينئذ يقضي عليه نهائيا، ولا يقبل عيسى - عليه الصلاة والسلام - إلا الإسلام لا يقبل الجزية، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير فلا يعبد إلا الله، وعلى هذا فالجزية التي فرضها الإسلام جعل الإسلام لها أمدا تنتهي إليه عند نزول عيسى، ولا يقال: إن هذا تشريع من عيسى - عليه الصلاة والسلام -؛ لأن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخبر بذلك مقرا له، فوضع الجزية عند نزول عيسى - عليه الصلاة والسلام -، من سنة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأن سنة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قوله، وفعله، وإقراره، وكونه يتحدث عن عيسى ابن مريم مقرا له فهذا من سنته، وإلا فإن عيسى لا يأتي بشرع جديد، ولا أحد يأتي بشرع جديد، ليس إلا شرع محمد - عليه الصلاة والسلام - إلى يوم القيامة، هذا ما يتعلق بالدجال نسأل الله أن يعيذنا وإياكم من فتنته.
(146) وسئل فضيلة الشيخ: هل الدجال من بني آدم؟
فأجاب قائلا: الدجال من بني آدم. وبعض العلماء يقول: إنه شيطان. وبعضهم يقول: إن أباه إنسي، وأمه جنية، وهذه الأقوال ليست صحيحة، فالذي يظهر: أن الدجال من بني آدم، وأنه يحتاج إلى الأكل والشرب، وغير ذلك، ولهذا يقتله عيسى قتلا عاديا كما يقتل البشر.
(147) وسئل فضيلته: هل الدجال موجود الآن؟
فأجاب بقوله: الدجال غير موجود؛ لأن الرسول، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب الناس في آخر حياته، وقال: " «إنه على رأس مائة سنة لا يبقى»(2/19)
«على وجه الأرض ممن هو عليها اليوم أحد» .
وهذا خبر، وخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لا يدخله الكذب، وهو متلقى من الوحي؛ لأن النبي، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يعلم مثل هذا الغيب فهو غير موجود، ولكن الله يبعثه متى شاء.
(148) سئل فضيلة الشيخ: ذكرتم في الفتوى السابقة رقم "147": أن الدجال غير موجود الآن، وهذا الكلام ظاهره يتعارض مع حديث فاطمة بنت قيس في الصحيح، عن قصة تميم الداري، فنرجو من فضيلتكم التكرم بتوضيح ذلك؟ .
فأجاب بقوله: ذكرنا هذا مستدلين بما ثبت في الصحيحين، عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، قال: «إنه على رأس مائة سنة لا يبقى على وجه الأرض ممن هو عليها اليوم أحد» .
فإذا طبقنا هذا الحديث على حديث تميم الداري صار معارضا له؛ لأن ظاهر حديث تميم الداري أن هذا الدجال يبقى حتى يخرج، فيكون معارضا لهذا الحديث الثابت في الصحيحين، وأيضا فإن سياق حديث تميم الداري في ذكر الجساسة في نفسي منه شيء، هل هو من تعبير الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو لا؟ .
(149) وسئل فضيلته: عن قول بعض أهل العلم: إن الرسل الذين أنذروا أقوامهم الدجال لم ينذروهم بعينه، وإنما أنذروهم بجنس فتنته؟ .
فأجاب بقوله: هذا القول الضعيف، بل هو نوع من التحريف؛ لأن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخبر بأنه ما من نبي إلا أنذر به قومه بعينه(2/20)
كما في صحيح مسلم، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما من نبي إلا وقد أنذر أمته الأعور الكذاب» ، وسبق لنا بيان الحكمة من إنذار الرسل به، ولكن يجب علينا أن نعلم أن جنس هذه الفتنة موجود حتى في غير هذا الرجل، يوجد من بني آدم الآن من يضل الناس بحاله، ومقاله، وبكل ما يستطيع، وتجد أن الله - سبحانه وتعالى - بحكمته أعطاه بيانا وفصاحة: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} . فعلى المرء إذا سمع مثل هذه الفتن التي تكون لأهل البدع من أناس يبتدعون في العقائد، وأناس يبتدعون في السلوك، وغير ذلك، يجب عليه أن يعرض هذه البدع على الكتاب والسنة، وأن يَحْذَرَ ويُحَذِّرَ منها، وأن لا يغتر بما تكسى به من زخارف القول، فإن هذه الزخارف، كما قيل فيها:
حجج تهافت كالزجاج تخالها ... حقا وكل كاسر مكسور
فالدجال المعين لا شك أن فتنته أعظم شيء يكون، لكن هناك دجاجلة يدجلون على الناس، ويموهون عليهم، فيجب الحذر منهم، ومعرفة إراداتهم ونياتهم، ولهذا قال الله تعالى في المنافقين: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} . مع أنه قال: {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} . يعني بيانه، وفصاحته، وعظمه، يجرك جرّا إلى أن تسمع، لكن كأنهم خشب مسندة، حتى الخشب ما هي قائمة بنفسها، مسندة تقوم على الجدار فهي لا خير فيها.
فهؤلاء الذين يزينون للناس بأساليب القول سواء في العقيدة، أو(2/21)
في السلوك، أو في المنهج يجب الحذر منهم، وأن تعرض أقوالهم، وأفعالهم على كتاب الله وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فما خالفهما فهو باطل مهما كان، ولا تقولن: إن هؤلاء القوم أعطوا فصاحة وبيانا لينصروا الحق، فإن الله تعالى قد يبتلي فيعطي الإنسان فصاحة وبيانا، وإن كان على باطل، كما ابتلى الله الناس بالدجال وهو على باطل بلا شك.
(150) سئل فضيلة الشيخ: عن حكم من أنكر حياة الآخرة، وزعم أن ذلك من خرافات القرون الوسطى؟ وكيف يمكن إقناع هؤلاء المنكرين؟
فأجاب بقوله: من أنكر حياة الآخرة، وزعم أن ذلك من خرافات القرون الوسطى فهو كافر، لقول الله - تعالى -: {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} . وقال - تعالى -: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} ، وقال-تعالى-: {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا} وقال - تعالى-: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(2/22)
وأما إقناع هؤلاء المنكرين فبما يأتي:
أولا: أن أمر البعث تواتر به النقل عن الأنبياء والمرسلين في الكتب الإلهية، والشرائع السماوية، وتلقته أممهم بالقبول، فكيف تنكرونه، وأنتم تصدقون بما ينقل إليكم عن فيلسوف، أو صاحب مبدأ أو فكرة، وإن لم يبلغ ما بلغه الخبر عن البعث، لا في وسيلة النقل، ولا في شهادة الواقع؟ !!
ثانيا: أن أمر البعث قد شهد العقل بإمكانه، وذلك من وجوه:
1 - كل أحد لا ينكر أن يكون مخلوقا بعد العدم، وأنه حادث بعد أن لم يكن، فالذي خلقه وأحدثه بعد أن لم يكن، قادر على إعادته بالأولى، كما قال الله - تعالى -: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} ، وقال تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} .
2 - كل أحد لا ينكر عظمة خلق السماوات والأرض لكبرهما، وبديع صنعتهما، فالذي خلقهم قادر على خلق الناس وإعادتهم بالأولى؛ قال الله تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} . وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . وقال(2/23)
تعالى-: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} .
3 - كل ذي بصر يشاهد الأرض مجدبة ميتة النبات، فإذا نزل المطر عليها أخصبت، وحيي نباتها بعد الموت، والقادر على إحياء الأرض بعد موتها قادر على إحياء الموتى وبعثهم، قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
ثالثا: أن أمر البعث قد شهد الحس والواقع بإمكانه، فيما أخبرنا الله تعالى به من وقائع إحياء الموتى، وقد ذكر الله - تعالى - من ذلك في سورة البقرة خمس حوادث، منها قوله: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
رابعا: أن الحكمة تقتضي البعث بعد الموت؛ لتجازى كل نفس بما كسبت، ولولا ذلك لكان خلق الناس عبثا لا قيمة له، ولا حكمة منه، ولم يكن بين الإنسان، وبين البهائم فرق في هذه الحياة. . قال الله - تعالى -:(2/24)
{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} ، وقال الله - تعالى -: ( {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} ، وقال- تعالى-: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ، وقال - تعالى -: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} .
فإذا بينت هذه البراهين لمنكري البعث، وأصروا على إنكارهم، فهم مكابرون معاندون، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} .
(151) وسئل فضيلة الشيخ: هل عذاب القبر على البدن، أو على الروح؟ .
فأجاب بقوله: الأصل أنه على الروح؛ لأن الحكم بعد الموت للروح، والبدن جثة هامدة، ولهذا لا يحتاج البدن إلى إمداد لبقائه، فلا يأكل ولا يشرب، بل تأكله الهوام، فالأصل أنه على الروح، لكن قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن الروح قد تتصل بالبدن فيعذب أو ينعم معها، وأن لأهل السنة قولا آخر بأن العذاب، أو النعيم يكون للبدن دون الروح، واعتمدوا في(2/25)
ذلك على أن هذا قد رئي حسّا في القبر، فقد فتحت بعض القبور ورئي أثر العذاب على الجسم، وفتحت بعض القبور ورئي أثر النعيم على الجسم.
وقد حدثني بعض الناس أنهم في هذا البلد هنا في عنيزة كانوا يحفرون لسور البلد الخارجي، فمروا على قبر فانفتح اللحد فوجد فيه ميت أكلت كفنه الأرض، وبقي جسمه يابسا لكن لم تأكل منه شيئا حتى إنهم قالوا: إنهم رأوا لحيته، وفيها الحنا وفاح عليهم رائحة كأطيب ما يكون من المسك، فتوقفوا، وذهبوا إلى الشيخ وسألوه، فقال: دعوه على ما هو عليه واجنبوا عنه، احفروا من يمين أو من يسار.
فبناء على ذلك قال العلماء: إن الروح قد تتصل في البدن، فيكون العذاب على هذا وهذا، وربما يستأنس لذلك بالحديث الذي قال فيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن القبر ليضيق على الكافر حتى تختلف أضلاعه» ، فهذا يدل على أن العذاب يكون على الجسم؛ لأن الأضلاع في الجسم، والله أعلم.
(152) وسئل فضيلة الشيخ: ما المراد بالقبر، هل هو مدفن الميت أو البرزخ؟ .
فأجاب: أصل القبر مدفن الميت، قال الله - تعالى -: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} ، قال ابن عباس: أي أكرمه بدفنه. وقد يراد به البرزخ الذي بين موت الإنسان وقيام الساعة، وإن لم يدفن، كما قال - تعالى -: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} . يعني من وراء الذين ماتوا؛ لأن أول الآية يدل(2/26)
على هذا: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} .
ولكن هل الداعي إذا دعا «أعوذ بالله من عذاب القبر» ، يريد عذاب مدفن الموتى، أو من عذاب البرزخ الذي بين موته وبين قيام الساعة؟ .
الجواب: يريد الثاني؛ لأن الإنسان في الحقيقة لا يدري هل يموت ويدفن، أو يموت وتأكله السباع، أو يحترق، ويكون رمادا ما يدري! {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} ، فاستحضر أنك إذا قلت: من عذاب القبر، أي من العذاب الذي يكون للإنسان بعد موته إلى قيام الساعة.
(153) وسئل فضيلته: هل عذاب القبر ثابت؟ .
فأجاب بقوله: عذاب القبر ثابت بصريح السنة، وظاهر القرآن، وإجماع المسلمين هذه ثلاثة أدلة:
أما صريح السنة، فقد قال النبي -عليه الصلاة والسلام -: «تعوذوا بالله من عذاب القبر، تعوذوا بالله من عذاب القبر، تعوذوا بالله من عذاب القبر» .
وأما إجماع المسلمين، فلأن جميع المسلمين يقولون في صلاتهم: " أعوذ بالله من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر"، حتى العامة الذين ليسوا من أهل الإجماع، ولا من العلماء.(2/27)
وأما ظاهر القرآن، فمثل قوله- تعالى- في آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} ، ولا شك أن عرضهم على النار ليس من أجل أن يتفرجوا عليها، بل من أجل أن يصيبهم من عذابها، وقال - تعالى -: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} . الله أكبر إنهم لشحيحون بأنفسهم ما يريدون أن تخرج {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} . فقال: (اليوم) و" ال " هنا للعهد الحضوري، اليوم يعني: اليوم الحاضر، الذي هو يوم وفاتهم، {تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} .
إذن فعذاب القبر ثابت بصريح السنة، وظاهر القرآن، وإجماع المسلمين، وهذا الظاهر من القرآن يكاد يكون كالصريح؛ لأن الآيتين اللتين ذكرناهما كالصريح في ذلك.
(154) وسئل فضيلته: هل عذاب القبر يشمل المؤمن العاصي، أو هو خاص بالكفار؟ .
فأجاب فضيلته: عذاب القبر المستمر يكون للمنافق والكافر. وأما المؤمن العاصي فإنه قد يعذب في قبره؛ لأنه ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر بقبرين، فقال: " إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير؛ أما أحدهما فكان لا يستتر من»(2/28)
«البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة» . وهذا معروف أنهما كانا مسلمين.
(155) وسئل الشيخ: إذا لم يدفن الميت فأكلته السباع، أو ذرته الرياح فهل يعذب عذاب القبر؟ .
فأجاب قائلا: نعم، ويكون العذاب على الروح؛ لأن الجسد قد زال وتلف وفني، وإن كان هذا أمرا غيبيا لا أستطيع أن أجزم بأن البدن لا يناله من هذا العذاب، ولو كان قد فني واحترق؛ لأن الأمر الأخروي لا يستطيع الإنسان أن يقيسه على المشاهد في الدنيا.
(156) سئل فضيلة الشيخ: كيف نجيب من ينكر عذاب القبر، ويحتج بأنه لو كشف القبر لوجد لم يتغير، ولم يضق، ولم يتسع؟ .
فأجاب - حفظه الله - بقوله: يجاب من أنكر عذاب القبر بحجة أنه لو كشف القبر لوجد أنه لم يتغير بعدة أجوبة منها:
أولا: أن عذاب القبر ثابت بالشرع، قال الله - تعالى - في آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} ، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فلولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع، ثم أقبل بوجهه، فقال: تعوذوا بالله من عذاب النار، قالوا: نعوذ بالله من عذاب النار، فقال: تعوذوا بالله من عذاب القبر قالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر» . وقول النبي - صلى الله(2/29)
عليه وسلم - في المؤمن: «يفسح له في قبره مد بصره» إلى غير ذلك من النصوص، فلا يجوز معارضة هذه النصوص بوهم من القول، بل الواجب التصديق والإذعان.
ثانيا: أن عذاب القبر على الروح في الأصل، وليس أمرا محسوسا على البدن، فلو كان أمرا محسوسا على البدن لم يكن من الإيمان بالغيب، ولم يكن للإيمان به فائدة، لكنه من أمور الغيب، وأحوال البرزخ لا تقاس بأحوال الدنيا.
ثالثا: أن العذاب، والنعيم، وسعة القبر، وضيقه، إنما يدركه الميت دون غيره، والإنسان قد يرى في المنام وهو نائم على فراشه أنه قائم، وذاهب وراجع، وضارب ومضروب، ويرى أنه في مكان ضيق موحش، أو في مكان واسع بهيج، والذي حوله لا يرى ذلك ولا يشعر به.
والواجب على الإنسان في مثل هذه الأمور أن يقول: سمعنا وأطعنا، وآمنا وصدقنا.
(157) وسئل فضيلته: هل عذاب القبر دائم أو منقطع؟ .
فأجاب بقوله: أما إن كان الإنسان كافرا - والعياذ بالله - فإنه لا طريق إلى وصول النعيم إليه أبدا، ويكون عذابه مستمرا.
وأما إن كان عاصيا وهو مؤمن، فإنه إذا عذب في قبره يعذب بقدر ذنوبه، وربما يكون عذاب ذنوبه أقل من البرزخ الذي بين موته وقيام الساعة، وحينئذٍ يكون منقطعا.
(158) وسئل فضيلة الشيخ: هل يخفف عذاب القبر عن المؤمن العاصي؟ .(2/30)
فأجاب قائلا: نعم، قد يخفف؛ لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر بقبرين، فقال: " إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، بلى إنه كبير؛ أما أحدهما: فكان لا يستبرئ "، أو قال: " لا يستتر من البول، وأما الآخر: فكان يمشي بالنميمة "، ثم أخذ جريدة رطبة، فشقها نصفين، فغرز في كل قبر واحدة، وقال: " لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا» ، وهذا دليل على أنه قد يخفف العذاب، ولكن ما مناسبة هاتين الجريدتين لتخفيف العذاب عن هذين المعذبين؟ .
1 - قيل: لأنهما أي الجريدتين تسبحان ما لم تيبسا، والتسبيح يخفف من العذاب على الميت، وقد فرعوا على هذه العلة المستنبطة - التي قد تكون مستبعدة - أنه يسن للإنسان أن يذهب إلى القبور، ويسبح عندها من أجل أن يخفف عنها.
2 - وقال بعض العلماء: هذا التعليل ضعيف؛ لأن الجريدتين تسبحان سواء كانتا رطبتين أم يابستين؛ لقوله تعالى- {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} . وقد سمع تسبيح الحصى بين يدي الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع أن الحصى يابس، إذن ما العلة؟ .
العلة: أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ترجى من الله - عز وجل - أن يخفف عنهما من العذاب ما دامت هاتان الجريدتان رطبتين؛ يعني أن المدة ليست طويلة، وذلك من أجل التحذير عن فعلهما؛ لأن فعلهما كبير، كما جاء في الرواية: " بلى إنه كبير "، أحدهما: لا يستبرئ من البول، وإذا لم يستبرئ من البول صلى بغير طهارة، والآخر: يمشي بالنميمة، يفسد بين عباد الله - والعياذ بالله - ويلقي بينهم العداوة، والبغضاء، فالأمر كبير، وهذا(2/31)
هو الأقرب أنها شفاعة مؤقتة؛ تحذيرا للأمة لا بخلا من الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالشفاعة الدائمة.
ونقول استطرادا: إن بعض العلماء - عفا الله عنهم - قالوا: يسن أن يضع الإنسان جريدة رطبة، أو شجرة، أو نحوها على القبر ليخفف عنه، لكن هذا الاستنباط بعيد جدا، ولا يجوز أن نصنع ذلك لأمور:
أولا: أننا لم يكشف لنا أن هذا الرجل يعذب بخلاف النبي، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ثانيا: أننا إذا فعلنا ذلك فقد أسأنا إلى الميت؛ لأننا ظننا به ظن سوء أنه يعذب، وما يدرينا فلعله ينعم، لعل هذا الميت ممن مَنَّ الله عليه بالمغفرة قبل موته؛ لوجود سبب من أسباب المغفرة الكثيرة، فمات وقد عفا رب العباد عنه، وحينئذ لا يستحق عذابا.
ثالثا: أن هذا الاستنباط مخالف لما كان عليه السلف الصالح الذين هم أعلم الناس بشريعة الله، فما فعل هذا أحد من الصحابة - رضي الله عنهم - فما بالنا نحن نفعله.
رابعا: أن الله - تعالى - قد فتح لنا ما هو خير منه، «فكان النبي - عليه الصلاة والسلام - إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه، وقال: " استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل» .
(159) وسئل فضيلته: هل عذاب القبر من أمور الغيب، أو من أمور الشهادة؟ .
فأجاب قائلا: عذاب القبر من أمور الغيب، وكم من إنسان في هذه المقابر يعذب ونحن لا نشعر به، وكم جار له منعم مفتوح له باب إلى الجنة، ونحن لا نشعر به، فما تحت القبور لا يعلمه إلا علام الغيوب، فشأن(2/32)
عذاب القبر من أمور الغيب، ولولا الوحي الذي جاء به النبي - عليه الصلاة والسلام - ما علمنا عنه شيئا، ولهذا لما دخلت امرأة يهودية إلى عائشة، وأخبرتها أن الميت يعذب في قبره فزعت، حتى جاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأخبرته، وأقر ذلك عليه الصلاة والسلام، ولكن قد يطلع الله - تعالى - عليه من شاء من عباده، مثل ما أطلع نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الرجلين اللذين يعذبان؛ أحدهما: يمشي بالنميمة، والآخر: لا يستنزه من البول.
والحكمة من جعله من أمور الغيب هي:
أولا: أن الله - سبحانه وتعالى - أرحم الراحمين، فلو كنا نطلع على عذاب القبور لتنكد عيشنا؛ لأن الإنسان إذا أطلع على أن أباه، أو أخاه، أو ابنه، أو زوجه، أو قريبه يعذب في القبر، ولا يستطيع فكاكه، فإنه يقلق ولا يستريح، وهذه من نعمة الله -سبحانه -.
ثانيا: أنه فضيحة للميت، فلو كان هذا الميت قد ستر الله عليه، ولم نعلم عن ذنوبه بينه وبين ربه - عز وجل- ثم مات، وأطلعنا الله على عذابه، صار في ذلك فضيحة عظيمة له ففي ستره رحمة من الله بالميت.
ثالثا: أنه قد يصعب على الإنسان دفن الميت، كما جاء عن النبي - عليه الصلاة والسلام - «لولا ألا تدافنوا لسألت الله أن يسمعكم من عذاب القبر» . ففيه أن الدفن ربما يصعب، ويشق، ولا ينقاد الناس لذلك، وإن كان من يستحق عذاب القبر عذب، ولو على سطح الأرض، لكن قد يتوهم الناس أن العذاب لا يكون إلا في حال الدفن فلا يدفن بعضهم بعضا.
رابعا: أنه لو كان ظاهرا لم يكن للإيمان به مزية؛ لأنه يكون مشاهدا(2/33)
لا يمكن إنكاره، ثم إنه قد يحمل الناس على أن يؤمنوا كلهم؛ لقوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} ، فإذا رأى الناس هؤلاء المدفونين وسمعوهم يتصارخون آمنوا، وما كفر أحد؛ لأنه أيقن بالعذاب، ورآه رأي العين، فكأنه نزل به، وحكم الله - سبحانه وتعالى - عظيمة، والإنسان المؤمن حقيقة هو الذي يجزم بخبر الله أكثر مما يجزم بما شاهده بعينه؛ لأن خبر الله - عز وجل - لا يتطرق إليه احتمال الوهم ولا الكذب، وما تراه بعينيك يمكن أن تتوهم فيه، فكم من إنسان شهد أنه رأى الهلال، وإذا هي نجمة، وكم من إنسان شهد أنه رأى الهلال وإذا هي شعرة بيضاء على حاجبه وهذا وهم، وكم من إنسان يرى شبحا، ويقول: هذا إنسان مقبل، وإذا هو جذع نخلة، وكم من إنسان يرى الساكن متحركا والمتحرك ساكنا، لكن خبر الله لا يتطرق إليه الاحتمال أبدا.
نسأل الله لنا ولكم الثبات، فخبر الله بهذه الأمور أقوى من المشاهدة، مع ما في الستر من المصالح العظيمة للخلق.
(160) وسئل فضيلته: هل سؤال الميت في قبره حقيقي، وأنه يجلس في قبره ويناقش؟ .
فأجاب فضيلته بقوله: سؤال الميت في قبره حقيقي بلا شك، والإنسان في قبره يجلس، ويناقش ويسأل.
فإن قال قائل: إن القبر ضيق فكيف يجلس؟ !
فالجواب: أولا: أن الواجب على المؤمن في الأمور الغيبية أن يقبل ويصدق،(2/34)
ولا يسأل كيف؟ ولم؟ ؛ لأنه لا يسأل عن كيف ولم إلا من شك، وأما من آمن وانشرح صدره لأخبار الله ورسوله فيسلم، ويقول: الله أعلم في كيفية ذلك.
ثانيا: أن تعلق الروح بالبدن في الموت ليس كتعلقها به في حال الحياة، فللروح مع البدن شئون عظيمة لا يدركها الإنسان، وتعلقها بالبدن بعد الموت لا يمكن أن يقاس بتعلقها به في حال الحياة، وها هو الإنسان في منامه يرى أنه ذهب، وجاء، وسافر، وكلم أناسا، والتقى بأناس؛ أحياء وأموات، ويرى أن له بستانا جميلا، أو دارا موحشة مظلمة، ويرى أنه راكب على سيارة مريحة، ويرى مرة أنه راكب على سيارة مقلقة كل هذا يمكن مع أن الإنسان على فراشه ما تغير، حتى الغطاء الذي عليه لم يتغير، ومع ذلك فإننا نحس بهذا إحساسا ظاهرا؛ فتعلق الروح بالبدن بعد الموت يخالف تعلقها به في اليقظة، أو في المنام، ولها شأن آخر لا ندركه نحن، فالإنسان يمكن أن يجلس في قبره، ويسأل، ولو كان القبر محدودا ضيقا.
هكذا صح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فمنه البلاغ، وعلينا التصديق والإذعان، قال الله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} .
(161) سئل فضيلة الشيخ: كيف تدنو الشمس يوم القيامة من الخلائق مقدار ميل، ولا تحرقهم، وهي لو دنت عما هي عليه الآن بمقدار شبر واحد لاحترقت الأرض؟ .(2/35)
فأجاب بقوله: إن وظيفة المؤمن - وهذه قاعدة يجب أن تبنى عليها عقيدتنا - فيما ورد من أخبار الغيب القبول والتسليم، وأن لا يسأل عن كيف؟ ولم؟ ؛ لأن هذا أمر فوق ما تتصوره أنت، فالواجب عليك أن تقبل وتسلم وتقول: آمنا وصدقنا، آمنا بأن الشمس تدنو من الخلائق يوم القيامة بمقدار ميل، وما زاد على ذلك من الإيرادات فهو من البدع، ولهذا لما سئل الإمام مالك - رحمه الله - عن استواء الله كيف استوى؟ قال: " السؤال عنه بدعة ". هكذا أيضا كل أمور الغيب السؤال عنها بدعة، وموقف الإنسان منها القبول والتسليم.
جواب الشق الثاني: بالنسبة لدنو الشمس من الخلائق يوم القيامة فإننا نقول:
إن الأجسام تبعث يوم القيامة لا على الصفة التي عليها في الدنيا من النقص، وعدم التحمل، بل هي تبعث بعثا كاملا تاما، ولهذا يقف الناس يوم القيامة يوما مقداره خمسون ألف سنة لا يأكلون ولا يشربون، وهذا أمر لا يحتمل في الدنيا، فتدنو الشمس منهم وأجسامهم قد أعطيت من القوة ما يتحمل دنوها، ومن ذلك ما ذكرناه من الوقوف خمسين ألف سنة، لا يحتاجون إلى طعام، ولا شراب، فالأجسام يوم القيامة لها شأن آخر غير شأنها في هذه الدنيا.
(162) سئل فضيلة الشيخ: قلتم في الفتوى السابقة رقم "161": إن الأجسام تبعث يوم القيامة لا على الصفة التي هي عليها في الدنيا، والله - عز وجل - يقول: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ}(2/36)
، فنأمل من فضيلتكم توضيح ذلك؟ .
فأجاب فضيلته: هذا لا يشكل على ما قلنا؛ لأن المراد بقوله: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} من حيث الخلق، فهو كقوله: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} ، فالمعنى: أنه كما بدأ خلقكم، وقدر عليه فإنكم تعودون كذلك بقدرة الله - عز وجل -.
(163) سئل فضيلة الشيخ: كيف نجمع بين قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نوقش الحساب عذب» . رواه البخاري من حديث عائشة، ومناقشة المؤمن في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله يدني المؤمن، فيضع عليه كنفه ويستره، فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم، أي رب، حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه هلك قال: سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، فيعطى كتاب حسناته» . الحديث رواه البخاري؟ .
فأجاب - رعاه الله وحفظه - بقوله: ليس في هذا إشكال؛ لأن المناقشة معناها: أن يحاسب، فيطالب بهذه النعم التي أعطاه الله إياها؛ لأن الحساب الذي فيه المناقشة معناه: أنك كما تأخذ تعطي، ولكن حساب الله لعبده المؤمن يوم القيامة ليس على هذا الوجه، بل إنه مجرد فضل من الله - تعالى - إذا قرره بذنوبه، وأقر واعترف قال: "سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك(2/37)
اليوم "، وكلمة نوقش تدل على هذا؛ لأن المناقشة الأخذ والرد في الشيء، والبحث على دقيقه وجليله، وهذا لا يكون بالنسبة لله - عز وجل - مع عبده المؤمن، بل إن الله - تعالى - يجعل الحساب للمؤمنين مبنيا على الفضل والإحسان، لا على المناقشة والأخذ بالعدل.
(164) وسئل فضيلة الشيخ - أعلى الله درجته -: كيف يحاسب الكافر يوم القيامة، وهو غير مطالب بالتكاليف الشرعية؟ .
فأجاب بقوله: هذا السؤال مبني على فهم ليس بصحيح، فإن الكافر مطالب بما يطالب به المؤمن، لكنه غير ملزم به في الدنيا، ويدل على أنه مطالب قوله - تعالى -: {إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} .
فلولا أنهم عوقبوا بترك الصلاة، وترك إطعام المساكين ما ذكروه؛ لأن ذكره في هذه الحال لا فائدة منه، وذلك دليل على أنهم يعاقبون على فروع الإسلام، وكما أن هذا هو مقتضى الأثر، فهو أيضا مقتضى النظر، فإذا كان الله تعالى يعاقب عبده المؤمن على ما أخل به من واجب في دينه فكيف لا يعاقب الكافر؟ ، بل إني أزيدك أن الكافر يعاقب على كل ما أنعم الله به عليه من طعام وشراب وغيره، قال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}(2/38)
، فمنطوق الآية رفع الجناح عن المؤمنين فيما طعموه، ومفهومها وقوع الجناح على الكافرين فيما طعموه، وكذلك قوله- تعالى-: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ، فإن قوله: {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} . دليل على أن غير المؤمن ليس له حق في أن يستمتع بها في الدنيا.
أقول: ليس له حق شرعي، أما الحق بالنظر إلى الأمر الكوني وهو أن الله - سبحانه وتعالى- خلقها، وانتفع بها هذا الكافر، فهذا أمر لا يمكن إنكاره، فهذا دليل على أن الكافر يحاسب حتى على ما أكل من المباحات وما لبس، وكما أن هذا مقتضى الأثر فإنه مقتضى النظر، إذ كيف يحق لهذا الكافر العاصي لله الذي لا يؤمن به كيف يحق له عقلا أن يستمتع بما خلقه الله - عز وجل - وما أنعم الله به على عباده، وإذ تبين لك هذا، فإن الكافر يحاسب يوم القيامة على عمله، ولكن حساب الكافر يوم القيامة ليس كحساب المؤمن؛ لأن المؤمن يحاسب حسابا يسيرا، يخلو به الرب - عز وجل - ويقرره بذنوبه حتى يعترف، ثم يقول له -سبحانه وتعالى-: «قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم» .
أما الكافر - والعياذ بالله - فإن حسابه أن يقرر بذنوبه، ويخزى بها على رءوس الأشهاد: {وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} .(2/39)
(165) سئل فضيلة الشيخ: هل يوم الحساب يوم واحد؟ .
فأجاب قائلا: يوم الحساب يوم واحد، ولكنه يوم مقداره خمسون ألف سنة، كما قال الله - تعالى-: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} أي أن هذا العذاب يقع للكافرين في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، وأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه، وجبينه، وظهره، كلما بردت أعيدت في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد» .
وهذا اليوم الطويل هو يوم عسير على الكافرين، كما قال- تعالى -: {وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} ، وقال - تعالى-: {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} ، ومفهوم هاتين الآيتين: أنه على المؤمن يسير وهو كذلك، فهذا اليوم الطويل بما فيه من الأهوال، والأشياء العظيمة ييسره الله - تعالى - على المؤمن، ويكون عسيرا على الكافر. وأسأل الله - تعالى - أن يجعلني وإخواني المسلمين ممن يسره الله عليهم يوم القيامة.
والتفكير والتعمق في مثل هذه الأمور الغيبية هو من التنطع، الذي قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه: «هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون» .
ووظيفة الإنسان في هذه الأمور الغيبية(2/40)
التسليم، وأخذ الأمور على ظاهر معناها، دون أن يتعمق، أو يحاول القياس بينها وبين الأمور في الدنيا؛ فإن أمور الآخرة ليست كأمور الدنيا، وإن كانت تشبهها في أصل المعنى، وتشاركها في ذلك، لكن بينهما فرق عظيم، وأضرب لك مثلا، بما ذكره الله - سبحانه وتعالى - في الجنة من النخل، والرمان، والفاكهة، ولحم الطير، والعسل والماء، واللبن، والخمر، وما أشبه ذلك مع قوله - عز وجل -: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
وقوله في الحديث القدسي: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» ، فهذه الأسماء التي لها مسميات بها في هذه الدنيا لا تعني أن المسمى كالمسمى، وإن اشتركا في الاسم وفي أصل المعنى، فكل الأمور الغيبية التي تشارك ما يشاهد في الدنيا في أصل المعنى لا تكون مماثلة له في الحقيقة، فينبغي للإنسان أن ينتبه لهذه القاعدة، وأن يأخذ أمور الغيب بالتسليم على ما يقتضيه ظاهرها من المعنى، وألا يحاول شيئا وراء ذلك.
ولهذا لما سئل الإمام مالك - رحمه الله - عن قول الله تعالى -: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟
أطرق - رحمه الله- برأسه حتى علاه الرحضاء - أي العرق -وصار يتصبب عرقا، وذلك لعظم السؤال في نفسه، ثم رفع رأسه وقال قولته الشهيرة، التي كانت ميزانا لجميع ما وصف الله به نفسه - رحمه الله -: " الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة " اهـ.
فالسؤال المتعمق في مثل هذه الأمور بدعة؛ لأن الصحابة - رضي الله(2/41)
عنهم - وهم أشد منا حرصا على العلم، وعلى الخير لم يسألوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مثل هذه الأسئلة، وكفى بهم قدوة، وما قلته الآن بالنسبة لليوم الآخر يجرى بالنسبة لصفات الله - عز وجل - التي وصف بها نفسه من العلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والكلام وغير ذلك، فإن مسميات هذه الألفاظ بالنسبة إلى الله - عز وجل - لا يماثلها شيء مما يشاركها في هذا الاسم بالنسبة للإنسان، فكل صفة فإنها تابعة لموصوفها، فكما أن الله - سبحانه وتعالى - لا مثيل له في ذاته فلا مثيل له في صفاته.
وخلاصة الجواب: أن اليوم الآخر يوم واحد، وأنه عسير على الكافرين، ويسير على المؤمنين، وأن ما ورد فيه من أنواع الثواب والعقاب أمر لا يدرك كنهه في هذه الحياة الدنيا، وإن كان أصل المعنى فيه معلوما لنا في هذه الحياة الدنيا.
(166) سئل الشيخ: كيف نجمع بين قول الله - تعالى-: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ} ، وقوله: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ} ؟ .
فأجاب قائلا: الجمع بينهما أن يقال: يأخذه بشماله، لكن تخلع الشمال إلى الخلف من وراء ظهره، والجزاء من جنس العمل، فكما أن هذا الرجل جعل كتاب الله وراء ظهره، أعطي كتابه يوم القيامة من وراء ظهره جزاء وفاقا.(2/42)
(167) وسئل فضيلة الشيخ - جزاه الله خيرا -: كيف نجمع بين القول القاضي بأن الذي يوزن يوم القيامة هو العمل، وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، عندما انكشفت ساق عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: «والله إنها لأثقل في الميزان من جبل أحد» ؟ .
فأجاب قائلا: الجواب على هذا أن يقال: إما أن يكون هذا خاصا بعبد الله بن مسعود - رضي الله عنه-، أو يقال: إن بعض الناس يوزن عمله، وبعض الناس يوزن بدنه، أو يقال: إن الإنسان إذا وزن فإنما يثقل، ويرجح بحسب عمله، والله أعلم.
(168) سئل الشيخ: هل الميزان واحد أو متعدد؟ .
فأجاب بقوله: اختلف العلماء في الميزان، هل هو واحد، أو متعدد على قولين؛ وذلك لأن النصوص جاءت بالنسبة للميزان مرة بالإفراد، ومرة بالجمع، مثال الجمع قوله - تعالى -: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} ، وكذلك في قوله: {مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} ، ومثال الإفراد قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان» .
فقال بعض العلماء: إن الميزان واحد، وإنه جمع باعتبار الموزون، أو باعتبار الأمم، فهذا الميزان توزن به أعمال أمة محمد، وأعمال أمة موسى، وأعمال أمة عيسى، وهكذا، فجمع الميزان باعتبار تعدد الأمم.(2/43)
والذين قالوا: إنه متعدد بذاته قالوا: لأن هذا هو الأصل في التعدد، ومن الجائز أن الله -تعالى- يجعل لكل أمة ميزانا، أو يجعل للفرائض ميزانا، وللنوافل ميزانا.
والذي يظهر - والله أعلم - أن الميزان واحد، لكنه متعدد باعتبار الموزون.
(169) سئل فضيلة الشيخ: كيف توزن الأعمال، وهي أوصاف للعاملين؟ .
فأجاب بقوله: القاعدة في ذلك، كما أسلفنا: أن علينا أن نسلم ونقبل، ولا حاجة لأن نقول: كيف؟ ولم؟ ومع ذلك فإن العلماء - رحمهم الله - قالوا في جواب هذا السؤال: إن الأعمال تقلب أعيانا، فيكون لها جسم يوضع في الكفة فيرجح أو يخف، وضربوا لذلك مثلا، بما صح به الحديث عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أن الموت يجعل يوم القيامة على صورة كبش، فينادى أهل الجنة، يا أهل الجنة، فيطلعون ويشرئبون. وينادى يا أهل النار فيطلعون ويشرئبون ما الذي حدث؟ فيؤتي بالموت على صورة كبش، فيقال: هل تعرفون هذا، فيقولون: نعم، هذا الموت فيذبح الموت بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت» .
ونحن نعلم جميعا أن الموت صفة، ولكن الله - تعالى - يجعله عينا قائما بنفسه، وهكذا الأعمال تجعل أعيانا فتوزن، والله أعلم.
(170) سئل فضيلة الشيخ: عن الشفاعة؟ وأقسامها؟ .
فأجاب: الشفاعة: مأخوذة من الشفع، وهو ضد الوتر، وهو جعل(2/44)
الوتر شفعا، مثل أن تجعل الواحد اثنين، والثلاثة أربعة، وهكذا هذا من حيث اللغة.
أما في الاصطلاح: فهي " التوسط للغير بجلب منفعة، أو دفع مضرة "؛ يعني أن يكون الشافع بين المشفوع إليه، والمشفوع له واسطة لجلب منفعة إلى المشفوع له، أو يدفع عنه مضرة.
والشفاعة نوعان:
النوع الأول: شفاعة ثابتة صحيحة، وهي التي أثبتها الله - تعالى - في كتابه، أو أثبتها رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص؛ لأن «أبا هريرة - رضي الله عنه - قال: يا رسول الله، من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: " من قال: لا إله إلا الله خالصا من قلبه» .
وهذه الشفاعة لها شروط ثلاثة:
الشرط الأول: رضا الله عن الشافع.
الشرط الثاني: رضا الله عن المشفوع له.
الشرط الثالث: إذن الله- تعالى - للشافع أن يشفع. وهذه الشروط مجملة في قوله تعالى-: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} ، ومفصلة في قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} ، وقوله: {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} .(2/45)
وقوله: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} ، فلا بد من هذه الشروط الثلاثة حتى تتحقق الشفاعة.
ثم إن الشفاعة الثابتة ذكر العلماء - رحمهم الله تعالى - أنها تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: الشفاعة العامة، ومعنى العموم: أن الله - سبحانه وتعالى - يأذن لمن شاء من عباده الصالحين أن يشفعوا لمن أذن الله لهم بالشفاعة فيهم، وهذه الشفاعة ثابتة للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولغيره من النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، وهي أن يشفع في أهل النار من عصاة المؤمنين أن يخرجوا من النار.
القسم الثاني: الشفاعة الخاصة: التي تختص بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأعظمها الشفاعة العظمى التي تكون يوم القيامة، حين يلحق الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون، فيطلبون من يشفع لهم إلى الله - عز وجل - أن يريحهم من هذا الموقف العظيم، فيذهبون إلى آدم، ثم نوح، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى وكلهم لا يشفع حتى تنتهي إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيقوم ويشفع عند الله - عز وجل- أن يخلص عباده من هذا الموقف العظيم، فيجيب الله - تعالى - دعاءه، ويقبل شفاعته، وهذا من المقام المحمود الذي وعده الله - تعالى - به في قوله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} .
ومن الشفاعة الخاصة بالرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، شفاعته في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة، فإن أهل الجنة إذا عبروا الصراط أوقفوا على(2/46)
قنطرة بين الجنة والنار، فتمحص قلوب بعضهم من بعض حتى يهذبوا وينقوا، ثم يؤذن لهم في دخول الجنة، فتفتح أبواب الجنة بشفاعة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
النوع الثاني: الشفاعة الباطلة التي لا تنفع أصحابها، وهي ما يدعيه المشركون من شفاعة آلهتهم لهم عند الله - عز وجل -، فإن هذه الشفاعة لا تنفعهم، كما قال الله - تعالى -: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} ، وذلك؛ لأن الله - تعالى - لا يرضى لهؤلاء المشركين شركهم، ولا يمكن أن يأذن بالشفاعة لهم؛ لأنه لا شفاعة إلا لمن ارتضاه الله - عز وجل -، والله لا يرضى لعباده الكفر، ولا يحب الفساد، فتعلق المشركين بآلهتهم يعبدونها، ويقولون: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} . تعلق باطل غير نافع، بل هذا لا يزيدهم من الله - تعالى- إلا بعدا، على أن المشركين يرجون شفاعة أصنامهم بوسيلة باطلة، وهي عبادة هذه الأصنام، وهذا من سفههم أن يحاولوا التقرب إلى الله - تعالى - بما لا يزيدهم منه إلا بعدا.
(171) وسئل - حفظه الله - عن: قول النبي، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يقول الله - تعالى-: شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط» . رواه مسلم، ما معنى قوله: " لم يعملوا خيرا قط "؟ .(2/47)
فأجاب فضيلته بقوله: معنى قوله: " لم يعملوا خيرا قط " أنهم ما عملوا أعمالا صالحة، لكن الإيمان قد وقر في قلوبهم، فإما أن يكون هؤلاء قد ماتوا قبل التمكن من العمل؛ آمنوا ثم ماتوا قبل أن يتمكنوا من العمل، وحينئذ يصدق عليهم أنهم لم يعملوا خيرا قط.
وإما أن يكون هذا الحديث مقيدا بمثل الأحاديث الدالة على أن بعض الأعمال الصالحة تركها كفر، كالصلاة مثلا؛ فإن من لم يصل فهو كافر، ولو زعم أنه مؤمن بالله ورسوله، والكافر لا تنفعه شفاعة الشافعين يوم القيامة، وهو خالد مخلد في النار أبد الآبدين - والعياذ بالله -.
فالمهم أن هذا الحديث إما أن يكون في قوم آمنوا ولم يتمكنوا من العمل، فماتوا فور إيمانهم، فما عملوا خيرا قط.
وإما أن يكون هذا عاما، ولكنه يستثنى منه ما دلت النصوص الشرعية، على أنه لا بد أن يعمل كالصلاة، فمن لم يصل فهو كافر لا تنفعه الشفاعة، ولا يخرج من النار.
(172) سئل فضيلة الشيخ: عن مصير أهل الفترة؟ .
فأجاب بقوله: الصحيح أن أهل الفترة قسمان:
القسم الأول: من قامت عليه الحجة، وعرف الحق، لكنه اتبع ما وجد عليه آباءه، وهذا لا عذر له فيكون من أهل النار.
القسم الثاني: من لم تقم عليه الحجة، فإن أمره لله - عز وجل -، ولا نعلم عن مصيره، وهذا ما لم ينص الشارع عليه. أما من ثبت أنه في النار بمقتضى دليل صحيح فهو في النار.(2/48)
(173) وسئل: عن مصير أطفال المؤمنين، وأطفال المشركين الذين ماتوا صغارا؟
فأجاب فضيلته قائلا: مصير أطفال المؤمنين الجنة؛ لأنهم تبع لآبائهم قال - تعالى-: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} .
وأما أطفال غير المؤمنين؛ يعني الطفل الذي نشأ من أبوين غير مسلمين، فأصح الأقوال فيهم أن نقول: الله أعلم بما كانوا عاملين، فهم في أحكام الدنيا بمنزلة آبائهم، أما في أحكام الآخرة، فإن الله - تعالى - أعلم بما كانوا عاملين، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والله أعلم بمصيرهم هذا ما نقوله، وهو في الحقيقة أمر لا يعنينا كثيرا، إنما الذي يعنينا هو حكمهم في الدنيا، وأحكامهم في الدنيا - أعني أولاد المشركين - أحكامهم في الدنيا أنهم كالمشركين لا يغسلون، ولا يكفنون، ولا يصلى عليهم، ولا يدفنون في مقابر المسلمين. والله أعلم.
(174) وسئل فضيلته: إذا كانت الجنة عرضها كعرض السماوات والأرض، فأين تكون النار في هذا الكون الذي ليس فيه إلا السماوات والأرض؟ .
فقال حفظه الله - تعالى -: قبل الجواب على هذا يجب أن نقدم مقدمة، وهي أن ما جاء في كتاب الله، وما صح عن رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإنه حق، ولا يمكن أن يخالف الأمر الواقع، فإن الأمر الواقع المحسوس لا يمكن إنكاره، وما دل عليه الكتاب والسنة فإنه حق لا يمكن إنكاره، ولا(2/49)
يمكن تعارض حقين على وجه لا يمكن الجمع بينهما، وقد ثبت في القرآن أن الجنة عرضها كعرض السماء والأرض، قال الله - تعالى -: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} . وفي الآية الأخرى: {عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} ، وهذا حق بلا ريب.
وفي مسند الإمام أحمد: «أن هرقل كتب للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إذا كانت الجنة عرضها السماوات والأرض فأين تكون النار؟ . فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إذا جاء الليل فأين يكون النهار» ؟ فإن صح هذا الحديث، فوجهه أن السماوات والأرض في مكانهما والجنة في مكانها في أعلى عليين، كما أن النهار في مكان والليل في مكان، وإن لم يصح الحديث، فإن في كون الجنة عرضها السماوات والأرض لا يعني أنها قد ملأتهما، ولكن يعني: أن الجنة عظيمة السعة، عرضها كعرض السماوات والأرض.
ثم إن قول السائل: " إن هذا الكون ليس فيه إلا السماوات والأرض" ليس بصحيح، فهذا الكون فيه السماوات والأرض،، وفيه الكرسي والعرش، وقد كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يقول بعد رفعه من ركوعه: «ملء السماوات، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد» ، فهناك عالم غير السماوات والأرض لا يعلمه إلا الله، كذلك نحن نعلم منه ما علمنا الله- تعالى - مثل العرش والكرسي، والعرش هو أعلى المخلوقات والله - سبحانه وتعالى - قد استوى عليه استواء يليق بجلاله وعظمته.(2/50)
(175) وسئل: ما الجنة التي أسكنها الله - عز وجل - آدم وزوجه؟ .
فأجاب بقوله: الصواب أن الجنة التي أسكنها الله- تعالى - آدم وزوجه هي الجنة التي وعد المتقون؛ لأن الله - تعالى - يقول لآدم: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} ، والجنة عند الإطلاق هي جنة الخلد التي في السماء، ولهذا ثبت في الحديث عن النبي - «أن آدم، وموسى تحاجا، فقال له موسى:" لم أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ "» . والله أعلم.
(176) وسئل فضيلة الشيخ: ذكر للرجال الحور العين في الجنة فما للنساء؟ .
فأجاب بقوله: يقول الله - تبارك وتعالى - في نعيم أهل الجنة: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} ، ويقول - تعالى -: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
ومن المعلوم أن الزواج من أبلغ ما تشتهيه النفوس، فهو حاصل في الجنة لأهل الجنة ذكورا كانوا أم إناثا، فالمرأة يزوجها الله - تبارك وتعالى - في الجنة بزوجها الذي كان زوجا لها في الدنيا، كما قال الله - تبارك وتعالى -: {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(2/51)
(177) وسئل - رعاه الله بمنه وكرمه -: إذا كانت المرأة من أهل الجنة، ولم تتزوج في الدنيا، أو تزوجت ولم يدخل زوجها الجنة فمن يكون لها؟ .
فأجاب قائلا: الجواب يؤخذ من عموم قوله - تعالى -: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} ، ومن قوله - تعالى -: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ، فالمرأة إذا كانت من أهل الجنة، ولم تتزوج، أو كان زوجها ليس من أهل الجنة فإنها إذا دخلت الجنة فهناك من أهل الجنة من لم يتزوجوا من الرجال وهم -أعني من لم يتزوجوا من الرجال- لهم زوجات من الحور، ولهم زوجات من أهل الدنيا إذا شاءوا، واشتهت ذلك أنفسهم.
وكذلك نقول بالنسبة للمرأة إذا لم تكن ذات زوج، أو كانت ذات زوج في الدنيا، ولكنه لم يدخل معها الجنة: إنها إذا اشتهت أن تتزوج فلا بد أن يكون لها ما تشتهيه لعموم هذه الآيات.
ولا يحضرني الآن نص خاص في هذه المسألة، والعلم عند الله -- تعالى -.(2/52)
(178) وسئل فضيلته: إذا كانت المرأة لها زوجان في الدنيا فمع من تكون منهما؟ .
ولماذا ذكر الله الزوجات للرجال، ولم يذكر الأزواج للنساء؟ .
فأجاب بقوله: إذا كانت المرأة لها زوجان في الدنيا فإنها تخير بينهما يوم القيامة في الجنة، وإذا لم تتزوج في الدنيا فإن الله - تعالى - يزوجها ما تقر به عينها في الجنة، فالنعيم في الجنة ليس مقصورا على الذكور، وإنما هو للذكور والإناث، ومن جملة النعيم الزواج.
وقول السائل: " إن الله - تعالى - ذكر الحور العين، وهن زوجات، ولم يذكر للنساء أزواجا ".
فنقول: إنما ذكر الزوجات للأزواج؛ لأن الزوج هو الطالب، وهو الراغب في المرأة؛ فلذلك ذكرت الزوجات للرجال في الجنة، وسكت عن الأزواج للنساء، ولكن ليس مقتضى ذلك أنه ليس لهن أزواج، بل لهن أزواج من بني آدم.
(179) وسئل فضيلة الشيخ: كيف رأى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحوال أهل الجنة، وأحوال أهل النار ليلة الإسراء والمعراج، مع أن الساعة لم تقم بعد؟ .
فأجاب بقوله: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخبرنا بذلك وأنه رأى الجنة والنار، ورأى أقواما يعذبون وأقواما ينعمون، والله أعلم بكيفية ذلك؛ لأن أمور الغيب لا يدركها الحس، فمثل هذه الأمور إذا جاءت يجب علينا أن نؤمن بها كما جاءت، وأن لا نتعرض لطلب الكيفية. ولم؟ ؛ لأن عقولنا أقصر وأدنى من أن تدرك هذا الأمر، فقد أخبر النبي، - صلى الله عليه(2/53)
وسلم - عن أمور لا يمكن إدراكها بالعقل، أخبر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بأن الله عز وجل - ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر كل ليلة، ومعلوم الآن أن ثلث الليل يدور على الكرة الأرضية، فإذا انتقل من جهة حل في جهة أخرى، فقد تقول: كيف ذلك؟
فنقول: عليك أن تؤمن بما أخبرك به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا تقل: كيف؟ ؛ لأن عقلك أدنى، وأقصر من أن يحيط بمثل هذه الأمور الغيبية، فعلينا أن نستسلم، ولا نقول: كيف؟ ولم؟ ، ولهذا قال بعض العلماء كلمة نافعة قال: " قل: بم أمر الله؟ ولا تقل: لم أمر الله؟ " والله ولي التوفيق.
(180) سئل فضيلة الشيخ - أعلى الله درجته-: هل الجنة والنار موجودتان الآن؟ .
فأجاب بقوله: نعم، الجنة والنار موجودتان الآن، ودليل ذلك من الكتاب والسنة.
أما الكتاب: فقال الله - تعالى - في النار: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} ، والإعداد بمعنى التهيئة، وفي الجنة قال الله - تعالى -: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} ، والإعداد أيضا التهيئة.
وأما السنة: فقد ثبت في الصحيحين، وغيرهما في قصة كسوف الشمس، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قام يصلي، فعرضت عليه الجنة والنار، وشاهد الجنة حتى هم أن يتناول منها عنقودا، ثم بدا له أن(2/54)
لا يفعل عليه الصلاة والسلام، وشاهد النار، ورأى فيها عمرو بن لحي الخزاعي، يجر قصبه في النار - والعياذ بالله - يعني أمعاءه قد اندلقت من بطنه فهو يجرها في النار؛ لأن الرجل أول من أدخل الشرك على العرب، فكان له كفل من العذاب الذي يصيب من بعده، ورأى امرأة تعذب في النار في هرة حبستها حتى ماتت؛ فلا هي أطعمتها، ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض، فدل ذلك على أن الجنة والنار موجودتان الآن.
(181) وسئل فضيلته: هل النار مؤبدة أو تفنى؟ .
فأجاب بقوله: المتعين قطعا أنها مؤبدة، ولا يكاد يعرف عند السلف سوى هذا القول، ولهذا جعله العلماء من عقائدهم، بأن نؤمن ونعتقد بأن النار مؤبدة أبد الآبدين، وهذا الأمر لا شك فيه؛ لأن الله - تعالى - ذكر التأبيد في ثلاثة مواضع من القرآن:
الأول: في سورة النساء في قوله - تعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} .
والثاني: في سورة الأحزاب {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} .
والثالث: في سورة الجن {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} .(2/55)
ولو ذكر الله - عز وجل - التأبيد في موضع واحد لكفى، فكيف وهو قد ذكره في ثلاثة مواضع؟ ! ومن العجب أن فئة قليلة من العلماء ذهبوا إلى أنها تفنى بناء على علل عليلة؛ لمخالفتها لمقتضى الكتاب والسنة، وحرفوا من أجلها الكتاب والسنة، فقالوا: إن " خالدين فيها أبدا " ما دامت موجودة فكيف هذا؟ !!!
إذا كانوا خالدين فيها أبدا، لزم أن تكون هي مؤبدة " فيها " هم كائنون فيها، وإذا كان الإنسان خالدا مؤبدا تخليده، لزم أن يكون مكان الخلود مؤبدا؛ لأنه لو فني مكان الخلود ما صح تأبيد الخلود، والآية واضحة جدا، والتعليلات الباردة المخالفة للنص مردودة على صاحبها، وهذا الخلاف الذي ذكر عن فئة قليلة من أهل العلم خلاف مطرح؛ لأنه مخالف للنص الصريح الذي يجب على كل مؤمن أن يعتقده، ومن خالفه لشبهة قامت عنده، فيعذر عند الله، لكن من تأمل نصوص الكتاب والسنة عرف أن القول بتأبيدها هو الحق، الذي لا يحق العدول عنه.
والحكمة تقتضي ذلك؛ لأن هذا الكافر أفنى عمره، كل عمره في محاربة الله - عز وجل - ومعصية الله، والكفر به، وتكذيب رسله مع أنه جاءه النذير وأعذر وبين له الحق، ودعي إليه، وقوتل عليه، وأصر على الكفر والباطل فكيف نقول: إن هذا لا يؤبد عذابه؟ ! والآيات في هذا صريحة كما تقدم.
(182) وسئل فضيلة الشيخ: هل هناك ناران؛ نار لأهل الكفر، ونار لأهل المعاصي الذين يعذبون فيها، ثم يخرجون؟
فأجاب بقوله: زعم بعض العلماء ذلك، وقال: إن النار ناران: نار لأهل الكفر، ونار لأهل المعاصي من المؤمنين، وبينهما فرق، ولكن هذا لا(2/56)
أعلم له دليلا، لكن عذابهما يختلف، لا شك أنها على عصاة المؤمنين ليست، كما هي على الكافرين، وكوننا نقول بالتقسيم بناء على استبعاد عقولنا أن تكون نار واحدة، تؤثر تأثيرين مختلفين لا ينبغي؛ لأن هذا الاستبعاد لا وجه له لأمرين:
الأمر الأول: أن الله على كل شيء قدير، وأن الله قادر على أن يجعل النار الواحدة لشخص سلاما، ولآخر عذابا.
الأمر الثاني: أن أحوال الآخرة لا تقاس بأحوال الدنيا أبدا لظهور الفرق العظيم بينهما، فلا يجوز أن تقيس أحوال الآخرة بأحوال الدنيا لتنفي ما لا يتسع له عقلك، بل عليك بالنسبة لأحوال الآخرة أن تسلم، وتقبل، وتصدق، أليست هذه الشمس ستدنو من الخلائق قدر ميل يوم القيامة؟
ولو كانت أحوال الناس يوم القيامة كأحوالهم في الدنيا لأحرقتهم؛ لأن هذه الشمس في أوجها لو أنها نزلت ولو يسيرا أحرقت الأرض، ومحتها عن آخرها، ونحن نحس بحرارتها الآن، وبيننا وبينها مسافات عظيمة، لا سيما في أيام الصيف حين تكون عمودية، ومع ذلك تدنو من الخلائق يوم القيامة على قدر ميل، ولا يحترقون بها.
كذلك أيضا في يوم القيامة الناس في مقام واحد، المؤمنون لهم نور يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، والكفار في ظلمة، لكن في الدنيا لو كان بجانبك واحد على يمينه نور، وبن يديه نور فإنك تنتفع به، أما في الآخرة فلا.
وفي الآخرة أيضا يعرق الناس فيختلف العرق اختلافا عظيما بينهم، وهم في مكان واحد، فمن الناس من يصل العرق إلى كعبيه، ومنهم من يصل إلى ركبتيه، ومنهم من يصل إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق، وهم في مكان واحد.
فالمهم: أنه لا يجوز أن نقيس أحوال الآخرة بأحوال الدنيا، ثم نذهب،(2/57)
ونحدث أشياء لم تأت في الكتاب والسنة، كتقسيم النار إلى نارين: نار للعصاة، ونار للكافرين، فالذي بلغنا، ووصل إليه علمنا: أنها نار واحدة، لكنها تختلف.
(183) سئل فضيلة الشيخ: هل نار جهنم لها اسم واحد، أو أسماء متعددة؟ .
فأجاب قائلا: نار جهنم لها أسماء متعددة، وهذا التعدد في الأسماء لاختلاف صفاتها، فتسمى الجحيم، وتسمى جهنم، ولظى، والسعير، وسقر، والحطمة، والهاوية، بحسب اختلاف الصفات والمسمى واحد، فكل ما صح في كتاب الله أو سنة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أسمائها فإنه يجب على المؤمن أن يصدق به ويثبته.
(184) وسئل فضيلة الشيخ: إذا استعاذ الإنسان من عذاب جهنم، فهل المراد أنه يعوذ بالله من المعاصي المؤدية إلى جهنم، أو يتعوذ بالله من جهنم؟ .
فأجاب بقوله: يشمل الأمرين فهو يستعيذ بالله من عذاب جهنم، أي من فعل الأسباب المؤدية إلى عذاب جهنم، ومن عذاب جهنم، أي من عقوبة جهنم إذا فعل الأسباب التي توجب ذلك؛ لأن الإنسان بين أمرين: إما عصمة من الذنوب، فهذه إعاذة من فعل السبب، وإما عفو عن الذنوب، وهذه إعاذة من العذاب، وقولنا: العصمة من الذنوب ليس معناه العصمة المطلقة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: «كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون» . وقال: «لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم» .(2/58)
(185) وسئل فضيلة الشيخ: هل عذاب النار حقيقي، أو أن أهلها يكونون فيها كأنهم حجارة لا يتألمون؟
فأجاب فضيلته: عذاب أهل النار حقيقي بلا ريب، ومن قال خلاف ذلك فقد أخطأ، وأبعد النجعة، فأهلها يعذبون فيها، ويألمون ألما عظيما شديدا، كما قال - تعالى - في عدة آيات: {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} حتى إنهم يتمنون الموت، والذي يتمنى الموت هل يقال: إنه يتألم، أو إنه تأقلم؟ !
لو تأقلم ما تألم، ولا دعا الله أن يقضي عليه {وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} . إذن هم يتألمون بلا شك، والحرارة النارية تؤثر على أبدانهم ظاهرها وباطنها، قال الله - تعالى - في كتابه العزيز: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} .
وهذا واضح أن ظاهر أبدانهم يتألم وينضج، وقال - تعالى -: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} . وشيُّ الوجوه، واللحم معروف فهم إذا استغاثوا ( {يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ} بعد مدة طويلة، وهذا الماء إذا أقبل على وجوههم شواها، وتساقطت والعياذ بالله، فإذا شربوه قطع أمعاءهم {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} . وهذا عذاب الباطن، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أهون أهل النار عذابا: «إنه في ضحضاح من نار، وعليه نعلان يغلي منهما دماغه» . أعوذ بالله الدماغ يغلي!(2/59)
فما بالك بما دونه مما هو أقرب إلى النعلين! وهذا دليل واضح على أنهم يتألمون، وأن هذه النار تؤثر فيهم، وكذلك قال - تعالى -: {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} أي المحرق، والآيات والأحاديث في هذا كثيرة واضحة، تدل على بطلان قول: من قال " إنهم يكونون كالحجارة لا يتألمون".
(186) وسئل فضيلة الشيخ: هل النار في السماء أو في الأرض؟
فأجاب قائلا: هي في الأرض، ولكن قال بعض أهل العلم: إنها هي البحار، وقال آخرون: هي في باطن الأرض، والذي يظهر أنها في باطن الأرض، ولكن ما ندري أين هي من الأرض؟ نؤمن بأنها في الأرض، وليست في السماء، ولكن لا نعلم في أي مكان هي على وجه التعيين. والدليل على أن النار في الأرض ما يلي:
قال الله - تعالى -: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} . وسجين هي الأرض السفلى، كذلك جاء في الحديث فيمن احتضر، وقبض من الكافرين فإنها لا تفتح لهم أبواب السماء، ويقول الله - تعالى -: «اكتبوا كتاب عبدي في سجين، وأعيدوه إلى الأرض» ولو كانت النار في السماء لكانت تفتح لهم أبواب السماء ليدخلوها؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى أصحابها يعذبون فيها، وإذا كانت في السماء لزم من دخولهم في النار التي في السماء أن تفتح أبواب السماء.
لكن بعض الناس استشكل، وقال: كيف يراها الرسول - صلى الله(2/60)
عليه وسلم - ليلة عرج به وهي في الأرض؟ !
وأنا أعجب لهذا الاستشكال، إذا كنا ونحن في الطائرة نرى الأرض تحتنا بعيدة، وندركها، فكيف لا يرى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النار وهو في السماء؟ !
فالحاصل: أنها في الأرض، وقد روي في هذا أحاديث لكنها ضعيفة، وروي آثار عن السلف كابن عباس، وابن مسعود، وهو ظاهر القرآن {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} . والذين كذبوا بالآيات، واستكبروا عنها لا شك أنهم في النار.
(187) سئل فضيلة الشيخ - حفظه الله-: هل ما يذكر من أن أكثر أهل النار النساء صحيح؟ ولماذا؟ .
فأجاب بقوله: هذا صحيح، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لهن وهو يخطب فيهن: «يا معشر النساء، تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار» ، وقد أورد على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذا الإشكال الذي أورده السائل، قلن: وبم يا رسول الله؟ قال: «تكثرن اللعن، وتكفرن العشير» . فبين النبي، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -أسباب كثرتهن في النار؛ لأنهن يكثرن السب، واللعن، والشتم، ويكفرن العشير، الذي هو الزوج، فصرن بذلك أكثر أهل النار.(2/61)
(188) سئل فضيلة الشيخ - حفظه الله -: عن أسماء القيامة، وسبب تعددها؟ .
فأجاب - حفظه الله - بقوله: الأسماء لا يمكنني الآن حصرها، لكن سبب تعددها أنها أسماء تدل على أوصاف، فهي: الساعة، وكلمة الساعة تقال في اللغة العربية؛ لما يقع فيه الأمر العظيم الشديد الشاق، وتسمى الحاقة؛ لكونها حقا، ووصفها الله - جل جلاله - أن زلزلتها شيء عظيم؛ لما فيها من الأهوال، ووصفت بالقارعة إلى غير ذلك من الأوصاف التي كل وصف منها يدل على معنى لا يدل عليه الاسم الآخر، أو الوصف الآخر، فهذه هي الحكمة من تعدد أوصافها، وذكرها حتى يكون ذلك أبلغ في الإيمان بها، وأقوم للاستعداد لها.
(189) سئل فضيلته - حفظه الله -: هل صح حديث خروج السفياني في علامات الساعة؟ وكذا هل صحت أيضا أحاديث خروج الرايات السود؟ .
فأجاب - حفظه الله- بقوله: حديث السفياني أخرجه الحاكم في مستدركه، وقال: حديث صحيح الإسناد، ولكن الحاكم - رحمه الله - معروف بالتساهل بالتصحيح، فالله أعلم، وأما الرايات السود فلا أدري.(2/62)
رسالة(2/64)
لا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما.
أما بعد: فإن الله - تعالى - قال في كتابه المبين: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} ، وقال: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} . وقال جل ذكره: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} .
وأمر نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يعلن للملأ قوله: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} . وقوله: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} ، وقوله: {قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا}(2/65)
{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} .
فبين الله - تعالى - في هذه الآيات الكريمة أن غيب السماوات والأرض لله - تعالى - وحده لا يشركه فيه غيره، ولا يظهر سبحانه أحدا على هذا الغيب إلا من ارتضاه من الرسل الكرام.
وكل علم يتعلق بالمستقبل فإنه من علم الغيب، كما قال - تعالى -: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} .
ومن ذلك علم قيام الساعة، فإنه من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، ولم يطلع الله عليه أحدا من خلقه، حتى أشرف الرسل من الملائكة والبشر لا يعلمونه، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: «أن جبريل أتى إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في صورة رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه أحد من الصحابة، فسأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الإسلام، والإيمان، والإحسان، فبينها له، ثم قال: أخبرني عن الساعة؟ فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ما المسئول عنها بأعلم من السائل "، قال فأخبرني عن أماراتها؟ فأخبره بشيء منها.» .
فقوله - صلي الله عليه وسلم -: «ما المسئول عنها بأعلم من السائل» ؛ يعني أن علمي، وعلمك فيها سواء، فلست أعلم بها منك حتى أخبرك، فإذا كنت لا تعلمها فأنا لا أعلمها، فإذا انتفى علمها عن أفضل الرسل من الملائكة، وأفضل الرسل(2/66)
من البشر فانتفاء علمها عمن سواهما أولى.
وقد جاءت نصوص الكتاب والسنة بنفي علم الخلق بوقت الساعة بخصوصه.
فالآية الأولى قوله - تعالى - في سورة الأعراف: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} أي لا يعلمون أن علمها عند الله - تعالى - فهم يسألون عنها.
وقد أكد الله - تعالى - أن علمها عنده وحده في جمل أربع، وهي قوله:
{إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ) . (إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ} . وهذه الجمل أفادت اختصاص علمها بالله - عز وجل - بدلالة الحصر التي هي من أقوى دلالات الاختصاص.
أما الجملة الرابعة، فهي قوله: {لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} . فإن الناس لو أمكنهم العلم بها ما جاءتهم بغتة؛ لأن المباغتة لا تكون في الشيء المعلوم.
فإن قال قائل: ألا يحتمل أن يكون في قوله - تعالى -: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} دليل على أن بعض الناس يعلمون متى تقوم؟ .
قلنا: لا يحتمل ذلك؛ لأنه ينافي التأكيد الوارد في هذه الجمل، ويناقضه، فكيف يؤكد الله - تعالى - أن علمها عنده وحده، ثم يشير إلى أن بعض الناس يعلمون ذلك؟ وهل هذا إلا من العبث المعنوي الذي ينزه الله - تعالى - عنه ومن(2/67)
الركاكة والعي الذي تأباه بلاغة القرآن العظيم.
ولو قدر - على الفرض الممتنع - أن أحدا من الناس قد يعلمه الله - تعالى - به، فإن ذلك من علم الغيب الذي لا يظهر الله - تعالى - عليه إلا من ارتضى من رسول، وقد سبق أن الرسول البشري محمدا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والرسول الملكي جبريل لا يعلمان ذلك، فمن ذا يمكن أن يعلمه من سواهما من الخلق؟ .
والآية الثانية قوله في سورة لقمان: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} . وهذه الخمس هي مفاتح الغيب التي قال الله عنها: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} ، كما فسرها به أعلم الخلق بمراد الله - عز وجل- رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ففي صحيح البخاري، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «مفاتح الغيب خمس: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} » .
فثبت بذلك أن علم الساعة مما يختص الله - تعالى - به؛ لأنه من علم الغيب ولا يظهر الله - تعالى - أحدا من خلقه على غيبه إلا من ارتضاه من الرسل، فمن ادعى علم شيء منه غير الرسل فهو كاذب، مكذب لله - تعالى -.
فإن قال قائل: ما تقولون عما قيل: إنهم يطلعون على الجنين قبل وضعه(2/68)
فيعلمون أذكر هو أم أنثى، وإنهم يتوقعون نزول المطر في المستقبل، فينزل كما توقعوا.
قلنا: الجواب عن الأول أنهم لا يعلمون أنه ذكر أم أنثى إلا بعد أن يخلق، فتبين ذكورته، أو أنوثته، وحينئذ لا يكون من الغيب المحض المطلق، بل هو غيب نسبي؛ ولهذا ثبت في الصحيحين من حديث أنس، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قصة الملك الموكل بالرحم، أنه يقول عند تخليق الجنين: " يا رب، أذكر أم أنثى؟ يا رب، أشقي أم سعيد؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ فيكتب كذلك في بطن أمه.
وفي صحيح مسلم من حديث حذيفة بن أسيد، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الملك الموكل بالرحم قال: «يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك» . فقد علم الملك أن الجنين ذكر أو أنثى، وهو في بطن أمه، لكنه قبل أن يخلق لا يعلم الملك، ولا غيره أنه ذكر أو أنثى.
والجواب عن الثاني: أن هذه التوقعات إنما تكون بوسائل حسية، وهي الأرصاد الدقيقة التي يعلم بها تكيفات الجو، وتهيؤه لنزول المطر بوجه خفي، لا يدرك بمجرد الحس، وهذا التوقع بهذه الأرصاد ليس من علم الغيب الذي يختص به الله - عز وجل- فهو كتوقعنا أن ينزل المطر حين يتكاثف السحاب، ويتراكم، ويدنو من الأرض، ويحصل فيه رعد وبرق.
والآية الثالثة قوله في سورة الأحزاب: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} .(2/69)
والآية الرابعة: قوله في سورة الزخرف: {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ، فتقديم الخبر في قوله: {وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} يفيد الاختصاص، كما هو معلوم.
والآية الخامسة: قوله - تعالى - في سورة النازعات: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا} . فقدم الخبر في قوله: {إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا} ؛ ليفيد اختصاص ذلك به تبارك وتعالى.
هذه خمس آيات من كتاب الله - تعالى - كلها صريحة في أن علم الساعة خاص بالله - تعالى - لا يطلع عليه ملك مقرب، ولا نبي مرسل.
وأما السنة: فمنها ما سبق في حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.
فإن قيل: ما تقولون في قوله - تعالى - في سورة طه: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} حيث إن ظاهرها أنه - تعالى - لم يخفها، فالجواب من ثلاثة أوجه:
الأول: أن كثيرا من المفسرين، أو أكثرهم قال: معنى الآية أكاد أخفيها على نفسي، وهو من المبالغة في الإخفاء، كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المتصدق يخفي صدقته: " حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ".
الثاني: أن يقال: هب أن ظاهر الآية أن الله - تعالى - لم يخفها على الناس، ولكن لغموض وسائل العلم بها صار كمن كاد يخفيها، فإن هذا الظاهر(2/70)
مدفوع بالنصوص الصحيحة الصريحة، بأنه لا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله - تعالى -.
وطريق الراسخين في العلم: أن يحملوا النصوص المتشابهة على النصوص المحكمة؛ لتكون النصوص كلها محكمة متفقة، غير متنافية ولا متناقضة {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} .
الثالث: أن يقال: إن أبى آب إلا أن يتمسك بالظاهر، ويقول: إن المراد أكاد أخفيها على الخلق، فالجواب أن يقال:
الإخفاء ثلاثة أنواع: إخفاء ذكر، وإخفاء قرب، وإخفاء وقوع.
فأما إخفاء الذكر فهو: أن لا يذكر الله الساعة للخلق، ولا يبين لهم شيئا من أحوالها، وهذا محال، تأباه حكمة الرب جل وعلا، ويكذبه الواقع، فإن الإيمان باليوم الآخر أحد أركان الإيمان الستة، فالعلم به من ضروريات الإيمان؛ ولهذا لم يخف الله - تعالى - ذكر الساعة، بل أعلم عباده بها، وبين من أحوالها وأهوالها، وما يشفي ويكفي فيما أوحاه إلى رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الكتاب والسنة.
وأما إخفاء القرب فهو أن لا يذكر الله - تعالى - للخلق شيئا من علاماتها الدالة على قربها، وهي أشراطها، ولكن رحمة الرب الواسعة اقتضت أن يبين للخلق قرب قيامها بما يظهره من العلامات الدالة عليه ليزدادوا بذلك إيمانا، ويستعدوا لها بالعمل الصالح المبني على الإخلاص لله - تعالى - والمتابعة لرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفي كتاب الله - تعالى - وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أشراط الساعة ما يتبين به قربها إجمالا تارة وتفصيلا تارة أخرى.(2/71)
وأما إخفاء الوقوع فهو أن لا يذكر الله - تعالى - للخلق وقتا محدودا تقوم فيه الساعة، وهذا هو ما دل عليه الكتاب والسنة فليس في الكتاب والسنة تحديد لوقت قيام الساعة، بل فيهما النص الصريح الذي لا يحتمل التأويل بأن علم ذلك موكول إلى الله - تعالى - لا يعلم به ملك مقرب، ولا نبي مرسل، وكل ما قيل في توقع وقت قيام الساعة فهو ظن، وتخمين باطل مردود على قائله لمخالفته كتاب الله - تعالى - وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله - تعالى - " ص 189 ج35 مجموع الفتاوى أثناء جواب له عن المنجمين "، قال: ووافقهم على ذلك من زعم أنه استخرج بقاء هذه الملة من حساب الجمل الذي للحروف، التي في أوائل السور، وهي مع حذف التكرير أربعة عشر حرفا، وحسابها في الجملة الكثير (كذا في الكتاب) ستمائة وثلاثة وتسعون.
ومن هذا أيضا ما ذكر في التفسير: أن الله - تعالى - لما أنزل {الم} قال بعض اليهود: بقاء هذه الملة إحدى وثلاثون، فلما أنزل بعد ذلك {الر} و {المر} قالوا: خلط علينا، فهذه الأمور التي توجد في ضلال اليهود والنصارى، وضلال المشركين، والصابئين من المتفلسفة، والمنجمين مشتملة من هذا الباطل على ما لا يعلمه إلا الله - تعالى -، وهذه الأمور وأشباهها خارجة عن الإسلام محرمة فيه، فيجب إنكارها والنهي عنها على المسلمين، على كل قادر؛ بالعلم، والبيان، واليد، واللسان فإن ذلك من أعظم ما أوجبه الله - تعالى - من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وهؤلاء وأشباههم أعداء الرسل، وسوس الملل، ولا ينفق الباطل إلا بثوب من الحق اهـ. كلام الشيخ رحمه الله تعالى.
وعلى هذا فينزل قوله - تعالى -: {أَكَادُ أُخْفِيهَا} على النوع الثاني إخفاء(2/72)
القرب فإنه سبحانه لم يخفها الإخفاء المطلق بترك ذكرها، ولم يبينها البيان المطلق بذكر متى قيامها، وإنما بين لهم علاماتها، وهي أشراطها، وأخفى عليهم علم قيامها، وهذا مقتضى حكمته ورحمته، فإنه - تعالى - لو أبانه للناس لحصل لهم من الشر والفساد، وتعطل المصالح ما لا يعلمه إلا الله؛ خصوصا من كانوا قريبين من النهاية، ولكن الرب جل وعلا أخفى ذلك، كما أخفى علم كل إنسان بنهاية حياته؛ لئلا يستحسر، ويدع العمل خصوصا عند قرب حلول أجله.
ومن تأمل ما أبانه الله - تعالى - لخلقه من أمور الغيب، وما أخفاه عليهم تبين له من حكمة الله، ورحمته ما يبهر عقله، ويعلم به أن لله الحكمة البالغة، والرحمة الواسعة فيما أبان، وما أخفى، {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين.
حرره الفقير إلى الله - تعالى - كاتبه محمد الصالح العثيمين في شهر رجب عام 1405 هـ.(2/73)
القضاء والقدر(2/75)
(190) وسئل فضيلة الشيخ: عمن لا يحب دراسة العقيدة خصوصا مسألة القدر خوفا من الزلل؟ .
فأجاب بقوله: هذه المسألة كغيرها من المسائل المهمة، التي لا بد للإنسان منها في دينه ودنياه، لا بد أن يخوض غمارها، وأن يستعين بالله - تبارك وتعالى - على تحقيقها ومعرفتها، حتى يتبين له الأمر؛ لأنه لا ينبغي أن يكون على شك في هذه الأمور المهمة، أما المسائل التي لا تخل بدينه لو أجلها، ويخشى أن تكون سببا لانحرافه، فإنه لا بأس أن يؤجلها ما دام غيرها أهم منها، ومسائل القدر من الأمور المهمة التي يجب على العبد أن يحققها تماما، حتى يصل فيها إلى اليقين، وهي في الحقيقة ليس فيها إشكال - ولله الحمد -.
والذي يثقل دروس العقيدة على بعض الناس: هو أنهم مع الأسف الشديد يرجحون جانب " كيف " على جانب " لم "، والإنسان مسئول عن عمله بأداتين من أدوات الاستفهام " لم " و" كيف " فلم عملت كذا؟ هذا الإخلاص. كيف عملت كذا؟ هذه المتابعة للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأكثر الناس الآن مشغولون بتحقيق جواب " كيف "، غافلون عن تحقيق جواب " لم "؛ ولذلك تجدهم في جانب الإخلاص لا يتحرون كثيرا، وفي جانب المتابعة يحرصون على أدق الأمور، فالناس الآن مهتمون كثيرا بهذا الجانب، غافلون عن الجانب الأهم، وهو جانب العقيدة، وجانب الإخلاص، وجانب التوحيد؛ لهذا تجد بعض الناس في مسائل الدنيا يسأل عن مسألة يسيرة جدا جدا، وقلبه منكب على الدنيا، غافل عن الله مطلقا في(2/77)
بيعه وشرائه، ومركوبه، ومسكنه، وملبسه، فقد يكون بعض الناس الآن عابدا للدنيا وهو لا يشعر، وقد يكون مشركا بالله في الدنيا وهو لا يشعر؛ لأنه مع الأسف أن جانب التوحيد، وجانب العقيدة لا يهتم بهما، ليس من العامة فقط، ولكن حتى من بعض طلاب العلم، وهذا أمر له خطورته.
كما أن التركيز على العقيدة فقط بدون العمل الذي جعله الشارع كالحامي والسور لها خطأ أيضا؛ لأننا نسمع في الإذاعات، ونقرأ في الصحف التركيز على أن الدين هو العقيدة السمحاء، وما أشبه ذلك من هذه العبارات، وفي الحقيقة أن هذا يخشى أن يكون بابا يلج منه من يلج في استحلال بعض المحرمات، بحجة أن العقيدة سليمة، ولكن لا بد من ملاحظة الأمرين جميعا؛ ليستقيم الجواب على " لم "، وعلى " كيف ".
وخلاصة الجواب: أنه يجب على المرء دراسة علم التوحيد والعقيدة؛ ليكون على بصيرة في إلهه ومعبوده - جل وعلا - على بصيرة في أسماء الله وصفاته، وأفعاله، على بصيرة في أحكامه الكونية، والشرعية، على بصيرة في حكمته، وأسرار شرعه وخلقه، حتى لا يضل بنفسه، أو يضل غيره.
وعلم التوحيد هو أشرف العلوم؛ لشرف متعلقه، ولهذا سماه أهل العلم (الفقه الأكبر) ، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين» ، وأول ما يدخل في ذلك وأولاه علم التوحيد والعقيدة، لكن يجب على المرء أيضا أن يتحرى كيف يأخذ هذا العلم، ومن أي مصدر يتلقاه.
فليأخذ من هذا العلم أولا: ما صفا منه، وسلم من الشبهات، ثم ينتقل ثانيا: إلى النظر فيما أورد عليه من البدع والشبهات؛ ليقوم بردها، وبيانها مما أخذه من قبل من العقيدة الصافية، وليكن المصدر الذي يتلقاه منه كتاب الله، وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم كلام الصحابة - رضي الله عنهم-(2/78)
ثم ما قاله الأئمة بعدهم من التابعين وأتباعهم، ثم ما قاله العلماء الموثوق بعلمهم وأمانتهم؛ خصوصا شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم عليهما، وعلى سائر المسلمين وأئمتهم سابغ الرحمة والرضوان.
(191) وسئل فضيلة الشيخ: ما الفرق بين القضاء والقدر؟ .
فأجاب بقوله: اختلف العلماء في الفرق بينهما، فمنهم من قال: إن القدر: " تقدير الله في الأزل"، والقضاء: " حكم الله بالشيء عند وقوعه "، فإذا قدر الله - تعالى - أن يكون الشيء المعين في وقته فهذا قدر، فإذا جاء الوقت الذي يكون فيه هذا الشيء فإنه يكون قضاء، وهذا كثير في القرآن الكريم مثل قوله- تعالى -: {قُضِيَ الْأَمْرُ} ، وقوله: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ} ، وما أشبه ذلك. فالقدر تقدير الله - تعالى - الشيء في الأزل، والقضاء قضاؤه به عند وقوعه.
ومنهم من قال: إنهما بمعنى واحد.
والراجح: أنهما إن قرنا جميعا فبينهما فرق كما سبق، وإن أفرد أحدهما عن الآخر فهما بمعنى واحد، والله أعلم.
(192) وسئل فضيلة الشيخ: هل بين القضاء والقدر عموم وخصوص؟ .
فأجاب بقوله: القضاء إذا أطلق شمل القدر، والقدر إذا أطلق(2/79)
شمل القضاء، ولكن إذا قيل: القضاء والقدر صار بينهما فرق، وهذا كثير في اللغة العربية تكون الكلمة لها معنى شامل عند الانفراد، ومعنى خاص عند الاجتماع، ويقال في مثل ذلك: " إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا "، فالقضاء والقدر الصحيح أنهما من هذا النوع، يعني أن القضاء إذا أفرد شمل القدر. والقدر إذا أفرد شمل القضاء، لكن إذا اجتمعا فالقضاء: " ما يقضيه الله في خلقه من إيجاد، أو إعدام، أو تغيير"، والقدر: " ما قدره الله- تعالى - في الأزل ". هذا هو الفرق بينهما، فيكون القدر سابقا، والقضاء لاحقا.
(193) سئل فضيلة الشيخ - أعلى الله درجته في المهديين-: عن الإيمان بالقضاء والقدر؟ .
فأجاب قائلا: الإيمان بالقدر هو أحد أركان الإيمان الستة، التي بينها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لجبريل حين سأله عن الإيمان. والإيمان بالقدر أمر هام جدا، وقد تنازع الناس في القدر من زمن بعيد حتى في عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كان الناس يتنازعون فيه ويتمارون فيه، وإلى يومنا هذا والناس يتنازعون فيه، ولكن الحق فيه - ولله الحمد - واضح بين، لا يحتاج إلى نزاع ومراء، فالإيمان بالقدر أن تؤمن بأن الله -سبحانه وتعالى - قد قدر كل شيء كما قال- تعالى -: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} ، وهذا التقدير الذي قدره الله- عز وجل - تابع لحكمته، وما تقتضيه تلك الحكمة من غايات حميدة، وعواقب نافعة للعباد في معاشهم ومعادهم.
ويدور الإيمان بالقدر على الإيمان بأربع مراتب:
المرتبة الأولى: العلم، وذلك أن تؤمن إيمانا كاملا بأن الله ـ سبحانه(2/80)
وتعالى - قد أحاط بكل شيء علما، أحاط بكل شيء مما مضى، ومما هو حاضر، ومما هو مستقبل، سواء كان ذلك مما يتعلق بأفعاله - عز وجل -، أو بأفعال عباده، فهو محيط بها جملة وتفصيلا بعلمه الذي هو موصوف به أزلا وأبدا، وأدلة هذه المرتبة كثيرة في القرآن والسنة، قال الله - تعالى -: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} . وقال - تعالى -: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} . وقال عز وجل: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} ، وقال - سبحانه وتعالى -: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} إلى غير ذلك من الآيات الدالة على علم الله - سبحانه وتعالى - بكل شيء جملة وتفصيلا.
وهذه المرتبة من الإيمان بالقدر من أنكرها فهو كافر؛ لأنه مكذب لله ولرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإجماع المسلمين، وطاعن في كمال الله - عز وجل -؛ لأن ضد العلم إما الجهل، وإما النسيان، وكلاهما عيب، وقد قال الله - تعالى - عن موسى - عليه السلام - حينما سأله فرعون: {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} ، فهو {لَا يَضِلُّ} ؛ أي لا يجهل شيئا مستقبلا، {وَلَا يَنْسَى} شيئا ماضيا - سبحانه وتعالى -.(2/81)
المرتبة الثانية: الإيمان بأن الله - سبحانه وتعالى - كتب مقادير كل شيء إلى أن تقوم الساعة فإنه - عز وجل - حينما خلق القلم، قال له: " اكتب قال: ربي، وماذا اكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة ".
فكتب الله - عز وجل- في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء، وقد دل على هذه المرتبة قوله - تعالى -: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} . قال: {إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} ، أي مكتوب في كتاب، وهو اللوح المحفوظ {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} ، ثم هذه الكتابة تكون مفصلة أحيانا، فإن الجنين في بطن أمه إذا مضى عليه أربعة أشهر يبعث إليه ملك، فيأمره بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد، كما ثبت ذلك في الصحيح من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويكتب أيضا في ليلة القدر ما يكون في تلك السنة، كما قال الله- تعالى -: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} .
المرتبة الثالثة: الإيمان بأن كل ما في الكون فإنه بمشيئة الله، فكل ما في الكون فهو حادث بمشيئة الله - عز وجل - سواء كان ذلك مما يفعله هو عز وجل أو فيما يفعله المخلوق قال الله - تعالى -: {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} ، وقال - تعالى -: {وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} ، وقال:(2/82)
{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} ، وقال- عز وجل-: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة الدالة على أن فعله واقع بمشيئته، وكذلك أفعال الخلق واقعة بمشيئته، كما قال- تعالى -: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} ، وهذا نص صريح في أن أفعال العبيد قد شاءها الله - عز وجل - ولو شاء الله أن لا يفعلوا لم يفعلوا.
المرتبة الرابعة: الإيمان بأن الله - تعالى- خالق كل شيء فالله - عز وجل - هو الخالق، وما سواه مخلوق، فكل شيء فالله خالقه، فالمخلوقات مخلوقة لله- عز وجل - وما يصدر منها من أفعال وأقوال مخلوقة لله - عز وجل - أيضا؛ لأن أفعال الإنسان، وأقواله من صفاته، فإذا كان الإنسان مخلوقا كانت صفاته أيضا مخلوقة لله - عز وجل -، ويدل لذلك قوله - تعالى -: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} .
فنص الله - تعالى - على خلق الإنسان وعلى خلق عمله قال {وَمَا تَعْمَلُونَ} ، وقد اختلف الناس في (ما) هنا هل هي مصدرية، أو موصولة؟ وعلى كل تقدير فإنها تدل على أن عمل الإنسان مخلوق لله - عز وجل- هذه أربع مراتب لا يتم الإيمان بالقدر إلا بالإيمان بها.
ثم اعلم أن الإيمان بالقدر لا ينافي فعل الأسباب، بل إن فعل الأسباب مما أمر به الشرع، وهو حاصل بالقدر؛ لأن الأسباب تنتج عنها(2/83)
مسبباتها، ولهذا لما توجه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى الشام علم في أثناء الطريق أنه قد وقع فيها الطاعون، فاستشار الصحابة -رضي الله عنهم- هل يستمر ويمضي في سيره، أو يرجع إلى المدينة؟ فاختلف الناس عليه، ثم استقر رأيهم على أن يرجع إلى المدينة، ولما عزم على ذلك جاءه أبو عبيدة عامر بن الجراح، وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يجله ويقدره فقال: يا أمير المؤمنين، " كيف ترجع إلى المدينة؟ أفرارا من قدر الله "؟ فقال عمر - رضي الله عنه-: " نفر من قدر الله إلى قدر الله "، وبعد ذلك جاء عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- وكان غائبا في حاجة له، فحدثهم «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال عن الطاعون: " إذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليها» .
والحاصل: أن في قول عمر - رضي الله عنه-: " نفر من قدر الله إلى قدر الله " دليلا على أن اتخاذ الأسباب من قدر الله - عز وجل - ونحن نعلم أن الرجل لو قال: أنا مؤمن بقدر الله وسيرزقني الله ولدا بدون زوجة، لو قال هذا لعد من المجانين، كما أنه لو قال: أنا أؤمن بقدر الله، ولن أسعى في طلب الرزق، ولم يتخذ أي سبب للرزق لعد ذلك من السفه؛ فالإيمان بالقدر إذن لا ينافي الأسباب الشرعية، أو الحسية الصحيحة، أما الأسباب الوهمية التي يدعي أصحابها أنها أسباب، وليست كذلك فهذه لا عبرة بها ولا يلتفت إليها.
ثم اعلم أنه يرد على الإيمان بالقدر إشكال - وليس بإشكال في الواقع - وهو أن يقول قائل: إذا كان فعلي من قدر الله - عز وجل- فكيف أعاقب على المعصية، وهي من تقدير الله- عز وجل -؟
والجواب على ذلك أن يقال: لا حجة لك على المعصية بقدر الله؛ لأن الله- عز وجل - لم يجبرك على المعصية، وأنت حين أقدمت عليها لم يكن(2/84)
لديك العلم بأنها مقدرة عليك؛ لأن الإنسان لا يعلم بالمقدر إلا بعد وقوع الشيء، فلماذا لم تقدر قبل أن تفعل المعصية أن الله قدر لك الطاعة، فتقوم بطاعته؟ ! وكما أنك في أمورك الدنيوية تسعى لما ترى أن فيه خيرا، وتهرب مما ترى فيه شرا، فلماذا لا تعامل نفسك هذه المعاملة في عمل الآخرة؟ !
ولا أعتقد أن أحدا يسلك الطريق الصعب، ويقول: إن هذا قد قدر لي، بل سوف يسلك الطريق المأمون الميسر، ولا فرق بين هذا وبين أن يقال لك: للجنة طريق، وللنار طريق، فإنك إذا سلكت طريق النار فأنت كالذي سلك الطريق المخوف الوعر، فلماذا ترضى لنفسك أن تسلك طريق الجحيم، وتدع طريق النعيم؟ !
ولو كان للإِنسان حجة بالقدر على فعل المعصية لم تنتف هذه الحجة بإرسال الرسل، وقد قال الله- تعالى -: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}
واعلم أن للإيمان بالقدر ثمرات جليلة على سير الإنسان، وعلى قلبه؛ لأنك إذا آمنت بأن كل شيء بقضاء الله وقدره فإنك عند السراء تشكر الله -عز وجل- ولا تعجب بنفسك، ولا ترى أن هذا الأمر حصل منك بحولك وقوتك، ولكنك تؤمن بأن هذا سبب إذا كنت قد فعلت السبب الذي نلت به ما يسرك، وأن الفضل بيد الله - عز وجل- فتزداد بذلك شكرا لنعم الله - سبحانه وتعالى - ويحملك هذا على أن تقوم بطاعة الله على حسب ما أمرك الله به، وأن لا ترى لنفسك فضلا على ربك، بل ترى المنة لله - سبحانه وتعالى - عليك قال الله- تعالى -: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .(2/85)
كما أنك إذا أصابتك الضراء فإنك تؤمن بالله - عز وجل - وتستسلم، ولا تندم على ذلك، ولا تلحقك الحسرة، ألم تر إلى قول النبي، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجزن، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا، فإن لو تفتح عمل الشيطان» .
فالإيمان بالقدر فيه راحة النفس والقلب، وعدم الحزن على ما فات، وعدم الغم والهم لما يستقبل، قال الله- تعالى -: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} ، والذي لا يؤمن بالقدر لا شك أنه سوف يتضجر عند المصائب ويندم، ويفتح الشيطان له كل باب، وأنه سوف يفرح ويبطر، ويغتر إذا أصابته السراء، لكن الإيمان بالقدر يمنع هذا كله.
(194) سئل فضيلة الشيخ: عن مسألة القدر؟ وهل أصل الفعل مقدر، والكيفية يخير فيها الإنسان؟ مثال ذلك: إذا قدر الله - تعالى - للعبد أن يبني مسجدا فإنه سيبني لا محالة، لكنه ترك لعقله الخيار في كيفية البناء، وكذلك المعصية إذا قدرها الله فإن، الإنسان سيفعلها لا محالة، لكن ترك لعقله كيفية تنفيذها، وخلاصة هذا الرأي: أن الإنسان مخير في الكيفية التي ينفذ بها ما قدر عليه فهل هذا صحيح؟ .(2/86)
فأجاب فضيلته بقوله: هذه المسألة - أي مسألة القدر- محل جدل بين البشر من قديم الزمان، ولذلك انقسم الناس فيها إلى ثلاثة أقسام: طرفين، ووسط. أما الطرفان:
فأحدهما: نظر إلى عموم قدر الله فعمي عن اختيار العبد. وقال: إنه مجبر على أفعاله، وليس له فيها أي اختيار، فسقوط الإنسان من السقف بالريح ونحوها كنزوله منه مختارا من الدرج.
وأما الطرف الثاني: فنظر إلى أن العبد فاعل، تارك باختياره، فعمي عن قدر الله، وقال: إن العبد مستقل بأفعاله، ولا تعلق لقدر الله - تعالى - فيها.
وأما الوسط: فأبصروا السببين، فنظروا إلى عموم قدر الله- تعالى - وإلى اختيار العبد، فقالوا: إن فعل العبد كائن بقدر الله - تعالى - وباختيار العبد، وإنه يعلم بالضرورة الفرق بين سقوط الإنسان من السقف بالريح ونحوها، ونزوله منه مختارا من الدرج، فالأول: من فعله بغير اختياره، والثاني: باختياره، والكل منهما واقع بقضاء الله وقدره، لا يقع في ملكه ما لا يريد، لكن ما وقع باختيار العبد فهو مناط التكليف، ولا حجة له بالقدر في مخالفة ما كلف به من أوامر أو نواه، وذلك؛ لأنه يقدم على المخالفة حين يقدم عليها وهو لا يعلم ما قدر الله عليه، فيكون إقدامه الاختياري على المخالفة هو سبب العقوبة، سواء كانت في الدنيا أم في الآخرة، ولذلك لو أجبره مجبر على المخالفة، لم يثبت عليه حكم المخالفة، ولا يعاقب عليها؛ لثبوت عذره حينئذ.
وإذا كان الإنسان يدرك أن هروبه من النار إلى موضع يأمن فيه منها يكون باختياره، وأن تقدمه إلى بيت جميل واسع طيب المسكن ليسكنه يكون باختياره أيضا، مع إيمانه أن هروبه وتقدمه المذكورين واقعان(2/87)
بقضاء الله وقدره، وأن بقاءه لتدركه النار، وتأخره عن سكنى البيت يعد تفريطا منه، وإضاعة للفرصة يستحق اللوم عليه؛ فلماذا لا يدرك هذا بالنسبة لتفريطه بترك الأسباب المنجية له من نار الآخرة، الموجبة لدخوله الجنة؟ !
وأما التمثيل بأن الله إذا قدر للعبد أن يبني مسجدا فإنه سيبني هذا المسجد لا محالة، لكنه ترك لعقله الخيار في كيفية البناء، فهذا تمثيل غير صحيح؛ لأنه يوحي بأن كيفية البناء يستقل بها العقل ولا تدخل في قدر الله - تعالى -، وأن أصل فكرة البناء يستقل بها القدر، ولا مدخل للاختيار فيها.
والحقيقة: أن أصل فكرة البناء تدخل في اختيار العبد؛ لأنه لم يجبر عليها، كما لا يجبر على فكرة إعادة بناء بيته الخاص، أو ترميمه مثلا، ولكن هذه الفكرة قد قدرها الله- تعالى - للعبد من حيث لا يشعر؛ لأنه لا يعلم بأن الله قدر شيئا ما، حتى يقع ذلك الشيء، إذ القدر سر مكتوم، لا يعلم إلا بإطلاع الله- تعالى - عليه بالوحي، أو بالوقوع الحسي.
وكذلك كيفية البناء هي بقدر الله - تعالى -، فإن الله - تعالى - قد قدر الأشياء كلها جملة وتفصيلا، ولا يمكن أن يختار العبد ما لم يُرِدْه أو يقدره، بل إذا اختار العبد شيئا وفعله، علم يقينا أن الله - تعالى - قد قضاه وقدره. فالعبد مختار بحسب الأسباب الحسية الظاهرة التي قدرها الله - تعالى -، أسبابا لوقوع فعله، ولا يشعر العبد حين يفعل الفعل بأن أحدا أجبره عليه، لكنه إذا فعل ذلك بحسب الأسباب التي جعلها الله - تعالى - أسبابا علمنا يقينا بأن الله - تعالى -، قد قدرها جملة وتفصيلا.
وهكذا نقول في التمثيل بفعل الإنسان المعصية، حيث قلتم: إن الله قدر عليه فعل المعصية فهو سيفعلها لا محالة، ولكن ترك لعقله كيفية(2/88)
تنفيذها والسعي إليها.
فنقول فيه ما قلناه في بناء المسجد: إن تقدير الله - تعالى - عليه فعل المعصية لا ينافي اختياره لها؛ لأنه حين اختياره لها لا يعلم بما قدر الله - تعالى - عليه، فهو يقدم عليها مختارا لا يشعر بأن أحدا يجبره، لكنه إذا أقدم وفعل علمنا أن الله قد قدر فعله لها، وكذلك كيفية تنفيذ المعصية والسعي إليها الواقعة باختيار العبد، لا تنافي قدر الله - تعالى -، فالله - تعالى - قد قدر الأشياء كلها جملة وتفصيلا وقدر أسبابها الموصلة إليها، ولا يشذ عن ذلك شيء من أفعاله، ولا من أفعال العباد الاختيارية منها والاضطرارية، كما قال الله - تعالى -: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} . وقال - تعالى -: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} ، وقال: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} . وقال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا}
وبعد فإن الجدير بالمرء ألا يبحث في نفسه، ولا مع غيره في مثل هذه(2/89)
الأمور التي توجب له التشوش، وتوهم معارضة الشرع بالقدر، فإن ذلك ليس من دأب الصحابة - رضي الله عنهم - وهم أحرص الناس على معرفة الحقائق، وأقربهم من معين إرواء الغلة، وكشف الغمة، وفي صحيح البخاري، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة، ومقعده من النار ". فقلنا: يا رسول الله، أفلا نتكل؟» وفي رواية: «أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ قال: " لا اعملوا فكل ميسر» .
وفي رواية: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة. وأما من كان من أهل الشقاوة فييسر لعمل أهل الشقاوة» . ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} .
فنهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الاتكال على الكتاب وترك العمل؛ لأنه لا سبيل إلى العلم به، وأمر بما يستطيعه العبد ويمكنه، وهو العمل، واستدل بالآية التي تدل على أن من عمل صالحا، وآمن فسييسر لليسرى، وهذا هو الدواء الناجع المثمر، الذي يجد فيه العبد بلوغ عافيته وسعادته، حيث يشمر للعمل الصالح المبني على الإيمان، ويستبشر بذلك حين يقارنه التوفيق لليسرى في الدنيا والآخرة. أسأل الله - تعالى - أن يوفقنا جميعا للعمل الصالح، وأن ييسرنا لليسرى، ويجنبنا العسرى، ويغفر لنا في الآخرة والأولى، إنه جواد كريم.
(195) وسئل فضيلة الشيخ: هل الإنسان مخير أو مسير؟ .
فأجاب بقوله: على السائل أن يسأل نفسه: هل أجبره أحد على أن يسأل هذا السؤال، وهل هو يختار نوع السيارة التي يقتنيها؟ إلى أمثال ذلك(2/90)
من الأسئلة، وسيتبين له الجواب هل هو مسير أو مخير.
ثم يسأل نفسه هل يصيبه الحادث باختياره؟
هل يصيبه المرض باختياره؟
هل يموت باختياره؟
إلى أمثال ذلك من الأسئلة، وسيتبين له الجواب هل هو مسير أو مخير.
والجواب: أن الأمور التي يفعلها الإنسان العاقل يفعلها باختياره بلا ريب، واسمع إلى قول الله - تعالى -: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا} ، وإلى قوله: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} ، وإلى قوله: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} ، إلى قوله: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} ، حيث خير الفادي فيما يفدي به.
ولكن العبد إذا أراد شيئا وفعله علمنا أن الله - تعالى - قد أراده لقوله - تعالى -: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} فلكمال ربوبيته لا يقع شيء في السماوات والأرض إلا بمشيئته - تعالى -.
وأما الأمور التي تقع على العبد، أو منه بغير اختياره، كالمرض، والموت، والحوادث فهي بمحض القدر، وليس للعبد اختيار فيها ولا إرادة. والله الموفق.(2/91)
(196) وسئل فضيلته: عن حكم الرضا بالقدر؟ وهل الدعاء يرد القضاء؟ .
فأجاب قائلا: أما الرضا بالقدر فهو واجب؛ لأنه من تمام الرضا بربوبية الله، فيجب على كل مؤمن أن يرضى بقضاء الله، ولكن المقضي هو الذي فيه التفصيل فالمقضي غير القضاء؛ لأن القضاء فعل الله، والمقضي مفعول الله، فالقضاء الذي هو فعل الله يجب أن نرضى به، ولا يجوز أبدا أن نسخطه بأي حال من الأحوال.
وأما المقضي فعلى أقسام:
القسم الأول: ما يجب الرضا به.
القسم الثاني: ما يحرم الرضا به.
القسم الثالث: ما يستحب الرضا به.
فمثلا المعاصي من مقضيات الله، ويحرم الرضا بالمعاصي، وإن كانت واقعة بقضاء الله، فمن نظر إلى المعاصي من حيث القضاء الذي هو فعل الله يجب أن يرضى، وأن يقول: إن الله - تعالى - حكيم، ولولا أن حكمته اقتضت هذا ما وقع، وأما من حيث المقضي وهو معصية الله فيجب ألا ترضى به، والواجب أن تسعى لإزالة هذه المعصية منك أو من غيرك.
وقسم من المقضي يجب الرضا به مثل الواجب شرعا؛ لأن الله حكم به كونا، وحكم به شرعا، فيجب الرضا به من حيث القضاء ومن حيث المقضي.
وقسم ثالث: يستحب الرضا به، ويجب الصبر عليه، وهو ما يقع من المصائب، فما يقع من المصائب يستحب الرضا به عند أكثر أهل العلم ولا يجب، لكن يجب الصبر عليه، والفرق بين الصبر والرضا: أن الصبر يكون الإنسان فيه كارها للواقع، لكنه لا يأتي بما يخالف الشرع وينافي الصبر.(2/92)
والرضا: لا يكون كارها للواقع فيكون ما وقع، وما لم يقع عنده سواء، فهذا هو الفرق بين الرضا والصبر؛ ولهذا قال الجمهور: إن الصبر واجب، والرضا مستحب.
أما قول السائل: هل الدعاء يرد القضاء؟
فجوابه: أن الدعاء من الأسباب التي يحصل بها المدعو، وهو في الواقع يرد القضاء ولا يرد القضاء؛ يعني له جهتان، فمثلا هذا المريض قد يدعو الله- تعالى - بالشفاء فيشفى، فهنا لولا هذا الدعاء لبقي مريضا، لكن بالدعاء شفي، إلا أننا نقول: إن الله -سبحانه وتعالى - قد قضى بأن هذا المرض يشفى منه المريض بواسطة الدعاء، فهذا هو المكتوب، فصار الدعاء يرد القدر ظاهريا، حيث إن الإنسان يظن أنه لولا الدعاء لبقي المرض، ولكنه في الحقيقة لا يرد القضاء؛ لأن الأصل أن الدعاء مكتوب، وأن الشفاء سيكون بهذا الدعاء، هذا هو القدر الأصلي الذي كتب في الأزل، وهكذا كل شيء مقرون بسبب فإن هذا السبب جعله الله - تعالى - سببا يحصل به الشيء، وقد كتب ذلك في الأزل من قبل أن يحدث.
(197) سئل فضيلة الشيخ: هل للدعاء تأثير في تغيير ما كتب للإنسان قبل خلقه؟
فأجاب بقوله: لا شك أن للدعاء تأثيرا في تغيير ما كتب، لكن هذا التغيير قد كتب أيضا بسبب الدعاء، فلا تظن أنك إذا دعوت الله فإنك تدعو بشيء غير مكتوب، بل الدعاء مكتوب، وما يحصل به مكتوب، ولهذا نجد القارئ يقرأ على المريض فيشفى، وقصة السرية التي بعثها النبي(2/93)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنزلوا ضيوفا على قوم، ولكنهم لم يضيفوهم، وقدر أن لدغت حية سيدهم، فطلبوا من يقرأ عليه، فاشترط الصحابة أجرة على ذلك، فأعطوهم قطيعا من الغنم، فذهب أحدهم فقرأ عليه الفاتحة، فقام اللديغ، كأنما نشط من عقال، أي كأنه بعير فك عقاله، فقد أثرت القراءة في شفاء المريض.
فللدعاء تأثير، لكنه ليس تغييرا للقدر، بل هو مكتوب بسببه المكتوب، وكل شيء عند الله بقدر، وكذلك جميع الأسباب لها تأثير في مسبباتها بإذن الله، فالأسباب مكتوبة، والمسببات مكتوبة.
(198) وسئل فضيلة الشيخ: هناك مشكلة ترد على بعض الناس وهي: " كيف يعاقب الله على المعاصي، وقد قدرها على الإنسان "؟
فأجاب قائلا: هذه في الحقيقة ليست مشكلة، وهي إقدام الإنسان على العمل السيئ، ثم يعاقب عليه هذه ليست مشكلة؛ لأن إقدام الإنسان على العمل السيئ إقدام باختياره، فلم يكن أحد شهر سيفه أمام وجهه، وقال: اعمل هذا المنكر، بل هو عمله باختياره، والله - تعالى - يقول: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} ، فالشاكر والكفور كلهم قد هداه الله السبيل، وبينه له ووضحه له، ولكن من الناس من يختار هذا الطريق، ومن الناس من لا يختاره، وتوضيح ذلك أولا بالإلزام، وثانيا بالبيان:(2/94)
(أما الإلزام فإننا نقول للشخص: أعمالك الدنيوية وأعمالك الأخروية كلاهما سواء، ويلزمك أن تجعلهما سواء، ومن المعلوم أنه لو عرض عليك من أعمال الدنيا مشروعان أحدهما ترى لنفسك الخير فيه، والثاني ترى لنفسك الشر فيه، من المعلوم أنك تختار المشروع الأول الذي هو مشروع الخير ولا يمكن أبدًا بأي حال من الأحوال أن تختار المشروع الثاني وهو مشروع الشر، ثم تقول:
إن القدر ألزمني به، إذًا يلزمك في طريق الآخرة ما التزمته في طريق الدنيا، ونقول: جعل الله أمامك من أعمال الآخرة مشروعين؛ مشروعًا للشر وهي الأعمال المخالفة للشرع، ومشروعًا للخير وهي الأعمال المطابقة للشرع.
فإذا كنت في أعمال الدنيا تختار المشروع الخيري فلماذا لا تختار المشروع الخيري في أعمال الآخرة؟
إنه يلزمك في عمل الآخرة أن تختار المشروع الخيري كما أنت التزمت في عمل الدنيا أن تسلك المشروع الخيري هذا طريق الإلزام.
أما طريق البيان فإننا نقول: كلنا يجهل ماذا قدر الله له، قال الله -تعالى -: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} فالإنسان حينما يقدم على العمل يقدم عليه باختيار منه ليس عن علم بأن الله قدره عليه وأرغمه عليه ولهذا قال بعض العلماء: "إن القدر سر مكتوم" ونحن جميعًا لا نعلم أن الله قدر كذا حتى يقع ذلك العمل، فنحن إذًا حينما نقدم على العمل لا نقدم عليه على أساس أنه كتب لنا أو علينا، وإنما نقدم عليه باختيار، وحينما يقع نعلم أن الله قدره علينا، ولذلك لا يقع احتجاج الإنسان بالقدر إلا بعد وقوع العمل، ولكنه لا حجة له بذلك ويذكر عن أمير المؤمنين عمر قصة - قد تصح عنه وقد لا تصح - رفع إليه سارق تمت شروط القطع في(2/95)
سرقته فلما أمر أمير المؤمنين بقطع يده قال: مهلًا يا أمير المؤمنين والله ما سرقت ذلك إلا بقدر الله.
قال له: ونحن لا نقطع يدك إلا بقدر الله.
فاحتج عليه أمير المؤمنين بما احتج به هو على سرقته من أموال المسلمين، مع أن عمر يمكنه أن يحتج عليه بالقدر والشرع، لأنه مأمور بقطع يده، أما ذاك فلا يمكن أن يحتج إلا بالقدر إن صح أن يحتج به.
وعلى هذا فإنه لا يمكن لأي أحد أن يحتج بالقدر على معصية الله، وإنه في الواقع لا حجة فيه يقول الله عز وجل -: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}
مع أن ما يعمله الناس بعد الرسل هو بقدر الله، ولو كان القدر حجة ما زالت بإرسال الرسل أبدًا. بهذا يتبين لنا أثرًا ونظرًا أنه لا حجة للعاصي بقضاء الله وقدره، لأنه لم يجبر على ذلك. والله الموفق.
(199) وسئل فضيلته: هل الرزق والزواج مكتوب في اللوح المحفوظ؟
فأجاب بقوله: كل شيء منذ خلق الله القلم إلى يوم القيامة فإنه مكتوب في اللوح المحفوظ لأن الله - سبحانه وتعالى - أول ما خلق القلم قال له: «اكتب قال: ربي وماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة» .
وثبت عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أن الجنين في بطن أمه إذا مضى عليه أربعة أشهر، بعث الله إليه ملكًا ينفح فيه الروح ويكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد.(2/96)
والرزق أيضًا مكتوب مقدر بأسبابه لا يزيد ولا ينقص، فمن الأسباب أن يعمل الإنسان لطلب الرزق كما قال الله -تعالى -: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} ومن الأسباب أيضًا صلة الرحم من بر الوالدين،وصلة القرابات، فإن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: «من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه» ومن الأسباب تقوى الله - عز وجل - كما قال - تعالى -: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} .. ولا تقل: إن الرزق مكتوب ومحدد ولن أفعل الأسباب التي توصل إليه فإن هذا من العجز: والكياسة والحزم أن تسعى لرزقك، ولما ينفعك في دينك ودنياك قال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني» . وكما أن الرزق مكتوب مقدر بأسبابه فكذلك الزواج مكتوب مقدر، وقد كتب لكل من الزوجين أن يكون زوج الآخر بعينه، والله - تعالى - لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
(200) وسئل فضيلته: هل الكفار مكتوب عملهم في الأزل؟ وإذا كان كذلك فكيف يعذبهم الله - تعالى -؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم الكفار مكتوب عملهم في الأزل، ويكتب عمل الإنسان أيضًا عند تكوينه في بطن أمه كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: حدثنا(2/97)
رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو الصادق المصدوق: «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه -أربعين يومًا، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد» . فأعمال الكفار مكتوبة عند الله -عز وجل - معلومة عنده والشقي شقي عند الله - عز وجل - في الأزل، والسعيد سعيد عند الله في الأزل.
ولكن قد يقول قائل كما قال السائل: كيف يعذبون وقد كتب الله عليهم ذلك في الأزل؟
فنقول: إنهم يعذبون لأنهم قد قامت عليهم الحجة وبين لهم الطريق، فأرسلت إليهم الرسل، وأنزلت الكتب، وبين الهدى من الضلال ورُغِّبوا في سلوك طريق الهدى، وحُذِّروا من سلوك طريق الضلال، ولهم عقول ولهم إرادات، ولهم اختيارات ولهذا نجد هؤلاء الكفار وغيرهم أيضًا يسعون إلى مصالح الدنيا بإرادة واختيار، ولا نجد أحدًا منهم يسعى إلى شيء يضره في دنياه أو يتهاون ويتكاسل في أمر نافع له، ثم يقول: إن هذا مكتوب علي.
أبدًا فكل يسعى إلى ما فيه المنفعة، فكان عليهم أن يسعوا إلى ما فيه منفعة أمور دينهم كما يسعون إلى ما فيه المنفعة في أمور دنياهم، ولا فرق بينهما بل إن بيان الخير والشر في أمور الدين في الكتب المنزلة على الرسل، عليهم الصلاة والسلام، أكثر وأعظم من بيان الأمور الدنيوية، فكان عليهم أن يسلكوا الطرق التي فيها نجاتهم والتي فيها سعادتهم دون أن يسلكوا الطرق التي فيها هلاكهم وشقاؤهم.
ثم نقول: هذا الكافر حين أقدم على الكفر لا يشعر أبدًا أن أحد أكرهه، بل هو يشعر أنه فعل ذلك بإرادته واختياره، فهل كان حين إقدامه على الكفر عالمًا بما كتب الله له؟
والجواب: لا. لأننا نحن لا نعلم أن(2/98)
الشيء مقدر علينا إلا بعد أن يقع، أما قبل أن يقع فإننا لا نعلم ماذا كتب لأنه من علم الغيب.
ثم نقول له: الآن أنت قبل أن تقع في الكفر أمامك شيئان: هداية وضلال فلماذا لا تسلك طريق الهداية مقدرًا أن الله كتبه لك؟
لماذا تسلك طريق الضلال ثم بعد أن تسلكه تحتج بأن الله كتبه؟!
لأننا نقول: لك قبل أن تدخل هذا الطريق هل عندك علم أنه مكتوب عليك؟
فسيقول: لا. ولا يمكن أن يقول: نعم. فإذا قال: لا. قلنا: إذًا لماذا لم تسلك طريق الهداية وتقدر أن الله تعالى - كتب لك ذلك ولهذا يقول الله - عز وجل -: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} ويقول: -عز وجل - {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} ولما «أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه: بأنه ما من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعدة من النار قالوا: يا رسول الله ألا ندع العمل ونتكل على الكتاب؟
قال: "لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له" ثم قرأ قوله -تعالى -: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} » . فهذا جوابنا على هذا السؤال الذي أورده هذا السائل وما أكثر من يحتج به من أهل الضلال، وهو عجب منهم لأنهم لا يحتجون بمثل هذه الحجة على مسائل الدنيا أبدًا، بل تجدهم يسلكون في مسائل الدنيا ما هو أنفع لهم، ولا يمكن لأحد أن يقال له: هذا الطريق الذي أمامك طريق(2/99)
وعر صعب، فيه لصوص، وفيه سباع، وهذا الطريق الثاني طريق سهل، ميسر آمن. لا يمكن لأحد أن يسلك الطريق الأول ويدع الطريق الثاني مع أن هذا نظير الطريقين: طريق النار، وطريق الجنة. فالرسل بينت طريق الجنة وقالت: هو هذا، وبينت طريق النار وقالت: هو هذا، وحذرت من الثاني ورغبت في الأول، ومع ذلك فإن هؤلاء العصاة يحتجون بقضاء الله وقدره -وهم لا يعلمونه -على معاصيهم ومعايبهم التي فعلوها باختيارهم وليس لهم في ذلك حجة عند الله - تعالى -.
(201) وسئل فضيلته: عن قول النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها» أو كما قال، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهل يعارض هذا الحديث قول الله تعالى -: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} ؟
فأجاب حفظه الله تعالى -بقوله:هذا الحديث حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه -يخبر فيه النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع؛ لقرب أجله وموته ثم يسبق عليه الكتاب الأول الذي كتب أنه من أهل النار، فيعمل(2/100)
بعمل أهل النار - والعياذ بالله - فيدخلها، وهذا فيما يبدو للناس ويظهر كما جاء في الحديث الصحيح: «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار» . - نسأل الله العافية - وكذلك الأمر بالنسبة للثاني يعمل الإنسان بعمل أهل النار، فيمُنُّ الله تعالى عليه بالتوبة والرجوع إلى الله عند قرب أجله، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها.
والآية التي ذكرها السائل لا تعارض الحديث لأن الله -تعالى - قال: {أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} ومن أحسن العمل في قلبه وظاهره فإن الله - تعالى -لا يضيع أجره، لكن الأول الذي عمل بعمل أهل الجنة فسبق عليه الكتاب، كان يعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس فيسبق عليه الكتاب، وعلى هذا يكون عمله ليس حسنًا وحينئذ لا يعارض الآية الكريمة. والله الموفق.
(202) وسئل فضيلته: عن الجمع بين قول الله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} وقوله: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} .
فأجاب قائلًا: الجمع بينهما أن الله تعالى يخبر في بعض الآيات بأن الأمر بيده ويخبر في بعض الآيات أن الأمر راجع إلى المكلف، والجمع بين هذه النصوص أن يقال: إن للمكلف إرادة واختيارًا وقدرة، وإن خالق(2/101)
هذه الإرادة والاختيار والقدرة هو الله - عز وجل - فلا يكون للمخلوق إرادة إلا بمشيئة الله - عز وجل - وقد قال الله - تعالى - مبينًا الجمع بين هذه النصوص: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ. وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ولكن متى يشاء الله - تعالى - أن يهدي الإنسان أو أن يضله؟
هذا هو ما جاء في قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فسنيسره للعسرى} واقرأ قوله: - تعالى -: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} تجد أن سبب ضلال العبد من نفسه فهو السبب، والله -تعالى - يخلق عند ذلك فيه إرادة للسوء لأنه هو يريد السوء، وأما من أراد الخير وسعى في الخير وحرص عليه فإن الله - تعالى -ييسره لليسرى، ولما «حدث النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أصحابه: بأنه ما من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعدة من النار قالوا يا رسول الله أفلا نتكل على الكتاب وندع العمل؟
قال: "لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له" ثم قرأ هذه الآية {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} إلخ» .
واعلم يا أخي أنه لا يمكن أن يوجد في كلام الله أو فيما صح عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تناقض أبدًا، فإذا قرأت نصين ظاهرهما التناقض فأعد النظر مرة أخرى، فسيتبين لك الأمر، فإن لم تعلم فالواجب عليك التوقف وأن تكل الأمر إلى عالمه والله بكل شيء عليم.(2/102)
(203) وسئل فضيلة الشيخ: عن قول الله - تعالى -: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} ؟
فأجاب بقوله:هذا مما قاله إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، لقومه {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} أي ما تعملون من هذه الأصنام ليقيم عليهم الحجة بأنها لا تصلح آلهة، لأنها إذا كانت مخلوقة لله - تعالى - فمن الذي يستحق العبادة المخلوق أم الخالق؟
الجواب الخالق. وهل يستحق المخلوق أن يكون شريكًا في هذه العبادة؟
لا. فإبراهيم، عليه الصلاة والسلام، أراد أن يقيم الحجة على قومه بأن ما عملوه من هذه الأصنام التي نحتوها مخلوق الله -عز وجل -فكيف يليق بهم أن يشركوا مع الله -تعالى - هذا المخلوق.
وعلى هذا فقوله: {وَمَا تَعْمَلُونَ} (ما) اسم موصول عائد على قوله {مَا تَنْحِتُونَ} هذا وجه هذه الآية.
وليس فيها أنه يبرر شركهم بالله ويقول: إن عملكم مخلوق لله فأنتم بريئون من اللوم عليه، كلا لأننا لو قلنا ذلك لكان يحتج لهم ولا يحتج عليهم، ولكن هو يحتج عليهم وليس يحتج لهم.
(204) وسئل فضيلته عن شخص عاص عندما دعي للحق قال: "إن الله لم يكتب لي الهداية" فكيف يتعامل معه؟
فأجاب قائلًا: نقول بكل بساطة: أطَّلعت الغيب أم اتخذت عند الله عهدًا؟
إن قال: نعم، كفر لأنه ادعى علم الغيب وإن قال: لا، خُصم وغلب، إذا كنت لم تطلع أن الله لم يكتب لك الهداية فاهتد، فالله ما منعك الهداية بل دعاك إلى الهداية، ورغبك فيها، وحذرك من(2/103)
الضلالة، ونهاك عنها ولم يشأ الله - عز وجل - أن يدع عباده على ضلالة أبدًا قال - تعالى -: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} .
{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ}
. فتب إلى الله، والله - عز وجل - أشد فرحًا بتوبتك من رجل أضل راحلته وعليها طعامه وشرابه، وأيس منها، ونام تحت شجرة ينتظر الموت، فاستيقظ فإذا بخطام ناقته متعلق بالشجرة فأخذ بخطام الناقة فرحًا وقال: "اللهم أنت عبدي وأنا ربك". أخطأ من شدة الفرح فنقول: تب إلى الله، والله أمرك بالاهتداء وبين لك طريق الحق. والله ولي التوفيق.
(205) وسئل فضيلة الشيخ: عن الحكمة من وجود المعاصي والكفر؟
فأجاب بقوله: لوقوع المعاصي والكفر حكم كثيرة منها:
1 - إتمام كلمة الله - تعالى - حيث وعد النار أن يملأها قال الله - تعالى -: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} .
2 - ومنها ظهور حكمة الله -تعالى - وقدرته حيث قسم العباد إلى قسمين: طائع، وعاصٍ، فإن هذا التقسيم يتبين به حكمة الله - عز وجل -فإن الطاعة لها أهل هم أهلها، والمعصية لها أهل هم أهلها، قال(2/104)
الله تعالى -: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} . وقال: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} فهؤلاء أهل الطاعة وقال -تعالى -: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} . وقال: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} . وهؤلاء أهل المعصية.
ويتبين بذلك قدرته بهذا التقسيم الذي لا يقدر عليه إلا الله كما قال -تعالى -: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} .
وقال: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} . 3 - ومنها أن يتبين للمطيع قدر نعمة الله عليه بالطاعة إذا رأى حال أهل المعصية قال الله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} . 4 - ومنها لجوء العبد إلى ربه بالدعاء أن يباعد بينه وبين المعصية والدعاء عبادة لله - تعالى -.
5 - ومنها أن العبد إذا وقع في المعصية ومَنَّ الله عليه بالتوبة ازداد(2/105)
إنابة إلى الله وانكسر قلبه، وربما يكون بعد التوبة أكمل حالًا منه قبل المعصية حيث يزول عنه الغرور والعجب، ويعرف شدة افتقاره إلى ربه.
6 - ومنها إقامة الجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فإنه لولا المعاصي والكفر لم يكن جهاد، ولا أمر بمعروف، ولا نهي عن منكر. إلى غير ذلك من الحكم والمصالح الكثيرة ولله في خلقه شؤون.
(206) سئل فضيلة الشيخ: هل في محاجة آدم وموسى إقرار للاحتجاج بالقدر؟
وذلك «أن آدم احتج هو وموسى فقال له موسى: "أنت أبونا خيبتنا أخرجتنا ونفسك من الجنة". فقال له آدم: "أتلومني على شيء قد كتبه الله علي قبل أن يخلقني؟ " فقال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فحج آدم موسى، فحج آدم موسى» . أي غلبه بالحجة وآدم احتج بقضاء الله وقدره.
فأجاب بقوله: هذا ليس احتجاجًا بالقضاء والقدر على فعل العبد ومعصية العبد، لكنه احتجاج بالقدر على المصيبة الناتجة من فعله، فهو من باب الاحتجاج بالقدر على المصائب لا على المعائب، ولهذا قال: «خيبتنا وأخرجتنا، ونفسك من الجنة» ولم يقل: عصيت ربك فأخرجت من الجنة.
فاحتج آدم بالقدر على الخروج من الجنة الذي يعتبره مصيبة، والاحتجاج بالقدر على المصائب لا بأس به، أرأيت لو أنك سافرت سفرًا وحصل لك حادث، وقال لك إنسان: لماذا تسافر لو أنك بقيت في بيتك ما حصل لك شيء.
فستجيبه: بأن هذا قضاء الله وقدره، أنا ما خرجت لأجل أن أصاب بالحادث، وإنما خرجت لمصلحة، فأصبت بالحادث،(2/106)
كذلك آدم عليه الصلاة والسلام، هل عصى الله لأجل أن يخرجه من الجنة؟
لا. فالمصيبة إذًا التي حصلت له مجرد قضاء وقدر، وحينئذ يكون احتجاجه بالقدر على المصيبة الحاصلة احتجاجًا صحيحًا، ولهذا قال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حج آدم موسى، حج آدم موسى» . وفي رواية للإمام أحمد: «فحجه آدم» يعني غلبه في الحجة.
مثال آخر: رجل أصاب ذنبًا وندم على هذا الذنب وتاب منه، وجاء رجل من إخوانه يقول: له يا فلان كيف يقع منك هذا الشيء فقال: هذا قضاء الله وقدره. فهل يصح احتجاجه هذا أو لا؟
نعم يصح لأنه تاب، فهو لم يحتج بالقدر ليمضي في معصيته، لكنه نادم ومتأسف، ونظير ذلك «أن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دخل ليلة على علي بن أبي طالب وفاطمة -رضي الله عنهما -فقال: "ألا تصليان؟ " فقال علي - رضي الله عنه -: يا رسول الله إن أنفسنا بيد الله، فإن شاء الله أن يبعثنا بعثنا فانصرف النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يضرب على فخذه وهو يقول: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} » فالرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لم يقبل حجته، وبين أن هذا من الجدل؛ لأن الرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يعلم أن الأنفس بيد الله، لكن يريد أن يكون الإنسان حازمًا فيحرص على أن يقوم ويصلي.
على كل حال تبين لنا أن الاحتجاج باللقدرعلى المعصية بعد التوبة منها جائز، وأما الاحتجاج بالقدر على المعصية تبريرًا لموقف الإنسان واستمرارًا فيها فغير جائز.(2/107)
(207) سئل فضيلة الشيخ: هل في قدر الله تعالى شر؟
فأجاب قائلاً: ليس في القدر شر، وإنما الشر في المقدور، فمن المعروف أن الناس تصيبهم المصائب وتنالهم الخيرات، فالخيرات خير، والمصائب شر، لكن الشر ليس في فعل الله - تعالى -،يعني ليس فعل الله وتقديره شراً،الشر في مفعولات الله لا في فعله، والله - تعالى - لم يقدر هذا الشر إلا لخير كما قال-تعالى-: {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس} . هذا بيان سبب الفساد وأما الحكمة فقال: {ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون} إذاً هذه مصائب مآلها الخير، فصار الشر لا يضاف إلى الرب، ولكن يضاف إلى المفعولات والمخلوقات، مع أن هذه المفعولات والمخلوقات شر من وجه، وخير من وجه آخر، فتكون شراً بالنظر إلى ما يحصل منها من الأذية، ولكنها خير بما يحصل فيها من العاقبة الحميدة {ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون} .
(208) سئل فضيلة الشيخ: كيف يقضي الله كوناً مالا يحب؟
فأجاب بقوله: المحبوب قسمان:
الأول: محبوب لذاته.
الثاني: محبوب لغيره.
فالمحبوب لغيره قد يكون مكروهاً لذاته، ولكن يحب لما فيه من الحكمة والمصلحة، فيكون حينئذ محبوباً من وجه، مكروهاً من وجه آخر،(2/108)
مثال ذلك قوله -تعالى -: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} . فالفساد في الأرض في حد ذاته مكروه إلى الله -تعالى -؛ لأن الله - تعالى - لا يحب الفساد ولا المفسدين، ولكن للحكم التي يتضمنها يكون محبوبًا إلى الله - عز وجل - من وجه آخر، وكذلك العلو في الأرض،ومن ذلك القحط، والجدب، والمرض،والفقر يقدره الله - تعالى - على عباده مع أنه ليس محبوبًا إليه في حد ذاته؛ لأن الله لا يحب أن يؤذي عباده بشيء من ذلك،بل يريد بعباده اليسر، لكن يقدره للحكم المترتبة عليه، فيكون محبوبًا إلى الله من وجه، مكروهًا من وجه آخر قال الله -تعالى -: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} . فإن قيل: كيف يتصور أن يكون الشيء محبوبًا من وجه ومكروهًا من وجه آخر؟
أجيب: بأن هذا أمر واقع لا ينكره العقل، ولا يرفضه الحس فها هو الإنسان المريض يعطى جرعة من الدواء مرة كريهة الرائحة، واللون، فيشربها وهو يكرهها لما فيها من المرارة، وكراهة اللون، والرائحة، ويحبها لما يحصل فيها من الشفاء، وكذا الطبيب يكوي المريض بالحديدة المحماة على النار، ويتألم منها فهذا الألم مكروه له من وجه، محبوب له من وجه آخٍر.
(209) سئل فضيلة الشيخ: عمن يتسخط إذا نزلت به مصيبة؟(2/109)
فأجاب بقوله: الناس حال المصيبة على مراتب أربع:
المرتبة الأولى: التسخط وهو على أنواع:
النوع الأول: أن يكون بالقلب كأن يسخط على ربه يغتاظ مما قدره الله عليه فهذا حرام، وقد يؤدي إلى الكفر قال - تعالى -: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ} النوع الثاني: أن يكون باللسان كالدعاء بالويل والثبور وما أشبه ذلك، وهذا حرام.
النوع الثالث: أن يكون بالجوارح كلطم الخدود، وشق الجيوب، ونتف الشعور وما أشبه ذلك وكل هذا حرام مناف للصبر الواجب.
المرتبة الثانية: الصبر وهو كما قال الشاعر:
والصبر مثل اسمه مر مذاقته ... لكن عواقبه أحلى من العسل
فيرى أن هذا الشيء ثقيل عليه لكنه يتحمله وهو يكره وقوعه ولكن يحميه إيمانه من السخط، فليس وقوعه وعدمه سواء عنده وهذا واجب لأن الله تعالى أمر بالصبر فقال:
{وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} . المرتبة الثالثة: الرضا بأن يرضى الإنسان بالمصيبة بحيث يكون وجودها وعدمها سواء فلا يشق عليه وجودها، ولا يتحمل لها حملًا ثقيلًا، وهذه مستحبة وليست بواجبة على القول الراجح، والفرق بينها وبين المرتبة التي قبلها ظاهر لأن المصيبة وعدمها سواء في الرضا عند هذا أما التي قبلها(2/110)
فالمصيبة صعبة عليه لكن صبر عليها.
المرتبة الرابعة: الشكر وهو أعلى المراتب، وذلك بأن يشكر الله على ما أصابه من مصيبة حيث عرف أن هذه المصيبة سبب لتكفير سيئاته وربما لزيادة حسناته قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله بها عنه حتى الشوكة يشاكها» .
(210) سئل - حفظه الله تعالى -: ما معنى قوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه» . متفق عليه من حديث أنس. وهل معنى ذلك أن الإنسان يكون له عمر إذا وصل رحمه، وعمر إذا لم يصل؟
فأجاب بقوله: ليس معنى ذلك أن الإنسان يكون له عمران: عمر إذا وصل رحمه وعمر إذا لم يصل، بل العمر واحد، والمقدر واحد والإنسان الذي قدر الله له أن يصل رحمه سوف يصل رحمه، والذي قدر الله أن يقطع رحمه سوف يقطع رحمه ولا بد، ولكن الرسول، عليه الصلاة والسلام، أراد أن يحث الأمة على فعل ما فيه الخير، كما نقول: من أحب أن يأتيه ولد فليتزوج، فالزواج مكتوب، والولد مكتوب، فإذا كان الله قد أراد أن يحصل لك ولد أراد أن تتزوج، ومع هذا فإن الزواج والولد كلاهما مكتوب، كذلك هذا الرزق مكتوب من الأصل، ومكتوب أنك ستصل رحمك، لكنك أنت لا تعلم عن هذا فحثك النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبين لك أنك إذا وصلت الرحم فإن الله، يبسط لك في الرزق، وينسأ لك في الأثر، وإلا فكل شيء مكتوب لكن لما كانت صلة الرحم أمرًا ينبغي للإنسان أن يقوم به حث النبي، عليه الصلاة والسلام على ذلك بأن(2/111)
الإنسان إذا أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره فليصل رحمه، وإلا فإن الواصل قد كتبت صلته وكتب أن يكون عمره إلى حيث أراد الله -عز وجل - ثم اعلم أن امتداد الأجل، وبسط الرزق أمر نسبي، ولهذا نجد بعض الناس يصل رحمه، ويبسط له في رزقه بعض الشيء، ولكن عمره يكون قصيرًا وهذا مشاهد، فنقول: هذا الذي كان عمره قصيرًا مع كونه واصلًا للرحم لو لم يصل رحمه لكان عمره أقصر، ولكن الله قد كتب في الأزل أن هذا الرجل سيصل رحمه وسيكون منتهى عمره في الوقت الفلاني.
(211) وسئل فضيلة الشيخ: عن احتجاج العاصي إذا نهي عن معصية بقوله - تعالى -: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ؟
فأجاب قائلًا: إذا احتج بهذا احتججنا عليه بقوله - تعالى -: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} وبقوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . فإذا أتى بآيات الرجاء يقابل بآيات الوعيد.
وليس هذا الجواب منه إلا جواب المتهاون، فنحن نقول له: اتق الله - عز وجل - وقم بما أوجب الله عليك، واسأله المغفرة، لأنه ليس كل أحد يقوم بما أوجب الله عليه يقوم به على وجهه الأكمل.(2/112)
(212) سئل فضيلة الشيخ: كيف يكون القضاء والقدر معينًا على زيادة إيمان المسلم؟
فأجاب بقوله: يكون الإيمان بالقضاء والقدر عونًا للمسلم على أمور دينه ودنياه؛ لأنه يؤمن بأن قدرة الله -عز وجل - فوق كل قدرة، وأن الله - عز وجل - إذا أراد شيئًا فلن يحول دونه شيء، فإذا آمن بهذا فعل الأسباب التي يتوصل بها إلى مقصوده، ونحن نعلم فيما سبق من التاريخ أن هناك انتصارات عظيمة انتصر فيها المسلمون مع قلة عددهم وعددهم، كل ذلك لإيمانهم بوعد الله -عز وجل - وبقضائه وقدره وأن الأمور كلها بيده - سبحانه -.
(213) سئل فضيلة الشيخ: عن قول النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا عدوى، ولا طيرة ولا هامة، ولا صفر» " متفق عليه.
وما نوع النفي في الحديث؟ وكيف نجمع بينه وبين حديث: «فر من المجذوم فرارك من الأسد» ؟
فأجاب قائلًا: "العدوى" انتقال المرض من المريض إلى الصحيح، وكما يكون في الأمراض الحسية يكون في الأمراض المعنوية الخلقية، ولهذا أخبر النبي، عليه الصلاة والسلام، أن جليس السوء كنافخ الكير؛ إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه رائحة كريهة فقوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عدوى" يشمل العدوى الحسية والمعنوية.
و"الطيرة" هي التشاؤم بمرئي، أو مسموع، أو معلوم.
و"الهامة" فسرت بتفسيرين:
الأول: داء يصيب المريض وينتقل إلى غيره، وعلى هذا التفسير(2/113)
يكون عطفها على العدوى من باب عطف الخاص على العام.
الثاني: طير معروف تزعم العرب أنه إذا قتل القتيل، فإن هذه الهامة تأتي إلى أهله وتنعق على رؤوسهم حتى يأخذوا بثأره، وربما اعتقد بعضهم أنها روحه تكون بصورة الهامة، وهي نوع من الطيور تشبه البومة أو هي البومة، تؤذي أهل القتيل بالصراخ حتى يأخذوا بثأره، وهم يتشاءمون بها فإذا وقعت على بيت أحدهم ونعقت قالوا: إنها تنعق به ليموت، ويعتقدون قرب أجله وهذا باطل.
و"صفر" فسر بتفاسير: الأول: أنه شهر صفر المعروف، والعرب يتشاءمون به.
الثاني: أنه داء في البطن يصيب البعير، وينتقل من بعير إلى آخر، فيكون عطفه على العدوى من باب عطف الخاص على العام.
الثالث: صفر شهر صفر، والمراد به النسيء الذي يضل به الذين كفروا، فيؤخرون تحريم شهر المحرم إلى صفر يحلونه عامًا، ويحرمونه عامًا.
وأرجحها أن المراد شهر صفر حيث كانوا يتشاءمون به في الجاهلية والأزمنة لا دخل لها في التأثير وفي تقدير الله - عز وجل -فهو كغيره من الأزمنة يقدر فيه الخير والشر.
وبعض الناس إذا انتهى من عمل معين في اليوم الخامس والعشرين مثلًا من شهر صفر أرخ ذلك وقال: انتهى في الخامس والعشرين من شهر صفر الخير.
. فهذا من باب مداواة البدعة بالبدعة، والجهل بالجهل. فهو ليس شهر خير، ولا شر.
ولهذا أنكر بعض السلف على من إذا سمع البومة تنعق قال: "خيرًا إن شاء الله" فلا يقال خير ولا شر بل هي تنعق كبقية الطيور.(2/114)
فهذه الأربعة التي نفاها الرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تدل على وجوب التوكل على الله، وصدق العزيمة، وألا يضعف المسلم أمام هذه الأمور.
وإذا ألقى المسلم باله لهذه الأمور فلا يخلو من حالين:
الأولى: إما أن يستجيب لها بأن يقدم أو يحجم، فيكون حينئذ قد علق أفعاله بما لا حقيقة له.
الثانية: أن لا يستجيب لها بأن يقدم ولا يبالي، لكن يبقى في نفسه نوع من الهم أو الغم، وهذا وإن كان أهون من الأول لكن يجب أن لا يستجيب لداعي هذه الأمور مطلقًا، وأن يكون معتمدًا على الله عز وجل. وبعض الناس قد يفتح المصحف لطلب التفاؤل فإذا نظر ذكر النار قال: هذا فأل غير جميل، وإذا نظر ذكر الجنة قال: هذا فأل طيب، وهذا في الحقيقة مثل عمل الجاهلية الذين يستقسمون بالأزلام.
والنفي في هذه الأمور الأربعة ليس نفيًا للوجود، لأنها موجودة ولكنه نفي للتأثير، فالمؤثر هو الله، فما كان منها سببًا معلومًا فهو سبب صحيح وما كان منها سببًا موهومًا فهو سبب باطل، ويكون نفيًا لتأثيره بنفسه ولسببيته، فالعدوى موجودة، ويدل لوجودها قوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«لا يورد ممرض على مصح» أي لا يورد صاحب الإبل المريضة على صاحب الإبل الصحيحة، لئلا تنتقل العدوى.
وقوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فر من المجذوم فرارك من الأسد» .
"الجذام": مرض خبيث معد بسرعة ويتلف صاحبه، حتى قيل: إنه الطاعون، فالأمر بالفرار لكي لا تقع العدوى، وفيه إثبات العدوى(2/115)
لتأثيرها، لكن تأثيرها ليس أمرًا حتميًا بحيث تكون علة فاعلة، ولكن أمر النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بالفرار من المجذوم، وأن لا يورد ممرض على مصح، من باب تجنب الأسباب، لا من باب تأثير الأسباب بنفسها قال الله - تعالى -: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} .
ولا يقال: إن الرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ينكر تأثير العدوى؛ لأن هذا أمر يبطله الواقع والأحاديث الأخرى.
فإن قيل: «إن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لما قال: "لا عدوى" قال رجل: يا رسول الله أرأيت الإبل تكون في الرمال مثل الظباء فيدخلها الجمل الأجرب فتجرب؟! فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فمن " أعدي الأول» ؟
فالجواب: أن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أشار بقوله: «فمن أعدى الأول» إلى أن المرض انتقل من المريضة إلى هذه الصحيحات بتدبير الله - عز وجل - فالمرض نزل على الأول بدون عدوى بل نزل من عند الله -عز وجل - والشيء قد يكون له سبب معلوم، وقد لا يكون له سبب معلوم، وجرب الأول ليس معلومًا إلا أنه بتقدير الله -تعالى -، وجرب الذي بعده له سبب معلوم ولو شاء الله - تعالى - ما جرب، ولهذا أحيانًا تصاب الإبل بالجرب ثم يرتفع ولا تموت، وكذلك الطاعون والكوليرا أمراض معدية قد تدخل البيت فتصيب البعض فيموتون، ويسلم آخرون ولا يصابون، فالإنسان يعتمد على الله ويتوكل عليه وقد «جاء أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قدم عليه رجل مجذوم فأخذه بيده وقال له: "كل» أي من الطعام الذي كان يأكل منه الرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لقوة(2/116)
توكله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهذا التوكل مقاوم لهذا السبب المعدي.
وهذا الجمع الذي ذكرنا أحسن ما قيل في الجمع بين الأحاديث وادعى بعضهم النسخ، وهذه الدعوى غير صحيحة؛ لأن من شرط النسخ تعذر الجمع، وإذا أمكن الجمع وجب لأن فيه إعمال الدليلين، وفي النسخ إبطال أحدهما؛ وإعمالهما أولى من إبطال أحدهما لأننا اعتبرناهما وجعلناهما حجة. والله الموفق.
(214) وسئل فضيلته: هل العين تصيب الإنسان؟ وكيف تعالج؟ وهل التحرز منها ينافي التوكل؟
فأجاب بقوله: رأينا في العين أنها حق ثابت شرعًا وحسًا قال الله -تعالى -: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ} . قال ابن عباس وغيره في تفسيرها: أي يعينوك بأبصارهم، ويقول النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «العين حق ولو كان شيء سابق القدر سبقت العين وإذا استغسلتم فاغسلوا» رواه مسلم.
ومن ذلك ما رواه النسائي وابن ماجه «أن عامر بن ربيعة مر بسهل بن حنيف وهو يغتسل فقال: "لم أر كاليوم ولا جلد مخبأة" فما لبث أن لبط به فأتى به رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقيل له: أدرك سهلًا صريعًا فقال: "من تتهمون؟ "
» قالوا: عامر بن ربيعة فقال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «علام يقتل أحدكم أخاه، إذا رأى أحدكم من أخيه ما يعجبه فليدع له بالبركة» .
ثم دعا بماء فأمر عامرًا أن يتوضأ فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين، وركبتيه وداخلة إزاره وأمره أن(2/117)
يصب عليه وفي لفظ: يكفأ الإناء من خلفه. والواقع شاهد بذلك ولا يمكن إنكاره.
وفي حالة وقوعها تستعمل العلاجات الشرعية وهي:
1 - القراءة: فقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا رقيه إلا من عين أو حمة» . وقد «كان جبريل يرقي النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيقول: "باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد، الله يشفيك، باسم الله أرقيك» .
2 - الاستغسال: كما أمر به النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عامر بن ربيعة في الحديث السابق ثم يصب على المصاب.
أما الأخذ من فضلاته العائدة من بوله أو غائطه فليس له أصل، وكذلك الأخذ من أثره، وإنما الوارد ما سبق من غسل أعضائه وداخلة إزاره ولعل مثلها داخلة غترته وطاقيته وثوبه والله أعلم.
والتحرز من العين مقدمًا لا باس به ولا ينافي التوكل بل هو التوكل؛ لأن التوكل الاعتماد على الله -سبحانه - مع فعل الأسباب التي أباحها أو أمر بها وقد «كان النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يعوذ الحسن والحسين ويقول: "أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة" ويقول: هكذا كان إبراهيم يعوذ إسحاق وإسماعيل عليهما السلام» . رواه البخاري.
(215) وسئل فضيلة الشيخ: اختلف بعض الناس في العين فقال: بعضهم لا تؤثر لمخالفتها للقرآن الكريم فما القول الحق في هذه المسألة؟(2/118)
فأجاب بقوله: القول الحق ما قاله النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو: «إن العين حق» وهذا أمر قد شهد له الواقع ولا أعلم آيات تعارض هذا الحديث حتى يقول هؤلاء: إنه يعارض القرآن الكريم، بل إن الله - سبحانه وتعالى - قد جعل لكل شيء سببًا، حتى إن بعض المفسرين قالوا في قوله - تعالى -: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ}
قالوا:
إن المراد هنا العين. ولكن على كل حال سواء كان هذا هو المراد بالآية أم غيره، فإن العين ثابتة وهي حق ولا ريب فيها، والواقع يشهد لذلك منذ عهد الرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إلى اليوم.
ولكن من أصيب بالعين فماذا يصنع؟
الجواب:
يعامل بالقراءة، وإذا علم عائنه فإنه يطلب منه أن يتوضأ ويؤخذ ما يتساقط من ماء وضوئه ثم يعطى للمعيون يصب على رأسه وعلى ظهره ويسقى منه وبهذا يشفى بإذن الله، وقد جرت العادة عندنا أنهم يأخذون من العائن ما يباشر جسمه من اللباس مثل الطاقية وما أشبه ذلك، ويربصونها بالماء ثم يسقونها المصاب، ورأينا ذلك يفيده حسبما تواتر عندنا من النقول،فإذا كان هذا هو الواقع فلا بأس باستعماله؛ لأن السبب إذا ثبت كونه سببًا شرعًا أو حسًا فإنه يعتبر صحيحًا.
أما ما ليس بسبب شرعي ولا حسي فإنه لا يجوز اعتماده، مثل أولئك الذين يعتمدون على التمائم ونحوها يعلقونها على أنفسهم ليدفعوا بها العين فإن هذا لا أصل له، سواء كانت هذه من القرآن الكريم، أو من غير القرآن الكريم، وقد رخص بعض السلف في تعليق التمائم إذا كانت من القرآن الكريم ودعت الحاجة إليها.(2/119)
(216) سئل الشيخ: عما يفعله بعض الناس عندما يرى من ينظر إليه وهو يأكل يرمي قطعة على الأرض خوفًا من العين فما حكم هذا العمل؟
فأجاب - حفظه الله تعالى ورعاه - بقوله: هذا اعتقاد فاسد، ومخالف لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا سقطت لقمة أحدكم فليمط ما بها من الأذى وليأكلها» .(2/120)
الكفر والتكفير(2/121)
(217) سئل فضيلة الشيخ: هل إنكار الخالق كفر؟
فأجاب بقوله: الظاهر أن هذا السؤال كمن يسأل هل الشمس شمس؟
وهل الليل ليل؟ وهل النهار نهار؟ فمن الذي يشكل عليه أن منكر الخالق لا يكون كافرًا، مع أن هذا، أعني إنكار الخالق ما وجد فيما سلف من الإلحاد، وإنما وجد أخيرًا، وكيف يمكن إنكار الخالق والأدلة على وجوده - جل وعلا - أجلى من الشمس.
وكيف يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل؟
وأدلة وجود الخالق والحمد لله موجودة في الفطر والعقول، والشاهد والمحسوس، ولا ينكره إلا مكابر بل حتى الذين أنكروه قلوبهم مطمئنة بوجوده،، كما قال الله - تعالى - عن فرعون الذي أنكر الخالق وادعى الربوبية لنفسه قال: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} وقال - جل ذكره - عن موسى وهو يناظر فرعون: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ}
ثم إن هؤلاء الذين ينكرون الخالق هم في الحقيقة منكرون لأنفسهم، لأنهم هم الآن يعتقدون أنهم ما أوجدوا أنفسهم ويعلمون ذلك، ويعتقدون أنه ما أوجدتهم أمهاتهم، ولا أوجدهم آباؤهم، ولا أوجدهم أحد إلا رب العالمين -سبحانه وتعالى - كما قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} وتعجب جبير بن(2/123)
مطعم على أنه لم يؤمن بعد أن سمع هذه الآية يقرؤها النبي، عليه الصلاة والسلام، قال: "كدت أطير" من كونها دليلًا قاطعًا ظاهرًا على وجود الخالق - سبحانه وتعالى -، وهؤلاء المنكرون للخالق إذا قيل: لهم من خلق السماوات والأرض؟
ما استطاعوا سبيلًا إلا أن يقولوا: الذي خلقها الله، لأنها قطعًا لم تخلق نفسها، وكل موجود لا بد له من موجد واجب الوجود وهو الله.
لو أن أحدًا من الناس قال: إن هذا القصر المشيد المزين بأنواع الثريات الكهربائية وغيرها إنه بنى نفسه،لقال الناس: إن هذا أمر جنوني. ولا يمكن أن يكون فكيف بهذه السماوات والأرض، والأفلاك والنجوم السائرة على هذا النظام البديع الذي لا يختلف منذ أن خلقه الله عز وجل إلى أن يأذن الله بفناء هذا العالم، وأعتقد أن الأمر أوضح من أن يقام عليه الدليل.
وبناء على ذلك فإنه لا شك أن من أنكر الخالق فإنه مختل العقل كما أنه لا دين عنده وأنه كافر لا يرتاب أحد في كفره.
وهذا الحكم ينطبق على المقلدين لهذا المذهب الذين عاشوا في الإسلام؛ لأن الإسلام ينكر هذا إنكارًا عظيمًا، ولا يخفى على أحد من المسلمين بطلان هذا الفكر وهذا المذهب، وليسوا معذورين لأن لديهم من يعلمهم، بل هم لو رجعوا إلى فطرهم ما وجدوا لهذا أصلًا.
(218) سئل فضيلة الشيخ - حفظه الله -: هل يجوز أن نطلق على شخص بعينه أنه كافر؟
فأجاب بقوله: نعم يجوز لنا أن نطلق على شخص بعينه أنه كافر، إذا تحققت فيه أسباب الكفر، فلو أننا رأينا رجلًا ينكر الرسالة، أو رجلًا(2/124)
يبيح التحاكم إلى الطاغوت، أو رجلًا يبيح الحكم بغير ما أنزل الله، ويقول: إنه خير من حكم الله بعد أن تقوم الحجة عليه، فإننا نحكم عليه بأنه كافر فإذا وجدت أسباب الكفر وتحققت الشروط وانتفت الموانع فإننا نكفر الشخص بعينه ونلزمه بالرجوع إلى الإسلام أو القتل. والله أعلم.
(219) سئل فضيلة الشيخ: هل يجوز إطلاق الكفر على الشخص المعين إذا ارتكب مكفرًا؟
فأجاب قائلًا: إذا تمت شروط التكفير في حقه جاز إطلاق الكفر عليه بعينه ولو لم نقل بذلك ما انطبق وصف الردة على أحد، فيعامل معاملة المرتد في الدنيا هذا باعتبار أحكام الدنيا أما أحكام الآخرة فتذكر على العموم لا على الخصوص ولهذا قال أهل السنة: لا نشهد لأحد بجنة ولا نار إلا لمن شهد له النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وكذا نقول: من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ولكن لا نحكم بهذا لشخص معين، إذ أن الحكم المعلق بالأوصاف لا ينطبق على الأشخاص إلا بتحقق شروط انطباقه وانتفاء موانعه.
(220) وسئل فضيلة الشيخ: عن شروط الحكم بتكفير المسلم؟ وحكم من عمل شيئًا مكفرًا مازحًا؟
فأجاب - حفظه الله تعالى - بقوله: للحكم بتكفير المسلم شرطان: أحدهما: أن يقوم الدليل على أن هذا الشيء مما يكفر.(2/125)
الثاني: انطباق الحكم على من فعل ذلك بحيث يكون عالمًا بذلك قاصدًا له، فإن كان جاهلًا لم يكفر.
لقوله -تعالى -: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} .
وقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} وقوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} . لكن إن فرط بترك التعلم والتبين، لم يعذر، مثل أن يبلغه أن عمله هذا كفر فلا يتثبت، ولا يبحث فإنه لا يكون معذورًا حينئذ.
وإن كان غير قاصد لعمل ما يكفر لم يكفر بذلك، مثل أن يكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان، ومثل أن ينغلق فكره فلا يدري ما يقول لشدة فرح ونحوه، كقول صاحب البعير الذي أضلها، ثم اضطجع تحت شجرة ينتظر الموت فإذا بخطامها متعلقًا بالشجرة فأخذه، وقال: «اللهم أنت عبدي وأنا ربك" أخطأ من شدة الفرح» .
لكن من عمل شيئًا مكفرًا مازحًا فإنه يكفر لأنه قصد ذلك، كما نص عليه أهل العلم.
(221) وسئل فضيلته: عن حكم من يجهل أن صرف شيء من الدعاء لغير الله شرك؟
فأجاب بقوله: الجهل بالحكم فيما يكفر كالجهل بالحكم فيما يفسق،(2/126)
فكما أن الجاهل بما يفسق يعذر بجهله فكذلك الجاهل بما يكفر يعذر بجهله ولا فرق لأن الله - عز وجل - يقول: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} . ويقول الله - تعالى -: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} . وهذا يشمل كل ما يعذب عليه الإنسان ويقول الله -عز وجل -: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .
لكن إذا كان هذا الجاهل مفرطًا في التعلم ولم يسأل ولم يبحث فهذا محل نظر. فالجهال بما يكفر وبما يفسق إما أن لا يكون منهم تفريط وليس على بالهم إلا أن هذا العمل مباح فهؤلاء يعذرون، ولكن يدعون للحق فإن أصروا حكم عليهم بما يقتضيه هذا الإصرار، وأما إذا كان الإنسان يسمع أن هذا محرم أو أن هذا مؤد للشرك ولكنه تهاون أو استكبر فهذا لا يعذر بجهله.
(222) وسئل - رعاه الله بمنه وكرمه -: هل يعذر الإنسان بالجهل فيما يتعلق بالتوحيد؟
فأجاب بقوله: العذر بالجهل ثابت في كل ما يدين به العبد ربه؛ لأن الله -سبحانه وتعالى - قال: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} حتى قال - عز وجل -:(2/127)
{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} ولقوله -تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} . ولقوله -تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} . ولقول النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي واحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بما جئت به إلا كان من أصحاب النار» .
والنصوص في هذا كثيرة، فمن كان جاهلًا فإنه لا يؤاخذ بجهله في أي شيء كان من أمور الدين، ولكن يجب أن نعلم أن من الجهلة من يكون عنده نوع من العناد، أي إنه يذكر له الحق ولكنه لا يبحث عنه، ولا يتبعه، بل يكون على ما كان عليه أشياخه، ومن يعظمهم ويتبعهم، وهذا في الحقيقة ليس بمعذور، لأنه قد بلغه من الحجة ما أدنى أحواله أن يكون شبهة يحتاج أن يبحث ليتبين له الحق، وهذا الذي يعظم من يعظم من متبوعيه شأنه شأن من قال الله عنهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} . وفي الآية الثانية: {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} .
فالمهم أن الجهل الذي يعذر به الإنسان بحيث لا يعلم عن الحق، ولا يذكر له، هو رافع للإثم، والحكم على صاحبه بما يقتضيه عمله، ثم إن كان ينتسب إلى المسلمين، ويشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإنه يعتبر منهم، وإن كان لا ينتسب إلى المسلمين فإن حكمه حكم أهل الدين،(2/128)
الذي ينتسب إليه في الدنيا.
وأما في الآخرة فإن شأنه شأن أهل الفترة يكون أمره إلى الله عز وجل يوم القيامة، وأصح الأقوال فيهم أنهم يمتحنون بما شاء الله، فمن أطاع منهم دخل الجنة، ومن عصى منهم دخل النار، ولكن ليعلم أننا اليوم في عصر لا يكاد مكان في الأرض إلا وقد بلغته دعوة النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بواسطة وسائل الإعلام المتنوعة، واختلاط الناس بعضهم ببعض، وغالبًا ما يكون الكفر عن عناد.
(223) وسئل فضيلته -حفظه الله -: هل يعذر طلبة العلم الذين درسوا العقيدة على غير مذهب السلف الصالح -رضي الله عنهم -محتجين بأن العالم الفلاني أو الإمام الفلاني يعتقد هذه العقيدة؟
فأجاب بقوله: هذا لا يعذر به صاحبه حيث بلغه الحق؛ لأن الواجب عليه أن يتبع الحق أينما كان، وأن يبحث عنه حتى يتبين له.
والحق -ولله الحمد - ناصع، بين لمن صلحت نيته، وحسن منهاجه، فإن الله -عز وجل - يقول في كتابه: {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر} . ولكن بعض الناس - كما ذكر الأخ السائل -يكون لهم متبوعون معظمون لا يتزحزحون عن آرائهم، مع أنه قد ينقدح في أذهانهم أن آراءهم ضعيفة أو باطلة، لكن التعصب والهوى يحملهم على موافقتهم، وإن كانوا قد تبين لهم الهدى.(2/129)
(224) سئل فضيلة الشيخ: عن العذر بالجهل فيما يتعلق بالعقيدة؟
فأجاب بقوله: الاختلاف في مسألة العذر بالجهل كغيره من الاختلافات الفقهية الاجتهادية، وربما يكون اختلافًا لفظيًا في بعض الأحيان من أجل تطبيق الحكم على الشخص المعين أي إن الجميع يتفقون على أن هذا القول كفر، أو هذا الفعل كفر، أو هذا الترك كفر، ولكن هل يصدق الحكم على هذا الشخص المعين لقيام المقتضى في حقه وانتفاء المانع أو لا ينطبق لفوات بعض المقتضيات، أو وجود بعض الموانع.
وذلك أن الجهل بالمكفر على نوعين:
الأول: أن يكون من شخص يدين بغير الإسلام أو لا يدين بشيء ولم يكن يخطر بباله أن دينًا يخالف ما هو عليه فهذا تجري عليه أحكام الظاهر في الدنيا، وأما في الآخرة فأمره إلى الله -تعالى -، والقول الراجح أنه يمتحن في الآخرة بما يشاء الله عز وجل - والله أعلم بما كانوا عاملين، لكننا نعلم أنه لن يدخل النار إلا بذنب لقوله -تعالى -: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} وإنما قلنا: تجرى عليه أحكام الظاهر في الدنيا وهي أحكام الكفر؛ لأنه لا يدين بالإسلام فلا يمكن أن يعطى حكمه، وإنما قلنا بأن الراجح أنه يمتحن في الآخرة لأنه جاء في ذلك آثار كثيرة ذكرها ابن القيم -رحمه الله تعالى -في كتابه -: "طريق الهجرتين" عند كلامه على المذهب الثامن في أطفال المشركين تحت الكلام على الطبقة الرابعة عشرة.(2/130)
النوع الثاني: أن يكون من شخص يدين بالإسلام ولكنه عاش على هذا المكفر ولم يكن يخطر بباله أنه مخالف للإسلام، ولا نبهه أحد على ذلك فهذا تجري عليه أحكام الإسلام ظاهرًا، أما في الآخرة فأمره إلى الله - عز وجل - وقد دل على ذلك الكتاب، والسنة، وأقوال أهل العلم.
فمن أدلة الكتاب: قوله - تعالى -: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} .
وقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} .
وقوله: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} .
وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} . . وقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} . وقوله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الحجة لا تقوم إلا بعد العلم والبيان.
وأما السنة: ففي صحيح مسلم 1\134 عن أبي هريرة -رضي الله عنه - «أن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال:
"والذي نفس محمد بيده لا»(2/131)
«يسمع بي أحد من هذه الأمة -يعني أمة الدعوة - يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار".»
وأما كلام أهل العلم: فقال في المغني 8\131 " فإن كان ممن لا يعرف الوجوب كحديث الإسلام، والناشئ بغير دار الإسلام، أو بادية بعيدة عن الأمصار وأهل العلم لم يحكم بكفره".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى 3\ 229 مجموع ابن قاسم: "إني دائمًا -ومن جالسني يعلم ذلك مني -من أعظم الناس نهيًا عن أن ينسب معين إلى تكفير، وتفسيق، ومعصية إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافرًا تارة، وفاسقًا أخرى، وعاصيًا أخرى.
وإني أقرر أن الله -تعالى -قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية، والمسائل العملية، وما زال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل، ولم يشهد أحد منهم على أحد لا بكفر، ولا بفسق، ولا بمعصية - إلى أن قال:
-وكنت أبين أن ما نقل عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا فهو أيضًا حق لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين - إلى أن قال:
- والتكفير هو من الوعيد فإنه وإن كان القول تكذيبًا لما قاله الرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكن الرجل قد يكون حديث عهد بإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة، وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها وإن كان مخطئًا" ا. هـ.
وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب 1 \56 من الدرر السنية: "وأما التكفير فأنا أكفر من عرف دين الرسول، ثم بعدما عرفه سبه، ونهى الناس عنه، وعادى من فعله فهذا هو الذي أكفره". وفي(2/132)
ص 66 " وأما الكذب والبهتان فقولهم: إنا نكفر بالعموم ونوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه، فكل هذا من الكذب والبهتان الذي يصدون به الناس عن دين الله ورسوله، وإذا كنا لا نكفر من عبد الصنم الذي على عبد القادر، والصنم الذي على أحمد البدوي وأمثالهما لأجل جهلهم وعدم من ينبههم،فكيف نكفر من لم يشرك بالله إذا لم يهاجر إلينا ولم يكفر ويقاتل" ا. هـ.
وإذا كان هذا مقتضى نصوص الكتاب، والسنة، وكلام أهل العلم فهو مقتضى حكمة الله -تعالى -، ولطفه، ورأفته، فلن يعذب أحدًا حتى يعذر إليه، والعقول لا تستقل بمعرفة ما يجب لله -تعالى - من الحقوق، ولو كانت تستقل بذلك لم تتوقف الحجة على إرسال الرسل.
فالأصل فيمن ينتسب للإسلام بقاء إسلامه حتى يتحقق زوال ذلك عنه بمقتضى الدليل الشرعي، ولا يجوز التساهل في تكفيره لأن في ذلك محذورين عظيمين:
أحدهما: افتراء الكذب على الله - تعالى - في الحكم، وعلى المحكوم عليه في الوصف الذي نبزه به.
أما الأول فواضح حيث حكم بالكفر على من لم يكفره الله -تعالى - فهو كمن حرم ما أحل الله؛ لأن الحكم بالتكفير أو عدمه إلى الله وحده كالحكم بالتحريم أو عدمه.
وأما الثاني فلأنه وصف المسلم بوصف مضاد، فقال: إنه كافر، مع أنه بريء من ذلك، وحري به أن يعود وصف الكفر عليه لما ثبت في(2/133)
صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - «أن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: "إذا كفر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما".»
وفي رواية: «إن كان كما قال وإلا رجعت عليه» . وله من حديث أبي ذر -رضي الله عنه - أن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: «ومن دعا رجلًا بالكفر، أو قال: عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه» .
يعني رجع عليه. وقوله في حديث ابن عمر: «إن كان كما قال» يعني في حكم الله - تعالى -. وكذلك قوله في حديث أبي ذر: "وليس كذلك" يعني في حكم الله تعالى.
وهذا هو المحذور الثاني أعني عود وصف الكفر عليه إن كان أخوه بريئًا منه، وهو محذور عظيم يوشك أن يقع به؛ لأن الغالب أن من تسرع بوصف المسلم بالكفر كان معجبًا بعمله محتقرًا لغيره فيكون جامعًا بين الإعجاب بعمله الذي قد يؤدي إلى حبوطه، وبين الكبر الموجب لعذاب الله تعالى - في النار كما جاء في الحديث الذي أخرجه أحمد وأبو داود عن أبي هريرة -رضي الله عنه - «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال:
"قال الله عز وجل: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدًا منهما قذفته في النار» .
فالواجب قبل الحكم بالتكفير أن ينظر في أمرين:
الأمر الأول: دلالة الكتاب، والسنة على أن هذا مكفر لئلا يفتري على الله الكذب.
الثاني: انطباق الحكم على الشخص المعين بحيث تتم شروط التكفير في حقه، وتنتفي الموانع.
ومن أهم الشروط أن يكون عالمًا بمخالفته التي أوجبت كفره(2/134)
لقوله - تعالى -: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} . فاشترط للعقوبة بالنار أن تكون المشاقة للرسول من بعد أن يتبين الهدى له.
ولكن هل يشترط أن يكون عالمًا بما يترتب على مخالفته من كفر أو غيره أو يكفي أن يكون عالمًا بالمخالفة وإن كان جاهلًا بما يترتب عليها؟
الجواب: الظاهر الثاني؛ أي إن مجرد علمه بالمخالفة كاف في الحكم بما تقتضيه لأن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أوجب الكفارة على المجامع في نهار رمضان لعلمه بالمخالفة مع جهله بالكفارة؛ ولأن الزاني المحصن العالم بتحريم الزنى يرجم وإن كان جاهلًا بما يترتب على زناه، وربما لو كان عالمًا ما زنى.
ومن الموانع أن يكره على المكفر لقوله - تعالى -: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} . ومن الموانع أن يغلق عليه فكره وقصده بحيث لا يدري ما يقول لشدة فرح، أو حزن، أو غضب، أو خوف، ونحو ذلك.
لقوله تعالى -: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} . . وفي صحيح مسلم 2104 عن أنس بن مالك -رضي الله عنه - «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: "لله أشد فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة،فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد»(2/135)
«أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذا بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي، وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح» .
ومن الموانع أيضًا أن يكون له شبهة تأويل في المكفر بحيث يظن أنه على حق؛ لأن هذا لم يتعمد الإثم والمخالفة فيكون داخلًا في قوله - تعالى -: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} .
ولأن هذا غاية جهده فيكون داخلًا في قوله -تعالى -: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} قال في المغني 8\131: "وإن استحل قتل المعصومين وأخذ أموالهم بغير شبهة ولا تأويل فكذلك -يعني يكون كافرًا - وإن كان بتأويل كالخوارج فقد ذكرنا أن أكثر الفقهاء لم يحكموا بكفرهم مع استحلالهم دماء المسلمين، وأموالهم، وفعلهم ذلك متقربين به إلى الله - تعالى - إلى أن قال -: وقد عرف من مذهب الخوارج تكفير كثير من الصحابة ومن بعدهم واستحلال دمائهم، وأموالهم، واعتقادهم التقرب بقتلهم إلى ربهم، ومع هذا لم يحكم الفقهاء بكفرهم لتأويلهم، وكذلك يخرج في كل محرم استحل بتأويل مثل هذا". وفي فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 13 \30 مجموع ابن القاسم: "وبدعة الخوارج إنما هي من سوء فهمهم للقرآن، لم يقصدوا معارضته، لكن فهموا منه ما لم يدل عليه، فظنوا أنه يوجب تكفير أرباب الذنوب" وفي ص 210 منه "فإن الخوارج خالفوا السنة التي أمر القرآن باتباعها وكفروا المؤمنين الذين أمر القرآن بموالاتهم. . وصاروا يتبعون المتشابه من القرآن فيتأولونه على غير(2/136)
تأويله من غير معرفة منهم بمعناه ولا رسوخ في العلم، ولا اتباع للسنة، ولا مراجعة لجماعة المسلمين الذين يفهمون القرآن".
وقال أيضًا 28\518 من المجموع المذكور: "فإن الأئمة متفقون على ذم الخوارج وتضليلهم، وإنما تنازعوا في تكفيرهم على قولين مشهورين". لكنه ذكر في 7\217 "أنه لم يكن في الصحابة من يكفرهم لا علي بن أبي طالب ولا غيره، بل حكموا فيهم بحكمهم في المسلمين الظالمين المعتدين كما ذكرت الآثار عنهم بذلك في غير هذا الموضع". وفي 28\518 "أن هذا هو المنصوص عن الأئمة كأحمد وغيره". وفي 3\282 قال: " والخوارج المارقون الذين أمر النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بقتالهم قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أحد الخلفاء الراشدين، واتفق على قتالهم أئمة الدين من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم، ولم يكفرهم علي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وغيرهما من الصحابة، بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم، ولم يقاتلهم علي حتى سفكوا الدم الحرام،وأغاروا على أموال المسلمين فقاتلهم لدفع ظلمهم وبغيهم، لا لأنهم كفار.
ولهذا لم يسب حريمهم، ولم يغنم أموالهم، وإذا كان هؤلاء الذي ثبت ضلالهم بالنص، والإجماع، لم يكفروا مع أمر الله ورسوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بقتالهم فكيف بالطوائف المختلفين الذين اشتبه عليهم الحق في مسائل غلط فيها من هو أعلم منهم، فلا يحل لأحد من هذه الطوائف أن يكفر الأخرى، ولا تستحل دمها ومالها، وإن كانت فيها بدعة محققة، فكيف إذا كانت المكفرة لها مبتدعة أيضًا، وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ، والغالب أنهم جميعًا جهال بحقائق ما يختلفون فيه". إلى أن قال:"وإذا كان المسلم متأولًا في القتال، أو التكفير لم يكفر بذلك". إلى أن قال في ص 288: "وقد اختلف العلماء(2/137)
في خطاب الله ورسوله هل يثبت حكمه في حق العبيد قبل البلاغ على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره. . والصحيح ما دل عليه القرآن في قوله -تعالى -: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} .
وقوله: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} . وفي الصحيحين عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين» .
والحاصل أن الجاهل معذور بما يقوله أو يفعله مما يكون كفرًا، كما يكون معذورًا بما يقوله أو يفعله مما يكون فسقًا، وذلك بالأدلة من الكتاب والسنة، والاعتبار، وأقوال أهل العلم.
(225) وسئل فضيلته: هل يعذر الجاهل بما يترتب على المخالفة؟ كمن يجهل أن ترك الصلاة كفر؟
فأجاب بقوله: الجاهل بما يترتب على المخالفة غير معذور إذا كان عالمًا بأن فعله مخالف للشرع كما تقدم دليله، وبناء على ذلك فإن تارك الصلاة لا يخفى عليه أنه واقع في المخالفة إذا كان ناشئًا بين المسلمين فيكون كافرًا وإن جهل أن الترك كفر.
نعم إذا كان ناشئًا في بلاد لا يرون كفر تارك الصلاة وكان هذا الرأي هو الرأي المشهور السائد بينهم، فإنه لا يكفر لتقليده لأهل العلم في بلده، كما لا يأثم بفعل محرم يرى علماء بلده أنه غير محرم لأن فرض العامي التقليد لقوله - تعالى -: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} . والله الموفق.(2/138)
(226) سئل فضيلة الشيخ: ما العمل إذا أكره إنسان على الكفر؟
فأجاب بقوله: إذا أكره إنسان على الكفر ففي ذلك تفصيل:
أولًا: أن يوافق ظاهرًا وباطنًا فيكون بذلك كافرًا مرتدًا لقوله -تعالى -: {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} . ثانيًا:أن يوافق ظاهرًا لا باطنًا ولكن يقصد التخلص من الإكراه فهذا لا يكفر لقوله -تعالى -: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} ثالثًا: أن لا يوافق لا ظاهرًا ولا باطنًا ويصبر على القتل فهذا جائز وهو من الصبر.
لكن هل الأولى أن يصبر أولا؟
فيه تفصيل:
أولًا: إذا كان الإكراه لا يترتب عليه ضرر في الدين للعامة فإن الأولى أن يوافق ظاهرًا لا باطنًا، لا سيما إذا كان بقاؤه فيه مصلحة للمسلمين كصاحب المال، أو العلم المنتفع بهما، وما أشبه ذلك، حتى وإن لم يكن فيه مصلحة ففي بقائه على الإسلام زيادة عمل صالح وهو خير، وقد رخص له بالكفر ظاهرًا.
ثانيًا: إذا كان في موافقته وعدم صبره ضرر على الدين فإنه يصبر، وقد يجب الصبر ولو قتل، لأنه من باب الصبر على الجهاد في سبيل الله،(2/139)
وليس من باب إبقاء النفس، ولهذا لما شكا الصحابة للنبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ما يجدونه من مضايقة المشركين ذكر لهم أنه كان فيمن قبلنا من يمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم أو عصب ما يصرفه عن دينه.
ولو حصل من الصحابة -رضي الله عنهم - في ذلك الوقت موافقة للمشركين وهم قلة لحصل بذلك ضرر عظيم على المسلمين.
والإمام أحمد - رحمه الله - أوذي وصبر حين أبى أن يقول: القرآن مخلوق ولو وافقهم ظاهرًا لحصل في ذلك مضرة على الإسلام.
(227) وسئل - حفظه الله -: عن حكم من حكم بغير ما أنزل الله.
فأجاب قائلًا: أقول وبالله - تعالى - أقول وأسأله الهداية والصواب: إن الحكم بما أنزل الله - تعالى - من توحيد الربوبية؛ لأنه تنفيذ لحكم الله الذي هو مقتضى ربوبيته، وكمال ملكه وتصرفه؛ ولهذا سمى الله - تعالى - المتبوعين في غير ما أنزل الله - تعالى - أربابًا لمتبعيهم فقال - سبحانه -: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} فسمى الله - تعالى - المتبوعين أربابًا حيث جعلوا مشرعين مع الله - تعالى -، وسمى المتبعين عُبادًا حيث إنهم ذلوا لهم وأطاعوهم في مخالفة حكم الله - سبحانه وتعالى -. وقد «قال عدي بن حاتم لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنهم لم»(2/140)
«يعبدوهم فقال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بل إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم» .
إذا فهمت ذلك فاعلم أن من لم يحكم بما أنزل الله، وأراد أن يكون التحاكم إلى غير الله ورسوله وردت فيه آيات بنفي الإيمان عنه، وآيات بكفره وظلمه، وفسقه.
فأما القسم الأول:
فمثل قوله تعالى -: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} فوصف الله - تعالى - هؤلاء المدعين للإيمان وهم منافقون بصفات:
الأولى: أنهم يريدون أن يكون التحاكم إلى الطاغوت، وهو كل ما خالف حكم الله - تعالى - ورسوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن ما خالف حكم الله ورسوله فهو طغيان واعتداء على حكم من له الحكم وإليه يرجع(2/141)
الأمر كله وهو الله قال الله - تعالى -: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} .
الثانية: أنهم إذا دُعُوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول صدوا وأعرضوا.
الثالثة: أنهم إذا أصيبوا بمصيبة بما قدمت أيديهم، ومنها أن يعثر على صنيعهم جاءوا يحلفون أنهم ما أرادوا إلا الإحسان والتوفيق كحال من يرفض اليوم أحكام الإسلام ويحكم بالقوانين المخالفة لها زعمًا منه أن ذلك هو الإحسان الموافق لأحوال العصر.
ثم حذر - سبحانه - هؤلاء المدعين للإيمان المتصفين بتلك الصفات بأنه - سبحانه - يعلم ما في قلوبهم وما يكنونه من أمور تخالف ما يقولون، وأمر نبيه أن يعظهم ويقول لهم في أنفسهم قولًا بليغًا، ثم بين أن الحكمة من إرسال الرسول أن يكون هو المطاع المتبوع لا غيره من الناس مهما قويت أفكارهم واتسعت مداركهم، ثم أقسم - تعالى - بربوبيته لرسوله التي هي أخص أنواع الربوبية والتي تتضمن الإشارة إلى صحة رسالته، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أقسم بها قسمًا مؤكدًا أنه لا يصلح الإيمان إلا بثلاثة أمور:
الأول: أن يكون التحاكم في كل نزاع إلى رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الثاني: أن تنشرح الصدور بحكمه ولا يكون في النفوس حرج وضيق منه.
الثالث: أن يحصل التسليم التام بقبول ما حكم به وتنفيذه بدون توان أو انحراف.(2/142)
وأما القسم الثاني: فمثل قوله - تعالى -: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} وقوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} . وقوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} . وهل هذه الأوصاف الثلاثة تتنزل على موصوف واحد؟
بمعنى أن كل من لم يحكم بما أنزل الله فهو كافر ظالم، فاسق؛ لأن الله - تعالى - وصف الكافرين بالظلم والفسق فقال - تعالى -: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} . وقال - تعالى -: {إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} . فكل كافر ظالم فاسق، أو هذه الأوصاف تتنزل على موصوفين بحسب الحامل لهم على عدم الحكم بما أنزل الله؟
هذا هو الأقرب عندي والله أعلم.
فنقول: من لم يحكم بما أنزل الله استخفافًا به، أو احتقارًا له، أو اعتقادًا أن غيره أصلح منه، وأنفع للخلق فهو كافر كفرًا مخرجًا عن الملة، ومن هؤلاء من يضعون للناس تشريعات تخالف التشريعات الإسلامية لتكون منهاجًا يسير الناس عليه، فإنهم لم يضعوا تلك التشريعات المخالفة للشريعة الإسلامية إلا وهم يعتقدون أنها أصلح وأنفع للخلق، إذ من المعلوم بالضرورة العقلية، والجبلة الفطرية أن الإنسان لا يعدل عن منهاج إلى منهاج يخالفه إلا وهو يعتقد فضل ما عدل إليه ونقص ما عدل عنه.
ومن لم يحكم بما أنزل الله وهو لم يستخف به، ولم يحتقره، ولم يعتقد(2/143)
أن غيره أصلح منه، وأنفع للخلق، وإنما حكم بغيره تسلطًا على المحكوم عليه، أو انتقامًا منه لنفسه أو نحو ذلك، فهذا ظالم وليس بكافر وتختلف مراتب ظلمه بحسب المحكوم به ووسائل الحكم.
ومن لم يحكم بما أنزل الله لا استخفافًا بحكم الله، ولا احتقارًا، ولا اعتقادًا أن غيره أصلح، وأنفع للخلق، وإنما حكم بغيره محاباة للمحكوم له، أو مراعاة لرشوة أو غيرها من عرض الدنيا فهذا فاسق، وليس بكافر، وتختلف مراتب فسقه بحسب المحكوم به ووسائل الحكم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - فيمن اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله: إنهم على وجهين:
أحدهما: أن يعلموا أنهم بدلوا دين الله فيتبعونهم على التبديل ويعتقدون تحليل ما حرم، وتحريم ما أحل الله اتباعًا لرؤسائهم مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل فهذا كفر، وقد جعله الله ورسوله شركًا.
الثاني: أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحليل الحرام وتحريم الحلال - كذا المنقولة عنه - ثابتًا لكنهم أطاعوهم في معصية الله كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاصٍ فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب.
(228) وسئل: هل هناك فرق في المسألة المعينة التي يحكم فيها القاضي بغير ما أنزل الله وبين المسائل التي تعتبر تشريعًا عامًا؟
فأجاب بقوله: نعم هناك فرق فإن المسائل التي تعتبر تشريعًا عامًا لا يتأتى فيها التقسيم السابق وإنما هي من القسم الأول فقط؛ لأن هذا(2/144)
المشرع تشريعًا يخالف الإسلام إنما شرعه لاعتقاده أنه أصلح من الإسلام وأنفع للعباد كما سبقت الإشارة إليه.
والحكم بغير ما أنزل الله ينقسم إلى قسمين:
أحدهما: أن يستبدل هذا الحكم بحكم الله -تعالى - بحيث يكون عالمًا بحكم الله، ولكنه يرى أن الحكم المخالف له أولى وأنفع للعباد من حكم الله، أو أنه مساو لحكم الله، أو أن العدول عن حكم الله إليه جائز فيجعله القانون الذي يجب التحاكم إليه فمثل هذا كافر كفرًا مخرجًا عن الملة لأن فاعله لم يرض بالله ربًا ولا بمحمد رسولًا ولا بالإسلام دينًا وعليه ينطبق قوله - تعالى -: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} وقوله - تعالى -: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} . وقوله -تعالى -: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} ولا ينفعه صلاة، ولا زكاة، ولا صوم، ولا حج؛ لأن الكافر ببعض كافر به كله قال الله - تعالى -: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}(2/145)
وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} .
الثاني: أن يستبدل بحكم الله - تعالى - حكمًا مخالفًا له في قضية معينة دون أن يجعل ذلك قانونًا يجب التحاكم إليه فله ثلاث حالات: الأولى: أن يفعل ذلك عالمًا بحكم الله - تعالى - معتقدًا أن ما خالفه أولى منه وأنفع للعباد، أو أنه مساو له، أو أن العدول عن حكم الله إليه جائز فهذا كافر كفرًا مخرجًا عن الملة لما سبق في القسم الأول.
الثانية: أن يفعل ذلك عالمًا بحكم الله معتقدًا أنه أولى وأنفع لكن خالفه بقصد الإضرار بالمحكوم عليه أو نفع المحكوم له، فهذا ظالم وليس بكافر وعليه يتنزل قول الله - تعالى -: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} .
الثالثة: أن يكون كذلك لكن خالفه لهوى في نفسه أو مصلحة تعود إليه فهذا فاسق وليس بكافر وعليه يتنزل قول الله تعالى -: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} .
وهذه المسألة أعني مسألة الحكم بغير ما أنزل الله من المسائل الكبرى التي ابتلي بها حكام هذا الزمان فعلى المرء أن لا يتسرع في الحكم عليهم بما لا يستحقونه حتى يتبين له الحق؛ لأن المسألة خطيرة - نسأل الله - تعالى - أن(2/146)
يصلح للمسلمين ولاة أمورهم وبطانتهم كما أن على المرء الذي آتاه الله العلم أن يبينه لهؤلاء الحكام لتقوم الحجة عليهم وتبين المحجة، فيهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيَّ عن بينة، ولا يحقرن نفسه عن بيانه، ولا يهابن أحدًا فيه فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين. والله ولي التوفيق.
(229) سئل فضيلة الشيخ: عن حكم طاعة الحاكم الذي لا يحكم بكتاب الله وسنة رسوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فأجاب بقوله: الحاكم الذي لا يحكم بكتاب الله وسنة رسوله تجب طاعته في غير معصية الله ورسوله، ولا تجب محاربته من أجل ذلك، بل ولا تجوز إلا أن يصل إلى حد الكفر فحينئذ تجب منابذته، وليس له طاعة على المسلمين.
والحكم بغير ما في كتاب الله وسنة رسوله يصل إلى الكفر بشرطين:
الأول: أن يكون عالمًا بحكم الله ورسوله، فإن كان جاهلًا به لم يكفر بمخالفته.
الثاني: أن يكون الحامل له على الحكم بغير ما أنزل الله اعتقاد أنه حكم غير صالح للوقت وأن غيره أصلح منه، وأنفع للعباد، وبهذين الشرطين يكون الحكم بغير ما أنزل الله كفرًا مخرجًا عن الملة لقوله - تعالى -: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} ، وتبطل ولاية الحاكم، ولا يكون له طاعة على الناس، وتجب محاربته، وإبعاده، عن الحكم.
أما إذا كان يحكم بغير ما أنزل الله وهو يعتقد أن الحكم به أي بما(2/147)
أنزل الله هو الواجب، وأنه أصلح للعباد، لكن خالفه لهوى في نفسه أو إرادة ظلم المحكوم عليه، فهذا ليس بكافر بل هو إما فاسق أو ظالم، وولايته باقية، وطاعته (في غير معصية الله ورسوله) واجبة، ولا تجوز محاربته أو إبعاده عن الحكم بالقوة، والخروج عليه؛ لأن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نهى عن الخروج على الأئمة إلا أن نرى كفرًا صريحًا عندنا فيه برهان من الله تعالى.
(230) وسئل فضيلة الشيخ: عن حكم الذبح لغير الله، وهل يجوز الأكل من تلك الذبيحة؟
فأجاب قائلًا: الذبح لغير الله شرك أكبر لأن الذبح عبادة كما أمر الله به في قوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} . وقوله سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} فمن ذبح لغير الله فهو مشرك شركًا مخرجًا عن الملة - والعياذ بالله - سواء ذبح ذلك لملك من الملائكة، أو لرسول من الرسل، أو لنبي من الأنبياء، أو لخليفة من الخلفاء، أو لولي من الأولياء، أو لعالم من العلماء، فكل ذلك شرك بالله - عز وجل - ومخرج عن الملة والواجب على المرء أن يتقي الله في نفسه، وأن لا يوقع نفسه في ذلك الشرك الذي قال الله فيه: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} .(2/148)
وأما الأكل من لحوم هذه الذبائح فإنه محرم لأنها أهل لغير الله بها وكل شيء أهل لغير الله به أو ذبح على النصب فإنه محرم كما ذكر الله ذلك في سورة المائدة في قوله - تعالى -: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} فهذه الذبائح التي ذبحت لغير الله من قسم المحرمات لا يحل أكلها.
(231) سئل فضيلة الشيخ: عن حكم الذبح لغير الله.
فأجاب بقوله: تقدم لنا في غير هذا الموضع أن توحيد العبادة هو إفراد الله - سبحانه وتعالى - بالعبادة بأن لا يتعبد أحد لغير الله - تعالى - بشيء من أنواع العبادة، ومن المعلوم أن الذبح قربة يتقرب بها الإنسان إلى ربه لأن الله - تعالى - أمر به في قوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} وكل قربة فهي عبادة، فإذا ذبح الإنسان شيئًا لغير الله تعظيمًا له، وتذللًا، وتقربًا إليه كما يتقرب بذلك ويعظم ربه - عز وجل - كان مشركًا بالله - عز وجل - وإذا كان مشركًا فإن الله - تعالى قد بين أنه حرم على المشرك الجنة ومأواه النار.
وبناء على ذلك نقول: إن ما يفعله بعض الناس من الذبح للقبور - قبور الذين يزعمون بأنهم أولياء - شرك مخرج عن الملة، ونصيحتنا لهؤلاء أن يتوبوا إلى الله - عز وجل - مما صنعوا، وإذا تابوا إلى الله وجعلوا الذبح لله وحده كما يجعلون الصلاة والصيام لله وحده، فإنه يغفر لهم ما سبق كما قال الله - تعالى -: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}(2/149)
بل إن الله تعالى - يعطيهم فوق ذلك فيبدل الله سيئاتهم حسنات كما قال الله - تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} .
فنصيحتي لهؤلاء الذي يتقربون إلى أصحاب القبور بالذبح لهم: أن يتوبوا إلى الله من ذلك، وأن يرجعوا إليه، وأن يخلصوا دينهم له سبحانه، وليبشروا إذا تابوا بالتوبة من الكريم المنان، فإن الله - سبحانه وتعالى - يفرح بتوبة التائبين وعودة المنيبين.
(232) سئل فضيلة الشيخ: هل تقبل توبة من سب الله - عز وجل - أو سب الرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
فأجاب حفظه الله بقوله: اختلف في ذلك على قولين:
القول الأول: أنها لا تقبل توبة من سب الله، أو سب رسوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو المشهور عند الحنابلة، بل يقتل كافرًا، ولا يصلى عليه، ولا يدعى له بالرحمة، ويدفن في محل بعيد عن قبور المسلمين.
القول الثاني: أنها تقبل توبة من سب الله أو سب رسوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذا علمنا صدق توبته إلى الله، وأقر على نفسه بالخطأ، ووصف الله - تعالى - بما يستحق من صفات التعظيم، وذلك لعموم الأدلة الدالة على قبول التوبة كقوله - تعالى -(2/150)
{قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} ومن الكفار من يسب الله ومع ذلك تقبل توبتهم، وهذا هو الصحيح إلا أن ساب الرسول، عليه الصلاة والسلام، تقبل توبته ويجب قتله، بخلاف من سب الله فإنها تقبل توبته ولا يقتل؛ لأن الله أخبرنا بعفوه عن حقه إذا تاب العبد، بأنه يغفر الذنوب جميعًا. أما ساب الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنه يتعلق به أمران:
أحدهما: أمر شرعي لكونه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا يقبل إذا تاب.
الثاني: أمر شخصي، وهذا لا تقبل التوبة فيه لكونه حق آدمي لم يعلم عفوه عنه، وعلى هذا فيقتل ولكن إذا قتل، غسلناه، وكفناه، وصلينا عليه، ودفناه مع المسلمين.
وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وقد ألف كتابًا في ذلك اسمه "الصارم المسلول في تحتم قتل ساب الرسول" وذلك لأنه استهان بحق الرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكذا لو قذفه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه يقتل ولا يجلد.
فإن قيل: أليس قد ثبت أن من الناس من سب الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في حياته وقبل النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، توبته؟
أجيب: بأن هذا صحيح، لكن هذا في حياته، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والحق الذي له قد أسقطه، وأما بعد موته فإنه لا يملك أحد إسقاط حقه، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيجب علينا تنفيذ ما يقتضيه سبه،(2/151)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من قتل سابه، وقبول توبة الساب فيما بينه وبين الله تعالى.
فإن قيل: إذا كان يحتمل أن يعفو عنه لو كان في حياته، أفلا يوجب ذلك أن نتوقف في حكمه؟
أجيب: بأن ذلك لا يوجب التوقف لأن المفسدة حصلت بالسب، وارتفاع أثر هذا السب غير معلوم والأصل بقاؤه.
فإن قيل: أليس الغالب أن الرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يعفو عمن سبه؟
أجيب: بلى، وربما كان العفو في حياة الرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، متضمنًا المصلحة وهي التأليف، كما كان، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يعلم أعيان المنافقين ولم يقتلهم "لئلا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه" لكن الآن لو علمنا أحدًا بعينه من المنافقين لقتلناه، قال ابن القيم رحمه الله:
" إن عدم قتل المنافق المعلوم إنما هو في حياة الرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقط". اهـ.
(233) سئل فضيلة الشيخ - أعلى الله درجته في المهديين - عمن سب الدين في حالة غضب هل عليه كفارة؟ وما شرط التوبة من هذا العمل؟ وهل ينفسخ نكاح زوجته؟
فأجاب -حفظه الله -بقوله: الحكم فيمن سب الدين الإسلامي أنه يكفر فإن سب الدين والاستهزاء به ردة عن الإسلام وكفر بالله -عز وجل - وبدينه وقد حكى الله عن قوم استهزؤوا بدين الإسلام حكى الله عنهم أنهم كانوا يقولون: إنما كنا نخوض ونلعب فبين الله -عز وجل - أن(2/152)
خوضهم هذا ولعبهم استهزاء بالله وآياته ورسوله وأنهم كفروا به فقال - تعالى -: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} فالاستهزاء بدين الله، أو سب دين الله، أو سب الله ورسوله، أو الاستهزاء بهما كفر مخرج عن الملة.
ومع ذلك فإن هناك مجالًا للتوبة منه لقول الله - تعالى -: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} فإذا تاب الإنسان من أي ردة كانت، توبة نصوحًا استوفت شروط التوبة الخمسة، فإن الله يقبل توبته.
وشروط التوبة الخمسة هي:
الشرط الأول: الإخلاص لله بتوبته بأن لا يكون الحامل له على التوبة رياء أو سمعة، أو خوفًا من مخلوق، أو رجاء لأمر يناله من الدنيا فإذا أخلص توبته لله وصار الحامل له عليها تقوى الله - عز وجل - والخوف من عقابه ورجاء ثوابه فقد أخلص لله - تعالى - فيها.
الشرط الثاني: أن يندم على ما فعل من الذنب بحيث يجد في نفسه حسرة وحزنًا على ما مضى، ويراه أمرًا كبيرًا يجب عليه أن يتخلص منه.
الشرط الثالث: أن يقلع عن الذنب وعن الإصرار عليه؛ فإن كان ذنبه ترك واجب قام بفعله وتداركه إن أمكن، وإن كان ذنبه بإتيان محرم(2/153)
أقلع عنه وابتعد عنه ومن ذلك إذا كان الذنب يتعلق بالمخلوقين، فإنه يؤدي إليهم حقوقهم أو يستحلهم منها.
الشرط الرابع: العزم على أن لا يعود في المستقبل بأن يكون في قلبه عزم مؤكد ألا يعود إلى هذه المعصية التي تاب منها.
الشرط الخامس أن تكون التوبة في وقت القبول فإن كانت بعد فوات وقت القبول لم تقبل، وفوات وقت القبول عام وخاص:
أما العام فإنه طلوع الشمس من مغربها فالتوبة بعد طلوع الشمس من مغربها لا تقبل لقول الله - تعالى -: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} .
وأما الخاص فهو حضور الأجل فإذا حضر الأجل فإن التوبة لا تنفع لقول الله - تعالى -: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} .
أقول: إن الإنسان إذا تاب من أي ذنب ولو كان ذلك سب الدين فإن توبته تقبل إذا استوفت الشروط التي ذكرناها، ولكن ليعلم أن الكلمة قد تكون كفرًا وردة ولكن المتكلم بها قد لا يكفر بها لوجود مانع يمنع من الحكم بكفره، فهذا الرجل الذي ذكر عن نفسه أنه سب الدين في حال غضب، نقول له: إن كان غضبك شديدًا بحيث لا تدري ماذا تقول ولا تدري حينئذ أأنت في سماء أم في أرض وتكلمت بكلام لا تستحضره ولا تعرفه فإن هذا الكلام لا حكم له ولا يحكم عليك بالردة لأنه كلام حصل عن غير إرادة وقصد، وكل كلام حصل عن غير إرادة وقصد فإن الله(2/154)
- سبحانه وتعالى -لا يؤاخذ به يقول: الله -تعالى - في الأيمان: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} .
فإذا كان هذا المتكلم بكلمة الكفر في غضب شديد لا يدري ما يقول: ولا يعلم ماذا خرج منه فإنه لا حكم لكلامه، ولا يحكم بردته حينئذ، وإذا لم يحكم بالردة فإن الزوجة لا ينفسخ نكاحها منه، بل هي باقية في عصمته، ولكن ينبغي للإنسان إذا أحس بالغضب أن يحرص على مداواة هذا الغضب بما أوصى به «النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين سأله رجل فقال له: يا رسول الله أوصني قال:
"لا تغضب فردد مرارًا قال؛ لا تغضب» فليحكم الضبط على نفسه وليستعذ بالله من الشيطان الرجيم، وإذا كان قائمًا فليجلس، وإذا كان جالسًا فليضطجع، وإذا اشتد به الغضب فليتوضأ، فإن هذه الأمور تذهب غضبه وما أكثر الذين ندموا ندمًا عظيمًا على تنفيذ ما اقتضاه غضبهم ولكن بعد فوات الأوان.
(234) وسئل فضيلة الشيخ: عن حكم الاستهزاء بالله - تعالى - أو برسوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو سنته، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
فأجاب بقوله: الاستهزاء بالله - تعالى - أو برسوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو سنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كفر وردة يخرج به الإنسان من الإسلام لقول الله -تعالى -: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} .(2/155)
فكل من استهزأ بالله أو برسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو بدين رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنه كافر مرتد يجب عليه أن يتوب إلى الله - تعالى -، وإذا تاب إلى الله فإن الله - تعالى - يقبل توبته لقوله -تعالى - في هؤلاء المستهزئين: {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} فبين الله -تعالى - أنه قد يعفو عن طائفة منهم ولا يكون ذلك إلا بالتوبة إلى الله - عز وجل- من كفرهم الذي كان باستهزائهم بالله وآياته ورسوله.
(235) وسئل - حفظه الله -: عن حكم من يمزح بكلام فيه استهزاء بالله أو الرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو الدين؟
فأجاب بقوله: هذا العمل وهو الاستهزاء بالله أو رسوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو كتابه أو دينه ولو كان على سبيل المزح، ولو كان على سبيل إضحاك القوم كفر ونفاق، وهو نفس الذي وقع في عهد النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،في «الذين قالوا: "ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونًا،ولا أكذب ألسنًا، ولا أجبن عند اللقاء".
يعني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأصحابه القراء فنزلت فيهم: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} لأنهم جاؤوا إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولون: إنما كنا نتحدث حديث الركب نقطع به عناء الطريق، فكان رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقول لهم ما أمره الله به: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} » .(2/156)
فجانب الربوبية، والرسالة، والوحي، والدين جانب محترم، لا يجوز لأحد أن يعبث فيه لا باستهزاء بإضحاك، ولا بسخرية فإن فعل فإنه كافر؛ لأنه يدل على استهانته بالله - عز وجل - ورسله وكتبه وشرعه وعلى من فعل هذا أن يتوب إلى الله - عز وجل - مما صنع؛ لأن هذا من النفاق فعليه أن يتوب إلى الله ويستغفر، ويصلح عمله، ويجعل في قلبه خشية الله - عز وجل - وتعظيمه وخوفه ومحبته. والله ولي التوفيق.
(236) وسئل فضيلته: عن حكم الاستهزاء بالملتزمين بأوامر الله - تعالى - ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
فأجاب قائلا: الاستهزاء بالملتزمين بأوامر الله - تعالى - ورسوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكونهم التزموا بذلك محرم وخطير جدًا على المرء، لأنه يخشى أن تكون كراهته لهم لكراهة ما هم عليه من الاستقامة على دين الله وحينئذ يكون استهزاؤه بهم استهزاء بطريقهم الذي هم عليه فيشبهون من قال الله عنهم: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} فإنها نزلت في قوم من المنافقين قالوا: "ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء - يعنون رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأصحابه -أرغب بطونًا، ولا أكذب ألسنًا، ولا أجبن عند اللقاء". فأنزل الله فيهم هذه الآية.
فليحذر الذين يسخرون من أهل الحق لكونهم من أهل الدين فإن(2/157)
الله - سبحانه وتعالى - يقول: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} .
(237) وسئل أيضًا: عن حكم من يسخر بالملتزمين بدين الله ويستهزئ بهم؟
فأجاب بقوله: هؤلاء الذين يسخرون بالملتزمين بدين الله المنفذين لأوامر الله فيهم نوع نفاق لأن الله قال عن المنافقين: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . ثم إن كانوا يستهزئون بهم من أجل ما هم عليه من الشرع فإن استهزاءهم بهم استهزاء بالشريعة، والاستهزاء بالشريعة كفر، أما إذا كانوا يستهزئون بهم يعنون أشخاصهم وزيهم بقطع النظر عما هم عليه من اتباع السنة فإنهم لا يكفرون بذلك؛ لأن الإنسان قد يستهزئ بالشخص نفسه بقطع النظر عن عمله وفعله، لكنهم على خطر عظيم، والواجب تشجيع من التزم بشريعة الله ومعونته، وتوجيهه إذا كان على نوع من الخطأ حتى يستقيم على الأمر المطلوب.(2/158)
(238) سئل فضيلة الشيخ - حفظه الله -: هل يجوز البقاء بين قوم يسبون الله - عز وجل؟
فأجاب - حفظه الله - بقوله: لا يجوز البقاء بين قوم يسبون الله - عز وجل - لقوله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} والله الموفق.
(239) وسئل فضيلة الشيخ: عن حكم من سخر بصاحب اللحية ورافع ثوبه عن كعبيه؟
فأجاب قائلًا: من سخر بصاحب اللحية ورافع ثوبه عن كعبيه فإن قصد السخرية بعمله وهو يعلم أنه من شريعة الله - تعالى -، فقد سخر من شريعة الله - تعالى -، وإن قصد السخرية بالشخص نفسه لدوافع شخصية فإنه لا يكفر بذلك.
(240) سئل فضيلة الشيخ: عن حكم دعاء المخلوق؟
فأجاب - رعاه الله - بقوله: الدعاء ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: جائز وهو أن تدعو مخلوقًا بأمر من الأمور التي يمكن أن يدركها بأشياء محسوسة معلومة، قال، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في حقوق المسلم على أخيه: «وإذا دعاك فأجبه» . وقال، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وتعين الرجل في دابته» . الحديث.(2/159)
الثاني: أن تدعو مخلوقًا مطلقًا -سواء كان حيًا أو ميتًا - فيما لا يقدر عليه إلا الله فهذا شرك أكبر، لأن هذا من فعل الله لا يستطيعه البشر مثل: يا فلان اجعل ما في بطن امرأتي ذكرًا.
الثالث: أن تدعو مخلوقًا لا يجيب بالوسائل الحسية المعلومة كدعاء الأموات فهذا شرك أكبر أيضًا؛ لأن هذا لا يقدر عليه المدعو ولا بد أن يعتقد فيه الداعي شيئًا سريًا يدبر به الأمور.
(241) سئل فضيلة الشيخ: عن رجل محافظ على الصلاة والصيام وظاهر حاله الاستقامة، إلا أن له حلقات يدعو فيها الرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعبد القادر، فما حكم عمله هذا؟
فأجاب بقوله: ما ذكره السائل يحزن القلب، فإن هذا الرجل الذي وصفه بأنه يحافظ على الصلاة والصيام، وأن ظاهر حاله الاستقامة قد لعب به الشيطان وجعله يخرج من الإسلام بالشرك وهو يعلم أو لا يعلم، فدعاؤه غير الله - عز وجل - شرك أكبر مخرج عن الملة، سواء دعا الرسول، عليه الصلاة والسلام، أو دعا غيره، وغيره أقل منه شأنًا وأقل منه وجاهة عند الله - عز وجل - فإذا كان دعاء رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، شركًا فدعاء غيره أقبح وأقبح من عبد القادر أو غير عبد القادر، والرسول، عليه الصلاة والسلام، نفسه لا يملك لأحد نفعًا ولا ضرًا قال الله - تعالى آمرًا له: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} وقال آمرًا له:(2/160)
- {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} وقال تعالى آمرًا له: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} . بل قال الله تعالى - آمرًا له: {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} فإذا كان الرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نفسه لا يجيره أحد من الله فكيف بغيره؟!
فدعاء غير الله شرك مخرج عن الملة، والشرك لا يغفره الله - عز وجل - إلا بتوبة من العبد لقوله - تعالى -: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وصاحبه في النار لقوله -تعالى -: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} .
ونصيحتي لهذا الرجل أن يتوب إلى الله من هذا الأمر المحبط للعمل فإن الشرك يحبط العمل قال الله - تعالى -: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} . فليتب إلى الله من هذا،وليتعبد لله بما شرع من الأذكار والعبادات، ولا يتجاوز ذلك إلى هذه الأمور الشركية وليتفكر دائمًا في قوله - تعالى -(2/161)
{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} .
(242) سئل فضيلة الشيخ: عن حكم دعاء أصحاب القبور؟
فأجاب بقوله: الدعاء ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: دعاء عبادة، ومثاله الصلاة، والصوم وغير ذلك من العبادات فإذا صلى الإنسان، أو صام فقد دعا ربه بلسان الحال أن يغفر له، وأن يجيره من عذابه، وأن يعطيه من نواله، ويدل لهذا قوله - تعالى -: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} .
فجعل الدعاء عبادة، فمن صرف شيئًا من أنواع العبادة لغير الله فقد كفر كفرًا مخرجًا عن الملة، فلو ركع الإنسان أو سجد لشيء يعظمه كتعظيم الله في هذا الركوع أو السجود لكان مشركًا خارجًا عن الإسلام، ولهذا منع النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من الانحناء عند الملاقاة سدًا لذريعة الشرك «فسئل عن الرجل يلقى أخاه أينحني له؟
قال: "لا» . وما يفعله بعض الجهال إذا سلم عليك انحنى لك خطأ ويجب عليك أن تبين له ذلك وتنهاه عنه.
القسم الثاني: دعاء المسألة، وهذا ليس كله شركًا بل فيه تفصيل: أولًا:إن كان المدعو حيًا قادرًا على ذلك فليس بشرك، كقولك:اسقني ماء لمن يستطيع ذلك، قال، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(2/162)
«من دعاكم فأجيبوه» . قال الله -تعالى -: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} فإن مد الفقير يده وقال: ارزقني أي: أعطني فهو جائز كما قال - تعالى -: {فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} .
ثانيًا: إن كان المدعو ميتًا فإن دعاءه شرك مخرج عن الملة.
ومع الأسف أن في بعض البلاد الإسلامية من يعتقد أن فلانًا المقبور الذي بقي جثة أو أكلته الأرض ينفع أو يضر، أو يأتي بالنسل لمن لا يولد له، وهذا والعياذ بالله شرك أكبر مخرج عن الملة، وإقرار هذا أشد من إقرار شرب الخمر، والزنى، واللواط؛ لأنه إقرار على كفر، وليس إقرارًا على فسوق فقط فنسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين.
(243) سئل فضيلة الشيخ: يقول: بعض الناس عند الشدة: "يا محمد أو يا علي، أو يا جيلاني " فما الحكم؟
فأجاب بقوله: إذا كان يريد دعاء هؤلاء والاستغاثة بهم فهو مشرك شركًا أكبر مخرجًا عن الملة، فعليه أن يتوب إلى الله - عز وجل - وأن يدعو الله وحده، كما قال -تعالى -: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} وهو مع كونه مشركًا، سفيه مضيع لنفسه، قال الله - تعالى -: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} . وقال: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} .(2/163)
(244) سئل فضيلة الشيخ: هل عبادة الإنسان لصفة من صفات الله يعد من الشرك وكذلك دعاؤها؟
فأجاب بقوله: عبادة الإنسان لصفة من صفات الله، أو دعاؤه لصفة من صفات الله من الشرك، وقد ذكر هذا شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله - لأن الصفة غير الموصوف بلا شك وإن كانت هي وصفه، وقد تكون لازمة وغير لازمة، لكن هي بلا شك غير الموصوف فقوة الإنسان غير الإنسان وعزة الإنسان غير الإنسان، وكلام الإنسان غير الإنسان، كذلك قدرة الله - عز وجل - ليست هي الله بل هي صفة من صفاته فلو تعبد الإنسان لصفة من صفات الله لم يكن متعبدًا لله؛ وإنما تعبد لهذه الصفة لا لله - عز وجل - والإنسان إنما يتعبد لله - عز وجل - {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
والله عز وجل موصوف بجميع صفاته فإذا عبدت صفة من صفاته لم تكن عبدت الله عز وجل لأن الله موصوف بجميع الصفات.
وكذلك دعاء الصفة من الشرك مثل أن تقول: يا مغفرة الله اغفري لي يا عزة الله أعزيني،ونحو ذلك.
(245) وسئل أيضًا: هل قول الإنسان: "يا رحمة الله " يدخل في دعاء الصفة الممنوع؟(2/164)
فأجاب بقوله: إذا كان مراد الداعي بقوله: "يا رحمة الله" الاستغاثة برحمة الله - تعالى - يعني أنه لا يدعو نفس الرحمة ولكنه يدعو الله - سبحانه وتعالى - أن يعمه برحمته كان هذا جائزًا، وهذا هو الظاهر من مراده، فلو سألت القائل هل أنت تريد أن تدعو الرحمة نفسها أو تريد أن تدعو الله - عز وجل - ليجلب لك الرحمة؟ لقال: هذا هو مرادي.
أما إن كان مراده دعاء الرحمة نفسها فقد سبق جوابه ضمن جواب السؤال السابق.
(246) سئل فضيلة الشيخ: قلتم في الفتوى رقم "244": إن عبادة صفة من صفات الله أو دعاءها من الشرك، وقد جاء في شرح العقيدة الطحاوية إذا قلت: "أعوذ بعزة الله" فقد عذت بصفة من صفات الله، ولم تعذ بغير الله. . فعلم أن الذات لا يتصور انفصال الصفات عنها بوجه من الوجوه. . وقد قال، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أعوذ بعزة الله وقدرته» .
. " وقال: «أعوذ بكلمات الله التامات» . . . ". وقال، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك» . . . " وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ونعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا» .
وقال: «أعوذ بنور وجهك» . . . " ولا يعوذ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بغير الله. فنأمل من فضيلتكم التكرم بالتوضيح؟
.(2/165)
فأجاب بقوله: ما نقله السائل من كلام شارح الطحاوية لا ينافي ما ذكرناه فإن من المعلوم أنه لا توجد ذات مجردة عن صفة أبدًا ولو لم يكن فيها إلا صفة الوجود، وكونه واجبًا أو ممكنًا وكونها على صفة معينة من صغر أو كبر أو نحو ذلك لكان كافيًا في الدلالة على أنه لا يمكن وجود ذات بلا صفة ما.
ولكن إذا عبد الإنسان صفة من صفات الله أو دعاها فإن هذا يشعر بكون الصفة بائنة عن الله - تعالى - مستقلة عنه وهذا هو وجه كونه شركًا.
وأما ما جاء في الأحاديث التي ذكرها شارح الطحاوية مثل: «أعوذ بعزتك» «أعوذ بعظمتك» ، «أعوذ برضاك» ، «أعوذ بكلمات الله التامة» فحقيقته أنه استعاذة بالله متوسلًا إليه بهذه الصفات المقتضية للعياذ،ولهذا قال شارح الطحاوية على ما نقله السائل: ولا يعوذ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بغير الله. وإليك ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في أن دعاء صفة من صفات الله كفر قال في الصفحة الثمانين من تلخيص كتاب الاستغاثة ما نصه:
"إن مسألة الله - تعالى - بأسمائه وصفاته وكلماته جائز مشروع كما جاءت به الأحاديث وأما دعاء صفاته وكلماته فكفر باتفاق المسلمين فهل يقول: مسلم: يا كلام الله اغفر لي وارحمني وأغثني أو أعني أو يا علم الله أو يا قوة الله أو يا عزة الله أو يا عظمة الله ونحو ذلك أو سمع من مسلم أو كافر أنه دعا ذلك من صفات الله وصفات غيره أو يطلب من الصفة جلب منفعة أو دفع مضرة أو إعانة أو نصر أو إغاثة أو غير ذلك". اهـ. هذا والله أسأل أن يوفق الجميع لما فيه الخير لنا وللأمة.(2/166)
(247) سئل فضيلة الشيخ: عن رجل يستغيث بغير الله ويزعم أنه ولي الله فما علامات الولاية؟
فأجاب: علامات الولاية بينها الله - عز وجل - في قوله: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} فهذه علامات الولاية: الإيمان بالله، وتقوى الله - عز وجل - "فمن كان مؤمنًا تقيًا، كان لله وليًا". أما من أشرك به فليس بولي لله بل هو عدو لله كما قال - تعالى -: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} .
فأي إنسان يدعو غير الله، أو يستغيث بغير الله بما لا يقدر عليه إلا الله - عز وجل - فإنه مشرك كافر، وليس بولي لله ولو ادعى ذلك، بل دعواه أنه ولي مع عدم توحيده وإيمانه وتقواه دعوى كاذبة تنافي الولاية.
ونصيحتي لإخواني المسلمين في هذه الأمور أن لا يغتروا بهؤلاء، وأن يكون مرجعهم في ذلك إلى كتاب الله، وإلى ما صح من سنة النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،حتى يكون رجاؤهم، وتوكلهم، واعتمادهم على الله وحده، وحتى يؤمنوا بذلك لأنفسهم استقرارًا وطمأنينة، وحتى يحفظوا بذلك أموالهم أن يبتزها هؤلاء المخرفون، كما أن في لزوم ما دل عليه الكتاب والسنة في مثل هذه الأمور - في ذلك - إبعادًا لهؤلاء عن الاغترار بأنفسهم، هؤلاء الذين يدعون أنفسهم أحيانًا أسيادًا، وأحيانًا أولياء، ولو فكرت أو تأملت ما هم عليه لوجدت فيهم بعدًا عن الولاية والسيادة، ولكنك تجد الولي حقيقة أبعد الناس أن يدعو لنفسه وأن يحيطها بهالة من(2/167)
التعظيم والتبجيل وما أشبه ذلك، تجده مؤمنًا، تقيًا، خفيًا لا يظهر نفسه، ولا يحب الإشهار، ولا يحب أن يتجه الناس إليه، أو أن يتعلقوا به خوفًا أو رجاء.
فمجرد كون الإنسان يريد من الناس أن يعظموه، ويحترموه، ويبجلوه، ويكون مرجعًا لهم، ومتعلقًا لهم، هذا في الحقيقة ينافي التقوى وينافي الولاية، ولهذا جاء في الحديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيمن طلب العلم ليماري به السفهاء، أو يجاري به العلماء، أو ليصرف وجوه الناس إليه فعليه كذا وكذا من الوعيد، فالشاهد في قوله: "أو ليصرف وجوه الناس إليه" فهؤلاء الذين يدعون الولاية ويحاولون أن يصرفوا وجوه الناس إليهم هم أبعد الناس عن الولاية.
فنصيحتي لإخواني المسلمين أن لا يغتروا بهؤلاء وأمثالهم وأن يرجعوا إلى كتاب الله وسنة رسوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن يعلقوا آمالهم ورجاءهم بالله وحده.
(248) سئل فضيلته: عن رأيه فيمن تغيرت لديهم المفاهيم وصار عندهم المعروف منكرًا والمنكر معروفًا؟ .
فأجاب - حفظه الله - بقوله: رأيي في هؤلاء الذين تغيرت عندهم المفاهيم حتى رأوا المعروف منكرًا والمنكر معروفًا وصاروا لا ينكرون من المنكر شيئًا ولا يقرون من المعروف شيئًا، رأيي أن هؤلاء انسلخوا من الدين - والعياذ بالله - وذلك لأن من جعل المعروف الذي من شريعة الله - عز وجل - منكرًا فقد كفر بالشريعة، وكذلك من جعل المنكر معروفًا فقد آمن بالطاغوت، والإيمان لا يتم إلا بالكفر بالطاغوت والإيمان بالله، فعلى هؤلاء أن يراجعوا أنفسهم ويفكروا في أمرهم ويعرفوا أصلهم ومنتهى أمرهم(2/168)
فإن أصلهم العدم ومنتهى أمرهم الفناء من الدنيا، قال - تعالى -: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} وقال - تعالى -: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} .
وقال تعالى -: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} .
عليهم أن يفكروا أدنى تفكير فإن لم يفد فعليهم أن يفكروا التفكير العميق في الأمر وهم يشاهدون الناس يذهبون ويجيئون، هذا يولد وهذا يموت وهذا يمرض وهذا يصح، وهذا يصاب بماله وهذا يصاب بأهله، ويعلموا أنه لا بقاء لأحدٍ في هذه الدنيا فليرجعوا إلى الله - تعالى - وليعرفوا المعروف وينكروا المنكر ومن تاب تاب الله عليه.(2/169)
السحر(2/171)
(249) سئل فضيلة الشيخ: عن قوم يضربون أنفسهم بالحديد والسلاح ولا يتأثرون ويزعمون أنهم أولياء الله؟
فأجاب بقوله: كون هؤلاء يضربون أنفسهم بالحديد أو غير الحديد ولا يتأثرون بذلك فإن هذا لا يدل على صدقهم، ولا على أنهم من أولياء الله، ولا على أن هذا كرامة لهم، وإنما هذا من أنواع السحر الذي يسحرون به أعين الناس، والسحر يكون في مثل هذا وغيره، فإن موسى عليه الصلاة والسلام لما ألقى سحرة فرعون حبالهم وعصيهم صارت من سحرهم يخيل إليه أنها تسعى، وأنها حيات وأفاعٍ كما قال الله - عز وجل -: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} فهذا الذي يفعلونه لا شك أنه نوع من أنواع السحر وأنه ليس بكرامة.
واعلم - رحمك الله - أن الكرامة لا تكون إلا لأولياء الله، وأولياء الله هم الذين اتقوه واستقاموا على دينه وهم من وصفهم الله بقوله: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}
وليس كل من ادعى الولاية يكون وليًا، وإلا لكان كل واحد يدعيها، ولكن يوزن هذا المدعي للولاية بعمله، إن كان عمله مبنيًا على الإيمان والتقوى فإنه ولي، لكن مجرد ادعائه أنه من أولياء الله ليس من تقوى الله - عز وجل - لأن الله - تعالى - يقول:: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} .
فإذا(2/173)
ادعى أنه من أولياء الله فقد زكى نفسه، وحينئذ يكون واقعًا في معصية الله وفيما نهاه الله عنه وهذا ينافي التقوى.
وعلى هذا فإن أولياء الله لا يزكون أنفسهم بمثل هذه الشهادة، وإنما هم يؤمنون بالله ويتقونه ويقومون بطاعته على الوجه الأكمل، ولا يقرون الناس ويخدعونهم بهذه الدعوى حتى يضلوهم عن سبيل الله.
(250) سئل فضيلة الشيخ: عن السحر وحكم تعلمه؟
فأجاب بقوله: السحر قال العلماء: هو في اللغة "عبارة عن كل ما لطف وخفي سببه" بحيث يكون له تأثير خفي لا يطلع عليه الناس، وهو بهذا المعنى يشمل التنجيم، والكهانة، بل إنه يشمل التأثير بالبيان والفصاحة كما قال عليه الصلاة والسلام: «إن من البيان لسحرًا» . فكل شيء له أثر بطريق خفي فهو من السحر.
وأما في الاصطلاح فعرفه بعضهم بأنه: "عزائم ورقى وعقد تؤثر في القلوب والعقول والأبدان فتسلب العقل، وتوجد الحب والبغض وتفرق بين المرء وزوجه وتمرض البدن وتسلب تفكيره ".
وتعلم السحر محرم، بل هو كفر إذا كانت وسيلته الإشراك بالشياطين قال الله - تبارك وتعالى -: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ}(2/174)
فتعلم هذا النوع من السحر - وهو الذي يكون بواسطة الإشراك بالشياطين - كفر، واستعماله أيضًا كفر وظلم وعدوان على الخلق، ولهذا يقتل الساحر إما ردة وإما حدًا فإن كان سحره على وجه يكفر به فإنه يقتل ردة وكفرًا، وإن كان سحره لا يصل إلى درجة الكفر فإنه يقتل حدًا دفعًا لشره وأذاه عن المسلمين.
(251) سئل - حفظه الله ورعاه -: هل للسحر حقيقة؟
فأجاب قائلًا بقوله: للسحر حقيقة ولا شك وهو مؤثر حقيقة، لكن كونه يقلب الشيء أو يحرك الساكن، أو يسكن المتحرك هذا خيال وليس حقيقة، انظر إلى قول الله - تعالى - في قصة السحرة من آل فرعون يقول الله - تعالى -: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ}
قال: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ} كيف سحروا أعين الناس؟
سحروا أعين الناس حين صار الناس ينظرون إلى حبال السحرة وعصيهم كأنها ثعابين تمشي كما قال الله - تعالى -: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} فالسحر في قلب الأشياء، وتحريك الساكن، أو تسكين المتحرك ليس له أثر، لكن في كونه يسحر أو يؤثر على المسحور حتى يرى الساكن متحركًا والمتحرك ساكنًا، أثره ظاهر جدًا، إذًا فله حقيقة ويؤثر على بدن المسحور وحواسه وربما يهلكه.(2/175)
(252) وسئل فضيلته: هل للسحر حقيقة؟ وهل سحر النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
فأجاب بقوله: السحر ثابت ولا مرية فيه وهو حقيقة، وذلك بدلالة القرآن الكريم، والسنة.
أما القرآن الكريم فإن الله - تعالى - ذكر عن سحرة فرعون الذين ألقوا حبالهم وعصيهم، وسحروا أعين الناس، واسترهبوهم حتى إن موسى، عليه الصلاة والسلام، كان يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى وحتى أوجس في نفسه خيفة فأمره الله - تعالى - أن يلقي عصاه فألقاها فإذا هي حية تسعى تلقف ما يأفكون، كما حكى الله -عز وجل ذلك عنه فقال: {قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} وهذا أمر لا إشكال فيه، وأما السنة ففيها أحاديث متعددة في ثبوت السحر وتأثيره.
وأما أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سحر فنعم فقد ثبت من حديث عائشة وغيرها أن «النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سحر وأنه كان يخيل إليه أنه أتى الشيء وهو لم يأته» ولكن الله - تعالى - أنزل عليه سورتي: قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس فشفاه الله بهما.
(253) وسئل: عن حكم حل السحر عن المسحور "النشرة"؟(2/176)
فأجاب قائلًا: حل السحر عن المسحور "النشرة" الأصح فيها أنها تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أن تكون بالقرآن الكريم، والأدعية الشرعية، والأدوية المباحة فهذه لا بأس بها لما فيها من المصلحة وعدم المفسدة، بل ربما تكون مطلوبة؛ لأنها مصلحة بلا مضرة.
القسم الثاني: إذا كانت النشرة بشيء محرم كنقض السحر بسحر مثله فهذا موضع خلاف بين أهل العلم:
فمن العلماء من أجازه للضرورة.
ومنهم من منعه «لأن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سئل عن النشرة فقال: " هي من عمل الشيطان» .
وإسناده جيد رواه أبو داود، وعلى هذا يكون حل السحر بالسحر محرمًا، وعلى المرء أن يلجأ إلى الله - سبحانه وتعالى - بالدعاء والتضرع لإزالة ضرره، والله - سبحانه وتعالى - يقول:: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} .
ويقول: الله - تعالى -: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} . والله الموفق.
(254) وسئل: عن حكم التوفيق بين الزوجين بالسحر؟
فأجاب بقوله: هذا محرم ولا يجوز، وهذا يسمى بالعطف، وما يحصل به التفريق يسمى بالصرف وهو أيضًا محرم وقد يكون كفرًا وشركًا قال الله - تعالى -: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} .(2/177)
(255) سئل فضيلة الشيخ: عن أقسام السحر؟ وهل الساحر كافر؟
فأجاب بقوله: السحر ينقسم إلى قسمين:
الأول: عقد ورقى، أي قراءات وطلاسم يتوصل بها الساحر إلى الإشراك بالشياطين فيما يريد لضرر المسحور، قال الله - تعالى -: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} . الآية.
الثاني: أدوية وعقاقير تؤثر على بدن المسحور، وعقله، وإرادته، وميله وهو ما يسمى عندهم بالعطف، والصرف، فيجعلون الإنسان ينعطف على زوجته أو امرأة أخرى حتى يكون كالبهيمة تقوده كما تشاء والصرف بالعكس من ذلك، فيؤثر في بدن المسحور بإضعافه شيئًا فشيئًا حتى يهلك، وفي تصوره بأن يتخيل الأشياء على خلاف ما هي عليه."
وكفر الساحر" اختلف فيه أهل العلم: فمنهم من قال: يكفر. ومنهم من قال: لا يكفر.
ولكن التقسيم السابق الذي ذكرناه يتبين به حكم هذه المسألة: فمن كان سحره بواسطة الشياطين فإنه يكفر، ومن كان سحره بالأدوية والعقاقير فإنه لا يكفر ولكنه يعتبر عاصيًا.(2/178)
(256) سئل فضيلة الشيخ: هل قتل الساحر ردة أو حد؟
فأجاب بقوله: قتل الساحر قد يكون حدًا، وقد يكون ردة بناء على التفصيل السابق في كفر الساحر فمتى حكمنا بكفره فقتله ردة، وإذا لم نحكم بكفره فقتله حد.
والسحرة يجب قتلهم سواء قلنا بكفرهم أم لا، لعظم ضررهم وفظاعة أمرهم، فهم يفرقون بين المرء وزوجه، وكذلك العكس فهم قد يعطفون فيؤلفون بين الأعداء ويتوصلون بذلك إلى أغراضهم، كما لو سحر امرأة ليزني بها، فيجب على ولي الأمر قتلهم بدون استتابة، ما دام أنه حد؛ لأن الحد إذا بلغ الإمام، لا يستتاب صاحبه، بل يقام بكل حال، أما الكفر فإنه يستتاب صاحبه، وبهذا نعرف خطأ من أدخل حكم المرتد في الحدود، وذكروا من الحدود حد الردة؛ لأن قتل المرتد ليس من الحدود لأنه إذا تاب انتفى عنه القتل، ثم إن الحدود كفارة لصاحبها وليس بكافر، والقتل بالردة ليس بكفارة وصاحبه كافر لا يصلى عليه، ولا يغسل ولا يدفن في مقابر المسلمين.
فالقول بقتل السحرة موافق للقواعد الشرعية؛ لأنهم يسعون في الأرض فسادًا، وفسادهم من أعظم الفساد، وإذا قتلوا سلم الناس من شرهم، وارتدع الناس عن تعاطي السحر.
(257) وسئل فضيلته: هل ثبت أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سحر؟
فأجاب بقوله: نعم ثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سحر، لكن لم يؤثر عليه من الناحية التشريعية أو الوحي، إنما(2/179)
غاية ما هنالك أنه وصل إلى درجة يخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يكن فعله، وهذا السحر الذي وضع كان من يهودي يقال له: لبيد بن الأعصم وضعه له، ولكن الله - تعالى - أنجاه منه حتى جاءه الوحي بذلك وعوذ بالمعوذتين عليه الصلاة والسلام،ولا يؤثر هذا السحر على مقام النبوة؛ لأنه لم يؤثر في تصرف النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيما يتعلق بالوحي والعبادات.
وقد أنكر بعض الناس أن يكون النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سحر، بحجة أن هذا القول يستلزم تصديق الظالمين الذين قالوا: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} .
ولكن هذا لا شك أنه لا يستلزم موافقة هؤلاء الظالمين بما وصفوا به النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن أولئك يدعون أن الرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مسحور فيما يتكلم به من الوحي، وأن ما جاء به هذيان كهذيان المسحور، وأما السحر الذي وقع للرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلم يؤثر عليه في شيء من الوحي ولا في شيء من العبادات، ولا يجوز لنا أن نكذب الأخبار الصحيحة بمجرد فهم سيّء فهمه مَن فهمه.(2/180)
الكهانة والتنجيم
(258) سئل فضيلة الشيخ: عن حكم سؤال العراف؟
فأجاب بقوله: سؤال العراف ينقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: أن يسأله فيصدقه ويعتبر قوله فهذا حرام بل كفر؛ لأن تصديقه في علم الغيب تكذيب للقرآن. القسم الثاني: أن يسأله ليختبره هل هو صادق أو كاذب، لا لأجل أن يأخذ بقوله فهذا جائز، «وقد سأل النبي، ابن صياد قال:"ماذا خبأت لك"؟ قال: الدخ. فقال النبي،:"اخسأ فلن تعدو قدرك» . فالنبي،، سأله عن شيء أضمره له لأجل أن يختبره لا ليصدقه ويعتبر قوله. القسم الثالث: أن يسأله ليظهر عجزه وكذبه، وهذا أمر مطلوب واجبًا.
(259) وسئل - جزاه الله خيرًا -: عن الكهانة؟ وحكم إتيان الكهان؟
فأجاب بقوله: الكهانة فعالة مأخوذة من التكهن، وهو التخرص والتماس الحقيقة بأمور لا أساس لها، وكانت في الجاهلية صنعة لأقوام تتصل بهم الشياطين وتسترق السمع من السماء وتحدثهم به، ثم يأخذون الكلمة التي نقلت إليهم من السماء بواسطة هؤلاء الشياطين ويضيفون إليها ما يضيفون من القول، ثم يحدثون بها الناس، فإذا وقع الشيء مطابقًا لما قالوا اغتر بهم الناس واتخذوهم مرجعًا في الحكم بينهم، وفي استنتاج ما(2/183)
يكون في المستقبل، ولهذا نقول: الكاهن هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل. والذي يأتي إلى الكاهن ينقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: أن يأتي إلى الكاهن فيسأله من غير أن يصدقه، فهذا محرم، وعقوبة فاعله أن لا تقبل له صلاة أربعين يومًا، كما ثبت في صحيح مسلم أن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: «من أتى عرافًا فسأله لم تقبل له صلاة أربعين يومًا أو أربعين ليلة» .
القسم الثاني: أن يأتي إلى الكاهن فيسأله ويصدقه بما أخبر به، فهذا كفر بالله - عز وجل - لأنه صدقه في دعوى علمه الغيب، وتصديق البشري دعوى علم الغيب تكذيب لقول الله - تعالى -: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} سورة النمل، الآية "65"
. ولهذا جاء في الحديث الصحيح: «من أتى كاهنًا فصدقه بما يقول: فقد كفر بما نزل على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» .
القسم الثالث: أن يأتي إلى الكاهن فيسأله ليبين حاله للناس، وإنها كهانة وتمويه وتضليل، وهذا لا بأس به ودليل ذلك أن «النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أتاه ابن صياد، فأضمر له النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، شيئًا في نفسه فسأله النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ماذا خبأ له؟
فقال: الدخ يريد الدخان. فقال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اخسأ فلن تعدو قدرك» .
هذه أحوال من يأتي إلى الكاهن ثلاثة:
الأولى: أن يأتي فيسأله بدون أن يصدقه، وبدون أن يقصد بيان حاله فهذا محرم، وعقوبة فاعله أن لا تقبل له صلاة أربعين ليلة.(2/184)
الثانية: أن يسأله فيصدقه وهذا كفر بالله - عز وجل -على الإنسان أن يتوب منه ويرجع إلى الله -عز وجل - وإلا مات على الكفر.
الثالثة: أن يأتيه فيسأله ليمتحنه ويبين حاله للناس فهذا لا بأس به.
(260) سئل فضيلة الشيخ: عن قول بعض الناس: تكهنت مصادر مطلعة بوقوع كذا وكذا؟ أو أتكهن أن فلانًا سيحضر؟
فأجاب بقوله: لا ينبغي إطلاق هذا اللفظ الدال على عمل محرم على أمر مباح، فلا ينبغي أن يقول: أتكهن بكذا ونحوه، ولكن يقول: أظن كذا؛ لأن العامي الذي لا يفرق بين الأمور يظن أن الكهانة كلها مباحة بدليل إطلاق هذا اللفظ على شيء مباح معلوم إباحته.
(261) سئل فضيلة الشيخ: عن أقسام علم النجوم؟
فأجاب بقوله: علم النجوم ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: علم يستدل به على الحوادث الأرضية، فهذا محرم، فيستدل مثلًا باقتران النجم الفلاني بالنجم الفلاني على أنه سيحدث كذا وكذا، ويستدل بولادة إنسان في هذا النجم أنه سيكون سعيدًا، وفي هذا النجم الآخر بأنه سيكون شقيًا، فيستدلون باختلاف أحوال النجوم على اختلاف الحوادث الأرضية، والحوادث الأرضية ليس للنجوم بها علاقة ولهذا في حديث زيد بن خالد الجهني - رضي الله عنه - قال: «صلى بنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات ليلة على أثر سماء من الليل فلما انصرف أقبل على الناس فقال: "هل تدرون ماذا قال ربكم"؟
قالوا: الله ورسوله أعلم. قال:»(2/185)
«" قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فمن قال: مطرنا بنوء كذا وكذا - والباء للسببية - فإنه كافر بي مؤمن بالكوكب، ومن قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب» . فالنجوم لا تأتي بالمطر ولا الرياح، ومنه نعرف خطأ الذين يقولون: إذا طلع النجم الفلاني ازداد هبوب الرياح لأن النجوم لا صلة لها بالرياح.
القسم الثاني: علم يستدل به على الجهات والأوقات، فهذا جائز وقد يكون واجبًا كما قال الفقهاء:
"إذا دخل وقت الصلاة يجب على الإنسان أن يتعلم علامات القبلة من النجوم، والشمس، والقمر ".
قال الله - تعالى -: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} سورة النحل، الآية "15".
فلما ذكر الله - عز وجل - العلامات الأرضية انتقل إلى العلامات الأفقية فقال - تعالى -: {وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} سورة النحل، الآية "16".
فالاستدلال بهذه النجوم على الأزمنة والأمكنة لا بأس به، مثل أن يقال: إذا طلع النجم الفلاني دخل وقت المطر، أو وقت الربيع، والعرب في الجاهلية يتشاءمون بالأنواء ويتفاءلون بها، فبعض النجوم يقولون: هذا نجم نحس لا خير فيه، وبعضها بالعكس يقولون: هذا نجم سعود وخير، ولهذا إذا أمطروا قالوا:
مطرنا بنوء كذا، ولا يقولون: مطرنا بفضل الله ورحمته، مع أن النجم ليس سببًا للمطر.
ألسنا نجد هذا النوء بعينه سنة يكون فيه مطر وفي سنة أخرى لا يكون فيه مطر؟! ونجد السنوات تمر بدون مطر مع وجود النجوم الموسمية التي كانت كثيرًا ما يكون في زمنها الأمطار، فالنوء لا تأثير له فقولنا: طلع هذا النجم كقولنا: طلعت(2/186)
الشمس فليس له إلا طلوع وغروب، والنوء وقت تقدير وهو يدل على دخول الفصول فقط.
(262) سئل فضيلة الشيخ: عن حكم تعلم علم النجوم؟ وما الحكمة من خلقها؟
فأجاب - حفظه الله - بقوله: علم النجوم على نوعين:
النوع الأول: علم التأثير وهذا النوع ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أن يعتقد أن هذه النجوم مؤثرة فاعلة، بمعنى أنها هي التي تخلق الحوادث فهذا شرك مخرج عن الملة؛ لأنه جعل المخلوق خالقًا فادعى أن مع الله خالقًا آخر.
القسم الثاني: أن يستدل بحركاتها وتنقلاتها على ما يحدث في المستقبل مثل أن يعتقد أن فلانًا ستكون حياته شقاء؛ لأنه ولد في النجم الفلاني، ونحو ذلك فهذا قد ادعى علم الغيب ودعوى علم الغيب كفر مخرج من الملة لأنه تكذيب لقوله - تعالى -: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} سورة النمل، الآية "65"
وهذا من أقوى أنواع الحصر لأنه بالنفي والاستثناء، فإذا ادعى علم الغيب فقد كذب القرآن.
القسم الثالث: أن يعتقد أنها سبب لحدوث الخير والشر أي إنه إذا وقع شيء نسبه إلى النجوم، ولا ينسب إلى النجوم شيئًا إلا بعد وقوعه فهذا شرك أصغر لأنه أضاف الحوادث إلى ما ليس سببًا لها شرعًا ولا حسًا.
فإن قيل: ينتقض هذا بما ثبت عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(2/187)
«إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده» فمعنى ذلك أنهما علامة إنذار.
فالجواب: أن هذا لا يدل على أن للكسوف تأثيرًا في الحوادث من الجدب والقحط والحروب ولذلك قال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته» . لا في ما مضى، ولا في المستقبل، وإنما يخوف الله بهما العباد لعلهم يرجعون.
النوع الثاني: علم التسيير بأن يستدل بسيرها على شيء ما فهذا على قسمين:
القسم الأول: أن يستدل بسيرها على المصالح الدينية فهذا مطلوب، وإذا كان على مصالح دينية واجبة كان ذلك واجبًا، كما لو أراد أن يستدل بالنجوم على جهة القبلة، فالنجم الفلاني يكون ثلث الليل قبلة، والنجم الفلاني يكون ربع الليل قبله فهذا فيه فائدة عظيمة.
القسم الثاني: أن يستدل بها على المصالح الدنيوية وهذا لا بأس به وهو نوعان:
النوع الأول:أن يستدل بها على الجهات، كمعرفة أن القطب يقع شمالًا، والجدي وهو قريب منه يدور حوله شمالًا وهكذا، فهذا جائز قال - تعالى -: {وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} سورة النحل، الآية "16"
. النوع الثاني: أن يستدل بها على الفصول؛ وهو ما يعرف بتعلم منازل القمر، فهذا كرهه بعض السلف، وأباحه آخرون، والذين كرهوه قالوا: يخشى إذا قيل طلع النجم الفلاني فهو وقت الشتاء، أن بعض(2/188)
العامة يعتقد أنه هو الذي يأتي بالبرد، أو بالحر، أو بالرياح. والصحيح عدم الكراهة.
أما الحكمة من خلقها فالله - عز وجل - قد خلق هذه النجوم لحكم كثيرة منها:
الأولى: زينة للسماء قال -تعالى -: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} سورة الملك، الآية "5"
ولا يلزم من ذلك أن تكون النجوم مرصعة في السماء.
فإن قيل: فما الجواب عن قوله - تعالى -: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا} سورة الملك، الآية "5"
قلنا: إنه لا يلزم من تزيين الشيء بالشيء أن يكون ملاصقًا له، أرأيت لو أن رجلًا عمر قصرًا وجعل حوله ثريات من الكهرباء كبيرة وجميلة وهي حول القصر وليست على جدرانه فالناظر إلى القصر من بعد يرى أنها زينة له وإن لم تكن ملاصقة له.
الثانية: أنها رجوم للشياطين، أي لشياطين الجن الذين يسترقون السمع، فهم لهم قوة عظيمة نافذة قال- تعالى -عن عملهم لسليمان: {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ} سورة ص، الآيتان "37 - 38"
وقال - تعالى -: {قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} سورة النمل، الآية "39"
أي من سبأ إلى الشام، وهوعرش عظيم لملكة سبأ فهذا يدل على قوته،(2/189)
وسرعته ونفوذه.
قال - تعالى - عن الجن: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} سورة الجن، الآية " 9 ".
الثالثة: علامات يهتدى بها قال - تعالى -: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} سورة الجن، الآية " 9 ".
فالعلامات: تشمل كل ما جعل الله في الأرض من علامة كالجبال، والأنهار والطرق وهن علامات أرضية، ثم ذكر العلامة الأفقية في قوله - تعالى -: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} سورة النجم، الآية "16".
والنجم اسم جنس يشمل كل ما يهتدى به ولا يختص بنجم معين؛ لأن لكل قوم طريقة في الاستدلال بهذه النجوم على الجهات سواء جهة القبلة، أو المكان برًا أو بحرًا، وهذه نعمة من الله أن جعل أشياء علوية لا يحجب دونها شيء لأنك في الليل لا تشاهد جبالًا، ولا أودية، ولا رملًا وهذا من تسخير الله -تعالى -. قال - تعالى -: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} سورة الجاثية، الآية "13".
(263) وسئل فضيلته: عن التنجيم وحكمه؟
فأجاب بقوله: التنجيم مأخوذ من النجم، وهو الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية، بمعنى أن يربط المنجم ما يقع في الأرض، أو ما سيقع في الأرض بالنجوم بحركاتها، وطلوعها، وغروبها،(2/190)
واقترانها، وافتراقها وما أشبه ذلك، والتنجيم نوع من السحر والكهانة وهو محرم؛ لأنه مبني على أوهام لا حقيقة لها، فلا علاقة لما يحدث في الأرض بما يحدث في السماء، ولهذا كان من عقيدة أهل الجاهلية أن الشمس والقمر لا ينكسفان إلا لموت عظيم، فكسفت الشمس في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، «في اليوم الذي مات فيه ابنه إبراهيم رضي الله عنه فقال الناس: كسفت الشمس لموت إبراهيم، فخطب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الناس حين صلى الكسوف وقال: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته» فأبطل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ارتباط الحوادث الأرضية بالأحوال الفلكية، وكما أن التنجيم بهذا المعنى نوع من السحر والكهانة فهو أيضًا سبب للأوهام والانفعالات النفسية التي ليس لها حقيقة ولا أصل، فيقع الإنسان في أوهام، وتشاؤمات، ومتاهات لا نهاية لها.
وهناك نوع آخر من التنجيم وهو أن الإنسان يستدل بطلوع النجوم على الأوقات، والأزمنة، والفصول، فهذا لا بأس به ولا حرج فيه، مثل أن نقول: إذا دخل نجم فلان فإنه يكون قد دخل موسم الأمطار، أو قد دخل وقت نضوج الثمار وما أشبه ذلك، فهذا لا بأس به ولا حرج فيه.
(264) سئل فضيلة الشيخ: ما العلاقة بين التنجيم والكهانة؟ وأيهما أخطر؟
فأجاب قائلًا: العلاقة بين التنجيم والكهانة أن الكل مبني على الوهم والدجل، وأكل أموال الناس بالباطل، وإدخال الهموم والغموم عليهم وما أشبه ذلك.(2/191)
وبالنسبة لخطرهما على المسلمين فهذا ينبني على شيوع هذا الأمر بين الناس فقد يكون في بعض البلاد لا أثر للتنجيم عندهم إطلاقًا ولا يهتمون به ولا يصدقون به، ولكن الكهانة منتشرة بينهم فتكون أخطر، وقد يكون الأمر بالعكس. لكن من حيث واقع الكهانة والتنجيم فإن الكهانة أخطر.
(265) سئل فضيلة الشيخ -رعاه الله-: عن حكم الاستسقاء بالأنواء؟ .
فأجاب بقوله: الاستسقاء بالأنواء ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: شرك أكبر وله صورتان.
الصورة الأولى: أن يدعو الأنواء بالسقيا، كأن يقول: يا نوء كذا أسقنا أو أغثنا وما أشبه ذلك، فهذا شرك أكبر قال الله تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} وقال الله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} وقال عز وجل: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} وهذا شرك في العبادة والربوبية.
الصورة الثانية: أن ينسب حصول الأمطار إلى هذا النوء ولو لم يدعها على أنها هي الفاعلة لنفسها دون الله، بأن يعتقد أنها هي التي تنزل المطر دون الله فهذا شرك أكبر في الربوبية.(2/192)
القسم الثاني: شرك أصغر وهو أن يجعل هذه الأنواء سببًا، والله هو الخالق الفاعل، وإنما كان شركًا أصغر؛ لأن كل من جعل سببًا لم يجعله الله سببًا لا بوحيه ولا بقدره، فهو مشرك شركًا أصغر.
(266) وسئل -حفظه الله-: عن حكم ربط المطر بالضغط الجوي والمنخفض الجوي؟
فأجاب قائلًا: تعليق المطر بالضغط الجوي، والمنخفض الجوي -وهو وإن كان قد يكون سببًا حقيقيًّا- ولكن لا ينبغي فتح هذا الباب للناس، بل يقال: هذا من رحمة الله، هذا من فضله ونعمته، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} وقال عز وجل: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} فتعليق المطر بالمنخفضات الجوية من الأمور الجاهلية التي تصرف الإنسان عن تعلقه بربه.
وليعلم أن النسبة تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: نسبة إيجاد وهذه شرك أكبر.
القسم الثاني: نسبة سبب وهذه شرك أصغر.
القسم الثالث: نسبة وقت وهذه جائزة. والله أعلم.(2/193)
الطاغوت والشرك(2/195)
(267) وسئل -أعلى الله درجته في المهديين-: عن حكم اتباع العلماء أو الأمراء في تحليل ما حرم الله أو العكس؟
فأجاب بقوله: اتباع العلماء أو الأمراء في تحليل ما حرم الله أو العكس ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أن يتابعهم في ذلك راضيًا بقولهم مقدمًا له ساخطًا لحكم الله، فهو كافر لأنه كره ما أنزل الله، وكراهة ما أنزل الله كفر لقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} ولا تحبط الأعمال إلا بالكفر فكل من كره ما أنزل الله فهو كافر.
القسم الثاني: أن يتابعهم في ذلك راضيًا بحكم الله، وعالمًا بأنه أمثل وأصلح للعباد والبلاد، ولكن لهوى في نفسه تابعهم في ذلك فهذا لا يكفر ولكنه فاسق.
فإن قيل: لماذا لا يكفر؟
أجيب: بأنه لم يرفض حكم الله، ولكنه رضي به وخالفه لهوى في نفسه فهو كسائر أهل المعاصي.
القسم الثالث: أن يتابعهم جاهلًا يظن أن ذلك حكم الله فينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أن يمكنه معرفة الحق بنفسه فهو مفرط أو مقصر فهو آثم؛ لأن الله أمر بسؤال أهل العلم عند عدم العلم.(2/197)
القسم الثاني: أن يكون جاهلًا ولا يمكنه معرفة الحق بنفسه فيتابعهم بفرض التقليد يظن أن هذا هو الحق فلا شيء عليه؛ لأنه فعل ما أمر به وكان معذورًا بذلك، ولذلك ورد عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أن من أفتى بغير علم فإنما إثمه على من أفتاه» (1) . ولو قلنا بإثمه بخطأ غيره، للزم من ذلك الحرج والمشقة ولم يثق الناس بأحد لاحتمال خطأه.
(268) سئل فضيلة الشيخ: عن تعريف الطاغوت؟
فأجاب بقوله: الطاغوت مشتق من الطغيان، والطغيان مجاوزة الحد ومنه قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} يعني لما زاد الماء عن الحد المعتاد حملناكم في الجارية يعني السفينة.
واصطلاحًا أحسن ما قيل في تعريفه ما ذكره ابن القيم رحمه الله أنه -أي الطاغوت-: "كل ما تجاوز به العبد حده من معبود، أو متبوع أو مطاع". ومراده بالمعبود والمتبوع والمطاع غير الصالحين، أما الصالحون فليسوا طواغيت وإن عبدوا، أو اتبعوا، أو أطيعوا فالأصنام التي تعبد من دون الله طواغيت وعلماء السوء الذين يدعون إلى الضلال والكفر، أو يدعون إلى البدع، وإلى تحليل ما حرم الله، أو تحريم ما أحل الله طواغيت والذين يزينون لولاة الأمر الخروج عن شريعة الإسلام طواغيت؛ لأن هؤلاء تجاوزوا حدهم، فإن حد العالم أن يكون متبعًا لما جاء به النبي صلى الله عليه
__________
(1) الإمام أحمد في (المسند) (2/321، 365) ، وأبو داود: كتاب العلم / باب التوقي في الفتيا، وابن ماجة: كتاب المقدمة/ باب اجتناب الرأي. قال الألباني: (إسناده حسن) (المشكاة 242)(2/198)
وسلم؛ لأن العلماء حقيقة ورثة الأنبياء، يرثونهم في أمتهم علمًا، وعملًا, وأخلاقًا، ودعوة، وتعليمًا، فإذا تجاوزوا هذا الحد وصاروا يزينون للحكام الخروج عن شريعة الإسلام بمثل هذه النظم فهم طواغيت؛ لأنهم تجاوزوا ما كان يجب عليهم أن يكونوا عليه من متابعة الشريعة.
وأما المطاع في قوله رحمه الله فيريد به الأمراء الذي يطاعون شرعًا، أو قدرًا، فالأمراء يطاعون، شرعًا إذا أمروا بما لا يخالف أمر الله ورسوله فالواجب على الرعية إذا أمر ولي الأمر بأمر لا يخالف أمر الله الواجب عليهم السمع والطاعة، وطاعتهم لولاة الأمر في هذا الحال بهذا القيد طاعة الله عز وجل، ولهذا ينبغي أن نلاحظ حين ننفذ ما أمر به ولي الأمر مما تجب طاعته فيه أننا في ذلك نتعبد لله تعالى ونتقرب إليه بطاعته، حتى يكون تنفيذنا لهذا الأمر قربة إلى الله عز وجل, وإنما ينبغي لنا أن نلاحظ ذلك؛ لأن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} . وأما طاعة الأمراء قدرًا فإن الأمراء إذا كانوا أقوياء في سلطتهم فإن الناس يطيعونهم بقوة السلطان, وإن لم يكن بوازع الإيمان؛ لأن طاعة ولي الأمر تكون بوازع الإيمان, وهذه هي الطاعة النافعة، النافعة لولاة الأمر، والنافعة للناس أيضًا، وقد تكون الطاعة بوازع السلطان بحيث يكون قويًّا يخشى الناس منه ويهابونه؛ لأنه ينكل بمن خالف أمره.
ولهذا نقول: إن الناس مع حكامهم في هذه المسألة ينقسمون إلى أحوال أربع.(2/199)
الحالة الأولى: أن يقوى الوازع الإيماني والرادع السلطاني وهذه أكمل الأحوال وأعلاها.
الحالة الثانية: أن يضعف الوازع الإيماني والرادع السلطاني وهذه أدنى الأحوال وأخطرها على المجتمع، على حكامه ومحكوميه؛ لأنه إذا ضعف الوازع الإيماني والرادع السلطاني حصلت الفوضى الفكرية والخلقية، والعملية.
الحالة الثالثة: أن يضعف الوازع الإيماني ويقوى الرادع السلطاني وهذه مرتبة وسطى؛ لأنه إذا قوي الرادع السلطاني صار أصلح للأمة في المظهر فإذا اختفت قوة السلطان فلا تسأل عن حال الأمة وسوء عملها.
الحالة الرابعة: أن يقوى الوازع الإيماني ويضعف الرادع السلطاني فيكون المظهر أدنى منه في الحالة الثالثة, لكنه فيما بين الإنسان وربه أكمل وأعلى.
والمهم أننا نقول: إنه ينبغي لنا عند تنفيذ أوامر السلطان أن نعتقد أننا نتقرب إلى الله عز وجل بذلك.
وإنما قال ابن القيم: إن الطاغوت "ما تجاوز به العبد حده من معبود، أو متبوع، أو مطاع " لأن الأمير الذي يطاع قد يأمر بما يخالف أمر الله ورسوله فإنه حينئذ لا سمع له ولا طاعة، ولا يجوز لنا أن نطيعه في معصية الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله تعالى جعل طاعتهم تابعة لطاعته وطاعة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما يفهم من سياق الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} . ولم يقل: " وأطيعوا أولي الأمر منكم" فدل هذا على أن طاعتهم غير مستقلة بل هي تبع لطاعة(2/200)
الله تعالى وطاعة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد ثبت أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إنما الطاعة في المعروف» أي فيما أقره الشرع، وأما ما أنكره فلا يجوز أن يطاع فيه أي مخلوق حتى لو كان الوالد أو الوالدة؛ لأن طاعة الله مقدمة على كل طاعة، فإذا أطاع الإنسان أميره أو ولي أمره في معصية الله فقد تجاوز به حده.
(269) سئل فضيلة الشيخ: عمن يدعي أنه ينفع ويضر وحكم تصديقه؟
فأجاب قائلًا: هؤلاء الذين يدعون أنهم ينفعون، أو يضرون كذبة لا يجوز لأحد أن يصدقهم، ولا أن يسألهم، ويجب على من علم بهم أن يبلغ ولاة الأمور ليتخذوا اللازم، فلا أحد يملك النفع والضرر إلا الله وحده لا شريك له حتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال الله له: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} . وأمره أن يقول: {لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} ومن زعم أن أحدًا يملك الضرر، أو النفع بغير أسباب حسية معلومة، فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل؛ لأنه مكذب لله تعالى ولرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وإني أقول لهؤلاء الذين يتوهمون صدق ما قاله هؤلاء الدجاجلة أقول لهم: اثبتوا على دينكم وإيمانكم، واعلموا أنه لا يملك أحد الضرر والنفع إلا الله وحده لا شريك له، وقد ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(2/201)
أنه قال لابن عباس رضي الله عنهما: «واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك» . وفي القرآن الكريم لما ذكر الله السحرة قال: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} فالمهم أن هؤلاء كذبة فيما ادعوه من كونهم يملكون النفع والضرر، فإن ذلك إلى الله وحده لا شريك له، وعليهم أن يتوبوا إلى الله من هذا العمل، وأن يعترفوا بقصورهم وتقصيرهم، وأنهم ضعفاء أمام قدرة الله، وأنهم لا يملكون دفع الضرر عن أنفسهم فضلًا عن غيرهم، كما لا يملكون لأنفسهم جلب نفع فضلًا عن جلبه لغيرهم إلا ما شاء الله سبحانه وتعالى وعلى من يتوهم صدقهم أن يتوب إلى الله من تصديقهم, وأن يعلم أنهم كذبة، ولا حق لهم ولا حظ لهم في مثل هذه الأمور.
(270) سئل فضيلة الشيخ: عن أنواع الشرك؟
فأجاب بقوله: سبق في غير هذا الموضع أن التوحيد يتضمن إثباتًا ونفيًّا، وأن الاقتصار فيه على النفي تعطيل، والاقتصار فيه على الإثبات لا يمنع المشاركة؛ فلهذا لا بد في التوحيد من النفي والإثبات، فمن لم يثبت حق الله عز وجل على هذا الوجه فقد أشرك.
والشرك نوعان: شرك أكبر مخرج عن الملة، وشرك دون ذلك.
النوع الأول: الشرك الأكبر وهو: "كل شرك أطلقه الشارع وهو يتضمن خروج الإنسان عن دينه" مثل أن يصرف شيئًا من أنواع العبادة لله عز وجل لغير الله، كأن يصلي لغير الله، أو يصوم لغير الله، أو يذبح(2/202)
لغير الله، وكذلك من الشرك الأكبر أن يدعو غير الله عز وجل مثل أن يدعو صاحب قبر، أو يدعو غائبًا ليغيثه من أمر لا يقدر عليه إلا الله عز وجل, وأنواع الشرك معلومة فيما كتبه أهل العلم.
النوع الثاني: الشرك الأصغر وهو: "كل عمل قولي أو فعلي أطلق عليه الشرع وصف الشرك ولكنه لا يخرج من الملة" مثل الحلف بغير الله فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك» . فالحالف بغير الله الذي لا يعتقد أن لغير الله تعالى من العظمة ما يماثل عظمة الله فهو مشرك شركًا أصغر، سواء كان هذا المحلوف به معظمًا من البشر أم غير معظم، فلا يجوز الحلف بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا برئيس ولا وزير, ولا يجوز الحلف بالكعبة، ولا بجبريل، وميكائيل؛ لأن هذا شرك، لكنه شرك أصغر لا يخرج من الملة.
ومن أنواع الشرك الأصغر: الرياء مثل أن يقوم الإنسان يصلي لله عز وجل ولكنه يزين صلاته؛ لأنه يعلم أن أحدًا من الناس ينظر إليه فيزين صلاته من أجل مراءاة الناس فهذا مشرك شركًاأصغر؛ لأنه فعل العبادة لله لكن أدخل عليها هذا التزيين مراءاة للخلق، وكذلك لو أنفق ماله في شيء يتقرب به إلى الله لكنه أراد أن يمدحه الناس بذلك, فإنه مشرك شركًا أصغر، وأنواع الشرك الأصغر كثيرة معلومة في كتب أهل العلم.
(271) وسئل فضيلة الشيخ: هل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} يشمل الشرك الأصغر؟(2/203)
فأجاب قائلًا: اختلف في ذلك أهل العلم: فمنهم من قال: يشمل كل شرك ولو كان أصغر كالحلف بغير الله فإن الله لا يغفره، وأما بالنسبة لكبائر الذنوب كالخمر والزنا فإنها تحت المشيئة إن شاء الله غفرها وإن شاء أخذ بها.
وشيخ الإسلام اختلف كلامه، فمرة قال: الشرك لا يغفره الله ولو كان أصغر، ومرة قال: الذي لا يغفره الله هو الشرك الأكبر.
وعلى كل حال يجب الحذر من الشرك مطلقًا؛ لأن العموم يحتمل أن يكون داخلًا فيه الأصغر لأن قوله: {أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} أن وما بعدها في تأويل مصدر تقديره "إشراكًا به" فهو نكرة في سياق النفي فتفيد العموم.
(272) سئل فضيلة الشيخ: عن الجمع بين قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،: «لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس حول ذي الخلصة» . وكذلك ما وقع إبان ظهور الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الشيطان يئس أن يعبد في جزيرة العرب» ؟
فأجاب فضيلته بقوله: الجمع بين النصوص المذكورة أن يأس الشيطان أن يعبد في جزيرة العرب لا يقتضي عدم الوقوع؛ لأنه لا يعلم الغيب، فالشيطان لما رأى تخليص الجزيرة من الشرك وتوطيد دعائم التوحيد ظن أن لا شرك في الجزيرة بعد هذا، ولكن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الذي ينطق بالوحي من الله تعالى، أخبر أنه سيكون ذلك.
وأما وقوع ذلك في الجزيرة إبان ظهور الشيخ محمد بن عبد الوهاب(2/204)
رحمه الله تعالى فلا يخلو إما أن يكون لقلة العلماء، أو لعجزهم عن الإصلاح لغلبة الجهل وكثرة الجهال. والله أعلم بحقيقة الحال.
(273) سئل فضيلة الشيخ: ما معنى قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الشيطان يئس أن يعبد في هذه الجزيرة» "؟
فأجاب قائلًا: يأس الشيطان أن يعبد في جزيرة العرب لا يدل على عدم الوقوع؛ لأنه لما حصلت الفتوحات وقوي الإسلام ودخل الناس في دين الله أفواجًا أيس أن يعبد سوى الله في هذه الجزيرة. فالحديث خبر عما وقع في نفس الشيطان ذلك الوقت ولكنه لا يدل على انتفائه في الواقع.
(274) سئل فضيلته: عن حكم الرياء؟
فأجاب بقوله: الرياء من الشرك الأصغر؛ لأن الإنسان أشرك في عبادته أحدًا غير الله، وقد يصل إلى الشرك الأكبر، وقد مثل ابن القيم رحمه الله للشرك الأصغر بـ "يسير الرياء" وهذا يدل على أن كثير الرياء قد يصل إلى الشرك الأكبر.
قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} والعمل الصالح ما كان صوابًا خالصًا، والخالص ما قصد به وجه الله، والصواب: ما كان على شريعة الله. فما قصد به غير الله فليس بصالح، وما خرج عن شريعة الله فليس بصالح, ويكون مردودًا على فاعله(2/205)
لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد» وقال: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» . الحديث. قال بعض العلماء: هذان الحديثان ميزان الأعمال فحديث النية ميزان الأعمال الباطنة والحديث الآخر ميزان الأعمال الظاهرة.
(275) سئل فضيلة الشيخ أعلى الله درجته في المهديين: عن حكم العبادة إذا اتصل بها الرياء؟
فأجاب قائلًا: حكم العبادة إذا اتصل بها الرياء أن يقال: اتصال الرياء على ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أن يكون الباعث على العبادة مراءاة الناس من الأصل كمن قام يصلي لله مراءاة الناس من أجل أن يمدحه الناس على صلاته فهذا مبطل للعبادة.
الوجه الثاني: أن يكون مشاركًا للعبادة في أثنائها: بمعنى أن يكون الحامل له في أول أمره الإخلاص لله، ثم طرأ الرياء في أثناء العبادة، فهذه العبادة لا تخلو من حالين:
الحال الأولى: أن لا يرتبط أول العبادة بآخرها فأولها صحيح بكل حال، وآخرها باطل. مثال ذلك رجل عنده مائة ريال يريد أن يتصدق بها فتصدق بخمسين منها صدقة خالصة، ثم طرأ عليه الرياء في الخمسين الباقية، فالأولى صدقة صحيحة مقبولة، والخمسون الباقية صدقة باطلة لاختلاط الرياء فيها بالإخلاص.
الحال الثانية: أن يرتبط أول العبادة بآخرها فلا يخلو الإنسان حينئذ من أمرين:(2/206)
الأمر الأول: أن يدافع الرياء ولا يسكن إليه بل يعرض عنه ويكرهه، فإنه لا يؤثر شيئًا لقوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم» .
الأمر الثاني: أن يطمئن إلى هذا الرياء ولا يدافعه، فحينئذ تبطل جميع العبادة؛ لأن أولها مرتبط بآخرها. مثال ذلك أن يبتدئ الصلاة مخلصًا بها لله تعالى ثم يطرأ عليها الرياء في الركعة الثانية فتبطل الصلاة كلها لارتباط أولها بآخرها.
الوجه الثالث: أن يطرأ الرياء بعد انتهاء العبادة فإنه لا يؤثر عليها ولا يبطلها؛ لأنها تمت صحيحة فلا تفسد بحدوث الرياء بعد ذلك.
وليس من الرياء أن يفرح الإنسان بعلم الناس بعبادته؛ لأن هذا إنما طرأ بعد الفراغ من العبادة، وليس من الرياء أن يسر الإنسان بفعل الطاعة؛ لأن ذلك دليل إيمانه قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من سرته حسنته وساءته سيئته فذلك المؤمن» . وقد سئل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عن ذلك فقال: «تلك عاجل بشرى المؤمن» .
(276) سئل فضيلة الشيخ: يتحرج بعض طلبة العلم الشرعي عند قصدهم العلم والشهادة فكيف يتخلص طالب العلم من هذا الحرج؟
فأجاب بقوله: يجاب عن ذلك بأمور:
أحدها: أن لا يقصدوا بذلك الشهادة لذاتها، بل يتخذون هذه الشهادات وسيلة للعمل في الحقول النافعة للخلق؛ لأن الأعمال في الوقت الحاضر مبنية على الشهادات، والناس لا يستطيعون الوصول إلى منفعة(2/207)
الخلق إلا بهذه الوسيلة وبذلك تكون النية سليمة.
الثاني: أن من أراد العلم قد لا يجده إلا في هذه الكليات فيدخل فيها بنية طلب العلم ولا يؤثر عليه ما يحصل له من الشهادة فيما بعد.
الثالث: أن الإنسان إذا أراد بعمله الحسنيين حسنى الدنيا، وحسنى الآخرة فلا شيء عليه في ذلك؛ لأن الله يقول: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} . وهذا ترغيب في التقوى بأمر دنيوي.
فإن قيل: من أراد بعمله الدنيا كيف يقال: بأنه مخلص؟
أجيب: أنه أخلص العبادة ولم يرد بها الخلق إطلاقًا فلم يقصد مراءاة الناس ومدحهم على عبادته بل قصد أمرًا ماديًّا من ثمرات العبادة فليس كالمرائي الذي يتقرب إلى الناس بما يتقرب به إلى الله ويريد أن يمدحوه به، لكنه بإرادة هذا الأمر المادي نقص إخلاصه فصار معه نوع من الشرك وصارت منزلته دون منزلة من أراد الآخرة.
وبهذه المناسبة أود أن أنبه على أن بعض الناس عندما يتكلمون على فوائد العبادات يحولونها إلى فوائد دنيوية فمثلًا يقولون: في الصلاة رياضة وإفادة للأعصاب، وفي الصيام فائدة لإزالة الفضلات وترتيب الوجبات، والمفروض ألا تجعل الفوائد الدنيوية هي الأصل؛ لأن ذلك يؤدي إلى إضعاف الإخلاص والغفلة عن إرادة الآخرة، ولذلك بين الله تعالى في كتابه عن حكمة الصوم مثلًا أنه سبب للتقوى، فالفوائد الدينية هي الأصل، والدنيوية ثانوية، وعندما نتكلم عند عامة الناس فإننا نخاطبهم(2/208)
بالنواحي الدينية، وعندما نتكلم عند من لا يقتنع إلا بشيء مادي فإننا نخاطبه بالنواحي الدينية والدنيوية ولكل مقام مقال.
(277) سئل فضيلة الشيخ حفظه الله: عندما يهم الإنسان بعمل الخير، يأتي الشيطان فيوسوس له ويقول: إنك تريد ذلك رياء وسمعة. فيبعد عن فعل الخير، فكيف يمكن تجنب مثل هذا الأمر؟
فأجاب فضيلته بقوله: يمكن تجنب مثل هذا الأمر بالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، والمضي قدمًا في فعل الخير، ولا يلتفت إلى هذه الوساوس التي تثبطه عن فعل الخير، وهو إذا أعرض عن هذا واستعاذ بالله من الشيطان الرجيم زال عنه ذلك بإذن الله.
(278) سئل فضيلة الشيخ: جاء في الحديث «إنه لا يأتي على الناس زمان إلا وما بعده شر منه» ولكن ماذا يقال: عن أن هناك أزمنة انتشر فيها الشرك والبدع والجهل ثم أتى زمن بعدها كان خيرًا منها حيث محي الشرك أو تقلص وزالت البدع وانتشر العلم ومن أمثلة ذلك الفترة التي سبقت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ثم الفترة التي رافقت دعوته؟
فأجاب بقوله: هذا الحديث قاله أنس بن مالك رضي الله عنه حين شكا الناس إليه ما يجدون من الحجاج الثقفي فحدثهم بهذا الحديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، «إنه لا يأتي على الناس زمان إلا وما بعده»(2/209)
«شر منه حتى تلقوا ربكم» . والإنسان لا ينظر إلى جهة من الأرض أو إلى جيل من الناس وإنما النظر للعموم، فإذا قدر أن هذه الجهة من الأرض زال عنها الشرك والفتن بعد أن كان حالًّا فيها فلا يعني ذلك أنه رفع عن جميع الأرض أو خف في جميع الأرض، وهذا النص يقصد به العموم لا كل طائفة أو كل جهة من الأرض بعينها، وقد يقال: إن هذا الحديث بناء على الأغلب، فما وقع من خير بعد الشر ولو كان عامًّا فإنه يكون مخصصًا لهذا الحديث.(2/210)
الحلف(2/211)
(279) سئل فضيلة الشيخ: عن حكم حلف بالمصحف؟
فأجاب قائلًا: هذا السؤال ينبغي أن نبسط الجواب فيه, وذلك أن القسم بالشيء يدل على تعظيم ذلك المقسم به تعظيمًا خاصًّا لدى المقسم، ولهذا لا يجوز لأحد أن يحلف إلا بالله تعالى بأحد أسمائه، أو بصفة من صفاته مثل أن يقول: والله لأفعلن، ورب الكعبة لأفعلن، وعزة الله لأفعلن، وما أشبه ذلك من صفات الله تعالى.
والمصحف يتضمن كلام الله، وكلام الله تعالى من صفاته وهو -أعني كلام الله- صفة ذاتية فعلية؛ لأنه بالنظر إلى أصله وأن الله لم يزل ولا يزال موصوفًا به؛ لأن الكلام كمال فهو من هذه الناحية من صفات الله الذاتية؛ إذ لم يزل ولا يزال متكلمًا فعالًا لما يريده، وبالنظر إلى آحاده يكون من الصفات الفعلية؛ لأنه يتكلم متى شاء قال الله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} فقرن القول بالإرادة وهو دليل على أن كلام الله يتعلق بإرادته ومشيئته سبحانه وتعالى, والنصوص في هذا متضافرة كثيرة, وأن كلام الله تحدث آحاده حسب ما تقتضيه حكمته، وبهذا نعرف بطلان قول من يقول: إن كلام الله أزلي، ولا يمكن أن يكون تابعًا لمشيئته، وأنه هو المعنى القائم بنفسه، وليس هو الشيء المسموع الذي يسمعه من يكلمه الله عز وجل, فإن هذا قول باطل حقيقته أن قائله جعل كلام الله المسموع مخلوقًا.(2/213)
وقد ألف شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- كتابًا يعرف باسم "التسعينية" بين فيه بطلان هذا القول من تسعين وجهًا.
فإذا كان المصحف يتضمن كلام الله، وكلام الله تعالى من صفاته فإنه يجوز الحلف بالمصحف بأن يقول الإنسان: والمصحف, ويقصد ما فيه من كلام الله عز وجل وقد نص على ذلك فقهاء الحنابلة -رحمهم الله- ومع هذا فإن الأولى للإنسان أن يحلف بما لا يشوش على السامعين بأن يحلف باسم الله عز وجل فيقول: والله، ورب الكعبة، أو والذي نفسي بيده وما أشبه ذلك من الأشياء التي لا تستنكرها العامة ولا يحصل لديهم فيها تشويش، فإن تحديث الناس بما يعرفون وتطمئن إليه قلوبهم خير وأولى، وإذا كان الحلف إنما يكون بالله وأسمائه وصفاته؛ فإنه لا يجوز أن يحلف أحد بغير الله لا بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا بجبريل، ولا بالكعبة، ولا بغير ذلك من المخلوقات، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت» .
وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك» . فإذا سمع الإنسان شخصًا يحلف بالنبي، أو بحياة النبي، أو بحياة شخص آخر فلينهه عن ذلك، وليبين له أن هذا حرام ولا يجوز، ولكن ليكن نهيه وبيانه على وفق الحكمة حيث يكون باللطف واللين والإقبال على الشخص, وهو يريد نصحه وانتشاله من هذا المحرم؛ لأن بعض الناس تأخذه الغيرة عند الأمر والنهي فيغضب ويحمر وجهه وتنتفخ أوداجه وربما يشعر في هذه الحال أنه ينهاه انتقامًا لنفسه فيلقي الشيطان في نفسه هذه العلة، ولو أن الإنسان أنزل الناس منازلهم ودعا إلى الله بالحكمة واللين والرفق لكان ذلك أقرب إلى القبول وقد ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله يعطي على»(2/214)
«الرفق ما لا يعطي على العنف» . ولا يخفى على الكثير ما حصل من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في قصة «الأعرابي الذي جاء إلى المسجد فبال في طائفة منه فزجره الناس، وصاحوا به، فنهاهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك، فلما قضى بوله دعاه النبي عليه الصلاة والسلام، وقال: "إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من الأذى أو القذر وإنما هي للتكبير والتسبيح وقراءة القرآن» . أو كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم أمر أصحابه أن يصبوا على البول ذنوبًا من ماء، فبهذا زالت المفسدة وطهر المكان، وحصل المقصود بالنسبة لنصيحة الأعرابي الجاهل، وهكذا ينبغي لنا نحن في دعوة عباد الله إلى دين الله أن نكون داعين إلى الله سبحانه وتعالى فنسلك الطريق التي تكون أقرب إلى إيصال الحق إلى قلوب الخلق وإصلاحهم والله الموفق.
(280) وسئل فضيلة الشيخ: عن حكم الحلف بغير الله تعالى؟ وهل منه ما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من قوله: «أفلح وأبيه إن صدق» أفتونا مأجورين؟
فأجاب بقوله: الحلف بغير الله عز وجل مثل أن يقول: وحياتك، أو حياتي، أو والنبي أو والسيد الرئيس، أو والشعب، أو ما أشبه ذلك، كل هذا محرم بل هو من الشرك؛ لأن هذا النوع من التعظيم لا يصلح إلا لله عز وجل ومن عظم غير الله بما لا يكون إلا لله فهو شرك، لكن لما كان هذا الحالف لا يعتقد أن عظمة المحلوف به كعظمة الله لم يكن الشرك شركًا أكبر بل كان شركًا أصغر، فمن حلف بغير الله فقد أشرك شركًا أصغر، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تحلفوا بآبائكم، من كان»(2/215)
«حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت» . وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك» . فلا تحلف بغير الله أيًّا كان المحلوف به حتى لو كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو جبريل أو من دونهما من الرسل من الملائكة، أو البشر، أو من دون الرسل فلا تحلف بشيء سوى الله عز وجل.
وأما قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أفلح وأبيه إن صدق» فهذه الكلمة "وأبيه" اختلف الحفاظ فيها:
فمنهم من أنكرها وقال: لم تصح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وبناء على ذلك فلا إشكال في الموضوع؛ لأن المعارض لا بد أن يكون قائمًا وإذا لم يكن المعارض قائمًا فهو غير مقاوم ولا يلتفت إليه.
وعلى القول بأنها ثابتة فإن الجواب على ذلك: أن هذا من المشكل، والنهي عن الحلف بغير الله من المحكم، فيكون لدينا محكم ومتشابه وطريق الراسخين في العلم في المحكم والمتشابه أن يدعوا المتشابه ويأخذوا بالمحكم قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} .
ووجه كونه متشابهًا أن فيه احتمالات متعددة:
1 - قد يكون هذا قبل النهي.
2 - قد يكون هذا خاصًا بالرسول عليه الصلاة والسلام؛ لبعد الشرك في حقه.(2/216)
3 - قد يكون هذا مما يجري على اللسان بغير قصد.
ولما كانت هذه الاحتمالات وغيرها واردة على هذه الكلمة -إن صحت- عن الرسول، عليه الصلاة والسلام، صار الواجب علينا أن نأخذ بالمحكم وهو النهي عن الحلف بغير الله.
ولكن يقول: بعض الناس إن الحلف بغير الله قد جرى على لساني ويصعب علي أن أدعه فما الجواب؟
نقول: إن هذا ليس بحجة بل جاهد نفسك على تركه والخروج منه, وحاول بقدر ما تستطيع أن تمحو من لسانك هذه الكلمة؛ لأنها شرك, والشرك خطره عظيم ولو كان أصغر حتى إن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: "الشرك لا يغفره الله ولو كان أصغر". وقال ابن مسعود رضي الله عنه: " لئن أحلف بالله كاذبًا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقًا ". قال شيخ الإسلام: وذلك لأن سيئة الشرك أعظم من سيئة الكبيرة.
(281) وسئل أيضًا: عن حكم الحلف بغير الله؟ والحلف بالقرآن الكريم؟
فأجاب بقوله: الحلف بغير الله أو بغير صفة من صفاته محرم وهو نوع من الشرك؛ ولهذا قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تحلفوا بآبائكم، من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت» . وجاء عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه قال: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك» . رواه الترمذي وحسنه وصححه الحاكم. وثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه قال: " «من»(2/217)
«قال واللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله» . وهذا إشارة إلى أن الحلف بغير الله شرك يطهر بكلمة الإخلاص لا إله إلا الله.
وعلى هذا فيحرم على المسلم أن يحلف بغير الله سبحانه وتعالى لا بالكعبة، ولا بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا بجبريل ولا بولي من أولياء الله، ولا بخليفة من خلفاء المسلمين، ولا بالشرف، ولا بالقومية، ولا بالوطنية كل حلف بغير الله فهو محرم وهو نوع من الشرك والكفر.
وأما الحلف بالقرآن الكريم فإنه لا بأس به؛ لأن القرآن الكريم كلام الله سبحانه وتعالى تكلم الله به حقيقة بلفظه مريدًا لمعناه وهو سبحانه وتعالى موصوف بالكلام فعليه يكون الحلف بالقرآن الكريم حلفًا بصفة من صفات الله سبحانه وتعالى وذلك جائز.
(282) وسئل: عن حكم الحلف بغير الله؟ والحلف بآيات الله؟
فأجاب قائلًا: الحلف لا يجوز إلا بالله سبحانه وتعالى أو صفة من صفاته، أما الحلف بغير الله فهو شرك سواء كان المحلوف به وجيهًا عند الله عز وجل أم كان من سائر العباد؛ ولهذا لا يجوز لنا أن نحلف بالنبي، أو أن نحلف بجبريل، أو بالكعبة، أو بأي شيء من المخلوقات قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت» . وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك» . والنبي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هو نفسه لا يرضى أن يحلف به «ولما قال له رجل: ما شاء الله وشئت قال: "أجعلتني لله ندًّا»(2/218)
«بل ما شاء الله وحده» .
فيحلف المرء بالله عز وجل فيقول: والله، والرحمن، ورب العالمين، ومجري السحاب، ومنزل الكتاب وما أشبه ذلك، وكذلك يحلف بصفاته سبحانه وتعالى مثل وعزة الله، وقدرة الله، وما أشبه ذلك، ويحلف بالمصحف؛ لأنه كلام الله، لأنه لا يريد الحلف بالورق والجلود وإنما يريد الحلف بما تضمنته هذه الأوراق.
وأما قول السائل: هل يجوز الحلف بآيات الله بأن يقول الإنسان: وآيات الله أو بآيات الله لأفعلن كذا؟
فنقول في الجواب: إن قصد بالآيات الآيات الشرعية وهي القرآن الكريم فلا بأس، وإن قصد بالآيات الآيات الكونية كالشمس، والقمر والليل والنهار فهذا لا يجوز. والله أعلم.
(283) وسئل فضيلته عن حكم القسم بقول: "وحياة الله"، وقول المرأة لزوجها: "حرام علي ربنا أن تفعل كذا"، وقولهم: "حد الله بيني وبينك "؟
فأجاب بقوله: أما صيغة القسم بقول الإنسان: "وحياة الله" فهذه لا بأس بها؛ لأن القسم يكون بالله سبحانه وتعالى وبأي اسم من أسمائه، ويكون كذلك بصفاته كالحياة، والعلم، والعزة والقدرة وما أشبه ذلك, فيجوز أن يقول الحالف: وحياة الله، وعلم الله، وعزة الله، وقدرة الله، وما أشبه هذا مما يكون من صفات الله سبحانه وتعالى, كما يجوز القسم(2/219)
بالقرآن الكريم لأنه كلام الله، وبالمصحف لأنه مشتمل على كلام الله سبحانه وتعالى.
أما قول تلك المرأة: "حرام علي ربنا" فإذا كانت تقصد أن الله حرام عليها فهذا لا معنى له، ولا يجوز مثل هذا الكلام، فما معنى هذا التحريم؟ هل معناه عبادة الله حرام عليها لا أدري ما معنى هذا الكلام.
أما إذا كانت تريد حرام علي هذا الشيء، وحرام علي أن لا تفعل أنت هذا الشيء وتقصد بربنا أي يا ربنا فهذه صيغة لتحريم الشيء، والشيء إذا حرم وقصد به الإنسان الامتناع عنه صار بمنزلة اليمين كما قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} . فجعل الله هذا التحريم يمينًا وقال: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} فالإنسان إذا قال: هذا حرام علي، أو حرام علي إن لم أفعل كذا وقصده بذلك الامتناع عن هذا الشيء فحكمه حكم اليمين بمعنى أن نقول كأنك قلت: "والله لا أفعل هذا الشيء، أو والله لا ألبس هذا الثوب، أو والله لا آكل هذا الطعام" فإذا حنث كفر كفارة يمين.
وأما بالنسبة للصيغة الثالثة: "حد الله بيني وبينك" فهذا كأنه من باب الاستعاذة بالله عز وجل والاستعاذة بالله أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أن يجاب الإنسان عليها بمعنى أنه إذا استعاذ الرجل بالله عز وجل وجب علينا أن نعيذه، إلا إذا كان ظالمًا في هذه الاستعاذة فإن الله سبحانه وتعالى لا يجيره إذا كان ظالمًا مثل لو أردنا أن نأخذ الزكاة من(2/220)
شخص لا يؤديها فقال: أعوذ بالله منكم، فإننا لا نعيذه لأن إعاذته مقتضاها إقراره على معصية الله عز وجل, والله سبحانه وتعالى لا يرضى ذلك فإذا كان الله لا يرضاه فنحن لا نوافقه عليه، فالمهم أن من استعاذ بالله سبحانه وتعالى فإننا مأمورون بإعاذته وتجنبه ما لم يستعذ بالله من أمر واجب عليه يخاف أن نلزمه به فإننا لا نعيذه في هذه الحال. والله المستعان.
(284) وسئل -حفظه الله تعالى-: عن حكم الحلف بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والكعبة؟ والشرف والذمة؟ وقول الإنسان "بذمتي "؟
فأجاب بقوله: الحلف بالنبي، عليه الصلاة والسلام، لا يجوز بل هو نوع من الشرك، وكذلك الحلف بالكعبة لا يجوز بل هو نوع من الشرك؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والكعبة كلاهما مخلوقان والحلف بأي مخلوق نوع من الشرك.
وكذلك الحلف بالشرف لا يجوز، وكذلك الحلف بالذمة لا يجوز؛ لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك» . وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تحلفوا بآبائكم، من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت» .
لكن يجب أن نعلم أن قول الإنسان: "بذمتي" لا يراد به الحلف ولا القسم بالذمة، وإنما يراد بالذمة العهد، يعني هذا على عهدي ومسئوليتي هذا هو المراد بها، أما إذا أراد بها القسم فهي قسم بغير الله فلا يجوز، لكن(2/221)
الذي يظهر لي أن الناس لا يريدون بها القسم إنما يريدون بالذمة العهد والذمة بمعنى العهد.
(285) وسئل: عن قول الإنسان: "والله وحياتك "؟
فأجاب قائلًا: قوله: "والله وحياتك" فيها نوعان من الشرك:
الأول: الحلف بغير الله.
الثاني: الإشراك مع الله بقوله: "والله وحياتك" وضمها إلى الله بالواو المقتضية للتسوية.
والقسم بغير الله إن اعتقد أن المقسم به بمنزلة الله في العظمة فهو شرك أكبر وإلا فهو شرك أصغر.
(286) وسئل فضيلته: عن حكم القسم بصفة من صفات الله تعالى؟
فأجاب قائلًا: القسم بصفة من صفات الله تعالى جائز مثل أن تقول: وعزة الله لأفعلن، وقدرة الله لأفعلن وما أشبه ذلك، وقد نص على هذا أهل العلم حتى قالوا: إنه لو أقسم بالمصحف لكان جائزًا؛ لأن المصحف مشتمل على كلام الله وكلام الله من صفاته.
(287) سئل فضيلة الشيخ: عن حكم من لم يقتنع بالحلف بالله؟
فأجاب قائلًا: من لم يقتنع بالحلف بالله فلا يخلو ذلك من أمرين:
الأمر الأول: أن يكون ذلك من الناحية الشرعية فإنه يجب الرضا بالحلف بالله فيما إذا توجهت اليمين على المدعى عليه فحلف فيجب الرضا بهذا الحكم الشرعي.(2/222)
الأمر الثاني: أن يكون ذلك من الناحية الحسية، ففي هذا تفصيل:
أولًا: إذا كان الحالف موضع صدق وثقة فإنك ترضى بيمينه.
ثانيًا: إذا كان غير ذلك أن ترفض الرضا بيمينه، ولهذا «لما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لحويصة ومحيصة: "تبرئكم يهود بخمسين يمينًا" قالوا: كيف نرضى يا رسول الله بأيمان اليهود؟ فأقرهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ذلك.»
(
288) وسئل فضيلة الشيخ: عما يقوله بعض الناس: "أنا نصراني لو فعلت كذا.. "؟
فأجاب بقوله: هذا من باب اليمين فحكمه حكم اليمين، إذا حنث فيه يكفر كفارة يمين إذا تمت شروط الكفارة، لكن ينبغي للإنسان أن يحلف بالله عز وجل؛ لأن بعض الناس يظن أن هذه العبارة أوكد من الحلف بالله، فيريد أن يؤكد ما يقول بمثل هذه العبارة، ولكننا نقول: يفعل ما أرشد إليه النبي عليه الصلاة والسلام، في قوله: «من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت» .(2/223)
القبور(2/225)
(289) سئل فضيلة الشيخ: عمن يعبد القبور بالطواف حولها ودعاء أصحابها والنذر لهم إلى غير ذلك من أنواع العبادة؟
فأجاب بقوله: هذا السؤال سؤال عظيم، وجوابه يحتاج إلى بسط بعون الله -عز وجل- فنقول: إن أصحاب القبور ينقسمون إلى قسمين:
القسم الأول: قسم تُوفي على الإسلام ويُثني الناس عليه خيرًا فهذا يُرجى له الخير، ولكنه مفتقر إلى إخوانه المسلمين يدعون الله له بالمغفرة والرحمة وهو داخل في عموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} وهو بنفسه لا ينفع أحدًا إذ إنه ميت جثة لا يستطيع أن يدفع عن نفسه الضر ولا عن غيره، ولا أن يجلب لنفسه النفع ولا لغيره فهو محتاج إلى نفع إخوانه غير نافع لهم.
القسم الثاني من أصحاب القبور: من أفعاله تؤدي إلى فسقه الفسق المخرج من الملة كأولئك الذين يدعون أنهم أولياء، ويعلمون الغيب ويشفون من المرض، ويجلبون الخير والنفع بأسباب غير معلومة حسًّا ولا شرعًا، فهؤلاء الذين ماتوا على الكفر، لا يجوز الدعاء لهم ولا الترحم عليهم؛ لقول الله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ}(2/227)
وهم لا ينفعون أحدًا ولا يضرونه ولا يجوز لأحد أن يتعلق بهم، وإن قُدر أن أحدًا رأى كرامات لهم مثل أن يتراءى له أن في قبورهم نورًا، أو أنه يخرج منها رائحة طيبة أو ما أشبه ذلك وهم معروفون بأنهم ماتوا على الكفر فإن هذا من خداع إبليس وغروره ليفتن هؤلاء بأصحاب هذه القبور.
وإنني أحذر إخواني المسلمين من أن يتعلقوا بأحد سوى الله عز وجل, فإنه سبحانه وتعالى هو الذي بيده ملكوت السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله، ولا يجيب دعوة المضطر إلا الله، ولا يكشف السوء إلا الله، قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} . ونصيحتي لهم أيضًا أن لا يقلدوا في دينهم ولا يتبعوا أحدًا إلا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لقول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} ولقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} .
ويجب على جميع المسلمين أن يَزِنُوا أعمال من يدعي الولاية بما جاء في الكتاب والسنة فإن وافق الكتاب والسنة فإنه يرجى أن يكون من أولياء الله, وإن خالف الكتاب والسنة فليس من أولياء الله, وقد ذكر الله في كتابه ميزانًا قسطًا عدلًا في معرفة أولياء الله حيث قال: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} .(2/228)
فمن كان مؤمنًا تقيًّا كان لله وليًّا، ومن لم يكن كذلك فليس بولي لله، وإن كان معه بعض الإيمان والتقوى كان فيه شيء من الولاية، ومع ذلك فإننا لا نجزم لشخص بعينه بشيء ولكننا نقول على سبيل العموم: كل من كان مؤمنًا تقيًّا كان لله وليًّا.
وليعلم أن الله عز وجل قد يفتن الإنسان بشيء من مثل هذه الأمور, فقد يتعلق الإنسان بالقبر فيدعو صاحبه أو يأخذ من ترابه يتبرك به فيحصل مطلوبه, ويكون ذلك فتنة من الله عز وجل؛ لهذا الرجل لأننا نعلم أن هذا القبر لا يجيب الدعاء, وأن هذا التراب لا يكون سببًا لزوال ضرر أو جلب نفع نعلم ذلك لقول الله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} والآيات في هذا المعنى كثيرة تدل على أن كل من دعي من دون الله فلن يستجيب الدعاء ولن ينفع الداعي، ولكن قد يحصل المطلوب المدعو به عند دعاء غير الله فتنة وامتحانًا ونقول: إنه حصل هذا الشيء عند الدعاء -أي عند دعاء هذا الذي دعي من دون الله- لا بدعائه وفرق بين حصول الشيء بالشيء، وبين حصول الشيء عند الشيء, فإننا نعلم علم اليقين أن دعاء غير الله(2/229)
ليس سببًا لجلب النفع أو دفع الضرر بالآيات الكثيرة التي ذكرها الله عز وجل في كتابه, ولكن قد يحصل الشيء عند هذا الدعاء فتنة وامتحانًا، والله تعالى قد يبتلي الإنسان بأسباب المعصية؛ ليعلم سبحانه وتعالى من كان عبدًا لله ومن كان عبدًا لهواه، ألا ترى إلى أصحاب السبت من اليهود حيث حرم الله عليهم أن يصطادوا الحيتان في يوم السبت فابتلاهم الله عز وجل فكانت الحيتان تأتي يوم السبت بكثرة عظيمة وفي غير يوم السبت تختفي فطال عليهم الأمد، وقالوا: كيف نحرم أنفسنا هذه الحيتان ثم فكروا وقدروا ونظروا فقالوا: نجعل شبكة ونضعها يوم الجمعة ونأخذ الحيتان منها يوم الأحد، فأقدموا على هذا الفعل الذي هو حيلة على محارم الله فقلبهم الله قردة خاسئين قال الله تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} وقال عز وجل: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} فانظر كيف يسر الله لهم هذه الحيتان في اليوم الذي منعوا من صيدها فيه ولكنهم -والعياذ بالله- لم يصبروا فقاموا بهذه الحيلة على محارم الله.
ثم انظر إلى ما حصل لأصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حيث ابتلاهم الله تعالى وهم محرمون بالصُّيود المحرمة على المحرم فكانت في متناول أيديهم ولكنهم رضي الله عنهم لم يجرءوا على شيء منها(2/230)
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} كانت الصيود في متناول أيديهم يمسكون الصيد العادي باليد وينالون الصيد الطائر بالرماح فيسهل عليهم جدا، ولكنهم رضي الله عنهم خافوا الله عز وجل فلم يقدموا على أخذ شيء من الصيود.
وهكذا يجب على المرء إذا هيئت له أسباب الفعل المحرم أن يتقي الله عز وجل, وأن لا يقدم على فعل هذا المحرم, وأن يعلم أن تيسير أسبابه من باب الابتلاء والامتحان فليحجم وليصبر فإن العاقبة للمتقين.
(290) وسئل -جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء- عن حكم النذر والتبرك بالقبور، والأضرحة؟
فأجاب -حفظه الله تعالى- بقوله: النذر عبادة لا يجوز إلا لله عز وجل وكل من صرف شيئًا من أنواع العبادة لغير الله فإنه مشرك كافر، قد حرم الله عليه الجنة، ومأواه النار، قال الله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} .
وأما التبرك بها: فإن كان يعتقد أنها تنفع من دون الله عز وجل فهذا شرك في الربوبية مخرج عن الملة، وإن كان يعتقد أنها سبب وليست تنفع من دون الله فهو ضال غير مصيب، وما اعتقده فإنه من الشرك الأصغر، فعلى من ابتلي بمثل هذه المسائل أن يتوب إلى الله سبحانه وتعالى, وأن يقلع عن ذلك قبل أن يفاجئه الموت، فينتقل من الدنيا على(2/231)
أسوأ حال، وليعلم أن الذي يملك الضر والنفع هو الله سبحانه وتعالى, وأنه هو ملجأ كل أحد، كما قال الله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} ، وبدلًا من أن يتعب نفسه في الالتجاء إلى قبر فلان وفلان، ممن يعتقدونهم أولياء، ليلتفت إلى ربه عز وجل وليسأله جلب النفع ودفع الضر، فإن الله سبحانه وتعالى هو الذي يملك هذا.
(291) سئل فضيلة الشيخ: كيف نجيب عباد القبور الذين يحتجون بدفن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المسجد النبوي؟
فأجاب بقوله: الجواب عن ذلك من وجوه:
الوجه الأول: أن المسجد لم يبن على القبر بل بني في حياة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الوجه الثاني: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يدفن في المسجد حتى يقال: إن هذا من دفن الصالحين في المسجد؛ بل دفن صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيته.
الوجه الثالث: أن إدخال بيوت الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومنها بيت عائشة مع المسجد ليس باتفاق الصحابة, بل بعد أن انقرض أكثرهم، وذلك في عام أربعة وتسعين هجرية تقريبًا، فليس مما أجازه الصحابة؛ بل إن بعضهم خالف في ذلك, وممن خالف أيضًا سعيد بن المسيب.(2/232)
الوجه الرابع: أن القبر ليس في المسجد حتى بعد إدخاله؛ لأنه في حجرة مستقلة عن المسجد فليس المسجد مبنيًّا عليه، ولهذا جعل هذا المكان محفوظًا ومحوطًا بثلاثة جدران، وجعل الجدار في زاوية منحرفة عن القبلة أي أنه مثلث، والركن في الزاوية الشمالية حيث لا يستقبله الإنسان إذا صلى؛ لأنه منحرف، وبهذا يبطل احتجاج أهل القبور بهذه الشبهة.
(292) سُئل فضيلة الشيخ: عن رجل بنى مسجدًا وأوصى أن يدفن فيه فدفن فما العمل الآن؟
فأجاب بقوله: هذه الوصية أعني الوصية أن يدفن في المسجد غير صحيحة؛ لأن المساجد ليست مقابر، ولا يجوز الدفن في المسجد، وتنفيذ هذه الوصية محرم، والواجب الآن نبش هذا القبر وإخراجه إلى مقابر المسلمين.
(293) وسُئل فضيلته: عن حكم البناء على القبور؟
فأجاب بقوله: البناء على القبور محرم وقد نهى عنه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما فيه من تعظيم أهل القبور, وكونه وسيلة وذريعة إلى أن تعبد هذه القبور وتتخذ آلهة مع الله كما هو الشأن في كثير من الأبنية التي بنيت على القبور فأصبح الناس يشركون بأصحاب هذه القبور، ويدعونها مع الله تعالى ودعاء أصحاب القبور والاستغاثة بهم لكشف الكربات شرك أكبر وردة عن الإسلام. والله المستعان.(2/233)
(294) وسئل الشيخ -حفظه الله- تعالى: عن حكم دفن الموتى في المساجد؟
فأجاب قائلًا: الدفن في المساجد نهى عنه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونهى عن اتخاذ المساجد على القبور, ولعن من اتخذ ذلك وهو في سياق الموت يحذر أمته, ويذكر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن هذا من فعل اليهود والنصارى؛ ولأن هذا وسيلة إلى الشرك بالله عز وجل؛ لأن إقامة المساجد على القبور, ودفن الموتى فيها وسيلة إلى الشرك بالله عز وجل في أصحاب هذه القبور, فيعتقد الناس أن أصحاب هذه القبور المدفونين في المساجد ينفعون أو يضرون أو أن لهم خاصية تستوجب أن يُتَقَرب إليهم بالطاعات من دون الله سبحانه وتعالى, فيجب على المسلمين أن يحذروا من هذه الظاهرة الخطيرة, وأن تكون المساجد خالية من القبور مؤسسة على التوحيد والعقيدة الصحيحة قال الله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} فيجب أن تكون المساجد لله سبحانه وتعالى خالية من مظاهر الشرك تؤدى فيها عبادة الله وحده لا شريك له هذا هو واجب المسلمين. والله الموفق.
(295) وسئل: عن حكم الصلاة في المسجد الذي فيه قبر؟
فأجاب بقوله: إذا كان هذا المسجد مبنيًّا على القبر فإن الصلاة فيه محرمة, ويجب هدمه لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لعن اليهود والنصارى حيث اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد تحذيرًا مما صنعوا.
وأما إذا كان المسجد سابقًا على القبر فإنه يجب إخراج القبر من(2/234)
المسجد ويدفن فيما يدفن فيه المسلمون، ولا حرج علينا في هذه الحال إذا نبشنا هذا القبر؛ لأنه دُفِن في مكان لا يحل أن يدفن فيه فإن المساجد لا يحل دفن الموتى فيها.
والصلاة في المسجد إذا كان سابقًا على القبر صحيحة بشرط ألا يكون القبر في ناحية القبلة فيصلي الناس إليه؛ لأن النبي صلى عليه وسلم نهى عن الصلاة إلى القبور وبالإمكان إذا لم يتمكنوا من نبش القبر أن يهدموا سور المسجد.
(296) وسئل فضيلة الشيخ: عن المراد بقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تجعلوا بيوتكم قبورًا "؟
فأجاب بقوله: اختلف في المعنى المراد بقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تجعلوا بيوتكم قبورًا" على قولين:
القول الأول: أن المعنى لا تدفنوا فيها موتاكم وهذا ظاهر اللفظ، ولكنه أورد على ذلك دفن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيته. وأجيب بأنه من خصائصه.
القول الثاني: أن المعنى لا تجعلوا البيوت مثل المقابر لا تصلون فيها؛ لأنه من المتقرر عندهم أن المقابر لا يصلى فيها، ويؤيده ما جاء في بعض الطرق "اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم، ولا تجعلوها قبورًا".
وكلا المعنيين صحيح فإن الدفن في البيوت وسيلة إلى الشرك، ولأن العادة المتبعة من عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى يومنا أن الدفن مع المسلمين، ولأنه يضيق على الورثة وربما يستوحشون منه، وقد يحدث عنده من الأفعال المحرمة ما يتنافى مع مقصود الشارع وهو تذكير الآخرة.(2/235)
وفي هذا الحديث دليل على أن المقابر ليست محلا للصلاة؛ لأن اتخاذ المقابر مكانًا للصلاة سبب للشرك.
والحديث يدل أيضًا على أن الأفضل أن المرء يجعل من صلاته في بيته، وذلك جميع النوافل لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة» إلا ما ورد في الشرع أن يفعل في المسجد مثل صلاة الكسوف، وقيام الليل في رمضان، حتى ولو كانت في مكة أو المدينة فإن صلاة النافلة في بيتك أفضل لعموم الحديث، ولأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال ذلك وهو في المدينة.
(297) وسئل أيضًا: عن حكم إضاءة مقامات الأولياء ونذر ذلك؟
فأجاب فضيلته: إضاءة مقامات الأولياء والأنبياء التي يريد بها السائل قبورهم هذه الإضاءة محرمة, وقد ورد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعن فاعليها فلا يجوز أن تضاء هذه القبور وفاعل ذلك ملعون على لسان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فعلى هذا إذا نذر الإنسان إضاءة هذا القبر فإن نذره محرم وقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من نذر أن يعصي الله فلا يعصه» . فلا يجوز له أن يفي بهذا النذر.
ولكن هل يجب عليه أن يكفر كفارة يمين لعدم وفائه بنذره أو لا يجب؟ هذا محل خلاف بين أهل العلم، والاحتياط أن يكفر كفارة يمين عن عدم وفائه بهذا النذر. والله أعلم.
(298) وسئل فضيلة الشيخ: عن حكم إسراج المقابر؟
فأجاب قائلًا: المقبرة التي لا يحتاج الناس إليها كما لو كانت المقبرة(2/236)
واسعة، وفيها موضع قد انتهى الناس من الدفن فيه فلا حاجة إلى إسراجه، أما الموضع الذي يقبر فيه فيسرج ما حوله فقد يقال: بجوازه لأنها لا تسرج إلا بالليل فليس في ذلك ما يدل على تعظيم القبر بل اتخذت للحاجة. ولكن الذي نرى المنع مطلقًا للأسباب الآتية:
السبب الأول: أنه ليس هناك ضرورة.
السبب الثاني: أن الناس إذا وجدوا ضرورة لذلك فيمكنهم أن يحملوا سراجًا معهم.
السبب الثالث: أنه إذا فتح هذا الباب فإن الشر سيتسع في قلوب الناس ولا يمكن ضبطه فيما بعد.
أما إذا كان في المقبرة حجرة يوضع فيها اللبن ونحوه، فلا بأس بإضاءتها؛ لأنها بعيدة عن القبور، والإضاءة داخلة لا تشاهد.
(299) وسئل فضيلته: عن حكم السفر لزيارة قبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
فأجاب بقوله: شد الرحال إلى زيارة القبور أيًّا كانت هذه القبور لا يجوز؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى» والمقصود بهذا أنه لا تشد الرحال إلى أي مكان في الأرض لقصد العبادة بهذا الشد؛ لأن الأمكنة التي تخصص بشد الرحال هي المساجد الثلاثة فقط وما عداها من الأمكنة لا تشد إليها الرحال فقبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا تشد الرحال إليه, وإنما تشد الرحال إلى مسجده فإذا وصل المسجد فإن الرجال يسن لهم زيارة قبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأما النساء فلا يسن لهن زيارة قبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والله الموفق.(2/237)
(300) سئل فضيلة الشيخ: هناك مسجد في اليمن يقال: إنه مسجد معاذ بن جبل المشهور بمسجد الجند، ويأتي الناس لزيارته في الجمعة من شهر رجب من كل سنة رجالًا ونساء, فما حكم هذا العمل وما نصيحتكم لهؤلاء؟
فأجاب بقوله: هذا غير مسنون لأمور:
أولًا: لأنه لم يثبت أن معاذ بن جبل رضي الله عنه حين بعثه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى اليمن اختط مسجدًا له هناك، وإذا لم يثبت ذلك, فإن دعوى أن هذا المسجد له دعوى بغير بينة، وكل دعوى بغير بينة فإنها غير مقبولة.
ثانيًا: لو ثبت أن معاذ بن جبل اختط مسجدًا هناك فإنه لا يشرع إتيانه وشد الرحل إليه، بل شد الرحل إلى مساجد غير المساجد الثلاثة منهي عنه، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى» .
ثالثًا: أن تخصيص هذا العمل بشهر رجب بدعة أيضًا فإن شهر رجب لم يخص بشيء من العبادات لا بصوم ولا بصلاة وإنما حكمه حكم الأشهر الحرم الأخرى، والأشهر الحرم هي: رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم. هذه الأشهر التي قال الله تعالى عنها في كتابه: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} ولم يثبت أن شهر رجب خص من بينها في شيء لا بصيام ولا بقيام، فإذا خص الإنسان هذا الشهر بشيء من العبادات من غير أن يثبت ذلك عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان(2/238)
مبتدعًا لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» . فنصيحتي لإخوتي هؤلاء الذين يقومون بهذا العمل في الحضور إلى المسجد الذي يزعم أنه مسجد معاذ في اليمن أن لا يتعبوا أنفسهم ويتلفوا أموالهم ويضيعوها في هذا الأمر الذي لا يزيدهم من الله إلا بعدًا, ونصيحتي لهم أن يصرفوا همهم إلى ما ثبتت مشروعيته في كتاب الله وسنة نبيه، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا كافٍ للمؤمن، والله الموفق.
(301) سئل فضيلة الشيخ: هل استجاب الله دعوة نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن لا يجعل قبره وثنًا يعبد أو اقتضت حكمته غير ذلك؟
فأجاب بقوله: يقول ابن القيم: إن الله استجاب له فلم يذكر أن قبره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعل وثنًا، بل إنه حمي قبره بثلاثة جدران فلا أحد يصل إليه حتى يجعله وثنًا يعبد من دون الله، ولم نسمع في التاريخ أنه جعل وثنًا.
صحيح أنه يوجد أناس يغلون فيه، ولكن لم يصلوا إلى جعل قبره وثنًا. ولكن قد يعبدون الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولو في مكان بعيد.
(302) وسئل فضيلته: عن رجل توفي وبعد مدة رآه رجل في المنام وطلب منه أن يخرجه من القبر ويبني له مقامًا ففعل فما حكم هذا العمل؟(2/239)
فأجاب قائلًا: الحكم في هذا أنه فعل محرم، وأن المرائي التي ترى في المنام إذا كانت مخالفة للشرع فإنها باطلة، وهي من ضرب الأمثلة التي يضربها الشيطان ومن وحي الشيطان, فلا يجوز تنفيذها أبدًا؛ لأن الأحكام الشرعية لا تتغير بالمنامات، والواجب عليهم الآن أن يهدموا هذا المقام الذي بنوه له، وأن يردوه إلى مقابر المسلمين.
ونصيحتي لهؤلاء وأمثالهم أن يعرضوا كل ما رأوه في المنام على الكتاب والسنة، فما خالف الكتاب والسنة، فمطروح مردود ولا عبرة به، ولا يجوز للإنسان أن يعتمد في أمور دينه على هذه المرائي الكاذبة؛ لأن الشيطان أقسم بعزة الله عز وجل أن يغوي بني آدم إلا عباد الله المخلصين، فمن كان مخلِّصًا لله ومخلَّصًا له، متبعًا لدينه، مبتغيًا لدينه, فإنه يسلم من إغواء الشيطان وشره، وأما من كان على خلاف ذلك فإن الشيطان يتلاعب به في عبادته، وفي اعتقاداته، وفي أفكاره، وفي أعماله، فليحذره، يقول الله عز وجل: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} .
(303) سئل فضيلة الشيخ: عن مقبرة قديمة أصبحت طريقًا للناس والبهائم كيف يعمل بها؟
فأجاب بقوله: أود أن أبين بهذه المناسبة أن لأصحاب القبور حقوقًا؛ لأنهم مسلمون، ولهذا نهى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يوطأ على القبر وأن يجلس عليه، وقال: «لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتمضي إلى جلده خير له من أن يجلس على القبر» وكما نهى النبي صلى الله عليه(2/240)
وسلم، عن امتهان القبور فإنه نهى أيضًا عن تعظيمها بما يفضي إلى الغلو والشرك، فنهى أن يجصص القبر، وأن يبنى عليه، وأن يكتب عليه.
وهذه القضية التي ذكرت في السؤال المقبرة القديمة التي أصبحت ممرًّا وطريقًا للمشاة والسيارات ومرعى للبهائم يجب أن يرفع أمرها إلى ولاة الأمور لاتخاذ اللازم في حمايتها وصيانتها, وفتح طرق حولها يعبر الناس منها إلى الجهات الأخرى.
(304) سئل فضيلة الشيخ: هل يشرع للإنسان أن يقول: "اللهم اجعلني لقبر نبيك محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الزائرين" أو يقول: "لمسجد نبيك محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الزائرين؟ "
فأجاب قائلًا: المشروع أن يقول لمسجده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الزائرين؛ لأن مسجده هو الذي تشد إليه الرحال وليس قبره، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى» .
وهاهنا نقطة أحب أن أنبه عليها وهي: أن كثيرًا من الناس يتشوقون إلى زيارة قبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكثر مما يتشوقون إلى زيارة مسجده، بل أكثر مما يتشوقون إلى زيارة الكعبة -بيت الله عز وجل- وهذا من الضلال البين، فإن حق النبي عليه الصلاة والسلام, لا يشك أحد أنه دون حق الله تعالى، فالرسول عليه الصلاة والسلام، بشر مرسل من عند الله، ولولا أن الله اجتباه برسالته لم يكن له من الحق هذا الحق الذي يفوق حق كل بشر، أما أن يكون مساويًا لحق الله عز(2/241)
وجل أو يكون في قلب الإنسان محبة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تزيد على محبة الله، فإن هذا خطأ عظيم، فمحبة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تابعة لمحبة الله، وتعظيمنا له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تابع لتعظيم الله عز وجل، وهو دون تعظيم الله تعالى, ولهذا نهى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أن نغلو فيه وأن نجعل له حقًّا مساويًا لحق الله عز وجل, فقد «قال له رجل مرة: ما شاء الله وشئت. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أجعلتني لله ندًّا بل ما شاء الله وحده".»
والخلاصة: أنه يجب على الإنسان أن يكون تعظيم الله تعالى ومحبته في قلبه أعظم من محبة وتعظيم كل أحد، وأن تكون محبة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتعظيمه في قلبه أعظم من محبة وتعظيم كل مخلوق، وأما أن يساوي بين حق الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحق الله تعالى فيما يختص الله به فهذا خطأ عظيم.
(305) وسئل -حفظه الله تعالى- عن رجل حفر لتأسيس بيته فوجد عظامًا فأخرجها فما حكم عمله هذا؟
فأجاب قائلًا: إذا تيقن أو غلب على ظنه أنها عظام موتى مسلمين فإنه لا يجوز له نقل العظام، وأصحاب القبور أحق بالأرض منه؛ لأنهم لما دفنوا فيها ملكوها، ولا يحل له أن يبني بيته على قبور المسلمين، ويجب عليه إذا تيقن أن هذا المكان فيه قبور أن يزيل البناء، وأن يدع القبور لا بناء عليها. وفي مثل هذه الحال الواجب مراجعة ولاة الأمور.(2/242)
(306) وسئل رعاه الله بمنّه وكرمه: هل ترد أرواح الموتى إليهم يومي الاثنين والخميس ليردوا السلام على الزوار؟
فأجاب بقوله: هذا لا أصل له وزيارة المقابر مشروعة كل وقت؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: «زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة» . وينبغي للزائر أن يفعل ما كان يفعله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من السلام عليهم دون القراءة، فقد كان مما يقوله عليه الصلاة والسلام: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين أنتم السابقون وإنا إن شاء الله بكم للاحقون، يرحم الله المستقدمين منكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم» . ولا تنبغي القراءة على القبر؛ لأن ذلك لم يرد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما لم يرد عنه فإنه لا ينبغي للمؤمن أن يعمله.
واعلم أن المقصود بالزيارة أمران:
أحدهما: انتفاع الزائر بتذكر الآخرة والاعتبار والاتعاظ، فإن هؤلاء القوم الذين هم الآن في بطن الأرض كانوا بالأمس على ظهرها، وسيجري لهذا الزائر ما جرى لهم، فيعتبر ويغتنم الأوقات والفرص، ويعمل لهذا اليوم الذي سيكون في هذا المثوى الذي كان عليه هؤلاء.
وثانيهما: الدعاء لأهل القبور بما كان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو به من السلام وسؤال الرحمة، وأما أن يسأل الأموات ويتوسل بهم فإن هذا محرم ومن الشرك؛ ولا فرق في هذا بين قبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقبر غيره، فإنه لا يجوز أن يتوسل أحد بقبر النبي عليه الصلاة والسلام، أو بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد موته, فإن هذا من الشرك؛ لأنه لو كان هذا حقًّا لكان أسبق الناس إليه الصحابة رضي الله عنهم،(2/243)
ومع ذلك فإنهم لا يتوسلون به بعد موته، فقد استسقى عمر رضي الله عنه ذات يوم فقال: "اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا" ثم قام العباس رضي الله عنه فدعا , وهذا دليل على أنه لا يتوسل بالميت مهما كانت درجته ومنزلته عند الله تعالى, وإنما يتوسل بدعاء الحي الذي ترجى إجابة دعوته؛ لصلاحه واستقامته في دين الله عز وجل, فإذا كان الرجل ممن عرف بالدين والاستقامة وتوسل بدعائه، فإن هذا لا بأس به كما فعل أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، وأما الأموات فلا يتوسل بهم أبدًا، ودعاؤهم شرك أكبر مخرج عن الملة، قال الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} .
(307) سئل فضيلة الشيخ -حفظه الله-: هل المسلم إذا ألقى السلام على الميت في قبره يرد الله عليه روحه ويرد السلام؟
فأجاب -حفظه الله- بقوله: هذا الذي ذكره السائل جاء فيه حديث مرفوع صححه ابن عبد البر وهو أنه «ما من مسلم يمر بقبر رجل مسلم كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد عليه روحه فرد عليه السلام» .
(308) وسئل فضيلة الشيخ -حفظه الله-: عن حكم زيارة المقابر؟ وحكم قراءة الفاتحة عند زيارتها؟ وحكم زيارة النساء للقبور؟ .(2/244)
فأجاب بقوله: زيارة القبور سنة أمر بها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد أن نهى عنها كما ثبت ذلك عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في قوله: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكركم الآخرة» رواه مسلم. فزيارة القبور للتذكر والاتعاظ سنة، فإن الإنسان إذا زار هؤلاء الموتى في قبورهم، وكان هؤلاء بالأمس معه على ظهر الأرض يأكلون كما يأكل، ويشربون كما يشرب، ويتمتعون بدنياهم، وأصبحوا الآن رهنًا لأعمالهم إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر فإنه لا بد أن يتعظ ويلين قلبه ويتوجه إلى الله عز وجل بالإقلاع عن معصيته إلى طاعته.
وينبغي لمن زار المقبرة أن يدعو بما كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو به وعلمه أمته: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم» يقول هذا الدعاء.
ولم يرد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يقرأ الفاتحة عند زيارة القبور, وعلى هذا فقراءة الفاتحة عند زيارة القبور خلاف المشروع عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأما زيارة القبور للنساء فإن ذلك محرم؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعن زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج، فلا يحل للمرأة أن تزور المقبرة، هذا إذا خرجت من بيتها لقصد الزيارة، أما إذا مرت بالمقبرة بدون قصد الزيارة فلا حرج عليها أن تقف وأن تسلم على أهل المقبرة بما علمه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمته، فيفرق بالنسبة للنساء بين من خرجت من بيتها لقصد الزيارة، ومن مرت بالمقبرة بدون قصد،(2/245)
فوقفت وسلمت، فالأولى التي خرجت من بيتها للزيارة قد فعلت محرمًا، وعرضت نفسها للعنة الله عز وجل, وأما الثانية فلا حرج عليها.
(309) وسئل فضيلة الشيخ: هناك من يزور القبور ويدعو الأموات وينذر لهم ويستغيث بهم ويستعين بهم؛ لأنهم كما يزعم أولياء لله، فما نصيحتكم لهم؟
فأجاب بقوله: نصيحتنا لهؤلاء وأمثالهم أن يرجع الإنسان إلى عقله وتفكيره، فهذه القبور التي يزعم أن فيها أولياء تحتاج:
أولًا: إلى إثبات أنها قبور؛ إذ قد يوضع شيء يشبه القبر, ويقال: هذا قبر فلان، كما حدث ذلك، مع أنه ليس بقبر.
ثانيًا: إذا ثبت أنها قبور فإنه يحتاج إلى إثبات أن هؤلاء المقبورين كانوا أولياء لله؛ لأننا لا نعلم هل هم أولياء لله أم أولياء للشيطان.
ثالثًا: إذا ثبت أنهم من أولياء الله فإنهم لا يزارون من أجل التبرك بزيارتهم، أو دعائهم، أو الاستغاثة بهم، والاستعانة بهم، وإنما يزارون كما يزار غيرهم للعبرة والدعاء لهم فقط، على أنه إن كان في زيارتهم فتنة أو خوف فتنة بالغلو فيهم، فإنه لا تجوز زيارتهم دفعا للمحظور ودرءًا للمفسدة.
فأنت أيها الإنسان حكم عقلك، فهذه الأمور الثلاثة التي سبق ذكرها لا بد أن تتحقق، وهي:
أ- ثبوت القبر.
ب- ثبوت أنه ولي.
ج- الزيارة لأجل الدعاء لهم. فهم في حاجة إلى الدعاء مهما كانوا،(2/246)
فهم لا ينفعون ولا يضرون، ثم إننا قلنا: إن زيارتهم من أجل الدعاء لهم جائزة ما لم تستلزم محظورًا.
أما من زارهم ونذر لهم وذبح لهم أو استغاث بهم، فإن هذا شرك أكبر مخرج عن الملة، يكون صاحبه به كافرًا مخلدًا في النار.
(310) سئل فضيلة الشيخ -حفظه الله-: عن حكم الدين في بناء المقابر بالطوب والأسمنت فوق ظهر الأرض؟
فأجاب -حفظه الله- بقوله: أولًا أنا أكره أن يوجه للشخص مثل هذا السؤال بأن يقال: ما حكم الدين؟ ما حكم الإسلام؟ وما أشبه ذلك؛ لأن الواحد من الناس لا يعبر عن الإسلام؛ إذ قد يخطئ ويصيب، ونحن إذا قلنا: إنه يعبر عن الإسلام معناه أنه لا يخطئ؛ لأن الإسلام لا خطأ فيه، فالأولى في مثل هذا التعبير أن يقال: ما ترى في حكم من فعل كذا وكذا؟ أو ما ترى فيمن فعل كذا وكذا؟ أو ما ترى في الإسلام هل يكون كذا وكذا حكمه؟ المهم أن يُضاف السؤال إلى المسئول فقط.
أما بالنسبة لما أراه في هذه المسألة أنه لا يجوز أن يبنى على القبور, فقد ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أنه نهى عن البناء على القبور، ونهى أن يُجصص القبر، وأن يُبنى عليه» . فالبناء على القبور محرم؛ لأنه وسيلة إلى أن تُعْبَد ويُشْرَك بها مع الله عز وجل.
(311) سئل فضيلة الشيخ -حفظه الله-: عندنا عدد من المساجد بأسماء الأنبياء مثل جامع النبي يونس وغيرها من الجوامع، ويوجد داخل المسجد مرقد ذلك النبي, ويذهب الناس(2/247)
ويصلون في داخل هذه المساجد , وفي الحديث الذي ما معناه «لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» ما حكم عملهم هذا؟
فأجاب -حفظه الله - بقوله: تسمية المساجد بأسماء الأنبياء لا ينبغي؛ لأن هذا إنما يتخذ على سبيل التقرب إلى الله -عز وجل- أو التبرك بأسماء الأنبياء، والتقرب إلى الله بما لم يشرعه، والتبرك بما لم يجعله الله سببًا للبركة لا ينبغي، بل هو نوع من البدع.
وأما كون قبور الأنبياء في هذه المساجد فإنه كذب لا أصل له, فلا يعلم قبر أحد من الأنبياء سوى قبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقبور الأنبياء كلها مجهولة, فمن زعم أن مسجد النبي يونس كان مرقد يونس أو كان قبر يونس فإنه قد قال قولًا بلا علم، وكذلك بقية المساجد أو الأماكن التي يقال عنها: إن فيها شيئًا من قبور الأنبياء؛ فإن هذا قول بلا علم, وأما صحة الصلاة في المساجد التي بنيت على القبور فإن كان القبر سابقًا على المسجد بأن بني المسجد على القبر فإن الصلاة فيه لا تصح, ويجوز هدم المسجد؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " «قاتل الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما صنعوا» وأما إذا كان المسجد سابقًا على القبر بأن كان المسجد قائمًا مبنيًّا ثم دفن فيه أحد فإنه يجب أن ينبش القبر، وأن يدفن فيما يدفن فيه الناس.
والصلاة في هذا المسجد السابق على القبر صحيحة إلا إذا كان القبر تجاه المصلين، فإن الصلاة إلى القبور لا تصح -كما في صحيح مسلم من حديث أبي مرثد الغنوي - أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " «لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها» .(2/248)
(312) سئل فضيلة الشيخ -حفظه الله-: عن حكم التبرك بالقبور والطواف حولها بقصد قضاء حاجة أو تقرب وعن حكم الحلف بغير الله؟
فأجاب بقوله: التبرك بالقبور حرام ونوع من الشرك وذلك لأنه إثبات تأثير شيء لم ينزل الله به سلطانًا ولم يكن من عادة السلف الصالح أن يفعلوا مثل هذا التبرك فيكون من هذه الناحية بدعة أيضًا, وإذا اعتقد المتبرك أن لصاحب القبر تأثيرًا أو قدرة على دفع الضرر أو جلب النفع كان ذلك شركًا أكبر إذا دعاه لجلب المنفعة أو دفع المضرة. وكذلك يكون من الشرك الأكبر إذا تعبد لصاحب القبر بركوع أو سجود أو ذبح تقربًا له وتعظيمًا له قال الله تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} , والمشرك شركًا أكبر كافر مخلد في النار والجنة عليه حرام لقوله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} .
وأما الحلف بغير الله فإن كان الحالف يعتقد أن للمحلوف به منزلة مثل الله تعالى فهو مشرك شركًا أكبر وإن كان يعتقد ذلك ولكن كان في قلبه(2/249)
من تعظيم المحلوف به ما حمله على أن يحلف به دون أن يعتقد أن له منزلة مثل منزلة الله فهو مشرك شركًا أصغر؛ لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك» .
ويجب الإنكار على من تبرك بالقبور أو دعا المقبور أو حلف بغير الله, وأن يبين له أنه لن ينجيه من عذاب الله قوله: هذا شيء أخذنا عليه, فإن هذه الحجة هي حجة المشركين الذين كذبوا الرسل وقالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} فقال لهم الرسول: {أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} قال الله تعالى: {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} .
ولا يحل لأحد أن يحتج لباطله بكونه وجد عليه آباءه أو بكونه عادة له ونحو ذلك ولو احتج بهذا فحجته داحضة عند الله تعالى لا تنفعه ولا تغني عنه شيئًا. وعلى الذين ابتلوا بمثل هذا أن يتوبوا إلى الله, وأن يتبعوا الحق أينما كان وممن كان ومتى كان, وأن لا يمنعهم من قبوله عادات قومهم أو لوم عوامهم, فإن المؤمن حقًا هو الذي لا تأخذه في الله لومة لائم, ولا يصده عن دين الله عائق.
وفق الله الجميع لما فيه رضاه وحمانا عما فيه سخطه وعقوبته.(2/250)
التصوير(2/251)
(313) سئل فضيلة الشيخ: عن حكم التصوير؟ وحكم اقتناء الصور؟ وحكم الصور التي تمثل الوجه وأعلى الجسم؟
فأجاب-حفظه الله- بقوله: التصوير نوعان:
أحدهما: تصوير باليد.
والثاني: تصوير بالآلة.
فأما التصوير باليد فحرام بل هو كبيرة من كبائر الذنوب؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لعن فاعله، ولا فرق بين أن يكون للصورة ظل أو تكون مجرد رسم على القول الراجح لعموم الحديث، وإذا كان التصوير هذا من الكبائر، فتمكين الإنسان غيره أن يصور نفسه إعانة على الإثم والعدوان فلا يحل.
وأما التصوير بالآلة وهي (الكاميرا) التي تنطبع الصورة بواسطتها من غير أن يكون للمصور فيها أثر بتخطيط الصورة وملامحها فهذه موضع خلاف بين المتأخرين فمنهم من منعها، ومنهم من أجازها, فمن نظر إلى لفظ الحديث منع؛ لأن التقاط الصورة بالآلة داخل في التصوير, ولولا عمل الإنسان بالآلة بالتحريك والترتيب وتحميض الصورة لم تلتقط الصورة، ومن نظر إلى المعنى والعلة أجازها؛ لأن العلة هي مضاهاة خلق الله، والتقاط الصورة بالآلة ليس مضاهاة لخلق الله, بل هو نقل للصورة التي خلقها الله تعالى نفسها فهو ناقل لخلق الله لا مضاه له، قالوا: ويوضح ذلك أنه لو قلد شخص كتابة شخص لكانت كتابة الثاني غير كتابة الأول(2/253)
بل هي مشابهة لها ولو نقل كتابته بالصورة الفوتوغرافية لكانت الصورة هي كتابة الأول وإن كان عمل نقلها من الثاني, فهكذا نقل الصورة بالآلة الفوتغرافية (الكاميرا) الصورة فيه هي تصوير الله نقل بواسطة آلة التصوير.
والاحتياط الامتناع من ذلك؛ لأنه من المتشابهات ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، لكن لو احتاج إلى ذلك لأغراض معينة كإثبات الشخصية فلا بأس به؛ لأن الحاجة ترفع الشبهة لأن المفسدة لم تتحقق في المشتبه فكانت الحاجة رافعة لها.
وأما اقتناء الصور فعلى نوعين:
النوع الأول: أن تكون الصورة مجسمة أي ذات جسم فاقتناؤها حرام, وقد نقل ابن العربي الإجماع عليه, نقله عنه في فتح الباري ص 388 ج10ط. السلفية قال: "وهذا الإجماع محله في غير لعب البنات كما سأذكره في باب من صور صورة" وقد أحال في الباب المذكور على كتاب الأدب, وذكره في كتاب الأدب في باب الانبساط إلى الناس ص 527 من المجلد المذكور على حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كنت ألعب بالبنات عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان لي صواحب يلعبن معي فكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذا دخل يتقمعن منه فيسر بهن إلي فيلعبن معي» .
قال في شرحه: "واستدل بهذا الحديث على جواز اتخاذ صور البنات واللعب من أجل لعب البنات بهن، وخص ذلك من عموم النهي عن اتخاذ الصور وبه جزم عياض ونقله عن الجمهور، قال: وذهب بعضهم إلى أنه منسوخ وخصه بعضهم بالصغار".
وإن المؤسف أن بعض قومنا الآن، صاروا يقتنون هذه الصور(2/254)
ويضعونها في مجالسهم أو مداخل بيوتهم، نزلوا بأنفسهم إلى رتبة الصبيان مع اكتساب الإثم والعصيان نسأل الله لنا ولهم الهداية.
النوع الثاني: أن تكون الصورة غير مجسمة بأن تكون رقمًا على شيء فهذه أقسام:
القسم الأول: أن تكون معلقة على سبيل التعظيم والإجلال مثل ما يعلق من صور الملوك، والرؤساء، والوزراء، والعلماء، والوجهاء، والآباء، وكبار الإخوة ونحوها، فهذا القسم حرام لما فيه من الغلو بالمخلوق والتشبه بعباد الأصنام والأوثان، مع أنه قد يجر إلى الشرك فيما إذا كان المعلق صورة عالم أو عابد ونحوه.
القسم الثاني: أن تكون معلقة على سبيل الذكرى مثل من يعلقون صور أصحابهم وأصدقائهم في غرفهم الخاصة فهذه محرمة فيما يظهر لوجهين:
الوجه الأول: أن ذلك يوجب تعلق القلب بهؤلاء الأصدقاء تعلقًا لا ينفك عنه, وهذا يؤثر تأثيرًا بالغًا على محبة الله ورسوله وشرعه ويوجب تشطير المحبة بين هؤلاء الأصدقاء وما تجب محبته شرعًا وكأن قارعًا يقرع قلبه كلما دخل غرفته. انتبه. انتبه. صديقك صديقك وقد قيل:
أحبب حبيبك هونًا ما ... فعسى أن يكون بغيضك يومًا ما
الوجه الثاني: أنه ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي طلحة رضي الله عنه قال سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب ولا صورة» وهذه عقوبة ولا عقوبة إلا على فعل محرم.
القسم الثالث: أن تكون معلقة على سبيل التجميل والزينة، فهذه(2/255)
محرمة أيضًا لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: «قدم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من سفر وقد سترت بقرام لي على سهوة لي فيها تماثيل، فلما رآه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هتكه, وقال: "أشد الناس عذابًا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله". قالت: فجعلته وسادة أو وسادتين» رواه البخاري. والقرام: خرقة تفرش في الهودج أو يغطى بها يكون فيها رقوم ونقوش. والسهوة بيت صغير في جانب الحجرة يجعل فيه المتاع.
وعن عائشة -رضي الله عنها- «أنها اشترت نمرقة فيها تصاوير فلما رآها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قام على الباب فلم يدخل فعرفت في وجهه الكراهية, قالت: فقلت: أتوب إلى الله ماذا أذنبت؟ قال: "ما هذه النمرقة؟ " قلت: لتجلس عليها وتوسدها فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة يقال لهم: أحيوا ما خلقتم وإن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه الصورة» . رواه البخاري.
النمرقة: الوسادة العريضة تصلح للاتكاء والجلوس.
القسم الرابع: أن تكون ممتهنة كالصورة التي تكون في البساط والوسادة، وعلى الأواني وسماط الطعام ونحوها، فنقل النووي عن جمهور العلماء من الصحابة والتابعين جوازها، وقال: هو قول الثوري ومالك وأبي حنيفة والشافعي، وهو كذلك مذهب الحنابلة. ونقل في فتح الباري - ص 391ج 10ط. السلفية- حاصل ما قيل في ذلك عن ابن العربي فقال: حاصل ما في اتخاذ الصور؛ أنها إن كانت ذات أجسام حرم بالإجماع، وإن كانت رقمًا فأربعة أقوال:
الأول: يجوز مطلقًا على ظاهر قوله في حديث الباب: "إلا رقمًا في(2/256)
ثوب".
الثاني: المنع مطلقًا حتى الرقم.
الثالث: إن كانت الصورة باقية الهيئة قائمة الشكل حرم، وإن قطعت الرأس أو تفرقت الأجزاء جاز قال: وهذا هو الأصح.
الرابع: إن كان مما يمتهن جاز وإن كان معلقًا لم يجز ا. هـ.
والذي صححه هو ظاهر حديث النمرقة، والقول الرابع هو ظاهر حديث القرام ويمكن الجمع بينهما بأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما هتك الستر تفرقت أجزاء الصورة فلم تبق كاملة بخلاف النمرقة فإن الصورة كانت فيها كاملة فحرم اتخاذها, وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «أتاني جبريل فقال: أتيتك البارحة فلم يمنعني أن أكون دخلت إلا أنه كان على الباب تماثيل، وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل، وكان في البيت كلب فمر برأس التمثال الذي على باب البيت يقطع فيصير كهيئة الشجرة، ومر بالستر فليقطع فليجعل منه وسادتان منبوذتان توطآن، ومر بالكلب فليخرج» ففعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, رواه أهل السنن. وفي رواية النسائي «إما أن تقطع رءوسها أو تجعل بسطًا توطأ» . ذكر هذا الحديث في فتح الباري ص 392 من المجلد العاشر السابق, وزعم في ص390 أنه مؤيد للجمع الذي ذكرناه, وعندي أن في ذلك نظرًا فإن هذا الحديث ولا سيما رواية النسائي تدل على أن الصورة إذا كانت في شيء يمتهن فلا بأس بها, وإن بقيت كاملة وهو رأي الجمهور كما سبق.
القسم الخامس: أن تكون مما تعم به البلوى ويشق التحرز منه كالذي يوجد في المجلات والصحف وبعض الكتب, ولم تكن مقصودة لمقتنيها بوجه من الوجوه بل هي مما يكرهه ويبغضه ولكن لا بد له منها(2/257)
والتخلص منها فيه عسر ومشقة وكذلك ما في النقود من صور الملوك والرؤساء والأمراء مما ابتليت به الأمة الإسلامية, فالذي يظهر لي أن هذا لا حرج فيه على من وقع في يده بغير قصد منه إلى اتخاذه من أجل صوره بل هو يكرهه أشد الكراهة, ويبغضه ويشق عليه التحرز منه فإن الله تعالى لم يجعل على عباده في دينهم من حرج ولا يكلفهم شيئًا لا يستطيعونه إلا بمشقة عظيمة أو فساد مال، ولا يصدق على مثل هذا أنه متخذ للصورة ومقتن لها.
وأما سؤالكم عن الصورة التي تمثل الوجه وأعلى الجسم، فإن حديث أبي هريرة الذي أشرنا إليه يدل على أنه لا بد من قطع الرأس وفصله فصلًا تامًّا عن بقية الجسم، فأما إذا جمع إلى الصدر فما هو إلا رجل جالس, بخلاف ما إذا أبين الرأس إبانة كاملة عن الجسم، ولهذا قال الإمام أحمد -رحمه الله-: الصورة الرأس. وكان إذا أراد طمس الصورة حك رأسها, وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: الصورة الرأس فإذا قطع الرأس فليس هو صورة. فتهاون بعض الناس في ذلك مما يجب الحذر منه.
نسأل الله لنا ولكم ولإخواننا المسلمين السلامة والعافية مما لا تحمد عقباه إنه جواد كريم.
(314) سئل فضيلة الشيخ: عن حكم التصوير؟
فأجاب بقوله: التصوير على أنواع:
النوع الأول: أن يصور ما له ظل وجسم على هيئة إنسان أو حيوان، وهذا حرام ولو فعله عبثًاولو لم يقصد المضاهاة؛ لأن المضاها لا يشترط فيها القصد حتى لو وضع هذا التمثال لابنه لكي يهدئه به.(2/258)
فإن قيل: أليس المحرم ما صور لتذكار قوم صالحين كما هو أصل الشرك في قوم نوح؟
أجيب: إن الحديث في لعن المصورين عام، لكن إذا انضاف إلى التصوير هذا القصد صار أشد تحريمًا.
النوع الثاني: أن يصور صورة ليس لها جسم بل بالتلوين والتخطيط، فهذا محرم أيضًا لعموم الحديث، ويدل له حديث النمرقة حيث «أقبل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى بيته, فلما أراد أن يدخل رأى نمرقة فيها تصاوير فوقف وتأثر، وعرفت الكراهة في وجهه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت عائشة رضي الله عنها: ما أذنبت يا رسول الله؟ فقال: "إن أصحاب هذه الصور يعذبون يقال لهم: أحيوا ما خلقتم» فالصور بالتلوين كالصور بالتجسيم على الصحيح، وقوله في صحيح البخاري: «إلا رقمًا في ثوب» إن صحت الرواية هذه فالمراد بالاستثناء ما يحل تصويره من الأشجار ونحوها ليتفق مع الأحاديث الأخرى.
النوع الثالث: أن تلتقط الصورة التقاطًا بأشعة معينة بدون أي تعديل أو تحسين من الملتقط, فهذا محل خلاف بين العلماء المعاصرين على قولين:
القول الأول: أنها صورة, وإذا كان كذلك فإن حركة هذا الفاعل تعتبر تصويرًا إذ لولا تحريكه إياها ما انطبعت هذه الصورة على هذه الورقة, ونحن متفقون على أن هذه صورة فحركته تعتبر تصويرًا فيكون داخلًا في العموم.
القول الثاني: أنها ليست بتصوير؛ لأن التصوير فعل المصور، وهذا الرجل ما صورها في الحقيقة وإنما التقطها بالآلة، والتصوير من صنع الله،(2/259)
ومثال ذلك: لو أدخلت كتابًا في آلة التصوير ثم خرج من هذه الآلة, فإن رسم الحروف من الكاتب الأول لا من المحرك بدليل أنه قد يحركها شخص أمي لا يعرف الكتابة إطلاقًا أو أعمى.
وهذا القول أقرب؛ لأن المصور يعتبر مبدعًا، ومخططًا، ومضاهيًا لخلق الله تعالى وليس هذا كذلك.
(315) سئل فضيلة الشيخ: هل يجب إتلاف الرأس في الصور لزوال التحريم؟ أو يكفي فصله عن الجسم؟ وما حكم الصور التي في العلب والمجلات والصحف ورخص القيادة والدراهم؟ وهل تمنع من دخول الملائكة؟
فأجاب بقوله: إذا فصل الرأس عن الجسم فظاهر الحديث «مر برأس التمثال فليقطع» أنه لا يجب إتلاف الرأس؛ لأنه لم يذكر في الحديث إتلافه وإن كان في ذلك شيء من التردد.
وأما الجسم بلا رأس فهو كالشجرة لا شك في جوازه.
أما بالنسبة لما يوجد في العلب والمجلات والصحف من الصور: فما يمكن التحرز منه فالورع تركه، وأما ما لا يمكن التحرز منه، والصورة فيه غير مقصودة, فالظاهر أن التحريم يرتفع فيه بناء على القاعدة الشرعية {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} والمشقة تجلب التيسير والبعد عنه أولى.(2/260)
وكذلك بالنسبة لما يوجد في رخص القيادة، وحفائظ النفوس، والشهادات والدراهم، فهو ضرورة لا إثم فيه، ولا يمنع ذلك من دخول الملائكة.
وأما قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وأن لا تدع صورة إلا طمستها» ففيه احتمال قوي؛ أن المراد كل صورة مقصودة اتخذت لذاتها لا سيما في أوقاتهم، فلا تجد صورة في الغالب إلا مقصودة لذاتها. ولا ريب أن الصور المقصودة لا يجوز اقتناؤها كالصور التي تتخذ للذكرى أو للتمتع بالنظر إليها أو للتلذذ بها ونحو ذلك.
(316) وسئل جزاه الله عنا وعن المسلمين خير الجزاء: عن حكم صنع التماثيل؟
فأجاب قائلًا: صنع التماثيل المجسمة إن كانت من ذوات الأرواح، فهي محرمة لا تجوز؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثبت عنه أنه لعن المصورين, وثبت أيضًا عنه أنه قال: «قال الله عز وجل: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي» وهذا محرم.
أما إذا كانت التماثيل ليست من ذوات الأرواح, فإنه لا بأس به وكسبها حلال؛ لأنها من العمل المباح. والله الموفق.
(317) وسئل: عن حكم رسم ذوات الأرواح وهل هو داخل في عموم الحديث القدسي «ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة» ؟(2/261)
فأجاب قائلًا: نعم هو داخل في هذا الحديث، لكن الخلق خلقان خلق جسمي وصفي وهذا في الصور المجسمة، وخلق وصفي لا جسمي وهذا في الصور المرسومة.
وكلاهما يدخل في الحديث المتقدم فإن خلق الصفة كخلق الجسم، وإن كان الجسم أعظم؛ لأنه جمع بين الأمرين الخلق الجسمي والخلق الوصفي، ويدل على ذلك -أي العموم- وأن التصوير محرم باليد سواء كان تجسيمًا أم كان تلوينًا عموم لعن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمصورين, فعموم لعن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمصورين يدل على أنه لا فرق بين الصور المجسمة والملونة التي لا يحصل التصوير فيها إلا بالتلوين فقط، ثم إن هذا هو الأحوط, والأولى بالمؤمن أن يكون بعيدًا عن الشبه.
ولكن قد يقول قائل: أليس الأحوط في اتباع ما دل عليه النص لا في اتباع الأشد؟
فنقول: صحيح أن الأحوط اتباع ما دل عليه النص لا اتباع الأشد، لكن إذا وجد لفظ عام يمكن أن يتناول هذا وهذا فالأحوط الأخذ بعمومه، وهذا ينطبق تمامًا على حديث التصوير، فلا يجوز للإنسان أن يرسم صورة ما فيه روح من إنسان وغيره؛ لأنه داخل في لعن المصورين. والله الموفق.
(318) وسئل فضيلة الشيخ: عن حكم التصوير الفوتوغرافي؟
فأجاب -حفظه الله تعالى- بقوله: الصور الفوتوغرافية الذي نرى فيها؛ أن هذه الآلة التي تخرج الصورة فورًا، وليس للإنسان في الصورة أي عمل، نرى أن هذا ليس من باب التصوير، وإنما هو من باب نقل صورة(2/262)
صورها الله عز وجل بواسطة هذه الآلة، فهي انطباع لا فعل للعبد فيه من حيث التصوير، والأحاديث الواردة إنما هي في التصوير الذي يكون بفعل العبد ويضاهي به خلق الله، ويتبين لك ذلك جيدًا بما لو كتب لك شخص رسالة فصورتها في الآلة الفوتوغرافية، فإن هذه الصورة التي تخرج ليست هي من فعل الذي أدار الآلة وحركها، فإن هذا الذي حرك الآلة ربما يكون لا يعرف الكتابة أصلًا، والناس يعرفون أن هذا كتابة الأول، والثاني ليس له أي فعل فيها، ولكن إذا صور هذا التصوير الفوتوغرافي لغرض محرم، فإنه يكون حرامًا تحريم الوسائل.
(319) وسئل: أيضًا عن حكم التصوير؟ وكيف يفعل من طلب منه التصوير في الامتحان؟ وما حكم مشاهدة الصور التي في المجلات والتلفزيون؟
فأجاب بقوله: سؤالكم عن التصوير فالتصوير نوعان:
أحدهما: أن يكون تصوير غير ذوات الأرواح كالجبال والأنهار والشمس والقمر والأشجار فلا بأس به عند أكثر أهل العلم، وخالف بعضهم فمنع تصوير ما يثمر كالشجر والزروع ونحوها، والصواب قول الأكثر.
الثاني: أن يكون تصوير ذوات الأرواح وهذا على قسمين:
القسم الأول: أن يكون باليد فلا شك في تحريمه, وأنه من كبائر الذنوب؛ لما ورد فيه من الوعيد الشديد مثل حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «كل مصور في النار يجعل له»(2/263)
«بكل صورة صورها نفسًا فتعذبه في جهنم» . رواه مسلم. وحديث أبي جحيفة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لعن آكل الربا وموكله، والواشمة، والمستوشمة، والمصور» رواه البخاري. وحديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «أشد الناس عذابًا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله» . رواه البخاري ومسلم، وفي رواية مسلم: «الذين يشبهون بخلق الله» .
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقول:: «قال الله تعالى: ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقًا كخلقي فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة» . رواه البخاري ومسلم.
والتصوير المذكور ينطبق على التصوير باليد بأن يخطط الإنسان الصورة بيده حتى يكملها فتكون مثل الصورة التي خلق الله تعالى؛ لأنه حاول أن يبدع كإبداع الله تعالى, ويخلق كخلقه وإن لم يقصد المشابهة لكن الحكم إذا علق على وصف تعلق به، فمتى وجد الوصف وجد الحكم، والمصور إذا صنع الصورة تحققت المشابهة بصنعه, وإن لم ينوها, والمصور في الغالب لا يخلو من نية المضاهاة، ولذلك تجده يفخر بصنعه كلما كانت الصورة أجود وأتقن. وبهذا تعرف سقوط ما يموه به بعض من يستسيغ التصوير من أن المصور لا يريد مشابهة خلق الله؛ لأننا نقول له: المشابهة حصلت بمجرد صنعك شئت أم أبيت. ولهذا لو عمل شخص عملًا يشبه عمل شخص آخر لقلنا نحن وجميع الناس: إن عمل هذا يشبه عمل ذاك وإن كان هذا العامل لم يقصد المشابهة.
القسم الثاني: أن يكون تصوير ذوات الأرواح بغير اليد، مثل التصوير بالكاميرا التي تنقل الصورة التي خلقها الله تعالى على ما هي عليه،(2/264)
من غير أن يكون للمصور عمل في تخطيطها سوى تحريك الآلة التي تنطبع بها الصورة على الورقة، فهذا محل نظر واجتهاد؛ لأنه لم يكن معروفًا على عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعهد الخلفاء الراشدين والسلف الصالح, ومن ثم اختلف فيه العلماء المتأخرون: فمنهم من منعه وجعله داخلًا فيما نهى عنه نظرًا لعموم اللفظ له عرفًا، ومنهم من أحله نظرًا للمعنى، فإن التصوير بالكاميرا لم يحصل فيه من المصور أي عمل يشابه به خلق الله تعالى, وإنما انطبع بالصورة خلق الله تعالى على الصفة التي خلقه الله تعالى عليها ونظير ذلك تصوير الصكوك والوثائق وغيرها بالفوتوغراف؛ فإنك إذا صورت الصك فخرجت الصورة لم تكن الصورة كتابتك, بل كتابة من كتب الصك انطبعت على الورقة بواسطة الآلة. فهذا الوجه أو الجسم المصور ليست هيئته وصورته وما خلق الله فيه من العينين والأنف والشفتين والصدر والقدمين وغيرها، ليست هذه الهيئة والصورة بتصويرك أو تخطيطك بل الآلة نقلتها على ما خلقها الله تعالى عليه وصورها. بل زعم أصحاب هذا القول أن التصوير بالكاميرا لا يتناوله لفظ الحديث كما لا يتناوله معناه, فقد قال في القاموس: الصورة الشكل قال: وصور الشيء قطعه وفصله. قالوا وليس في التصوير بالكاميرا تشكيل ولا تفصيل, وإنما هو نقل شكل وتفصيل شكله وفصله الله تعالى قالوا: والأصل في الأعمال غير التعبدية الحل إلا ما أتى الشرع بتحريمه كما قيل:
والأصل في الأشياء حل وامنع ... عبادة إلا بإذن الشارع
فإن يقع في الحكم شك فارجع ... للأصل في النوعين ثم اتبع
والقول بتحريم التصوير بالكاميرا أحوط، والقول بحله أقعد لكن القول بالحل مشروط بأن لا يتضمن أمرًا محرمًا فإن تضمن أمرًا محرمًا(2/265)
كتصوير امرأة أجنبية، أو شخص ليعلقه في حجرته تذكارًا له، أو يحفظه فيما يسمونه (البوم) ؛ ليتمتع بالنظر إليه وذكراه، كان ذلك محرمًا؛ لأن اتخاذ الصور واقتناءها في غير ما يمتهن حرام عند أهل العلم أو أكثرهم، كما دلت على ذلك السنة الصحيحة.
ولا فرق في حكم التصوير بين ما له ظل وهو المجسم، وما لا ظل له لعموم الأدلة في ذلك وعدم المخصص.
ولا فرق أيضًا في ذلك بين ما يصور لعبًا ولهوًا وما يصور على السبورة لترسيخ المعنى في أفهام الطلبة كما زعموا, وعلى هذا فلا يجوز للمدرس أن يرسم على السبورة صورة إنسان أو حيوان.
وإن دعت الضرورة إلى رسم شيء من البدن فليصوره منفردًا، بأن يصور الرجل وحدها، ثم يشرح ما يحتاج إلى شرح منها ثم يمسحها ويصور اليد كذلك ثم يمسحها, ويصور الرأس وهكذا كل جزء وحده فهذا لا بأس به إن شاء الله تعالى.
وأما من طلب منه التصوير في الامتحان فليصور شجرة أو جبلًا أو نهرًا؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، مع أني لا أظن ذلك يطلب منه إن شاء الله تعالى.
وأما مشاهدة الصور في المجلات والصحف والتلفزيون فإن كانت صور غير آدمي فلا بأس بمشاهدتها، لكن لا يقتنيها من أجل هذه الصور وإن كانت صور آدمي؛ فإن كان يشاهدها تلذذًا أو استمتاعًا بالنظر فهو حرام، وإن كان غير تلذذ ولا استمتاع, ولا يتحرك قلبه ولا شهوته بذلك، فإن كان ممن يحل النظر إليه كنظر الرجل إلى الرجل ونظر المرأة إلى المرأة أو(2/266)
إلى الرجل أيضًا على القول الراجح فلا بأس به لكن لا يقتنيه من أجل هذه الصور، وإن كان ممن لا يحل له النظر إليه كنظر الرجل إلى المرأة الأجنبية فهذا موضع شك وتردد، والاحتياط أن لا ينظر خوفًا من الفتنة, وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: «لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها» والنعت بالصورة أبلغ من النعت بالوصف إلا أن هذا الحديث رواه الإمام أحمد من وجه آخر بلفظ: «لتنعتها لزوجها» وذكر في فتح الباري ص 338 ج 9 الطبعة السلفية أن النسائي زاد في روايته: «في الثوب الواحد» وهو مفهوم من قوله: "لا تباشر" ومجموع الروايات يقتضي أن الزوجة عمدت إلى مباشرة المرأة لتصف لزوجها ما تحت الثياب منها، ومن أجل هذا حصل عندنا الشك والتردد في جواز نظر الرجل إلى صورة المرأة في الصحف والمجلات والتلفزيون والبعد عن وسائل الفتن مطلوب والله المستعان.
(320) سئل فضيلة الشيخ: جاء في الفتوى السابقة رقم "319" فيما يتعلق بمشاهدة الصور ما نصه: "وإن كان ممن لا يحل له النظر إليه كنظر الرجل إلى المرأة الأجنبية, فهذا موضع شك وتردد, والاحتياط أن لا ينظر خوفًا من الفتنة" فهذا يفهم منه أن فضيلتكم لا يرى بأسًا في نظر الرجل إلى الصورة ولو كانت صورة امرأة أجنبية فنرجو التوضيح؟
فأجاب فضيلته بقوله: النقطة التي أشار إليها السائل وهي أنه يفهم من كلامنا أننا لا نرى بأسًا في نظر الرجل إلى الصورة ولو كانت صورة امرأة(2/267)
أجنبية فنقول هذه النقطة فيها تفصيل:
فإن كانت امرأة معينة ونظر إليها نظر تلذذ وشهوة فهذا حرام؛ لأن نفسه حينئذ تتعلق بها وتتبعها وربما يحصل بذلك شر وفتنة، فإن لم ينظر إليها نظر تلذذ وشهوة وإنما هي نظرة عابرة لم تحرك له ساكنًا، ولم توجب له تأملًا فتحريم هذا النظر، فيه نظر فإن إلحاق نظر الصورة بنظر الحقيقة غير صحيح، لما بينهما من الفرق العظيم في التأثير، لكن الأولى البعد عنه؛ لأنه قد يفضي إلى نظر التأمل ثم التلذذ والشهوة، ولهذا قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها» رواه البخاري، ورواه أحمد وأبو داود بلفظ: «لتنعتها لزوجها» . واللام للتعليل.
وأما إن كانت الصورة لامرأة غير معينة فلا بأس بالنظر إليها إذا لم يُخْشَ من ذلك محذور شرعي.
(321) وسئل فضيلة الشيخ: عن تهاون كثير من الناس في النظر إلى صور النساء الأجنبيات بحجة أنها صورة لا حقيقة لها؟
فأجاب -حفظه الله تعالى- بقوله: هذا تهاون خطير جدًّا وذلك أن الإنسان إذا نظر للمرأة سواء كان ذلك بواسطة وسائل الإعلام المرئية، أو بواسطة الصحف أو غير ذلك، فإنه لا بد أن يكون من ذلك فتنة على قلب الرجل تجره إلى أن يتعمد النظر إلى المرأة مباشرة، وهذا شيء مشاهد. ولقد بلغنا أن من الشباب من يقتني صور النساء الجميلات ليتلذذ بالنظر إليهن، أو يتمتع بالنظر إليهن، وهذا يدل على عظم الفتنة في مشاهدة هذه(2/268)
الصور، فلا يجوز للإنسان أن يشاهد هذه الصور، سواء كانت في مجلات أو في صحف أو غير ذلك، إن كان يرى من نفسه التلذذ والتمتع بالنظر إليهن؛ لأن ذلك فتنة تضره في دينه، وفي اتجاهاته، ويتعلق قلبه بالنظر إلى النساء فيبقى ينظر إليهن مباشرة.
(322) سئل فضيلة الشيخ: لقد كثر عرض الصور الكبيرة والصغيرة في المحلات التجارية وهي صور إما لممثلين عالميين أو أناس مشهورين. وذلك للتعريف بنوع أو أصناف من البضائع. وعند إنكار هذا المنكر يجيب أصحاب المحلات بأن هذه الصور غير مجسمة وهذا يعني أنها ليست محرمة, وهي ليست تقليدًا لخلق الله باعتبارها بدون ظل, ويقولون: إنهم قد اطلعوا على فتوى لفضيلتكم بجريدة "المسلمون" مفادها أن التصوير المجسم هو المحرم وغير ذلك فلا. فنرجو من فضيلتكم توضيح ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: من نسب إلينا أن المحرم من الصور هو المجسم, وأن غير ذلك غير حرام فقد كذب علينا، ونحن نرى أنه لا يجوز لبس ما فيه صورة سواء كان من لباس الصغار أو من لباس الكبار، وأنه لا يجوز اقتناء الصور للذكرى أو غيرها إلا ما دعت الضرورة أو الحاجة إليه مثل التابعية والرخصة. والله الموفق.(2/269)
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فقد كثر السؤال حول ما نشر في المقابلة التي جرت بيني وبين مندوب جريدة "المسلمون" يوم الجمعة 29\11\1410هـ بالعدد 281 حول حكم التصوير "الفوتوغرافي" وذكرت في هذه المقابلة أني لا أرى أن التصوير "الفوتوغرافي" الفوري -الذي تخرج فيه الصورة فورًا دون تحميض- داخل في التصوير الذي نهى عنه الرسول صلى?الله?عليه?وسلم?، ولعن فاعله.
وذكرت علة ذلك ثم قلت: ولكن ينبغي أن يقال: ما الغرض من هذا العمل؟
"إذا كان الغرض شيئًا مباحًا صار هذا العمل مباحًا بإباحة الغرض المقصود منه، وإذا كان الغرض غير مباح صار هذا العمل حرامًا لا لأنه من التصوير، ولكن لأنه قصد به شيء حرام".
وحيث إن الذي يخاطبني رجل صحفي، ذكرت مثالًا من المحرم يتعلق بالصحافة، وهو تصوير النساء على صفحات الجرائد والمجلات، ولم أستطرد بذكر الأمثلة اكتفاء بالقاعدة الآنفة الذكر، وهي أنه متى كان الغرض مباحًا كان هذا العمل مباحًا، ومتى كان الغرض غير مباح كان هذا العمل حرامًا.(2/271)
ولكن بعض السائلين عن هذه المقابلة رغبوا في ذكر المزيد من الأمثلة للمباح والمحرم. وإجابة لرغبتهم أذكر الآن من الأمثلة المباحة:
أن يقصد بهذا التصوير ما تدعو الحاجة إلى إثباته كإثبات الشخصية، والحادثة المرورية والجنائية، والتنفيذية, مثل أن يطلب منه تنفيذ شيء فيقوم بهذا التصوير لإثباته.
ومن الأمثلة المحرمة:
1 - التصوير للذكرى، كتصوير الأصدقاء، وحفلات الزواج ونحوها؛ لأن ذلك يستلزم اقتناء الصور بلا حاجة وهو حرام؛ لأنه ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه صورة. ومن ذلك أن يحتفظ بصورة ميت حبيب إليه كأبيه وأمه وأخيه يطالعها بين الحين والآخر؛ لأن ذلك يجدد الأحزان عليه، ويوجب تعلق قلبه بالميت.
2 - التصوير للتمتع النفسي أو التلذذ الجنسي برؤية الصورة؛ لأن ذلك يجر إلى الفاحشة.
والواجب على من عنده شيء من هذه الصور لهذه الأغراض، أن يقوم بإتلافها لئلا يلحقه الإثم باقتنائها.
هذه أمثلة للقاعدة الآنفة الذكر، ليست على سبيل الحصر، ولكن من أعطاه الله فهمًا فسوف يتمكن من تطبيق بقية الصور على هذه القاعدة.
هذا وأسأل الله للجميع الهداية والتوفيق لما يحب ويرضى.
(323) سئل فضيلة الشيخ: يحتاج بعض الطلبة إلى رسم بعض الحيوانات لغرض التعليم والدراسة فما حكم ذلك؟(2/272)
فأجاب بقوله: لا يجوز أن تصور هذه الحيوانات؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعن المصورين وقال: «أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون» وهذا يدل على أن التصوير من كبائر الذنوب؛ لأن اللعن لا يكون إلا على كبيرة والوعيد بشدة العذاب لا يكون إلا على كبيرة، ولكن من الممكن أن تصور أجزاء من الجسم كاليد والرجل وما أشبه ذلك؛ لأن هذه الأجزاء لا تحلها الحياة، وظاهر النصوص أن الذي يحرم ما يمكن أن تحله الحياة لقوله في بعض الأحاديث: «كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ» .
(324) سئل فضيلة الشيخ: يطلب من الطالب في بعض المدارس أن يرسم صورة لذات روح، أو يعطى مثلًا بعض دجاجة ويقال: أكمل الباقي، وأحيانًا يطلب منه أن يقص هذه الصورة, ويلزقها على الورق، أو يعطى صورة فيطلب منه تلوينها فما رأيكم في هذا؟
فأجاب فضيلته بقوله: الذي أرى في هذا أنه حرام يجب منعه، وأن المسئولين عن التعليم يلزمهم أداء الأمانة في هذا الباب، ومنع هذه الأشياء، وإذا كانوا يريدون أن يثبتوا ذكاء الطالب بإمكانهم أن يقولوا: اصنع صورة سيارة أو شجرة، أو ما أشبه ذلك مما يحيط به علمه، ويحصل بذلك معرفة مدى ذكائه وفطنته وتطبيقه للأمور، وهذا مما ابتلي به الناس بواسطة الشيطان، وإلا فلا فرق بلا شك في إجادة الرسم والتخطيط بين أن يخطط الإنسان صورة شجرة، أو سيارة، أو قصر، أو إنسان.(2/273)
فالذي أرى أنه يجب على المسئولين منع هذه الأشياء، وإذا ابتلي الطالب ولا بد فليصور حيوانًا ليس له رأس.
(325) وسئل الشيخ: قلتم -حفظكم الله- في الفتوى السابقة: " إذا ابتلي الطالب ولا بد فليصور حيوانًا ليس له رأس" ولكن قد يرسب الطالب إذا لم يرسم الرأس فما العمل؟
فأجاب قائلًا: إذا كان هذا فقد يكون الطالب مضطرًّا لهذا الشيء، ويكون الإثم على من أمره وكلفه بذلك، ولكني آمل من المسئولين ألا يصل بهم الأمر إلى هذا الحد، فيضطروا عباد الله إلى معصية الله.
(326) وسئل -حفظه الله تعالى-:عن حكم لبس الثياب التي فيها صورة حيوان أو إنسان؟
فأجاب بقوله: لا يجوز للإنسان أن يلبس ثيابًا فيها صورة حيوان أو إنسان، ولا يجوز أيضًا أن يلبس غترة أو شماغًا أو ما أشبه ذلك, وفيه صورة إنسان أو حيوان, وذلك لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثبت عنه أنه قال: «إن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه صورة» .
ولهذا لا نرى لأحد أن يقتني الصور للذكرى كما يقولون، وأن من عنده صور للذكرى فإن الواجب عليه أن يتلفها؛ سواء كان قد وضعها على الجدار، أو وضعها في ألبوم، أو في غير ذلك؛ لأن بقاءها يقتضي حرمان أهل البيت من دخول الملائكة بيتهم. وهذا الحديث الذي أشرت إليه قد صح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والله أعلم.(2/274)
(327) سئل فضيلة الشيخ: عن حكم إلباس الصبي الثياب التي فيها صور لذوات الأرواح؟
فأجاب قائلًا: يقول أهل العلم: إنه يحرم إلباس الصبي ما يحرم إلباسه الكبير، وما كان فيه صور فإلباسه الكبير حرام، فيكون إلباسه الصغير حرامًا أيضًا، وهو كذلك, والذي ينبغي للمسلمين أن يقاطعوا مثل هذه الثياب وهذه الأحذية حتى لا يدخل علينا أهل الشر والفساد من هذه النواحي، وهي إذا قوطعت فلن يجدوا سبيلًا إلى إيصالها إلى هذه البلاد وتهوين أمرها بينهم.
(328) سئل فضيلة الشيخ: هل استثناء بعض العلماء لعب الأطفال من التصويرصحيح؟ وهل قول الشيخ ... بجواز الصور التي ليس لها ظل , وإنما هي نقوش بالألوان قول صحيح؟
فأجاب بقوله: استثناء لعب الأطفال صحيح، لكن ما هي اللعب المستثناة أهي اللعب التي كانت معهودة من قبل وليست على هذه الدقة في التصوير؛ فإن اللعب المعهودة من قبل ليس فيها تلك العيون والشفاه والأنوف كما هو المشاهد الآن في لعب الأطفال, أم أن الرخصة عامة فيما هو لعب أطفال ولو كان على الصور المشاهدة الآن؟
هذا محل تأمل والاحتياط تجنب هذه الصور الشائعة الآن والاقتصار على النوع المعهود من قبل.
وأما الصور التي ليس لها ظل وإنما هي نقوش بالألوان فإن دعوى(2/275)
الجواز فيها نظر حيث استند في ذلك إلى أنه كان ممنوعًا ثم أجيز؛ لأن من شروط النسخ تعذر إمكان الجمع بين النصين، والعلم بتأخر الناسخ، وأما مع إمكان الجمع فلا تقبل دعوى النسخ؛ لأن الجمع يكون فيه العمل بالدليلين, والنسخ يكون فيه إبطال أحد الدليلين, ثم إن طريق العلم بالمتأخر ليس الاستنتاج والتخمين، بل النقل المجرد هو الطريق إلى العلم بالمتأخر ثم إن قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه صورة» خبر والخبر لا يدخله النسخ إلا إذا أريد به الإنشاء, وليس هذا مما أريد به الإنشاء. نعم الخبر يدخله التخصيص فينظر هل هذا الحديث مخصص بالصور التي ذكرها؟ هذا محل خلاف بين أهل العلم، فمنهم من يرى أن هذا الحديث مخصص بقوله: «إلا رقمًا في ثوب» وبحديث عائشة رضي الله عنها في الستر الذي فيه تمثال طائر وقد ذكر الشيخ..... أن حديث " «إلا رقمًا في ثوب» رواه الخمسة, وقد رواه البخاري ومسلم أيضًا ومن العلماء من يرى أن هذا الترخيص في الرقم في الثوب وتمثال الطائر كان في أول الأمر ثم نهي عنه على العكس من قول الشيخ ...
والذي يظهر لي أن الجمع ممكن وهو أن يحمل قوله: «إلا رقمًا في ثوب» على ما ورد حله مما يتكأ عليه ويمتهن, فيكون الرقم في الثوب المراد به ما كان في مخدة ونحوها؛ لأنه الذي ورد حله, وأن زيد بن خالد ألحق به الستر ونحوه وهو إلحاق غير صحيح؛ لأن حديث عائشة رضي الله عنها في السهوة صريح في المنع منه؛ حيث هتكه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتلون من أجله وجهه.
وأما حديث مسلم في تمثال الطائر فيحمل على أنه تمثال لا رأس فيه وعلى أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كرهه لا من أجل أنه صورة ولكن(2/276)
من أجل أنه من باب الترف الزائد ولهذا قال: «حوليه فإني كلما دخلت ورأيته ذكرت الدنيا» . ويؤيد هذا الحمل ما رواه مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج في غزاته فأخذت نمطًا فسترته على الباب, فلما قدم فرأى النمط عرفت الكراهية في وجهه فجذبه حتى هتكه أو قطعه وقال: "إن الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين» . وعلى هذا فتكون النتيجة في هذا تحريم اقتناء الصور المجسمة والملونة والمنقورة والمزبورة إلا الملونة إذا كانت في شيء يمتهن كالفراش ونحوه, فلا تحرم لكن الأولى التنزه عنها أيضًا لما في الصحيحين من حديث عائشة أنها اشترت نمرقة للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها تصاوير ليقعد عليها ويتوسدها، فلما رآها قام على الباب ولم يدخل وعرفت الكراهية في وجهه ثم أخبر أن أصحاب هذه الصور يعذبون يقال: أحيوا ما خلقتم ثم قال: «إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة» والله الموفق.
(329) سئل فضيلة الشيخ: هناك أنواع كثيرة من العرائس منها ما هو مصنوع من القطن، وهو عبارة عن كيس مفصل برأس ويدين ورجلين، ومنها ما يشبه الإنسان تمامًا، ومنها ما يتكلم أو يبكي أو يمشي، فما حكم صنع أو شراء مثل هذه الأنواع للبنات الصغار للتعليم والتسلية؟
فأجاب بقوله: أما الذي لا يوجد فيه تخطيط كامل وإنما يوجد فيه شيء من الأعضاء والرأس, ولكن لم تتبين فيه الخلقة فهذا لا شك في جوازه وأنه من جنس البنات اللاتي كانت عائشة رضي الله عنها تلعب بهن.(2/277)
وأما إذا كان كامل الخلقة وكأنما تشاهد إنسانًا ولا سيما إن كان له حركة أو صوت فإن في نفسي من جواز هذه شيئًا؛ لأنه يضاهي خلق الله تمامًا، والظاهر أن اللعب التي كانت عائشة تلعب بها ليست على هذا الوصف، فاجتنابها أولى؛ ولكني لا أقطع بالتحريم نظرًا لأن الصغار يرخص لهم ما لا يرخص للكبار في مثل هذه الأمور، فإن الصغير مجبول على اللعب والتسلي، وليس مكلفًا بشيء من العبادات حتى نقول: إن وقته يضيع عليه لهوًا وعبثًا، وإذا أراد الإنسان الاحتياط في مثل هذا فليقلع الرأس أو يحميه على النار حتى يلين ثم يضغطه حتى تزول معالمه.
(330) وسئل فضيلة الشيخ: هل هناك فرق بين أن يصنع الأطفال تلك اللعب وبين أن نصنعها نحن لهم أو نشتريها لهم؟
فأجاب فضيلته بقوله: أنا أرى أن صنعها على وجه يضاهي خلق الله حرام؛ لأن هذا من التصوير الذي لا شك في تحريمه، لكن إذا جاءتنا من النصارى أو غيرهم من غير المسلمين فإن اقتناءها كما قلت أولًا.
لكن بالنسبة للشراء بدلًا من أن نشتريها ينبغي أن نشتري أشياء ليست فيها صور كالدراجات أو السيارات أو الرافعات وما أشبهها.
أما مسألة القطن والذي ما تتبين له صورة على الرغم مما هناك من أنه أعضاء ورأس ورقبة, ولكن ليس فيه عيون ولا أنف فما فيه بأس؛ لأن هذا لا يضاهي خلق الله.(2/278)
(331) وسئل فضيلته: عن حكم صنع ما يشبه هذه العرائس بمادة الصلصال ثم عجنها في الحال؟
فأجاب بقوله: كل من صنع شيئًا يضاهي خلق الله فهو داخل في الحديث، وهو لعن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المصورين. وقوله: «أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون» لكن كما قلت: إنه إذا لم تكن الصورة واضحة أي ليس فيها عين أو أنف ولا فم ولا أصابع فهذه ليست صورة كاملة ولا مضاهية لخلق الله عز وجل.
(332) سئل فضيلة الشيخ: كثير من الألعاب تحوي صورًا مرسومة باليد لذوات الأرواح والهدف منها غالبًا التعليم مثل هذه الموجودة في الكتاب الناطق فهل هي جائزة؟
فأجاب بقوله: إذا كانت لتسلية الصغار فإن من أجاز اللعب للصغار يجيز مثل هذه الصور، وأما من منع هذه الصور على أن هذه الصور ليست أيضًا مطابقة للصورة التي خلق الله عليها هذه المخلوقات المصورة كما يتضح مما هو أمامي. والخطب في هذا سهل.
(333) سئل فضيلة الشيخ: ما حكم صور الكرتون التي تخرج في التلفزيون؟ وما قولكم في ظهور بعض المشايخ فيه؟ وما حكم استصحاب الدراهم التي فيها صور؟
فأجاب قائلًا: أما صور الكرتون التي ذكرتم أنها تخرج في التلفزيون فإن كانت على شكل آدمي فحكم النظر فيها محل تردد، هل يلحق بالصور الحقيقية أو لا؟.(2/279)
والأقرب أنه لا يلحق بها. وإن كانت على شكل غير آدمي فلا بأس بمشاهدتها إذا لم يصحبها أمر منكر من موسيقى أو نحوها ولم تله عن واجب.
وأما ظهور بعض المشايخ في التفزيون فهو محل اجتهاد إن أصاب الإنسان فيه فله أجران, وإن أخطأ فله أجر واحد، ولا شك أن المحب للخير منهم قصد نشر العلم وأحكام الشريعة؛ لأن التلفزيون أبلغ وسائل الإعلام وضوحًا، وأعمها شمولًا، وأشدها من الناس تعلقًا فهم يقولون: إن تكلمنا في التفزيون وإلا تكلم غيرنا, وربما كان كلام غيرنا بعيدًا من الصواب، فننصح الناس ونوصد الباب ونسد الطريق أمام من يتكلم بغير علم فيضل ويضل.
وأما استصحاب الرجل ما ابتلي به المسلمون اليوم من الدراهم التي عليها صور الملوك والرؤساء فهذا أمر قديم، وقد تكلم عليه أهل العلم، ولقد كان الناس هنا يحملون الجنيه الفرنجي وفيه صورة فرس وفارس، ويحملون الريال الفرنسي وفيه صورة رأس ورقبة وطير. والذي نرى في هذا أنه لا إثم على من استصحبه لدعاء الحاجة إلى حمله؛ إذ الإنسان لا بد له من حمل شيء من الدراهم في جيبه ومنع الناس من ذلك فيه حرج وتعسير, وقد قال الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وقال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} وصح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا» . رواه البخاري. «وقال لمعاذ بن جبل وأبي موسى»(2/280)
«عند بعثهما إلى اليمن: "يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا» وقال للناس حين زجروا الأعرابي الذي بال في المسجد: «دعوه فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين» رواهما البخاري أيضًا.
فإذا حمل الرجل الدراهم التي فيها صورة، أو التابعية، أو الرخصة وهو محتاج إليهما أو يخشى الحاجة فلا حرج في ذلك ولا إثم إن شاء الله تعالى إذا كان الله تعالى يعلم أنه كاره لهذا التصوير, وإقراره وأنه لولا الحاجة إليه ما حمله.
والله أسأل أن يعصمنا جميعًا والمسلمين من أن تحيط بنا خطايانا وأن يرزقنا الثبات والاستقامة على دينه إنه جواد كريم.
(334) سئل فضيلة الشيخ: عن حكم إقامة مجسم لقلب إنسان لأجل التذكير بقدرة الله وعظمته عز وجل؟ .
فأجاب فضيلته: صورة القلب أو غيره من الأجزاء ليس من الصور المحرمة؛ لأنه بعض صورة, وعلى هذا فيجوز رسم القلب، أو اليد، أو الرجل أو الرأس كل واحد على حدة، ولكن المشكل في السؤال صرف الأموال في مثل هذا؛ لأن النفع الحاصل به لا يساوي الأموال المصروفة فيه ولا يقرب منها, فجواز صرف الأموال في هذا محل نظر والسلامة أسلم. والله تعالى الموفق.
(335) سئل فضيلة الشيخ: كيف نجمع بين قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة الذين»(2/281)
«يضاهون بخلق الله» وبين كون المشرك أشد الناس عذابًا يوم القيامة؟
فأجاب -حفظه الله- بقوله: ذكر في الجمع بينهما وجوه:
الوجه الأول: أن الحديث على تقدير "مِنْ" أي إن من أشد الناس عذابًا بدليل أنه قد جاء بلفظ "إن من أشد الناس عذابًا" فيحمل ما حذفت منه على ما ثبتت فيه.
الوجه الثاني: أن الأشدية لا تعني أن غيرهم لا يشاركهم بل يشاركهم غيرهم قال تعالى: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} فيكون الجميع مشتركين في الأشد.
ولكن يرد على هذا أن المصور فاعل كبيرة فقط فكيف يسوى بمن هو كافر مستكبر؟
الوجه الثالث: أن الأشدية نسبية يعني أن المصورين أشد الناس عذابًا بالنسبة للعصاة الذين لم تبلغ معصيتهم الكفر لا بالنسبة لجميع الناس. وهذا أقرب الوجوه والله أعلم.
(336) وسئل: عن حكم تعليق الصور على الجدران؟
فأجاب بقوله: تعليق الصور على الجدران ولا سيما الكبيرة منها حرام حتى وإن لم يخرج إلا بعض الجسم والرأس، وقصد التعظيم فيها ظاهر, وأصل الشرك هو هذا الغلو كما جاء ذلك عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال في أصنام قوم نوح التي يعبدونها: إنها كانت أسماء رجال صالحين صوروا صورهم ليتذكروا العبادة، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم.(2/282)
(337) وسئل أيضًا: عن حكم إقتناء الصور للذكرى؟ .
فأجاب الشيخ بقوله: اقتناء الصور للذكرى محرم؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبر أن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه صورة، وهذا يدل على تحريم اقتناء الصور في البيوت. والله المستعان.
(338) سئل فضيلة الشيخ: هل يلزم الإنسان طمس الصورة التي في الكتب؟ وهل وضع خط بين الرقبة والجسم يزيل الحرمة؟
فأجاب -حفظه الله تعالى- بقوله: لا أرى أنه يلزم طمسها؛ لأن في ذلك مشقة كبيرة، ولأنها أي هذه الكتب ما قصد بها هذه الصورة إنما قصد ما فيها من العلم.
ووضع خط بين الرقبة والجسم هذا لا يغير الصورة عما هي عليه.
339 - سئل فضيلة الشيخ: عن حكم تصوير المحاضرات والندوات بأجهزة الفيديو؟
فأجاب بقوله: الذي أرى أنه لا بأس بتصوير المحاضرات والندوات بأجهزة الفيديو التلفزيونية إذا دعت الحاجة إلى ذلك أو اقتضته المصلحة لأمور:
أولًا: أن التصوير الفوتوغرافي الفوري لا يدخل في مضاهاة خلق الله كما يظهر للمتأمل.(2/283)
ثانيًا: أن الصورة لا تظهر على الشريط فلا يكون فيه اقتناء للصورة.
ثالثًا: أن الخلاف في دخول التصوير الفوتوغرافي الفوري في مضاهاة خلق الله -وإن كان يورث شبهة- فإن الحاجة أو المصلحة المحققة لا تترك لخلاف لم يتبين فيه وجه المنع. هذا ما أراه في هذه المسألة. والله الموفق.
(340) سئل فضيلة الشيخ -حفظه الله- عن معنى جملة: "إلا رقمًا في ثوب " التي وردت في الحديث هل تدل على حل الصور التي في الثوب؟
فأجاب -حفظه الله- بقوله: إن رأينا في الحديث: «إلا رقمًا في ثوب» من النصوص المتشابهة والقاعدة السليمة: يُردُّ إلى المحكم. ولقوله تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} .
ويُردُّ المتشابه إلى المحكم ولا يبقى فيه اشتباه.
فهذا الحديث: «إلا رقمًا في ثوب» يحتمل أنه عام، رقمًا: يشمل صورة الحيوان وصورة الأشجار وغير ذلك، فإنه كان محتملًا لهذا فإنه يُحمل على النصوص المحكمة التي تُبين أن المراد برقم الثوب ما ليس بصورة حيوان أو إنسان حتى تبقى النصوص متطابقة مُتَّفقة.
ونحن لا نرى ذلك والتفصيل فيما له ظل وما ليس له ظل؛ لأن حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه في صحيح مسلم أنه قال: «يا أبا»(2/284)
«الهياج ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألا تدع قبرًا مشرفًا إلا سويته ولا صورة إلا طمستها» .
(341) سئل فضيلة الشيخ -حفظه الله-: عن التصوير باليد؟ .
فأجاب -حفظه الله- بقوله: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، التصوير باليد حرام بل هو من كبائر الذنوب؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعن المصورين, واللعن لا يكون إلا على كبيرة من كبائر الذنوب, وسواء رسم الصورة يختبر إبداعه أو رسمها للتوضيح للطلاب أو لغير ذلك فإنه حرام، لكن لو رسم أجزاء من البدن كاليد وحدها أو الرأس وحده فهذا لا بأس به.
(342) سئل فضيلة الشيخ -حفظه الله- عن التصوير بالآلة الفوتوغرافية الفورية؟
فأجاب -حفظه الله- بقوله: التقاط الصورة بالآلة الفوتوغرافية الفورية التي لا تحتاج إلى عمل بيد, فإن هذا لا بأس به؛ لأنه لا يدخل في التصوير، ولكن يبقى النظر، ما هو الغرض من هذا الالتقاط: إذا كان الغرض من هذا الالتقاط هو أن يقتنيها الإنسان ولو للذكرى صار ذلك الالتقاط حرامًا؛ وذلك لأن الوسائل لها أحكام المقاصد، واقتناء الصور للذكرى محرم لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبر أن «الملائكة لا تدخل بيتًا فيه صورة» وهذا يدل على تحريم اقتناء الصور في البيوت، وأما تعليق الصور على الجدران فإنه محرم, ولا يجوز والملائكة لا تدخل بيتًا فيه صورة.(2/285)
(343) سئل فضيلة الشيخ -حفظه الله- عما ابتلي به الناس اليوم من وجود الصور بأشياء من حاجاتهم الضرورية؟
فأجاب -حفظه الله- بقوله: ما ابتلي به الناس اليوم من وجود الصور بأشياء من حاجاتهم الضرورية، فأرى أنه إذا أمكن مدافعتها فذاك، وإن لم يكن فإن فيها من الحرج والمشقة والعسر مما ارتفع عن هذه الأمة، بمعنى أنه يوجد في بعض المجلات وفي بعض الصحف التي يقتنيها الإنسان لما فيها من المنافع والإرشاد والتوجيه, فأرى أن مثل هذا ما دام لم يقصد الصورة نفسها فلا بأس أن يقتنيها لا سيما إذا كانت الصورة مغلقة لا تبرز ولا تبين.
(344) سئل فضيلة الشيخ -حفظه الله- عن نشر صور المشوهين الأفغان؟
فأجاب -حفظه الله- بقوله: نشر صور المشوهين الأفغان مصلحة في الحقيقة وهي أنها توجب اندفاع الناس بالتبرع لهم، لكن أقول: إن هذا قد يحصل بدون نشر هذه الأشياء أو ربما يمكن أن نضع شيئًا على الوجه بحيث لا يتبين الرأس؛ لأن الرأس إذا قطع لا تبقى صورة كما جاء في الحديث «ألا تدع صورة إلا طمستها ولا قبرًا إلا سويته» وهذا ظاهره أن المراد بالصورة حتى صورة التلوين وإن لم يكن لها ظل؛ لأنه لم يقل: إلا كسرتها، والطمس إنما يكون لما كان ملونًا.
وكذلك أيضًا حديث عائشة في البخاري حينما «دخل عليه الصلاة والسلام فوجد نمرقة فيها صورة فوق على الباب, وعرفت في وجهه الكراهية، وقال عليه الصلاة والسلام: "إن أصحاب هؤلاء الصور يعذبون» ، فهذا دليل على أنه يشمل الصورة التي لها ظل والتي ليس لها ظل وهذا هو الصحيح.(2/286)
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد الصالح العثيمين إلى أخيه المكرم الشيخ..... حفظه الله -تعالى-، وجعله من عباده الصالحين، وأوليائه المؤمنين المتقين، وحزبه المفلحين، آمين.
وبعد فقد وصلني كتابكم الذي تضمن السلام والنصيحة، فعليكم السلام، ورحمة الله وبركاته، وجزاكم الله عني على نصيحتكم البالغة التي أسأل الله -تعالى- أن ينفعني بها.
ولا ريب أن الطريقة التي سلكتموها في النصيحة هي الطريقة المثلى للتناصح بين الإخوان، فإن الإنسان محل الخطأ والنسيان، والمؤمن مرآة أخيه، ولا يؤمن أحد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.
ولقد بلغت نصيحتكم مني مبلغًا كبيرًا بما تضمنته من العبارات الواعظة والدعوات الصادقة، أسأل الله أن يتقبلها، وأن يكتب لكم مثلها.
وما أشرتم إليه -حفظكم الله- من تكرر جوابي على إباحة الصورة المأخوذة بالآلة: فإني أفيد أخي أنني لم أبح اتخاذ الصورة -والمراد صورة ما فيه روح من إنسان أو غيره- إلا ما دعت الضرورة أو الحاجة إليه، كالتابعية، والرخصة، وإثبات الحقائق ونحوها.
وأما اتخاذ الصورة للتعظيم، أو للذكرى، أو للتمتع بالنظر إليها، أو التلذذ بها فإني لا أبيح ذلك، سواء كان تمثالًا أو رقمًا وسواء كان مرقومًا(2/287)
باليد أو بالآلة، لعموم قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لا تدخل الملائكة بيتًا فيه صورة» . وما زلت أفتي بذلك وآمر من عنده صور للذكرى بإتلافها، وأشدد كثيرًا إذا كانت الصورة صورة ميت.
وأما تصوير ذوات الأرواح من إنسان أو غيره فلا ريب في تحريمه، وأنه من كبائر الذنوب، لثبوت لعن فاعله على لسان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهذا ظاهر فيما إذا كان تمثالًا -أي مجسمًا- أو كان باليد. أما إذا كان بالآلة الفورية التي تلتقط الصورة ولا يكون فيها أي عمل من الملتقط من تخطيط الوجه وتفصيل الجسم ونحوه، فإن التقطت الصورة لأجل الذكرى ونحوها من الأغراض التي لا تبيح اتخاذ الصورة فإن التقاطها بالآلة محرم تحريم الوسائل، وإن التقطت الصورة للضرورة أو الحاجة فلا بأس بذلك.
هذا خلاصة رأيي في هذه المسألة، فإن كان صوابًا فمن الله وهو المانّ به، وإن كان خطأ فمن قصوري أو تقصيري، وأسأل الله أن يعفو عني منه، وأن يهديني إلى الصواب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(2/288)
البدعة(2/289)
(345) سئل فضيلة الشيخ -حفظه الله تعالى-: عن البدعة؟
فأجاب قائلًا: البدعة قال فيها رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار» . وإذا كان كذلك فإن البدع سواء كانت ابتدائية أم استمرارية يأثم من تلبس بها لأنها كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: «في النار» ؛ أعني أن الضلالة هذه تكون سببًا للتعذيب في النار، وإذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام حذر أمته من البدع؛ فمقتضى ذلك أنها مفسدة محضة لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمم ولم يخص قال: «كل بدعة ضلالة» .
ثم إن البدع في الحقيقة هي انتقاد غير مباشر للشريعة الإسلامية؛ لأن معناها أو مقتضاها أن الشريعة لم تتم، وأن هذا المبتدع أتمها بما أحدث من العبادة التي يتقرب بها إلى الله كما زعم.
فعليه نقول: كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، والواجب الحذر من البدع كلها وألا يتعبد الإنسان إلا بما شرعه الله ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ليكون إمامه حقيقة؛ لأن من سلك سبيل بدعة فقد جعل المبتدع إمامًا له في هذه البدعة دون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(346) وسئل: عن معنى البدعة وعن ضابطها؟ وهل هناك بدعة حسنة؟ وما معنى قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من سن في الإسلام سنة حسنة» ؟(2/291)
فأجاب بقوله: البدعة شرعًا ضابطها" التعبد لله بما لم يشرعه الله"، وإن شئت فقل: "التعبد لله - تعالى- بما ليس عليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا خلفاؤه الراشدون" فالتعريف الأول مأخوذ من قوله- تعالى-: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} . والتعريف الثاني مأخوذ من قول النبي عليه الصلاة والسلام: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور» فكل من تعبد لله بشيء لم يشرعه الله، أو بشيء لم يكن عليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وخلفاؤه الراشدون فهو مبتدع سواء كان ذلك التعبد فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته أو فيما يتعلق بأحكامه وشرعه. أما الأمور العادية التي تتبع العادة والعرف فهذه لا تسمى بدعة في الدين وإن كانت تسمى بدعة في اللغة، ولكن ليست بدعة في الدين وليست هي التي حذر منها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وليس في الدين بدعة حسنة أبدًا، والسنة الحسنة هي التي توافق الشرع، وهذه تشمل أن يبدأ الإنسان بالسنة أي يبدأ العمل بها، أو يبعثها بعد تركها، أو يفعل شيئًا يسنه يكون وسيلة لأمر متعبد به فهذه ثلاثة أشياء:
الأول: إطلاق السنة على من ابتدأ العمل ويدل له سبب الحديث فإن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حث على التصدق على القوم الذين قدموا عليه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهم في حاجة وفاقة، فحث على التصدق فجاء رجل من الأنصار بصرة من فضة قد أثقلت يده فوضعها في حجر النبي عليه الصلاة والسلام، فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:(2/292)
«من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها» فهذا الرجل سن سنة ابتداء عمل لا ابتداء شرع.
الثاني: السنة التي تركت ثم فعلها الإنسان فأحياها فهذا يقال عنه: سنها بمعنى أحياها وإن كان لم يشرعها من عنده.
الثالث: أن يفعل شيئًا وسيلة لأمر مشروع مثل بناء المدارس وطبع الكتب فهذا لا يتعبد بذاته ولكن لأنه وسيلة لغيره فكل هذا داخل في قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: " «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها» . والله أعلم.
(347) وسئل فضيلة الشيخ: كيف يتعامل الإنسان الملتزم بالسنة مع صاحب البدعة؟ وهل يجوز هجره؟
فأجاب بقوله: البدع تنقسم إلى قسمين:
بدع مكفرة، وبدع دون ذلك. وفي كلا القسمين يجب علينا نحن أن ندعو هؤلاء الذين ينتسبون إلى الإسلام ومعهم البدع المكفرة وما دونها إلى الحق؛ ببيان الحق دون أن نهاجم ما هم عليه إلا بعد أن نعرف منهم الاستكبار عن قبول الحق؛ لأن الله -تعالى- قال للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} فندعو أولًا هؤلاء إلى الحق ببيان الحق وإيضاحه بأدلته، والحق مقبول لدى كل ذي فطرة سليمة، فإذا وجد العناد والاستكبار فإننا نبين باطلهم، على أن بيان باطلهم في غير مجادلتهم أمر واجب.(2/293)
أما هجرهم فهذا يترتب على البدعة، فإذا كانت البدعة مكفرة وجب هجره، وإذا كانت دون ذلك فإننا نتوقف في هجره؛ إن كان في هجره مصلحة فعلناه، وإن لم يكن فيه مصلحة اجتنبناه، وذلك أن الأصل في المؤمن تحريم هجره لقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لا يحل لرجل مؤمن أن يهجر أخاه فوق ثلاث» فكل مؤمن وإن كان فاسقًا فإنه يحرم هجره ما لم يكن في الهجر مصلحة، فإذا كان في الهجر مصلحة هجرناه؛ لأن الهجر حينئذ دواء، أما إذا لم يكن فيه مصلحة أو كان فيه زيادة في المعصية والعتو، فإن ما لا مصلحة فيه تركه هو المصلحة.
فإن قال قائل: يرد على ذلك أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هجر كعب بن مالك وصاحبيه الذين تخلفوا عن غزوة تبوك؟
فالجواب: أن هذا حصل من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وأمر الصحابة بهجرهم لأن في هجرهم فائدة عظيمة، فقد ازدادوا تمسكًا بما هم عليه حتى إن كعب بن مالك - رضي الله عنه- جاءه كتاب من ملك غسان يقول: فيه بأنه سمع أن صاحبك -يعني الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد جفاك وأنك لست بدار هوان ولا مذلة فالحق بنا نواسك. فقام كعب مع ما هو عليه من الضيق والشدة وأخذ الكتاب وذهب به وأحرقه في التنور. فهؤلاء حصل في هجرهم مصلحة عظيمة، ثم النتيجة التي لا يعادلها نتيجة أن الله أنزل فيهم قرآنًا يتلى إلى يوم القيامة قال -تعالى-: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} الآيتان.(2/294)
(348) وسئل فضيلة الشيخ: كيف نرد على أهل البدع الذين يستدلون على بدعهم بحديث: «من سن في الإسلام سنة حسنة» .... " إلخ؟
فأجاب بقوله: نرد على هؤلاء فنقول: إن الذي قال: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها» . هو الذي قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار» . وعلى هذا يكون قوله: «من سن في الإسلام سنة حسنة» . منزلًا على سبب هذا الحديث، وهو أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حث على الصدقة للقوم الذين جاءوا من مضر في حاجة وفاقة فجاء رجل بصرة من فضة فوضعها بين يدي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة» . وإذا عرفنا سبب الحديث وتنزل المعنى عليه؛ تبين أن المراد بسن السنة سن العمل بها، وليس سن التشريع لأن التشريع لا يكون إلا لله ورسوله، وأن معنى الحديث من سن سنة أي ابتدأ العمل بها واقتدى الناس به فيها، كان له أجرها وأجر من عمل بها، هذا هو معنى الحديث المتعين، أو يحمل على أن المراد «من سن سنة حسنة» من فعل وسيلة يتوصل بها إلى العبادة واقتدى الناس به فيها، كتأليف الكتاب،(2/295)
وتبويب العلم، وبناء المدارس، وما أشبه هذا مما يكون وسيلة لأمر مطلوب شرعًا. فإذا ابتدأ الإنسان هذه الوسيلة المؤدية للمطلوب الشرعي وهي لم ينه عنها بعينها، كان داخلًا في هذا الحديث.
ولو كان معنى الحديث أن الإنسان له أن يشرع ما شاء، لكان الدين الإسلامي لم يكمل في حياة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولكان لكل أمة شرعة ومنهاج، وإذا ظن هذا الذي فعل هذه البدعة أنها حسنة فظنه خاطئ؛ لأن هذا الظن يكذبه قول الرسول عليه الصلاة والسلام: «كل بدعة ضلالة» .
(349) وسئل - حفظه الله-: عن حكم إظهار الفرح والسرور بعيد الفطر وعيد الأضحى؟ وبليلة السابعة والعشرين من رجب؟ وليلة النصف من شعبان؟ ويوم عاشوراء؟
فأجاب فضيلته بقوله: أما إظهار الفرح والسرور في أيام العيد عيد الفطر أو عيد الأضحى فإنه لا بأس به إذا كان في الحدود الشرعية، ومن ذلك أن يأتي الناس بالأكل والشرب وما أشبه هذا، وقد ثبت عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: «أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله -عز وجل-» يعني بذلك الثلاثة الأيام التي بعد عيد الأضحى المبارك وكذلك في العيد فالناس يضحون ويأكلون من ضحاياهم ويتمتعون بنعم الله عليهم، وكذلك في عيد الفطر لا بأس بإظهار الفرح والسرور ما لم يتجاوز الحد الشرعي.
أما إظهار الفرح في ليلة السابع والعشرين من رجب، أو ليلة النصف من شعبان أو في يوم عاشوراء، فإنه لا أصل له وينهى عنه ولا(2/296)
يحضر الإنسان إذا دعي إليه لقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة» . فأما ليلة السابع والعشرين من رجب فإن الناس يدعون أنها ليلة المعراج التي عرج بالرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيها إلى الله -عز وجل- وهذا لم يثبت من الناحية التاريخية وكل شيء لم يثبت فهو باطل، والمبني على الباطل باطل، ثم على تقدير ثبوت أن ليلة المعراج ليلة السابع والعشرين من رجب، فإنه لا يجوز لنا أن نحدث فيها شيئًا من شعائر الأعياد أو شيئًا من العبادات؛ لأن ذلك لم يثبت عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه فإذا كان لم يثبت عمن عرج به ولم يثبت عن أصحابه الذين هم أولى الناس به وهم أشد الناس حرصًا على سنته وشريعته؛ فكيف يجوز لنا أن نحدث ما لم يكن على عهد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في تعظيمها، ولا في إحيائها، وإنما أحياها بعض التابعين بالصلاة والذكر لا بالأكل والفرح وإظهار شعائر الأعياد.
وأما يوم عاشوراء فإن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سئل عن صومه فقال: " «يكفر السنة الماضية» يعني التي قبله وليس في هذا اليوم شيء من شعائر الأعياد، وكما أنه ليس فيه شيء من شعائر الأعياد فليس فيه شيء من شعائر الأحزان أيضًا؛ فإظهار الحزن أو الفرح في هذا اليوم كلاهما خلاف السنة ولم يرد عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في هذا اليوم إلا صيامه. مع أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمر أن نصوم يومًا قبله أو يومًا بعده حتى نخالف اليهود الذين كانوا يصومونه وحده.
(350) وسئل فضيلة الشيخ جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء: عن حكم الاحتفال بالمولد النبوي؟(2/297)
فأجاب قائلًا:
أولًا: ليلة مولد الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليست معلومة على الوجه القطعي، بل إن بعض العصريين حقق أنها ليلة التاسع من ربيع الأول وليست ليلة الثاني عشر منه، وحينئذ فجعل الاحتفال ليلة الثاني عشر منه لا أصل له من الناحية التاريخية.
ثانيًا: من الناحية الشرعية فالاحتفال لا أصل له أيضًا لأنه لو كان من شرع الله لفعله النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو بلغه لأمته، ولو فعله أو بلغه لوجب أن يكون محفوظًا لأن الله -تعالى- يقول: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . فلما لم يكن شيء من ذلك علم أنه ليس من دين الله، وإذا لم يكن من دين الله فإنه لا يجوز لنا أن نتعبد به لله -عز وجل- ونتقرب به إليه، فإذا كان الله تعالى - قد وضع للوصول إليه طريقًا معينًا وهو ما جاء به الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فكيف يسوغ لنا ونحن عباد أن نأتي بطريق من عند أنفسنا يوصلنا إلى الله؟ هذا من الجناية في حق الله -عز وجل- أن نشرع في دينه ما ليس منه، كما أنه يتضمن تكذيب قول الله -عز وجل-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} .
فنقول:هذا الاحتفال إن كان من كمال الدين فلا بد أن يكون موجودًا قبل موت الرسول عليه الصلاة والسلام، وإن لم يكن من كمال الدين فإنه لا يمكن أن يكون من الدين لأن الله - تعالى - يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} ومن زعم أنه من كمال الدين وقد حدث بعد الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فإن قوله يتضمن تكذيب هذه الآية(2/298)
الكريمة، ولا ريب أن الذين يحتفلون بمولد الرسول عليه الصلاة والسلام، إنما يريدون بذلك تعظيم الرسول عليه الصلاة والسلام، وإظهار محبته وتنشيط الهمم على أن يوجد منهم عاطفة في ذلك الاحتفال للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكل هذا من العبادات؛ محبة الرسول عليه الصلاة والسلام، عبادة بل لا يتم الإيمان حتى يكون الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أحب إلى الإنسان من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين. وتعظيم الرسول عليه الصلاة والسلام من العبادة، كذلك إلهاب العواطف نحو النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الدين أيضًا لما فيه من الميل إلى شريعته، إذًا فالاحتفال بمولد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من أجل التقرب إلى الله وتعظيم رسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عبادة وإذا كان عبادة فإنه لا يجوز أبدًا أن يحدث في دين الله ما ليس منه، فالاحتفال بالمولد بدعة ومحرم، ثم إننا نسمع أنه يوجد في هذا الاحتفال من المنكرات العظيمة ما لا يقره شرع ولا حس ولا عقل فهم يتغنون بالقصائد التي فيها الغلو في الرسول عليه الصلاة والسلام، حتى جعلوه أكبر من الله -والعياذ بالله- ومن ذلك أيضًا أننا نسمع من سفاهة بعض المحتفلين أنه إذا تلا التالي قصة المولد ثم وصل إلى قوله " ولد المصطفى" قاموا جميعًا قيام رجل واحد يقولون: إن روح الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حضرت فنقوم إجلالًا لها وهذا سفه، ثم إنه ليس من الأدب أن يقوموا لأن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يكره القيام له؛ فأصحابه وهم أشد الناس حبًّا له وأشد منا تعظيمًا للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يقومون له لما يرون من كراهيته لذلك وهو حي فكيف بهذه الخيالات؟!
وهذه البدعة -أعني بدعة المولد- حصلت بعد مضي القرون الثلاثة(2/299)
المفضلة وحصل فيها ما يصحبها من هذه الأمور المنكرة التي تخل بأصل الدين فضلًا عما يحصل فيها من الاختلاط بين الرجال والنساء وغير ذلك من المنكرات.
(351) وسئل فضيلة الشيخ: عن الفرق بين ما يسمى بأسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- والاحتفال بالمولد النبوي حيث ينكر على من فعل الثاني دون الأول؟
فأجاب بقوله: الفرق بينهما حسب علمنا من وجهين:
الأول: أن أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- لم يتخذ تقربًا إلى الله -عز وجل- وإنما يقصد به إزالة شبهة في نفوس بعض الناس في هذا الرجل، ويبين ما من الله به على المسلمين على يد هذا الرجل.
الثاني: أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- لا يتكرر ويعود كما تعود الأعياد، بل هو أمر بين للناس وكتب فيه ما كتب، وتبين في حق هذا الرجل ما لم يكن معروفًا من قبل لكثير من الناس ثم انتهى أمره.
(352) وسئل: عن حكم إقامة الأسابيع كأسبوع المساجد وأسبوع الشجرة؟
فأجاب بقوله: هذه الأسابيع لا أعلم لها أصلًا من الشرع، وإذا اتخذت على سبيل التعبد وخصصت بأيام معلومة تصير كالأعياد فإنها تلتحق بالبدعة؛ لأن كل شيء يتعبد به الإنسان لله -عز وجل- وهو غير(2/300)
وارد في كتاب الله ولا في سنة رسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فإنه من البدع. لكن الذين نظموها يقولون: إن المقصود بذلك هو تنشيط الناس على هذه الأعمال التي جعلوا لها هذه الأسابيع وتذكيرهم بأهميتها. ويجب أن ينظر في هذا الأمر وهل هذا مسوغ لهذه الأسابيع أو ليس بمسوغ؟
(353) وسئل أيضًا: عن حكم الاحتفال بما يسمى عيد الأم؟
فأجاب قائلًا: إن كل الأعياد التي تخالف الأعياد الشرعية كلها أعياد بدع حادثة لم تكن معروفة في عهد السلف الصالح، وربما يكون منشئها من غير المسلمين أيضًا، فيكون فيها مع البدعة مشابهة أعداء الله -سبحانه وتعالى-، والأعياد الشرعية معروفة عند أهل الإسلام؛ وهي عيد الفطر، وعيد الأضحى، وعيد الأسبوع "يوم الجمعة" وليس في الإسلام أعياد سوى هذه الأعياد الثلاثة، وكل أعياد أحدثت سوى ذلك فإنها مردودة على محدثيها وباطلة في شريعة الله -سبحانه وتعالى- لقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» . أي مردود عليه غير مقبول عند الله وفي لفظ " «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد» . وإذا تبين ذلك فإنه لا يجوز في العيد الذي ذكر في السؤال والمسمى عيد الأم، لا يجوز فيه إحداث شيء من شعائر العيد؛ كإظهار الفرح والسرور وتقديم الهدايا وما أشبه ذلك، والواجب على المسلم أن يعتز بدينه ويفتخر به وأن يقتصر على ما حده الله - تعالى- ورسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في هذا الدين القيم الذي ارتضاه الله -تعالى- لعباده فلا يزيد فيه ولا ينقص منه، والذي ينبغي للمسلم أيضًا ألا يكون إمعة يتبع كل ناعق بل ينبغي أن يكون شخصيته بمقتضى شريعة الله - تعالى- حتى(2/301)
يكون متبوعًا لا تابعًا، وحتى يكون أسوة لا متأسيًا، لأن شريعة الله -والحمد لله- كاملة من جميع الوجوه كما قال الله - تعالى-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} . والأم أحق من أن يحتفى بها يومًا واحدًا في السنة، بل الأم لها الحق على أولادها أن يرعوها، وأن يعتنوا بها، وأن يقوموا بطاعتها في غير معصية الله -عز وجل- في كل زمان ومكان.
(354) سئل فضيلة الشيخ: عن حكم إقامة أعياد الميلاد للأولاد أو بمناسبة الزواج؟
فأجاب بقوله: ليس في الإسلام أعياد سوى يوم الجمعة عيد الأسبوع، وأول يوم من شوال عيد الفطر من رمضان، والعاشر من شهر ذي الحجة عيد الأضحى، وقد يسمى يوم عرفة عيدًا لأهل عرفة وأيام التشريق أيام عيد تبعًا لعيد الأضحى.
وأما أعياد الميلاد للشخص أو أولاده، أو مناسبة زواج ونحوها فكلها غير مشروعة، وهي للبدعة أقرب من الإباحة.
(355) سئل فضيلة الشيخ: عن حكم أعياد الميلاد؟
فأجاب بقوله: يظهر من السؤال أن المراد بعيد الميلاد عيد ميلاد الإنسان، كلما دارت السنة من ميلاده أحدثوا له عيدًا تجتمع فيه أفراد العائلة على مأدبة كبيرة أو صغيرة.(2/302)
وقولي في ذلك أنه ممنوع لأنه ليس في الإسلام عيد لأي مناسبة سوى عيد الأضحى، وعيد الفطر من رمضان، وعيد الأسبوع وهو يوم الجمعة وفي سنن النسائي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «كان لأهل الجاهلية، يومان في كل سنة يلعبون فيهما فلما قدم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، المدينة قال: "كان لكم يومان تلعبون فيهما وقد بدلكم الله بهما خيرًا منهما يوم الفطر ويوم الأضحى» . ولأن هذا يفتح بابًا إلى البدع مثل أن يقول: قائل: إذا جاز العيد لمولد المولود فجوازه لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أولى، وكل ما فتح بابًا للممنوع كان ممنوعًا. والله الموفق.
(356) سئل فضيلة الشيخ: عن حكم إقامة حفل توديع للكافر عند انتهاء عمله؟ وحكم تعزية الكافر؟ وحكم حضور أعياد الكفار؟
فأجاب بقوله: هذا السؤال تضمن مسائل:
الأولى: إقامة حفل توديع لهؤلاء الكفار -لا شك- أنه من باب الإكرام أو إظهار الأسف على فراقهم، وكل هذا حرام في حق المسلم؛ قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه» والإنسان المؤمن حقًا لا يمكن أن يكرم أحدًا من أعداء الله -تعالى- والكفار أعداء الله بنص القرآن قال الله -تعالى-: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} .(2/303)
المسألة الثانية: تعزية الكافر إذا مات له من يعزى به من قريب أو صديق. وفي هذا خلاف بين العلماء، فمن العلماء من قال: إن تعزيتهم حرام، ومنهم من قال: إنها جائزة. ومنهم من فصل في ذلك فقال: إن كان في ذلك مصلحة كرجاء إسلامهم، وكف شرهم الذي لا يمكن إلا بتعزيتهم، فهو جائز وإلا كان حرامًا.
والراجح أنه إن كان يفهم من تعزيتهم إعزازهم وإكرامهم كانت حرامًا وإلا فينظر في المصلحة.
المسألة الثالثة (1) : حضور أعيادهم ومشاركتهم أفراحهم، فإن كانت أعيادًا دينية كعيد الميلاد فحضورها حرام بلا ريب قال ابن القيم -رحمه الله-: لا يجوز الحضور معهم باتفاق أهل العلم الذين هم أهله، وقد صرح به الفقهاء من أتباع الأئمة الأربعة في كتبهم. والله الموفق.
(357) وسئل فضيلة الشيخ: عن حكم استئجار قارئ ليقرأ القرآن الكريم على روح الميت؟
فأجاب بقوله: هذا من البدع وليس فيه أجر لا للقارئ ولا للميت، ذلك لأن القارئ إنما قرأ للدنيا والمال فقط وكل عمل صالح يقصد به الدنيا فإنه لا يقرب إلى الله ولا يكون فيه ثواب عند الله، وعلى هذا فيكون هذا العمل - يعني استئجار شخص ليقرأ القرآن الكريم على روح الميت - يكون هذا العمل ضائعًا ليس فيه سوى إتلاف المال على الورثة فليحذر منه فإنه بدعة ومنكر.
__________
(1) انظر تفصيل ذلك في الفتوى رقم "404" ص44ج/ 3.(2/304)
(358) وسئل -حفظه الله تعالى-: عن حكم المآتم؟
فأجاب قائلًا: المآتم كلها بدعة سواء كانت ثلاثة أيام، أو على أسبوع، أو على أربعين يومًا، لأنها لم ترد من فعل السلف الصالح -رضي الله عنهم- ولو كان خيرًا لسبقونا إليه، ولأنها إضاعة مال، وإتلاف وقت وربما يحصل فيها شيء من المنكرات من الندب والنياحة ما يدخل في اللعن؛ فإن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لعن النائحة والمستمعة.
ثم إنه إن كان من مال الميت -من ثلثه أعني- فإنه جناية عليه لأنه صرف له في غير الطاعة، وإن كان من أموال الورثة فإن كان فيهم صغار أو سفهاء لا يحسنون التصرف فهو جناية عليهم أيضًا، لأن الإنسان مؤتمن في أموالهم فلا يصرفها إلا فيما ينفعهم، وإن كان لعقلاء بالغين راشدين فهو أيضًا سفه، لأن بذل الأموال فيما لا يقرب إلى الله أو لا ينتفع به المرء في دنياه من الأمور التي تعتبر سفهًا، ويعتبر بذل المال فيها إضاعة له، وقد نهى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن إضاعة المال، والله ولي التوفيق.
(359) سئل فضيلة الشيخ: عن حكم التلاوة لروح الميت؟
فأجاب قائلًا: التلاوة لروح الميت يعني أن يقرأ القرآن وهو يريد أن يكون ثوابه لميت من المسلمين هذه المسألة محل خلاف بين أهل العلم على قولين:
القول الأول: أن ذلك غير مشروع وأن الميت لا ينتفع به أي لا ينتفع بالقرآن في هذه الحال.
القول الثاني: أنه ينتفع بذلك وأنه يجوز للإنسان أن يقرأ القرآن بنية أنه لفلان أو فلانة من المسلمين، سواء كان قريبًا أو غير قريب.(2/305)
والراجح: القول الثاني لأنه ورد في جنس العبادات جواز صرفها للميت، كما في حديث سعد ابن عبادة -رضي الله عنه- حين تصدق ببستانه لأمه، وكما في قصة الرجل الذي قال للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إن أمي افْتُلِتَت نفسها وأظنها لو تكلمت لتصدقت أفأتصدق عنها؟ قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "نعم» وهذه قضايا أعيان تدل على أن صرف جنس العبادات لأحد من المسلمين جائز وهو كذلك، ولكن أفضل من هذا أن تدعو للميت، وتجعل الأعمال الصالحة لنفسك لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» . ولم يقل: أو ولد صالح يتلو له أو يصلي له أو يصوم له أو يتصدق عنه بل قال: - «أو ولد صالح يدعو له» والسياق في سياق العمل، فدل ذلك على أن الأفضل أن يدعو الإنسان للميت لا أن يجعل له شيئًا من الأعمال الصالحة، والإنسان محتاج إلى العمل الصالح، أن يجد ثوابه له مدخرًا عند الله -عز وجل-.
أما ما يفعله بعض الناس من التلاوة للميت بعد موته بأجرة، مثل أن يحضروا قارئًا يقرأ القرآن بأجرة، ليكون ثوابه للميت فإنه بدعة ولا يصل إلى الميت ثواب؛ لأن هذا القارئ إنما قرأ لأجل الدنيا ومن أتى بعبادة من أجل الدنيا فإنه لا حظ له منها في الآخرة كما قال الله - تعالى-: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . وإني بهذه المناسبة أوجه نصيحة لإخواني الذين يعتادون مثل هذا(2/306)
العمل أن يحفظوا أموالهم لأنفسهم أو لورثة الميت، وأن يعلموا أن هذا العمل بدعة في ذاته، وأن الميت لا يصل إليه ثوابه وحينئذ يكون أكلًا للأموال بالباطل ولم ينتفع الميت بذلك.
(360) وسئل أيضًا: عن حكم الاجتماع عند القبر والقراءة؟ وهل ينتفع الميت بالقراءة أم لا؟
فأجاب بقوله: هذا العمل من الأمور المنكرة التي لم تكن معروفة في عهد السلف الصالح وهو الاجتماع عند القبر والقراءة.
وأما كون الميت ينتفع بها فنقول: إن كان المقصود انتفاعه بالاستماع فهذا منتفٍ، لأنه قد مات وقد ثبت عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: «إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث:"صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» . فهو وإن كان يسمع إذا قلنا بأنه يسمع في هذه الحال فإنه لا ينتفع، لأنه لو انتفع لزم منه ألا ينقطع عمله، والحديث صريح في حصر انتفاع الميت بعمله بالثلاث التي ذكرت في الحديث.
وأما إن كان المقصود انتفاع الميت بالثواب الحاصل للقارئ، بمعنى أن القارئ ينوي بثوابه أن يكون لهذا الميت، فإذا تقرر أن هذا من البدع فالبدع لا أجر فيها «كل بدعة ضلالة» كما قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا يمكن أن تنقلب الضلالة هداية، ثم إن هذه القراءة في الغالب تكون بأجرة، والأجرة على الأعمال المقربة إلى الله باطلة، والمستأجر للعمل الصالح إذا نوى بعمله الصالح -هذا الصالح من حيث الجنس وإن كان من حيث النوع ليس بصالح كما سيتبين إن شاء الله- إذا نوى بالعمل(2/307)
الصالح أجرًا في الدنيا، فإن عمله هذا لا ينفعه ولا يقربه إلى الله ولا يثاب عليه لقوله -تعالى-: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} فهذا القارئ الذي نوى بقراءته أن يحصل على أجر دنيوي نقول له: هذه القراءة غير مقبولة، بل هي حابطة ليس فيها أجر ولا ثواب وحينئذ لا ينتفع الميت بما أهدي إليه من ثوابها لأنه لا ثواب فيها، إذًا فالعملية إضاعة مال، وإتلاف وقت، وخروج عن سبيل السلف الصالح -رضي الله عنهم- لا سيما إذا كان هذا المال المبذول من تركة الميت وفيها حق قصر وصغار وسفهاء فيأخذ من أموالهم ما ليس بحق فيزاد الإثم إثمًا. والله المستعان.
(361) وسئل فضيلة الشيخ -حفظه الله تعالى-: عن حكم إهداء القراءة للميت؟
فأجاب بقوله: هذا الأمر يقع على وجهين:
أحدهما: أن يأتي إلى قبر الميت فيقرأ عنده، فهذا لا يستفيد منه الميت؛ لأن الاستماع الذي يفيد من سمعه إنما هو في حال الحياة حيث يكتب للمستمع ما يكتب للقارئ، هنا الميت قد انقطع عمله كما قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» .
الوجه الثاني: أن يقرأ الإنسان القرآن الكريم تقربًا إلى الله - سبحانه وتعالى- ويجعل ثوابه لأخيه المسلم أو قريبه فهذه المسألة مما اختلف فيها أهل العلم:(2/308)
فمنهم من يرى أن الأعمال البدنية المحضة لا ينتفع بها الميت ولو أهديت له؛ لأن الأصل أن العبادات مما يتعلق بشخص العابد، لأنها عبارة عن تذلل وقيام بما كلف به وهذا لا يكون إلا للفاعل فقط، إلا ما ورد النص في انتفاع الميت به فإنه حسب ما جاء في النص يكون مخصصًا لهذا الأصل.
ومن العلماء من يرى أن ما جاءت به النصوص من وصول الثواب إلى الأموات في بعض المسائل، يدل على أنه يصل إلى الميت من ثواب الأعمال الأخرى ما يهديه إلى الميت.
ولكن يبقى النظر هل هذا من الأمور المشروعة أو من الأمور الجائزة؛ بمعنى هل نقول: إن الإنسان يطلب منه أن يتقرب إلى الله -سبحانه وتعالى- بقراءة القرآن الكريم، ثم يجعلها لقريبه أو أخيه المسلم، أو أن هذا من الأمور الجائزة التي لا يندب إلى فعلها.
الذي نرى أن هذا من الأمور الجائزة التي لا يندب إلى فعلها، وإنما يندب إلى الدعاء للميت والاستغفار له وما أشبه ذلك مما نسأل الله -تعالى- أن ينفعه به، وأما فعل العبادات وإهداؤها فهذا أقل ما فيه أن يكون جائزًا فقط وليس من الأمور المندوبة، ولهذا لم يندب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمته إليه بل أرشدهم إلى الدعاء للميت فيكون الدعاء أفضل من الإهداء.
(362) وسئل فضيلة الشيخ: عن حكم قراءة القرآن الكريم على القبور؟ والدعاء للميت عند قبره؟ ودعاء الإنسان لنفسه عند القبر؟(2/309)
فأجاب بقوله: قراءة القرآن الكريم على القبور بدعة، ولم ترد عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا عن أصحابه؛ وإذا كانت لم ترد عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا عن أصحابه فإنه لا ينبغي لنا نحن أن نبتدعها من عند أنفسنا؛ لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال فيما صح عنه: «كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار» والواجب على المسلمين أن يقتدوا بمن سلف من الصحابة، والتابعين لهم بإحسان حتى يكونوا على الخير والهدى؛ لما ثبت عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: «خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-» . وأما الدعاء للميت عند قبره فلا بأس به، فيقف الإنسان عند القبر ويدعو له بما يتيسر، مثل أن يقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، اللهم أدخله الجنة، اللهم افسح له في قبره، وما أشبه ذلك.
وأما دعاء الإنسان لنفسه عند القبر فهذا إذا قصده الإنسان فهو من البدع أيضًا؛ لأنه لا يخصص مكان للدعاء إلا إذا ورد به النص؛ وإذا لم يرد به النص، ولم تأت به السنة فإنه -أعني تخصيص مكان للدعاء- أيًا كان ذلك المكان يكون تخصيصه بدعة.
(363) وسئل فضيلة الشيخ: هل قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} يدل على أن الثواب لا يصل إلى الميت إذا أهدي له؟
فأجاب بقوله: قوله - تعالى-: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} المراد -والله أعلم- أن الإنسان لا يستحق من سعي غيره شيئًا، كما لا يحمل(2/310)
من وزر غيره شيئًا، وليس المراد أنه لا يصل إليه ثواب سعي غيره؛ لكثرة النصوص الواردة في وصول ثواب سعي الغير إلى غيره وانتفاعه به إذا قصده به، فمن ذلك:
1 - الدعاء:فإن المدعو له ينتفع به بنص القرآن الكريم والسنة، وإجماع المسلمين، قال الله -تعالى- لنبيه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} وقال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} فالذين سبقوهم بالإيمان هم المهاجرون والأنصار، والذين جاءوا من بعدهم هم التابعون فمن بعدهم إلى يوم الدين؛ وثبت عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه أغمض أبا سلمة، وقال: «اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه، وافسح له في قبره، ونور له فيه» . وكان -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يصلي على أموات المسلمين، ويدعو لهم، ويزور المقابر، ويدعو لأهلها، واتبعته أمته في ذلك حتى صار هذا من الأمور المعلومة بالضرورة من دين الإسلام؛ وصح عنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: «ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلًا لا يشركون بالله شيئًا إلا شفعهم الله فيه» ... "
وهذا لا يعارض قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» رواه مسلم لأن المراد به عمل الإنسان نفسه، لا عمل غيره له؛ وإنما جعل دعاء الولد الصالح من عمله؛ لأن الولد من كسبه(2/311)
حيث إنه هو السبب في إيجاده، فكأن دعاؤه لوالده دعاء من الوالد نفسه -بخلاف دعاء غير الولد لأخيه، فإنه ليس من عمله -وإن كان ينتفع به-؛ فالاستثناء الذي في الحديث من انقطاع عمل الميت نفسه لا عمل غيره له، ولهذا لم يقل: انقطع العمل له، بل قال: "انقطع عمله". وبينهما فرق بين.
2 - الصدقة عن الميت: ففي صحيح البخاري عن عائشة -رضي الله عنها- «أن رجلًا قال للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن أمي افتلتت نفسها (ماتت فجأة) ، وأظنها لو تكلمت تصدقت، فهل لها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: "نعم".» وروى مسلم نحوه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-؛ والصدقة عبادة مالية محضة.
3 - الصيام عن الميت: ففي الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه» والولي هو الوارث؛ لقوله -تعالى-: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ولقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر» متفق عليه؛ والصيام عبادة بدنية محضة.
4 - الحج عن غيره: ففي الصحيحين من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- «أن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يثبت على الراحلة؛ أفأحج عنه؟ قال: "نعم".» وذلك في حجة الوداع. وفي صحيح البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما- «أن امرأة من جهينة قالت للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ قال:" نعم،»(2/312)
«حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء» .
فإن قيل: هذا من عمل الولد لوالده؛ وعمل الولد من عمل الوالد كما في الحديث السابق: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث» ... " حيث جعل دعاء الولد لوالده من عمل الوالد؟ فالجواب من وجهين:
أحدهما:أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يعلل جواز حج الولد عن والده بكونه ولده، ولا أومأ إلى ذلك؛ بل في الحديث ما يبطل التعليل به؛ لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شبهه بقضاء الدين الجائز من الولد، وغيره؛ فجعل ذلك هو العلة أعني كونه قضاء شيء واجب عن الميت.
الثاني: أنه قد جاء عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما يدل على جواز الحج عن الغير، حتى من غير الولد: فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- «أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سمع رجلًا يقول: لبيك عن شبرمة." قال: "من شبرمة"؟ قال: أخ لي أو قريب لي. قال:" حججت عن نفسك؟ " قال: لا. قال: "حج عن نفسك، ثم حج عن شبرمة» . قال في البلوغ: رواه أبو داود وابن ماجه. وقال في الفروع: إسناده جيد احتج به أحمد في رواية صالح، لكنه رجح في كلام آخر أنه موقوف؛ فإن صح المرفوع فذاك؛ وإلا فهو قول صحابي لم يظهر له مخالف؛ فهو حجة، ودليل على أن هذا العمل كان من المعلوم جوازه عندهم؛ ثم إنه قد ثبت حديث عائشة في الصيام: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه» . والولي هو الوارث سواء كان ولدًا أم غير ولد؛ وإذا جاز ذلك في الصيام مع كونه عبادة محضة فجوازه بالحج المشوب بالمال أولى، وأحرى.
5 - الأضحية عن الغير: فقد ثبت في الصحيحين عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: «ضحى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»(2/313)
«بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده، وسمى، وكبر ووضع رجله على صفاحهما» . ولأحمد من حديث أبي رافع -رضي الله عنه- «أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان إذا ضحى اشترى كبشين سمينين أقرنين أملحين فيذبح أحدهما ويقول:"اللهم هذا عن أمتي جميعًا من شهد لك بالتوحيد، وشهد لي بالبلاغ". ثم يذبح الآخر ويقول: "هذا عن محمد وآل محمد» . قال في مجمع الزوائد: وإسناده حسن، وسكت عنه في التلخيص.
والأضحية عبادة بدنية قوامها المال، وقد ضحى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن أهل بيته، وعن أمته جميعًا؛ وما من شك في أن ذلك ينفع المضحى عنهم، وينالهم من ثوابه؛ ولو لم يكن كذلك لم يكن للتضحية عنهم فائدة.
6 - اقتصاص المظلوم من الظالم بالأخذ من صالح أعماله: ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلله منها؛ فإنه ليس ثم دينار، ولا درهم من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته؛ فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات أخيه فطرحت عليه» . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - «أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "أتدرون من المفلس؟ " قالوا: المفلس فينا من لا درهم له، ولا متاع. فقال: "إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة، وصيام، وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا؛ فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته؛ فإن فنيت حسناته، قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم، فطرحت عليه، ثم طرح في النار» .
فإذا كانت الحسنات قابلة للمقاصة بأخذ ثوابها من عامل إلى غيره كان ذلك دليلًا على أنها قابلة لنقلها منه إلى غيره بالإهداء.
7 - انتفاعات أخرى بأعمال الغير: كرفع درجات الذرية في الجنة(2/314)
إلى درجات آبائهم، وزيادة أجر الجماعة بكثرة العدد، وصحة صلاة المنفرد بمصافة غيره له، والأمن والنصر بوجود أهل الفضل، كما في صحيح مسلم عن أبي بردة عن أبيه «أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رفع رأسه إلى السماء -وكان كثيرًا ما يرفع رأسه إلى السماء-، فقال: " النجوم أمنة للسماء؛ فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي؛ فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون» . وفيه أيضًا عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: " «يأتي على الناس زمان يبعث منهم البعث فيقولون: انظروا هل تجدون فيكم أحدًا من أصحاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيفتح لهم به؛ ثم يبعث البعث الثاني، فيقولون: هل فيكم من رأى أصحاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيفتح لهم به، ثم يبعث البعث الثالث، فيقال: انظروا هل ترون فيهم أحدًا رأى من رأى أصحاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثم يكون البعث الرابع، فيقال: انظروا هل ترون فيهم أحدًا رأى من رأى أحدًا رأى أصحاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيوجد الرجل، فيفتح لهم به» .
فإذا تبين أن الرجل ينتفع بغيره وبعمل غيره، فإن من شرط انتفاعه أن يكون من أهله، وهو المسلم؛ فأما الكافر فلا ينتفع بما أهدي إليه من عمل صالح، ولا يجوز أن يهدى إليه، كما لا يجوز أن يدعى له ويستغفر له، قال الله -تعالى-: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} وعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أن(2/315)
جده العاص بن وائل السهمي أوصى أن يعتق عنه مائة رقبة، فأعتق ابنه هشام خمسين رقبة، وأراد ابنه عمرو بن العاص أن يعتق عنه الخمسين الباقية، فسأل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: «إنه لو كان مسلمًا فأعتقتم، أو تصدقتم عنه، أو حججتم بلغه ذلك» . وفي رواية: «فلو كان أقر بالتوحيد، فصُمتَ، وتصدقت عنه نفعه ذلك» . رواه أحمد وأبو داود.
فإن قيل: هلا تقتصرون على ما جاءت به السنة من إهداء القرب، وهي: الحج، والصوم، والصدقة، والعتق؟
فالجواب: أن ما جاءت به السنة ليس على سبيل الحصر، وإنما غالبه قضايا أعيان سئل عنها النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأجاب به، وأومأ إلى العموم بذكر العلة الصادقة بما سئل عنه وغيره، وهي قوله: «أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته» . ويدل على العموم أنه قال: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه» . ثم لم يمنع الحج، والصدقة، والعتق، فعلم من ذلك أن شأن العبادات واحد، والأمر فيها واسع.
فإن قيل: فهل يجوز إهداء القرب الواجبة؟
فالجواب: أما على القول بأنه لا يصح إهداء القرب إلا إذا نواه المهدي قبل الفعل، بحيث يفعل القربة بنية أنها عن فلان، فإن إهداء القرب الواجبة لا يجوز لتعذر ذلك، إذ من شرط القرب الواجبة أن ينوي بها الفاعل أنها عن نفسه قيامًا بما أوجب الله -تعالى- عليه؛ اللهم إلا أن تكون من فروض الكفايات، فربما يقال: بصحة ذلك، حيث ينوي الفاعل القيام بها عن غيره، لتعلق الطلب بأحدهما لا بعينه.
وأما على القول بأنه يصح إهداء القرب بعد الفعل ويكون ذلك إهداء لثوابها بحيث يفعل القربة ويقول: اللهم اجعل ثوابها لفلان، فإنه(2/316)
لا يصح إهداء ثوابها أيضًا على الأرجح؛ وذلك لأن إيجاب الشارع لها إيجابًا عينيًا دليل على شدة احتياج العبد لثوابها، وضرورته إليه، ومثل هذا لا ينبغي أن يؤثر العبد بثوابه غيره.
فإن قيل: إذا جاز إهداء القرب إلى الغير فهل من المستحسن فعله؟
فالجواب: أن فعله غير مستحسن إلا فيما وردت به السنة، كالأضحية، والواجبات التي تدخلها النيابة؛ كالصوم والحج، وأما غير ذلك فقد قال شيخ الإسلام في الفتاوى (ص 322-323ج24) مجموع ابن قاسم: "إن الأمر الذي كان معروفًا بين المسلمين في القرون المفضلة أنهم كانوا يعبدون الله بأنواع العبادات المشروعة فرضها ونفلها، ويدعون للمؤمنين والمؤمنات كما أمر الله بذلك، لأحيائهم وأمواتهم"، قال: "ولم يكن من عادة السلف إذا صلوا تطوعًا، وصاموا، وحجوا، أو قرءوا القرآن الكريم يهدون ذلك لموتاهم المسلمين، ولا لخصوصهم (1) . بل كان عادتهم كما تقدم، فلا ينبغي للناس أن يعدلوا عن طريقة السلف، فإنها أفضل وأكمل". ا. هـ.
وأما ما روي أن رجلًا قال: «يا رسول الله إن لي أبوين، وكنت أبرهما في حياتهما فكيف البر بعد موتهما؟ فقال: "إن من البر أن تصلي لهما مع صلاتك، وتصوم لهما مع صيامك، وتصدق لهما مع صدقتك» . فهو حديث مرسل لا يصح. وقد ذكر الله -تعالى- مكافأة الوالدين بالدعاء، فقال تعالى: {وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} . وعن أبي أسيد -رضي الله عنه- «أن رجلًا سأل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: "نعم، الصلاة عليهما،»
__________
(1) كذا بالأصل، والمراد بخصوصهم أقاربهم.(2/317)
«والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما» . رواه أبو داود وابن ماجه. ولم يذكر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من برهما أن يصلي لهما مع صلاته، ويصوم لهما مع صيامه.
فأما ما يفعله كثير من العامة اليوم حيث يقرءون القرآن الكريم في شهر رمضان أو غيره، ثم يؤثرون موتاهم به ويتركون أنفسهم فهو لا ينبغي لما فيه من الخروج عن جادة السلف، وحرمان المرء نفسه من ثواب هذه العبادة، فإن مهدي العبادة ليس له من الأجر سوى ما يحصل من الإحسان إلى الغير. أما ثواب العبادة الخاص فقد أهداه، ومن ثم كان لا ينبغي إهداء القرب للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- له ثواب القربة التي تفعلها الأمة؛ لأنه الدال عليها والآمر بها، فله مثل أجر الفاعل، ولا ينتج عن إهداء القرب إليه سوى حرمان الفاعل نفسه من ثواب العبادة.
وبهذا تعرف فقه السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، حيث لم ينقل عن واحد منهم أنه أهدى شيئًا من القرب إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مع أنهم أشد الناس حبًا للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأحرصهم على فعل الخير، وهم أهدى الناس طريقًا وأصوبهم عملًا؛ فلا ينبغي العدول عن طريقتهم في هذا وغيره؛ فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
(364) وسئل فضيلته: عن الحكمة من الطواف؟ وهل الحكمة من تقبيل الحجر التبرك به؟
فأجاب بقوله: الحكمة من الطواف بينها النبي -صلى الله عليه(2/318)
وسلم- حين قال: «إنما جعل الطواف بالبيت والصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله» فالطائف الذي يدور على بيت الله -تعالى- يقوم بقلبه من تعظيم الله -تعالى- ما يجعله ذاكرًا الله - تعالى- وتكون حركاته بالمشي والتقبيل، واستلام الحجر، والركن اليماني، والإشارة إلى الحجر ذكرًا لله تعالى؛ لأنها من عبادته، وكل العبادات ذكر لله -تعالى- بالمعنى العام؛ وأما ما ينطق به بلسانه من التكبير، والذكر، والدعاء فظاهر أنه من ذكر الله تعالى.
وأما تقبيل الحجر فإنه عبادة حيث يقبل الإنسان حجرًا لا علاقة له به سوى التعبد لله - تعالى- بتعظيمه واتباع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك كما ثبت أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال حين قبل الحجر: «إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك» وأما ما يظنه بعض الجهال من أن المقصود بذلك التبرك به فإنه لا أصل له؛ فيكون باطلًا.
وأما ما أورده بعض الزنادقة من أن الطواف بالبيت كالطواف على قبور أوليائهم، وأنه وثنية فذاك من زندقتهم وإلحادهم؛ فإن المؤمنين ما طافوا به إلا بأمر الله، وما كان بأمر الله فالقيام به عبادة لله -تعالى-، ألا ترى أن السجود لغير الله شرك أكبر، ولما أمر الله -تعالى- الملائكة أن يسجدوا لآدم كان السجود لآدم عبادة لله - تعالى -، وكان ترك السجود له كفرًا.
وحينئذ يكون الطواف بالبيت عبادة من أجلِّ العبادات؛ وهو ركن في الحج؛ والحج أحد أركان الإسلام؛ ولهذا يجد الطائف بالبيت إذا كان المطاف هادئًا من لذة الطواف وشعور قلبه بالقرب من ربه ما يتبين به علو شأنه وفضله، والله المستعان.(2/319)
(365) سئل فضيلة الشيخ: عن حكم التمسح بالكعبة والركن اليماني طلبًا للبركة؟
فأجاب قائلًا: ما يفعله بعض الجهلة من التمسح بالكعبة، أو الركن اليماني، أو الحجر الأسود طلبًا للبركة فهذا من البدع؛ فإن ما يمسح منها يمسح تعبدًا لا تبركًا، قال عمر -رضي الله عنه-: عندما قبل الحجر الأسود: «إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك» فالأمر مبني على الاتباع لا على الابتداع؛ ولهذا لا يمسح من الكعبة إلا الركن اليماني والحجر الأسود؛ فمن مسح شيئًا سواهما من الكعبة فقد ابتدع؛ ولهذا أنكر ابن عباس -رضي الله عنهما- على معاوية -رضي الله عنه- استلام الركنين الآخرين.
(366) سئل فضيلة الشيخ: هل يجوز التبرك بثوب الكعبة والتمسح به، فبعض الناس يقول: إن شيخ الإسلام ابن تيمية أجاز ذلك؟
فأجاب -حفظه الله- بقوله: التبرك بثوب الكعبة والتمسح به من البدع؛ لأن ذلك لم يرد عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولما طاف معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- بالكعبة، وجعل يمسح جميع أركان البيت، يمسح الحجر الأسود، ويمسح الركن العراقي، والركن الشامي، والركن اليماني، أنكر عليه عبد الله بن عباس، فأجاب معاوية: ليس شيء من البيت مهجورًا، فأجابه ابن عباس: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} وقد رأيت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يمسح الركنين يعني(2/320)
الحجر الأسود واليماني. وهذا دليل على أنه يجب علينا أن نتوقف في مسح الكعبة وأركانها، على ما جاءت به السنة؛ لأن هذه هي الأسوة الحسنة في رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وأما الملتزم الذي بين الحجر الأسود والباب، فإن هذا قد ورد عن الصحابة -رضي الله عنهم- أنهم قاموا به فالتزموا ذلك، والله أعلم.
أما ما قاله السائل أن هذا قول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فنحن نعلم أنه -رحمه الله- من أشد الناس محاربة للبدع؛ وإذا قدر أنه ثبت عنه فليس قوله حجة على غيره؛ لأن ابن تيمية -رحمه الله- كغيره من أهل العلم يخطئ ويصيب، وإذا كان معاوية -رضي الله عنه- وهو من الصحابة أخطأ فيما أخطأ فيه من مسح الأركان الأربعة حتى نبهه عبد الله بن عباس في هذا فإن من دون معاوية يجوز عليه الخطأ؛ فنحن أولًا: نطالب هذا الرجل بإثبات ذلك عن شيخ الإسلام ابن تيمية؛ وإذا ثبت عن شيخ الإسلام ابن تيمية، فإنه ليس بحجة؛ لأن أقوال أهل العلم يحتج لها ولا يحتج بها، وهذه قاعدة ينبغي أن نعرفها: "كل أهل العلم أقوالهم يحتج لها ولا يحتج بها إلا إذا حصل إجماع المسلمين" فإن الإجماع لا يمكن الخروج عنه، بل لا يمكن الخروج عليه.
(367) سئل فضيلة الشيخ: عن بطاقة أرسلت إليه فيها أذكار مرتبة من بعض الصوفية؟
فأجاب -حفظه الله- بقوله: اطلعت على صورة البطاقة ومن أجل العدل وبيان الحق أجبت عما فيها على سبيل الاختصار بما يلي:
1 - تضمنت هذه البطاقة الحث على ذكر الله تعالى؛ وهذا حق، ولكن ذكر(2/321)
الله -تعالى- عبادة يتقرب بها إليه فيجب التمشي فيها على ما شرعه الله -عز وجل-؛ ولا يتم ذلك إلا بالإخلاص لله -تعالى- والاتباع لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبذلك تتحقق شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله؛ ولا يكون الاتباع إلا إذا كانت العبادة مبنية على الشرع في سببها، وجنسها، وقدرها، وكيفيتها، وزمانها، ومكانها.
وإذا كان كذلك فإن الذكر الموجود في البطاقة لا يتضمن ما ذكر فلا يصح أن يكون قربة إلى الله -تعالى-، أو ذكرًا مرضيًا عنده، كما هو ظاهر لمن رآه، فأين في شريعة الله هذا النوع من الذكر الذي رتبوه؟! وأين في شريعة الله هذا العدد الذي عينوه؟! وأين في شريعة الله عز وجل هذا الزمن الذي خصصوه بحيث يكون هذا في الليل، وهذا في النهار؟! وأين في شريعة الله تقديم الفاتحة عند البدء بهذا الذكر البدعي؟!
2 - تضمنت هذه البطاقة قراءة الفاتحة لحضرة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ فإن أرادوا بحضرته ذاته وأن يقرأ الإنسان الفاتحة، ويهدي ثوابها للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فهذه بدعة لم يفعلها الصحابة -رضي الله عنهم- وهو من جهل فاعله، فإن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يناله من الأجر على العمل مثل ما ينال فاعله من أمته؛ لأنه هو الدال عليه؛ ومن دل على خير فله مثل أجر فاعله -بدون أن يهدي إليه الفاعل- وإن أرادوا أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يحضر بذاته فهو أدهى وأمر؛ وهو أمر منكر وزور؛ فالنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يحضر، ولن يخرج من قبره إلا عند البعث، قال الله - تعالى -: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى}(2/322)
وقال - تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} وهذا عام لجميع المخاطبين؛ وأشرف المخاطبين بذلك رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ ولهذا قال الله له: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ}
1 - تضمنت هذه البطاقة من أسماء الله -تعالى- (هو) ، وفسره بأنه حاضر لا يغيب. والقول بأن (هو) من أسماء الله قول باطل مبني على الجهل، والعدوان؛ أما الجهل فلأن (هو) ضمير لا يدل على معنى سوى ما يتضمنه مرجع ذلك الضمير، وأسماء الله تعالى كلها حسنى؛ لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} وهل أحد إذا دعا يقول: يا هو اغفر لي؟ وهل أحد يقول في البسملة: بسم هو بدلًا عن اسم الله - تعالى-؟ وأما العدوان فلأن إثبات اسم لله - تعالى- لم يسم به نفسه عدوان على الله -تعالى-، وقول عليه بلا علم؛ وهو حرام؛ لقوله تعالى -: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}
ثم إن تفسير (هو) بـ (حاضر لا يغيب) كذب على اللغة العربية، فإن كلمة (هو) ضمير غيبة، وليس ضمير حضور؛ ومن فسره بما يدل على الحضور فهو من أجهل الناس باللغة العربية، ودلالات ألفاظها، إن كان(2/323)
الذي حمله على ذلك الجهل، أو من أعظم الناس افتراء إن كان قد قصد التقول على الله، وعلى اللغة العربية
. 2- فسر اسم الله (الواحد) : بأنه الذي لا ثاني له.
والصواب: لا شريك له؛ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وقولنا: "لا شريك" كما أنه هو الوارد، فهو أبلغ مما جاء في هذه البطاقة.
3 - فسر اسم (العزيز) : بأنه الذي لا نظير له، وهو قصور؛ والصواب: الغالب الذي لا يغلبه أحد.
4 - فسر اسم (القيوم) : بأنه القائم بأسباب مخلوقاته.
والصواب: القائم بنفسه وعلى غيره: قال الله -تعالى-: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} فهو قائم بنفسه لا يحتاج إلى غيره، وهو قائم على غيره: فكل أحد محتاج إلى الله - عز وجل - وتفسيره بالقائم بأسباب مخلوقاته قاصر جدًا.
7 - ذكر في هذه البطاقة البدعية صيغة صلاة على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما أنزل الله بها من سلطان وهي: "اللهم صلِّ على سيدنا محمد، عدد ما في علم الله، صلاة دائمة بدوام ملك الله".
8 - ذكر في هذه البطاقة البدعية أنه يتأكد الصلاة عليه عقب كل صلاة مكتوبة ثلاث مرات بصيغة ذكرها وهي: "اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد، وعلى آله، وصحبه عدد حروف القرآن حرفًا حرفًا، وعدد كل حرف ألفًا ألفًا، وعدد صفوف الملائكة صفًا صفًا، وعدد كل صف ألفًا ألفًا، وعدد الرمال ذرةً ذرةً، وعدد كل ذرة ألفَ ألفِ مرةٍ، عدد ما أحاط به علمك، وجرى به قلمك، ونفذ به حكمك، في برك،(2/324)
وبحرك، وسائر خلقك، عدد ما أحاط به علمك القديم من الواجب، والجائز، والمستحيل، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد، وعلى آله وصحبه مثل ذلك".
وهاتان الصيغتان بدعيتان باطلتان مخالفتان لما علمه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمته، حيث «قالوا: يا رسول قد علمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟ قال: "قولوا: اللهم صلِّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد» . وبهذا علم أن الأذكار، والصلوات البدعية مع بطلانها، وفسادها تستلزم الصد باعتبار حال فاعلها عما جاءت به الشريعة من الأذكار، والصلوات الشرعية؛ فحذار حذار أيها المؤمن من البدع؛ فإن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، كما قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان.
(368) وسئل: عن حكم وضع العروس قدمها في دم خروف مذبوح؟
فأجاب بقوله: ليس لهذه العادة من أصل شرعي وهي عادة سيئة؛ لأنها:
أولًا: عقيدة فاسدة لا أساس لها من الشرع.
ثانيًا: أن تلوثها بالدم النجس سفه؛ لأن النجاسة مأمور بإزالتها، والبعد عنها.
وبهذه المناسبة أود أن أقول لإخواني المسلمين: إن من المشروع أن الإنسان إذا أصابته النجاسة فليبادر بإزالتها، وتطهيرها؛ فإن هذا هو هدي(2/325)
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: فإن الأعرابي لما بال في المسجد أمر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يراق على بوله ذنوبٌ من ماء؛ وكذلك الصبي الذي بال في حجر النبي: دعا النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بماء فأتبعه إياه أي أتبعه بول الصبي؛ وتأخير إزالة النجاسة سبب يؤدي إلى نسيان ذلك، ثم يصلي الإنسان وهو على نجاسة؛ وهذا وإن كان يعذر به على القول الراجح، وأنه لو صلى بنجاسة نسي أن يغسلها فصلاته صحيحة؛ لكن ربما يتذكر في أثناء الصلاة؛ وحينئذ إذا لم يمكنه أن يتخلص من النجاسة مع الاستمرار في صلاته فلازم ذلك أنه سوف يقطع صلاته، وينصرف، ويبتدئها من جديد.
على كل حال هذه العادة السيئة التي وقع السؤال عنها فيها تلوث المرأة بالنجاسة الذي هو من السفه، فإن الشرع أمر بالتخلص من النجاسة وتطهيرها، ثم إنني أخشى أن يكون هناك عقيدة أخرى وهي أن يذبحوه إما لجن، أو شياطين، أو ما أشبه ذلك؛ فيكون هذا نوعًا من الشرك؛ ومعلوم أن الشرك لا يغفره الله -عز وجل- والله المستعان.
(369) وسئل فضيلة الشيخ عن حكم وضع التمر على الطعام لئلا تأتيه الحشرات؟
فأجاب قائلًا: هذا الفعل وهو وضع التمر على الطعام لئلا تصيبه الحشرات لا أعلم له أصلًا من الشرع، ولا أصلًا من الواقع؛ فإن الحشرات تأتي إلى ما يلائمها؛ فمنها ما يلائمه التمر، وتأتي حوله، وتأكل منه، ومنها ما يلائمها الدسم، فتأتي إليه، وتطعم منه؛ ولا أصل لهذا الذي يفعل؛ وإذا لم يكن له أصل من الشرع، ولا أصل من الواقع، فإنه لا ينبغي للإنسان أن(2/326)
يفعله، لأنه مبني على مجرد أوهام، وخيالات لا حقيقة لها، والله أعلم.
(370) وسئل: عن شخص سكن في دار، فأصابته الأمراض، وكثير من المصائب مما جعله يتشاءم هو وأهله من هذه الدار؛ فهل يجوز له تركها لهذا السبب؟
فأجاب بقوله: ربما يكون بعض المنازل، أو بعض المركوبات، أو بعض الزوجات مشئومًا يجعل الله بحكمته مع مصاحبته إما ضررًا، أو فوات منفعة، أو نحو ذلك؛ وعلى هذا فلا بأس ببيع هذا البيت، والانتقال إلى بيت غيره؛ ولعل الله أن يجعل الخير فيما ينتقل إليه؛ وقد ورد عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: «الشؤم في ثلاث: الدار، والمرأة، والفرس» فبعض المركوبات يكون فيها شؤم، وبعض الزوجات يكون فيهن شؤم، وبعض البيوت يكون فيها شؤم، فإذا رأى الإنسان ذلك فليعلم أنه بتقدير الله -عز وجل-، وأن الله -سبحانه وتعالى- بحكمته قدر ذلك لينتقل الإنسان إلى محل آخر، والله أعلم.
(371) وسئل فضيلة الشيخ: عما يفعله بعض أهل المزارع من ذهابهم إلى رجل ليكتب لهم ورقة تطرد الطيور، وتحمي مزارعهم؟
فأجاب بقوله: هذا العمل ليس بجائز شرعًا؛ وذلك لأنه لا يمكن أن تكون هذه الورقة تطرد الطيور عن المزارع؛ فإن هذا ليس معلومًا بالحس، ولا معلومًا بالشرع؛ وكل سبب ليس معلومًا بالحس، ولا بالشرع فإن اتخاذه محرم؛ فلا يجوز أن يعملوا هذا العمل؛ وإنما عليهم أن يكافحوا هذه(2/327)
الطيور التي تنقص محاصيلهم بالوسائل المعتادة التي يعرفها الناس، دون هذه الأمور التي لا يعلم لها سبب حسي، ولا شرعي.
(372) سئل فضيلة الشيخ: ما رأيكم في هذه الورقة التي تسمى "رحلة سعيدة ":
البطاقة الشخصية:
الاسم: الإنسان "ابن آدم "
الجنسية: من تراب.
العنوان: كوكب الأرض.
محطة المغادرة: الحياة الدنيا.
محطة الوصول: الدار الآخرة.
موعد الإقلاع: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} .
موعد الحضور: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} .
العفش المسموح به:
1 - متران قماش أبيض.
2 - العمل الصالح.
3 - دعاء الولد الصالح.
4 - علم ينتفع به.
5 - ما سوى ذلك لا يسمح باصطحابه في الرحلة.(2/328)
شروط الرحلة السعيدة:
على حضرات المسافرين الكرام اتباع التعليمات الواردة في كتاب الله وسنة رسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
"مزيد من المعلومات" يرجى الاتصال بكتاب الله وسنة رسوله الكريم.
ملاحظة: الاتصال مباشر ومجانًا. لا داعي لتأكيد الحجز هاتف "43442"؟
فأجاب -حفظه الله ورعاه- بقوله: رأيي في هذه التذكرة التي شاعت منذ زمن، وانتشرت بين الناس، ووضعت على وجوه شتى؛ منها هذا الوجه الذي بين يدي؛ وهذه الورقة تشبه أن تكون استهزاء بهذه الرحلة؛ وانظر إلى قوله في أرقام الهاتف: "43442" يشير إلى الصلوات الخمس: اثنين لصلاة الفجر؛ وأربعة أربعة للظهر، والعصر؛ وثلاثة للمغرب؛ وأربعة للعشاء؛ فجعل الصلاة التي هي أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين جعلها أرقامًا للهاتف، ثم قال: إن موعد الرحلة: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} فنقول: أين الوعد في هذه الرحلة؟! وقال: إن موعد الحضور: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} فأين تحديد موعد الحضور؟! والمهم أن كل فقراتها فيها شيء من الكذب؛ ومنها العفش الذي قال: إن منه العلم الذي ينتفع به، والولد الصالح، وهذا لا يكون مصطحبًا مع الإنسان؛ ولكنه يكون بعد الإنسان فالذي أرى أن تتلف هذه التذكرة، وأن لا تنشر بين الناس، وأن يكتب بدلها شيء من(2/329)
كتاب الله أو سنة رسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى لا تقع مثل هذه المواعظ على سبيل الهزء؛ وفي كتاب الله وسنة رسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما يغني عن هذا كله.
وإنني بهذه المناسبة أود أن أنبه إلى أنه في هذه الآونة الأخيرة النشرات التي تنشر بين الناس ما بين أحاديث ضعيفة، بل موضوعة على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبين مرائي منامية تنسب لبعض الناس وهي كذب وليست بصحيحة، وبين حِكَم تنشر وليس لها أصل، وإنني أنبه إخواني المسلمين على خطورة هذا الأمر، وأن الإنسان إذا أراد خيرًا فليتصل برئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية، وليعرض عليها ما عنده من المال الذي يحب أن ينشر ما ينتفع الناس به؛ وهي محل ثقة وأمانة -والحمد لله- تجمع هذه الأموال وتطبع بها الكتب النافعة التي ينتفع بها المسلمون في هذه البلاد، وغيرها.
أما هذه النشرات التي ليست مبنية على شيء، وإنما هي أكذوبات أو أشياء ضعيفة، أو حكم ليست حقيقية؛ بل هي كلمات عليها مؤاخذات، وملاحظات؛ فإنني لا أحب أن ينتشر هذا بين المسلمين، وفيما صح من سنة الرسول عليه الصلاة والسلام كفاية، والله المستعان.
(373) وسئل فضيلة الشيخ: يقوم كثير من الناس بتوزيع ورقة يدعى أنها وصية أحمد خادم الحرم فما حكم هذا العمل؟
فأجاب بقوله: هذه الوصية من شخص مجهول سمى نفسه الشيخ أحمد؛ ولكن فعله ليس بأحمد؛ هذا الرجل ادعى أنه رأى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأوصاه بوصية، وحثه على نشر هذه الوصية، وتوعد من لم ينشرها(2/330)
بمصائب تأتيه، أو تأتي أولاده، ولكن هذه الوصية مكذوبة؛ والعجيب أن الشيخ محمد رشيد رضا المشهور يقول: إن هذه قد راجت منذ أكثر من مائة سنة يقول: هذه راجت وأنا في سن الطلب. وهي كلما انتهز الوضاعون الكذابون الفرصة نشروها بين الناس وعلى من رأى هذا المنشور أن يمزقه؛ ولا يحل له أن ينشره إلا إذا كتب فيه بأن هذا موضوع مكذوب على الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(2/331)
التوسل(2/333)
(374) سئل فضيلة الشيخ - جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء: عن حكم التوسل.
فأجاب بقوله: هذا سؤال مهم، فنحب أن نبسط الجواب فيه؛ فأقول:
التوسل: مصدر توسل يتوسل؛ أي اتخذ وسيلة توصله إلى مقصوده، فأصله طلب الوصول إلى الغاية المقصودة.
وينقسم التوسل إلى قسمين:
القسم الأول: قسم صحيح، وهو التوسل بالوسيلة الصحيحة الموصلة إلى المطلوب؛ وهو على أنواع نذكر منها:
النوع الأول: التوسل بأسماء الله - تعالى - وذلك على وجهين:
الوجه الأول: أن يكون ذلك على سبيل العموم، ومثاله ما جاء في حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - في دعاء الهم والغم قال: «اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك، أسألك اللهم بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي» ... "إلخ؛ فهنا توسل بأسماء الله -تعالى - على سبيل العموم " «أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك» .
الوجه الثاني: أن يكون ذلك على سبيل الخصوص بأن يتوسل(2/335)
الإنسان باسم خاص لحاجة خاصة تناسب هذا الاسم، مثل ما جاء في حديث أبي بكر - رضي الله عنه - حيث طلب من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دعاءً يدعو به في صلاته، فقال: «قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم» فطلب المغفرة والرحمة وتوسل إلى الله - تعالى - باسمين من أسمائه مناسبين للمطلوب وهما "الغفور" و"الرحيم".
وهذا النوع من التوسل داخل في قوله - تعالى -: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} فإن الدعاء هنا يشمل دعاء المسألة، ودعاء العبادة.
النوع الثاني: التوسل إلى الله - تعالى - بصفاته، وهو أيضًا كالتوسل بأسمائه على وجهين:
الوجه الأول: أن يكون عامًّا كأن تقول: "اللهم إني أسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا" ثم تذكر مطلوبك.
الوجه الثاني: أن يكون خاصًّا، كأن تتوسل إلى الله -تعالى- بصفة معينة خاصة لمطلوب خاص، مثل ما جاء في الحديث «اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خيرًا لي» فهنا توسل لله - تعالى - بصفة "العلم" و"القدرة" وهما مناسبتان للمطلوب.
ومن ذلك أن يتوسل بصفة فعلية مثل: «اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم» .
النوع الثالث: أن يتوسل الإنسان إلى الله -عز وجل- بالإيمان به،(2/336)
وبرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيقول:"اللهم إني آمنت بك، وبرسولك فاغفر لي أو وفقني"، أو يقول: "اللهم بإيماني بك وبرسولك أسألك كذا وكذا"، ومنه قوله - تعالى-: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} إلى قوله: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} فتوسلوا إلى الله - تعالى - بالإيمان به أن يغفر لهم الذنوب، ويكفر عنهم السيئات، ويتوفاهم مع الأبرار.
النوع الرابع: أن يتوسل إلى الله - سبحانه وتعالى - بالعمل الصالح؛ ومنه قصة النفر الثلاثة الذين أووا إلى غار ليبيتوا فيه، فانطبق عليهم الغار بصخرة لا يستطيعون زحزحتها، فتوسل كل منهم إلى الله بعمل صالح فعله؛ فأحدهم توسل إلى الله - تعالى - ببره بوالديه؛ والثاني بعفته التامة؛ والثالث بوفائه لأجيره، قال كل منهم «اللهم إن كنت فعلت ذلك من أجلك فافرج عنا ما نحن فيه» فانفرجت الصخرة، فهذا توسل إلى الله بالعمل الصالح.
النوع الخامس: أن يتوسل إلى الله -تعالى- بذكر حاله؛ يعني أن الداعي يتوسل إلى الله تعالى بذكر حاله وما هو عليه من الحاجة، ومنه قول موسى عليه الصلاة والسلام: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} يتوسل إلى الله -تعالى- بذكر حاله أن ينزل إليه الخير. ويقرب(2/337)
من ذلك قول زكريا -عليه الصلاة والسلام-: {رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} فهذه أنواع من التوسل كلها جائزة؛ لأنها أسباب صالحة لحصول المقصود بالتوسل بها.
النوع السادس: التوسل إلى الله -عز وجل- بدعاء الرجل الصالح الذي ترجى إجابته، فإن الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا يسألون النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يدعو الله عز وجل لهم بدعاءٍ عام، ودعاءٍ خاص؛ ففي الصحيحين من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- «أن رجلًا دخل يوم الجمعة والنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يخطب فقال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يغيثنا، فرفع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يديه وقال: "اللهم أغثنا" ثلاث مرات، فما نزل من منبره إلا والمطر يتحادر من لحيته، وبقي المطر أسبوعًا كاملًا، وفي الجمعة الأخرى جاء ذلك الرجل أو غيره والنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يخطب فقال: يا رسول الله، غرق المال، وتهدم البناء فادع الله أن يمسكها عنا، فرفع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يديه وقال: "اللهم حوالينا ولا علينا" فما يشير إلى ناحية من السماء إلا انفرجت، حتى خرج الناس يمشون في الشمس» . وهناك عدة وقائع سأل الصحابة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يدعو لهم على وجه الخصوص ومن ذلك «أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذكر أن في أمته سبعين ألفًا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب وهم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون، فقام عكاشة بن محصن وقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال: "أنت منهم» فهذا أيضًا من التوسل الجائز وهو أن يطلب الإنسان من شخص ترجى إجابته أن(2/338)
يدعو الله -تعالى- له؛ إلا أن الذي ينبغي أن يكون السائل يريد بذلك نفع نفسه، ونفع أخيه الذي طلب منه الدعاء، حتى لا يتمحض السؤال لنفسه خاصة؛ لأنك إذا أردت نفع أخيك ونفع نفسك صار في هذا إحسان إليه؛ فإن الإنسان إذا دعا لأخيه في ظهر الغيب قال الملك: " آمين ولك بمثل " وهو كذلك يكون من المحسنين بهذا الدعاء والله يحب المحسنين.
القسم الثاني: التوسل غير الصحيح وهو:
أن يتوسل الإنسان إلى الله -تعالى- بما ليس بوسيلة؛ أي بما لم يثبت في الشرع أنه وسيلة؛ لأن التوسل بمثل ذلك من اللغو، والباطل المخالف للمعقول والمنقول؛ ومن ذلك أن يتوسل الإنسان إلى الله -تعالى- بدعاء ميت يطلب من هذا الميت أن يدعو الله له؛ لأن هذا ليس وسيلة شرعية صحيحة؛ بل من سفه الإنسان أن يطلب من الميت أن يدعو الله له؛ لأن الميت إذا مات انقطع عمله، ولا يمكن لأحد أن يدعو لأحد بعد موته، حتى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يمكن أن يدعو لأحد بعد موته؛ ولهذا لم يتوسل الصحابة -رضي الله عنهم- إلى الله بطلب الدعاء من رسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد موته؛ فإن الناس لما أصابهم الجدب في عهد عمر -رضي الله عنه- قال: "اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا " فقام العباس -رضي الله عنه- فدعا الله -تعالى-. ولو كان طلب الدعاء من الميت سائغًا، ووسيلة صحيحة لكان عمر ومن معه من الصحابة يطلبون ذلك من رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ لأن إجابة دعائه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أقرب من إجابة(2/339)
دعاء العباس -رضي الله عنه- فالمهم أن التوسل إلى الله -تعالى- بطلب الدعاء من ميت توسل باطل لا يحل، ولا يجوز.
ومن التوسل الذي ليس بصحيح: أن يتوسل الإنسان بجاه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وذلك أن جاه الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليس مفيدًا بالنسبة إلى الداعي؛ لأنه لا يفيد إلا الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أما بالنسبة للداعي فليس بمفيد حتى يتوسل إلى الله به، وقد تقدم أن التوسل اتخاذ الوسيلة الصالحة التي تثمر. فما فائدتك أنت من كون الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- له جاه عند الله؟! وإذا أردت أن تتوسل إلى الله على وجه صحيح فقل: اللهم بإيماني بك وبرسولك، أو بمحبتي لرسولك، وما أشبه ذلك؛ فإن هذا الوسيلة الصحيحة النافعة.
(375) وسئل فضيلة الشيخ أعلى الله درجته في المهديين: عن حكم التوسل وأقسامه.
فأجاب بقوله: التوسل اتخاذ الوسيلة؛ والوسيلة "كل ما يوصل إلى المقصود" فهي من الوصل؛ لأن الصاد والسين يتناوبان كما يقال: صراط، وسراط، وبصطة، وبسطة.
والتوسل في دعاء الله -تعالى- أن يقرن الداعي بدعائه ما يكون سببًا في قبول دعائه، ولا بد من دليل على كون هذا الشيء سببًا للقبول؛ ولا يعلم ذلك إلا من طريق الشرع؛ فمن جعل شيئًا من الأمور وسيلة له في قبول دعائه بدون دليل من الشرع فقد قال على الله ما لا يعلم؛ إذ كيف يدري أن ما جعله وسيلة مما يرضاه الله -تعالى-، ويكون سببًا في قبول دعائه؟! والدعاء من العبادة؛ والعبادة موقوفة على مجيء الشرع بها. وقد أنكر(2/340)
الله -تعالى- على من اتبع شرعًا بدون إذنه، وجعله من الشرك فقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} وقال - تعالى -: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}
والتوسل في دعاء الله -تعالى- قسمان:
القسم الأول: أن يكون بوسيلة جاءت بها الشريعة وهو أنواع.
النوع الأول: التوسل بأسماء الله تعالى وصفاته، وأفعاله، فيتوسل إلى الله -تعالى- بالاسم المقتضي لمطلوبه، أو بالصفة المقتضية له، أو بالفعل المقتضي له: قال الله - تعالى-: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} فيقول: اللهم يا رحيم ارحمني، ويا غفور اغفر لي، ونحو ذلك؛ وفي الحديث عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: «اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيرًا لي» . وعلم أمته أن يقولوا في الصلاة عليه: «اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم» .
النوع الثاني: التوسل إلى الله -تعالى-بالإيمان به وطاعته كقوله -تعالى- عن أولي الألباب: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا}(2/341)
وقوله: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا} .
وقوله عن الحواريين: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}
النوع الثالث: أن يتوسل إلى الله بذكر حال الداعي المبينة لاضطراره، وحاجته، كقول موسى -عليه الصلاة والسلام -: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} .
النوع الرابع: أن يتوسل إلى الله بدعاء من ترجى إجابته كطلب الصحابة -رضي الله عنهم- من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يدعو الله لهم مثل قول الرجل الذي دخل يوم الجمعة والنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يخطب، فقال: ادع الله أن يغيثنا؛ وقول عكاشة بن محصن للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ادع الله أن يجعلني منهم.
وهذا إنما يكون في حياة الداعي، أما بعد موته فلا يجوز؛ لأنه لا عمل له؛ فقد انتقل إلى دار الجزاء؛ ولذلك لما أجدب الناس في عهد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لم يطلبوا من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يستسقي لهم؛ بل استسقى عمر بالعباس عم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال له: قم فاستسق؛ فقام العباس فدعا، وأما ما يروى عن العتبي أن أعرابيًا جاء إلى قبر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: "السلام عليك يا رسول الله سمعت الله يقول:(2/342)
{وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} وقد جئتك مستغفرًا من ذنوبي مستشفعًا بك إلى ربي" وذكر تمام القصة؛ فهذه كذب لا تصح؛ والآية ليس فيها دليل لذلك؛ لأن الله يقول: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} ولم يقل: " إذا ظلموا أنفسهم " وإذ لما مضى لا للمستقبل؛ والآية في قوم تحاكموا، أو أرادوا التحاكم إلى غير الله، ورسوله، كما يدل على ذلك سياقها السابق، واللاحق.
القسم الثاني: أن يكون التوسل بوسيلة لم يأت بها الشرع وهي نوعان:
أحدهما: أن يكون بوسيلة أبطلها الشرع، كتوسل المشركين بآلهتهم؛ وبطلان هذا ظاهر.
الثاني: أن يكون بوسيلة سكت عنها الشرع: وهذا محرم؛ وهو نوع من الشرك، مثل أن يتوسل بجاه شخص ذي جاه عند الله، فيقول:: "أسألك بجاه نبيك": فلا يجوز ذلك؛ لأنه إثبات لسبب لم يعتبره الشرع، ولأن جاه ذي الجاه ليس له أثر في قبول الدعاء؛ لأنه لا يتعلق بالداعي، ولا بالمدعو؛ وإنما هو من شأن ذي الجاه وحده، فليس بنافع لك في حصول مطلوبك؛ أو دفع مكروبك، ووسيلة الشيء ما كان موصلًا إليه؛ والتوسل بالشيء إلى ما لا يوصل إليه نوع من العبث، فلا يليق أن تتخذه فيما بينك وبين ربك، والله الموفق.
(376) وسئل فضيلة الشيخ: عن حكم التوسل بالنبي عليه الصلاة والسلام؟
فأجاب قائلًا: التوسل بالنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أقسام:
الأول: أن يتوسل بالإيمان به فهذا التوسل صحيح، مثل أن يقول:(2/343)
"اللهم إني آمنت بك وبرسولك فاغفر لي"؛ وهذا لا بأس به؛ وقد ذكره الله -تعالى- في القرآن الكريم في قوله: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} ، ولأن الإيمان بالرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسيلة شرعية لمغفرة الذنوب، وتكفير السيئات؛ فهو قد توسل بوسيلة ثابتة شرعًا.
الثاني: أن يتوسل بدعائه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أي بأن يدعو للمشفوع له؛ وهذا أيضًا جائز وثابت لكنه لا يمكن أن يكون إلا في حياة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ وقد ثبت عن عمر -رضي الله عنه- أنه قال: "اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا " وأمر العباس أن يقوم فيدعو الله -سبحانه وتعالى- بالسقيا؛ فالتوسل في حياة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بدعائه جائز، ولا بأس به.
الثالث: أن يتوسل بجاه الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سواء في حياته، أو بعد مماته: فهذا توسل بدعي لا يجوز؛ وذلك لأن جاه الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا ينتفع به إلا الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ وعلى هذا فلا يجوز للإنسان أن يقول: اللهم إني أسألك بجاه نبيك أن تغفر لي أو ترزقني الشيء الفلاني؛ لأن الوسيلة لا بد أن تكون وسيلة؛ والوسيلة مأخوذة من الوسل بمعنى الوصول إلى الشيء؛ فلا بد أن تكون هذه الوسيلة موصلة إلى الشيء وإذا لم تكن موصلة إليه فإن التوسل بها غير مجد، ولا نافع؛ وعلى هذا فنقول: التوسل بالرسول عليه الصلاة والسلام ثلاثة أقسام:(2/344)
القسم الأول: أن يتوسل بالإيمان به، واتباعه؛ وهذا جائز في حياته، وبعد مماته.
القسم الثاني: أن يتوسل بدعائه أي بأن يطلب من الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يدعو له فهذا جائز في حياته لا بعد مماته؛ لأنه بعد مماته متعذر.
القسم الثالث: أن يتوسل بجاهه، ومنزلته عند الله؛ فهذا لا يجوز لا في حياته، ولا بعد مماته؛ لأنه ليس وسيلة؛ إذ إنه لا يوصل الإنسان إلى مقصوده؛ لأنه ليس من عمله.
فإذا قال قائل: جئت إلى الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عند قبره، وسألته أن يستغفر لي، أو أن يشفع لي عند الله فهل يجوز ذلك أو لا؟
قلنا: لا يجوز.
فإذا قال: أليس الله يقول: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا}
قلنا له: بلى إن الله يقول ذلك، ولكن يقول: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا} وإذ هذه ظرف لما مضى، وليست ظرفًا للمستقبل لم يقل الله: "ولو أنهم إذا ظلموا" بل قال: {إِذْ ظَلَمُوا} . فالآية تتحدث عن أمر وقع في حياة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- واستغفار الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد مماته أمر متعذر لأنه «إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث - كما قال الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:"صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» . فلا يمكن لإنسان بعد موته أن يستغفر لأحد؛ بل ولا يستغفر لنفسه أيضًا؛ لأن العمل انقطع.(2/345)
(377) وسئل -جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء: عن التوسل هل هو من مسائل العقيدة؟ وعن حكم التوسل بالصالحين؟
فأجاب - حفظه الله تعالى - بقوله: التوسل داخل في العقيدة، لأن المتوسل يعتقد أن لهذه الوسيلة تأثيرًا في حصول مطلوبه، ودفع مكروهه؛ فهو في الحقيقة من مسائل العقيدة؛ لأن الإنسان لا يتوسل بشيء إلا وهو يعتقد أن له تأثيرًا فيما يريد.
والتوسل بالصالحين ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: التوسل بدعائهم فهذا لا بأس به؛ فقد كان الصحابة -رضي الله عنهم- يتوسلون برسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بدعائه: يدعو الله لهم فينتفعون بذلك؛ واستسقى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بعم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- " العباس بن عبد المطلب " بدعائه.
وأما القسم الثاني: فهو التوسل بذواتهم: فهذا ليس بشرعي؛ بل هو من البدع من وجه، ونوع من الشرك من وجه آخر.
فهو من البدع؛ لأنه لم يكن معروفًا في عهد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وأصحابه.
وهو من الشرك لأن كل من اعتقد في أمر من الأمور أنه سبب ولم يكن سببًا شرعيًا فإنه قد أتى نوعًا من أنواع الشرك؛ وعلى هذا لا يجوز التوسل بذات النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مثل أن يقول: أسألك بنبيك محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلا على تقدير أنه يتوسل إلى الله -تعالى- بالإيمان بالرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومحبته فإن ذلك من دين الله(2/346)
الذي ينتفع به العبد، وأما ذات النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فليست وسيلة ينتفع بها العبد؛ وكذلك على القول الراجح لا يجوز التوسل بجاه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ لأن جاه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إنما ينتفع به النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نفسه؛ ولا ينتفع به غيره؛ وإذا كان الإنسان يتوسل بجاه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باعتقاد أن للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جاهًا عند الله فليقل: اللهم إني أسألك أن تشفع بي نبيك محمدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وما أشبه ذلك من الكلمات التي يدعو بها الله عز وجل.(2/347)
(378) وسئل أيضاً:هل يجوز التوسل بجاه النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،؟
فأجاب قائلا: التوسل بجاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليس بجائز على الراجح من قول أهل العلم؛ فيحرم التوسل بجاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فلا يقول: الإنسان: اللهم إني أسألك بجاه نبيك كذا، وكذا؛ وذلك لأن الوسيلة لا تكون وسيلة إلا إذا كان لها أثر في حصول المقصود؛ وجاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالنسبة للداعي ليس له أثر في حصول المقصود؛ وإذا لم يكن له أثر لم يكن سبباً صحيحاً؛ والله - عز وجل - لا يدعى إلا بما يكون سبباً صحيحاً له أثر في حصول المطلوب؛ فجاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو مما يختص به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحده؛ وهو مما يكون منقبة له وحده؛ أما نحن فلسنا ننتفع بذلك؛ وإنما ننتفع بالإيمان بالرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومحبته؛ وما أيسر الأمر على الداعي إذا قال: "اللهم إني أسألك بإيماني بك، وبرسولك كذا، وكذا" بدلاًمن أن يقول: أسألك بجاه نبيك. ومن نعمة الله - عز وجل - ورحمته بنا أنه لا ينسد باب من الأبواب المحظورة إلا وأمام الإنسان أبواب كثيرة من الأبواب المباحة. والحمد لله رب العالمين.
(379) سئل فضيلة الشيخ: عن هذا الحديث: أن أعمى أتى إلى رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا رسول الله ادع الله أن يكشف عن بصري قال: "أو أدعك"، قال: يا رسول الله إنه قد شق عليّ ذهاب بصري، فقال: فانطلق فتوضأ ثم صل ركعتين ثم قل: "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي فيقضي حاجتي" ما صحة هذا وما معناه؟
فأجاب قائلاً: هذا الحديث اختلف أهل العلم في صحته فمنهم من قال: إنه ضعيف، ومنهم من قال: إنه حسن، ولكن له وجهة ليست كما يتبادر من اللفظ، فإن هذا الحديث معناه أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر هذا الرجل الأعمى أن يتوضأ، ويصلي ركعتين ليكون صادقاً في طلب شفاعة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - له، وليكون وضوؤه، وصلاته عنواناً على رغبته في التوسل بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والتوجه به إلى الله -سبحانه وتعالى-؛ فإذا صدقت النية، وصحت، وقويت العزيمة فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يشفع له إلى الله - عز وجل -؛ وذلك بأن يدعو النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - له. فإن الدعاء نوع من الشفاعة كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ما من(2/348)
«رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلًا لا يشركون بالله شيئًا إلا شفعهم الله فيه» . فيكون معنى هذا الحديث أن هذا الأعمى يطلب من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يدعو الله له؛ لأن هذا الدعاء نوع شفاعة.
أما الآن وبعد موت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فإن مثل هذه الحال لا يمكن أن تكون لتعذر دعاء النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأحد بعد الموت، كما قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» والدعاء بلا شك من الأعمال التي تنقطع بالموت؛ بل الدعاء عبادة كما قال الله - تعالى-: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} ولهذا لم يلجأ الصحابة -رضي الله عنهم- عند الشدائد وعند الحاجة إلى سؤال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يدعو الله لهم؛ بل قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حين قحط المطر: "اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون " وطلب من العباس - رضي الله عنه - أن يدعو الله - عز وجل - بالسقيا فدعا فسقوا. وهذا يدل على أنه لا يمكن أن يطلب من رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد موته أن يدعو لأحد؛ لأن ذلك متعذر لانقطاع عمله بموته صلوات الله وسلامه عليه؛ وإذا كان لا يمكن لأحد أن يطلب من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يدعو له بعد موت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فإنه لا يمكن -ومن باب أولى- أن يدعو أحد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نفسه بشيء من حاجاته أو مصالحه؛ فإن هذا من الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله؛ والذي حرم الله على من اتصف به(2/349)
الجنة: قال الله - تعالى-: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} وقال - تعالى-: {فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} ؛ وقال الله - عز وجل -: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} ؛ وقال - تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} . فالمهم أن من دعا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد وفاته أو غيره من الأموات لدفع ضرر أو جلب منفعة فهو مشرك شركًا أكبر مخرجًا عن الملة، وعليه أن يتوب إلى الله -سبحانه وتعالى-، وأن يوجه الدعاء إلى العلي الكبير الذي يجيب دعوة المضطر إذا دعاه ويكشف السوء؛ وإني لأعجب من قوم يذهبون إلى قبر فلان وفلان يدعونه أن يفرج عنهم الكربات ويجلب لهم الخيرات، وهم يعلمون أن هذا الرجل كان في حال حياته لا يملك ذلك فكيف بعد موته بعد أن كان جثة، وربما يكون رميمًا قد أكلته الأرض، فيذهبون يدعونه، ويتركون دعاء الله -عز وجل- الذي هو كاشف الضر، وجالب النفع، والخير، مع أن الله -تعالى- أمرهم بذلك وحثهم عليه فقال: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} . وقال -الله تعالى-: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} . وقال -تعالى- منكرًا على من دعا غيره:(2/350)
{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} . أسأل الله - تعالى- أن يهدينا جميعًا صراطه المستقيم.
(380) وسئل أيضًا: عن حديث: أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن عمر - رضي الله عنه - كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب وقال: "اللهم إنا كنا نستسقي إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون " هل هو صحيح؟ وهل يدل على جواز التوسل بجاه الأولياء؟
فأجاب قائلًا: هذا الحديث الذي أشار إليه السائل حديث صحيح رواه البخاري، لكن من تأمله وجد أنه دليل على عدم التوسل بجاه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أو غيره؛ وذلك أن التوسل هو اتخاذ وسيلة؛ والوسيلة هي الشيء الموصل إلى المقصود؛ والوسيلة المذكورة في هذا الحديث " نتوسل إليك بنبينا فتسقينا؛ وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا " المراد بها التوسل إلى الله تعالى بدعاء النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما قال الرجل: «يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يغيثنا» ؛ ولأن عمر قال للعباس: قم يا عباس فادع الله فدعا، ولو كان هذا من باب التوسل بالجاه لكان عمر -رضي الله عنه- يتوسل بجاه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قبل أن يتوسل بالعباس؛ لأن جاه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أعظم عند الله من جاه العباس، وغيره؛ فلو كان هذا الحديث من باب التوسل بالجاه لكان الأجدر بأمير المؤمنين عمر -رضي الله عنه- أن يتوسل بجاه النبي -صلى(2/351)
الله عليه وسلم- دون جاه العباس بن عبد المطلب.
والحاصل أن التوسل إلى الله -تعالى- بدعاء من ترجى فيه إجابة الدعاء لصلاحه لا بأس به؛ فقد كان الصحابة - رضي الله عنهم- يتوسلون إلى الله -تعالى- بدعاء النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لهم؛ وكذلك عمر -رضي الله عنه- توسل بدعاء العباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه-، فلا بأس إذا رأيت رجلًا صالحًا حريًا بالإجابة لكون طعامه وشرابه وملبسه ومسكنه حلالًا وكونه معروفًا بالعبادة والتقوى، لا بأس أن تسأله أن يدعو الله لك بما تحب، بشرط أن لا يحصل في ذلك غرور لهذا الشخص الذي طلب منه الدعاء، فإن حصل منه غرور بذلك فإنه لا يحل لك أن تقتله وتهلكه بهذا الطلب منه؛ لأن ذلك يضره.
كما أنني أيضًا أقول: إن هذا جائز؛ ولكنني لا أحبذه، وأرى أن الإنسان يسأل الله -تعالى- بنفسه دون أن يجعل له واسطة بينه وبين الله، وأن ذلك أقوى في الرجاء، وأقرب إلى الخشية، كما أنني أيضًا أرغب من الإنسان إذا طلب من أخيه الذي ترجى إجابة دعائه أن يدعو له، أن ينوي بذلك الإحسان إليه -أي إلى هذا الداعي- دون دفع حاجة هذا المدعو له؛ لأنه إذا طلبه من أجل دفع حاجته صار كسؤال المال وشبه المذموم، أما إذا قصد بذلك نفع أخيه الداعي بالإحسان إليه، والإحسان إلى المسلم يثاب عليه المرء كما هو معروف كان هذا أولى وأحسن. والله ولي التوفيق.
(381) سئل فضيلة الشيخ: عن حكم هذا الدعاء: "اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك" هل للسائلين حق على الله؟(2/352)
فأجاب قائلًا: يجب علينا أولًا أن نعلم أن التوسل إلى الله -تعالى- قسمان: قسم جائز: وهو ما جاء به الشرع.
قسم ممنوع: وهو ما منعه الشرع.
والجائز أنواع: ونعني بالجائز هنا ما ليس بممنوع فلا يمنع أن يكون مستحبًا.
أولًا: التوسل إلى الله بأسمائه؛ وهذا جائز؛ ودليله قوله - تعالى-: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} ، وكذلك قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك» إلى آخر الحديث.
ثانيًا: التوسل إلى الله بصفاته ومنه ما جاء في الحديث: «اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيرًا لي، وتوفني ما علمت الوفاة خيرًا لي» فإن علم الله الغيب صفة، وقدرته على الخلق صفة، وهذا التوسل إلى الله -تعالى- بعلمه، وقدرته.
ثالثًا: التوسل إلى الله -تعالى- بأفعاله: أن تدعو الله بشيء ثم تتوسل إليه في تحقيق هذا الشيء بفعل نظيره؛ ومنه حديث الصلاة على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم» . فإن صلاة الله على إبراهيم وعلى آل إبراهيم من أفعاله.
وكذلك أيضًا تقول: "اللهم كما أنزلت علينا المطر فاجعله غيثًا نافعًا " فهنا توسل إلى الله بإنزال المطر؛ وهو فعل من أفعال الله.
رابعًا: التوسل إلى الله بالإيمان؛ ومنه قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا}(2/353)
ثم قال: {فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ}
خامسًا: التوسل إلى الله بالعمل الصالح: ومنه حديث الثلاثة الذين خرجوا في سفر فآواهم الليل إلى غار، فدخلوه ثم انحدرت عليهم صخرة من الجبل فسدت الباب، فتوسل كل واحد منهم بصالح عمله، فانفرجت الصخرة.
سادسًا: التوسل إلى الله بدعاء من ترجى إجابته: يعني أن تطلب من شخص ترجى إجابته أن يدعو الله لك؛ وهذا كثير؛ ومنه ما ثبت في الصحيحين عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- «أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يخطب الناس يوم الجمعة، فدخل رجل فقال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل -يعني من قلة المطر والنبات- فادع الله أن يغيثنا فرفع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يديه، وقال: "اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا" فما نزل من منبره إلا والمطر يتحادر من لحيته» .
وقولنا: التوسل إلى الله بدعاء من ترجى إجابته هذا من النوع الجائز ولكنه هل هو من الأمر المشروع يعني هل يشرع لك أن تقول لشخص ما: ادع الله لي؟
نقول: في هذا تفصيل:
إن كان لأمر عام يعني طلبت من هذا الرجل أن يشفع لك في أمر عام لك ولغيرك فلا بأس به، ومنه الحديث الذي أشرت إليه في قصة الرجل الذي جاء إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: «هلكت الأموال وانقطعت السبل» فإن هذا الرجل لم يسأل شيئًا لنفسه؛ وإنما سأل شيئًا(2/354)
لعموم المسلمين.
أما إذا كان لغير عامة المسلمين فالأولى ألا تسأل أحدًا يدعو لك إلا إذا كنت تقصد من وراء ذلك أن ينتفع الداعي.
فتأتي لشخص وتقول: ادع الله لي؛ هذا لا بأس به بشرط ألا تقصد به إذلال نفسك بالسؤال؛ ولكن قصدك نفع الداعي؛ لأنه إذا دعا لأخيه بظهر الغيب قال الملك: «آمين ولك بمثله» ؛ فهذه أنواع ستة كلها جائزة.
أما التوسل الممنوع فهو: أن يتوسل الإنسان بالمخلوق؛ فإن هذا لا يجوز؛ فالتوسل بالمخلوق حرام؛ يعني لا بدعائه ولكن بذاته، مثل أن تقول: "اللهم إني أسألك بمحمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كذا وكذا" فإن هذا لا يجوز.
وكذلك لو سألت بجاه الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فإنه لا يجوز؛ لأن هذا السبب لم يجعله الله، ولا رسوله سببًا.
وأما ما جاء في السؤال "أسألك بحق السائلين عليك" فالسائل يسأل هل للسائلين حق؟
الجواب: نعم للسائلين حق أوجبه الله على نفسه في قوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} . وكذلك فإن الله يقول إذا نزل إلى السماء الدنيا: «من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه» فهذا حق السائلين، وهو من فعل الله -عز وجل- والتوسل إلى الله بفعله لا بأس به.
تم بحمد الله -تعالى- المجلد الثاني
ويليه بمشيئة الله -عز وجل- المجلد الثالث(2/355)
الولاء والبراء
(382) سئل فضيلة الشيخ: عن الولاء والبراء؟
فأجاب -رحمه الله- بقوله: البراء والولاء لله سبحانه، أن يتبرأ الإنسان من كل ما تبرأ الله منه، كما قال سبحانه وتعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا} وهذا مع القوم المشركين، كما قال سبحانه: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} ، فيجب على كل مؤمن أن يتبرأ من كل مشرك وكافر، فهذا في الأشخاص.
وكذلك يجب على المسلم أن يتبرأ من كل عمل لا يرضي الله ورسوله وإن لم يكن كفرا، كالفسوق والعصيان، كما قال سبحانه: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} .
وإذا كان مؤمن عنده إيمان، وعنده معصية، فنواليه على إيمانه، ونكرهه على معاصيه، وهذا يجري في حياتنا، فقد تأخذ الدواء كريه الطعم، وأنت كاره لطعمه، وأنت مع ذلك راغب فيه؛ لأن فيه شفاء من المرض.
وبعض الناس يكره المؤمن العاصي أكثر مما يكره الكافر، وهذا من(3/11)
العجب، وهو قلب للحقائق، فالكافر عدو لله ولرسوله وللمؤمنين، ويجب علينا أن نكرهه من كل قلوبنا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} وهؤلاء الكفار لن يرضوا منك إلا اتباع ملتهم وبيع دينك {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} ، {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا} ، وهذا في كل أنواع الكفر: الجحود والإنكار، والتكذيب، والشرك، والإلحاد.
أما الأعمال فنتبرأ من كل عمل محرم، ولا يجوز لنا أن نألف الأعمال المحرمة، ولا أن نأخذ بها، والمؤمن العاصي نتبرأ من عمله بالمعصية، ولكننا نواليه، ونحبه على ما معه من الإيمان.
(383) وسئل أيضا عن حكم موالاة الكفار؟
فأجاب بقوله: موالاة الكفار بالموادة والمناصرة واتخاذهم بطانة حرام منهي عنها بنص القرآن الكريم، قال الله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}(3/12)
، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} .
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} ، وأخبر أنه إذا لم يكن المؤمنون بعضهم أولياء بعض، والذين كفروا بعضهم أولياء بعض، ويتميز هؤلاء عن هؤلاء، فإنها تكون فتنة في الأرض، وفساد كبير.
ولا ينبغي أبدا أن يثق المؤمن بغير المؤمن، مهما أظهر من المودة، وأبدى من النصح، فإن الله تعالى يقول عنهم: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} ، ويقول سبحانه لنبيه: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} ، والواجب على المؤمن أن يعتمد على الله في تنفيذ شرعه، وألا تأخذه فيه لومة لائم، وألا يخاف من أعدائه، فقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}(3/13)
، وقال تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} .
وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ، والله الموفق.
(384) وسئل -حفظه الله-: عن حكم مودة الكفار، وتفضيلهم على المسلمين؟
فأجاب بقوله: لا شك أن الذي يواد الكفار أكثر من المسلمين قد فعل محرما عظيما، فإنه يجب أن يحب المسلمين، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه، أما أن يود أعداء الله أكثر من المسلمين، فهذا خطر عظيم، وحرام عليه، بل لا يجوز أن يودهم، ولو أقل من المسلمين لقوله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ}(3/14)
وكذلك أيضا من أثنى عليهم ومدحهم وفضلهم على المسلمين في العمل وغيره، فإنه قد فعل إثما، وأساء الظن بإخوانه المسلمين، وأحسن بمن ليسوا أهلا لإحسان الظن، والواجب على المؤمن أن يقدم المسلمين على غيرهم في جميع الشئون في الأعمال وفي غيرها، وإذا حصل من المسلمين تقصير، فالواجب عليه أن ينصحهم، وأن يحذرهم، وأن يبين لهم مغبة الظلم؛ لعل الله أن يهديهم على يده.
(385) سئل فضيلة الشيخ: عن الموالاة والمعاداة؟ وعن حكم هجر المسلم؟
فأجاب بقوله: إن الموالاة والمعاداة يجب أن تكون لله عز وجل، فإن من أحب في الله وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله، فقد سلك الطريق التي بها تنال ولاية الله عز وجل، أما من كانت ولايته ومعاداته وحبه وبغضه للهوى، أو للتقليد الأعمى، فقد حرم خيرا كثيرا، وربما يقع في أمر كبير، فقد يعادي وليا من أولياء الله عز وجل، فيكون حربا لله تعالى، كما في الحديث القدسي الصحيح الذي رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «قال الله عز وجل: من عادى لي وليا فقد آذنته في الحرب» ... " الحديث.
وربما يحب ويوالي عدوا من أولياء الله عز وجل، فيقع في أمر كبير وخطر عظيم كما قال الله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} .(3/15)
وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} .
وهجر المسلم في الأصل حرام، بل من كبائر الذنوب إذا زاد على ثلاثة أيام، فقد صح عن النبي - أنه قال: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة، يلتقيان، فيعرض هذا، ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام» . متفق عليه، وروى أبو داود والنسائي بإسناده قال المنذري: إنه على شرط البخاري وسلم: «فمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار» .
ومن المعلوم أن المسلم لا يخرج عن الإسلام بالمعاصي وإن عظمت، ما لم تكن كفرا، وعلى هذا فلا يحل هجر أصحاب المعاصي، إلا أن يكون في هجرهم مصلحة بإقلاعهم عنها، وردع غيرهم عنها؛ لأن المسلم العاصي ولو كانت معصيته كبيرة أخ لك؛ فيدخل في قوله -: لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ... " ومن الأدلة على أن العاصي أخ للمطيع، وإن عظمت معصيته قوله تعالى فيمن قتل مؤمنا عمدا: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} . فجعل الله القاتل عمدا أخا للمقتول، مع أن القتل -قتل المؤمن عمدا- من أعظم الكبائر، وقوله تعالى في الطائفتين المقتتلتين من المؤمنين: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} . إلى قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} . فلم يخرج الله الطائفتين المقتتلتين من الإيمان، ولا من الأخوة الإيمانية.
فإن كان في الهجر مصلحة، أو زوال مفسدة، بحيث يكون رادعا لغير(3/16)
العاصي عن المعصية أو موجبا، لإقلاع العاصي عن معصيته كان الهجر حينئذ جائزا، بل مطلوبا طلبا لازما، أو مرغبا فيه، حسب عظم المعصية التي هجر من أجلها، ودليل ذلك قصة كعب بن مالك وصاحبيه -رضي الله عنهم- وهم الثلاثة الذين خلفوا؛ فقد أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهجرهم، ونهى عن تكليمهم، فاجتنبهم الناس، حتى إن كعبا -رضي الله عنه-دخل على ابن عمه أبي قتادة -رضي الله عنه- وهو أحب الناس إليه، فسلم عليه فلم يرد عليه السلام، فصار بهذا الهجر من المصلحة العظيمة لهؤلاء الثلاثة من الرجوع إلى الله -عز وجل-، والتوبة النصوح والابتلاء العظيم، ولغيرهم من المسلمين ما ترجحت به مصلحة الهجر على مصلحة الوصل.
أما اليوم، فإن كثيرا من أهل المعاصي لا يزيدهم الهجر إلا مكابرة وتماديا في معصيتهم، ونفورا وتنفيرا عن أهل العلم والإيمان؛ فلا يكون في هجرهم فائدة لهم ولا لغيرهم.
وعلى هذا فنقول: إن الهجر دواء يستعمل حيث كان فيه الشفاء، وأما إذا لم يكن فيه شفاء أو كان فيه إشفاء، وهو الهلاك فلا يستعمل.
فأحوال الهجر ثلاث:
إما أن تترجح مصلحته فيكون مطلوبا.
وإما أن تترجح مفسدته فينهى عنه بلا شك.
وإما أن لا يترجح هذا ولا هذا، فالأقرب النهي عنه؛ لعموم قول النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يحل للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة» .
أما الكفار المرتدون فيجب هجرهم والبعد عنهم، وأن لا يجالسوا ولا يواكلوا، إذا قام الإنسان بنصحهم ودعوتهم إلى الرجوع إلى الإسلام فأبوا،(3/17)
وذلك لأن المرتد لا يقر على ردته، بل يدعى إلى الرجوع إلى ما خرج منه، فإن أبى وجب قتله، وإذا قتل على ردته، فإنه لا يغسل، ولا يكفن، ولا يصلى عليه، ولا يدفن مع المسلمين، وإنما يرمى بثيابه، ورجس دمه في حفرة بعيدا عن المقابر الإسلامية في مكان غير مملوك.
وأما الكفار غير المرتدين فلهم حق القرابة إن كانوا من ذوي القربى، كما قال تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} ، وقال في الأبوين الكافرين المشركين: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} .
(386) سئل فضيلة الشيخ: عما زعمه أحد الوعاظ في مسجد من مساجد أوربا، من أنه لا يجوز تكفير اليهود والنصارى؟
فأجاب بقوله: أقول: إن هذا القول الصادر عن هذا الرجل ضلال، وقد يكون كفرا، وذلك لأن اليهود والنصارى كفرهم الله -عز وجل- في كتابه، قال الله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} ، فدل ذلك على أنهم مشركون، وبين الله تعالى في آيات أخرى ما هو صريح بكفرهم:
{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} .(3/18)
{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} .
{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} .
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} .
والآيات في هذا كثيرة، والأحاديث، فمن أنكر كفر اليهود والنصارى الذين لم يؤمنوا بمحمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكذبوه، فقد كذب الله -عز وجل- وتكذيب الله كفر، ومن شك في كفرهم فلا شك في كفره هو.
ويا سبحان الله كيف يرضى هذا الرجل أن يقول: إنه لا يجوز إطلاق الكفر على هؤلاء، وهم يقولون: إن الله ثالث ثلاثة؟ وقد كفرهم خالقهم -عز وجل-، وكيف لا يرضى أن يكفر هؤلاء وهم يقولون: إن المسيح ابن الله، ويقولون: يد الله مغلولة، ويقولون: إن الله فقير ونحن أغنياء؟ !
كيف لا يرضى أن يكفر هؤلاء، وأن يطلق كلمة الكفر عليهم، وهم يصفون ربهم بهذه الأوصاف السيئة التي كلها عيب وشتم وسب؟ !
وإني أدعو هذا الرجل، أدعوه أن يتوب إلى الله -عز وجل- وأن يقرأ قول الله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} وألا يداهن هؤلاء في كفرهم، وأن يبين لكل أحد أن هؤلاء كفار، وأنهم من أصحاب النار، قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «والذي نفسي بيده، لا يسمع بي يهودي»(3/19)
«ولا نصراني من هذه الأمة -أي أمة الدعوة- ثم لا يتبع ما جئت به، أو قال: "لا يؤمن بما جئت به إلا كان من أصحاب النار» .
فعلى هذا القائل أن يتوب إلى ربه من هذا القول العظيم الفرية، وأن يعلن إعلانا صريحا بأن هؤلاء كفرة، وأنهم من أصحاب النار، وأن الواجب عليهم أن يتبعوا النبي الأمي محمدا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فإنه مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وهو بشارة عيسى ابن مريم، عليه الصلاة والسلام.
فقد قال عيسى ابن مريم ما حكاه ربه عنه: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} .
لما جاءهم من ... ؟ من الذي جاءهم ... ؟ المبشر به أحمد، لما جاءهم بالبينات قالوا: هذا سحر مبين، وبهذا نرد دعوى أولئك النصارى الذين قالوا: إن الذي بشر به عيسى هو أحمد لا محمد، فنقول: إن الله قال: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} . ولم يأتكم بعد عيسى إلا محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومحمد هو أحمد، لكن الله ألهم عيسى أن يسمي محمدا بأحمد؛ لأن أحمد اسم تفضيل من الحمد، فهو أحمد الناس لله، وهو أحمد الخلق(3/20)
في الأوصاف كاملة، فهو عليه الصلاة والسلام أحمد الناس لله، جعلا لصيغة التفضيل من باب اسم الفاعل، وهو أحمد الناس، بمعنى أحق الناس أن يحمد، جعلا لصيغة التفضيل من باب اسم المفعول، فهو حامد ومحمود على أكمل صيغة الحمد الدال عليها أحمد.
وإني أقول: إن كل من زعم أن في الأرض دينا يقبله الله سوى دين الإسلام، فإنه كافر لا شك في كفره؛ لأن الله -عز وجل- يقول في كتابه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ويقول -عز وجل-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} .
وعلى هذا -وأكررها مرة ثالثة- على هذا القائل أن يتوب إلى الله -عز وجل- وأن يبين للناس جميعا أن هؤلاء اليهود والنصارى كفار؛ لأن الحجة قد قامت عليهم وبلغتهم الرسالة، ولكنهم كفروا عنادا.
ولقد كان اليهود يوصفون بأنهم مغضوب عليهم؛ لأنهم علموا الحق وخالفوه، وكان النصارى يوصفون بأنهم ضالون؛ لأنهم أرادوا الحق فضلوا عنه، أما الآن فقد علم الجميع الحق وعرفوه، ولكنهم خالفوه وبذلك استحقوا جميعا أن يكونوا مغضوبا عليهم، وإني أدعو هؤلاء اليهود والنصارى إلى أن يؤمنوا بالله ورسله جميعا وأن يتبعوا محمدا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأن هذا هو الذي أمروا به في كتبهم كما قال الله تعالى:(3/21)
{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .
{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} .
وليأخذوا من الأجر بنصيبين، كما قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «ثلاثة لهم أجران: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه، وآمن بمحمد، وصَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،» . الحديث.
ثم إني اطلعت بعد هذا على كلام لصاحب الإقناع في باب حكم المرتد قال فيه -بعد كلام سبق-: "أولم يكفر من دان بغير الإسلام كالنصارى، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم فهو كافر".
ونقل عن شيخ الإسلام قوله:
"من اعتقد أن الكنائس بيوت الله، وأن الله يعبد فيها، وأن ما يفعله اليهود والنصارى عبادة لله وطاعة له ولرسوله، أو أنه يحب ذلك أو يرضاه(3/22)
أو أعانهم على فتحها، وإقامة دينهم، وأن ذلك قربة أو طاعة فهو كافر".
وقال أيضا في موضع آخر:
" من اعتقد أن زيارة أهل الذمة في كنائسهم قربة إلى الله فهو مرتد".
وهذا يؤيد ما ذكرناه في صدر الجواب، وهذا أمر لا إشكال فيه. والله المستعان.
(387) وسئل فضيلة الشيخ: عن وصف الكفار بالصدق والأمانة وحسن العمل؟
فأجاب بقوله: هذه الأخلاق إن صحت مع أن فيهم الكذب والغدر والخيانة والسطو أكثر مما يوجد في بعض البلاد الإسلامية وهذا معلوم، لكن إذا صحت هذه، فإنها أخلاق يدعو إليها الإسلام، والمسلمون أولى أن يقوموا بها ليكسبوا بذلك حسن الأخلاق مع الأجر والثواب، أما الكفار فإنهم لا يقصدون بها إلا أمرا ماديا فيصدقون في المعاملة لجلب الناس إليهم.
لكن المسلم إذا تخلق بمثل هذه الأمور فهو يريد بالإضافة إلى الأمر المادي أمرا شرعيا، وهو تحقيق الإيمان والثواب من الله -عز وجل- وهذا هو الفارق بين المسلم والكافر.
أما ما زعم من الصدق في دول الكفر شرقية كانت أم غربية، فهذا إن صح فإنما هو نزر قليل من الخير في جانب كثير من الشر، ولو لم يكن من ذلك إلا أنهم أنكروا حق من حقه أعظم الحقوق، وهو الله -عز وجل-(3/23)
{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} . فهؤلاء مهما عملوا من الخير، فإنه نزر قليل مغمور في جانب سيئاتهم، وكفرهم، وظلمهم فلا خير فيهم.
(388) وسئل فضيلة الشيخ جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء: عن حكم السفر إلى بلاد الكفار؟ وحكم السفر للسياحة؟
فأجاب قائلا: السفر إلى بلاد الكفار لا يجوز إلا بثلاثة شروط:
الشرط الأول: أن يكون عند الإنسان علم يدفع به الشبهات.
الشرط الثاني: أن يكون عنده دين يمنعه من الشهوات.
الشرط الثالث: أن يكون محتاجا إلى ذلك.
فإن لم تتم هذه الشروط، فإنه لا يجوز السفر إلى بلاد الكفار لما في ذلك من الفتنة أو خوف الفتنة، وفيه إضاعة المال؛ لأن الإنسان ينفق أموالا كثيرة في هذه الأسفار.
أما إذا دعت الحاجة إلى ذلك لعلاج أو تلقي علم لا يوجد في بلده، وكان عنده علم ودين على ما وصفنا فهذا لا بأس به.
وأما السفر للسياحة في بلاد الكفار، فهذا ليس بحاجة، وبإمكانه أن يذهب إلى بلاد إسلامية يحافظ أهلها على شعائر الإسلام، وبلادنا الآن -والحمد لله- أصبحت بلادا سياحية في بعض المناطق، فبإمكانه أن يذهب إليها، ويقضي زمن إجازته فيها.(3/24)
(388) وسئل أيضا: عن حكم الإقامة في بلاد الكفار؟
فأجاب فضيلة الشيخ بقوله: الإقامة في بلاد الكفار خطر عظيم على دين المسلم، وأخلاقه، وسلوكه، وآدابه وقد شاهدنا وغيرنا انحراف كثير ممن أقاموا هناك، فرجعوا بغير ما ذهبوا به، رجعوا فساقا، وبعضهم رجع مرتدا عن دينه، وكافرا به وبسائر الأديان -والعياذ بالله- حتى صاروا إلى الجحود المطلق والاستهزاء بالدين وأهله السابقين منهم واللاحقين، ولهذا كان ينبغي بل يتعين التحفظ من ذلك، ووضع الشروط التي تمنع من الهوي في تلك المهالك.
فالإقامة في بلاد الكفر لا بد فيها من شرطين أساسيين:
الشرط الأول: أمن المقيم على دينه بحيث يكون عنده من العلم والإيمان وقوة العزيمة ما يطمئنه على الثبات على دينه، والحذر من الانحراف والزيغ، وأن يكون مضمرا لعداوة الكافرين وبغضهم، مبتعدا عن موالاتهم ومحبتهم، فإن موالاتهم ومحبتهم مما ينافي الإيمان، قال الله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} الآية. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ}(3/25)
، وثبت في الصحيح عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أن من أحب قوما فهو منهم، وأن المرء مع من أحب» .
ومحبة أعداء الله من أعظم ما يكون خطرا على المسلم؛ لأن محبتهم تستلزم موافقتهم واتباعهم، أو على الأقل عدم الإنكار عليهم، ولذلك قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «من أحب قوما فهو منهم» .
الشرط الثاني: أن يتمكن من إظهار دينه بحيث يقوم بشعائر الإسلام بدون ممانع، فلا يمنع من إقامة الصلاة والجمعة والجماعات إن كان معه من يصلي جماعة، ومن يقيم الجمعة، ولا يمنع من الزكاة والصيام والحج وغيرها من شعائر الدين، فإن كان لا يتمكن من ذلك لم تجز الإقامة لوجوب الهجرة حينئذ، قال في المغني ص457 جـ8 في الكلام على أقسام الناس في الهجرة: أحدها من تجب عليه، وهو من يقدر عليها، ولا يمكنه إظهار دينه، ولا تمكنه إقامة واجبات دينه مع المقام بين الكفار، فهذا تجب عليه الهجرة؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} . وهذا وعيد شديد يدل على الوجوب، ولأن القيام بواجب دينه واجب على من قدر عليه، والهجرة من ضرورة الواجب وتتمته، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. اهـ.(3/26)
وبعد تمام هذين الشرطين الأساسيين تنقسم الإقامة في دار الكفر إلى أقسام:
القسم الأول: أن يقيم للدعوة إلى الإسلام والترغيب فيه، فهذا نوع من الجهاد، فهي فرض كفاية على من قدر عليها، بشرط أن تتحقق الدعوة، وأن لا يوجد من يمنع منها أو من الاستجابة إليها؛ لأن الدعوة إلى الإسلام من واجبات الدين، وهي طريقة المرسلين، وقد أمر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالتبليغ عنه في كل زمان ومكان فقال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «بلغوا عني ولو آية» .
القسم الثاني: أن يقيم لدراسة أحوال الكافرين، والتعرف على ما هم عليه من فساد العقيدة، وبطلان التعبد، وانحلال الأخلاق، وفوضوية السلوك؛ ليحذر الناس من الاغترار بهم، ويبين للمعجبين بهم حقيقة حالهم، وهذه الإقامة نوع من الجهاد أيضا لما يترتب عليها من التحذير من الكفر وأهله، المتضمن للترغيب في الإسلام وهديه؛ لأن فساد الكفر دليل على صلاح الإسلام، كما قيل:
وبضدها تتبين الأشياء
لكن لا بد من شرط أن يتحقق مراده بدون مفسدة أعظم منه، فإن لم يتحقق مراده بأن منع من نشر ما هم عليه والتحذير منه، فلا فائدة من إقامته، وإن تحقق مراده مع مفسدة أعظم مثل أن يقابلوا فعله بسب الإسلام ورسول الإسلام وأئمة الإسلام؛ وجب الكف لقوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
ويشبه هذا أن يقيم في بلاد الكفر ليكون عينا للمسلمين، ليعرف(3/27)
ما يدبرونه للمسلمين من المكايد فيحذرهم المسلمون، كما أرسل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حذيفة بن اليمان إلى المشركين في غزوة الخندق؛ ليعرف خبرهم.
القسم الثالث: أن يقيم لحاجة الدولة المسلمة، وتنظيم علاقاتها مع دولة الكفر كموظفي السفارات، فحكمها حكم ما أقام من أجله، فالملحق الثقافي مثلا يقيم ليرعى شئون الطلبة، ويراقبهم ويحملهم على التزام دين الإسلام وأخلاقه وآدابه، فيحصل بإقامته مصلحة كبيرة ويندرئ بها شر كبير.
القسم الرابع: أن يقيم لحاجة خاصة مباحة كالتجارة والعلاج، فتباح الإقامة بقدر الحاجة، وقد نص أهل العلم رحمهم الله على جواز دخول بلاد الكفار للتجارة، وأثروا ذلك عن بعض الصحابة رضي الله عنهم.
القسم الخامس: أن يقيم للدراسة، وهي من جنس ما قبلها إقامة لحاجة، لكنها أخطر منها، وأشد فتكا بدين المقيم وأخلاقه، فإن الطالب يشعر بدنو مرتبته وعلو مرتبة معلميه، فيحصل من ذلك تعظيمهم، والاقتناع بآرائهم وأفكارهم وسلوكهم، فيقلدهم إلا من شاء الله عصمته وهم قليل، ثم إن الطالب يشعر بحاجته إلى معلمه، فيؤدي ذلك إلى التودد إليه، ومداهنته فيما هو عليه من الانحراف والضلال، والطالب في مقر تعلمه له زملاء يتخذ منهم أصدقاء يحبهم، ويتولاهم ويكتسب منهم، ومن أجل خطر هذا القسم وجب التحفظ فيه أكثر مما قبله، فيشترط فيه بالإضافة إلى الشرطين الأساسيين شروط:
الشرط الأول: أن يكون الطالب على مستوى كبير من النضوج(3/28)
العقلي الذي يميز به بين النافع والضار، وينظر به إلى المستقبل البعيد، فأما بعث الأحداث "الصغار السن"، وذوي العقول الصغيرة، فهو خطر عظيم على دينهم، وخلقهم، وسلوكهم، ثم هو خطر على أمتهم التي سيرجعون إليها، وينفثون فيها من السموم التي نهلوها من أولئك الكفار كما شهد ويشهد به الواقع، فإن كثيرا من أولئك المبعوثين رجعوا بغير ما ذهبوا به، رجعوا منحرفين في ديانتهم، وأخلاقهم، وسلوكهم، وحصل عليهم وعلى مجتمعهم من الضرر في هذه الأمور ما هو معلوم مشاهد، وما مثل بعث هؤلاء إلا كمثل تقديم النعاج للكلاب الضارية.
الشرط الثاني: أن يكون عند الطالب من علم الشريعة ما يتمكن به من التمييز بين الحق والباطل، ومقارعة الباطل بالحق لئلا ينخدع بما هم عليه من الباطل، فيظنه حقا أو يلتبس عليه، أو يعجز عن دفعه، فيبقى حيران، أو يتبع الباطل.
وفي الدعاء المأثور: «اللهم أرني الحق حقا، وارزقني اتباعه، وأرني الباطل باطلا، وارزقني اجتنابه، ولا تجعله ملتبسا علي فأضل» .
الشرط الثالث: أن يكون عند الطالب دين يحميه، ويتحصن به من الكفر والفسوق، فضعيف الدين لا يسلم مع الإقامة هناك إلا أن يشاء الله، وذلك لقوة المهاجم وضعف المقاوم، فأسباب الكفر والفسوق هناك قوية وكثيرة متنوعة، فإذا صادفت محلا ضعيف المقاومة عملت عملها.
الشرط الرابع: أن تدعو الحاجة إلى العلم الذي أقام من أجله بأن يكون في تعلمه مصلحة للمسلمين، ولا يوجد له نظير في المدارس في بلادهم، فإن كان من فضول العلم الذي لا مصلحة فيه للمسلمين أو كان في البلاد الإسلامية من المدارس نظيره، لم يجز أن يقيم في بلاد الكفر من(3/29)
أجله لما في الإقامة من الخطر على الدين والأخلاق، وإضاعة الأموال الكثيرة بدون فائدة.
القسم السادس: أن يقيم للسكن، وهذا أخطر مما قبله وأعظم لما يترتب عليه من المفاسد بالاختلاط التام بأهل الكفر وشعوره بأنه مواطن، ملتزم بما تقتضيه الوطنية من مودة، وموالاة، وتكثير لسواد الكفار، ويتربى أهله بين أهل الكفر، فيأخذون من أخلاقهم وعاداتهم، وربما قلدوهم في العقيدة والتعبد، ولذلك جاء في الحديث عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «من جامع المشرك وسكن معه فهو مثله» . وهذا الحديث، وإن كان ضعيف السند لكن له وجهة من النظر، فإن المساكنة تدعو إلى المشاكلة، وعن قيس بن أبي حازم، عن جرير بن عبد الله -رضي الله عنه- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، قالوا: يا رسول الله، ولم؟ قال لا تراءى نارهما» رواه أبو داود والترمذي، وأكثر الرواة رووه مرسلا عن قيس بن أبي حازم عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال الترمذي سمعت محمدا -يعني البخاري - يقول الصحيح حديث قيس عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مرسل. اهـ.
وكيف تطيب نفس مؤمن أن يسكن في بلاد كفار تعلن فيها شعائر الكفر، ويكون الحكم فيها لغير الله ورسوله، وهو يشاهد ذلك بعينه ويسمعه بأذنيه، ويرضى به، بل ينتسب إلى تلك البلاد ويسكن فيها بأهله وأولاده، ويطمئن إليها كما يطمئن إلى بلاد المسلمين مع ما في ذلك من الخطر العظيم، عليه وعلى أهله وأولاده في دينهم وأخلاقهم.
هذا ما توصلنا إليه في حكم الإقامة في بلاد الكفر، نسأل الله أن يكون موافقا للحق والصواب.(3/30)
(389) وسئل فضيلة الشيخ: عن حكم مخالطة الكفار ومعاملتهم بالرفق واللين طمعا في إسلامهم؟
فأجاب قائلا: لا شك أن المسلم يجب عليه أن يبغض أعداء الله، ويتبرأ منهم؛ لأن هذه هي طريقة الرسل وأتباعهم قال الله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} وقال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} وعلى هذا لا يحل لمسلم أن يقع في قلبه محبة ومودة لأعداء الله الذين هم أعداء له في الواقع، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} .
أما كون المسلم يعاملهم بالرفق واللين طمعا في إسلامهم وإيمانهم، فهذا لا بأس به؛ لأنه من باب التأليف على الإسلام، ولكن إذا يئس منهم عاملهم بما يستحقون أن يعاملهم به، وهذا مفصل في كتب أهل العلم، ولا سيما كتاب "أحكام أهل الذمة" لابن القيم رحمه الله.(3/31)
(390) سئل فضيلة الشيخ: عن رجل أسلم وأحب الإسلام وأهله، ويبغض الشرك وأهله، وبقي في بلد يكره أهلها الإسلام ويحاربونه ويقاتلون المسلمين، ولكنه يشق عليه ترك الوطن فلم يهاجر، فما الحكم؟
فأجاب بقوله: هذا الرجل يحرم عليه بقاؤه في هذا البلد، ويجب عليه أن يهاجر؛ فإن لم يفعل فليرتقب قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} فالواجب على هذا إذا كان قادرا على الهجرة أن يهاجر إلى بلد الإسلام، وحينئذ سوف ينسلخ من قلبه محبة البلد التي هاجر منها، وسوف يرغب في بلاد الإسلام، أما كونه لا يستطيع مفارقة بلد يحارب الإسلام وأهله، لمجرد أنها وطنه الأول، فهذا حرام، ولا يجوز له البقاء فيها.
(391) وسئل: عن حكم مخالطة المسلمين لغيرهم في أعيادهم؟
فأجاب قائلا: مخالطة غير المسلمين في أعيادهم محرمة لما في ذلك من الإعانة على الإثم والعدوان، وقد قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} . ولأن هذه الأعياد إن كانت(3/32)
لمناسبات دينية، فإن مشاركتهم فيها تقتضي إقرارهم على هذه الديانة والرضاء بما هم عليه من الكفر، وإذا كانت الأعياد لمناسبات غير دينية، فإنه لو كانت هذه الأعياد في المسلمين ما أقيمت، فكيف وهي في الكفار؟ لذلك قال أهل العلم: إنه لا يجوز للمسلمين أن يشاركوا غير المسلمين في أعيادهم؛ لأن ذلك إقرار ورضا بما هم عليه من الدين الباطل، ثم إنه معاونة على الإثم والعدوان.
واختلف العلماء فيما إذا أهدى إليك أحد من غير المسلمين هدية بمناسبة أعيادهم، هل يجوز لك قبولها أو لا يجوز؟
فمن العلماء من قال: لا يجوز أن تقبل هديتهم في أعيادهم؛ لأن ذلك عنوان الرضاء بها، ومنهم من يقول: لا بأس به، وعلى كل حال إذا لم يكن في ذلك محظور شرعي، وهو أن يعتقد المهدي إليك أنك راض بما هم عليه، فإنه لا بأس بالقبول، وإلا فعدم القبول أولى.
وهنا يحسن أن نذكر ما قاله ابن القيم -رحمه الله- في كتاب أحكام أهل الذمة 1\205 "وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق، مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم، فيقول: عيد مبارك عليك أو تهنأ بهذا العيد ونحوه، فهذا إن سلم قائله من الكفر، فهو من المحرمات، وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب.. وكثير ممن لا قدر للدين عنده يقع في ذلك" اهـ.
(392) وسئل فضيلة الشيخ: عن حكم السلام على غير المسلمين؟(3/33)
فأجاب بقوله: البدء بالسلام على غير المسلمين محرم ولا يجوز؛ لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه» ، ولكنهم إذا سلموا وجب علينا أن نرد عليهم؛ لعموم قوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} ، «وكان اليهود يسلمون على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيقولون: "السام عليك يا محمد "، والسام بمعنى الموت، يدعون على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالموت، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: " إن اليهود يقولون: السام عليكم، فإذا سلموا عليكم فقولوا: وعليكم» .
فإذا سلم غير المسلم على المسلم، وقال: "السام عليكم" فإننا نقول: "وعليكم". وفي قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وعليكم" دليل على أنهم إذا كانوا قد قالوا: السلام عليكم، فإن عليهم السلام، فكما قالوا نقول لهم، ولهذا قال بعض أهل العلم: إن اليهودي أو النصراني أو غيرهم من غير المسلمين إذا قالوا بلفظ صريح: "السلام عليكم" جاز أن نقول: عليكم السلام.
ولا يجوز كذلك أن يبدءوا بالتحية كأهلا وسهلا وما أشبهها؛ لأن في ذلك إكراما لهم، وتعظيما لهم، ولكن إذا قالوا لنا مثل هذا، فإننا نقول لهم مثل ما يقولون؛ لأن الإسلام جاء بالعدل وإعطاء كل ذي حق حقه، ومن المعلوم أن المسلمين أعلى مكانة ومرتبة عند الله -عز وجل- فلا ينبغي أن يذلوا أنفسهم لغير المسلمين فيبدءوهم بالسلام.
إذا فنقول في خلاصة الجواب: لا يجوز أن يبدأ غير المسلمين بالسلام؛ لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نهى عن ذلك؛ ولأن في هذا إذلالا للمسلم، حيث يبدأ بتعظيم غير المسلم، والمسلم أعلى مرتبة عند(3/34)
الله -عز وجل- فلا ينبغي أن يذل نفسه في هذا، أما إذا سلموا علينا فإننا نرد عليهم مثل ما سلموا.
وكذلك أيضا لا يجوز أن نبدأهم بالتحية مثل أهلا وسهلا ومرحبا وما أشبه ذلك، لما في ذلك من تعظيمهم، فهو كابتداء السلام عليهم.
(393) وسئل -حفظه الله تعالى -: عن حكم السلام على المسلم بهذه الصيغة "السلام على من اتبع الهدى "؟ وكيف يسلم الإنسان على أهل محل فيهم المسلم والكافر؟
فأجاب قائلا: لا يجوز أن يسلم الإنسان على المسلم بقوله: "السلام على من اتبع الهدى" لأن هذه الصيغة إنما قالها الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين كتب إلى غير المسلمين، وأخوك المسلم قل له: السلام عليكم، أما أن تقول: "السلام على من اتبع الهدى" فمقتضى هذا أن أخاك هذا ليس ممن اتبع الهدى.
وإذا كانوا مسلمين ونصارى، فإنه يسلم عليهم بالسلام المعتاد، يقول: السلام عليكم، يقصد بذلك المسلمين.
(394) سئل فضيلة الشيخ -أعلى الله درجته في دار كرامته-: هل يجوز لنا أن نبدأ الكفار بالسلام؟ وكيف نرد عليهم إذا سلموا علينا؟
فأجاب بقوله: إن هؤلاء الذين يأتوننا من الشرق ومن الغرب ممن ليسوا مسلمين، لا يحل لنا أن نبدأهم بالسلام؛ لأن النبي -صلى الله عليه(3/35)
وسلم- قال: «لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام» . رواه مسلم في صحيحه.
وإذا سلموا علينا، فإننا نرد عليهم بمثل ما سلموا علينا به؛ لقوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} وسلامهم علينا بالتحية الإسلامية "السلام عليكم" لا يخلو من حالين:
الحال الأولى: أن يفصحوا باللام فيقولوا: "السلام عليكم"، فلنا أن نقول:
عليكم السلام، ولنا أن نقول: وعليكم.
الحال الثانية: إذا لم يفصحوا باللام مثل أن يقولوا: "السام عليكم"، فإننا نقول: "وعليكم" فقط، وذلك لأن اليهود كانوا يأتون إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيسلمون عليه بقولهم: "السام عليكم" غير مفصحين باللام؛ والسام هو الموت، يريدون الدعاء على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالموت؛ فأمر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن نقول لهم: "وعليكم"، فإذا كانوا قالوا: "السام عليكم" فإننا نقول: "وعليكم" يعني أنتم أيضا عليكم السام، هذا هو ما دلت عليه السنة.
وأما أن نبدأهم نحن بالسلام، فإن هذا قد نهانا عنه نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(395) سئل فضيلة الشيخ: إذا سلم الكافر على المسلم فهل يرد عليه؟ وإذا مد يده للمصافحة فما الحكم؟ وكذلك خدمته بإعطائه الشاي وهو على الكرسي؟(3/36)
فأجاب فضيلته بقوله: إذا سلم الكافر على المسلم سلاما بينا واضحا، فقال: السلام عليكم، فإنك تقول: عليك السلام؛ لقوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} ، أما إذا لم يكن بينا واضحا، فإنك تقول: وعليك. وكذلك لو كان سلامه واضحا؛ يقول فيه: السام عليكم، يعني الموت، فإنه يقال: وعليك.
فالأقسام ثلاثة:
الأول: أن يقول بلفظ صريح: "السام عليكم"؛ فيجاب: "وعليكم".
الثاني: أن نشك هل قال: "السام" أو قال: "السلام"، فيجاب: "وعليكم".
الثالث: أن يقول بلفظ صريح: "السلام عليكم". فيجاب: "عليكم السلام"؛ لقوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} .
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "فلو تحقق السامع أن الذي قال له: سلام عليكم لا شك فيه، فهل له أن يقول: وعليك السلام، أو يقتصر على قوله: وعليك؟ فالذي تقتضيه الأدلة وقواعد الشريعة أن يقال له: وعليك السلام، فإن هذا من باب العدل، والله تعالى يأمر بالعدل والإحسان، وقد قال تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} ، فندب إلى الفضل، وأوجب العدل، ولا ينافي هذا شيئا من أحاديث الباب بوجه ما، فإنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إنما أمر بالاقتصار على قول الراد: وعليكم، على السبب المذكور الذي كانوا يعتمدونه في(3/37)
تحيتهم، ثم قال ابن القيم: والاعتبار وإن كان لعموم اللفظ، فإنما يعتبر عمومه في نظير المذكور، لا فيما يخالفه، قال الله تعالى: {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} ، فإذا زال هذا السبب، وقال الكتابي: سلام عليكم ورحمة الله، فالعدل في التحية أن يرد عليه نظير سلامه. اهـ. 200\1 أحكام أهل الذمة. وفي صحيح البخاري عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «إذا سلم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم: السام عليكم، فقولوا: وعليك» . والسام هو الموت.
وإذا مد يده إليك للمصافحة، فمد يدك إليه، وإلا فلا تبدأه.
وأما خدمته بإعطائه الشاي، وهو على الكرسي فمكروه، لكن ضع الفنجال على الماصة، ولا حرج.
(396) سئل فضيلة الشيخ: ورد في الحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه» ، أليس في العمل بهذا تنفير عن الدخول في الإسلام؟
فأجاب بقوله: يجب أن نعلم أن أسد الدعاة في الدعوة إلى الله هو النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأن أحسن المرشدين إلى الله هو النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وإذا علمنا ذلك، فإن أي فهم نفهمه من كلام الرسول(3/38)
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يكون مجانبا للحكمة، يجب علينا أن نتهم هذا الفهم، وأن نعلم أن فهمنا لكلام النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خطأ، لكن ليس معنى ذلك أن نقيس أحاديث الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بما ندركه من عقولنا، وأفهامنا؛ لأن عقولنا وأفهامنا قاصرة، لكن هناك قواعد عامة في الشريعة يرجع إليها في المسائل الخاصة الفردية.
فالنبي، عليه الصلاة والسلام، يقول: «لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في طريق، فاضطروه إلى أضيقه» والمعنى: لا تتوسعوا لهم إذا قابلوكم، حتى يكون لهم السعة، ويكون الضيق عليكم، بل استمروا في اتجاهكم وسيركم، واجعلوا الضيق إن كان هناك ضيق على هؤلاء، ومن المعلوم أن هدى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليس إذا رأى الكافر ذهب يزحمه إلى الجدار حتى يرصه على الجدار، ما كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يفعل هذا باليهود في المدينة ولا أصحابه يفعلونه بعد فتوح الأمصار.
فالمعنى أنكم كما لا تبدءونهم بالسلام، لا تفسحوا لهم، فإذا لقوكم فلا تتفرقوا حتى يعبروا، بل استمروا على ما أنتم عليه، واجعلوا الضيق عليهم إن كان في الطريق ضيق، وليس في الحديث تنفير عن الإسلام، بل فيه إظهار لعزة المسلم، وأنه لا يذل لأحد إلا لربه عز وجل.
(397) سئل فضيلة الشيخ: شخص يعمل مع الكفار، فبماذا تنصحونه؟
فأجاب بقوله: ننصح هذا الأخ الذي يعمل مع الكفار، أن يطلب عملا ليس فيه أحد من أعداء الله ورسوله ممن يدينون بغير(3/39)
الإسلام، فإذا تيسر فهذا هو الذي ينبغي، وإن لم يتيسر فلا حرج عليه؛ لأنه في عمله وهم في عملهم، ولكن بشرط أن لا يكون في قلبه مودة لهم ومحبة وموالاة، وأن يلتزم ما جاء به الشرع فيما يتعلق بالسلام عليهم ورد السلام ونحو هذا، وكذلك أيضا لا يشيع جنائزهم، ولا يحضرها، ولا يشهد أعيادهم، ولا يهنئهم بها.
(398) سئل فضيلة الشيخ: كيف نستفيد مما عند الكفار دون الوقوع في المحظور؟ وهل للمصالح المرسلة دخل في ذلك؟
فأجاب -رفع الله درجته- بقوله: الذي يفعله أعداء الله وأعداؤنا، وهم الكفار ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: عبادات.
القسم الثاني: عادات.
القسم الثالث: صناعات وأعمال.
أما العبادات: فمن المعلوم، أنه لا يجوز لأي مسلم أن يتشبه بهم في عباداتهم، ومن تشبه بهم في عباداتهم، فإنه على خطر عظيم، فقد يكون ذلك مؤديا إلى كفره، وخروجه من الإسلام.
وأما العادات: كاللباس وغيره، فإنه يحرم أن يتشبه بهم لقول النبي صلى الله عليكم وسلم: «من تشبه بقوم فهو منهم» .
وأما الصناعات والحرف: التي فيها مصالح عامة، فلا حرج أن نتعلم مما صنعوه ونستفيد منه، وليس هذا من باب التشبه، ولكنه من باب المشاركة في الأعمال النافعة التي لا يعد من قام بها متشبها بهم.
وأما قول السائل: "وهل للمصالح المرسلة دخل في ذلك؟ ".(3/40)
فنقول: إن المصالح المرسلة لا ينبغي أن تجعل دليلا مستقلا، بل نقول: هذه المصالح المرسلة إن تحققنا أنها مصلحة، فقد شهد لها الشرع بالصحة والقبول وتكون من الشرع، وإن شهد لها بالبطلان، فإنها ليست مصالح مرسلة، ولو زعم فاعلها أنها مصالح مرسلة، وإن كان لا هذا ولا هذا، فإنها ترجع إلى الأصل؛ إن كانت من العبادات، فالأصل في العبادات الحظر، وإن كانت من غير العبادات، فالأصل فيها الحل، وبهذا يتبين أن المصالح المرسلة ليست دليلا مستقلا.
(399) سئل فضيلة الشيخ: عن حكم استقدام العمال الكفار؟ وحكم تقديم الطعام لهم؟
فأجاب -جزاه الله عنا خير الجزاء- بقوله: المسلمون خير من الكافرين؛ لقول الله تعالى: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} . ولكن لا بأس من استقدام غير المسلمين للحاجة.
وأما تقديم الطعام لهم، فإن كان على سبيل الخدمة بأن يكون يخدمهم في بيتهم ونحوه، فلا ينبغي بل ذكر فقهاؤنا كراهة ذلك، وإن كان على غير هذا الوجه مثل أن تقدمه لهم من بيتك، فلا حرج فيه؛ لأن الحاجة داعية له.
(400) وسئل فضيلة الشيخ: عن حكم استقدام غير المسلمين إلى الجزيرة العربية؟
فأجاب فضيلته بقوله: استقدام غير المسلمين إلى الجزيرة العربية(3/41)
أخشى أن يكون من المشاقة لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حيث صح عنه كما في صحيح البخاري «أنه قال في مرض موته: " أخرجوا المشركين من جزيرة العرب» ، وفي صحيح مسلم أنه قال: «لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلما» .
لكن استقدامهم للحاجة إليهم بحيث لا نجد مسلما يقوم بتلك الحاجة جائز، بشرط أن لا يمنحوا إقامة مطلقة.
وحيث قلنا: جائز، فإنه إن ترتب على استقدامهم مفاسد دينية في العقيدة أو الأخلاق صار حراما؛ لأن الجائز إذا ترتب عليه مفسدة صار محرما تحريم الوسائل كما هو معلوم، ومن المفاسد المترتبة على ذلك ما يخشى من محبتهم، والرضا بما هم عليه من الكفر، وذهاب الغيرة الدينية بمخالطتهم، وفي المسلمين -ولله الحمد- خير وكفاية، نسأل الله الهداية والتوفيق.
(401) سئل فضيلة الشيخ: عن حكم قول: أخي لغير المسلم؟ وكذلك قول: صديق ورفيق؟ وحكم الضحك إلى الكفار لطلب المودة؟
فأجاب بقوله: أما قول: "يا أخي" لغير المسلم، فهذا حرام، ولا يجوز إلا أن يكون أخا له من النسب أو الرضاع، وذلك لأنه إذا انتفت أخوة النسب والرضاع لم يبق إلا أخوة الدين، والكافر ليس أخا للمؤمن في دينه، وتذكر قول نبي الله تعالى نوح: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} .(3/42)
وأما قول: "صديق رفيق" ونحوهما، فإذا كانت كلمة عابرة يقصد بها نداء من جهل اسمه منهم، فهذا لا بأس به، وإن قصد بها معناها توددا وتقربا منهم، فقد قال الله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} . فكل كلمات التلطف التي يقصد بها الموادة، لا يجوز للمؤمن أن يخاطب بها أحدا من الكفار.
وكذلك الضحك إليهم لطلب الموادة بيننا وبينهم، لا يجوز كما علمت من الآية الكريمة.
(402) سئل فضيلة الشيخ: عن وصف الكافر بأنه أخ؟
فأجاب بقوله: لا يحل للمسلم أن يصف الكافر-أيا كان نوع كفره؛ سواء كان نصرانيا، أم يهوديا، أم مجوسيا، أم ملحدا- لا يجوز له أن يصفه بالأخ أبدا، فاحذر يا أخي مثل هذا التعبير، فإنه لا أخوة بين المسلمين وبين الكفار أبدا، الأخوة هي الأخوة الإيمانية كما قال الله -عز وجل-: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} . وإذا كانت قرابة النسب تنتفي باختلاف الدين، فكيف تثبت الأخوة مع اختلاف الدين وعدم القرابة؟ قال الله -عز وجل- عن نوح وابنه لما قال نوح عليه الصلاة والسلام: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} .
فلا أخوة بين المؤمن والكافر أبدا، بل الواجب على المؤمن ألا يتخذ الكافر وليا كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} .(3/43)
فمن هم أعداء الله؟ أعداء الله هم الكافرون، قال الله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} .
وقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} .
(403) سئل فضيلة الشيخ: إذا وجد الإنسان شخصا غير مسلم في الطريق وطلب إيصاله فما الحكم؟ وهل يجوز الأكل مما مسته أيدي الكفار؟
فأجاب بقوله: إذا وجدت شخصا غير مسلم في الطريق، فلا حرج عليك أن تركبه؛ لأن الله يقول: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} .
أما الأكل مما مسته أيدي الكفار فجائز؛ لأن نجاسة الكافر نجاسة معنوية لا حسية.
(404) سئل فضيلة الشيخ: عن حكم تهنئة الكفار بعيد الكريسمس؟ وكيف نرد عليهم إذا هنئونا به؟ وهل يجوز الذهاب إلى أماكن الحفلات التي يقيمونها بهذه المناسبة؟ وهل(3/44)
يأثم الإنسان إذا فعل شيئا مما ذكر بغير قصد؟ وإنما فعله إما مجاملة أو حياء أو إحراجا أو غير ذلك من الأسباب؟ وهل يجوز التشبه بهم في ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: تهنئة الكفار بعيد الكريسمس أو غيره من أعيادهم الدينية حرام بالاتفاق، كما نقل ذلك ابن القيم -رحمه الله- في كتابه "أحكام أهل الذمة"، حيث قال: "وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق، مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم، فيقول: عيد مبارك عليك، أو تهنأ بهذا العيد ونحوه، فهذا إن سلم قائله من الكفر، فهو من المحرمات، وهو بمنزلة أن تهنئه بسجوده للصليب، بل ذلك أعظم إثما عند الله، وأشد مقتا من التهنئة بشرب الخمر وقتل النفس، وارتكاب الفرج الحرام ونحوه. وكثير ممن لا قدر للدين عنده يقع في ذلك، ولا يدري قبح ما فعل، فمن هنأ عبدا بمعصية أو بدعة أو كفر فقد تعرض لمقت الله وسخطه". انتهى كلامه رحمه الله.
وإنما كانت تهنئة الكفار بأعيادهم الدينية حراما، وبهذه المثابة التي ذكرها ابن القيم؛ لأن فيها إقرارا لما هم عليه من شعائر الكفر، ورضا به لهم، وإن كان هو لا يرضى بهذا الكفر لنفسه، لكن يحرم على المسلم أن يرضى بشعائر الكفر، أو يهنئ بها غيره؛ لأن الله تعالى لا يرضى بذلك، كما قال الله تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} . وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} . وتهنئتهم(3/45)
بذلك حرام سواء كانوا مشاركين للشخص في العمل أم لا.
وإذا هنئونا بأعيادهم، فإننا لا نجيبهم على ذلك؛ لأنها ليست بأعياد لنا، ولأنها أعياد لا يرضاها الله تعالى؛ لأنها إما مبتدعة في دينهم، وإما مشروعة، لكن نسخت بدين الإسلام الذي بعث الله به محمدا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى جميع الخلق، وقال فيه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} .
وإجابة المسلم دعوتهم بهذه المناسبة حرام؛ لأن هذا أعظم من تهنئتهم بها، لما في ذلك من مشاركتهم فيها.
وكذلك يحرم على المسلمين التشبه بالكفار بإقامة الحفلات بهذه المناسبة، أو تبادل الهدايا أو توزيع الحلوى، أو أطباق الطعام، أو تعطيل الأعمال ونحو ذلك، لقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «من تشبه بقوم فهو منهم» . قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه: (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم) : "مشابهتهم في بعض أعيادهم توجب سرور قلوبهم، بما هم عليه من الباطل، وربما أطمعهم ذلك في انتهاز الفرص واستذلال الضعفاء". انتهى كلامه رحمه الله.
ومن فعل شيئا من ذلك فهو آثم سواء فعله مجاملة، أو توددا، أو حياء أو لغير ذلك من الأسباب؛ لأنه من المداهنة في دين الله، ومن أسباب تقوية نفوس الكفار وفخرهم بدينهم.
والله المسئول أن يعز المسلمين بدينهم، ويرزقهم الثبات عليه، وينصرهم على أعدائهم، إنه قوي عزيز.(3/46)
(405) سئل فضيلة الشيخ -حفظه الله-: هل يجوز الذهاب إلى القس للتهنئة بسلامة الوصول والعودة؟
فأجاب -رحمه الله- بقوله: لا يجوز الذهاب إلى أحد من الكفار عند قدومه للتهنئة بوصوله، والسلام عليه؛ لأنه ثبت عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: «لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام» .
وأما ذهاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لليهودي الذي كان مريضا؛ فإن هذا اليهودي كان غلاما يخدم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلما مرض عاده النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليعرض عليه الإسلام، فعرضه عليه فأسلم، فأين هذا الذي يعوده ليعرض عليه الإسلام من شخص زار قسا؛ ليهنئه بسلامة الوصول، ويرفع من معنويته؟ ! لا يمكن أن يقيس هذا على ذاك إلا جاهل أو صاحب هوى.
(406) وسئل فضيلة الشيخ: عن مقياس التشبه بالكفار؟
فأجاب بقوله: مقياس التشبه أن يفعل المتشبه ما يختص به المتشبه به، فالتشبه بالكفار أن يفعل المسلم شيئا من خصائصهم، أما ما انتشر بين المسلمين، وصار لا يتميز به الكفار؛ فإنه لا يكون تشبها، فلا يكون حراما من أجل أنه تشبه، إلا أن يكون محرما من جهة أخرى، وهذا الذي قلناه هو مقتضى مدلول هذه الكلمة، وقد صرح بمثله صاحب الفتح حيث قال ص272 ج10 "وقد كره بعض السلف ليس البرنس؛ لأنه كان من لباس الرهبان، وقد سئل مالك عنه فقال: لا بأس به. قيل: فإنه من لبوس النصارى، قال: كان يلبس هاهنا ". اهـ. قلت: لو استدل مالك «بقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين سئل ما يلبس المحرم، فقال:»(3/47)
«"لا يلبس القمص، ولا السراويل، ولا البرانس» الحديث؛ لكان أولى.
وفي الفتح أيضا ص307 جـ1: وإن قلنا: النهي عنها (أي عن المياثر الأرجوان) من أجل التشبه بالأعجام فهو لمصلحة دينية، لكن كان ذلك شعارهم حينئذ وهم كفار، ثم لما لم يصر الآن يختص بشعارهم زال ذلك المعنى، فتزول الكراهة. والله أعلم. اهـ.
(407) سئل فضيلة الشيخ: يدعي بعض الناس، أن سبب تخلف المسلمين، هو تمسكهم بدينهم، وشبهتهم في ذلك، أن الغرب لما تخلوا عن جميع الديانات وتحرروا منها، وصلوا إلى ما وصلوا إليه من التقدم الحضاري، وربما أيدوا شبهتهم بما عند الغرب من الأمطار الكثيرة والزروع؛ فما رأي فضيلتكم؟
فأجاب بقوله: هذا الكلام لا يصدر إلا من ضعيف الإيمان، أو مفقود الإيمان، جاهل بالتاريخ، غير عالم بأسباب النصر، فالأمة الإسلامية لما كانت متمسكة بدينها في صدر الإسلام كان لها العزة والتمكين، والقوة، والسيطرة في جميع نواحي الحياة، بل إن بعض الناس يقول: إن الغرب لم يستفيدوا ما استفادوه من العلوم إلا ما نقلوه عن المسلمين في صدر الإسلام، ولكن الأمة الإسلامية تخلفت كثيرا عن دينها، وابتدعت في دين الله ما ليس منه، عقيدة، وقولا، وفعلا، وحصل بذلك التأخر الكبير، والتخلف الكبير، ونحن نعلم علم اليقين ونشهد الله -عز وجل- إننا لو رجعنا إلى ما كان عليه أسلافنا في ديننا، لكانت لنا العزة، والكرامة، والظهور على جميع الناس، ولهذا لما حدث " أبو سفيان " " هرقل "(3/48)
ملك الروم - والروم في ذلك الوقت تعتبر دولة عظمى- بما عليه الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه؛ قال: "إن كان ما تقول حقا، فسيملك ما تحت قدمي هاتين"، ولما خرج أبو سفيان وأصحابه من عند " هرقل " قال: " لقد أمر أمر ابن أبي كبشة، إنه ليخافه ملك بني الأصفر ".
وأما ما حصل في الدول الغربية الكافرة الملحدة من التقدم في الصناعات وغيرها، فإن ديننا لا يمنع منه، لو أننا التفتنا إليه، لكن مع الأسف ضيعنا هذا وهذا، ضيعنا ديننا، وضيعنا دنيانا، وإلا فإن الدين الإسلامي لا يعارض هذا التقدم، بل قال الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} . وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} . وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} . وقال تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ} . إلى غير ذلك من الآيات التي تعلن إعلانا ظاهرا للإنسان أن يكتسب ويعمل وينتفع، لكن لا على حساب الدين، فهذه الأمم الكافرة هي كافرة من الأصل، دينها الذي كانت تدعيه دين باطل، فهو وإلحادها على حد سواء، لا فرق. فالله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} . وإن كان أهل الكتاب من اليهود والنصارى لهم بعض(3/49)
المزايا التي يخالفون غيرهم فيها، لكن بالنسبة للآخرة هم وغيرهم سواء، ولهذا أقسم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه لا يسمع به من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يتبع ما جاء به، إلا كان من أصحاب النار، فهم من الأصل كافرون، سواء انتسبوا إلى اليهودية، أو النصرانية، أم لم ينتسبوا إليها.
وأما ما يحصل لهم من الأمطار وغيرها، فهم يصابون بهذا ابتلاء من الله تعالى وامتحانا، وتعجل لهم طيباتهم في الحياة الدنيا، كما «قال النبي عليه الصلاة والسلام لعمر بن الخطاب، وقد رآه قد أثر في جنبه حصير، فبكى عمر. فقال: يا رسول الله، فارس والروم يعيشون فيما يعيشون فيه من النعيم، وأنت على هذه الحال. فقال: "يا عمر، هؤلاء قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا، أما ترضى أن تكون لهم الدنيا، ولنا الآخرة» . ثم إنهم يأتيهم من القحط، والبلايا، والزلازل، والعواصف المدمرة ما هو معلوم، وينشر دائما في الإذاعات، وفي الصحف، وفي غيرها، ولكن من وقع السؤال عنه أعمى، أعمى الله بصيرته، فلم يعرف الواقع، ولم يعرف حقيقة الأمر، ونصيحتي له أن يتوب إلى الله -عز وجل- عن هذه التصورات قبل أن يفاجئه الموت، وأن يرجع إلى ربه، وأن يعلم أنه لا عزة لنا، ولا كرامة، ولا ظهور، ولا سيادة إلا إذا رجعنا إلى دين الإسلام، رجوعا حقيقيا يصدقه القول والفعل، وأن يعلم أن ما عليه هؤلاء الكفار باطل ليس بحق، وأن مأواهم النار، كما أخبر الله بذلك في كتابه، وعلى لسان رسوله، صلى الله عليه سلم، وأن هذا الإمداد الذي أمدهم الله به من النعم ما هو إلا ابتلاء وامتحان، وتعجيل طيبات، حتى إذا هلكوا وفارقوا هذا النعيم إلى الجحيم ازدادت عليه الحسرة والألم والحزن، وهذا من(3/50)
حكمة الله -عز وجل- بتنعيم هؤلاء، على أنهم كما قلت لم يسلموا من الكوارث التي تصيبهم من الزلازل، والقحط، والعواصف، والفيضانات وغيرها، فأسأل الله لهذا السائل الهداية والتوفيق، وأن يرده إلى الحق، وأن يبصرنا جميعا في ديننا، إنه جواد كريم.
(408) سئل فضيلة الشيخ: هل يمكن أن يصل المسلم في هذا العصر إلى ما وصل إليه الصحابة من الالتزام بدين الله؟
فأجاب بقوله: أما الوصول إلى مرتبة الصحابة فهذا غير ممكن؛ لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» .
وأما إصلاح الأمة الإسلامية حتى تنتقل عن هذا الوضع الذي هي عليه، فهذا ممكن، والله على كل شيء قدير، وقد ثبت عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله، وهم على ذلك» . ولا ريب أن الأمة الإسلامية في الوضع الحالي في وضع مزر، بعيدة عما يريده الله منها من الإجماع على دين الله، والقوة في دين الله؛ لأن الله يقول: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} .
(409) سئل فضيلة الشيخ: هل يعتبر الشيعة في حكم الكفار؟ وهل ندعو الله تعالى أن ينصر الكفار عليهم؟(3/51)
فأجاب بقوله: الكفر حكم شرعي مرده إلى الله ورسوله، فما دل الكتاب والسنة على أنه كفر فهو كفر، وما دل الكتاب والسنة على أنه ليس بكفر فليس بكفر، فليس على أحد بل ولا له أن يكفر أحدا حتى يقوم الدليل من الكتاب والسنة على كفره. وإذا كان من المعلوم أنه لا يملك أحد أن يحلل ما حرم الله، أو يحرم ما أحل الله، أو يوجب ما لم يوجبه الله تعالى إما في الكتاب أو السنة، فلا يملك أحد أن يكفر من لم يكفره الله إما في الكتاب وإما في السنة.
ولا بد في التكفير من شروط أربعة:
الأول: ثبوت أن هذا القول، أو الفعل، أو الترك كفر بمقتضى دلالة الكتاب أو السنة.
الثاني: ثبوت قيامه بالمكلف.
الثالث: بلوغ الحجة.
الرابع: انتفاء مانع التكفير في حقه.
فإذا لم يثبت أن هذا القول، أو الفعل، أو الترك كفر بمقتضى دلالة الكتاب والسنة، فإنه لا يحل لأحد أن يحكم بأنه كفر؛ لأن ذلك من القول على الله بلا علم، وقد قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} وقال: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} .
وإذا لم يثبت قيامه بالمكلف، فإنه لا يحل أن يرمى به بمجرد الظن(3/52)
لقوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} . الآية، ولأنه يؤدي إلى استحلال دم المعصوم بلا حق.
وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «أيما امرئ قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما؛ إن كان كما قال، وإلا رجعت عليه» هذا لفظ مسلم.
وعن أبي ذر رضي الله عنه أنه سمع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «لا يرمي رجل رجلا بالفسوق، ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه، إن لم يكن صاحبه كذلك» . أخرجه البخاري، ولمسلم معناه.
وإذا لم تبلغه الحجة، فإنه لا يحكم بكفره؛ لقوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} . وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} . وقوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} إلى قوله: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} . وقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} .
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة -يعني أمة الدعوة- يهودي ولا نصراني ثم يموت، ولم يؤمن بالذي»(3/53)
«أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار» .
لكن إن كان من لم تبلغه الحجة لا يدين بدين الإسلام، فإنه لا يعامل في الدنيا معاملة المسلم، وأما في الآخرة، فأصح الأقوال فيه أن أمره إلى الله تعالى.
وإذا تمت هذه الشروط الثلاثة أعني ثبوت أن هذا القول، أو الفعل أو الترك كفر بمقتضى دلالة الكتاب والسنة، وأنه قام بالمكلف، وأن المكلف قد بلغته الحجة، ولكن وجد مانع التكفير في حقه، فإنه لا يكفر لوجود المانع.
فمن موانع التكفير:
الإكراه؛ فإذا أكره على الكفر فكفر، وكان قلبه مطمئنا بالإيمان، لم يحكم بكفره؛ لوجود المانع، وهو الإكراه؛ قال الله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} .
ومن موانع التكفير:
أن يغلق على المرء قصده، فلا يدري ما يقول لشدة فرح، أو حزن، أو خوف، أو غير ذلك؛ لقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} .
وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه، وعليها طعامه»(3/54)
«وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها، قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ خطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي، وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح» .
فهذا الرجل أخطأ من شدة الفرح خطأ يخرج به عن الإسلام، لكن منع من خروجه منه أنه أغلق عليه قصده، فلم يدر ما يقول من شدة الفرح، فقد قصد الثناء على ربه؛ لكنه من شدة الفرح أتى بكلمة لو قصدها لكفر.
فالواجب الحذر من إطلاق الكفر على طائفة أو شخص معين، حتى يعلم تحقق شروط التكفير في حقه، وانتفاء موانعه.
إذا تبين ذلك؛ فإن الشيعة فرق شتى ذكر السفاريني في شرح عقيدته أنهم اثنتان وعشرون فرقة، وعلى هذا يختلف الحكم فيهم بحسب بعدهم من السنة، فكل من كان عن السنة أبعد كان إلى الضلال أقرب.
ومن فرقهم الرافضة الذين تشيعوا لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رابع الخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم جميعا- تشيعا مفرطا في الغلو لا يرضاه علي بن أبي طالب ولا غيره من أئمة الهدى، كما جفوا غيره من الخلفاء جفاء مفرطا، ولا سيما الخليفتان أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما- فقد قالوا فيهما شيئا لم يقله فيهما أحد من فرق الأمة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى 3\356 من مجموع ابن قاسم:
" وأصل قول الرافضة أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نص على علي -يعني في الخلافة- نصا قاطعا للعذر، وأنه إمام معصوم، ومن خالفه كفر، وأن المهاجرين والأنصار كتموا النص، وكفروا بالإمام المعصوم، واتبعوا أهواءهم، وبدلوا الدين، وغيروا الشريعة، وظلموا واعتدوا، بل(3/55)
كفروا إلا نفرا قليلا، إما بضعة عشره، أو أكثر، ثم يقولون: إن أبا بكر وعمر ونحوهما ما زالوا منافقين، وقد يقولون: بل آمنوا ثم كفروا، وأكثرهم يكفر من خالف قولهم، ويسمون أنفسهم المؤمنين، ومن خالفهم كفارا، ومنهم ظهرت أمهات الزندقة والنفاق، كزندقة القرامطة والباطنية وأمثالهم". اهـ. وانظر قوله فيهم أيضا في المجموع المذكور4\428- 429.
وقال في كتابه القيم: (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم) ص951 تحقيق الدكتور ناصر العقل:
"والشرك وسائر البدع مبناها على الكذب والافتراء، ولهذا كل من كان عن التوحيد والسنة أبعد كان إلى الشرك والابتداع والافتراء أقرب، كالرافضة الذين هم أكذب طوائف أهل الأهواء، وأعظمهم شركا، فلا يوجد في أهل الأهواء أكذب منهم، ولا أبعد عن التوحيد منهم، حتى إنهم يخربون مساجد الله التي يذكر فيها اسمه، فيعطلونها من الجماعات والجمعات، ويعمرون المشاهد التي على القبور التي نهى الله ورسوله عن اتخاذها". اهـ.
وانظر ما كتبه محب الدين الخطيب في رسالته "الخطوط العريضة" فقد نقل عن كتاب "مفاتيح الجنان" من دعائهم ما نصه: "اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، والعن صنمي قريش، وجبتيهما، وطاغوتيهما، وابنتيهما" قال: ويعنون بهما وبالجبت والطاغوت أبا بكر وعمر، ويريدون بابنتيهما أم المؤمنين عائشة، وأم المؤمنين حفصة رضي الله عن الجميع.
ومن قرأ التاريخ علم أن للرافضة يدا في سقوط بغداد، وانتهاء الخلافة الإسلامية فيها حيث سهلوا للتتار دخولها، وقتل التتار من العامة والعلماء أمما كثيرة، فقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب "منهاج(3/56)
السنة" أنهم هم الذين سعوا في مجيء التتر إلى بغداد دار الخلافة حتى قتل الكفار -يعني التتر- من المسلمين ما لا يحصيه إلا الله تعالى من بني هاشم وغيرهم، وقتلوا بجهات بغداد ألف ألف وثمانمائة ألف، ونيفا وسبعين ألفا، وقتلوا الخليفة العباسي، وسبوا النساء الهاشميات وصبيان الهاشميين. اهـ. 4\592. تحقيق الدكتور محمد رشاد سالم.
ومن عقيدة الرافضة: "التقية" وهي أن يظهر خلاف ما يبطن، ولا شك أن هذا نوع من النفاق، يغتر به من يغتر من الناس.
والمنافقون أضر على الإسلام من ذوي الكفر الصريح، ولهذا أنزل الله تعالى فيهم سورة كاملة كان من هدي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يقرأ بها في صلاة الجمعة؛ لإعلان أحوال المنافقين، والتحذير منهم في أكبر جمع أسبوعي وأكثره، وقال فيها عن المنافقين: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} .
وأما قول السائل: هل يدعو المسلم الله أن ينصر الكفار عليهم؟
فجوابه: أن الأولى والأجدر بالمؤمن أن يدعو الله تعالى أن يخذل الكافرين وينصر المؤمنين الصادقين، الذين يقولون بقلوبهم وألسنتهم ما ذكر الله عنه في قوله: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} . ويتولون أصحاب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- معترفين لكل واحد بفضله، منزلين كل واحد منزلته من غير إفراط ولا تفريط، نسأل الله تعالى أن يجمع كلمة المؤمنين على الحق، وأن ينصرهم على من سواهم.(3/57)
(410) سئل فضيلة الشيخ: يكره بعض الناس اسم " علي " و" الحسين " ونحوه وينفر منها، وذلك لتعظيم الرافضة لتلك الأسماء، فما جوابكم حفظكم الله تعالى؟
فأجاب بقوله: جوابي على هذا أن البدعة لا تقابل ببدعة، فإذا كان طائفة من أهل البدع يغلون في مثل هذه الأسماء، ويتبركون بها، فلا يجوز أن نقابلهم ببدعة؛ فننفر من هذه الأسماء ونكرهها، بل نقول: إن الأسماء لا تغير شيئا عما كان عليه الإنسان، فكم من إنسان يسمى باسم طيب حسن، وهو -أعني المسمى به- من أسوأ الناس، كم من إنسان يسمى عبد الله، وهو من أشد الناس استكبارا، وكم من إنسان يسمى محمدا، وهو من أعظم الناس ذما، وكم من إنسان يسمى عليا وهو نازل سافل، فالمهم أن الاسم لا يغير شيئا، لكن لا شك أن تحسين الاسم من الأمور المطلوبة، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام،: «أحب الأسماء إلى الله عبد الله، وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام» .
(411) وسئل جزاه الله خيرا: عن مدرس يدرس مذهب أبي حنيفة رحمه الله، ويعلم تلاميذه الصوفية، والمدائح النبوية؛ فاعترض عليه طالب من الطلبة، فقيل: إنه وهابي، والوهابية لا تقر المدائح النبوية.
فأجاب قائلا: الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. وبعد.
فإن هذا السؤال سؤال عظيم اشتمل على مسائل في أصول الدين، ومسائل(3/58)
تاريخية، ومسائل علمية.
أما المسائل العلمية: فإنه ذكر أنه يفقه تلامذته على مذهب الإمام أبي حنيفة، ولا ريب أن مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله أحد المذاهب الأربعة المتبوعة المشهورة، ولكن ليعلم أن هذه المذاهب الأربعة لا ينحصر الحق فيها، بل الحق قد يكون في غيرها، فإن إجماعهم على حكم مسألة من المسائل ليس إجماعا للأمة، والأئمة أنفسهم رحمهم الله ما جعلهم الله أئمة لعباده إلا حيث كانوا أهلا للإمامة، حيث عرفوا قدر أنفسهم، وعلموا أنه لا طاعة لهم إلا فيما كان موافقا لطاعة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكانوا يحذرون عن تقليدهم إلا فيما وافق السنة، ولا ريب أن مذهب الإمام أبي حنيفة ومذهب الإمام أحمد ومذهب الإمام الشافعي ومذهب الإمام مالك وغيرهم من أهل العلم، أنها قابلة لأن تكون خطأ وصوابا، فإن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعلى هذا فإنه لا حرج عليه أن يفقه تلامذته على مذهب الإمام أبي حنيفة، بشرط إذا تبين له الدليل بخلافه تبع الدليل وتركه، ووضح لطلبته أن هذا هو الحق، وأن هذا هو الواجب عليهم.
أما فيما يتعلق بمسألة الصوفية وغنائهم ومديحهم وضربهم بالدف، والتغبير التي يضربون الفراش ونحوه بالسوط، فما كان أكثر غبارا فهو أشد صدقا في الطلب، وما أشبه ذلك مما يفعلونه، فإن هذا من البدع المحرمة التي يجب عليه أن يقلع عنها، وأن ينهى أصحابه عنها، وذلك لأن خير القرون، وهم القرن الذين بعث فيهم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يتعبدوا لله بهذا التعبد؛ ولأن هذا التعبد لا يورث القلب إنابة إلى الله ولا انكسارا لديه، ولا خشوعا لديه، وإنما يورث انفعالات نفسية يتأثر بها(3/59)
الإنسان من مثل هذا العمل، كالصراخ وعدم الانضباط والحركة الثائرة وما أشبه ذلك، وكل هذا يدل على أن هذا التعبد باطل، وأنه ليس بنافع للعبد، وهو دليل واقعي غير الدليل الأثري الذي قال فيه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة» فهذا التعبد من الضلال المبين الذي يجب على العبد أن يقلع عنه، وأن يتوب إلى الله، وأن يرجع إلى ما كان عليه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وخلفاؤه الراشدون، فإن هديهم أكمل هدي، وطريقهم أحسن طريق، قال الله تعالى:
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} .
ولا يكون العمل صالحا إلا بأمرين:
الإخلاص لله، والموافقة لشريعته التي جاء بها رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأما ما ذكره من مجادلة الطالب له، وقول بعضهم: إنه رجل وهابي، وإن الوهابية لا يقرون المدائح النبوية، وما إلى ذلك، فإننا نخبره وغيره بأن الوهابية -ولله الحمد- كانوا من أشد الناس تمسكا بكتاب الله وسنة رسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومن أشد الناس تعظيما لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- واتباعا لسنته، ويدلك على هذا أنهم كانوا حريصين دائما على اتباع سنة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والتقيد بها، وإنكار ما خالفها من عقيدة، أو عمل قولي أو فعلي.(3/60)
ويدلك على هذا أيضا أنهم جعلوا الصلاة على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ركنا من أركان الصلاة، لا تصح الصلاة إلا بها؛ فهل بعد هذا من شك في تعظيمهم لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
وهم أيضا إنما قالوا بأنها ركن من أركان الصلاة؛ لأن ذلك هو مقتضى الدليل عندهم، فهم متبعون للدليل، معظمون للرسول، لا يغلون بالنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في أمر لم يشرعه الله ورسوله، ثم إن حقيقة الأمر أن إنكارهم للمدائح النبوية المشتملة على الغلو في رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو التعظيم الحقيقي لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو سلوك الأدب مع الله ورسوله حيث لم يقدموا بين يدي الله ورسوله، فلم يغلوا؛ لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نهاهم عن ذلك فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أيها الناس قولوا بقولكم، أو بعض قولكم، ولا يستهوينكم الشيطان» .
ونهى عليه الصلاة والسلام عن الغلو فيه كما غلت النصارى في المسيح ابن مريم؛ قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، إنما أنا عبد؛ فقولوا: عبد الله ورسوله» . والمهم أن طريق الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وأتباعه، وهو الإمام المجدد طريقه هو ما كان عليه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه لمن تتبعه بعلم وإنصاف. وأما من قال بجهل أو بظلم وجور فإنه لا يمكن أن يكون لأقواله منتهى، فإن الجائر أو الجاهل يقول كل ما يمكنه أن يقول من حق وباطل، ولا انضباط لقوله، وإذا لم تستح فاصنع ما شئت، ومن أراد أن يعرف الحق في هذا، فليقرأ ما كتبه الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وأحفاده، والعلماء من بعده حتى يتبين له الحق، إذا كان منصفا ومريدا للحق.(3/61)
ثم إن المدائح النبوية المشتملة على الغلو، لا شك أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يرضى بها، بل إنما جاء بالنهي عنها، والتحذير منها، فمن المدائح التي يحرصون عليها ويتغنون بها ما قاله الشاعر:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم
فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم
وأشباه ذلك مما هو معلوم، ومثل هذا بلا شك كفر بالرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وإشراك بالله عز وجل، فإن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بشر لا يعلم من الغيب إلا ما أعلمه الله عز وجل، والدنيا وضرتها وهي الآخرة، ليست من جود رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بل هي من خلق الله عز وجل، فهو الذي خلق الدنيا والآخرة، وهو الذي جاد فيهما بما جاد على عباده سبحانه وتعالى، وكذلك علم اللوح والقلم ليس من علوم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل إن علم اللوح والقلم إلى الله عز وجل، ولا يعلم منه رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلا ما أطلعه الله عليه هذا هو حقيقة الأمر، وهذا وأمثاله هي المدائح التي يتغنى بها هؤلاء الذين يدعون أنهم معظمون لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومن العجائب أن هؤلاء المغالين يدعون أنهم معظمون لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تجدهم معظمين له كما زعموا في مثل هذه الأمور، وهم في كثير من سننه فاترون معرضون، والعياذ بالله.
فأنصح القائل وغيره بأن يعود إلى الله عز وجل، وأن لا يطري رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما أطرى النصارى عيسى ابن مريم، وأن يعلم أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بشر يمتاز عن غيره بالوحي الذي أوحاه الله إليه، وما خصه الله به من المناقب الحميدة، والأخلاق العالية،(3/62)
ولكن ليس له من التصرف في الكون شيء، وإنما التصرف في الكون، والذي يدعى ويرجى ويؤله هو الله عز وجل وحده، لا إله إلا هو، سبحانه وتعالى عما يشركون.(3/63)
المناهي اللفظية(3/65)
(412) سئل فضيلة الشيخ: عما يقوله بعض الناس من أن تصحيح الألفاظ غير مهم مع سلامة القلب؟
فأجاب بقوله: إن أراد بتصحيح الألفاظ إجراءها على اللغة العربية، فهذا صحيح، فإنه لا يهم -من جهة سلامة العقيدة- أن تكون الألفاظ غير جارية على اللغة العربية، ما دام المعنى مفهوما وسليما.
أما إذا أراد بتصحيح الألفاظ ترك الألفاظ التي تدل على الكفر والشرك، فكلامه غير صحيح، بل تصحيحها مهم، ولا يمكن أن نقول للإنسان: أطلق لسانك في قول كل شيء ما دامت النية صحيحة، بل نقول: الكلمات مقيدة بما جاءت به الشريعة الإسلامية.
(413) سئل فضيلة الشيخ: عن هذه الأسماء، وهي: أبرار -ملاك -إيمان -جبريل -جنى؟
فأجاب بقوله: لا يتسمى بأسماء أبرار، وملاك، وإيمان، وجبريل أما جنى (1) فلا أدري معناها.
(414) سئل فضيلته: عن صحة هذه العبارة "اجعل بينك وبين الله صلة، واجعل بينك وبين الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صلة "؟
__________
(1) (وجنى الجنتين دان)(3/67)
فأجاب قائلا: الذي يقول: اجعل بينك وبين الله صلة، أي بالتعبد له، واجعل بينك وبين الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صلة، أي باتباعه، فهذا حق.
أما إذا أراد بقوله: اجعل بينك وبين الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صلة، أي اجعله، هو ملجأك عند الشدائد، ومستغاثك عند الكربات، فإن هذا محرم؛ بل هو شرك أكبر، مخرج عن الملة.
(415) سئل فضيلة الشيخ: عن هذا القول: "أحبائي في رسول الله "؟
فأجاب فضيلته قائلا: هذا القول وإن كان صاحبه فيما يظهر يريد معنى صحيحا، يعني: أجتمع أنا وإياكم في محبة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولكن هذا التعبير خلاف ما جاءت به السنة، فإن الحديث: «من أحب في الله، وأبغض في الله» ، فالذي ينبغي أن يقول: أحبائي في الله -عز وجل- ولأن هذا القول الذي يقوله فيه عدول عما كان يقوله السلف، ولأنه ربما يوجب الغلو في رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والغفلة عن الله، والمعروف عن علمائنا، وعن أهل الخير، هو أن يقول: أحبك في الله.
(416) وسئل فضيلة الشيخ: إذا كتب الإنسان رسالة، وقال فيها: "إلى والدي العزيز" أو "إلى أخي الكريم" فهل في هذا شيء؟
فأجاب بقوله: هذا ليس فيه شيء، بل هو من الجائز؛ قال الله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}(3/68)
وقال تعالى: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} . وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف» ، فهذا دليل على أن مثل هذه الأوصاف تصح لله تعالى ولغيره، ولكن اتصاف الله بها لا يماثله شيء من اتصاف المخلوق بها، فإن صفات الخالق تليق به، وصفات المخلوق تليق به.
وقول القائل لأبيه أو أمه أو صديقه: "العزيز" يعني أنك عزيز علي، غال عندي، وما أشبه ذلك، ولا يقصد بها أبدا الصفة التي تكون لله، وهي العزة التي لا يقهره بها أحد، وإنما يريد أنك عزيز علي، وغال عندي، وما أشبه ذلك.
(417) وسئل: عن عبارة "أدام الله أيامك "؟
فأجاب بقوله: قول: "أدام الله أيامك" من الاعتداء في الدعاء؛ لأن دوام الأيام محال، مناف لقوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} . وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} .
(418) وسئل: ما رأي فضيلتكم في هذه الألفاظ: جلالة وصاحب الجلالة، وصاحب السمو؟ وأرجو وآمل؟(3/69)
فأجاب بقوله: لا بأس بها إذا كانت المقولة فيه أهلا لذلك، ولم يخش منه الترفع والإعجاب بالنفس، وكذلك أرجو وآمل.
(419) سئل فضيلة الشيخ: عن هذه الألفاظ: "أرجوك"، و"تحياتي"، و"أنعم صباحا"، و"أنعم مساء "؟
فأجاب قائلا: لا بأس أن تقول لفلان: "أرجوك" في شيء يستطيع أن يحقق رجاءك به.
وكذلك "تحياتي لك". و"لك مني التحية"، وما أشبه ذلك؛ لقوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} . وكذلك: "أنعم صباحا" و"أنعم مساء" لا بأس به، ولكن بشرط ألا تتخذ بديلا عن السلام الشرعي.
(420) وسئل فضيلة الشيخ: عمن يسأل بوجه الله فيقول: أسألك بوجه الله كذا وكذا، فما الحكم في هذا القول؟
فأجاب قائلا: وجه الله أعظم من أن يسأل به الإنسان شيئا من الدنيا، ويجعل سؤاله بوجه الله -عز وجل- كالوسيلة التي يتوسل بها إلى حصول مقصوده من هذا الرجل الذي توسل إليه بذلك، فلا يقدمن أحد على مثل هذا السؤال، أي لا يقل: وجه الله عليك، أو أسألك بوجه الله، أو ما أشبه ذلك.(3/70)
(421) وسئل الشيخ حفظه الله: ما رأيكم فيمن يقول: "آمنت بالله، وتوكلت على الله، واعتصمت بالله، واستجرت برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "؟
فأجاب بقوله: أما قول القائل: " آمنت بالله، وتوكلت على الله، واعتصمت بالله" فهذا ليس فيه بأس، وهذه حال كل مؤمن أن يكون متوكلا على الله، مؤمنا به، معتصما به.
وأما قوله: "واستجرت برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"؛ فإنها كلمة منكرة، والاستجارة بالنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد موته لا تجوز، أما الاستجارة به في حياته في أمر يقدر عليه فهي جائزة، قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} ؛ فالاستجارة بالرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد موته شرك أكبر، وعلى من سمع أحدا يقول مثل هذا الكلام أن ينصحه؛ لأنه قد يكون سمعه من بعض الناس، وهو لا يدري ما معناها وأنت "يا أخي" إذا أخبرته وبينت له أن هذا شرك، فلعل الله أن ينفعه على يدك، والله الموفق.
(422) سئل فضيلة الشيخ: ما حكم قول: "أطال الله بقاءك"، "طال عمرك "؟
فأجاب قائلا: لا ينبغي أن يطلق القول بطول البقاء؛ لأن طول البقاء قد يكون خيرا، وقد يكون شرا، فإن شر الناس من طال عمره وساء عمله، وعلى هذا فلو قال: أطال الله بقاءك على طاعته ونحوه، فلا بأس بذلك.(3/71)
(423) سئل فضيلة الشيخ: عن قول أحد الخطباء في كلامه حول غزوة بدر: "التقى إله وشيطان"، فقد قال بعض العلماء: إن هذه العبارة كفر صريح؛ لأن ظاهر العبارة إثبات الحركة لله -عز وجل- نرجو من فضيلتكم توضيح ذلك؟
فأجاب بقوله: لا شك أن هذه العبارة لا تنبغي، وإن كان قائلها قد أراد التجوز، فإن التجوز إنما يسوغ إذا لم يوهم معنى فاسدا لا يليق به. والمعنى الذي لا يليق هنا أن يجعل الشيطان قبيلا لله تعالى، وندا له، وقرنا يواجهه، كما يواجه المرء قرنه، وهذا حرام، ولا يجوز.
ولو أراد الناطق به تنقص الله تعالى وتنزيله إلى هذا الحد لكان كافرا، ولكنه حيث لم يرد ذلك نقول له: هذا التعبير حرام، ثم إن تعبيره به ظانا أنه جائز بالتأويل الذي قصده، فإنه لا يأثم بذلك لجهله، ولكن عليه ألا يعود لمثل ذلك.
وأما قوله بعض العلماء الذي نقلت: "إن هذه العبارة كفر صريح" فليس بجيد على إطلاقه، وقد علمت التفصيل فيه.
وأما تعليل القائل لحكمه بكفر هذا الخطيب أن ظاهر عبارته إثبات الحركة لله -عز وجل- فهذا التعليل يقتضي امتناع الحركة لله، وأن إثباتها كفر، وفيه نظر ظاهر، فقد أثبت الله تعالى لنفسه في كتابه أنه يفعل، وأنه يجيء يوم القيامة، وأنه استوى على العرش، أي علا عليه علوا يليق بجلاله، وأثبت نبيه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه ينزل إلى السماء الدنيا في كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ واتفق أهل السنة على القول بمقتضى ما دل عليه الكتاب والسنة من ذلك غير خائضين فيه، ولا محرفين(3/72)
للكلم عن مواضعه، ولا معطلين له عن دلائله، وهذه النصوص في إثبات الفعل، والمجيء، والاستواء، والنزول إلى السماء الدنيا إن كانت تستلزم الحركة لله، فالحركة له حق ثابت بمقتضى هذه النصوص ولازمها، وإن كنا لا نعقل كيفية هذه الحركة، ولهذا أجاب الإمام مالك من سأله عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} . كيف استوى؟ فقال: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة".
وإن كانت هذه النصوص لا تستلزم الحركة لله تعالى لم يكن لنا إثبات الحركة له بهذه النصوص، وليس لنا أيضا أن ننفيها عنه بمقتضى استبعاد عقولنا لها، أو توهمنا أنها تستلزم إثبات النقص، وذلك أن صفات الله تعالى توقيفية، يتوقف إثباتها ونفيها على ما جاء به الكتاب والسنة؛ لامتناع القياس في حقه تعالى، فإنه لا مثل له ولا ند، وليس في الكتاب والسنة إثبات لفظ الحركة أو نفيه، فالقول بإثبات لفظه أو نفيه قول على الله بلا علم، وقد قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} . وقال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} ، فإذا كان مقتضى النصوص السكوت عن إثبات الحركة لله تعالى أو نفيها عنه، فكيف نكفر من تكلم بكلام يثبت ظاهره -حسب زعم هذا العالم- التحرك لله تعالى؟ ! وتكفير المسلم ليس بالأمر(3/73)
الهين، فإن من دعا رجلا بالكفر فقد باء بها أحدهما، فإن كان المدعو كافرا باء بها، وإلا باء بها الداعي.
وقد تكلم شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في كثير من رسائله في الصفات على مسألة الحركة، وبين أقوال الناس فيها، وما هو الحق من ذلك، وأن من الناس من جزم بإثباتها، ومنهم من توقف، ومنهم من جزم بنفيها.
والصواب في ذلك: أن ما دل عليه الكتاب والسنة من أفعال الله تعالى، ولوازمها فهو حق ثابت يجب الإيمان به، وليس فيه نقص ولا مشابهة للخلق، فعليك بهذا الأصل فإنه يفيدك، وأعرض عما كان عليه أهل الكلام من الأقيسة الفاسدة التي يحاولون صرف نصوص الكتاب والسنة إليها ليحرفوا بها الكلم عن مواضعه، سواء عن نية صالحة أو سيئة.
(424) وسئل فضيلته: يستعمل بعض الناس عند أداء التحية عبارات عديدة منها: "مساك الله بالخير". و"الله بالخير". و"صبحك الله بالخير". بدلا من لفظة التحية الواردة، وهل يجوز البدء بالسلام بلفظ: "عليك السلام "؟
فأجاب قائلا: السلام الوارد هو أن يقول الإنسان: "السلام عليك"، أو "سلام عليك"، ثم يقول بعد ذلك ما شاء من أنواع التحيات، وأما "مساك الله بالخير". و"صبحك الله بالخير"، أو "الله بالخير"، وما أشبه ذلك، فهذه تقال بعد السلام المشروع، وأما تبديل هذا بالسلام المشروع فهو خطأ.(3/74)
وأما البداءة بالسلام بلفظ: "عليك السلام" فهو خلاف المشروع؛ لأن هذا اللفظ للرد لا للبداءة.
(425) وسئل: عن هذه الكلمة " الله غير مادي "؟
فأجاب: القول بأن الله غير مادي قول منكر؛ لأن الخوض في مثل هذا بدعة منكرة، فالله تعالى ليس كمثله شيء، وهو الأول الخالق لكل شيء، وهذا شبيه بسؤال المشركين للنبي عليه الصلاة والسلام، هل الله من ذهب، أو من فضة، أو من كذا وكذا؟ وكل هذا حرام لا يجوز السؤال عنه، وجوابه في كتاب الله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} . فكف عن هذا، مالك، ولهذا السؤال.
(426) سئل فضيلته: عن قول بعض الناس إذا انتقم الله من الظالم: "الله ما يضرب بعصا "؟
فأجاب بقوله: لا يجوز أن يقول الإنسان مثل هذا التعبير بالنسبة لله -عز وجل- ولكن له أن يقول: إن الله سبحانه وتعالى، حكم لا يظلم أحدا، وإنه ينتقم من الظالم، وما أشبه هذه الكلمات التي جاءت بها النصوص الشرعية، أما الكلمة التي أشار إليها السائل، فلا أرى أنها جائزة.
(427) سئل فضيلة الشيخ: كثيرا ما نرى على الجدران كتابة لفظ الجلالة "الله" وبجانبها لفظة محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو نجد ذلك على الرقاع، أو على الكتب، أو على بعض المصاحف، فهل موضعها هذا صحيح؟(3/75)
فأجاب قائلا: موضعها ليس بصحيح؛ لأن هذا يجعل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ندا لله مساويا له، ولو أن أحدا رأى هذه الكتابة، وهو لا يدري من المسمى بهما، لأيقن يقينا أنهما متساويان متماثلان، فيجب إزالة اسم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ويبقى النظر في كتابة: "الله" وحدها، فإنها كلمة يقولها الصوفية، ويجعلونها بدلا عن الذكر، يقولون: "الله الله الله"، وعلى هذا فتلغى أيضا، فلا يكتب "الله"، ولا " محمد " على الجدران، ولا في الرقاع ولا في غيره.
(428) سئل فضيلة الشيخ: كيف نجمع بين قول الصحابة: "الله ورسوله أعلم " بالعطف بالواو وإقرارهم على ذلك وإنكاره -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على من قال: "ما شاء الله وشئت"؟
فأجاب بقوله: قوله: "الله ورسوله أعلم" جائز، وذلك؛ لأن علم الرسول من علم الله، فالله تعالى هو الذي يعلمه ما لا يدركه البشر، ولهذا أتى بالواو.
وكذلك في المسائل الشرعية يقال: "الله ورسوله أعلم"؛ لأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أعلم الخلق بشريعة الله، وعلمه بها من علم الله الذي علمه كما قال الله تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} . وليس هذا كقوله: "ما شاء الله وشئت"؛ لأن هذا في باب القدرة والمشيئة، ولا يمكن أن يجعل الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مشاركا لله فيها.(3/76)
ففي الأمور الشرعية يقال: "الله ورسوله أعلم" وفي الأمور الكونية لا يقال ذلك.
ومن هنا نعرف خطأ وجهل من يكتب الآن على بعض الأعمال {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} ؛ لأن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يرى العمل بعد موته.
(429) سئل فضيلة الشيخ: عن هذه العبارة "أعطني الله لا يهينك "؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذه العبارة صحيحة، والله سبحانه وتعالى قد يهين العبد ويذله، وقد قال الله تعالى في عذاب الكفار: إنهم يجزون عذاب الهون بما كانوا يستكبرون في الأرض، فأذاقهم الله الهوان والذل بكبريائهم واستكبارهم في الأرض بغير الحق، وقال: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} والإنسان إذا أمرك فقد تشعر بأن هذا إذلال وهوان لك فيقول: "الله لا يهينك".
(430) وسئل فضيلة الشيخ: عن هذه العبارة "الله يسأل عن حالك"؟
فأجاب بقوله: هذه العبارة: "الله يسأل عن حالك"، لا تجوز لأنها توهم أن الله تعالى يجهل الأمر فيحتاج إلى أن يسأل، وهذا من المعلوم(3/77)
أنه أمر منكر عظيم، والقائل لا يريد هذا في الواقع لا يريد أن الله يخفى عليه شيء، ويحتاج إلى سؤال، لكن هذه العبارة قد تفيد هذا المعنى، أو توهم هذا المعنى، فالواجب العدول عنها، واستبدالها بأن تقول: "أسأل الله أن يحتفي بك"، و"أن يلطف بك"، وما أشبهها.
(431) وسئل: هل يجوز للإنسان أن يقسم على الله؟
فأجاب بقوله: الإقسام على الله أن يقول الإنسان: والله، لا يكون كذا وكذا، أو والله لا يفعل الله كذا وكذا، والإقسام على الله نوعان:
أحدهما: أن يكون الحامل عليه قوة ثقة المقسم بالله -عز وجل- وقوة إيمانه به مع اعترافه بضعفه وعدم إلزامه الله بشيء، فهذا جائز، ودليله قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره» ، ودليل آخر واقعي، وهو حديث أنس بن النضر «حينما كسرت أخته الربيع سنا لجارية من الأنصار، فطالب أهلها بالقصاص فطلبوا إليهم العفو فأبوا، فعرضوا الأرش فأبوا، فأتوا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأبوا إلا القصاص، فأمر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالقصاص، فقال أنس بن النضر: أتكسر ثنية الربيع؟ لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يا أنس، كتاب الله القصاص" فرضي القوم فعفوا فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره» ، وهو -رضي الله عنه-لم يقسم اعتراضا على الحكم، وإباء لتنفيذه فجعل الله الرحمة في قلوب أولياء المرأة التي كسرت سنها، فعفوا عفوا مطلقا، عند ذلك قال الرسول صلى الله عليه(3/78)
وسلم: «إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره» فهذا النوع من الإقسام لا بأس به.
النوع الثاني: من الإقسام على الله: ما كان الحامل عليه الغرور والإعجاب بالنفس، وأنه يستحق على الله كذا وكذا، فهذا والعياذ بالله محرم، وقد يكون محبطا للعمل، ودليل ذلك أن رجلا كان عابدا، وكان يمر بشخص عاص لله، وكلما مر به نهاه فلم ينته، فقال ذات يوم: والله لا يغفر الله لفلان -نسأل الله العافية- فهذا تحجر رحمة الله؛ لأنه مغرور بنفسه فقال الله -عز وجل-: «من ذا الذي يتألى علي، ألا أغفر لفلان قد غفرت له، وأحبطت عملك" قال أبو هريرة: "تكلم بكلمة، أوبقت دنياه وآخرته» .
ومن هذا نأخذ أن من أضر ما يكون على الإنسان اللسان كما قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لمعاذ بن جبل -رضي الله عنه-: «ألا أخبرك بملاك ذلك كله"، قلت: بلى يا رسول الله، فأخذ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بلسانه فقال: كف عليك هذا، فقال: يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: "ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو قال- على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم» . والله الموفق، والهادي إلى سواء الصراط.
(432) وسئل فضيلة الشيخ: عن التسمي بالإمام؟
فأجاب قائلا: التسمي بالإمام أهون بكثير من التسمي بشيخ الإسلام؛ لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سمى إمام المسجد إماما، ولو لم يكن معه إلا واحد، لكن ينبغي أن لا يتسامح في إطلاق كلمة "إمام" إلا على من كان قدوة، وله أتباع كالإمام أحمد وغيره ممن له أثر في الإسلام،(3/79)
ووصف الإنسان بما لا يستحقه هضم للأمة؛ لأن الإنسان إذا تصور أن هذا إمام، وهذا إمام ممن لم يبلغ منزلة الإمامة هان الإمام الحق في عينه.
(433) سئل فضيلة الشيخ: عن إطلاق بعض الأزواج على زوجاتهم وصف أم المؤمنين؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا حرام، ولا يحل لأحد أن يسمي زوجته أم المؤمنين؛ لأن مقتضاه أن يكون هو نبيا؛ لأن الذي يوصف بأمهات المؤمنين هن زوجات النبي عليه الصلاة والسلام، وهل هو يريد أن يتبوأ مكان النبوة، وأن يدعو نفسه بعد بالنبي؟ بل الواجب على الإنسان أن يتجنب مثل هذه الكلمات، وأن يستغفر الله تعالى مما جرى منه.
(434) سئل فضيلة الشيخ: ما حكم قول: "يا عبدي" و"يا أمتي "؟
فأجاب: قول القائل: "يا عبدي"، "يا أمتي"، ونحوه له صورتان:
الصورة الأولى: أن يقع بصيغة النداء مثل: يا عبدي، يا أمتي؛ فهذا لا يجوز للنهي عنه في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يقل أحدكم: عبدي وأمتي» .
الصورة الثانية: أن يكون بصيغة الخبر، وهذا على قسمين:
القسم الأول: إن قاله بغيبة العبد، أو الأمة، فلا بأس فيه.
القسم الثاني: إن قاله في حضرة العبد أو الأمة، فإن ترتب عليه(3/80)
مفسدة تتعلق بالعبد أو السيد منع، وإلا فلا؛ لأن القائل بذلك لا يقصد العبودية التي هي الذل، وإنما يقصد أنه مملوك له، وإلى هذا التفصيل الذي ذكرناه أشار في (تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد) في باب لا يقول: عبدي وأمتي، وذكره صاحب فتح الباري عن مالك.
(435) وسئل فضيلة الشيخ: عن قول الإنسان: "أنا حر "؟
فأجاب بقوله: إذا قال ذلك رجل حر، وأراد أنه حر من رق الخلق، فنعم هو حر من رق الخلق، وأما إن أراد أنه حر من رق العبودية لله -عز وجل- فقد أساء في فهم العبودية، ولم يعرف معنى الحرية؛ لأن العبودية لغير الله هي الرق، أما عبودية المرء لربه -عز وجل- فهي الحرية، فإنه إن لم يذل لله ذل لغير الله، فيكون هنا خادعا نفسه إذا قال: إنه حر يعني إنه متجرد من طاعة الله، ولن يقوم بها.
(436) سئل فضيلة الشيخ: عن قول العاصي عند الإنكار عليه: "أنا حر في تصرفاتي "؟
فأجاب بقوله: هذا خطأ، نقول: لست حرا في معصية الله، بل إنك إذا عصيت ربك فقد خرجت من الرق الذي تدعيه في عبودية الله إلى رق الشيطان والهوى.
(437) سئل فضيلة الشيخ عن قول الإنسان: "إن الله على ما يشاء قدير" عند ختم الدعاء ونحوه؟(3/81)
فأجاب بقوله: هذا لا ينبغي لوجوه:
الأول: أن الله تعالى إذا ذكر وصف نفسه بالقدرة، لم يقيد ذلك بالمشيئة في قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وقوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، وقوله {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فعمم في القدرة كما عمم في الملك، وقوله: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فعمم في الملك والقدرة، وخص الخلق بالمشيئة؛ لأن الخلق فعل، والفعل لا يكون إلا بالمشيئة، أما القدرة فصفة أزلية أبدية شاملة لما شاء، وما لم يشأه، لكن ما شاءه سبحانه وقع، وما لم يشأه لم يقع، والآيات في ذلك كثيرة.
الثاني: أن تقييد القدرة بالمشيئة خلاف ما كان عليه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأتباعه فقد قال الله عنهم: {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، ولم يقولوا: "إنك على ما تشاء قدير"، وخير الطريق طريق الأنبياء وأتباعهم، فإنهم أهدى علما، وأقوم عملا.
الثالث: أن تقييد القدرة بالمشيئة يوهم اختصاصها بما يشاؤه الله(3/82)
تعالى فقط، لا سيما وأن ذلك التقييد يؤتى به في الغالب سابقا حيث يقال: "على ما يشاء قدير"، وتقديم المعمول يفيد الحصر كما يعلم ذلك في تقرير علماء البلاغة وشواهده من الكتاب والسنة واللغة، وإذا خصت قدرة الله تعالى بما يشاؤه، كان ذلك نقصا في مدلولها وقصرا لها عن عمومها، فتكون قدرة الله تعالى ناقصة حيث انحصرت فيما يشاؤه، وهو خلاف الواقع فإن قدرة الله تعالى عامة فيما يشاؤه، وما لم يشأه، لكن ما شاءه فلا بد من وقوعه، وما لم يشأه، فلا يمكن وقوعه.
فإذا تبين أن وصف الله تعالى بالقدرة لا يقيد بالمشيئة بل يطلق كما أطلقه الله تعالى لنفسه، فإن ذلك لا يعارضه قول الله تعالى: {وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} فإن المقيد هنا بالمشيئة هو الجمع لا القدرة، والجمع فعل لا يقع إلا بالمشيئة، ولذلك قيد بها فمعنى الآية أن الله تعالى قادر على جمعهم متى شاء، وليس بعاجز عنه كما يدعيه من ينكره ويقيده بالمشيئة، رد لقول المشركين الذين قال الله تعالى عنهم: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} فلما طلبوا الإتيان بآبائهم تحديا وإنكارا لما يجب الإيمان به من البعث، بين الله تعالى أن ذلك الجمع الكائن في يوم القيامة لا يقع إلا بمشيئته ولا يوجب وقوعه تحدي هؤلاء وإنكارهم كما قال الله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ}(3/83)
والحاصل أن قوله تعالى: {وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} . لا يعارض ما قررناه من قبل؛ لأن القيد بالمشيئة ليس عائدا إلى القدرة، وإنما يعود إلى الجمع.
وكذلك لا يعارضه ما ثبت في صحيح مسلم في كتاب "الإيمان" في "باب آخر أهل النار خروجا" من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «آخر من يدخل الجنة رجل» ، فذكر الحديث، وفيه أن الله تعالى قال للرجل: «إني لا أستهزئ منك، ولكني على ما أشاء قادر» وذلك لأن القدرة في هذا الحديث ذكرت لتقرير أمر واقع والأمر الواقع لا يكون إلا بعد المشيئة، وليس المراد بها ذكر الصفة المطلقة التي هي وصف الله تعالى أزلا وأبدا، ولذلك عبر عنها باسم الفاعل "قادر" دون الصفة المشبهة "قدير" وعلى هذا فإذا وقع أمر عظيم يستغربه المرء أو يستبعده، فقيل له في تقريره: إن الله على ما يشاء قادر، فلا حرج في ذلك، وما زال الناس يعبرون بمثل هذا في مثل ذلك، فإذا وقع أمر عظيم يستغرب أو يستبعد قالوا: قادر على ما يشاء، فيجب أن يعرف الفرق بين ذكر القدرة على أنها صفة لله تعالى، فلا تقيد بالمشيئة، وبين ذكرها لتقرير أمر واقع، فلا مانع من تقييدها بالمشيئة؛ لأن الواقع لا يقع إلا بالمشيئة، والقدرة هنا ذكرت لإثبات ذلك الواقع وتقرير وقوعه، والله سبحانه أعلم.(3/84)
(438) سئل فضيلة الشيخ: عن حكم قول الإنسان: "أنا مؤمن إن شاء الله"؟
فأجاب بقوله: قول القائل: "أنا مؤمن إن شاء الله" يسمى عند العلماء (مسألة الاستثناء في الإيمان) ، وفيه تفصيل:
أولا: إن كان الاستثناء صادرا عن شك في وجود أصل الإيمان، فهذا محرم بل كفر؛ لأن الإيمان جزم والشك ينافيه.
ثانيا: إن كان صادرا عن خوف تزكية النفس والشهادة لها بتحقيق الإيمان قولا وعملا واعتقادا، فهذا واجب خوفا من هذا المحذور.
ثالثا: إن كان المقصود من الاستثناء التبرك بذكر المشيئة، أو بيان التعليل، وأن ما قام بقلبه من الإيمان بمشيئة الله، فهذا جائز والتعليق على هذا الوجه -أعني بيان التعليل- لا ينافي تحقق المعلق، فإنه قد ورد التعليق على هذا الوجه في الأمور المحققة كقوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ} والدعاء في زيارة القبور: «وإنا إن شاء الله بكم لاحقون» ، وبهذا عرف أنه لا يصح إطلاق الحكم على الاستثناء في الإيمان، بل لا بد من التفصيل السابق.
(439) سئل فضيلة الشيخ: عن قول: "فلان المرحوم"، و"تغمده الله برحمته"، و"انتقل إلى رحمة الله"؟
فأجاب بقوله: قول: "فلان المرحوم"، أو "تغمده الله برحمته" لا(3/85)
بأس بها؛ لأن قولهم: "المرحوم" من باب التفاؤل والرجاء، وليس من باب الخبر، وإذا كان من باب التفاؤل والرجاء، فلا بأس به.
وأما "انتقل إلى رحمة الله"، فهو كذلك فيما يظهر لي أنه من باب التفاؤل، وليس من باب الخبر؛ لأن مثل هذا من أمور الغيب، ولا يمكن الجزم به، وكذلك لا يقال: "انتقل إلى الرفيق الأعلى".
(440) سئل فضيلة الشيخ: عن عبارة "لكم تحياتنا"، وعبارة "أهدي لكم تحياتي"؟
فأجاب قائلا: عبارة "لكم تحياتنا، وأهدي لكم تحياتي" ونحوهما من العبارات، لا بأس بها؛ قال الله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} . فالتحية من شخص لآخر جائزة، وأما التحيات المطلقة العامة فهي لله، كما أن الحمد لله، والشكر لله، ومع هذا فيصح أن نقول: حمدت فلانا على كذا، وشكرته على كذا قال الله تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} .
(441) وسئل فضيلة الشيخ: يقول بعض الناس: "أوجد الله كذا"، فما مدى صحتها؟ وما الفرق بينها وبين: "خلق الله كذا" أو "صور الله كذا "؟
فأجاب بقوله: أوجد وخلق ليس بينهما فرق، فلو قال: أوجد الله(3/86)
كذا كانت بمعنى خلق الله كذا، وأما صور فتختلف؛ لأن التصوير عائد إلى الكيفية لا إلى الإيجاد.
(442) سئل فضيلة الشيخ: عن حكم التسمي بإيمان؟
فأجاب بقوله: الذي أرى أن اسم إيمان فيه تزكية، وقد صح عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه غير اسم " برة " خوفا من التزكية ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه «أن زينب كان اسمها برة، فقيل: تزكي نفسها فسماها رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زينب» 10 \575 فتح، وفي صحيح مسلم 3 \1687 عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كانت جويرية اسمها برة، فحول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسمها جويرية وكان يكره أن يقال: خرج من عند برة،» وفيه أيضا ص1688 «عن محمد بن عمرو بن عطاء قال: سميت ابنتي برة، فقالت لي زينب بنت أبي سلمة: إن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نهى عن هذا الاسم وسميت برة، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تزكوا أنفسكم الله أعلم بأهل البر منكم" فقالوا: بم نسميها؟ قال: "سموها زينب» فبين النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وجه الكراهة للاسم الذي فيه التزكية، وأنها من وجهين:
الأول: أنه يقال: خرج من عند برة، وكذلك يقال: خرج من برة.
الثاني: التزكية، والله أعلم منا بمن هو أهل للتزكية.
وعلى هذا ينبغي تغيير اسم إيمان؛ لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نهى عما فيه تزكية، ولا سيما إذا كان اسما لامرأة؛ لأنه للذكور أقرب منه للإناث؛ لأن كلمة (إيمان) مذكرة.(3/87)
(443) وسئل فضيلته: عن التسمي بإيمان؟
فأجاب بقوله: اسم إيمان يحمل نوعا من التزكية، ولهذا لا تنبغي التسمية به؛ لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غير اسم برة؛ لكونه دالا على التزكية، والمخاطب في ذلك هم الأولياء الذين يسمون أولادهم بمثل هذه الأسماء التي تحمل التزكية لمن تسمى بها، أما ما كان علما مجردا لا يفهم منه التزكية، فهذا لا بأس به، ولهذا نسمي بصالح وعلي وما أشبههما من الأعلام المجردة، التي لا تحمل معنى التزكية.
(444) سئل فضيلة الشيخ: ما حكم هذه الألقاب "حجة الله"، "حجة الإسلام"، "آية الله "؟
فأجاب بقوله: هذه الألقاب "حجة الله"، "حجة الإسلام" ألقاب حادثة لا تنبغي؛ لأنه لا حجة لله على عباده إلا الرسل.
وأما "آية الله" فإن أريد المعنى الأعم، فهو يدخل فيه كل شيء:
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد
وإن أريد أنه آية خارقة، فهذا لا يكون إلا على أيدي الرسل، لكن يقال: عالم، مفت، قاضي، حاكم، إمام لمن كان مستحقا لذلك.
(445) سئل الشيخ: عن هذه العبارات: "باسم الوطن، باسم الشعب، باسم العروبة "؟
فأجاب قائلا: هذه العبارات إذا كان الإنسان يقصد بذلك أنه يعبر عن العرب، أو يعبر عن أهل البلد، فهذا لا بأس به، وإن قصد التبرك والاستعانة(3/88)
فهو نوع من الشرك، وقد يكون شركا أكبر، بحسب ما يقوم في قلب صاحبه من التعظيم بما استعان به.
(446) وسئل فضيلته: هل هذه العبارة صحيحة "بفضل فلان تغير هذا الأمر، أو بجهدي صار كذا"؟
فأجاب الشيخ بقوله: هذه العبارة صحيحة، إذا كان للمذكور أثر في حصوله، فإن الإنسان له فضل على أخيه إذا أحسن إليه، فإذا كان للإنسان في هذا الأمر أثر حقيقي، فلا بأس أن يقال: هذا بفضل فلان، أو بجهود فلان، أو ما أشبه ذلك؛ لأن إضافة الشيء إلى سببه المعلوم جائزة شرعا وحسا، ففي صحيح مسلم «أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال في عمه أبي طالب: "لولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار» . وكان أبو طالب يعذب في نار جهنم في ضحضاح من نار، وعليه نعلان يغلي منهما دماغه، وهو أهون أهل النار عذابا -والعياذ بالله- فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار» .
أما إذا أضاف الشيء إلى سبب وليس بصحيح، فإن هذا لا يجوز، وقد يكون شركا، كما لو أضاف حدوث أمر لا يحدثه إلا الله إلى أحد من المخلوقين، أو أضاف شيئا إلى أحد من الأموات أنه هو الذي جلبه له، فإن هذا من الشرك في الربوبية.
(447) سئل فضيلة الشيخ: عن حكم قول: "البقية في حياتك"، عند التعزية ورد أهل الميت بقولهم: "حياتك الباقية"؟(3/89)
فأجاب فضيلته بقوله: لا أرى فيها مانعا إذا قال الإنسان: "البقية في حياتك" لا أرى فيها مانعا، ولكن الأولى أن يقال: إن في الله خلفا من كل هالك، أحسن من أن يقال: "البقية في حياتك"، كذلك الرد عليه إذا غير المعزي، هذا الأسلوب فسوف يتغير الرد.
(448) وسئل حفظه الله تعالى: عن حكم ثناء الإنسان على الله تعالى بهذه العبارة "بيده الخير والشر "؟
فأجاب بقوله: أفضل ما يثني به العبد على ربه، هو ما أثنى به سبحانه على نفسه، أو أثنى به عليه أعلم الناس به نبيه محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والله -عز وجل- لم يثن على نفسه، وهو يتحدث عن عموم ملكه، وتمام سلطانه وتصرفه أن بيده الشر كما في قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، فأثنى سبحانه على نفسه بأن بيده الخير في هذا المقام الذي قد يكون شرا بالنسبة لمحله، وهو الإنسان المقدر عليه الذل، ولكنه خير بالنسبة إلى فعل الله لصدوره عن حكمة بالغة، ولذلك أعقبه بقوله: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} ، وهكذا كل ما يقدره الله من شرور في مخلوقاته هي شرور بالنسبة لمحالها، أما بالنسبة لفعل الله تعالى لها وإيجاده، فهي خير لصدورها عن حكمة بالغة، فهناك فرق بين فعل الله تعالى الذي هو فعله كله خير، وبين مفعولاته ومخلوقاته البائنة عنه، ففيها الخير والشر، ويزيد الأمر وضوحا أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أثنى على ربه تبارك وتعالى بأن الخير بيده، ونفى نسبة الشر إليه كما في حديث(3/90)
علي رضي الله عنه الذي رواه مسلم وغيره مطولا، وفيه «أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يقول إذا قام إلى الصلاة: "وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض"، إلى أن قال: "لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك» ، فنفى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يكون الشر إلى الله تعالى؛ لأن أفعاله وإن كانت شرا بالنسبة إلى محالها، ومن قامت به، فليست شرا بالنسبة إليه تعالى؛ لصدورها عن حكمة بالغة تتضمن الخير، وبهذا تبين أن الأولى بل الأوجب في الثناء على الله أن نقتصر على ما أثنى به على نفسه، وأثنى به عليه رسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأنه تعالى أعلم بنفسه، ورسوله محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أعلم الخلق به؛ فنقول: بيده الخير، ونقتصر على ذلك كما هو في القرآن الكريم والسنة.
(449) سئل فضيلة الشيخ: عن قول العامة: "تباركت علينا؟ "، "زارتنا البركة؟ ".
فأجاب قائلا: قول العامة: "تباركت علينا" لا يريدون بهذا ما يريدونه بالنسبة إلى الله -عز وجل- وإنما يريدون أصابنا بركة من مجيئك، والبركة يصح إضافتها إلى الإنسان، قال أسيد بن حضير لما نزلت آية التيمم بسبب عقد عائشة الذي ضاع منها قال: " ما هذه بأول بركتكم يا آل أبي بكر ".
وطلب البركة لا يخلو من أمرين:
الأمر الأول: أن يكون طلب البركة بأمر شرعي معلوم مثل القرآن الكريم قال الله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} فمن بركته أن(3/91)
من أخذ به وجاهد به حصل له الفتح، فأنقذ الله به أمما كثيرة من الشرك، ومن بركته أن الحرف الواحد بعشر حسنات، وهذه توفر للإنسان الجهد والوقت.
الأمر الثاني: أن يكون طلب البركة بأمر حسي معلوم، مثل العلم، فهذا الرجل يتبرك به بعلمه، ودعوته إلى الخير، قال أسيد بن حضير: "ما هذه بأول بركتكم يا آل أبي بكر "، فإن الله قد يجري على أيدي بعض الناس من أمور الخير ما لا يجريه على يد الآخر.
وهناك بركات موهومة باطلة مثل ما يزعمه الدجالون أن فلانا الميت الذي يزعمون أنه ولي أنزل عليكم من بركته، وما أشبه ذلك، فهذه بركة باطلة لا أثر لها، وقد يكون للشيطان أثر في هذا الأمر لكنها لا تعدو أن تكون آثارا حسية، بحيث إن الشيطان يخدم هذا الشيخ فيكون في ذلك فتنة.
أما كيفية معرفة هل هذه من البركات الباطلة أو الصحيحة؟
فيعرف ذلك بحال الشخص، فإن كان من أولياء الله المتقين المتبعين للسنة المبتعدين عن البدعة، فإن الله قد يجعل على يديه من الخير والبركة ما لا يحصل لغيره، أما إن كان مخالفا للكتاب والسنة، أو يدعو إلى باطل، فإن بركته موهومة، وقد تضعها الشياطين له مساعدة على باطله.
(450) سئل فضيلة الشيخ: عن إطلاق عبارة: "كتب التراث" على كتب السلف؟
فأجاب بقوله: الظاهر أنه صحيح؛ لأن معناه الكتب الموروثة عمن سبق، ولا أعلم في هذا مانعا.(3/92)
(451) وسئل فضيلة الشيخ: هل في الإسلام تجديد تشريع؟
فأجاب بقوله: من قال: إن في الإسلام تجديد تشريع، فالواقع خلافه؛ فالإسلام كمل بوفاة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والتشريع انتهى بها، نعم الحوادث والوقائع تتجدد، ويحدث في كل عصر ومكان ما لا يحدث في غيره، ثم ينظر فيها بتشريع، ويحكم عليها على ضوء الكتاب والسنة، ويكون هذا الحكم من التشريع الإسلامي الأول، ولا ينبغي أن يسمى تشريعا جديدا؛ لأنه هضم للإسلام، ومخالف للواقع، ولا ينبغي أيضا أن يسمى تغييرا للتشريع؛ لما فيه من كسر سياج حرمة الشريعة، وهيبتها في النفوس، أو تعريضها لتغيير لا يسير على ضوء الكتاب والسنة، ولا يرضاه أحد من أهل العلم والإيمان.
أما إذا كان الحكم على الحادثة ليس على ضوء الكتاب والسنة، فهو تشريع باطل، لا يدخل تحت التقسيم في التشريع الإسلامي.
ولا يرد على ما قلت إمضاء عمر -رضي الله عنه- للطلاق الثلاث، مع أنه كان واحدة لمدة سنتين من خلافته، ومدة عهد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعهد أبي بكر رضي الله عنه؛ لأن هذا من باب التعزير بإلزام المرء ما التزمه، ولذا قال عمر -رضي الله عنه-: " أرى الناس قد تعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم "، فأمضاه عليهم، وباب التعزير واسع في الشريعة؛ لأن المقصود به التقويم والتأديب.
(452) وسئل عن حكم قولهم: تدخل القدر؟ وتدخلت عناية الله؟
فأجاب قائلا: قولهم: "تدخل القدر" لا يصلح؛ لأنها تعني أن القدر(3/93)
اعتدى بالتدخل، وأنه كالمتطفل على الأمر، مع أنه -أي القدر- هو الأصل، فكيف يقال: تدخل؟ والأصح أن يقال: ولكن نزل القضاء والقدر أو غلب القدر ونحو ذلك، ومثل ذلك "تدخلت عناية الله" الأولى إبدالها بكلمة حصلت عناية الله، أو اقتضت عناية الله.
(453) وسئل: عن حكم التسمي بأسماء الله مثل كريم، وعزيز ونحوهما؟
فأجاب بقوله: التسمي بأسماء الله -عز وجل- يكون على وجهين:
الوجه الأول: وهو على قسمين:
القسم الأول: أن يحلى بـ "ال" ففي هذه الحال لا يسمى به غير الله -عز وجل- (1) كما لو سميت أحدا بالعزيز، والسيد، والحكيم، وما أشبه ذلك، فإن هذا لا يسمى به غير الله؛ لأن "ال" هذه تدل على لمح الأصل، وهو المعنى الذي تضمنه هذا الاسم.
القسم الثاني: إذا قصد بالاسم معنى الصفة وليس محلى بـ "ال" فإنه لا يسمى به، ولهذا «غير النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كنية أبي الحكم التي تكنى بها؛ لأن أصحابه يتحاكمون إليه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: "إن الله هو الحكم، وإليه الحكم" ثم كناه بأكبر أولاده شريح،» فدل
__________
(1) راجع الفتوى رقم (103) حيث إنه يشترط أن يلاحظ معنى الصفة.(3/94)
ذلك على أنه إذا تسمى أحد باسم من أسماء الله ملاحظا بذلك معنى الصفة التي تضمنها هذا الاسم، فإنه يمنع؛ لأن هذه التسمية تكون مطابقة تماما لأسماء الله سبحانه وتعالى، فإن أسماء الله تعالى أعلام وأوصاف لدلالتها على المعنى الذي تضمنه الاسم.
الوجه الثاني: أن يتسمى بالاسم غير محلى بـ "ال"، وليس المقصود به معنى الصفة فهذا لا بأس به مثل حكيم، ومن أسماء بعض الصحابة حكيم بن حزام الذي قال له النبي عليه الصلاة والسلام: «لا تبع ما ليس عندك» ، وهذا دليل على أنه إذا لم يقصد بالاسم معنى الصفة، فإنه لا بأس به.
لكن في مثل "جبار" لا ينبغي أن يتسمى به، وإن كان لم يلاحظ الصفة، وذلك لأنه قد يؤثر في نفس المسمى، فيكون معه جبروت، وغلو واستكبار على الخلق فمثل هذه الأشياء التي قد تؤثر على صاحبها، ينبغي للإنسان أن يتجنبها، والله أعلم.
(454) وسئل: عن حكم التسمي بأسماء الله تعالى مثل الرحيم والحكيم؟
فأجاب بقوله: يجوز أن يسمي الإنسان بهذه الأسماء بشرط ألا يلاحظ فيها المعنى الذي اشتقت منه، بأن تكون مجرد علم فقط، ومن أسماء الصحابة الحكم، وحكيم بن حزام، وكذلك اشتهر بين الناس اسم عادل وليس بمنكر، أما إذا لوحظ فيه المعنى الذي اشتقت منه هذه الأسماء، فإن(3/95)
الظاهر أنه لا يجوز؛ «لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غير اسم أبي الحكم الذي تكنى به؛ لكون قومه يتحاكمون إليه وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن الله هو الحكم، وإليه الحكم"، ثم كناه بأكبر أولاده شريح، وقال له: "أنت أبو شريح» ، وذلك أن هذه الكنية التي تكنى بها هذا الرجل لوحظ فيها معنى الاسم، فكان هذا مماثلا لأسماء الله سبحانه وتعالى؛ لأن أسماء الله -عز وجل-، ليست مجرد أعلام، بل هي أعلام من حيث دلالتها على ذات الله سبحانه وتعالى، وأوصاف من حيث دلالتها على المعنى الذي تتضمنه، وأما أسماء غيره سبحانه وتعالى، فإنها مجرد أعلام إلا أسماء النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ فإنها أعلام وأوصاف، وكذلك أسماء كتب الله -عز وجل- فهي أعلام وأوصاف أيضا.
(455) وسئل فضيلة الشيخ: عن حكم ثناء الإنسان على نفسه؟
فأجاب قائلا: الثناء على النفس إن أراد به الإنسان التحدث بنعمة الله -عز وجل- أو أن يتأسى به غيره من أقرانه ونظرائه، فهذا لا بأس به، وإن أراد به الإنسان تزكية نفسه وإدلاله بعمله على ربه -عز وجل- فإن هذا فيه شيء من المنة، فلا يجوز، وقد قال الله تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .(3/96)
وإن أراد به مجرد الخبر فلا بأس به لكن الأولى تركه.
فالأحوال إذن في مثل هذا الكلام الذي فيه ثناء المرء على نفسه أربع:
الحال الأولى: أن يريد بذلك التحدث بنعمة الله عليه فيما حباه به من الإيمان والثبات.
الحال الثانية: أن يريد بذلك تنشيط أمثاله ونظرائه على مثل ما كان عليه.
فهاتان الحالان محمودتان لما تشتملان عليه من هذه النية الطيبة.
الحال الثالثة: أن يريد بذلك الفخر والتباهي والإدلال على الله - عز وجل - بما هو عليه من الإيمان والثبات وهذا غير جائز لما ذكرنا من الآية.
الحال الرابعة: أن يريد بذلك مجرد الخبر عن نفسه بما هو عليه من الإيمان والثبات فهذا جائز ولكن الأولى تركه.
(456) سئل فضيلة الشيخ: عن قول " يا حاج "، و" السيد فلان "؟
فأجاب بقوله: قول: " حاج " يعني أدى الحج لا شيء فيها.
وأما السيد فينظر إن كان صحيحًا أنه ذو سيادة فيقال: هو سيد بدون أل فلا بأس به، بشرط ألا يكون فاسقًا ولا كافرًا، فإن كان فاسقًا أو كافرًا فإنه لا يجوز إطلاق لفظ سيد إلا مضافًا إلى قومه، مثل سيد بني فلان، أو سيد الشعب الفلاني ونحو ذلك
.(3/97)
(457) وسئل أيضًا: عن حكم ما درج على ألسنة بعض الناس من قولهم: " حرام عليك أن تفعل كذا وكذا "؟
فأجاب بقوله: هذا الذي وصفوه بالتحريم إما أن يكون مما حرمه الله كما لو قالوا حرام أن يعتدي الرجل على أخيه وما أشبه ذلك فإن وصف هذا الشيء بالحرام صحيح مطابق لما جاء به الشرع.
وأما إذا كان الشيء غير محرم فإنه لا يجوز أن يوصف بالتحريم ولو لفظًا؛ لأن ذلك قد يوهم تحريم ما أحل الله - عز وجل - أو يوهم الحجر على الله - عز وجل - في قضائه وقدره بحيث يقصدون بالتحريم التحريم القدري؛ لأن التحريم يكون قدريًّا ويكون شرعيًّا فما يتعلق بفعل الله - عز وجل - فإنه يكون تحريمًا قدريًا، وما يتعلق بشرعه فإنه يكون تحريمًا شرعيًّا وعلى هذا فينهى هؤلاء عن إطلاق مثل هذه الكلمة ولو كانوا لا يريدون بها التحريم الشرعي؛ لأن التحريم القدري ليس إليهم أيضًا بل هو إلى الله - عز وجل - هو الذي يفعل ما يشاء فيحدث ما شاء أن يحدث ويمنع ما شاء أن يمنعه، فالمهم أن الذي أرى أنهم يتنزهون عن هذه الكلمة وأن يبتعدوا عنها وإن كان قصدهم في ذلك شيئًا صحيحًا. والله الموفق.
(458) سئل فضيلة الشيخ: قلتم في الفتوى رقم " 457 ": أن التحريم يكون قدريًّا ويكون شرعيًّا فنأمل من فضيلتكم التكرم ببيان بعض الأمثلة؟
فأجاب بقوله: سؤالكم عما ورد في جوابنا رقم " 457 " من أن(3/98)
التحريم يكون قدريًّا ويكون شرعيًّا وطلبكم أمثلة لذلك فإليكم ما طلبتم:
فمن التحريم القدري قوله تعالى في موسى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} . وقوله تعالى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} . ومن التحريم الشرعي قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} . وقوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} الآية.
(459) وسئل فضيلة الشيخ: نسمع ونقرأ كلمة، " حرية الفكر "، وهي دعوة إلى حرية الاعتقاد، فما تعليقكم على ذلك؟ .
فأجاب بقوله: تعليقنا على ذلك أن الذي يجيز أن يكون الإنسان حر الاعتقاد، يعتقد ما شاء من الأديان فإنه كافر؛ لأن كل من اعتقد أن أحدًا يسوغ له أن يتدين بغير دين محمد، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنه كافر بالله - عز وجل - يستتاب، فإن تاب وإلا وجب قتله.
والأديان ليست أفكارًا، ولكنها وحي من الله - عز وجل - ينزله على رسله، ليسير عباده عليه، وهذه الكلمة - أعني كلمة فكر - التي يقصد بها الدين: يجب أن تحذف من قواميس الكتب الإسلامية؛ لأنها تؤدي إلى هذا(3/99)
المعنى الفاسد، وهو أن يقال عن الإسلام: فكر، والنصرانية فكر، واليهودية فكر - وأعني بالنصرانية التي يسميها أهلها بالمسيحية - فيؤدي إلى أن تكون هذه الشرائع مجرد أفكار أرضية يعتنقها من شاء من الناس، والواقع أن الأديان السماوية أديان سماوية من عند الله - عز وجل - يعتقدها الإنسان على أنها وحي من الله تعبد بها عباده، ولا يجوز أن يطلق عليها " فكر ".
وخلاصة الجواب: أن من اعتقد أنه يجوز لأحد أن يتدين بما شاء وأنه حر فيما يتدين به فإنه كافر بالله - عز وجل - لأن الله تعالى يقول: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} . ويقول: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} . فلا يجوز لأحد أن يعتقد أن دينًا سوى الإسلام جائز يجوز للإنسان أن يتعبد به بل إذا اعتقد هذا فقد صرح أهل العلم بأنه كافر كفرًا مخرجًا عن الملة.
(460) سئل فضيلة الشيخ: هل يجوز أن يقول الإنسان للمفتي: ما حكم الإسلام في كذا وكذا؟ أو ما رأي الإسلام؟
فأجاب بقوله: لا ينبغي أن يقال: " ما حكم الإسلام في كذا "، أو " ما رأي الإسلام في كذا " فإنه قد يخطئ فلا يكون ما قاله حكم الإسلام، لكن لو كان الحكم نصًّا صريحًا فلا بأس مثل أن يقول: ما حكم الإسلام في أكل الميتة؟ فنقول: حكم الإسلام في أكل الميتة أنها حرام.(3/100)
(461) سئل فضيلة الشيخ: عن وصف الإنسان بأنه حيوان ناطق؟
فأجاب بقوله: الحيوان الناطق يطلق على الإنسان كما ذكره أهل المنطق، وليس فيه عندهم عيب؛ لأنه تعريف بحقيقة الإنسان، لكنه في العرف قول يعتبر قدحًا في الإنسان، ولهذا إذا خاطب الإنسان به عاميًّا فإن العامي سيعتقد أن هذا قدحٌ فيه، وحينئذ لا يجوز أن يخاطب به العامي؛ لأن كل شيء يسيء إلى المسلم فهو حرام، أما إذا خوطب به من يفهم الأمر على حسب اصطلاح المناطقة، فإن هذا لا حرج فيه؛ لأن الإنسان لا شك أنه حيوان باعتبار أنه فيه حياة، وأن الفصل الذي يميزه عن غيره من بقية الحيوانات هو النطق. ولهذا قالوا: إن كلمة " حيوان " جنس، وكلمة " ناطق " فصل، والجنس يعم المعرف وغيره، والفصل يميز المعرف عن غيره.
(462) سئل فضيلة الشيخ: عن قول بعض الناس: " خسرت في الحج كذا، وخسرت في العمرة كذا، وخسرت في الجهاد كذا، وكذا "؟ .
فأجاب قائلًا: هذه العبارات غير صحيحة؛ لأن ما بذل في طاعة الله ليس بخسارة، بل هو الربح الحقيقي، وإنما الخسارة ما صرف في معصية، أو في ما لا فائدة فيه، وأما ما فيه فائدة دنيوية أو دينية فإنه ليس بخسارة.(3/101)
(463) سئل فضيلة الشيخ: عن قول الإنسان لرجل: " أنت يا فلان خليفة الله في أرضه "؟
فأجاب بقوله: إذا كان ذلك صدقًا بأن كان هذا الرجل خليفة يعني ذا سلطان تام على البلد، وهو ذو السلطة العليا على أهل هذا البلد، فإن هذا لا بأس به، ومعنى قولنا: " خليفة الله " أن الله استخلفه على العباد في تنفيذ شرعه؛ لأن الله - تعالى -استخلفه على الأرض، والله - سبحانه وتعالى - مستخلفنا في الأرض جميعًا وناظر ما كنا نعمل، وليس يراد بهذه الكلمة أن الله تعالى يحتاج إلى أحد يخلفه في خلقه، أو يعينه على تدبير شئونهم، ولكن الله جعله خليفة يخلف من سبقه، ويقوم بأعباء ما كلفه الله.
(464) وسئل فضيلته: يستخدم بعض الناس عبارة " راعني " ويقصدون بها انظرني، فما صحة هذه الكلمة؟
فأجاب قائلًا: الذي أعرف أن كلمة: " راعني " يعني من المراعاة أي أنزل لنا في السعر مثلًا، وانظر إلى ما أريد، ووافقني عليه، وما أشبه ذلك، وهذه لا شيء فيها. وأما قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} .
فهذا كان اليهود يقولون: " راعنا "، من الرعونة فينادون بذلك الرسول، عليه الصلاة والسلام، يريدون الدعاء عليه، فلهذا قال الله لهم: {وَقُولُوا انْظُرْنَا} . وأما " راعني "، فليست مثل " راعنا "؛ لأن راعنا منصوبة بالألف وليست بالياء.(3/102)
(465) وسئل حفظه الله: ما حكم قول: " رب البيت "؟ " رب المنزل "؟
فأجاب: قولهم: رب البيت ونحوه ينقسم أقسامًا أربعة:
القسم الأول: أن تكون الإضافة إلى ضمير المخاطب في معنى لا يليق بالله - عز وجل - مثل أن يقول: " أطعم ربك " فهذا منهي عنه لوجهين:
الوجه الأول: من جهة الصيغة؛ لأنه يوهم معنى فاسدًا بالنسبة لكلمة رب؛ لأن الرب من أسمائه سبحانه، وهو سبحانه يُطعِم ولا يطعَم، وإن كان لا شك أن الرب هنا غير الرب الذي يطعم ولا يطعم.
الوجه الثاني: من جهة أنك تشعر العبد أو الأمة بالذل لأنه إذا كان السيد ربًّا كان العبد مربوبًا والأمة مربوبة.
وأما إذا كان في معنى يليق بالله -تعالى- مثل أطع ربك كان النهي عنه من أجل الوجه الثاني.
القسم الثاني: أن تكون الإضافة إلى ضمير الغائب مثل ربه، وربها، فإن كان في معنى لا يليق بالله كان من الأدب اجتنابه، مثل أطعم العبد ربه أو أطعمت الأمة ربها، لئلا يتبادر منه إلى الذهن معنى لا يليق بالله.
وإن كان في معنى يليق بالله مثل أطاع العبد ربه وأطاعت الأمة ربها فلا بأس بذلك لانتفاء المحذور.
ودليل ذلك قوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في حديث اللقطة في ضالة الإبل وهو حديث متفق عليه: «حتى يجدها ربها» ، وقال بعض أهل العلم: إن حديث اللقطة في بهيمة لا تتعبد ولا تتذلل كالإنسان، والصحيح عدم الفارق لأن البهيمة تعبد الله عبادة خاصة بها. قال تعالى:(3/103)
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ} وقال في العباد: {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} ليس جميعهم: {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} .
القسم الثالث: أن تكون الإضافة إلى ضمير المتكلم فقد يقول قائل بالجواز لقوله تعالى حكاية عن يوسف: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} أي سيدي، وإن المحذور هو الذي يقتضي الإذلال وهذا منتفٍ لأن هذا من العبد لسيده.
القسم الرابع: أن يضاف إلى الاسم الظاهر فيقال: هذا رب الغلام فظاهر الحديث الجواز وهو كذلك ما لم يوجد محذور فيمنع كما لو ظن السامع أن السيد رب حقيقي خالق لمملوكه.
(466) سئل فضيلة الشيخ: عن قول من يقول: إن الإنسان يتكون من عنصرين عنصر من التراب وهو الجسد، وعنصر من الله وهو الروح؟
فأجاب بقوله: هذا الكلام يحتمل معنيين:
أحدهما: أن الروح جزء من الله.
والثاني: أن الروح من الله خلقًا.
وأظهرهما أنه أراد أن الروح جزء من الله؛ لأنه لو أراد أن الروح من(3/104)
الله خلقًا لم يكن بينها وبين الجسد فرق إذ الكل من الله تعالى خلقًا وإيجادًا.
والجواب على قوله: أن نقول: لا شك أن الله أضاف روح آدم إليه في قوله - تعالى -: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} . وأضاف روح عيسى إليه فقال: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} . وأضاف بعض مخلوقات أخرى إليه كقوله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ} . وقوله: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} . وقوله عن رسوله صالح: {فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} ولكن المضاف إلى الله نوعان:
أحدهما: ما يكون منفصلًا بائنًا عنه، قائمًا بنفسه أو قائمًا بغيره، فإضافته إلى الله تعالى إضافة خلق وتكوين، ولا يكون ذلك إلا فيما يقصد به تشريف المضاف أو بيان عظمة الله تعالى، لعظم المضاف، فهذا النوع لا يمكن أن يكون من ذات الله، ولا من صفاته، أما كونه لا يمكن أن يكون من ذات الله تعالى، فلأن ذات الله تعالى واحدة لا يمكن أن تتجزأ أو تتفرق، وأما كونه لا يمكن أن يكون من صفات الله فلأن الصفة معنى في الموصوف لا يمكن أن تنفصل عنه، كالحياة، والعلم، والقدرة، والقوة، والسمع، والبصر وغيرها. فإن هذه الصفات صفات لا تباين(3/105)
موصوفها، ومن هذا النوع إضافة الله تعالى روح آدم وعيسى إليه، وإضافة البيت وما في السماوات والأرض إليه، وإضافة الناقة إليه، فروح آدم، وعيسى قائمة بهما، وليست من ذات الله تعالى، ولا من صفاته قطعًا، والبيت وما في السماوات والأرض، والناقة أعيان قائمة بنفسها، وليست من ذات الله ولا من صفاته، وإذا كان لا يمكن لأحد أن يقول: إن بيت الله، وناقة الله من ذاته ولا من صفاته فكذلك الروح التي أضافها إليه ليست من ذاته ولا من صفاته، ولا فرق بينهما إذ الكل بائن منفصل عن الله - عز وجل - وكما أن البيت والناقة من الأجسام فكذلك الروح جسم تحل بدن الحي بإذن الله، يتوفاها الله حين موتها، ويمسك التي قضى عليها الموت، ويتبعها بصر الميت حين تقبض، لكنها جسم من جنس آخر.
النوع الثاني: من المضاف إلى الله: ما لا يكون منفصلًا عن الله بل هو من صفاته الذاتية أو الفعلية، كوجهه، ويده، وسمعه، وبصره، واستوائه على عرشه، ونزوله إلى السماء الدنيا، ونحو ذلك، فإضافته إلى الله تعالى من باب إضافة الصفة إلى موصوفها، وليس من باب إضافة المخلوق والمملوك إلى مالكه وخالقه.
وقول المتكلم: " إن الروح من الله " يحتمل معنى آخر غير ما قلنا: إنه الأظهر، وهو أن البدن مادته معلومة، وهي التراب، أما الروح فمادتها غير معلومة، وهذا المعنى صحيح. كما قال الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} . وهذه - والله أعلم - من الحكمة في إضافتها إليه أنها أمر لا يمكن أن يصل إليه علم(3/106)
البشر بل هي مما استأثر الله بعلمه كسائر العلوم العظيمة الكثيرة التي لم نؤت منها إلا القليل، ولا نحيط بشيء من هذا القليل إلا بما شاء الله - تبارك وتعالى -.
فنسأل الله تعالى، أن يفتح علينا من رحمته وعلمه ما به صلاحنا، وفلاحنا في الدنيا والآخرة.
(467) سئل فضيلة الشيخ: عن المراد بالروح والنفس؟ والفرق بينهما؟
فأجاب قائلًا: الروح في الغالب تطلق على ما به الحياة سواء كان ذلك حسًّا أو معنى، فالقرآن يسمى روحًا قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} لأن به حياة القلوب بالعلم والإيمان، والروح التي يحيا بها البدن تسمى روحًا كما قال الله - تعالى -: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} .
أما النفس فتطلق على ما تطلق عليه الروح كثيرًا كما في قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} .
وقد تطلق النفس على الإنسان نفسه، فيقال: جاء فلان نفسه، فتكون بمعنى الذات، فهما يفترقان أحيانًا، ويتفقان أحيانًا، بحسب السياق.(3/107)
وينبغي بهذه المناسبة أن يعلم أن الكلمات إنما يتحدد معناها بسياقها فقد تكون الكلمة الواحدة لها معنى في سياق، ومعنى آخر في سياق، فالقرية مثلًا تطلق أحيانًا على نفس المساكن، وتطلق أحيانًا على الساكن نفسه ففي قوله تعالى عن الملائكة الذين جاءوا إبراهيم: {قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} المراد بالقرية هنا المساكن، وفي قوله - تعالى -: {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا} المراد بها الساكن، وفي قوله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} المراد بها المساكن، وفي قوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} المراد بها الساكن، فالمهم أن الكلمات إنما يتحدد معناها بسياقها وبحسب ما تضاف إليه، وبهذه القاعدة المفيدة المهمة يتبين لنا رجحان ما ذهب إليه كثير من أهل العلم من أن القرآن الكريم ليس فيه مجاز، وأن جميع الكلمات التي في القرآن كلها حقيقة؛ لأن الحقيقة هي ما يدل عليه سياق الكلام بأي صيغة كان، فإذا كان الأمر كذلك تبين لنا بطلان قول من يقول: إن في القرآن مجازًا، وقد كتب في هذا أهل العلم وبينوه، ومن أبين ما يجعل هذا القول صوابًا أن من علامات المجاز صحة نفيه بمعنى أنه يصح أن تنفيه فإذا قال: فلان أسد، صح لك نفيه، وهذا لا يمكن أن يكون في القرآن، فلا يمكن لأحد أن ينفي شيئًا مما ذكره الله تعالى في القرآن الكريم.(3/108)
(468) سئل فضيلة الشيخ: عن حكم إطلاق لفظ " السيد " على غير الله تعالى؟
فأجاب بقوله: إطلاق السيد على غير الله تعالى إن كان يقصد معناه وهي السيادة المطلقة فهذا لا يجوز، وإن كان يقصد به مجرد الإكرام فإن كان المخاطب به أهلًا للإكرام فلا بأس به. ولكن لا يقول: السيد بل يقول يا سيد، أو نحو ذلك، وإن كان لا يقصد به السيادة والإكرام وإنما هو مجرد اسم فهذا لا بأس به.
(469) سئل فضيلة الشيخ: من الذي يستحق أن يوصف بالسيادة؟
فأجاب بقوله: لا يستحق أحد أن يوصف بالسيادة المطلقة إلا الله - عز وجل - فالله تعالى هو السيد الكامل السؤدد، أما غيره فيوصف بسيادة مقيدة مثل سيد ولد آدم، لرسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والسيادة قد تكون بالنسب، وقد تكون بالعلم، وقد تكون بالكرم، وقد تكون بالشجاعة، وقد تكون بالملك، كسيد المملوك، وقد تكون بغير ذلك من الأمور التي يكون بها الإنسان سيدًا، وقد يقال للزوج: سيد بالنسبة لزوجته، كما في قوله تعالى: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} .
فأما السيد في النسب فالظاهر أن المراد به من كان من نسل رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهم أولاد فاطمة - رضي الله عنها - أي ذريتها من بنين وبنات، وكذلك الشريف، وربما يراد بالشريف من كان هاشميًا(3/109)
وأيًّا كان الرجل أو المرأة سيدًا أو شريفًا فإنه لا يمتنع شرعًا أن يتزوج من غير السيد والشريف، فهذا سيد بني آدم وأشرفهم، محمد رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قد زوج ابنتيه رقية وأم كلثوم عثمان بن عفان، وليس هاشميًّا، وزوج ابنته زينب أبا العاص بن الربيع وليس هاشميًّا.
(470) وسئل فضيلته عن الجمع بين حديث عبد الله بن الشخير - رضي الله عنه - قال: «انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقلنا: أنت سيدنا فقال: (السيد الله تبارك وتعالى) » . وما جاء في التشهد " اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد ". وحديث «أنا سيد ولد آدم» ؟
فأجاب قائلًا: لا يرتاب عاقل أن محمدًا، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سيد ولد آدم فإن كل عاقل مؤمن يؤمن بذلك، والسيد هو ذو الشرف والطاعة والإمرة، وطاعة النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من طاعة الله - سبحانه وتعالى -: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} ونحن وغيرنا من المؤمنين لا نشك أن نبينا، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سيدنا، وخيرنا، وأفضلنا عند الله - سبحانه وتعالى - وأنه المطاع فيما يأمر به، صلوات الله وسلامه عليه، ومن مقتضى اعتقادنا أنه السيد المطاع، عليه الصلاة والسلام، أن لا نتجاوز ما شرع لنا من قول أو فعل أو عقيدة ومما شرعه لنا في كيفية الصلاة عليه في التشهد: " أن نقول: اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد " أو(3/110)
نحوها من الصفات الواردة في كيفية الصلاة عليه، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا أعلم أن صفة وردت بالصيغة التي ذكرها السائل وهي: " اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد " وإذا لم ترد هذه الصيغة عن النبي، عليه الصلاة والسلام، فإن الأفضل ألا نصلي على النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بها، وإنما نصلي عليه بالصيغة التي علمنا إياها.
وبهذه المناسبة أود أن أنبه إلى أن كل إنسان يؤمن بأن محمدًا، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سيدنا فإن مقتضى هذا الإيمان أن لا يتجاوز الإنسان ما شرعه، وأن لا ينقص عنه، فلا يبتدع في دين الله ما ليس منه، ولا ينقص من دين الله ما هو منه، فإن هذا هو حقيقة السيادة التي هي من حق النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، علينا.
وعلى هذا فإن أولئكم المبتدعين لأذكار أو صلوات على النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لم يأت بها شرع الله على لسان رسوله محمد، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تنافي دعوى أن هذا الذي ابتدع يعتقد أن محمدًا، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سيد؛ لأن مقتضى هذه العقيدة أن لا يتجاوز ما شرع وأن لا ينقص منه، فليتأمل الإنسان وليتدبر ما يعنيه بقوله حتى يتضح له الأمر ويعرف أنه تابع لا مشرع.
وقد ثبت عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه قال: «أنا سيد ولد آدم» والجمع بينه وبين قوله: " السيد الله " أن السيادة المطلقة لا تكون إلا لله وحده فإنه تعالى هو الذي له الأمر كله فهو الآمر وغيره مأمور، وهو الحاكم وغيره محكوم، وأما غيره فسيادته نسبية إضافية تكون في شيء محدود، وفي زمن محدود، ومكان محدود، وعلى قوم دون قوم، أو نوع من الخلائق دون نوع.(3/111)
(471) وسئل فضيلته: عن هذه العبارة " السيدة عائشة رضي الله عنها "؟ .
فأجاب قائلًا: لا شك أن عائشة - رضي الله عنها - من سيدات نساء الأمة، ولكن إطلاق " السيدة " على المرأة و" السيدات " على النساء هذه الكلمة متلقاة فيما أظن من الغرب حيث يسمون كل امرأة سيدة وإن كانت من أوضع النساء، لأنهم يسودون النساء أي يجعلونهن سيدات مطلقًا، والحقيقة أن المرأة امرأة، وأن الرجل رجل، وتسمية المرأة بالسيدة على الإطلاق ليس بصحيح، نعم من كانت منهن سيدة لشرفها في دينها أو جاهها أو غير ذلك من الأمور المقصودة فلنا أن نسميها سيدة، ولكن ليس مقتضى ذلك أننا نسمي كل امرأة سيدة.
كما أن التعبير بالسيدة عائشة، والسيدة خديجة، والسيدة فاطمة وما أشبه ذلك لم يكن معروفًا عند السلف بل كانوا يقولون: أم المؤمنين عائشة أم المؤمنين خديجة، فاطمة بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونحو ذلك.
(472) سئل فضيلة الشيخ: عن الجمع بين قول النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «السيد الله تبارك وتعالى» وقوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أنا سيد ولد آدم» وقوله: «قوموا إلى سيدكم» وقوله في الرقيق: «وليقل: سيدي» ؟
فأجاب بقوله: اختلف في ذلك على أقوال:
القول الأول: أن النهي على سبيل الأدب، والإباحة على سبيل(3/112)
الجواز، فالنهي ليس للتحريم حتى يعارض الجواز.
القول الثاني: أن النهي حيث يخشى منه المفسدة وهي التدرج إلى الغلو، والإباحة إذا لم يكن هناك محذور.
القول الثالث: إن النهي بالخطاب أي أن تخاطب الغير بقولك: " سيدي أو سيدنا " لأنه ربما يكون في نفسه عجب وغلو إذا دعي بذلك، ولأن فيه شيئًا آخر وهو خضوع هذا المتسيد له وإذلال نفسه له، بخلاف إذا جاء على غير هذا الوجه مثل «قوموا إلى سيدكم» و «أنا سيد ولد آدم» .
لكن هذا يرد عليه إباحته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، للرقيق أن يقول لمالكه: " سيدي "؟
لكن يجاب عن هذا بأن قول الرقيق لمالكه: " سيدي " أمر معلوم لا غضاضة فيه، ولهذا يحرم عليه أن يمتنع مما يجب عليه نحو سيده والذي يظهر لي - والله أعلم - أن هذا جائز لكن بشرط أن يكون الموجه إليه السيادة أهلًا لذلك، وأن لا يخشى محذور من إعجاب المخاطب وخنوع المتكلم، أما إذا لم يكن أهلًا، كما لو كان فاسقًا أو زنديقًا فلا يقال له ذلك حتى ولو فرض أنه أعلى منه مرتبة أو جاهًا، وقد جاء في الحديث: «لا تقولوا للمنافق: سيد فإنكم إذا قلتم ذلك أغضبتم الله» وكذلك لا يقال إذا خشي محذور من إعجاب المخاطب أو خنوع المتكلم.
(473) وسئل فضيلة الشيخ: عن قول: " شاءت الظروف أن يحصل كذا وكذا "، " وشاءت الأقدار كذا وكذا "؟ .
فأجاب قائلًا: قول: " شاءت الأقدار "، و" شاءت الظروف " ألفاظ منكرة؛ لأن الظروف جمع ظرف وهو الزمن، والزمن لا مشيئة له،(3/113)
وكذلك الأقدار جمع قدر، والقدر لا مشيئة له، وإنما الذي يشاء هو الله - عز وجل - نعم لو قال الإنسان: " اقتضى قدر الله كذا وكذا ". فلا بأس به. أما المشيئة فلا يجوز أن تضاف للأقدار لأن المشيئة هي الإرادة، ولا إرادة للوصف، إنما الإرادة للموصوف.
(474) وسئل فضيلته: عن حكم قول: " وشاءت قدرة الله " و" شاء القدر "؟
فأجاب بقوله: لا يصح أن نقول: " شاءت قدرة الله " لأن المشيئة إرادة، والقدرة معنى، والمعنى لا إرادة له، وإنما الإرادة للمريد، والمشيئة لمن يشاء، ولكننا نقول: اقتضت حكمة الله كذا وكذا، أو نقول عن الشيء إذا وقع: هذه قدرة الله أي مقدوره كما تقول: هذا خلق الله أي مخلوقه. وأما أن نضيف أمرًا يقتضي الفعل الاختياري إلى القدرة فإن هذا لا يجوز.
ومثل ذلك قولهم: " شاء القدر كذا وكذا " وهذا لا يجوز لأن القدر والقدرة أمران معنويان ولا مشيئة لهما، وإنما المشيئة لمن هو قادر ولمن هو مقدّر. والله أعلم.
(475) وسئل فضيلته: هل يجوز إطلاق " شهيد " على شخص بعينه فيقال: الشهيد فلان؟
فأجاب بقوله: لا يجوز لنا أن نشهد لشخص بعينه أنه شهيد حتى، لو قتل مظلومًا، أو قتل وهو يدافع عن الحق، فإنه لا يجوز أن نقول: فلان شهيد وهذا خلاف لما عليه الناس اليوم حيث رخصوا هذه الشهادة وجعلوا(3/114)
كل من قتل حتى ولو كان مقتولًا في عصبية جاهلية يسمونه شهيدًا، وهذا حرام لأن قولك عن شخص قتل: هو شهيد يعتبر شهادة سوف تسأل عنها يوم القيامة، سوف يقال لك: هل عندك علم أنه قتل شهيدًا؟ ولهذا لما قال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما من مكلوم يكلم في سبيل الله والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة وكلمه يثعب دمًا، اللون لون الدم، والريح ريح المسك» فتأمل قول النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «والله أعلم بمن يكلم في سبيله» - يكلم: يعني يجرح - فإن بعض الناس قد يكون ظاهره أنه يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا ولكن الله يعلم ما في قلبه، وأنه خلاف ما يظهر من فعله، ولهذا بوب البخاري رحمه الله على هذه المسألة في صحيحه فقال: " باب لا يقال: فلان شهيد " لأن مدار الشهادة على القلب، ولا يعلم ما في القلب إلا الله - عز وجل - فأمر النية أمر عظيم، وكم من رجلين يقومان بأمر واحد يكون بينهما كما بين السماء والأرض وذلك من أجل النية فقد قال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه» والله أعلم.
(476) سئل فضيلة الشيخ: عن حكم قول: فلان شهيد؟ .
فأجاب بقوله: الجواب على ذلك أن الشهادة لأحد بأنه شهيد تكون على وجهين:
أحدهما: أن تقيد بوصف مثل أن يقال: كل من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد، ومن مات بالطاعون فهو شهيد،(3/115)
ونحو ذلك، فهذا جائز كما جاءت به النصوص، لأنك تشهد بما أخبر به رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونعني بقولنا: - جائز - أنه غير ممنوع وإن كانت الشهادة بذلك واجبة تصديقًا لخبر رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الثاني: أن تقيد الشهادة بشخص معين مثل أن تقول لشخص بعينه: إنه شهيد، فهذا لا يجوز إلا لمن شهد له النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو اتفقت الأمة على الشهادة له بذلك وقد ترجم البخاري - رحمه الله - لهذا بقوله: " باب لا يقال: فلان شهيد " قال في الفتح 90\6: " أي على سبيل القطع بذلك إلا إن كان بالوحي " وكأنه أشار إلى «حديث عمر أنه خطب فقال: تقولون في مغازيكم: فلان شهيد، ومات فلان شهيدًا ولعله قد يكون قد أوقر راحلته، ألا لا تقولوا ذلكم ولكن قولوا كما قال رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من مات في سبيل الله، أو قُتل فهو شهيد» وهو حديث حسن أخرجه أحمد وسعيد بن منصور وغيرهما من طريق محمد بن سيرين عن أبي العجفاء عن عمر " ا. هـ. كلامه.
ولأن الشهادة بالشيء لا تكون إلا عن علم به، وشرط كون الإنسان شهيدًا أن يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا وهي نية باطنة لا سبيل إلى العلم بها، ولهذا قال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مشيرًا إلى ذلك: «مثل المجاهد في سبيل الله والله أعلم بمن يجاهد في سبيله» . وقال: «والذي نفسي بيده لا يكلم أحد في سبيل الله، والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة وكلمه يثعب دمًا اللون لون الدم، والريح ريح المسك» .
رواهما البخاري من حديث أبي هريرة، ولكن من كان ظاهره الصلاح فإننا نرجو له ذلك، ولا نشهد له به ولا نسيء به الظن. والرجاء مرتبة بين المرتبتين، ولكننا نعامله في الدنيا بأحكام الشهداء فإذا كان مقتولًا في(3/116)
الجهاد في سبيل الله دفن بدمه في ثيابه من غير صلاة عليه، وإن كان من الشهداء الآخرين فإنه يغسل ويكفن ويصلى عليه.
ولأننا لو شهدنا لأحد بعينه أنه شهيد لزم من تلك الشهادة أن نشهد له بالجنة وهذا خلاف ما كان عليه أهل السنة فإنهم لا يشهدون بالجنة إلا لمن شهد له النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بالوصف أو بالشخص، وذهب آخرون منهم إلى جواز الشهادة بذلك لمن اتفقت الأمة على الثناء عليه وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -.
وبهذا تبين أنه لا يجوز أن نشهد لشخص بعينه أنه شهيد إلا بنص أو اتفاق، لكن من كان ظاهره الصلاح فإننا نرجو له ذلك كما سبق، وهذا كاف في منقبته، وعلمه عند خالقه - سبحانه وتعالى -.
(477) سئل فضيلة الشيخ: عن لقب " شيخ الإسلام " هل يجوز؟
فأجاب بقوله: لقب شيخ الإسلام عند الإطلاق لا يجوز، أي إن الشيخ المطلق الذي يرجع إليه الإسلام لا يجوز أن يوصف به شخص؛ لأنه لا يعصم أحد من الخطأ فيما يقول في الإسلام إلا الرسل.
أما إذا قصد بشيخ الإسلام أنه شيخ كبير له قدم صدق في الإسلام فإنه لا بأس بوصف الشيخ به وتلقيبه به.
(478) وسئل: ما رأي فضيلتكم في استعمال كلمة " صدفة "؟ .
فأجاب بقوله: رأينا في هذا القول أنه لا بأس به وهذا أمر متعارف(3/117)
وأظن أن فيه أحاديث بهذا التعبير صادفْنا رسول الله صادفَنا رسول الله " لكن لا يحضرني الآن حديث معين في هذا الخصوص ".
والمصادفة والصدفة بالنسبة لفعل الإنسان أمر واقع؛ لأن الإنسان لا يعلم الغيب فقد يصادفه الشيء من غير شعور به ومن غير مقدمات له ولا توقع له، ولكن بالنسبة لفعل الله لا يقع هذا، فإن كل شيء عند الله معلوم وكل شيء عنده بمقدار وهو - سبحانه وتعالى - لا تقع الأشياء بالنسبة إليه صدفة أبدًا، لكن بالنسبة لي أنا وأنت نتقابل بدون ميعاد وبدون شعور وبدون مقدمات فهذا يقال له: صدفة، ولا حرج فيه، وأما بالنسبة لفعل الله فهذا أمر ممتنع ولا يجوز.
(479) سئل فضيلة الشيخ: عن تسمية بعض الزهور بـ " عباد الشمس " لأنه يستقبل الشمس عند الشروق والغروب؟ .
فأجاب بقوله: هذا لا يجوز لأن الأشجار لا تعبد الشمس، إنما تعبد الله - عز وجل - كما قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} . وإنما يقال عبارة أخرى ليس فيها ذكر العبودية كمراقبة الشمس، ونحو ذلك من العبارات.
(480) وسئل فضيلة الشيخ: لماذا كان التسمي بعبد الحارث من الشرك مع أن الله هو الحارث؟(3/118)
فأجاب قائلًا: التسمي بعبد الحارث فيه نسبة العبودية لغير الله - عز وجل - فإن الحارث هو الإنسان كما قال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كلكم حارث وكلكم همام» فإذا أضاف الإنسان العبودية إلى المخلوق كان هذا نوعًا من الشرك، لكنه لا يصل إلى درجة الشرك الأكبر، ولهذا لو سمي رجل بهذا الاسم لوجب أن يغيره فيضاف إلى اسم الله - سبحانه وتعالى - أو يسمى باسم آخر غير مضاف وقد ثبت عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه قال: «أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن» وما اشتهر عند العامة من قولهم: خير الأسماء ما حمد وعبد ونسبتهم ذلك إلى رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فليس ذلك بصحيح أي ليس نسبته إلى النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، صحيحة فإنه لم يرد عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بهذا اللفظ وإنما ورد «أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن» .
أما قول السائل في سؤاله: " مع أن الله هو الحارث " فلا أعلم اسمًا لله تعالى بهذا اللفظ، وإنما يوصف - عز وجل - بأنه الزارع ولا يسمى به كما في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} .
(481) سئل فضيلة الشيخ عن هذه العبارة: " العصمة لله وحده "، مع أن العصمة لا بد فيها من عاصم؟ .
فأجاب قائلًا: هذه العبارة قد يقولها من يقولها يريد بذلك أن كلام الله - عز وجل - وحكمه كله صواب، وليس فيه خطأ وهي بهذا المعنى(3/119)
صحيحة، لكن لفظها مستنكر ومستكره؛ لأنه كما قال السائل قد يوحي بأن هناك عاصمًا عصم الله - عز وجل - والله - سبحانه وتعالى - هو الخالق، وما سواه مخلوق، فالأولى أن لا يعبر الإنسان بمثل هذا التعبير، بل يقول: الصواب في كلام الله، وكلام رسوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(482) وسئل فضيلة الشيخ: عن قول: " على هواك " وقول بعض الناس في مثل مشهور: " العين وماترى والنفس وما تشتهي "؟
فأجاب بقوله: هذه الألفاظ ليس فيها بأس إلا أنها تقيد بما يكون غير مخالف للشرع، فليس الإنسان على هواه في كل شيء، وليست العين في كل شيء تراه، المهم أن هذه العبارة من حيث هي لا بأس بها لكنها مقيدة بما لا يخالف الشرع.
(483) وسئل فضيلة الشيخ: عن عبارة: " فال الله ولا فالك "؟
فأجاب قائلًا: هذا التعبير صحيح؛ لأن المراد الفأل الذي هو من الله، وهو أني أتفاءل بالخير دونما أتفاءل بما قلت، هذا هو معنى العبارة، وهو معنى صحيح أن الإنسان يتمنى الفأل الكلمة الطيبة من الله - سبحانه وتعالى - دون أن يتفاءل بما سمعه من هذا الشخص الذي تشاءم من كلامه.
(484) سئل فضيلة الشيخ: عن مصطلح " فكر إسلامي " و" مفكر إسلامي "؟(3/120)
فأجاب قائلًا: كلمة " فكر إسلامي " من الألفاظ التي يحذر عنها، إذ مقتضاها أننا جعلنا الإسلام عبارة عن أفكار قابلة للأخذ والرد، وهذا خطر عظيم أدخله علينا أعداء الإسلام من حيث لا نشعر.
أما " مفكر إسلامي " فلا أعلم فيه بأسًا لأنه وصف للرجل المسلم والرجل المسلم يكون مفكرًا.
(485) سئل فضيلة الشيخ: جاء في الفتوى رقم " 484 " أن كلمة الفكر الإسلامي كلمة لا تجوز لأنها تعني أن الإسلام قد يكون عبارة عن أفكار قد تصح أو لا تصح وهكذا، بينما قلتم: إن إطلاق كلمة (المفكر الإسلامي) تجوز لأن فكر الشخص يتغير وقد يكون صحيحًا أو العكس، ولكن الأشخاص الذين يستخدمون مصطلح (الفكر الإسلامي) يقولون: إننا نقصد فكر الأشخاص ولا نتكلم عن الإسلام ككل أو عن الشريعة الإسلامية بالتحديد فهل هذا المصطلح (الفكر الإسلامي) جائز بهذا التفسير أم لا وما هو البديل؟
فأجاب فضيلته بقوله: ثبت عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه قال: " «إنما أقضي بنحو ما أسمع» ونحن لا نحكم على الأفراد إلا بما يظهر منهم فإذا قيل: (الفكر الإسلامي) فهذا يعني أن الإسلام فكر، وإذا كان القائل بهذا التعبير يريد فكر الرجل الإسلامي فليقل: (فكر الرجل الإسلامي) أو (المفكر الإسلامي) وبدلًا من أن نقول: (الفكر الإسلامي)(3/121)
نقول: (الحكم الإسلامي) لأن الإسلام حكم والقرآن الكريم إما خبر وإما حكم كما قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} .
(486) سئل فضيلة الشيخ: عن قول بعض الناس إذا شاهد من أسرف على نفسه بالذنوب: " فلان بعيد عن الهداية، أو عن الجنة، أو عن مغفرة الله " فما حكم ذلك؟ .
فأجاب بقوله: هذا لا يجوز لأنه من باب التألي على الله - عز وجل - وقد ثبت في الصحيح «أن رجلًا كان مسرفًا على نفسه، وكان يمر به رجل آخر فيقول: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله - عز وجل -: " من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان قد غفرت له، وأحبطت عملك» . ولا يجوز للإنسان أن يستبعد رحمة الله - عز وجل -، كم من إنسان قد بلغ في الكفر مبلغًا عظيمًا، ثم هداه الله فصار من الأئمة الذين يهدون بأمر الله - عز وجل -، والواجب على من قال ذلك أن يتوب إلى الله، حيث يندم على ما فعل، ويعزم على أن لا يعود في المستقبل.
(487) وسئل فضيلته: عن قول الإنسان إذا سئل عن شخص قد توفاه الله قريبًا قال: " فلان ربنا افتكره "؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان مراده بذلك أن الله تذكر ثم أماته(3/122)
فهذه كلمة كفر؛ لأنه يقتضي أن الله - عز وجل - ينسى، والله - سبحانه وتعالى - لا ينسى، كما قال موسى، عليه الصلاة والسلام، لما سأله فرعون: {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} . فإذا كان هذا هو قصد المجيب وكان يعلم ويدري معنى ما يقول فهذا كفر.
أما إذا كان جاهلًا ولا يدري ويريد بقوله: " أن الله افتكره " يعني أخذه فقط فهذا لا يكفر، لكن يجب أن يطهر لسانه عن هذا الكلام؛ لأنه كلام موهم لنقص رب العالمين - عز وجل - ويجيب بقوله: " توفاه الله أو نحو ذلك ".
(488) سئل فضيلة الشيخ: عن حكم التسمي بقاضي القضاة؟
فأجاب قائلًا: قاضي القضاة بهذا المعنى الشامل العام لا يصلح إلا لله - عز وجل - فمن تسمى بذلك فقد جعل نفسه شريكًا لله - عز وجل - فيما لا يستحقه إلا الله - عز وجل -، وهو القاضي فوق كل قاضٍ. والحكم وإليه يرجع الحكم كله، وإن قيد بزمان أو مكان فهذا جائز، لكن الأفضل أن لا يفعل؛ لأنه قد يؤدي إلى الإعجاب بالنفس والغرور حتى لا يقبل الحق إذا خالف قوله، وإنما جاز هذا لأن قضاء الله لا يتقيد، فلا يكون فيه مشاركة لله - عز وجل - وذلك مثل قاضي قضاة العراق، أو قاضي قضاة الشام، أو قاضي قضاة عصره.
وأما إن قيد بفن من الفنون فبمقتضى التقييد يكون جائزًا، لكن إن قيد بالفقه بأن قيل: عالم العلماء في الفقه سواء قلنا بأن الفقه يشمل أصول(3/123)
الدين وفروعه على حد قوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين» أو قلنا بأن الفقه معرفة الأحكام الشرعية العملية كما هو المعروف عند الأصوليين صار فيه عموم واسع مقتضاه أن مرجع الناس كلهم في الشرع إليه فأنا أشك في جوازه والأولى التنزه عنه. وكذلك إن قيد بقبيلة فهو جائز ولكن يجب مع الجواز مراعاة جانب الموصوف حتى لا يغتر ويعجب بنفسه، ولهذا «قال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، للمادح: " قطعت عنق صاحبك» .
(489) وسئل فضيلة الشيخ: عن تقسيم الدين إلى قشور ولب، (مثل اللحية) ؟
فأجاب فضيلته بقوله: تقسيم الدين إلى قشور ولب، تقسيم خاطئ، وباطل، فالدين كله لب، وكله نافع للعبد، وكله يقربه لله - عز وجل - وكله يثاب عليه المرء، وكله ينتفع به المرء، بزيادة إيمانه وإخباته لربه - عز وجل - حتى المسائل المتعلقة باللباس والهيئات، وما أشبهها، كلها إذا فعلها الإنسان تقربًا إلى الله - عز وجل - واتباعًا لرسوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنه يثاب على ذلك، والقشور كما نعلم لا ينتفع بها، بل ترمى، وليس في الدين الإسلامي والشريعة الإسلامية ما هذا شأنه، بل كل الشريعة الإسلامية لب ينتفع به المرء إذا أخلص النية لله، وأحسن في اتباعه رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلى الذين يروجون هذه المقالة، أن يفكروا في الأمر تفكيرًا جديًّا، حتى يعرفوا الحق والصواب، ثم عليهم أن يتبعوه، وأن يدعوا مثل هذه التعبيرات، صحيح أن الدين الإسلامي(3/124)
فيه أمور مهمة كبيرة عظيمة، كأركان الإسلام الخمسة، التي بينها الرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بقوله: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام» . وفيه أشياء دون ذلك، لكنه ليس فيه قشور لا ينتفع بها الإنسان، بل يرميها ويطرحها.
وأما بالنسبة لمسألة اللحية: فلا ريب أن إعفاءها عبادة؛ لأن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أمر به، وكل ما أمر به النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو عبادة يتقرب بها الإنسان إلى ربه، بامتثاله أمر نبيه، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل إنها من هدي النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسائر إخوانه المرسلين، كما قال الله تعالى عن هارون: أنه قال لموسى: {يَاابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي} . وثبت عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أن إعفاء اللحية من الفطرة التي فطر الناس عليها، فإعفاؤها من العبادة، وليس من العادة، وليس من القشور كما يزعمه من يزعمه.
(490) سئل فضيلة الشيخ: عن عبارة " كل عام وأنتم بخير "؟
فأجاب بقوله: قول: " كل عام وأنتم بخير " جائز إذا قصد به الدعاء بالخير.
(491) سئل فضيلة الشيخ: عن حكم لعن الشيطان؟
فأجاب بقوله: الإنسان لم يؤمر بلعن الشيطان، وإنما أمر بالاستعاذة منه كما قال الله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(3/125)
وقال تعالى في سورة فصلت: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} .
(492) وسئل فضيلة الشيخ: عن قول الإنسان متسخطًا: " لو أني فعلت كذا لكان كذا "، أو يقول: " لعنة الله على المرض هو الذي أعاقني "؟
فأجاب بقوله: إذا قال: " لو فعلت كذا لكان كذا " ندمًا وسخطًا على القدر، فإن هذا محرم ولا يجوز للإنسان أن يقوله، لقول النبي، عليه الصلاة والسلام: «احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز، فإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا، فإن لو تفتح عمل الشيطان، ولكن قل: قد قدر الله وما شاء فعل» . وهذا هو الواجب على الإنسان أن يفعل المأمور وأن يستسلم للمقدور، فإنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
وأما من يلعن المرض وما أصابه من فعل الله - عز وجل - فهذا من أعظم القبائح - والعياذ بالله - لأن لعنه للمرض الذي هو من تقدير الله تعالى بمنزلة سب الله - سبحانه وتعالى - فعلى من قال مثل هذه الكلمة أن يتوب إلى الله، وأن يرجع إلى دينه، وأن يعلم أن المرض بتقدير الله، وأن ما أصابه من مصيبة فهو بما كسبت يده، وما ظلمه الله، ولكن كان هو الظالم لنفسه.(3/126)
(493) وسئل: عن قول: " لك الله "؟
فأجاب بقوله: لفظ " لك الله " الظاهر أنه من جنس " لله درك " وإذا كان من جنس هذا فإن هذا اللفظ جائز، ومستعمل عند أهل العلم وغيرهم، والأصل في هذا وشبهه الحل إلا ما قام الدليل على تحريمه، والواجب التحرز عن التحريم فيما الأصل فيه الحل.
(494) سئل فضيلة الشيخ: عن عبارة لم تسمح لي الظروف؟ أو لم يسمح لي الوقت؟
فأجاب قائلًا: إن كان القصد أنه لم يحصل وقت يتمكن فيه من المقصود فلا بأس به، وإن كان القصد أن للوقت تأثيرًا فلا يجوز.
(495) وسئل فضيلة الشيخ: عن حكم استعمال " لو "؟
فأجاب بقوله: استعمال " لو " فيه تفصيل على الوجوه التالية:
الوجه الأول: أن يكون المراد بها مجرد الخبر فهذه لا بأس بها مثل أن يقول الإنسان لشخص: لو زرتني لأكرمتك، أو لو علمت بك لجئت إليك.
الوجه الثاني: أن يقصد بها التمني فهذه على حسب ما تمناه إن تمنى بها خيرًا فهو مأجور بنيته، وإن تمنى بها سوى ذلك فهو بحسبه، ولهذا «قال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في الرجل الذي له مال ينفقه في سبيل الله وفي وجوه الخير ورجل آخر ليس عنده مال، قال: لو أن لي مثل مال فلان لعملت فيه مثل عمل فلان فقال رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،: " هما»(3/127)
«في الأجر سواء " والثاني رجل ذو مال لكنه ينفقه في غير وجوه الخير فقال رجل آخر: لو أن لي مثل مال فلان لعملت فيه مثل عمل فلان فقال رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هما في الوزر سواء» فهي إذا جاءت للتمني تكون بحسب ما تمناه العبد إن تمنى خيرًا فهي خير، وإن تمنى سوى ذلك فله ما تمنى.
الوجه الثالث: أن يراد بها التحسر على ما مضى فهذه منهي عنها، لأنها لا تفيد شيئًا وإنما تفتح الأحزان والندم وفي هذه يقول الرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا، فإن لو تفتح عمل الشيطان» . وحقيقة أنه لا فائدة منها في هذا المقام لأن الإنسان عمل ما هو مأمور به من السعي لما ينفعه ولكن القضاء والقدر كان بخلاف ما يريد فكلمة " لو " في هذا المقام إنما تفتح باب الندم والحزن، ولهذا نهى عنها رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن الإسلام لا يريد من الإنسان أن يكون محزونًا ومهمومًا بل يريد منه أن يكون منشرح الصدر وأن يكون مسرورًا طليق الوجه، ونبه الله المؤمنين لهذه النقطة بقوله: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} . وكذلك في الأحلام المكروهة التي يراها النائم في منامه فإن الرسول عليه الصلاة والسلام أرشد المرء إلى أن يتفل عن يساره ثلاث مرات، وأن يستعيذ بالله من شرها ومن شر الشيطان، وأن ينقلب إلى الجنب الآخر،(3/128)
وألا يحدث بها أحدًا لأجل أن ينساها ولا تطرأ على باله قال: «فإن ذلك لا يضره» .
والمهم أن الشرع يحب من المرء أن يكون دائمًا في سرور، ودائمًا في فرح ليكون متقبلًا لما يأتيه من أوامر الشرع؛ لأن الرجل إذا كان في ندم وهم وفي غم وحزن لا شك أنه يضيق ذرعًا بما يلقى عليه من أمور الشرع وغيرها، ولهذا يقول الله تعالى لرسوله دائمًا: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} وهذه النقطة بالذات تجد بعض الغيورين على دينهم إذا رأوا من الناس ما يكرهون تجدهم يؤثر ذلك عليهم، حتى على عبادتهم الخاصة ولكن الذي ينبغي أن يتلقوا ذلك بحزم وقوة ونشاط فيقوموا بما أوجب الله عليهم من الدعوة إلى الله على بصيرة، ثم إنه لا يضرهم من خالفهم.
(496) سئل الشيخ حفظه الله تعالى: عن هذه العبارة " لولا الله وفلان "؟
فأجاب قائلًا: قرن غير الله بالله في الأمور القدرية بما يفيد الاشتراك وعدم الفرق أمر لا يجوز، ففي المشيئة مثلًا لا يجوز أن تقول: " ما شاء الله وشئت " لأن هذا قرن لمشيئة الله بمشيئة المخلوق بحرف يقتضي التسوية وهو نوع من الشرك، لكن لا بد أن تأتي بـ " ثم " فتقول " ما شاء الله ثم شئت " كذلك أيضًا إضافة الشيء إلى سببه مقرون بالله بحرف يقتضي التسوية ممنوع فلا تقول: " لولا الله وفلان أنقذني لغرقت " فهذا حرام ولا يجوز(3/129)
لأنك جعلت السبب المخلوق مساويًّا لخالق السبب، وهذا نوع من الشرك، ولكن يجوز أن تضيف الشيء إلى سببه بدون قرن مع الله فتقول: " لولا فلان لغرقت " إذا كان السبب صحيحًا وواقعًا ولهذا «قال الرسول، عليه الصلاة والسلام، في أبي طالب حين أخبر أن عليه نعلين يغلي منهما دماغه قال: "ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار» فلم يقل: لولا الله ثم أنا مع أنه ما كان في هذه الحال من العذاب إلا بمشيئة الله، فإضافة الِشيء إلى سببه المعلوم شرعًا أو حسًّا جائز وإن لم يذكر معه الله - جل وعلا - وإضافته إلى الله وإلى سببه المعلوم شرعًا أو حسًّا جائز بشرط أن يكون بحرف لا يقتضي التسوية كـ " ثم " وإضافته إلى الله وإلى سببه المعلوم شرعًا أو حسًّا بحرف يقتضي التسوية كـ " الواو " حرام ونوع من الشرك، وإضافة الشيء إلى سبب موهوم غير معلوم حرام ولا يجوز وهو نوع من الشرك مثل العقد والتمائم وما أشبهها فإضافة الشيء إليها خطأ محض، ونوع من الشرك لأن إثبات سبب من الأسباب لم يجعله الله سببًا نوع من الإشراك به، فكأنك أنت جعلت هذا الشيء سببًا والله تعالى لم يجعله فلذلك صار نوعًا من الشرك بهذا الاعتبار.
(497) وسئل فضيلة الشيخ عن قولهم: " المادة لا تفنى ولا تزول ولم تخلق من عدم ".
فأجاب قائلًا: القول بأن المادة لا تفنى وأنها لم تخلق من عدم كفر لا يمكن أن يقوله مؤمن، فكل شيء في السماوات والأرض سوى الله فهو مخلوق من عدم كما قال الله - تعالى -: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} وليس(3/130)
هناك شيء أزلي أبدي سوى الله.
وأما كونها لا تفنى فإن عنى بذلك أن كل شيء لا يفنى لذاته فهذا أيضًا خطأ وليس بصواب؛ لأن كل شيء موجود فهو قابل للفناء، وإن أراد به أن من مخلوقات الله ما لا يفنى بإرادة الله فهذا حق، فالجنة لا تفنى وما فيها من نعيم لا يفنى، وأهل الجنة لا يفنون، وأهل النار لا يفنون. لكن هذه الكلمة المطلقة " المادة ليس لها أصل في الوجود وليس لها أصل في البقاء " هذه على إطلاقها كلمة إلحادية فتقول: المادة مخلوقة من عدم، فكل شيء سوى الله فالأصل فيه العدم.
أما مسألة الفناء فقد تقدم التفصيل فيها، والله الموفق.
(498) سئل فضيلة الشيخ: ما حكم قول: " شاءت قدرة الله "، وإذا كان الجواب بعدمه فلماذا؟ مع أن الصفة تتبع موصوفها، والصفة لا تنفك عن ذات الله؟
فأجاب قائلًا: لا يصح أن نقول: " شاءت قدرة الله "؛ لأن المشيئة إرادة، والقدرة معنى، والمعنى لا إرادة له، وإنما الإرادة للمريد، والمشيئة للشائي ولكننا نقول: اقتضت حكمة الله كذا وكذا، أو نقول عن الشيء إذا وقع: هذه قدرة الله، كما نقول: هذا خلق الله، وأما إضافة أمر يقتضي الفعل الاختياري إلى القدرة فإن هذا لا يجوز.
وأما قول السائل: " إن الصفة تتبع الموصوف " فنقول: نعم، وكونها تابعة للموصوف تدل على أنه لا يمكن أن نسند إليها شيئًا يستقل به الموصوف، وهي دارجة على لسان كثير من الناس، يقول: شاءت قدرة الله كذا وكذا، شاء القدر كذا وكذا، وهذا لا يجوز؛ لأن القدر والقدرة أمران(3/131)
معنويان ولا مشيئة لهما، وإنما المشيئة لمن هو قادر ولمن هو مقدر.
(499) سئل فضيلة الشيخ عن هذه العبارة: " ما صدقت على الله أن يكون كذا وكذا ".
فأجاب قائلًا: يقول الناس: ما صدقت على الله أن يكون كذا وكذا، ويعنون ما توقعت وما ظننت أن يكون هكذا، وليس المعنى ما صدقت أن الله يفعل لعجزه عنه مثلًا، فالمعنى أنه ما كان يقع في ذهني هذا الأمر، هذا هو المراد بهذا التعبير، فالمعنى إذن صحيح لكن اللفظ فيه إيهام، وعلى هذا يكون تجنب هذا اللفظ أحسن لأنه موهم، ولكن التحريم صعب أن نقول: حرام مع وضوح المعنى وأنه لا يقصد به إلا ذلك.
(500) سئل فضيلة الشيخ: عن قول الإنسان إذا شاهد جنازة: " من المتوفي " بالياء؟
فأجاب بقوله: الأحسن أن يقال: من المتوفى؟ وإذا قال من المتوفي؟ فلها معنى في اللغة العربية؛ لأن هذا الرجل توفي حياته وأنهاها.
(501) سئل فضيلة الشيخ: عن قول: " إن فلانًا له المثل الأعلى "، أو " فلان كان المثل الأعلى ".
فأجاب بقوله: هذا لا يجوز على سبيل الإطلاق، إلا لله - سبحانه وتعالى - فهو الذي له المثل الأعلى، وأما إذا قال: " فلان كان المثل الأعلى في كذا كذا "، وقيده فهذا لا بأس به
.(3/132)
(502) سئل فضيلة الشيخ: ما حكم قولهم: " دفن في مثواه الأخير "؟
فأجاب قائلًا: قول القائل: " دفن في مثواه الأخير " حرام ولا يجوز لأنك إذا قلت: في مثواه الأخير فمقتضاه أن القبر آخر شيء له، وهذا يتضمن إنكار البعث، ومن المعلوم لعامة المسلمين أن القبر ليس آخر شيء، إلا عند الذين لا يؤمنون باليوم الآخر، فالقبر آخر شيء عندهم، أما المسلم فليس آخر شيء عنده القبر وقد سمع أعرابي رجلًا يقرأ قوله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} فقال: " والله ما الزائر بمقيم " لأن الذي يزور يمشي فلا بد من بعث وهذا صحيح.
لهذا يجب تجنب هذه العبارة فلا يقال عن القبر: إنه المثوى الأخير؛ لأن المثوى الأخير إما الجنة، وإما النار في يوم القيامة.
(503) وسئل: عن قول: " مسيجيد، مصيحيف ".
فأجاب قائلًا: الأولى أن يقال: المسجد والمصحف بلفظ التكبير لا بلفظ التصغير؛ لأنه قد يوهم الاستهانة به.
(504) سئل فضيلة الشيخ: عن إطلاق المسيحية على النصرانية، والمسيحي على النصراني.
فأجاب بقوله: لا شك أن انتساب النصارى إلى المسيح بعد بعثة النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، انتساب غير صحيح لأنه لو كان صحيحًا(3/133)
لآمنوا بمحمد، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن إيمانهم بمحمد، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إيمان بالمسيح عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام؛ لأن الله تعالى قال: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} ولم يبشرهم المسيح عيسى ابن مريم بمحمد، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إلا من أجل أن يقبلوا ما جاء به لأن البشارة بما لا ينفع لغو من القول لا يمكن أن تأتي من أدنى الناس عقلًا، فضلًا عن أن تكون صدرت من عند أحد الرسل الكرام أولي العزم عيسى ابن مريم، عليه الصلاة والسلام، وهذا الذي بشر به عيسى ابن مريم بني إسرائيل هو محمد، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} . وهذا يدل على أن الرسول الذي بشر به قد جاء ولكنهم كفروا به وقالوا: هذا سحر مبين، فإذا كفروا بمحمد، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن هذا كفر بعيسى ابن مريم الذي بشرهم بمحمد، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحينئذ لا يصح أن ينتسبوا إليه فيقولوا: إنهم مسيحيون، إذ لو كانوا حقيقة لآمنوا بما بشر به المسيح ابن مريم لأن عيسى ابن مريم وغيره من الرسل قد أخذ الله عليهم العهد والميثاق أن يؤمنوا بمحمد، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما قال الله - تعالى -: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} . قال:(3/134)
أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين} والذي جاء مصدقا لما معهم هو محمد، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لقوله ـ تعالىـ: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم} .
وخلاصة القول أن نسبة النصارى إلى المسيح عيسى ابن مريم نسبة يكذبها الواقع، لأنهم كفروا ببشارة المسيح عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام وهو محمد، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكفرهم به كفر بعيسى ابن مريم، عليه الصلاة والسلام.
(505) سئل فضيلة الشيخ: عن حكم قول: "فلان المغفور له"، "فلان المرحوم"؟.
فأجاب بقوله: بعض الناس ينكر قول القائل: "فلان المغفور له، فلان المرحوم" ويقولون: إننا لا نعلم هل هذا الميت من المرحومين المغفور لهم أو ليس منهم؟ وهذا الإنكار في محله إذا كان الإنسان يخبر خبراً أن هذا الميت قد رحم أو غفر له، لأنه لا يجوز أن نخبر أن هذا الميت قد رحم، أو غفر له بدون علم قال الله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم} لكن الناس لا يريدون بذلك الإخبار قطعاً، فالإنسان الذي يقول: المرحوم الوالد، المرحومة الوالدة ونحو ذلك لا يريد بهذا الجزم أو الإخبار بأنهم(3/135)
مرحومون، وإنما يريدون بذلك الدعاء أن الله تعالى قد رحمهم والرجاء، وفرق بين الدعاء والخبر، ولهذا نحن نقول: فلان رحمه الله، فلان غفر الله له، فلان عفا الله عنه، ولا فرق من حيث اللغة العربية بين قولنا: " فلان المرحوم " و" فلان رحمه الله " لأن جملة " رحمه الله " جملة خبرية، والمرحوم بمعنى الذي رحم فهي أيضًا خبرية، فلا فرق بينهما أي بين مدلوليهما في اللغة العربية فمن منع " فلان المرحوم " يجب أن يمنع " فلان رحمه الله ".
على كل حال نقول " لا إنكار في هذه الجملة أي في قولنا: فلان المرحوم، فلان المغفور له " وما أشبه ذلك؛ لأننا لسنا نخبر بذلك خبرًا ونقول: إن الله قد رحمه، وإن الله قد غفر له، ولكننا نسأل الله ونرجوه فهو من باب الرجاء والدعاء وليس من باب الإخبار، وفرق بين هذا وهذا.
(506) وسئل فضيلة الشيخ: عن هذه العبارة: " المكتوب على الجبين لا بد أن تراه العين "
فأجاب بقوله: هذا وردت فيه آثار أنه يكتب على الجبين ما يكون على الإنسان، لكن الآثار هذه ليست إلى ذاك في الصحة، بحيث يعتقد الإنسان مدلولها، فالأحاديث الصحيحة أن الإنسان يكتب عليه في بطن أمه أجله، وعمله، ورزقه، وشقي أم سعيد.
(507) سئل فضيلة الشيخ: عن قول الإنسان إذا خاطب ملكًا: " يا مولاي "
.(3/136)
فأجاب بقوله: الولاية تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: ولاية مطلقة وهذه لله عز وجل كالسيادة المطلقة، وولاية الله بالمعنى العام شاملة لكل أحد قال الله تعالى: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} فجعل له سبحانه الولاية على هؤلاء المفترين، وهذه ولاية عامة، وأما بالمعنى الخاص فهي خاصة بالمؤمنين المتقين قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} وقال الله تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} وهذه ولاية خاصة.
القسم الثاني: ولاية مقيدة مضافة، فهذه تكون لغير الله، ولها في اللغة معان كثيرة منها الناصر، والمتولي للأمور، والسيد، قال الله تعالى: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} وقال، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من كنت مولاه فعلي مولاه» وقال، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنما الولاء لمن أعتق» .
وعلى هذا فلا بأس أن يقول القائل للملك: مولاي بمعنى سيدي ما لم يخش من ذلك محذور.(3/137)
(508) وسئل فضيلة الشيخ: يحتج بعض الناس إذا نهي عن أمر مخالف للشريعة أو الآداب الإسلامية بقوله: " الناس يفعلون كذا ".
فأجاب بقوله: هذا ليس بحجة لقوله تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} . ولقوله: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} . والحجة فيما قاله الله ورسوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو كان عليه السلف الصالح.
(509) وسئل فضيلة الشيخ: عن قول الإنسان لضيفه: " وجه الله إلا أن تأكل "؟
فأجاب بقوله: لا يجوز لأحد أن يستشفع بالله - عز وجل - إلى أحد من الخلق، فإن الله أعظم وأجل من أن يستشفع به إلى خلقه، وذلك لأن مرتبة المشفوع إليه أعلى من مرتبة الشافع والمشفوع له، فكيف يصح أن يجعل الله تعالى شافعًا عند أحد؟ !
(510) سئل الشيخ: عن قولهم: " هذا نوء محمود ".
فأجاب بقوله: هذا لا يجوز وهو يشبه قول القائل: مطرنا بنوء كذا وكذا الذي «قال فيه النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيما يرويه عن الله - عز وجل -: " من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فهو كافر بي مؤمن بالكوكب» .(3/138)
والأنواء ما هي إلا أوقات لا تحمد ولا تذم، وما يكون فيها من النعم والرخاء فهو من الله تعالى وهو الذي له الحمد أولًا وآخرًا، وله الحمد على كل حال.
(511) وسئل فضيلة الشيخ - حفظه الله -: عن قول: " لا حول الله "
فأجاب قائلًا: قول " لا حول الله "، ما سمعت أحدًا يقولها وكأنهم يريدون " لا حول ولا قوة إلا بالله "، فيكون الخطأ فيها في التعبير، والواجب أن تعدل على الوجه الذي يراد بها، فيقال: " لا حول ولا قوة إلا بالله ".
(512) سئل فضيلة الشيخ: ما رأيكم في هذه العبارة " لا سمح الله ".
فأجاب قائلًا: أكره أن يقول القائل: " لا سمح الله " لأن قوله: " لا سمح الله " ربما توهم أن أحدًا يجبر الله على شيء فيقول: " لا سمح الله " والله - عز وجل - كما قال الرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، " لا مكره له ". قال الرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يقول أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ولكن ليعزم المسألة، وليعظم الرغبة فإن الله لا مكره له، ولا يتعاظمه شيء أعطاه» والأولى أن يقول: " لا قدر الله " بدلًا من قوله: " لا سمح الله " لأنه أبعد عن توهم ما لا يجوز في حق الله تعالى.(3/139)
(513) سئل فضيلة الشيخ غفر الله له: ما حكم قول: " لا قدر الله "؟
فأجاب بقوله: " لا قدر الله " معناه الدعاء بأن الله لا يقدر ذلك، والدعاء بأن الله لا يقدر هذا جائز، وقول: " لا قدر الله " ليس معناه نفي أن يقدر الله ذلك، إذ إن الحكم لله يقدر ما يشاء، لكنه نفي بمعنى الطلب فهو خبر بمعنى الطلب بلا شك، فكأنه حين يقول: " لا قدر الله " أي أسأل الله أن لا يقدره، واستعمال النفي بمعنى الطلب شائع كثير في اللغة العربية وعلى هذا فلا بأس بهذه العبارة.
(514) سئل فضيلة الشيخ: عن قول بعض الناس إذا مات شخص: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} ؟
فأجاب بقوله: هذا لا يجوز أن يطلق على شخص بعينه؛ لأن هذه شهادة بأنه من هذا الصنف.
(515) سئل فضيلة الشيخ: ما رأيكم في قول بعض الناس: " يا هادي، يا دليل "؟
فأجاب بقوله: " يا هادي، يا دليل " لا أعلمها من أسماء الله، فإن قصد به الإنسان الصفة فلا بأس كما يقول: اللهم يا مجري السحاب، يا منزل الكتاب وما أشبه ذلك، فإن الله يهدي من يشاء و" الدليل " هنا بمعنى الهادي.(3/140)
(516) وسئل غفر الله له: عن قول بعض الناس: " يعلم الله كذا وكذا "؟
فأجاب بقوله: قول: " يعلم الله " هذه مسألة خطيرة، حتى رأيت في كتب الحنفية أن من قال عن شيء: يعلم الله والأمر بخلافه صار كافرًا خارجًا عن الملة، فإذا قلت: " يعلم الله أني ما فعلت هذا " وأنت فاعله فمقتضى ذلك أن الله يجهل الأمر، " يعلم الله أني ما زرت فلانًا " وأنت زائره صار الله لا يعلم بما يقع، ومعلوم أن من نفى عن الله العلم فقد كفر، ولهذا قال الشافعي - رحمه الله - في القدرية قال: " جادلوهم بالعلم فإن أنكروه كفروا، وإن أقروا به خصموا " ا. هـ. والحاصل أن قول القائل: " يعلم الله " إذا قالها والأمر على خلاف ما قال فإن ذلك خطير جدًا وهو حرام بلا شك.
أما إذا كان مصيبًا، والأمر على وفق ما قال فلا بأس بذلك؛ لأنه صادق في قوله ولأن الله بكل شيء عليم كما قالت الرسل في سورة يس: {قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} .(3/141)
شرح حديث جبريل - عليه السلام(3/143)
نص الحديث
عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -قال: «بينما نحن عند رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه قال: يا محمد أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الإسلام، أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا ". قال: صدقت. قال: فعجبنا له، يسأله ويصدقه. قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: " أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره ". قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: " أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ". قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: " ما المسئول عنها بأعلم من السائل ". قال: فأخبرني عن أماراتها؟ قال: " أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان ". قال: ثم انطلق فلبثت مليًّا ثم قال لي: " يا عمر أتدري من السائل؟ " قلت: الله ورسوله أعلم. قال: " فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم» .
الشرح
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد(3/145)
أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله الله تعالى بالهدى، ودين الحق، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله، وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:
[تعريف الإيمان]
أيها الأخوة المؤمنون: «سأل جبريل النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عن الإيمان بعد أن سأله عن الإسلام قال: فأخبرني عن الإيمان؟ فقال: " أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره» .
والإيمان هو: " الاعتراف المستلزم للقبول والإذعان " أما مجرد أن يؤمن الإنسان بالشيء بدون أن يكون لديه قبول وإذعان، فهذا ليس بإيمان، بدليل أن المشركين مؤمنون بوجود الله ومؤمنون بأن الله هو الخالق، الرازق، المحيي، المميت، المدبر للأمور، وكذلك أيضًا فإن الواحد منهم قد يقر برسالة النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يكون مؤمنًا، فهذا أبو طالب عم النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان يقرُّ بأن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، صادق وأن دينه حق يقول:
لقد علموا أن ابننا لا مكذب ... لدينا ولا يعنى بقول الأباطل
وهذا البيت من لاميته المشهورة الطويلة التي قال عنها ابن كثير: ينبغي أن تكون إحدى المعلقات في الكعبة، ويقول أيضًا:
ولقد علمت بأن دين محمد ... من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار مسبة ... لرأيتني سمحًا بذلك مبينا
فهذا إقرار بأن دين الرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حق، لكن لم ينفعه ذلك؛ لأنه لم يقبله ولم يذعن له فكان - والعياذ بالله - بعد شفاعة النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في ضحضاح من نار، وعليه نعلان من نار يغلي منهما دماغه - نسأل الله تعالى أن يعافينا وإياكم من النار - وهو أهون الناس عذابًا لكنه يرى أنه أشدهم(3/146)
عذابًا، وكونه يرى أنه أشدهم عذابًا، فهذا تعذيب نفسي قلبي؛ لأن الإنسان إذا رأى غيره مثله في العذاب أو دونه يهون عليه ما هو فيه، ولهذا قال تعالى: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} .
وعلى هذا فنقول: إن الإيمان ليس مجرد الاعتراف، بل لا بد من الاعتراف المستلزم للقبول والإذعان، ولقد عجبت أيما عجب حينما صعد جاجارين الروسي إلى الفضاء، وقال بعد أن صعد الفضاء ورأى وشاهد الآيات العظيمة، قال: إن لهذا الكون مدبرًا، ومع ذلك فلم يؤمن.
أركان الإيمان
الركن الأول: الإيمان بالله
قال رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أن تؤمن بالله» . والإيمان بالله - عز وجل - يتضمن الإيمان بأربعة أمور:
الإيمان بوجود الله، والإيمان بربوبية الله، والإيمان بألوهية الله، والإيمان بأسمائه وصفاته.
أولًا: الإيمان بوجود الله:
وهو أن تؤمن بأن الله تعالى موجود، والدليل على وجوده العقل، والحس والفطرة، والشرع.
أولًا: الدليل العقلي: فالدليل العقلي على وجود الله - عز وجل - أن نقول: هذا الكون الذي أمامنا ونشاهده على هذا النظام البديع الذي لا يمكن أن يضطرب ولا يتصادم ولا يسقط بعضه بعضًا بل هو في غاية ما يكون من النظام {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ}(3/147)
فهل يعقل أن هذا الكون العظيم بهذا النظام البديع يكون خالقًا لنفسه؟ كلا لا يعقل؛ لأنه لا يمكن أن يكون خالقًا لنفسه إذ إن معنى ذلك أنه عدم أوجد موجودًا، ولا يمكن للعدم أن يوجد موجودًا، إذن فيستحيل أن يكون هذا الكون موجدًا لنفسه، ولا يمكن أيضًا أن يكون هذا الكون العظيم وجد صدفة؛ لأنه على نظام بديع مطرد، وما جاء صدفة فالغالب أنه لا يطرد ولا يمكن أن يأتي صدفة لكن على التنزل.
ويذكر عن أبي حنيفة - رحمه الله - وكان معروفًا بالذكاء أنه جاءه قوم دهريون يقولون له: أثبت لنا وجود الله فقال: دعوني أفكر، ثم قال لهم: إني أفكر في سفينة أرست في ميناء دجلة وعليها حمل فنزل الحمل بدون حمال، وانصرفت السفينة بدون قائد، فقالوا: كيف تقول مثل ذلك الكلام فإن ذلك لا يعقل ولا يمكن أن نصدقه؟ فقال: إذا كنتم لا تصدقون بها فكيف تصدقون بهذه الشمس، والقمر، والنجوم، والسماء، والأرض، كيف يمكن أن تصدقوا أنها وجدت بدون موجد؟ !
وقد أشار الله تعالى إلى هذا الدليل العقلي بقوله: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} .
وسئل أعرابي فقيل له: بم عرفت ربك؟ والأعرابي لا يعرف إلا ما كان أمامه فقال: البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ألا تدل على السميع البصير؟ بلى.
ثانيًا: الدليل الحسي: فهو ما نشاهده من إجابة الدعاء مثلًا فالإنسان يدعو الله ويقول: يا الله فيجيب الله دعاءه ويكشف سوءه ويحصل(3/148)
له المطلوب وهو إنما قال: يا الله إذن هناك رب سمع دعاءه، وأجابه، وما أكثر ما نقرأ نحن المسلمين في كتاب الله أنه استجاب لأنبياء الله: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} ، {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} . والآيات في هذه كثيرة والواقع يشهد بهذا.
ثالثًا: الدليل الفطري: فإن الإنسان بطبيعته إذا أصابه الضر قال: (يا الله) حتى إننا حدثنا أن بعض الكفار الموجودين الملحدين إذا أصابه الشيء المهلك بغتة يقول على فلتات لسانه: (يا الله) من غير أن يشعر؛ لأن فطرة الإنسان تدله على وجود الرب - عز وجل -، {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} .
رابعًا: الدليل الشرعي: وأما الأدلة الشرعية فحدث ولا حرج، كل الشرع إذا تأمله الإنسان علم أن الذي أنزله وشرعه هو الرب - عز وجل - قال الله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} فائتلاف القرآن وعدم تناقضه وتصديق بعضه بعضًا كل ذلك يدل على أن القرآن نزل من عند الله - عز وجل - وكون هذا الدين بل كون جميع الأديان التي أنزلها الله - عز وجل - موافقة تمامًا لمصالح العباد دليل أنها من عند الله - عز وجل -.
ولكن حصل على جميع الأديان تحريف وتبديل وتغيير من المخالفين(3/149)
لشرائعه: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} لكن الدين الذي نزل على الأنبياء كله يشهد بوجود الله - عز وجل - وحكمته وعلمه.
ثانيًا: الإيمان بربوبيته:
ومعنى (الرب) : أي الخالق، والمالك، والمدبر، فهذا معنى ربوبية الله - عز وجل -، ولا يغني واحد من هذه الثلاثة عن الآخر، فهو الخالق الذي أوجد الأشياء من عدم {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فالذي أوجد الكون من العدم هو الله الخالق، المالك أي خلق الخلق وانفرد بملكه له كما انفرد بخلقه له، وتأمل قول الله تعالى في سورة الفاتحة: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} وفي قراءة أخرى سبعية: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} . وهي قراءة سبعية متواترة، وإذا جمعت بين القراءتين ظهر معنى بديع، الملك أبلغ من المالك في السلطة والسيطرة، لكن الملك أحيانًا يكون ملكًا بالاسم لا بالتصرف، وحينئذ يكون ملكًا غير مالك، فإذا اجتمع أن الله تعالى: ملك ومالك تم بذلك الأمر: الملك، والتدبير.
ولهذا نقول: إن الله - عز وجل - منفرد بالملك، كما انفرد بالخلق، كذلك أيضًا منفرد بالتدبير، فهو المدبر لجميع الأمور وهذا بإقرار المشركين، فإنهم إذا سئلوا من يدبر الأمور؟ فسيقولون: الله. فهو المنفرد بالتدبير: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} .(3/150)
سئل أعرابي: بم عرفت ربك؟ قال: بنقض العزائم وصرف الهمم. فالإنسان يعزم أحيانًا على الشيء عزمًا وتصميمًا أكيدًا وفي لحظة يجد نفسه قد عزم على تركه ونقض العزم، وقد يهم الإنسان بالشيء متجهًا إليه ثم ينصرف بدون سبب، وهذا يدل على أن للأشياء مدبرًا فوق تدبيرك أنت، وهو الله - عز وجل -.
فإن قال قائل: كيف تقول: إن الله منفرد بالخلق، مع أنه أثبت الخلق للمخلوق وسمى المخلوق خالقًا. قال سبحانه: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} وفي الحديث عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، «يقال للمصورين: " أحيوا ما خلقتم» ؟ .
فالجواب: أن خلق الإنسان ليس خلقًا في الحقيقة؛ لأن الخلق هو الإيجاد من العدم، والإنسان عندما يخلق لا يوجد من عدم، لكن يغير الشيء من صورة إلى صورة أخرى.
وكذلك (الملك) فإن قال قائل: كيف تقول: إن الله منفرد بالملك مع أن الله سبحانه أثبت الملك لغيره فقال: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} وقال: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} ؟ .
فالجواب: أن يقال: إن ملك الإنسان ليس كملك الله؛ لأن ملك الله - عز وجل - شامل لكل شيء، ولأن ملك الله تعالى ملك مطلق غير مقيد، أما ملك الإنسان للشيء فهو غير شامل، فمثلًا الساعة التي معي لا تملكها أنت\ والساعة التي معك لا أملكها أنا، فهو ملك محدود ليس(3/151)
شاملًا، كذلك أيضًا ليس ملكًا مطلقًا فأنا لا يمكنني أن أتصرف في ساعتي كما أريد، لأنني مقيد بالشرع الذي هو المصلحة، فلو أراد إنسان تكسير ساعته مثلًا فإن ذلك لا يجوز ولا يملك شرعًا أن يفعل ذلك؛ لأن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نهى عن إضاعة المال فكيف بإتلافه؟
ولهذا قال العلماء: إن الرجل لو كان بالغًا عاقلًا له زوجة وأولاد، وهو سفيه في المال لا يتصرف فيه تصرف الرشيد فإنه يحجر على ماله.
لكن الله - عز وجل - يتصرف في ملكه كما يشاء، يحيي ويميت، ويمرض ويشفي، ويغني ويفقر، ويفعل ما يشاء على أننا نؤمن بأنه - عز وجل - لا يفعل الشيء إلا لحكمة.
إذن فهناك فارق بين ملك الخالق وملك المخلوق. وبهذا عرفنا أن قولنا: إن الله منفرد بالملك قول صحيح لا يستثنى منه شيء.
وكذلك التدبير، فإنه قد يكون للإنسان، فإنه يدبر مثل أن يدبر خادمه أو مملوكه، أو سيارته، أو ماشيته فله تدبير، لكن هذا التدبير ليس كتدبير الله، فهو تدبير ناقص ومحدود. ناقص إذ لا يملك التدبير المطلق في ماله فأحيانًا يدبر البعير لكن البعير تعصيه، وأحيانًا يدبر الإنسان ابنه فيعصيه كذلك، وكذلك هو تدبير محدود فلا يمكن أن يدبر الإنسان إلا ما له السيطرة والسلطة عليه التي جعلها الشارع له وبهذا صح أن نقول: إن الله منفرد بالتدبير كما قلنا: إنه منفرد بالخلق، والملك.
ثالثًا: الإيمان بألوهيته:
وهو أن يؤمن الإنسان بأنه سبحانه هو الإله الحق، وأنه لا يشاركه أحد في هذا الحق لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولهذا كانت دعوة الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم هي الدعوة إلى قول: {لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} .(3/152)
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} .
لو أن أحدًا آمن بوجود الله، وآمن بربوبية الله، ولكنه يعبد مع الله غيره فلا يكون مؤمنًا بالله حتى يفرده سبحانه بالألوهية.
وقد يقول قائل: إن الله تعالى أثبت وصف الألوهية لغيره فقال تعالى عن إبراهيم: {أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} وقال تعالى: {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} إلى غير ذلك من الآيات فكيف يصح أن تقول: إن الله متفرد بالألوهية؟
فالجواب: أن الألوهية المثبتة لغير الله ألوهية باطلة، ولهذا صح نفيها نفيًا مطلقًا في مثل قول الرسل عليهم الصلاة والسلام لأقوامهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} لأنها آلهة باطلة: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} .
رابعًا: الإيمان بأسمائه وصفاته:
وهذا معترك الفرق المنتسبة للإسلام بالنسبة لإفراد الله تعالى بالأسماء والصفات، فقد انقسموا إلى فرق شتى أصولها ثلاثة:
الأول: الإيمان بالأسماء دون الصفات.(3/153)
الثاني: الإيمان بالأسماء والصفات.
الثالث: الإيمان بالأسماء وبعض الصفات.
وهناك غلاة ينكرون حتى الأسماء، فيقولون: " إن الله - عز وجل - ليس له أسماء ولا صفات " لكننا تركناها لأنها متشعبة.
السلف الصالح الذين كانوا على ما كان عليه النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأصحابه يقرون بالأسماء والصفات اتباعًا لما جاء في كلام الله - عز وجل - قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} وهذا دليل إثبات الأسماء لله تعالى، وأما الدليل على إثبات الصفات فقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} ومعنى {الْمَثَلُ الْأَعْلَى} أي الوصف الأكمل، ففي الآيتين عمومان:
أحدهما: في الأسماء.
والآخر: في الصفات. أما التفاصيل فكثيرة في القرآن والسنة.
وهناك من يثبت الأسماء دون الصفات فيقول: إن الله سميع بلا سمع، وبصير بلا بصر، وهذا هو المشهور في مذهب المعتزلة.
والفريق الثالث: يثبت الأسماء وبعض الصفات، فيثبت من الصفات سبعًا وينكر الباقي، والسبع هي:
الحياة.
والعلم.
والقدرة.
والسمع.
والبصر.(3/154)
الإرادة.
الكلام.
جمعها السفاريني في عقيدته بقوله:
له الحياة والكلام والبصر ... سمع إرادة وعلم واقتدر
بقدرة تعلقت بممكن ... كذا إرادة
يقولون: إن هذه الصفات دل عليها العقل فنثبتها، وما عداها فالعقل لا يدل عليها فلا نثبتها.
فيقولون: إن الموجودات دالة على إيجاد، والإيجاد يدل على القدرة، فلا يمكن إيجاد بلا قدرة وهذا دليل عقلي، ويقول إن التخصيص يدل على إرادة أي كون هذه شمسًا، وهذا قمرًا، وهذه سماء، وهذه أرضًا كل ذلك يدل على إرادة وأن الذي خلقها أراد أن تكون على هذا الوجه، وهذا دليل عقلي أيضًا.
وإذا نظرنا في الخلق وجدناه خلقًا محكمًا متقنًا، والإحكام يدل على العلم؛ لأن الجاهل لا يتقن.
فثبتت الآن ثلاث صفات: القدرة، والإرادة، والعلم.
ثم قالوا: إن هذه الثلاث لا تقوم إلا بحي ومن ثم ثبت أنه حي، فالحي إما أن يكون سميعًا بصيرًا متكلمًا، أو أعمى أصم أخرس، والصمم، والعمى، والخرس صفات نقص، والسمع، والبصر، والكلام صفات كمال، فوجب ثبوت الكمال للحي.
فهذه أدلتهم وهي أدلة عقلية، فلذلك أثبتوا هذه الصفات السبع.
فإذا قيل له: تثبت لله رحمة؟ قال: لا أثبت له الرحمة، لأني أفسرها بما أعتقد وأقول: الرحمة إرادة الإحسان، أو هي الإحسان نفسه، فلا يفسرها بصفة.(3/155)
ولكن نقول: هذا خطأ بل نحن نستدل بالعقل على ثبوت الرحمة بما نشاهد من آثارها، فالنعم التي لا تعد، والنقم التي تدفع عنَّا هي بسبب الرحمة، ودلالة هذه النعم على صفة الرحمة أقوى من دلالة التخصيص على صفة الإرادة؛ لأن دلالة هذه النعم على الرحمة يعرفها العامي والخاص، ومع هذا فينكر هؤلاء صفة الرحمة ويثبتون صفة الإرادة.
وبذلك تعرف أن كل من حاد عن طريق السلف فهو في تناقض مطرد؛ لأن الباطل لا يأتلف أبدًا: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} .
وموقفنا نحن من الإيمان بأسماء الله وصفاته، أن نثبت ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات، وأن ننزه هذا الإثبات عن محظورين عظيمين وهما: التمثيل، والتكييف، ودليل ذلك السمع والعقل قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} . {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} . {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} والنصوص في هذا المعنى كثيرة.
أما العقل، فإننا نقول: لا يعقل أبدًا أن يكون الخالق مماثلًا للمخلوق لما بينهما من التباين العظيم، فالخالق موجِد، والمخلوق موجَد، والخالق أزلي أبدي الوجود، والمخلوق جائز الوجود قابل للفناء بل هو فان قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} .(3/156)
قال بعض السلف - رحمهم الله -: إذا قرأت هذه الآية: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} فلا تقف عليها فصلها بما بعدها: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} ليتميز الفرقان المبين بين الخالق والمخلوق، وليعرف كمال الله - عز وجل - ونقص ما سواه.
لكن لو قال لنا قائل: مما وصف الله به نفسه أن له وجهًا كما قال سبحانه: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} وأنا لا أعقل من الوجه إلا مثل وجه المخلوق فيلزم من إثبات الوجه لله التمثيل؛ لأن القرآن عربيٌّ، والوجه هو ما يتعارف بين الناس وأكمل الوجوه وجوه البشر، فوجه الله كوجه الإنسان مثلًا فماذا نقول له؟
نقول له: إن هذا الفهم فهم خاطئ؛ لأن الوجه مضاف إلى الله، والمضاف بحسب المضاف إليه، فوجه الله يليق بالله، ووجه الإنسان يليق بالإنسان، ونقول له أيضًا: أنت لك وجه، والأسد له وجه، والهر له وجه، فإذا قلنا: وجه الإنسان، ووجه الأسد، ووجه الهر، فهل يلزم من ذلك التماثل؟ ! فلا أحد يقول: إن وجهه يماثل وجه الهر، أو الأسد أبدًا.
إذن نعرف من هذا أن الوجه بحسب ما يضاف إليه، فإثباتنا لصفات الله - عز وجل - لا يستلزم أبدًا المماثلة بين الخالق والمخلوق بدليل السمع وبدليل العقل.
الثاني: التكييف: أي إن صفات الله - عز وجل - لا تكيف تقديرًا بالجنان ولا نطقًا باللسان، ودليل ذلك سمعي وعقليٌّ أيضًا.(3/157)
الدليل السمعي قوله تعالى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} ، وقوله: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} على أحد التفسيرين وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} وقوله: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} فمن كيف صفة الله فقد قال على الله ما لا يعلم.
أما الدليل العقلي لامتناع التكييف فإننا نقول: لا يمكن لأي إنسان أن يعرف كيفية الشيء إلا بمشاهدته، أو مشاهدة نظيره، أو الخبر الصادق عنه.
مثل: لو أني شاهدت مسجلًا بعينه فإني أعرف كيفيته لأنني شاهدته بعيني أو مشاهدة نظيره مثل أن يأتيني رجل ويقول: عندي سيارة واشتريتها موديل 88 مثلًا، وصفتها كذا، ولونها كذا، فإنه يمكنني معرفة هذه السيارة، مع أني لم أشاهدها، لأني أعرف نظيرها وأشاهده.
ومثال الخبر الصادق عندي مثل: أن يأتيني رجل ويقول: عندي بعير صفته كذا وكذا، وعليه الوسم الفلاني، فهذا عرفت كيفيته بالخبر الصادق.
إذا طبقنا هذه القاعدة العقلية على صفات الله - عز وجل -، فإنه لا يمكن أن نعرف صفات الله - عز وجل - بهذه الوسائل الثلاث، لأننا لم(3/158)
نشاهد ولم نشاهد نظيرًا ولم نخبر عنه.
ولهذا قال بعض العلماء: إذا قال لك الجهمي: إن الله ينزل إلى السماء الدنيا كيف ينزل؟
فقل: إن الله أخبرنا أنه ينزل ولم يخبرنا كيف ينزل، فعلينا أن نؤمن بما بلغنا وأن نمسك عمَّا لم يبلغنا. ونظير ذلك قول مالك - رحمه الله - حين سأله سائل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟ فأطرق الإمام مالك برأسه تعظيمًا لهذا السؤال وتحملًا وتحسبًا له حتى علاه الرحضاء - أي العرق - ثم رفع رأسه وقال قولته الشهيرة التي تعتبر ميزانًا لجميع الصفات قال له: " الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة ".
فكل من سأل عن كيفية صفة من صفات الله قلنا له: أنت مبتدع فوظيفتك أن تؤمن بما بلغك وتسكت عمَّا لم يبلغك.
الركن الثاني: الإيمان بالملائكة
الملائكة: جمع ملك وأصل (ملك) كما يقول النحويون الذين يحللون ألفاظ اللغة العربية يقولون: أصله (مألك) ، ثم زحزت الهمزة إلى مكان اللام وقدمت اللام فصار (ملأك) ، ثم حذفت الهمزة للتخفيف فصار (ملك) لماذا؟ قالوا: لأن ملائكة مأخوذة من (ألالوكة) وهي الرسالة والهمزة في (ألالوكة) مقدمة على اللام.(3/159)
فالملائكة إذن هم الرسل كما قال الله تعالى: {جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا} .
وإذا أردنا أن نعرفهم نقول: هم عالم غيبي خلقهم الله - عز وجل - من نور: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} يقومون بأمر الله، {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} .
والإيمان بالملائكة أحد أركان الإيمان الستة، فهذا مرتبته في الدين، ومن أنكر الملائكة فهو كافر؛ لأنه مكذب لله، ورسوله، وإجماع المسلمين.
كيف نؤمن بالملائكة؟
نؤمن بهم أولًا: بأسماء من علمنا اسمه منهم، ثانيًا: بأوصاف من علمنا وصفه، ثالثًا: بأعمال من علمنا عملهم.
أولًا: نؤمن بأسماء من علمنا اسمه: كجبريل، وميكائيل، وإسرافيل، ومالك، ورضوان، وملك الموت، ومنكر، ونكير، فجبريل، وميكائيل، وإسرافيل كل منهم موكل بما فيه الحياة:
فجبريل: موكل بما فيه حياة القلوب وهو الوحي؛ لأن جبريل هو الذي جعله الله تعالى وكيلًا في نزول الوحي على الرسل، كما قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} .
وإسرافيل: موكل بالنفخ في الصور الذي به حياة الأجساد عند البعث.(3/160)
وأما: ميكائيل: فهو موكل بالقطر، والنبات، وبالقطر والنبات تكون حياة الأرض.
ولهذا جمع النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بين هؤلاء الملائكة في حديث استفتاح صلاة الليل، فكان يستفتح صلاة الليل بقوله: «اللهم رب جبرائيل، وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» .
وأما (مالك) : فهو موكل بالنار لقوله تعالى عن أهل النار: {وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} .
وأما (رضوان) : فموكل بالجنة واسمه هذا ليس ثابتًا ثبوتًا واضحًا كثبوت مالك لكنه مشهور عند أهل العلم بهذا الاسم، والله أعلم.
وأما السادس (ملك الموت) : وقد اشتهر أن اسمه (عزرائيل) ، لكنه لم يصح، إنما ورد هذا في آثار إسرائيلية لا توجب أن نؤمن بهذا الاسم، فنسمي من وكل بالموت بـ (ملك الموت) كما سماه الله - عز وجل - في قوله: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} .
والسابع والثامن وهما (منكر ونكير) : وهما الملكان اللذان يسألان الميت في قبره، وقد ورد في ذلك حديث في الترمذي ضعفه بعض العلماء وقال: إنه لا يمكن أن يطلق اسم (منكر ونكير) على الملائكة الذين: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} .(3/161)
على كل حال فهما الملكان اللذان يسألان الميت عن ربه، ودينه، ونبيه.
ثانيًا: الإيمان بأوصاف من علمنا وصفه:
علمنا بما صح عن النبي، عليه الصلاة والسلام، أنه رأى جبريل على صورته التي خلقه الله عليها وله ستمائة جناح قد سدَّ الأفق، وهذا يدل على عظمته، ومع ذلك فإنه من الممكن أن يأتي على غير هذه الصفة، كما أتى على صورة رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، كما في الحديث الذي نحن بصدد شرحه، وجاء مرة على صورة دحية الكلبي، ولكن هذا التحول من الصورة التي عليها إلى صورة البشر إنما كان بأمر الله، وقد تمثل جبريل بشرًا لمريم بنت عمران كما قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} .
ومن أهم ما يجب الإيمان به أن نؤمن بأن كل شخص معه ملكان يكتبان عمله كما قال الله تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} رقيب حاضر من هؤلاء الملائكة.
فإياك أيها المسلم أن يكتب هذان الملكان عنك ما يسوؤك يوم القيامة فكل شيء تقوله وتلفظ به فإنه مكتوب عليك: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ} سواء كان لك، أو عليك، أو لغوًا لا لك ولا عليك، فاحرص يا أخي على ضبط اللسان حتى لا يكتب عليك كلمات تسوؤك يوم القيامة. ولما دخلوا على الإمام أحمد - رحمه الله - وكان مريضًا فإذا هو يئن أنين المريض فقيل له: يا أبا(3/162)
عبد الله: " إن طاوسًا - وهو أحد التابعين - يقول: إن أنين المريض يكتب عليه " فأمسك عن الأنين، فأنين المريض قد يكتب عليه، فما يلفظ الإنسان من قول إلا لديه رقيب عتيد يكتب عمله، وإذا كان يوم القيامة يخرج له كتابه: {يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} .
الركن الثالث: الإيمان بالكتب
الركن الثالث وهو الإيمان بكتب الله - عز وجل - التي أنزلها على الرسل، وما من رسول إلا أنزل الله معه كتابًا قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ} وقال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} فما من رسول إلا أنزل الله معه كتابًا يهتدي به الناس.
كيف نؤمن بالكتب؟
الإيمان بالكتب: أن نؤمن بما علمنا اسمه باسمه، والذي علمنا اسمه من هذه الكتب: القرآن، والتوراة، والإنجيل، والزبور، وصحف إبراهيم، وصحف موسى - إن قلنا إنها غير التوراة - وما لم نعلم اسمه نؤمن به إجمالًا؛ لأن الله تعالى لا يضيع خلقه بل سينزل عليهم الكتب ليبين لهم الحق، هذا من حيث الإيمان بالكتب.(3/163)
أما من حيث قبول ما جاء فيها من خبر، فيجب أن نقبل كل ما جاء في هذه الكتب من الخبر، ولكن لا يعني أن نقبل كل خبر فيها الآن، لأنها دخلها التحريف والتغيير والتبديل، لكن نقول: إننا نؤمن بكل خبر جاء في التوراة، أو في الإنجيل، أو في الزبور، أو في صحف إبراهيم.
مثال ذلك: في صحف إبراهيم: " لا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى " وعلمنا ذلك من قوله تعالى: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} وقوله تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} .
فما صح من هذه الكتب فإنه يجب علينا أن نقبل خبرة بدون تفصيل هذا بالنسبة للأخبار.
أما بالنسبة للأحكام - أي ما في الكتب المنزلة من الأحكام - ففيه تفصيل: فما كان في القرآن فإنه يلزمنا التعبد به، وما كان في الكتب السابقة نظرنا إن كان مخالفًا لشريعتنا فإننا لا نعمل به، لا لأنه باطل، بل هو حق في زمنه، ولكننا لا يلزمنا العمل به؛ لأنه نُسخ بشريعتنا، وإن وافق شريعتنا فإننا نعمل به؛ لأن شريعتنا أقرته وشرعته، وما لم يكن في شرعنا خلافه ولا وفاقه فإن العلماء قد اختلفوا في ذلك فمنهم من قال: هو شرع لنا. ومنهم من قال: ليس بشرع لنا.
فالذين قالوا: إنه شرع لنا استدلوا بمثل قوله تعالى:(3/164)
{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} واستدلوا كذلك بأن ما سبق من الشرائع لولا أن فيه فائدة لكان ذكره نوعًا من العبث، والراجح: أننا نعمل به.
مثال ما يخالف شريعتنا كقوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} .
فاليهود حرم الله عليهم كل ذي ظفر مثل الإبل، وكذلك كل ذي رجل غير مشقوقة أي ما لها أصابع ولا فرق بعضها من بعض فهو حرام عليهم، ومن البقر والغنم حرم الله عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما، أو الحوايا أو ما اختلط بعظم. فهذا منسوخ بشريعتنا، فإن الله تعالى قد أحل لنا ذلك.
وأما مثال ما وافق شريعتنا فكثير مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ومثل قوله تعالى الذي أشرنا إليه سابقًا: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} وأمثلة ذلك كثيرة.
وأما ما لم يرد شرعنا بخلافه فمثاله الأخذ بقرينة الحال: كحكم سليمان بين المرأتين المتنازعتين، حيث دعا بالسكين ليشقه بينهما فوافقت إحداهما وامتنعت الأخرى فحكم به للتي امتنعت مع أنها هي الصغرى؛ لأن امتناعها دليل على أنها أمه، وهذا لم يرد مثله في شرعنا بعينه، وإن كان قد(3/165)
ورد ما يدل على اعتبار القرائن من حيث الجملة. ولكن القول الراجح فيه: أنه شرع لنا، وأننا نعمل به لما ذكرنا من الدليل من القرآن.
الركن الرابع: الإيمان بالرسل
الإيمان بالرسل أحد أركان الإيمان الستة، والرسل ينقسمون إلى قسمين رسل من البشر، ورسل من الملائكة قال الله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} والمراد بالرسول هنا جبريل وهو رسول ملكي، وقال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ} والمراد به محمد، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو رسول بشري لكن المراد بقولنا: الإيمان بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، المراد بالرسل هنا البشر لأن الرسول الملكي داخل في قولنا: وَمَلَائِكَتِهِ.
الرسول البشري تعريفه عند جمهور أهل العلم: " أنه من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه " وأول الرسل نوح - عليه الصلاة والسلام - وآخرهم محمد، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لقوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} والدليل على أن محمدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاتمهم قوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} .
فإن قلت: هل آدم رسولٌ أم لا؟ .(3/166)
فالجواب: أنه ليس برسول لكنه نبي، كما جاء في الحديث الذي أخرجه ابن حبان في صحيحه «أن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن آدم: أنبي هو؟ قال: " نعم نبي مكلم» . ولكنه ليس برسول والدليل قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} وقوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في حديث الشفاعة: «إن الناس يذهبون إلى نوح فيقولون: أنت أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض» . وهذا نص صريح بأن نوحًا أول الرسل.
كيف نؤمن بالرسل؟
الإيمان بالرسل أن نؤمن بأسماء من علمنا اسمه منهم، وأن نؤمن بكل خبر أخبروا به، وأن نؤمن بأنهم صادقون فيما قالوه من الرسالة، أما من لم نعرف اسمه منهم فنؤمن به إجمالًا، فإننا لم نعرف أسماء جميع الرسل لقوله تعالى: {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} .
وأحكام الرسل السابقة من ناحية إلزامنا بها، أو لا، فالقول فيها كالقول في أحكام الكتب.
فإن قال قائل: كيف نجمع بين كون محمد، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خاتم النبيين وبين ما صح به الحديث من نزول عيسى بن مريم في آخر الزمان؟
فالجواب: أن عيسى - عليه السلام لا ينزل على أنه رسول؛ لأن رسالته التي بعث بها كانت سابقة قبل رسالة النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولأنه إذا نزل فلا يأتي بشرع من عنده، ولكنه يجدد شرع النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبهذا يزول الإشكال بين كون محمد، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خاتم النبيين وبين نزول عيسى بن مريم آخر الزمان.(3/167)
الركن الخامس: الإيمان باليوم الآخر
:
الإيمان باليوم الآخر: وسمي يومًا آخرًا لأنه لا يوم بعده، فإن للإنسان أحوالًا أولها العدم؛ لقوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} ثم يصير حملًا، ثم يكون عاملًا في الدنيا، وحاله في الدنيا أكمل من حاله أثناء الحمل، ثم ينتقل إلى الحال الرابعة وهي: البرزخ وحاله في البرزخ أكمل من حاله في الدنيا، ثم ينتقل إلى الحال الخامسة وهي اليوم الآخر وحاله في هذه المرحلة أكمل المراحل السابقة.
وبيان ذلك أن الإنسان في بطن أمه لا شك أنه ناقص عن حاله في الدنيا قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} فصار بعد خروجه من بطن أمه عنده العلم، والسمع، والبصر، والعمل، وأحواله في هذه الدنيا ليست على الصفاء دائمًا بل فيها صفاء وكدر، وتعب وراحة، وجور وعدل، وصالح وفاسد، يقول الشاعر:
فيوم علينا ويوم لنا ... ويومٌ نساء ويومٌ نسر
وهي بلا شك حينئذ تكون حياة ناقصة؛ لأنه ما من لذة فيها إلا وهي منغصة كما قال الشاعر:
لا طيب للعيش ما دامت منغصة ... لذاته بادكار الموت والهرم
فأنت الآن شاب وقوي لكن سيأتيك أحد أمرين: إما الموت، وإما(3/168)
الهرم، فحياة الدنيا منغصة ولهذا سميت الدنيا وهي من الدناءة، ومن الدنو أيضًا، فهي دنيئة بالنسبة للآخرة، وهي أيضًا دنية لنقصانها عن مرتبة الآخرة، وهي دنيا لأنها سابقة للآخرة فهي أدنى منها.
وحاله في البرزخ أكمل حالًا منه في الدنيا؛ لأن حاله مستقرة، فإذا كان من أهل الخير فهو منعم في قبره، يفتح له في قبره مد البصر، ويفرش من الجنة، ويفتح له باب إلى الجنة، ولا ينال هذا في الدنيا، أما في الآخرة فيعطى الكمال المطلق بالنسبة للإنسان حياة كاملة لا يمكن أن تنسب إليها حياة الدنيا بأي وجه من الوجوه وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى بعد ذلك.
كيف نؤمن باليوم الآخر؟
الإيمان باليوم الآخر أن نؤمن بأن الناس سوف يبعثون ويجازون على أعمالهم، وأن نؤمن بكل ما جاء في الكتاب والسنة من أوصاف ذلك اليوم، وقد وصف الله تعالى ذلك اليوم بأوصاف عظيمة ولنأخذ منها وصفًا واحدًا قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} وأوصاف هذا اليوم الدالة على هوله وعظمته كثيرة في الكتاب والسنة.
ولا يقتصر الإيمان باليوم الآخر على الإيمان بهذا اليوم الذي يكون بعد البعث، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في عقيدته الواسطية: (من الإيمان باليوم الآخر: الإيمان بكل ما أخبر به النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مما يكون بعد الموت) .
أولًا: فتنة القبر:
وأول شيء يكون بعد الموت فتنة القبر فإن الناس يفتنون - أي يختبرون(3/169)
- في قبورهم فما من إنسان يموت سواء دفن في الأرض، أو رمي في البر، أو أكلته السباع، أو ذرته الرياح، إلا ويفتن هذه الفتنة فيسأل عن ثلاثة أمور: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ .
فأما المؤمن فيقول: ربي الله - جعلنا الله منهم - وديني الإسلام، ونبيي محمد، فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي، وحينئذ يفسح له في قبره مد البصر، ويفرش له فراش من الجنة، ويفتح له باب إلى الجنة فيأتيه من روحها ونعيمها، وهذه الحال بلا شك أكمل من حال الدنيا.
أما إذا كان كافرًا أو منافقًا فإنه إذا سئل من ربك؟ ما دينك؟ ومن نبيك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته.
وتأمل ماذا تدل عليه كلمة " هاه هاه "؟ فإنها تدل على أن هذا المجيب كأنه يتذكر شيئًا يبحث عنه ولكن يعجز عن استحضاره، وكون الإنسان يتذكر شيئًا ويعجز عن استحضاره أشد ألمًا من كونه لا يدري عنه بالكلية، فلو سئلت عن شيء وأنت لا تعلم عنه فقلت: لا أدري. فهذا نقص بلا شك، لكن لا يوجب حسرة، لكن لو أنت سئلت عن شيء وكنت تعلمه ثم عجزت عنه فإن ذلك حسرة، ولهذا يقول: " هاه هاه " كأنه يتذكر شيئًا " لا أدري سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته "، فيضرب بمرزبة من حديد فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الثقلين - (الإنس والجن) -، ولو سمعها لصعق، وقد ورد في صفة هذه المرزبة أنه لو اجتمع عليها أهل منى ما أقلوها - والعياذ بالله -.
هذه الفتنة يجب الإيمان بها؛ لأن الإيمان بها من الإيمان باليوم الآخر فإن قلت: كيف يكون الإيمان بها من الإيمان باليوم الآخر وهي في الدنيا؟ فالجواب: أن الإنسان إذا مات فقد قامت قيامته.(3/170)
ثانيًا: عذاب القبر ونعيمه:
ومما يدخل في الإيمان باليوم الآخر الإيمان بعذاب القبر ونعيم القبر ودليل ذلك قوله تعالى: {كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ومحل الدلالة قوله: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ} حال توفّيهم: {سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ} وهم وإن كانوا لم يدخلوا الجنة التي عرضها السماوات والأرض لكن دخلوا القبر الذي فيه نعيم الجنة.
وقال تعالى أيضًا: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} وهذا يكون إذا بلغت الروح الحلقوم وهذا هو نعيم القبر بل إن الإنسان يبشر بالنعيم قبل أن تخرج روحه يقال لروحه: اخرجي أيتها النفس المطمئنة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان فتفرح الروح بذلك وتخرج خروجًا سهلًا ميسرًا.
وأما السنة فإن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أخبر في أحاديث كثيرة بما يدل على أن الإنسان ينعم في قبره، وقد أشرنا إلى شيء منها.
وأما عذاب القبر فثابت أيضًا في الكتاب والسنة، فمن القرآن قال الله - تبارك وتعالى - في آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}(3/171)
فقوله: {يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} هذا قبل أن تقوم الساعة: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} وكان هؤلاء يشحون بأنفسهم لا يخرجونها، لأنهم يبشرون بالعذاب - والعياذ بالله -، فترتد الأرواح لا تريد أن تخرج من أجسادها هربًا مما أنذرت به: {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} .
ووجه الدلالة من قوله: {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ} لأن (أل) هنا للعهد الحضوري لقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} أي اليوم الحاضر وهو يوم وفاة هؤلاء الظالمين.
وقال تعالى: {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} .
وكلنا نقول في الصلاة: (أعوذ بالله من عذاب جهنم ومن عذاب القبر) ، فعذاب القبر ثابت بالقرآن، والسنة، والإيمان به من الإيمان باليوم الآخر.(3/172)
هل العذاب في القبر على البدن أو على الروح؟
العذاب في القبر على الروح في الأصل وربما يتصل بالبدن، ومع ذلك فإن كونه على الروح لا يعني أن البدن لا يناله منه شيء بل لا بد أن يناله من هذا العذاب أو النعيم شيء وإن كان غير مباشر.
واعلم أن العذاب والنعيم في القبر على عكس العذاب أو النعيم في الدنيا، فإن العذاب أو النعيم في الدنيا على البدن، وتتأثر به الروح، وفي البرزخ يكون النعيم أو العذاب على الروح، ويتأثر به البدن.
فلو قال لنا قائل: كيف تقولون: إن القبر يضيق على الإنسان الكافر حتى تختلف أضلاعه، ونحن لو كشفنا القبر لوجدنا أن القبر لم يتغير، وأن الجسد لم يتغير أيضًا؟
فالجواب على هذا أن نقول: إن عذاب القبر على الروح في الأصل، وليس أمرًا محسوسًا على البدن، فلو كان أمرًا محسوسًا على البدن، لم يكن من الإيمان بالغيب، ولم يكن منه فائدة، لكنه من الأمور الغيبية المتعلقة بالأرواح، والإنسان قد يرى في المنام وهو نائم على فراشه أنه قائم، وذاهب وراجع، وضارب ومضروب، وربما يرى وهو على فراشه نائم أنه قد سافر إلى العمرة، وطاف وسعى، وحلق أو قصر، ورجع إلى بلده، وجسمه على الفراش لم يتغير.
فأحوال الروح ليست كأحوال البدن.
ثالثًا: البعث:
ومما يدخل في الإيمان باليوم الآخر البعث فالله - سبحانه وتعالى - يبعث الأجساد يوم القيامة حفاة عراة غرلًا. حفاة ليس عليهم نعال ولا خفاف: أي ليس عليهم لباس رجل، عراة: ليس عليهم لباس بدن، غرلًا: أي(3/173)
غير مختونين. وفي بعض الأحاديث: (بهمًا) أي ليس معهم مال، بل كل واحد وعمله.
والبعث هنا إعادة وليس تجديدًا، كما قال تعالى: {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} وقال تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} ، ولأنه لو كان خلقًا جديدًا لكان الجسد الذي يعمل السيئات في الدنيا سالمًا من العذاب، ويؤتى بجسد جديد فيعذب، وهذا خلاف العدل، فالنص والعقل قد دل على أن البعث ليس تجديدًا ولكنه إعادة، ولكن يبقى النظر كيف تكون إعادة، والإنسان ربما يموت، فتأكله السباع، ويتحول من اللحم إلى الدم في الحيوان الآكل وروث وما أشبه ذلك؟ .
فيقال: إن الله على كل شيء قدير يقول للشيء: كن فيكون، فيأمر الله هذه الأجساد التي تفرقت وأكلت وطارت بها الرياح أن تعود فتعود، وهذا ينبني على القاعدة التي سبق أن قررناها وهي: " أن الواجب على الإنسان في الأمور الخبرية الغيبية هو التسليم ".
وقد أوردت عائشة - رضي الله عنها - إشكالًا على قول النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يحشر الناس حفاة عراة غرلًا فقالت: الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟ فقال: الأمر أعظم من أن يهمهم ذلك» . فإن في ذلك اليوم لا ينظر أحد إلى أحد لأن الله تعالى يقول: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} حتى(3/174)
الإنسان يذهل عن أنسابه وأقاربه: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} .
رابعًا: دنو الشمس من الخلائق:
ومن الإيمان باليوم الآخر أن نؤمن بأن الشمس تدنو من الخلائق بمقدار ميل، والميل يحتمل أن يكون ميل المكحلة، ويحتمل أنه المسافة من الأرض، وسواء كان ميل المكحلة أو ميل المسافة فإن الشمس تكون قريبة من الرءوس.
فإن قلت: كيف يمكن هذا ونحن الآن حسب ما نعلم أن هذه الشمس لو دنت عما كانت عليه الآن بمقدار شبر واحد لأحرقت الأرض، فكيف يمكن أن تدنو من الخلائق يوم القيامة بمقدار ميل؟
فالجواب: أن وظيفة المؤمن - وهذه قاعدة يجب أن تبنى عليها عقيدتنا - فيما ورد من أخبار الغيب القبول والتسليم وألا يسأل عن كيف؟ ولم؟ لأن هذا أمر فوق ما تتصوره أنت فالواجب عليك أن تقبل وتسلم وتقول: آمنا وصدقنا بأن الشمس تدنو من الخلائق يوم القيامة بمقدار ميل. وما زاد على ذلك من الإيرادات فهو من البدع، ولهذا لما سئل الإمام مالك رحمه الله عن استواء الله كيف استوى؟ قال: السؤال عنه بدعة، هكذا أيضًا كل أمور الغيب السؤال عنها بدعة وموقف الإنسان منها القبول والتسليم.
أما الجواب الثاني بالنسبة لدنو الشمس من الخلائق يوم القيامة فإننا نقول: إن الأجسام تبعث يوم القيامة لا على الصفة التي عليها في الدنيا من النقص وعدم التحمل بل هي تبعث بعثًا كاملًا تامًّا، ولهذا يقف الناس(3/175)
يوم القيامة يومًا مقداره خمسون ألف سنة لا يأكلون ولا يشربون، وهذا أمر لا يحتمل في الدنيا فتدنو الشمس منهم وأجسامهم قد أعطيت من القوة ما يتحمل دنوها - ويشهد لهذا ما ذكرناه من الوقوف خمسين ألف سنة لا يحتاجون إلى طعام ولا شراب، وأن أهل الجنة ينظر الواحد منهم إلى ملكه مسيرة ألف عام ينظر أقصاه كما ينظر أدناه ولا يمكن هذا في الدنيا، فالأجسام يوم القيامة لها شأن آخر غير شأنها في هذه الدنيا.
خامسًا: محاسبة الخلائق على أعمالهم:
ومما يدخل في الإيمان باليوم الآخر أن تؤمن بأن الخلائق يحاسبون على أعمالهم، وقد سمى الله يوم القيامة يوم الحساب؛ لأنه اليوم الذي يحاسب الإنسان فيه على عمله.
ولكن هل الحساب حساب مناقشة كما يحاسب التاجر تاجرًا آخر بالفلس والهللة؟
الجواب: لا، لكنه حساب فضل وإحسان وكرم بالنسبة للمؤمن فإن الله - سبحانه وتعالى - يحاسب المؤمن فيخلو به ويضع كنفه عليه أي ستره ويقرره بذنوبه فيقول له: عملت كذا في يوم كذا حتى يقر ويعترف، فإذا أقر واعترف قال الله - سبحانه وتعالى - له: " إني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ".
وكلنا لا يخلو من الذنوب في هذه الدنيا ذنوب باطنة تتعلق بالقلوب، وذنوب ظاهرة تتعلق بالأبدان، لكن لا يراها الناس، فقد تشاهد الرجل ينظر بعينه نظرًا محرمًا وأنت تظنه ينظر نظرًا حلالًا ما تدري ولهذا قال الله(3/176)
تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} خائنة الأعين أمر يعلم بالحس، لكن لا يعلمه أحد، من يعلم أن هذه العين تنظر نظرًا محرمًا؟ " {وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} .
هذا باطن فالله - سبحانه وتعالى - يقول: " سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ".
أما الكفار والعياذ بالله فإنهم لا يحاسبون هذا الحساب بل يقررون بأعمالهم ويقول: عملتم كذا وكذا فإذا أنكروا تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم، وأرجلهم بما كانوا يعملون، حتى الجلود فإنها تشهد فيقولون لجلودهم: {لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا} قالوا: {أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} يقرر الكفار بأعمالهم ويخزون بها والعياذ بالله وينادى على رؤوس الأشهاد: {هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} فانظر الفرق بين حساب المؤمن وحساب الكفار.
هل ينجو من الحساب أحدٌ؟
الجواب: نعم ينجو منه عالم لا يحصيهم إلا الله قال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن»(3/177)
«أمته عرضت عليه وإن منهم سبعين ألفًا يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب وهم الذي لا يرقون ولا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون» .
سادسًا: الوزن:
مما يدخل في الإيمان باليوم الآخر: الوزن قال الله تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} وقال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} فتوزن الأعمال يوم القيامة بميزان له كفتان توضع في إحداهما الحسنات وفي الأخرى السيئات، والذي يوزن في ظاهر النصوص العمل قال الله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} وقال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كلمتان حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم» . فيوضع هذا الميزان للخلائق وتوزن فيه الأعمال.
ولكن هنا أسئلة على الميزان:
أولًا: كيف توزن الأعمال وهي أوصاف للعاملين وحركات وأفعال؟
فالجواب: أن القاعدة في ذلك كما أسلفنا أن علينا أن نسلم ونقبل ولا حاجة لأن نقول: كيف؟ ولم؟ ومع ذلك فإن العلماء - رحمهم الله - قالوا في جواب هذا السؤال: إن الأعمال تقلب أعيانًا فيكون لها جسم يوضع في الكفة فيرجح أو يخف، وضربوا لذلك مثلًا بما صح به الحديث عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أن الموت يجعل يوم القيامة على صورة كبش فينادى أهل الجنة يا أهل»(3/178)
«الجنة فيطلعون ويشرئبون وينادى يا أهل النار: فيطلعون ويشرئبون ما الذي حدث؟ فيؤتي بالموت على صورة كبش فيقال: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم هذا الموت، فيذبح الموت بين الجنة والنار ويقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار: خلود فلا موت» . ونحن نعلم جميعًا أن الموت صفة، ولكن الله تعالى يجعله عينًا قائمة بنفسه وهكذا الأعمال.
ثانيًا: هل الميزان واحد أم متعدد؟
اختلف العلماء في ذلك على قولين
وذلك لأن النصوص جاءت بالنسبة للميزان مرة بالإفراد ومرة بالجمع مثل قوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} ، وكذلك في قوله: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} . وأفرد في مثل قوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثقيلتان في الميزان» فقال بعض العلماء: إن الميزان واحد، وإنه جمع باعتبار الموزون أو باعتبار الأمم فهذا الميزان توزن به أعمال أمة محمد، وأعمال أمة موسى، وأعمال أمة عيسى، وهكذا فجمع الميزان باعتبار تعدد الأمم، والذين قالوا: إنه متعدد بذاته قالوا: لأن هذا هو الأصل في التعدد ومن الجائز أن الله تعالى يجعل لكل أمة ميزانًا، أو يجعل للفرائض ميزانًا، وللنوافل ميزانًا.
والذي يظهر والله أعلم أن المراد أن الميزان واحد، لكنه متعدد باعتبار الموزون.
سابعًا: نشر الكتب:
ومما يدخل في الإيمان باليوم الآخر نشر الدواوين وهي الكتب، تنشر بين الناس فيختلف الناس في أخذ هذه الكتب، منهم من يأخذها باليمين،(3/179)
ومنهم من يأخذها بالشمال، وقد أشار الله إلى ذلك في سورة الحاقة فقال: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} فالمؤمن يقول للناس: خذو كتابي اقرءوه مستبشرًا مسرورًا به، والكافر والعياذ بالله يتحسر ويقول: {يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} .
هذا الكتاب قد كتب فيه ما يعمله الإنسان كما قال تعالى: {كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ} ، ويقال للإنسان: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} .
قال بعض العلماء: والله لقد أنصفك من جعلك حسيبًا على نفسك.
فيجب علينا أن نؤمن بهذه الكتب، وأنها توزع يوم القيامة عن اليمين وعن الشمال، لكن في سورة الانشقاق يقول الله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ} ، فكيف يمكن الجمع بين قوله: {كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ} ، وقوله: {كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ} ؟(3/180)
فالجواب: أنه يأخذه بشماله، لكن تخلع الشمال إلى الخلف من وراء ظهره، والجزاء من جنس العمل، فكما أن هذا الرجل جعل كتاب الله وراء ظهره أعطي كتابه يوم القيامة من وراء ظهره جزاءً وفاقًا.
ثامنًا: الحوض:
ومما يدخل في الإيمان باليوم الآخر أيضًا الحوض. حوض النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعلنا الله - ممن يشرب منه - هذا الحوض حوض واسع، طوله شهر وعرضه شهر، وآنيته كنجوم السماء في كثرتها وحسنها، وماءه أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، وأطيب من رائحة المسك، ومن يشرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبدًا، ويستمد الحوض ماؤه من الكوثر، وهو نهر أعطيه النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في الجنة يصب منه ميزابان على الحوض فيبقى الحوض دائمًا مملوءًا، ويرده المؤمنون من أمة الرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويشربون منه، ويكون هذا الحوض في عرصات يوم القيامة عند شدة الحر وتعب الناس وهمهم وغمهم، فيشربون من هذا الحوض الذي لا يظمئون بعد الشرب منه أبدًا.
تاسعًا: الشفاعة:
ومما يدخل في الإيمان باليوم الآخر كذلك الشفاعة، وهي نوعان: أحدهما: خاص بالنبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والثاني: عام له ولسائر النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين.
أما الخاص بالنبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أولًا: الشفاعة العظمى التي تكون للقضاء بين الناس، وذلك أن الناس يوم القيامة يلحقهم من الكرب، والهم، والغم، ما لا يطيقون، لأنهم يبقون خمسين ألف سنة، والشمس من فوق رءوسهم، والعرق قد يلجم بعضهم، فيجدون همًّا، وغمًّا، وكربًا، فيطلبون من يشفع لهم إلى(3/181)
الله - عز وجل - فينجيهم من ذلك، فيلهمهم الله - عز وجل - أن يذهبوا إلى آدم الذي هو أبو البشر فيأتون إليه ويسألونه الشفاعة، ولكنه يعتذر بأنه عصى ربه في أكله من الشجرة التي حرم الله عليه أن يأكل منها.
ولكن قد يقول قائل: إن أكله من الشجرة ذنب قد تاب منه وبعد أن تاب اجتباه الله وهداه قال الله تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} .
فالجواب: نعم الأمر كذلك، وآدم بعد الخطيئة خير منه قبلها؛ لأن الله تعالى قال بعد أن حصلت الخطيئة والتوبة: {اجْتَبَاهُ رَبُّهُ} فجعله من المجتبين المصطفين، ولكنه يعتذر - أي من الشفاعة - بأكله من الشجرة؛ لأن مقام الشفاعة مقام عظيم يحتاج أن يكون الشافع فيه نزيهًا من كل شيء؛ لأنه شافع يريد أن يتوسط لغيره، فإذا كان مذنبًا كيف يمكن أن يكون شافعًا؟
فيذهب الناس إلى نوح ويطلبون منه الشفاعة، ولكنه يعتذر بأنه سأل ما ليس له به علم، وكان قد سأل الله تعالى أن ينجي ابنه الكافر من الغرق: {فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} فيعتذر.
فيأتون إلى إبراهيم خليل الرحمن، عليه الصلاة والسلام، فيعتذر بأنه كذب ثلاث كذبات، وهو ليس في الواقع كذبًا، ولكنه تورية، لكن(3/182)
التورية ظاهرها الحقيقة والمراد خلاف الظاهر فمن أجل هذا تشبه الكذب من بعض الوجوه، ولكمال أدب إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، مع الله هاب أن يشفع وقد كذب هذه الكذبات في ذات الله - عز وجل -.
فيأتون إلى موسى بعد ذلك، فيعتذر بأنه قتل نفسًا لم يؤمر بقتلها، والنفس التي قد أشار إلى أنه قتلها بغير حق: أنه خرج عليه الصلاة والسلام، فوجد رجلين يقتتلان هذا من شيعته، وهذا من عدوه، أحدهما من بني إسرائيل، والثاني من الأقباط، فاستغاثه الذي من شيعته - وهو الإسرائيلي - على الذي من عدوه وهو القبطي، وكان موسى عليه الصلاة والسلام رجلًا شديدًا، فوكز القبطي، فقضى عليه، فهذه هي النفس التي قتلها قبل أن يؤمر بقتلها، وهذا جعله يعتذر عن الشفاعة للناس.
ثم يأتون إلي عيسى، عليه الصلاة والسلام - وهو الذي ليس بينه وبين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رسول - فلا يعتذر، لكنه يعترف بفضل النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقول لهم: اذهبوا إلي محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فيأتون إلى النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيطلبون منه الشفاعة، فيشفع إلى - عز وجل-، فينزل الله -عز وجل - للقضاء بين العباد، وهذه الشفاعة تسمى العظمى، وهي من المقام المحمود الذي قال الله فيه: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} . فيشفع النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إلى الله فينزل الله - تعالى - للقضاء بين عباده ويريحهم من هذا الموقف.
ثانيًا: من الشفاعة الخاصة بالرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أن يشفع لأهل الجنة أن يدخلوا الجنة، فأهل الجنة إذا عبروا الصراط ووصلوا إلى باب الجنة وجدوه(3/183)
مغلقًا، فيشفع النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إلى الله بأن يفتح لهم باب الجنة وقد أشار الله إلى هذه الشفاعة فقال تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} ، ولم يقل: حتى إذا جاءوها فتحت، كما قال في أهل النار: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ} ، أما في أهل الجنة فقال: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ} لأنها لا تفتح إلا بعد الشفاعة.
أما الذي تكون فيه - الشفاعة - عامًا، له ولسائر النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، فهما شفاعتان:
الأولى: الشفاعة في أهل النار من المؤمنين أن يخرجوا من النار.
والثانية: الشفاعة فيمن استحق النار من المؤمنين أن لا يدخل النار.
شروط الشفاعة:
ولابد للشفاعة من شروط ثلاثة:
أولها: رضا الله عن الشافع.
ثانيها: رضاه عن المشفوع له.
ثالثها: إذنه.
ودليلها قوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} وقوله تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} وقوله تعالى:(3/184)
{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} ، وقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} .
ولا تنفع هذه الشفاعة المشركين؛ لأن الله تعالى لا يرضاها، ويشترط رضا الله عن المشفوع له، ولهذا أصنام المشركين التي يتعلقون بها، ويقولون: إنها شفعاؤنا عند الله لا تنفعهم ولا تشفع لهم، بل لا يزدادون بها إلا حسرة؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} ، فتحصب آلهتهم في النار فيزدادون والعياذ بالله غمًّا إلى غمهم.
عاشرًا: الصراط:
ومما يدخل في الإيمان باليوم الآخر: الصراط، وهو عبارة عن جسر ممدود على النار يمر الناس عليه على قدر أعمالهم، منهم من يمر كلمح البصر، ومنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح، على حسب أعمالهم كل من كان أسرع في الدنيا لقبول الحق والعمل به كان على الصراط أسرع عبورًا، وكلما كان الإنسان أبطأ لقول الحق والعمل به كان على الصراط أبطأ، فيمر أهل الجنة على هذا الصراط فيعبرون، أما الكفار فلا يمرون عليه؛ لأنه يصار بهم إلى النار والعياذ بالله، فيأتونها وردًا عطاشًا.
الحادي عشر: دخول الجنة أو النار:
وهي آخر المراحل حيث يدخل أهل الجنة الجنة، ويدخل أهل النار النار، والسؤال: هل الجنة والنار موجودتان الآن؟ .
فالجواب: نعم، موجودتان ودليل ذلك من الكتاب والسنة: أما(3/185)
الكتاب فقال الله تعالى في النار: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} والإعداد بمعنى التهيئة، وفي الجنة قال الله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} ، والإعداد أيضًا التهيئة.
وأما السنة فقد ثبت في الصحيحين وغيرهما في قصة كسوف الشمس أن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قام يصلي فعرضت عليه الجنة والنار، وشاهد الجنة حتى هم أن يتناول منها عنقودًا، ثم بدا له ألا يفعل، عليه الصلاة والسلام، وشاهد النار ورأى فيها عمرو بن لحي الخزاعي يجر قصبه في النار والعياذ بالله - يعني معاءه - قد اندلقت من بطنه، فهو يجرها والعياذ بالله في نار جنهم؛ لأن هذا الرجل أول من أدخل الشرك على العرب، فكان له كفل من العذاب الذي يصيب من بعده، ورأى امرأة تعذب في النار في هرة حبستها حتى ماتت، فلا هي أطعمتها، ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض، ورأى فيها صاحب المحجن - والمحجن: عصا محنية الرأس - وصاحب المحجن سارق يسرق الحجاج بمحجنه، فإن فطن له الحاج قال: هذا المحجن انشبك بغير إرادتي، وإن لم يفطن له أخذه ومشى، فرأى النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في النار هذا الرجل يعذب بمحجنه، والعياذ بالله.
فدل ذلك على أن الجنة والنار موجودتان الآن.
هل الجنة والنار تفنيان أم تبقيان؟
الجنة والنار تبقيان، فالجنة تبقى أبد الآبدين، والنار تبقى كذلك أبد الآبدين، ودليل ذلك من القرآن كثير: بالنسبة للجنة قال الله - تعالى -:(3/186)
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} .
وفي النار ذكر الله التأبيد في ثلاث آيات من القرآن:
الأولى: في سورة النساء: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} .
الثانية: في سورة الأحزاب قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} .
والثالثة: في سورة الجن وهي قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} .
وبعد هذا النص الصريح في القرآن، يتبين أن ما قيل من أن النار تفنى قول ضعيف جدًا لا يعول عليه؛ لأنه لا يمكن أن نعول على قول صرح القرآن بخلافه، بل ولا يحل لنا ذلك.
فالنار والجنة موجودتان الآن، وتبقيان، ولا تفنيان أبدًا.(3/187)
الركن السادس: الإيمان بالقدر خيره وشره
الإيمان بالقدر خيره وشره هو الركن السادس، وهو محل عراك بين العلماء وآرائهم، ومحل عراك بين النفس المطمئنة والنفس الأمارة بالسوء.
الإيمان بالقدر معناه أن تؤمن بأن الله - عز وجل - قد قدر كل شيء يكون إلى ما لا نهاية له، وأنه قدره عن علم، ولهذا قال العلماء: إن مراتب الإيمان بالقدر أربع مراتب:
المرتبة الأولى: العلم ومعناها: أن تؤمن بأن الله تعالى عالم بكل شيء جملة وتفصيلًا فيما يتعلق بفعله الذي يفعله - عز وجل - بنفسه كالخلق، والإحياء، والإماتة، وإنزال المطر وغير ذلك، أو يتعلق بفعل المخلوقين، كأقوال الإنسان، وأفعاله، بل حتى أفعال الحيوان كلها معلومة لله - عز وجل - قبل وقوعها، وأدلة هذه المرتبة كثيرة منها قوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} ، ومنها قوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} ، ومنها قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} .
ونتكلم عن قوله: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} كلمة مَا اسم موصول، وكل اسم موصول فهو مفيد للعموم، فكل شيء في البر الله -(3/188)
سبحانه وتعالى - يعلمه، وكذلك كل شيء في البحر فالله - سبحانه وتعالى - يعلمه.
{وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا} أي ورقة في أي شجرة في أي مكان في رأس جبل، أو في بطن وادٍ، أو في روضة من بقاع الأرض، كل شجرة يسقط منها ورقة فالله تعالى يعلم هذه الورقة، وكل ورقة تنبت فهو عالم بها من باب أولى.
وقوله: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ} ، في هذه الجملة حرف زائد وهو مَنِ، فإنه زائد في الإعراب، لكنه يزيد في المعنى: وهو تأكيد العموم المستفاد من وقوع النكرة في سياق النفي؛ لأن النكرة في سياق النفي تفيد العموم، فإذا جاءت " من " زادته توكيدًا.
{وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ} ، أي حبة، سواء كانت كبيرة، أو صغيرة في ظلمات الأرض إلا يعلمها الله - عز وجل -، وكلمة ظُلُمَاتٍ جمع تدل على أن للأرض ظلمات الأرض: وهي ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة الطين، وظلمة السحاب، وظلمة المطر، وظلمة الغبار، فهذه ظلمات ست وقد يكون هناك ظلمات أخرى لم نعلمها، وهذه الظلمات لا تحول بين الله - عز وجل - وبين هذه الحبة، بل هو - سبحانه وتعالى - يعلمها ويراها - جلا وعلا -.
{وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ} ، وما من شيء إلا وهو إما رطب وإما يابس:(3/189)
{إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} ، وهو اللوح المحفوظ، وهذا الكتاب إنما كان عن علم من الله - عز وجل -.
وعلم الله تعالى بعمل الإنسان موجود في كتاب الله - عز وجل - قال- تعالى -: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} ، فهو يعلم السر والنجوى، والسر: هو ما يسره الإنسان في قلبه، ويحدث به نفسه، وأما النجوى: فهي ما يتناجى به مع صاحبه. وكل هذا معلوم لله - عز وجل -.
وهذا العلم من الله - عز وجل - لم يسبقه جهل، ولا يلحقه نسيان، ولهذا لما قال فرعون لموسى: {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} قال: {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى لَا يَضِلُّ} ، أي يجهل، {وَلَا يَنْسَى} ما كان معلومًا، بينما علم البشر محفوف بهاتين الآفتين، جهل سابق، ونسيان لاحق، {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} .
المرتبة الثانية: الكتابة ومعناها: أن تؤمن بأن الله تعالى كتب مقادير كل شيء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، كتب مقادير كل شيء إلى أن تقوم الساعة، كل شيء في الوجود، أو يكون إلى العدم فإنه مكتوب قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.
فالله عز وجل لما خلق القلم، قال له: اكتب قال: رب وماذا أكتب؟(3/190)
قال: اكتب ما هو كائن، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة. فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
ودليل هذه المرتبة من الكتاب قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} ، وقوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} .
قال أهل العلم: والكتابة لها أنواع:
النوع الأول: الكتابة العامة وهي الكتابة في اللوح المحفوظ.
النوع الثاني: الكتابة العمرية (نسبة إلى العمر) وهي التي تكون على الإنسان وهو في بطن أمه فإن الإنسان كما قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: حدثنا رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو الصادق المصدوق فقال: «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، فوالذي نفسي بيده إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها» ؛ لأن الكتاب الأول هو العمدة.
ولكن نحن إذا قرأنا هذا الحديث، فإنه لا ينبغي أن ننسى أحاديث أخرى تبشر الإنسان بالخير، صحيح أن هذا الحديث مروع أن يقول(3/191)
القائل: كيف يعمل الإنسان بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، ثم يخذل - والعياذ بالله - فيعمل بعمل أهل النار؟ لكن هناك ولله الحمد نصوصًا أخرى، تفرج عن المؤمن كربته فيما يتعلق بهذا الحديث، من ذلك: قال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار قالوا: يا رسول الله أفلا تنكل على الكتاب وندع العمل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق الله له، فأما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة "، ثم تلا قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} . إذن هذه بشارة من الرسول، عليه الصلاة والسلام، للإنسان أنه إذا عمل بعمل أهل السعادة فهو دليل على أنه كتب من أهل السعادة فليستبشر.
وروى البخاري - رحمه الله - في صحيحه «أن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان في غزاة، وكان معهم رجل شجاع مقدام، فقال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذات يوم: " إن هذا من أهل النار " مع شجاعته وإقدامه، فعظم ذلك على الصحابة وشق عليهم، فقال أحد الصحابة: والله لألزمن هذا، فلزمه فأصاب هذا الرجل الشجاع سهم من العدو فغضب، ثم وضع سيفه على صدره واتكأ عليه، حتى خرج من ظهره، فقتل نفسه، فجاء الرجل إلى النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال له: أشهد أنك رسول قال: وماذا؟ قال: إن الرجل الذي قلت لنا إنَّه من أهل النار فعل كيت وكيت، ثم قال رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار» . أسأل الله أن يخلص سريرتي وسرائركم، فالسريرة لها شأن عظيم في توجيه الإنسان، فالقلب هو الموجه للإنسان، وهو الأصل، لذلك يجب أن نلاحظ القلوب،(3/192)
وأن نمحصها ونغسلها من درنها، فقد يكون فيها عرق خبيث، يتظاهر الإنسان بعمل جوارحه بالصلاح، لكن في القلب هذا العرق الفاسد الذي يطيح به في الهاوية في النهاية.
يقول بعض السلف: (ما جاهدت نفسي على شيء مجاهدتها على الإخلاص) ، الذي ليس بشيء عند كثير منا هذا يحتاج إلى جهاد عظيم، لو كان في الإنسان شيء يسير من الرياء لم يكن مخلصا تمام الإخلاص وربما يكون هذا الشيء اليسير من الرياء في قلبه - ربما يكون - سببا لهلاكه في آخر لحظة.
ذكر ابن القيم - رحمه الله - آثار الذنوب وعقوبتها، ومن جملة ما ذكر أن رجلا منهمكا في الربا، جعل أهله يلقنونه الشهادة، فكلما قالوا له: قل: لا إله إلا الله. قال: العشرة أحد عشر؛ لأنه ليس في قلبه غير ذلك من المعاملات المحرمة التي رانت على قلبه حتى طبع عليه في آخر لحظة - والعياذ بالله -.
ولما حضرت الوفاة الإمام أحمد - رحمه الله - وناهيك به علما وعبادة وورعا وزهدا لما حضرته الوفاة سمعوه إذا غشي عليه يقول: (بعد بعد) ، فلما أفاق قيل له: يا أبا عبد الله ما قولك: (بعد بعد) قال: رأيت الشيطان يعض على أنامله يقول: (فتني يا أحمد) ، فأقول له: (بعد بعد) أي: لم أفتك ما دامت الروح في البدن، فالإنسان على خطر، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها» .
نعود إلى ما سبق من الكتابة العمرية، فالإنسان يكتب عليه وهو في بطن(3/193)
أمه، بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد.
النوع الثالث: الكتابة الحولية - أي عند كل حول: وهي التي تكون ليلة القدر، فإن ليلة القدر يكتب فيها ما يكون في السنة كما قال الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} ، يفرق أي يبين ويفصل، وقال - عز وجل -: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} ، أي مقدر فيها ما يكون في تلك السنة.
النوع الرابع: كتابة مستمرة كل يوم وهي كتابة الأعمال فإن الإنسان لا يعمل عملا إلا كتب، إما له وإما عليه، كما قال تعالى: {كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} ، قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} ، لكن هذه الكتابة تختلف عن الكتابات السابقة، فالكتابات السابقة كتابة لما يفعل، وهذه الكتابة كتابة لما فعل، ليكون الجزاء عليه.
النوع الخامس: كتابة الملائكة التي تكون عند أبواب المساجد يوم الجمعة، فإن أبواب المساجد يوم الجمعة يكون عليها ملائكة يكتبون الأول فالأول، فمن راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن، ومن راح في(3/194)
الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الخامسة فكأنما قرب بيضة، ومن جاء بعد مجيء الإمام فليس له أجر التقدم؛ لأن الإمام سبقه، وإذا حضر الإمام طويت الصحف، وحضرت الملائكة يستمعون الذكر.
المرتبة الثالثة: المشيئة ومعناها: أن تؤمن بأن كل كائن وجودا أو عدما فهو بمشيئة الله، وقد أجمع المسلمون على هذا في الجملة فكل المسلمين يقولون: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
فكل شيء واقع بمشيئة الله، أما ما كان بفعل الله فهو بمشيئته لا إشكال فيه، كالخلق، والرزق، والإحياء، والإماتة، وكذلك ما كان من فعل المخلوق فهو أيضا بمشيئة الله، ودليل ذلك من الكتاب قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} ، والاقتتال فعل العبد فجعله الله - عز وجل - بمشيئته وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} ، وقال تعالى في آية أخرى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ} .
وقال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ، إذا فأفعالنا واقعة بمشيئة الله.
أما الدليل العقلي فأن يقال:(3/195)
هل الخلق ملك لله؟
فالجواب: نعم.
هل يمكن أن يكون في ملك الله ما لا يريد؟
الجواب: لا يمكن، فما دام الشيء ملكه فلن يكون في ملكه ما لا يريد. إذا فكل ما كان في ملكه فهو بإرادته وبمشيئته ولا يكون في ملكه ما لا يشاء أبدا، إذ لو كان في ملكه ما لا يشاء لكان ملكه ناقصا، وكان في ملكه ما يقع بدون اختياره وبدون علمه.
المرتبة الرابعة: الخلق ومعناها: الإيمان بأن الله - سبحانه وتعالى - خلق كل شيء، فنؤمن بعموم خلق الله تعالى لكل شيء ودليل ذلك قال الله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} ، وقال تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} ، وقال تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ، وقال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} .
والآيات في ذلك واضحة كثيرة: أن كل شيء مخلوق لله - عز وجل - حتى فعل الإنسان مخلوق لله - تعالى - وإن كان باختياره وإرادته لكنه مخلوق لله - تعالى -، وذلك أن فعل الإنسان ناشئ من أمرين هما: الإرادة الجازمة، والقدرة التامة.(3/196)
مثال ذلك: أمامك حجر زنته عشرون كيلو، فقلت لك: احمل هذا الحجر فقلت: لا أريد حمله، فهنا انعدمت إرادتك على حمل الحجر، قلت لك ثانية: احمل هذا الحجر، فقلت: نعم سمعا وطاعة، ثم أردت أن تحمله فعجزت عن حمله، فهذا أنت لم تحمله لعدم القدرة، قلت لك ثالثة: احمل هذا الحجر فقلت: سمعا وطاعة وحملته فوق رأسك فهنا حملته لقدرتك وإرادتك.
فأفعالنا كلها التي نفعلها ناشئة عن إرادة جازمة، وقدرة تامة، والذي خلق هذه القدرة والإرادة هو الله - عز وجل -، فلو أن الله جعلك مشلولا ما قدرت، ولو صرف همتك عن الفعل ما فعلت. ولهذا قيل لأعرابي: بم عرفت ربك؟ قال: بنقض العزائم وصرف الهمم. فأحيانا يكون الإنسان عنده عزيمة أكيدة على الشيء، ثم تنتقض هذه العزيمة بدون أي سبب. وأحيانا يخرج الإنسان يريد الذهاب لأحد أصدقائه، ثم ينصرف ولا يذهب بدون أي سبب، لكن الله - عز وجل - يلقي في قلبه انصراف الهمة فيرجع.
لهذا نقول: إن أفعال الإنسان مخلوقة لله، لأنها ناشئة عن إرادة جازمة وقدرة تامة، وخالق هذه الإرادة، والقدرة هو الله - سبحانه وتعالى -.
ووجه كون الله هو الخالق لهذه الإرادة والقدرة؛ لأن الإرادة والقدرة وصفان للمريد والقادر خالقه هو الله، وخالق الموصوف خالق للوصف، وبهذا اتضح الأمر وانجلى بأن أفعال الإنسان مخلوقة لله - عز وجل.
وهاهنا بحوث في باب القدر؛ لأن هذا الباب كما قلنا في أول الكلام عليه باب شائك مشكل:(3/197)
المبحث الأول: لله - عز وجل - مشيئة، وله إرادة ومحبة
قال الله تعالى: {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} . وقال تعالى: {اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} .
أولا: هل المشيئة والإرادة شيء واحد؟ أم يفترقان؟ الجواب: بل يفترقان.
ثانيا: هل الإرادة والمحبة شيء واحد، يعني أن الله إذا أحب شيئا أراده، وإذا أراد شيئا فقد أحبه؟ أو يفترقان؟ الجواب: بل يفترقان.
فعندنا ثلاثة أشياء: المشيئة، والمحبة، والإرادة، وهذه الثلاثة ليست بمعنى واحد، بل تختلف.
المشيئة: تتعلق بالأمور الكونية سواء كانت محبوبة لله أو مكروهة له، أي إن الله تعالى قد يشاء الشيء وهو لا يحبه، وقد يشاء الشيء وهو يحبه.
فالمعاصي كائنة بمشيئة الله، وهو لا يحبها، والفساد في الأرض كائن بمشيئة الله، والله لا يحب الفساد، والكفر كائن بمشيئة الله، والله لا يحب الكفر.
فالمشيئة إذا تتعلق بالأمور الكونية فيشاء الله كونا ما لا يحبه وما يحبه.
المحبة: تتعلق بالأمور الشرعية، فلا تكون إلا فيما يبيحه الله، فالمعاصي غير محبوبة لله، وأما الطاعات فهي محبوبة له سبحانه، سواءً حصلت أم لم تحصل.
الإرادة: ولها جانبان: جانب تكون فيه بمعنى المشيئة، وجانب تكون(3/198)
فيه بمعنى المحبة، فإذا كانت بمعنى المحبة فهي الإرادة الشرعية، وإذا كانت بمعنى المشيئة فهي الإرادة الكونية.
وإذا كانت الإرادة شرعية وهي التي تكون بمعنى المحبة، فإنه لا يلزم منها وقوع المراد مثل قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} ، فهذه إرادة شرعية بمعنى المحبة، لأنها لو كانت بمعنى المشيئة لوقعت التوبة على جميع الناس، ونحن نشاهد أن من الناس من يتوب ومنهم من لا يتوب.
وأما الإرادة الكونية التي بمعنى المشيئة فيلزم فيها وقوع المراد، فإذا أراد الله شيئا كونا وقع ولا بد وهذه الإرادة كالمشيئة، تكون فيما يحبه وفيما لا يحبه، لكن إذا أراد الله شيئا بهذا المعنى وقع ولا بد، مثل قوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} . فإنه كقوله: {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} ، سواء بسواء ومثل قوله: {إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} ، فإنها بمعنى يشاء أن يغويكم، وليست بمعنى يحب أن يغويكم؛ لأن الله تعالى لا يحب أن يغوي عباده.
ويمكن أن تتفق الإرادتان - الشرعية والكونية - في حادث واحد، مثل إيمان أبي بكر فهذا مراد لله شرعا وكونا؛ لأن الله يحبه فهو مراد له شرعا، ولأنه وقع فهو مراد له كونا.
وتنتفي الإرادتان مثل (كفر المؤمن) فهو غير مراد لله شرعا؛ لأنه يكرهه، وغير مراد لله كونا؛ لأنه لم يقع.
ومثال الإرادة الكونية دون الشرعية مثل (كفر أبي جهل وأبي لهب) ، فقد(3/199)
تعلق بكفرهما الإرادة الكونية؛ لأنه وقع الكفر دون الشرعية؛ لأن الله لا يحب الكافرين.
ومثال الإرادة الشرعية دون الكونية، مثل (إيمان فرعون) فهو مراد شرعا؛ لأن الله - عز وجل - أرسل إليه موسى ودعاه، لكن الله لم يرده كونا، فلذلك لم يقع ولم يؤمن فرعون.(3/200)
المبحث الثاني: كراهية الله - سبحانه - للكفر مع إرادته له
:
إذا كان الله - سبحانه وتعالى - يكره الكفر فكيف يريده مع أنه لا أحد يُكْرِه الله - عز وجل -؟ فالجواب: أن المراد نوعان:
النوع الأول: مراد لذاته: وهو المحبوب، فالشيء المحبوب يريده من يريده لذاته كالإيمان، فالإيمان مراد لله كونا وشرعا؛ لأنه مراد لذاته.
النوع الثاني: المراد لغيره بمعنى أن الله تعالى يقدره لا لأنه يحبه، ولكن لما يترتب عليه من المصالح فهو مراد لغيره، فيكون من هذه الناحية مشتملا على الحكمة وليس فيه إكراه.
مثال ذلك: الكفر مكروه لله - عز وجل - ولكن الله يقدره على العباد؛ لأنه لولا الكفر لم يتميز المؤمن من الكافر، ولم يكن المؤمن محلا للثناء؛ لأن كل الناس مؤمنون، وأيضا لو لم يقع الكفر فلم يكن هناك جهاد فمن يجاهد المؤمن إذن، ولو لم يقع الكفر ما عرف المؤمن قدر نعمة الله عليه بالإسلام، ولو لم يقع الكفر، وكان الناس كلهم مسلمين ما كان للإسلام فضل، ولا ظهر له فضل، ولو لم يقع الكفر لكان خلق النار عبثا وقد أشار الله تعالى إلى هذا المعنى في قوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} ، فتبين أن المراد الكوني - الذي يكون مكروها لله - يكون مرادا لغيره.(3/201)