تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} 1.
وافتتح سورة الصافات بهذا التوحيد، وأقسم عليه فقال: {وَالصَّافَّاتِ صَفّاً، فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً، فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً، إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ، رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} 2.
وافتتح سورة الزمر بقوله: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ، إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ، أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} 3.
وفي هذه السورة 4 من بيان التوحيد والأمر به وبيان الشرك والنهي عنه، ما يستضيء به قلب المؤمن، وفي السورة وبعدها 5 كذلك،/وفي سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} 6 /7 نفي الشرك في العبادة إلى آخرها؛ وفي سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} 8 توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، وهذا ظاهر لمن نور الله قلبه بفهم القرآن.
وفي خاتمة المصحف: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، مَلِكِ النَّاسِ، إِلَهِ النَّاسِ} 9، يبين/أنه ربهم/10 وخالقهم ورازقهم والمتصرف فيهم بمشيئته وإرادته؛ وهو ملكهم، الذي نواصي الملوك بيده، وجميع الخلق في قبضته، يعز هذا ويذل هذا،
__________
1 سورة طه الآية "8".
2 سورة الصافات الآية "1-5".
3 سورة الزمر الآية "1-3".
4 أي سورة الزمر.
5 أي سورة غافر.
6 سورة الكافرون الآية "1".
7 كذا في المطبوع. وفي "أ": وسورة الإخلاص {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} .
8 سورة الإخلاص الآية "1".
9 سورة الناس الآيات "1-3".
10 في المطبوع: "أن ربهم ... " وعليه يستشكل وجود خبر له.(2/647)
ويهدي من يشاء، ويضل من يشاء، {لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} 1، وهو معبودهم الذي لا يستحق/ أن/2 يعبد سواه. فهذه إشارة إلى ما في القرآن.
وأما السنة، ففيها من أدلة التوحيد ما لا يمكن حصره، كقوله في حديث معاذ الذي في الصحيحين: "فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا" 3، وفي حديث ابن مسعود الصحيح: "من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار" 4، والحديث الذي في المعجم للطبراني 5: "إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله عز وجل" 6.
ولما قال له رجل: ما شاء الله وشئت" قال: "أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده" 7. وأمثال هذا لا يحصى كما تقدم ذكره.
__________
1 سورة الرعد الآية "41".
2 في المطبوع: لأن.
3 تقدم تخريجه في ص 618.
4 صحيح مسلم بشرح النووي 2/454، الإيمان، باب من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة. من حديث جابر بن عبد الله. صحيح البخاري مع الفتح 1/274، العلم، باب من خص بالعلم قوما دون قوم. "دون الجزء الثاني" سنن ابن ماجه 2/98، الديات، باب التغليظ في قتل مسلم ظلما، "دون الجزء الثاني" وبزيادة قوله: "ولم يتندَّ بدم حرام".
5 تقدمت ترجمته في ص 337.
6 أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 10/159، وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح، غير ابن لهيعة، وهو حسن الحديث.
7 مسند الإمام أحمد 1/214، بلفظ: "أجعلتني والله عدلا ... " من حديث ابن عباس. ومثله عند البيهقي في السنن الكبرى 3/217. المغني عن حمل الأسفار للعراقي 3/158، قال العراقي: رواه النسائي في الكبرى، وابن ماجه بإسناد حسن. عمل اليوم والليلة للحافظ أحمد بن محمد الدينوري ابن السني "364هـ"، بعناية بشير محمد عيون، مكتبة دار البيان، دمشق، ط/1، 1407هـ- 1987م. ص 314، رقم"667". تخريج أحاديث إحياء علوم الدين، للعراقي "806هـ" وابن السبكي 771هـ" والزبيدي "1205هـ"، استخراج أبي =(2/648)
وأدلة التوحيد في الكتاب أبين من الشمس في نحر الظهيرة، لكن لمن له فهم ثاقب، وعقل كامل، وبصر ناقد؛ وأما الأعمى فلا يبصر للشمس ضياء، ولا للقمر نورا.
ثم إن شيخنا –رحمه الله- كان يدعو الناس إلى الصلوات الخمس، والمحافظة عليها حيث ينادى لها. وهذا من سنن الهدى، ومعالم الدين، كما دل على ذلك الكتاب والسنة1. ويأمر بالزكاة والصيام والحج، ويأمر بالمعروف ويأتيه، ويأمر الناس أن يأتوه ويأمروا به، وينهي عن المنكر ويتركه، ويأمر الناس بتركه والنهي عنه.
وقد تتبع العلماء مصنفاته 2 –رحمه الله- من أهل زمانه وغيرهم، فأعجزهم أن يجدوا فيها ما يعاب –وأقواله في أصول الدين مما اجمع عليه أهل السنة والجماعة
__________
= عبد الله محمود بن محمد الحداد، دار العاصمة للنشر بالرياض، ط/1، 1408هـ. 1987م، 4/1784-1785 رقم "2828".
والحديث يفيد بأن التسوية بين الخالق والمخلوق في العطف بالواو، من الشرك الأصغر، ويجب تجنبه إلى ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم فيقال: "ما شاء الله ثم شئت". فمشيئة الله فوق كل مشيئة. ومشيئة العبد تابعة لمشيئة الله. {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29] .
وفيه أيضا رد على القدرية والمعتزلة نفاة القدر، الذين يثبتون للعبد مشيئة تخالف ما أراده الله سبحانه وتعالى من العبد.
1 الآيات في الأمر بالمحافظة على الصلوات كثيرة، منها: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] .
وما جاء في السنة مما يفيد كون الصلوات من سنن الهدى: قول عبد الله بن مسعود: من سره أن يلقى الله غدا مسلما، فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم ... " الحديث.
صحيح مسلم بشرح النووي 5/162، المساجد، باب صلاة الجماعة من سنن الهدى. سنن أبي داود 1/373، الصلاة، باب في التشديد في ترك الجماعة. سنن النسائي، 2/108-109، الإمامة، باب المحافظة على الصلوات حيث ينادى بهن. سنن ابن ماجه 1/140، مساجد، باب المشي إلى الصلاة. مسند الإمام أحمد 1/382، 414-415، 455.
2 تقدم ذكر مصنفات شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في ص 291.(2/649)
وأما في الفروع والأحكام، فهو حنبلي المذهب، لا يوجد له قول مخالف لما ذهب إليه الأئمة الأربعة، بل ولا خرج عن أقوال أئمة مذهبه.
على أن الحق لم يكن محصورا في المذاهب الأربعة كما تقدم، ولو كان محصورا فيهم لما كان لذكر المصنفين في الخلاف، وأقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم، مما خرج عن أقوال الأربعة فائدة.
والحاصل أن هذا المعترض المجادل، مع جهله، انعكس عليه أمره، فقبل قلبه ما كان منكرا، ورد ما كان معروفا، فأعداء الحق وأهله من زمن قوم نوح إلى أن تقوم الساعة، هذه حالهم وطريقتهم، فمن حكمة الرب أنه ابتلى عباده المؤمنين، الذين يدعون الناس إلى ما دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم من الدين، بثلاثة أصناف من الناس، وكل صنف له أتباع.
الصنف الأول: من عرف الحق فعاداه حسدا وبغيا، كاليهود، فإنهم أعداء الرسل والمؤمنين، كما قال تعالى: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} 1 {وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 2.
الصنف الثاني: الرؤساء أهل الأموال، الذين فتنتهم دنياهم وشهواتهم، لأنهم يعلمون أن الحق يمنعهم من كثير مما أحبوه وألفوه من شهوات الغني، فلم يعبئوا بداعي الحق، ولم يقبلوا منه.
الصنف الثالث: الذين نشئوا في باطل، وجدوا عليه أسلافهم، يظنون أنهم على حق، وهم على باطل، فهؤلاء لم يعرفوا إلا ما نشئوا عليه، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
__________
1 سورة البقرة: الآية "90".
2 سورة البقرة: الآية "146".(2/650)
وكل هذه الأصناف الثلاثة وأبتاعهم، هم أعداء الحق من لدن زمان نوح إلى أن تقوم الساعة.
فأما الصنف الأول: فقد عرفت ما قال الله فيهم 1.
وأما الصنف الثاني: فقد قال/الله/2 فيهم: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} 3.
وقال عن الصنف الثالث: 4 {بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} 5 {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} 6 وقال: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ، فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} 7.
وهؤلاء هم الأكثرون كما قال تعالى: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ} 8.
وقال تعالى في سورة الشعراء عقب كل قصة: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} 9 وقال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} 10، وقال تعالى في قصة نوح عليه السلام: وَمَا آمَنَ مَعَهُ
__________
1 انظر ص 650.
2 لفظ الجلالة ساقط في المطبوع.
3 سورة القصص: الآية "50".
4 في "أ" وفي المطبوع بدأت الآية بقوله: "إنا وجدنا" وهو خطأ.
5 سورة الشعراء: الآية "74".
6 سورة الزخرف: الآية "22".
7 سورة الصافات: الآية "69، 70".
8 سورة الصافات: الآية "71".
9 سورة الشعراء الآيات: "8، 9، 67، 68، 103، 104، 131، 122، 139، 140، 158، 159، 174، 175، 190، 191.
10 سورة يوسف الآية "103".(2/651)
إِلا قَلِيلٌ} 1، وقال:/تعالى/2: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ} 3.
فيا من نصح نفسه، ما ذكر الله في كتابه من ضلال الأكثرين لئلا تغتر بالكثرة من المنحرفين عن صراط المستقيم، الذي هو سبيل المؤمنين؛ وتدبر ما ذكر الله من أحوال أعداء المرسلين، وما فعل الله بهم، قال تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ، كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} الآية4، وقال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} 5. والآيات في هذا المعنى كثيرة تبين أن أهل الحق أتباع الرسل هم الأقلون عددا، الأعظمون عند الله قدرا، وأن أعداء الحق هم الأكثرون في كل مكان وزمان،/حكمة بالغة/6.
وفي الأحاديث الصحيحة ما يرشد إلى ذلك، كما في الصحيح: أن ورقة بن نوف قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا ليتني كنت فيها جذعا، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك، قال: "أو مخرجي هم" قال: نعم، لم يأت/رجل/7 قط بمثل ما جئت به إلا عودي"8.
__________
1 سورة هود الآية "40".
2 ساقطة في المطبوع.
3 سورة الأنعام الآية "116".
4 سورة غافر الآية "4، 5".
5 سورة غافر الآية "83".
6 ساقطة في المطبوع.
7 كذا عند البخاري ومسلم وأحمد. وفي "أ" والمطبوع: أحد.
8 هذا جزء من حديث طويل لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، في قصة بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، صحيح البخاري مع الفتح 1/30-31، بدء الوحي، باب "3". صحيح مسلم بشرح النووي 2/556-559، الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسند الإمام أحمد 6/233، السنن الكبرى للبيهقي 7/51.(2/652)
فإذا كان هذا حال أكثر الخلق مع المرسلين، مع قوة عقولهم وفهومهم وعلومهم، فلا تعجب مما جرى في هذه الأوقات، ممن هو مثلهم في عداوة الحق وأهله، والصد عن سبيل الله مع ما في أهل هذه الأزمان من الرعونات والجهل وفرط الغلو في الأموات، كما قال تعالى عن أسلافهم وأشباههم: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ، أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ، إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} 1.
فاحتج سبحانه على بطلان دعوتهم غيره بأمور: منها: {أنهم لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} 2. فالمخلوق لا يصلح أن يقصد بشيء من خصائص الإلهية، لا دعاء ولا غيره، "والدعاء مخ العبادة" 3.
الثاني: كون الذين يدعونهم من دون الله أمواتا، غير أحياء، والمبيت لا يقدر على شيء فلا يسمع الداعي، ولا يستجيب له، ففيها معنى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ، إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} 4، وفي هذه الآية أربعة أمور تبطل دعوة غير الله، وتبين ضلالة من دعا غير الله فتدبرها.
والأمر الثالث وفي هذه الآية قوله: {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} 5 ومن لا يدري متى يبعث، لا يصلح أن يُدعى من دون الله، لا دعاء عبادة، ولا دعاء مسألة.
ثم بين تعالى ما أوجبه على عباده من إخلاص العبادة لله، وأنه هو المألوه والمعبود
__________
1 سورة النحل: الآية "20، 21، 22".
2 سورة النحل الآية "20".
3 تقدم تخريجه في ص 309.
4 سورة فاطر: الآية "13، 14".
5 سورة النحل الآية "21".(2/653)
دون كل من سواه، فقال: {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} 1، وهذا هو/ الدين/2 الذي بعث الله به رسله، وأنزله به كتبه، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 3.
ثم بين تعالى حال أكثر الناس مع قيام الحجة عليهم، وبطلان ما هم عليه من الشرك بالله، وبيان ما افترض عليهم من توحيده فقال: {فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} 4. فذكر سببين حائلين بينهم وبين قبول الحق الذي دعوا إليه، فالأول: عدم الإيمان باليوم الآخر.
والثاني: التكبر، وهو حال الأكثرين، كما/قد/5 عرف من حال الأمم.
الذين بعث/ الله/6 إليهم رسوله، كقوم نوح وقوم هود وقوم صالح وغيرهم، وكيف جرى منهم وما حل بهم. وكحال كفار قريش والعرب وغيرهم، مع النبي صلى الله عليه وسلم، لما بعثه الله بالتوحيد والنهي عن الشرك والتنديد. فقد روى مسلم وغيره من حديث عمرو ابن عبسة 7، أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم لما قال له: " أنا نبي"، قال: وما نبي قال: "أرسلني الله"؛ قال: بأي شيء أرسلك قال: "بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحد الله ولا يشرك به شيء" قال: فمن معك على هذا قال: "حر وعبد" ومعه يومئذ أبو بكر وبلال8.
__________
1 سورة النحل الآية "22".
2 ساقطة في المطبوع.
3 سورة الأنبياء الآية "25".
4 سورة النحل الآية "22".
5 ساقطة في المطبوع.
6 لقظ الجلالة ساقطة في المطبوع.
7 هو عمرو بن عبسة بن خالد بن حذيفة، أو نجيح السلمي البجلي، الإمام الأمير، أحد السابقين، كان من أمراء الجيش يوم وقعة اليرموك. مات بعد الستين. انظر: الاستيعاب 3/1192، أسد الغابة 14/251، سير الأعلام 2/456، تهذيب التهذيب 8/69.
8 صحيح مسلم بشرح النووي 6/362-363، صلاة المسافرين، باب إسلام عمرو بن عبسة مسند الإمام أحمد 4/114.(2/654)
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء، الذين يصلحون إذا أفسد الناس" 1. وفسر الغرباء بأنهم النزاع من القبائل 2 فلا يقبل الحق من القبيلة إلا نزيعة الواحد والاثنان، ولهذا قال بعض السلف: لا تستوحش من الحق لقلة السالكين، ولا تغتر بالباطل لكثرة الهالكين. وعن بعضهم: ليس العجب ممن هلك كيف هلك، إنما العجب ممن نجا كيف نجا 3. فإذا كان الأمر كذلك فلا تعجبوا من كثرة المنحرفين الناكبين عن الحق المبين، المجادلين في أمر الدين، كما قال تعالى: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّار} 4.
فأعظم منة على من رزقه الله معرفة الحق، الاعتصام بكتابه، والتمسك بتوحيده وشرعه، مع كثرة المخالف والمجادل بالباطل و {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً} 5.
وصلى الله على /محمد/6 سيد المرسلين وإمام المتقين وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا، والحمد لله رب العالمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
__________
1 تقدم تخريجه في ص 254.
2 هكذا جاء في رواية ابن ماجه في سننه 2/376. وقد تقدم كلام ابن الأثير والزمخشري في معنى "النزاع" في ص 261.
3 تقدم هذا الكلام في ص 298.
4 سورة غافر الآية "35".
5 سورة الكهف الآية "17".
6 زيادة في المطبوع.(2/655)
الرسالة الخامسة والأربعون: في ترجمة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وما قام به ودعى إليه
مدخل
...
{الرسالة الخامسة والأربعون} 1
{في ترجمة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وما قام به ودعا إليه}
قال جامع الرسائل:
وله 2 أيضا –قدس الله روحه ونور ضريحه ورحمه رحمة الأبرار، وأدخله جنات تجري تحتها الأنهار- رسالة جواب سؤال عن حقيقة حال الشيخ محمد بن عبد الوهاب –رحمه الله تعالى- ودعوته الناس إلى توحيد الله تعالى، وترك عبادة ما سواه، وبيان معتقده وما كان عليه.
فأجاب –رحمه الله- بهذا الجواب المفيد، والكلام الفائق الرائق السديد، الكاشف عن حال الشيخ الإمام، وعلم الهداة الأعلام، ناهج منهج الصواب، المتمسك بالسنة والكتاب، الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وما كان عليه من حسن الاعتقاد، والقيام بتجديد هذه الدعوة بالجد والاجتهاد، ومصادمة من خرج عنها، بالبراهين والحجة والجهاد.
وقد أجاد وأفاد –رحمه الله- بهذه النبذة المفيدة اليسيرة، في بيان حال الشيخ في معتقده، والفضل والعلم والسيرة. وهذا نص الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، نحمده ونستعينه/ ونتوب إليه/3، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بين يدي
__________
1 في المطبوع جاءت هذه الرسالة في صفحة 378-429 هي الرسالة رقم "75". وجاءت في الدرر السنية 1/183-217. وفي الهداية السنية "الرسالة الرابعة" ص 99-117.
2 هذه المقدمة كلها إلى آخر قوله: "وهذا نص الرسالة" ساقطة في "أ" والمطبوع، مثبتة في "د".
3 زائدة في "د".(2/656)
الساعة بشيرا ونذيرا.
أما بعد: فقد سألت –أرشدك الله- أن أُرسل إليه نبذة مفيدة كاشفة عن حال الشيخ الإمام العالم القدوة، المجدد لما اندرس من دين الإسلام، القائم بنصرة شريعة سيد الأنام، الشيخ محمد بن عبد الوهاب، أحسن الله له المآب وضاعف له الثواب، ويسر له الحساب.
وذكرت –أرشدك الله- أن جهتكم لا يوجد فيها ذلك، وأن عندكم من الطلبة من يتشوق إلى تلك المناهج والمسالك، فكتبت إليه هذه الرسالة، وسودت إليك هذه الكراسة والعجالة، ليعلم الطالب ويتحقق الراغب حقيقة ما دعا إليه هذا الإمام، وما كان عليه من الاعتقاد والفهم التام، ويستبين للناظر فيها ما يبهت به الأعداء، من الأكاذيب والافتراء التي يرومون بها تنفير الناس عن المحجة والسبيل، وكتمان البرهان والدليل، وقد كثر أعداؤه ومنازعوه، وفشا البهت بينهم فيما قالواه ونقلوه، فربما اشتبه على طالب الإنصاف والتحقيق، والتبس عليه واضح المنهج والطريق، فإن استصحب الأصول الشرعية، وجرى على القوانين المرضية؛ عرف أن لكل نعمة حاسدا، ولكل حق جاحدا، ولا يقبل في نقل الأقوال والأحكام إلا العدول الثقاة الضابطين من الأنام.
ومن استصحب هذا، استراح عن البحث فيما ينقل إليه، ويسمع، ولم يلتفت إلى أكثر ما يختلق ويصنع، وكان من أمره على منهاج واضح ومشرع.(2/657)
فصل: نسب الشيخ محمد بن عبد الوهاب ونشأته
...
"فصل"
فأما نسب هذا الشيخ1: فهو الإمام العالم، القدوة البارع، محمد بن عبد الوهاب
__________
1 من المصادر التي ترجمت للشيخ محمد بن عبد الوهاب روضة الأفكار، لابن غنام ص 25-50. عنوان المجد، لابن بشر، 1/6/15. علماء نجد خلال ستة قرون، 1/25-47. الدرر السنية 12/3-25. مشاهير علماء نجد وغيرهم، ص 16. علماء الدعوة، لعبد الرحمن بن عبد اللطيف، ص 6.مثير الوجد في معرفة ملوك نجد، لراشد بن علي جريس ص، 31-32.(2/657)
ابن سليمان بن علي بن محمد بن أحمد بن راشد بن بريد بن محمد بن بريد بن مشرف/ بن عمر بن معضاد بن ريس بن زاحر محمد بن علوي بن وهيب بن قاسم بن موسى بن مسعود بن عقبة بن سنيع بن نهشل بن شداد بن زهير بن إدريس بن مسعود بن طارئة بن عمرو بن ربية بن ساعدة بن ثعلبة بن عقبة بن ملكان بن عدي بن عبد بن مناف بن تميم1/2.
ولد –رحمه الله- سنة خمس عشر بعد المائة والألف من الهجرة النبوية، في بلد /العيينة/3 من أرض نجد، ونشأ بها، وقرأ القرآن بها حتى حفظه وأتقنه قبل بلوغه العشر، وكان حاد الفهم، سريع الإدراك والحفظ، يتعجب أهله من فطنته وذكائه.
وبعد حفظ القرآن اشتغل بالعلم، وجد في الطلب، وأدرك بعض الأرب قبل رحلته لطلب العلم، وكان سريع الكتابة، ربما كتب الكراسة في المجلس.
قال أخوه سليمان4 كان والده يتعجب من فهمه، ويعترف بالاستفادة منه مع صغر سنه.
ووالده هو مفتي تلك البلاد، وجده مفتي البلاد النجدية، لآثاره وتصنيفه وفتاواه تدل على علمه وفقهه، وكان جده إليه المرجع في الفقه والفتوى، وكان معاصرا للشيخ
__________
1 ساقط في "د" والمطبوع.
2 انظر نسبه هذا في: علماء نجد خلال ستة قرون، 1/26. وفيه " ... بن زهير بن شهاب بن ربيعة بن أبي الأسود بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم بن مرد بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار بن سعد بن عدنان".
3 تقدم في ص 35.
4 هو سليمان بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي بن مشرف، أخو الشيخ محمد بن عبد الوهاب –رحمه الله- ولد في بلدة العيينة. كان مخالفا لأخيه الشيخ محمد ولدعوته ومعاد لها، وراد عليها، وله في ذلك: فصل الخطاب في الرد على محمد بن عبد الوهاب. قدم الدريعة عام 1190هـ وبقي فيها حتى توفي "1208هـ".
انظر: ترجمته: علماء نجد خلال ستة قرون 1/302-306.(2/658)
منصور البهوتي1 الحنبلي، خادم المذهب، اجتمع به بمكة.
وبعد بلوغ الشيخ سن الاحتلام، قدمه والده في الصلاة ورآه أهلا للائتمام. ثم طلب الحج إلى بيت الله الحرام، فأجابه والده إلى ذلك المقصد والمرام، وبادر إلى قضاء فريضة الإسلام، وأداء المناسك على التمام. ثم قصد المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، وأقام بها قريبا من شهرين، ثم رجع إلى وطنه قرير العين.
واشتغل بالقراءة في "الفقه" على مذهب الإمام أحمد رحمه الله. ثم بعد ذلك رحل يطلب العلم، وذاق حلاوة التحصيل والفهم، وزاحم العلماء والمشائخ الأخيار، وأتى الإحساء، وهي إذ ذاك آهلة بالمشائخ والعلماء؛ فسمع وناظر وبحث واستفاد، وساعدته الأقدار الربانية بالتوفيق والإمداد. وروى عن جماعة، منهم: الشيخ عبد الله بن إبراهيم النجدي 2 ثم المدني، وأجازه من الطريقين.
وأول ما سمع منه: الحديث المسلسل بالأولية في كتب السماع، بالسند المتصل إلى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
1 هو منصور بن يونس بن صلاح الدين بن حسن، البهوتي الحنبلي، فقيه. صنف "الروض المربع في شرح زاد المستقنع" و"كشاف القناع عن متن الإقناع" وغيرهما. توفي بمصر سنة "1051هـ". معجم المؤلفين، 13/22، الأعلام للزركلي، 7/307.
2 في "د" والمطبوع: فيها. هو عبد الله بن إبراهيم بن سيف من آل سيف الشمري الفرضي النجدي ثم المدني، نزع والده من المجمعة وجاور المدينة وفيها ولد المترجم له، ونشأ بها وقرأ على علمائها، ثم سافر إلى دمشق وقرأ على علمائها، من تلاميذه الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والشيخ محمد بن عبد الرحمن بن عفالق الإحسائي، وابنه الشيخ إبراهين بن عبد الله. وهو صحاب كتاب "العذب الفائض في شرح عمدة الفارض". توفي بالمدينة عام 1140هـ رحمه الله.
انظر ترجمته: علماء نجد خلال ستة قرون، 2/501-504.
انظر ترجمته: علماء نجد خلال ستة قرون، لابن بسام 2/503. وكتاب عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية، للدكتور/ صالح العبود ص 92-96.(2/659)
"الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" 1. وسمع منه مسلسل الحنابلة بسنده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أراد الله/بعبد/2 خيرا استعمله، قالوا: كيف يستعمله؟ قال: يوفقه لعمل صالح قبل موته" 3. وهذا الحديث من ثلاثيات أحمد رحمه الله.
وطالت إقامة الشيخ ورحلته/في/4 البصرة. وقرأ بها كثيرا من الحديث والفقه والعربية، وكتب الحديث والفقه واللغة ما شاء الله في تلك الأوقات.
وكان يدعو إلى التوحيد ويظهره لكثير ممن يخالطه ويجالسه، ويستدل عليه، ويظهر ما عنده من العلم وما لديه؛ كان يقول: إن الدعوة كلها لله، ولا يجوز صرف شيء منها إلى سواه. وربما ذكروا /بمجلسه/5 إشارات الطواغيت، أو شيئا من كرامات الصالحين الذين كانوا يدعونهم ويستغيثون بهم ويلجئون إليهم في المهمات؛ فكان ينهى عن ذلك ويزجر، ويورد الأدلة من الكتاب والسنة ويحذر6، ويخبر أن محبة الأولياء والصالحين، إنما هي متابعتهم في ما كانوا عليه من الهدى والدين، وتكثير
__________
1 صحيح مسلم بشرح النووي 15/83، فضائل، باب رحمته صلى الله عليه وسلم الصبيان والعيال. سنن أبي داود 5/231، الأدب، باب في الرحمة. بلفظ: " ... ارحموا أهل الأرض". سنن الترمذي، 4/285، البر، باب ما جاء في رحمة المسلمين. مسند الإمام أحمد 2/160.
2 كذا عند الترمذي وأحمد وغيرهما. وفي "أ" و"د" والمطبوع: بعبده.
3 سنن الترمذي 4/392، القدر، باب ما جاء أن الله كتب كتابا لأهل الجنة وأهل النار. قال الترمذي: "حديث حسن صحيح". مسند الإمام أحمد، 3/106. المستدرك للحاكم، 1/340.
4 في "د" والمطبوع: بـ.
5 في "د": بمجالسه.
6 وهذا الذي ترجم له في عدة أبواب من كتابه "كتاب التوحيد" كقوله: باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره. باب ما جاء أن سب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين.(2/660)
أجورهم بمتابعتهم على ما جاء به سيد المرسلين1. وأما دعوى المحبة والمودة مع المخالفة في السنة والطريقة، فهي دعوى مردودة غير مسلمة عند النظر والحقيقة2، ولم يزل على ذلك رحمه الله.
ثم رجع إلى وطنه، فوجد والده قد انتقل إلى بلدة حريملا3، فاستقر معه فيها يدعو إلى السنة المحمدية ويبديها، ويناصح من خرج عنها ويفشيها، حتى رفع الله شأنه، ورفع ذكره، ووضع له القبول، وشهد له بالفضل ذووه، من أهل العقول والمنقول. وصنف كتابه المشهور في التوحيد، وأعلن بالدعوة إلى صراط العزيز الحميد، وقرأ عليه هذا الكتاب المفيد، يسمعه كثير ممن لديه من طالب ومستفيد، وشاعت نسخة في البلاد، وطار ذكره في الغور الأنجاد؛ وفاز بصحبته واستفاد من جرد القصد وسلم من الأشر والبغي والفساد، وكثر –بحمد الله- محبوه وجنده؛ وصار معه عصابة من فحول الرجال، وأهل السمت الحسن والكمال، يسلكون معه الطريق، ويجاهدون كل فاسق وزنديق.
__________
1 وهكذا كل محبة حقيقية لا تكون إلا بمتابعة وموافقة ما عليه المحب. وعليه دلالة قوله سبحانه وتعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31] .
2 انظر مدارج السالكين، 3/22، 37-38.
3 حريملا: بضم الحاء، وفتح الراء، تصغير "حرملاء": وهو موضع تلقاء ملهم، حصن لبني غبر، تأخذ من وادي "قران" وتنصرف فيه سيلا وفلاة وحمى وتكون منفعة ملهم، وقران معجم اليمامة 1/317.
وقد انتقل الشيخ عبد الوهاب –والد الإمام محمد بن عبد الوهاب- إلى حريملاء سنة "1139هـ" انظر: معجم اليمامة لابن خميس، 1/318.(2/661)
فصل: حال البلاد في عصره
...
"فصل"
كان أهل عصره ومصره في تلك الأزمان، قد اشتدت غربة الإسلام بينهم، وعفت آثار الدين لديهم، وانهدمت قواعد الملة الحنيفية، وغلب على الأكثرين ما كان عليه أهل الجاهلية، وانطمست أعلام الشريعة في ذلك الزمان، وغلب الجهل والتقليد(2/661)
والإعراض عن السنة والقرآن، وشب الصغير وهو لا يعرف من الدين إلا ما كان عليه أهل تلك البلدان، وهرم الكبير على ما تلقاه عن الآباء والأجداد، وأعلام الشريعة مطموسة؛ ونصوص التنزيل وأصولا لسنة فيما بينهم مدروسة، وطريقة الآباء والأسلاف مرفوعة الأعلام، وأحاديث الكهان والطواغيت/معبورة/1 غير مردودة ولا مدفوعة، قد خلعوا ربقة التوحيد والدين؛ وجدوا واجتهدوا في الاستعانة التعلق على غير الله، من الأولياء والصالحين، والأوثان والأصنام والشياطين، وعلماؤهم ورؤساؤهم على ذلك مقبلون، ومن بحره الأجاج شاربون، وبه راضون؛ وإليه/مدى/2 الزمان داعون قد أعشتهم العوائد والمألوفات، وحبستهم الشهوات والإرادات، عن الارتفاع إلى طلب الهدى من النصوص المحكمات والآيات البينات، بحتجون بما رووه من الآثار الموضوعات، والحكايات المختلفة والمنامات، كما يفعله أهل الجاهلية وغير الفترات، وكثير منهم يعتقد النفع والشر في الأحجار والجمادات، ويتبركون بالآثار والقبور في جميع الأوقات {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} 3 {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} 4، {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} 5.
فأما بلاد نجد، فقد بالغ الشيطان في كيدهم وجدَّ، وكانوا ينتابون قبر زيد بن الخطاب6
__________
1 في المطبوع: مقبولة. وفي "أ": معبور، ومعناه أي: معتبرة. من العبرة، يقال: لا يعبرها، أي لا يعتبر بها. لسان العرب 4/531، مادة "عبر".
2 في "أ": من.
3 سورة الحشر الآية "19".
4 سورة الأنعام الآية "1".
5 سورة الأعراف الآية "33".
6 زيد بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح، أبو عبد الرحمن القرشي الصحابي، أخو أمير المؤمنين عمر وكان أسن منه وأسلم قبله رضي الله عنهما- كانت راية المسلمين عه يوم اليمامة فقتل، فوقعت الراية فأخذها سالم مولى أبي حذيفة.
استشهد سنة "12هـ". الاستعياب 4/58، أسد الغابة 2/285، سير الأعلام 1/297.(2/662)
ويدعونه رغبا ورهبا بفصيح الخطاب1، ويزعمون أنه يقضي لهم الحوائج ويرونه أكبر الوسائل والولائج2، وكذلك عند قبر يزعمون أنه قبر ضرار ابن الأزور3، وذلك كذب ظاهر، وبهتان مزور. وكذلك عندهم نخل فحال ينتابه النساء والرجال، ويفعلون عند أقبح الفعال؛ والمرأة إذا تأخر عنها الزواج، ولم يرغب فيها الأزواج، تذهب إليه فتضمه بيدها وتدعوه برجاء وابتهال، وتقول: يا فحل الفحول، أريد زوجا قبل الحول. وشجرة عندهم تسمى/الطريقة/4 أغراهم الشيطان بها، وأوحى إليهم التعلق عليها، وأنها ترجى/منها/5 والبركة، ويعقلون/ عليها/6 الخرق لعل الولد يسلم من السوء.
وفي أسفل بلدة الدرعية مغارة في الجبل يزعمون أنها/ انفقلت/7 من الجبل، لامرأة تسمى بنت الأمير، أراد بعض الناس أن يظلمها ويضير، فانفلق/لها/8 الغار، ولم يكن له عليها اقتدار. كانوا يرسلون إلى هذا المكان من اللحم والخبز ما يقتات به جند الشيطان.
__________
1 انظر عنوان المجد في تاريخ نجد 1/9-10.
2 وهذا حال القبوريين ومعتقدهم في الأضرحة التي ينتابونها، وذلك جهلا منهم أن هذا الميت في قبره لا حول له ولا قوة.
3 ضرار بن الأزور الأسدي، أحد الأبطال، له صحبة وحديث واحد. عده الذهبي في السير ضمن شهداء أجنادين واليرموك. وكانت أجنادين سنة "13هـ" وقيل: مات بالجزيرة بعد. سير الأعلام، 1/314-315.
4 في "أ": الطرفية.
5 في "د": فيها.
6 ساقطة في "د".
7 في "د": فلقت.
8 ساقطة في المطبوع.(2/663)
وفي بلدتهم رجل يدعي الولاية يسمى تاجا، يتبركون به، ويرجون منه العون والإفراج، وكانوا يأتون إليه ويرغبون فيما عنده من المدد بزعمهم ولديه1، فتخافه الحكام والظلمة، ويزعمون أن له تصرفا وفتكا بمن عصاه وملحمة، مع أنهم/ يحكمون/2 عنه الحكايات القبيحة الشنيعة، التي تدل على انحلاله عن أحكام الملة والشريعة، وهكذا سائر بلاد نجد على ما وصفنا من الإعراض عن دين الله، والجحد لأحكام الشريعة والرد 3.
ومن العجب أن هذه الاعتقادات الباطلة، والمذاهب الضالة، والعوائد الجائرة،/والطرائق/4 الخاسرة، قد فشت وظهرت، وعمت وطمت، حتى بلاد الحرمين الشريفين.
فمن ذلك ما يفعل عند قبر محجوب، وقبة أبي طالب 5، فيأتون قبره بالسماعات والعلامات للاستغاثة عند نزول المصائب، وحلول النواكب. وكانوا/له/6 في غاية التعظيم ولا ما يجب عند البيت الكريم؛ فلو دخل سارق أو غاصب أو ظالم قبر أحدهما، لم يتعرض له أحد، لما يرون له من وجوب التعظيم والاحترام والمكارم.
ومن ذلك ما يفعل عند قبر ميمونة أم المؤمنين –رضي الله عنها- في سَرِف7؛
__________
1 هكذا في جميع النسخ والمطبوع. ويظهر أنه يوجد حذف في الجملة.
2 في "د": يحكو.
3 هكذا كان حال أهل نجد في عهد المصنف، أما الآن فقد صاروا –بفضل الله- دعاة إلى عقيدة التوحيد، وانطمست تلك المعالم الشركية، وقام مقامها مساجد يرفع فيها اسم الله.
4 في "د" "والطريقة" وفي المطبوع "والطوائف".
5 هو عبد المناف "أبو طالب" بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. البداية والنهاية 2/195.
6 في "د": "إليه".
7 سرف: موضع على ستة أميال من مكة، وقيل سبعة وتسعة واثنى عشر، تزوج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة بنت الحارث، وهناك بنى بها وهناك توفيت. معجم البلدان، 3/212.(2/664)
وكذلك عند قبر خديجة1 -رضي الله عنها-، يفعل عند قبرها ما لا يسوغ السكوت عليه2 من مسلم يرجو الله/واليوم/3 الآخر، فضلا عن كونه من المكاسب الدنية/الفاجرة/4. وفيه من اختلاط النساء بالرجال وفعل الفواحش والمنكرات وسوء الأفعال، ما لا يقره/أهل الأديان/5 والكمال. وكذلك سائر القبور المعظمة المشرفة في بلد الله الحرام مكة المشرفة.
وفي الطائف قبر ابن عباس –رضي الله-، يفعل عنده من الأمور الشركية التي تشمئز منها نفوس الموحدين، وتنكرها قلوب عباد الله المخلصين، وتردها الآيات القرآنية، وما ثبت من النصوص عن سيد المرسلين؛ منها:
وقوف السائل عند القبر متضرعا مستغيثا، وإبداء الفاقة إلى معبودهم مستكينا مستعينا، وصرف خالص المحبة التي هي محبة العبودية، والنذر والذبح لمن تحت ذلك المشهد والبنية، وأكثر سوقتهم وعامتهم يلهجون: بالأسواق اليوم على الله وعليك بابن عباس فيستمدون منه الرزق والغوث وكشف الضر والبأس.
__________
= توفيت أم المؤمنين ميمونة –رضي الله عنها- في سرف، كما روى جرير بن حازم، عن أبي فزارة عن يزيد بن الأصم قال: دفنا ميمونة بسرف، في الظلة التي بنى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد كانت حلقت في الحج. نزلت في قبرها أنا وابن عباس.
أخرجه الحاكم في المستدرك 4/31، وصححه وأقره الذهبي. وأورده الذهبي أيضا في سير الأعلام 2/245، عند ترجمته لميمونة –رضي الله عنها- وذكر عن خليفة أن وفاتها في عام "51هـ".
1 دفنت أم المؤمنين خديجة –رضي الله عنها- بالحجون. وهو جبل بأعلى مكة، وعنده مدافن أهلها.
سير الأعلام 2/112، 117.
2 زائدة في "د" والمطبوع.
3 في "د": والدار.
4 في "د": الفاخرة. وهو تحريف.
5 في "د": أهل الإيمان.(2/665)
وذكر/محمد بن حسين النعمي الزبيدي/1 -رحمه الله-: أن رجلا رأى ما يفعل أهل الطائف من الشعب الشركية والوظائف، فقال: أهل الطائف لا يعرفون الله، إنما يعرفون ابن عباس. فقال له بعض من يترشح للعلم: معرفتهم لابن عباس كافية، لأنه يعرف الله.
فانظر إلى هذا الشرك الوخيم والغلو الذميم المجانب للصراط المستقيم، ووازن بينه وبين قوله/تعالى/2: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} الآية3، وقوله جل ذكره: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 4.
وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود والنصارى، باتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد يعبد الله فيها 5، فكيف بمن عبد الصالحين ودعاهم مع الله؟! والنصوص في ذلك لا تخفى على أهل العلم.
كذلك ما يفعل بالمدينة المشرفة –على ساكنها أفضل الصلاة والسلام- هو من هذا القبيل، بالبعد عن منهاج الشريعة والسبل.
وفي بندر جدة ما قد بلغ من الضلال حده، وهو القبر الذي يزعمون أنه قبر حواء، وصفه لهم بعض الشياطين، وأكثروا في شأنه من الإفك المبين، وجعلوا له السدنة والخدام، وبالغوا في مخالفة ما جاء به محمد –عليه أفضل الصلاة والسلام-، من النهي
__________
1 كذا في "د" والمطبوع. وفي "أ": الحسن بن محمد النعمي.
2 ساقطة في "د" والمطبوع.
3 سورة البقرة الآية "186".
4 سورة الجن الآية "18".
5 ورد لعنه هذا في قوله عليه السلام: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" صحيح البخاري مع الفتح 3/300، الجنائز، باب ما جاء في قبر النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما. صحيح مسلم بشرح النووي، 5/15، المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور. سنن أبي داود 3/553، الجنائز، باب في البناء على القبر. سنن النسائي 4/96، الجنائز، باب اتخاذ القبور مساجد. مسند الإمام أحمد، 1/218.(2/666)
عن تعظيم القبور، والفتنة بمن فيها من الصالحين والكرام.
وكذلك المشهد العلوي1، بالغوا في تعظيمه وتوقيره وخوفه ورجائه. وقد جرى لبعض التجار أنه انكسر بمال عظيم لأهل الهند وغيرهم وذلك في سنة عشر ومائتين وألف، فهرب إلى مشهد العلوي مستجيرا، ولائذا به مستغيثا، فتركه أرباب الأموال، ولم يتجاسر أحد من الرؤساء والحكام على هتك/ذاك/2 المشهد والمقام، واجتمع طائفة من المعروفين واتفقوا على تنجيمه في مدة سنين، فنعوذ بالله من تلاعب الفجرة الشياطين.
وأما بلاد مصر وصعيدها3 وفيومها4 وأعمالها، فقد جمعت من الأمور الشركية والعبادات الوثنية، والدعاوى الفرعونية ما لا يتسع له كتاب، ولا يدنو له خطاب، لا سيما عند مشهد أحمد البدوي5، وأمثالهم من المعتقدين المعبودين. فقد جاوزوا بهم ما ادعته الجاهلية لآلهتهم، وجمهورهم يرى/له/6 من تدبير الربوبية، والتصرف في الكون، بالمشيئة والقدرة العامة، ما لم ينقل مثله عن أحد بعد الفراعنة والنماردة، وبعضهم يقول: يتصرف في الكون سبعة؛ وبعضهم يقول: أربعة، وبعضهم
__________
1 المشهد العلوي: يظهر أنه يقصد قبرا كان موجودا في جدة.
2 في المطبوع: ذلك.
3 الصعيد: منطقة بمصر، وهي واسعة كبيرة فيها عدة مدن عظام، فيها أسوان، وهي أوله ناحية الجنوب، ثم قوص، وقفط، وإخميم، والبهنسا، وغير ذلك.
انظر تفاصيل منطقتها في: معجم البلدان، 3/408.
4 فيوم: موضع بمصر، وهي الولاية الغربية.
انظر تفاصيل موقعها في: معجم البلدان 4/286.
5 هو أحمد بن علي بن إبراهيم الحسيني، البدوي "أبو الفتيان، شهاب الدين، أبو العباس" صوفي ولد بفاس "596هـ"، وطاف البلاد وأقام بمكة والمدينة ودخل مصر والشام والعراق وعظم شأنه في البلاد، وانتسب إلى طريقه جمهور كبير. "ت 675هـ". ودفن في طنطا.
الأعلام للزركلي 1/175، معجم المؤلفين 1/314، تاريخ عجائب الآثار للجبرتي 3/60.
6 سافط في "د".(2/667)
يقول: قطب يرجعون إليه، وكثير منهم يرى أن الأمر شورى بين عدد ينتسبون إليه.
فتعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِباً} 1. وقد استباحوا عند تلك المشاهد، من المنكرات والفواحش والمفاسد، ما لا يمكن حصره، ولا يستطيع وصفه. واعتمدوا في ذلك من الحكايات والخرافات والجهالات ما لا يصدر عن من له أدنى مسكة وحظ من المعقولات فضلا عن النصوص والشرعيات.
كذلك ما يفعل في بلدان اليمن، جار على تلك الطريق والسنن، ففي صنعاء2 وبُرع3 والمخا وغيرها من تلك البلاد، ما يتنزه العاقل عن ذكره ووصفه، ولا يمكن الوقوف على غايته وكشفه،/ناهيك/4 بقوم استخفهم الشيطان، وعدلوا عن عبادة الرحمن إلى عبادة القبور والشياطين5. فسبحان من لا يعجل بالعقوبة على الجرائم، ولا يهمل الحقوق والمظالم. وفي حضرموت6 والشحر7، وعدن8
__________
1 سورة الكهف الآية "5".
2 صنعاء: موضعان، أحدهما باليمن، وهي العظمي، وأخرى قرية بالغوطة من دمشق. والمراد هنا هو الأول. وهو عاصمة اليمن الحديث في شماله. بينه وبين عدن ثمانية وستون ميلا. معجم البلدان 3/426.
3 بُرَع: جبل بناحية زبيد باليمن، وهو قرب سهام، يسكنه الصنابر من حمير، وتفرق بينه وبين ضلع ريمة.
معجم البلدان 1/385.
4 في "د": وناهيك بزيادة واو.
5 في "د": والشيطان.
6 حضرموت: اسمان مركبان، وهي ناحية واسعة في شرقي عدن بقرب البحر، وحولها رمال كثيرة تعرف بالأحقاف، وبها قبر هود عليه السلام لها مدينتان: تريم وشيام باليمن.
معجم البلدان 2/269-271.
7 الشجر: هو صقع على ساحل بحر الهندي من ناحية اليمن، وهو بين عدن وعمان. معجم البلدان 3/327.
8 مدينة مشهورة على ساحل بحر الهند من ناحية اليمن، بينه وبين صنعاء ثمانية وستون فرسخا. معجم البلدان 4/89.(2/668)
ويافع 1/ما تصتكُّ/2 عن ذكره المسامع. يقول قائلهم: شيء لله يا عيدروس3، شيء لله يا محيي النفوس4.
وفي أرض /نجران/5 من تلاعب الشيطان، وخلع ربقة الإيمان، ما لا يخفى على أهل العلم بهذا الشأن، بذلك/6 رئيسهم المسمى/ السيد/7 لقد أتوا من طاعته وتعظيمه وتقديمه وتصديره والغلو فيه، بما أفضى بهم إلى مفارقة الملة والإسلام، والانحياز إلى عبادة الأوثان والأصنام، {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا
__________
1 يافع: موضع باليمن، ينسب إليه القاضي أبو بكر اليافعي، صاحب كتاب "المفتاح" في النحو. معجم البلدان 5/426.
2 في المطبوع: "تستك" ومعنى "تصتك" أي: تنطبق، من صك وصككته: أي أطبقته وأغلقته. لسان العرب 10/457، مادة "صكك".
3 هو عبد الرحمن بن مصطفى بن شيخ بن مصطفى بن زين العابدين بن عبد الله بن أبي بكر السكران بن عبد الرحمن السقاف، اليمني الحسيني الشافعي المشهور بالعيدروس، صوفي ولد عام "1135هـ" باليمن، جاب البلدان، كثر عليه الواردون من البلاد البعيدة وصاروا يتلقون عنه طرق الصوفية، وكان في أغلب أوقاته في مقام الغطوس "وهو إحدى مقامات الصوفية، يكون في المتصوف في حالة تشبه الغيبوبة"، توفي بمصر "1192هـ".
عجائب الآثار في التراجم والأخبار، للعلامة عبد الرحمن الجبرتي، تحقيق وشرح الأستاذ/ حسن محمد جوهر، عمر الدسوقي، السيد إبراهيم سالم، ط/1، عام 1964م، نشر لجنة البيان العربي بمصر، 3/175-190، معجم المؤلفين، 5/195.
4 هذا القول من صريح الشرك الأكبر الذي لا يغفر الله لصاحبه إلا بالتوبة النصوح. فإحياء الموتى من الأمور التي اختص الله بها سبحانه، وهو مما لا يقدر عليه ابن آدم. يعرف ذلك من له أدنى بصيرة وفهم من الأطفال، فضلا عن ذوي العقول من العباد والعلماء. ومثل هذا لا يخرج إلا ممن عميت بصائره، وطبع على قلبه من عباد القبور. نعوذ بالله من فساد العقيدة، ومن الضلال بعد الهدى.
5 مدينة في جنوب المملكة العربية السعودية.
6 في المطبوع: كذلك.
7 كذا في "د" والمطبوع، وفي "أ" السَّيه.(2/669)
إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 1. وكذلك حلب2 ودمشق وسائر بلاد الشام، فيه من تلك المشاهد والنصب والأعلام3 ما لا يجامع عليه أهل الإيمان والإسلام من أتباع سيد الأنام، وهي تقارب ما ذكرنا من الكفريات المصرية، /والتلطخ/4 /بتلك/5 /الأوحال/6 الوثنية الشركية.
وكذلك الموصل7 وبلاد الأكراد8، ظهر فيها من أصناف الشرك والفجور والفساد. وفي العراق من ذلك بحره المحيط بسائر الخلجان. وعند المشهد الحسيني قد اتخذه الرافضة9 وثنا؛ بل ربا مدبرا وخالقا ميسرا، وأعادوا به المجوسية، وأحيوا به
__________
1 سورة التوبة الآية "31": {وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} ساقط في "أ" و"د". وفي "د" أيضا زيادة كلمة "تعالى" بعد قوله: {سُبْحَانَهُ} وهو خطأ.
2 حلب: مدينة واسعة كثيرة الخيرات، في الشام بسوريا الآن. معجم البلدان 2/284.
3 ومن تلك المشاهد والنصب ما ذكره ياقوت الحموي. عند ترجمته لمدينة حلب قال: وقلعة حلب مقام إبراهيم الخليل، وفيه صندوق به قطعة من رأس يحيى بن زكريا عليه السلام ظهرت سنة "435هـ"، وعند باب الجنان مشهد علي بن أبي طالب رؤي فيه في المنام وداخل باب العراق مسجد غوث فيه حجر عليه كتابة زعموا أنه خط علي بن أبي طالب؛ وفي غربي البلد في سفح جبل جوشن قبر الحسن بن الحسين، وبالقرب منه مشهد مليح العمارة، يزعمون أنهم رأوا عليا في المنام في ذلك المكان؛ وبظاهر باب اليهود حجر على الطريق، ينذر له ويصب عليه ماء الورد والطيب، يشترك المسلمون واليهود والنصارى في زياته، يقال إن تحته قبر بعض الأنبياء معجم البلدان 2/284.
4 في "د" والمطبوع: والتلطف.
5 ساقطة في المطبوع.
6 في المطبوع: الأحوال. وهو خطأ.
7 الموصل: المدينة المشهورة العظيمة، منها يقصد إلى جميع البلدان فهي باب العراق ومفتاح خراسان ومنها يقصد إلى أذربيجان. قالوا: وسميت الموصل لأنها وصلت بين الجزيرة والعراق، وقيل فيها غير ذلك. وفي وسطها قبر جرجس النبي. ومن أعمال الموصل: الطبرهان، والسن، والمرج، وجهينة، ونينوى وغيرها. معجم البلدان، 5/223.
8 الأكراد: جمع كرد، لاسم قبيلة. وكرد: اسم قرية من قرى البيضاء، ويمثل حاليا منطقة شمال العراق. معجم البلدان 4/450.
9 تقدم التعريف بهم في ص 57.(2/670)
معابد اللات والعزى وما كان عليه أهل الجاهلية.
وكذلك مشهد العباس1 ومشهد علي ومشهد أبي حنيفة2 ومعروف الكرخي3 والشيخ.
عبد القادر4؛ فإنهم قد افتتنوا بهذه المشاهد، رافضتهم وسنتهم، وعدلوا عن أسنى المطالب والمقاصد، ولم يعرفوا ما وجب عليهم من حق الله، الفرد الصمد الواحد. وبالجملة فهم شر تلك الأمصار وأعظمهم نفورا عن الحق واستكبارا.
والرافضة يُصلون لتلك المشاهد، ويركعون ويسجدون لمن في تلك المعاهد، وقد صرفوا من الأموال والنذور لسكان تلك الأحداث والقبور، ما لا يحصل عشر معشاره للملك العلي الغفور، ويزعمون أن زيارتهم لعلي وأمثاله، أفضل من سبعين حجة5،
__________
1 إن كان المصنف يعني قبر العباس -عم الرسول صلى الله عليه وسلم- الذي بالبقيع فقد كان ذلك في وقته، أما اليوم فلم يعد يزار، وليس عليه علامات ولا شعارات، بل هو كغيره من القبور. وقد أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى 27/483.
2 وهو في بغداد، حيث دفن في مقبرة الخيزران. وقبره هناك ظاهر معروف، ينتابه الزوار. انظر: تاريخ بغداد 13/324.
3 هو معروف بن فيروز الكرخي أبو محفوظ، أحد الأعلام الزهاد والمتصوفين، كان من موالي الإمام علي الرضي بن موسى الكاظم. ولد في كرخ بغداد ونشأ فيها، واشتهر بالصلاح، وقصده الناس للتبرك به. توفي ببغداد سنة "200هـ". طبقات الصوفية، 83-90، وفيات الأعيان، 2/104، صفة الصفوة 2/179، تاريخ بغداد 13/199.
4 تقدمت ترجمته في ص 505. ومشهده ببغداد حيث توفي.
انظر: سير الأعلام، 20/441 والأعلام للزركلي، 4/47. وأغلب هذه المشاهد مكذوبة، كلما وضح ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- في مجموع الفتاوى، 27/482-489. ثم إنه لو صح نسبة قبر لصاحبه، فليس في شريعتنا الاستغاثة بالقبور ودعاء أصحابها فإن ذلك من أفعال المبتدعة الضلال. فالبناء على القبور ليس من دين المسلمين، بل هو منهي عنه بالنصوص الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وليس لأحد قصد الصلاة عند قبر أحد، لا نبي ولا غيره. انظر: زيادة توضيح مجموع الفتاوى، 27/488-489.
5 ومما يدل على ذلك الواقع المشاهد الذي نراهم عليه أثناء حجهم زيارتهم للمدينة النبوية، من عكوفهم عند البقيع، وشده اهتمامهم بقبر فاطمة الزهراء خاصة، فإن ما يفعلونه عندها من بكاء وويلات ودعاء ونحوها. إن هي إلا محض عبادة، وكأن ذلك أحد أركان حجهم. والبعض يعتكف عند قبرها أكثر مما يقضيه من أوقات في مسجد رسول الله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.(2/671)
/تعالى الله/1 وتقدس في مجده وجلاله. ولآلهتهم من التعظيم والتوقير والخشية والاحترام، ما ليس معه من تعظيم الله، وتوقيره وخشيته، وخوفه للإله الحق، والملك العلام؛ ولم/ يبق/2 مما عليه النصارى، سوى دعوة الولد به 3 / أن بعضهم/4 يرى الحلول لأشخاص 5 بعض البرية، {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} 6.
وكذلك جميع قرى الشط 7 والمجرة 8 على غاية من الجهل /والمغرة/9. وفي القطيف والبحرين من البدع الرافضية، والأحداث المجوسية، والمقامات الوثنية، ما يضاد ويصادم أصول الملة الحنفية. فمن اطلع على هذه الأفاعيل، وهو عارف بالإيمان والإسلام، وما فيهما من التفريع والتأصيل؛ تيقن أن القوم قد ضلوا عن سواء السبيل، وخرجوا من مقتضى القرآن والدليل، وتمسكوا بزخارف الشيطان، وأحوال الكهان، وما شابه هذا القبيل؛ فازداد بصيرة من دينه، وقوي بمشاهدة إيمانه ويقينه، وجد في طاعة مولاه، وشكره واجتهد في الإنابة إليه، وإدامة ذكره، وبادر إلى القيام بوظائف أمره، وخاف أشد الخوف على إيمانه، من طغيان الشيطان وكفره، فليس من العجيب
__________
1 في "د": لله.
2 في "د": يبقى.
3 أي دعوى النصارى أن لله ولدا. تعالى الله عما يقوله الظالمون علوا كبيرا.
4 في "أ" والمطبوع: يرفع أن بعضهم.
5 كما تزعم السببئية من الشيعة، في علي رضي الله عنه.
6 سورة الصافات الآية "180".
7 الشط: قرية في حجر "اليمامة" قبلتها بين الوتر والعرض. كان منزل عبيد بن ثعلبة. معجم اليمامة. 2/50؛ معجم البلدان 3/344.
8 المجرة: موضع باليمامة معجم البلدان 5/58.
9 في المطبوع: والمعروف.(2/672)
ممن هلك كيف هلك، إنما العجب ممن نجا كيف نجا 1. ولقد أحسن العلامة محمد بن إسماعيل الأمير، فيما أبداه من أهل وقته من التبديل والتغيير. ونص المنظومة 2:
أما آن عما أنت فيه متاب ... وهل لك من بعد/البعاد/3 إياب
تقضت بك الأعمار في غير طاعة ... سوى عمل ترضاه وهو سراب
إذا لم يكن لله فعلك خالصا ... فكل بناء قد بنيت خراب
فللعمل الإخلاص/شرط/4 إذا أتى ... وقد وافقته سنة وكتاب
وقد صين عن كل ابتداع وكيف ذا ... وقد طبق الآفاق منه عباب 5
طغى الماء من كل ابتداع على الورى ... فلم ينج منه مركب وركاب
وطوفان نوح كان في الفلك أهله ... فنجا همو، والغارقون تباب
فأنى لنا فلك ينجي وليته ... يطير بنا عما نراه غراب
وأين إلى أين المطار وكلما ... على ظهرها يأتيك منه عجاب
نسائل من دار الأراضي سياحة ... عسى بلدة فيها هدى وصواب
فيخبر كل عن قبائح ما رأى ... وليس لأهليها يكون متاب
لأنهموا عدوا قبائح فعلهم ... محاسن يرجى عندهن ثواب
كقوم عراة في ذى مصر ما على ... عورة منهم هناك ثياب
يدورون فيها كاشفين لعورة ... تواتر هذا لا يقال كذاب
__________
1 تقدم هذا الكلام في 298.
2 لم ترد هذه المنظومة في "أ" ولا في المطبوع. وإنما في "د".
3 كذا في الأصل. ولعله "العناد".
4 في "د": شرطا.
5 في الأبيات الثلاثة المتقدمة، شروط للعمل الصالح، المرجو القبول عند الله تعالى، وهي:
أن يكون خالصا لله تبارك وتعالى/
أن يكون موافقا للكتاب والسنة.
أن يكون خاليا من شوائب البدع.
فهذه أهم شروط القبول من العبد، فلا يقبل عمل خالف أحدها، وعليها يدل قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: " أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري =(2/673)
يعدونهم في مصر من فضلائهم ... دعاؤهم فيما يرون مجاب
وفيها وفيها كل ما لا يعده ... لسان ولا يدنو إليه خطاب
وفي كل مصر مثل مصر وإنما ... لكل مسمى والجميع ذئاب
ترى الدين مثل الشاة قد وثبت له ... ذئاب وما عنه لهن ذهاب
لقد مزقته بعد كل ممزق ... فلم/يبق/1 منه جثة وإهاب
وليس اغتراب الدين إلا كما ترى ... فهل بعد هذا الاغتراب إياب
فيا غربة عل ترتجى منك أوبه ... فيجبر من هذا العود مصاب
إلى آخرها2.
__________
= تركته وشركه" وقال من شروط القبول من العبد، فلا يقبل عمل خالف أحدها، وعليها يدل قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد".
الحديث الأول:
أخرجه مسلم في صحيحه بشرح النووي 18/326، الزهد، باب من أشرك في عمله غير الله. وابن ماجه في سننه 2/426 الزهد، باب الرياء والسمعة. والمنذري في الترغيب، 1/69. وأحمد في مسنده،2/301، مع اختلاف يسير في اللفظ.
وأخرج الحديث الثاني:
البخاري في صحيحه، 13/329، الاعتصام باب إذا اجتهد العامل، ومسلم في صحيحه بشرح النووي 12/258، الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور. وأبو داود في سننه، 5/12، السنة، باب في لزوم السنة. وابن ماجه في سننه، 1/6، المقدمة، باب في تعظيم حديث رسول الله من شروط القبول من العبد، فلا يقبل عمر خالف أحدها، وعليها يدل قول المصطفى صلى الله عليه وسلم.
1 في "د": يبقى. وهو خطأ.
2 القصيدة للإمام محمد بن إسماعيل بن الصلاح الصنعاني الأمير، وهي معروفة بالقصيدة البائية، ضمن كتاب: أربح البضاعة في معتقد أهل السنة والجماعة، علي بن سليمان آل يوسف، ط/2، 1379هـ ص 87-88.(2/674)
فصل: إنكار العلماء لبدعة تقديس المشاهد
...
"فصل"
وهذه الحوادث المذكورة، والكوارث المشهورة، والبدع المزيورة، قد أنكرها أهل(2/674)
العلم والإيمان، واشتد نكيرهم، حتى حكموا على فاعلها بخلع ربقة الإسلام والإيمان، ولكن لما كانت الغلبة للجهال الطغام، انتقضت عرى الدين، وانثلمت أركانه، وانطمست منه الأعلام، وساعدهم على ذلك من قل حظه ونصيبه، من الرؤساء والحكام، والمنتسبين من الجهال إلى معرفة الحلال والحرام، فاتبعتهم العامة والجمهور من الأنام، ولم يشعروا ما هم عليه من المخالفة والمباينة لدين الله الذي اصطفاه لخاصته وأوليائه وصفوته الكرام. ومع عدم العلم، والإعراض عن النظر في آيات الله والفهم، لا مندوحة للعامة من تقليد الرؤساء والسادة، ولا يمكن الانتقال عن المألوف والعادة، ولهذا كرر –سبحانه وتعالى- التنبيه على هذه الحجة الداحضة، والعادة المطردة الفاضحة، قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} 1 وقوله: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ} الآية2، قد كرر هذا المعنى في القرآن لحاجة العباد وضرورتهم إلى معرفته والحذر منه وعدم الاغترار وأهله. وما أحسن ما قال عبد الله بن المبارك رحمه الله:
وهل أفسد الدين إلا الملو ... ك وأحبار سوء ورهبانها 3
إذا عرفت هذا، فليس إنكار هذه الحوادث من خصائص هذا الشيخ، بل له سلف صالح من أئمة العلم والهدى، قاموا بالنكير والرد على من ضل وغوى، وصرف خالص العبادة إلى من تحت أطباق الثرى. /وسنورد/4 ذلك من كلامهم ما تقر به العين، وتثلج به الصدور، ويتلاشى معه ما أحدثه الجهال من البدع والإشراك والزور.
قال الإمام أبو بكر الطرطوشي5 في كتابه المشهور الذي سماه/ "كتاب الحوادث
__________
1 سورة لقمان الآية "21".
2 سورة الزخرف: الآية "23". في "د" سقط في الآية لفظ "من" في قوله تعالى {مٍن قَبلِكَ} وسقط في "أ" والمطبوع كلمة {فيٍ قَريَةٍ} .
3 تقدم قول ابن المبارك هذا في ص 457.
4 في "د": وسنفرد. وفي المطبوع: وستسرد.
5 تقدمت ترجمته في ص 409.(2/675)
والبدع/1:" روى البخاري2 عن أبي واقد الليثي3 قال/ خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حنين 4ونحن /حديثو/5 عهد بكفر، وللمشركين /سدرة/6 يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم، يقال له ذات أنواط، فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر! هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} 7 لتركبن سنن من قبلكم" 8. فانظروا –رحمكم الله- أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس ويعظمون من شأنها، ويرجون البرء والشفاء من قبلها وينوطون بها المسامير والخرق، فهي ذات
__________
1 في جميع النسخ والمطبوع: "الباعث على إنكار البدع والحوادث"، وهذه نسبة خطأ، إذ إن هذا الكتاب لأبي شامة، عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم "ت 665هـ" أما كتاب الطرطوشي فهو ما أثبته.
2 أخطأ الإمام الطرطوشي –رحمه الله- في عزوه الحديث إلى البخاري، فإنه لم يرد عنده، وإنما ورد عند غيره كما سيأتي تخريجه في آخره.
3 هو الحارث بن عوف، أبو واقد الليثي صاحب النبي صلى الله عليه وسلم، شهد بدرا والفتح "ت 65هـ" الاستيعاب؛ 4/1774؛ أسد الغابة 6/325؛ سير الأعلام 2/574؛ تهذيب التهذيب 12/270.
4 عند الترمذي في سننه "خير". وعند أحمد وغيره "حنين".
5 في "د" حدثاء، وهي رواية ذكرها ابن إسحاق كما يأتي تخريجه. وفي المطبوع: حديث.
6 السدرة: شجرة النبق، وهو مفرد، جمعه "السدر" له ورقة عريضة مدورة.
النهاية في غريب الحديث والأثر، 1/353، لسان العرب 4/354. مادة "سدر".
7 سورة الأعراف الآية "138".
8 سنن الترمذي، 4/412-413، الفتن، باب ما جاء لتركبن سنن من كان قبلكم، وقال: شيبة 11/369. مشكاة المصابيح للتبريزي، 3/1488-1489، قال الألباني في تخريجه بنفس الصفحة: "إسناده صحيح"، وكذلك قال في تخريجه لكتاب السنة للضحاك بن مخلد، وزاد: ورجاله ثقات، رجال الشيخين غير يعقوب بن حميد، وهو ثقة فيه ضعف يسير وقد توبع".(2/676)
أنواط، فاقطعوها 1 انتهى كلامه رحمه الله.
فانظر –رحمك الله- إلى تصريح هذا الإمام بأن كل شجرة يقصدها الناس ويعظمونها ويرجون الشفاء والعافية من قبلها، فهي ذات أنواط التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه –لما طلبوا منه أ، يجعل لهم شجرة كذات أنواط، فقال: الله أكبر هذا كقول بني إسرائيل اجعل لنا إلها، مع أ، هم لم يطلبوا إلا مجرد مشابهتهم في العكوف عندها، وتعليق الأسلحة للتبرك. فتبين لك بهذا أن من جعل قبرا أو شجرة أو شيئا حيا أو ميتا مقصودا له، ودعاه واستغاث به وتبرك به وعكف على قبره؛ فقد اتخذه إلها مع الله.
فإن كان رسول الله –صلوات الله وسلامه عليه- أنكر عليهم مجرد طلبهم منه مشابهة المشركين في العكوف، وتعليق الأسلحة للتبرك؛ لما ظنك بما هو أعظم من ذلك وأطم! الشرك الأكبر الذي حرمه الله ورسوله، وأخبر أن أصل الخلق لو يفعله لحبط عمله، وصار من الظالمين. فصلوات الله وسلامه عليه، كما بلغ البلاغ المبين، وعرفنا بالله، وأوضح لنا الصراط المستقيم. فحقيق بمن نصح نفسه وآمن بالله واليوم الآخر، أن لا يغتر بما عليه أهل الشرك، من عبادة القبور من هذه الأمة.
/ومن/2 ذلك، ما ذكره الإمام محدث الشام عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المعروف بأبي شامة 3، من فقهاء الشافعية، وقدمائهم في كتابه الذي سماه:
__________
1 كتاب الحوادث والبدع للإمام أبي بكر محمد بن الوليد الطرطوشي ابن رندقة "520هـ"، تحقيق بشير محمد عيون، مكتبة المؤيد الطائف، ومكتبة دار البيان دمشق، ط2، 1412هـ 1991م، ص 18، 19.
2 بياض في "أ".
3 هو عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم، أبو شامة المقدسي، الشافعي المقرئ، صاحب التصانيف، سمي بأبي شامة لشامة كبيرة كاانت فوق حاجبه الأيسر. له: شرح الشاطبية، ونونية السخاوي، والباعث على إنكار البدع والحوادث وغيرها. "ت665هـ".
طبقات الشافعية الكبرى، 18/165. تذكرة الحفاظ 4/1460. الأعلام للزركلي، 3/299(2/677)
"الباعث على إنكار البدع والحوادث" في فصل البدع المستقبحة، قال: "البدع المستقبحة تنقسم على قسمين، قسم تعرفه العامة والخاصة أنه بدعة محرمة، وإما مكروهة، وقسم يظنه معظمهم –إلا من عصم- عبادات وقربات وطاعات وسنن.
فأما القسم الأول فلا نطول بذكره إذ كفينا مؤنة الكلام فيه، لاعتراف فاعله أنه ليس من الدين. لكن/يتبين/1 من هذا القسم مما قد وقع فيه جماعة من جهال العوام، النابذين لشريعة الإسلام، التاركين للاقتداء بأئمة الدين من الفقهاء، وهو ما يفعله طوائف من المنتسبين للفقر، الذي حقيقته الافتقار عن الإيمان، من مؤاخاة النساء الأجانب والخلوة بهن واعتقادهم في مشائخ لهم ضالين مضلين، يأكلون في نهار رمضان من غير عذر، ويتركون الصلوات ويخامرون النجاسات غير مكترثين لذلك، فهم داخلون تحت قوله تعالى: {لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} 2؛ ولهذه الآية وأمثالها، كان مبادئ ظهور الكفر من عبادة الأصنام /وغيرها/3.
ومن هذا القسم أيضا، ما قد عم الابتلاء به من تزين الشيطان للعامة، تخليق الحيطان والعمد والسرج مواضع مخصوصة في كل بلد.
يحكي حاك أنه رأى في منامه بها أحدا ممن شهر بالصلاح والولاية، فيفعلون ذلك ويحافظون عليه، مع تضييعهم فراض الله تعالى وسننه، ويظنون أنه متقربون بذلك، ثم يتجاوزون هذا إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم فيعظمونها، ويرجون الشفاء لمرضاهم وقضاء حوائجهم بالنذر لهم، وهي /ما/4 بين عيون وشجر وحائط وحجر.
__________
1 في "د" والمطبوع: تبين.
2 سورة الشورى الآية "21".
3 في "د": وغيرهما.
4 في "ا" والمطبوع: من.(2/678)
وفي مدينة دمشق –صانها الله من ذلك- مواضع متعددة كعوينة الحمى خارج باب توما، والعمود المخلق خارج الباب الصغير، والشجرة الملعونة اليابسة خارج باب النصر، في نفس قارعة الطريق –سهل الله قطعها واجتثاثها من أصلها- فما أشبهها بذات الأنواط الواردة في الحديث الذي رواه محمد بن إسحاق1 وسفيان بن عيينة2 عن الزهري3 عن سنان بن أبي سنان4 عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه5 قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، وكانت لقريش شجرة خضراء عظيمة يأتونها كل سنة، فيعلقون عليها سلاحهم، ويعكفون عندها ويذبحون لها. وفي رواية: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل حنين ونحن حديثو عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عليها وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فتنادينا من /جانبتي/6 الطريق ونحن نسير إلى حنين، يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما له ذات أنواط. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر، هذا كما قال قوم موسى:
__________
1 هو محمد بن إسحاق بن يسار بن خيار المديني، مولى قيس بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف، صاحب السيرة "ت152هـ". تاريخ بغداد 1/214، 233؛. سير الأعلام 7/33.
2 تقدمت ترجمته في ص 503.
3 محمد بن مسلم بن عبد الله بن عبد الله القرشي الزهري المدني "ت124هـ" سير الأعلام، 5/326، تهذيب التهذيب، 9/445.
4 في "أ" والمطبوع: "ابن سنان بن أبي سفيان". وفي "د" "سنان بن سنان" والصواب المثبت كما في مسند الإمام أحمد، 5/218، وجامع الترمذي، 4/413، وسير الأعلام، 2/575. وهو سنان بن أبي سنان يزيد بن أبي أمية الدؤلي المدني، روى عن أبي هريرة والحسين بن علي وجابر، وأبي واقد الليثي؛ تابعي ثقة من الثالثة. "ت105هـ".
تهذيب التهذيب، 4/242، تقريب التهذيب 1/334.
5 تقدمت ترجمته في ص 676.
6 في "أ" و "د": جنيني.(2/679)
{اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} 1 لتركبن سنن من كان قبلكم" 2. أخرجه الترمذي بلفظ آخر والمعنى واحد، وقال: "هذا حديث حسن صحيح"3.
قال الإمام أبو بكر الطرطوشي/الأندلسي/4 في كتابه المتقدم ذكره 5.
"فانظروا –رحمكم الله- أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس ويعظمون من شأنها، ويرجون البرء والشفاء من قبلها وينوطون بها المسامير والخرق، فهي ذات أنواط، فاقطعوها"6.
قلت 7: ولقد أعجبني ما فعله الشيخ أبو إسحاق/الجنياني/8 -رحمه الله- أحد
__________
1 سورة الأعراف: الآية "138".
2 سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لمحمد بن إسحاق، 4/893. وقد تقدم تخريجه في ص 676، بلفظ آخر.
3 سنن الترمذي 4/413، الفتن، باب ما جاء: لتركبن سنن من كان قبلكم.
4 ساقط في "أ" والمطبوع.
5 وهو كتاب البدع والحوادث، وقد تقدم ذكره في ص 676.
6 المرجع السابق ص 18، 19. وقد تقدم ذكر هذا الكلام في ص 676.
7 القائل هنا: هو الإمام أبو شامة –رحمه الله- في كتابه: "الباعث على إنكار البدع والحوادث". وسيأتي ذكر رقم الصفحة التي فيها كلامه هذا، عند نهايته.
8 في "أ" والمطبوع: "الحسائي". وفي "د" "الجنياني" وضبطه محقق كتاب "الحوادث والبدع" ب"الجنياني"، وهو كذلك عند أبي شامة في "الباعث على إنكار البدع والحوادث".
وهو: إبراهيم بن علي الجنياني البكري المالكي؛ أحد الأئمة الأعلام، كان من أعلم الناس باختلاف العلماء، عالما بعبارة الرؤيا، حسن القراءة للقرآن، يحسن تفسيره وإعرابه، وناسخه ومنسوحه. "ت 396هـ". ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك للقاضي عياض "544هـ" تحقيق د. أحمد بكر محمود، نشر دار مكتبة الحياة بيروت، ودار مكتبة الفكر، ليبيا، 4/497-517. الديباج المذهب لابن فرحون ص 86. طبقات المفسرين، للحافظ محمد بن علي بن أحمد الداودي "945هـ"، تحقيق على محمد عمر، نشر مكتبة وهبة، شارع الجمهورية، ط/1، 1392هـ-1972م، مطبعة الاستقلال الكبرى، 1/1-2.(2/680)
الصالحين ببلاد إفريقية، حكى عنه صاحب الصالح أبو عبد الله محمد بن أبي العباس المؤدب1 أنه كان إلى جانبه عين تسمى عين العافية، كانت العامة قد افتتنوا بها، يأتون من الآفاق، من تعذر عليها نكاح أو ولد، قالت: امضوا بي إلى العافية، فتعرف بها الفتنة. قال أبو عبد الله: فأنا في السحر ذات ليلة، إذ سمعت أذان أبي إسحاق نحوها، فخرجت فوجدته قد هدمها، وأذن/المصبح/2 عليها. ثم قال: اللهم إني هدمتها لك فلا ترفع لها رأسا؛ قال: فما رفع لها رأس إلى الآن.
قلت3: وأدهى من ذلك وأمرّ، إقدامهم على قطع الطريق السابلة4، يجيزون5 في أحد الأبواب الثلاثة القديمة العادية، التي هي من بناء الجن في زمن نبي الله سليمان بن داود عليهما السلام،/أو من/6 بناء ذي القرنين7 وقيل فيها غير ذلك، مما يؤذن بالتقدم على ما نقلناه في كتاب "تاريخ مدينة دمشق" –حرسها الله تعالى- وهو الباب الشمالي، ذكر لهم بعض من لا يوثق به في شهور، سنة ست وثلاثين وستمائة "636هـ" /أنه/8 رأى مناما يقتضي أن ذلك المكان دفن فيه بعض أهل البيت، وقد
__________
1 لم أقف على ترجمته.
2 هكذا في أصل النص عند أبي شامة في كتابه الباعث..، وفي جميع النسخ: "الصبح".
3 القول لأبي شامة رحمه الله.
4 السابلة: أبناء السبيل المختلفون على الطرقات في حوائجهم. والجمع: السوابل. والطريق السابلة: أي المسلوكة. لسان العرب، 11/320، مادة "سبل".
5 في "أ": يميزون.
6 هكذا في أصل النص عند أبي شامة. وفي جميع النسخ: ومن.
7 ذو القرنين: اسم يطلق على أشخاص عدة؛ المنذر الأكبر بن ماء السماء جد النعمان بن المنذر؛ أو تبع الأقران، أحد ملوك بلاد العرب الجنوبية. ويطلق على الإسكندر الأكبر، وهو أكثر الشخصيات التي تعرف بذي القرنين، وهو المراد هنا، والمذكور في القرآن الكريم في سورة الكهف، وقد اختلف فيه اختلافا كثيرا، وقال ابن كثير: والصحيح أنه كان ملكا من الملوك العادلين.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، 11/34. البداية والنهاية لابن كثير، 2/95. دائرة المعارف الإسلامية، 9/403-404.
8 في "د": وأنه.(2/681)
أخبرني عنه يقة، أنه اعترف له أنه افتعل ذلك، فقطعوا طريق المارة فيه، وجعلوا الباب بكماله أصل مسجد مغصوب 1. وقد كان الطريق يضيق بسالكيه، فتضاعف /الضيق/2 والحرج على من دخل ومن خرج، ضاعف الله عذاب من تسبب في بنائه، وأجزل ثواب من أعان على هدمه وإزالة اعتدائه، اتباعا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم في هدم مسجد الضرار 3 المرصد لأعدائه من الكفار، فلم ينظر الشرع إلى كونه مسجدا؛ وهدمه لما قصد به السوء والردى. قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً} 4 نسأل الله الكريم معافاته من كل ما يخالف رضاه، وأن لا يجعلنا ممن أضله واتخذ إلهه هواه"5.
وهذا الشيخ/أبو شامة/6، من كبار أئمة الشافعين في أوائل القرن السابع/ وقال الإمام/7 أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي 8 -رحمه الله-: لما صعبت
__________
1 في المطبوع: مغصوبا.
2 كذا في الأصل عند أبي شامة. وفي "أ": الطريق. وهو تحريف من الناسخ.
3 هو المسجد الذي بناه المنافقون في قباء، يترصدون فيه أمور المسلمين. وقد هدمه النبي صلى الله عليه وسلم بعد مقدمه من تبوك عام تسعة من الهجرة، بعد ما نزل فيه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة:107] .
انظر: أسباب النزول للواحدي، ص 259. والجامع لأحكام القرآن للقرطبي، 8/161.
4 سورة التوبة الآية "108".
5 إلى هنا نهاية كلام أبي شامة في كتابه: الباعث على إنكار البدع والحوادث، لأبي القاسم عبد الرحمن بن إسماعيل، أبو شامة المقدسي "665هـ"، تحقيق بشير محمد عيون، نشر مكتبة المؤيد، الطائف، ومكتبة دار البيان؛ سوريا، ط/1/1412-1991م، 34-37.
وقد نقل كلامه هذا، محقق كتاب: الحوادث والبدع للطرطوشي في ص 19.
6 ساقط في "د".
7 بياض في "أ".
8 تقدمت ترجمته في ص 395.(2/682)
التكاليف على/ الجهلة/1 والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع، إلى أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم؛ إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم. قال: وهم عندي كفار بهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور وإكرامها، وإلزامها/بما/2 نى عنه الشرع3 من إيقاد السرج4 وتقبيلها5 وتخليقها6 وخطاب الموتى بالحوائج، وكتب/الرقاع، فيها/7
__________
1 في "د": الجهال.
2 كذا في أصل النص في إغاثة اللهفان. وفي جميع النسخ: لما.
3 في المطبوع: الشارع.
4 جاء في النهي عن إيقاد السرج على القبور: ما رواه ابن عباس رضي الله عنه قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج". سنن أبي داود، 3/558، الجنائز، باب في زيارة النساء القبور. سنن الترمذي 2/136، الصلاة، باب ما جاء في كراهية أن يتخذ على القبر مسجدا. قال الترمذي: "حديث ابن عباس حسن". سنن النسائي، 4/94-95، الجنائز، باب التغليظ في اتخاذ السرج على القبور. مسند الإمام أحمد، 1/229، 287، 324، 337. والحديث ضعفه الألباني في سلسلة الضعيفة رقم "325". وصحيح أحمد شاكر تحسين الترمذي للحديث، في تعليقه على سنن الترمذي، 2/137.
5 تقبيل القبر: أي رفعها عن الأرض، من القتل، وهو ما ارتفع من جبل أو رمل أو علو من الأرض. لسان العرب، 11/542، مادة "قبل".
ومما جاء في النهي عن رفع القبر: أخرج الإمام مسلم عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب: "ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدع تمثالا إلا طمسته، ولا قبرا مشرفا إلا سويته". صحيح مسلم بشرح النووي، 7/40، الجنائز، باب الأمر بتسوية القبور. سنن أبي داود، 3/548، الجنائز، باب في تسوية القبر.
6 تخليق القبر: هو تجصيصه جعله أملسا مضمتا، على سبيل تزيينه. يقال: حجر أخلق: أي أملس مصمت لا يؤثر فيه شيء. النهاية لابن الأثير، 2/71، لسان العرب، 10/89، مادة "خلق". أو أن المراد: تضميخها بالخلوق، وهو نوع من الطيب، يتخذ من الزعفران وغيره من أنواع الطيب، ويغلب عليه الحمرة والصفرة. النهاية لابن الأثير، 2/71، لسان العرب، 10/91، مادة "خلق". وعلى هذا يكون المراد هنا الإشارة إلى النهي عن جنس الطيب، فلا يجوز تطييب القبر بشيء منه.
7 في المطبوع: الرقاع التي فيها.(2/683)
يا مولاي، افعل بي كذا وكذا، وأخذ/ تربتها/1 تبركا بها،/وإفاضة/2 الطيب على القبور، وشد الرحال إليها، وإلقاء الخرق على الشجر، اقتداء بمن عبد اللات والعزى. والويل عندهم لمن لم يقبل مشهد/ الكفار/3 ولم يتمسح بآجر4 المدينة يوم الأربعاء، ولم /يقل الحمالون/5 على جنازته: الصديق أبو بكر/ أو محمد/6 وعلي، أو لم يعقد على قبر أبيه/ أزجا/7 بالجص والآجر، ولم يخرق ثيابه إلى الذيل، ولم يرق ماء الورد على القبر 8. انتهى.
فتأمل –رحمك الله- ما ذكر هذا الإمام، الذي هو أجل أئمة الحنابلة، بل من أجل أئمة الإسلام، وما كشفه من الأمور التي يفعلها الخواص من الأنام، فضلا عن النساء والغوغاء والعوام، مع كونه في سادس القرون، والناس إذ ذاك لما ذكره يفعلون، وجهابذة العلماء، والنقاد/9 لذلك يشهدون، وحطهم من النهي مرتبته الثانية، فهم بها قائمون؛ يتضح لك فساد ما زخرفه المبطلون، وموه به المتعصبون والملحدون.
قال الشيخ تقي الدين10 -رحمه الله تعالى- وأما سؤال الميت والغائب، نبيا كان أو غيره، فهو من المحرمات المنكرة باتفاق أئمة المسلمين؛ لم يأمر الله تعالى به ولا رسوله، ولا فعله أحد من الصحابة ولا التابعين لم بإحسان، ولا استحبه أحد من أئمة
__________
1 بياض في المطبوع.
2 في المطبوع: وأما إفاضة.
3 في "د": "الكف" وهو كذلك في النص عند ابن القيم في الإغاثة.
4 الآجر: طبخ الطين. لسان العرب 4/11، مادة "أجر".
5 في المطبوع: ولم يقبل الجملون. وجاء على هامش "أ": " ... لمن لم يحضر مشهد الكف، أو لم يعقد على قبره أو قبر أبيه بالآجر، ولم يقل الحمالون على جنازته أبو بكر وعمر". انتهى.
6 ساقط في المطبوع. وفي "أ" و "د": ومحمد.
7 هكذا في جميع النسخ. ولم أعرف معناه.
8 إلى هنا نهاية كلام ابن عقيل. ذكر نص كلامه الإمام ابن القيم في إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان، 1/305.
9 في "أ" والمطبوع: والنقدة.
10 هو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.(2/684)
المسلمين. وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام، فإن أحدا منهم ما كان يقول –إذا نزلت به/شدة/1 أو عرضت له حاجة –لميت: يا سيدي/ يا فلان/2 أنا في حسبك أو اقض حاجتي؛ كما يقوله بعض هؤلاء المشركين، لمن يدعونهم /من الموتى/3 والغائبين. ولا أحد من الصحابة استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولا بغيره من الأنبياء، لاعند قبورهم، ولا إذا بعدوا عنها، ولا كانوا يقصدون الدعاء عند قبور الأنبياء، ولا الصلاة عندها.
ولما قحط الناس في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استسقى بالعباس، وتوسل بدعائه، وقال: "اللهم إنا كنا نتوسل إليه/ بنبينا/4 إذا أجدبنا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا" كما ثبت ذلك في صحيح البخاري 5.
وكذلك معاوية رضي الله عنه لما استسقى بأهل الشام/توسل/6 بيزيد بن الأسود الجرشي7.
__________
1 في "أ" والمطبوع: ترة.
2 في "د": فلان.
3 في "أ" و "د": في الموتى.
4 في "د" والمطبوع: بنبيك
5 صحيح البخاري مع الفتح، 2/574، الاستسقاء، باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا، وفي 7/96، فضائل الصحابة، باب ذكر العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه.
6ساقطة في المطبوع.
7 هو يزيد بن الأسود الجرشي السكوني، من سادات التابعين بالشام، أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم "ت71هـ". الاستيعاب، 4/2754، أسد الغابة، 5/103، سير الأعلام، 4/136، البداية والننهاية، 8/328.
وأما قصة استسقاء معاوية بيزيد –رضي الله عنهما-.
فما رواه صفوان بن عمرو، عن سليم بن عامر قال: خرج معاوية يستسقي، فلما قعد على منبر قال: أين يزيد بن الأسود؟ فناداه الناس، فأقبل بتخطاهم، فأمره معاوية، فصعد المنبر، فقال معاوية: الله إنا نستشفع إليك بخيرنا وأفضلنا يزيد بن الأسود، يا يزيد ارفع يديك إلى الله. فرفع يديه ورفع الناس. فما كان بأوشك من أن ثارت سحابة كالترس وهبت الريح فسقينا حتى كاد الناس أن لا يبلغوا منازلهم. سير الأعلام 4/137(2/685)
فهذا الذي ذكره عمر رضي الله الله، توسل/منهم/1 بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته في حياته؛ ولهذا توسلوا بعده بدعاء العباس، وبدعاء يزيد بن الأسود. وهذا هو الذي ذكره الفقهاء في كتاب الاستسقاء فقالوا: يستحب أن يستسقى بالصالحين. وإذا كانوا من أقارب الرسول صلى الله عليه وسلم فأفضل2.
وقد كره العلماء كمالك وغيره، أن يقوم الرجل عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لنفسه، وذكروا أن هذا من البدع التي لم يفعلها السلف.
قال أصحاب مالك 3: إنه/4 إذا دخل المسجد يدنو من القبر فيسلم على النبي صلى الله عليه وسلم /ويدعوا/ مستقبل القبلة يوليه ظهره5، وقيل: لا يوليه ظهره6. وإنما اختلفوا لما فيه من استدباره.
/فأما/7 إذا جعل الحجرة عن يساره فقد زال المحذور بلا خلاف.
ولعل هذا الذي ذكره الأئمة، أخذوه من كراهة الصلاة إلى القبر8، /فإذا كان
__________
1 في المطبوع: "منه" وهو خطأ، إذ المقصود بما ذكره عمر، قوله: "اللهم إنا كنا".
2 مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية، 1/315.
3 منهم سلمة بن وردان قال: "رأيت أنس بن مالك رضي الله عنه يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يسند ظهره إلى جدار القبر، ثم يدعو". إغاثة اللهفان 1/314.
4 ساقط في "د" والمطبوع.
5 في "د": "يدعو" بإسقاط الواو.
6 مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية، 1/229-230.
7 في المطبوع: وأما.
8 وفي ذلك ورد حديث أبي مرثد الغنوي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها". صحيح مسلم بشرح النووي، 7/42-43، الجنائز، باب النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه. سنن أبي داود، 3/554، الجنائز، باب في كراهية القعود على القبر. سنن الترمذي، 3/367 الجنائز، باب ما جاء في كراهية المشي على القبور والجلوس عليها والصلاة إليها. سنن النسائي، 2/67، القبلة، باب النهي عن الصلاة إلى القبر. مسند الإمام أحمد، 4/135. قال النووي: "فيه تصريح بالنهي عن الصلاة إلى القبر. قال الشافعي –رحمه الله-: وأكره أن يعظم مخلوق حتى يجعل قبره مسجدا، مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده من الناس". شرح صحيح مسلم للنووي، 7/43.(2/686)
قد ثبت/1 النهي/ فيه/2 عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلما نهى أن يتخذ القبر مسجدا أو قبلة 3 أمروا بأن لا /يُتحرى/4 الدعاء إليه، كما لا يصلى إليه.
وقال مالك في المبسوط5: "لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، ولكن يسلم/ ويصلي/6"7. ولهذا –والله أعلم- صُرفت الحجرة وثُلثت، لما بُنيت، فلم يجعل حائطها الشمالي على/سمت/8 القبلة، ولا جعل/ سطحا/9.
وذكر الإمام وغيره أنه يستقبل القبلة ويجعل الحجرة عن يساره لئلا يستدبره، وذلك بعد تحيته والصلاة والسلام عليه، ثم يدعو لنفسه10. وذكروا أنه إذا حياه وصلى يستقبل وجهه –بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم- فإذا أراد الدعاء جعل الحجرة عن يساره، واستقبل القبلة ودعا. وهذا مراعاة منهم أن [لا] 11 يفعل الداعي أو الزائر ما نهى عنه، من تحري الدعاء عند القبر.
وقد كره مالك –رحمه الله تعالى- وغيره لأهل المدينة كلما دخل أحدهم المسجد
__________
1 هكذا في جميع النسخ. وعليه لا يظهر في الكلام بعده جواب "إذا"، ولعل الصواب: "إذ قد ثبت ... ".
2 ساقط في المطبوع.
3 وقد تقدم الحديث في النهي عن اتخاذ القبور مساجد في ص 655.
4 في "د": أن لا يتحرو.
5 هذا القول ذكره القاضي عياض في المبسوط عن مالك رحمه الله. كما في مجموع الفتاوى لابن تيمية 1/230. ولم أقف على كتاب "المبسوط".
6 في مجموع الفتاوى لابن تيمية، 1/230: ويمضي.
7 المرجع السابق نفس الصفحة.
8 زيادة في "د".
9 في "د": مسطحا.
10 انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية، 27/166-167.
11 زيادة مني لأن سياق الكلام يقتضيها، ضرورة استقامة المعنى المراد.(2/687)
أن يجيء فيسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه. قال وإنما يكون ذلك لأحدهم إذا قدم من السفر أو أراد سفرا1 ونحو ذلك. ورخص بعضهم في السلام عليه إذا دخل للصلاة ونحوها2. وأما قصده دائما للصلاة والسلام عليه، فما علمت أحدا رخص في ذلك، لأن ذلك نوع من اتخاذه عيدا 3، وأيضا فإن ذلك بدعة. فقد كان المهاجرون والأنصار في عهد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي –رضي الله عنهم-/4/بما كان النبي صلى الله عليه وسلم يكرهه من ذلك، وما نهاهم عنه، ولأنهم كانوا يسلمون عليه حين دخول المسجد والخروج منه، وفي آخر الصلاة في التشهد، كما كانوا يسلمون عليه كذلك في حياته. والمأثور عن ابن عمر يدل على ذلك. قال أبو سعيد في سننه: حدثنا عبد الرحمن بن يزيد 5، حدثني أبي عن ابن عمر، إنه كان إذا قدم من سفر أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فصلى وسلم عليه وقال: السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه. وعبد الرحمن بن يزيد وإن كان يضعف -لكن الحديث الصحيح عن نافع6 يدل على أن ابن عمر ما كان يفعل ذلك دائما ولا غالبا- وما أحسن ما قال مالك –رحمه الله- لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما
__________
1 هذا ما كان يفعله ابن عمر رضي الله عنه. انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 1/230.
2 انظر المرجع السابق، 1/231.
3 وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ قبره عيدا، وتقدم الحديث في نهيه عن ذلك في هامش ص 229.
4 الظاهر أن هنا سقط، وتقديره: "لا يعفلونه لعلمهم".
5 هو عبد الرحمن بن يزيد بن تميم السلمي الدمشقي، صاحب مكحول، ضعفه جماعة، منهم: الإمام أحمد والبخاري، والنسائي وأبو زرعة والدارقطني. توفي سنة بضع وخمسين ومائة. ميزان الاعتدال، 2/598؛ وسير الأعلام/ 7/177؛ وتهذيب التهذيب، 6/295.
6 نافع بن مالك بن أبي عامر، الإمام الفقيه أبو سهيل الأصبحي المدني، حدث عن ابن عمر، وأنس بن مالك وغيرهما. وروى عنه مالك بن أنس وابن الشهاب وغيرهما، تأخر إلى قريب من "130هـ".
سير الأعلام، 5/283؛ تهذيب التهذيب، 10/409.(2/688)
أصلح أولها1. ولكن كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم، ونقضوا إيمانهم/عوضوا/2 عن ذلك بما أحدثوا من البدع والشرك وغيره3. ولهذا كرهت /الأئمة/4 استلام القبر وتقبيله، وبنوه بناء منعوا الناس أن يصلوا إليه 5 ومما يبين حكمة الشريعة، وأنها –كما قيل- سفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق؛ أن/الذين/6 خرجوا عن المشروع، زين لهم الشيطان أعمالهم، حتى خرجوا إلى الشرك، فطائفة من هؤلاء يصلون للميت، ويستدبر أحدهم القبلة ويسجد للقبر، ويقول أحدهم: القبلة قبلة العامة، وقبر الشيخ فلان قبلة الخاصة7، وهذا يقوله من هو أكثر الناس عبادة وزهدا، وهو شيخ متبوع، ولعله أمثل أتباع شيخه يقول في شيخه. وآخر من أعيان الشيوخ المتبوعين، أصحاب الصدق والاجتهاد في العبادة والزهد، يأمر المريد أول ما يتوب أن يذهب إلى قبر الشيخ ويعكف عليه، عكوف أهل التماثيل عليها 8.
وجمهور هؤلاء المشركين بالقبور يجدون عند عبادة القبور من الرقة والخشوع والذل وحضور القلب ما لا يجده أحدهم في مساجد الله التي أذن الله أن ترفع
__________
1 انظر: إغاثة اللهفان لابن القيم، 1/229. وقال حذيفة رضي الله عنه: "كل عبادة لم يتعبدها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تتعبدوها، فإن الأول لم يدع للآخر مقالا". الحوادث والبدع للطرطوشي، ص 117.
2 في "د": عوضا.
3 إغاثة اللهفان لابن قيم الجوزية، 1/314.
4 في المطبوع: الأمة.
5 من هنا بداية نقل الشيخ من كتاب: تلخيص كتاب الاستغاثة، المعروف بالرد على البكري، للإمام شيخ الإسلام ابن تيمية "728هـ"، وبهامشه كتاب الرد على الأخنائي، نشر الدار العلمية للطباعة والنشر والتوزيع موري كيت –دلهي 110006، الهند، ص 293.
6 في "د" الذي.
7 وهذا فعل الخواص من الصوفية.
8 وهو ما يفعله جمهور القبوريين من المتصوفة والشيعة ومن نحا نحوهم.(2/689)
ويذكر فيها اسمه. وآخرون يحجون القبور، وطائفة صنفوا كتبا وسموها "مناسك حج المشاهد"، كما صنف أبو عبد الله محمد بن النعمان1 الملقب بالمفيد، آحد شيوخ الإمامية كتابا في ذلك وذكر فيه من الحكايات المكذوبة على أهل البيت ما لا يخفى كذبه على من له معرفة بالنقل.
وآخرون يسافرون إلى قبور المشايخ وإن لم يسموا ذلك نُسكا وحجا فالمعنى واحد. وكثير من هؤلاء أعظم قصده من الحج قصد قبر النبي صلى الله عليه وسلم لا حج البيت، وبعض الشيوخ المشهورين بالدين والزهد والصلاح، صنف كتابا سماه: "الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة والمنام"، 2 وقد ذكر في مناقب هذا الشيخ أنه حج مرة، وكان قبر النبي صلى الله عليه وسلم منتهى قصده، ثم رجع ولم يذهب إلى الكعبة/3. وجُعل ذلك من مناقبه.
فإن كان هذا مستحبا فينبغي لمن يجب عليه حج البيت –إن حج- أن يجعل المدينة منتهى قصده، ولا يذهب إلى مكة، فإنه زيادة كلفة ومشقة مع ترك الأفضل وهذا لا يقوله عاقل.
وبسبب الخروج عن الشريعة، صار بعض أكابر الشيوخ عند الناس ممن يقصده الملوك والقضاة، والعلماء والعامة، على طريقة أبي سبعين 4؛ قيل عنه إنه كان يقول:
__________
1 هو محمد بن محمد بن النعمان بن عبد السلام العكبري أبو عبد الله الملقب بالمفيد، ويعرف بابن المعلم، صاحب التصانيف البدعية وهي مائتا مصنف، طعن فيها على السلف. انتهت إليه رئاسة الشيعة في وقته. "336-413هـ".
انظر ترجمته في: ميزان الاعتدال، 3/131، 4/30؛ سير أعلام النبلاء، 17/ 344؛ العلام للزركلي، 7/21؛ تاريخ بغداد، 3/231؛ النجوم الزاهرة، 4/258.
2 الكتاب لمحمد بن محمد النعمان المفيد. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والشيخ محمد بن النعمان، كان له كتاب المستغيثين بالنبي صلى الله عليه وسلم" في اليقظة والمنام".
انظر الرد على البكري، ص 250.
3 كذا في الرد على البكري، ص 294. وفي بقية النسخ "ثم رجع إلى مكة" وهو خطأ.
4 تقدمت ترجمته في ص 280.(2/690)
البيوت المحجوجة ثلاثة: مكة، وبيت المقدس، والبيت الذي للمشركين في الهند. وهذا لأنه كان يعتقد أن دين اليهود حق، ودين النصارى حق. وجاءه بعض إخواننا العارفين قبل أن يعرف حقيقته، فقال له: أريد أن أسلك/1 على يديك، فقال: على دين اليهود أو النصارى أو المسلمين فقال له: واليهود والنصارى أليسوا كفارا فقال: لا تشدد عليهم، ولكن الإسلام أفضل.
ومن الناس من يجعل مقبرة الشيخ بمنزلة عرفات، يسافرون إليها وقت الموسم فيعرفون بها، كما يعرف المسلمون بعرفات، كما يفعل هذا في المشرق والمغرب ومنهم من يحكي عن الشيخ الميت أنه قال: كل خطوة إلى قبري كحجة، ويوم القيامة لا أبيع 2/ بحجة/3 فأنكر عليه بعض الناس ذلك، فتمثل له الشيطان بصورة الشيخ، /وزجره/4 عن إنكار ذلك. وهؤلاء وأمثالهم وصلاتهم ونسكهم لغير الله رب العالمين، فليسوا على ملة إمام الحنفاء، وليسوا من عمار مساجد الله التي قال الله فيها: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ} 5. وعمار مشاهد المقابر يخشون غير الله، ويرجون غير الله، حتى إن طائفة من أرباب الكبائر، الذين لا يخشون الله فيما يفعلونه من القبائح، /إذا/6 رأى قبة الميت، أو الهلال الذي على رأس القبة/ يتحاشى/7 من فعل الفواحش، ويقول أحدهم لصاحبه: ويحك، هذا هلال القبة، فيخشون المدفون تحت الهلال، ولا يخشون الذي خلق السموات والأرض، وجعل أهلَّة السماء مواقيت
__________
1 في "أ": أسلم.
2 كذا في النسخ، ولعل الصواب "أبيعها".
3 في "د": الحجة.
4 بياض في المطبوع.
5 سورة التوبة الآية "18".
6 في جميع النسخ: فإذا.
7 في "أ" والمطبوع: "فيخشى" وفي "د": "فيتحاشا".(2/691)
للناس والحج 1، وهؤلاء إذا نوظروا خوفوا مناظرهم، كما صنع المشركون مع إبراهيم عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ، وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 2.
وآخرون قد جعلوا الميت بمنزلة الإله، والشيخ الحي المتعلق به كالنبي؛ فمن الميت/ تُطلب/3 قضاء الحاجات وكشف الكربات، وأما الحي فالحلال ما أحله/4 والحرام ما حرمه، وكأنهم في أنفسهم قد عزلوا الله أن يتخذوه إلها، وعزلوا محمدا صلى الله عليه وسلم أن يتخذوه رسولا.
وقد يجيء الحديث العهد بالإسلام، والتابع لهم، المحسن الظن بهم أو غيره، يطلب من الشيخ الميت إما دفع ظلم ملك يريد أن يظلمه أو غير ذلك، فيدخل ذلك السادن فيقول: قد قلت للشيخ، والشيخ يقول للنبي، والنبي يقول لله، والله قد بعث رسولا إلى السلطان فلان.
فهل هذا إلا محض دين المشركين والنصارى؟ وفيه من الكذب والجهل ما لا يستجيزه كل مشرك أو نصراني، ولا يروج عليه، ويأكلون من النذور مما يؤتى به إلى قبورهم، ما يدخلون به في معنى قوله تعالى: {إِنَّ كَثِيراً مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} 5، [فإنهم يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون
__________
1 يشير إلى قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189]
2 سورة الأنعام الآية: "80، 81، 82".
3 في المطبوع: طلب.
4 في "أ" والمطبوع: حلله.
5 سورة التوبة الآية "34".(2/692)
عن سبيل الله] 1 ويعوضون بأنفسهم، ويمنعون غيرهم/ إذ/2 التابع لهم يعتقد أن هذا هو سبيل الله ودينه، فيمتنع بسبب ذلك من الدخول في دين الحق الذي بعث الله به/ رسله/3، وأنزل به كتبه. والله سبحانه/ وتعالى/4 لم يذكر في كتابه المشاهد، بل ذكر المساجد، وأنها خالصة لوجهه، قال تعالى: {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} 5 وقال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} 6، وقال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} 7 وقال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً} 8. ولم يذكر بيوت الشرك؛ كبيوت النيران والأصنام والمشاهد، لأن الصوامع والبيع لأهل الكتاب، فالممدوح من ذلك ما كان/ مبنيا/9 قبل النسخ والتبديل، يؤمنون بالله واليوم الآخر ويعملون الصالحات. فبيوت الأوثان وبيوت النيران وبيوت الكواكب وبيوت المقابر، لم يمدح الله شيئا منها، ولم يذكر ذلك إلا في قصة من لعنهم النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} 10. فهؤلاء الذين اتخذوا مسجدا على أهل الكهف كانوا من النصارى الذين لعنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" /11 وفي
__________
1 ما بين المعقوفتين ساقط في جميع النسخ، وهو في الرد على البكري ص 297.
2 في "د": إذا.
3 في "أ" و "د": رسوله.
4 زيادة في "د".
5 سورة الأعراف: الآية "29".
6 سورة التوبة: الآية "18".
7 سورة النور: الآية "36".
8 سورة الحج: الآية "40".
9 في "د": منا.
10 سورة الكهف: الآية "21".
11 تقدم تخريجه في ص 666.(2/693)
رواية: "وصالحيهم"1، ودعاء المقبورين من أعظم الوسائل إلى ذلك"2.
"وقد قدم بعض شيوخ المشرق فتكلم معي في هذا، فبينت له فساد هذا، فقال: أليس قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور" فقلت هذا كذب باتفاق أهل العلم، لم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم أحد من علماء الحديث3.
وبسبب هذا وأمثاله ظهر مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه؛ قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى قال: فمن؟ " 4"5. "وهؤلاء المشركون، إذا حصل لأحدهم مطلبه ولو من كافر، لم يُقبل على الرسول، بل يطلب حاجته من حيث تُقضى، فتارة يذهب إلى ما يظنه قبر رجل صالح، ويكون فيه/كافر/6 أو
__________
1 هذه رواية عن جندب قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائه وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك".
صحيح مسلم بشرح النووي، 6/17، المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور، واتخاذ الصور فيها والنهي عن اتخاذ القبور مساجد. مشكاة المصابيح، 1/223 كتاب الصلاة، باب المساجد ومواضع الصلاة.
2 إلى هنا منقول من الرد على البكري، ص 297-298.
3 قال الدكتور محمد عفيفي في تحقيقه إغاثة اللهفان لابن القيم 1/323: "حديث موضوع".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- بعد ذكره لهذا الحديث: "فهذا حديث كذب مفترى على رسول الله صلى الله عليه وسلم بإجماع العارفين بحديثه، لم يروه أحد من العلماء بذلك؛ ولا يوجد في شيء من كتب الحديث المعتمدة". مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 1/356، 11/293، قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة، لابن تيمية، ص 174.
4 تقدم لفظ الشيخين، وغيرهما في ص 288. وهذه رواية عبد الرزاق في مصنفه، 11/369.
5 من قوله "وقد تقدم ... " إلى هنا منقول من الرد على البكري، ص 302.
6 في جميع النسخ وفي الرد على البكري: "قبر كافر" بزيادة كلمة "قبر" وهي غير صالحة هنا لأن المعنى المراد هو: أ، المشرك يذهب إلى ما يظنه قبر رجل صالح، ويكون حقيقة الأمر أن في ذلك القبر رجل "كافر". وليس "قبر كافر".(2/694)
منافق؛ وتارة يعلم أنه كافر أو منافق، فيذهب إليه، كما يذهب قوم إلى الكنيسة أو إلى مواضع يقال لهم إنها تقبل النذور1. فهذا يقع فيه عامتهم. وأما الأول2 فيقع فيه خاصتهم "3. "والمقصود هنا أن كثيرا من الناس يعظم قبر من يكون في الباطن كافرا ومنافقا، ويكون هذا عنده والرسول من جنس واحد، لاعتقاده أن الميت يقضي حاجته إذا كان رجلا صالحا؛ وكلا هذين/عنده/4 من جنس واحد يستغيث به.
وكم من مشهد يعظمه الناس وهو كذب، بل يقال/ إنه/5 قبر كافر، كالمشهد الذي بسفح جبل لبنان الذي يقال إنه قبر نوح، فإن أهل المعرفة كانوا يقولون إنه قبر بعض العمالقة.
وكذلك مشهد الحسين الذي بالقاهرة، وقبر أبي بن كعب الذي بدمشق، اتفق العلماء على أنها كذب، ومنهم من قال إنهما/ قبرا/6 نصرانيين. وكثير من المشاهد تنازع/الناس/7 فيها، وعدنها شياطين تُضل/بسببها/8 من تضل، ومنهم من يرى في المنام شخصا يظن أنه المقبور، ويكون ذلك شيطانا، متصورا بصورته، كالشياطين الذين يكونون بالأصنام، وكالشياطين الذين يتمثلون لمن يستغيث بالأصنام والموتى والغائبين 9، وهذا كثير في زماننا وغيره، مثل أقوام يرصدون بعض التماثيل
__________
1 في "د": النذر.
2 وهو الذهاب إلى ما يظنه قبر رجل صالح.
3 من قوله "وهؤلاء الغلاة المشركون" إلى هنا منقول من الرد على البكري، ص 308.
4 زيادة في "د".
5 ساقطة في "د".
6 في "د": قبران. وهو خطأ لتختم حذف النون للإضافة.
7 زيادة في المطبوع.
8 في المطبوع: بسبها.
9 ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية هذا الكلام، وضرب أمثلة على تمثل الشيطان ببعض الشخصيات.
انظر ذلك في مجموع فتاواه 1/359-360.(2/695)
التي بالبراري بديار مصر/بإخميم/1 وغيرها، /يرصدون/2 التمثال مدة لا يتطهرون طهر المسلمين، ولا يصلون صلاة المسلمين، ولا يقرءون، حتى يتعلق الشيطان تلك الصورة، فيراها تتحرك، فيطمع فيها أو غيرها، فيرى/ شيطانا/3 قد خرج له فيسجد لذلك الشيطان حتى يقضي/ بعض/4 حوائجه.
ومثل هؤلاء كثير في شيوخ الترك/ الكفار/5، يسمونه/البودي/6 وهو المخنث عندهم، إذا طلبوا منه بعض هذه الأمور، أرسلوا إليه من ينكحه،/ونصبوا/7 له حركات عالية في ليلة مظلمة، وقربوا له خبزا وميتة، وغنوا غناء يناسبه، بشرط أن لا يكون عنده من يذكر الله 8، ولا هنالك شيء فيه من ذكر الله، ثم يصعد ذلك الشيخ المفعول به في الهواء، ويرون الدف يطير في الهواء، وتضرب من مد يديه إلى الخبز، ويضرب الشيطان بآلات اللهو وهم يسمعون،/ويغني/9 لهم الأغاني التي
__________
1 في "د": ببلاد خميم. والصواب المثبت. وإحميم: بلد بالصعيد في الإقليم الثاني "أي من إخميم إلى البهنسا" كما قسمه الياقوت في معجم البلدان، 3/408"، وهو بلد قيدم على شاطئ النيل بالصعيد.
انظر: معجم البلدان 1/123-124.
2 كذا في "أ" والمطبوع: يرصدون، وفي بقية النسخ "يقصدون".
3 في "د": شيطان.
4 ساقطة: في "د".
5 ساقطة في "د".
6 كذا في "أ" و "د": البودي. وفي بقية النسخ "البوشت".
7 في "أ" و "د": وينصبوا.
8 إنه من الملاحظ أن الشيطان وأحواله لا يصمد أمام ذكر الله تعالى، فإن يتحلى عمن يكون قد تلبس به، أو حمله في الجو أو تمثل له في صورة شيء ما بمجرد سماعه لذكر الله تعالى. ويروي شيخ الإسلام ابن تيمية حكاية الشيخ عبد القادر، حيث ظهر له عرش عظيم وعليه نور، فقال له: يا عبد القادر أنا ربك وقد حللت لك ما حرمت على غيرك، فقال له: أنت الله الذي اله الذي لا إله إلا هو؟ اخسأ يا عدو الله. قال: فتمزق ذلك النور وصار ظلمة.
انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية، 1/172.
9 كذا في المطبوع؛ وفي "أ" و "د": ويغنا.(2/696)
كانت يغنيها آباؤهم الكفار. ثم قد يغيب. وكذلك الطعام، وقد/نقل/1 إلى بيت /البودي/2 وقد لا يغيب؛ /ويقربون/3 له ميتة، يحرقونها بالنار، /فيقضي/4 بعض حوائجهم"5.
ومثل هذا كثير للمشركين، فالذي يجري عند المشاهد من جنس ما يجري عند الأصنام، وقد تيقنت بطرق متعددة أن ما يشرك به من دون الله، من صنم وقبر وغير ذلك، يكون عنده شياطين، تُشل من أشرك به؛ وأن تلك الشياطين لا يقضون إلا بعض أغراضهم، وإنما يقضون بعض أغراضهم إذا حصل لهم من الشرك والمعاصي ما يحبه الشيطان.
/فمنهم من يأمر الداعي أن يسجد له، ومنهم من يأمره بالفواحش، وقد يفعلها الشيطان/6 وقد ينهاه عما أمر به من التوحيد والإخلاص والصلوات الخمس وقراءة القرآن ونحو ذلك7. والشياطين تُغوي الإنسان بحسب ما تطمع منه، فإن كان ضعيف الإيمان أمرته بالكفر البين، وإلا أمرته بما هو فسق أو معصية، وإن كان قليل العلم أمرته بما لا يعرف أنه مخالف للكتاب والسنة؛ وقد وقع في هذا النوع كثير من الشيوخ الذين لهم نصيب وافر من الدين والزهد والعبادة، لكن لعدم علمهم بحقيقة الدين الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، طمعت فيهم الشياطين، حتى أوقعوهم فيما يخالف الكتاب والسنة. وقد جرى لغير واحد من /أصحابنا/8
__________
1 في "د": ينقل.
2 كذا في "أ" و"د" والرد على البكري "البودي" وفي بقية النسخ "البوشت".
3 في "د": ويقربوا.
4 كذا في المطبوع، وفي "أ" و "د": يقضي.
5 من قوله "والمقصود هنا ... " إلى هنا منقول من الرد على البكري، ص 310-311.
6 ساقطة في المطبوع.
7 انظر ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية مما يطلبه الشيطان من عابديه، مجموع فتاوى ابن تيمية، 1/362.
8 في "أ": أصحاب.(2/697)
المشائخ، يستغيث بأحدهم بعض أصحابه فيرى الشيخ في اليقظة، حتى قضى ذلك المطلوب1. وإنما هي /شياطين/2 تتمثل للمشركين الذين يدعون غير الله.
والجن بحسب الإنس، فالكافر للكافر، والفاجر للفاجر، والجاهل للجاهل. وأما أهل العلم والإيمان فاتباع الجن لهم كاتباع الإنس، يتبعونه فيما أمر الله به /و/3 رسوله.
"وكان رجل يباشر التدريس وينتسب إلى الفتيا، كان يقول: النبي صلى الله عليه وسلم يعلم ما لا يعلمه الله4، ويقدر على ما لا يقدر الله عليه، وأن هذا السر انتقل بعده إلى الحسين 5، ثم انتقل في ذرية الحسن إلى الشيخ أبي الحسن الشاذلي6، 7.
وقالوا هذا مقام القطب الغوث8
__________
1 هذا من جنس ما حدث لشيخ الإسلام ابن تيمية، فقد قال رحمه الله: " ... وأعرف من ذلك وقائع كثيرة في أقوام استغاثوا بي وبغيري في حال غيبتنا عنهم فرأوني أو ذاك الآخر الذي استغاثوا به، قد جئنا في الهواء ودفعنا عنهم، ولما حدثوني بذلك، بينت لهم أن ذلك إنما هو شيطان تصور بصورتي وصورة غيري من الشيوخ الذين استغاثوا بهم ... ".
مجموع فتاوى شيخ الإسلام، 1/360.
2 كذا في المطبوع، وفي بقية النسخ "شيطان".
3 ساقط في "د" والمطبوع.
4 هذا –والعياذ بالله- كفر بالله العليم القدير، إذ إنه رد صريح لما أثبته في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فالآيات والأحاديث المثبتة لإحاطة علم الله لجميع الكائنات، كثيرة جدا، بل إنه سبحانه وتعالى نفى ذلك عن عباده قال تعالى: يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:255] .
5 أي الحسن بن علي بن أبي طالب، سبط الرسول صلى الله عليه وسلم.
6 هو علي بن محمد بن خلف المنوفي المصري الشاذلي، أبو الحسن، من فقهاء المالكية، ولد بالقاهرة عام "857هـ" وتوفي سنة "939هـ" بالقاهرة.
شجرة النور الزكية، ص 272؛ الأعلام للزركلي، 5/11.
7 هذا الكلام ذكره شيخ الإسلام في الرد على البكري، ص 218.
8 هذه بعض مصطلحات المتصوفة، التي هي مدار معتقدهم في الأولياء فلهم في الولاية تقسيمات عدة منها: الغوث: وهو الولي المتحكم في كل شيء في العالم. الأقطاب الأربعة: وهم الذين يمسكون الأركان الأربعة في العالم بأمر الغوث. الأبدال السبعة: الذين يتحكم =(2/698)
/الفرد/1 الجامع. وكان شيخ آخر معظم عند أتباعه، يدَّعي هذه المنزلة، ويقول إنه المهدي الذي بشر به النبي صلى الله عليه وسلم وأنه يزوج عيسى ابنته، وأن تواصي الملوك بيده، والأولياء بيده، يولي من يشاء ويعزل من يشاء، وأن الرب يناجيه دائما، وأنه الذي يمد حملة العرش وحيتان البحر؛ وقد عزَّرته تعزيرا بليغا في يوم مشهود، في حضرة من أهل المسجد الجامع يوم الجمعة بالقاهرة، فعرفه الناس، وانكسر بسببه أشباهه من الدجاجلة.
ومن هؤلاء من يقول: قول الله سبحانه/ وتعالى/2 {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً، لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} 3 أن الرسول هو الذي يسبح بكرة وأصيلا.
ومنهم من يقول: إن الرسول يعلم مفاتيح الغيب الخمس، التي قال النبي صلى الله عليه وسلم فيها: "خمس لا يعلمهن إلا الله، إن الله عنده علم الساعة، وينزل الغيث، ويعلم ما في الأرحام، وما تدري نفس ماذا تكسب غدا، وما تدري نفس بأي أرض تموت/إن الله عليم خبير/4"5. وقال إنه علمها بعد أن أخبر أنه لا يعلمها إلا الله.
__________
= كل واحد منهم في قارة من القارات السبع بأمر الغوث. النجباء: كل واحد منهم يتصرف في ناحية تتحكم في مصائر الخلق. فأولئك هم الأولياء المتصرفون في عالم المتصوفة الخرافي. انظر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة، لعبد الرحمن عبد الخالق، ص 37. وانظر قول شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان بطلانها: مجموع الفتاوى، 11/433 وما بعدها.
1 ساقطة في "د".
2 كذا في "د". وفي "أ" والمطبوع: "وبحمده".
3 سورة الفتح: الآيتان "8، 9".
4 ساقط في "د" والمطبوع.
5 مسند الإمام أحمد 5/253، واللفظ له. صحيح البخاري مع الفتح، 8/141، التفسير، باب {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} برواية: "مفاتح الغيب خمس، إن الله عنده علم الساعة ... " الحديث. صحيح مسلم بشرح النووي، 1/277، 279، الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان ... إلخ؛ بلفظ: "خمس من الغيب ... ". سنن النسائي 8/103، الإيمان، باب صفة الإيمان والإسلام.(2/699)
ومنهم من يقول: أسقط الربوبية، وقل في الرسول ما شئت. ومنهم من يقول: نحن نعبد الله ورسوله. ومنهم من يأتي إلى قبر الميت فيقول: اغفر لي وارحمني ولا توقفني على زلة. إلى أمثال هذه الأمور التي يتخذ فيها المخلوق إلها1.
/أقول/2: وهذه سنة مأثورة وطريقة مسلوكة والله غير مهجورة، وضلالة واضحة مشهورة، وبدعة مشهورة غير منكورة، وأعلامها مرفوعة منشورة، وراياتها منصوبة غير مكسورة، وبراهينها غير محدودة ولا محصورة، ودلائلها في كثير من المصنفات والمناظيم مذكورة، كما قال ذلك في البردة، وبين في ذلك قصده:
دع ما ادعته النصارى في نبيهم ... واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم3
فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم4
ولو نطيل بنقل هذه الأخبار، لحررنا مها أسفارا، /فلنكف عنان القلم/5 اليراع6 في هذا؟ الميدان. فالحكم والله لا يخفى على ذي عيان، بل أجلى من ضياء الشمس
__________
1 من قوله "وكان رجل يباشر ... " إلى هنا نقله من الرد على البكري بتصرف، ص 218، 219.
2 بياض في "أ". وجاء على هامش "د" تعليق الناسخ بقوله: "هذا من كلام شيخنا عبد اللطيف".
3 بردة المديح المبارك، لأبي عبد الله محمد الوصيري، نشر مكتبة الحاج محمد وأولاده، ممباسا، كينيا، ص 11.
4 المصدر السابق، ص 35. في البيت ترى كيف أضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما استأثر الله بعلمه، من علم اللوح والقلم، وهذا ادعاء منه ونسبة لمعرفة الغيب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الأمر الذي نفاه عن نفسه عليه السلام كم في قوله: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} [الأنعام:50] .
5 كذا في "د". وفي "أ" والمطبوع: فلنكفف عن قلم.
6 اليراع: له معان، منها: القصب، وواحدة براعة. ومنها: الجبان الذي لا عقل له ولا رأي. ومنها الضعاف من الغنم وغيرها. وله معان أخرى.
والأصل في اليراع القصب، ثم سمي به الجبان الضعيف. والقصب هو المقصود هنا حيث إن منه كان يتخذ القلم. لسان العرب، 8/413، مادة: "يرع".(2/700)
في البيان. فلما استقر هذا في نفوس عامتهم، تجد أحدهم إذا سئل عمن ينهاهم، ما يقول هذا؟ فيقول: فلان ما ثم عنده إلا الله، لما استقر في نفوسهم أن يجعلوا مع الله إلها آخر، وهذا كله وأمثاله وقع ونحن بمصر، وهؤلاء الصالحون مستخفون بتوحيد الله، ويعظمون دعاء غير الله من الأموات، فإذا أمروا بالتوحيد ونهوا عن الشرك استخفوا الله، كما أخبر الله تعالى عن المشركين بقوله: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً} 1. فاستهزؤا بالرسول صلى الله عليه وسلم لما نهاهم عن الشرك. وقال تعالى عن المشركين: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ، وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ، بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} 2. وقال تعالى: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ، أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 3.
وما زال المشركون يُسَفِّهون الأنبياء ويصفونهم بالجنون والضلال والسفاهة، كما قال قوم نوح لنوح، وعاد لهو عليهما السلام، {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} 4. فأعظم ما سفهوه لأجله، وأنكروه هو التوحيد.
وهكذا تجد من فيه شبه من هؤلاء من بعض الوجوه، إذا رأى من/يدعو/5 إلى توحيد الله، وإخلاص الدين له، وأن لا يعبد الإنسان إلا الله، ولا يتوكل إلا عليه، استهزأ بذلك لما عنده من الشرك.
__________
1 سورة الفرقان الآية "41". والجزء الأخير من الآية، قوله: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً} لا يوجد في "أ" و "د"، وكملت به الآية لكونه محل الشاهد.
وفي المطبوع ذكر بدل هذه الآية، آية أخرى هي قوله تعالى: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ} [الأنبياء:36] .
2 سورة الصافات: الآيات "35-37".
3 سورة ص: الآيتان "4، 5".
4 سورة الأعراف: الآية "70".
5 في "د": يدعي.(2/701)
"1 وكثير من هؤلاء يخربون المساجد ويعمرون المشاهد، فتجد المسجد الذي /بُني للصلوات/2 الخمس معطلا مخربا ليس له كسوة إلا من الناس، وكأنه خان من الخانات، والمشهد الذي/ بُني/3 على الميت /عليه/4 الستور وزينة الذهب والفضة والرخام، والنذور تغدو إليه وتروح، فهل هذا إلا من استخفافهم بالله وآياته ورسوله، وتعظيمهم للشرك، فإنهم يعتقدون أن دعاءهم للميت الذي بني له المشهد، والاستغاثة به، أنفع لهم من دعاء الله والاستغاثة به، في البيت الذي بُني لله عز وجل، ففضلوا البيت الذي بني لدعاء المخلوق، على البيت الذي بني لدعاء الخالق.
وإذا كان لهذا وقف، ولهذا وقف، كان وقف الشرك أعظم عندهم، مضاهاة لمشركي العرب/ الذين/5 ذكر الله حالهم في قوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً} الآية6 /كانوا/7 يجعلون له زرعا وماشية، ولآلهتهم زرعا وماشية. فإذا أصيب نصيب آلهتهم أخذوا من نصيب الله، فوضعوه فيه، وقالوا: الله غني وآلهتنا فقيرة 8 فيفضلون ما يجعل لغير الله على ما يجعل لله، وهكذا/ حال الوقوف/9 والنذور التي تبذل عندهم للمشاهد، أعظم مما يبذل عندهم للمساجد /ولعمارة/10 المساجد والجهاد في سبيل الله.
__________
1 من هنا منقول من الرد على البكري، ص 349.
2 كذا في الرد على البكري. وفي النسخ "يبنى للصلاة".
3 كذا في الرد على البكري. وفي النسخ "يبنى".
4 كذا في الرد على البكري. وفي النسخ "فعليه".
5 في "د": الذي.
6 سورة الأنعام: الآية "136".
7 في الرد على البكري "كما".
8 انظر جامع البيان للطبري، 8/40-41؛ الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، 7/59؛ تفسير ابن كثير، 2/186.
9 كذا في الرد على البكري، وفي بقية النسخ "حال أهل الوقوف".
10 كذا في الرد على البكري، وفي بقية النسخ "ولعمار".(2/702)
وهؤلاء إذا قصد أحدهم القبر الذي يعظمه، بكى عنده وخضع، ويدعو ويتضرع، ويحصل له من الرقة والتواضع والعبودية وحضور القلب، ما لا يحصل له مثله في الصلوات الخمس والجمع، وقيام الليل، وقراءة القرآن؛ فهل هذا الأمر إلا من حال المشركين المبتدعين لا الموحدين المخلصين المتبعين لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومثل هذا إذا سمع الآيات، يحصل له من الحضور والخشوع والبكاء، ما لا يحصل له مثله عند سماع آيات الله؛ فيخشع عند سماع المبتدعين المشركين، ولا يخشع عند سماع المتقين المخلصين، بل إذا سمعوا آيات الله استثقلوها وكرهوها واستهزؤا بها، فيجعل لهم أعظم/ نصيب/1 من قوله: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} 2. وإذا سمعوا القرآن سمعوه بقلوب لاهية، وألسنة لاغية، كأنهم صم عمي، وإذا سمعوا الأبيات حضرت قلوبهم، وسكتت ألسنتهم، وسكنت حركاتهم، حتى لا يشرب العطشان/منهم ماء/3.
"ومن هؤلاء/من/4 إذا كانوا في سماعهم، فأذن المؤذن قالوا: نحن في شيء أفضل مما دعانا إليه. ومنهم من يقول: كنا في الحضرة، فإذا قمنا إلى الصلاة صرنا إلى الباب. وقد سألني بعضهم عمن قال ذلك من هؤلاء الشيوخ الضلال، فقلت/صَدَقَ، كان في حضرة/5 الشيطان، فصار على باب الله، فإن البدع والضلال، فيها من حضور الشيطان، ما قد فُصِّل في غير هذا الموضع"6.
والذين جعلوا دعاء الموتى من الأنبياء والأئمة والشيوخ، أفضل من دعاء الله أنواع متعددة منهم: من تقدم؛ ومنهم من يحي أنواعا من الحكايات [مثل حكاية أن بعض
__________
1 في "أ": نصيبا.
2 سورة التوبة: الآية "65".
3 كذا في الرد على البكري، وفي بقية النسخ سقط كلمة "ماء".
4 ساقطة في "د".
5 كذا في "أ". وفي "د": "كذب في حضرة ... ". وفي المطبوع: سقط كلمة "صدق".
6 من قوله "ومن هؤلاء ... " إلى هنا منقول من الرد على البكري، ص 350.(2/703)
المريدين استغاث بالله فلم بغتة، فاستغاث بشيخه فأغاثه. وحكاية أن بعض المأسورين في بلاد العدو دعا الله 1] /فلم يخرجه/2 فدعا بعض المشايخ الموتى /فجاءه/3 فأخرجه إلى بلاد الإسلام.
وحكاية أن بعض المشايخ قال لمريده: إذا كانت لك إلى الله حاجة فتعال إلى قبري، وآخر قال: فتوسل إلى الله بي، وآخر قال: قبر فلان هو الترياق المجرب.
فهؤلاء وأشباههم يرجحون هذه الأدعية، على أدعية المخلصين لله، مضاهاة للمشركين. وهؤلاء يتمثل لكثير منهم صورة شيخه الذي يدعوه، فيظنه إياه، أو ملكا على صورته، وإنما هو شيطان أغواه.
ومن هؤلاء من إذا/نزلت/4 به شدة، لا يدعو إلا شيخه، ولا يذكر إلا اسمه، قد لهج به كما يلهج الصبي بذكر أمه،/فيتعسر/5 أحدهم فيقول: يا فلان6. وقد قال الله للمؤمنين: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} 7. ومن هؤلاء من يحلف بالله فيكذب8 ويحلف بشيخه وإمامه فيصدق، فيكون شيخه عنده في 9 صدره أعظم10
__________
1 ما بين المعقوفتين ساقط في جميع النسخ والتكملة من الرد على البكري، ص 351.
2 في "د": نخرجه.
3 ساقطة في جميع النسخ. والتكملة من الرد على البكري.
4 في "د": نزل.
5 كذا في "د" والرد على البكري، وفي بقية النسخ "فيتعس".
6 وهذا يحدث كثيرا في زمننا هذا. وقد أفردت له فصلا في رسالتي الماجستير، "مظاهر الانحراف في توحيد العبادة لدى بعض مسلمي أوغندا معالجتها على ضوء الإسلام".
7 سورة البقرة: الآية "200".
8 وهذا يعرف بيمين الصبر، التي يكون الرجل فيها متعمدا الكذب، وهو كبيرة من الكبائر.
انظر: التعريفات للجرجاني، ص 333.
9 في جميع النسخ: وفي بزيادة واو، وهو غير موجود في الرد على البكري.
10 وهذا ضلال وبعد عن الله، ومخالفة لما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم =(2/704)
/من الله/1. 2
فإذا كان دعاء الموتى مثل الأنبياء والصالحين يتضمن هذا الاستهزاء بالله وآياته ورسوله، فأي الفريقين أحق بالاستهزاء بالله وآياته ورسوله من كان يأمر بدعاء الموتى والاستغاثة بهم، مع ما يترتب على ذلك من الاستهزاء بالله وآياته ورسوله، أو من كان يأمر بدعاء الله وحده لا شريك له، كما أمرت رسله ويوجب طاعة الرسول ومتابعته في كل ما جاء به، وأيضا فإن هؤلاء الموحدين من أعظم الناس لجانب الرسول صلى الله عليه وسلم تصديقا له فيما أخبر، وطاعة له فيما أمر، واعتناء بما بعث به.
ولتمييز ما روي عنه من الصحيح والضعيف والصدق والكذب، واتباع ذلك دون ما خالفه، عملا بقوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} 3.
وأما/أولئك/4 الضلال أشباه المشركين النصارى، فعمدتهم إما أحاديث ضعيفة أو موضوعة، أو منقولات ممن لا يحتج/بقوله/5،/وإما/6 أن تكون كذبا عليه، وإما أن يكون/غلطا/7 منه، إذ هي نقل غير مصدق من قائل غير معصوم؛ وإن
__________
= وصحابته الكرام رضوان الله عليهم أجمعين. وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحلف بغير الله، فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك". والحديث تقدم تخريجه في ص 198.
وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه قوله: "لأن أحلف بالله كاذبا، أحب إليّ من أحلف بغيره صادقا". حلية الأولياء، 7/267.
1 ساقطة في "د" والمطبوع.
2 إلى هنا نهاية النقل من الرد على البكري، ص 351.
3 سورة الأعراف: الآية "3".
4 في "د": هؤلاء.
5 في "د": هؤلاء.
6 في "د": والمطبوع: إما.
7 في "أ": غلط.(2/705)
اعتصموا بشيء مما ثبت عن الرسول، حرفوا الكلم عن مواضعه، وتمسكوا بمتشابهه، وتركوا محكمه، كما فعله النصارى. وهذا ما علمته ينقل عن أحد من العلماء، لكنه موجود في كلام بعد الناس، مثل الشيخ يحيى الصرصري1، ففي شعره قطعة منه، والشيخ محمد بن النعمان2 وكتاب "المستغيثين بالنبي/ صلى الله عليه وسلم/3 في اليقظة والمنام"4. وهؤلاء لهم صلاح ودين، لكن ليسوا من أهل العلم، العالمين بمدارك الأحكام، الذي يؤخذ بقولهم في شرائع الإسلام، ومعرفة الحلال والحرام، وليس لهم دليل شرعي، ولا نقل عن عالم مرضي، بل عادة/ جروا/5 عليها كما جرت عادة كثير من الناس، بأنه يستغيث بشيخه في الشدائد ويدعوه، وكان بعض الشيوخ الذين أعرفهم، ولهم صلاح وعلم وزهد، إذا نزل به أمر، خطا إلى جهة الشيخ عبد القادر خطوات معدودة، واستغاث به. وهذا يفعله كثير من الناس 6 7. ولهذا
__________
1 هو يحيى بن يوسف بن يحيى، أبو زكريا جمال الدين الصرصري، الأنصاري، شاعر، من أهل صرصر، على مقربة من بغداد، كان ضريرا. له ديوان شعر مخطوط، ومنظومات في الفقه وغيره. قتله التتار يوم دخلوا بغداد سنة "656هـ". البداية والنهاية، 13/224؛ النجوم الزاهرة 7/66؛ الأعلام للزركلي، 8/177.
2 تقدمت ترجمته في ص 690.
3 في "ا": عليه السلام.
4 وهو كتاب لمحمد بن النعمان الملقب بالمفيد.
5 في "د": جرى.
6 هنا تعليق في المطبوع هو: "قد ذكروا في بعض الكتب وما زالوا يتناقلون أن من أصابته شدة، فليصل ركعتين، ثم ليتوجه إلى الشرق –أي إلى بغداد- وينادي الشيخ، وينشد هذين البيتين في الاستغاثة والاستجارة به:
أيدركني ضيم وأنت ذخيرتي ... وأظلم في الدنيا وأنت مجيري
وعار على راعي الحمى وهو في الحمى ... إذا ضاع في الهيجا عقال بعير
ويقول سيدي عبد القادر، اقض حاجتي، ويذكرها. قالوا: فإنها تقضى وأن ذلك مجرب". انتهى كلامه. وهذا بلا ريب شرك أكبر، الذي لا يغفر الله صاحبه إلا بالتوبة النصوح، إذ إنه طلب عون وغوث من مخلوق ضعيف، وهي من الأمور التي استأثر الله بها سبحانه وتعالى.
7 من قوله: "وأما أولئك الضلال ... " إلى هنا، منقول من الرد على البكري، ص 376.(2/706)
لما نُبه/من نبه/1 من فضلائهم، تنبهوا، وعلموا أن ما كانوا عليه ليس من دين الإسلام/ في شيء/2، بل هو مشابهة لعباد الأصنام، ونحن نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته أن يدعوا أحدا من الأموات، لا الأنبياء ولا غيرهم بلفظ الاستغاثة ولا بغيرها، كما لم يشرع السجود لميت، ولا إلى ميت ونحو ذلك، بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور، وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله ورسوله، لكن لغلبة الجهل، وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين لم يمكن تكفيرهم بذلك، حتى يبين لهم ما جاء به الرسول مما يخالفه3، ولهذا ما بينت المسألة قط لمن يعرف دين الإسلام إلا تفطن لهذا، وقال:/هذا هو أصل دين الإسلام/4.
وكان بعض أكابر الشيوخ العارفين من أصحابنا، يقول: هذا أعظم ما بينته لنا، لعلمه بأن هذا أصل الدين، وكان هذا وأمثاله في ناحية أخرى، يدعون الأموات ويسألونهم، ويستجيرون بهم ويتضرعون إليهم، وربما كان/ الذي/5 يفعلونه بالأموات أعظم، لأنهم إنما يقصدون الميت في ضرورة نزلت بهم،/ فيدعون/6 دعاء المضطر، راجين قضاء حاجاتهم بدعائه، أو الدعاء به أو الدعاء عند قبره، بخلاف عبادتهم/لله ودعائهم/7 إياه؛ فإنه يفعلونه في كثير من الأوقات على وجه العادة.
__________
1 في المطبوع: من نبه له.
2 زيادة في "د".
3 هذه هي القاعدة السليمة التي قررها علماء السلف الصالح، والتي عليه أهل السنة. وهي عدم تكفير المرء بمعصية هو عليها -وإن كانت مكفرة- حتى يبين له الصواب، ويزال عنه الشبهات، ويعلم أن ما هو عليه مكفر لصاحبه. وهذا خلاف ما عليه بعض المتحمسين اليوم، من إطلاق الكفر على المرء بعينه، بأدنى شبهة يرونها منه.
4 في "أ" والمطبوع: هذا أصل الإسلام.
5 ساقط في "د".
6 في "د": فيدعوه.
7 كذا في الرد على البكري، ص 376، وفي النسخ "الذي دعاهم".(2/707)
والتكلف، حتى أن العدو1 الخارج عن شريعة الإسلام، لما قدم دمشق، خرجوا يستغيثون بالموتى عند القبور التي يرجون عندها كشف ضرهم. قال بعضهم:
يا خائفين من التتر ... لوذوا2 بقبر أبي عمر
ينجيكمو من الضرر
فقلت لهؤلاء الذين يستغيثون بهم: لو كانوا معكم في القتال لانهزموا كما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحد، فإنه كان قد قضى أن العسكر ينكسر لأسباب اقتضت ذلك، ولحكمة كانت لله في ذلك.
ولهذا كان أهل المعرفة في الدين والمكاشفة لم يقاتلوا في تلك المرة، لعدم القتال الشرعي الذي أمر الله به ورسوله، فلما كان بعد ذلك جعلنا نأمر بإخلاص الدين لله، والاستغاثة به، وأنهم لا يستغيثون إلا إياه ولا يستغيثون /لا/3 بملك مقرب ولا نبي مرسل، فلما أصلح الناس أمورهم، وصدقوا بالاستغاثة بربهم، نصرهم على عدوهم نصرا عزيزا لم يتقدم نظيره، ولم يهزم التتار مثل هذه الهزيمة أصلا، لما صح من توحيد الله وطاعة رسوله، ما لم يكن قبل ذلك، فالله ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد 4، كما قال تعالى في يوم بدر: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} 5. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول كل يوم: "يا حي يا يقوم برحمتك أستغيث" 6.
__________
1 يقصد بالعدو، جيش التتار الذي غزى ديار الإسلام. وقد تقدم الحديث عنه في ص 230.
2 في الرد على البكري، ص 377: أو قال: عوذوا ...
3 زيادة في "د".
4 هذا اقتباس من قوله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51] .
5 سورة الأنفال الآية "9".
6 سنن الترمذي 5/504، الدعوات، باب "92"، قال الترمذي: "هذا حديث غريب". مشكاة المصابيح، 1/753 "2454". الترغيب والترهيب، 1/457. وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 3/172. وللحديث شاهد في المستدرك للحاكم، 1/509، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إذا نزل به هم أو غم قال: "يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث" قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.(2/708)
/و/1 في لفظ: "أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين، ولا إلى أحد من خلقك" 2 وهؤلاء يدعون الميت والغائب، فيقول أحدهم: بك أستغيث، بل أستجير، أغثنا أجرنا، ويقول: أنت تعلم ذنوبي، ومنهم من يقول للميت: اغفر لي وارحمني وتب عليّ ونحو ذلك3. ومن لم يقل هذا ن عقلائهم فإنه يقول: أشكو إليك ذنوبي، وأشكو إليك عدوي، وأشكو إليك جور الولاة، وظهور البدع، أو جدب الزمان، وغير ذلك، فيشكو إليه ما حصل من ضرر الدين والدنيا. ومقصوده في الشكوى أن يُشكيه4 فيزيل ذلك الضرر. وقد يقول –مع ذلك- للميت: أنت تعلم ما نزل بنا من الضرر، وأنت تعلم ما فعلته من الذنوب، فيجعل الميت والحي والغائب عالما بذنوب العباد،/ ومجرياتهم/5 التي يمتنع
__________
1 زيادة في "د" والمطبوع.
2 المعجم الصغير للطبراني، أحمد بن أيوب اللخمي "ت360هـ" تصحيح عبد الرحمن محمد عثمان، المكتبة السلفية بالمدينة المنورة، دار النصر للطباعة القاهرة، 1388هـ -1968م، 1/159، ولفظه في آخره: "إلى أحد من الناس". وبه أجرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 10/180. وقال: رواه الطبراني في الصغير والأوسط من طريق سلمة بن حرب بن زياد الكلابي عن أبي مدرك عن أنس. وقد ذكر الذهبي سلمة في الميزان فقال: مجهول كشيخه أبي مدرك. وقد وثق ابن حبان سلمة، وذكر له هذا الحديث في ترجمته.
انظر قول الذهبي في ميزان الاعتدال 2/189.
3 هذا عين ما يفعله عباد الأضرحة والمشاهد من جهلة المسلمين وغيرهم، حتى اليوم. ومثله ما جاء في كلام البوصيري في "البردة" حيث طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أمورا لا تطلب إلا من الله تعالى، ولا يملكها إلا الله، من مغفرة لذنوبه، والاستنصار، والاستعانة به ونحو ذلك.
انظر: بردة المديح المباركة للوصيري، ص 32، 33، 34، وغيرها.
4 يشكيه: بضم الياء، من الإشكاء، وهو: إزالة ما يشكو منه من ضر.
لسان العرب، 14/440، مادة "شكا".
5 في "أ": "وجريانهم". وفي "د" "وجرياتهم". وفي المطبوع: "وما جرياتهم". والتصحيح من عندي.(2/709)
أن/يعلمها/1 بشر حي أو ميت.
وعقلاؤهم يقولون: مقصودنا أن يسأل الله لنا، /ويشفع لنا/2 ويظنون أنهم إذا سألوه بعد موته أن يسأل الله لهم، فإنه يسأل ويشفع كما كان3 يسأل ويشفع لما سأله الصحابة الاستسقاء وغيره، وكما يشفع يوم القيامة إذا سئل الشفاعة، ولا يعلمون أن سؤال الميت والغائب غير مشروع البتة، ولم يفعله أحد من الصحابة، بل عدلوا عن سؤاله وطلب الدعاء منه، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء والصالحين وغيرهم، لا يطلب من أحدهم بعد موته من الأمور ما كان يطلب منه في حياته. انتهى كلام الشيخ –رحمه الله- تعالى مخلصا4.
فانظر –رحمك الله- إلى ما ذكره هذا الإمام من أنواع الشرك الأكبر، الذي قد وقع في زمانه، ممن يدعي العلم والمعرفة،/وينتصب/5 للفتيا والقضاء،، لكن لما نبههم الشيخ –رحمه الله تعالى- على ذلك، وبين لهم أن هذا من الشرك الذي حرمه الله ورسوله، تنبه من تنبه منهم وتاب إلى الله، وعرف أن ما كان عليه شرك وضلال، وانقاذ للحق. وهذا مما يبين لك غربة الإسلام في ذلك الوقت عدد كثير من الأنام، وأن هذا مصداق ما تواترت به الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم" الحديث6 وقوله: "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ" 7.
__________
1 في "د": يعملها.
2 ساقطة في المطبوع.
3 الظاهر أن هنا سقط لكلام فيه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم كما يدل عليه الكلام بعده.
4 وهو كلام شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- الذي كانت بدايته في ص 676. وقد جاء هذا الملخص من كتاب: الرد على البكري.
5 في "د": وينتسب.
6 تقدم تخريجه في ص 288-430.
7 تقدم تخريجه في ص 254.(2/710)
وبهذا ينكشف لك ويتضح عندك بطلان ما عليه كثير من أهل الزمان من أنواع الشرك والبدع الحدثان، فلا تغتر بما هم عليه. وهذه هي البلية العظيمة، والخصلة القبيحة الذميمة، وهي الاغترار بالآباء والأجداد، وما استمر عليه عمل كثير من أهل البلاد، وتلك الحجة التي/ انتحلها/1 أهل الشرك والكفر والعناد، كما حكى الله تعالى ذلك عنهم في محكم التنزيل، من غير شك ولا تأويل، حيث قال/ الله تعالى:2 وهو أصدق القائلين حكاية عن فرعون اللعين، أنه قال لموسى وأخيه هارون الكريمين: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} 3 فأجابه عليه السلام بقوله: {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} 4. فمن امتطى كاهل الصدق والوفاء، سلم من التعصب والعناد والجفاء، وتوسط في/ لاحب/5 المحجة، وقنع في قبول الحق بالحجة، وكان ذلك طريقه/و/6، وأشرق في صدره مصباح القبول، وأوقد فيه بزيت المعرفة والوصول، وكان من ضوء التوحيد على حصول.
__________
1 في "د": أنتجها.
2 ساقط في المطبوع.
3 سورة طه: الآية "51".
4 سورة طه: الآية "52".
5 ساقطة في المطبوع. ومعنى "لاحب": الطريق الواضح، وهو فاعل بمعنى مفعول، يقال: طريق لاحب، ولحب وملحوب، إذا كان واضحا.
لسان العرب 1/737، مادة "لحب". والمعنى هنا: أي المحجة الواضحة.
6 ساقط في "د".(2/711)
فصل: الغلو في تعظيم الصالحين ذريعة إلى الشرك
...
"فصل"7
قال ابن القيم8 -رحمه الله- في الإغاثة 9: قال صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا
__________
7 ساقط في "د" والمطبوع.
8 تقدمت ترجمته في ص 329.
9 يريد كتابة: إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان، ورد فيه كلامه هذا ابتداء من 1/302.(2/711)
قبري عيدا" 1 وقال: "اللهم لا تجعل قبري يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" 2. وفي اتخاذها عيدا من المفاسد ما يغضب من أجله من كان في قلبه وقار لله، وغيرة على التوحيد –ولكن "ما لجرح بميت إيلام"3 منها- الصلاة إليها، والطواف بها، واستلامها، وتعفير الخدود على ترابها، وعبادة أصحابها، وسؤالهم النصر والرزق والعافية، وقضاء الديون، وتفريج الكربات التي كان عباد الأوثان يسألونها أوثانهم.
وكل من شم أدنى رائحة من العلم، يعلم أن من أهم الأمور سد الذريعة إلى ذلك وأنه صلى الله عليه وسلم أعلم بعاقبة ما نهى عنه،/وما/4 يؤول إليه.
وإذا لعن من اتخذ القبور مساجد يعبد فيها، فكيف بملازمتها واعتياد قصدها وعبادتها؟!.
ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور، وما أمر به، وما نهى عنه، وما عليه أصحابه؛ وبين ما عليه أكثر الناس اليوم، رأى أحدهما مضادا للآخر. فنهى عن اتخاذها مساجد، وهؤلاء يبنون عليها المساجد؛ ونهى عن تسريجها، وهؤلاء يوقفون عليه الوقوف على إيقاد القناديل عليها/ 5؛ ونهى أن تتخذ عيدا،
__________
1 هذا جزء من حديث أبي هريرة، وتمامه "لا تتخذوا قبري عيدا ولا تجعلوا بيوتكم قبورا، وحيثما كنتم فصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني". مسند الإمام أحمد، 2/367؛ المصنف لابن أبي شيبة، 2/375، 3/345؛ مجمع الزوائد 4/3. وقد تقدم الحديث برواية أخرى في ص 229.
2 رواه الإمام مالك في الموطأ 1/172؛ وعبد الرزاق في المصنف، 1/406؛ وابن أبي شيبة في مصنفه، 3/345، عن زيد بن أسلم مرسلا ووصله الإمام أحمد في مسنده، 2/246؛ والحميدي في مسنده، 2/445 "1026" باب الجنائز، من أحاديث أبي هريرة.
3 هذا عجز بيت تقدم تخريجه في ص 274.
4 هكذا في "أ". وفي "د" والمطبوع: "وأنه" وفي أصل النص في الإغاثة: "لما".
5 في جميع النسخ: "القناديل بل عليها" بزيادة لفظ "بل" وهو غير موجود في أصل النص في الإغاثة، 1/306.(2/712)
وهؤلاء يتخذونها أعيادا؛ ونهى عن تشريفها، وأمر بتسويتها، كما في صحيح مسلم، عن علي رضي الله عنه1، وهؤلاء يرفعونها ويجعلون عليها القباب، ونهى عن تجصيص القبر والبناء عليه، كما في صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه 2.
ونهى عن الكتابة عليها، كما رواه الترمذي في صحيحه عن جابر3. ونهى أن يزاد عليها غير ترابها، كما رواه أبو داود عن جابر4؛ وهؤلاء يتخذون عليها الألواح ويكتبون عليها القرآن، ويزيدون على ترابها بالجص والآجر والأحجار.
وقد آل الأمر بهؤلاء الضلال المشركين إلى أن شرعوا للقبور حجا، ووضعوا لها مناسك، حتى صنف بعضهم في ذلك كتابا سماه "مناسك حج المشاهد" 5./ولا يخفى/6 أن هذا مفارقة لدين الإسلام، ودخول في دين عباد الأصنام.
فانظروا إلى التباين العظيم بين ما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته، وبين ما شرعه هؤلاء.
__________
1 يريد حديث أبي الهياج الأسدي، "ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ... " وقد تقدم تخريجه في ص 683. ونص الحديث موجود في الإغاثة 1/307، حذفه المؤلف هنا تلخيصا.
2 وهو عن جابر قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه". صحيح مسلم، 7/41، الجنائز؛ باب النهي عن تجصيص القبور والبناء عليه. سنن أبي داود، 3/552، الجنائز، باب في البناء على القبر. سنن النسائي، 4/87، الجنائز، باب في البناء على القبر. مسند الإمام أحمد، 3/332، 399، 6/299.
3 وهو عن جابر رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبور، وأن يكتب عليها، وأن يبنى عليها، وأن توطأ". سنن الترمذي، 3/368، الجنائز، باب ما جاء في كراهية تجصيص القبور. سنن ابن ماجه، 1/286، الجنائز، باب ما جاء في النهي عن البناء على القبور وتجصيصها ولكتابة عليها.
4 وهو عن جابر رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يجصص القبر وأن يكتب عليه وأن يزاد عليه". سنن أبي داود، 3/553، الجنائز، باب في البناء على القبر. سنن النسائي، 4/86، الجنائز، باب الزيادة على القبر.
5 تقدم ذكر هذا الكتاب في ص 690.
6 في "د": "ولا شك".(2/713)
والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بزيارة القبور لأنها تذكر الآخرة1 وأمر الزائر أن يدعو لأهل القبور، ونهاه عن أن يقول هجرا2. فهذه الزيارة/التي/3 أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها لأمته، وعلمهم إياها، هل تجد فيها شيئا مما يعتمد عليه أهل الشرك والبدع أم تجدها مضادة لما هم عليه من كل وجه وما أحسن ما / قال الإمام مالك/4 -رحمه الله- لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها5. ولكن كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم، عوضوا عن ذلك بما أحدثوا من البدع والشرك. ولقد جرد السلف الصالح التوحيد، وحموا جانبه حتى كان أحدهم إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أراد الدعاء جعل ظهره إلى جدار القبر ثم دعا 6.
__________
1 وذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "قد كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فقد أذن لمحمد زيارة قبر أمه فزوروها؛ فإنها تذكركم الآخرة". أخرجه الترمذي في سننه من حديث بريدة، 3/370، الجنائز، باب ما جاء في الرخصة في زيارة القبور. قال الترمذي: "حديث حسن صحيح". وابن ماجه في سننه، 1/288، الجنائز، باب ما جاء في زيارة القبور؛ وأحمد في مسنده، 5/356. وفي صحيح مسلم طرف منه، هو: "نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها" 7/50، الجنائز، باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم في زيارة قبر أمه.
2 هذه رواية الإمام أحمد والنسائي وغيرهما رحمهم الله، وهي: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، ولا تقولوا هجرا". مسند الإمام أحمد، 5/261، سنن النسائي، 4/89، الجنائز، باب زيارة القبور.
وقوله: "هجرا" بضم الهاء: أي ما لا ينبغي من الكلام.
حاشية الإمام السندي على سنن النسائي، دار الحديث القاهرة، 1407هـ-1987؛ النهاية لابن الأثير، 5/245.
3 في "د": الذي.
4 كذا في أصل النص في الإغاثة 1/314. وفي "أ": "قال الإمام"؛ وفي "د" "قال مالك"؛ وفي المطبوع: "قال الإمام أحمد" والظاهر أن الناسخ في المطبوع ذكر أحمد –رحمه الله- سهوا منه، إذ إن الكلمة مأثورة عن الإمام مالك رحمه الله.
5 تقدم كلام الإمام مالك هذا في ص 688.
6 قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- في اقتضاء الصراط المستقيم ص 110: "ولهذا ذكر الأئمة، أحمد وغيره من أصحاب مالك وغيرهم: إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وقال ما ينبغي له أن يقول: ثم أراد أن يدعو فإنه يستقبل القبلة، ويجعل الحجرة عن يساره".(2/714)
وقد نص على ذلك الأئمة الأربعة، أنه يستقبل القبلة للدعاء، حتى لا يدعو عند القبر، فإن الدعاء عبادة1.
وبالجملة فإن الميت قد انقطع عمله، فهو محتاج إلى من يدعو له، ولهذا شرع في الصلاة عليه من الدعاء ما لم يشرع/ مثله/2 للحي. ومقصود الصلاة على الميت الاستغفار والدعاء له3؛ وكذلك الزيارة مقصودها الدعاء للميت والإحسان إليه، وتذكير الآخرة؛ فبدل أهل البدع والشرك قولا غير الذي قيل لهم، فبدلوا الدعاء له4 بدعائه نفسه، والشفاعة له بالاستشفاع به؛ والزيارة التي شرعت إحسانا إلى الميت وإلى الزائر، بسؤال الميت والإقسام به على الله، وتخصيص تلك البقعة بالدعاء الذي هو محض العبادة، وحضور القلب عندها وخشوعه أعظم منه في المساجد.
ثم ذكر حديث أنواط، ثم قال: فإذا كان اتخاذ الشجرة لتعليق الأسلحة والعكوف /حولها/5 اتخاذ إله مع الله، وهم لا يعبدونها، و/لا/6 يسألونها، فما الظن بالعكوف حول القبر ودعائه، والدعاء به وأي نسبة للفتنة بشجرة إلى الفتنة بالقبر، لو
__________
1 هذه إشارة إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "الدعاء هو العبادة" وقد تقدم تخريجه في ص 310. وهو موجود في أصل النص في الإغاثة 1/314.
2 ساقطة في "أ".
3 لذلك ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا فرغ من دفن الميت، وقف عليه فقال: "استغفروا لأخيكم وسلوا له بالتثبيت، فإنه الآن يسأل". سنن أبي داود 3/550، الجنائز، باب الاستغفار عند القبر للميت؛ السنن الكبرى للبيهقي، 4/56 المستدرك للحاكم، 1/370.
قال الحاكم: "صحيح الإسناد" ووافقه الذهبي.
قال الألباني: "وهو كما قال" وصححه في صحيح سنن أبي داود، 2/620. وفي أحكام الجنائز وبدعها له، نشر المكتب الإسلامي بيروت، ط/4، 1406هـ -1986م. ص 156.
4 ساقط في "أ".
5 كذا في أصل النص في الإغاثة، 1/321. وفي جميع النسخ لها.
6 ساقط في "د".(2/715)
كان أهل الشرك والبدع يعلمون!.
ومن له خبرة بما بعث الله به رسوله، وبما عليه أهل الشرك والبدع اليوم، في هذا الباب وغيره، علم أن/ما/1 بين السلف وبينهم أبعد مما بين المشرق والمغرب. والأمر –والله- أعظم مما ذكرنا.
وعمَّى2 الصحابة قبر دانيال3 بأمر عمر رضي الله عنه؛ ولما بلغه أن الناس ينتابون الشجرة التي بويع الرسول صلى الله عليه وسلم تحتها، أرسل إليها وقطعها4. قال عيسى بن يونس5: وهو عندنا من حديث/ ابن عون/6 عن نافع 7 8.
__________
1 زائدة في المطبوع.
2 في "د": أعمى.
3 هو دانيال عليه السلام –ذكر ابن جرير –رحمه الله- أن جيش أبي موسى الأشعري وجدوا قبل دانيال بالسوس –وهو بلد قديم العمارة في الأرض- فكتب إلى عمر في أمره، فكتب إليه أن يدفنه، وأن يغيب عن الناس موضع قبره. ففعل أبو موسى رضي الله عنه ذلك. بأن حفروا بالنهار ثلاثة عشر قبرا متفرقة، فلما كان الليل دفنوه وسووا القبور كلها. وذلك سنة سبع عشرة.
انظر هذه القصة: تاريخ الطبري "تاريخ الأمم والملوك" لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري "224-310هـ"، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1/1407-1987م، 2/504-505. البداية والنهاية لابن كثير، 7/91. مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 27/170-171. إغاثة اللهفان، 1/317.
4 انظر قصة قطع عمر رضي الله عنه للشجرة: البدع والنهي عنها، لابن وضاح ص 42-43. الحوادث والبدع للطرطوشي، ص 115.
5 هو عيسى بن يونس بن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله، الإمام القدوة الحافظ، أبو عمرو السبيعي الكوفي. حدث عن أبيه ولم يدرك السماع من جده، وثقه أحمد وأبو حاتم والنسائي وطائفة "ت 87هـ". تاريخ بغداد، 11/152؛ سير الأعلام، 8/489، تهذيب التهذيب، 8/237.
6 كذا في إغاثة اللهفان، 1/327. وفي جمع النسخ: "ابن عوف".
7 تقدمت ترجمته في ص 688.
8 البدع والنهي عنها لابن وضاح، ص 42-42.(2/716)
فإذا كان هذا فعله في الشجرة التي/ ذكرها/1 الله في القرآن2، وبايع تحتها الصحابة –رضي الله عنهم- رسول الله صلى الله عليه وسلم،/ فماذا/3 حكمه فيما عداها؟.
وأبلغ من ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هدم مسجد الضرار4، ففيه دليل على هدم المساجد التي/هي/5 أعظم فسادا منه، كالمبنية على القبور؛ وكذلك قبابها. فتجب المبادرة إلى هدم ما لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعله، والله يقيم لدينه من ينصره ويذب عنه.
وكان بدمشق كثير من هذه الأنصاب، فيسر الله –سبحانه- كسرها على يد شيخ الإسلام، وحزب الله الموحدين؛/ وكان العامة يقولون للشيء/6 /منها/7 إنه يقبل النذر، أي يقبل العبادة من دون الله، فإن النذر عبادة يتقرب بها الناذر إلى الله المنذور /له/8.
__________
1 في "أ" و "د": ذكر.
2 وهو قوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18] .
3 في "د": فما.
4 انظر قصة هدمه صلى الله عليه وسلم لذلك المسجد: سيرة ابن هشام 4/173-174؛ البداية والنهاية 5/1920. وذكرها الإمام ابن القيم في زاد المعاد 3/549-550. وهكذا فعل الصحابة –رضوان الله عليهم- من بعده. فقد روى ابن وضاح في البدع والنهي عنها: قال: "قال يسار أبو الحكم: خرج رهط من القراء، منهم معضد وعمرو بن عتبة حتى بنوا مسجدا بالنخيلة، قريبا من الكوفة، فوضعوا جرارا من ماء، وجمعوا أقواما من الحصى للتسبيح، ثم قاموا يصلون في مسجدهم ويتعبدون وتركوا الناس، فخرج إليهم ابن مسعود، فقالوا: مرحبا يأبي عبد الرحمن، والله انزل. فقال: والله ما أنا بنازل حتى يهدم مسجد الخبال هذا، فهدموه". في البدع والنهي عنها، ص 119. وذكره الطرطوشي في الحوادث والبدع، ص 113.
5 ساقط في "د".
6 كذا في المطبوع. وفي "أ" و "د": "وكنوا يقولون العامة للشيء".
7 في "د": فيها.
8 زيادة في "د".(2/717)
ولقد أنكر السلف التمسح بحجر المقام، الذي أمر الله أن يتخذ منه مصلى؛ قال قتادة في الآية:1 "إنما أمروا أن يصلوا عنده، ولم يؤمروا بمسحه. ولقد تكلفت هذه الأمة شيئا ما تكلفته الأمم قبلها، ذكر لنا من رأى/ أثره وأصابعه/2، فما زالت هذه الأمة تمسحه حتى اخلولق3" 4.
وأعظم/من/5 الفتنة بهذه الأنصاب، فتنة أصحاب القبور، وهي أصل فتنة عبادة الأصنام، كما ذكر الله في سورة نوح في قوله: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً، وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً} الآية6؛ ذكر السل في تفسيرها: أن هؤلاء أسماء رجال صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم7.
__________
1 يريد قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة:125] .
2 كذا في أصل النص فيك كتاب: أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار، لأبي الوليد محمد بن عبد الله بن أحمد للأزرقي، تحقيق: رشدي الصالح، ط/3،1389هـ1969م، دار الأنصار للطباعة، بيروت، ص 2/29، وكذلك في إغاثة اللهفان، وفي جميع النسخ: "أثر أصابعه".
3 اخلولق: من خلق الشيء خلقا واخلولق: املاس ولان واستوى.
لسان العرب، 10/90، مادة "خلق".
4 إلى هنا قول قتادة ذكره الأزرقي في أخبار مكة 2/29-30 والطبري في جامع البيان، 1/537. وابن كثير في تفسيره، 1/175، وأخرج في ذلك أثرا عن ابن الشهاب، أن أنس بن مالك حدثهم قال: رأيت المقام فيه أصابعه عليه السلام وأخمص قدميه، غير أنه أذابه مسح الناس بأيديهم. وذكره القاسمي في تفسيره، 2/248. وما أنكره السلف من التمسح بحجر المقام، هو ما عليه أهل السنة اليوم، القائمون على رعاية الحرمين الشريفين من منع ما يقوم به العديد من جهلة الزوار وبعض الحجاج، من التمسح بجدران الكعبة، وبالسياج الحديدي المضروب على قبر النبي صلى الله عليه وسلم وهو أمر ليس في الإسلام من شيء.
5 كذا في المطبوع. وفي "أ" و "د": منه.
6 سورة نوح: الآيتان "23، 24". وفي "أ" والمطبوع: "ذكرت الآية حتى قوله "سواعا"".
7 صحيح البخاري مع الفتح، 8/535-536، التفسير، باب "ود ولا سواعا ولا يغوث ويعوق". جامع البيان للطبري، 29/99، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، 18/198، تفسير ابن كثير، 4/454-455. وانظر: إغاثة اللهفان، 1/286-287.(2/718)
وتعظيم الصالحين إنما هو باتباع ما دعوا غليه، دون اتخاذ قبورهم أعيادا وأوثانا، فأعرضوا عن المشروع واشتغلوا بالبدع.
ومن أصغى إلى كلامه وتفهمه أغناه عن البدع والآراء، ومن يَعُدَ عنه، فلا بد أن يتعرض بما لا ينفعه، كما أن من عمر قلبه بمحبة الله وخشيته، والتوكل عليه، أغناه عن محبة غيره، وخشيته والتوكل عليه.
فالمعرض عن التوحيد مشرك، شاء أم أبى، /والمعرض عن السنة مبتدع شاء أم أبى، والمعرض عن محبة الله عبد الصور شاء أم أبى/1.
أبعدها عن الشرع: أن يسأل الميت حاجته، كما يفعله كثير، وهؤلاء من جنس عباد الأصنام. ولهذا يتمثل لهم الشيطان في صورة الميت، كما يتمثل لعباد الأصنام، وكذلك السجود للقبر وتقبيله والتمسح به.
/"والنوع الثاني"/2: أن يسأل الله به. وهذا يفعله كثير من المتأخرين، وهو بدعة إجماعا.
"النوع الثالث" أن يظن أن الدعاء عنده مستجاب. وأنه أفضل من الدعاء في المسجد، فيقصد القبر لذلك. فهذا أيضا من المنكرات إجماعا، وما عملت/في ذلك/3 نزاعا بين أئمة الدين، وإن كان/ كثير/4 من المتأخرين يفعله5.
وبالجملة6
__________
1 ساقط في "د".
2 بياض في "أ".
3 كذا في أصل النص في الإغاثة، 1/337. وفي المطبوع: "فيه". وهو ساقط في "أ" و "د".
4 في "أ": كثيرا.
5 إلى هنا منقول من إغاثة اللهفان، 1/302-327. وقد بدأ كلامه من ص 764.
6 من قوله "وبالجملة" منقول من الإغاثة 2/319.(2/719)
فأكثر أهل الأرض مفتونون بعبادة الأصنام، ولم يتخلص/ منها/1 إلا الحنفاء أتباع ملة إبراهيم. وعبادتها في الأرض من قبل نوح، وهياكلها ووقوفها وسدنتها وحجابها والكتب المصنفة في عبادتها طبق الأرض.
قال إمام الحنفاء عليه السلام: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ، رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} 2؛ وكفى في معرفتهم أنهم/ أكثر/3 أهل الأرض، بما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين4. وقد قال تعالى: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُوراً} 5، وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} 6.
ولو لم تكن الفتنة بعبادة الأصنام عظيمة، لما أقدم عبادها على بذل نفوسهم وأموالهم وأبنائهم دونها، وهم يشاهدون مصارع إخوانهم وما حل بهم، ولا يزيدهم ذلك إلا حبا وتعظيما، ويوصي بعضهم بعضا بالصبر عليها7. انتهى كلام الشيخ رحمه الله ملخصا.
__________
1 في "أ" و "د": منهم.
2 سورة إبراهيم: الآيتان "35، 36".
3 في "د": أكفر.
4 ذكر المؤلف الحديث بالمعنى، ولفظه عند البخاري: عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يقول الله يا آدم، فيقول لبيك وسعديك، والخير بيديك. قال: يقول: أخرج بعث النار، قال: وما بعث النار قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، فذاك حين يشيب الصغير ... " صحيح البخاري مع الفتح، 11/396، الرقاق، باب قوله عز وجل: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} صحيح مسلم بشرح النووي، 3/97-98، الإيمان، باب "يقول الله لآدم أخرج بعث النار". سنن الترمذي 5/302، التفسير، باب من سورة الحج. مسند الإمام أحمد، 1/388/ 2/166. المستدرك للحاكم/ 1/29.
5 سورة الإسراء: الآية "89".
6 سورة الأنعام: الآية "116".
7 إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان، 2/319-321.(2/720)
/وقال الشيخ/1 تقي الدين في الرسالة السنية، لما ذكر حديث الخوارج ومروقهم من الدين، وأمره صلى الله عليه وسلم بقتالهم2 قال: فإذا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه من انتسب إلى الإسلام والسنة، / قد مرق منه مع عبادته العظيمة، فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام/3،/في/4 هذه الأزمان قد يمرق أيضا من الإسلام، وذلك بأسباب، منها:
الغلو الذي ذمه الله في كتابه، حيث قال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} الآية 5. وعلي بن أبي طالب/ رضي الله عنه/ /6، حرق الغالية من الرافضة، وأمر بأخاديد خدت لهم عند باب كندة، فقذفهم فيها. واتفق الصحابة على قتلهم، لكن ابن عباس رضي الله عنه مذهبه أنه يقتلوا بالسيف بلا تحريق، وهو قول أكثر العلماء. / وقصتهم/7 معروفة عن العلماء.
وكذلك الغلو في بعض المشائخ، بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في الشيخ/ عدي/8 ونحوه.
فكل من غلا في نبي أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الإلهية، مثل أن يقول يا سيدي فلان انصرني، أو أغثني أو ارزقني أو اجبرني، وأنا في حسبك ونحو هذه الأقوال؛ فكل هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل، فإن الله إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب، ليعبدوه وحده لا يجعل معه إلها آخر، والذين [كانوا] 9
__________
1بياض في "أ".
2 تقدم ذكر أحاديث الخوارج ومروقهم من الدين والمر بقتالهم في ص 169.
3 ساقط في "أ" والمطبوع.
4 في "أ" والمطبوع: ففي.
5 سورة النساء: الآية "171".
6 ساقط في "د".
7 في "د" والمطبوع: وقصصهم.
8 ساقط في المطبوع.
9 زيادة مني لا قتضاء الكلام الآتي بعدها لها، وهو: لم يكونوا ...(2/721)
يدعون من الله آلهة أخرى، مثل المسيح والملائكة والأصنام، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق، وتنزل المطر أو تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدونهم أو يعبدون قبورهم أو صورهم، يقولون إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى1 {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 2. فبعث الله رسوله، ينى أن يدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة ولا دعاء الاستغاثة 3، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً، أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} الآية4.
وقال طائفة من السلف: كانوا أقواما يدعون المسيح وعزيرا 5؛ إلى أن قال 6: وعبادة الله هي أصل الدين، وهي التوحيد الذي بعث الله به الرسل، وأنزل به الكتب. قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 7 وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 8.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحقق التوحيد، ويعلم أمته، حتى قال له رجل: ما شاء الله وشئت، قال: "أجعلتني لله ندا، قل ما شاء الله وحده" 9. ونهى عن الحلف بغير الله، وقال: "من حلف بغير الله فقد أشرك" 10 وقال في مرض موته:
__________
1 وهذا ما حكى الله سبحانه وتعالى عنهم في قوله عز وجل: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] .
2 سورة يونس: الآية "18".
3 في "أ": الاستعانة.
4 سورة الإسراء: الآية "56، 57".
5 انظر: جامع البيان للطبري، 15/105-106، وتفسير ابن كثير، 3/50.
6 أي شيخ الإسلام تقي الدين، في الرسالة السنية.
7 سورة النحل: الآية "36".
8 سورة الأنبياء: الآية "25".
9 تقدم تخريجه في ص 648.
10 تقدم تخريجه في ص 195-198-705.(2/722)
"لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" 1، يحذر ما فعلوه وقال: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد" 2.
ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أنه لا يشرع بناء المساجد على القبور ولا الصلاة عندها، وذلك لأن من أكبر أسباب عبادة الأوثان، كان تعظيم القبور؛ ولهذا اتفق العلماء على أنه من سلم على النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره، فلا يشبه ببيت المخلوق ببيت الخالق كل هذا لتحقيق التوحيد الذي هو أصل الدين، ورأسه الذي لا يقبل الله عملا إلا به. ويغفر لصاحبه ولا يغفر لمن تركه، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 3 وقال تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} 4. ولهذا كانت كلمة التوحيد أفضل الكلام، وأعظم آية في القرآن، آية الكرسي: 5 {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} 6 وقال صلى الله عليه وسلم: "من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة"7.
والإله هو الذي تأله القلوب عبادة له، واستعانة به، ورجاء له، وخشية وإجلالا 8. انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
__________
1 تقدم تخريجه في ص 666.
2 تقدم تخريجه في ص 712.
3 سورة النساء الآية "48".
4 سورة النساء الآية "48".
5 هذا ما جاء في حديث عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا المنذر، أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} فضرب في صدري وقال: والله ليهنك العلم أبا المنذر". صحيح مسلم بشرح النووي 5/341، صلاة المسافرين، باب سورة الكهف وآية الكرسي.
6 سورة البقرة: الآية "255".
7 تقدم تخريجه في ص 623.
8 إلى هنا نهاية كلام شيخ الإسلام في الرسالة. وقد ورد أيضا في تيسير العزيز الحميد، ص 228، ط/7، 1408هـ، المكتب الإسلامي.(2/723)
فتأمل أو لكلامه وآخره، وتأمل كلامه فيمن دعا نبيا أو وليا مثل أن يقول: يا سيدي أغثني ونحوه، أنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل؛ تجده صريحا في تكفير أهل الشرك وقتلهم بعد الاستتابة، وإقامة الحجة عليهم، وأن من غلا في نبي أو رجل صالح وجعل فيه نوعا من الإلهية، فقد اتخذه إلها مع الله، لأن الإله هو المألوه، الذي يألهه القلب، أي يصدقه بالعبادة والدعوة، والخشية والإجلال والتعظيم؛ وإن زعم أنه لا يريد إلا الشفاعة والتقرب عند الله، لنه بين أن هذا هو/ مطلوب/1 المشركين الأولين. فاستدل على ذلك بالآيات الصريحات القاطعات والله أعلم.
وقال –رحمه الله- في الكلام على قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} 2: ظاهره أن/ما ذبح/3 لغير الله سواء، لفظ به أو لم يلفظ. وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه للحم وقال فيه: بسم المسيح ونحوه.
كما أن ما ذبحناه متقربين به إلى الله تعالى، كان أزكى مما ذبحناه للحم وقلنا عليه بسم الله، فإن عبادة الله بالصلاة والنسك له، أعظم من/الاستعانة/4 باسمه في فواتح الأمور. والعبادة لغير الله أعظم/كفرا/5 /من الاستعانة/6 بغير الله. فلو ذبح لغير الله متقربا إليه لحرم، وإن قال فيه: بسم الله؛ كما/قد/7 يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة. وإن كان هؤلاء لا تباح/ذبائحهم/8 بحال، لكن يجتمع في الذبيحة مانعان.
__________
1 في "د": المطلوب.
2 سورة البقرة: الآية "173".
3 في "د": من ذبح.
4 في "د" والمطبوع: الاستغاثة.
5 في "د": كفر.
6 في "د" والمطبوع: الاستغاثة.
7 ساقط في "د".
8 في "أ" والمطبوع: ذبيحتهم.(2/724)
ومن هذا ما يفعل بمكة 1 وغيرها من الذبح للجن. انتهى كلام الشيخ –رحمه الله- تعالى.
فتأمل –رحمك الله تعالى- هذا الكلام، وتصريحه فيه بأن من ذبح لغير الله من هذه الأمة، فهو كافر مرتد، لا تباح ذبيحته، لأنه يجتمع فيه مانعان:
الأول 2: أنها ذبيحة مرتد، وذبيحة المرتد لا تباح بالإجماع3.
الثاني 4: أنها مما أهل/ به/5 لغير الله، وقد حرم الله ذلك في قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} 6. وتأمل قوله: ومن هذا ما يفعل بمكة وغيرها من الذبح للجن. والله أعلم.
__________
1 هذا ما كان في زمن المؤلف. أما لآن فقد شرف الله تلك البقعة من الأرض وطهرها من الشرك وشوائبه وانمحت آثاره، بفضل الله ثم بفضل القائمين على رعايتها من لدن الملك عبد العزيز –رحمه الله- وأبنائه من بعده إلى يومنا هذا- حماها الله من شر كل كافر ومشرك، آمين.
2 بياض في "أ".
3 انظر: فتح القدير لابن الهمام، 9/488؛ بدائع الصنائع للكاساني، 5/45؛ بداية المجتهد، 1/552؛ المهذب للشيرازي، 1/251؛ المغني مع الشرح الكبير، 10/87، 11/32؛ كشاف القناع عن متن الإقناع، 6/205.
4 بياض في "أ".
5 ساقط في "د".
6 سورة الأنعام الآية "145".(2/725)
فصل: تقسيم ابن القيم الشرك إلى نوعين
...
"فصل"7
قال ابن القيم في شرح المنازل في باب التوبة 8.
وأما الشرك فهو نوعان: أكبر وأصغر. فالأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة، وهو أن يتخذ
__________
7 لفظ "فصل" بياض في "أ".
8 مدارج السالكين، 1/339.(2/725)
من دون الله ندا، يحبه كما يحب الله. 1 بل أكثرهم يحبون آلهتهم أعظم من محبة الله، ويغضبون لها ولا يغضبون إذا/ انتقص/2 أحد رب العالمين.
وقد شاهدنا نحن وغيرنا منهم جهرة، وترى أحدهم قد اتخذ ذكر إلهه ومعبوده على لسانه إن قام وإن قعد، وإن عثر وإن استوحش، وهو لا يذكر/إلا/3 ذلك، ويزعم أنه باب حاجته إلى الله، وشفيعه عنده؛ وهكذا كان عباد الأصنام سواء.
وهذا القدر هو الذي قام بقلوبهم، وتوارثه المشركون بحسب آلهتهم، فأولئك كانوا ألهتهم من الحجر، وغيرهم اتخذها من البشر. قال تعالى حايكا عن أسلاف هؤلاء: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} 4. فهذه حال من اتخذ من دون الله وليا، يزعم أنه يقربه إلى الله.
وما أعز من تخلص من هذا، بل ما أعز من لا يعادي من أنكره. والذي قام بقلوب هؤلاء المشركين وسلفهم، أن آلهتهم تشفع لهم عند الله، وهذا عين الشرك. وقد أنكر الله عليهم في كتابه وأبطله، وأخبر أن الشفاعة كلها لله، قال الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ، وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} 5. والقرآن مملوء من أمثال هذه الآية. ولكن أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحته، ويظنه في قوم قد خلوا ولم يعقبوا وارثا. وهذا الذي يحول بين المرء وبين
__________
1 في المطبوع زيد من هنا كلام طويل. وهو من كلام ابن القيم من مدارج السالكين, والشيخ عبد اللطيف –رحمه الله- قد نقل الكلام بتلخيص شديد، كما هو في جميع النسخ ولعله كانت هذه الزيادات في المطبوع وفقا للنسخة التي اعتمدها الطابع.
2 في "أ": استنقص.
3 ساقط في "أ".
4 سورة الزمر: الآية "3".
5 سورة سبأ: الآيتان "22، 23".(2/726)
فهم القرآن، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية"1.
وهذا لأن من لا يعرف الشرك وما عابه القرآن وذمه، وقع فيه وأقره، وهو لا يعرف أنه الذي عليه أهل الجاهلية، فينتقض بذلك عرى الإسلام، ويعود المعروف منكرا والمنكر معروفا، والبدعة سنة والسنة بدعة، ويُكفر الرجل بمحض الإيمان وتجريده التوحيد، ويُبَدَّع بتجريده متابعة الرسول، ومفارقته الأهواء والبدع. ومن له بصيرة وقلب حي يرى ذلك عيانا والله المستعان.
ومن أنواعه طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم، لأن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، فضلا لمن استغاث به وسأله ان يشفع له إلى الله. وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده، فإن الله –سبحانه- لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، والله –سبحانه- لم يجعل سؤال غيره سببا لإذنه، وإنما السبب لإذنه كمال التوحيد. فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن.
والميت محتاج إلى من يدعو له كما أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم إذا زرنا قبور المسلمين، أن نترحم عليهم ونسأل لهم العافية والمغفرة2، فعكس هذا
__________
1 تقدم قول عمر هذا في ص 265.
2 ومما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك:
حديث عائشة –رضي الله عنها- قالت: كيف اقول لهم يا رسول الله –تعني أهل القبور-. قال: "قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون". صحيح مسلم بشرح النووي، 7/48، الجنائز، باب ما يقول عند دخول القبور والدعاء لأهلها.
وعن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقول قائلهم: "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، أسأل الله لنا ولكم العافية". صحيح مسلم بشرح النووي، 7/49. الجنائز، باب ما يقول عند دخول المقابر. سنن النسائي، 4/94، الجنائز، باب الأمر بالاستغفار للمؤمنين، سنن ابن ماجه، 1/283، الجنائز، باب ما جاء فيما يقال إذا دخل المقابر.(2/727)
المشركون، وزاروهم زيارة العبادة، وجعلوا قبورهم أوثانا تعبد، فجمعوا بين الشرك بالمعبود وتغيير دينه، ومعاداة أهل التوحيد، ونسبتهم إلى تنقيص الأموات، وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك، وأولياءه الموحدين بذمهم ومعاداتهم، وتنقصوا به غاية التنقص إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا، وأنهم أمروهم به.
وهؤلاء أعداء الرسل في كل زمان ومكان، وما أكثر المستحبين لهم، ولله در خليله إبراهيم/عليه السلام/1 حيث قال: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ، رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} 2. وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من جرد توحيده لله وعادى المشركين في الله، وتقرب بمقتهم إلى الله3. انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
فتأمل –رحمك الله- كلام هذا الإمام وتصريحه بأن من دعا الموتى، وتوجه إليهم، واستغاث بهم ليشفعوا له عند الله؛ فقد فعل الشرك الأكبر الذي بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بإنكاره، وتكفير من لم يتب منه وقتاله ومعاداته. وأن هذا قد وقع في زمانه، وأنهم غيروا دين الرسول صلى الله عليه وسلم وعادوا أهل التوحيد، والذين يأمرونهم بإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له.
وتأمل قوله أيضا: وما أعز من تخلص من هذا، بل ما أعز من لا يعادي من أنكره، يتبين لك الأمر إن شاء الله تعالى.
ولكن تأمل –أرشدك الله- قوله: وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من عادى المشركين ... إلى آخره يتبين لك أن الإسلام لا يستقيم إلا بمعاداة أهل هذا الشرك، فإن لم يعادهم، فهو منهم، وإن لم يفعله. والله أعلم.
__________
1 ساقط في "د".
2 سورة إبراهيم: الآية "35، 36".
3 مدارج السالكين لابن القيم، 1/339-346، وقد نقل الشيخ عبد اللطيف هذا الكلام بتلخيص شديد.(2/728)
وقال –رحمه الله- في كتابه: زاد المعاد في هدي خير العباد1، في الكلام على غزوة الطائف2 وما فيها من الفقه قال فيها: "إنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت، بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوما واحدا. فإنها/من/3 شعائر الكفر والشرك. وهي أعظم المنكرات فلا يجوز الإقرار عليها مع القدرة البتة.
وهذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور، التي اتخذت أوثانا وطواغيت تعبد من دون الله، والأحجار التي تقصد للتعظيم وللشرك والتقبيل4، لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض مع القدرة على إزالته. /وكثير/5 منها بمنزلة اللآت والعزى ومناة الثالثة الأخرى6، أو أعظم شركا عندها وبها، والله المستعان. ولم يكن أحد من إياب هذه الطواغيت، يعتقد أنها تخلق وترزق، وتحيي وتميت؛ وإنما كانوا يفعلون عندها وبها ما يفعله إخوانهم من المشركين اليوم عند طواغيتهم، فاتبع هؤلاء سنن من كان قبلهم7 حذو القذة بالقذة، وأخذوا مأخذهم شبرا بشبر وذراعا بذراع، وغلب الشرك على أكثر النفوس، لظهور الجهل وخفاء العلم؛ وصار المعروف منكرا والمنكر معروفا، والسنة بدعة والبدعة سنة، ونشأ في ذلك الصغير، وهرم عليه الكبير، وطمست الأعلام، واشتدت غربة الإسلام، وقل العلماء/وغلب/8 السفهاء، وتفاهم الأمر، واشتد البأس، وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس9،
__________
1 ذكر كلامه هذا في الجزء الثالث، ابتداء بصفحة 506.
2 وكانت غزوة الطائف في سنة "8هـ" بعد غزوة حنين. يرجع فيها إلى مظانها: سيرة ابن هشام، 4/121؛ البداية والنهاية لابن كثير، 4/344، وغيرهما من كتب السير والتاريخ.
3 زيادة "من" هنا تصرف من المؤلف؛ إذ لا وجود له في أصل النص في الزاد.
4 في أصل النص في الزاد: "والنذر والتقبيل" وكلمة "النذر" ساقطة في جميع النسخ.
5 في "د": وكثيرا.
6 وهذه أسماء أصنام التي ورد ذكرها في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم: 19، 20] .
7 هنا أسقط الشيخ عبد اللطيف -رحمه الله- في النقل، قوله: "وسلكوا سبيلهم".
8 في "د" والمطبوع: وغلبت.
9 هنا اقتبس الإمام ابن القيم –رحمه الله- من قوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم:41] .(2/729)
ولكن لا تزال طائفة من/ الأمة/1 المحمدية/ بالحق/2 قائمين، ولأهل الشرك والبدع مجاهدين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين"3.
وقال الشيخ تقي الدين –لما سئل عن قتال التتار 4 مع تمسكهم بالشهادتين، ولما زعموا من اتباع أصل الإسلام-: "كل طائفة ممتنعة عن التزام شرائع الإسلام، الظاهرة المتواترة، من مقاتلي/5 هؤلاء القوم وغيرهم، فإنه يجب قتلهم حتى يلتزموا شرائعه؛ كما قاتل أبو بكر والصحابة –رضي الله عنهم- مانعي الزكاة، وعلى ذلك اتفق الفقهاء6 بعدهم، بعد سابقة مناظرة عمر لأبي بكر، رضي الله عنهما.
واتفق الصحابة على القتال على حقوق الإسلام، عملا بالكتاب والسنة. وكذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من عشرة أوجه7 الحديث عن الخوارج والأمر بقتالهم، وأخبر أنهم شر الخلق والخليفة، مع قوله: "تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم"8.
فعلم أن مرد الاعتصام بالإسلام مع عدم التزام شرائعه، ليس بمسقط للقتال،
__________
1 في الأصل –زاد المعاد-: "العصابة". وهو تصرف من الشيخ عبد اللطيف –رحمه الله-.
2 ساقط في جميع النسخ. والتكملة من أصل النص في الزاد.
3 زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم، 3/506-507.
4 انظر نص السؤال في مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية،28/501-502.
5 زيادة من المؤلف؛ إذ لا وجود له في نص شيخ الإسلام –رحمه الله- في المجموع.
6 انظر: روضة الطالبين 2/149؛ والمغني مع الشرح الكبير، 2/435؛ وفقه الزكاة للدكتور يوسف القرضاوي، مؤسسة الرسالة بيروت، ط/1/ 1405هـ، 1985م، 1/78-79؛ والفقه الإسلامي وأدلته، د. وهبة الزحيلي، 2/735.
7 روى هذه الأوجه العشرة الإمام مسلم في صحيحه، 7/170-180، كتاب الزكاة باب ذكر الخوارج وصفاتهم، وباب التحريض على قتل الخوارج، من حديث رقم "147-160".
8 أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، 7/170-172، كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم. وقد تقدم تخريج حديث المخدج في ص 169.(2/730)
فالقتال واجب حتى يكون الدين كله لله، وحتى لا تكون فتنة 1. فمتى كان الدين لغير الله فالقتال واجب. فأيما طائفة ممتنعة امتنعت عن الصلاة، أو الصيام أو الحج، أو عن التزام تحريم الدماء والأموال والخمر والزنا أو الميسر أو نكاح ذوات المحارم، أو عن التزام جهاد الكفار، أو ضرب الجزية على أهل الكتاب، أو غير ذلك من التزام واجبات الدين ومحرماته التي لا عذر لأحد في جحودها أو تركها، الذي يكفر/ الجاحد لوجوبها/2، فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها، وإن كانت مقرة بها.
وهذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء. وإنما اختلف الفقهاء في الطائفة الممتنعة إذا أصرت على ترك بعض السنن، كركعتي الفجر أو الأذان والإقامة –عند من لا يقول بوجوبهما-3 ونحو ذلك من الشعائر. فهل تقاتل الطائفة الممتنعة على تركها أم لا؟
فأما الواجبات أو المحرمات المذكورة ونحوها، فلا خلاف في القتال عليها.
وهؤلاء عند المحققين من العلماء، ليسوا بمنزلة البغاة الخارجين على الإمام.
والخارجين عن طاعته؛ كأهل الشام مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فإن أولئك خارجون عن طاعة إمام معين، أو خارجون عليه لإزالة ولايته. وأما المذكورون فهم خارجون عن الإسلام، بمنزلة مانعي الزكاة، أو بمنزلة الخوارج الذين قاتلهم علي رضي
__________
1 هنا يشير شيخ الإسلام إلى لدليل على وجوب قتال هؤلاء وهو قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39] .
2 كذا في مجموع الفتاوى، 29/503. وفي جميع النسخ: "الواجد بجحودها".
3 وهم الجمهور؛ الحنفية والمالكية والشافعية. فيقولون إنهما "أي الأذان والإقامة" سنة مؤكدة للرجال جماعة، للصلوات الخمس والجمعة، دون غيرها.
وعند الحنابلة: أنهما فرضا كفاية للصلوات الخمس والجمعة، دون غيرها. انظر: فتح القدير لابن الهمام، 1/240، بدائع الصنائع، 1/402.الشرح الصغير، 1/246، الشرح الكبير 1/191. المهذب في فقه الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه، لأبي إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزآبادي الشيرازي "ت476هـ"، مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه بمصر، 1/55، مغني المحتاج، 1/133، روضة الطالبين، 1/195- المغني مع الشرح الكبير 1/438، كشاف القناع، 1/267، المبدع في شرح المقنع لابن مفلح، 1/312.(2/731)
الله عنه ولهذا اقترفت/سيرته/1 رضي الله عنه في قتاله لأهل البصرة وأهل الشام، وفي قتاله لأهل النهروان، وإن كانت سيرته مع البصريون والشامي سيرة الأخ مع أخيه، ومع الخوارج بخلاف ذلك.
وثبتت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بما استقر عليه إجماع الصحابة، من قتال الصديق لمانعي الزكاة2، وقتال علي للخوارج3" انتهى كلامه رحمه الله تعالى4.
فتأمل –رحمك الله- تصريح هذا الإمام في هذه الفتوى، بأن من امتنع من شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة، كالصلوات الخمس أو الزكاة أو الحج، أو ترك المحرمات كالزنا، أو تحريم الدماء، والأموال، أو شرب الخمر أو المسكرات أو غير ذلك، أنه يجب قتال الطائفة الممتنعة عن ذلك، حتى يكون الدين كله لله، ويلتزموا شرائع الإسلام. وإن ذلك مما اتفق عليه الفقهاء من سائر الطوائف، من الصحابة فمن بعدهم، وأن ذلك
__________
1 في الأصل-مجموع الفتاوى،28/504: "سير علي". وفي جميع النسخ إضمار الاسم وهو الأولى هنا، حيث تقدم قريبا إظهاره.
2 من ذلك: ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو بكر رضي الله عنه، وكفر من كفر من العرب، فقال عمر رضي الله عنه: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قالهما عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله". فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها. قال عمر رضي الله عنه: فوالله ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر رضي الله عنه، فعرفت أنه الحق.
صحيح البخاري مع الفتح 3/308، الزكاة، باب وجوب الزكاة صحيح مسلم بشرح النووي، 1/314-318، الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله؛ سنن أبي داود، 2/198-199، الوكاة، باب وجوب الزكاة. سنن الترمذي، 5/605، الإيمان، باب ما جاء أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله. سنن النسائي، 7/77، كتاب تحريم الدم. سنن ابن ماجه، 2/363، الفتن، باب الكف عمن قال لا إله إلا الله.
3 وقد تقدم في ذلك أحاديث. انظر ص 167.
4 مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية،28/502-504.(2/732)
/عمل/1 بالكتاب والسنة.
فتبين لك أن مجرد الاعتصام بالإسلام مع عدم التزام شرائعه، ليس بمسقط للقتال، وأنهم يقاتلون قتال كفر وخروج عن الإسلام، كما صرح به في آخر الفتوى بقوله: وهؤلاء عند المحققين من العلماء/بمنزلة/2 مانعي الزكاة. انتهى والله أعلم.
وقال في الإقناع من كتب الحنابلة التي تعتمد عندهم في الفتوى: "وأجمعوا على وجوب قتل المرتد، فمن أشرك بالله –تعالى-./فقد/3 كفر بعد إسلامه، /لقوله/ 4 تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 5، أو جحد ربوبيته أو وحدانيته/ كفر، لأن جاحد ذلك مشرك بالله –تعالى- إلى أن قال: قال الشيخ: أو كان مبغضا لرسوله/6 أو ما جاء به اتفاقا، أو جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم كفر إجماعا، لأن ذلك كفعل عابدي الأصنام قائلين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 7 8.
__________
1 في "أ" و "د": عملا.
2 كذا في "د". وفي "أ" والمطبوع: "ليسوا بمنزلة". والصواب المثبت؛ لأن المذكورين من التتار، وتاركي الواجبات بمنزلة مانعي الزكاة.
3 ساقط في "أ" و "د". مثبت في المطبوع وفي الإقناع.
4 في جميع النسخ: "كقوله". وهو خطأ. والمثبت من الإقناع، وهو تعليل لما تقدم.
5 سورة النساء: الآية "48".
6 ساقط في "د".
7 سورة الزمر: الآية "3".
8 كشاف القناع على متن الإقناع، لمنصور البهوتي، 6/168-169.(2/733)
فصل: تعريف الحنفية للكفر
...
"فصل"
وأما كلام الحنفية، فقال في كتاب: تبيين المحارم المذكورة في القرآن 9: باب الكفر:
__________
9 هو كتاب للشيخ سنان الدين يوسف الأماسي الواعظ الحنفي، نزيل مكة متوفى في حدود سنة "1000هـ" وهو مرتب على ثمانية وتسعين بابا على ترتيب ما وقع في القرآن من الآيات التي تدل على حرمة الشيء. فرغ منه في سنة "980هـ". ذكره البغدادي في كشف الظنون، 1/342، ولم أقف عليه.(2/733)
"وهو/1 / وجحود الحق وإنكاره، وهو أول ما ذكر في القرآن العظيم من المعاصي، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} الآية 2 وهو أكبر الكبائر على الإطلاق، فلا كبيرة فوق الكفر. إلى أن قال: واعلم أن ما يلزم به الكفر أنواع: نوع يتعلق بالله –سبحانه-، نوع يتعلق بالقرآن وسائر الكتب المنزلة، ونوع يتعلق بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء والملائكة والعلماء، ونوع يتعلق بالأحكام. فأما ما يتعلق به –سبحانه-، إذا وصف الله سبحانه بما لا يليق به، بأن شبه الله سبحانه بشيء من المخلوقات، أو نفي صفاته، أو قال بالحلول أو الاتحاد معه قديم غيره، أو معه مدبر مستقل غيره، أو اعتقد أنه –سبحانه- حسم، أو محدث، أو غير حي، أو اعتقد أنه لا يعلم الجزئيات، أو سخر باسم من أسمائه أو أمره أو وعده، أو أنكرمها أو سجد لغير الله تعالى، أن سب الله سبحانه، أو ادعى له ولدا وصاحبة، أو أنه متولد من شيء كائن عنه، أو أشرك بعبادته شيئا من خلقه، أو افترى على الله –سبحانه وتعالى- الكذب بادعائه الإلهية والرسالة. إلى أن قال: وما أشبه ذلك مما لا يليق به –سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا –يكفر بهذه الوجوه لأجل/ سوء فعله عمدا/ 3 أو هزلا؛ يقتل إن أصر على ذلك. فإن تاب تاب الله عليه وسلم من القتل". انتهى كلامه –رحمه الله- بحروفه 4.
وقال الشيخ قاسم في شرح الدر: النذر الذي يقع من أكثر العوام، بأن يأتي إلى قبر
__________
2 سورة البقرة: الآية "6".
3 في "د": سواء فعله عمدا.
4 في كتابه تبيين المحارم المذكورة في القرآن. ولم أجده مع كثرة بحثي عنه.(2/734)
بعض الصلحاء قائلا: يا سيدي فلان، إن رد غائبي أو عوفي مريضي، أو قضيت حاجتي، فلك من الذهب أو الطعام أو الشمع كذا، /باطل/1 إجماعا لوجوه، منها: أن النذر للمخلوق لا يجوز.
ومنها: أن ذلك كفر. إلى أن قال: قد ابتلي الناس بذلك ولا سيما في مولد أحمد البدوي2. انتهى3. فصرح بأن هذا النذر كفر يكفر به المسلم. والله أعلم./وصلى الله على محمد وآله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا/4.
__________
1 في "أ" و "د": باطلا.
2 تقدمت ترجمته في ص 345-667.
3 شرح الدر. ولم أقف عليه.
4 زيادة في "د".(2/735)
الرسالة السادس والأربعون: إلى زيد بن محمد آل سليمان
...
"الرسالة السادس والأربعون"1
قال جامع الرسائل:
وله قدس الله روحه ونور ضريحه رسالة إلى زيد بن محمد آل سليمان، قال فيها:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم زيد بن محمد –سلمه الله تعالى-، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
نحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو على نعمه، جعلنا الله وإياك من الشاكرين الصابرين. ومن مدة ما جاءنا منكم خط. وعادة الإخوان يتفقد بعضهم بعضا، لا سيما أوقات الفتن التي تموج، وعند الحوادث التي هي على الأكثر تروج.
وأوصيك بتقوى الله –تعالى- والقوة في دينك ونشر العلم، خصوصا في كشف الشبهة التي راجت على من لا بصير له، ولم يفرق بين البغاة والمشركين، ولم يدر أن نصر من استنصر من الملة على أهل الشرك، واجب على أهل الإيمان والدين، قال –تعالى- فيمن ترك الهجرة واستنصر بالمسلمين: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} 2.
ومن عقيدة أهل السنة: الجهاد في سبيل الله، وأنه ماض مع كل إمام بر أو فاجر إلى يوم القيامة.
واكتب لي جوابا يكون عونا على البر والتقوى، وردعا لأهل الجهل والهوى، وبلغ سلامنا الشيخ حسين، وحسن، ورشيد، وخواص الإخوان، ومن لدينا العيال بخير وينهون السلام، والسلام.
__________
1 وردت هذه الرسالة في حاشية "أ" ص 49.
2 سورة الأنفال: الآية "72".(2/736)
الرسالة السابعة والأربعون: إلى زيد بن محمد
...
"الرسالة السابعة والأربعون"1
قال جامع الرسائل:
وله رحمه الله رسالة إلى زيد بن محمد أيضا، وهي خطه بيده:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ زيد بن محمد سلمه الله –تعالى-، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فأحمد إليك الله على إنعامه، والخط وصل، وسرنا سلامتك وعافيتك. وتعرف أن زمانك أشبه بزمن/الفترة/2، وقل من يعرف حقيقة الإسلام فضلا عمن يعمل به، ولله على مثلك عبودية، هي من أفرض الفرائض وأوجب الواجبات، فلا تغفل عن نفسك ومعرفة ما أنت مطالب به {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 3.
وبلغ عمك وأولادك وأولاده السلام. كذلك إخواننا في الله. والولد والعيال بخير وينهون السلام، والسلام.
__________
1 وردت هذه الرسالة في حاشية "أ" ص 49-50.
2 في الأصل: الفترات.
3 سورة الحجر الآية "92، 93".(2/737)
الرسالة الثامنة والأربعون: إلى زيد بن محمد آل سليمان
...
"الرسالة الثامنة والأربعون"1
قال جامع الرسائل:
وله قدس الله روحه ونور ضريحه رسالة أيضا إلى زيد بن محمد آل سليمان، وهذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم زيد بن محمد زاده الله علما وإيمانا وبصيرة وإيقانا سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، /وبعد/2:
فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على نعمه. والخط وصل وصلك الله ما يرضيه، والله المسئول أن يمن علينا وعليكم بالثبات واليقين، والصبر على التزام ما يرضيه سبحانه، واختار لنا من الدين والقوة على جهاد المفتونين والمنقلبين.
ونخبرك أن الإمام عبد الله ومحمدا وتركيا وصلوا الرياض/ في الثامن والعشرين من شعبان/3، نسأل الله أن يجعلها هجرة إليه وإلى رسوله، بالتزام الإيمان والمتابعة والبراءة من عابدي الأصنام والصلبان.
وبلغ السلام العيال، والشيخ حسين، وحسين، ورشيد، ومن لديك من الإخوان، ومن لدينا العيال يسلمون عليك. والسلام.
__________
1 وردت هذه الرسالة في حاشية "أ" ص 50-51.
2 بياض في الأصل.
3 في الأصل: ثامن عشرين شعبان.(2/738)
الرسالة التاسعة والأربعون: إلىإلى زيد بن محمد آل سليمان
...
"الرسالة التاسعة والأربعون"1
قال جامع الرسائل:
وله قدس الله روحه ونور ضريحه رسالة أيضا إلى زيد بن محمد آل سليمان، وهذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المحب زيد بن محمد –زاده الله علما، ووهب له حكما- سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فأحمد إليك الذي لا إله إلا هو على سوابغ نعمه. والخط وصل، وبه الأنس حصل، حيث أفاد سلامة من نحب ونشفق عليه. وما ذكرت من عدم المكاتبة، فليس ذلك عن إهمال، وإنما كثرة الاشتغال، وتشتت البال، وعدم الشعور بأكثر القادمين إليكم. والسؤال عنكم كثير، والدعاء لكم غير قليل، أرجو أنه في ذات الله ولجلاله.
وما ذكرت من حال أكثر الناس، وأنهم دخلوا الفتنة ولا أحسنوا الخروج منها؛ فالأمر كما وصفت، ولكن ذكر الحافظ الذهبي أن "حسبنا"2 الصائغ قال للإمام أحمد: سألت أبا ثور عن اللفظية فقال: مبتدعة. فغضب أحمد وقال: اللفظية جهمية من أهل الكلام، ولا يفلح أهل الكلام. أو كما قال. فأنكر على أبي ثور التساهل في الإنكار، ورأى أن تعظيم الأمر والنهي يقتضي غير ذلك، من ذكر أوصافهم الخاصة الشنيعة، والغلظة في كل مقام بحسبه، وفتنة البغي فتحت باب الفتنة بالشرك والمكفرات، ووصل دخنها وشررها جمهور من خاض فيها من منتسب إلى العلم وغيره، والخلاص منها عزيز، إلا من تداركه الله ورده إلى الإسلام ومن عليه بالتوبة النصوح وعرف ذنبه.
__________
1 وردت هذه الرسالة في حاشية "أ" ص 51-52.
2 كذا في الأصل، ولم أعرفه.(2/739)
النصوح وعرف ذنبه.
وبلغ سلامنا الأولاد والإخوان، ومن لدينا عبد العزيز، وإخوانه، وإسماعيل وإخوانه، ينهون السلام، وأنت سالم والسلام.(2/740)
الرسالة الخمسون: إلى محمد بن عمير
...
"الرسالة الخمسون"1
قال جامع الرسائل:
وله أيضا رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ محمد بن عمير –وفقه الله تعالى لفعل الإيمان والخير-، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
وصلتنا خطوطك ومنظومتك، والله –سبحانه وتعالى- المسئول أن يمن علينا وعليك لمعرفة الحق بدليله، والدعوة إلى الله وإلى سبيله.
وتعرف أنا رأينا من أجناس المعاندين وأعيان المشركين خلقا كثيرا. ولم نر مثل هذا المفتون2 في جهله وضلالته وشناعة معتقده ومقالته. وقد رأيت كتابه الذي سماه "جلاء الغمة" ورأيت حشوه من مسبة دين الله والصد عن سبيله، والكذب على الله وعلى رسوله، وعلى أولي العلم من خلقه، وأئمة الهدى ما لم نر مثله للمويس وابن فيروز والقباني وأمثالهم ممن تجرد لعداوة الدين ومسبة مشايخ المسلمين. فابتدأ مصنفه بمسبة الشيخ، وأن الله ابتلى به أهل نجد وجزيرة العرب؛ وأنه كفر الأمة عامها وخاصها، وجعل من يبني المساجد ويرفع المنار مشركين أصليين، وأن قوله يتناقض، وأنه أخذ أموال المسلمين وجعلها فيا له ولعياله، وأن خطاب النبي صلى الله عليه وسلم وخطاب الموتى بطلب الشفاعة وغيرها من المطالب، ليس بشرك، ويستدل على ذلك بأحاديث موضوعة، وحكايات مكذوبة، ويزعم أن من له الشفاعة يوم القيامة، يجوز دعاؤه وطلبه في هذه الحياة الدنيا، ويسوغ التوجه إليه، وأن صاحب البردة قد أحسن
__________
1 وردت هذه الرسالة في حاشية "أ" ص 61-63.
2 يريد عثمان بن منصور –صاحب كتاب: جلاء الغمة في تكفير هذه الأمة-، وقد تقدمت ترجمته في ص 59.(2/741)
وأصاب ويستدل من جهله على ذلك بأنه رواها علن فلان وفلتان وهيان بن بيان وابن حج وأبي حيان، ونحو ذلك من طرائق الشيطان. ويرد بمثل هذه النصوص السنة والقرآن. نعوذ بالله من الجهل والحمق والخذلان.
وكان الرجل من رجال الجاهلية الأولى، لم يأنس بشيء مما جاءت به الأنبياء، ولم يدر ما كان عليه السلف الصالحون والأولياء المتقون، ويحتج على بطلان دعوة شيخنا، وبأن بلاده بلاد مسيلمة، ولم يدر أنه عاب بذلك أهل مصر والشام والعراق والحرمين وسائر البلدان التي سكنها من نازع الله في الربوبية والإلهية.
فيا ويحه إن لم تداركه توبة ... لسوف يرى للمجرمين مرافقا
وله من ركة القول وفهامة1 الخطاب، وعدم المعرفة بقواعد الإعراب ما يوصل تشبيهه بسائمة الأنعام، وثور الدولاب معدا.
حررت إليك بهذه البطاقة لتقرأها على الخاصة والجماعة، وتنذر من سمع شيئا من مقالته أن يغتر بجهالته وضلالته. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. وسلام على إخواننا الصادقين، ورحمة الله وبركاته إلى يوم الدين آمين.
__________
1 فهاهة: من فهِةَ، أي عيي، يقال: وفههت تَفَهُ وتَفِهُ فهاهة، أي عيت. والفهاهة: العي؛ وفه الرجل في خطبته وحجته، إذا لم يبالغ فيها ولم يشفها، وقد فههت في خطبتك فهاهة. لسان العرب، 13/525، مادة "فهه".(2/742)
الرسالة الحادية والخمسون: إلى خالد آل قطنان ومحمد بن عيسى
...
"الرسالة الحادية والخمسون"1
قال جامع الرسائل:
وله –قدس الله روحه ونور ضريحه- رسالة إلى خالد آل قطنان ومحمد بن عيسى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم خالد بن إبراهيم آل قطنان ومحمد بن عيسى –سلمهما الله- تولاهما- سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
فنحمد إليكما الله الذي لا إله إلا هو على سوابغ نعمه، جعلنا الله وإياكم من عباده الشاكرين.
والخطوط وصلت وصلكم الله ما يرضيه، وأنا حريص على جوابها، لكن ما تيسر لي طارش2 قبل حامل هذا الخط. ومن جهة الفائدة، فأجل الفوائد وأشرفها ما دل عليه الكتاب العزيز، من معرفة الله بصفات كماله ونعت جلاله، وآياته ومخلوقاته، ومعرفة ما يترتب على ذلك من عبادته وطاعته، وتعظيم أمره ونهيه، وأدلة ذلك مبسوطة في كتاب الله.
وأكثر الناس ضل عن هذين الأصلين مع أنهما زبدة الرسالة ومقصود النبوة، ومدار الأحكام عليها. والعجب كل العجب، أن حفظة القرآن وجملة الأحاديث والآثار ضلوا عما هو محفوظ في صدورهم، متلو بألسنتهم وطلبوا العلم من غيره، فضلوا وأضلوا. فعليكم بطلب العلم النافع لا سيما ما يسأل عنه العبد في قبره: من ربك وما
__________
1 وردت هذه الرسالة في حاشية "أ" ص 64-65.
2 طارش: كلمة تستعملها العامة، وهي بمعنى المسافر. والمعنى: أنه لم يتيسر له مسافر يحمله جوابه.(2/743)
دينك ومن نبيك اعرفوا تفاصيل هذا، ومعنى الرب في هذا المحل،
وتفقهوا في هذه الأصول قبل أن تزل قدم وتزول.
وأما الفرق بين المداراة والمداهنة:
فالمداهنة: ترك ما يجب لله، من الغيرة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتغافل عن ذلك لغرض دنيوي وهوى نفساني؛ كما في حديث: "إن من كان قبلكم كانوا إذا فعلت فيهم الخطيئة أنكروها ظاهرا، ثم أصبحوا من الغد يجالسون أهلها، ويواكلونهم ويشاربونهم، كأن لم يفعلوا شيئا بالأمس"1، فالسكوت والمعاشرة مع القدرة على الإنكار، هي عين المداهنة.
وثمود لو لم يدهنوا في ربهم ... لم تدم ناقتهم بسيف قدار 2
وأما المداراة: فهي درأ الشيء المفسد بالقول اللين، وترك الغلظة والإعراض عنه إذا خيف شره أو حصل منه أكبر مما هو ملابس. وفي الحديث: "شركم من اتقاه الناس خشية فحشه"3 وعن عائشة –رضي الله عنها-: "أنه استأذن على النبي صلى الله
__________
1 المعجم الكبير للطبراني، 10/180. وأخرجه الهيثمي بلفظ: صلى الله عليه وسلم: "إن من كان قبلكم من بني إسرائيل إذا عمل فيهم العامل الخطيئة فنهاه الناهي تعذيرا، فإذا كان من الغد جالسه وواكله وشاربه، كأن لم يره على خطيئة بالأمس. فلما رأى الله –تعالى- ذلك منهم، ضرب قلوب بعضهم على بعض على لسان داود وعيسى بن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر ولتأخذن على أيدي المسيء، ولتأطرنه على الحق أطرا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ويلعنكم كما لعنهم".
قال الهيثمي: "رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح". مجمع الزوائد، 7/269.
2 لم أقف على مصدر هذا البيت فيما اطلعت عليه.
3 أخرجه مسلم في صحيحه، 16/381، البر والصلة، باب من يتقى شره، بلفظ: "إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من ودعه أو تركه الناس اتقاء فحشه. وعند الإمام أحمد في مسنده 2/378 رواية: "شركم من لا يرجى خيره ولا يؤمن شره".
وعند الهيثمي في المجمع 8/183: " ... شراركم من يتقى شره ولا يرجى خيره ... " قال: رواه أبو يعلى وفيه مبارك بن سحيم وهو متروك.(2/744)
عليه وسلم رجل فقال: بئس أخ العشيرة هو، فلما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ألان له الكلام؛ فقالت عائشة: قلت فيه يا رسول الله ما قلت. فقال: "إن الله يبغض الفحش والتف حش" 1. والمسالة تحتاج لبسط إذا جاء منيف نملي عليه إن شاء الله ما تيسر. وبلغوا سلامنا إخوانكم، وعيالكم، ومنيف، وابن عجيم. ولدينا الإمام وعيالنا طيبين ويبلغون السلام وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
__________
1 أخرجه البخاري في صحيحه، 10/ الأدب، باب لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشا ولا متفحشا. ومسلم في صحيحه، 16/380-381، البر والصلة باب مداراة من يتقى فحشه. وأبو داود في سننه، 5/145، الأدب، باب في حسن العشرة.(2/745)
الرسالة الثانية والخمسون: في الكلام على فضل طلب العلم
...
"الرسالة الثانية والخمسون"1
قال جامع الرسائل:
بسم الله الرحمن الرحيم
كتب أخ لأخيه وهو في الرياض يطلب العلم: يكفيك يا أخي لطلب العلم سورة العصر، فإنها كما قال الشافعي: لو فكر الناس فيها لكفتهم 2. فوقع الخط في يد الشيخ الفاضل العلم الكامل عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمهم الله تعالى وعفا/عنهم/3 آمين. فكتب على ظهر الخط:
اعلم أن قول الشافعي رحمه الله تعالى فيه دلالة ظاهرة على وجوب طلب العلم مع القدرة، في أي مكان. ومن استدل به على ترك الرحلة، والاكتفاء بمجرد التفكر في هذه السورة، فهو خلي الذهن من الفهم والعلم والفكرة إن كان في قلبه أدنى حياة ونهمة للخير، لأن الله افتتحها بالإقسام بالعصر الذي هو زمن تحصيل الأرباح للمؤمنين، وزمن الشقاء والخسران للمعرضين الضالين.
وطل بالعلم ومعرفة ما قصد به العبد من الخطاب الشرعي، أفضل الأرباح وعنوان الفلاح، والإعراض عن ذلك علامة الإفلاس والإبلاس4. فلا ينبغي للعاقل العارف أن يضيع أوقات عمره، وساعات دهره إلا في طلب العلم النافع، والميراث المحمدي، كما قيل في المعنى: شعرا:
أليس من الخسران أن لياليا ... تمر بلا نفع وتحسب من عمري
__________
1 وردت هذه الرسالة في حاشية "أ" ص 72 -76.
2 تقدم له هذا الكلام في ص 278.
3 في الأصل: عنهما.
4 الإبلاس: الحيرة، وهو القنوط وقطع الرجاء من رحمة الله. لسان العرب، 6/29، 30، مادة "بلس".(2/746)
وفي قوله: {إِنَّ الإنسَانَ} 1 تنبيه على أن الجنس كله كذلك، إلا من استثنى الله، وهذا يوجب الهرب والفرار إلى الله بمعرفته وتوحيده والإنابة إليه. ومتى يحصل هذا للجاهل؟!.
وفي قوله تعالى: {لَفِي خُسْرٍ} 2 تنبيه على اختصاص خسره بنوع دون نوع، بل هو قد توجه إليه الخسران بحذافيره من جميع جهاته إلا من استثنى، وهذا لا يدخل في المستثنى من زهد في طلب العلم وآثر طنه وأهله على الميراث النبوي، وتجرع كأس الجهل طول حياته، حتى آل من أمره أن يستدل على ترك الطلب بالدليل على وجوب الطلب.
وفي قوله تعالى: {إلا الَّذِينَءَامَنُوا} 3 ما يوجب الجد والاجتهاد في معرفة الإيمان والتزامه لينجو من الخسارة، ويلتحق بالأبرار والأخيار.
وقد اختلف الناس في الإيمان ومسماه، ولا سبيل إلى معرفة مراد الله به وما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في ذلك إلا بطلب العلم، ومعرفة ما عليه سلف الأمة وأئمتها. ثم له شعب وحقائق وأصول وفروع لا تعرف إلا بطلب العلم، وبذلك الجد والتشمير عن ساق الاجتهاد، ومن آثر الوطن والرفاهية، فإنه كثير من ذلك أو أكثر، بل ربما فاته كله. ولذلك تجد من يرغب عن طلب العلم، عمدته في هذه المباحث تقليد المشائخ والآباء وما كان عليه أهل محلته. وهذا لا يكفي في باب الإيمان ومعرفته. ولو كنت تدري قدر ما قلت لم تبد 4.
وفي قوله – تعالى-: {وَعَمٍلُوا الَصَّالحََاتِ} 5، حث وحظ على العلم وطلبه؛
__________
1 سورة العصر: الآية "2".
2 سورة العصر: الآية "2".
3 سورة العصر: الآية "3".
4 صدر بيت لم أعرف قائله. واكتفى المؤلف به؛ لم يأت بالعجز.
5 سورة العصر: الآية "3".(2/747)
لأن العامل بغير علم وبصيرة، ليس من عمله على طائل، بل ربما جاءه هلاك، والآفة من جهة عمله، كالحاطب في ظلماء، والسالك في عمياء، ولا سبيل إلى العمل إلا بالعلم. ومعرفة صلاح العمل وفساده لا بد منه. ولا يدرك إلا بنور العلم وبصيرته.
وقوله –تعالى-: {وَتَوَاصَوْا بِالحَقِ} 1، /يحتاج/2 مريده وفاعله إلى العلم، حاجة وضرورة ظاهرة، لأن الحكم على الشيء بكونه حقا، يتوقف على الدليل والبرهان، وإن كانت "أل" في الحق للاستغراق، فالأمر اعمّ وأجل وأشمل.
وأما الصبر، فمعرفة حده وتعريفه، ومعرفة حكمه وجوبا واستحبابا، ومعرة أنواعه وأقسامه ومحله من الإيمان، من أهم ما يجب على العبد ويلزمه. وما أحسن ما قيل:
إن العلا حدثتني وهي صادقة ... فيما تحدث أن العز في النقل 3
فظهر أ، معنى قول الشافعي رحمه الله تعالى كفتهم في طلبه لا في تركه.
وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: "الناس إلى العلم أحوج منهم إلى الطعام والشراب؛ لأن الرجل يحتاج إلى الطعام والشراب في اليوم مرة أو مرتين، وحاجته إلى العلم بعدد أنفاسه. وروينا عن الشافعي رحمه الله أنه قال: طلب العلم أفضل من صلاة النافلة. ونص على ذلك أبو حنيفة رحمه الله. ومن فارق الدليل ضل السبيل، ولا دليل إلى الله والجنة سوى الكتاب والسنة. وكل دليل لم يصحبه دليل القرآن والسنة فهو من طريق الجحيم والشيطان. فالعلم ما قام عليه الدليل النافع، منه ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم".
وقال أبو الفضل البامجي من مشايخ القوم الكبار رحمه الله تعالى: "ذهاب الإسلام من أربعة أصناف: صنف لا يعلمون بما يعملون، وصنف يمنعون الناس من
__________
1 سورة العصر: الآية "3".
2 في الأصل: محتاج.
3 البيت لأبي إسماعيل الحسن بن علي الطغرائي في ديوانه، ص 306، ضمن قصيدة تسمى: لامية العجم.(2/748)
التعلم والتعليم". وقال عمرو بن عثمان المكي1: "العلم قائد والخوف سائق، والنفس حرون2 بين ذلك جموح خدعة رواغة فاحذرها وراعها بسياسة العلم، وسقها بتهديد الخوف يتم لك ما تريد"3.
وقال أبو الوزير رحمه الله تعالى: "عملت في المجاهدة ثلاثين سنة، فما وجدت شيئا عليّ أشدد من العلم ومتابعته، ولولا اختلاف العلماء لبقيت".
وقال الجنيد 4: "الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا من اقتفى آثار الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن لم يحفظ القرآن ويكتب الحديث، لا يتقدى به في هذا الأمر؛ لأن علمنا مقيد بالكتاب والسنة"5. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
قاله وكتبه عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، رحمهم الله تعالى، آمين.
__________
1 عمرو بن عثمان بن كرب بن غصص، أبو عبد الله المكي الزاهد شيخ الصوفية، سمع من يونس بن عبد الأعلى، والربيع المرادي، وسليمان بن سيف الحراني. وكان ينكر على الحلاج ويذمه. توفي 297هـ. انظر: حلية الأولياء، 10/291-296؛ بغداد، 12/223-225؛ سير الأعلام، 14/57-58.
2 حرون: من حرن، تقول: حرنت الدابة تحرن حرانا، فهي حرون: وهي التي إذا استدر جريها وقفت. لسان العرب، 13/110، مادة "حرن".
3 ذكر الذهبي في السير جزءا من كلامه هذا، إلى قوله " ... والنس بينهما حرون خداعة".
4 الجنيد بن محمد بن الجنيد النهاوندي ثم البغدادي، شيخ الصوفية، سمع من الحسن بن عرفة، وصحب الحارث المحاسبي وغيرهما، لم يري في زمانه مثله في عفة وعزوف عن الدنيا. "ت 298هـ". انظر: حلية الأولياء، 10/255-287؛ تاريخ بغداد 7/214-249؛ سير الأعلام، 14/66-70.
5 ذكر الذهبي جزءا من كلامه هذا، في سير الأعلام، 14/67.(2/749)
الرسالة الثالثة والخمسون: إلى راشد بن عيسى
...
"الرسالة الثالثة والخمسون"1
قال جامع الرسائل:
وله أيضا قدس الله روحه رسالة إلى راشد بن عيسى صاحب البحرين على لسان فيصل:
بسم الله الرحمن الرحيم
من فيصل بن تركي، إلى الأخ الشيخ راشد بن عيسى سلمه الله وهداه السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فالموجب لتحريره ما بلغنا من ظهور البدع في البحرين؛ بدعة الرافضة وبدعة الجهمية، وذلك بسبب تقديم حسن دعبوش الرافضي ونصبه قاضيا في البحرين. ومثلك ما كان يذخر النصح والتبيين لعيال خليفة وغيرهم. وتعرف الحديث الصحيح: "أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم، ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية، ومطلب دم امرئ مسلم بغير حق ليهريق دمه" رواه ابن عباس 2.
وقد علمت أنه –تعالى- أكرم نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وخصه بصحبة خير خلقه وخلاصة بريته. وقد أثنى الله على أصحاب نبيه في كتابه. ومدحهم بما حجة ظاهرة على إبطال مذهب من عابهم أو نال منهم وسبهم، كما هو مذهب الرافضة. وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} الآية3، وقال تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ} الآية 4، وقال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ
__________
1 وردت هذه الرسالة في حاشية "أ" ص 76- 78.
2 صحيح البخاري مع الفتح، 12/219، الديات، باب من طلب دم امرئ بغير حق. السنن الكبرى للبيهقي، 8/27. وذكره الألباني في السلسلة الصحيحة، 2/422 "778".
3 سورة آل عمران: الآية "110".
4 سورة التوبة: الآية "117".(2/750)
اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} الآية1، وكانوا ألفا وأربعمائة، أولهم وأسبقهم إلى هذه البيعة أبو بكر وعمر، وعثمان بايع النبي صلى الله عليه وسلم مع غيبته، وهذا يدل على فضله وثبات إيمانه ويقينه، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم ذلك واستقر عنده، ولذلك بايع له فضرب بيمينه على شماله وقال: "هذه عن عثمان" 2 وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} الآية3، وهذا نص على أن الله رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار. وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وبلال، من أسبق الناس إلى الإيمان بالله ورسوله. وقال: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ، أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} 4، وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} الآية 5. وقد استدل بهذه الآية بعض أهل العلم على كفر من اغتاض وحنق على أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم كالرافضة.
وقد نص الله تعالى على إيمان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ} الآية6، وقوله –تعالى-: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} الآية7، وقال –تعالى-: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} 8،وإنما عني به أصحاب رسول الله صلى
__________
1 سورة الفتح: الآية "18".
2 أخرجه البخاري في صحيحه مع الفتح، 7/66، 68، فضائل الصحابة، باب مناقب عثمان بن عفان رضي الله عنه. قال: " ... وكانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى: هذه يد عثمان. فضرب بها على يده فقال: هذه لعثمان.." وأخرجه الإمام أحمد في مسنده، 2/101، 120.
3 سورة التوبة: الآية "100".
4 سورة الواقعة: الآيتان "10، 11".
5 سورة الفتح: الآية "29".
6 سورة آل عمران: الآية "124".
7 سورة آل عمران: الآية "164".
8 سورة التوبة: الآية "122".(2/751)
الله عليه وسلم 1 ففيه مدحهم وتزكيتهم وفضلهم، لأن اسم الإيمان وإطلاقه في كتاب الله يدل على ذلك. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} 2 في خطابهم، وذلك في مواضع من كتابه والأحاديث الدالة على فضلهم وسابقتهم أكثر من أن تحصى عموما وخصوصا، كقوله صح عنه صلى الله عليه وسلم: "هل أنتم تاركوا لي أصحابي؛ فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أُحدٍ ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه" 3. وقوله: "افترقت بني إسرائيل على إحدى وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلهم في النار إلا واحدة. قالوا: من هم يا رسول الله. قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي" 4 وقال: "آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار" 5 وقوله صلى الله عليه وسلم: "خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذي يلونهم" 6.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "أكرموا أصحابي فإنهم خياركم" 7. وقوله: "يأتي على الناس زمان، فغزو فئام من الناس فيقال لهم أفيكم من صاحب رسول الله صلى
__________
1 انظر: جامع البيان للطبري، 11/66-67.
2 سورة البقرة: الآية "104".
3 الحديث تقدم تخريجه بلفظ آخر في ص 440.
4 تقدم تخريجه بلفظ: "افترقت اليهود ... " في ص 508. ولفظ "بني إسرائيل" أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، 8/328، والآجري في الشريعة، ص 17، والهندي في الكنز، "1052"، و"1055".
5 أخرجه بهذا اللفظ: البخاري في صحيحه مع الفتح، 1/80، الإيمان، باب علامة الإيمان حب الأنصار.
وأخرجه الإمام مسلم في صحيحه بشرح النووي، 2/423، الإيمان، باب الدليل على أن حب الأنصار وعلي –رضي الله عنه- من الإيمان وعلاماته. وبغضهم من علامات النفاق. بلفظ: "حب الأنصار آية الإيمان، وبغضهم آية النفاق". وأخرجه النسائي في سننه، 8/116، كتاب الإيمان وشرائعه " باب علامة الإيمان بلفظ مسلم.
6 تقدم تخريجه في ص 318.
7 أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، برقم "20710"؛ والتبريزي في مشكاة المصابيح، "6003".(2/752)
الله عليه وسلم، فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يأتي على الناس زمان، فيغزو فئام من الناس فيقال لهم أفيكم من صاحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولون نعم، فيفتح لهم: كاد بعضهم: حتى يأتي على الناس زمان، فيغزو فئام من الناس فيقال هل فيكم من صاحب أصحاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ... " 1 2.
__________
1 صحيح البخاري مع الفتح، 6/104، الجهاد، باب من استعان بالضعفاء والصالحين في الحرب. صحيح مسلم بشرح النووي، 16/317، فضائل الصحابة، "208". وأخرجه الحميدي في مسنده، 2/328 "743".
2 إلى هنا انتهى الناسخ، لم يكمل هذه الرسالة.(2/753)
الرسالة الرابعة والخمسون: إلى حمد بن عبد العزيز
...
"الرسالة الرابعة والخمسون"1
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم حمد بن عبد العزيز2 -سلمه الله تعالى- سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على نعمه. والخط وصل، وما ذكرت من غربة الدين فالأمر أجل وأكبر من الغربة، أكثر أصوله وشعبه معدومة في الخواص، فكيف بالسوقة ومن لا نهمة لهم في معرفة ما جاءت به الرسل؛ كالغيرة لله ولحرماته، وتعظيم أوامره، ومجاهدة أعداء دينه، والبراءة من موالاة المشركين وأعداء رب العالمين، والتحيز إلى أهل الإيمان وموالاتهم ونصرهم ولزوم جماعة المسلمين وغير ذلك من حقائق الدين, وشعب الإيمان؟ وهذه معدومة نسأل الله لنا ولكم الثبات على دينه والتمسك به عند فساد الزمان.
وما ذكرت من مسألة الولي، فالمشهور الذي عليه الأكثر، تقديم المكلف الرشيد في تزويج وليته، على من هو أقرب منه ممن لم يبلغ التكليف، ولم يعرف مصالح النكاح.
وأما مسألة الله بحق نبيه أو وليه؛ فلا تصدر إلا من جاهل لأحكام الشريعة وما يستحب وما يكره. والأولى تنبيه هذا الخطيب على أن هذا قد منعه أئمة الإسلام، وأهل الحل والعقد في الأحكام.
تمت.
__________
1 وردت هذه الرسالة في حاشية "أ" ص 79-80.
2 تقدم في ص 92.(2/754)
الرسالة الخامسة والخمسون: إلى حمد بن عبد العزيز
...
"الرسالة الخامسة والخمسون"1
قال جامع الرسائل:
وله قدس الله روحه رسالة إلى حمد بن عبد العزيز أيضا، راعي ثادق.
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم المحب حمد بن عبد العزيز –سلمه الله تعالى- وتولاه سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
موجب الخط إبلاغ السلام والتحية، والسؤال عن أخلاقك المرضية سلك الله بها منهج الطريقة المحمدية. ولا يخفاك أيها الأخ حال أهل الزمان وغربة الإسلام، وندرة الإيمان بينهم، وقد ابتلوا بما رأيت من الفتن والمحن والتقاطع والتدابر والبغضاء، وصاروا أشتاتا بعد أن كانوا مجتمعين، وشيعا بعد أن كانوا عليه من الإسلام متعصبين، ونسي العلم والتوحيد، واقفرت الديار من الناصح الرشيد، وهدم الإسلام، وخلت الديار من ذوي العلم والأفهام، ولا شيء أقرب إلى الله وسيلة وأرجى من الخيرات فضيلة من الدعوة إلى سبيله وإرشاد عبيده، وردهم إلى الله، وتعليم دينه. وقد أهَّلك الله وله الحمد والمنة لذلك، ووضع لك القبول فيما هنالك، وقد اجتمع الرأي والمشورة على إلزامك بالدعوة إلى الله، والتذكير بدينه، وتنبيه عبيده على أصل دينهم وما يجب فيه، وعلى ما يضاده وينافيه، من المكفرات والشركيات، وتعطيل الشرائع والنبوات. فاغتنم أخي ذلك المشهد، وسارع إليه؛ فإن الجزاء خطير والثواب كبير شهير. وهذا خط الإمام عبد الرحمن، وأوصلك، فلا تجاوب بلا ولن، فإنهما داعية الهم والحزن، ولولا أني أخشى على نفسي من كثير من أهل نجد لتحشمت القيام بذلك ولوجدتني حول المياه وبين المسالك، وإلى الله المشتكى من عدم المعين والنصير، وغلبت الجهل والكثير.
__________
1 وردت هذه الرسالة في حاشية "أ" ص 80-81.(2/755)
ونسأل الله المعونة على مرضاته وذكره وشكره، وأن يجعلنا من الدعاة إلى سبيله. قال بعضهم على تفسير قوله تعالى عن المسيح عليه السلام: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ} 1 أي مذكرا بالله داعيا إلى سبيله 2.
وبلغ سلامنا من يجالسك ويرغب في الخير من جماعتكم، ومن لدينا الإمام عبد/3 /والعيال ينهون السلام. وكاتبه أحمد بن عبيد يبلغ السلام.
حرر في 11ج. ونسخَهُ من كتب أحمد حرفا بحرف، سعد بن حمد بن عبد العزيز. وكتبه من خط من سمى نفسه، حرفا بحرف، عبد الله بن إبراهيم الربيعي، وذلك في 3 من جمادى الأول سنة 1346هـ.
__________
1 سورة مريم: الآية "31".
2 انظر: جامع البيان، 16/80؛ والجامع لأحكام القرآن، 11/70.
3 بياض في الأصل. ولعله "عبد الله".(2/756)
الرسالة السادسة الخمسون: إلى حمد بن عبد العزيز
...
"الرسالة السادسة الخمسون"1
قال جامع الرسائل:
وله رحمه الله تعالى رسالة أيضا إلى حمد المذكور:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المحب حمد بن عبد العزيز سلمه الله تعالى، وأسبغ عليه سحائب فضله ووالى سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على نعمه. والخط وصل وصلك الله ما يرضيه. وسرنا ما ذكرت من سلامتكم وعافيتكم جعلنا الله وإياكم من أهل العافية في الدين والآخرة.
والذي أوصيك به القيام لله في هذه الفتنة الشركية، التي أشربتها قلوب أكثر الناس. واذكر قول ابن القيم رحمه الله تعالى في إغاثته: لا ينجو من شرك هذا الشرك إلا من عادى المشركين في الله، وتقرب بمقتهم إلى الله ... إلى آخره 2.
والمرء قد يكره الشرك ويحب التوحيد، ولكن يأتيه الخلل من جهة عدم البراءة من أهل الشرك، وترك موالاة أهل التوحيد ونصرتهم، فيكون متبعا لهواه داخلا من الشرك في شعب تهدم دينه وما بناه، تاركا من التوحيد أصولا وشعبا، لا يستقيم معها إيمانه الذي ارتضاه مولاه، ولا يحب ولا يبغض لله، ولا يعادي ولا يوالي لجلال من أنشأه وسواه. وكل هذا يؤخذ من شهادة أن لا إله إلا الله. فلا تذخر المذاكرة بهذا في كل مجلس وكل مجمع. وإن اجتمعت بعبد العزيز بن حسن، فدارجه بالنصيحة عسى أن ينتفع ويقوم لله، ويبلغ عن رسول الله، فيكون لك عونا في ناحيتك.
__________
1 وردت هذه الرسالة في حاشية "أ" ص 81-83.
2 تقدم كلامه هذا في 645. وهوة من كتابه: مدارج السالكين 1/346.(2/757)
وأخبار سعود ووروده الخرج، بلغتكم، ولا حصل شيء، والظاهر أنه أجنب. وتفصيل الأخبار من رؤوس القادمين إليكم أبلغ.
وبلغ سلامنا العيال والخواص والجماعة، ومن لدينا تركي والعيال ينهون إليك السلام، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ونسخه من أصلها حرفا بحرف سعد بن حمد بن عبد العزيز سلم على من نظر فيها، وصلى الله على محمد وآله وصحبه ونقله من قلم من سمى نفسه حرفا بحرف عبد الله بن إبراهيم الربيعي، يسلم على من نظر فيها. ونقله من أصله بغير تاريخ. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. 1
__________
1 إلى هنا نهاية ما جاء في حواشي نسخة "أ" من رسائل الشيخ. ويأتي بعدها رسالة واحدة في الحواشي أيضا هي الأخيرة. وهي لحمد بن عتيق إلى ابن الإمام سعود.(2/758)
ثانيا: الرسائل الخاصة بالفتاوى في الفروع
الرسالة السابعة والخمسون: سؤال من الشيخ لوالده
...
الرسالة السابعة والخمسون
قال جامع الرسائل:
وله أيضا قدس الله روحه ونور ضريحه سؤال سأل/عنه/1 والده الشيخ الإمام المبجل الفاضل النبيل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، ثم ذيل عليه الشيخ عبد اللطيف ذيلا. وهذا نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما بعد: فإني قد سألت والدي قدس الله روحه، ونور ضريحه عما يفعله بعض الأمراء بنجد، من أخذ ابن العم بجريرة ابن عمه أو غير ابن العم من الأصول والفروع؛ هل له مستند شرعي أو لا مستند له؟.
فأجاب –رحمه الله تعالى - بقوله: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيد المرسلين، وإمام المتقين، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا، أما بعد: فقد سألني من لا تسعني مخالفته، أن أكتب فيما يفعله الأئمة من أخذ ابن العم وحبسه فيما يأخذه ابن عمه من مال وغيره بغير حق؛ هل له مسوغ في الشرع أم لا؟
فالجواب: اعلم وفقك الله أن أهل نجد قبل ظهور هذه الدعوة الإسلامية فيهم، بأسوأ حال. أما الأعراب فلا يلتفت أحد منهم لشريعة الإسلام، لا في العبادات ولا في غيرها من الأحكام، في الدماء ولا في الأموال ولا في النكاح والطلاق والمواريث وغير ذلك. وكانوا في شر عظيم فيما بينهم من الحروب، كل طائفة تقاتل الأخرى، وتستحل دماءها وأموالها. والحضر عندهم في غاية الذل، يأخذون المال منهم كرها. فلما منَّ الله بهذه الدعوة، وأقام الجهاد، أجلبوا كلهم على محاربة من دعاهم إلى
__________
1 زيادة مني لضرورة استقامة المعنى.(2/761)
الإسلام، والتزام شرائعه وأحكامه، فحصل التأييد من الله لمن قام بدينه، فجاهدوا الأعراب وغيرهم على طاعة ربهم، والتزام ما شرعه؛ فبقوا على جهاد الأعراب، كلما أسلمت قبيلة جاهدوا بها الأخرى، فما زالوا يجاهدونهم على أن يسلموا ويُصَلُّوا ويزكُّوا، وأكثرهم ألقى السلم لأهل الإسلام، لكن بقي من البغي والظلم والعدوان على من قدروا عليه واستضعفوه، ممن قد دخل فيما قد دخلوا فيه من الإسلام 1. فكل من نهب أو قطع طريقا أو قتل، استند إلى قبيلة، فلا يقدر أحد من ولاة الأمر أن يأخذ الحق منهم والحالة هذه؛ فلو تركوا رأسا ولم ينظر إلى جنايتهم، ونظر إلى جناية المباشر فقط، لفهم يفهمه بعض القاصرين من حديث: "لا يجني جان إلا على نفسه"2، لضاعت حقوق الناس ودماؤهم وأموالهم، وعطلت القاعدة الشرعية، وقصر بالحديث عما يتناوله ويدل عليه عند إمعان النظر.
فعلى قدر ما أحدثوا من البغي والظلم والعدوان، والتعاون على ذلك؛ ساغ للأئمة أن يحبسوا ابن عمه، ليقوم بأداء ما وجب عليه من الحق، والطاعة في المعروف، من نصرة المظلوم، وإغاثة الملهوف، والبراءة من المحاربين وقطع السبيل.
ومثل هذه القبائل لما تركوا ما وجب من أمر الشارع، مع القدرة على القيام، ورضوا بمحاربة الله ورسوله، ساغ للأئمة ما ذكر؛ و"ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب" 3. وأيضا فلو خلوا بين أهل الإسلام، وبين هذا الجاني من أبناء عمهم، لتمكن المظلوم من أخذ حقه، ورد مظلمته؛ فهم قد آووا محدثا، وفي الحديث: "لعن الله من آوى محدثا"4.
__________
1 في "أ" و "ج": الاستسلام.
2 سنن الترمذي، 4/401، الفتن، باب ما جاء "دماؤكم وأموالكم عليكم حرام". سنن ابن ماجه، 2/188، المناسك، باب الخطبة يوم النحر. قال الترمذي: "حديث حسن صحيح".
3 قاعدة أصولية. الإحكام في أصول الأحكام، لعلي بن أبي علي بن محمد الآمدي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1400هـ-1980م، 1/157.
4 هذا جزء من حديث واثلة، كنت عند علي بن أبي طالب، فأتاه رجل فقال: ما كان =(2/762)
وفي الحقيقة هذا إحسان إلى القبيلة، وسبب لتخليصهم من ارتكاب ما حرم الله؛ وهذا الذي أخذ في ابن عمه، لم يقصد ماله، بل حبس لأخذ ما بيد مولاه، الذي هو ابن عمه.
وبالجملة فهذا من أسباب صلاح الناس وصيانتهم. وهذا الذي ذكرنا، هو الذي تأوله الأئمة، وظهرت مصلحته، وقلت مفسدته. والذي أخذ النبي صلى الله عليه وسلم ناقته العضباء، قال له: لم تأخذ سابقة الحاج؟ قال: "أخذتها بجريرة حلفائك من ثقيف: "أو كما قال صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا 1. وعلى أله وأصحابه والتابعين.
قلت 2: فظهر من هذا البيان الذي أفاده شيخنا رحمه الله أن الحكم خاص بأهل القوة والنصرة، بخلاف المستضعف الذي لا /قدرة/3 له ولا جناية، ولا مصلحة في حبسه، ولا يُؤْبَه له عند قبيلته؛ فعلى الحاكم إمعان النظر في جلب المصالح ودفع المفاسد.
قال جامع الرسائل:
أملاه شيخنا عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، قدس الله روحه ونور ضريحه. ثم ذيل على ذلك ذيلا، فقال رحمه الله:
ما قاله شيخنا ووالدنا حفظه الله في أسر ابن العم للمصلحة، فهو الحكم العدل،
__________
= النبي صلى الله عليه وسلم يسر إليك فغضب عليّ وقال: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسر إليّ شيئا يكتمه عن الناس، غير أنه قد حدثني بكلمات أربع فقال: ما هن يا أمير المؤمنين قال: قال: "لعن الله من لعن والده، لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من آوى محدثا، ولعن الله من غير منار الأرض". صحيح مسلم بشرح النووي، 13/150، الأضاحي، باب تحريم الذبح لغير الله. سنن النسائي، 7/232، الأضاحي، باب من ذبح لغير الله –عز وجل-.
1 وسيأتي الحديث بلفظه عند المصنف قريبا.
2 الكلام هنا للشيخ عبد اللطيف.
3 في "د": قوة.(2/763)
وهو الذي عليه أكثر السلف. فإن الرجل إذا قطع السبيل وأخافه، وامتنع بنفسه، وتُرك من يؤويه وينصره، صار قوة له، وإعانة له على ظلمه. فإن أُخِذَ بجريرته وأسر فيه، حصل له ردع وامتناع. وهذا يعلم بالاضطرار.
قال الخطابي1 في شرح سنن أبي داود، في باب النذر فيما لا يملك ابن آدم: حدثنا سليمان بن حرب2 ومحمد بن عيسى3، قالا: حدثنا حماد4، عن أيوب5، عن أبي قلابة6، عن أبي المهلب7، عن عمران بن حصين8 قال:
__________
1 هو حمد بن محمد بن إبراهيم بن خطاب، أبو سليمان الخطابي البستي، إمام في الفقه والحديث واللغة، صاحب معالم السنن وأعلام الحديث "شرح صحيح البخاري"، وغريب الحديث وغيرها. "ت388هـ".
انظر: وفيات الأعيان، 2/214؛ سير الأعلام، 17/23؛ طبقات السبكي، 3/282.
2 هو سليمان بن حرب بن بجيل، أبو أيوب الواشخي، الأزدي البصري، الإمام الثقة الحافظ، قاضي مكة. "ت224هـ".
انظر: تاريخ بغداد، 9/33، وفيات الأعيان، 2/418؛ سير الأعلام، 10/330.
3 هو محمد بن عيسى بن نجيح، أبو جعفر بن الطباع، الحافظ الكبير الثقة، البغدادي، علق له البخاري. "ت224هـ".
انظر: تاريخ بغداد، 2/395؛ وسير الأعلام، 10/386؛ وتهذيب التهذيب، 9/392.
4 هو حماد بن زيد بن درهم، أبو إسماعيل الأزدي، الحافظ الثبت، محدث الوقت. قال الذهبي: روى عنه سليمان بن حرب ومحمد بن عيسى وغيرهما "ت179هـ".
انظر: سير الأعلام، 7/456-461؛ وتهذيب التهذيب، 9/392.
5 هو أيوب بن كيسان "أبي تميمة" أبو بكر العنزي البصري السختياني، الإمام الحافظ، سيد العلماء، عداده في صغار التابعين، ولد عام "68هـ" وتوفي "131هـ".
انظر: سير الأعلام، 6/15؛ تهذيب التهذيب، 1/397؛ وشذرات الذهب، 1/181.
6 هو عبد الله بن زيد بن عمرو بن نائل بن مالك، أبو قلابة الجرمي البصري، حدث عن ثابت بن الضحاك وأنس ومالك بن الحويرث في الكتب الستة. "ت107هـ".
انظر: سير الأعلام، 4/468؛ تهذيب التهذيب، 5/224؛ والنجوم الزاهرة، 1/254.
7 هو عبد الرحمن بن عمرو، أبو المهلب الجرمي عم أبي قلابة، ثقة، روى عن ابن عمر، وعمران بن حصين. انظر: الكنى والأسماء، للإمام مسلم بن الحجاج، تحقيق عبد الرحيم محمد أحمد القشقري، طبعة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ط/1، 1404هـ 1984م، 2/804.
8 صحابي معروف. كان ممن اعتزل الفتنة "ت52هـ". انظر الاستيعاب، 3/1208؛ وأسد الغابة، 4/281.(2/764)
كانت العضباء لرجل من عقيل، وكانت من سوابق الحاج 1، قال: فأسر، فأُتي به النبي صلى الله عليه وسلم وهو في وثاق، والنبي صلى الله عليه وسلم على حمار عليه قطيفة، فقال: يا محمد علام تأخذني وتأخذ سابقة الحاج؟ قال: "نأخذك/2 بجريرة حلفائك/ ثقيف/3 " وكان ثقيف قد أسروا رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ... "4.
قال الشيخ 5: "قوله: "آخذك بجريرة حلفائك من ثقيف" اختلفوا في تأويله: فقال بعضهم: هذا يدل على/ أنهم كانوا عاقدوا بني عقيل /6 أن لا يتعرضوا للمسلمين، ولا أحد من حلفائهم، فنقض حلفاؤهم العهد، ولم ينكره بنو عقيل؛ /فأُخِذَ/7 بجريرتهم.
وقال آخرون: هذا الرجل كافر لا عهد له، وقد يجوز أخذه وأسره وقتله؛ فإن جاز أن يؤخذ بجريرة نفسه وهي كفره، جاز أن يؤخذ بجريرة غيره، ممن كان على مثل حاله من حليف وغيره. ويحكى معنى هذا عن الشافعي.
وفيه وجه ثالث، وهو: أن يكون في الكلام إضمار؛ يريد: إنك إنما أُخذت ليدفع بك جريرة حلفائك، ويفدوا بك الأسيرين الذين أسرتهما ثقيف. ألا تراه يقول: فقدي
__________
1 سوابق الحاج: أي من النوق التي تسبق الحاج. عون المعبود، 9/144.
2 كذا في الأصل عند أبي داود، وفي جميع النسخ "آخذك".
3 كذا في الأصل عند أبي داود وفي جميع النسخ "من ثقيف".
4 الحديث بهذا اللفظ في سنن أبي داود، 3/609-611، الأيمان، باب في النذر فيما لا يملك.
وهو في صحيح مسلم بشرح النووي، 11/108-109، النذر، باب لا وفاء لنذر في معصية الله.
5 المراد بالشيخ هنا: الخطابي في معالم السنن، بحاشية سنن أبي داود، 3/610.
6 هكذا في أصل النص. وفي جميع النسخ: "أنهم كانوا بني عقيل عاهدوا".
7 كذا في المطبوع؛ وفي جميع النسخ: "فأخذوا".(2/765)
الرَّجُل بعد بالرجلين، انتهى1. فتأمل هذا، فإنه يُدلك على صواب الحكم.
والآية، وهي قوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} 2، ليس فيها ما يدفع هذا، ولا يرده، والله الموفق للصواب والله أعلم بمواقع الخطاب. وصلى الله على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
قال الناسخ: أملاه شيخنا الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، رحمهم الله – تعالى - وعفا عنهم.
__________
1 معالم السنن بحاشية سنن أبي داود، 3/610.
2 سورة فاطر: الآية "18".(2/766)
الرسالة الثامنة والخمسون: إلى زيد بن محمد
...
الرسالة الثامنة والخمسون
قال جامع الرسائل:
وله أيضا –رحمه الله وعفا عنه بمنه وكرمه - رسالة إلى زيد بن محمد 1، وقد سأله عن حديث زينب 2 - رضي الله عنها - وما وجه اختصاص النساء المهاجرات بدور المهاجرين؟
فأجاب –رحمه الله تعالى/وعفا عنه بمنه-/3:
بسم الله الرحمن الرحيم
/وبه نستعين/4
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، إلى الأخ زيد بن محمد زاده الله من العلم والإيمان، وألبسه ملابس التقوى والإحسان. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
وبعد، فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله هو، وهو للحمد أهل.
والخط وصل وصلكم الله ما يرضيه وسرنا ما ذكرته، والحمد لله على التيسير
__________
1 تقدمت ترجمته في ص 94.
2 هي زينب بنت جحش أم المؤمنين –رضي الله عنها- "ت20هـ" انظر ترجمتها: الاستيعاب، 4/1849؛ وأسد الغابة، 7/125؛ وسير الأعلام، 2/211. وحديثها المشار إليه هنا هو: عن كلثوم قالت: كانت زينب تفلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنده امرأة عثمان بن مظعون ونساء، من المهاجرات يشتكون منازلهن، وأنهن يخرجن منه ويضيق عليهن فيه. فتكلمت زينب وتركت رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنك لست تُكلمين بعينيك، تكلمي واعملي عملك"، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ أن يورث من المهاجرين النساء. فمات عبد الله، فورثته امرأته دارا بالمدينة". أخرجه الإمام أحمد في مسنده، 6/363، واللفظ له، وأبو داود في سننه، 3/457، كتاب الخراج، باب في إحياء الموات.
3 في "ب": بما نصه. وهو ساقط في المطبوع.
4 ساقط في "ب" و "ج" و "د" والمطبوع.(2/767)
والتسديد.
ومن جهة كتاب الطرق، فالوالد أعاره محمد بن فيصل 1 قبل وصول خطكم، وحين فراغه نبعث به إليك إن شاء الله.
وأما السؤال عن حديث زينب –رضي الله عنها-؛ فاعلم أن الحديث قد دل بمنطوقه على أن امرأة عثمان بن/عفان/2 ونساء من المهاجرات اشتكين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ضيق المنازل وإخراجهن منها، فأمر صلى الله عليه وسلم أن تورث دور المهاجرين النساء المهاجرات و "تورث" بضم التاء وفتح الواو وتشديد الراء معناه: أن تجعل الدور لهن ميراثا. فمات عبد الله بن مسعود، فورثت امرأته داره في المدينة، أخذا بهذا الحديث. هذا معناه.
والناس مختلفون في وجه اختصاص النساء بذلك؛ فقال بعضهم 3: يشبه أن يكون ذلك على معنى القسمة بين الورثة، وإنما خصهن بالدور لأنهن بالمدينة غرائب لا عشيرة لهن فحاز لهن الدور، لما رأى من المصلحة 4. وهذا مختص/ بالمهاجرات/5 لاختصاصهن بعلة الحكم 6، هذا على وجه. وقد ألغز في ذلك بعض الأفاضل فقال:
سَلم على مفتي الأنام وقل له ... هذا سؤال في الفرائض مبهم
قوم إذا ماتوا يحوز ديارهم ... زوجاتهم ولغيرهم لا تقسم
وبقية المال الذي قد خلفوا ... يجري على أهل التوارث منهم
وقيل هو أمر منه صلى الله عليه وسلم باختصاص الزوجات المهاجرات سكنى دور
__________
1 تقدمت ترجمته في ص 45.
2 هكذا في جميع النسخ "عفان". وهو كذلك في رواية أبي داود. أما عند الإمام أحمد في مسنده: "مظعون" كما تقدم في نص روايته في الصفحة السابقة.
3 هذا قول الخطابي.
4 معالم السنن بحاشية سنن أبي داود، 3/458.
5 في "أ": بالمهاجرين. وهو خطأ.
6 كونهن اللائي كن يخرجن من دورهن.(2/768)
أزواجهم، مدة حياتهن على سبيل الإرفاق بالسكنى دون الملك، كما كانت دور النبي صلى الله عليه وسلم وحجره في أيدي نسائه بعده، لا على سبيل الميراث؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "نحن لا نورث؛ ما تركناه صدقة"1.
لكن يحكى عن سفيان بن عيينة2 أنه قال: نساء النبي صلى الله عليه وسلم في معنى المعتدات، لأنهن لاينكحن بعده، وللمعتدات السكنى، فجعل لهن سكنى البيوت ما عشن، لا تملكا3.
ويشبه أن يكون أمره بذلك قبل نزول آية الفرائض4. فقد كانت الوصية للوالدين والأقربين مفروضة5. وقد كان المهاجرون والأنصار يتوارثون بالمؤاخاة بينهم، فنسخ بآية الفريضة، وبقوله تعالى: {وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} 6 وعمل الناس يدل على هذا ويرجحه.
وأما استدلال أبي داود في باب إحياء الموات 7 فتأوله على وجهين:
__________
1 صحيح البخاري، 12/8، الفرائض، قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا نورث وما تركناه صدقة"، صحيح مسلم بشرح النووي، 12/320؛ الجهاد، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا نورث ما تركناه صدقة".
2 تقدمت ترجمته في ص 203.
3 معالم السنن بحاشية سنن أبي داود، 3/458.
4 وهي قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} الآية [النساء: 11-12] .
5 فقد كان ذلك قبل نزول الفرائض والمواريث، وذلك قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180] .
وهذه الآية عامة، قد خصصتها آية الفرائض في النساء، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا وصية لوارث" فخرج من الوصية كل وارث؛ وبقيت الوصية للوالدين للذين لا يرثان، والأقرباء الذين لا يرثون. انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، 2/176.
6 سورة الأنفال الآية "75".
7 يعني بالاستدلال، الحديث الذي تقدم ذكره برواية أحمد: "كانت زينب تفلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ... " في ص 767، فهو هنا عند أبي داود في سننه، 3/457، كتاب الخراج والإمارة والفيئ، باب إحياء الموات.(2/769)
أحدهما: أنه إنما أقطعهم العرصة ليبنوا فيها الدور، وعليه يصح ملكهم في البناء الذي أحدثوه في العرصة. وهذا الذي يظهر من /صنيع/1 أبي داود.
والوجه الثاني: إنهم إنما أقطعوا الدور عارية 2. ولهذا ذهب أبو إسحاق المروزي 3؛ /ويرشح/4 ذلك أن أقطاع الإرفاق وقع في المقاعد في الأسواق، والمنازل في الأسفار، وهي يُرتَفق بها ولا تُمَلك. ومن هنا يحصل احتمال رابع في معنى اختصاص النساء بالدور دون سائر الورثة، وتقريره على هذا الوجه أن يقال: الدور لم تملك بالإقطاع، بل هي عارية في يد أربابها، وبعد هلاكهم يكون أمرها إلى الإمام، يُسكنها من شاء بحسب المصلحة؛ فلذلك أمر صلى الله عليه وسلم باختصاص المهاجرات بها دون سائر الورثة.
وقول بعضهم إن الميراث لا يجري إلا فيما كان/ المورث/5 مالكا /له/6، فيه نظر ظاهر، والله أعلم.
__________
1 في المطبوع: صنع.
2 هذان الوجهان اللذان ذكرهما المصنف من كلام الخطابي في معالم السنن، بحاشية سنن أبي داود، 3/458.
3 هو إبراهيم بن أحمد، أبو إسحاق المروزي، الإمام الكبير، شيخ الشافعية، فقيه بغداد، صاحب أبي العباس بن سريج، له تصانيف "ت340هـ" بمصرز تاريخ بغداد، 6/11؛ سير الأعلام، 15/ 439؛ شذرات الذهب، 2/355-356.
4 في "د": ويوضح.
5 في "د": الموروث.
6 ساقط في "ج".(2/770)
الرسالة التاسعة والخمسون: إلى عيسى بن إبراهيم
...
الرسالة التاسعة والخمسون1
قال جامع الرسائل:
وله أيضا قدس الله روحه، ونور ضريحه رسالة إلى عيسى بن إبراهيم، جواب لأربع مسائل:
الأولى: عن قوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} الآية 2.
الثانية: الفرق بين المرفوع والمسند والمتصل، وأيهما أصح.
الثالثة: عن قول شارح الزاد 3: "غير تراب ونحوه"4.
الرابعة: عن قول شارح الزاد أيضا –نقلا عن النظم: "وتحرم القراءة في الحش 5 وسطحه 6، وهو متوجه على حاجته".
ثم إن الشيخ استشعر منه أنه يشير إلى رسم فائدة زائدة. فأجاب بما يشفي العليل، ويروي الغليل، ويهدي إلى أقوم منهج وسبيل، بأوضح عبارة، وأبين دليل، فرحمه الله من إمام؛ بالسنة ما أعلمه، ويعلم التفسير ما أفهمه، وبالفقه وغيره من العلوم ما أحكمه، فلقد فاق بذلك على أقرانه، وكان وحيد عصره وفريد زمانه، وهذا نص الرسالة:
__________
1 جاءت هذه الرسالة في المطبوع في ص 1890-194، وهي الرسالة رقم "33". وجاءت في "ب" في ص 233-237، وهي آخر رسالة في "ب".
2 سورة الممتحنة: الآية "8".
3 أي شارح زاد المستقنع.
4 ورد هذا الكلام في زاد المستقنع، لموسى بن أحمد المقدسي "968هـ"، مطبعة المدني، القاهرة، ص 5.
5 الحش: البستان. ويطلق أيضا على المتوضإ، سمي به لأنهم كانوا يذهبون عند قضاء الحاجة إلى البستان. لسان العرب، 6/286؛ مادة "حشش". فيكنى به عن كل ما يتغوط فيه.
6 غير واضحة في "ج".(2/771)
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المحب عيسى بن إبراهيم –سلك الله بي وبه صراطه المستقيم. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته: وبعد:
فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو على نعمه. والخط وصل، فسرني إنباؤه عن سلامة تلك الأحوال، والذوات لا زالت سالمة من الآفات، وما أشرت إليه قد علم.
وجواب/ مسائلك/1 هذا هو قد رُسم، نسأل الله التوفيق والإصابة، وحسن القصد والإنابة.
المسألة الأولى
فأما قوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} الآية 2 فالذي يظهر: مشروعية بر الكافر أن هذا إخبار من الله جل ذكره لعباده المؤمنين بأنه لم ينههم عن البر والعدل والإنصاف في معاملة أي كافر كان من أهل الملل، إذا كان لم يقاتلهم في الدين، ولم يخرجهم من ديارهم 3. إذ العدل والإحسان والإنصاف مطلوب محبوب شرعا، ولهذا علل هذا الحكم بقوله: {إنَّ اللَّه يُحِبُ المُقسِطينَ} 4.
وأما قوله: {أَن تَبَرُوهُم} ، فقد قال بعض المعربين: إنه بدل من الموصول /بدل/5 اشتمال، و"أن" وما دخلت عليه في تأويل مصدر، والتقدير: لا ينهاكم الله عن بر من لم يقاتل في الدين 6. ولو قال هذا البعض أنه بدل بداءٍ، لكان أظهر؛ إذ لا يظهر
__________
1 في "ب" و "د" والمطبوع: سألتك.
2 سورة الممتحنة: الآية "8".
3 وبهذا فسر الطبري الآية في جامع البيان، 28/66. وانظر تفسير القاسمي، 16/5769.
4 سورة الممتخنة: الآية "8".
5 في "د": يد.
6 انظر هذا المعنى: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، 18/40؛ والكشاف للزمخشري، 4/91؛ وفتح القدير للشوكاني، 5/213؛ والتفسير الكبير للرازي، 29/304.(2/772)
الاشتمال بأنواعه السبعة هنا. والأظهر عندي، أن لا بدل مطلقا، وأن الموصول معمول للمصدر المتأخر المأخوذ من "أن" وما دخلت عليه 1.
فالموصول إذاً في محل نصب بالمصدر المسبوك، وتأخر العامل لا يضر. وأما على البداية فهو في محل جر.
وقوله: {إنَّ اللَّه يُحبُ المُقسِطيِنَ} 2. أكد الجملة هنا لمناسبة مقتضى الحال؛ إذ المقام مظنة لغلط الأكثر، ولتوهم خلاف المراد، فاقتضى التأكيد والتوفية بالأداة، كما يعلم من فن المعاني.
وقوله: {فيِ الدَيِنِ} 3 الفاء سببية، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "دخلت النار امرأة في هرة ... " الحديث 4.
وسبب النزول: ما رواه الإمام أحمد في مسنده حدثنا أبو معاوية 5، حدثنا هشام بن عروة 6
__________
1 فيكون التقدير حينئذ: لا ينهاكم الله عن أن تبروا الذين ... فهو معمول الفعل على الاشتغال.
2 سورة الممتحنة: الآية "8".
3 سورة الممتحنة: الآية "8".
4 هذا جزء من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " دخلت امرأة النار في هرة، ربطتها، فلا أطعمتها، ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت". أخرجه البخاري في صحيحه، 6/409، بدء الخلق، باب إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه. صحيح مسلم بشرح النووي، 17/79، التوبة باب في سعة رحمة الله؛ سنن ابن ماجه، 2/439، الزهد، باب ذكر التوبة. كلهم بتقديم "المرأة" على "الدار" خلافا لما عند المصنف.
5 هو محمد بن خازم، مولى بني سعد ابن زيد مناة بن تميم، الإمام الحافظ، أبو معاوية السعدي الكوفي الضرير، ولد سنة 113هـ، حدث عن هشام بن عروة، والأعمش، ومالك الأشجعي، وغيرهم، "ت194هـ".
سير الأعلام، 9/73؛ تهذيب التهذيب 9/137.
6 هو هشام بن عروة بن الزبير بن العوام، أبو المنذر القرشي الأسدي، ولد سنة "61هـ"، وتوفي سنة "146هـ". تاريخ بغداد، 14/37؛ سير الأعلام، 2/34.(2/773)
عن فاطمة بنت المنذر1.
عن أسماء2 بنت أبي بكر –رضي الله عنهما - قالت: قدمت/ عليَّ/3 أمي وهي مشركة، في عهد قريش إذ عاهدوا، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إن أمي قدمت وهي راغبة، أفأصلها، قال: "نعم صلي أمك" 4. وهذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم5. وفي بعض الطرق أنها جاءت لابنتها بهدية، ضباب6 وأقط7 وسمن، فأبت أسماء أن تقبل منها، وتدخل البيت حتى سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية8.
وأما قول ابن زيد9
__________
1 هي فاطمة بن المنذر بن الزبير بن العوام، زوجة هشام بن عروة، ثقة، من الثالثة.
تقريب التهذيب/ 2/609؛تاريخ بغداد، 1/222؛ سير الأعلام، 3/381.
2 هي أسماء بنت أبي بكر. أم عبد الله، القرشية التميمية، المكية ثم المدنية، ذات النطاقين "ت73هـ".
الاستيعاب، 4/ 1781؛ سير الأعلام، 2/287؛ تهذيب التهذيب، 12/398.
3 كذا في "أ"، وساقط في بقية النسخ. وهو كذلك في رواية أحمد 6/347. أما الرواية بدنه، فهي أيضا واردة في مسند أحمد، 6/344.
4 مسند الإمام أحمد، 6/344-347.
5 صحيح البخاري مع الفتح، 5/275، الهبة، باب الهدية للمشركين. صحيح مسلم بشرح النووي، 7/93؛ الزكاة، باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين.
وأخرجه أيضا: أبو داود في سننه، 2/307-308، الزكاة، باب الصدقة على أهل الذمة.
6 ضباب: جمع الضب، وهو دويبة تشبه الورل. ابن منظور/ لسان العرب، مادة "ضبب"، 1/538.
7 الأَقِط والأِقْط والأَقْط والأُقْط" شيء يتخذ من اللبن المخيض، يطبخ ثم يترك حتى يمصُل. والقطعة منه أقطة. ابن مظور /لسان العرب، مادة "أقط"، 7/257.
8 هذه الرواية أخرجها الطبري في تفسيره، 28/66، والواحدي في أسباب النزول، ص 424، وابن كثير في تفسيره، 4/373.
9 هو جابر بن زيد أبو الشعثاء الأزدي اليحمدي، مولاهم البصري، من كبار تلامذة ابن عباس، حدث عنه عمرو بن دينار، وقتادة وآخرون. "ت93هـ". سير الأعلام، 4/481؛ تهذيب التهذيب، 2/38. النجوم الزاهرة، 1/252.(2/774)
وقتادة1 أنها منسوخة، فلا يظهر؛ لوجوه:
منها: أن الجمع بينها وبين آية القتال2، ممكن غير متعذر، ودعوى النسخ يصار إليها عند التعذر وعدم إمكان الجمع إن دل عليه دليل.
ومنها: أن السنة متظاهرة بطلب الإحسان والعدل مطلقا، ولا قائل بالنسخ؛ لكن قد يجاب عن ابن زيد وقتادة بأن النسخ في/كلاميهما/3 بمعنى التخصيص، وهو متجه على اصطلاح بعض السلف.
ولا شك أن القتال بالسيف، وتوابعه من العقوبات والغلظة في محلها، مخصوص من هذا العموم4.
ووجه مناسبة الآية لما قبلها من الآي5: أنه لما ذكر –تعالى - نهيه عبادة المؤمنين عن اتخاذ عدوه وعدوهم أولياء، يلقون إليهم بالمودة؛ ثم ذكر حال خليله من آمن معه،
__________
1 هو قتادة بن دعامة بن قتادة بن عزيز، حافظ العصر، وقدوة المفسرين والمحدثين، أبو الخطاب السدوسي البصري، روى عن أنس بن مالك وجابر بن زيد والنضر بن أنس. "ت118هـ".
سير الأعلام، 5/269؛ تهذيب التهذيب، 8/351.
2 أي الجمع بين قوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8] وقوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5] .
فالجمع بينهما: أن آية الممتحنة رخصة في البر والقسط، لكل من لم يناصب المسلمين العداء، ولم يظهر سوءا إليهم، فالبر والقسط والعدل والإحسان ممن بينه وبينهم قرابة نسب أو غير ذلك غير محرم، ولا منهي عنه.
وأما الأمر بالقتال في التوبة، فلا يمنع الإحسان؛ إذ إنه يكون عن من قاتل المسلمين، وأظهر لهم العداء.
انظر: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، لمحمد أمين بن محمد المختار الشنقيطي، عالم الكتب، بيروت، 8/151-152. وجامع البيان للطبري، 28/66؛ وزاد المسير،8/237.
3 في المطبوع: كلامهما.
4 أي العموم الوارد في آية الممتحنة؛ عموم البر والقسط للذين لم يقاتلوا.
5 وهو من بداية سورة الممتحنة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} إلى الآية السابعة.(2/775)
في قولهم وبراءتهم من قومهم المشركين حتى يؤمنوا، وذكر أن لعباده المؤمنين أسوة حسنة، خيف أن يتوهم أحد أو يظن أن البر والعدل داخلان ضمن ما نهى عنه من الموالاة، وأمر به/ من البراءة، فناسب/1 أن يدفع هذا بقوله: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ} الآية 2.
وأما المسألة الثانية: في الفرق بين المرفوع والمسند والمتصل:
فاعلم أن المرفوع ما أضيف 3 إلى النبي صلى الله عليه وسلم قولا أو فعلا أو حكما 4. واشترط الخطيب البغدادي 5 كون المضيف صحابيا 6، والجمهور على خلافه. بيان الفرق بين الحديث المرفوع والمسند والمتصل والمسند: هو المرفوع 7، فهو مرادف له. وقد يكون متصلا، كمالك عن نافع 8 عن ابن عمر عن النبي صلى الله
__________
1 ساقط في المطبوع.
2 انظر في وجه المناسبة، بين هذه الآية لما قبلها فتح القدير للشوكاني، 5/213. وقال القاسمي: إن هذه الآية {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ} في معنى التخصيص لقوله –تعالى- قبلها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي} الآية. تفسير القاسمي، 16/5768.
3 أي: سواء كان إضافة صحابي أو تابعي أو من بعدهما. التقييد والإيضاح لما أطلق وأغلق من مقدمة ابن الصلاحة، للحافظ زين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقي، "ت806هـ"، مطبوع مع علوم الحديث لابن الصلاح، مؤسسة الكتب الثقافية، 50.
4 علوم الحديث لابن الصلاح، ص 41. والباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث، لابن كثير "774هـ"، تأليف أحمد محمد شاكر، دار الكتب العلمية، بيروت، ط/1، 3، 1403هـ-1983م، ص 43. وأصول الحديث، علومه ومصطلحاته، للدكتور محمد عجا الخطيب ص 355.
5 تقدمت ترجمته في ص 347.
6 الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي، ص 21.
7 هذا عند بعضهم، كما ذكره ابن الصلاح في علوم الحديث، ص 41. أما عند الخطيب الذي يُعرف المسند بأنه: "ما اتصل إلى منتهاه"، فلا يجوز أن يرادف المرفوع. إذ يدخل في تعريفه: الموقوف على الصحابي، إذا رُوي بسند، وكذلك ما روي عن التابعي بسند.
انظر: الباعث الحثيث، ص 42.
8 تقدمت ترجمته في ص 688.(2/776)
عليه وسلم. وقد يكون منقطعا، كمالك عن الزهري 1 عن ابن عباس 2 عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ الزهري لم يسمع من ابن عباس، فهو مسند منقطع. وقد صرح ابن عبد البر 3 - رحمه الله - بترادفهما 4، والانقطاع يدخل عليهما جميعا.
وقيل إن المسند: ما وصل إسناده ولو موقوفا عليه 5. فالمسند والمتصل سواء؛ إذ هو بعينه هو تعريف المتصل 6. فعلى هذا، يفارق المرفوع بقولنا: ولو موقوفا؛ فبينه 7 وبين المرفوع على هذا القول عموم وخصوص وجهي، ويجتمعان فيما اتصل سنده ورفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وينفرد المرفوع في المنقطع المرفوع، وينفرد المسند في الموقوف، والأكثر على التعريف الأول 8.
والعموم والخصوص الوجهي، كذلك يجري أيضا بين المتصل والمرفوع،
__________
1 تقدمت ترجمته في ص 679.
2 تقدمت ترجمته في ص 343. وهذان المثالان ذكرهما ابن الصلاح في علوم الحديث، ص 39.
3 هو يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر تقدمت ترجمته في ص 520.
4 أي ترادف المسند والمرفوع. حيث إن ابن عبد البر يُعرف "المسند" بأنه: ما رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم خاصة. التمهيد لابن عبد البر، 1/21. ومعنى "خاصة" أي: سواء كان قولا أو فعلا أو تقريرا. وسواء كان متصلا أو منقطعا. وعليه يدخل الاتصال والانقطاع، على المسند والمرفوع على سواء، فيترادفان. وانظر أيضا: الباعث الحثيث، ص 42. وعلوم الحديث لابن الصلاح، ص 39.
5 هذا تعريف الخطيب البغدادي في: الكفاية في علم الرواية له، 21.
وانظر: علوم الحديث لابن الصلاح، ص 39؛ والباعث الحثيث، ص 42.
6 أي المتصل: هو الذي اتصل إسناده. علوم الحديث لابن الصلاح، ص 40. وهذا الصنف ينفي الإرسال والانقطاع.
7 الضمير هنا يعود إلى "المسند".
8 أي التعريف الأول الذي تقدم في المرفوع، وهو: ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم قولا أو فعلا أو حكما.(2/777)
كما يُعلم مما تقدم 1.
وأما قولك: أيهما أصح؟
فاعلم أن الصحة غير راجعة لهذه الأوصاف باعتبار حقيقتها، وإنما الصحة والحسن والضعف، أوصاف تدخل على كل من المرفوع والمسند والمتصل؛ فمتى وُجدت حُكم بمقتضاها لموصوفها، لكن المرفوع أولى من المتصل إذا لم يرفع، ومن المسند على القول الثاني 2، إذا لم يرفع أيضا، لا من حيث الصحة 3، بل من حيث رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وأما الصحة، فقد ينفرد بها بعض هذه الأقسام، لا من حيث ذاته. والمرفوع إذا لم يبلغ درجته الصحة، احتُج به في الشواهد والمتابعات كما عليه جمع.
المسألة الثالثة:
وأما الجواب عن قول شارح الزاد 4: "غير تراب ونحوه" 5: في اصطلاحات فقهية فاعلم أن نحو التراب هنا: كل ما كان من الأجزاء الأرضية؛ كالرمل والنورة، أو من المائعات الطاهرة، وكذا كل ما لا يدفع النجاسة عن نفسه، فإنه لو أضيف أحد هذه الأشياء إلى الماء الكثير المتنجس، لم يطهر بإضافته إليه، /لكون/6 المضاف لا
__________
1 أي أن "المتصل والمرفوع" يجتمعان فيما اتصل سنده، ورفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وينفرد المرفوع في "المنقطع المرفوع"، وينفرد المتصل في "المتصل الموقوف".
2 يقصد: تعريف المسند الذي أورده بأسلوب التضعيف: وقيل إن المسند ما وصل إسناده ولو موقوفا.
3 لأن المسند الموقوف على الصحابي، قد يكون أصح من المرفوع المنقطع. أما إذا كان المرفوع متصلا، فيكون حينئذ أولى من المسند الذي لم يرفع، من حيث الصحة والاعتبار.
4 وهي المسألة الثالثة.
5 أصله من كلام صاحب الفروع، شمس الدين محمد بن مفلح "ت 763هـ"، ومعه تصحيح الفروع للمرداي، "ت885هـ"، ط/2/ 1379هـ 1960م، دار مصر للطباعة، 1/88، وورد في زاد المستقنع، ص 5.
6 في "أ": "لكن". وهو خطأ.(2/778)
يدفع عن نفسه، فعن غيره أولى، ولو زال به التغير على أظهر الوجهين 1.
وأما نحو التراب في باب التيمم، فهو كل ما كان له غبار يعلق باليد 2. وفي باب إزالة النجاسة، هو كل جامد منق كالأشنان والصابون والسدر؛ فيفسر النحو في كل مقام بما يناسبه.
أما المسألة الرابعة: في قول شارح الزاد نقلا عن النظم 3: "وتحرم القراءة في الحش وسطحه، وهو متوجه على حاجته" 4.
فاعلم أن قوله: "وهو متجه": من كلام صاحب الفروع، ومعناه: أن التحريم يتوجه إذا كان المتخلي جالسا على حاجته، بهذا القيد 5. فافهم ذلك وتفطن. والكلام في التحريم والكراهة وبيان المختار يستدعي طولا، لا يليق باختصار هذه الأسطار.
ثم إنك تشير إلى رسم فائدة زائدة وقد وقع نظري عند إملائي هذا، على عبارة ابن الجوزي، في السر المصون 6، ونصها: نصيحة في إثار الآخرة والعلم والعمل" من علم أن الدنيا دار سباق وتحصيل للفضائل، وأنه كلما علت مرتبة في علم وعمل، زادت المرتبة في دار الجزاء. انتهب الزمان ولم يضيع لحظة، ولم يترك فضيلة تمكنه إلا حصلها. ومن وُفق لهذا فليبتكر زمانه بالعلم، وليصابر كل محنة وفقر، إلى أن يحصل
__________
1 قول المصنف هنا: "كل ما كان من الأجزاء الأرضية.." إلى قوله: "على أظهر الوجهين"، منقول في حاشية الروض المربع، شرح زاد المستقنع، لعبد الرحمن بن محمد بن القاسم العاصمي النجدي، "1391هـ"، ط/4، 1410هـ 1/91.
2 انظر: الفروع لابن مفلح، 1/224.
3 صاحب النظم هو: محمد بن عبد القوي بن بدران المقدسي الحنبلي. له النظم المشهور نحو ستة آلاف بيت. "ت699هـ". هدية العارفين، 2/139.
4 الفروع لابن مفلح، 1/114. وورد في الروض المربع مع حاشيته، 1/131.
5 حاشية الروض المربع، 1/131.
6 لم أطلق عليه.(2/779)
له ما يريد، وليكن مخلصا في طلب العلم، عاملا به حافظا له. فأما أن يفوته الإخلاص، فذلك تضييع زمان، وخسران الجزاء، / وأما أن يفوته/1 العمل به، فذاك يقوي الحجة عليه، والعقاب له. وأما جمعه من غير حفظن، فإن العلم ما كان في الصدور لا في القمطر 2. ومتى أخلص في طلبه دله على الله عز وجل، فليبعد عن مخالطة الخلق مهما أمكن، خصوصا العوام، وليصن نفسه عن المشي في الأسواق، فربما وقع البصر على فتنة، وليجتهد في مكان لا يسمع فيه أصوات الناس. ومن علم أنه مار إلى الله عز وجل، وإلى العيش معه وعنده، وأن الدنيا أيام سفر؛ صبر على تفث السفر ووسخه، وأن الراحة لا تنال بالراحة 3، فمن زرع حصد ومن جد وجد.
خاضوا في أمر الهوى في فنون ... فزادهم في اسم هواهم حرف نون
أحسن الله لي ولك العواقب، ونفعنا لنيل أرفع الدرجات والمراتب.
هذا ومن لدينا الوالد حفظه الله./والشيخ علي، وبقية الحمولة، والطلبة والإخوان بخير، وينهون السلام. وبلغ سلامنا الشيخ عبد الملك، وحسين وصالح والأخ سليمان ورشيد وفرحان، وبقية الإخوان لا سيما عبد العزيز بن /حسن/4 والشيخ حمد بن علي بن عتيق، ومن عز عليك من الإخوان. وكاتبه من في ممليه إبراهيم بن حسن
__________
1 ساقط في "د".
2 القمطر: بكسر القاف، وفتح الميم، وسكون الطاء: هو ما يصان فيه الكتب. ويُذَكَّر ويُؤنَّث: قمطر وقمطرة. والجمع: قماطر. قال ابن السكيت:
ليس بعلم ما يعي القمطر ... ما العلم إلا ما وعاه الصدر
الصحاح للجوهري، 2/797، مادة "قمطر".
3 الراحة الأولى: أي الحصول على الراحة الكبرى في الجنة، والراحة الثانية: ضد التعب في الدنيا.
أي أن الراحة في الجنة لا تنال بالراحة في الدنيا، بل بالتعب.
4 في "أ": حسين. "وعبد العزيز بن حسن" تقدمت ترجمته ضمن تلاميذ الشيخ ص 92 وهو التلميذ رقم "28".(2/780)
الضبيب يبلغ الجميع السلام/1./ وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم/2.
__________
1 ساقط في المطبوع.
2 زائد في "ب". وهو نهاية هذه النسخة "ب". وهذه آخر رسالة فيها. قال الناسخ بعدها: "تمت هذه الرسائل بعون مولى الفضل والفضائل سبحانه جل عن ند وعن مماثل. فرحم الله مؤلفها وكاتبها والمطالع فيها آمين ثم آمين. 28 شوال، 1335هـ".(2/781)
الرسالة الستون: جواب عن مسائل فقهية سئل عنها
...
الرسالة الستون1
قال جامع الرسائل:
وله أيضا/ قدس الله روحه ونور ضريحه./2 جواب مسائل سئل عنها، وهذا نصها:
المسألة الأولى:
رجل أعطى رجلا دراهم مضاربة، يسلمها في الثمرة، فأسلمها في طعام إلى الحصاد، وبعد ذلك احتاج صاحب الدراهم، وقال لصاحبه: رد علي الدراهم، ويصير لك الطعام المؤجل.
الحمد لله، إن هذا بيع لدين السلم قبل قبضه. وفي الحديث الذي رواه الجماعة: "من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه" 3.
المسألة الثانية:
في الجنب إذا أصابه المطر، حتى غسل بدنه وأنقاه، هل يرفع حدثه؟
الجواب: الحمد لله، نعم يرتفع إذا نوى رفع الحدث عند إصابة المطر، لحديث: " إنما الأعمال بالنيات" 4.
__________
1 جاءت هذه الرسالة في المطبوع في ص 207-212. وهي الرسالة رقم "36". وجاءت في "ب" في ص 49-52.
2 ساقط في "ج" و "د" والمطبوع. وسقط في "ب" كلمة: "ونور ضريحه".
3 صحيح البخاري مع الفتح، 4/409، البيوع، باب بيع الطعام قبل أن يقبض. صحيح مسلم بشرح النووي، 10/424، البيوع، باب بطلان بيع المبيع قبل أن يقبض. سنن الترمذي 3/586، البيوع، باب في كراهية بيع الطعام حتى يستوفيه، سنن النسائي، 7/285، البيوع، باب بيع الطعام قبل أن يستوفى. سنن ابن ماجه، 2/20، البيوع، باب النهي عن بيع الطعام قبل أن يقبض.
4 هذا جزء من حدي عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وتمامه: قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كنت هجرته =(2/782)
المسألة الثالثة
فيما ذبح إلى غير القبلة عمدا وسهوا؟
فالجواب: إن استقبال القبلة عند الذبح ليس بشرط ولا واجب، وإنما استحبه بعضهم، ومن تركه فلا حرج عليه.
المسألة الرابعة
فيمن يقول: إذا أأكَلَته يد، أو شهق، أنه يأكل كذا وكذا، وإذا أكله عقب قدمه قال: إنه يُحكى فيها؛ هل هذا مشرك /أم/1 لا؟
الجواب: الاستدلال يأكل اليد والشهيق، أو أكله العقب على ما ذكر، جهل وضلال من أوضاع الجهلة الضالين.
وبعض الرافضة 2 يزعم أن اختلاج الأعضاء يدل على بعض الحوادث، وينسبونه إلى أبي جعفر الباقر 3. وقد ذكر أهل اعلم أنه كذب على جعفر، وأنه من أوضاع الرافضة
__________
= إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه". صحيح البخاري مع الفتح، 1/15، بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي، و 1/164، الإيمان، باب ما جاء أن الأعمال بالنية. صحيح مسلم بشرح النووي، 13/57-58، الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات". سنن أبي داود، 2/651-652، الطلاق، باب فيما عني به الطلاق والنيات. سنن الترمذي، 4/154، فضائل الجهاد، باب ما جاء فيمن يقاتل رياء وللدنيا. سنن ابن ماجه، 3/431، الزهر، باب النية.
1 في "أ" و "ج": أو.
2 تقدم التعريف بهم في ص 57.
3 هو محمد بن علي بن الحسين بن علي، أبو جعفر الباقر، ولد زين العابدين، وُلِد سنة "56هـ" في حياة عائشة. رضي الله عنها، وأبي هريرة "وهو أحد الأئمة الاثني عشر الذين تبجلهم الشيعة الإمامية، وتقول بعصمتهم "ت114هـ" بالمدينة.
سير الأعلام 4/1401؛ وتهذيب التهذيب، 9/350؛ شذرات الذهب 1/149.(2/783)
المشركين الغالين في أهل البيت. سلام على أهل بيت/ رسول/1 الله أجمعين/2.
المسألة الخامسة
رجل أبقى عند صاحبه سلعة، فقال: بعها بعشرة، /فباعها/ 3 بزيادة على العشرة، هل يحل للبائع أخذ الزيادة؟
فالجواب: لا يحل له ذلك، والزيادة لصاحب السلعة، والمودع أمين ليست من ضمانه، /و/4 لا يستحق شيئا من الزيادة.
المسألة السادسة
رجل له مائة صاع دين سلم، وارتهن نخلا وأرضا وغير ذلك، فلما مضى/أكثر/5 الأجل اتفق الطالب والمطلوب على تقويم ذلك الرهن بثمن حاضر، وحسبوا الطعام المؤجل بسعر وقته بدراهم على صاحب الرهن؟
الجواب: هذا لا يجوز، لأنه اعتاض6 دراهم زائدة على رأس ماله، فهذا عين الربا، وليس له إلا ما/أسلم/7 فيه؛ أو رأس ماله، إن اتفقا على فسخ العقد. وأما الربح والتقويم بسعر الوقت، فهذا لا يصح.
المسألة السابعة: قول: يا سيدي ومولاي؟
فالجواب: هذه الألفاظ تستعملها العرب على معاني: كسادة الرئاسة والشرف،
__________
1 في "ب" و "ج" و "د" والمطبوع: رسوله.
2 ساقط في "ب" و "ج" و "د" والمطبوع.
3 في "د": فباع.
4 زيادة في "د" والمطبوع.
5 كذا في المطبوع وفي بقية النسخ/ كثير.
6 اعتاض: أي أخذ العوض. لسان العرب 7/192، مادة "عوض".
7 في "د": سلم.(2/784)
والمولى يطلق على السيد 1 /والحليف/2 والمعتق 3 والموالي بالنصرة 4 والمحبة والعشق؛ وأطلق على الزوج؛ كما قال تعالى: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} 5. فإطلاق هذه الألفاظ على هذا الوجه معروف لا ينكر. وفي السنة من ذلك كثير 6.
وأما إطلاق ذلك في المعاني المحدثة، كمن يدعي أن السيد هو الذي يُدعى ويعُظم، والولي هو الذي يُبغى منه النصر والشفاعة 7، ونحو ذلك من المقاصد الخبيثة. فهذا لا يجوز، بل هو من أقسام الشرك.
المسألة الثامنة
قول الرجل لولده أو غيره: طعامك أو شرابك أو مالك عليّ حرام؟
فالجواب: أن تحريم ما أحل الله لا يُحرم بنص القرآن، كما في سورة التحريم 8.
واختلفوا هل عليه كفارة يمين، أو لا؟ وكثير من أهل العلم يرى أن عليه كفارة
__________
1 كما في حديث: "من كنت مولاه فعليّ مولاه"، تقدم تخريجه في ص 399.
2 كذا في المطبوع، وفي جميع النسخ، والحلف. وقد جاء "المولى" بمعنى الحليف في حديث: " مولى القوم من أنفسهم". البخاري مع الفتح، 12/49، الفرائض، باب مولى "القوم من أنفسهم".
3 ويأتي بمعنى المعتق كما في حديث: "أن مولى للنبي صلى الله عليه وسلم وقع من نخلة فمات". سنن ابن ماجه، 2/122، الفرائض، باب ميراث الولاء.
4 كما في حديث "الله مولانا ولا مولى لكم". البخاري مع الفتح، 6/188، الجهاد، باب ما يكره من التنازع.
5 سورة يوسف: الآية "25".
6 وقد تقدم ذكر بعضها هنا في هذه الصفحة.
7 هذا كما هو حال الصوفية واعتقادهم في الأولياء، وفي الأضرحة والمشاهد، ممن يطلقون عليهم لفظ: سيدي فلان، وفلان، ونحو ذلك.
8 وهو قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم: 1] . فالآية تدل على أن من حرم على نفسه شيئا، لم تحرم عليه، وتلزمه كفارة يمين. تفسير القاسمي، 16/5855.(2/785)
يمين 1.
المسألة التاسعة: قبلة اليد الرجل، هل هي جائزة أولا؟
فالجواب: أن بعض أهل العلم منعها وشدد فيها 2. وبعضهم أجازها لمثل الوالد، وإمام العدل على سبيل التكرمة 3، ولا يتخذ ذلك
__________
1 يرى ذلك ابن مسعود والثوري وأبي حنيفة وأحمد. أما عند الإمام مالك والشافعي فلا يلزمه بذلك كفارة، إلا في تحريم الأمة خاصة عند الشافعي.
انظر: المغني مع الشرح الكبير، 11/250؛ والجامع لأحكام القرآن للقرطبي، 18/119؛ ومجموع فتاوى ابن تيمية، 33/58؛ وزاد المعاد، 3/565؛ وتفسير القاسمي، 16/5862.
2 وممن أنكر تقبيل اليد والرجل: الإمام مالك وسليمان بن حرب، ويوسف بن عبد البر وغيرهم. قال سليمان بن حرب: "تقبيل يد الرجل، السجدة الصغرى". الرخصة في تقبيل اليد، الحافظ أبي بكر محمد بن إبراهيم بن القمري الأصبهاني "ت381هـ"، تخريج وتقديم محمود بن محمد الحداد، دار العاصمة، الرياض، النشرة الأولى، 1408هـ، ص 18. الآداب الشرعية والمنح المرعية، للإمام شمس الدين عبد الله محمد بن مفلح المقدسي، مكتبة الرياض الحديثة، لبعض علماء نجد، دار العاصمة الرياض، ط/3، 1412هـ، 2/123.
وفي عون المعبود: "قال الأبهري: إنما كرهها مالك وإذا كان على وجه التكثير والتعظيم لمن فعل ذلك به؛ أما إذا قبل إنسان يد إنسان أو وجهه لدينه أو لعلمه أو شرفه فإن ذلك جائز. عون المعبود، 14/133.
وهناك من أنكر ذلك إذا كان لسبب عارض، كأن يكون للدنيا أو تقبيل الظالم والمبتدع، أو على التبرك، أو كان عادة. ومن أولئك: سفيان الثوري، ووكيع، وأحمد بن حنبل.
انظر: الرخصة في تقبيل اليد، ص 20، 21، 23، 24. والآداب الشرعية لابن مفلح، 2/270.
3 وممن أجاز ذلك: علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وسفيان الثوري، والحسن البصري، والإمام أحمد بن حنبل، والحافظ أبو بكر المقري، وابن مفلح، والبغوي، وأجازه من المتأخرين الشيخ الألباني بشروط.
رُوي عن الإمام علي بن أبي طالب. رضي الله عنه، قوله: قبلة الوالد عبادة، وقبلة الولد رحمة. [الآداب الشرعية، 2/271] .
وقال الحسن البصري: قبلة يد الإمام العادل طاعة. [الآداب الشرعية، 2/271] . وقال سفيان الثوري: تقبيل يد الإمام العادل سنة. [الرخصة في تقبيل اليد، ص 21، وانظر: محموعة الرسائل والمسائل النجدية، 2/123] . وقال ابن مفلح في الآداب =(2/786)
/ديدناً/1 دائما، بل في بعض الأحوال على ما ورد.
المسألة العاشرة
الرقية بالقرآن، إذا كان الراقي يبصق بريقه.
الجواب: هذا جائز لا بأس به، وريق الراقي على هذه الصفة، لا بأس به، بل يستحب الاستشفاء به، كما في حديث الرقية بالفاتحة 2.
__________
= الشرعية، 2/270: "وتباح المعانقة وتقبيل اليد والرأس تدينا وإكراما واحتراما، مع أمن الشهوة. وظاهر هذا عدم إباحته لأمر الدنيا. واخاره بعض الشافعية، والكراهة أولى، وكذا عند الشافعية في تقبيل رجله. وقال البغوي في شرح السنة، 12/293: "ومن قبل فلا يقبل الفم ولكن اليد والرأس والجبهة، وإنما كره ذلك في الحضر فيما يُرى لأنه يكثر، ولا يستوجبه أحد". وقال الألباني في السلسلة الصحيحة، 1/252-253: "وأما تقبيل اليد ففي الباب أحاديث وآثار كثيرة، يدل مجموعها على ثبوت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنرى جواز تقبيل يد العالم إذا توفرت الشروط:
1- أن لا يتخذه عادة بحيث يتطبع العالم على مد يده إلى تلامذته، ويتطبع هؤلاء على التبرك بذلك.
2- أن لا يدعو ذلك إلى تكبر العالم على غيره، ورؤيته لنفسه.
3- أن لا يؤدي إلى تعطيل سنة معلومة، كسنة المصافحة".
ومن الأحاديث التي أشار إليها الألباني:
حديث ابن عمر: "فدنونا يعني من النبي صلى الله عليه وسلم فقبلنا يده". [سنن أبي داود 5/293، الآدب، باب في قبلة اليد، سنن ابن ماجه، 316، الآداب، باب الرجل يقبل يد الرجل] .
ومنها حديث زارع وكان في وفد عبد القيس قال: "لما قدمنا المدينة، فجعلنا نتبادر من رواحلنا، فنقبل يد النبي صلى الله عليه وسلم ورجله" [سنن أبي داود، 5/395، الآدب، باب قبلة الرجل] .
1 هكذا في "ب" والمطبوع، وفي بقية النسخ: "ديدانا". والكلمتان 0ديدنا دائما" من باب الترادف.
2 وهو حديث أبي سعيد الخدري –رضي الله عنه- أن أناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أتوا على حي من أحياء العرب، فلم يقروهم، فبينما هم كذلك، إذ لدغ سيد أولئك، فقالوا: هل معكم من دواء أو راقٍ فقالوا: إنكم لم تقرونا، ولا نفعل حتى تجعلوا لنا =(2/787)
وأما ما يفعله بعض الناس مع من يقدم من المدينة من الاستشفاء بريقهم على الجراح، فهذا لا أصل له، ولم يجيء فيمن أتى من المدينة خصوصية توجب هذا؛ والحاج أفضل منه 1.
ولا يعرف أن أحدا من أهل العلم فعل هذا مع الحاج 2، وإنما الوارد الاستشفاء بريق المسلم مع تربة الأرض، إذا سمى الله في ذلك، كما في حديث: "بسم الله تربة أرضنا بريقة بعضنا يشفى سقيمنا بإذن ربنا" 3. فهذه الرقية من المسلم الموحد على هذا الوجه، قد جاءت بها الأحاديث 4.
__________
= جعلا، فجعلوا لهم قطيعا من شاة، فجعل يقرأ بأم القرآن، ويجمع بزاقه ويتفل، فبرأ، فأتوا بالشاة فقالوا: لا نأخذه حتى نسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فسألوه، فضحك وقال: "وما أدراك أنها رقية، خذوها واضربوا لي بسهم". صحيح البخاري مع الفتح، 4/529، الإجارة، باب ما يعطى في الرقية. صحيح مسلم بشرح النووي، 14/438، السلام، باب جواز أخذ الأجر على الرقية بالقرآن والأذكار. سنن أبي داود، 3/703-705، البيوع، باب في كسب الأطباء. مسند الإمام أحمد 3/2.
1 أفضلية الحاج هنا على من يقدم من المدينة كونه طاهرا من الذنوب كما في نص الحديث: "من حج لله فلم يرفث ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه" بينما القادم من المدينة لم يرد فيه أية خصوصية. صحيح البخاري مع الفتح، 3/446، الحج، باب فضل الحج المبرور. صحيح مسلم بشرح النووي، 9/127، الحج، باب فضل الحج والعمرة. سنن الترمذي، 3/176، الحج، ما جاء في ثواب الحج، بلفظ: "من حج.. غفر له ما تقدم من ذنبه". سنن النسائي، 5/114، الحج، باب فضل الحج، باختلاف يسير عن اللفظ الأول. سنن ابن ماجه، 2/154، مناسك، باب الحج والعمرة.
2 إذ إنه لم يرد خصوصية بريقه أيضا، رغم تفضيله على القادم من المدينة.
3 صحيح البخاري، 7/249، الطب، باب رقية النبي صلى الله عليه وسلم؛ صحيح مسلم بشرح النووي، 14/434، السلام باب استحباب الرقية من العين والنملة والحمى.
4 وقد تقدم بعضها، كالذي في الرقية بفاتحة الكتاب، ومنها أيضا: حديث عائشة –رضي الله عنها-: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات، وينفث، فلما اشتد وجعه، كنت أقرأ عليه، وأمسح عنه بيده، رجاء بركتها". صحيح مسلم بشرح النووي، 14/432، السلام، باب رقية المريض بالمعوذات والنفث. وانظر بقية الأحاديث في نفس الباب.(2/788)
وأما مسألة: المرأة التي حملت، وصار الحمل سقطا يرتفع وينزل، وأخذ /ثلاث/1 عشرة سنة ... إلى آخر السؤال:
فاعلم أنه لا حمل بعد أربع سنين على المشهور عند العلماء 2 وهذه الحركة عرضت بعد الموت.
وإذا مات الحمل في بطنها فم يثبت لها أحكام الحمل. فتعتد عدة المتوفى عنها 3، ولا يُلتفت لهذا الحمل؛ فإنه لا حكم له 4.
وأما/مسألة/5 الكاهن: إذا سأله عن دواء مباح، والسائل والمريض مسلمان؟
__________
ت
__________
1 في "ج" و "د": ثلاثة.
2 هذا هو أكثر مدة الحمل عند الشافعية والحنابلة، أربع سنين.
والاعتماد في ذلك على استقراء وتتبع أحوال النساء. والشافعية والحنابلة تقول: قد وُجد أربع سنين فيما رواه الدارقطني، عن الوليد بن مسلم قال: قلت لمالك بن أنس عن حديث عائشة قالت: "لا تزيد المرأة في حملها على سنتين. فقال: سبحان الله! من يقول هذا؟ هذه جارتنا امرأة محمد بن عجلان، امرأة صدق، وزوجها رجل صدق، حملت ثلاثة أبطن في اثني عشر سنة". الأثر أخرجه الذهبي في سير الأعلام، 6/318-319؛ عند ترجمة محمد بن عجلان. وذكره ابن مفلح في المبدع، 8/111.
قال الشافعي: بقي محمد بن عجلان في بطن أمه أربع سنين. وقال أحمد: نساء بني عجلان تحمل أربع سنين. روضة الطالبين، 8/377-378. حواشي الشرواني على تحفة المحتاج بشرح المنهاج، دار صادر، 8/239. المغني مع الشرح الكبير، 9/116-117. المبدع، لابن مفلح، 8/111. أما عند الحنفية: فأكثر مدة الحمل سنتان. حاشية رد المختار، 3/512.
وعند المالكية في المشهور، خمس سنين. شرح الزرقاني على مختصر سيدي خليل. دار الفكر بيروت، 4/205.
3 وهي أربعة أشهر وعشرة أيام، كما جاء ذلك في محكم التنزيل: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة: 234] .
4 أما إن استمر الحمل حيا في تلك المدة –كما ذكر بعض العلماء- فعدتها الوضع، كما قال تعالى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4] .
5 في "د": المسألة.(2/789)
فالجواب: إن كان خبر الكاهن بالدواء ومنافعه، من طريق الكهانة، فلا يحل تصديقه، وهو داخل في الوعيد 1، وإن كان من جهة الطب، ومعرفة منافع الأدوية، فلا يدخل في مسألة الكاهن.
وأما من قال لصاحب السلعة: إن خليت عني من قيمة ما/يشتري/2 به رفاقتي، أو حصل منك ثمن قهوة، جبرتهم على الشراء منك.
فهذا لا يحل، وجبرهم لا يجوز؛ ولا يستحق هذا شيئا، إلا أن يكون سمسارا يمشي بينهما على العادة المعروفة فيستحق ما جرت به العادة للدلال.
وأما مسألة من يقول في الرياح: /هذه/3 هبوب الثريا 4/وهذه/5 هبوب التُّوَيبع 6 وهذه هبوب الجوزاء 7: فهذا لا يجوز؛ شدد في المنع منه مالك وغيره 8. ولا يجوز إضافة هذه الأشياء إلى النجوم.
__________
1 يقصد بالوعيد: قوله صلى الله عليه وسلم: "من أتى كاهنا فصدقه أو امرأة في دبرها، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم" الحديث تقدم تخريجه في ص190.
2 كذا في المطبوع: وفي جميع النسخ: يشترون.
3 في "أ": هذا.
4 الثريا: من الكواكب، سميت بذلك لغزارة نوئها، وقيل لكثرة كواكبها مع صغر مرآتها. لسان العرب، 14/12، مادة "ثرا".
5 في "أ": هذا.
6 التويبع: هو "الدبران"، وهو نجم بين الثريا والجوزاء، يقال له: التابع والتويبع. وسمي تبعا لإتباعه الثريا: قال الأزهري: سمعت بعض العرب يسمي الدبران: التابع والتويبع. لسان العرب، 4/271، مادة "دبر"، و8/30، مادة "تبع".
7 الجوزاء: نجم يقال إنه يعترض في جوز السماء. لسان العرب، 5/329، مادة "جوز".
8 انظر المتبقي، شرح موطأ الإمام مالك، للإمام الباجي، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، طبعة مصورة عن الطبعة الأولى، 1332هـ، 1/334؛ والأم للإمام الشافعي، 1/419؛ والجامع لأحكام القرآن للقرطبي، 17/148.
إن قائل ذلك لا يخلو من حالتين:
الأولى: أن يكون معتقداً أن لهذه النجوم صنعا في ذلك، وأنها المخترعة لهذه الهبوب، فهذا يكفر كفر شرك، لإضافته الخلق إلى المخلوق.
والثانية: أن يجعل النجوم علامة على حدوث الهبوب من قبيل التجربة والعادة، فليس هذا بشرك، ولا يكفر صاحبه. انظر: الأم للشافعي، 1/419. وفتح الباري، 2/608.(2/790)
قال قتادة 1: "خلق الله هذه النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجوما للشياطين، وعلامات يهتدى بها، فمن تأول فيها غير ذلك فقد أخطأ وأضاع نصيبه، وتكلف بما لا علم له به" 2.
وأما من صلى وعلى رأسه عمامة حرير:
فالمشهور من مذهب الحنابلة، صحة الصلاة 3، بخلاف ما إذا ستر عورته بحرير، فإنها لا تصح 4؛ وقال بعض أهل العلم بعدم الصحة.
وأما أهل البدع:
فمنهم الخوارج 5 الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ذكر أنواع من أهل البدع وقاتلوه، واستباحوا دماء المسلمين وأموالهم، متأولين ذلك ذلك.
أشهر أقوالهم: تكفيرهم بما دون الشرك من الذنوب، فهم يكفرون أهل الكبائر
__________
1 هو قتادة بن النعمان الصحابي.
2 صحيح البخاري مع الفتح، 6/341، بدء الخلق، باب في النجوم، تعليقا. قال ابن حجر في الفتح: "وصله عبد بن حميد من طريق شيبان عنه".
3 روضة الناظر: 1/132.
4 المبدع في شرح المقنع لابن مفلح، 1/367؛ المغني مع الشرح الكبير، 1/626؛ الروض المربع، 1/519.
وتصح صلاة الرجل في ثوب حرير في حالة عذر، كمن لم يجد غير سترة حرير. المبدع لابن مفلح، 1/368؛ والروض المربع، 1/522. ويصح الستر مع الحرمة عند المالكية والشافعية، فتصح الصلاة، مع إثم استعماله لسترة الحرير. المهذب للشيرازي، 1/66؛ شرح الزرقاني على مختصر خليل سيدي خليلي، 1/174. وعند الحنفية: تنعقد الصلاة مع الكراهة التحريمية. ويأثم بلا عذر. حاشية رد المختار، 1/410.
5 تقدم التعريف بهم في ص 167.(2/791)
والمذنبين من هذه الأمة 1.
وقد قاتلهم علي بن أبي طالب ومن معه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وصحت/ فيهم/2 الأحاديث، روى مسلم منها عشرة أحاديث 3. وفيها الأمر بقتالهم، وأنهم شر قتلى تحت أديم السماء، وخير القتلى من قتلوه، وأنهم يقاتلون.
أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان. وفي الأحاديث: "يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم/ أجرا/4 لمن قتلهم عند الله" 5.
ومن أهل البدع:
الرافضة 6 الذين يتبرءون من أبي بكر وعمر 7!! ويدعون موالاة أهل البيت، وهم من أكذب الخلق وأضلهم وأبعدهم عن موالاة أهل البيت وعباد الله الصالحين، وزادوا
__________
1 تقدم ذكر أهم آرائهم الاعتقادية في ص 167-168.
2 في "ب" و "د": "منهم" وهو خطأ؛ لأن المراد: الأحاديث الصحيحة التي تحدثت عنهم، وليست الأحاديث الصحيحة التي رووها بعضهم.
3 انظر تلك الأحاديث: في صحيح مسلم بشرح النووي، 7/165-179، كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، وباب التحريض على قتل الخوارج. "والبابان متتاليان". وقد تقدم من تلك الأحاديث: حديث المخدح بطوله في ص 169-170.
4 في "د": أجر.
5 الحديث أخرجه مسلم في صحيحه بلفظ: "سيخرج في آخر الزمان قوم أحداث أسنان، سفهاء أحلام، يقولون من خير قول البرية، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم؛ فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم عند الله يوم القيامة". صحيح مسلم بشرح النووي، 7/175، الزكاة، باب التحريض على قتل الخوارج.
6 تقدم التعريف بهم في ص 57.
7 بل إن من ترهاتهم: المبالغة في سبهما، والتقرب إلى الله بذلك في زعمهم، ويرون أن الابتداء بلعن أبي بكر وعمر بدل التسمية في كل أمر ذي بال، أحب وأولى، وأن كل طعام لُعن عليه الشيخان سبعين مرة كان فيه زيادة البركة. انظر: مختصر التحفة الاثني عشرية، ص 287.(2/792)
في رفضهم حتى سبوا أم المؤمنين /عائشة/1 - رضي الله عنها وأكرمها - واستباحوا شتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا نفرا يسيرا 2. وأضافوا إلى هذا المذهب، مذهب الغالية، الذين عبدوا المشايخ والأئمة وعظموهم بعبادتهم، وصرفوا لهم ما يستحقه سبحانه، ويختص به، من التأله والتعظيم والإنابة، والخوف والرجاء والتوكل، والرغبة والرهبة، وغير ذلك من أنواع العبادات 3.
وغلاتهم يرون أن عليا ينزل في آخر الزمان 4. ومنهم من يقول: غلط الأمين وكانت النبوة لعلي رضي الله عنه 5.
وهم جهمية في باب صفات الله 6
__________
1 ساقط في "ب" و "ج" و "د" والمطبوع.
2 من الصحابة القلة الذين سلموا من شتائم الرافضة: المقداد بن الأسود، وأبو ذر الغفاري، وسلمان الفارسي، وعمار ين ياسر.
انظر: مختصر التحفة الإثني عشرية، ص 6؛ الشيعة وأهل البيت، ص 45.
3 كما فعلوا بأئمتهم ونواب أئمتهم كما يزعم الشيعة الموجودين في عصرنا هذا.
انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام، 12/293.
4 وهم السبئية الذين يزعمون المهدية في علي "،ولما استشهد "زعم ابن سبأ أنه لم يمت، وأن ابن ملجم إنما قتل شيطانا تصور بصورة علي، وأنه مختف في السحاب، وأن الرعد صوته والبرق سوطه، وأنه ينزل إلى الأرض بعد هذا، ويملؤها عدلا وينتقم من أعدائه.
انظر: مختصر التحفة، ص 10.
5 وهؤلاء هم الغرابية، من فرق الروافض الغلاة. قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أشبه بعلي من الغراب بالغراب، ومن الذباب بالذباب، ويقولون بلعن صاحب الريش.
الفرق بين الفرق للبغدادي، ص 237؛ الخطط للمقريزي، 2/353.
6 تقول الجهمية: إنه لا يجوز وصف الباري –تعالى- بصفة يوصف به خلقه. ينكرون الصفات ويسمون ذلك تنزيها. فمراد المصنف أن الرافضة على عقيدة المعتزلة "نفاة الصفاة"، لا على عقيدة الجهمية أتباع جهم
وكذلك الرافضة يقولون: ليس لله صفات أصلا، ولكن تطلق على ذاته –تعالى- الأسماء المشتقة من تلك الصفات، فيجوز أن يقال: إن الله حي، سميع، بصير، قدير؛ ويمتنع أن يقال: له حياة وعلم وقدرة وسمع وبصر ونحوها، وأن الله لم يكن عالما في الأزل ولا سميعا ولا =(2/793)
زنادقة منافقون في باب أمره وشرعه 1.
ومن أهل البدع:
القدرية؛ الذين يكذبون بالقدر وبما سبق في أم الكتاب، وجرى به القلم. ومنهم القدرية المجبرة 2، الذين يقولون: إن العبد مجبور، لا فعل له ولا اختيار 3.
ومن أهل البدع:
المرجئة 4؛ الذين يقولون: إن الإيمان هو التصديق 5، وإنه شيء واحد لا يتفاضل 6.
__________
= بصيرا، حتى خلق لنفسه علما وسمعا وبصرا كما خلقها لبعض المخلوقات، فصار عالما وسميعا وبصيرا.
وهذه العقيدة مخالفة لكتاب الله تعالى، فقد وقع في كثير من مواضعه قوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} {سَمِيعاً عَلِيما} .
انظر: مقالات الإسلاميين، 1/238؛ والفرق بين الفرق، ص 211، والتحفة الإثني عشرية، ص 80-81.
1 الزنادقة إذا أمروا ونهوا، احتجوا بالقدر، أن الله قدر لهم ذلك الكفر والمعاصي ونحوها. وقد احتج سارق على عمر "بالقدر، فقال له عمر: وأنا أقطع يدك بقضاء الله وقدره". شرح العقيدة الطحاوية، ص135.
2 تقدم التعريف بهم في ص 485.
3 انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام، 8/460. وقد تقدم بيان معتقدهم في ص 485.
4 تقدم التعريف بهم في ص 174.
5 انظر: مقالات الإسلاميين، 1/223؛ وكتاب الإيمان لابن تيمية، ص 109، 178.
6 كتاب الإيمان لابن تيمية، ص 338، 368.
قول المرجئة هذا، يقولون به فرارا من القول بكون الإيمان ذا عدد اثنين أو ثلاثة؛ لأنه إذا كان كذلك، أمكن ذهاب بعضه وبقاء بعضه؛ وهذا مما لا يقولونه، وعليه يحرمون الاستثناء في الإيمان. فعندهم يجب أن يوجد هذا الشيء الواحد؛ فهو الإيمان أو لا يوجد.
وقولهم هذا في غاية الفساد، إذ يلزم منه كون المنافقين مؤمنين كاملي الإيمان؛ إذ ما في قلوبهم يكون تاما بدون شيء من الأعمال.
والحق أن التصديق التام القائم بالقلب، مستلزم لما وجب من أعمال القلب والجوارح، فهي =(2/794)
ومن أهل البدع وأكفرهم:
الجهمية 1 الذين ينكرون صفات الله التي جاء بها القرآن والسنة، ويؤولون ذلك؛ كالاستواء 2، والكلام 3، والمجيء والنزول 4،
والغضب 5، والرضى 6، والحب 7، والكراهة وغير ذلك من الصفات الذاتية 8
__________
= من لوازم الإيمان التام. وانتفاء اللازم دليل على انتفاء الملزوم.
انظر: كتاب الإيمان لابن تيمية، ص 110.
1 تقدم التعريف بهم في ص 299.
2 الاستواء يؤولونها بالاستيلاء. وقد تقدم ذلك في ص 372.
3 يؤولون الكلام بأن الله يكون شيئا يعبر عنه، ويخلق صوتا ويسمعه من يشاء. وقد رد عليهم الإمام أحمد –رحمة الله عليه- هل يجوز للمكون أو غير الله أن يقول: "يا موسى، إني أنا ربك؟ ".
انظر: الرد على الجهمية والزنادقة للإمام أحمد، ص 130.
4 المجيء والنزول: يؤولهما الجهمية بالحركة والانتقال، ومجيء أمره؛ وذلك لأن حقيقة الرب عندهم: أنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا مباين ولا محايث، ويقولون تارة: هو بذاته في كل مكان. ويرمون بكل هذه إلى نفي كون الرب فوق خلقه وعليه فلا يتصور عندهم نزول ولا مجيء للرب تبارك وتعالى.
انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 5/166، 187.
5 والغضب: يؤوله الجهمية بإرادة العقاب والانتقام؛ لأن الغضب غليان دم القلب.
6 الرضى: يؤوله الجهمية، بإرادة الإحسان؛ لأن الرضى الميل والشهوة.
7 الحب: يؤوله الجهمية بإرادة الثواب. انظر هذه التأويلات: شرح العقيدة الطحاوية، ص 685؛ ومجموع فتاوى شيخ الإسلام، 5/353، 401، 402، 6/119، ومختصر الصواعق المرسلة، 2/106-108.
وبطلان كل هذه التأويلات، واضح، لا يحتاج إلى بيان. فإن هذه الصفات ثابتة لله –سبحانه وتعالى- ثبوتا لا ريبة فيه، كما أخبر به الكتاب والسنة؛ كما أنها لا تستحيل على الله –تعالى- إلا في نظر أولئك المؤولة وعقولهم؛ لقصرها وضعفها. فهذه كلها صفات كمال لله عز وجل، تقع منه متى شاء، وعلى الكيفية التي يعلمها هو، ويريدها وتليق بجلاله –سبحانه وتعالى-؛ ولسنا مكلفين بمعرفتها. فكما نثبت- نحن مع الجهمية لله ذاتا لا تشبه الذوات، فكذلك تكون صفاته –تعالى-.
8 كتأويلهم "اليد" بالقدرة، وبالنعمة. الإبانة للأشعري، ص 34،38؛ =(2/795)
والفعلية.
ومن أهل البدع الضالين:
أصحاب الطرائق المحدثة؛ كالرفاعية 1، والقادرية 2، والبيومية 3، وأمثالهم كالنقشبندية 4، وكل من أحدث بدعة لا أصل لها في الكتاب والسنة. ومن فاتته الجمعة: وقد صلاها الإمام قبل الزوال 5، فيصليها ظهرا بعد
__________
= وفتح الباري، 13/405.
1 الرفاعية: طريقة من طرق الصوفية، تنتسب إلى شيخ الطريقة أحمد بن علي أبو العباس الرفاعي "ت578هـ"، وهي متنشرة في العراق وبلاد الشام وغيرها. الطبقات الكبرى للشعراني، 1/139- دراسات في التصوف، لإحسان إلهي ظهير، نشر إدارة ترجمان السنة، لاهور، باكستان، ط/1، 1409هـ 1988م، ص 215.دائرة المعارف الإسلامية، 10/147.
2 القادرية: طريقة من طرق الصوفية، منصوبة إلى عبد القادر الجيلاني "ت561هـ". دراسات في التصوف، لإحسان إلهي ظهير، ص 249. الصلة بين التصوف والتشيع ص 443-444.
3 البيومية: طريقة دينية، صاحبها سيدي علي الحجازي بن محمد، المولود في البيوم من أعمال مصر عام "1108هـ". وكان من أتباع الطريقة القادرية. ويتلخص ذكر أصحاب هذه الطريقة في قولهم: "يالله" مع إحناء رؤوسهم وضم أيديهم على صدورهم، وهم يتبعون ذلك برفع رؤوسهم والتصفيق بأيديهم. دائرة المعارف الإسلامية، 4/434-435.
4 النقشبندية: طريقة من طرق الصوفية، وقد تقدم التعريف بهذه الطريقة في ص 514.
5 هذا عند الحنابلة؛ فهم يُجوزون أداء الجمعة قبل الزوال. وأول وقتها عندهم، أول وقت صلاة العيد. ويستدلون على ذلك بقول عبد الله بن سيدان السلمي: "شهدت الجمعة مع أبي بكر، فكانت خطبته وصلاته قبل نصف النهار. ثم شهدتها مع عمر، فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول: انتصف النهار. ثم شهدتها مع عثمان، فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول زال النهار. فما رأيت أحدا عاب على ذلك ولا أنكره". رواه الدارقطني، علي بن عمر الدارقطني، "ت306هـ". نشر عبد الله هاشم يماني، 1386هـ 1966م، المدينة المنورة،2/17.
قال ابن مفلح –رحمه الله- بعد ذكره للأثر: "رواه الدارقطني وأحمد واحتج به، قال: وكذلك روي عن ابن مسعود، وجابر، وسعيد ومعاوية، أنهم صلوا قبل الزوال، ولم ينكر، فكان كالإجماع". المبدع لابن مفلح، 2/148. وانظر مذهب الحنابلة في تجويز الجمعة قبل الزوال: المغني مع الشرح الكبير 2/210-211.
قال الحافظ ابن حجر –رحمة الله عليه- بعذ ذكره للحديث-: "رحاله ثقات إلا عبد الله بن =(2/796)
الزوال 1.
وأما صلاة الفذ ركعة خلف الصف: فمقتضى كلام الفقهاء، أنه يستأنف الصلاة ولا يبني 2. ويدخل في ذلك تكبيرة الإحرام. والله –سبحانه وتعالى - أعلم.
__________
= سيدان، فإنه تابعي كبير، إلا أنه غير معروف العدالة، قال ابن عدي شبه المجهول، وقال البخاري: لا يتابع على حديثه؛ بل عارضه ما هو أقوى منه، فروى ابن أبي شيبة من طريق سويد بن غفلة، أنه صلى مع أبي بكر وعمر حين زالت الشمس، إسناده قوي" ثم ذكر من عمل أبي بكر وعمر وعلي على خلاف حديث ابن سيدان، بأسانيد صحيحة. فتح الباري، 2/450.
وعند الجمهور: ولا تصح الجمعة قبل الزوال. انظر: فتح القدير لابن الهمام، 2/55-56؛ الشرح الصغير للدرديري، 1/499؛ الأم للشافعي، 1/332، روضة الطالبين، 2/3.
بدليل مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على صلاته بعد الزوال. قال أنس رضي الله عنه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة حين تميل الشمس". صحيح البخاري مع الفتح، 2/449، الجمعة، باب وقت الجمعة إذا زالت الشمس. سنن أبي داود، 1/654، الصلاة، باب في وقت الجمعة.
1 المغني مع الشرح الكبير، 2/198.
2 هذا بناء على مذهب الحنابلة في أن صلاة المنفرد، إذا صلى ركعة كاملة خلف الصف وحده، لم تصح، وهي غير مجزئة. وعليه فيستأنف الصلاة. [المغني مع الشرح الكبير، 2/41؛ المبدع لابن مفلح، 2/88-89] .
أما عند الجمهور فتجزئه تلك الركعة.(2/797)
الرسالة الحادية والستون: في مسألة الرهن
...
الرسالة الحادية والستون1
قال جامع الرسائل:
وله –قدس الله روحه، ونور ضريحه - في مسألة الرهن 2 ما نصه:
حاصل ما ذكره العلماء في صحة الرهن وفساده ولزومه وعدمه.
اتفقوا على أن من شرطه: أن يكون إقراره في يد المرتهن من قبل الراهن 3. وذهب مالك إلى أنه يجوز أن يؤخذ الرهن في جميع الأثمان الواقعة في جميع /البيعات/4 إلا الصرف 5 ورأس مال السَّلم 6 المتعلق
__________
1 جاءت هذه الرسالة في المطبوع في ص 213-315. وهي الرسالة رقم "37". وجاءت في "ب" في ص 52-54.
2 الرهن في اللغة: مطلق الحبس. والاحتباس ما وضع عندك لينوب مناب ما أُخذ منك. ورهنه الشيء وأرهنه: جعله رهنا. لسان العرب، 13/188، وترتيب القاموس المحيط، 3/403-404، مادة "رهن".
وفي الشرع: توثيق دين بعين يمكن استيفاؤه منها، أو من ثمنها.
وجميع تعريفات الفقهاء متقاربة، كلها قريبة من هذا التعريف في ألفاظها ومعانيها. انظر: الاختيار، لابن المودود، 2/63. الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، 3/263. المهذب في فقه مذهب الإمام الشافعي، لأبي إسحاق إبراهيم بن علي للشيرازي، مطبعة الحلبي، بمصر، للشيرازي، 1/305. المغني مع الشرح الكبير، 4/366. حاشية الروض المربع، 5/51.
وقد عرفه الجرجاني بأنه: حبس الشيء بحق يمكن أخذه منه؛ كالدين. قال: ويطلق على المرهون، تسمية للمفعول باسم المصدر. التعريفات للجرجاني، ص 150.
3 انظر: حاشية رد المختار، 6/479؛ بداية المجتهد، 2/230؛ الأم للشافعي، 3/167؛ مغني المحتاج، 2/133؛ المغني مع الشرح الكبير، 3/467.
4 في "أ" البياعات.
5 ذلك لأن الصرف من شرطه التقابض، فلا يجوز فيه عقدة الرهن. بداية المجتهد ونهاية المقتصد، لمحمد بن أحمد بن رشد "الحفيد" "ت595هـ" بمراجعة عبد الحليم محمد عبد الحليم، وعبد الرحمن، تقديم سيد سابق، دار الكتب الحديثة، 2/330.
6 السَّلم في اللغة: السلف. يقال: أسلم في الشيء وسلم، إذا أسلف، وهو أن تعطي مالا في سلعة معلومة إلى أمد معلوم. لسان العرب، 12/295. مادة "سلم".
في الشرع: اسم لعقد يوجب الملك للبائع في الثمن عاجلا، وللمشتري في المثمن آجلا. التعريفات للجرجاني، ص 160. والقاموس الفقهي لغة واصطلاحا، ص 182.(2/798)
بالذمة 1، وعنده يجوز الرهن في السلم وفي القرض 2 وفي الغصب وفي قيم المتلفات، وأرش الجنايات في الأموال وفي الجراح التي لا قود فيها. ولا يجوز في الحدود ولا في القصاص ولا في الكتابة 3.
/واشترط/4 الشافعية في/المرهون فيه/5 ثلاثة شروط:
أحدها: /أن يكون دينا/6، [فإنه لا يرهن في عين] 7
__________
1 انظر: كتاب الكافي في فقه أهل المدينة، لابن عبد البر القرطبي، تحقيق: د محمد محمد ولد ماديك، ط/1، 1398هـ-1978م، 2/812.
وعند الحنفية يصح الرهن برأس مال السلم وبدل الصرف. انظر: الاختيار لتعليل المختار، لعبد الله بن محمود بن مودود الموصلي الحنفي، دار المعرفة، بيروت، لبنان، 1395هـ-1975م، 2/67. وحاشية رد المختار لابن عابدين، 6/494.
2 القرض: في اللغة ما تعطيه غيرك من مالي على أن يرده إليك.
وفي الشرع: عقد مخصوص، يرد على دفع مال مثلي لآخر، ليرد مثله. القاموس الفقهي لغة واصطلاحا ص 300.
3 الكافي لابن عبد البر، 2/813؛ بداية المجتهد لابن رشد، 2/330-331.
4 في "د": واشتراط.
5 كذا في جميع النسخ. وفي "أ": "الرهن"، وهو من باب تسمية المفعول باسم المصدر. كما أشار إليه الجرجاني في التعريفات، ص 150. عند تعريفه للرهن. ويدل على أن ذلك هو مراده أمور:
أن كتب الشافعية أوردت تلك الشروط الثلاثة، تحت "المرهون فيه" المثبت.
أنه سيذكر شروط الرهن، بعد شروط المرهون فيه هذه.
أن شروط "الرهن" عند الشافعية: 1- أن يكون عينا 2- صلاحية ثبوت يد المرتهن عليه. 3- كون العين قابلة للبيع. روضة الطالبين، 4/38-40.
6 في "أ" و "ج" والمطبوع: "أن لا يكون دينا".
7 ما بين المعقوفتين، أصله في جميع النسخ هكذا: "فإن الدين لا يرهن بعين"، وهو تصرف خاطئ من قبل النساخ في عبارة "ابن رشد" –رحمه الله- في بداية المجتهد، حيث نقل هذا الكلام بالنص. والمثبت هي عبارة ابن رشد.(2/799)
الثاني: أن يكون واجبا، فلا يرهن قبل الوجوب 1؛ مثل أن يسترهنه فيما استقرضه 2. ويجوز عند مالك 3.
الثالث: أن لا يكون لزومه متوقعا 4.
وأما/ شروط/5 الرهن: فالمنطوق بها في الشرع ضربان:
شروط الصحة، وشروط الفساد:
وأما شروط الصحة: فشرطان: أحدهما متفق عليه في الجملة، [ومختلف في الجهة التي هو شرط وهو القبض] 6، والثاني مختلف في اشتراطه 7.
أما القبض 8: فاتفقوا في الجملة على أنه شرط في الرهن 9؛ لقوله تعالى: {فَرِهَانٌ
__________
1 أي أن الرهن لا يقدم قبل ثبوت الدين وهو المذهب عند الحنابلة أيضا. المغاني مع الشرح الكبير، 4/368. حاشية روض المربع، 5/56.
2 أي أن يطلب منه رهنا على ما أعطاه من الدين "بعد ثبوت الدين"، أما لو قاله له: "خذ هذا رهنا بكل ما ستقرضني مستقبلا" فهذا لا يصح عند الشافعية.
3 الكافي لابن عبد البر، 2/812؛ بداية المجتهد، 2/331.
4 انظر شروط الشافعية الثلاثة: المهذب في فقه مذهب الإمام الشافعي، 1/305. مغني المحتاج، 2/126. روضة الطالبين، 4/53، 54.
وهذه الشروط نقلها المؤلف بهذا النص من بداية المجتهد لابن رشد، 2/331.
5 في "د" شرط.
6 ما بين المعقوفتين جملة أسقطها المصنف في نقله من بداية المجتهد، وهي ضرورية في استقامة ما بعدها.
7 وهو استدامة القبض، كما سيأتي في ص 805.
8 هذا هو شرط صحة الرهن الأول، والذي كان المؤلف قد أسقطه ضمن الجملة التي زدته بين المعقوفتين آنفاً.
9 انظر: الاختيار لابن مودود، 2/63؛ حاشية رد المختار، 6/479؛ بداية المجتهد، 2/331؛ الكافي لابن عبد البر، 2/812؛ الأم للشافعي، 3/163؛ المهذب للشيرازي، 1/307؛ المغني مع الشرح الكبير، 4/368.(2/800)
مَقْبُوضةٌ} 1.
واختلفوا، هل هو شرط للتمام أو شرط للصحة؟ وفائدة/ الفرق/2: أن من قال: شرط للصحة، قال: ما لم يقع القبض لم يلزم الرهن 3.
وقال مالك: القبض شرط لتمام الرهن، قال: يلزم بالعقد 4، ويجبر الراهن الإقباض، إلا أن يتراخى المرتهن عن المطالبة.
وذهب الشافعي وأبو حنيفة وأهل الظاهر، إلى أنه من شروط الصحة 5.
وعمدتهم: قوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضةٌ} 6.
وعند مالك أن/من شروط/7 صحة الرهن استدامة القبض 8، وأنه متى عاد إلى يد الراهن بإذن المرتهن، بعارية أو وديعة أو غير ذلك فقد خرج من اللزوم 9.
__________
1 سورة البقرة: الآية "283". وتمامها: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} .
2 في "د": الفرقان.
3 وهذا قول الإمام أبي حنيفة والشافعي وأحمد وأهل الظاهر. انظر: الاختيار لابن مودود 2/64؛ حاشية رد المختار، 6/479؛ الأم للشافعي، 3/174؛ المهذب للشيرازي، 1/305؛ 307؛ مغني المحتاج، 2/128؛ المغني مع الشرح الكبير، 4/368.
4 الكافي لابن عبد البر، 3/812؛ حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، 3/321.
وهي رواية لبعض الحنابلة فيما عدا المكيل والموزون. انظر: المغني مع الشرح الكبير، 4/368؛ وحاشية الروض المربع، 5/57.
5 تقدمت الإشارة إلى مذهبهم هذا في هامش "11" من الصفحة السابقة. وهو أيضا مذهب أحمد كما تقدم.
6 سورة البقرة: الآية "283". وتمامها: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} .
7 كذا في "أ"، وفي جميع النسخ: من شرط.
8 أما القبض نفسه، فهو عنده شرط للتمام، كما تقدم آنفا.
وهذا "استدامة القبض" هو الشرط الثاني المختلف فيها الذي أشار إليه في البداية.
9 الكافي لابن عبد البر، 2/813؛ حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، 3/23؛ بداية المجتهد، 2/332. وهذا هو مذهب الحنابلة. أعني "اشتراط الاستدامة لصحة الرهن".(2/801)
وقال الشافعي: ليس استدامة القبض من شرط الصحة 1.
فمالك عمّ الشرط على/ ظاهر/2 ما لزم من قوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبوُضةٌ} 3، وشرط وجود القبض والاستدامة 4.
والشافعي يقول: إذا وُجد القبض، فقد صح الرهن والعقد، فلا يحل ذلك بإعارته ولا غير ذلك من التصرف 5.
وقد كان الأولى بمن يشترط القبض في صحة العقد، أن يشترط الاستدامة، ومن لم /يشترطه/6 في الصحة، أن لا يشترط الاستدامة 7.
وأما الشرط المحرم الممنوع بالنص فهو: أن يرهن الرجل رهنا، على أنه إن جاءه بحقه عند أجله، وإلا فالرهن له.
فاتفقوا على أن هذا الشرط يوجب الفسخ 8، وأنه معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يغلق الرهن" 9.
__________
1 مغني المحتاج، 2/133؛ المهذب للشيرازي، 1/312؛ روضة الطالبين، 4/79، 80.
2 في "د": الظاهر.
3 سورة البقرة: الآية "283". وتمامها: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} .
4 فظاهر قوله –تعالى-: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} . عند مالك: أي رهان مقبوضة على الدوام، لا يخرج عن القبض. لذلك اشترط القبض لتمام العقد، والاستدامة للصحة. انظر: الجامع لأحكام القرآن، 3/264.
5 المهذب للشيرازي، 1/307، مغني المحتاج، 2/128.
6 في "أ" ك يشترط.
7 بداية المجتهد، 2/332. حاشية الروض المربع، 5/63.
8 بداية المجتهد، 2/332؛ مغني المحتاج، 2/137؛ المغني مع الشرح الكبير، 4/420.
9 الحديث أخرجه الإمام مالك في الموطأ، 2/728، الأقضية، باب ما لا يجوز من غلق الرهن، مرسلا. وابن ماجه في سننه، 2/63، كتاب الأحكام، باب لا يغلق الرهن، بسنده عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يغلق الرهن". =(2/802)
ومن مسائل هذا الباب المشهورة: اختلافهم في المنفصل، مثل الثمرة في الشجر المرهون، ومثل الغلة، هل يدخل في الرهن أو لا؟ فذهب قوم إلى أن نماء الرهن المنفصل، لا يدخل شيء منه في الرهن –أعني الذي يحدث منه في يد المرتهن - وهذا قول الشافعي 1.
وذهب آخرون إلى أن جميع ذلك يدخل، وبه قال أبو حنيفة والثوري 2.
وأما مالك، ففرق فقال: ما كان –من نماء الرهن المنفصل - على خلقه المرهون وصورته، فإنه داخل في الرهن كولد الجارية. وأما ما لم يكن على خلقته، فإنه لا يدخل في الرهن، متولدا عنه كثمرة النخل، أو غير متولد ككراء الدار، وخراج الغلام 3، انتهى ما لخصته 4.
فتبين من هذا، أن ما اعتمده القاضي حسين 5 لنفسه من دعواه أنه 6 أحق بالثمرة
__________
= وقد فسره الإمام مالك بقوله: "وتفسر ذلك: أن يرهن الرجل الرهن عند الرجل بالشيء، وفي الرهن فضل عما رهن به، فيقول الراهن للمرتهن: إن جئتك بحقك، إلى أجل يسميه له، وإلا فالرهن لك بما رهن فيه. قال: فهذا لا يصح ولا يحل. الموطأ، 2/729؛ وانظر في معناه أيضا: حاشية الروض المربع، 5/70.
1 الأم، 3/192؛ المهذب للشيرازي، 1/310، 311؛ روضة الطالبين، 4/59. وذكره ابن رشد في بداية المجتهد، 2/333.
2 هو سفيان الثوري. وقد تقدمت ترجمته في ص 503.
وانظر قوله مع أبي حنيفة: الاختيار لابن مودود، 2/65؛ وحاشية رد المختار، 6/521.
وهو قول الحنابلة. انظر: المغني مع الشرح الكبير، 4/434؛ 435؛ حاشية الروض المربع، 5/6970.
3 الكافي لابن عبد البر، 2/815؛ بداية المجتهد، 2/333-334.
4 يلاحظ أن هذه الرسالة من بدايتها إلى هنا، لخصها المصنف من بداية المجتهد لابن رشد، 2/330-334.
5 هو قاضي الحريق، وقد تقدم في ص 443. ولعل قول القاضي هذا الذي اعتمده، ورد في خطاب السائل الذي لم نتمكن من الوقوف عليه، وكانت قضية واقعة للقاضي، كما سيشير إليها قريبا.
6 أي المرتهن.(2/803)
من سائر الغرماء، لكونها أو أصلها رهنا له، فلا يتمشى على قول أحد من العلماء.
فإن الشافعي يشترط لصحة الرهن ولزومه، القبض حال العقد، وفي واقعة القاضي المذكور لا قبض 1 فلا يصح الرهن ولا يلزم. وأما مالك فيصح الرهن بالعقد، لكن لا يتم ولا يلزم إلا بالقبض والاستدامة عنده2. وهذا هو الصحيح المعتمد في مذهب الإمام أحمد 3.
ومذهب مالك أن الثمرة الحادثة في يد المرتهن، لا تتبع 4، وفي هذه القضية التي وقعت من قاضي الحريق، إنما حدثت الثمرة فيما لم يقبض، فتكون الثمرة لا يصح رهنها على قول مالك، وعلى قوله وقول الجمهور، ليس صحيحا في الأصل ولا في الثمرة. وعلى كل حال، فهذا الرهن، إما صحيح غير لازم، فيكون أسوة الغرماء، أو يكون/ فاسدا/5، وعلى كلا الحالتين، فلا يختص بشيء من ثمرة/ المدين/6، أعاذه الله من التدحمل 7 والتدعثر 8.
آخرها. والحمد لله رب العالمين. وصلى الله على/ عبده ورسوله/9 محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
1 أي أنه لم يحصل قبض لهذه النماء حال العقد.
2 كما تقدم ذلك في ص 801.
3 وقد تقدم ذكر مذهبه في ص 801.
4 تقدم ذكر مذهبه آنفاً.
5 في "د": فاسد.
6 في "د": الدين.
7 التدحمل: التدحرج على الأرض، يقال: دحمل القوم: إذا تركهم مسوين بالأرض مصرعين. معجم متن اللغة، موسوعة لغوية حديثة، للشيح أحمد رضا، دار مكتبة الحياة، بيروت، 1377هـ/1958م، 3/385، مادة "دحل".
8 التدعثر: التهدم والتكسير، يقال، دعثر الحوض: هدمه، ودعثر الشيء: كسره. ومنه سُمي الحوض المهدم: دعثور. معجم متن اللغة، 2/414، مادة "دعث".
9 ساقط في "ج" و "د" والمطبوع. وفي "ب" قال: "على نبينا".(2/804)
الرسالة الثانية والستون: أجوبة على مسائل متعددة
...
الرسالة الثانية والستون1
قال جامع الرسائل:
وله –رحمه الله وعفا عنه - رسالة إلى إبراهيم بن عبد الله بن عمار، جوابا لسبع مسائل:
الأولى: عن رفع اليدين إذا قام من التشهد الأول.
الثانية: عن صوم يوم الثلاثين من شعبان، إذا حال دون منظره غيم أو قتر.
الثالثة: هل القبض والاستدامة شرط لزومه وصحته أو لا؟
الرابعة: عن الحكم في قطع يد السارق.
الخامسة: عن الطلاق في الحيض والطهر الذي جامعها فيه.
السادسة: عن الرفق على الضعيف.
السابعة: عن عاق والديه، هل عليه حد مقدر؟
فأجابه –رحمه الله - عن مسائله، بأصح عبارة وأوجزها، وقرر في مسألة صيام /يوم/2 الشك، ما عليه المحققون، وما تضمنته الأحاديث الصحيحة، بخلاف ما اعتمده المقلدون، وأن من صامه من السلف، لم يوجبه، ولم يأمر به الناس، ولم يوقع بمن تركه العقوبات، كما فعله أهل الجهل والإفلاس، فإنهم في هذه الأزمان يوجبونه، ويأمرون الناس بالتزامه، ومنهم من ضرب وأجلى من نهى عن صيامه.
فيا ليت شعري أين وجدوا ذلك؟ وأي الكتب اعتمده أولئك؟ نعم، قد وجدوا في بعض الروايات الوجوب/ أو الاستحباب/3، فأين وجدوا الضرب والجلاء
__________
1 جاءت هذه الرسالة في المطبوع في ص 216-218. وهي الرسالة رقم "38". وجاءت في "ب" في 54-56.
2 ساقط في "أ".
3 في "أ" و "ب" و "ج" والمطبوع: عن الأصحاب.(2/805)
والسباب؟ وإذا قيل لأحدهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: قال المذهب كذا وكذا، /وبه/1 قال الإمام المعظم 2.
فيا ليت شعري، كيف ساغ لهم تقليده في هذه وغيرها من المسائل؟ ولم يسغ لهم تقليده –رحمه الله - في قوله: "عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، يذهبون إلى رأي سفيان 3، والله –تعالى - يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 4، أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا ردَّ بعض قوله، أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك 5.
__________
= قال النووي: " ... ويوم الشك داخل في النهي، وفيه مذاهب للسلف فيمن صامه تطوعا. وأوجب صومه عن رمضان أحمد وجماعة بشرط أن يكون هناك غيم".
شرح النووي على صحيح مسلم، 7/202.
فهذه رواية عنه بالوجوب، وقد رُوي عنه بالاستحباب في مسائل الإمام أحمد، عن عبد الله قال: قلت لأبي: إذا صام شعبان كله قال: "لا بأس أن يصوم اليوم الذي يشك فيه، إذا لم ينو أنه من رمضان". مسائل الإمام أحمد، رواية ابنه عبد الله بن أحمد، تحقيق: زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، ط/1، 1401هـ - 1981م، بيروت، لبنان. ص 180.
وورد عنه –رحمه الله تعالى- رواية عدم صحة صوم ذلك اليوم، قال ابن قدامة –رحمه الله-: "وإن شك في أنه من رمضان، ولم يكن له أصل يبني عليه مثل أن يكون ليلة ثلاثين من شعبان، ولم يحل دون مطلع الهلال غيم ولا قتر، فعزم أن يصوم غدا من رمضان، لم تصح النية، ولا تجزئه صيام ذلك اليوم". المغني مع الشرح الكبير، 3/26.
ويوم الشك ذكره ابن مفلح فيما يكره صومه من الأيام. المبدع لابن مقلح. 3/55.
وبالجملة: فصوم يوم الشك مكروه عند الجمهور، حرام عند الشافعية. انظر: فتح القدير لابن الهمام، 1/367. الشرك الكبير للدردير، 1/513؛ مغني المحتاج، 1/433؛ وروضة الطالبين، 2/367. وقد تقدم مراجع الحنابلة في هذا التعليق نفسه.
1 زيادة في المطبوع.
2 يريد الإمام أحمد بن حنبل –رحمه الله-، وذلك نظرا لما سيسوقه من كلامه الآتي.
3 تقدمت ترجمته في ص 503.
4 سورة النور: الآية "63".
5 كلام للإمام أحمد –رحمه الله- رواه عنه الفضيل بن زياد. انظر: تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، ط/1، نشر المكتب =(2/806)
وإذا عرفت هذا، فقد صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، كما رواه البخاري في صحيحه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غمَّ عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما" 1.
والمقصود من هذا الكلام، إيقاع بعضهم بمن نهى عن صيامه أنواع العقوبات، وردهم أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، لبعض هذه الروايات، وهذا نص الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم إبراهيم بن عبد الله بن عمار، سلمه الله تعالى، وصرف عنا وعنه عذاب النار. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فوصل خط المسائل.
المسألة الأولى
/و/2 الجواب عن مسألة رفع اليدين إذا قام في التشهد الأول، فهو في هذا الموضع ثابت في الصحيح من حديث عبد الله بن عمر 3، وثابت أيضا من حديث علي
__________
= الإسلامي دمشق، ص 483-484؛ فتح المجيد، ص 401، 403.
1 صحيح البخاري مع الفتح، 4/143، الصوم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم الهلال فصوموا"؛ صحيح مسلم بشرح النووي، 7/195، الصيام، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال؛ سنن الترمذي، 3/69، الصوم، باب ما جاء: "لا تقدموا الشهر بصوم"؛ سنن النسائي، 4/133، الصيام، باب إكمال شعبان ثلاثين؛ سنن ابن ماجه، 1/303، الصيام، باب ما جاء في "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته".
2 ساقط في "د".
3 حديث عبد الله بن عمر في رفع اليدين عند القيام من التشهد الأول: قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الركعتين، كبر ورفع يديه". سنن أبي داود، 1/475، الصلاة، باب من ذكر أنه يرفع يديه إذا قام من الثنتين؛ ومسند أحمد، 2/145.(2/807)
ابن أبي طالب –رضي الله عنه - 1. عند الإمام أحمد، خرجه في المسند، وكذلك هو في سنن أبي داود والنسائي 2 وابن ماجه 3، وهو أصح الروايتين عند أصحاب الإمام أحمد.
"المسألة الثانية"
وأما مسألة السنة لمن يصوم الثلاثين من شعبان، إذا حال ليلة الثلاثين دون الهلال غيم أو قتر، فالقائلون يصومه وجوبا أو استحبابا، يجزيه عندهم إذا نواه من 4. والصحيح الذي عليه المحققون، أنه لا يجب صومه، ولا يؤمر به 5، ومن صامه من السلف لم يوجبه؛ والحجة لمن منع صومه مطلقا، /لما/6 في صحيح البخاري، أنه قال صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غمّ عليكم فأكملوا عدة
__________
1 حديث علي بن أبي طالب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنه كان إذا قام إلى الصلاة المكتوبة، كبر، ورفع يديه حذوا منكبيه، ويصنع مثل ذلك إذا قضى قراءته وأراد أن يركع، ويصنعه إذا رفع من الركوع، ولا يرفع يديه في شيء من صلاته وهو قاعد، وإذا قام من السجدتين رفع يديه كذلك وكبر".
قال أبو داود: "في حديث أبي عبيد الساعدي، حين وصف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم: إذا قام من الركعتين كبر ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، كما كبر عند افتتاح الصلاة".
سنن أبي داود 1/476، الصلاة، باب من ذكر أنه يرفع يديه إذا قام من الثنتين؛ سنن النسائي، 2/231، الافتتاح، باب رفع اليدين عند الرفع من السجدة الأولى؛ سنن ابن ماجه، 1/154، إقامة الصلاة باب رفع اليدين إذا ركع.
2 تقدمت ترجمته في ص 310.
3 هو محمد بن يزيد، أبو عبد الله بن ماجه، القزويني، الحافظ المفسر، صاحب السنن والتفسير، "ت273هـ". سير الأعلام، 13/277؛ تهذيب التهذيب، 9/530؛ شذرات الذهب، 2/164.
4 وهي رواية عن الإمام أحمد وجماعة، بشرط وجود غيم. وقد تقدم في 6789.
5 وقد قدمنا القول في أن صيام ذلك اليوم مكروه عند الجمهور، حرام عند الشافعية.
انظر ص 806.
6 كذا في "د"، وفي بقية النسيخ "ما".(2/808)
شعبان ثلاثين يوما" 1، انتهى.
وليس لأحد بلغَته سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصح عنده الحديث، أن يعدل إلى غيره، لرأي أحد من الناس كائنا من كان.
أقول 2: وله في هذه المسألة كلام مبسوط، رد على عثمان بن منصور 3، أوضح فيه كلام الأئمة، وجلي غياهب 4 الشبه/ فيه/5 عن الأمة، فأبصروا بنور الله حقائق التحقيق، ومدارك الأحكام، وانجلى عن بصائرهم ذلك القتر والقتام، وذكر فيه عن الإمام أحمد سبع روايات، أوردها بعض الأصحاب، والصحيح منها الاستحباب من غير شك ولا ارتياب. فراجعه إن كنت مشتاقا إلى ذلك التحقيق، واسم يهمَّتك إلى معالم ذلك المهيع والطريق.
"المسألة الثالثة" هل القبض والاستدامة شرط للزوم وصحته أولا؟
/ثمّ/6 قال –رحمه الله-:
وأما مسألة الرهن، فاعلم أن القبض والاستدامة، شرط للزومه، لا لصحته، فيصح ولو لم يحصل قبض ولا استدامة 7. لكن لو تصرف الراهن أو ببيع أو هبة، صح ذلك، بخلاف المقبوض المستدام، فلا يتصرف فيه إلا بإذن المرتهن، ولمصلحة وفائه 8.
__________
1 تقدم تخريجه في ص 807.
2 هذا كلام جامع الرسائل، الشيخ سليمان بن سحمان –رحمه الله-.
3 تقدمت ترجمته في ص 59.
4 غياهب: جمع غيهب، وهو الظلمة، وشدة السواد، يقال: ليلة غيهب: أي مظلم. لسان العرب، 1/653، مادة "غهب".
5 ساقط في "د".
6 ساقط في "د".
7 وهذا مذهب الإمام مالك رحمه الله. وقد تقدم بيانه في ص 805.
8 إن تصرف الراهن في الرهن بإذن المرتهن، يصح عند من لا يقول باستدامة القبض، وهم الشافعية، إذ إن هذا التصرف قد يخرج بالرهن من يد المرتهن.(2/809)
"المسألة الرابعة: عن الحكم في قطع يد السارق"
وأما السارق فلا تقطع يده إلا بإذن الإمام أو نائبه في الحكم.
"المسالة الخامسة: عن الطلاق في الحيض والطهر الذي جامعها فيه".
وأما مسألة الطلاق في الحيض، وفي الطهر الذي جامعها فيه، فمسألة معروفة مشهورة، وجمهور أهل العلم يوقعون الطلاق فيها 1، ويرون أنه طلاق بدعة، محرم فاعله مستهزئ بآيات الله.
"المسألة السادسة: الوقف على الضعيف"
وأما الوقف على الضعيف، فكثير من الناس يستعمل الضعيف بمعنى الفقير، والفقير عندهم من لا يجد كفاية سنة، ولا قدرة له على اكتساب ما يكفيه، والغني من يجد كفايته، ولو بالقدرة على الكسب 2. والفقراء متفاوتون، بعضهم أحوج من بعض، فيلزم الناظر أن يعطي كلا بحسبه.
"المسألة السابعة: عاق والديه هل عليه حد مقدر"
وأما عاق والديه فليس عليه حد مقدر لكن يعزر بقدر ما يردعه، ويردع أمثاله.
[وبلغ سلامنا الجماعة، والسلام/ عليكم ورحمة الله وبركاته] 3. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم/4.
__________
1 فتح القدير لابن الهمام، 3/468. بداية المجتهد، 2/74، 75؛ الأم الشافعي، 5/267؛ روضة الطالبين، 8/3؛ المغني مع الشرح الكبير، 8/237.
2 انظر أقوال الناس في معنى الفقير: لسان العرب، 5/6061، مادة "فقر"؛ والجامع لأحكام القرآن للقرطبي، 8/107، 108.
3 ما بين المعقوفتين ساقط في المطبوع.
4 ساقط في "أ".(2/810)
الرسالة الثالثة والستون: إلى عبد الله بن محمد بن عتيق في السؤال عن نهائب الأعراب
...
الرسالة الثالثة والستون1
قال جامع الرسائل:
وله أيضا –قدس الله روحه ونور ضريحه - رسالة إلى عبد الله بن محمد بن عتيق، وقد سأله عن نهائب الأعراب. فأجابه –رحمه الله - بما ستقف عليه. وذكر –رحمه الله - أن من التزم الأحكام في التحليل والتحريم، وتحاشى من الاعتداء - إلا على من اعتدى عليه - أنه لا يعجبه أكل ما أخذ منهم على هذا الوجه؛ فإذا عدمت هذه الأمور في بادية من البوادي، قحطان أو غيرهم/ أو وجدت/2، فالحكم بحاله في جواز شرائه أو عدمه على استحباب. وهذا نص الرسالة.
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ عبد الله بن محمد بن عتيق، سلمه الله تعالى؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
فأحمد إليك الله على نعمه. والخط وصل، وما ذكرت من السؤال، فالذي جاءكم مع الخشل 3 هو مما نهبوا من مال قحطان، ولا يخفاكم أن كثيرا من قحطان يلتزم الأحكام في التحليل والتحريم، ويتحاشى من الاعتداء/إلا على من اعتدى عليه/4. ولا يعجبني أكل ما أخذ منهم على هذا الوجه. وأما نهائب الأعراب التي لا يعرف حل أهلها، فلبعض أهل العلم كلام في جواز شرائها وتملكها؛ وأما استحباب اجتناب ذلك كله، فهو طريقة جمهور أهل العلم. وأنت سالم والسلام.
__________
1 في المطبوع: جاءت هذه الرسالة في ص 261-262، وهي فيه الرسالة رقم "42". وفي "ب" جاءت في ص 92-93. وفي "د" جاءت بعد الرسالة رقم "40".
2 ساقط في "ب" و "ج" و "د".
3 الخشل: رؤوس الحلي من الأسورة والخلاخل. ابن منظور/ لسان العرب، مادة "خشل". 11/205؛ الصحاح للجوهري، ص 265.
4 ساقط في المطبوع.(2/811)
الرسالة الرابعة والستون: إلى عبد الرحمن بن عدوان
...
الرسالة الرابعة والستون1
قال جامع الرسائل:
وله أيضا –قدس الله روحه ونور ضريحه، /وعفا عنه/2 - رسالة إلى الشيخ عبد الرحمن بن عدوان 3، وقد سأله عن قول الرجل لزوجته: أنت عليّ كظهر أمي، إلا أن يشاء الله.
فأجاب –رحمه الله - بما عليه أهل التحقيق في هذه المسألة، وبين له أن/الواجب/ 4 على المفتي والقاضي، أن يتبصر ويتعقل معاني الألفاظ /والتراكيب/5 قبل أن تزل قدم بعد ثبوتها. وهذا نص الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ عبد الرحمن بن عدوان؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
فاعلم أن قول الرجل لزوجته: أنت عليّ كظهر أمي إلا أن يشاء الله، إن فعلت كذا وكذا، ظهار، لا يمنع وجوب الكفارة ما ذكر من الاستثناء، بغير خلاف 6.
وقول بعضهم: إنما فيه كفارة كاليمين بالله والظهار، لا يحنث إن استثنى فيه وقال: إن شاء الله، محله إذا رجع الاستثناء إلى الفعل أو الترك، لا على نفس اليمين 7.
__________
1 في المطبوع: جاءت هذه الرسالة في ص 286-270، وهي فيه الرسالة رقم "44". وفي "ب" جاءت في ص 89-100.
2 ساقط في "ب" و "ج" و "د" والمطبوع.
3 تقدم ضمن تلاميذ الشيخ، في ص 93.
4 ساقط في "د".
5 في "د": والتركيب.
6 المغني مع الشرح الكبير، 8/571.
7 المرجع السابق، 8/571-572، والمبدع لابن مفلح، 8/40.(2/812)
قال ابن مفلح 1 - رحمه الله - في هذا المبحث: وكلامهم يقتضي أن رده –أي الاستثناء - إلى يمينه لم ينفعه لوقوعها، ولتبين مشيئة الله - وبه احتج الموقع في: أنتِ طالق إن شاء الله 2.
وقال أبو يعلى الصغير 3 في اليمين بالله ومشيئة الله: تحقيق مذهبنا: أنها تقف على إيجاد فعل أو ترك، فالمشيئة معلقة على الفعل، فإذا وجد تبينا أن الله شاءه، وإلا فلا؛ وفي الطلاق:/المشيئة/4 انطبقت على اللفظ بحكمة الموضوع وهو الوقوع. انتهى 5.
وقال شيخ الإسلام: الاستثناء إذا رجع إلى فعل أو ترك محلوف عليه، إنما يفيد أن الفعل المعلق أو الترك، لا يتعين فعله لتعليقه؛ لأن الجزاء إذا وقع لا كفارة فيه.
وقال رحمه الله: الاستثناء/ لما عُلق/6 إنما يقع على ما علق به الفعل؛ فإن الأحكام التي هي الطلاق والعتاق ونحوها، لا تعلق على مشيئة الله بعد وجود أسبابها؛ فإنها واجبة بوجوب أسبابها، فإذا انعقدت أسبابها، فقد شاء الله تعالى، وإنما يُعلق على المشيئة، الحوادث التي قد/ يشاؤها/7 الله، وقد لا يشاؤها.
وقال في هذا المبحث أيضا: المشيئة تعود عند الإطلاق إلى الفعل المحلوف عليه. والمعنى: إني حالف على هذا الفعل إن شاء الله فعله، فإذا لم يفعله لم يكن قد شاءه، فلا يكون ملتزما له، وإلا فلو نوى عوده إلى الحلف بأن يقصد: إني حالف إن شاء الله
__________
1 هو إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن محمد بن مفلح الحنبلي، أبو إسحاق، الإمام الحافظ المجتهد، صاحب "المبدع في شرح المقنع" "ت884هـ".
إيضاح المكنون 1/3، 2/548؛ هدية العارفين، 1/21؛ معجم المؤلفين، 1/100.
2 لم أجد مصدر كلام ابن مفلح.
3 تقدمت ترجمته في ص 495.
4 في "أ": المثبت.
5 لم أجد مصدر كلام أبي يعلى.
6 ساقط في "ج" و "د".
7 في "أ": يشاء.(2/813)
أن أكون حالفا، كان معنى هذا، معنى الاستثناء في الاستثناءات؛ كالطلاق والعتاق، وعلى مذهب الجمهور لا ينفعه 1.
وأيضا فإنها بفعل المحلوف عليه يتبين إن شاء الله، فوقع ما علق عليه. ومن فقه هذا، عرف معنى كلام الفقهاء، وما المراد بالاستثناء المانع من الحنث.
والواجب على المفتي والقاضي أن يتبصر ويتعقل معاني الألفاظ والتراكيب قبل أن تزل قدم بعد ثبوتها، وما أحسن ما قيل:
والعلم ليس بنافع أربابه ... ما لم يفد نظرا وحسن تبصر 2
وأيضا فإن المظاهر في مثل هذه الصورة لا يقبل منه دعوى الاستثناء، ولو كان راجعا إلى الفعل، إلا ببينة عادلة؛ لأن الظهار/ثبت/3، بشهادة الغير، فلا بد من شاهد على الاستثناء.
ثم لو سلمنا أنه ثبت بإقراره، أو من جهته، فدعواه الاستثناء لا تقبل أيضا؛ لأنها له، وإقراره بالظهار عليه. وفي الحديث: "لو يعطى الناس بدعواهم ... " الحديث 4، وقال شيخ الإسلام: والتحقيق أن يقال: إن المخبر إن أخبر بما على نفسه /لغيره/5، فهو مقر، وإن أخبر بما لنفسه على غيره، فهو مدَّعٍ 6.
__________
1 لم أجد كلام شيخ الإسلام.
2 تقدم البيت في ص 284.
3 في "أ": يثبت.
4 هذا جزء من حديث ابن عباس رضي الله عنه، وتمامه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه". صحيح البخاري مع الفتح، 8/61، التفسير، باب {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ} صحيح مسلم بشرح النووي، 12/243، الأقضية، باب اليمين على المدعى عليه. واللفظ له. سنن النسائي 8/248، آداب القضاء، باب عظة الحاكم على اليمين. سنن ابن ماجه، 2/40، الأحكام، باب البينة على المدعى، واليمين على المدعى عليه.
5 ساقط في المطبوع.
6 لم أقف على مصدر كلامه.(2/814)
قال جامع الرسائل:
هذا آخر ما/وجدت/1 من هذه الرسالة. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
__________
1 في "أ": وجد(2/815)
الرسالة الخامسة والستون1
سؤال عن بيع عقار الميت لوفاء دينه
قال جامع الرسائل:
وله أيضا –قدس الله روحه/ونور ضريحه/2 - جواب سؤال عن بيع عقار الميت لوفاء دينه.
قال السائل: ما قولكم في بيع عقار الميت لوفاء دينه، إذا خيف عليه التلف؟ وهل للمسغبة 3 تأثير في البيع وتركه؟ وهي يجوز للحاكم مع الغرماء عن استيفاء الدين حتى تزول المسبغة وتعود الرغبة أم لا؟ أفتونا مأجورين أثابكم الله الجنة.
فأجاب –رحمه الله تعالى - فقال:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
بيع العقار إذا خيف عليه التلف، خير وأولى من تلف. والمسغبة لا تأثير لها في البيع وتركه، وعبارة بعضهم: إذا كسد العقار كسادا ينقصه عن مقاربة ثمن المثل، ويضر/بالمالك/4، فلا يباع حتى تعود الرغبة، وعلى القول به محله/ إذا أمن التلف/5 / ولم يرج/6 زوال الرغبة مع حياة المدين. وأما مع موته فلا حق للورثة، إلا فيما أبقته الديون 7 والوصايا؛ وليس للحاكم منعهم من استيفاء الدين.
__________
1 في المطبوع: جاءت هذه الرسالة والتي بعدها أي "47" ذيلا للكتاب، فهما في الصفحات الثلاثة الأخيرة من 453-455. وجاءت في "ب" في ص 102، بعد الرسالة "47".
2 ساقط في "د".
3 المسغبة: المجاعة. يقال: سغب الرجل مسغبة: أي جاع. وقيل هو الجوع مع التعب. لسان العرب، 1/468، مادة "سغب".
4 في "أ": المالك.
5 في "أ": إذا أمن من التلف.
6 كذا في المطبوع: وفي "أ" و "د".
7 هذه المسألة الفقهية، لها علاقة كبرى هنا بأبواب العقائد؛ ففي تقديم ديون الميت على =(2/816)
والحالة هذه، والله أعلم.
قاله كاتبه عبد اللطيف بن عبد الرحمن. وصل الله وسلم/ على عبده ورسوله/1 محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
= حقوق الورثة إشارة إلى أمر هام؛ ألا وهو "ثبوت عذاب القبر".
فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الدين من أسباب عذاب القبر، كما ورد ذلك في حديث جابر رضي الله عنه قال: توفي رجل فغسلناه وخنطناه وكفناه وأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عليه، فقلنا: تصلي عليه، فخطا خطى، ثم قال: "أعليه دين" قلنا ديناران. فانصرف، فتحملهما أبو قتادة، فأتيناه، فقال أبو قتادة: الديناران؟ عليّ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحق الغريم وبرئ منهما الميت؟ " قال: نعم. فصلى عليه. ثم قال بعد ذلك بيوم: "ما فعل الديناران فقال: إنما مات أمس، قال: فعاد إليه من الغد فقال: قد قضيتهما. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الآن بردت عليه جلده". مسند الإمام أحمد، 3/330؛ وأخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد، 3/39، وقال: رواه أحمد والبزار وإسناده حسن.
1 ساقط في "ح" و "د".(2/817)
الرسالة السادسة والستون: سؤال عن تركة الميت قسم ماله بين أولاده وأوصى لصغارهم
...
الرسالة السادسة والستون1
سؤال عن تركه الميت، فسّم ماله بين أولاده وأوصى لصغارهم
قال جامع الرسائل:
وله أيضا –قدس الله روحه ونور ضريحه - جواب سؤال عن قسمة الوالد بين ورثته قبل موته، هل هي قسمة شرعية أم لا؟ وكذلك ما أوصى به لأولاده الصغار القاصرين، على سبيل التعديل بينهم وبين المرشدين؛ قال السائل:
بسم الله الرحمن الرحيم. ما قول علماء الإسلام –أدام الله نفعهم للأنام - في رجل مات، وقبل/ مماته/2 حُرر له وصية، وعين له وصيا على ما خلف، وعلى القاصرين من أولاده؛ وأوصى أن الذي يخص القاصرين من أولاده، يبقى بيد فلان –رحل معين - على نظر الوصي؛ وسلم قبل مموته بعضا من إريل 3 بيد هذا الرجل المعين المذكور أعلاه؛ هذا الوكيل الذي هو الوصي، ليس بحاضر، فلما حضر أخذ في جمع المال، وقبض ما هنالك من المال، ودفع بيد الرجل المذكور أعلاه شطرا من المقبوض، وكتب الوصي عليه ورقة قبض ما استلمه من يده بنظره. وبعد ذلك اختلف الحال، ووقع على الوصي جبر من الحاكم، وأخذ المال من يده، ومن عند غيره، ولم/يبق/4 من المال –يعني من بعد المدفوع لذلك الرجل المذكور أعلاه - إلا شيء يسير لم يعلمه الحاكم، والمال الذي بيد الإنسان المعين؛ حيث إنه بعيد عنه، ولم يتمكن من /أخذ/ 5 المال منه؛ لكونه بعيدا عنه، وليس من أهل حكومته. ثم بعد مضي بضع من السنين مات الحاكم المجبر، ورجع الوصي على وكالته الأصلية، ومراد/ الموصى/6 الآن
__________
1 هذه آخر رسالة في المطبوع في ص 454-455. وجاءت في "ب" في ص 100-102.
2 في "د": موته.
3 إريل: جمع "ريال". وهو من استعمالات أهل نجد.
4 في "د": يبقى.
5 زائد في "ب" و "ج" و "د".
6 في "أ": الوصي.(2/818)
يعمل العمل الذي تخلص به ذمته، ولم يكن على أحد من الورثة حيف ولا ضرر، ويخرج الثلث الموصى به.
فهل يجمع ما تحصل من المال الموروث - قليلاً كان أو كثيراً - ويضيفه على المال الغائب عند الرجل المذكور أعلاه؟ وتقع المقاسمة حينئذ على الوجه المشروع، من إخراج الثلث، وما بعده على جملة الورثة/للمكلف/1 منهم والقاصر، قسمة مبتدأة، كأن الميت مات الآن بناء على أن التركة ما قُسمت /أبدا/2، ولأن الجبر الصادر من الحاكم قبل القسم؟ أ, أن التالف من نصيب المرشدين والثلث، وإن كان عليهم/أضرار ظاهر/3 وحيف من القسمة، والسالم هناك من نصيب القاصرين، كما أراد الموصي أولا، ظانا سلامة ماله كله، وأنه لا يقع/حيف/4 ولا جور، فهل له إفراز سهم القاصرين خاصة في حياته قبل مماته، ويعتبر ذلك بحيث لا مشاركة للورثة لهم، وإن تلف المال قبل المقاسمة كما وقع أولا؟ فأي الوجهين الموافق للحق ليعمل به الوصي وتبرأ ذمته؟ أفتونا مأجورين، فإن الحاجة داعية إليه، والوصي متحير، وكل ذي حق من الورثة يطالب/ بحقه/5، لا زلتم أهلا لكل فضيلة.
فأجاب –رحمه الله تعالى - بما نصه: الحمد لله وحده. قسمة الوالد/ماله قبل موته/6 بين ورثته، قسمة غير لازمة؛ لوقوعها قبل انتقال المال واستحقاقهم له إرثا، وقسمة الولي الشرعي، وتعيينه ما بيد الرجل المودع للصغار القاصرين قبل تلف ما بيده، قسمة شرعية، تثبت بالإفراز ولتعيين، فما تلف بعدها فهو مختص بمستحقه من القسمة الصادرة من الولي، وتعيين حصة الصغار فقط قسمة شرعية، وإن تلف الباقي
__________
1 في "ب" و "ج" و "_د": المكلف.
2 في "د": أبد.
3 في "د": أضرارا ظاهرا.
4 في جميع النسخ: خلف. والتصحيح في هامش "أ" والمطبوع.
5 كذا في المطبوع. وفي جميع النسخ: في حقه.
6 بي "ب" و"ج" و "د" والمطبوع: قبل موته ماله.(2/819)
قبل قسمته بين الثلث، والكبار المرشدين. والحيف والأضرار يعتبر حال القسمة، ويرجع إلى العدل والتسوية.
وأما النظر للتلف أو الكساد الحادث بعد القسمة، فلا حيف ولا ضرر في الإفراز والقسمة والحالة هذه.
أملاه الفقير إلى رحمة ربه، عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن.(2/820)
الرسالة السابعة والستون1
قال جامع الرسائل:
وله أيضا –قدس الله روحه، ونور ضريحه - رسالة إلى عبد العزيز بن حسن 2 قاضي المحمل، وقد سأله عن حديث جابر بن عبد الله 3 لما توفي أبوه، وعليه ثلاثون وسقا لرجل من اليهود، وفي الحديث: "فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلم اليهودي ليأخذ تمر نخله بالذي له فأبى" 4. قال السائل: وظاهر هذا: إباحة المجهول بالمعلوم في الجنس، وهو ممنوع شرعا.
فأجاب –رحمه الله - وذكر تراجم الأئمة 5، وتعددها بحسب ما تضمن من الفقه، وأن قول السائل: "وهو ممنوع شرعا" عبارة لا ينبغي أن تورد على الأحاديث النبوية، وهو خطأ منه في التعبير وغفلة. وقد بين الشيخ/ - رحمه الله-/6 أيضا فسادها في نفسها، وهذا نص الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم عبد العزيز بن حسن، سلمه الله /تعالى/7 وهداه. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، على نعمه. والخط وصل،/وصل/8
__________
1 في المطبوع جاءت هذه الرسالة في ص 284، 285، وهي الرسالة رقم "50". وجاءت في "ب" في ص 112-114.
2 تقدمت ترجمته ضمن تلاميذ الشيخ في ص 92.
3 صحابي جليل. انظر ترجمته: أسد الغابة، 1/256؛ سير الأعلام، 3/189.
4 يأتي الحديث بتمامه عند المؤلف، وكذا تخريجه في ص 822-823.
5 أي: تراجم أئمة الحديث لحديث جابر.
6 ساقط في "د" والمطبوع.
7 ساقط في "ح" و "د".
8 في "د": وصلك.(2/821)
الله حبلك، وأعلى مجدك، وما ذكرته قد علم، وحديث جابر/ حديث صحيح/1 مشهور، خرجه الجماعة، وتُرجم له تراجم متعددة، بحسب ما تضمن من الفقه.
فقال البخاري: باب إذا قاصه وجازفه في الدين تمرا بتمر وغيره؛ وغيره 2. وقال: باب إذا قضى دون حقه فهو جائز 3. وكذلك أهل السنن، وسياقهم متقارب 4.
وقال البخاري في باب المقاصة والمجازفة: قال وهب بن كيسان 5 إن جابر بن عبد الله أخبره أن أباه توفي وترك عليه ثلاثين وسقا لرجل من اليهود، فاستنظره جابر فأبى أن ينظره، فكلم جابر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشفع له، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم /فكلم/6 اليهودي ليأخذ تمر نخلة/ بالتي/7 له، فأبى، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم /النخل/8 فمشى/فيها/9، ثم قال لجابر: "جُدّ له فأوفِ له الذي له" فجده بعد ما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأوفاه
__________
1 زيادة في جميع النسخ، لا توحد في "أ".
2 هذا في كتاب الاستقراض، صحيح البخاري مع الفتح، 5/73.
3 هذا أيضا قاله في كتاب الاستقراض. صحيح البخاري مع الفتح، 5/72.
4 ترجم له أبو داود في سننه، 3/303، كتاب الوصايا، قال: باب ما جاء في الرجل يموت وعليه دين، وله وفاء، يستنظر غرماؤه ويُرفق بالوارث. وترجم له النسائي في سننه، 6/425، 426 في كتاب الوصايا، قال: باب قضاء الدين قبل الميراث. وترجم له ابن ماجه في سننه، 2/61، كتاب الأحكام، قال: باب أداء الدين عن الميت.
5 هو وهب بن كيسان أبو نعيم الأسدي المدني الفقيه المؤدب، من موالي آل الزبير بن العوام. "ت127هـ". سير الأعلام، 5/226؛ تهذيب التهذيب، 11/166، شذرات الذهب، 1/173.
6 هكذا في أصل النص عند البخاري. وفي جميع النسخ: "وكلم" بالواو.
7 هكذا في أصل النص عند البخاري. وفي جميع النسخ: الذي.
8 ساقطة في "أ".
9 هكذا في أصل النص عند البخاري. وفي جميع النسخ: فيه.(2/822)
وفي حديث كعب 1: "ضع الشطر"2، وأن تمنع هذه المسألة لما فيه ضرر أو غرر من البياعات 3 والمعاملات. هذا ما ظهر لي وهو المعروف من القواعد الشرعية فانتبه، لا زالت قريحتك وقادة ذكية 4.
/وبلغ سلامنا الأولاد والأخ، وعبد العزيز بن تركي 5. ولدينا الوالد المكرم والعيال بخير وينهون السلام، وأنت سالم.
والسلام/6. 7/وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم/8.
__________
= قضاء. سنن النسائي، 7/318، البيوع، باب الترغيب في حسن القضاء. سنن الترمذي، 3/607، البيوع، باب ما جاء في استقراض البعير أو الشيء من الحيوانات أو السن. سنن ابن ماجه 2/59، الأحكام، باب حسن القضاء.
1 هو كعب بن مالك بن أبي كعب عمرو بن القين، الأنصاري الخزرجي، العقبي الأُحدي. شار رسول الله صلى الله عليه وسلم "ت50هـ".
انظر ترجمته: أسد الغابة، 4/487؛ سير الأعلام، 2/523؛ تهذيب التهذيب، 8/440.
2 هذا جزء من حديث عبد الله بن كعب، أن كعب بن مالك أخبره تقاضى ابن أبي حدرد دينا له عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم هو في بيته؛ فخرج إليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كشف سجف هجرته، ونادى: "يا كعب بن مالك، يا كعب". قال: لبيك يا رسول الله، فأشار بيده أن ضع الشطر من دينك. قال كعب قد فعلت يا رسول الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قم فاقضه". صحيح البخاري مع الفتح، 1/669، الصلاة، باب رفع الصوت في المسجد. صحيح مسلم بشرح النووي، 10/479، المساقات، باب استحباب الوضع من الدين. سنن أبي داود، 4/20، الأقضية، باب في الصلح سنن النسائي، 8/239، القضاة، باب حكم الحاكم في داره. سنن ابن ماده، 2/60، الصدقات، باب الحبس في الدين والملازمة.
3 في "د": المبيعات.
4 في المطبوع: زكية. بالزاي.
5 في "ب" و "ج" و "د": تريكي.
6 ساقط في المطبوع.
7 في "أ": ذكر الناسخ هنا قوله: تمت في 2/ذي القعدة سنة 1321هـ
8 زيادة في المطبوع.(2/824)
الرسالة السابعة والستون: إلى عبد العزيز بن حسن قاضي محمل
...
ثلاثين وسقا، وفضلت له سبعة عشر،/فجاء جابر رسول/1 الله صلى الله عليه وسلم ليخبره بالذي كان، فوجده يصلي العصر، فلما انصرف أخبره بالفضل، فقال: "أخبر بذلك ابن الخطاب". /فذهب/2 جابر إلى عمر/ فأخبره/3، فقال /له/4 عمر: فقد علمت حين مشى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليباركن فيها"5. وقبل هذا قال –رحمه الله-: باب إذا قضى دون حقه أو حلله فهو جائز. وساق الحديث مختصرا من طريق آخر، لكن ذكر فيه شاهدا للترجمة، وهو قوله: "فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فسألهم أن يقبلوا تمر حائطي ويحللوا أبي"6.
إذا عرف هذا بطل قول السائل: "وظاهر هذا إباحة المجهول بالمعلوم في الجنس"، فلا جهالة والحالة هذه؛ لأن الحديث صريح في أن تمر الحديقة دون الثلاثين، وإنما بورك فيه لما مشى فيه صلى الله عليه وسلم.
وقول السائل: "وهو ممنوع شرعا"، عبارة لا ينبغي أن تورد على الأحاديث النبوية، وهل الشرع إلا ما جاء عن الله وعن رسوله؟
وأيضا فهي فاسدة في نفسها؛ فإن الاعتياض بالمجهول عن المعلوم في الجنس جائز في غير ربا الفضل، إذا حصل التراضي؛ لأن للمدين أن يزيد، و"خيركم أحسنكم قضاء"7؛ ولرب الدين أن يضع من دينه ما شاء.
__________
1 هكذا في أصل النص عند البخاري. وفي جميع النسخ زيادة حرف إلى: "فجاء جابر إلى".
2 هكذا في أصل النص عند البخاري. وفي جميع النسخ: فجاء.
3 ساقط في جميع النسخ. مثبت في أصل النص.
4 ساقط في جميع النسخ. مثبت في أصل النص.
5 صحيح البخاري مع الفتح، 5/73، الاستقراض، باب إذا قاص أو جازف في الدين تمرا بتمر أو غيره.
6 صحيح البخاري مع الفتح، 5/72، كتاب الاستقراض، من طريق ابن كعب بن مالك، "أن جابر بن عبد الله أخبره ... " في الباب المذكور.
7 صحيح البخاري مع الفتح، 5/72، الاستقراض، باب حسن القضاء. صحيح مسلم بشرح النووي، 11/42، المساقاة، باب: من استلف شيئا فقضى خيرا منه، وخيركم أحسنكم =(2/723)
الرسالة الثامنة والستون: إلى الشيخ عبد العزيز بن حسن
...
الرسالة الثامنة والستون1
قال جامع الرسائل:
/وله أيضا –قدس الله روحه، ونور ضريحه - رسالة إلى الشيخ عبد العزيز بن حسن 2 وهذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم عبد العزيز بن حسن بن يحيى، سلمه الله تعالى، ورزقه الفقه في الدين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، على سوابغ نعمه.
والخط وصل يوم ركوبنا، ولا كتبت جوابه إلا بعد تثويرتنا 3. وأما الأول، فلم ألتفت إلى جوابه، لما كنت بصدده من الاشتغال بالحج.
إذا عرفت هذا، فاعلم أن المسألة الأولى التي هي: استعمال الماضي موضع المضارع، /لهم فيها وجهان/4:
__________
في "أ" أدخل الناسخ هنا بعد هذه الرسالة رسالة من رسائل الشيخ عبد الرحمن بن حسن "والد الشيخ عبد اللطيف" "من ص 104-110"، وأشار إلى ذلك بقوله: "هذه الرسالة ليست من رسائل عبد اللطيف، وإنما هي من رسائل والده عبد الرحمن بن حسن، وضعناها هنا لأجل الفائدة".
وهي عبارة عن تراجم لبعض الأعلام، ثم رسالة إلى الإمام فيصل بن تركي. وهي غير موجودة في بقية النسخ، ولا في الجزء المطبوع الخاص برسائل الشيخ عبد اللطيف، وإنما هي موجودة بتمامها في "الجزء الثاني، صفحة 214" من مجموعة الرسائل والمسائل النجدية، ضمن رسائل الشيخ عبد الرحمن. لذلك تركتها حفاظا على وحدة موضوعية الرسائل.
1 في المطبوع جاءت هذه الرسالة في ص 286-287، وهي الرسالة رقم "51". وجاءت في "ب" في ص 114-115.
2 تقدمت ترجمته ضمن تلاميذ الشيخ في ص 92.
3 تثويرتنا: لعل مراده: أي بعد رجوعنا من الحج.
4 في "أ": لهما وجهان. وفي "ب" و "ج" و "د": لهم فيه وجهان. وفي المطبوع: لهم وجهان.(2/825)
أحدهما: أن في استعمال الصيغة الماضية بدل المضارعية، تنبيه وإشارة إلى تحقيق النفي في الحال والاستقبال، كتحقق مُضي الماضي من الأفعال والأحوال، وذلك باستعارة وضع للماضي، لما قصد به الحال والاستقبال، تقوية وتأكيدا لمضمون الجملة المنفية، وذلك شائع في لسانهم. وفي التنزيل: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} 1،2 {وَإذْ قَالَ اللَّه} 3، والمعنى: يأتي، ويقول 4.
ومنه استعمال المضارع بدل الماضي إشارة إلى التجدد والاستمرار شيئا فشيئا، كقوله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} 5، {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} 6 {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ} 7؛ والمعنى: قد علمنا 8.
ومنه قول الأعشى 9.
/فأرى/10 من عصاك أصبح/مخذو ... لا/11، وكعب الذي يطيعك عالٍٍ 12
__________
1 سورة النحل: الآية "1".
2 من هنا إلى آخر هذه الرسالة لا يوجد في "د"؛ إذ ألصق محله بلوحة "87" ورقة أخرى ليس هذا محله.
3 سورة المائدة: الآية "116".
4 وبذلك قال جمهور المفسرين. انظر: جامع البيان للطبري، 7/136؛ والجامع لأحكام القرآن للقرطبي، 6/241، و10/44.
5 سورة الأنعام: الآية "33".
6 سورة الحجر: الآية "97".
7 سورة الأحزاب: الآية "18".
8 تفسير القرآن العظيم؛ 2/34؛ وتفسير القاسمي، 10/3773.
9 هو ميمون بن قيس بن هندل الأعشى الأسدي اليماني، ولد في قرية المنفوحة من اليمامة، ويكنى بأبي البصير أحد شعراء بكر المقدمين، "ت627هـ". مقدمة ديوانه ص 56. وهامش طبقات فحول الشعراء، 1/40.
10 هكذا في ديوان الأعشى. وفي جميع النسخ: "وأرى" بالواو.
11 كذا في ديوان الأعشى. وفي جميع النسخ: محروبا.
12 ديوان الأعشى، ص 167.(2/826)
وقد أسبي الفتاة فتعصى ... كل واشٍ يريد صرم حبال 1
يريد: رأيت وأسبيت.
/والوجه الثاني /2: أن الكلمة إن دلت على معنى في نفسها واقترنت بزمان، ففعل، فإن كان الزمان الذي دلت عليه ماضيا، فالفعل ماض، وإن كان للحال والاستقبال، فالفعل مضارع، وإن كان مستقبلا فقط، فالفعل أمر، كما هو مقرر في موضعه 3. فلو عبَّر بالمضارع وقال: لا ألبس ممتثلا، لاحتمل 4 أنه قصد النفي في الحال فقط، أو فيما يستقبل فقط؛ لن ذلك جرى في لسانهم، ومنه: {لا أَجِدُ مَا آَحْمِلُكُمْ عَلَيهِ} 5 {وَنَضَع اَلْمَوَازِينَ اَلْقِسْطَ} 6، ولاحتمل وقوع استثناء يعقبه، فلما عبر بالماضي/اندفع/7 الاحتمال، وانقطع التوقع، وقصد المعنى الأصلي، وهو المعنى في الماضي، لا يتوهم؛ لأن "لا" للنفي في الحال والاستقبال، تقول: لا لبست لا ضربت لا ظلمت؛ قاصدا الحال والاستقبال، بخلاف: ما ضربت ما لبست، فإنها للنفي في الماضي.
أما المسألة الثانية: وهي قولك: ما معنى النفي في قولهم: /لا قتلت/8 الميت؟
فالذي في الحلف بالطلاق، وتعليقه بالمستحيل "لأقتلنّ" بلام التوكيد الموطئة
__________
1 البيت الثاني لا يوجد في ديوان الأعشى، لعله في مكان آخر لم أقف عليه، أو لشاعر آخر لم أعرفه.
2 بياض في "أ".
3 الأصول في النحو، لأبي بكر محمد بن سهل بن السراج البعدادي، "ت316هـ" د. عبد الحسين الغتلي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط/1/1405هـ/1985م، 1/37، 38، 39. ضياء السالك، 1/43، 45.
4 في "أ" "ب": لاحتمال.
5 سورة التوبة: الآية "92".
6 سورة الأنبياء: الآية "47".
7 ساقطة في "أ".
8 في "أ": لأقتلنَّ.(2/827)
للقسم، والفعل بعدها مؤكد بنون التوكيد الثقيلة، ولا نفي فيها فتنبه./وبلغ سلامي من لديك من الإخوان. ومن لدينا يسلمون والسلام/1./وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم/2.
__________
1 زيادة في "ب".
2 ساقط في "ب".(2/828)
الرسالة التاسعة والستون: إلى عبد العزيز بن حسن بن مزروع
...
الرسالة التاسعة والستون1
قال جامع الرسائل:
وله أيضا –قدس الله روحه، ونور ضريحه - جواب سؤال ورد عليه من عبد العزيز بن حسن بن مزروع، وذلك في شأن القهوة 2، طلب فيه من الشيخ الجواب عما أورده من السؤال، ومقصوده أن يوافقه على الحكم والجزم بالتحريم، وعدم الإحلال، لما أورده بزعمه في سؤاله من استيفاء التعليل والاستدلال.
وكان الأليق بالسائل طلب بيان ما هو الأرجح في شأنها من الأقوال. إذ كان للعلماء فيها كلام، وحل للنظر ومجال، لكنه في سؤاله أصل وفضل، واستدل وعلل، وانتضى 3 لتحريمها صارما عضبا، وارتقى لذلك من الشريعة مرتقا صعبا.
فلأجل ذلك عدل الشيخ عن ذكر أقوال العلماء هنالك، وعما هو الأعدل والأرجح في ذلك، وأخذ في إبطال ما علله،/وهد/4 ما فعله وأصله.
ثم بعد ذلك أرشده إلى ما هو اللائق بصرف الهمة إليه، من الحض على رفع ما تعطل من أصول الدين ودعائم الملة، وقبض العلم وارتفاع /الجهال/5 وترك الالتفات إلى تربية أهل الملة بتعليم ما يحتاجونه من أصول دينهم، وما جاء به نبيهم صلى الله عليه وسلم. وهذا نص السؤال، قال السائل:
__________
1 في المطبوع جاءت هذه الرسالة في ص 361-366، وهي الرسالة رقم "73". وجاءت في "ب" في ص 118-122.
2 القهوة المقصودة: هي المتعارف عليها اليوم. وذلك أنها عند خروجها كان للعلماء فيها خلاف، بين محرم ومكره ومجيز، كما سيأتي في نص السؤال.
3 انتضى: من نضا، ينضو أي يخرج، يقال: نضا السيف نضوا وانتضده، أي سله من غمده. لسان العرب، 15/329، مادة "نضا". والمعنى أن السائل أخرج ما لديه من الأدلة في إثبات تحريم القهوة.
4 في المطبوع: هدم.
5 في "د": الجهل.(2/829)
تفهم أن مدار الشريعة على رفع المفاسد وجلب المنافع، ومنها ما صرح به الكتاب والسنة، /ومنها/1 ما هو في ضمنه ويشهد له./وبنو/2 آدم لهم مألوفات، إذا درجوا /عليها/3 أحبوها وألفوها ولو فيها ضرر.
ومن البلاوي على أهل القوت عامة، وعلى أهل نجد خاصة في دنياهم، القهوة، مع/ضعف/4 معايشهم. وفي الماضي ما يستعملها إلا القليل، للبلد مجمع، وبعض القرى ما تعرفها. واليوم هذا الذي ترون، الغني والفقير، والمرأة والصغير، ولا يحصى ما يصرف فيها من /الأموال/5؛ ولو كان ما فيها إلا /ضررا مفردا/6، كيف وأول مضارها في الأبدان؟
وإذا كان الخمر يزيل العقل شربه، فهي شاهدناها تُخامر العقل عند فقدها، كذلك إضاعة المال، وفي مجالسها القليل والقال، وتُحوج/7 الفقراء إلى السؤال، وتُلهي كثيرا من الناس عن الصلاة، وتضيع عليهم الأوقات، هذا، ولا تُروي ولا تغني من جوع، ومزرعها ومخرجها من بلد/الكفار/8.
وأما من/مضارها/9 على أهل/ الجهاد/10 فظاهر معلوم إذا لاقوا العدو، /وأمرار/11 تكون على شُرابها ويصرف فيها من بيت المال ما لو يصرف
__________
1 في "أ" و "د": ومنه.
2 في "أ": "بنو" بإسقاط الواو.
3 في المطبوع: إليها.
4 ساقطة في "د".
5 في "ب" و "ج" و "د" والمطبوع: المال.
6 في جميع النسخ: ضرر مفرد.
7 في المطبوع: تحول.
8 في "أ" كفار.
9 في "أ": ظررها.
10 في المطبوع: الجهات.
11 في المطبوع: وأمرارا.(2/830)
في آلة الجهاد والفقراء والمساكين، كان هو الواجب.
وتفهم أن عند خروجها حصل من أهل العلم فيها خوض، ومقتها بعض، وحرمها بعض، وهي ما بلغت/هذا/1 المبلغ. ومصرف أهل نجد فيه اليوم، وما يتعلق بها، ألوف، لو يضعها عليهم واضع ما حملتها عقولهم.
والمطلوب تجيبون عن هذا، وتوضحون ما يجب فيها من حكم، ولا هو أول محظور/مُنع/2 منه أهل نجد وامتنعوا، وهم –ولله الحمد - لهم قابلية، وإذا عرضت مضارها على العاقل منهم، شهد بها وعابها. وبعضهم يقول: نصرف فيها أكثر مما نصرف بالزاد.
والإمام 3 - أطال الله بقاءه، ووفقه لما يرضاه - قد حصل عنده فيها مجال، ويود سببا برفعها به عن رعيته.
هذا، وإن وزنتها العقول السليمة، لا شك أنها لهو ولعب. وفقك الله للصواب. انتهى سؤاله.
فأجاب –رحمه الله - على سؤاله فقال:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم عبد العزيز بن حسن، سلك الله به أهدى السنن. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فنحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على نعمه. والخط وصل، والسؤال عن القهوة وصل، مع اشتماله على الجزم بالحكم، واستيفاء الدليل بالتعليل/والتدليل/4، وهذا
__________
1 كذا في المطبوع. وفي جميع النسخ "ها".
2 في جميع النسخ: منعوا.
3 يريد الإمام فيصل بن تركي. وقد تقدمت ترجمته في ص 39.
4 كذا في المطبوع. وفي "أ" و "ب" و "ج": والدليل. وهو ساقط في "د".(2/831)
غاية ما يطلب من الجواب.
ومن كانت له ملكة وعنده معرفة توجب الجزم بالحكم واليقين، والاستدلال على الأحكام والدين، فليس به حاجة إلى سؤال المستضعفين والقاصرين. نسأل الله لنا ولكم الثبات على دينه، والعصمة من القول عليه بلا علم.
والكلام على القهوة قد سُبقنا إليه. وأفاضل أهل العلم كل منهم أبدى ما عنده وما لديه، وحسبنا السير على منهاجهم، واقتفاء آثارهم. وذكر المنقور 1 في مجموعة 2 طرفا من ذلك 3، والمجموع عند ابن مانع4.
وما ذكرت من أن مدار الشريعة على رفع المفاسد، وجلب المنافع، فنعم، هو ذاك، ولكن ينبغي أن يعلم أن المفاسد ما عارضت الأمر والنهي/الشرعيين/5 بالفعل أو بالوسيلة، والمنافع المطلوبة مايحصل بها مقصود الشارع من الأمر والنهي بالفعل أو بالوسيلة، وبهذا تعلم فساد التعبير بقولك: رفع المفاسد؛ فإن هذا لا يرتفع، فالصواب
__________
1 هو أحمد بن محمد بن أحمد بن حمد بن محمد المنقور، التميمي، ولد في بلدة حوطة سدير عام "1067هـ"، أخذ عن الشيخ عبد الله بن ذهلان، وجمع من تقارير شيخه سفرا ضخما من البحوث والتقارير والفوائد، عرف بمجموع المنقور، وقد ولي قضاء بلدة الحوطة حتى مات سنة "1125هـ".
علماء نجد لابن بسام، 1/195-197.
2 هو المجموع المشار إليه في ترجمة المنقور آنفا، ولم أطلع عليه. قال البسام: "إنه كتاب غير مبوب، وغير مرتب ترتيبا وافيا يسهل أخذ الفائدة منه". علماء نجد، 1/198.
3 ومن كلام الأئمة على القهوة.
سُئل صاحب العباب الشافعي عن القهوة، فأجاب: "للوسائل حكم المقاصد، فإن قصدت للإعانة على قربة، كانت قربة، أو مباح فمباحة، أو مكروه فمكروهة، أو محرم فمحرمة". وأيده بعض الحنابلة على هذا التفصيل.
وقال الشيخ مرعي بن يوسف الحنبلي، صاحب غاية المنتهي: "ويتجه حل شرب القهوة". غاية المنتهى، للشيخ مرعي بن يوسف، 3/331.
4 لم أعرفه.
5 ساقط في "د".(2/832)
دفع المفاسد، لا رفع المفاسد.
وقولك: منها ما صرح به الكتاب والسنة، ومنها ما /هو/1 في ضمنه؛ تقسيم فاسد، بل الكتاب والسنة صرحا بذلك وأوضحاه. قال تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} 2، ولم يخرج فرد من ذلك. ولو قلت: فقد /صرح/3 بذلك الكتاب والسنة أو /تضمناه/4 لصلح التعبير.
وقولك: ومن البلاوي على أهل الوقت عامة، وعلى أهل نجد خاصة في دنياهم، القهوة، مع ضعف معائشهم:
فلا أدري ما يراد بالبلوى هنا، أهي الابتلاء في الدين، /أم/5 هي الابتلاء بالنفقة فقط؟ فإن كان الأول، فلا يسلم بمجرد الدعوى، وإن كان الثاني، فالناس درجات وطبقات في اليسر والعسر والمعيشة، وتوسع الأغنياء إنما يذم لوجوه لا تختص بالقهوة أيضا، بل يجري في غير ذلك من سائر المباحات.
وأما التعليل بأن فيها مضار للأبدان، فلا ينبغي أن يؤخذ على إطلاقه، فإن الأبدان الدموية والبلغمية تنتفع بها بلا نزاع، والسوداوي والصفراوي يمكنه التعديل بالتمر الذي هو غالب /غذاء/6 أهل نجد. وقد قال داود في تذكرته: بعد لها كل حلو.
وأما قولك: وإذا كان الخمر يزيل العقل عند شربه، فهي شاهدناها تخامر العقل عند فقدها، فهذا الكلام لا ينبغي أن يقال؛ لأن الخمر يزيل العقل بمخامرته أي تغطيته، وهي لا تزيل العقل ولا تخامره، بل ربما كان شاربها أقوى الذهن، حاد الإدراك، جيد الحافظة. والموجود عند فقدها لا يسمى مخامرة، وإنما هو كسل.
__________
1 زيادة في "د" والمطبوع.
2 سورة هود: الآية "118، 119".
3 في "د": صرحا.
4 في "أ": "تضمنا". بإسقاط الهاء.
5 في جميع النسخ: أو. وهو هنا غير صالح؛ إذ إنه في مقابلة همزة الاستفهام.
6 في "أ": قوت.(2/833)
وفتور لها، لا بها، فافهم أيها الأخ، "واعط القوس باريها" 1.
وأما قولك: وإذا عرضت مضارها على العاقل منهم شهد بها وعابها:
فيقال: أي عاقل يراد هنا؟ أما العامة ومن لا عناية له بمعرفة الأحكام الشرعية والأصول الدينية، فعقولهم لا تصلح أن تكون ميزانا 2 أو أن تستقل بحكم. وأما أهل العلم والدين وأهل البصائر من ورثة سيد المرسلين، فعقولهم يُرجع إليها مع اتفاقهم 3.
وإن اختلفوا فالميزان هو الكتاب والسنة.
وقولك: وإذا وزنتها العقول السليمة، لا شك أنها لهو ولعب: فاللهو واللعب ما لا يعود بمنفعة أصلا، أو يعود بمضرة رجحت على مصلحته، وإدخال القهوة في هذا التعريف يحتاج إلى أصول ومقدمات؛ "لو يعطى الناس بدعواهم ... " الحديث 4.
وما ذكرت من التعاليل قد يجري في كل مباح؛ كإضاعة المال، والاجتماع على القيل والقال، والحاجة إلى السؤال. وليس ذلك الوصف لازما للقهوة. وكذلك تُلهي كثيرا من الناس عن الصلاة، وتضيع عليهم الأوقات، فهذا قد يجري لأهل الشهوات والمبايعات والمزاورات، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} الآية 5.
__________
1 اعط القوس باريها: مثل عربي، معناه: استعن على عملك بمن يحسنه من أهل المعرفة والحذق. وهو من قول الشاعر:
يا باري القوس بريا لست تحسنها ... لا تفسدنها وأعط القوس باريها
مجمع الأمثال للميداني، 1/642؛ جمهرة الأمثال، 1/66.
2 وهكذا سائر العقول، لا تصلح أن تكون ميزانا في وضع الأحكام في الشرعيات. فذلك مرده إلى الشارع.
3 وذلك في مجالات الاجتهاد عند عدم وجود النص.
4 الحديث تقدم تخريجه في ص 814. وإيراد المصنف له هنا، للدلالة على أن إدخال الهوة ضمن أمور اللهو واللعب، لا يكتفى فيه بمجرد الدعوى، وإنما بحاجة إلى دليل.
5 سورة المنافقون الآية "9".(2/834)
وأما كونها لا تغني من جوع ولا تروي، فهذا الوصف يأتي على كثير مما تتعاطونه من المباحات ولم تأت الشريعة بتحريم ما لا يغني من جوع ولا يروي {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} 1.
وأما كون مزرعها من بلاد الكفار، فمتى كان عندكم امتناع عما زرعه الكفار، ونسجه الكفار، وخرج من بلاد الكفار، وجمهور أموالكم ومأكلكم من هذا الضرب، " ثكلتك أمك يا معاذ" 2 أو "ويح عمار" 3، قد كانت. /المدينة/4 في عهد النبوة، يجلب إليها من بلاد الكفار أنواع المآكل والأدهان والملابس التي نُسجت وصبغت ببلاد الكفار، كما لا يخفى على من له أدنى نظر في الأخبار.
وأما ما زعمت من ضررها على أهل الجهاد، فمن الظرائف التي لا يستظرفها
__________
1 سورة مريم: الآية "64".
2 هذا جزء من حديث طويل لمعاذ بن جبل، وفيه: " ... ثم قال: "ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ " قلت: بلى يا نبي الله، فأخذ بلسانه، قال: " كف عليك هذا"، فقلت: يا نبي الله، وإنا لمؤاخذون مما نتكلم به فقال: "ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يُكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟ ". سنن الترمذي، 5/13، الأيمان، باب ما جاء في حرمة الصلاة. سسن ابن ماجه، 2/373، الفتن باب كف اللسان في الفتنة.
ولفظ: "ثكلتك أمك" هنا: كأنه دعا عليه بالموت لسوء فعله، أو أراد: إذا كنت هكذا، فالموت خير لك لئلا تزداد سوءا. ويجوز أن يكون من الألفاظ التي تجري على ألسنة العرب، ولا يراد بها الدعاء، كقولهم: "تربت يداك". النهاية لابن الأثير، 1/217؛ لسان العرب، 11/89، مادة "ثكل".
3 هذا جزء من حديث أبي سعيد في قصة بناء المسجد قال: كنا نحمل لبنة لبنة، وعمار لبنتين لبنتين، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم، فينفض التراب وعنه ويقول: ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار". صحيح البخاري مع الفتح، 1/644، الصلاة، باب التعاون في بناء المسجد. صحيح مسلم بشرح النووي، 18/255، الفتن، باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل فيتمنى مكان الميت من البلاء.
قال ابن حجر: "ويح عمار" كلمة رحمة.
4 في "أ": في المدينة. بزيادة "في"، وهو خطأ من الناسخ.(2/835)
إلا فقيه النفس، ذكي الطبع، وربما قبل بعكس القضية 1 لما فيه من تنشيف البلغم وتجفيف المواد المكسلة الرديَّة.
وأما قولك: ويصرف فيها من بيت المال كيت وكيت، فمتى صار النظر –أصلحك الله - منصرفا إلى توفير/هذه/2 الجهة، ووضعها في مواضعها الشرعية، والصرف في المباح أولى من الصرف في المحرم الصرف.
وأما اختلاف أهل العلم عند خروجها، لو قيل: عند حدوثها، لكان أليق باللغة الشرعية، فنعم هو ذاك، ولكن لا دليل فيه على المنع. وقد قيل:
تخالف الناس حتى لا اتفاق لهم ... إلا على شجب والخلف في الشجب 3
وأما صرف الأموال العظيمة من أهل نجد، فهذا القول من جنس ما قبله، فإن مجاوزة الحد في كل مباح، داخلة في حقيقة السرف، والمحرم/نفس/4 السرف، ولو في المآكل الضرورية.
ولو صرف الأخ النجيب فكرته ونظر إلى ما تعطل من أصول الدين، ودعائم الملة، وما تلاعب به الجهال من الأحكام الشرعية الدينية، وما دهم أهل نجد في هذه السنين من قبض العلم، وارتفاع الجهال، وترك الالتفات إلى تربية أهل الملة، بتعليم ما يحتاجونه من أصول دينهم، وما جاء به عن نبيهم صلى الله عليه وسلم، والتفطن لذلك، والاهتمام به، وصرف الهمة إلى تحصيله، وأن لا يطلب على الفضلة إن طُلب؛ لكان هذا أولى وأجدر أن تقع المذاكرة فيه، والسؤال عنه. وأما أمر القهوة، فقد كفانا شأنه من سلف من أهل العلم والدين 5.
__________
1 أي قد يقال بإفادة القهوة لأهل الجهاد، للتعليل الذي ذكره.
2 ساقطة في "أ".
3 البيت للمتنبي في ديوانه، 1/95.
4 في "أ": ونفس.
5 قد تقدم ذكر بعض كلامهم في القهوة في ص 832.(2/836)
/وبلغ سلامنا حسن والعيال، وعيالنا يسلمون، وأنت سالم/1، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته./وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم/2 /تسليما كثيرا إلى يوم الدين/3.
__________
1 زيادة في "ب" و "ج" و "د".
2 ساقط في "ب" و "ج".
3 زيادة في "د".(2/837)
الرسالة السبعون: إلى عبد الله بن علي بن جريس
...
الرسالة السبعون1
قال جامع الرسائل:
وله أيضا –قدس الله روحه، ونور ضريحه - رسالة إلى عبد الله بن علي بن جريس 2، /وقد راسله يسأله/3 عن صلاة التراويح في السفر جماعة، وعن اتفاق الغزى 4 على الصوم فيه/5.
فأجابه –رحمه الله تعالى - فقال:
بسم الله الرحمن الرحيم 6
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، إلى الأخ المكرم عبد الله بن علي بن جريس، سلمه الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على نعمه. والخط وصل. وسرنا ما ذكرت من الأخبار/عنكم/7 وعن الإمام 8 وعن عمان. فالحمد لله على سوابغ الفضل والإحسان، وأوصيك بتقوى الله، والرغبة فيما عنده، والتماس مرضاته والحذر من الاغترار بهذه الحياة الدنيا؛ فإن الله حذر عن الاغترار بها في مواضع من كتابه 9
__________
1 في المطبوع جاءت هذه الرسالة في ص 303-304، وهي الرسالة رقم "56". وجاءت في "ب" في ص 131-132 متقدمة على الرسالة السابقة. وهي بأكملها مكررة في "ج"، في ص 222، وص 255. وهذه الأخيرة في اللوحة الأخيرة من تلك النسخة.
2 تقدم ضمن تلاميذ الشيخ في ص 95.
3 في "ج": "وقد سأله عبد الله..".
4 في "أ" و "د" والمطبوع: الغزو. وهو ساقط في "ب" و "ج". "والغزي" بمعنى الغزاة، كما قال تعالى: {أَو كَانُوا غُزَّى} [آل عمران: 156] . لسان العرب، 15/124، مادة "غزا".
5 ساقط في "ب" و "ج".
6 البسملة ساقطة في "ب" و "ج".
7 في "د": عنك.
8 لم أعرفه.
9 ومن ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بالله الغَرُورُ} [فاطر: 5] .(2/838)
واذكر قول العلامة ابن القيم –رحمه الله تعالى-:
وإن تك قد عاقتك سعدى فقلبك الـ ... معنى رهين في يديها مُسلَّم 1
والبيتين بعده، واعرف ما المراد بسعدى.
وتسأل في خطك عن صلاة التراويح في السفر جماعة.
فاعلم أن العبادات توقيفية، وترك الشارع للفعل مع قيام مقتضيه، دليل للترك، كما أن فعله دليل لطلب الفعل. وقد سافر النبي صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه عدة أسفار في رمضان، ولم ينقل عنه ولا عن أحد من أصحابه –فيما بلغنا - فعلها جماعة. وهذا دليل كاف سالم من معارض.
والثاني: أن المشروع في السفر قصر الرباعية 2 وترك نوافل الرواتب 3، وهي آكد النوافل على الصحيح، بل لم يشرع الجمعة والعيدين 4 وهما فرضان، وهذا بين بحمد الله. وأيضا فقول شيخ الإسلام ومن وافقه: يفعل النوافل المطلقة في السفر، لا
__________
1 البيت للإمام ابن القيم –رحمه الله- ضمن قصيدته الميمية المطبوعة ضمن مجموعة كتب تحت اسم: أربح البضاعة في معتقد أهل السنة والجماعة، ص 73.
2 انظر: فتح القدير لابن الهمام، 2/31، والأم للشافعي، 1/314؛ مغني المحتاج؛ 1/262؛ روضة الطالين، 1/389؛ المغني مع الشرح الكبير، 2/90؛ كشاف القناع، 1/593.
3 انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية، 22/280، 23/128.
غير أنه إن فعل ذلك جاز، وصحت منه. انظر: الأم، 1/321، والمغني مع الشرح الكبير، 2/140.
4 انظر فتح القدير لابن الهمام، 2/49؛ الأم للشافعي، 1/400؛ المغني مع الشرح الكبير، 2/193، 194؛ المبدع في شرح المقنع لابن المفلح، 2/142؛ حاشية الروض المربع، 2/425؛ مسائل الإمام أحمد، رواية ابنه عبد الله، تحقيق: د. علي سليمان المهنا، ط/1/1406هـ-1986م، مكتبة الدار بالمدينة المنورة، 2/407، 418؛ الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، تحقيق محمد حامد الفقي، ط/2/1406هـ-1986م، 2/368.(2/839)
المقيدة 1، يدخل هذه القضية، ويستفيدها طالب العلم منه.
وقولك في الورقة: "وهو مما تسن له الجماعة"؛ عبارة فيها تساهل، والجماعة تشرع له تعبا، لا استقلالا، كما هو مقرر في محله 2.
وأما اتفاق الغزى على الصوم، فكنت أحب لهم فعل الأفاضل 3، وموافقة السنة في عدم الاتفاق على ترك قبول الرخصة التي يحبها الله 4. هذا، واعلم أن هذا هو الموجب 5 لترك فعلها جماعة.
وأما النهي عن ذلك، فلم/أنه/6 أحدا عنه. /وبلغ سلامنا الإمام ومحمد
__________
1 مجموع فتاوى شيخ الإسلام، 22/279، 23، 128. وانظر: نيل الأوطار، 3/249؛ المغني مع الشرح الكبير، 2/123. والفقه الإسلامي وأدلته، 2/348-349.
والحنفية يجيزون الإتيان بالرواتب للمسافر في حال أمن وقرار، أي نازلا مستقرا، وإن كان في حال خوف وفرار –أي في السير- لا يأتي بها. الدر المختار، 1/742.
2 ذلك أن المسافر إن اقتدى بمقيم، أتم أربعا. انظر: فتح القدير لابن الهمام، 2/38؛ الأم، 1/318؛ روضة الطالبين للنوري، 1/392؛ المغني معا لشرح الكبير، 2/128.
3 والأفضل في السفر الأخذ بالرخصة بترك الاتفاق على الصوم، وذلك لما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "ليس من البر الصوم في السفر". صحيح البخاري مع الفتح، 4/216، الصوم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن ظلل عليه واشتد الحر:"ليس من البر الصوم في السفر". صحيح مسلم بشرح النووي، 8/240، الصوم، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية، إذا كان سفره مرحلتين فأكثر، وأن الأفضل لمن أطاقه بلا ضرر أن يصوم، ولمن يشق عليه أن يفطر.
4 هنا يشير الشيخ –رحمه الله- إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب أن يؤتى رُخصه، كما يحب أن يؤتى عزائمه" وفي رواية: "كما يكره أن تؤتى معصيته". المعجم الكبير للطبراني، 11/323، صحيح ابن حزيمة، للإمام أبي بكر محمد بن إسحاق ابن خزيمة "ت311هـ"، تحقيق: د. محمد مصطفى الأعظمي، المكتب الإسلامي، بيروت، ط/1، 1391هـ-1971م، 2/73. سلسلة الأحاديث الصحية، 1/330.
5 في "ج" و "د": الواجب.
6 كذا في "ب" والمطبوع. وفي بقية النسخ: أنهى.(2/840)
وراشد/1 /وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم/2.
مسألة ملحقة في آخر"ج"، وهي:
بسم الله الرحمن الرحيم
كتب شيخنا عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن الشيخ حسن بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب –أحسن لهم المآب وأجزل لهم الثواب - في مسألة بيع النخل.
بالدين الحال في الذمة قبل قبضه ما لفظه:
وبعد: عرض علينا أحمد العجيري خطا فيه حكم سعيد بن عيد، بصحة العقد والبيع الذي صدر من سهل بن باتل/3 /كمال الثمر دين سلم قبل قبضه.
كتبت على هذا الحكم بأنه لا ينقض، وأنه لازم، كما عليه أهل العلم في أن هذا الحكم لا ينقض إذا حكم به من يراه، وقد حكم به شيخنا محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، وقال بصحته شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله.
__________
1 زائد في "د".
2 ساقط في "ج". وذكر بدله: والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبه انتهت نسخة "ج".
ذكر ناسخ "ج" في ص 224، مسألة قصيرة في بيع النخل بالدين الحال في الذمة قبل قبضه. ثم ذكر بعدها فائدة –في نفس الصفحة- وهي حديث في مسند الإمام أحمد. وبه تنتهي النسخة. وسأذكر المسألة والفائدة هنا في آخر هذه الرسالة. وذكر في هامش نفس الصفحة: "في ملك الفقير إلى الله –سبحانه- عبد الله بن أحمد البرلي، غفر الله له ولوالديه وللمسلمين. وصلى الله على محمد وسلم. سنة 1297هـ". وقد جاء في الصفحة 225-243، رسالة، وهي تكرار لرسالة متقدمة في صفحة "151-163" من نفس النسخة. ذكر في هامش هذه "المكروه":" وقف لوجه الله –تعالى- على يد عيسى آل مهوس إن شاء الله تعالى". أما من صفحة "244 إلى آخر النسخة 255" فهو تكرار للرسائل من صفحة "206-223".
3 كلمة لم أستطع قراءتها. وكأنها: "على كون".(2/841)
ثم رأيت رشيد بن عوين تعرض لهذا، ولم يشرح له صدره، لأنه رأى خلافا لبعض الفقهاء نسبه لكل العلماء، ولم ينظر ما قالوه في أن حكم القاضي لا ينقض بمثل هذا الخلاف. وهو في كتابه الذي نقله منه.
إذا عرفت هذا، فالعمل على ما حكم به سعيد، لا ينقض. انتهى المقصود. وصلى الله على محمد وسلم.
فائدة:
وقد ذكر الإمام أحمد –رحمه الله - حديثا في مسنده، عن ابن عمر –"-فقال: حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا الأوزاعي، عن عبدة بن أبي لبابة، عن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن لله –تعالى - أقواما /يختصهم/1 بالنعم لمنافع العباد، /ويقرهم فيها/2 ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها منهم وحولها إلى غيرهم"3. ذكره الحافظ ابن الأخضر فيمن روى عن أحمد.
__________
1 كذا في المسند. وفي المخطوط "ج": اختصهم.
2 ساقط في "ج".
3 الحديث لم أجده في مسند الإمام أحمد. وقد أورده أبو نعيم في الحلية، 6/115، و10/215؛ والطبراني في الأوسط، حديث رقم "5295". قال الهيثمي في المجمع 8/192: "رواه الطبراني في الأوسط والكبير، وفيه محمد بن حسان السمتي، وثقه ابن معين غيره، وفيه لين، ولكن شيخه أبو عثمان عبد الله بن زيد الحمصي، ضعفه الأزدي". وذكره الألباني في السلسلة الصحيحة، عن ابن أبي الدنيا في "قضاء الحوائج" "رقم5"، والطبراني في "الأوسط"، "5295"؛ وأبو نعيم في "الحلية"، "6/115 و 10/215"؛ والخطيب في "التاريخ"، 9/459، عن محمد بن حسان السمتي، حدثني عبد الله بن زيد الحمصي: حدثنا الأوزاعي عن عبدة بن أبي لبابة عن ابن عمر مرفوعا به. وقال:"قلت: وهذا إسناد ضعيف، محمد بن حسان السمتي صدوق لين الحديث كما قال الحافظ. عبد الله بن زيد الحمصي، قال الأزدي: ضعيف. قلت: لكنه قد توبع ... " ثم ذكر له متابعات، ثم قال: "وعلى كل حال، فالحديث عندي حسن بمجموع هذه المتابعات، وقد قال المنذري في الترغيب 3/250: "رواه ابن أبي الدنيا والطبراني في الكبير والأوسط، ولو قيل بتحسين إسناده لكان ممكنا".السلسلة الصحيحة، 4/264، 266.(2/842)
الرسالة الحادية والسبعون: إلى جماعة من أهل الزلفي
...
الرسالة الحادية والسبعون1
قال جامع الرسائل:
وله أيضا –قدس الله روحه، ونور ضريحه - رسالة إلى جماعة أهل الزلفي 2، هذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأمير المكرم ناصر آل عبد الله الراشد، والإخوان عبد المحسن السلمان، وأحمد آل عبيد، وجار الله آل حمد، ورشيد آل علي، وموسى الشايع، وحمود آل عبد الله آل جار الله 3، سلمهم الله تعالى، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
خطر تعدد الجمعة لغير عذر وصلت خطوطكم، وتذكرون أن بعض جماعتكم انفردوا بأنفسهم، وفارقوا جماعتهم،/وجعلوا لهم جمعة في/ المحلة/4 الأولة، وأنهم قبل ذلك/ كانوا/5 مجتمعين مع جماعتهم/6 يصلون جمعة واحدة، وأن بعض
__________
1 في المطبوع جاءت هذه الرسالة في ص 305-306، وهي الرسالة رقم "57". وجاءت في "ب" في ص 132-133. وهي ساقطة في "ح".
2 الزلفي: بضم الزاي المشددة، وإسكان اللام وكسر الفاء فياء. من ديار عيد الرباب، من تميم، وهي مدينة عامرة، ذات أحيا مثل: العقدة، والبلاد، وعلقة وغيرها. يحدها من الشمال رمل "الثويرات"، ومن الجنوب حدود "الغاط"، ومن الشرق رمل "الضويحي"، ومن الغرب "المستوي". ويلحق بها قرى وعقل منها: "سمتان، والحيطان، وعريعرة، والسيح، والروضة، واللغف، والجردة، وأميهة الذيب"، تبعد عن الرياض "285كم".
معجم اليمامة لابن خميس، 1/529، 530، 531، 535.
3 جميع الأعلام المرسل إليهم هنا، لم أجد لهم تراجم، وكلهم من أهل الزلفي كما أشار إليه جامع الرسائل في مقدمة الرسالة.
4 كذا في المطبوع. وفي "أ": "في الحلة".
5 زائد في المطبوع.
6 من قوله "وجعلوا لهم" إلى هنا ساقط في "ب".(2/843)
من ينتسب إلى العلم.
أفتاهم بانفرادهم وصلاتهم جمعة ثانية في البلد، لغير حاجة تدعو إلى ذلك.
فاعلم أن الذي عليه جمهور أهل العلم، تحريم تعدد الجمعة في قرية واحدة يشملها اسم القرية، وكذا ما قرب منها عرفا، أو سمع النداء فلا يجوز تعدد الجمعة 1، وتفريق جماعة المسلمين، إلا لحاجة كضيف المسجد، وبعدهم عن القرية 2.
وقد كان الناس/ على/3 عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتون الجمعة من العوالي 4 وما حاذاها؛ وهي على ثلاثة أميال من المدينة. وجرى العمل بذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعهد أبي بكر وعمر ومن بعدهم.
وصرح علماؤنا ببطلان صلاة من صلى جمعة ثانية بغير إذن الإمام 5, وبغير حاجة داعية، وأوجبوا عليه الإعادة ظهرا 6.
وقواعد الشرع تدل على هذا؛ فإن الجمعة إنما شُرعت للائتلاف والمودة والمعاونة على ذكر الله، وتفقه أهل الإسلام بعضهم من بعض، وتحصيل الفضل بالكثرة، وإغاضة العدو بترك الفرقة. ودلت أصول الشريعة أيضا/ على تحريم/7 ما أوجب الفرقة واختلاف الكلمة والمشاقة، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً
__________
1 الأم للشافعي، 1/331؛ روضة الطالبين، 2/5؛ مغني المحتاج، 1/281؛ المغني مع الشرح الكبير، 2/186.
2 روضة الطالبين، 2/5؛ المغني مع الشرح الكبير، 2/184-185، 190-191؛ المبدع في شرح المقنع، 2/661.
3 في "د": في.
4 العوالي: ضيعة بينها وبين المدينة ثلاثة أميال. معجم البلدان للياقوت، 4/166. وقال الإمام مالك: "العوالي على ثلاثة أميال". المدونة؛ 1/153.
5 فتح القدير لابن الهمام، 2/54؛ مغني المحتاج، 1/281؛ المبدع في شرح المقنع، 2/166، 167.
6 الأم، 1/331؛ المغني مع الشرح الكبير، 2/191.
7 في "أ" و "ب" و "د": بتحريم.(2/844)
وَلا تَفَرَّقُوا} 1. وانفرادهم عن الجماعة بالسكنى في
عقدة 2 أخرى، لا يبيح مفارقة الجماعة بإحداث جمعة أخرى، ومن رأى هذا من المسوغات والمبيحات لهذا الفعل المخالف لأصول الشرع، فهو مصاب في عقله.
فالواجب عليكم نصحهم وإرشادهم ودعوتهم إلى الله برفق. {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} 3. /والسلام/4 /وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم/5.
__________
1 سورة آل عمران: الآية "103".
2 العقدة: أحد أحياء مدينة الزلفي. معجم اليمامة لابن خميس، 1/530-531.
وانظر: تعريف "الزلفي" المتقدم في ص 843.
3 سورة الأحزاب: الآية "4".
4 زائدة في "ب" و "د".
5 ساقط في "د".
وإلى هنا نهاية ما جاء في نسخة "ب" من الرسائل، وفق هذا الترتيب، وهي فيه بصفحة الأخيرة "233-237" وهي الرسالة رقم "34"، اقتضى تقديمها هناك وفقا للترتيب الوارد في النسخ الأخرى.(2/845)
الرسالة الثانية والسبعون: جواب رسالة لمحمد بن زومان
...
الرسالة الثانية والسبعون1
قال جامع الرسائل:
وله أيضا –قدس الله روحه ونور ضريحه - جواب رسالة لمحمد بن زومان، وقد راسله محمد برسالة يسأله عن حط العصا في المسجد يوم الجمعة 2. وذكر له أن الشيخ حمد بن عبد العزيز 3 نهاهم عنها وانتهوا.
فلما أن الناس/أسملوا/4 عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عادوا إلى تحجيز المسجد بالعصا. فأجابه بما ستقف عليه، وهذا نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته: وبعد:
ما يجوز تحجيز المسجد بالعصا ومن سبق واستمر في المسجد فهو أحق بمكانه 5. فمن خرج لبيع أو شراء أو نحو ذلك؛ فترمى عصاه وينصحه الإمام؛ فإن انتهى وإلا يرفع أمره إلى الأمير والسلام.
__________
1 هذه الرسالة واردة في "د" فقط.
2 أي لحجز مكان في المسجد.
3 تقدمت ترجمته في ص 92.
4 أسملوا: من سمل يسمل سملا. أي أصلح. وأسمل بينهم: أصلح بينهم. ومنه السامل: وهو الساعي لإصلاح المعيشة. وعليه فالمقصود هنا: أن الناس قد سعوا لإصلاح معاشهم، واشتغلوا بذلك، وتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
5 وهذا ما قاله العلماء. قال ابن قدامة –رحمه الله-: "وإن فرش مصلى له في مكان ففيه وجهان: أحدهما: يجوز رفعه والجلوس في موضعه؛ لأنه لا حرمة له، ولأن السبق بالأجسام لا بالأوطئة والمصليات. ولأن تركه يفضي إلى أن صاحبه يتأخر ثم يتخطى رقاب المصلين، ورفعه ينفي ذلك.
والثاني: لا يجوز، لأن فيه افتياتا على صحبه، ربما أفضى إلى الخصومة". المغني مع الشرح الكبير، 2/206، 213. وقد رجح الشيخ –رحمه الله- القول الأول، وبه أفتى. وانظر المسألة أيضا في: الفقه الإسلامي وأدلته، 2/308.(2/846)
الرسالة الثالثة والسبعون: إلى عبد المحسن بن سلمان
...
الرسالة الثالثة والسبعون1
قال جامع الرسائل:
وله أيضا –قدس الله روحه ونور ضريحه - رسالة إلى عبد المحسن بن سلمان 2 راع الزلفي، هذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ عبد المحسن بن سلمان –سلمه الله تعالى - سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فنحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، على نعمه. والخط وصل، وصلك الله ما يرضيه. وما ذكرت صار/معلوما/3، وامام /ألزم/4 سلمان الذي كتب له، تشرف عليه إن شاء الله، والأمر ممكن ولو بعد حين؛ ولا تدخروا التعاون على التقوى.
نرجو أن الله يوفقنا وإياكم ويرزقنا السداد.
ومن جهة أصحية بنت ابن خريف، فالنظر في الأضحية لوليها، وعليه تقديم القريب إن كان أحق بما يستحقه من اللحم.
وأما الولاية فمتعينة لمن أوصى إليه بالنظر. هذا كلام الفقهاء. وبلغ سلامنا العيال، ونشكو إليك عجلة سلمان. وإن أراد سلمان الرجع فتشير على عبد العزيز يُقبل معه لطلب العلم. ومن لدينا الشيخ الوالد يسلم، والسلام.
__________
1 هذه الرسالة واردة في "د" فقط.
2 تقدم في ص 843.
3 في "د": معلوم.
4 هكذا في المخطوط، ولم أعرف مراده.(2/847)
الرسالة الرابعة والسبعون: إلى أهل عرقة
...
الرسالة الرابعة والسبعون1
قال جامع الرسائل:
وله/أيضا –قدس الله روحه ونور ضريحه - رسالة إلى أهل عرقة 2 هذا نصها/3:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى من يراه من أهل عرقة، سلمهم الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
أشرفت على خط الوالد الشيخ –رحمه الله - 4 نقل في خطه فتوى شيخنا الشيخ محمد/بن عبد الوهاب/5 - /رحمه الله تعالى، وعفا عنه/6 - قال الوالد فيه: لا يخفاكم أن شيخنا محمد/ بن عبد الوهاب/7 - رحمه الله وعفا عنه - أفتى أهل سدير بأن نائبة الجهاد تصير على الثمرة./و/8 كتبناها لإخوانكم من أهل البلدان، أنها ما تخص راعي الحلال في نصيبه. هكذا رأيت وكتبت. انتهى.
وقد نقلت هذه العبارة لحاجة الناس إليها، خصوصا هذه الأيام. والعدل من أوجب الواجبات، حتى في النوائب. كما أفتى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية –رحمه الله - في
__________
1 هذه الرسالة واردة في حاشية "أ" ص 59-60، وهي آخر رسالة في "د".
2 عرقة: كذا في المخطوط. والظاهر أن المراد: "العرقة" بالتعريف. قال ياقوت: "من قرى اليمامة، لم تدخل في صلح خالد "يوم مسيلمة". أما "عرقة" فيه من نواحي الروم. معجم البلدان، 4/110.
3 في "أ": "وله لأهل عرقة".
4 نهاية لوحة "118" من نسخة "د" التي فيها وردت هذه الرسالة.
5 ساقط في "أ".
6 في "د" "رحمهم تعالى وعفى عنهم".
7 ساقط في "أ".
8 ساقط في "أ".(2/848)
النوائب السلطانية. فنظراء الديرة يجب عليهم النظر في هذا، والتسوية بحس الثمرة، /وبحسب/1 الجدة 2 والتجارة، وقد ذكر –سبحانه - الجهاد بالمال في كتابه، وقدمه على الجهاد بالنفس في مواضع من القرآن3. وإذ ترك الناس هذا مع الحاجة إليه، فقد هدموا وأضاعوا ركنا/ عظيما/4 من أركان الإسلام، وأنتم سالمون والسلام 5.
__________
1 زائد في "د".
2 الجدة: أي الجديد. ابن منظور /لسان العرب، مادة "جدد"، 3/109.
3 من ذلك قوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 41] .
وقوله تعالى: {فََضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} [النساء: 95] .
وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال: 72] .
4 ساقط في "د".
5 هنا آخر نسخة "د".(2/849)
الرسالة الخامسة والسبعون: جواب سؤال ورد عليه من أهل المجمعة
...
الرسالة الخامسة والسبعون1
قال جامع الرسائل:
وله –رحمه الله - رسالة جواب سؤال ورد عليه من أهل المجمعة، أحببت أن أنقل السؤال بحروفه لأجل الاطلاع على صورته، وهو: بسم الله الرحمن الرحيم، وجه تسطيره والباعث على رقمه وتحريره هو أن الشيخ أحمد بن عثمان بن شبانة لما ترشح للولاية حين كان يومئذ آهلا لذلكن نصب نفسه للاستنابه للمسلمين، عدلا منه فأجر الشيخ أحمد بن محمد قطعة الأرض الذي في القبلية الرميحية، وهي وقف إبراهيم بن سيف، تصرف غلتها على قوام "دلو مسقات" مسجد إبراهيم بن سيف، في الجيوش، في بلدة المجمعة. فكانت حينا تزرع، وأكثر الأعوام ما تزرع، فاجتهد أناس عدول في النظر في المصلحة في دلو المسقات، وفيما هو أنفع للمسلمين، وأن المصلحة أن تؤجر الأرض المذكورة عدة سنين، فتجعل أجرة مقسطة على الأعوام. فأجر أحمد المذكور الأرض المفروزة المحصورة، كل عام بعشرين محمدية بصرية، من ضرب البصرة الرائحة يومئذ بين الناس. فاستأجر أحمد المذكور من أحمد المذكور مع توفر أركان الإجارة الخمسة المعروفة عند أهل المعرفة، فصحت الإجارة للإتيان بشروطها الثلاثة المعتبرة، فصارت إجارة شرعية صحيحة لازمة، مرضية جارية على قانون الشرع وجادته النقية وأحكامه الواضحة الجلية، لا يتطرق إليها بطلان ولا فساد بالكلية، فبموجب ذلك وصحته ونفوذه ولزومه حكما، لم يبق لمن أجر ولا لمن يأتي من جهتهم في ذلك المؤجر حق ولا تبعة، ولا طلبته بوجه من الوجوه الشرعية، بل صار ذلك ملكا ثابتا وحقا لازما ومالا محوزا لأحمد بن محمد التويجري، يتصرف فيه ما شاء بما شاء، من غير مانع ولا منازع.
شهد على ذلك من أوله إلى آخره الشيخ سليمان بن عبد الوهاب، وشهد على
__________
1 وردت هذه الرسالة في حاشية "أ" ص 55-58.(2/850)
ذلك من أوله إلى آخره وحرره وثبت عنده، وصح شرعا وأمضاه وألزمه حكما، خادم الشرع الشريف الفقير إلى عفو ربه –سبحانه - محمد بن عثمان بن عبد الله بن شبانة. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم - جرى ذلك سنة 1186هـ.
فأجاب الشيخ –رحمه الله-:
بسم الله الرحم الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الإخوان حمد بن ركبان، وسليمان بن الحقيل، ومحمد الحمضي، وعبد الله السناني، وحمد بن عثمان بن صالح، وعبد الله بن محمد، وعثمان بن عبد الله بن عولة، وجماعة أهل مسجد إبراهيم. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
والخط وصل، وصورة الحفيظة وصلت، وما/ذكرتم/1 صار معلوما خصوصا من جهة الصبرة التي في وقف ابن سيف وما أصابه من التعطيل.
ولا يخفاكم أن مدَّة الإجارة إذا انقضت وفي الأرض شجر أو غرس، فيبقى الشجر والغرس والبناء بأجرة المثل إن شاء رب الأرض. وإن كانت وقفا، فأمرها إلى الناظر الخاص إن كان، وإلا فإلى الحاكم الشرعي؛ لأن له النظر العام، ولا عبرة بأجرة الأرض مدة الإجارة المذكورة بعد انقضائها. فالذي أرى أن الأرض المغروسة تبقى على عادة المغارسة في تلك البلد حتى يفنى الغراس ولا يحتاج لذكر مدة. هذا إن كان فيه مصلحة للوقف، وإلا فالأمر إلى الناظر المتقدم ذكره. والحجة التي نقلت من وثيقة ابن شبانة، وصلت إلينا ولها مائة سنة وسنتان "102". وعلى القول بصحتها، قد انقضت مدة الإجارة التي يصححها بعض الفقهاء، مع أن الوثيقة لم تذكر فيها مدة الإجارة، وترك ذكر المدة يبطل العقد، فيحتمل أن المدة ذكرت في مجلس العقد ولم تذكر في الوثيقة، والله أعلم أي ذلك كان.
__________
1 في الأصل: ذكرتوا.(2/851)
وفي الحجة أن ابن شبانة نصب نفسه وتولَّى الأحكام من غير ولاية شرعية، والإجارة لم تصدر عمَّن يعتبر تصرفه في الوقف. وفي الحجة أنه قال: لم يبق لمن أجر ولا لمن يأتي من جهته في ذلك المؤجر حق، ولا تبعه ولا طلبه بوجه من الوجوه الشرعية، بل صار ذلك ملكا ثابتا وحقا لازما، ومالا محوزا لأحمد بن محمد التويجري.
وليس الأمر كذلك في الإجارة، لأن الملك للمؤجر؛ لا للمستأجر، والمستأجر له الانتفاع فقط. وإنما يقال ذلك في البيع الشرعي. وهذا الجهل قادح في حكمه، وليس للمستأجر إلا ما أحدث من شجر أو بناء، وبعد انقضاء مدة الإجارة، يبقى في الأرض بأجرة المثل إن شاء الناظر، وكانت المصلحة في ذلك كما تقدم. وبلغوا سلامنا الجماعة. والعيال يسلمون عليكم والسلام. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. جرا ذلك في 1289هـ.(2/852)
الرسالة السادسة والسبعون: إلى الشيخ عبد العزيز بن حسن
...
الرسالة السادسة والسبعون1
قال جامع الرسائل:
وله أيضا رسالة إلى الشيخ عبد العزيز. وهذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم الشيخ عبد العزيز بن حسن –سلمه الله تعالى - سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على نعمه. وخطك وصل، وتأخر جوابه لكثرة الاشتغال، والله المستعان. وتسأل عن وجوب صلاة الجمعة على أهل القرى الذين لم يبلغ العدد منهم أربعين من أهل الوجوب. اعلم أنهم اتفقوا على أن من شرط وجبها وصحتها، الجماعة 2.
واختلفوا في مقدار الجماعة.
فمنهم من قال: واحد والإمام، هذا مذكور عن ابن جرير الطبري 3.
ومنهم من قال: اثنان سوى الإمام، لأن أقل الجمع عنده اثنان 4.
ومنهم من قال: ثلاثة دون الإمام وقائل هذا يرى أن أقل الجمع ثلاثة، لا اثنان 5.
__________
1 وردت هذه الرسالة في حاشية "أ" ص 58-59.
2 انظر: فتح القدير لابن الهمام، 2/60؛ المبسوط، 2/24؛ الشرح الكبير، 1/377؛ الشرح الصغير، 1/496؛ مغني المحتاج، 1/282؛ روضة الطالبين، 2/10.
3 لم أقف على قوله هذا.
4 قال بهذا الليث والإمام أبو يوسف.
انظر: المبسوط، 2/24؛ والجامع لأحكام القرآن، 18/73.
5 المبسوط للسرخسي، 2/24؛ المبدع في شرح المقنع، 2/152؛ والجامع لأحكام القرآن 18/73.(2/853)
والكلام مبسوط في أقل الجمع في شرح التحرير وغيره، والقول الأخير هو قول أبي حنيفة. ومنهم من اشترط أربعين، وهو قول الشافعي وأحمد 1. وقال قوم: ثلاثين ومنهم من قال: يجوز بما دون الأربعين، إلا الثلاثة والأربعة، ولم يشترط عددا، وإنما ذكر جوابا أوردوه، وهو أنه لا تجب إلا على عدد تتقرَّى بهم قرية 2.
وأصحاب القولين الأولين أخرجوا الإمام عن مسمى الجمع؛ للاختلاف في دخوله في مسمى الجماعة. وأصحاب القول الأخير يقولون: الجمع في غالب الأحوال له حكم غير ما يطلق عليه/3 /في جميعها، بل هم الذين يمكنهم أن يسكنوا على حدة من الناس. وهذا يروى عن مالك. ويروى عنه أيضا اشتراط اثني عشر من أهل القرية 4. وكلا القولين معروف.
ومن اشترط الأربعين كالشافعي وأحمد وجماعة من السلف، فإنما صاروا إلى ما صح من أن هذا العدد كان في أول جمعة صليت بالناس 5. فهذا هو حد شرطها. أعني شرط الوجوب.
__________
1 الأم للشافعي، 1/328؛ مغني المحتاج، 1/282؛ روضة الطالبين، 2/7؛ المغني مع الشرح الكبير، 2/171، 172؛ المبدع في شرح المقنع، 2/150-151؛ والجامع لأحكام القرآن، 18/73.
2 انظر: الشرح الكبير للدردير، 1/377؛ الشرح الصغير، 1/496.
3 كلمة غير واضحة في الأصل.
4 وهو أيضا قول ربيعة. انظر: الشرح الكبير للدردير، 1/377؛ الشرح الصغير، 1/497؛ والجامع لأحكام القرآن، 18/73.
5 كما ورد في الأثر: "عن عبد الرحمن بن كعب، عن أبيه كعب بن مالك أنه كان إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحم لأسعد بن زرارة، فقلت له: إذا سمعت النداء ترحمت لأسعد بن زرارة، قال: لأنه أول من جمع في هزم النبيت من حرة بني بياضة، في نقيع يقال له نقيع الخضمات، قلت: كم أنتم يومئذ؟ قال أربعون". سنن أبي داود، 1/645-646، الصلاة، باب الجمعة في القرى. المستدرك للحاكم، 1/281، قال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي".(2/854)
واشتراط الصحة من أن من الشروط ما هو شرط للوجوب فقط لا للصحة، وهذا من أحسن الأقوال، وبه يتفق أغلب كلام المختلفين.
إذا عرفت هذا، فإنهم اختلفوا أيضا في الأحوال المرتبة التي اقترنت بهذه الصلاة عند فعله إياها صلى الله عليه وسلم، هل هي شرط في الصحة والوجوب، أم ليس بشرط؟ وتلك الجماعة والمصر والاستيطان. ومن رآه دليلا اشترطه، ومنهم من رجح بعضها دون بعض، واشترطه في المرجح لا غير. وبعضهم لم يرها دليلا، ورجح في الاشتراط والوجوب/أدلة/1 أخرى لعموم الجماعة في سائر الصلوات.
ولقائل أن يقول: لو كانت هذه الأحوال شرطا في صحة الصلاة، لما جاز أن يسكت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أن يترك بيانها، لقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 2 هذا ما يحضرني. فإن رأيت خللا فلا جناح عليكم في إصلاحه. والسلام.
__________
1 في الأصل: إلى أدلة.
2 سورة النحل: الآية "44".(2/855)
الرسالة السابعة والسبعون: جواب على سؤال
...
الرسالة السابعة والسبعون1
قال جامع الرسائل:
وله –قدس الله روحه ونور ضريحه - جواب سؤال، قال السائل فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. ما قولكم –سدد الله أقوالكم - فيمن يدعو المسلم لأمه، مع معرفته أبيه، هل يسوغ ذلك أو لا؟
وما قولكم في الاستئذان؛ هل يسوغ تركه إذا كان بالمجلس من الرجال الأجانب من قد أذن له، أو لا بد من الاستئذان والحالة هذه؟ فالجواب:
إن الله جل ذكره قال في شأن زيد بن حارثة "لما دعاه الناس زيد بن محمد: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ، ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} 2، وهذه الآية الكريمة دلت على وجوب دعاء الرجل لأبيه، فإن جهل فيدعى بالإخوة الإسلامية أو بمولى فلان أو آل فلان، ولم يذكر قسما رابعا وهو دعاؤه إلى أمه. ونسبة الرجل إلى أمه تأنف منه العرب وأهل المروءة، فضلا عن أهل العلم والدين، لما في ذلك/3 / والده، والتنويه بأمه بين الأجانب، وما ظننت عاقلا يرضى هذا ويستحسنه، فضلا عن أن ينكر على من كرهه ونهى عنه 4، وإن كانت نصا في دعوى الرجل إلى من تبناه غير أبيه، فهي عامة في دعائه لأنه، إن قوله {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ} نص في أنه لا يُدعى لغيره ولا شك في دخول الأم في الغير، وعلى هذا فالنص عام وإن قيل بخصوصه أخذا من خصوص السبب، فلا مانع من إلحاق النظير بنظيره.
__________
1 وردت هذه الرسالة في حاشية "أ" ص 60-61.
2 سورة الأحزاب: الآيتان "4، 5".
3 سواد في الأصل. ولعله: لما في ذلك من هضم حق الده.
4 لعل هنا سقط "والآية".(2/856)
والجمهور يرون في هذه المسألة أن عموم اللفظ مقدم في الاعتبار على خصوص السبب. والأول قال به بعض الأصوليين، وجماهير أهل العلم والتأويل قد رجحوا الثاني.
وقوله: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ} عام في ترك دعائهم لغيرهم، وإن كان المدعو إليه أمَّا فتفطَّن.
أما المسألة الثانية:
فنص آية الاستئذان عام، يدخل في هذه الصور المسئول عنها، وإدخال زيد وعمرو ليس فيه دلالة على الإذن لبكر وخالد، فكل قادم يشرع له أن يستأذن إذا أراد دخول بيت وغيره، إلا أن يأذن رب البيت له/1 /صريحا لكل من دخل. والمعروف من أقوال أهل العلم، أن فتح الباب ليس صريحا في الإذن، كما في الحديث: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" 2 والله أعلم. قاله وأملاه عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
1 كلمة غير واضحة، وكأنها: فاتحا.
2 سنن الترمذي، 4/576-577، صفة القيامة والرقائق والورع، باب "60". قال الترمذي "هذا حيث حسن صحيح". سنن النسائي، 8/328، الأشربة، باب الحث على ترك الشبهات.
مسند الإمام أحمد، 1/152، 295. المستدرك للحاكم، 2/13، 4/99. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وانظر تخريجه في شرح السنة، للبغوي، 8/17، قال المحقق: "إسناده صحيح".(2/857)
الرسالة الثامنة والسبعون: جواب على سؤال
...
الرسالة الثامنة والسبعون1
قال جامع الرسائل:
وله –رحمه الله - جواب سؤال قال فيه السائل:
الذي يعلم به الأخ المكرم والمحترم الموقر الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن –لطف الله بن في الدارين، وجعله ممن يؤتى أجره مرتين، و/2 /وأمَّنه مما يحذر ويخاف آمين - سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
منعنا الله بما دعت الحاجة والفتية المباركة من طرفك، وهي: أن رجلا تزوج امرأة على صداق خمسة إريل، فلما جاء الصبح أعطاها ثلاثة إريل. ولما أتى بعد ذلك، ادعى أن الثلاثة الذي أعطاها إصباحه أنهن من الصداق المذكور، وعادت بنات عمها وأخواتها إصباحتهنَّ أكثر من ذلك.
أفتنا مأجورا، وأجب جوابا شافيا تغنم أجرا وافيا. وأنت في أمان الله وحفظه والسلام.
بسم الله الرحمن الرحيم
الجواب: ما أعطاه الزوج زوجته عند الدخول والبناء بها مما جرت به العادة لأمثالها، كالذي تعطاه صبيحة الدخول لا يحتسب به من صداقها عند المفارقة أو المطالبة بالصداق، ولو نوى ذلك لعدم الإعلام والإشهاد عند القبض.
كتبه عبد اللطيف بن عبد الرحمن. ونقلته من خطه الذي كتبه بيده، وعليه رسمه. وذلك في سنة 1343هـ، بقلم الربيعي.
__________
1 وردت هذه الرسالة في حاشية "أ" ص 63-64.
2 هنا كلمتان غير واضحتين. وكأنهما "خفاه بالألطاف".(2/858)
الرسالة التاسعة والسبعون: إلى عثمان بن حسين وجماعته أهل الحوطة
...
الرسالة التاسعة والسبعون1
قال جامع الرسائل:
وله –قدس الله روحه ونور ضريحه - رسالة لعثمان بن حسين وجماعته أهل الحوطة.
بسم الله الرحمن الرحيم. من عثمان بن حمد بن حسين وجماعته أهل الحوطة، إلى الأخ المكرم الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن –سلمه الله تعالى سلامة الدين، ودمغ به حزب الشيطان المتمردين - سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وغير ذلك، لنا أرض يقال لها الخضيري مزارع للحوطة، ملكا سابقا ومسابلها من الوادي الراكدة، ووضائمها وغفلنا عنها من قلة حاجتنا لجلب سيلها من المداريج الراكدة وطمع أهل الجنوبية في هذه الغفلة، ويوم بغينا حقنا من السيل الراكد السابق بالأول، منعونا أهل الجنوبية، وقوفا منا بلدان، وصدرا منا مثلها، ومن/2 /شرب من سيل الوادي المتصل ثم ينحدر على الذي صدرا منه، والجنوبية صدرا من الحوطة، وندخل على الله، ننخا الله أن انحن/3 نتعدى بغير حق على أحد. ويلزمنا تشريفك لفتيا الشريعة. أفتنا مأجورا غير مأزور. هذا، وبلغ سلامنا الوالد والإمام والأولاد. والإخوان يسلمون عليك. والسلام.
بسم الله الرحمن الرحيم
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. والخط وصل. وما ذكرتم كان معلوما، ومن المعلوم المشتهر عند الفقهاء، أن الأعلى يسقي قبل الأسفل ويحبس إلى الجدار. ومن
__________
1 وردت هذه الرسالة في حاشية "أ" ص 65-66.
2 كلمة غير واضحة. كأنها: تعايّ.
3 عبارة عامية، معناها: أننا نعظم الله ونكبره، من أن نتعدى.... فقوله: "ننخا" من نخا والنخوة: العظمة والكبر. لسان العرب، 15م 313، مادة "نخا".(2/859)
خالف في ذلك فلا التفات إليه يكون معلوما. وأنتم سالمون والسلام. وكاتبه عبد الرحمن بن علي بن حسن، ينهي السلام والسلام. حرر في سنة 1285هـ.
بسم الله الرحمن الرحيم 1 من عبد الله بن فيصل إلى من يراه، السلام، وبعد: العمل على ما ذكره الشيخ أعلاه، يكون معلوما. والسلام.
حرر في /5/ذي ك/2 1285هـ.
__________
1 من هنا ابتداء بالبسملة، تعميد من الأمير عبد الله الفيصل، لما أفتى به الشيخ عبد اللطيف في المسألة.
2 كذا رسم في الأصل. ولم أعرف أيهم، ذي القعدة أو ذي الحجة.(2/860)
الرسالة الثمانون: إلى عبد العزيز بن حسن
...
الرسالة الثمانون1
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم عبد العزيز بن حسن، سلك الله بنا وبه أهدى السنن. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على سوابغ نعمائه وجزيل فضله وعطائه –جعلنا الله وإياك ممن عرف نعمة الله عليه فاستعان بها على ما يقربه إليه. والخط وصل وصلك الله بالرضا. وما أشرت إليه، فصار لدينا معلوما.
أما الخطوط التي تذكر أنك أرسلتها إلينا قبل هذا الخط الأخير، فلم تصل، ولم يصل منك في هذا العام قبل هذا الخط.
وأما الجواب عن المسألتين، فلا يخفى أن أما بالتخفيف تأتي على وجهين:
أحدهما: أن تكون حرف استفتاح، كما في قوله: "أما أني لم أكن في صلاة" 2 ويقع أيضا قبل القسم، كما في قوله: "أما والذي أبكي وأضحك والذي أمات وأحيا والذي أمره الأمر، لقد تركتني أحمد الوحش أن أرى أليفين 3 منهالا
__________
1 وردت هذه الرسالة في حاشية "أ" ص 66-68.
2 هذا قول حصين بن عبد الرحمن، وهو جزء من حديث طويل، عن حصين بن عبد الرحمن قال: كنت عند سعيد بن جبير فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض بالبارحة؟ قلت: أ، ا، ثم قلت: أما أ، ي لم أكن في الصلاة، ولكني لُدغت. قال: وكيف فعلت؟ قلت استرقيت، قال: وما حملك على ذلك؟ قلت: حديث حدثناه الشعبي عن بريدة الأسلمي أنه قال: "لا رقية إلا من عين أو حمة" قال: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع. ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عرضت عليّ الأمم، فرأيت النبي ومعه رهط، والنبي ومعه رجل أو رجلين، والنبي وليس معه أحد، إذ رُفع لي سواد عظيم فقلت هذه أمتي، فقيل: هذا موسى وقومه، ولكن انظر إلى الأفق فإذا سواد عظيم.... فقيل هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب.." الحديث. أخرجه الإمام أحمد في مسنده. 1/271.
3 كذا في الأصل "اليفين"، وفي اللسان: اليَفنُ: الشيخ الكبير ... واستعاره بعض العرب للثيران المسن. وقيل: اليفن: الصغير أيضا، وهو من الأَضداد، لسان العرب، 13/457، مادة "يفن".(2/861)
يروعهن الذعر 1.
وقول الأعصم:
أما والذي حجت له العيس وارتمى ... لمرضاته شعث طويل ذميلها
للانْ نائبات الدهر يوما/أدلْنَ لي/2 ... على أم عمرو دولة لا أقيلها
وقول الآخر:
أما يستفيق القلب إن ما بدا له ... توهم طيف من سعاد ومربع
وخادع عن أطلالها العين أنه ... متى تعرف الأطلال عيني تدمع
عهدت بها وحشا عليها براقع ... وهذي وحوش أصبحت لم تبرقع
وهذا إذا قصد تنبيه المخاطب لما بعدها، والإشارة إلى أن ما بعدها مما يهتم به وطيف إليه كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا لعنة الله على اليهود والنصارى"3 "ألا هل بلغت ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب4.
وكقول الشاعر:
ألا لا يجلهن أحد علينا 5
__________
1 لم أقف على مصدره.
2 في "أ" أدلن لي.
3 أخرجه البخاري في صحيحه مع الفتح، 1/633-634، الصلاة، باب "55". صحيح مسلم بشرح النووي، 5/16، المساجد، باب باب النهي عن بناء المساجد على القبور؛ سنن النسائي، 2/40، المساجد، باب النهي عن اتخاذ القبور مساجد؛ وأحمد في مسنده، 6/275، وعندهم بدون لفظ "ألا".
4 صحيح البخاري مع الفتح، 10/6، الأضاحي، باب من قال: الأضحى يوم النحر. صحيح مسلم بشرح النووي، القسامة، 11/181-182، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال.
5 هذا صدر لبيت من قصيدة عمرو بن كلثوم التغلبي. وعجزه. فنجهل فوق جهل الجاهلينا.
انظر ديوانه بتحقيق. د. أميل بديع يعقوب، نشر دار الكتاب العربي، بيروت، ط/1، 1411هـ/1991م، ص 78.(2/862)
وكما في قوله:
ألا ليت حظي من عطاياك أنني ... علمت وراء الرمل ما أنت صانع
والثاني: بمعنى حقا أو أحقا. وزعم بعض الناس أنها تكون حرف عرض بمعنى لولا، فيختص بالفعل، كما في قولك: أما يقوم، أما يقعد ونحوه.
أما نحو: أما كان فيهم من يفهم، فالهمزة للاستفهام، وما حرف نفي، وليست مما نحن فيه فتنبه.
أما المسألة الثانية: وهي قولك: ما وجه نصب عدد خلقه، ورضى نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته 1؟.
فاعلم أن نصب هذه المصادر، على أنها نعت لسبحان؛ لأنه اسم محذوف العامل وجوبا، لكونه بدلا من اللفظ بفعل مهمل، كقول الشاعر:
ثم 2 قالوا: تحبها؟ قلت بهرا ... عدد /الرمل/3 والحصا والتراب 4
فبهر هنا منصوب على المفعولية المطلقة، لكونها هنا بمعنى عجبا، لكن فعله مهمل غير مستعمل، فلذلك حذف وجوبا، وعدد الرمل في البيت، نعت له، ويحتمل أن
__________
1 يشير هنا لحديث ابن عباس عن جويرية: "أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح وهي في مسجدها ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة فقال: "ما زلت على الحال التي فارقتك عليها؟ " قالت: نعم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات، لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتها، سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضى نفسه، وزنة عرضه، ومداد كلماته". صحيح مسلم بشرح النووي، 17/48، الذكر والدعاء، باب التسبيح أول النهار وعند النوم. سنن أبي داود، 2/171، الوتر، باب التسبيح بالحصي؛ سنن الترمذي 5/519-520، الدعوات، باب 104، سنن النسائي، 3/77 للسهو، باب نوع آخر من عدد التسبيح.
2 كذا في الديوان، وهو ساقط في المخطوط.
3 كذا في المخطوط، وفي الديوان "النجم".
4 ديوان أبي ربيعة، دار صادر للطباعة والنشر، بيروت، 1385هـ /1966م ص 424. وانظر أمالي المرتضى، 2/289.(2/863)
عدد وما عطف عليه، نصب على المفعولية المطلقة والعامل يقدر: سبحته ونزهته، فهو كقوله: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةَ} 1 لأن "سبحانه" على أنه معنى التنزيه والبراءة، أو على لفظه، فلا يعمل في المفعول. ويمكن أن يقال: لا حاجة إلى هذا التقدير؛ لأن الاسم قد يعمل لما فيه من رائحة الفعل، ويكون النصب لسبحان؛ ويقويه قول ابن مالك:
بمثله أو فعله وصف نصب ... وكونه أصلا لهذين انتخب 2
وأما زنته: فمعناه الموازن، والثقل بخلاف ما إذا كان بعده الفعل مستعملا، كقوله:
أفلا إذا شب العدى نار حربهم ... وزهوا إذا ما يجنحون إلى السلم 3
وقول الآخر:
خمولا وإهمالا وغيرك مولع ... بتثبيت أسباب السيادة والمجد 4
__________
1 سورة النور: الآية "4".
2 ألفية ابن مالك في النحو والصرف، لمحمد بن عبد الله بن مالك الأندلسي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط/1/1405هـ-1985م، باب المفعول المطلق.
3 البيت لعمرو بن كلثوم التغلبي. انظر ديوانه ص 78. والقصيدة من ضمن المعلقات.
4 البيت لم أقف على قائله، لم أعرف مصدره.(2/864)
الرسالة الحادية والثمانون: إلى صالح الشثري
...
الرسالة الحادية والثمانون1
قال جامع الرسائل:
/وله –رحمه الله-/2 رسالة إلى صالح الشتري:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم صالح الشتري، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وموجب الخط إبلاغ السلام، وما أشرت إليه من قول الفقهاء في الرخصة أنها: ما ثبتت على خلاف [دليل] 3 شرعي لمعارض راجح. وضدها العزيمة.
فالجواب: اعلم أن العزيمة حكم ثابت بدليل شرعي خال عن معارض راجح.
فقوله: بدليل شرعي، احترازا مما ثبت بدليل عقلي.
وقوله: خال عن معارض، احترازا مما ثبت بدليل لكن لذلك الدليل معارض له، مساو له أو راجح لأنه إن كان المعارض مساويا، لزم الوقوف وانتفت العزيمة، ووجب طلب المرجح الخارجي؛ وإن كان راجحا لزم العمل بمقتضاه، وانتفت العزيمة وثبتت الرخصة؛ كتحريم الميتة عند عدم المخمصة، فالتحريم فيها عزيمة، لأنه حكم ثابت بدليل شرعي، خال عن معارض، فإذا وُجدت المخمصة، حصل المعارض لدليل التحريم وهو راجح عليه حفظا للنفس، فجاز الأكل وحصلت الرخصة.
وأما الرخصة: فهي ما ثبت على خلاف دليل شرعي. احترازا عما ثبت على وفق الدليل؛ فإنه لا يكون رخصة بل عزيمة؛ كالصوم في الحضر.
__________
1 وردت هذه الرسالة في حاشية "أ" ص 68-70.
2 بياض في الأصل.
3 ما بين المعقوفتين زيادة مني لضرورة استقامة المراد؛ إذ لا وجود له في الأصل. ولعله سقط عند النسخ.(2/865)
وقوله: لمعارض راجح، احترازا مما كان لمعارض غير راجح، بل إما مساويا فليزم الوقوف على حصول المرجح، أو قاصرا عن مساواة الدليل الشرعي فلا يؤثر، وتبقى العزيمة بحالها.
وعلى التعريف المذكور يدخل في العزيمة الأحكام الخمسة الثابتة بالأدلة الشرعية، ويدخل في الرخصة ما عارض تلك الأحكام وخالفها لمعارض راجح عليها؛ كأكل الميتة عند المخمصة.
وسلم لنا على العيال، وأنت سالم والسلام. وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين. بلغ على الأصل وكتبه الربيعي سنة 1343هـ.(2/866)
الرسالة الثانية والثمانون: الكلام على البسملة
...
الرسالة الثانية والثمانون1
قال جامع الرسائل:
وللشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن أيضا كلام على بسم الله الرحمن الرحيم وجده الكاتب بعد الرسائل التي في الهامش، قال –قدس الله روحه ونور ضريحه-:
في بسم الله الرحمن الرحيم أربعة مواضع، تدل على وجوب توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له.
الأول: في متعلق الباء، إذا قُدر متأخرا فإنه يفيد الحصر والاختصاص، وتقديره: بسم الله أُؤَلِّف لا باسم غيره. لأن المشركين يستعينون بأسماء آلهتهم، كالمسيح ومريم واللات والعزى ونحو ذلك.
والموحد يخص الله –سبحانه - ويفرده باستعانته، كما يخصه ويفرده بركوعه وسجوده، وغير ذلك من عباداته.
والموضع الثاني: في اسمه الله. فإنه دال على أنه –سبحانه - هو المستحق لأن يعبد وحده لا شريك له، بما فيه من المعنى الموضوع له وهو عَلَمِيتَّه على ذي الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين. فسره به حبر الأمة ابن عباس 2. وكلام غيره يدل على ذلك أيضا.
والموضع الثالث: في وصفه –تعالى - بالرحمن؛ فإنه صفة دلت على أنه –تعالى - اتصف بغاية الرحمة ومنتهاها. ومَنْ هذا وصفه وهذا رحمته فقصد غيره وعبادة سواه ورجاؤه من أضل الضلال وأبطل الباطل وأسفه السفه، وهكذا الاستدلال بجميع صفات الكمال كالعلم والقدرة وغير ذلك.
الموضع الرابع: في اسمه الرحيم؛ فإن معناه: الذي أوصل ويوصل إلى عباده غاية
__________
1 وردت هذه الرسالة في حاشية "أ" ص 70-72.
2 انظر: جامع البيان للطبري، 1/54؛ والجامع لأحكام القرآن للقرطبي، 1/72.(2/867)
الرحمة ومنتهاها، وكل ما في الموجودات من أنواع النعم والهداية والخيرات فمن رحمته وفضله وإحسانه. فمن هذا فعله بعبيده، وهذه رحمته لهم هو الذي يستحق ويجب أن يعبد ويقصد ويرجى ويناب إليه، والعدول إلى غيره ضلال بعيد، وجهل عظيم، وشرك وخيم. {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} 1. ومن تأمل ما في الكتاب والسنة من صفات الكمال ونعوت الجلال، فتح له باب عظيم في معرفة الله وحقه، ووجوب توحيده –تعالى - وتقدس عن أن يكون له شريك. والله أعلم.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
__________
1 سورة الأنعام: الآية "1".(2/868)
ثالثا: الرسائل الخاصة بالفتن
الرسالة الثالثة والثمانون: إلى عبد الرحمن بن إبراهيم
...
الرسالة الثالثة والثمانون1
قال جامع الرسائل:
وله أيضا - رحمه الله وعفا عنه - رسالة إلى عبد الرحمن بن إبراهيم "ابا الغنيم" يعظه فيها عن مجالسه من افتتن بموالاة أعداء الله ورسوله، من العساكر الهاجمة على بلاد المسلمين. والتحذير من رسالة ابن عجلان. وقد سماها الشيخ – رحمه الله-: "حبالة الشيطان" وذكر أنها دهليز يفضي إلى استباحة موالاة المشركين، والاستنصار بهم، وكذلك ذكر فيها حكم المتغلب إذا كان مسلما، وأن ما وقع منه من الظلم والغشم وسفك الدماء ونهب الأموال، كل ذلك لا يوجب الخروج عليه، ولا نزع اليد من طاعته. وهذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ عبد الرحمن بن إبراهيم "أبا الغنيم"، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
والخط وصل – وصلك الله بالفقه والبصيرة، وأصلح لك العمل والسريرة - وما ذكرت من المحبة والمودة، فما كان لله يبقى وإن طال الزمان به، ويذهب ما سواه.
والذي أوصيك به تقوى الله – سبحانه وتعالى-، والنظر في سبب ما جرى عند هذه الفتنة الظلماء، من المهاجرة بيننا والمقاطعة، وشرحه لك فيه تذكرة وموعظة.
لما وقعت الفتنة نأيت بجانبك عن الاسترشاد والاستفادة، واستحسنت المراء في الدين واللجاج، صدر منك ذلك في غير ما مجلس، حتى أسأت الأدب في السوق، وخاطبتني خطب من لا يدري الحقائق، ولا يهتدي لأوضح المسالك والطرائق، ونظرت بعين، وغمضت الأخرى، ونكبت عما هو أولى بالإصابة وأخرى، وأقبلت في
__________
1 في "ب": جاءت هذه الرسالة متأخرة، في لوحة 23-28. وردت هذه الرسالة في الدرر السنية، 7/175-179.(2/871)
تلك الأيام على الملإ المفتونين بخطوط العساكر التي وصلت إلى بلدتنا، وأنت تدري ما فيها من الصد عن سبيل الله وهدم دينه، ومطاردة أوليائه، والتنويه بذكر أعداء الله، والدعوة إلى طاعتهم، والدخول تحت أمرهم، وتخويف المسلمين منهم. وقد صرح كثير من الناس بالدخول تحت أمرهم، وظهر الفرح والسرور من كثير ممن يدعي الإسلام، وأنت أيها الرجل ممن يتردد إلى هؤلاء المفتونين، ويأنس ببعضهم، ويصغي إلى شبهاتهم وجهالاتهم، ولم تلتفت إلى بحث ومحاقة ولا استرشاد، كما هو الواجب لله عند تلك الفتنة والشبهات، لكنك غلَّبت جانب الهوى، وأكثرت تلك الأيام من مجالسة من يضر ولا ينفع، ولا يني 1 /من/2 إغوائه ولا ينزع، وقد جاء الأثر: أن من جالس صاحب البدعة نزعت من العصمة 3. فكيف بما هو أكبر من البدعة وأعظم؟!.
ولم يبلغني عنك تلك الأيام ما يسرني، من قيام لله، ونصرة لدينه، اللهم إلا ما جرى على لسانك من دعوى البراءة من الشرك وأهله على سبيل الإجمال، لا التفصيل. وقد علم الله أن العبرة بالحقائق،/و/4 ليس الإيمن بالتمني ولا
__________
ت
__________
1 لا يني: أي لا يفتر ولا يتعب. لسان العرب، 15/415، مادة "وني".
2 في المطبوع: عن.
3 أخرجه محمد بن وضاح القرطبي، "ت286هـ" في كتابه: البدع والنهي عنها، بتحقيق محمد أحمد دهمان، دار البصائر، ط/2، 1400هـ-1980م، دمشق، ص 48. من كلام "كثير أبي سعيد" وزاد: " ... ووكل إلى نفسه".
وقد ورد في النهي عن مجالسة أهل البدع آثار عدة منها:
1 - ما روى عن عبد الله بن المبارك: "يكون مجلسك مع المساكين، وإياك أن تجالس صاحب بدعة". شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، للآلكائي، "ت418هـ".
تحقيق: د. أحمد سعد حمدان الغامدي، دار الطيبة، الرياض، ط/1، 1/137.
2 - وروي عن ابن عباس –رضي الله عنهما - قال: "لا تجالس أهل الأهواء، فإن مجالستهم ممرضة للقلوب". الشريعة، للإمام أبي بكر محمد بن الحسين الآجري، تحقيق محمد حامد الفقي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط/1/1403-1983م، ص 61.
4 الواو زائد في المطبوع. وهو ضروري للربط بين الكلام.(2/872)
بالتحلي، ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال 1.
ولم تزل على ما وصفنا، تطير مع من طار، وتغير علينا بالتخطئة، والمراء مع من أغار، ومثلك كان يظن به الخير، ويأسى عليه الصاحب، وأنت وإن لم تكن كل الفقيه والطالب، فقد حنكتك التجارب، وقعدتك الحوادث والمذاهب، لولا ما عارضها من صحبة جلساء السوء، الذي يدعونك إلى أهوائهم وأغراضهم الفاسدة، لا سيما أخصهم لديك وأحبهم إليك، فإنه – كما قيل: "المس مس أرنب، والطبع طبع ثعلب" 2. وقد اتهم في السعي فيما يقوي عضد المشركين، ويوهن عزم الموحدين، وإلى الله المصير، وهو الحكم بيننا وبين من أعان على هدم الإسلام من صغير وكبير، ومأمور وأمير.
__________
1 هذا قول الحسن بن صالح بن حي، أخرجه الخطيب البغدادي "ت463هـ"، في كتابة اقتضاء العلم العمل بتحقيق محمد ناصر الدين الألباني، ضمن مجموعة أربع رسائل، دار الأرقم، الكويت، ط/2، 1405هـ-1985م، ص 177.
وهذه قاعدة مهمة في مسألة الإيمان، تبين دخول الأعمال في مسمى الإيمان، وأنه لا يكتفي فيه بمجرد نطق اللسان، وإنما يجب أن يصحبه تصديق القلب وعمل الجوارح. وذلك هو عقيدة السلف في مسمى الإيمان. كتاب الإيمان، لأبي عبيد القاسم بن سلام، "ت224هـ" تحقيق محمد ناصر الألباني، دار القلم، الكويت، ط/2، 1405هـ-1985م، ص53.وكتاب الإيمان لابن تيمية، ص 151.
2 مثل عربي. ورد الجزء الأول منه "المس مس أرنب" في حديث أم زرع الذي أخرجه البخاري ومسلم، عن عائشة قالت: جلس إحدى عشرة امرأة فتعاهدن وتعاقدن أن لا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئا، قالت الأولى: زوجي لحم جمل، غث على رأس جبل، لا سهل فيرتقى ... وقالت الثامنة: زوجي المس مس أرنب والريح ريح زرنب ... الحديث صحيح البخاري مع الفتح، 9/163-164، النكاح، باب حسن المعاشرة مع الأهل. صحيح مسلم بشرح النووي 15/221-231، فضائل الصحابة، باب ذكر حديث أم زرع.
ومعنى قوله: المس مس أرنب" أنها وصفت زوجها بلين الجانب، وكرم الخلق، تشبيها بليونة المس ونعومة الوبر التي تتصف بهما الأرانب. شرح النووي على صحيح مسلم 15/225؛ فتح الباري، 9/173(2/873)
وأيضا، فأهل الإحساء قد اشتهر حالهم، وأنهم ألقوا لسلم إلى عساكر الدولة 1 واختاروا ولايتهم، وصرحوا بطاعتهم، ونصروهم بالقول، وعاملوهم معاملة الأخ مع أخيه، بل جاءت خطوط التجار المترفين أولي النعمة بتزكيتهم والثناء عليهم، وانتصب ولدك لخدمتهم، وقضاء حوائجهم، ولم يظهر لي منك قيام بحق الله عند هذه الدواهي العظام، التي تمانع الإيمان والقرآن والإسلام، وتنتثر منه عقد النظام، والله أعلم بسرك، وهو الرقيب عليك، لكني أحكي ما ظهر لي منك ذاك الوقت، وقد ظهر أثر ما ذكرنا، وعقوبة ما أليه أشرنا، بإقبالك واشتغالك بحبالة الشيطان "رسالة ابن عجلان"، فطرت بها طيران من لا يلوي على أهل ولا صاحب، كأنها العهد الرباني، والوصية النبوية، واشتغلت بقراءتها وسماعها مع جماعة من العوام والصبيان. وتلك الرسالة دهليز 2 يفضي إلى استباحة موالاة المشركين، والاستنصار بهم على المسلمين، والحكم على عصر شيخ الإسلام ابن تيمية – من أهل مصر والشام - بالشرك والمكفرات.
وفيها 3 أ، جلب عباد الأصنام إلى بلد الإسلام، والاستعانة بهم على من خرج عن الطاعة، ليس بذنب. ولولا أن حجاب الجهل والهوى من أكثف الحجب وأغلظها، لتبين شناعة ما فيها للناظرين من أول وهلة، وبمجرد الفطرة. "شعر":
أَكُل امرئ تحسبين أمرّأ ... ونار تُوقد في الليل نارا 4
ثم هنا مسألة أخرى، وداهية كبرى، دهى بها الشيطان كثيرا من الناس، فصاروا
__________
1 يريد بالدولة العثمانية، فهي التي أرسلت عساكرها إلى الإحساء عام 1288هـ، بقيادة نافد باشا، عند ما استنجد بها عبد الله بن فيصل بن تركي، بعد هزيمته من أخيه سعود. وقد تقدم بيان ذلك في القسم الدراسي ص50-51.
2 الدهليز: المدخل بين الباب والدار، ابن منظور، لسان العرب، مادة: "دهلز" 5/349؛ وانظر: المعجم الوسيط، مادة "دهلز".
3 أي في رسالة ابن عجلان.
4 البيت لأبي داؤد الإيادي. انظر: ديوانه، ص 53. وهو من شواهد النحو في باب الإضافة حيث حذف "كل" وأبقى المضاف إليه مجرورا، والتقدير: وكل نار توقد.(2/874)
يسعون فيما يفرق جماعة المسلمين، ويوجب الاختلاف في الدين، وما ذمه الكتاب المبين،/ويقتضي الإخلاد/ 1 إلى الأرض، وترك الجهاد، ونصرة رب العالمين، ويقضي إلى منع الزكاة، وشب نار الفتن والضلالات، فتلطف الشيطان في إدخال هذه المكيدة ونصب لها حججا ومقدمات، وأوهم أن طاعة بعض المتعلِّبين، فيما أمر الله به ورسوله /من/2 واجبات الإيمان، وفيما فيه دفع عن الإسلام وحماية لحوزته؛ لا تجب – والحالة هذه - ولا تشرع.
/ولم يدر/3 هؤلاء المفتونين، أن أكثر غلاة أهل الإسلام من عهد يزيد بن معاوية 4 -حاشا عمر بن عبد العزيز رحمه الله 5، ومن شاء الله من بني أمية-6 قد وقع منهم ما وقع من الجرأة والحوادث العظام، والخروج والفساد في ولاية أهل الإسلام، ومع ذلك، فسيرة الأئمة الأعلام والسادة العظام معهم، معروفة مشهورة، لا ينزعون يدا من طاعة، فيما أمر الله به ورسوله من شرائع الإسلام، وواجبات الدين. وأضرب لك مثلا بالحجاج بن يوسف الثقفي 7، وقد اشتهر أمره في الأمة بالظلم
__________
1 في المطبوع: ويقضي بالإخلاد.
2 كذا في المطبوع، وفي جميع النسخ: في.
3 في "د": ولم يدري.
4 هو يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، ثان خلفاء الأمويين، تسلم الملك بعد وفاة أبيه سنة: "60هـ" اشتهر بفعله بأهل المدينة في وقعة الحرة المشهورة، "ت64هـ".
انظر: سير الأعلام، 4/35-40؛ تهذيب التهذيب، 11/360؛ شذرات الذهب، 1/71.
5 هو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم، الخيفة الزاهد الراشد، أشج بني أمية. "ت101هـ". انظر حلية الأولياء، 5/253، تذكرة الحفاظ، 1/118؛ سير الأعلام، 5/114-148؛ تهذيب التهذيب، 7/475.
6 مثل: هشام بن عبد الملك، انظر: سيرته في سير الأعلام؛ 5/351. وشذرات الذهب، 1/163.
7 هو الحجاج بن يوسف الثقفي، يروي كتب التاريخ أنه: كان ظلوما جبارا سفاكا، حاصر ابن الزبير بالكعبة، ورماها بالمنجنيق، وأذل أهل الحرمين. "ت95هـ". انظر: سيرته في: سير الأعلام، 4/343، تهذيب التهذيب، 4/199؛ وشذرات الذهب، 1/126.(2/875)
والغشم والإسراف في سفك الدماء، وانتهاك حرمات الله، وقتل من قتل من سادة الأمة؛ كسعيد بن جبير1، وحاصر ابن الزبير 2، وقد عاذ بالحرم الشريف. واستباح الحرمة، وقتل ابن الزبير 3، مع أن ابن الزبير قد أعطاه الطاعة، وبايعه أهل مكة والمدينة واليمن، وأكثر سواد العراق، والحجاج نائب عن مروان 4 ثم عن ولده عبد الملك 5 ولم يعهد أحد من الخلفاء إلى مروان، ولم يبايعه أهل الحل والعقد، ومع ذلك، لم يتوقف أحد من أهل العلم في طاعته، والانقياد له، فيما تسوغ طاعته فيه، من أركان الإسلام وواجباته.
وكان ابن عمر 6 ومن أدرك الحجاج من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينازعونه، ولا يمنعون من طاعته فيما يُقومُ به الإسلام، ويكمل به الإيمان، وكذلك
__________
1 هو سعيد بن جبير بن هشام، الإمام الحافظ المقرئ المفسر، أبو محمد الوالبي، قرأ القرآن على ابن عباس، قتله الحجاج سنة "95هـ".
انظر: سير الأعلام، 4/321-343؛ تهذيب التهذيب، 4/11
2 هو عبد الله بن الزبير بن العوم بن خوليد، القرشي الأسدي، أمير المؤمنين، أول مولود للمهاجرين بالمدينة، حاصره الحجاج في الكعبة، وقتله سنة "73هـ".
انظر ترجمته: سير الأعلام، 3/363-380؛ تهذيب التهذيب، 5/213؛ أسد الغابة، 3/242.
3 انظر قصة محاصرته وقتله: البداية والنهاية 8/334-337.
4 هو مروان بن الحكم بن أبي العاص، القرشي الأموي، أحد خلفاء بني أمية، من كبار التابعين، كان يوم الحرة مع مسرف بن عقبة، يحرضه على قتال أهل المدينة. "ت65هـ".
انظر الاستيعاب لابن عبد البر، 4/1387؛ أسد الغابة، 5/144؛ سير الأعلام، 3/476.
5 هو عبد الملك بن مروان بن الحكم، أبو الوليد الأموي، تملك بعد أبيه، وأرسل الحجاج لحرب ابن الزبير. "ت86هـ".
انظر: تاريخ بغداد، 10/388، سير الأعلام، 4/246؛ تهذيب التهذيب، 6/422.
6 هو عبد الله بن عمر بن الخطاب، من صغار الصحابة وأحد العبادلة الأربع الفقهاء. "ت73هـ، وقيل: 74هـ".
انظر: تاريخ بغداد، 1/171؛ أسد الغابة، 3/227؛ سير الأعلام، 3/203-239.(2/876)
من في زمنه من التابعين؛ كابن المسيب، 1 والحسن البصري، 2 وابن سيرين، 3 وإبراهيم التيمي، 4 وأشباههم من سادات الأمة. واستمر العمل على هذا بين علماء الأمة من سادات الأمة وأئمتها، يأمرون بطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والجهاد في سبيله مع كل إمام بر وفاجر، كما هو معروف في كتب أصول الدين، والعقائد 5.
وكذلك بنو العباس، استولوا على بلاد المسلمين، قهرا بالسيف، لم يساعدهم أحد من أهل العلم والدين، وقتلوا خلفا كثيرا، وجما غفيرا من بني أمية وأمرائهم ونوابهم، وقتلوا ابن هبيرة 6 أمير العراق، وقتلوا الخليفة مروان 7، حتى نقل أن السفاح 8 قتل
__________
1 تقدمت ترجمته في ص 496.
2 تقدمت ترجمته في ص 181.
3 هو محمد بن سيرين، أبو بكر الأنصاري، مولى أنس بن مالك، سمع أبا هريرة وابن عباس وأنس وغيرهم. "ت110هـ".
انظر: تاريخ بغداد، 5/331؛ سير الأعلام، 4/606؛ تهذيب التهذيب، 9/214.
4 هو إبراهيم بن يزيد التيمي، الإمام القدوة الفقيه، أبو أسماء، حدث عن أبيه وأنس بن مالك وجماعة، يقال: قتله الحجاج، وقيل: مات في حبسه سنة "92هـ، وقيل: 94هـ".
انظر: سير الأعلام، 5/60؛ تهذيب التهذيب، 1/176.
5 انظر: شرح العقيدة الطحاوية،440.
6 هو يزيد بن عمر بن هبيرة الفزاري، أبو خالد أمير العراقيين، نائب مروان الحمار، كان بطلان شجاعا فصيحا خطيبا، كان أبو مسلم الخراساني هو الذي أعرى السفاح بقتله سنة "132هـ". انظر: سير الأعلام. 6/27.
7 هو مروان بن محمد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم أبو عبد الملك الخليفة الأموي، يعرف بمروان الحمار؛ لأن العرب تسمي كل مائة عام حمارا. فلما قارب ملك آل أمية مائة سنة. لقبوه بالحمار، قتل عام "132هـ"، وبه انتهت خلافة بني أمية، وبويع السفاح قبل مقتله بتسعة أشهر.
انظر: سير الأعلام، 6/74-77.
8 هو عبد الله بن محمد بن علي أبو العباس السفاح، أول خلفاء بني عباس، بويع سنة "132هـ" و "ت136هـ".
انظر: تاريخ بغداد، 10/46 سير الأعلام، 6/77؛ البداية والنهاية، 10/60؛ شذرات الذهب، 1/183.(2/877)
في يوم واحد نحو الثمانين من بني أمية، ووضع الفرش على جثثهم وجلس عليها، ودعا بالمطاعم والمشارب1، ومع ذلك فسيرة الأئمة، كالأوزاعي 2 ومالك 3 والزهري 4، والليث بن سعد 5، وعطاء بن أبي رباح 6، مع هؤلاء الملوك، لا تخفى على من له/أدنى/7 مشاركة في العلم/ والإطلاع/8. والطبقة الثانية من أهل العلم؛ كأحمد بن حنبل 9، ومحمد بن إسماعيل 10،
__________
1 ذكر ابن كثير ذلك، عن عبد الله بن علي، أنه قتل في يوم واحد اثنين وتسعين ألفا، وبسط عليهم الأنطاع، ومد عليهم سماطا، فأكل.
البداية والنهاية 10/47.
2 هو عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد، أبو عمرو، الأوزاعي، شيخ الإسلام، عالم أهل الشام، ولد في حياة الصحابة، سنة "88هـ"، "ت157هـ".
انظر: حلية الأولياء، 6/135-149؛ سير الأعلام، 7/107-134؛ تهذيب التهذيب، 6/238-242.
3 هو الإمام مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر، أبو عبد الله المدني، صاحب المذهب المالكي. "ت179هـ".
انظر: سير الأعلام، 8/48-135.
4 هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله أبو بكر القرشي الزهري المدني، نزيل الشام، حافظ زمانه "ت124هـ"، وقيل غير ذلك. انظر: حلية الأولياء 3/360، سير الأعلام 5/326-350. تهذيب التهذيب 9/445.
5 هو الليث بن سعد بن عبد الرحمن، الإمام الحافظ عالم الديار المصرية، أبو الحارث الفهمي، ولد سنة "94هـ"، وتوفي سنة "174هـ".
انظر: حلية الأولياء، 7/318؛ تاريخ بغداد، 13/3؛ سير الأعلام، 8/136.
6 تقدمت ترجمته في ص 193.
7 ساقط في "ب" و"ج" و "د".
8 هكذا في المطبوع، وفي جميع النسخ وإطلاع.
9 هو الإمام أحمد بن حنبل صاحب، المذهب الحنبلي، "ت241هـ".
10 أبو عبد الله البخاري، "ت256هـ" صاحب الصحيح.(2/878)
محمد بن إدريس،1 /ومحمد بن نوح،/2 وإسحاق بن راهوية،3 وإخوانهم؛ وقع في عصرهم من الملوك ما وقع من البدع العظام وإنكار الصفات 4 ودعوا إلى ذلك وامتحنوا فيه، وقُتل من قتل، كمحمد بن نصر 5 ومع ذلك فلا يعلم أن أحدا منهم نزع يدا من طاعة، ولا رأى الخروج عليهم.
وإلى الآن يبلغني عنك أنتك تميل إلى ذلك الضرب من الناس الذين ويصفنا حالهم، فرضيت بهم في أمر دينك، وضربت عن سيرة الأئمة صفحا، وطويت على هجرها كشحا 6. فإن تبين لك هذا، ومَنَّ الله عليك بمعرفته، فأنت أخونا وصاحبنا القديم العهد، والجرح جبار، ولا حرج ولا عار، وإن بقيت عندك شبهة أو جادل مجادل، فاكتب واسأل كشفها، ولا تكتمها، فإني أحشى عليك قطاع الطرق، لا سيما عند
__________
1 هو محمد بن إدريس الشافعي، "ت204هـ"، صاحب المذهب الشافعي.
انظر ترجمته: طبقات الشافعية الكبرى، للسبكي، "771هـ"، تحقيق: محمود محمد الطناجي، ط/1، 1283هـ -1964م وما بعدها؛ وسير الأعلام، 10/5-99.
2 في "ب" و "ج" و "د" والمطبوع: "أحمد بن نوح" ولم أجده. ولعل الصواب ماثبت في الأصل "أ"؛ وهو محمد بن نوح بن عبد الله، الإمام الحافظ الثبت، أبو الحسن، الجنديسابوري، الفارسي، نزيل بغداد، "ت321هـ".
انظر تجرمته: تاريخ بغداد، 3/324؛ سير الأعلام، 15/34.
3 هو إسحاق بن إبراهيم بن مخلد بن راهوية، ولد سنة "161هـ"، إمام سيد الحفاظ. "ت238هـ".
انظر: تاريخ بغداد، 6/345، 355؛ وسير الأعلام، 11/358-383.
4 وقد حدث في عد المأمون "ت218هـ" إنكار صفة الكلام لله، ثم في عهد المعتصم "218-227هـ"، وامتحن في ذلك الإمام أحمد رحمه الله، حيث أصروا على أن القرآن الكريم مخلوق، ولس بكلام الله، فناقضهم الإمام أحمد –رحمة الله عليه - وقد انتهت الفتنة في عهد المتوكل.
5 هو محمد بن نصر بن الحجاج المروزي، الفقيه، الإمام أبو عبد الله، الحافظ، إمام عصره في الحديث، صاحب التصانيف. "ت294هـ".
انظر: تاريخ بغداد، 3/315؛ وسير الأعلام، 14/33-40.
6 الكشح: يقال: طوى فلان عني كشحة: إذا قطعك، وطوى كشحا على ضغن: إذا عاداك وأضمر ذلك وستره؛ فهو كاشح. وطوى كشحه عن أمر: إذا أعرض عنه. لسان العرب، ابن منظور مادة "كشح" 2/572-573.(2/879)
فقد رفق الرفيق والعدة. فإن حاك في صدرك شيء فأكثر من التضرع إلى الله، والتوسل بالأدعية المأثورة، ومنها ما في حديث الاستفتاح 1 وكرر النظر فيما اشتمل عليه تاريخ ابن غنام 2 من كلام شيخ الإسلام – رحمه الله 3، فقد بسط القول في هذه المسألة في رسائله واستنباطه، ورأيت له عبارة يحسن ذكرها، قال – رحمه الله-:
"لما اختلف الناس بعد مقتل عثمان، وبإجماع أهل العلم/أنهم/4 لا يقال فيهم إلا الحسنى، مع أنهم عثوا في دمائهم، ومعلوم أن كلا من الطائفتين [أهل العراق وأهل الشام] 5 معتقدة أهها على الحق والأخرى ظالمة، ونبغ من أصحاب علي من أشرك بعلي، وأجمع 6 الصحابة على كفرهم وردتهم وقتلهم، [ولكن حرقهم علي، وابن عباس يرى قتلهم بالسيف] 7 أَتُرى أهل الشام لو حملتهم مخالة علي على الاجتماع بهم والاعتذار عنهم، والمقاتلة معهم – لو امتنعا - أترى/إن/8 أحدا من الصحابة شك في كفر من التجأ إليهم، ولو أظهر البراءة من اعتقادهم؟ وإنما التجأ إليهم [وزيّن مذهبهم] 9؛ لأجل الاقتصاص من قتلة عثمان.
قال – رحمه الله-:
فتفكر في هذه/القضية/10 فإنا لا بتقي شبهة إلا على من أرادالله فتنته".
__________
1 تقدم تخريجه في ص 259.
2 هو حسين بن أبي بكر بن غنام النجدي الإحسائي، المالكي، شاعر فحل، له مصنفات، منها: تاريخ نجد، "ت1225هـ".
انظر: عنوان المجد، لابن بشر النجدي، 1/143-144؛ الأعلام للزركلي، 2/251.
3 يقصد الشيخ محمد بن عبد الوهاب –رحمة الله عليه-.
4 في المطبوع: "كلهم".
5 ما بين المعقوفتين ساقط في جميع النص، والتكملة من أصل النص في "تاريخ نجد".
6 هكذا في جميع النسخ: "وأجمع". وفي تاريخ نجد: "وإجماع".
7 ما بين المعقوفتين ساقط في جميع النسخ، والتكملة من أصل النص في "تاريخ نجد".
8 زيادة في المطبوع.
9 ما بين المعقوفتين ساقط في جميع النسخ، والتكملة من أصل النص في "تاريخ نجد".
10 في جميع النسخ: "القصة" وأثبت ما هو في أصل النص "تاريخ نجد".(2/880)
انتهى كلامه 1 والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
1 تاريخ نجد، لابن غنام، ص 390.(2/881)
الرسالة الرابعة والثمانون: إلى زيد بن محمد وصالح بن محمد الشثري
...
الرسالة الرابعة والثمانون1
قال جامع الرسائل:
وله أيضا -/رحمه الله/2 - رسالة إلى زيد بن محمد 3 وصالح/بن محمد/4 الشتري 5 /-رحمهما الله تعالى-/6 وهي من آخر ما كتب – رحمه الله تعالى وعفا عنه.
ثم اعلم أن كل من دعا إلى الله، وجاهد في الله/ولله/7، فلا بد أن يؤذى وينال منه، والعاقبة للمتقين،/وهذا نصها/8:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخوين المكرمين زيد بن محمد، وصالح/بن محمد/9 الشتري،/سلمهما/10 الله تعالى.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
__________
1 في "ب" جاءت هذه الرسالة في ص 31-35؛ وتأتي بعدها رسالة رقم "5" حسب ترتيب الأصل "أ. ووردت في: علماء الدعوة،، لعبد الرحمن بن عبد اللطيف ص 51-57. وأوردها عبد الرحمن بن عبد اللطيف في مشاهير علماء نجد، وغيرهم، ص 106-112. وأوردها البسام ملخصا في: علماء نجد خلال ستة قرون 1/66-68؛ والشيخ إبراهيم بن عبيد في: تذكرة أولي النهى والعرفان "بالمعنى"، 1/194-197.
2 في المطبوع: "قدس الله روحه ونور ضريحه". وهو ساقط في "ب" و "ج" و "د".
3 تقدمت ترجمته في ص 94، ضمن تلاميذ الشيخ. التلميذ "34".
4 زيادة في "ب" والمطبوع.
5 تقدمت ترجمته في ص 89، ضمن تلاميذ الشيخ. التلميذ "19".
6 زيادة في "ب" والمطبوع.
7 ساقط في "د".
8 زيادة في "ب" والمطبوع.
9 ساقط في "د".
10 في "ج" و "د": سلمهم.(2/882)
فأحمد /إليكما/1 الله الذي لا إله إلا هو، على نعمه، والخط وصل، وصلكم الله ما يرضي÷ وما/ذكرتما/2 كان معلوما، وموجب تحرير هذا، ما بلغني بعد قدوم عبد الله 3 وغزوه، من أهل الفرع، وما جرى ليدكم من تفاصيل الخوص في أمرنا والمراء والغيبة، وإن كان قد يلغني أولا كثيرا من ذلك، لكن بلغني من ذكر تفاصيل ما ظننتها.
فأما ما صدر في حقي من الغيبة والقدح والاعتراض والمسبة، ونستبي إلى الهوى والمعصية، فتلك أعراض انتهكت وهُتكت في ذات الله، أعدها لديه جل وعلا ليوم فقر ي وفاقتي، وليس الكلام فيها.
والقصد بيان ما أشكل على الخواص، والمنتسبين من طريقتي في هذه الفتنة العمياء الصماء. فأول ذلك مفارقة سعود 4 لجماعة المسلمين، وخروجه على أخيه. وقد صدر منا من الرد عليه وتسفيه رأيه، ونصيحته ولد عايض 5 وأمثاله من الرؤساء، عن متابعته والإصغاء إليه، ونصرته، وذكرناه بما ورد من الآثار النبوية، والآيات القرآنية، بتحريم ما فعل، والتغليظ على من نصره، ولم نزل على ذلك إلى أن وقعت وقعة جودة 6، فثل عرش الولاية، وانتشر نظامها وحبس محمد بن فيصل 7. وخرج الإمام عبد الله شاردا، وفارقه أقاربه وأنصاره 8 وعند وداعه وصته بالاعتصام بالله، وطلب النصر منه
__________
1 في "ب" و "ج" و "د" والمطبوع: إليكم.
2 في جميع النسخ: ذكرتموا. وفي المطبوع: ذكرتموه.
3 يريد عبد الله بن فيصل بن تركي. تقدمت ترجمته في ص 45.
4 هو سعود بن فيصل بن تركي، تقدمت ترجمته في ص 45.
5 هو محمد بن عائض بن مرعي. حاكم عسير في ذلك الوقت لآل سعود، وآل عائض حكام عسير. انظر: مشاهير علماء نجد وغيرهم ص 106.
6 وقعة الجودة: تقدم بيانه في قسم الدراسة، ص 47.
7 تقدمت ترجمته في 45.
8 وكان عبد الله –بعد خروجه من الرياض - هرب إلى واد قحطان. فخرج إليه سعود عام 1288هـ، والتقوا في وقعة عظيمة في "البرة" وانهزم عبد الله مع قحطان، ونزلوا "رويضة = العرض". وفي نفس العام أقبلت العساكر من البصرة. وكان عبد الله قد طلبها من باشا بغداد بعد هزيمته من أخيه سعود. واستولوا على الأحساء والقطيف، وأطلقوا محمد بن فيصل من الحبس، وكتبوا لعبد الله في "رويضة العرض" يحثونه بالقدوم عليهم، ففعل.
انظر: بعض الحوادث الواقعة في نجد، ص 181، 182؛ وتاريخ المملكة لصلاح الدين 1/369.(2/883)
وحده، وعدم الركون إلى الدولة الخاسرة 1.
ثم قدم علينا سعود 2 بمن معه من العجمان 3 والدواسر 4 وأهل الفرع، وأهل الحريق، وأهل الأفلاج، وأهل الوادي 5، ونحن في قلة وضعف، وليس في بلدنا من يبلغ الأربعين مقاتلا.
__________
1 يعني بالدولة الخاسرة: الدولة التركية "العثمانية" وقد كانت حينذاك دولة وثنية، تدين بالشرك والبدع وتحميها.
انظر: تذكرة أولي النهى والعرفان، 1/195، 196؛ مشاهير علماء نجد وغيرهم، ص 107؛ وعلماء الدعوة لعبد الرحمن، ص 52، 56.
2 وكان قدومه هذه المرة، أنه بعد وقعة "البرة" رجع إلى الرياض، وتفرقت جنوده، وقدم عليه أهل الرياض وأخرجوه إلى الخرج. وبايعوا عمه عبد الله بن تركي، لعبد الله بن فيصل. وفي "1290هـ" قدم سعود فاستولى على الخرج، وضرما وحريملاء، ثم قصد الرياض، فخرج عليه أخوه عبد الله بأهل الرياض، والتقوا في "الجزعة". وهو الآن بقرب المصانع، جنوب منفوحة. فصارت الهزيمة على عبد الله، واستولى سعود على الرياض للمرة الثانية.
انظر: تاريخ بعض الحوادث الواقعة في نجد، ص 183-185؛ وتاريخ المملكة لصلاح الدين، 1/372.
وانظر: التفاصيل المتقدمة في الفتنة الواقعة بين أبناء فيصل بن تركي، في ص 46-50.
3 العجمان: تقدم في ص 46.
4 الدواسر: من القبائل النجدية، تمتد منازلها من وادي الدواسر إلى الحوطة، جنوب الرياض، وهم قسمان: حضر: وهم الذين يسكنون في قرى الواديين. والبدو: وينقسمون إلى قسمين: فيتات وشريفات، وهؤلاء البدو ينزلون عادة بين نجد ووادي الدواسر.
انظر: معجم القبائل العربية، رضا كحالة 1/392-393؛ قلب جزيرة العرب ص 157-158.
5 أي أهل وادي الدواسر. ذكره عبد الرحمن بن عبد اللطيف بن عبد الله، في: علماء الدعوة ص 52 وفي مشاهير علماء تجد، وغيرهم، ص 107.(2/884)
فخرجت إليه، وبذلك جهدي، ودافعت عن المسلمين ما استطعت؛ خشية استباحة البلدة، ومعه من الأشرار وفجار القراء، من يحثه على ذلك/ ويتفوه/1 بتكفير بعض رؤساء أهل بلدتنا، وبعض الأعراب يطلقه بانتسابهم إلى عبد الله بن فيصل. فوقى الله شر ذلك الفتنة، ولطف بنا، ودخلها بعد صلح وعقد، وما جرى من المظالم والنكث دون ما كنا نتوقع، وليس الكلام بصدده وإنما الكلام في بيان ما نراه ونعتقده.
وصارت له ولاية بالغلبة والقهر، تنفذ بها أحكامه، وتجب طاعته في المعروف، كما عليه كافة أهل العلم على تقادم الأعصار، ومر الدهور. وما قيل من تكفيره لم يثبت لديَّ. فسرتُ على آثار أهل العلم، واقتديت بهم في الطاعة في المعروف، وترك الفتنة، وما توجب/من/2 الفساد على الدين والدنيا؛ والله يعلم أني بار راشد في ذلك، ومن أشكل عليه شيء من ذلك، فليراجع كتب الإجماع؛ كمصنف ابن جزم 3 ومصنف ابن هبيرة 4 وما ذكره الحنابلة وغيرهم. وما ظننت أن هذا يخفى على من له أدنى
__________
1 في "د": ويفتوه.
2 ساقط في "د".
3 هو علي بن أحمد بن سعيد أبو محمد، ابن حزم الفارسي الأصل، ثم الأندلسي القرطبي، الظاهري، صاحب التصانيف منها: المحلى، ومراتب الإجماع، ولد بقرطبة سنة "384هـ"، "ت456هـ".
انظر ترجمته: تذكرة الحفاظ، 3/1146-1155؛ وسير الأعلام، 18/184-212.
قال في كتابه: "مراتب الإجماع": "اتفقوا أنه لا يجوز أن يكون على المسلمين في وقت واحد في جميع الدنيا إمامان، لا متفقان ولا مفترقان، ولا في مكانين ولا في مكان واحد". "واتفقوا أن الإمام الواجب إمامته، فإن طاعته في كل ما أمر – ما لم يكن معصية - فرض، والقتال دونه فرض، وخدمته فيما أمر به واجبة، وأحكامه وأحكام من ولي نافذة، وعزله من عزل نافذ".
وعلى هذا الأساس كان الشيخ عبد اللطيف –رحمه الله - لا ينزع يد الطاعة عمن تأمر بالغلبة من أحد الأخوين. مراتب الإجماع في العبادات والمعاملات والاعتقادات. لابن حزم، دار الكتب العلمية، بيروت، نشر: دار الباز، مكة المكرمة؛ ومعه: نقد مراتب الإجماع، لابن تيمية ص 124، 126.
4 هو يحيى بن محمد بن هبيرة بن سعيد العراقي الحنبلي، صاحب التصانيف، له كتاب الإفصاح عن معاني الصحاح"، والعبادات، وغيرهما. "ت56هـ".
انظر ترجمته: سير الأعلام 20/426-432؛ والبداية والنهاية، 12/268-269.(2/885)
تحصيل وممارسة، وقد قيل:"سلطان ظلوم، خير من فتنة تدوم" 1 وأما الإمام عبد الله فقد نصحت له – كما تقدم - أشد النصح، وبعد مجيئه لما أخرج شيعة عبد الله سعودا، وقدم من الإحساء، ذاكرته في النصيحة وتذكيره بآيات الله وحقه، وإيثار مرضاته، والتباعد عن أعدائه وأعداء دينه، أهل التعطيل والشرك والكفر، البواح/2؛ وأظهر التوبة والندم 3.
واضمحل أمر سعود، وصار مع شرذمة من البادية حول آل مرة 4، والعجمان. وصار لعبد الله غلبة، ثبتت بها ولايته، على ما قرره الحنابلة وغيرهم، كما تقدم أن عليه عمل الناس، من أعصار متطاولة.
ثم ابتلينا بسعود، وقدم إلينا مرة ثانية، وجرى ما بلغكم من الهزيمة على عبد الله وجنده 5، ومر بالبلدة منهزما، لا يلوي على أحد، وخشيت من البادية، وعجلت إلى سعود كتابا في طلب الأمان لأهل البلدة، وكف البادية عنهم، وباشرت نفسي مدافعة الأعراب مع شرذمة قليلة، من أهل البلد؛ ابتغاء ثواب الله ومرضاته، فدخل
__________
1 لم أطلع على مصدره.
2 هكذا في جميع النسخ، وكذا في المطبوع. وقد غيره ناسخ "أ" إلى"والبدع"، وكان الأصل فيها "البواح"، كما هو عند جميع النساخ. لذلك رأيت إثبات المتواتر.
3 أي: أظهر: التوبة على استجلاب الدولة التركية المشركة، واستنصاره بهم على أخيه سعود، مع أن الاستعانة بالمشرك على قتال المسلمين لا يجوز شرعا.
4 آل مرة من أقدم القبائل العربية، وأصحها نسبا، منازلها تمتد من جنوب الطريق الموصلة بين الإحساء والرياض إلى جهات الخرج، وحهات العقير، قلب الجزيرة، ص 202؛ معجم قبائل العرب، لكحالة، 3/1070-1071.
5 يشير إلى ما حصل على عبد الله بن فيصل من الهزيمة، في وقعة الجزعة، وهو مكان بقرب من مدينة الرياض جنوبا. وقد هزم سعودا أخاه عبد الله، فتقهقر عبد الله ودخل الرياض منهزما، ثم عادرها هاربا إلى جهة الكويت، وقصد بادية قحطان المقيمة على الصبيحة، وأقام عندهم علماء الدعوة ص 54؛ وانظر: تذكرة أولي النهى، 1/195-196.(2/886)
البلد، وتوجه عبد الله إلى الشمال، وصارت الغلبة لسعود، والحكم يدور مع علته 1.
وأما بعد وفاة سعود 2، فقدم الغزاة ومن/ معهم/3 من الأعراب العتاة، والحضر الطغاة، فخشينا الاختلاف، وسفك الدماء، وقطيعة الأرحام بين حمولة 4 آل مقرن 5، مع غيبة عبد الله، وتعذر مبايعته 6، بل ومكاتبته؛ ومن ذكره يخشى على ماله ونفسه. أفيحسن أن يُترك المسلمون وضعفاؤهم نهبا وسبيا للأعراب والفجار وقد تحدثوا بنهب الرياض قبل البيعة، وقد رامها من هو شر من عبد الرحمن 7 وأطغى، ولا يمكن ممانعتهم ومراجعتهم، ومن توهم أنِّي وأمثالي أستطيع دفع ذلك، مع ضعفي، وعدم سلطاني وناصري، فهو من أسفه الناس، وأضعفهم عقلا وتصورا.
ومن عرف قواعد الدين، وأصول الفقه، وما يطلب من تحصيل المصالح، ودفع
__________
1 إن الحكم الثابت بالعلة –في باب القياس - يدور مع علته، وجودا وعدما. فحيثما وجدت العلة وجد الحكم، وبزوالها يزول الحكم.
ومعنى قول الشيخ هنا: أن طاعته لأحد الأميرين، كانت تبعا لانتصاب أحدهما –وإن كان يعلم في نفسه المحق من المبطل - فقد كان وجود الإمارة لأحد الأخوين، علة لوجود طاعة الشيخ له، ولكما زالت عمارته، زالت طاعة الشيخ، ووضع يد طاعته فيمن انتصب. انظر في دوران الحكم مع علته: روضة الناظر مع شرحها نزهة الخاطر 2/286-287.
2 تقدم أن وفاته كانت في سنة 1291هـ.
3 في "أ" و "د": معه.
4 الحمولة: تقدم التعرف به في ص 75.
5 من عشائر نجد، جدها الأعلى مانع المريدي، كان مسكنه في بلدة الدروع من نواحي القطيف. انظر: معجم قبائل العرب، لعمر رضا 3/1132.
ويريد هنا "آل سعود"، ينسبهم الشيخ إلى جدهم مقرن، والد جدهم محمد. وهو مقرن بن مرخان بن إبراهيم بن موسى بن ربيعة بن مانع بن ربيعة المريدي الحنفي.
[ذكره عبد الرحمن في علماء الدعوة ص 54] .
6 فقد كان حينذاك في "بادية عتيبة" هو مع أخيه محمد بن فيصل. تاريخ المملكة، لصلاح الدين 1/376.
7 تقدمت ترجمته في ص 45.(2/887)
المفاسد، لم يشكل عليه شيء من هذا، وليس الخطاب مع/ الجهلة/1، والغوغاء، وإنما الخطاب معكم معاشر القضاة والمفاتي، والمتصدون لإفادة الناس، وحماية الشريعة المحمدية. وبهذا ثبتت بيعته، وانعقدت 2، وصار من ينتظر غائبا لا تحصل به المصالح، فيه شبه ممن يقول بوجوب طاعة المنتظر، وأنه لا إمامة إلا به 3.
ثم إن حمولة آل سعود، صارت بينهم شحناء وعداوة، والكل يرى له الأولوية بالولايةوصرنا نتوقع كل يوم فتنة، وكل ساعة محنة، فلطف الله بنا وخرج ابن جلوي 4 من البلدة، وقتل ابن صنيتان 5 وصار لي إقدام على محاولة عبد الرحمن في
__________
1 في "د": جملة.
2 انظر: الإمامية العظمى عند أهل السنة والجماعة، لعبد الله بن عمر الدميحي، دار الطيبة الرياض، ط/1، 1407هـ ص 222؛ والأحكام السلطانية والولايات الدينية؛ لأبي الحسن علي بن محمد الماوردي "ت450هـ"، ط/3، 1393هـ 1973م، طبعة الحلبي، ص 11، 15؛ وروضة الطالبين، 10/46.
3 وهذا قول الشيعة الذين يوجبون طاعة المهدي المنتظر، وعطلوا بذلك الجمعة، كما منعوا إقامة إمام للمسلمين، وقالوا: "الجمعة والحكومة لإمام المسلمين". والإمام هذا المنتظر؛ وأن البيعة الشرعية للقائم المنتظر، لذلك يحددون البيعة له كل يوم فيما يسمونه "دعاء المهدي" وفيه: "اللهم إني أجدد له في صبيحة يومي هذا، وما عشت من أيامي، عهدا أو عقدا أو بيعة له في عنقي، لا أحول عنها ولا أزول أبدا".
انظر: أصول مذهب الشيعة الإمامية الإثني عشرية؛ عرض ونقد، د. ناصر بن عبد الله بن على القفاري، ط/1/1414هـ-1993م، 2/887؛ نقلا عن مفتاح الكرامة؛ كتاب الصلاة، 2/69؛ ومفتاح الجنان للعباس القمي، ص 538؛ والمقالات والفرق لسعد بن عبد الله الأشعري القمي "ت 301هـ"، تعليق: د. محمد جواد مشكور، مطبعة الحضيري، طهران، 1963م، ص 19.
4 هو سعود بن جلوي بن تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود.
5 هو فهد بن صنيتان؛ "والصنيتان" هو لقب لازم غلب على والده –عبد الله بن إبراهيم بن عبد الله بن محمد بن سعود بن محمد بن مقرن. اشتهر به طيلة حياته، وكان في الفتنة مع عبد الرحمن بن فيصل، وعاد معه من بغداد إلى الإحساء سنة 1291هـ، ثم إلى الرياض. وقد فتك به محمد بن سعود بن فيصل وقتله، عام 1292هـ، وقد جاء في مشاهير علماء نجد، ص 110: "وقد انقرض آل الصنيتان ولم يبق لعم عقب". انظر: تاريخ المملكة لصلاح الدين المختار 1/375، 377.
وبعض الحوادث الواقعة في نجد، ص 188؛ وعلماء الدعوة، لعبد الرحمن بن عبد اللطيف، ص 55.(2/888)
الصلح وترك الولاية لأخيه عبد الله، فلم آل جهدي في تحصيل ذلك، والمشورة عليه، مع أني قد أكثرت فيذلك حين ولايته، [ولكن رأيته ضيعف العزم، لا يستبد برأيه] 1 فيسر الله قبل قدوم عبد الله بنحو أربعة أيام، أنه وافق على تقديم عبد الله، وعزل نفسه بشروط اشترطها، بعضها غير سائغ شرعا.
فلما نزل الإمام عبد الله ساحتنا، اجتهدت إلى أن محمد/بن/2 فيصل 3 يظهر إلى أخيه ويأتي بأمان لعبد الرحمن وذويه، وأهل البلد، وسعيت في فتح الباب واجتهدت في ذلك، ومع ذلك كله، لما 4 خرجت للسلام عليه، وإذا أهل الفرع وجهلة البوادي، ومن معهم من المنافقين، يستأذنونه في نهب نخيلنا وأموالنا. ورأيت معه بعض التغيير والعبوس، ومن عامل الله ما فقد شيئا، ومن ضيع الله ما وجد شيئا، ولكنه بعد ذلك أظهر الكرامة ولين الجانب، وزعم أن الناس قالوا ونقلوا، "وبئس مطية الرجل زعموا"5، وتحقق عندي دعوى التوبة، فأظهر لديّ الاستغفار والتوبة والندم، وبايعته على كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
هذا مختصر القضية 6، ولولا أنكم من طلبة العلم، والممارسين الذين يكتفون بالإشارة، وأصول المسائل، لكتبت رسالة مبسوطة، ونقلت من نصوص أهل العلم
__________
1 ما بين المعقوفتين ممسوح في "أ".
2 في "د": آل.
3 تقدمت ترجمته في ص 45.
4 في جميع النسخ والمطبوع: فلما.
5 مثل عربي، لم أقف على مصدره.
6 انظر قضية هذه الفتنة في قسم الدراسة، ص 47-52؛ وانظر تمامها في تاريخ بعض الحوادث الواقعة في نجد، ص 179-186.تاريخ المملكة العربية السعودية، 1/359-378؛ قلب جزيرة العرب، ص 345-348.(2/889)
وإجماعهم، ما يكشف الغمة، ويزيل اللبس. ومن بقي عليه إشكال، فليرشدنا رحمه الله. ولو أنكم أرسلتم بما عندكم مما يقرر هذا أو يخالفه، وصارت المذاكرة، لا تكشف الأمر من أول وهلة، ولكنكم صممتم على رأيكم، وترك النصيحة/ممن/1 كان عنده علم، واغتر الجاهل، ولم يعرف ما يدين الله به في هذه القضية، وتكلم بغير علم، ووقع اللبس/والخلط/2 والمراء والاعتداء في دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم، وهذا بسبب سكوت الفقيه، وعدم البحث، واستغناء الجاهل بجهله، واستقلاله بنفسه.
وبالجملة، فهذا الذي نعتقد وندين به، والمسترشد يذاكر ويبحث، والظالم والمتعدي حسابنا وحسابه إلى الله، الذي تنكشف عنده السرائر، وتظهر فيه مخبآت الصدور والضمائر، يوم يبعث ما في القبور، ويحصَّل ما في الصدور.
وأما ما ذكرتم من التنصل والبراءة، مما نسب في حقي إليكم، فالأمر سهل، والجرح جبار، ولا حرج ولا عار. وأوصيكم بالصدق مع الله، واستدراك ما فرطتم فيه من الغلظة على المنافقين 3، الذين فتحوا للشرك كل باب، وركن إليهم كل منافق كذاب، وتأملوا قوله تعالى بعد نهيه عن موالاة الكافرين: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ/4} الآية 5.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، /إلى يوم الدين/6.
__________
1 هكذا في المطبوع، وفي جميع النسخ: من.
2 في "د": والخطأ.
3 والغلظة على المنافقين، أمر الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، والمسلمون تبع له في ذلك، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التوبة، الآية: 73] .
4 هذا الجزء من الآية، زائد في "ب".
5 سورة آل عمران الآية: "30".
6 ساقطة في "ب".(2/890)
الرسالة الخامسة والثمانون: إلى علي بن محمد وابنه في شأن الفتنة
...
الرسالة الخامسة والثمانون1
قال جامع الرسائل:
وله أيضا/-قدس الله روحه، ونور ضريحه-/2 رسالة/أرسلها/3 إلى علي بن محمد وابنه محمد آل موسى 4 وقد ذكروا له في أمر هذه الفتنة والحوادث، وما حصل في ضمنها من عظيم الكوارث، فبين لهما – رحمه الله - مبدأ هذه الفتنة، والحكم في أهلها وجندها؛ لأنه قد خفي على بعض المنتسبين إلى العلم والدين، حقيقة الحكم الشرعي، والقول الصواب المرضي؛ /وهو/:5 أن من استولى على المسلمين بالغلبة والسيف، فالبيعة ثابتة له؛ تنفذ أحكامه، وتصح إمامته، باتفاق أهل العلم والدين، وأئمة الإسلام، لا يختلف في ذلك منهم اثنان 6. وأنهم يرون المنع من الخروج عليه بالسيف، وتفريق الأمة، وإن/كانت/7 الأئمة ظلمة فسقة، ما لم يرو/كفرا/8 بواحا 9.
وقد جرى في تلك الفتنة، من الخوض، والمراء، والجدال، والاضطراب، والإعراض عن منهج السنة والكتاب، ما عم ضرره، وطار في الأقطار شرره، وصار سببا وسلمّا، لولاية المشركين، وارتداد المرتدين، وخفض أعلام الملة والدين، وذريعة إلى استباحة دماء المسلمين، وهتك أعراض عباده المؤمنين، وهذا نص الرسالة:
__________
1 جاءت هذه الرسالة في المطبوع في ص 166-169، وهي الرسالة رقم "25". وجاءت في "ب" في ص 218-221.
2 ساقط في "ج" و "د" والمطبوع.
3 ساقط في المطبوع.
4 تقدمت رسالة الشيخ إليه في ص 237، وهي "الرابعة".
5 ساقط في "ب" و "ج" و "د".
6 تقدمت هذه المسألة في ص 875.
7 في "د": كان.
8 في "د": كفر.
9 هذا ما أرشد إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته؛ كما جاء في حديث عبادة بن =(2/891)
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخوين المكرمين علي بن محمد وابنه محمد بن علي، سلمهما الله تعالى من الأهواء، وحماهما نم طوارق المحن والبلوى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فأحمد إليكما الله، الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير، والخط وصل، وصلكما الله ما يرضيه، وجعلكما ممن يحبه ويتقيه، وما ذكرتما صار معلوما.
و/ها/ 1 الحوادث والفتن أكثر مما وصفتم، وأعظم مما إليه أشرتم، كيف لا وقد تلاعب الشيطان بأكثر المنتسبين،/وصار/2 سُلَّما لولاية المشركين، وسببا لارتداد المرتدين، وموجبا لخفض أعلام الملة والدين، وذريعة إلى تعطيل توحيد رب العالمين وإلى استباحة دماء المسلمين، وهتك أعراض عباده المؤمنين. فتنة لا يصل إليها حديث ولا قرآن 3 ولا يرعوى أبناؤها عما يهدم الإسلام والإيمان، يعرف ذلك من منَّ الله عليه بالعلم والبصيرة، وصار على حظ من أنوار الشريعة المطهرة المنيرة، وعلى نصيب من مراقبة عالم السر والسريرة.
وقد عرفتم مبدأ هذه الفتنة، وأولها، والحكم في أهلها وجندها، ثم صار لهم دولة
__________
= الصامت قال: "دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فقال فيما أخذ علينا، أن بايعنا على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرا بواحا، عندكم من الله فيه برهان". صحيح البخاري مع الفتح 13/7، الفتن، باب قوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} صحيح مسلم، بشرح النووي، 12/472، الإمارة، باب: وجوب طاعة الأمراء من غير معصية.
1 في المطبوع: وهذه.
2 كذا في المطبوع، وفي جميع النسخ: وصارت.
3 أي لا يصل إلى بيان المخرج منها حديث نبوي، ولا قرآن، بنص صريح، لا يحتمل التأويل، فكل فريق مشارك في الفتنة، يتأول نصوصهما بما يجعله المحق، وخصمه المبطل.(2/892)
بالغلبة والسيف، واستولوا على أكثر بلاد المسلمين، وديارهم، وصارت الإمامة لهم بهذا الوجه، ومن هذا الطريق، كما عليه العمل عند كافة أهل العلم من أهل الأمصار في أعصار متطاولة.
وأوّل ذلك ولاية آل مروان، لم تصدر لا عن بيعة، ولا عن رأي، ولا عن رضا من أهل العلم والدين بل بالغلبة؛ حتى صار على ابن الزبير 1 ما صار، وانقاد لهم سائر أهل القرى والأمصار.
وكذلك مبدأ الدولة العباسية، ومخرجها من خراسان، وزعيمها رجل فارسي يُدعى أبا مسلم 2، صال على من يليه، ودعا إلى الدولة العباسية، وشهر السيف وقتل من امتنع عن ذلك، وقاتل عليه، وقتل ابن هُبيرة 3 أمير العراق، وقتل خلقا/ كثيرا/4 لا يحصيهم إلا الله، وظهرت الرايات السود العباسية، وجاسوا خلال الديار قتلا ونهبا، في أواخر القرن الأول 5، وشاهد ذلك أهل القرن الثاني والثالث من أهل العلم والدين وأئمة الإسلام؛ كما لا يخفى على من شم رائحة العلم، وصار على نصيب من معرفة التاريخ وأيام الناس.
وأهل العلم مع هذه الحوادث، متفقون على طاعة من تغلَّب عليهم في المعروف، يرون نفوذ أحكامه، وصحة إمامته، لا يختلف في ذلك اثنان، ويرون المنع من الخروج
__________
1 تقدمت ترجمته في ص 876.
2 هو عبد الرحمن بن مسلم –ويقال - ابن عثمان، أبو مسلم الخراساني، الأمير صاحب الدعوة وهازم جيوش الدولة الأموية، والقائم بإنشاء الدولة العباسية "ت137هـ".
تاريخ بغداد 10/207، وفيات الأعيان 3/145، سير الأعلام 6/48.
3 تقدمت ترجمته في ص 885.
4 في "د" كثير.
5 ذكر ابن كثير في البداية والنهاية 9/189، أن ظهرو الدعوة العباسية كان في سنة "100هـ" أما ظهور الرايات السود العباسية كان في الثلث الأول من القرن الثاني، وكانت بداية ذلك في سنة 129هـ على يد أبي مسلم الخراساني. ثم كان سقوط الدولة الأموية في عام 132هـ. [البداية والنهاية لابن كثير 10/29] .(2/893)
عليهم بالسيف، وتفريق الأمة، وإن كان الأئمة ظلمة فسقة، ما لم يروا كفرا بواحا. ونصوصهم في ذلك موجودة عند الأئمة الأربعة، وغيرهم 1، وأمثالهم ونظرائهم.
إذا عرفت هذا، فالحاصل في هذا العصر، بين أهل نجده، حكم أمثاله من الحوادث السابقة، في زمن أكابر الأئمة؛ كما قدمنا. وصارت ولاية المتغلب ثابتة، كما إليه أشرنا، ووقع اتفاق ممن ينتسب إلى العلم لديكم على هذا؛ كالشيخ إبراهيم الشتري في الحوطة، وحسين 2 وزيد 3 في الحريق؛ وخطوطهم عندنا محفوظة معروفة، فيها تقرير إمامة سعود 4، ووجوب طاعته ودفع الزكاة إليه، والجهاد معه، وترك الاختلاف عليه، كل هذا موجود بخطوطهم، فلا جرم، قد صار العمل على هذا والاتفاق.
__________
1 من النصوص الواردة عن الأئمة في النهي عن نزع يد الطاعة من إمام متغلب، ما يلي:
قال الدسوقي في حاشيته على الشرح الكبير: "اعلم أن الإمامة العظمى تثبت بأحد أمور ثلاثة: إما بإيصاء الخليفة الأول المتأهل لها؛ وإما بالتغلب على الناس؛ لأن من اشتد وطئته بالتغلب، وجبت طاعته ... ".
[حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، لمحمد عرفة الدسوقي، طبعة الحلبي بمصر، 4/298] وقال الإمام ابن قدامة في المغني: "ولو خرج رجل على الإمام فقهره، وغلب الناس بسيفه حتى أقروا له وأذعنوا بطاعته وتابعوه؛ صار إماما، يحرم قتاله والخروج عليه".
[المغني، مع الشرح الكبير، 10/53] .
وفي المغني، 4/130-132: "وتنعقد الإمامة بالبيعة ... وباستيلاء جامع الشروط".
وقال ابن حجر في فتح الباري، 13/131: "لو تغلب عبد بطريق الشوكة، فإن طاعته تجب، إخماد للفتنة، ما لم يأمر بمعصية".
وقال الإمام الدهلوي: "نتعقد الخلافة بوجوه ... أو باستيلاء رجل جامع للشروط، على الناس، وتسلطه عليهم، كسائر الخلفاء بعد خلافة النبوة، ثم إن استولى من لم يجمع الشروط، لا ينبغي أن يبادر إلى المخالفة، لأن خلعه لا يتصور غالبا إلا بحروب ومضايقات، وفيها مفسدة أشد مما يرجى من المصلحة". [حجة الله البالغة، لأحمد عبد الرحيم الدهلوي، تعبليق: محمد شريف سُكر، دار إحياء العلوم، بيروت، ط/1، 1410هـ 1990م، 2/398-399] .
2 تقدم في ص 95.
3 هو زيد بن محمد من آل سليمان، تقدمت ترجمته في ص 94.
4 تقدمت ترجمته في ص 45.(2/894)
ثم تَوَقَّى الله/ سعودا/1، واضطرب أمر الناس، وخشينا الفتنة، واستباحة /الحرمات/2؛ من باد وحاضر، وتوقعنا حصول ذلك، وانسلاخ أمر المسلمين، فاستصحبنا ما ذكر وبنينا عليه 3، واختار أهل الحل والعقد. من حمولة آل سعود ومن غيرهم ومن يليهم – نصب عبد الرحمن بن فيصل 4، وذلك صريح في عدم الالتفات منهم إلى ولاية غير/آل/5 سعود؛ ولذلك كتبنا في الرسائل التي فيها الإخبار بالبيعة، والنهي عن سلوك طريق الفتن والاختلاف، وأن يكون المسلمون يدا واحدة، وذكَّرناهم بالبيعة، والنهي عن سلوك طريق الفتن والاختلاف، وأ، يكون المسلمون يدا واحدة، وذكرناهم قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} 6، ونحو ذلك من الآيات، وبعضا مما ورد من الأحاديث الصحيحة 7.
فترك بعض من لديكم هذا المنهج، وسلكوا طريقا وعرة، تفضي إلى سفك الدماء، واختلاف الكلمة، وتضليل من خالفهم، ودعا بعضهم إلى ذلك واستحسنه، من غير مشورة ولا بينة، ولم ينصحوا إخوانهم ويوضحوا لهم وجه الإصابة، فيما اختاروه وما
__________
1 في "د": سعود.
2 في المطبوع: المحرمات.
3 أي أن الشيخ ومن معه استصحبوا ما كان عليه سابقوه من أئمة الدين، من وجوب طاعة المتغلب.
4 تقدمت ترجمته في ص 45.
5 ساقط في "ب" و "ج" و "د".
6 سورة آل عمران الآية "103".
7 في "أ"، و "ج"، والمطبوع: الصحيحات.
ومما ورد من الأحاديث في النهي عن التفرق:
أ - حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة".
ب - وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر، فإنه ليس احد يفارق الجماعة شبرا، فيموت إلا مات ميتة الجاهلية".
الحديثان أخرجهما البخاري في صحيحه، 13/130؛ الأحكام، باب السمع والطاعة للإمام. وهما يفيدان النهي عن الخروج عن الجماعة، والأمر بطاعة أولي الأمر، من غير اعتبار شكله، ولا الالتفات إلى كيفية توليه لهذا الأمر.(2/895)
ارتضوه، وكان الواجب على من عنده تعلم أن ينصح الأمة، بل وينصح أولا لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم 1. ويكرر الحجة، وينظر في الدليل، ويرشد الجاهل، ويهدي الضال، بحسن البيان وتقرير صواب المقال. لكنهم أحجموا عن ذلك كله، ولم يلتفتوا إلى المحاقة 2، والله هو ولي الهداية، الحافظ الواقي من موجبات الجهل والغواية.
وقد أوجب البيان، وترك الكتمان، وأخذ الميثاق على ذلك 3 على من عنده علم وبرهان.
وهذا هو صورة الأمر وحقيقة الحال، وقد عرفتموه أولا وآخرا في المكاتبات الواردة عليكم، فلا يلتبس/ عليكم/4 الحال، ولا يشتبه سبيل الهدى بالجهل والضلال/واذكروا /5 قوله/تعالى/6 {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} 7.
إذا رضي الحبيب فلا أبالي ... أقام الحي أم جد الرحيل 8
وأما الصلح بين المسلمين؛ فهو من واجبات الإيمان والدين، ولكن يحتاج
__________
1 تقدم تخريج حديث "الدين النصيحة ... " في ص 442.
2 المحاقة: محل الاستحقاق. يقال: حاقه في الأمر مُحاقة وحقاقا: أدعى أنه أولى بالحق منه.
لسان العرب 10/53، مادة "حقق".
3 أخذ الله سبحانه وتعالى الميثاق على ذلك في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران: 187] .
4 في "أ" و "ب" و "ج" والمطبوع: عليك.
5 في جميع النسخ: واذكر.
6 ساقط في "ب" و "د" والمطبوع.
7 سورة الأحزاب الآية "39".
8 البيت تقدم في ص 270.(2/896)
/إلى قوة/1 وبصيرة، يحصل بها نفوذ ذلك والإجبار عليه، فإن/ وجدت/2 إلى ذلك سبيلا، فاذكره/3 لي، /ولا آلو/4 جهدا -إن شاء الله - فيما يكف الفتن، ويصلح به بين المسلمين.
وأسأل الله أن يَمُنَّ بذلك، ويوفق لما هنالك./وبلغوا سلامنا من لديكم من خواص الجماعة. ومن لدينا العيال بخير، وينهون إليكم السلام والسلام/5.
[وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم] 6.
__________
1 كذا في المطبوع، وفي بقية النسخ: لقوة.
2 في "د": وجدتوا.
3 في "د": فاذكروا.
4 في المطبوع: أولا ولا تألو.
5 ساقط في المطبوع.
6 زيادة في المطبوع.(2/897)
الرسالة السادسة والثمانون: إلى الشيخ إبراهيم ورشيد بن عوين في شأن الفتنة
...
الرسالة السادسة والثمانون1
قال جامع الرسائل:
وله أيضا/-قدس الله روحه ونور ضريحه - رسالة إلى الأخوان: الشيخ إبراهيم ورشيد بن عوين وعيسى بن إبراهيم، وإخوانهم 2. مضمونها التحريض على لزوم الجماعة والإمامة، لأن إضاعتها من أسباب الخزي والندامة، وبالتزامها تحصل السلامة والاستقامة.
وعرفهم في هذه الرسالة ما سبق منه في أول هذه الفتنة من المكاتبات، وما منَّ الله عليه به من المذاكرة والمناصحات، من لزوم بيعة الإمام عبد الله 3 والتصريح بأن راية أخيه سعود، راية جاهلية عمية.
ثم لما صدر من عبد الله ما صدر من جلب الدولة 4 إلى البلاد الإسلامية، والجزيرة العربية، وإعطائهم الإحساء والقطيف والخط؛ تبرأ مما تبرأ الله منه ورسوله، واشتد نكيره ليه شفاها ومراسلة. كما مر ذكر ذلك فيما سبق من الرسائل 5. وثبتت لأخيه سعود البيعة بالغلبة والقهر.
ثم بعد ذلك قدم عبد الله من الإحساء وادعى التوبة والندم وأكثر من التأسف والتوجع فيما صدر منه، وبايعه البعض. وكتب الشيخ إلى الشيخ حمد بن عتيق 6
__________
1 جاءت هذه الرسالة في المطبوع في ص 170-174، وهي الرسالة رقم "26" وجاءت في "ب" في ص 221- 224.
2 لم أجد لهم ترجمة فيما اطلعت.
3 تقدمت ترجمته في ص 45.
4 الدولة المقصودة: الدولة العثمانية. وكان ذلك عام 1288هـ، عندما جلب جنودا من بغداد بقيادة نافذ باشا. وقد تقدم الكلام حوله في ص 856.
5 انظر رسالته التاسعة إلى الشيخ محمد بن عجلان من ص 279-286؛ وكذلك الرسالة رقم "84" إلى زيد بن محمد وأخيه صالح، ص 863-871.
6 تقدمت ترجمته في ص 91.(2/898)
أنَّ الإسلام يجب ما قبله 1، وأن التوبة تهدم ما قبلها.
وذكر له أن الواجب السعي فيما يصلح الإسلام والمسلمين.
ثم إنه تغلب سعود على جميع البلاد النجدية، وبايعه الجمهور، وسموه باسم الإمامة. وقد علمت أن الحكم يدور مع علته 2؛ يثبت بثباتها، وينتفي انتفائها. وهذا نص الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم الشيخ إبراهيم، ورشيد بن عوين، وعيسى بن إبراهيم، ومحمد بن علي، وإبراهيم بن راشد، وعثمان بن رقيب وإخوانهم سلك الله بنا وبهم سبيل الاستقامة، وأعاذنا وإياهم من أسباب الخزي والندامة.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
تفهمون أنه لا إسلام إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمامة؛ وقد حصل من التفرق والاختلاف، والخوض في الأهواء المضلة، ما هدم من الدين أصله وفرعه، وطمس من الدين أعلامه الظاهرة وشرعه. وهذه الفتنة يحتاج الرجل فيها إلى بصر ناقد عند ورود الشبهات، وعقل راجح عند حلول الشهوات. والقول على الله بغير علم، والخوض في دينه من غير دراية، ولا فهم، فوق الشرك واتخاذ الأنداد معه.
وقد صار لديكم، وشاع بينكم ما يعز حصره واستقاؤه؛ فينبغي للمؤمن الوقوف عند كل همة وكلام، فإن كان لله مضى فيه، وإلا فحسبه السكوت، وقد عرفتم حالنا
__________
1 هذا جزء من حديث عمرو بن العاص، وتمامه: قال: قلت: يا رسول الله، أبايعك على أن تغفر لي ما تقدم من ذنبي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الإسلام يجب ما قبله، وإن الهجرة تجب ما قبلها". أخرجه الإمام أحمد في مسنده، 3/204، 304.
2 تقدمت هذه القاعدة الأصولية في ص 887.(2/899)
في أول هذه الفتنة، وما صدر إليكم من المكاتبات والنصائح؛ وفيها الحزم بإمامة عبد الله ولزوم بيتعه، والتصريح بأن راية أخيه، راية جاهلية عمية، وأوصيناكم بما ظهر لنا من حكم الله ورسوله، ووجوب السمع والطاعة. فلما صدر من عبد الله ما صدر من جلب الدولة إلى البلاد الإسلامية، والجزيرة العربية، وإعطائهم الإحساء والقطيف والخط، تبرأنا مما يرى الله منه ورسوله، واشتد النكير عليه شفاها ومراسلة، لمن يقبل مني، ويأخذ عني؛ وذكرت لكم أن بعض الناس جعله ترسا، تدفع به النصوص والأحاديث والآثار، وما جاء من وجوب جهادهم، والبراءة منهم، وتحريم موادّتهم، ومؤاخاتهم؛ من النصوص القرآنية والأحاديث الصحيحة الصريحة النبوية.
والقول بأنهم جاءوا لنصرة إمام أو دين، قول يدل على ضعف دين قائله وعدم بصيرته، وضعف عقله، وانقياده لداعي الهوى، وعدم معرفته بالدول والناس، وذلك لا يروج إلا على سواسية الأعراب، ومن نكب عن طريق الحق والصواب، وأعجب من هذا نسبه جوازه إلى أهل العلم، والجزم بإباحة ذلك، والصواب، والصورة المختلف فيها - مع ضعف القول بجوازها، وإباحتها، والدفع في صدرها؛ كما هو مبسوط في حديث: "إنا لا نستعن بمشرك" 1 - هي صورة غير هذه، ومسألة أخرى، وهذه الصورة حقيقتها تولية وتخلية وخيانة ظاهرة، كما يعرفه من له أدنى ذوق ونهمة في العلم.
لكن بعد أن قدم عبد الله من الإحساء، ادعى التوبة والندم، وأكثر من التأسف والتوجع فيما صدر منه، وبايعه البعض؛ وكتب إلى ابن عتيق أن الإسلام يجب ما قبله، والتوبة تهدم ما قبلها، فالواجب السعي فيما يصلح الإسلام والمسلمين، ويأبى الله إلا ما أراد {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 2 والمقصود كشف حقيقة الحال، في أول الأمر وآخره.
وقد تغلب سعود على جميع البلاد النجدية، وبايعه الجمهور، ووسموه باسم
__________
1 تقدم تخريجه في ص 279.
2 سورة يوسف الآية "21".(2/900)
الإمامة. وقد عرفتم أن أمر المسلمين لا يصلح إلا بإمام، وأنه لا إسلام إلا بذلك، ولا تتم المقاصد الدينية، ولا تحصل الأركان الإسلامية، ولا تظهر الأحكام القرآنية إلا مع الجماعة والإمامة. والفرقة عذاب، وذهاب في الدين والدنيا، ولا تأتي شريعة بذلك قط، ومن عرف القواعد الشرعية، عرف ضرورة الناس، وحاجتهم في أمر دينهم، ودنياهم، إلى الإمامة والجماعة.
وقد تغلب من تغلب في آخر عهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعطوه حكم الإمامة 1 ولم ينازعوه، كما فعل ابن عمر وغيره، مع أنها أُخِذت بالقهر والغلبة.
وكذلك بعدهم في عصر الطبقة الثالثة، تغلب من تغلب، وجرت أحكام الإمامة والجماعة 2، ولم يختلف أحد في ذلك، وغالب الأئمة بعدهم على هذا القبيل، وهذا النمط، ومع ذلك فأهل العلم والدين يأتمرون بما أُمروا به بمن المعروف، وينتهون عما نهوا عنه من المنكر، ويجاهدون مع كل إمام؛ كما هو منصوص عليه في عقائد أهل السنة 3 ولم يقل أحد منهم بجواز قتال المتغلب، والخروج عليه، وترك الأمة تموج في مائها، وتستبيح الأموال والحرمات، ويحوس العدو الحربي خلال ديارهم، وينزل بحماهم؛ هذا لا يقول بجوازه وإباحته إلا مصاب في عقله، موتور 4 في دينه وفهمه، وقد قيل:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهالهم سادوا 5
__________
1 يشير هنا إلى تغلب معاوية رضي الله عنه على الإمام علي رضي الله عنه في الصفين، واستقلاله بالخلافة بعد ذلك.
2 وقد تقدم ذكر طرف من أولئك؛ كمروان بن الحكم، والحجاج بن يوسف. انظر ص 858-859.
3 انظر: شرح العقيدة الطحاوية، 551-555.
4 الموتور: الذي قتل له قتيل، فلم يدرك بدمه. لسان العرب، 5/274؛ مادة: "وتر"؛ فكأنه يريد بالموتور في دينه وفهمه: من أفسد عليه دينه وفهمه، ولم يستطيع إصلاح ما فسد منهما.
5 البيت للأفوه الأودي. انظر: ديوان الأفوه الأودي، ضمن كتاب: الطرائف الأدبية، تصحيح =(2/901)
بل هذا الحكم الديني يؤخذ من قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} 1؛ لأنه لا يحصل القيام بهذا الواجب إلا بما ذكرنا، وتركه مفسدة محضة، ومخالفة صريحة. قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} 2، وفي الحديث: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه"3. لا سيما وقد نزل العدو بأطرافكم، واستخف الشيطان أكثر الناس، وزين لهم الموالاة، واللحاق بالمشركين، وإسناد أمر الرئاسة إليهم، وأنهم ولاة أمر/يعزلون/4 ويولون، وينصرون وينصبون، وأنهم جاءوا لنصرة فلان، وكما الشيطان على ألسنة المفتونين، وصاروا بعد التوسم بالدين من جملة أعوان المشركين/المبيحين/5 لترك جهاد أعداء رب العالمين فما أعظمها من مكيدة، وما أكبرها من خطية، وما أبعدها عن دين الله ورسوله، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
وصدر من بعض الإخوان، من الرسائل المشعرة بجواز الاستنصار بهم، وتهوين
__________
وتخريج عبد العزيز الميمني، دار الكتاب العلمية، بيروت، لبنان، ص 10. وانظر: بهجة المجالس وأنس المجالس وشحذ الذاهن والهاجس، لأبي عمرو يوسف بن عبد البر النمري القرطبي، "463هـ" تحقيق: محمد مرسي الخولي، الدار المصرية للتأليف، والترجمة، 1/352. ونهاية الأرب، 3/62؛ والعقد الفريد، 1/10، وفي البهجة: "لا يصلح القوم" بدل من "لا يصلح الناس".
1 سورة آل عمران الآية "103".
2 سورة: المائدة الآية "2".
3 صحيح مسلم، بشرح النووي، 9/110، الحج، باب فرض الحج، واللفظ له، سوى اختلاف يسير في نهايته، ففي مسلم: "فدعوه" بدل "فاجتنبوه". وأخرجه بغير هذا اللفظ في الفضائل، 15/118، باب توقيره صلى الله عليه وسلم؛ صحيح البخاري مع الفتح 13/264؛ الاعتصام، باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ سنن النسائي، 5/110-111؛ مناسك الحج، باب وجوب الحج، سنن ابن ماجه، 1/5؛ المقدمة، باب إتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
4 في المطبوع: يعرفون.
5 في "د": والمبيحين. بزيادة واو.(2/902)
فتنتهم 1، والاعتذار عن بعض أكابرهم، زلة لا يُرقى سليمها، وورطة قد هلك وضل زعيمها، وما أحسن قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} 2، فأقبلوا وامتثلوا موعظة ربكم، وجاهدوا في الله حق جهاده.
وقد أجمع المسلمون على جهاد عدوهم، مع الإمام سعود -وفقه الله - وقد قرر أهل السنة في عقائدهم، أن الجهاد ماضٍ مع كل إمام، وهو فرض على المشهور 3 أو ركن من أركان الإسلام، لا يبطله جور جائر. وقد قال بعض السلف لما لامه بعض الناس على الصلاة خلف المبتدعة: إن دعونا إلى الله أجبنا، وإن دعونا إلى الشيطان أبينا 4.
وفي الحديث: "جاهدوا المشركين بأنفسكم وأموالكم وألسنتكم" 5. وفقنا الله
__________
1 إن فتنة المشركين لم تكن أمرا هينا في وقت من الأقوات، وإن أظهروا الحب والصداقة المفتعلة {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران: 118] فمن كان حاله هكذا، فكيف يمكن اتخاذه صديقا معينا موثوقا به، واعتبار فتنته هينا. ثم إن الله قد أخبرنا عن منتهى قصدهم تجاهنا، في قوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120] .
2 سورة سبأ، الآية "46".
3 هو فرض على الكفاية؛ إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وإلا أثموا جميعا. هذا ما اتفقت عليه المذاهب الأربعة، وغيرها. انظر: المبسوط، للسرخسي، 10/3؛ حاشية ابن عابدين، /122؛ شرح فتح القدير، 5/426؛ بدائع الصنائع، 9/4299؛ الشرح الصغير، للدردير، 2/267؛ روضة الطالبين، 10/208؛ المغني مع الشرح الكبير، 10/364؛ المحلى، لابن حزم، 7/461.
ويتعين الجهاد في ثلاث حالات:
1 - إذا هاجم العدو بلاد المسلمين. 2 - إذا استنفر الإمام المسلمين. 3 - إذا التقى الصفان.
انظر المراجع السابقة: المبسوط، 10/3؛ البدائع، 9/4301؛ابن عابدين، 4/123؛ والشرح الصغير، 2/267؛ والروضة، 10/214؛ والمغني، 10/365-366؛ والمحلى، 7/461.
4 لم أعرف قائله.
5 سنن أبي داود، 3/22-23؛ الجهاد، باب كراهية ترك الغزو؛ سنن النسائي، 6/7؛ الجهاد، باب وجوب الجهاد؛ سنن الدارمي، 2/280؛ الجهاد، باب في جهاد المشركين باللسان واليد؛ مسند الإمام أحمد، 3/124، 215. "كلهم بتقديم الأموال على الأنفس".(2/903)
وإياكم، للجهاد في سبيله والإيمان بوعده وقيله. واحذروا المراء والخوض في دين الله بغير علم، فإنه من أسباب الهلاك؛ كما صح بذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم 1.
وبلغوا/سلامنا/2 سائر الإخوان. {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} 3.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه/وسلم/4.
__________
1 ومما صح عنه صلى الله عليه وسلم في ذلك:
ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعوا المراء في القرآن، فإن الأمم قبلكم لم يلعنوا حتى اختلفوا في القرآن، وإن مراء في القرآن كفر".
مصنف ابن أبي شيبة، 10/528؛ الشريعة للأجري، ص 68؛ كنز العمال "2858".
ومنها: عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده. قال: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما يتدارؤون في القرآن. قال الرمادي: يتمارون. فقال: "إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وإنما نزل كتاب الله عز وجل يصدق بعضه بعضا، فلا تكذبوا بعضه ببعض، فما علمتم منه فقولوه، وما جهلتم كلوه إلى عالمه". شرح السنة للبغوي 1/260، باب الخصومة في القرآن؛ مسند الإمام أحمد، 2/185؛ مشكاة المصابيح، "237"؛ الشريعة للأجري، ص 68. قال شعيب الأرناؤوط في تحقيق شرح السنة: "إسناده جيد".
2 كذا في "أ" وفي جميع النسخ: السلام. وفي المطبوع سقط لفظ: "بلغوا سلامنا سائر الإخوان".
3 سورة الأحزاب: الآية "4".
4 في "أ": أجمعين: والمثبت أولى، لأنه متم للصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم.(2/904)
الرسالة السابعة والثمانون: إلى الأخوان من بني تميم يعزيهم في وفاتهالشيخ عبد الملك
...
الرسالة السابعة والثمانون1
قال جامع الرسائل:
وله أيضا – قدس الله روحه ونور ضريحه - رسالة إلى الإخوان من بني تميم 2، يعزيهم في الشيخ عبد الملك 3 -رحمه الله تعالى-، ويخبرهم بالصلح الذي وقع بينه وبين سعود الفيصل 4 لما خرج من الإحساء يريد نجد، بعد "وقعة الجودة" 5 ورجوع عبد الله إلى الرياض، وليس معه إذ ذاك إلا نزر قليل من البادية، والحاضرة، ومع سعود خلق كثير، وجم غفير.
فلما رأى – رحمه الله تعالى - كثرة تلك البوادي، وشدة الحنق، والغيظ مع أولئك الأعادي، وخشي على البلد من الدمار، وخراب الدين والدنيا، وهتك الأستار؛ سعى في الصلح، ودافع عن الإسلام والمسلمين، وبذل الجهد، وأخذ العهد على ضعفة المسلمين عن أولئك المعتدين. وهذا نص الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف عبد الرحمن، إلى الإخوان من بني تميم، سلمهم الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، وعلى أقداره وحكمه. ونسأل الله
__________
1 جاءت هذه الرسالة في المطبوع، في ص 179-180، وهي الرسالة رقم "28". وجاءت في "ب"، في ص 227-228.
2 قبيلة أصبح أفرادها من حاضرة نجد وجبل شمر والدساكر النجدية. ونظرا لتحضرها، فقد انعدمت من بينها الميزات التي تميز الأفخاذ والعشائر.
انظر: معجم قبائل العرب، 1/125-126، قلب الجزيرة، ص 140-141.
3 هو عبد الملك بن حسين، لم أقف على ترجمته، فيما اطلعت عليه.
4 تقدمت ترجمته في ص 45.
5 تقدم الحديث حولها في ص 47.(2/905)
أن يحسن عزاءنا، وعزاءكم، في الأخ الشيخ عبد الملك بن حسين، غفر الله ذنبه، ورحمه ورفع في المقربين درجته.
وما ذكرتم من جهة حالكم مع عبد الله، وصدقكم معه، صار معلوما، نسأل الله لنا، ولكم التوفيق.
وقد بذلنا الاستطاعة في نصرته، حتى نزل بالناس ما لا قبل لهم به، وخشينا على كافة المسلمين من أهل البلد، من الشيء، وهتك الأستار، وخراب الدين والدنيا والدمار. ونزلنا وسعينا بالصلح، بإذن من عبد الله في الصلح، /وألجأتنا/1 إليه الضرورة، ودفعنا عن الإسلام والمسلمين ما لا قبل لهم به. فإن يك صوابا، فمن الله، وإن يك خطأ، فمنا، ومن الشيطان.
وفي السير ما يؤيد ما فعلناه، وينصر ما انتحلناه. وقد صالح أهل الدرعية، وآل الشيخ، وعلماؤهم، وفقهاؤهم، على الدرعية، لما خيف السَّبي والاستئصال، وعبد الله ظهر بمرجلة البلد، ونزل الحائر، ولم يحصل منه نصر، ولا دفاع. {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 2.
ثم بلغنا أن الدولة، ومن والهم من النصارى وأشباههم، نزلوا على القطيف يزعمون نصرة عبد الله، وهم يريدون الإسلام وأهله، وحضَّينا/ سعودا/3 على جهادهم، ورغبناه في قتالهم، وكتبنا/ لبلاد المسلمين/4 بذلك. قال الله تعالى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} 5.
والعاقل يدور مع الحق، أينما دار، وقتال الدولة، والأتراك، والإفرنج، وسائر الكفار،
__________
1 كذا في "ب"، والمطبوع. وفي بقية النسخ: وألجئنا.
2 سورة: يوسف، الآية "21".
3 في "ج" و "د" والمطبوع: سعود.
4 في "أ": "لبلاد الإسلام"، وفي "د": "لبلدان المسلمين".
5 سورة الأنفال، الآية: "72".(2/906)
من أعظم الذخائر المنجية من النار. {يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} 1 والسلام.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
1 سورة الأحزاب، الآية: "4".(2/907)
الرسالة الثامنة والثمانون: منظومة في الفتنة التي وقعت بين المسلمين
...
الرسالة الثامنة والثمانون1
قال جامع الرسائل:
وله أيضا – قدس الله روحه ونور ضريحه - منظومة أنشأها/ رحمه الله-/2 لما اشتدت الكربة، واستحكمت الغربة، وقلَّ المعاون والمساعد، وكثر المخالف والمعاند، ودهمت فوادح معضلات الحوادث، وهجمت بكلاكلها الخطوب الأثائث 3 التي تشيب من أهوالها النواصي، ويعجز عن حمل بعاعها 4 الجبال الرواسي.
فأول ذلك الفتنة التي وقعت بين المسلمين، وانثل بها عرش الملة والدين، وانهدم/بها/5 سور الإسلام وصار الأمر بأيدي البوادي الطغام، فانفرجت ذات البين، وانكشفت العورة لأهل الكفر والمين 6.
فعند ذلك، فحدتنا المعضلات العظام، وانهدمت أصول الدين والإسلام، وانطمست المعالم والأحكام؛ فقدمت العساكر إلى البلاد الإسلامية، فانكشفت شمس الرسالة المحمدية، وافتتن كثير من جهلة الناس، بفتوى من ينتسب إلى العلم، من أهل الجهل والإفلاس، بأن تلك العساكر التي هجمت على بلاد أهل الإسلام، إنما جاءوا لنصرة ذلك الإمام 7.
فأنشأ هذه المنظومة، من حرارة الجوى 8، وخوفا على الناس، من سلوك المفاوز
__________
1 في المطبوع: جاءت هذه الرسالة في ص 262-268، وهي فيه الرسالة رقم "43". وفي "ب" جاءت في ص 92-98. وفي "د" جاءت بعد الرسالة رقم "32".
2 ساقط في "أ"، والمطبوع.
3 الأثائث، أي الكثيرة. لسان العرب، 2/110، مادة: "أثث".
4 بعاعها: أي أثقالها. لسان العرب، 8/17، مادة: "بعع". وفي المطبوع: أعبائها.
5 ساقط في "د".
6 المين: الكذب. لسان العرب، 13/435؛ وترتيب القاموس المحيط، 4/305، مادة: "مين".
7 يريد الإمام عبد الله بن فيصل بن تركي؛ الذي استعان على أخيه سعود، بجيوش من مدحت باشا في العراق. وقد تقدم ذلك في ص 49.
8 الجوى: الحرقة، وشدة الوجد، من عشق، أو حزن. لسان العرب، 14/157؛ مادة: "جوا".(2/908)
التوى 1، وأسّ على من هلك،/بشبه/2 المشبهين وتمويهات 3 الأئمة المضلين.
ويذكر مآثر أهل الإسلام، الذين استجابوا لله ورسوله، بدعوة شيخ الإسلام، وعلم الهداة الأعلام، الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وما كانوا عليه من المعتقد، حسن السيرة، وخلوص الطوية والسريرة، ويحذر من طريقة أقوام، إنما/نشؤا/4 في ظل عافية الإسلام، ولم يعرفوا ما عليه أهل الجاهلية، من عبادة الأوثان والأصنام، الذرائع للقضية إلى الدخول في ولاية من حاد الله ورسوله، وموالاتهم، والرضا بأحكامهم وقوانينهم.
وقد حُمِلَت إليهم الأثقال، ورُحلت الرواحل، واستفاء بظلهم من آثر العاجل، وغمض الطرف عن الآجل. فكم هلك بسببهم من هلك، وانتظم في سلكهم من شك في دينه وارتبك، فنعوذ بالله من مضلات الفتن، ما ظهر منها وما بطن.
وإذا أردت ترى مصارع من ثوى 5 ... ممن تربص وارتضى بهوان 6
وتروم مصداق الذي قد قاله ... شيخ الوجود العالم الربان
فاستقرئ الأخبار ممن جاءهم ... ماذا رأوا من أمة الكفران
نبذوا الكتاب وراءهم واستبدلوا ... عن ذاك بالقانون ذي الطغيان
وعن الأذان استبدلوا من زيغهم ... بالبوق تشريعا من الشيطان
وكذا مسبة ربنا سبحانه ... والجعل للأنداد للرحمن
وكذاك شرب المسكرات مع الزنا ... وكذا اللواط وسائر النكران
__________
1 التوى: الهلاك. لسان العرب، 14/106، مادة: "توا".
2 في "ج" و "د": بشبهة.
3 في "أ": تمويه.
4 في "د": نشو.
5 في "ب" و "ج" والمطبوع: "توى"، وفي "د": "ترى". وفي "أ" والمثبت: "ثوى"، ومعناه: هلك؛ يقال للمقتول: قد ثوى. لسان العرب/، 14/126، مادة: "ثوا". وقد تقدم معنى "توى" بالتاء، أنه: الهلاك. في هامش "1" من هذه الصفحة.
6 هذا الشعر من هنا، لجامع الرسائل: الشيخ سليمان بن سحمان.(2/909)
وكذلك الأرفاض قام شعارهم ... بل أظهروا كفرانهم بأمان
هل يرتضي بالمكث بين ظهورهم ... عبيد يشم روائح الإيمان
والله ما يرضى بهذا مؤمن ... أنى يكون وليس في الإمكان
حاش الذي ما اسطاع يوما جهرة ... أو مظهرا للدين ذا تبيان
لكنما المقصود من لم يرفعوا ... رأسا بما قد جاء في القرآن
أو صحَّ في الإخبار عن خير الورى ... والصحب والأتباع بالإحسان
وضروا ولاية دولة قد عارضت ... أحكامه بزبالة الأذهان
وضعوا قوانينا تخالف وحيه ... واستبدلوا الإيمان بالكفران
فسَلِ المقيم بظلمهم وحماهمو ... هل أنكروا ما فيه من طغيان
أو زايلوا أصحابه أو قاطعوا ... أخدانهم من كل ذي خسران
لكنهم قد آثروا الدنيا على الـ ... أخرى فيا سُحقا لذي العصيان
بل ليتهم كفوا عن استجلابهم ... من غاب من صحب ومن إخوان
بل صح عن بعض الملا/تسفيهه/1 ... /أحلام/2 /أهل/3 الحق والإيمان
تبا لهاتيك العقول وما رأت ... واستحسنت من طاعة الشيطان 4
وقد قال الشيخ – رحمه الله تعالى - فيما تقدم من الرسائل، أن الإقامة ببلد يعلو فيها الشرك والكفر، ويظهر الرفض، ودين الإفرنج، ونحوهم، من المعطلة للربوبية والإلهية، وترفع فيها شعارهم، ويُهدم الإسلام والتوحيد، ويعطل التسبيح والتكبير والتحميد، /وتقلع/5 قواعد الملة والإيمان، ويحكم بينهم بحكم الإفرنج واليونان، ويشتم السابقون، من أهل بدر، وبيعة الرضوان، فالإقامة بين ظهرانيهم والحالة هذه، لا
__________
1 في "أ": تسفيه.
2 في "د": أحكام.
3 في "أ": لأهل.
4 إلى هنا نهاية شعر جامع الرسائل.
5 في "د": وتنقلع.(2/910)
تصدر عن قلب/باشرته/1 حقيقة الإسلام والإيمان، والدين، وعرف ما يجب من حق الله في الإسلام على المسلمين؛ بل لا يصدر عن قلب رضي بالله ربا وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا 2.
/ثم/3 إنه – رحمه الله - بذل الوسع بكتب الرسائل، والنصائح، والتحذير عن أسباب الندم، والفضائح.
والمنظومة المشار إليها من كلامه – رحمه الله - مسودة، ولم أجدها تامة. وهذا نص الموجود منها، قال – رحمه الله وعفا عنه/ بمنِّه/-4:
دع عنك ذكر منازل ومغاني ... وبدور أنس قد بدت/وغوان/5
و/جآذر/6 في روضة يشدو بها ... صوت النديم وشادن فتان
لا تُصغ للعشاق سمعك إنما ... إنما منادمهم بين البرية عان
والعشق داء قاتل ودواؤه ... في السنة المثلى عن الأعيان
قطع الرسائل والذرائع والتي ... بين الورى أحبولة الشيطان
واقرأ كتاب الله إن رُمت الهدى ... أو رُمت ترقى ذروة الإحسان
واعكف بقلبك في/أزاهر روضة/7 ... مملوءة بالعلم والإيمان
وانظر إلى تركيبه واعمل به ... إن كنت ذا بصر بهذا الشان
هذا ولا ينجيك طب في التي ... ترجو بغير مشيئة الرحمان
__________
1 كذا في المطبوع، وفي بقية النسخ: باشره.
2 تقدم ذلك ضمن الرسالة الثانية في ص 210-211.
3 في "أ": نعم.
4 ساقط في "ب" و "ج" و "د"، والمطبوع.
5 في "أ": وغواني.
6 في المطبوع: "جوزرا". والجآذر: جمع جوذر، وهو ولد البقرة، وقيل البقرة الوحشية. لسان العرب، 4/124، مادة: "حذر".
7 كذا التعديل في "أ"، بدلا من: "رياض أريضة". وهذا الثاني هو المثبت في "ج"، وفي "ب"، و "د": "أراضي رويضة"، وفي المطبوع: "أرئك روضة".(2/911)
فاسأله في غسق الليالي والدجى ... يا دائم المعروف والسلطان
وانظر إلى ما قاله علم الهد ... عند ازدحام عساكر الشيطان
أشكو إليك حوادثا أنزلتها ... فتركتني متواصل الأحزان
من لي سواك يكون عند شدائدي ... إن أنت لم تكلأ فمن يكلاني
لولا رجاؤك والذي عودتني ... من حسن صنعك/لاستطير/ 1 جناني
واذكر مآثر أقوام قد انتدبوا ... يوما لنصر الدين بالإحسان
من صالحي الإخوان أعلام الهدى ... من أطدوا التوحيد ذي الأركان
قامت بهم أركان شرعة أحمد ... وعلت سيوف الحق والإيمان
وغدا الزمان بذكرهم متبسما ... يبدي سنا للطالب الولهان
سارت بهم أبناء مجد في الورى ... يغشي/سناها/2 عابد الأوثان
قد جددوا للدين أوضح منهج ... /يبدي/3 ضيا للسالك الحيران
حتى علا في عهدهم شأن الهدى ... وانقض ركن الشرك في الأديان
أما العقائد إن ترد تحقيقها ... عنهم بلا شك ولا كتمان
إن الإله مقدس سبحانه ... رب عظيم جل عن حدثان
حقا على عرش السماء قد استوى ... ويرى ويسمع فوق ست ثمان
يعطي ويمنع من يشاء بحكمة ... في كل يوم ربنا ذو شان
خضعت لعزة وجهه وجلاله ... حقا وجوه الخلق والأكوان
بل كل معبود سواه فباطل ... من دون عرشه للثرى التَّحْتان
فاحذر توالى في حياتك غيره ... من كل معبود ومن شيطان
واحذر طريقة أقوام قد افتتنوا ... في حب أدنى أو خسيس فان
__________
1 كذا في جميع النسخ، ولعه: لاستطار.
2 في "د": شناها.
3 كذا في المطبوع. وفي جميع السنخ: يبدوا.(2/912)
واقطع علائق حبها وطلابها ... إذ قطعوا فيها عرى الإيمان
لهفي عليهم لهفة من واله ... متوجعا من قلة الأعوان
قد صاده المقدور بين معاشر ... في غفلة عن نصرة الرحمان
واستبدلوا بعد الهدى طرق الهوى ... لما عموا عن واضح البرهان
واقطع علاقة حبهم في ذاته ... لا في هواك ونخوة الشيطان
واهجر مجالس غيهم إذ قطعوا ... فيها عرى التوحيد والإيمان
لا سيما لما ارتضاهم جاهل ... ذو قدرة في الناس مع سلطان
لما بدا جيش الضلالة هادما ... ربع الهدى وشرائع الإحسان
قوم سكارى لا يفيق نديمهم ... أبد الزمان/ يبوء/1 بالخسران
قوم تراهم مهطعين لمجلس ... فيه الشقاء وكل كفر دان
بل فيه قانون النصارى حاكما ... من دون نص جاء في القرآن
بل كل أحكام له قد عطلت ... حتى الندا بين الورى بأذان
ويرون أحكام النبي وصحبه ... في شرعه من جملة الهذيان
ويرون قتل القائمين بدينه ... في زعمهم من أفضل القربان
والفسق عندهمو فأمر سائغ ... يلو به الأشياخ كالشبان
والمنع في قانونهم وطريقهم ... غصب اللواط كذاك والنسوان
فانظر إلى أنهار كفرٍ فجرت ... قد صادمت لشريعة الرحمان
بل لا يزال لجريها بين الورى ... من هالك متجاهل خوان
والله لولا الله ناصر دينه ... لتفصَّمت فينا عرى الإيمان
فالله يجزي من سعى في سدها ... من أمة التوحيد والقرآن
والله يعطي من يشاء بفضله ... فوق الجنان عطية الرضوان
وكذا يجازي من سعى في رفعها ... ما قد أعد لصاحب الكفران
__________
1 في المطبوع: يعود.(2/913)
يا رب واحكم بيننا في عصبة ... شدوا ركائبهم إلى الشيطان
سلوا سيوف البغي من أغمادها ... وسعوا بها في ذلة وهوان
واستبدلوا بعد الدراسة والهدى ... بالقدح في صحب وفي إخوان
صرفوا نصوص الوحي عن أوضاعها ... وسعوا بها في زمرة العميان
فتحوا الذرائع والوسائل للتي ... يهوى هواها عابدو الصلبان
وسعوا بها في كل مجلس جاهل ... أو مشحرك أو أقلف نصران
وقضوا بأن السير نحو ديارهم ... في كل وقت جائز بأمان
لم يفقهوا معنى النصوص ولم يعوا ... ما قال أهل العلم والعرفان
ما وافق الحكم المحل ولا هو اسـ ... توفي الشروط فصار ذا بطلان
فادرأ بها نحرهم تلقى الهدي ... وارجمهمو 1 بثواقب الشهبان
واقعد لهم في كل مقعد فرصة ... واكشف نوابغ جهلهم ببيان
حتى يعود الحق أبلج واضحا ... يبدو سنا للسالك الحيران
وقضوا بأن العهد باقي للذي ... ولَّى الولاية شيعة الشيطان
تبا لهم من معشر قد أشربوا ... حب الخلاف ورشوة السلطان
وقضوا له بالجزم أن متابه ... قد هدّ ما /أعلى من البنيان/2
وطلابه للأمر والحرب الوبي ... فعلى طريق العفو والغفران
قال جامع الرسائل: هذا آخر ما وُجد منها، فرحمه الله، وعفا عنه. وصلى الله على/ عبده ورسوله/3 محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
__________
1 في "د": واجهموا.
2 جاء في هوامش جميع النسخ: "ما أبدا من البطلان". ولعها رواية.
3 ساقط في "ب"، و "ج"، و "د"، والمطبوع.(2/914)
الرسالة التاسعة والثمانون: إلى سالم بن سلطان
...
الرسالة التاسعة والثمانون1
قال جامع الرسائل:
وله أيضا – قدس الله روحه، ونور ضريحه - رسالة إلى سالم بن سلطان 2 أمير الشارقة، من ساحل مان، يحرضه على لزوم الجماعة والانحياز إلى المسلمين وترك المفارقة، ونبذ الطاعة، وذلك بعد ما حصل الخلل في المسلمين بسب الفتنة التي بين آل سعود، ومقتل تركي بن أحمد السديري، أمير آل سعود في عمان. فخرج عزان الأباضي 3، فاستولى على ممالك المسلمين التي بتلك الجهات، إلا ما كان من سالن بن سلطان، فإنه لم ينزع يدا من طاعة، ولم يفارق الجماعة.
فكتب له الشيخ يحضه على الثبات والانحياز إلى المسلمين، وعدم الدخول تحت طاعة عزان الأباضي، ومن ساعده من الجهمية والمشركين. وهذا نص الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأمير المكرم سالم بن سلطان -/سلمه الله تعالى-/4. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
__________
1 في المطبوع جاءت هذه الرسالة في ص 270-272، وهي الرسالة رقم "45".
وجاءت في "ب" في ص 102-104؛ ووردت في الدرر السنية، 7/182-183.
2 هو: سالم بن ثويني بن سعيد بن سلطان، ملك عمان ومسقط، كان في صباه يساعد أباه في تدبير مملكته، ثم طمع بالانفراد في الملك؛ فاغتال أباه سنة "1282هـ"، في ميناء صحار، وانفرد بالأمر، فاستمر سنتين وأشهرا، وخُلع سنة "1285هـ"، فرحل إلى الهند، فمات فيها سنة "1290هـ" الأعلام، للزركلي، 3/71.
3 هو عران بن قيس بن عران بن قيس بن أحمد بن سعيد البوسعيدي، من أئمة عمان، بويع بالإمامة في مسقط، بعد خلع السلطان سالم بن ثويني سنة 1285هـ. كان شجاعا حازما؛ استولى على ما في أيدي الأمراء وأبناء الأمراء، من البلاد. مدة إمامته سنتان وأربعة أشهر، ونصف "ت1287هـ". الأعلام، للزركلي، 4/228.
4 زيادة في "د"، والمطبوع.(2/915)
فأحمد إليك الله، الذي لا إله إلا هو على نعمه. وبلغنا/ خبر الفتنة/1 التي حصلت عندكم، من عران، ومن تبعه، ممن استزلهم الشيطان. وبلغنا أنك لم تشهد هذا المشهد، ولم تحضر ما جرى في ذلك المعهد، وسرنا؛ هذا، لأنا نحب لكم ما جرى عليه أسلافكم من الانحياز إلى المسلمين، ولزوم الجماعة، وترك المفارقة، ونبذ الطاعة. فالله سبحانه يبتلي العبد على حسب إيمانه 2؛ ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين3.
فعليكم بالجد والاجتهاد فيما يحفظ الله به عليكم الإيمان والتوحيد، وينجيكم من الركون إلى أهل الكفر والإشراك والتبديد. قال تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} 4، وقال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} 5، وقال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ، تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ، وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا
__________
1 كذا في المطبوع، وفي بقية النسخ: خبرها الفتنة.
2 وفي ذلك ورد حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، قال: قلت يا رسول الله: أي الناس أشد بلاء؟ قال: "الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، فيبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلبا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة، ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد، حتى يتركه على الأرض، ما عليه خطيئة".
سنن الترمذي، 4/520؛ الزهد، باب ما جاء في الصبر على البلاء. قال الترمذي: "حديث حسن صحيح" سنن ابن ماجه، 2/386؛ الفتن، باب الصبر على البلاء.
3 هنا اقتباس من قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 3] .
4 سورة هود، الآية "113".
5 سورة المجادلة، الآية "22".(2/916)
اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} 1، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 2. فتأمل قوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فإن هذا الحرف؛ وهو "إن" الشرطية، تقتضي نفي شرطها، إذا انتفى جوابها، ومعناه: إن من اتخذهم أولياء، فليس بمؤمن. فعليكم بتقوى الله، ولزوم طاعته، والعمل لوجهه واحذروا أن يضيع الإسلام لديكم، أو يلتبس الحق عليكم، فتزل قدم بعد ثبوتها، وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله 3. نسأل الله لنا. ولكم الثبات في الأمر، /والعزيمة/4 على الرشد، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا 5، وأن لا/ينزع/6 عنا ما منَّ به /علينا/7 من الإيمان والتوحيد، بعد ما تفضل علينا وأعطانا.
وقد وعد الله عباده المؤمنين، وحزبه المفلحين بالنصر والظفر وحس العاقبة، قال تعالى: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} 8، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} 9، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} 10.
ولقد كتبنا هذا تذكرة، ولم يبلغنا عنك في فتنة عران، ما يوجب اتهامك ولكن
__________
1 سورة المائدة، الآيات "78-81".
2 سورة المائدة، الآية: "57".
3 هذا اقتباس من قوله تعالى: {وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 94] .
4 في المطبوع: والاستقامة.
5 أصل هذا الدعاء، قوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران: 8] .
6 في "د": يزيغ.
7 ساقط في "ب"، و "ج"، "و "د".
8 سورة الصافات الآية "173".
9 سورة النحل، الآية "128".
10 سورة التوبة الآية: "123".(2/917)
أحببنا الموعظة والتذكرة. والواصل إليك، ولدنا علي بن سليم 1، بتدبير الإمام بتذكير أهل الإسلام، وحثهم على الثبات، والتمسك بدين الله، الذي ارتضاه لنفسه. واختار القدوم عليكم، لأنكم أخص. والله الموفق والهادي.
[وبلغ سلامنا/الإخوان/2 والخواص، واقرأ عليهم/هذا/3 الكتاب. ولدينا الإمام ومحمد، وأخيه، وأولاده، وعيالنا ينهون السلام. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته] 4.
__________
1 تقدمت ترجمته في ص 95.
2 زائد في "ب"، و "ج"، و "د".
3 زائد في "ب"، و "ج" و "د".
4 ما بين المعقوفتين ساقط في المطبوع، ويوجد بدلا منه: "وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم".(2/918)
الرسالة التسعون: إلى الشيخ حمد بن عتيق في شأن الفتنة
...
الرسالة التسعون1
قال جامع الرسائل:
وله أيضا – قدس الله روحه، ونور ضريحه - رسالة إلى الشيخ حمد بن عتيق 2/3 في شأن الفتنة الواقعة بين آل سعود 4، وكيف كان أول هذه الفتنة، وآخرها. وقد تقدم نظيرها إلى أهل الحوطة 5، لكن هذه أبسط فصل الشيخ فيها ما عنده وشرحه. كما أن الشيخ حمد قد كتب إليه، بما عنده في ذلك، وأوضحه، وقد حثه فيها – رحمه الله - على بذل الجهد، والاجتهاد، في تحريض الناس على جهاد أعداء الله، ورسوله، الذين قلعوا أصول الدين، والإسلام، وهدموا قواعده العظام، وطمسوا منه المنار، والأعلام، وعطلوا الأحكام الشرعية، وأظهروا القوانين الإفرنجية.
وهذه/وظيفة/6 العلماء قديما وحديثا؛ يتواصون بالنصح لعباده، وردهم إليه، تحضيضا وتحثيثا، وليس من شأنهم السكوت، وتمشية الحال، على أي حال، كما هي حال من لا غيرة له على دين الله، من أئمة الجهل والضلال، الذين يرون أن الكف لهم أسلم، وإن هذا الرأي أحكم. وهذا نص الرسالة:
__________
1 في المطبوع جاءت هذه الرسالة في ص 273-276، وهي الرسالة رقم "46".
وجاءت في "ب" في ص 104-107؛ ووردت في الدرر السنية، 7/183-185.
2 تقدمت ترجمته في ص 91.
3 هذه المقدمة من هنا –من كلمة: في شأن ... إلى آخرها - يختلف عنها عما في "ب"، ففيه: " ... رحمهما الله تعالى يحظه على بذل الجد، والاجتهاد، ونشر النصائح والرسائل في العباد، وبذل الوسع والطاقة، في جهاد أعداء الله، ورسوله، الذين سعوا في طمس أنوار التوحيد، وقلع فروعه وأصوله. وقد تقدم نظير هذه الرسالة، إلى أهل الحوطة، لكن في هذه زيادة بسيط، وتبيين ما عنده في شأن هذه الحوادث. قال –رحمه الله تعالى-: ... ".
4 تقدم بيان هذه الفتنة في ص 47-52.
5 تقدم ذلك في رسالة رقم "86"، في ص 898.
6 في "ج" و"د": وضيفة.(2/919)
بسم الله ارحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم، حمد بن عتيق، سلمه الله، ونصر به شرعه ودينه، وثبت إيمانه ويقينه، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، على نعمه، ومرّ بلواه، وبديع حكمه. والخط وصل، وما ذكرت صار معلوما، وكتبت لك/خطا أولا/1، على نشر النصائح، وكتب الرسائل، لأني استعظمت ما فعل سعود؛ من خروجه على الأمة وإمامها، يضرب برها وفاجرها إلا من أطاعه، وانتظم في سلكه.
وعبد الله له بيعة، وله ولاية شرعية في الجملة، ثم بعد ذلك بدا لي منه، أنه كاتب الدولة الكافرة الفاجرة، واستنصرها واستجلبها على ديار المسلمين، فصار كما قيل:
/والمستجير/2 بعمرو عند كربته ... كالمستجير من الرمضاء بالنار 3
فخاطبته شفاها، بالإنكار والبراءة، وأغلظت له؛ بالقول أن هذا هدم لأصول الإسلام، وقلع لقواعده، وفيه وفيه وفيه مما لا يحضرني تفصيله الآن، فأظهر التوبة والندم، وأكثر الاستغفار. وكتبت على لسانه، لوالي بغداد، أن الله قد أغنى ويسَّر، وانقاد لنا/من/4 أهل نجد والبوادي ما يحصل به المقصود إن شاء الله، ولا حاجة لنا بعساكر الدولة، وكلام من هذا الجنس.
__________
1 في "ب"، و"د": خط أول.
2 كذا في النسخ. والرواية المشهورة: "والمستغيث".
3 البيت للتكلام الضبعي. انظر: فصل المقال في شرح كتاب الأمثال، لأبي عبيد القاسم بن سلام البكري، تحقيق الدكتور: إحسان عباس، والدكتور عبد المجيد عابدين، دار الأمانة، مؤسس الرسالة، بيروت، لبنان، 1391هـ 1971م، ص 377.
وأصل هذا البيت: أن جساس بن مرة لما طعن كلبيا، وهو كليب وائل، استسقى عمرو بن الحارث ماء فلم يسقه، وأجهز عليه. فقال التكلام في ذلك هذا البيت.
4 من زائد في جميع النسخ. لا وجود له في "أ".(2/920)
وأرسل الخط فيما أرى، وتبرأ مما جرى، فاشتبه علىّ أمره،/وتعارض/1 عندي موجب إمامته، ومبيح خلعه؛ حتى نزل سعود بمن معه من أشرار نجد وفُجارها ومنافقيها، فعثا في/العارض/؛2 بسفك الدماء وقطع الثمار، وإخافة الأرامل والمحصنات، وانتهاك حرمة اليتامى والأيامى، هذا وأخوه منحصر في شعب الحائر، وفقد ظهر عجزه، واشتهر وأهل البلد معهم من الخوف، ومحبة المسارعة إليه ما قد عرف.
فرأيت من المتعين على مثلي، الأخذ على يد أهل البلاد، والنزول إلى هذا الرجل، والتوثق منعه، ودفع صولته؛ حقنا لدماء المسلمين، وصيانة لعوراتهم ونسائهم، وحماية لأموالهم وأعراضهم، وكان لم يعهد لي شيئا، ولكن الأمر إذا لم يدرك كان الرأي فيه أصوبه، وأكمله، وأعمه، نفعا.
فلما واجهت/سعودا/3، وخاطبته، فما يصلح الحال بينه، وبين أخيه، اشترط شروطا ثقالا على أخيه، ولم يتفق الحال؛ فصارت الهمة فيما يدفع الفتنة، ويجمع الكلمة، ويلم الشعث، ويستدرك البقية. وخشيت من عنوة على البلدة، يبقى عارها، بعد سفك دمائهم، ونهب أموالهم/،4 والدار الآخرة؛ وخرج /عرفاؤه/،5 والمعروفون من رجالها، فبايعوا /سعودا/،6 بعد ما أعطاهم على دمائهم وأموالهم، محسنهم ومسيئهم عهد الله وأمانه، عهدا مغلظا، فعند ذلك كتبت إليك الخط الثاني بما رأيت من ترك التفرق والاختلاف، ولزوم الجماعة.
__________
1 في "أ"، والمطبوع: وتعارضا.
2 في المطبوع: الأرض. وهو خطأ. إذ المراد هنا منطقة "العارض" التي تمركز فيها سعود، كما هو في جميع النسخ. وقد تقدم التعريف بالعارض في ص 35.
3 في "د": سعود.
4 في "ب"، و "ج" و "د": ورسله المطبوع.
5 كذا في المطبوع، وفي جميع النسخ: عرفاه.
6 في "د": سعود.(2/921)
وبعد ذلك أتانا النبأ الفادح الجليل، والخطب الموجع العظيم، الذي طمس أعلام الإسلام، ورفع الشرك بالله، وعبادة الأصنام، في تلك البلاد، التي كانت بالإسلام ظاهرة، ولأعداء الله قاهرة؛ وذلك بوصول عساكر الأتراك، واستيلائهم على الحسا والقطيف/يتقدمهم/1 طاغيتهم داود بن جرجيس 2 داعيا إلى الشرك بالله وعبادة إبليس، فانقادت لهم تلك البلاد، وأنزلوا العساكر بالحصون والقلاع، ودخلوها بغير قتال ولا نزاع، فطاف بهم إخوانهم من المنافقين، وظهر الشرك برب العالمين، وشاعت مسبة التوحيد والدين، وفشا اللواط والمسكر والخبث المبين، ولم ينتطح في ذلك شاتان"3، لما أوحاه، وزينه الشيطان، من أن القوم أنصار لعبد الله بن فيصل، فقَبِل هذه الحيلة من آثر الحياة الدنيا وزينتها، على الإيمان بالله ورسوله 4، وكف النفس عن هلاكها وشقاوتها. وبعضهم يظن أن هذه الحيلة لها تأثير في الحكم؛ لأنهم لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق؛ بل بلغني أن بعض من يدعي طلب العلم، يحتج بقول شاذ مطرح، وهو أن لولي الأمر أن يستعين بالمشرك عند الحاجة؛
__________
1 يقدمهم: يقدّمهم.
2 تقدمت ترجمته في ص 58.
3 مل عربي؛ يضرب للأمر المسلَّم به، الذي لا يجري فيه خلاف ونزاع.
انظر: مجمع الأمثال، للميداني، 2/228؛ جمهرة الأمثال، 2/313. وفيهما بلفظ: "لا ينتطح فيها عنزان". يقال إن أصله حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ذكره البغدادي في تاريخ بغداد، 13/99، عند ترجمة مسلم بن عيسى؛ وابن الأثير في النهاية، 5/74. وهو عن ابن عباس، في امرأة من بني خطمة، التي هجت النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال: "من لي بها" فقال رجل من قومها: "أنا لها يا رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما إنه لا ينتطح فيها عنزان" قال: فأرسلها مثلا، وما قيل قبل ذلك.
والحديث ضعفه ابن الجوزي، في العلل المتناهية، 1/175؛ وقال: "قال ابن عدي: هذا مما يتهم محمد بن الحجاج بوضعه".
4 في "ب"، و "ج"، و "د"، والمطبوع: ورسله.(2/922)
ولم يدر هذا القائل، أن هذا القول يحتج قائله، بمرسل ضعيف 1 مدفوع بالأحاديث المرفوعة الصحيحة، وأن قائله اشترط أن لا يكون للمشرك رأي في أمر المسلمين، ولا سلطان؛ 2، لقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} 3 فكيف بما هو أعظم من ذلك، وأطم من الانسلاخ الكلي، والخدمة الظاهرة، لأهل الشرك.
إذا عرفت هذا، عرفت شيئا من جناية الفتن، وأن منها قلع قواعد الإسلام، ومحو/آثاره/4 بالكلية. وعرفت حينئذ أن هذه الفتنة من أعظم ما طرق أهل نجد في الإسلام، وأنها شبيهة بأول فتنة وقعت فيه.
فالله الله في الجد والاجتهاد، وبذل الوسع والطاقة، في جهاد أعداء الله، وأعداء رسله. قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} 5. إلى أمثال ذلك في القرآن يعرفها الخبير بهذا الشأن.
هذا ما عندي في هذه الحادثة، قد شرحته وبسطته لك، كما ذكرت لي ما عندك. وأسأل الله أن يهديني وإياك إلى صراطه المستقيم، وأن يمنَّ علينا، وعليك بمخالفة أصحاب الجحيم.
/وبلغ سلامنا العيال والطلبة، ومن لدينا العيال، والإخوان يبلغون السلام، وأنت سالم والسلام/،6 وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
1 يشير إلى مرسل الزهري، الذي تقدم ذكره في ص 285، "أن النبي صلى الله عليه وسلم استعان بناس من اليهود ... " الحديث وهو مرسل ضعيف.
2 تقدم ذكر هذه الشروط في مسألة: الاستعانة بالمشرك ص 239-240.
3 سورة النساء، الآية: "141".
4 في "ب"، و "ج"، و"د"، والمطبوع: أثره.
5 سورة آل عمران، الآية: "187".
6 ساقط في المطبوع.(2/923)
الرسالة الحادية والتسعون: إلى الشيخ حمد بن عتيق يحضه على الغلظة في معاداة من والى المشركين
...
الرسالة الحادية والتسعون1
قال جامع الرسائل:
وله أيضا – قدس الله روحه، ونور ضريحه - رسالة إلى الشيخ حمد بن عتيق 2 يحضه 3 على الغلظة في معاداة من والى المشركين، وركن إليهم، أو سافر إلى بلادهم وشهد كفرياتهم ومبارزتهم /لرب/4 العالمين؛ لأن بعضا ممن ينتسب إلى العلم والدين ما كبر همه بهذه القضية، ولا عرف المصيبة والرزية، وبعضا أنكر وتبرأ، لكن مع الهوينا ولين الجانب. وهذا لا يستقيم/معه/5 إسلام، بل هو للهدي النبوي مجانب. وهذا نص الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم حمد بن عتيق، سلمه الله تعالى، وفرج له من كل هم وضيق. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
أوصيك بتقوى الله، والصدق في معاملته، ونصر دينه، والتوكل عليه في ذلك
__________
1 في المطبوع جاءت هذه الرسالة في ص 276-279، وهي الرسالة رقم "47". وجاءت في "ب" في ص 107-109. ووردت في الدرر السنية 7/179-180.
2 تقدمت ترجمته في ص 91.
3 هذه المقدمة من هذه الكلمة "يحضه"، تختلف ألفاظها عما في "ب". ففيه: " ... يحضه أيضا على القيام في الدعوة إلى الله، والتحذير من موالاة أعداء الله، والحض على جهادهم. ويذكر –رحمه الله - أن بعض الإخوان ما كبر همه بهذه القضية، يعني ما دهم الإسلام والمسلمين من قدوم هذه الطائفة الكافرة، ولا اشتد إنكاره ولا ظهر منه غضب لله وحمية لدينه، وأنفة من ذهاب الإسلام، وهدم قواعده ... إلى آخر ما ذكر رحمه الله. وهذه الرسالة اختصرها الناقل لها، وهذا نصها". فبعض جملها منقولة نصا كما هي في نص رسالة الشيخ.
4 في "أ": رب.
5 في "د": مع.(2/924)
وأكثر الناس استنكروا الإنكار، على من والى عساكر المشركين، وركن إليهم، أو راح إلى بلادهم، وشهد كفرياتهم، ومبارزتهم لرب العالمين؛ بالقبائح والكفريات المتعددة، هذا مع قرب العهد، بدعوة شيخنا، والقراءة في تصانيفه، ورسائله وأصوله.
وهذا مما/يتبين/1 به ميل النفوس إلى الباطل، /ومسارعتها/2 إلي، /ومحبتها/3 له، قال تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} 4. ويبلغنا عنك ما يسر، ولكننا/نرجو/5 لنا، ولك فوق ذلك مظهرا. وبعض الإخوان ما كبر همه بهذه القضية، ولا اشتد إنكاره، ولا ظهر منه غضب لله وحمية لدينة، وأنفة من ذهاب الإسلام، وهدم قواعده، وإن أنكر بعضهم، وذم ذلك وتبرأ منه؛ لكنه مع الهوينا في ذلك، ولين الجانب، ومحبة للأغراض، وعدم البحث. وأظن الشيطان قد بلغ مراده منهم في ذلك، واكتفى به لما فيه من الغرض، ولعلمه بغائلته، وغايته، وأن الدين لا يستقيم معه؛ قال تعالى: {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً} 6 أي بالقرآن.
وللشيطان وأعوانه غرض في المداهنة؛ لأنها وسيلة إلى السلم ووضع الحرب بين الطائفتين، قال تعالى-: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} -7 شعر:
وثمود 8 لو لم يدهنوا في ربهم
لم تدم ناقتهم بسيف قدار 9.
__________
1 في "ب"، و "د"، والمطبوع: يستبين.
2 في جميع النسخ: ومسارعتهم.
3 في جميع النسخ: ومحبتهم.
4 سورة المؤمنون، الآية: "71".
5 في "د": نرجوا.
6 سورة الفرقان، الآية: "52".
7 سورة القلم، الآية "9".
8 في "ج": يوجد طمس في أغلب الكلمات، من هنا حتى نهاية هذه الرسالة، مع بداية الرسالة التالية.
9 في "د": قذار. والبيت تقدم في ص 744.(2/925)
فعليك بالجد، والحذر من/خدع/ 1 الشيطان/ جعلني الله وإياكم/2 من أنصار السنة والقرآن.
ثم قال – رحمه الله تعالى-: ولا /تدخر حض/3 أهل الأفلاج، وحثهم على جهاد هذه الطائفة الكافرة. وأهل نجد كادهم الشيطان 4 وبلغ مبلغا عظيما، وصل بهم إلى عدم الوحشة من أكفر خلق الله، وأضلهم عن سواء السبيل؛ الذين جمعا بين الشرك في الإلهية، والشرك في الربوبية: وتعطيل صفات الله، ومعهم جملة من عساكر الإنجليز، المعطلة لنفس وجود الباري، القائلين بالطبائع، والعلل، وقدم العمل وأبديته 5.
وبلنا أنهم كتبوا خطوطا لجهات نجد، مضمونها: إنا مسلمون نشهد أن لا إله إلا الله، ونحو هذا الكلام. وبسطوا القول في/إكرام/6 الدولة، والترهيب منهم والترغيب فيهم.
إذا عرفت هذا، فاعلم أن الله قد استخلفكم في الأرض، بعد ذلك القرن الصالح، لينظر كيف تعملون. فاحذر أن تلقاه/تعالى/،7 مداهنا في دينه، أو مقصرا في جهاد أعدائه،،و/8 في النصح له، ولكتابه ولرسوله، اجعل أكثر درسك في هذا، ولو اقتصدت في التعليم، والقلوب أوعية يعطى كل وعاء بحسبه.
__________
1 في "أ": خداع.
2 في "د"¨جعلنا وإياكم.
3 كذا في المطبوع. وفي "أ"، و "ب"، و"د": تذخر حظ.
4 هذا حكاية لحالهم في زمن الشيخ، حين كتابة هذه الرسائل.
5 وهؤلاء أصحاب نظرية الهادفة إلى دمج الدين بالفلسفة.
انظر: الجانب الإلهي من التفكير الإسلامي، للدكتور: محمد البهي،، نشر: دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، القاهرة 1967م، ص 470-472.
6 في "ب"، و "د"، والمطبوع: أمر.
7 ساقطة في "د".
8 في "د": أو.(2/926)
قال جامع الرسائل:
/وقد اختصر هذه الرسالة من نقلها لنا، فقال: هذا منقول، وما بعده من كلام الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن – رحمه الله تعالى،1 وعفا عنهم-/2.
ثم قال الناقل: قال رحمه الله:
وأما مسألة دعوى المودع انتقال الوديعة إليه بالبيع:
فهذا مما لا يقبل قوله فيه؛ بل حكمه حكم سائر المودعين، وكلام الفقهاء صريح، في أنه لا يقبل قوله مطلقا، بل فيه مسائل مخصوصة، بعضهم اكتفى بعدها عن حدها، وما عداها فهو باق على أصله. وقد أشار بعضهم إلى ذلك، في الكلام على قبول قول الأمين في المضاربة، وغيرها، من مسائل هذا الباب. وعموم قولهم في باب الدعاوي والبينات، داخل فيه ما لم ينص على استثنائه. وإن وقفت على كلام خاص في هذه المسألة، رفعته إليك – إن شاء الله-.
وذكر ابن رجب، 3 في شرح الأربعين، في شرح حديث: "لو يعطى الناس بدعواهم.." 4، شيئا من تعريف المدعي، فراجعه إن شئت 5.
وأما الفرق بين الفلاسفة الإلهيين، والفلاسفة المشائيين؛ فذكر شارح 6 رسالة ابن
__________
1 كلمة: "تعالى"، ساقطة في "د".
2 في "ب": هذا آخر انقل لنا من هذه الرسالة.
3 تقدمت ترجمته في ص 468.
4 الحديث تقدم تخريجه في ص 814. وهو الحديث رقم "33" ضمن الأربعين التي شرحها ابن رجب.
5 قال بان رجب –رحمه الله-: "المدعي: هو الذي له الحق، والمدعى عليه: هو الذي عليه الحق". الأحاديث الأربعين النووية، مع ما زادها ابن رجب، وعلليه الشرح الموجز المفيد، لعبد الله بن صالح المحسن، مطبعة السعادة، ط/2، 1390هـ-1970م، ص 65.
6 هو محمد بن محمد بن الحسن الجذامي، جمال الدين أبو بكر بن نباتة، المصري، أديب ناشر، شاعر مؤرخ، من تصانيفه: سجع المطوق في التراجم، ديوان شعر، سرح العيون، وغيرها. "ت768هـ" بالقاهرة الدرر الكامنة، 4/216، البدر الطالع، 2/252، معجم المؤلفين، 11/273.(2/927)
زيدون 1: أن المشائيين: أفلاطون 2 ومن تبعه، وأنهم أول من قال بالطبائع، وتكلم فيها، وأمر بالرياضة والمشي؛ لمعاونة قوة الطبيعة، وتحليل ما يضادها من الأخلاط، وأمر بالمشيء، والرياضة عند المذاكرة، في مسائل الطبيعة، فسموا بالمشائيين لهذا 3.
أما الإلهيين: فهم قدماؤهم من أهل النظر، والكلام في الأفلاك العلوية وحركاتها، ما يزعمونه وينتحلونه من إفاضتها، وتأثيرها. وفي اللغة: إطلاق الإله على المدبر
__________
1 في "د": "ابن زيد" والصواب "ابن زيدون"؛ كما هو في بقية النسخ. وابن زيدون هو: أحمد بن عبد الله بن أحمد بن غالب بن زيدون، المخزومي القرشي، أبو الوليد الأندلسي القرطبي، الشاعر، حامل لواء الشعر في عصره. وزره صاحب إشبيلية المعتضد بن عباد. "ت463هـ".
وفيات الأعيان، 1/139؛ سير الأعلام، 18/240؛ النجوم الزاهرة، 5/88.
2 هكذا قال المصف. والصواب: أن المشائئين هم أتباع أرسطو تلميذ أفلاطون. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الرد على المنطقيين، ص335: "المشائيين أتباع أرسطو صاحب المنطق".انظر أيضا: إغاثة اللهفان، ص 268.
أما أفلاطون فهو أفلاطون بن أرسطو، آخر المتقدمين الأوائل، ولد في زمان أزدشير؛ الأول وتتلمذ لسقراط، وقام مقامه بعد وفاته. قال ابن زيدون "وهو أحد المشائيين المشهورين" والصواب أنه كان من الإلهيين وليس من المشائيين؛ حيث إنه كان معروفا بالتوحيد، وإنكار عبادة الأصنام، وإثبات حدوث العالم.
سرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون لجمال الدين بن نباتة المصري، "768هـ" تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، نشر دار الفكر العربي، مطبعة المدني، القاهرة، 1383هـ 1964م، ص 208.
3 سرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون ص 208.
وبهذا عرفت فلسفة أرسطو، الذي كان يتحدث إلى تلاميذه، ويناقشهم، وهو يتمشى في الحديقة، فعرفت فلسفته بالفلسفة المشائية.
انظر: تاريخ الفسلفة العربية: تأليف حنا الفاخوري، وخليل الجر، دار الجيل، بيروت، ط/2/1982م، 1/80.(2/928)
والمؤثر، كما يطلق على المعبود 1.
وقد عرفت أن جمهورهم وقدماءهم، ليسوا مما جاءت به الرسل في شيء، ومذهبهم أكفر المذاهب، وأبطلها، وأضلها، عن سواء السبيل.
/وبلغ سلامنا العيال، والطلبة، والسلام/2./وصلى الله على محمد، وعلى آله، وصحبه وسلم/3.
__________
1 انظر: المرجع السابق، 1/92-93.
ويراد بالفلسفة الإلهية أيضا: البحث العقلي حول الإله وصفاته، وهو ما اعتمده كثير من الإسلاميين الذين ضلوا بسببه سواء السبيل، ووقعوا في آراء اعتزالية، وغيرها؛ فقالوا بخلق القرآن، ونفوا عن الله الصفات، سبحانه وتعالى.
انظر: الجانب الإلهي من التفكير الإسلامي، لمحمد البهي، ص 234-236.
2 ساقط في المطبوع.
3 زيادة في "ب"، والمطبوع.(2/929)
الرسالة الثانية والتسعون: إلى الشيخ حمد بن عتيق يحضه في الدعوة إلى الله وبث العلم
...
الرسالة الثانية والتسعون1
قال جامع الرسائل:
ولد أيضا – قدس الله روحه، نور ضريحه - رسالة إلى الشيخ حمد بن عتيق 2، /يحضه على الدعوة إلى الله، وبث العلم، ونشره في الناس، خصوصا التحذير عن موالاة أعداء الله ورسوله، والحث على جهادهم، واستنفاذ بلاد المسلمين من أيديهم/3. وهذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم الشيخ، حمد بن عتيق سلمه الله تعالى، ووفقه للصبر واليقين، ورزقه الهداية بأمره/ والإمامة 4 /في الدين/ئ. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأحمد إليك الله، الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وأسأله الثبات على دينه؛ الذي رغب عنه الجاهلون، ونكب عنه المبطلون.
والخط وصل، وسرني ما فيه من الأخبار عن عافيتكم وسلامتكم، والحمد لله على ذلك، وما ذكرت صار معلوما، لا سيما ما أشرت إليه من حال الجاهلين، وخوضهم في مسائل العلم والدين. وليس العجب ممن هلك كيف هلك، وإنما العجب ممن نجا، كيف نجا. قال تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} 5،والواجب على من رزقه الله علما وحكمة، أن يبثه في الناس وينشره، لعل
__________
1 في المطبوع جاءت هذه الرسالة في ص 280-281، وهي الرسالة رقم "48"، وجاءت في "ب"، في ص 109-111؛ ووردت في الدرر السنية، 7/180-181.
2 تقدمت ترجمته في ص 91.
3 ساقط في "ب".
4 في "ب" "د": الأمانة.
5 في "أ" و "ب": بالدين. سورة البينة الآية: "4".(2/930)
الله أن ينفع به، ويهدي على يديه من أدركته السعادة، وسبقت له الحسنى 1.
واعلم أن الإمام سعودا قد عزم على الغزو والجهاد، وكتبت لك خطا 2 فيه الإلزام بوصول الوادي، وحث من فيه من المسلمين على الجهاد في سبيل الله، واستنقاذ بلاد المسلمين من أيدي أعداء الله المشركين.
وقد بلغك ما صار من صاحب بريدة 3 وخروجه عن طاعة المسلمين، ودخوله تحت طاعة أعداء الله رب العالمين، ونبذ الإسلام وراء ظهر، كذلك حال البوادي والأعراب، استخفهم الشيطان وأطاعوه، وتركوا ما كانوا عليه من الانتساب إلى الإسلام، فتوكل على الله، واحتسب خطواتك وكلماتكم وحركاتك وسكناتك، وشمر عن ساعد جدك واجتهادك، فقد اشتد الكرب، وتفاقم الهول والخطب، والله المستعان.
وقد عرفت القراء في زمانك، وأن أكثرهم قد راغ روغان الثعالب، فلا يؤمن 4 على مثل هذه المقاصد والمطالب، والله – سبحانه - المسئول المرجو الإجابة، أن يمن علينا وعليكم بالتوفيق والسداد، وأن ينفع بك الإسلام والتوحيد {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} 5.
يا سعد إنا لنرجو أن تكون لنا ... سعدا ومرعاك للزوار سعدانا
وأن يضر بك الرحمن طائفة ... ولت وينصر من بالخير والانا 6
__________
1 أي فيكوكن من الفائزين الذين وعدهم الله بالجنة في سابق علمه وقدره، كما في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101] .
2 في "د": خط.
3 تقدم التعريف بها ص 31.
4 في "أ": يؤمنوا.
5 سورة: العنكبوت الآية: "69".
6 لم أقف على مصدرهما.(2/931)
/وبلغ سلامنا الأولاد، وسعود بن مفلح، وآل فهيد،1 وإخوانهم، ولدينا عبد العزيز، 2 وإخوانه، وأعمامه يبلغون السلام، وأنت سالم والسلام/3./وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم/4.
__________
1 آل فهيد: بطن من "آل مرة" وهم موصوفون بالبأس والقوة، من القبائل الساكنة في نجد.
تاريخ نجد للآلوسي، ص 88.
2 هو عبد العزيز بن عبد اللطيف، تقدمت ترجمته في 69.
3 ساقط في المطبوع.
4 زيادة في المطبوع.(2/932)
الرسالة الثالثة والتسعون: غلى الشيخ حمد بن عتيق
...
الرسالة الثالثة والتسعون1
قال جامع الرسائل:
وله أيضا – رحمه الله - رسالة إلى الشيخ حمد بن عتيق 2، وهذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الشيخ المكرم الشيخ حمد بن عتيق أمده الله بالتسديد والتوفيق، وأذاقه حلاوة الإيمان، والتحقيق. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على نعمه. والخط وصل مع الغزو، 3 وما ذكرت صار معلوما، /وأرجو/4 أن الله يسدد ولي أمر المسلمين، ويمنّ عليه بمعرفة /هذا الدين/5 والرغبة فيه، وإتباع ما منَّ الله به من الهدي الذي جاءت به رسله. وأكثر الناس ما رغبوا في هذا/الدين/6 ولا رفعوا به رأسا. /ونشكو/7 إلى الله ما نحن فيه من غربة الدين وقلة الأنصار.
وما ذكرت من جهة /8 / وأنك ترى العفو والصفح، فاعلم أن الحق في ذلك لله. والواجب على المسلم تغيير المنكر بحسب الاستطاعة، وليس له العفو والصفح إلا في
__________
1 في المطبوع جاءت هذه الرسالة في ص 282-283، وهي الرسالة رقم "49". وجاءت في "ب" في ص 111-112. ووردت في الدرر السنية، 7/181-182.
2 تقدمت ترجمته في ص 91.
3 في "د": الغزوا.
4 في "د": وأرجوا.
5 في "ب": "ها الدين" قال الناسخ في الهامش: "هذا جريا على ما اعتاده العوام في نطق الكلمة بإسقاط الدال".
6 ساقط في "ب" و "ج" و "د". والمطبوع.
7 في "أ" و "ب" و "د" نشكوا.
8 بياض في جميع النسخ، وهو بقدر كلمة أو كلمتين.(2/933)
حق نفسه. وما ورد من النصوص في السفح عن أعداء الله، إنما هو في الآي المكية 1.
وقد صرح القرآن بنسخه،2 وجاءت السنة ببيان ذلك،3 ولم يرد في الآيات المدنية الأمر بالفصح عن المشركين وأعداء الدين، بل جاء الأمر بجهادهم والغلظة عليهم في غير موضع.
وجاء الأمر بإعلان الإنكار على المجاهدين من الفساق، ولو كان مسلما، ومن جاهر بالمعاصي ونصرة أولياء المشركين، فلا حرمة لعرضه، ولا يشرع الستر عليه بترك الإنكار. وفي قصة حاطب ما يدلك على هذا،4 وهو صحابي بدري، وقد قال تعالى: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} 5.
وقد ذكر ابن القيم 6 طرفا من الفروق في كتاب الروح 7 فينبغي مراجعته ومعرفة
__________
1 ذلك في مثل قوله تعالى: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة: 109] ، وقوله تعالى: {وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 13] .
2 وقد نُسخت آية الصفح بقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [التوبة:29] .
رُوي ذلك عن ابن مسعود وابن عباس –رضي الله عنهما-.
نواسخ القرآن لابن الجوزي، تحقيق محمد أشرف علي الملباري، من مطبوعات الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ط/1، 1404هـ-1984م، ص 136. وانظر: جامع البيان للطبري، 1/490. والجامع لأحكام القرآن للقرطبي، 1/50.
3 وذلك في العديد من أحاديث الجهاد، والحث عليه والترغيب فيه؛ كحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من مات ولم يغز ولم يحدث به نفسه، مات على شعبة من نفاق". والحديث تقدم تخريجه ص 278.
4 تقدمت قصته في ص 179.
5 سورة النور الآية "2".
6 تقدمت ترجمته في ص 329.
7 وهي فروق عديدة تبلغ أربعين فرقا بين الأمور، ذرك منها على سبيل المثال: الفرق بين خشوع الإيمان وخشوع النفاق، والفرق بين التواضع والمهانة، والفرق بين العفو والذل، ونحو ذلك، ولعل هذا الأخير هو مراد الشيخ بالإحالة إلى كتاب الروح.
انظر تلك الفروق: كتاب الروح في الكلام على أرواح الأموات والأحياء للإمام ابن قيم الجوزية، دراسة وتحقيق دكتور بسام على سلامة العموش، نشر دار ابن تيمية، الرياض، ط/1، 1406هـ 1986م، 2/694-776.(2/934)
حدود ما أنزل الله على رسوله، ومثلك يُقتدى به، وقد نفع الله بإنكارك وشدتك على أهل الزيغ، فلا ينبغي العدول إلى خيال لا يعرج عليه.
وقد عرفت حال أهل وقتك من طلبة العلم، وأنهم ما بين مجاهر بإنكار الحق قد ليس عليه أمر دينه، أو مداهن مع هؤلاء ومع هؤلاء، غاية قصده/السلوك/1 مع الناس وإرضاؤهم، أو ساكت معرض عن نصرة الحق ونصرة الباطل، يرى الكف أسلم، وأن هذا الرأي/أحكم/2. هذا حال فقهاء زماننا، فقل لي من يقوم بنصر الحق وبيانه، وكشف الشبه عنه ونصرته، إذا رأيت السكوت والصفح كما في البيتين اللذين في الخط فينبغي النظر في زيادة قيد في تلك الأبيات لئلا يتوجه الإيراد.
/والابن عبد الرحمن 3 يسلم عليك، وكان في الخاطر نصحه وإرشاده، لكنه ما جاء إلا مرة عجل في مجلس عام، ونرجو أن الله يصلح لنا ولكم الذرية./وبلغ سلامنا الإخوان/4، وعيالنا يبلغون السلام، وأنت في أمان الله وحفظه والسلام/5.
/وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم/6.
__________
1 في المطبوع: سلوكه.
2 ساقط في "أ".
3 تقدمت ترجمته في ص 69.
4 في "ج" و "د": "بلغ الإخوان السلام".
5 ساقط في المطبوع من قوله"والابن".
6 زيادة في المطبوع.(2/935)
الرسالة الرابعة والتسعون: إلى محمد علي
...
الرسالة الرابعة والتسعون1
قال جامع الرسائل:
وله أيضا -/قدس الله روحه ونور ضريحه/2 وعفا عنه - رسالة إلى محمد بن علي 3 فيما جرى من الفتن والامتحان الذي وقع بين آل سعود 4 وسارع أكثر الناس إليها واستشرف لها. وكان من جملة من سارع إلى سعود بعد قتله للمسلمين، علي بن محمد، 5 فصار ابنه يعتذر عنه، ويطلب من الشيخ أن يكتب له كتابا، ولكن علم الشيخ – رحمه الله - أن أباه قد تلبس بالفتنة، وأنه لا ينجع فيه شيء.
وهذا نص الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ الابن محمد بن علي – كشف الله عنه كل ريب وغمة، وسلك بنا وبه سبيل سلف الأمة - سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فأحمد إليك /الله الذي لا إله إلا هو/6، على ما اختصنا به من سوابغ أنعامه، وما ألبسناه من ملابس إكرامه والخط وصل، وما/ذكرته/7 صار معلوما فأما ما أجرى الله من الفتن والامتحان، فالله – سبحانه وتعالى - فيها حكم، يستحق عليها الحمد. منها: تمييز الخبيث من الطيب، والصادق من الكاذب، وذي البصيرة من الأعمى، كما دل عليه صدر سورة العنكبوت 8،
__________
1 في المطبوع جاءت هذه الرسالة في ص 316، وهي الرسالة رقم "61".
2 في المطبوع: "رحمه الله". وفي "أ": بياض.
3 تقدمت رسالة الشيخ إليه في ص 237. وهي الرسالة الرابعة.
4 انظر ص 129، لمعرفة جميع أرقام الرسائل الواردة في تلك الفتن.
5 تقدم في ص 891.
6 في "أ" والمطبوع: "الله تعالى". وفي "د": المثبت.
7 في "د": "ذكرة".
8 وهو قوله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1-3] .(2/936)
والآيات من سورة البقرة، 1 وآل عمران 2 وغير ذلك من آي القرآن.
وتذكر أن أباك يوم يركب ما ظن/أن/3 لعبد الله ولاية، ولا أن عبد الله سيعود إليه 4 عن قريب.
والظن أكذب الحديث 5، وظن السوء أورد أهله الموارد المهلكة في الدنيا والآخرة. والعجب من فقيه يحكي هذا محتجا به.
وقد تربى – بحمد الله - بين يدي طلبة العلم وأهل الفتوى. أي حجة في هذا لو كانوا يعلمون؟ ولو دعوت أباك إلى لزوم السنة والجماعة، والوفاء بالعهد الذي يُسأل عنه يوم تنكشف السرائر، لكان هذا من أعظم البر، وأرجحه في ميزانك، لا سيما وقد جاءك من العلم ما لم يؤته.
ثم لو فُرض أن هذا الظن متحقق في نفس الأمر، فأي مسوغ للمسارعة إلى الذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات، وسفكوا الدماء بغير بينة ولا سلطان ينبغي أن يتنزه عن هذا سوقة الناس وعامتهم، وإنما خاطبتك بلسان العلم، لحسن ظني،
__________
1 منها قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253] .
2 ومن سورة آل عمران، قوله تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179] .
3 ساقط في المطبوع.
4 في "د": واليه.
5 هذا ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ". صحيح البخاري مع الفتح 5/441، الوصايا، باب قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} . صحيح مسلم بشرح النووي، 16/354، البر والصلة، باب تحريم الظن والتجسس. سنن الترمذي، 4/313، البر والصلة، باب ما جاء في ظن السوء.(2/937)
والأكثر قد تحققت هلاكهم 1 وأنهم في ظلمة الجهل، "لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق" 2.
وبعض من ينتسب إلى الدين قد عرف ما هناك، ولكنه آثر العاجلة، وأخذ إلى الأرض، واتبع هواه، وأبدى من المعاذير ما لا ينجي يوم العرض على الله.
وأما يمينك على أنك تحققت من أبيك أنه لا ينكث عهده، ولو بقال لك الدنيا ومثلها معها؛ فعجب لا ينقضي، والله يغفر لك، وهل لنكث العهد حقيقة تباين ما وقع؟ "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون" 3.
وقولك: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} 4، حق تؤمن به، ولا نحتج به على شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.
وأما الخط مني له، فخطي/ إليك/5 يكفي، ومثلك لا يخفى عليه وجوب
__________
1 يريد بتحقيق هلاكهم هنا هلاكهم في الدنيا بالمخالفة، وليس في الآخرة إذ إن القول بتحقق الهلاك في الآخرة لا يكون إلا فيمن أخبر –الله تعالى - ورسوله عنهم؛ كفرعون وأهله في قوله تعالى: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ، النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 45-46] ؛ وأبي لهب في قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1] . وأما من لم يزل على قيد الحياة، فلا نقطع بهلاكه، بل نحن ملزمون بدعوته وإرشاده قدر الإمكان.
2 تقدم هذا الكلام في ص 209. وهو من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مما رواه عنه كميل بن زياد.
3 هذا حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حين شُج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكسرت رباعيته يوم أحد، قال عبد الله: كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحكي نبيا من الأنبياء ضربه قومه فأدموه، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون". صحيح البخاري مع الفتح 6/593، الأنبياء، باب "54". صحيح مسلم بشرح النووي، 12/391، الجهاد، باب غزوة أحد؛ سنن ابن ماجه، 2/386، الفتن، باب الصبر على البلاء.
4 سورة يوسف الآية "21".
5 في "د": لك.(2/938)
الجهاد، وأنه ركن من أركان الإسلام، وذرة سنامه 1 كما هو مقرر في محله، والآيات القرآنية لا يتسع هذا الموضع لسياقها.
بقي أن يقال: هل الجهاد في هذه القضية جهاد في سبيل الله؟ وهذه مسألة لا يحتص بها طالب العلم، بل كل من كان له نصيب من نور الفطرة، ونور الإسلام يعرف هذه المسألة، ولا تلتبس عليه. ومن المقرر في عقائد أهل السنة، أن الجهاد ماض مع كل إمام بر أو فاجر 2؛ وأبوك وغيره يعلمون أن المسلمين بايعوا عبد الله، وسعود من جملة من بايع، وأن البيعة صدرت عن مشورة من المسلمين على يد شيخهم وإمامهم في الدين، -والدنا - قدس الله روحه، ونور ضريحه - فأي شيء نسخ هذا؟ وأنت وأبوك تعرفون حال عبد الله معنا فيما سلف. والمؤمن يعامل ربه، ولا يتشفى بما يفسد دينه. نسأل الله لنا ولكم الثبات على دينه، الذي ارتضاه لنفسه؛ ونعوذ بالله من اتباع خطوات الشيطان، والرغبة عن سبيل/أهل السنة والقرآن/3. وذكر أباك حديث ابن عباس في استفتاحه صلى الله عليه وسلم صلاته، إذا قام من الليل 4. وذاكره بما ظهر لك فيه من حقائق العلم والإيمان، واعرف جلالة هذا المطلوب وعظم قدره، وقدر ما توسل به السائل إلى مطلوبه. والمقام يقتضي البسط لحاجة السائل وغيره، ولعل الله يمن بذلك. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
1 يشير الشيخ إلى قوله صلى الله عليه وسلم في حديث طويل لمعاذ بن جبل رضي الله عنه وفيه: "كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر ... قال: "ألا أخبرك برأس الأمر كله وعموده، وذروة سنامه. قلت: بلى يا رسول الله. قال: "رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه؟ الجهاد ... " الحديث. سنن الترمذي، 5/13، الإيمان، باب ما جاء في حرمة الصلاة، سنن ابن ماجه، 2/373، الفتن، باب كف اللسان في الفتنة.
2 تقدم هذا في ص 877.
3 في "د": "أهل السنة أهل القرآن".
4 هو: عن ابن عباس –رضي الله عنهما-، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل: "اللهم لك الحمد، أنت نور السموات والأرض، ولك الحمد أنت قيام السموات والأرض، ولك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن وأنت الحق، ووعدك الحق، وقولك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق. اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وأخرت، وأسررت وأعلنت، وأنت إلهي لا إله إلا أنت". صحيح مسلم بشرح النووي، 6/301، المسافرين، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه. سنن النسائي، 3/209-210، قيام الليل، باب ذكر ما يستفتح به القيام. سنن ابن ماجه. 1/246، إقامة الصلاة، باب ما جاء في الدعاء إذا قام الرجل من الليل. وقد تقدم لفظ عائشة في دعاء الاستفتاح ص 259.(2/939)
الرسالة الخامسة والتسعون: إلى أهل الحوطة
...
الرسالة الخامسة والتسعون1
قال جامع الرسائل:
وله أيضا – رحمه الله تعالى وعفا عنه - رسالة إلى أهل الحوطة، وهذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الإخوان المكرمين من أهل الحوطة – سلمهم الله تعالى وهداهم - سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فأوصيكم بتقوى الله وطاعته والاعتصام بجبله، وترك التفرق والاختلاف، ولزوم جماعة المسلمين 2. فقد قامت الحجة بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعرفتم أنه لا إسلام إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمارة ولا إمارة إلا بطاعة.
وقد أناخ ساحتكم من الفتن والمحن ما لا نشكوه إلا إلى الله، فمن ذلك: الفتنة الكبرى والمصيبة العظمى؛ الفتنة بعساكر المشركين 3 أعداء الملة والدين، وقد اتسعت وأضرت، ولا ينجو المؤمن منها إلا بالاعتصام بحبل الله، وتجريد التوحيد، والتحيز إلى
__________
1 في المطبوع جاءت هذه الرسالة في ص 336-338، وهي الرسالة رقم "67".
2 وهذه هي وصية الله لعباده المؤمنين في قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً} [آل عمران: 103] .
3 يشير إلى عساكر الدولة العثمانية من الأتراك، وما كانوا عليه من فساد اعتقاد، ومعاداة للدعوة، السلفية التي كانوا يسمونها وهابية.(2/940)
أولياء الله وعباده المؤمنين، والبراءة كل البراءة ممن أشرك، وعدل به غيره، ولم ينزهه مما انتحله المشركون، وافتراه المكذبون.
وأفضل القرب إلى الله، مقت/أعدائه/1 المشركين، وبغضهم وعداوتهم وجهادهم، وبهذا ينجو العبد من توليهم من دون المؤمنين، وإن لم يفعل ذلك فله من ولايتهم بحسب ما أخل به وتركه من ذلك.
فالحذر الحذر مما يهدم الإسلام ويقلع أساسه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 2 وانتفاء الشرط يدل على انتفاء الإيمان بحصول الموالاة. ونظائر هذه الآية في القرآن كثير.
وكذلك الفتنة بالبغاة والمحاربين، توجب من الاختلاف والتفرق والبغضاء، وسفك الدماء، ونهب الأموال، وترك أوامر الله ورسوله، والإفساد في الأرض ما لا يحصيه إلا الله، وذلك مما لا يستقيم معه إسلام، ولا يحصل بملابسته من الإيمان، ما ينجي العبد من غضب الله وسخطه.
وهذه الحالة وتلك الطريقة بها ذهاب الإسلام وأهله، وتسلط أعداء الله وتمكنهم من بلاد/المسلمين،3 وهدم مبانيه والإعلام. فكيف يسعى فيها من يؤمن بالله واليوم الآخر، ويؤمن بالجنة والنار، ويخاف سوء الحساب.
فاتقوا الله عباد الله، ولا تذهب بكم الدنيا والأهواء وشياطين الإنس والجن، إلى ما يوجب الهلاك الأبدي، والشقاء السرمدي، والطرد عن بابه، والخروج عن جملة أوليائه وأحبابه. قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ، لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ
__________
1 في "د": "أعداء الله".
2 سورة المائدة الآية "57".
3 في "د": الإسلام.(2/941)
اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} 1.
فتدبروا هذه الآيات الكريمات، وسارعوا إلى ما يحبه الرب ويرضاه، من الجماعة والطاعات، وائتموا بالقرآن، وقفوا عند عجائبه، وما فيه من الحجة والبرهان، فإن الله تكفل لمن قرأ القرآن، وعمل بما فيه، أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة 2 وهو حبل الله المتين، ونور المبين، فيه نبأ من كان قبلكم، وفصل ما بينكم، لا يضل مُتَّبعه 3 ولا يطفأ نوره فيما هذه المشاقة؟ وما هذا الاختلاف والتفرق، وقد جاءتكم النصائح وتكررت إليكم المواعظ؟ قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} 4/و/5 قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} 6،
__________
1 سورة الزمر: الآية "15، 16".
2 هذا ما أخبر به الله –سبحانه وتعالى - في قوله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه: 123] .
3 يشير الشيخ هنا إلى مثل ما ورد في حديث الحارث قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ألا إنها ستكون فتنة"، فقلت: ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: "كتاب الله، فيه نبأ ما كان قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل؛ من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا يزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه ... " الحديث.
أخرجه الترمذي في سننه، 5/158-159، فضائل القرآن، باب ما جاء في فضل القرآن. قال الترمذي: "هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه وإسناده مجهول، وفي الحارث مقال". والدارمي في سننه، 2/526، 527، فضائل القرآن، باب فضل من قرأ القرآن. وأحمد في مسنده، 1/91.
4 سورة النساء: الآية "115".
5 زيادة في "د" والمطبوع.
6 سورة النساء: الآية "59".(2/942)
وقد خرج الإمام أحمد من حديث الحارث الأشعري 1 بعد أن ذكر ما أمر به يحيى بن زكريا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ... وآمركم بخمس الله أمرني بهن: الجماعة، والسمع، والطاعة، والهجرة، والجهاد 2 في سبيل الله؛ فإنه من خرج /من/3 الجماعة قيد شبر، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، إلا أن/يرجع/4؛ ومن/دعا بدعوى/5 الجاهلية فهو /جُثاء/6 جهنم قالوا:" يا رسول الله، وإن صام /وإن صلى/ 7 قال: "وإن صلى، وص ام، وزعم أنه مسلم، فادعوا المسلمين بأسمائهم/بما/8 سماهم الله – عز وجل-/9 المسلمين المؤمنين عباد الله" 10، وهذه الخمس المذكورة في الحديث ألحقها بالأركان الإسلامية، التي لا يستقيم /بناؤه/11 ولا يستقر إلا بها، خلافا لما كانت عليه الجاهلية من ترك الجماعة والسمع والطاعة. نسأل الله لنا ولكم الثبات على دينه، والاعتصام بحبله، والامتثال لأمره، واتقاء غضبه وسخطه.
__________
1 هو الحارث بن الحارث الأشعري الشامي، صحابي، يكنى أبا مالك، تفرد بالرواية عنه أبو سلام. تقريب التهذيب، 1/139.
2 وردت هذه الخمسة عند الترمذي بتقديم وتأخير، بلفظ: "السمع، والطاعة، والجهاد، والهجرة، والجماعة، فإنه من فارق الجماعة ... " والحديث تقدم تخريجه في ص 517.
3 في "د": عن.
4 كذا عند أحمد في المسند، والترمذي في سننه. وفي جميع النسخ والمطبوع: "يراجع".
5 عند الترمذي: "ومن ادعى دعوى ... ".
6 في جميع النسخ والمطبوع: "من حثي" وعند أحمد والترمذي "جثا" وهو جمع جُثوة، بضم الجيم، وهو الشيء المجموع. النهاية لابن الأثير، 1/239. والمعنى: أنه من الجماعة المحكوم عليهم بالنار.
7 في "د" والمطبوع: "وإن صلى وصام" وهو لفظ الترمذي.
8 في جميع النسخ والمطبوع: "على ما ... ".
9 في جميع النسخ: "سماهم الله به –عز وجل-" بزيادة لفظ "به".
10 تقدم جزء من هذا الحديث وتخريجه في ص 517.
11 في "د" والمطبوع: "بناء".(2/943)
فاحذروا الاختلاف {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 1 {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 2 {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} 3.
وصلى الله على/عبده ورسوله محمد/4 النبي الأمي العربي الهاشمي وآله وصحبه وسلم.
__________
1 سورة الأنفال: الآية "1".
2 سورة النور: الآية "31".
3 سورة النحل: الآية "91".
4 ساقط في "د".(2/944)
الرسالة السادسة والتسعون: إلى زيد بن محمد آل سليمان
...
الرسالة السادسة والتسعون1
قال جامع الرسائل:
وله – قدس الله روحه ونور ضريحه - رسالة أيضا إلى زيد بن محمد آل سليمان، وهذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم المحب زيد بن محمد – حفظه الله من طوائف الشيطان، وجعلنا وإياه من أوعية العلم، وحرسنا وإياه من مضلات الفتن وتلاعب الشيطان. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير، وأساله اللطف بنا وبكم وبكافة المسلمين عند كل كرب عسير.
وقد بلغكم خبر الوقعة التي جرت على إخوانكم وتفصيلها عن ألسن القادمين وقد لطف الله بنا، ودفع ما هو أشد من استباحة البيوت والمحارم حين صارت الهزيمة، وجنب عبد الله الديرة، وكتبت لسعود خطا، ونادى في مُخَيَّمه بالكف عن الرياض، وأن البلد سلَّمت. فدفع الله بذلك شرا عظيما. وثاني يوم وصلته في مخيمه، وأكثرت عليه في أمر المسلمين، وأظهر القبول، وكف عن كثير من الناس، وأُدخل له طارفة 2 في القصر، واستقر أمره.
وهذه الفتن أصاب الإسلام منها بلاء عظيم، قلعت قواعده، وانهدمت أركانه، واجتثت بنيانه. وهل عند رسم دارس من مغول. فالواجب مساعدة إخوانكم بصالح الدعاء، ونشر العلم، وبذل النصائح، وتقديم خوف الله على مخافة خلقه. وما منكم
__________
1 وردت هذه الرسالة في حاشية "أ" ص 49.
2 طارقة: يقال: جاء فلان بطارقة عين أي: بمال كثير. لسان العرب، 9/213-214، مادة "طرف".(2/945)
من أحد إلا على ثغر من ثغور الإسلام، فلا يؤتى الإسلام من قِبَلِه.
كذلك الشبهة التي حصلت، والمكاتبات التي رُسمت في شأن هذه الفتن، ممن ينتسب إلى العلم والدين، لا يسوغ لمثلك السكوت عليها، وعدم التنبيه على ما فيها، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} 1 فاكتب لي بما يسر عن مثلك وما هو الظن بك ولقومك – يحمد الله - موقع في نفوس المسلمين. كذلك لا تدخر نصح سعود بالمكاتبة والنصائح والتذكير، وابسط القول.
وبلغ سلامنا الشيخ حسين، وأخبره أن حمولته بعافية، ما بهم سوء. ولا تنسانا من صالح دعائك، عبد الله، وعبد العزيز ما بهم جراح/2 /، وهم يبلغون السلام. والسلام.
__________
1 سورة الطلاق: الآية "2".
2 في الأصل يوجد هنا كلمة "سليمة".(2/946)
الرسالة السابعة والتسعون: إلى زيد بن محمد آل سليمان
...
الرسالة السابعة والتسعون1
قال جامع الرسائل:
وله أيضا – رحمه الله رحمة الأبرار، وجمعنا به في دار القرار - رسالة إلى زيد بن محمد آل سليمان، وهذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم زيد بن محمد، لا زال من العلم في مزيد، مناضلا عن الإيمان والتوحيد. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
والخط وصل – وصلك الله ما يرضيه، والأخبار عن سلامتك وعافيتك تسرنا، لا سيما في وقت الهرج والفتن، وتتابع الزلازل والمحن - عصمنا الله وإياك بالإسلام على كل حال وفي كل حال. وما ذكرت من وصول الخط وتدبر ما فيه، صار معلوما، نسأل الله أن ينفعنا وإياك بمواعظ كتابه، وزواجر خطابه. وتذكر أن ما اعترض على حمد بن عتيق إلا/ ... /2 وبعض إخوان الحوطة، وأنهم ما نقموا إلا الميل مع أحد الرجلين. فلا يخفاك أن المقام مقام ضنك واشتباه، لا يتخلص منه إلا من كان له نصيب وافر من نور الوحي والوراثة النبوية. ومن سلم من الهوى وأدركته العناية الربانية. وفي حديث حذيفة: "فهل بعد هذا الخبر من شر؟ قال: فتن كقطع الليل المظلم يتبع بعضها بعضا، تأتيكم مشتبهة كوجوه البقر، لا تدرون أيا من أي" انتهى 3.
ومن أشرت إليه من أهل الاعتراضات، عامتهم قد عرف قصورهم عن مقاومة
__________
1 وردت هذه الرسالة في حاشية "أ" ص 53-55.
2 هنا كلمة غير واضحة، وكأنها: خليته، أو جلبته.
3 تقدم تخريجه في ص 261.(2/947)
الخصوم الفضلاء، وأنى يدرك الضالع شأوى الضليع1 وترجيح أحد الرجلين لا يذم مطلقا، إلا إذا خلا من مرجح شرعي. فالواجب عليك سد الباب عما يوهن الإسلام والتوحيد، ويقوي جانب الشرك والتنديد. فمن هذا الباب دخل من كاتب العساكر، ووالاهم، وساكنهم، وجامعهم، ولله ما استبيح بهذه الشبه من عرض ومال ودم، وما أصاب الإسلام منم نقص وهدم وهضم. ومثلك لو سد هذا الباب، وأغلظ في الخطاب والجواب، حتى تتفق الكلمة، ويجتمع أهل الإسلام على جهاد عدو الله وعدوهم، لكان خيرا وأقوم قيلا، وأهدى عند الله منهجا وسبيلا. والشيخ محمد بن عجلان رسالته عندي، أظنها بقلم ولده، فجحدها مكابرة، والأولى لنا وله التوبة ظاهرا من تلك الظاهرة، لئلا يضل الغاوي ويحق القدر السماوي {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 2 وقد عرفت ما جرى بين إسماعيل وخالد، وما قيل فيمن ركن إليهم واستنصر بهم وقاتل تحت رايتهم. بل قد عرفت ما قيل وما أفتى به المشايخ فيمن أقام بين ظهرانيهم 3 وإن لم يحصل منه غير ذلك، ولكن الإسلام يخلق كما يخلق الثوب، وتضمحل حقائقه من القلوب حتى لا تعرف معروفا، ولا تنكر منكرا. والفتنة بالسكوت عن نصر دين الله من هؤلاء المنتسبين إلى العلم، أضر على الإسلام من بعض كلام غيرهم من العامة. والله المسئول المرجو الإجابة، أن يعيذنا وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يمن علينا بالثبات على دينه وسلوك سبيل /رسله/4 {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} 5. وبلغ سلامنا الأولاد والشيخ حسين، وحسين بن علي، ومن لدينا عبد العزيز وإخوانه وأعمامه بخير وينهون السلام، والسلام.
__________
1 تقدم هذا المثل في ص 460.
2 سورة المائدة الآية "74".
3 تقدمت هذه المسألة في ص 210-216.
4 في الأصل: "رسوله"، لكن الموصول بعده يقضي يكون ما أثبته.
5 سورة الأحزاب: الآية "39".(2/948)
رسالة ملحقة
رسالة الرد على الصحاف
...
رسالة الرد على الصحاف1
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين 2 الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله وسراجا منيرا.
أما بعد:
فإن بعض الإخوان ناولني كراسة أنشأها عبد اللطيف بن عبد المحسن الصحاف، فيما تعرض لعيب الموحدين، وذم لما هم عليه من الملة والدين، ومدح 3 لبعض شيوخه
__________
1 هذه الرسالة لم ترد في جميع النسخ المخطوطة، وإنما وردت في النسخة المطبوعة في المجلد "3/430" من مجموعة الرسائل والمسائل النجدية. كما أنها وردت في الدرر السنية لابن قاسم في "9/404-417".
وهي رسالة مسقلة، ألفها الشيخ –رحمه الله - في الرد على الصحاف، ولم أجد لها نسخة مخطوطة.
وأشير هنا إلى أني بعد انتهائي من البحث وتقديمه للقسم، ظهرت هذه الرسالة –أعني الرد على الصحاف - في السوق "مطبوعة محققة" قام بتحقيقها الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن إبراهيم آل حمد، ونشرها دار العاصمة للنشر والتوزيع بالرياض، تحت عنوان: [الإتحاف في الرد على الصحاف] ظهرت الطبعة الأولى منها في 1416هـ.
وقد رأيت –بعد مناقشتي لرسالة الدكتوراة - أن أعيد مقابلة نص هذه الرسالة "الذي كنت كتبته معتمدا على المطبوع في مجموعة الرسائل" بالنص المحقق من قبل الشيخ عبد العزيز، حرصا مني على تقويم النص الذي كتبته سابقا، خاصة أن الشيخ قد قابله بالنسخة المخطوطة. وقد سرت على ما سار عليه الشيخ في مقابلة هذا النص، أشير إلى النسخة المخطوطة رمز "أ" وإلى المطبوعة في مجموعة الرسائل برمز "ب" وإلى المطبوعة في الدرر السنية برمز "ج".
2 قوله: "وبه نستعين" غير موجود في "أ" و "ج".
3 في "ب": "وقدح" وهو خطأ.(2/951)
المارقين، وأنهم من جلة العلماء العاملين، الذين لهم لسان صدق في الآخرين، وفيها غير ذلك مما هو مستبين للواقفين عليها والناظرين.
وقد طلب مني من ناولنيها، أن أكتب شيئا في بيان ما تضمنته من الأباطيل، مع الاختصار وترك البسط والتطويل، إلا لإيراد حجة أو كشف دليل./ونسأل/1 الله الإعانة على ذلك، والهداية إلى ما هنالك.
فأما المقدمة التي قدمها الصحاف أمام مقصوده، وجعلها طالعة نثره وعقوده، ففيها من الدلالة على جهله وقصوره، ما يعرف بأول نظر في جمعه ومسطوره.
من ذلك: أنه يصف بالعلم من ليس من أهله، ويكذب على المعصوم في عزوه ونقله، يحتج في فضل العلم بالضعيف/و/2 الموضوع، لجهله بما صح من المرسل والمرفوع، ليست له ملكة في نقد الثابت من الموضوع 3، يتأول كل حاذق فقيه عند سماع خلطه وما يبديه، حديث عبد الله بن عمرو في قبض العلم4، ورياسة الغمر.
وكلامه من أظهر الأدلة/ على ما قلناه عند كل من وقف عليه من أهل الفقه عن الله، فلذلك اكتفينا بالإشارة عن بسط القول والعبارة.
فأما قوله في المقدمة التي مدح بها أشياخه المذكورين في رسالته: "علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل"5.
__________
1 في "ب" "فأسأل".
2 الواو ساقط في ب.
3 في ب "المضوع" وهو خطأ، وفي ج "المصنوع".
4 ولفظه: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رءوسا جهالا فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا". أخرجه البخاري في العلم، باب كيف يقبض العلم "ج/110"، ومسلم في صحيحه، كتاب العلم، باب رفع العلم وقضه "ج/2672".
5 قال الدميري والزركشي وابن حجر والسيوطي عن هذا الحديث: "لا أصل له".
انظر: المقاصد الحسنة، ص 459؛ وتمييز الطيب من الخبيث ص 121؛ وكشف الخفاء ومزيل الإلباس، 2/64؛ والأسرار المرفوعة في الأحاديث الموضوعة، ص 247.(2/952)
وقوله: "نظرك إلى وجه العالم خير لك من ألف فرس تتصدق بها 1 في سبيل الله، وسلامك على العالم خير لك من عبادة ألف سنة"2.
كذلك قوله: "إن العالم/أوالمتعلم/3 إذا مر على قرية، فإن الله يرفع العذاب عن مقبرة تلك القرية أربعين صباحا"4.
وقوله: "إن الله يغفر للعالم أربعين ذنبا قبل أن يغفر للجاهل".
فهذه الآثار ونحوها، ليست بشيء عند أهل العلم بالحديث، ولا يحتج بها ويعول عليها من له أدنى تمييز /أو ممارسة/5؛ وإنما يلتفت إليها ويحكيها أهل الجهالة والسفاهة من القصاصين والكذابين.
وأما أهل العلم والدين: فمجرد النظر إليها، والوقوف عليها، يعرفون أنها من الأخبار الموضوعة المكذوبة التي لا تروج إلا على سفهاء الأحلام، وأشباه الأنعام وقد ورد في فضل العلم والعلماء من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، ما ينيف 6 على مائة وخمسين دليلا، كما قرره صاحب "مفتاح دار السعادة"7 وقد مر صلى الله عليه وسلم في رهط من أصحابه، وهم سادات العلماء والمتعلمين على قبرين يعذبان، فشق
__________
1 في أ: "ب".
2 ورد في نسخة سمعان بن المهدي عن أنس مرفوعا بمعناه: "نظرة إلى وجه العالم أحب إلى الله من عبادة ستين سنة صياما وقياما". وسمعان أحد الوضاعين. قال السخاوي في المقاصد الحسنة، ص 696: "لا يصح".
وانظر: الأسرار المرفوعة، ص 356؛ وكشف الخفاء، 2/318.
3 في أ: "والمتعلم".
4 قال السيوطي عن هذا الحديث: "لا أصل له". انظر: الأسرار المرفوعة، ص 142؛ وكشف الخفاء، 1/221.
5 في ب وج: وممارسة.
6 في أ: "ما ينوف".
7 انظر مفتاح دار السعادة.(2/953)
جريدة ووضعها عليهما وقال: "لعله أن يخفف عنهما ما لم ييبسا" 1 ولم يقل لمروري ومرور أصحابي عليهما يخفف عنهما، كما زعمه هذا الجاهل.
وكأي من قرية عُذبت، وأتاها أمر الله بغتة، وأنبياؤهم وعلماؤهم قبل ذلك يدعونهم، وهم ينظرون إلى وجوههم، ويخاطبونهم، ويسمعون كلامهم، فما أغنى عنهم ذلك إذ لم يؤمنوا بآيات الله، وأصابهم من العذاب ما أصابهم 2.
وكان الأولى بهذا الرجل أن لا يخوض فيما لا يدريه، وأن يعطي القوس باريه 3. شعرا/
لا يعرف الشوق إلا من يكابده ... ولا الصبابة إلا من يعانيها
وأما قوله: إن في الحديث: " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" 4. فهذا الحديث لم يثبته الحفاظ من أهل العلم؛ بل ذكروا أنه موضوع. قال ابن عبد البر إمام المغرب في وقته، وحامل لواء المالكية في زمانه: "حدثنا محمد بن إبراهيم بن سعيد 5
__________
1 في أ: "تيبسا" والمثبت من ب ومصادر التخريج والحديث أخرجه مسلم في الطهارة، باب الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه "ج/292".
2 في أ: "وأصابهم ما أصابهم من العذاب".
3 مثل عربي تقدم في ص 834.
4 أخرجه ابن عبد البر في: جامع بيان العلم وفضله، 2/91؛ وابن حزم في الإحكام، 6/243و244، وكلاهما من طريق سلام بن سليم عن الحارث بن غضين عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر مرفوعا.
قال ابن عبد البر: "هذا إسناد لا تقوم به حجة، لأن الحارث بن غضين مجهول" وقال ابن حزم: وأما الرواية: "أصحابي كالنجوم" فرواية ساقطة. ثم ساق الحديث بسنده ثم قال: وأبو سفيان ضعيف، والحارث بن غضين هذا هو أبو وهب الثقفي، وسلام بن سليمان يروي الأحاديث الموضوعة، وهذا منها بلا شك".
وذكر الحافظ الذهبي في الميزان، 1/413، تحت ترجمة جعفر بن عبد الواحد الهاشمي، نحوا من هذا الحديث من رواية أبي هريرة، وقال: "ومن بلاياه عن وهب ابن جرير عن أبيه ... " فذكره.
5 في ب وج: "سعد".(2/954)
أن أبا عبد الله بن مفرج حدثه قال: حدثنا محمد بن أيوب الصموت 1 قال: قال لنا البزار: وأما ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم "أصحابي كالنجوم ... " فهذا الكلام لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن قيم 2 الجوزية بعد أن ذكر طرق هذا الحديث: "لا يثبت شيء منها"3 4.
ثم قال ما معناه: "إن الأخذ بعمومه يقتضي أن الاهتداء يحصل بالاقتداء بكل صحابي، ولو تخالفت أقوالهم، وتباينت آراؤهم، وأن الشخص مخير بين الأخذ بالقول وضده، فيخبر في مسألة الجد والإخوة بين مذهب أبي بكر ومن خالفه، وفي مسألة جعل الطلاق الثلاث واحدة بين رأي عمر" وغيره، وفي مسألة المتوفى عنها زوجها 5 بين الاعتداد بالوضع وتربص أقصى الأجلين، وفي مسألة استرقاق المرتدات بين مذهب أبي بكر وعمر، ويخير في بيع أمهات الأولاد بين مذهب من يقول بجوازه، كعلي، ومن يقول بمنعه؛ كعمر ومن وافقه.
وبالجملة، فإطلاق هذا يوجب أن الاهتداء يحصل بأحد الضدين، ولا نعلم قائلا به من أهل العلم، والحق واحد في نفسه لا يتعدد، وقد قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} 6.
والخطاب عام لجميع الأمة الصحابة وغيرهم، وهي نص في أن الاهتداء لا يحصل مع النزاع والاختلاف إلا بالرد إلى الله والرسول، لا بالإقتداء بأحد من الخلق كائنا من
__________
1 في ب: "المصموت" وهو خطأ. انظر: الأنساب، 8/89؛ نزهة الألباب في الألقاب، 1/428.
2 في ج: "القيم" وهو خطأ.
3 في جميع النسخ "منه" والمثبت من إعلام الموقعين.
4 انظر كلام ابن القيم في: إعلام الموقعين 2/229.
5 "زوجها" ساقطة من أ.
6 سورة النساء: الآية "59".(2/955)
كان، وأما مع عدم النص المخالف فالاقتداء بمن هدى الله من النبيين هو الواجب، كما قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} 1.
وأما ثناء الصحاف على مشايخه الستة الذين سماهم، وادعى أنهم من أهل العلم والفضل، وقدمهم على من سواهم.
فيقال له: هذه دعوى، وهذا الثناء، هو بحسب ما عندك وما ظهر لك، ومن تجاوزت به الغفلة والجهالة إلى أن يجعل عباد الله الموحدين من أهل الضلالة، الذين يكفرون أهل "لا إله إلا الله" ويجعل عباد الأولياء والصالحين، الذين يفزعون إليه بالدعوة من دون رب العالمين، هم أهل "لا إله إلا الله" كيف يعرف العلم والإيمان؟ أو يرجع إليه في تحقيق هذا الشأن؟ شعرا:
ما أنت بالحكم الترضى حكومته ... ولا الأصيل ولا ذي الرأي والجدل 2
وشهادة من لا يعرف العلم أو النحو أو الهندسة أو الطب مثلا، لشخص بأنه عالم أو نحوي أو مهندس أو طبيب: شهادة زور، وقول بلا علم، وفي المثل: "لا يعرف الفضل إلا ذووه" ولو عرف هذا الرجل الفضل وأهله، والعلم ومحله، لأحجم عن هذا الهذيان.
وقد نقل لنا عن بعض هؤلاء الستة الذين سماهم واختارهم ما يقتضي – إن صح - أن يحكم على صاحبه بأنه من المعطلة الضالين.
ويقال لهذا 3 أيضا: هذه الدعوى قد ادعاها كل أحد لشيخه ومتبوعه؛ فادعتها الجهمية، والقدرية، والخوارج، والمعتزلة، والروافض، والنصيرية، ونحوهم من كل مبتدع ضال، فكل أحد يدعي أن شيخه وإمامه أولى بالعلم والإيمان من خصومه، والدعاوى المجردة لسنا منها في شيء، وقد قال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا
__________
1 سورة الأنعام: الآية "90".
2 البيت للفرزدق، وقد تقدم تخريجه في ص 565.
3 "لهذا" ساقط من ب وج.(2/956)
مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} 1.
فإسلام الوجه لله هو عبادته، والكفر بعبادة من سواه، وهذا معنى شهادة أن لا إله إلا الله، وهذه/الكلمة تتضمن العلم والعمل مع القول، فلا يكتفى ببعض ذلك، بل لا بد من العلم والعمل والشهادة.
وأما الإحسان: فهو أن تعبد الله بما شرع لا بالأهواء والبدع وهذا هو حقيقة شهادة أن محمدا رسول الله، فإنها تقتضي وتتضمن وجوب متابعة، وتحريم معصيته، وأن السير إلى الله من طريقه ومحجته، هذا هو حقيقة اتباع الرسول، والشهادة له، بالرسالة. والدين كله يدخل في هذه الجملة الشريفة وبسط الكلام عليها يستدعي أسفارا.
والسؤال الذي أجاب عنه هذا الرجل في رسالته، يلزم المفتي ويجب عليه التفصيل في جوابه، ولا يجوز له إطلاق القول؛ لأن الحكم يختلف باختلاف الحال. وإطلاق القول بتكفير كل صالح من صلحاء الأمة من غير تعيين يدخل فيه كل موصوف بهذه الصفة من حين مبعثه صلى الله عليه وسلم إلى يوم الدين. وما أظن هذا يقع من عاقل يتصور ما يقول، مسلما كان أو كافرا، سُنيا أو بدعيا؛ لأن الكافر لا يرى الحكم بالكفر 2 أو الإسلام؛ إذ هي أحكام شرعية، لا يقول بها إلا أهل الشريعة.
وأما المسلم، فلا يتصور أن يكفر صلحاء أهل المدينة، وكذلك السني والبدعي كل منهما يدعي موالاة صلحاء الأمة، ويرى أنهم هم أسلافه وأئمته، وكل طائفة تدعي موالاة الصلحاء والبراءة من الفساق ونحوهم.
وأما إن كان قصد السائل من يكفر معينا من هذه الأمة: فعليه أن يعبر بغير هذه
__________
1 سورة البقرة: الآيتان: "111، 112".
2 "بالكفر" ساقط من ب وج.(2/957)
العبارة الموهومة، والمجيب عليه أن يستفصل؛ لأن ترك الاستفصال؛ فيه إيهام ولا شك أن تكفير بعض صلحاء الأمة ممكن الوقوع؛ بل قد وقع من الخوارج وغيرهم من أهل البدع.
فيقال حينئذ 1: إن كان المكفر لبعض صلحاء الأمة متأولا مخطئا وهو ممن يسوغ له التأويل. فهذا وأمثاله ممن رفع عنه الحرج والتأثيم لاجتهاده، وبذل وسعه، كما في قصة حاطب بن أبي بلتعة 2، فإن عمر – رضي الله عنه - وصفه بالنفاق واستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم/في قتله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"3. ومع ذلك فلم يُعنف عمر على قوله لحاطب: إنه قد نافق.
وقد قال تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} 4، وقد ثبت أن الرب – تبارك وتعالى - قال بعد نزول هذه الآية وقراءة المؤمنين لها: "قد فعلت"5.
وأما إن كان المكفر لأحد هذه الأمة يستند في تكفيره له إلى نص وبرهان من كتاب الله وسنة نبيه، وقد رأى كفرا بواحا؛ كالشرك بالله وعبادة ما سواه، والاستهزاء به تعالى، أو بآياته أو رسوله، أو تكذيبهم، أو كراهة ما أنزل الله من الهدى ودين الحق، أو جحود الحق 6، أو جحد صفات الله – تعالى - ونعوت جلاله ونحو ذلك فالمكفر بهذا مصيب مأجور، مطيع لله ورسوله، قال الله – تعالى - {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ
__________
1 في أ: "حينئذ يقال".
2 تقدمت قصته هذه في ص 179.
3 تقدم تخريجه في ص 179.
4 سورة البقرة: الآية "286".
5 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان أنه –سبحانه وتعالى - لم يكلف إلا ما يطاق. "ح/126" من حديث ابن عباس ".
6 "أو جحود الحق" ساقط في "ب" و "ج".(2/958)
وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} 1.
فمن لم يكن من أهل عبادة الله – تعالى-، وإثبات صفات كماله، ونعوت جلاله، مؤمنا بما جاءت به رسله، مجتنبا لكل طاغوت يدعو إلى خلاف ما جاءت به الرسل، فهو ممن حقت عليه الضلالة، وليس ممن هدى الله للإيمان به، وبما جاءت به الرسل عنه.
والتكفير بترك هذه الأصول، وعدم الإيمان بها من أعظم دعائم الدين، يعرفه كل من كانت له نهمة في معرفة دين الإسلام، وغالب ما في القرآن إنما هو في إثبات ربوبيته تعالى، وصفات كماله، ونعوت جلاله، ووجوب عبادته وحده لا شريك له، وما أعد لأوليائه الذين أجابوا رسله في الدار الآخرة، وما أعد لأعدائه الذين كفروا به وبرسله، واتخذوا من دونه الآلهة والأرباب، وهذا بين بحمد الله.
وقد يصدر التكفير لصلحاء الأمة من أعداء الله ورسله، أهل الإشراك به، والإلحاد في أسمائه، فهؤلاء يكفرون المؤمنين بمحض الإيمان وتجريد التوحيد، ويعيبون أهل الإسلام، ويذمونهم/على إخلاص الدين، وتجريد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بل قد يقاتلونهم على ذلك، ويستحلون دماءهم وأموالهم، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} 2.
فمن كفر المسلمين أهل التوحيد أو فتنهم بالقتال أو التعذيب: فهو من شر أصناف الكفار، ومن الذين بدلوا نعمة الله كفرا، وأحلوا قومهم دار البوار، جهنم يصلونها وبئس القرار، وفي الحديث: "من قال لأخيه يا كافر، فقد باء بها أحدهما" 3.
وأما من أطلق لسانه بالتكفير لمجرد عداوة أو هوى، أو لمخالفة في المذهب – كما يقع
__________
1 سورة النحل: الآية "36".
2 سورة البروج: الآية "10".
3 تقدم تخريجه في ص 207.(2/959)
لكثير من الجهال. فهذا من الخطأ البين، والتجاسر على التكفير والتفسيق 1 والتضليل، لا يسوغ إلا لمن رأى كفرا بواحا عنده، فيه من الله برهان.
والمخالفة في المسائل الاجتهادية التي قد يخفى الحكم فيها على كثير من الناس، لا تقتضي كفرا ولا فسقا، وقد يكون الحكم فيها قطعيا جليا عند بعض الناس، وعند آخرين يكون الحكم فيها مشتبها خفيا، والله لا يكلف نفسا إلا وسعها.
والواجب على كل أحد: أن يتقي الله ما استطاع، وما يظهر لخواص الناس من الفهوم والعلوم، لا يجب على من خفيت عليه عند العجز عن معرفتها، والتقليد ليس بواجب؛ بل غايته أن يسوغ عند الحاجة وقد قرر بعض مشايخ الإسلام أن الشرائع لا تلزم إلا بعد البلوغ وقيام الحجة، ولا يحل لأحد أن يكفر أو يفسق بمجرد مخالفة للرأي والمذهب.
وبقي قسم خامس، هم الذين يكفرون بما دون الشرك من الذنوب، كالسرقة والزنا وشرب الخمر. هؤلاء هم الخوارج، وهم عند أهل السنة ضُلال مبتدعة، قاتلهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الحديث قد صح بالأمر بقتالهم، والترغيب فيه، وفيه: "أنهم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم"2.
وقد غلط كثير من المشركين في هذه الأعصار، وظنوا أن من كفر من تلفظ بالشهادتين فهو من الخوارج، وليس كذلك؛ بل التلفظ بالشهادتينن/لا يكون مانعا من التكفير إلا لمن عرف معناهما، وعمل بمقتضاهما، وأخلص العبادة لله، ولم يشرك به سواه، فهذا تنفعه الشهادتان.
وأما من قالهما ولم يحصل منه انقياد لمقتضاهما، بل أشرك بالله، واتخذ الوسائط والشفعاء من دون الله، وطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله، وقرب لهم القرابين،
__________
1 في "ب" و "ج": "أو التفسيق".
2 تقدم تخريجه في ص 792.(2/960)
وفعل لهم ما يفعله أهل الجاهلية من المشركين، فهذا لا تنفعه الشهادتان بل هو كاذب في شهادته، كما قال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} 1.
ومعنى شهادة أن لا إله إلا الله هو: عبادة الله، وترك عبادة ما سواه، فمن استكبر عن عبادته ولم يعبده، فليس ممن يشهد أن لا إله إلا الله، ومن عبده وعبد معه غيره، فليس هو ممن يشهد أن لا إله إلا الله.
وأما قول السائل في سؤاله: "ويعتقد أن أهل القسم 2 كلهم كفار معطلون، كاليهود والنصارى، ومن لم يكفرهم فهو كافر، وإذا لقيه أحد من المسلمين وسلم عليه قال: عليكم". إلى آخر ما قال.
فاعلم أن أهل "القسم" يخفى حالهم علينا، ولا ندري ما هم عليه من الدين، وفيهما تقدم من التفصيل كفاية، فالمكفر لهم لا يخرج عن الأقسام المتقدمة.
والصحاف قد خلط هنا، وأطال الهذيان، وزعم أن من كفرهم بكفر ولا يصلى خلفه، وقد عرفت أن المسألة فيها تفصيل كما قدمناه، وبه يعرف حكم الصلاة خلفه، وأنها لا تصح خلف من أشرك بالله، أو جحد أسماءه وصفاته لكفره، وأهم شروط الصلاة والإمامة هو الإسلام معرفة والعمل به.
ومن كفر المشركين ومقتهم، وأخلص دينه لله، فلم يعبد سواه فهو أفضل الأئمة وأحقهم بالإمامة؛ لأن التكفير بالشرك والتعطيل هو أهم ما يجب من الكفر بالطاغوت.
وأما من كفَّر من ليس من أهل الكفر لكنه متأول يسوغ تأويله، فهو أيضا من الأئمة المرضيين، إذا تمت له شروط الإمامة، وخطؤه مغفور له بنص الحديث.
__________
1 سورة المنافقون: الآية "1".
2 القسم: بفتح فسكون: مصدر قسمت الشيء أقسمه قسما: اسم موضع عن الأديبي. انظر: معجم البلدان، 4/396.(2/961)
وأما من يكفر لهوى أو عصبية أو لمخالفة في المذهب، أو لأنه يرى رأي الخوارج، فهو/ فاسق لا يصلى خلفه إذا أمكنت الصلاة مع غيره، إلا إن كان ذا سلطان تخشى سطوته، فصلى خلفه كما يصلي خلف أئمة الظلم والجور. إذا عرفت هذا، فاعلم أن الصحاف ذكر في جوابه ما لا يتعلق بالسؤال؛ كمسبته وعيبه من يعيب مشايخه الذين ذكرهم، وترضى عنهم، كابن كمال، وعبد الله البصري، وحسين الدوسي وغيرهم ممن ذكر، وحكمه على من عابهم أنه من الجهال المبتدعة، أكلة الحرام الذين لا هم لهم في الدين، وأنهم ممن قال فيهم صاحب الزبد:
وعالم يعلمه لم يعملن ... معذب من قبل عباد الوثن
وأن همهم في جمع الدراهم والدينار، يعملون في تحصيلها أنواع الحيل بالليل والنهار.
فهذا الكلام مجرد دعوى ومسبة، ينزه العاقل نفسه عن مثلها، ويكفي في ردها منعها وتكذيبها، ويمكن خصم الصحاف أن يقابلها ويعارضها بما هو محق فيه، كقوله: بل أنتم أهل الجهل بما بعث الله به رُسله، وأنزل به كتبه، لم تعرفوه بما وصف به نفسه، وبما وصفته به رسله من صفات الكمال ونعوت الجلال، ولكنكم أخذتم العقيدة في ذلك عن أفراخ الفلاسفة واليونان الذين هم من أعظم الخلق مناقضة لما نطق به القرآن، وما وصف به الرب نفسه في كتابه العزيز، وكذلك أنتم في باب معرفة حق الله وتوحيده، من أضل الناس وأهلهم، تجعلون عبادة غير الله، ودعاءه، والاستغاثة والاستعاذة به، والذبح والنذر له 1، والحب مع الله، توسلا بالصالحين وتشفعا بهم، وقد صرح بهذا أشياخ هذا الصحاف وأشياعه، وكتبوا به إلينا وإلى شيخنا – رحمه الله تعالى - وعنهم أن الإنسان لا يكفر ولا يكون مشركا، إلا اعتقد التأثير له من دون الله ولم يفقهوا أن الله حكى عن المشركين في غير موضع من كتابه، أنهم يعترفون له بأنه هو المختص بالإيجاد والتأثير والتدبير، وأن غيره لا يستقل بشيء من ذلك ولا
__________
1 "له" ساقط من "أ".(2/962)
يشاركه فيه، وحكى عن المشركين أنهم ما قصدوا بعبادة من سواه إلا القربان والشفاعة، كما ذكر ذلك في غير موضع من كتابه.
قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} 1.
{قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ، قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ، قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} 2.
ومثل هذا كثير في القرآن، يخبر فيه – تعالى - أن المشركين يعترفون بأن الله هو المتفرد بالإيجاد والتأثير والتدبير.
وقال تعالى في صفة شرك المشركين وبيان قصدهم: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 3.
وقال: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 4 وقال: {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} 5.
فأبيتم علينا هذا كله، وقلتم هذا دين الوهابية، ونعم، هو ديننا بحمد الله؛ ورضي الله عن الشافعي إذ يقول:
يا راكبا قف بالمحصب من منى ... واهتف بقاعد 6 خيفها والناهض
__________
1 سورة يونس: الآية "31"، وفي "ج" أكملت بقية الآية: {فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} .
2 سورة المؤمنين الآية "84-89".
3 سورة يونس الآية "18".
4 سورة الزمر الآية "3".
5 سورة الأحقاف الآية "28".
6 في أ: "بجانب، وهو خطأ.(2/963)
إن كان رفضا حب آل محمد ... فليشهد الثقلان أني رافضي
"فصل"
قال الصحاف: "وأنهم إذا سمعوا من يذكر الله جهرا بأنواع الأذكار، ويصلي على الرسول جهرا خصوصا على المنار – كما يفعله سائر أهل الأمصار - أنكروا ذلك ونفروا عنه وفروا".
فيقال: أما ذكر الله جهرا بأنواع الأذكار، فلا نعلم أحدا من المسلمين بحمد الله – تعالى - 1 ينكره أو يُنَفِّر عنه، وإطلاق هذه العبارة من الكذب البين، والبهت الظاهر الذي لا يمتري فيه من عرف حال من يشير إليهم هذا الرجل، وليس هذا بعجيب من جرأته وظلمه، وقد قال – تعالى-: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} 2.
نعم، قد أنكروا ما يفعله كثير من جهلة أهل الطرائق المبتدعة، من الاجتماعات على السماع الشيطاني، وقيامهم/بين يدي المنشد يميلون ويرقصون. وبعضهم يذكر الله بمجرد الاسم الظاهر 3 أو المضمر 4، ويزعم أن هذا هو ذكر الخواص أهل المعرفة والتحقيق، فهؤلاء مبتدعة ضلال، وما فعلوه ليس بذكر شرعي، بل هو د ين مبتدع غير مرض، قال الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} 5. وقال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} 6.
__________
1 "تعالى" ساقط في "أ".
2 سورة النحل: الآية "105".
3 كأن يقول: "الله.. الله".
4 كأن يقول: "هو.. هو".
5 سورة الشورى: الآية "21".
6 سورة الجاثية: الآية "18".(2/964)
وفي الحديث: "إن أصد ق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بعدة ضلالة"1.
ووكل عالم يعرف أن هذا السماع الشيطاني مبتدع، لم يحدث إلا بعد القرون المفضلة، وقد أنكره عامة أئمة الإسلام، وأشهدهم في ذلك أتباع الإمام مالك بن أنس، الذي ينتسب هذا الرجل إلى مذهبه، وكفى به جهلا وضلالا أن يعيب ما عليه قدماء أئمته وفضلاؤهم، ونصوصهم موجودة بأيدينا، في إنكار هذا السماع الشيطاني، وتضليل فاعله وتفسيقه.
وقد صنف ابن قيم الجوزية في هذا الذكر المبتدع كتابا مستقلا 2 قرر فيه مذاهب الأئمة في حكم هذا السماع، وأنه محرم لا يجوز.
وإن كان قصد هذا المعترض: خصوص رفع الصوت بالصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الأذان، كما يفعله أهل الأمصار، فقد صدق في حكاية إنكار هذا عنه 3، وهم لا ينازعون في مشروعية الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم سرا وجهرا، بل يستحبونها ويوجبونها في الصلاة، ويرون أنها من جملة الأركان فيها.
لكنهم يرون أن ما يفعله أهل الأمصار، على المنائر 4 بعد الأذان مبتدع محدث في القرن الخامس والسادس، وسبب إحداثه رؤيا رآها بعض ملوك مصر، على ما ذكره بعض المؤرخين، وقد أنكره بعض الأئمة، وقالوا: هو بدعة لم يفعله صلى الله عليه وسلم مع التمكن من فعله، ولم يفعله أحد من أئمة الهدى بعده، ولا غيرهم من
__________
1 أخرجه مسلم في الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة: "ح/867"، من حديث جابر رضي الله عنه. وقد تقدم لفظ أبي داود في المقدمة ص 10.
2 هو كتاب "الكلام في مسألة السماع"، ط. دار العاصمة، وهو كتاب عظيم النفع، جليل القدر.
3 في "ب"، و "ج": منهم".
4 في "ج": "المنابر".(2/965)
أهل القرون المفضلة، وقد أمرنا بالاتباع، ونهينا عن/الابتداع.
قال ابن مسعود "اتبعوا ولا تبتدعوا، ومن كان منكم مستنا فعليه بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم 1، أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، والقيام بدينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم"2، أو كما قال.
وقد تقدم من الآيات والأحاديث ما يدل لقوله ويشهد له، وكتب قدماء أهل المذاهب الأربعة، وجمهور متأخريهم ليس فيها استحباب هذا، ولا الأمر به، بل فيها ما يدل على منعه، وأن الواجب هو ما شرعه الله.
قالوا: وأما الصلاة والسلام عليه سرا بعد الأذان، وسؤال الله له الوسيلة والفضيلة، فهذا مشروع قد ورد به الخبر، وصح به الأثر 3، مع من خالفهم من الأدلة ما يجب المصير إليه، وإنما يعيب على من منع البدع واختار السنن، أهل الجهالة والسفاهة {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ} 4.
ثم إن المفتري 5 الصحاف أطلق لسانه بالمسبة، وأطال في ذلك، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ
__________
1 سقطت "صلى الله عليه وسلم" من "ب".
2 تقدم تخريج هذا الأثر في ص 209.
3 ومن تلك الآثار: ما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته، جلت له شفاعتي يوم القيامة".
أخرجه البخاري في الأذان، باب الدعاء عند النداء، "ح/614".
ومنها: ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا، ثم سلوا لي الوسيلة". أخرجه مسلم في الصلاة، باب استحباب القول على قول المؤذن، "ح/384".
4 سورة الأعراف: الآية "45".
5 في "أ": "المغربي".(2/966)
ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} 1، وقد قيل في المثل: وقال العلي: أنا ذاهب إلى المغرب، فقالت الحماقة: وأنا معك.
وقد ذكر في جوابه من الحشو والكلام الذي لا يقتضيه المقام، ما يدل على قصوره وعجزه، وعدم ممارسته لصناعة العلم، كما ذكر قضيته مع راشد بن عيسى في مسألة الهبة واختلافها في لزومها، ومسألة العقد على اليتيمة، فلقد أبدى بذلك ما خفي من جهله، ورب كملة تقول دعني.
وكلامهم في الهبة ولزومها كلام غير محقق، والناس يختلفون في الهبة ولزومها، هل هو بالعقد فقط، أو لا بد من القبض؟ وعن بعضهم ما يقتضي التفرقة بين المكيل والموزون وغيرهما.
واختلف الناس أيضا؛ هل تبطل بالموت قبل القبض أو لا؟ واختلف القائلون باشتراط القبض، هل يشترط فيما وهبه لزوجته أو لا يشترط؟ /وأدلة هذه الأقوال ومآخذها، والرد على المخالف مبسوط في المطولات، ولا غرض لنا في ذكره، وإنما قصدنا أن حكم هذا الصحاف على أحد الأقوال بالصحة. مع قصوره عن معرفتها ومعرفة أدلتها، والتزامه التقليد. حكم باطل لا يجوز، وما للأعمى ونقد الدراهم؟.
وحكمه على الذي أفتى بخلاف قوله، بأنه ضال عن سبيل الرشاد، حكم باطل، أوجبه ما بينهما من التنافس والعناد، ومثل هذه المسائل الاجتهادية لا يجوز لأحد أن ينكر فيها على خصمه بمجرد التقليد، وحكاية فروع المذهب، بل لا بد من الدليل على ذلك من الكتاب، أو شنة أو إجماع أو قياس صحيح، ومن كلام شيخ الإسلام: "من ترك الدليل ضل السبيل".
وجميع ما ذكره إنما هو مجرد نقل لأقوال بعض المالكية؛ كالشيخ خليل، وعبد الباقي، وابن عرفة وأمثالهم، وتقليد هؤلاء إنما يسوغ عند الضرورة، والمقلد لهم أو
__________
1 سورة الشعراء: الآية "227".(2/967)
لغيرهم ليس من أهل العلم بالإجماع، كما حكاه ابن عبد البر أو إمام المالكية عمن يحفظ قوله من أهل العلم، فكيف والحال هذه يحكم هذا الجاهل الذي ليس هو من أهل العلم عند أئمة مذهبه وغيرهم بصحة جوابه، وفساد قول خصمه وضلاله؟ وهل يعلم هذا إلا بالنص من كلام الله، أو كلام رسوله، أو إجماع الأمة؟
فما للمقلد والحكم بالصحة والصواب، وقد جهل نصوص السنة والكتاب؟ ومن تشبَّع بما لم يعطي فهو كلابس ثوبي زور 1.
وقوله: فلا شك في أن الطاعن في أهل القسم من أهل النار بعيد عن الهدى، وأنه لا يفلح أبدا في الدنيا خاسر أي خاسر، وفي الآخرة إلى النار صائر، إلى آخر عبارته.. فهذا الكلام لا يصدر ممن عاقل، يعرف ما خرج من بين شفتيه، نعوذ بالله من الجهل المردي، والهوى المعمي، وهذه المسبة والحكم على المخالف في هذه المسألة بالنار، مما تقشعر منه جلود الذين آمنوا، وما أشبهها بأخلاق أهل المجون، وأصحاب الوقاحة والجنون.
وكان ينبغي لنا أن نعد هذه الفتوى من جملة هذيان/الضالين، وأن نكف القلم عن إجابة هذا النوع من المفترين، ولكن الضرورة اقتضت، فلا إله إلا الله، ما أشد غربة الدين، وما أقل العارفين له والمميزين، كيف يقر مثل هذا بين ظهراني من له عقل يميز به الخبيث من الطيب، ويفرق به بين الآجن والصيب؟ وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكفروا من كفرهم من الخوارج الحرورية، وقد سُئل علي رضي الله عنه 2، فقيل له: أكُفارٌ هم؟
فقال: "من الكفر فروا"3.
__________
1 أصله حديث تقدم تخريجه في ص 525.
2 في "أ": "كرم الله وجهه".
3 تقدم تخريجه في ص 208.(2/968)
وفي الحديث: "أن رجلا فيمن قبلنا رأى من يعمل بالمعاصي فاستعظم ذلك وقال: والله لن يغفر الله لفلان، فقال الله: من ذا الذي يتألَّى علي أن لا أغفر لفلان، إني قد غفرت له، وأحبطت عملك" 1.
وأما قوله: ومن تسمَّى بالإسلام، وأحب محمدا سيد الأنام، وأحب أصحابه الكرام، واتبع العلماء الأعلام، لا يكفر أحدا من سائر المسلمين، فضلا عن هداتهم في الدين، اللهم إلا أن يكون من الغلاة الذين اسقطوا حرمة "لا إله إلا الله" وسؤال لهم الشيطان وأملى لهم، حيث استباحوا دماء المسلمين – إلى آخر رسالته.
فيقال في جوابه: هذا الجاهل يظن أن من أشرك بالله واتخذ معه الأنداد والآلهة، ودعاهم مع الله لتفريج الكربات وإغاثة اللهفان، يحكم عليه والحال هذه بأنه من المسلمين؛ لأنه يتلفظ بالشهادتين، ومناقضتهما2 ن لا تضره، ولا توجب عند كفره، فمن كفَّره فهو من الغلاة الذين أسقطوا حرمة "لا إله إلا الله" وهذا القول مخالف لكتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "من جعل بينه وبين الله وسائط، يدعوهم ويسألهم، ويتوكل عليهم كفر إجماعا"3. انتهى.
ومجرد التلفظ من غير التزام لما دلت عليه كلمة الشهادتين لا يجدي شيئا، والمنافقون يقولونها وهم في الدرك الأسفل من النار.
نعم، إذا قاله المشرك ولم يتبين منه ما يخالفها، فهو ممن يكف عنه بمرد القول، ويحكم بإسلامه، وأما إذا تبين منه تكرر عدم التزامه ما دلت عليه من الإيمان بالله
__________
1 "وأجبطت عملك" سقطت من "ب".
والحديث أخرجه من مسلم في البر والصلة، باب النهي عن تقنيط الإنسان من رحمة الله تعالى، "ح/262" من حديث جندب بن عبد الله رضي الله عنه.
2 في "ج" ومناقضتها.
3 انظر: الفتاوى "1/124".(2/969)
وتوحيده والكفر بما يعد من/دونه، فهذا لا يحكم له بالإسلام ولا كرامة له، ونصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة تدل 1 على هذا.
فمن تسمى بالإسلام حقيقة، وأحب محمدا، واقتدى به في الطريقة وأحب أصحابه الكرام، ومن تبعهم من علماء الشريعة، يجزم ولا يتوقف بكفر من سوى بالله غيره، ودعا معه سواه من الأنداد والآلهة، ولكن هذا الصحاف يغلط في مسمى الإسلام ولا يعرف حقيقته، وكلامه يحتمل أنه قصد الخوارج الذين يكفرون بما دون الشرك من الذنوب وحينئذ يكون له وجه، ولكنه احتمال بعيد، والظاهر الأول.
وقد ابتلي بهذه الشبهة، وضل بها كثير من الناس، وظنوا أن مجرد التكلم بالشهادتين مانع من الكفر، وقد قال – تعالى-: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} 2. وقال – تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} 3. وقال – تعالى-: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ} 4 فالتكفير بدعاء غير الله: هو نص كتاب الله، وفي الحديث: "من مات وهو يدعو لله ندا دخل النار" 5. وفي الحديث أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" 6،
__________
1 في "ب" و "ج" "يدل".
2 سورة المؤمنون: الآية "117".
3 سورة يونس: الآية "106".
4 سورة الرعد: الآية "14".
5 صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً} "ح/4497"، وفي الجنائز، باب في الجنائز، "ح/11238"، وفي الأيمان والنذور، باب إذا قال والله لا أتكلم اليوم"، "ح/6682" من حديث ابن مسعود –رضي الله عنه-.
6 أخرجه مسلم في الإيمان، باب الأمر بقتال الناس ... "1/53" من حديث جابر. وأخرج =(2/970)
وفي رواية: "إلا بحق الإسلام" 1.
وأعظم حق الإسلام وأصله الأصيل هو: عبادة الله وحده، والكفر بما يعبد من دونه، وهذا هو الذي دلت عليه كلمة الإخلاص، فمن قالها وعبد غير الله، أو استكبر عن عبادة الله فهو مكذب لنفسه، شاهد عليها بالكفر والإشراك.
وقد عقد كل طائفة من أتباع الأئمة، في كتب الفقه باب مستقلا في حكم المرتد، ويذكر أشياء كثيرة يكفر بها الإنسان، ولو كان يشهد أن لا إله إلا الله، وقد قال – تعالى - في النفر الذين قالوا في غزوة تبوك بعض القول الذي فيه ذم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من أصحابه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ، لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} 2، فكفَّرهم بعد إيمانهم بالاستهزاء ولو كان على وجه المزح واللعب، ولم يمنع ذلك قوله "لا إله إلا الله".
وكذلك: إجماع الأمة على كفر من صدق مسيلمة الكذاب، ولو شهد "أن لا إله إلا الله" وقد كفَّر الصحابة أهل مسجد بالكوفة بكلمة ذُكرت عنهم في احتمال صدق مسيلمة الكذاب، ولم يلتفت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أنهم يشهدون "أن لا إله إلا الله". لأنه قد وجد منهم ما ينافيها، ويناقضها: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} 3 وبالجملة فالذي يقوم بحرمة "لا إله إلا الله": هم الذين جاهدوا الناس عليها، ودعوهم إلى التزامها علما وعملا، كما هي طريقة رسل الله وأنبيائه، ومن تبعهم بإحسان، كشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله تعالى - وأما من أباح الشرك بالله وعبادة غيره، وتولى المشركين، وذب عنهم، وعادى
__________
= البخاري نحوه في كتاب الجهاد والسير، باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلى الإسلام والنبوة. "ح/2946" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
1 أخرجه البخاري في الإيمان باب "فإن تابوا وأقاموا الصلاة" "ح/25".
2 سورة التوبة: الآيتان "65، 66".
3 سورة النور: الآية "40".(2/971)
الموحدين وتبرأ منهم فهو الذي أسقط حرمة "لا إله إلا الله"، ولم يعظمها، ولا قام بحقها، ولو زعم أنه من أهلها القائمين بحرمتها.
وأما ما ساقه هذا الصحاف من كلام شيخه حسين الدوسري: فالخصم يعارضه ويمنعه، وما ذكره 1 ليس – بحمد الله تعالى - من أوصاف أهل التوحيد، ولكنه وصف أهل الشرك والتنديد.
والذي أنكر الطاعة، وعصى ربه في كل ساعة، واتبع هوى نفسه الخداعة، وشذ عن السنة وفارق الجماعة، ووافق الشبهة وأهل الإضاعة، هو من كانت طريقته عبادة غير الله، والاستعانة بغير مولاه، وصرف الوجه لغير من خلقه وسواه، والتعبد بغير الذي شرعه الله على لسان عبده الذي اصطفاه، من أهل التعطيل والتضليل، والإلحاد والتمثيل، الذين اختلفوا وخالفوا الكتاب، وضلوا عن الصواب.
وأما الصحاف نقلا عن شيخه الدوسري: "أما كفروا العلماء؟ أما سفكوا الدماء؟ أما استحلوا المحرمات؟ أما روعوا المسلمين والمسلمات؟ أما أسخطوا رب السموات؟ أما رجفوا أهل الحرم؟ أما تجاسروا على حجرة منْ صلى الله عليه وسلم؟ فلا أفلح من ظلم.
فالجواب عن هذا يقال: كل عاقل يعرف سيرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله - يعلم أنه من أعظم الناس إجلالا /للعلم والعلماء، ومن أشد الناس نهيا عن تكفيرهم وتنقصهم وأذيتهم، بل هو ممن يدين بتوقيرهم وإكرامهم والذب عنهم، والأمر بسلوك سبيلهم عملا بقوله – تعالى-: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} 2. وبقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ} 3 الآية
__________
1 في "أ": "ما ذكر".
2 سورة التوبة: الآية "71".
3 سورة الحشر: الآية "10".(2/972)
وبقوله – تعالى-: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} 1.
فالإيمان والتقوى هما أصل العلم بالله وبدينه وشرعه، فكيف يظن بمسلم فضلا عن شيخ الإسلام أنه يكفر العلماء؟ {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} .
والشيخ – رحمه الله - لم يكفر إلا من كفره الله ورسوله وأجمعت الأمة على كفره؛ كمن اتخذ الآلهة والأنداد لرب العالمين، ولم يلتزم ما جاءت به الرسل من الإسلام والدين، أو جحد ما نطق به الكتاب المبين، من صفات الكمال، ونعوت الجلال لرب العالمين، وكذلك من نصب نفسه لنصرة الشرك والمشركين، وزعم أنه توسل بالأنبياء والصالحين، وأنه مما يسوغ في الشرع والدين، فالشيخ وغيره من جميع المسلمين، يعلمون أن هذا من أعظم الكفر وأفحشه.
ولكن هذا الجاهل، يظن أن من زعم أنه يعرف شيئا من أحكام الفروع وتسمى بالعلم، وانتسب إليه، ويصير بذلك من العلماء، ولو فعل ما فعل، ولم يدر هذا الجاهل أن الله كفَّر علماء أهل الكتاب والتوراة والإنجيل بأيديهم، وكفَّرهم رسوله لما أبوا أن يؤمنوا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق.
ولا ضير على الشيخ بمسبة هؤلاء الجهال، وله أسوة بمن مضى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن بعدهم ن أهل الإيمان والاهتداء.
قال الشافعي – رحمه الله-: "ما أرى الناس ابتلوا بسب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ليزيدهم الله ثوابا عند انقطاع أعمالهم"، وما أحسن ما قيل: شعرا
قدمت لله ما قدمت من عمل ... وما عليك بهم ذموك أو شكروا
عليك في البحث أن تُبِدي غوامضه ... وما عليك إذا لم تفهم البقر
وقد اعترضت اليهود والنصارى على عبد الله ورسوله بالقتال، وسفك الدماء
__________
1 سورة يونس: الآيتان "62، 63".(2/973)
وسبي الذرية وقالوا إنما يفعل هذا الملوك المسلطون، وحكاياتهم في ذلك معروفة مشهورة عند أهل العلم، ويكفي في ذلك قوله – تعالى-: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} 1 الآية.
وأما قوله: "أما رجفوا أهل الحرم". فلا يخفى أن الذي جرى في الحرمين، من أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب هو: هدم القباب التي أسست على معصية الله ورسوله، وصارت من أعظم وسائل الشرك وذرائعه، وكسروا آلات التنباك وسائر المسكرات وألزموا الناس المحافظة 2 على الصلوات في الجماعات، ونهوا عن لبس الحرير، وألزمهم بتعلم أصول الدين، والالتفات إلى ما في الكتاب والسنة من أدلة التوحيد وبراهينه، وقرروا الكتب المصنفة في عقائد السلف أهل السنة والجماعة في باب عرفة الله بصفات كماله، ونعوت جلاله، وقرروا 3 إثبات ذلك من غير تحريف ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تمثيل، وأنكروا على من قال بقول الجهمية في ذلك، وبدَّعوه وفسَّقوه، فإن كان هذا إرجافا للحرم فحبذا هو، وما أحسن ما قيل:
وعيَّرني 4 الواشون أني أحبها ... وتلك شكاة ظاهر عنك عارفا
وقد أمر الله – تعالى - من خاض في مثل هذا أن يتكلم بعلم وعدل، كما قال – تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} 5 الآية.
وهذا الرجل كلامه جهل محض وجور ظاهر، وأصله الذي يرجع إليه هو الانتصار للنفس والهوى، لا لنصر الحق والهدى.
__________
1 سورة النساء: الآية "51".
2 في "ب": "بالمحافظة".
3 في "أ": "وقد روي".
4 في "أ": "وغيرها".
5 سورة النساء: الآية "135".(2/974)
وأما التجاسر على حجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكأنه يشير به إلى المال الذي استخرجه الأمير سعود من الحجرة الشريفة، وصرفه في أهل المدينة ومصالح الحرم، وهو – رحمه الله - لم يفعل هذا إلا بعد أن أفتاه علماء المدينة من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنبلية، فاتفقت فتواهم على أنه يتعين ويجب على ولي الأمر إخراج المال الذي في الحجرة، وصرفه في حاجة أهل المدينة وجيران الحرم؛ لأن المعلوم السلطاني قد منع في تلك السنة، واشتدت الحاجة والضرورة إلى استخراج هذا المال وإنفاقه، ولا حاجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إبقائه في حجرته وكنزه لديه، وقد حرم كنز الذهب والفضة وأمر بالإنفاق في سبيل الله، لا سيما إذا كان المكنوز مستحقا لفقراء المسلمين، وذوي الحاجة منهم، كالذي بأيدي الملوك والسلاطين.
فلا شك أن استخراجها على هذا الوجه، وصرفها في مصارفها الشرعية أحب إلى الله ورسوله من إبقائها واكتنازها، وأي فائدة في إبقائها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهل المدينة في أشد الحاجة والضرورة إليها؟
وتعظيم الرسول وتوقيره: إنما هو في اتباع/ أمره والتزام دينه وهديه، فإن كان عند علينا دليل شرعي يقتضي تحريم صرفها في مصالح المسلمين فليذكره لنا، ولم يضع هذا المال أحد من علماء الدين الذين يرجع إليهم، وليس عند هؤلاء إلا اتباع عادة أسلافهم ومشايخهم، ويعرف هذا من ناظرهم ومارسهم، ودعواهم عريضة وعجزهم ظاهر.
وقد أطال هذا الصحاف فيما نقله عن شيخه حسين الدوسري، وأكثر فيه من النصيحة، ولا بأس بالنصائح لمن أراد الحق وتوخاه، ونهى عما يسخطه الرب ولا يرضاه، ولم يلحد في أسمائه، ولم يعبد سواه، فهذا هو الصادق في نصحه وقوله الذي أبداه. بخلاف من توهم الأمر على خلاف ما هو عليه، ولبس الحق بالباطل لديه، واعتقد أن المجاهد لإعلاء كلمة الله يشار بالذم إليه، فعمل مثل هذا {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ(2/975)
عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ، أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} 1.
نسأل الله – تعالى - أن يمن علينا بالهداية إلى صراطه المستقيم، والفوز لديه بجنات النعيم صلى الله عليه وسلم 2.
أملاه 3 الفقير إلى اله عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى وعفا عنه.
__________
1 سورة النور: الآيتان "39-40".
2 في "ب" و "ح" سقط "صلى الله عليه وسلم".
3 من هنا إلى الآخر ليس في "أ" و "ج".
وجاء في خاتمة نسخة "أ" ما نصه: "وغفر الله لكاتبها، ولمؤلفها، ولوالديهما، ولمن نظر فيها، وعمل بها إنه جواد كريم، وافق الفراغ من هذه النسخة المباركة، شهر ربيع آخر، مضياه إحدى عشر يوم من سنة ثلاثمائة وألف واحد عشر، في 11 سنة 1311هـ.
فيا رب اغفر لمن كاتبه ... وعمبه يا رب من قال آمينا
إن تجد عيبا فسد الخلل ... جل من لا عيب فيه وعلى
وكتب في هامشها ما نصه: "بلغ مقابلة وتصحيح على الأصل بحسب الطاقة والإمكان". وجاء في خاتمة النسخة "ب" ما نصه: "وقع الفراغ من نسخة منها، نهار الثلاثاء من ربيع الآخر، وذلك في سنة 1338هـ، بقلم الفقير إلى الله –عز شأنه - صالح بن سليمان بن سحمان غفر الله له ولوالديه وللمسلمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه تسليما كثيرا".(2/976)
جدول يبين أمراء آل سعود وفترة إماراتهم
...
لا يوجد(2/)
ملحق (جدول يبين أمراء آل سعود وفترة إماراتهم)
...
جدول يبين أمراء آل سعود، وفترة إمارتهم، والأدوار التي مرت بها الدولة السعودية {الدور الأول} *
اسم الأمير
...
فترة إمارته: من
...
إلى
1- محمد بن سعود
...
1139هـ
...
1179هـ
2- عبد العزيز بن محمد
...
1179هـ
...
1218هـ
3- سعود (الكبير) بن عبد العزيز
...
1218هـ
...
1229هـ
4- عبد الله بن سعود الكبير
...
1229هـ
...
1233هـ
5- مشاري بن سعود الكبير
...
1233هـ
...
1235هـ
{الدور الثاني}
6- تركي بن عبد الله بن محمد
...
1235هـ
...
1249هـ
7- فيصل بن تركي (للمرة الأولى)
...
1250هـ
...
1254هـ
8- خالد بن سعود (الكبير)
...
1254هـ
...
1257هـ
9- عبد الله بن ثنيان
...
1257هـ
...
1259هـ
10- فيصل بن تركي (للمرة الثانية)
...
1259هـ
...
1282هـ
11- عبد الله بن فيصل
...
1282هـ
...
1288هـ
12- سعود بن فيصل
...
1288هـ
...
1291هـ
13- عبد الرحمن بن فيصل
...
1307هـ
...
1309هـ
{الدور الثالث}
14- عبد العزيز بن عبد الرحمن
...
1319هـ
...
1373هـ
15- سعود بن عبد العزيز
...
1373هـ
...
1384هـ
16- فيصل بن عبد العزيز
...
1384هـ
...
1395هـ
17- خالد بن عبد العزيز
...
1395هـ
...
1402هـ
18- فهد بن عبد العزيز
...
1402هـ
...
(1)
__________
(1) انظر: السعودية، للسيد محمد إبراهيم، ص19. وتاريخ المملكة العربية السعودية، له أيضاً، ص152.
* أدرجت هذه الصفحة بعد الصفحة رقم 51 في المجلد الأول بدون رقم.(2/51)