نظرية الخلافة:
تمهيد:
اكتسب نظام الحكم الذي أقامه العرب المسلمون بالمدينة، عقب وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- اسم "الخلافة"، لأن أول من عقدت له البيعة يومئذ -وهو أبو بكر الصديق "51 ق هـ - 13هـ 573 - 674م"- قد خلف الرسول في حكم الدولة ولذلك كان اللقب الوحيد الذي تقلب به في وثائق الدولة ومكاتباتها هو: "خليفة رسول الله"، ولم يلقب في هذه الوثائق بلقب آخر سواه1.. ولقد كانت طبيعة دعوة النبي في الأول والجوهر والأساس، دينا ووحيا ونبوة ورسالة، ولكن الاضطهاد الذي استقبلت به الدعوة ولقيه المؤمنون بها من مشركي العرب، وفي مقدمتهم ملأ قريش وسراتها، قد اضطر النبي وصحبه إلى الهجرة إلى "يثرب"، حيث عقدوا مع الأنصار بيعة تأسست بها "للدين" "دولة" دافعت عن حرية الدعاة في الدعوة للدين الجديد، وانتصرت للذين ظلموا وأخرجوا من ديارهم بالفتح الذي أدخل شبه الجزيرة تقريبا في دولة الإسلام قبل وفاة الرسول، عليه الصلاة والسلام.
ولقد كانت السلطة العليا في هذه الدولة للرسول، اجتمعت له مع
__________
1 "مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة" ص259-356 جمعها الدكتور محمد حميد الله الحيدر آبادي. طبعة القاهرة، الثانية، سنة 1956م.(1/5)
النبوة والرسالة والتبليغ عن السماء.. لكنه كرسول كان خاتم الرسل وآخر الأنبياء.. بينما كان كحاكم أول حكام هذه الدولة التي جمعت العرب ووحدتهم في دولة واحدة للمرة الأولى في التاريخ.. ومن ثم فلقد كانت البيعة لأبي بكر برئاسة الدولة تأسيسا "لخلافة" الرسول في سلطاته كرئيس دولة، في الوقت الذي كان إجماع المسلمين فيه مستقرا وواضحا على أن سلطان النبي الديني قد انقضى بموته؛ لأن طور النبوة قد ختم، ولقد أوكل الله الإنسانية بعد أن رشدت إلى العقل تدبر به أمر دنياها، في ضوء كليات الرسالة الخالدة الخاتمة، رسالة الإسلام.(1/6)
المصطلحات:
ومنذ اللحظة التي عقدت فيها البيعة لأبي بكر الصديق -وهي قد عقدت له قبل دفن جثمان الرسول- وحتى عصرنا هذا غدت "الخلافة"، كنظام للسلطة والحكم في المجتمع، أولى القضايا وأخطر القضايا التي اختلف من حولها المسلمون.. فخلافهم حولها وبسببها سبق أي خلاف، وانقسامهم إلى فرق ومدارس وتيارات لم يحدث إلا بسببها، والقتال فيما بينهم لم يحدث إلا عليها.. لقد اجتمعوا رغم تعدد اجتهاداتهم في الإلهيات والتصور للكون والاختلاف في بعض الأصول وكثير من الفروع، ولكنهم انقسموا واقتتلوا على الخلافة ونظام الحكم وما ارتبط به من العقائد والممارسات.. ومن هنا كانت أهمية مبحث الخلافة في الفكر الإسلامي، الأمر الذي يؤكد غني التراث العربي الإسلامي بمباحث الفكر السياسي، على عكس ما يعتقد الكثيرون!
وفي المباحث التي عرض بها المسلمون لنظرية الخلافة ونظام الحكم نلتقي بالعديد من المصطلحات، وفي مقدمتها نجد مصطلحات:
1- الخلافة.. والخليفة..
2- والإمارة.. وأمير المؤمنين..
3- والإمامة.. والإمام..(1/6)
الخلافة:
وأول هذه المصطلحات، من حيث الظهور في واقع التجربة السياسية بدولة المدينة، هو مصطلح "الخلافة.. ولقد أطلق المسلمون هذا المصطلح على نظام حكمها الجديد، على نحو تميز بالعفوية، ودونما إعمال للبحث والتنقيب والموازنة والاختيار.. فلقد كان الرسول يتولى، علاوة على النبوة والتبليغ عن السماء، "أمر" الأمة، أي: سياستها وحكومتها.. وعندما اختاره الله كان المطروح في سقيفة بني ساعدة هو استخلاف خليفة يخلف الرسول في هذا "الأمر".. ولقد طرح أبو بكر، يومئذ، هذه القضية بكلماته التي قال فيها: "إن محمدا قد مضى بسبيله، ولا بد لهذا الأمر من قائم يقوم به، فانظروا، وهاتوا آراءكم يرحمكم الله"1.. ولما نظروا، واختاروه وبايعوه كان ذلك استخلافا، وكان النظام الذي أسسوه خلافة للرسول في "أمر" الأمة, وكان أبو بكر "خليفة رسول الله".
ويؤكد العفوية في اختيار المصطلح, وانبعاثه من واقع الحال السياسي انفصام الصلة بين مدلول هذا المصطلح هنا وبين المعنى الذي دلت عليه مادته في القرآن الكريم.
فداود، في القرآن، "خليفة" {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} 2.. ولكن المراد بخلافة داود هنا هي: خلافة الله، أي: النبوة،
__________
1 الشهرستاني "نهاية الإقدام في علم الكلام" ص479. تحقيق ألفرد جيوم "طبعة دون تاريخ، ودون مكان الطبع".
2 ص: 26.(1/7)
أو خلافة من سبقه في ملك بني إسرائيل، فتكون: الملك1.. ولم يكن كذلك أبو بكر ولا منصبه، فلم تكن خلافته نبوة ولا ملكا. والناس في القرآن "خلفاء" و"خلائف" و"مستخلفون" {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} 2. {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ} 3. {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ} 4. {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ} 5. ولكن الخلافة هنا هي عن الله في عمارة الأرض، أو خلافة اللاحقين للمتقدمين، وهي الوظيفة الإنسانية العامة لبني الإنسان، وليست الوظيفة السياسية المحددة لصاحب السلطة ورئيس الدولة الذي اختاره المسلمون يوم وفاة الرسول، وأسسوا باختياره نظام حكمهم هذا..
__________
1 الماوردي "أدب القاضي" جـ1 ص117، 118. تحقيق محمد هلال السرحان. طبعة بغداد سنة 1971م.
2 النور: 55.
3 الأنعام: 165.
4 الأعراف: 129.
5 الأنعام: 133.(1/8)
الإمارة:
أما مصطلح الأمير والإمارة فلقد عرفه الواقع السياسي لتلك التجربة في حياة الرسول، عليه الصلاة والسلام، فلقد كان للدولة، على عهده، جيوش لها أمراء، وولايات لها أمراء، ووظائف خراجية يتولاها أمراء, بل لقد كان المشركون "الجاهلية"، بتعبير ابن خلدون, يلقبون الرسول: "أمير مكة وأمير الحجاز"1.. ولكن مصطلح "الأمير"، في الدولة
__________
1 "المقدمة" ص179 طبعة القاهرة سنة 1322هـ.(1/8)
الإسلامية، ظل في نطاق الولايات الفرعية، للولاة وقادة الجيش والبعوث، حتى أواخر عهد أبي بكر وأوائل عهد عمر بن الخطاب "40 ق هـ - 23هـ 584 -644م" عندما احتشد أغلب "المؤمنين" خلف سعيد بن أبي وقاص لقتال الفرس في "القادسية"، فكان سعد "أميرا" لهذا الجيش الذي ضم أغلب "المؤمنين"، فقالوا عنه: إنه أمير المؤمنين!..
فلما كانت خلافة عمر بن الخطاب لأبي بكر في قيادة الدولة استثقل أن يكون لقبه: "خليفة خليفة رسول الله"، ورأى أن الاقتصار على لقب "خليفة رسول الله" لا يصح؛ لأن الذي خلف الرسول هو أبو بكر.. كما أن لقب: "خليفة الله" مرفوض، لما فيه من معنى النبوة والسلطان الديني الذي ختم وانقضى بوفاة الرسول.. وكذلك فإن لقب: "الملك" يعني في تراث العرب السياسي وفكر المسلمين الديني، "الجبر.. والتجبر.. وتجاوز العدل إلى الظلم بالاعتساف".. فرأى عمر أنه هو الأحق بأن يسمى "أمير المؤمنين"، فكان اللقب الأوحد الذي تقلب به، ولم نجد له في وثائق عهده لقبا سواه1.
ويحكي الجاحظ 163-255هـ 780-869م" ذلك الحوار الذي دار بين عمر وبين المغيرة بن شعبة، والذي نعلم منه أن اختيار هذا المصطلح لم يكن صدفة أو عفوا، كما شاع عند الكثيرين..
قال المغيرة لعمر: يا خليفة الله!
فقال عمر: ذاك نبي الله داود!
قال: يا خليفة رسول الله.
فقال: ذاك صاحبكم المفقود! "أي: أبو بكر"..
قال: يا خليفة خليفة رسول الله!
فقال: ذاك أمر يطول!
قال: يا عمر!
قال: لا تبخس مكاني شرفه! أنتم المؤمنون وأنا أميركم!
قال المغيرة: يا أمير المؤمنين! 2.
__________
1 "مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة" ص303-356.
2 "التاج في أخلاق الملوك" "هامش" ص162. تحقيق محمد أديب. طبعة بيروت سنة 1955م.(1/9)
الإمامة:
أما مطصلح "الإمام" -من "الإمامة"- فإنه -رغم شيوعه وغلبته على مباحث نظرية الخلافة- طارئ على هذا المبحث، وكان شيوعه قرينا للصراع الفكري الذي احتدم بين المسلمين حول السلطة العليا في الدولة، وحول طبيعتها، وبالذات منذ أن تبلورت للمسلمين الشيعة نظرية متكاملة في هذه القضية، ولقد كانوا طليعة من صاغ لهذا المبحث القواعد والنظريات.
صحيح أننا نلتقي بمصطلح "الإمام" في خطب ومراسلات من عهد عثمان بن عفان "47 ق هـ-35هـ 577-656م" وعلي بن أبي طالب "23 ق. هـ-40هـ 600-661م"1 ولكنه لا يأتي لقبا للخليفة، وإنما يأتي بمعناه اللغوي، بمعنى: المقدم على غيره، وهو نفس المعنى الذي يغلب على هذا المصطلح في القرآن الكريم.
__________
1 "تاريخ الطبري" جـ4 ص462. تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم. طبعة دار المعارف، القاهرة. و"نهج البلاغة" للإمام علي. ص56، 229. طبعة دار الشعب القاهرة و"وقعة صفين" لنصر بن مزاحم ص29. تحقيق عبد السلام هارون. طبعة القاهرة 1382هـ.(1/10)
ثم إن القرآن عندما استخدم مصطلح "الإمام" فإنه قد خص به في الغالب الإمامة والتقدم في الدين، فالله قد قال لإبراهيم: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} 1 أي: نبيا2.. و"الإمام" في قوله سبحانه: {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً} 3 هو الكتاب الذي يؤتم به في الدين4.. وفي قوله: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} 5 أي: مقدمين يقتدون بنا في أمر الدين6.. وفي قوله: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} 7 أي: بمن اقتدوا به من نبي، أو مقدم في الدين، أو دين، أو كتاب ديني8.. إلخ.. فهي استخدامات في نطاق النبوة والإمامة الدينية، وليس فيها من مدلولات نظام الدولة السياسي وسلطتها العليا شيء.
ولقد كان هذا التخصيص القرآني لمصطلح "الإمام" بالأمور الدينية هو السبب في اختيار الشيعة لهذا المصطلح كي يكون المصطلح الأثير لديهم في مبحث الإمامة، بمعنى السلطة العليا في المجتمع!.. ويزيل غرابة هذا الاختيار معرفة مذهب الشيعة في هذا المبحث، فهم قد قاسوا "الإمامة" على "النبوة"، وليس على "الولاية" و"الإمارة" و"الحكم" كما صنع من عداهم من فرق الإسلام، ومن ثم فلقد جعلوا "النبوة" ممتدة في
__________
1 البقرة: 125.
2 القاضي عبد الجبار بن أحمد الهمداني "المغني في أبواب التوحيد والعدل" جـ2 ق1 ص195. طبعة القاهرة.
3 هود: 17.
4 "تفسير البيضاوي" ص320. طبعة القاهرة سنة 1927م.
5 الفرقان: 74.
6 "تفسير البيضاوي" ص514.
7 الإسراء: 71.
8 "تفسير البيضاوي" ص407.(1/11)
"الإمامة"، وجعلوا طبيعة السلطة، سلطة الإمام، دينية لا مدنية، وقالوا: إنها شأن من شئون السماء، حددت فيها ذوات الأئمة والنص والوصية والميراث، ولا شأن للبشر في شيء من ذلك ... إلخ ... إلخ.. ولهذه الطبيعة الدينية التي قرروها لهذه السلطة العليا آثروا أن يكون مصطلحها دالا على سلطان ديني، فكان اختيارهم لمصطلح "الإمامة" و"الإمام"!.. ولما كان مفكروا الشيعة هم طلائع الذين ألفوا في هذه القضية بتراثنا العربي الإسلامي، فلقد غلبت المصطلحات التي اختاروها على هذا المبحث، حتى في كتابات خصومهم، معتزلة، وخوارج، وأشعرية، وغيرهم من فرق الإسلام.(1/12)
دولة الخلافة:
لم تكن دولة الخلافة أول دولة للعرب في شبه الجزيرة، فلقد شهدت حواضرهم قيام عدة دول منذ ما قبل الإسلام ... ولكن دولة الخلافة هذه قد امتازت وتميزت عن تراث العرب في "الدولة"، أن في المدى الذي بلغته حدودها، حيث ضمت عرب شبه الجزيرة كلهم، ولأول مرة، في دولة واحدة، وأن في الطبيعة التي اتسمت بها، والغايات التي قامت لتحقيقها..
فقديما عرفت حضارة ما بين النهرين، في بابل، على عهد حمورابي "1792-1750 ق. م" دولة قوية.. وكان عرشها ميراثا في أبناء الملك، وبين العرش والعامة كانت هناك طبقة من كبار الملاك أو التجار والأثرياء، يدعمون العرش، ويقفون بالعامة عند حدود لا يتخطونها1.
وفي الجنوب، عرفت اليمن دولة سبأ الملكية، التي أحاط بعرشها وأعان
__________
1 بول ديورانت "قصة الحضارة" جـ2 م1 ص207. طبعة القاهرة.(1/12)
صاحبه مجلس الأشراف المؤلف من الأسر الارستقراطية، وهو المجلس الذي كان الملك يستشيره في مهمات الأمور1.
كما عرفت بادية الشام نظما ملكية في "تدمر" و"الأنباط" و"الغساسنة".. وكذلك كان شأن الأطراف المشرقية بالعراق، حيث سكن اللخميون2.
وفي وشط شبه الجزيرة، بمكة، قامت حكومة ملأ قريش وأشرافها وأصحاب النفوذ الحربي والتجاري والديني بها، وهي الحكومة التي ضمت ممثلين لبطون قريش العشرة: هاشم، وأمية، ونوفل، وعبد الدار، وأسد، وتيم، ومخزوم، وعدي، وجمح، وسهم3..
لكن دولة الخلافة الراشدة قد اختلفت طبيعتها عن هذه الدول وما ماثلها من تراث العرب في "الدولة والسلطان".. فلم تكن ملكية، ولا قبلية، ولا حكومة أشراف، بمقاييس "الشرف" التي عرفت في تلك الحكومات..
كذلك اختلفت طبيعة السلطة في دولة الخلافة الراشدة، وأيضا غاياتها، عن نظائرها في أبرز نموذجين للدولة عرفهما العالم في ذلك التاريخ، دولة الأكاسرة الساسانيين في فارس، ودولة القياصرة البيزنطيين في روما..
ففي فارس كانت الدولة ملكية، تدعم سطوة الملك وجبروته فيها قواعد ثلاث:
__________
1 بروكلمان "تاريخ الشعوب الإسلامية" ص16. ترجمة نبيه أمين فارس ومنير البعلبكي. طبعة بيروت سنة 1968م.
2 المرجع السابق. ص20-23.
3 "الأعمال الكاملة لرفاعة رافع الطهطاوي" جـ3 ص635. دراسة وتحقيق دكتور محمد عمارة طبعة بيروت سنة 1974م.(1/13)
1- عقيدة الحق الإلهي: التي كان الملك يحكم بموجبها، فلقد كان الاعتقاد أن قراراته وأحكامه إنما هي وحي من الإله "أهورا - مزدا"..
2- والجيش: الذي كان من أهم مؤسسات الإمبراطورية، والذي كان منبع النظام الملكي ذاته، ولقد كان الملك هو رأس هذه المنشأة العسكرية، ولقبه "أوخشترا"، أي: المحارب، ولقادة الجيش "الأصابذة", ولنخبة رجاله "الأساورة".. أكبر النفوذ.
- والنظام الطبقي الثابت: الذي حدد لكل طبقة إطار اجتماعيا واقتصاديا وأدبيا لا تخرج عنه، وحدودا لا تتعداها. فبعد ملك الملوك تأتي طبقة الأشراف الأولى، وهم ملوك الأقاليم التسعة في الإمبراطورية.. ومن بعدهم طبقة الأسر والعائلات القوية و"واسبوران", التي يقودها مجلس مؤلف من رؤساء سبع عائلات.. ومن بعدهم طبقة النبلاء "خوذايان", وكبار موظفي الدولة والأقاليم "المرازبة".. ومن بعدهم طبقة ملاك العقارات ومحتكروا الإدارة والمصالح في الريف "الدهاقنة".. ثم رجال الدين "الموابذة" ومعهم مدبرو المراسم الدينية في المعابد -"الهرابذة"1..
فهي دولة إقطاع حربي، تدعم سطوتها عقيدة الحق الإلهي، ويشد من أزرها نظام طبقي ثابت ومغلق، صارم وعريق!. ولم تختلف طبيعة الدولة في القيصرية الرومانية البيزنطية عنها في الكسروية الفارسية.. فقبل اعتناقها المسيحية كان حكمها أوتوقراطيا، غدت فيه ذات الإمبراطور "مقدسة إلهية، وفوق مستوى البشر، محوطة بالمراسم، بل أصبح في نظر رعيته إلها،
__________
1 "قصة الحضارة" جـ2 م1 ص415-418. ود. محمد ضياء الدين الريس "الخراج والنظم المالية للدولة الإسلامية" ص62-66 طبعة القاهرة سنة 1961م.(1/14)
ولا يقترب الفرد من حضرته إلا ساجدا! ".. ولم تغير المسيحية من طبيعة هذه الدولة كثيرا، بل لقد طوعت هذه الدولة المسيحية، ولم تتطوع هي للمسيحية، وكما يقول الإمام المعتزلي قاضي القضاة عبد الجبار بن أحمد "415هـ 1025م": فإن المسيحية عندما دخلت روما، لم تنتصر روما، ولكن المسيحية هي التي تَرَوَّمَتْ؟!.. فلقد احتفظت ذات الإمبراطور بقداستها عن طريق نظرية الحق الإلهي، ورئاسته للكنيسة، وانفراده بتفسير الشريعة، وغدت الأوتقراطية القديمة "قسيسية ملكية وبابوية قيصرية؟ "1.. وكان للجيش، والنظام الطبقي الصوت الأعلى في تقرير أمور هذه القيصرية البيزنطية.
وعلى العكس من كل أنظمة الحكم هذه، عربية أو فارسية أو بيزنطية، كانت دولة الخلافة الراشدة، في طبيعتها ونظامها جديدة جدة الظروف التي ولدتها وأحاطت بنشأتها، ومبتكرا بفعل الطبيعة الجديدة للدين الجديد والآثار الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي أحدثها في شبه الجزيرة ظهور الإسلام.. فلم تكن ملكية وراثية.. ولم تكن قبلية عشائرية.. ولم تكن حكومة حربية يختار فيها الجيش رأس الدولة.. ولم تكن قائمة على نظرية الحق الإلهي، بل لقد أخرج قادتها، بوعي، الخلافة من بيت النبوة، في البداية، حتى لا تجتمع النبوة والخلافة، لا في شخص واحد، بل ولا في بيت واحد، فتتأبد فيه بفعل عوامل الدين وقداسته.. ولم يكن النظام الطبقي عمادها، بل لقد قامت على فلسفة مناقضة له إلى حد كبير.. وحتى هذه الفئة المتميزة التي استأثرت بالقرار الحاسم في اختيار الخليفة، وانفردت بحق تولي هذا المنصب، وهم "المهاجرين الأولون"، ثم البدريون، وعلى رأسهم
__________
1 أرنولد "الخلافة" ص1، 2. ترجمة جميل معلى. طبعة دمشق سنة 1946م، و"الخراج والنظم المالية للدولة الإسلامية" ص30-32.(1/15)
العشرة الذين اشتهروا في تراثنا الديني بأنهم المبشرون بالجنة، حتى هذه الفئة كان "شرفها" نابعا من البلاء والسبق في نشر الدين وتأسيس الدولة، لا من نظام طبقي، أو أصل عرقي، أو نعرة قبلية، أو ثروة كبيرة.. فحتى لو سلمنا بأن حكومة الخلافة هي "حكومة أشراف"، فإن "الشرف" هنا كان ذا مضمون جديد لا وجه للمقارنة بينه وبين "شرف" الدول والأنظمة التي عاصرت أو سبقت دولة الخلافة.
كانت إذن حكومة مبتكرة إلى حد كبير، ونظاما مستحدثا من حيث الشكل والمضمون إلى حد بعيد، وكما يقول توماس أرنولد: فإنه "خلافا للإمبراطورية المقدسة -التي لم تكن إلا إحياء واعيا متعمدا لمؤسسة سياسية كانت في عالم الوجود قبل ميلاد المسيحية، فبعثت من جديد تحت طابع مسيحي- خلافا لذلك، لم تكن الخلافة تقليدا مقصودا لشكل سبق وجوده من الحضارة والتنظيم السياسي، بل كانت.. وليدة زمنها.."1.
لقد كان الفكر السائد، والمقدس، في هذه الدولة الجديدة مختلفا عن فكر الأنظمة السياسية السابقة عليه والمعاصرة له، بل ورافضا له، موجها هجومه على النظام الملكي، وخاصة في صورتيه: الكسروية والقيصرية.. فالملوك {إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} 2.. وعلى حين كان كسرى "ملك الملوك"، فإن الرسول، عليه الصلاة والسلام، يقول: "أخنع -أي: أوضع- اسم عند الله تعالى يوم القيامة رجل يسمى ملك الأملاك 3؟! ".. ويقول: "اشتد غضب الله على رجل تسمى بملك الأملاك، لا ملك إلا الله 4.." وكلما لاحت شبهة
__________
1 "الخلافة" ص1، 2.
2 النمل: 34.
3 رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن حنبل.
4 رواه أحمد بن حنبل.(1/16)
انحراف عن النهج الجديد للدولة الجديدة تساءل النقاد والمعارضون: أكسروية هي؟! أم هرقلية؟!
ويدرك قادة دولة الخلافة، في وعي، الفروق الاجتماعية الجوهرية بين نظامهم في الخلافة وبين النظام الملكي، فيسأل عمر بن الخطاب سلمان الفارسي -الذي عرف الملك الكسروي وعاش في ظله- يسأله:
أملك أنا؟ أم خليفة، يا سلمان؟!.. فيجيبه:
إن أنت جبيت من أرض المسلمين درهما أقل أو أكثر ثم وضعته في غير حقه، فأنت ملك غير خليفة.. فالخليفة لا يأخذ إلا حقا، ولا يضعه إلا في حق.. والملك يعسف الناس، فيأخذ من هذا ويعطي هذا.. "فأنت، بحمد الله، خليفة لا ملك"1.
فهي إذن دولة جديدة، اختلفت إلى حد كبير، في طبيعة النظام والسلطة، وكذلك في الغايات، عن الدول والأنظمة التي عاصرتها أو سبقتها، ووضح اختلافها هذا في الفكر الذي ساد فيها، وكذلك في الممارسة والتطبيق.
__________
1 ابن سعد "كتاب الطبقات الكبرى" جـ3 ق1 ص221. طبعة دار التحرير، القاهرة.(1/17)
فلسفة الحكم في دولة الخلافة:
كانت "الشورى" هي فلسفة نظام الحكم في دولة الخلافة الراشدة، وهي فلسفة استقرت منذ عصر النبي، ودعا إليها القرآن الكريم والسنة النبوية، كمبدأ عام ونهج كلي، ترك أمر التفصيل فيه والتحديد له لاجتهاد الأمة وفق مصالحها المتجددة وحاجاتها المتطورة.
وليس لأحد أن يدعي أن "الشورى" كانت ابتكارا إسلاميا غير مسبوق، ففي تراث الإنسانية القديم تجارب عديدة، ونظريات كثيرة طبقتها أو حاولت، ودعت إليها وحبذتها.. لكن يبقى أن "الشورى الإسلامية" كانت اختيارا عربيا إسلاميا، انحازت به دولة الخلافة لأفضل ما عرفه التراث الإنساني في السياسة ونظم الحكم، كما كانت تطويرا لهذا التراث انتقل به من ميدان الفكر السياسي الإنساني إلى حيث صبغه بصبغة الدين، إذ غدت الشورى فلسفة السياسة المحققة لإرادة الله، فضلا عن تحقيقها لمصالح المسلمين.. فهي وحدها إرادة الله في السياسة، وما عداها من تفاصيل ونظم قد ترك لإرادة الناس، شريطة أن تحقق هذه التفاصيل والنظم القدر الأكبر من إرادة المحكومين، أي: القدر الأكبر من الشورى.
ولقد عرض القرآن الكريم لمعنى الشورى في كثير من قصصه، محبذا أسلوبها ومزكيا نمط الحكم الملتزم بها.. ثم عرض لها بلفظها الخاص في مواطن ثلاث: أحدها خاص بالحياة الأسرية ومشكلاتها، فجعل "التشاور" وسيلة للفصل في هذه المشكلات: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آَتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 1..
أما المواطنات الآخران فقد عرض القرآن فيها للشورى بصدد الحديث عن
__________
1 البقرة: 233.(1/18)
السياسة وشئون الحكم وقضاياه، فطلب في أحدهما من الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يشاور المسلمين في "الأمر": {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} 1.
ومصطلح "الأمر" هنا في القرآن يعني أمور السياسة وشئون الحكم ومشكلاته -وكذلك حاله في الأدب السياسي لعصر الخلافة الراشدة- وذلك لعلاقته "بالائتمار" و"الأمير".. و"الائتمار" يعني: التشاور.. فالصلة وثيقة، بل عضوية، بين السياسة والشورى.. وعلى العكس من ذلك علاقة الشورى بأمور الدين، وخاصة أصوله، فهي منقطعة.. فالدين وضع إلهي، نقبله، ونتعبد بتكاليفه، مسلمين الوجه لله.. بينما السياسة أمور تأتمر وتتآمر معا في قضاياها، ونختار لنا فيها الأمير القائد، ونسلك سبيل الشورى في هذا الميدان.
ويؤكد هذا المعنى السياق الذي عرض فيه القرآن الكريم لمصطلح الشورى في الموطن الثالث، ذلك أنه قد جعل منها إحدى الصفات التي تميز المؤمنين!، فهو يعدد صفات {الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} فيقول: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} 2.. ففي الجانب الديني: استجابوا لله فآمنوا به، ثم أقاموا الصلاة تصديقا ودلالة على هذا الإيمان.. وفي أمورهم، أي: سياستهم وشئونهم الدنيوية: التزموا الشورى كفلسفة وسلوك.. وفي الأموال: سلكوا طريق الإنفاق، بعد أن اقتصروا في الكسب على "ما رزقناهم"، أي: الكسب المشروع والحلال.
__________
1 آل عمران: 159.
2 الشورى: 38.(1/19)
فالشورى، في القرآن، فلسفة يزيكها كي تكون السبيل لمعالجة أمور الدنيا وسياستها، سواء في نطاق الأسرة أو المجتمع، بين الناس بعضهم مع بعض، وبين الحاكم والمحكومين، حتى ولو كان هذا الحاكم هو الرسول، عليه الصلاة والسلام.
وعلى فلسفة الشورى أكدت، كذلك، السنة النبوية.. فغير الأحاديث الكثيرة التي تحبذها وتمتدحها, من مثل حديث: "والمستشير معان، والمستشار مؤتمن" 1, نجد أن التراث السياسي لدولة الرسول في المدينة حافل بالنماذج التي تجسد الشورى، كفلسفة في السياسة، فكل قراراته السياسية والحربية كانت خاضعة للتشاور، وكثيرا ما عدل عن رأيه عندما كشفت المشاورة عن خطئه، وكثيرا ما سأله صحابته عن رأيه أو موقفه: أوحي هو؟ أم الرأي؟.. فإن قال لهم: إنه الرأي.. قدموا ما عندهم، وكانت الشورى سبيلا لتعديل الرأي أو الموقف.. كما يبرز لنا في تراث هذه الفترة تلك التوجيهات التي قصد الرسول بها أن يعلم صحابته السلوك الشوروي في إدارة أمور الحرب والسياسة.. فهو عندما يرسل أحد الجيوش للقتال، يوصي الجند: أن القائد فلان، فإن استشهد ففلان، فإن استشهد ففلان، فإن استشهد فالجيش يختاره قائده، وهو بذلك يضع الشورى، كفلسفة، للحكم والقيادة، موضع التطبيق.
ولذلك كان طبيعيا ومنطقيا ما اجتمع عليه المسلمون في دولة الخلافة الراشدة من جعل الشورى السبيل الوحيد لقيام رأس الدولة -الخليفة- ومن ثم جهاز الدولة في المجتمع الإسلامي.. فهم قد اختلفوا على شخص
__________
1 روي هذا الحديث -بألفاظ مختلفة ومعنى واحد- في مسند أحمد بن حنبل، وسنن الدارمي، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه.(1/20)
الخليفة، ولكنهم اتفقوا على أسلوب اختياره وفلسفة تعيينه وطريق تمييزه.. فالأنصار أرادوا "اختيار" سعد بن عبادة "14هـ-635م" وجمهرة المهاجرين أرادوا "اختيار" أبي بكر الصديق.. ونفر من المهاجرين مال إلى "اختيار" علي بن أبي طالب "23 ق هـ-40هـ 600-661م".. ثم استقروا بعد ذلك على "اختيار" أبي بكر.. وظلت هذه فلسفتهم وتلك سبيلهم إلى أن تحولت الخلافة عن فلسفتها هذه، فأصبحت ملكا عضودا على يد بني أمية عندما حل التوارث وترغيب الدولة وترهيبها محل الشورى والاختيار!
وإذا كان القرآن والسنة وتجربة الرسول السياسية قد زكت الشورى، فلسفة لنظام الحكم، فإنها قد وقفت عند المبدأ والإجمال.. كما أن الطابع البسيط لمجتمع دولة الخلافة قد وقف بتطبيقات الشورى، شكلا ونطاقا، عند حدود تجاوزتها بعد ذلك العصر احتياجات الحياة وضرورات الأمم والشعوب.. وهذا الأمر لا يعيب الشورى الإسلامية، بل على العكس يزيدها قيمة وخطرا.. فهي تقرر المبدأ، وتؤكد عليه، ثم تترك الحدود والنطاق والقوالب والأشكال لإبداع الحقل الإنساني الذي يجتهد كي يلبي المصالح المرسلة والضرورات الطارئة ومستحدثات الأمور.
ولقد وقفت تجربة دولة الخلافة بالشورى، في البداية، عند النطاق الذي عرفته تجارب "الدولة المدينية" في تراث الإنسانية السياسي القديم, فالذين تشاوروا لاختيار الخليفة كانوا هم وجوه سكان العاصمة من المهاجرين والأنصار، ولم يدخل في الشورى من وراء حدود العاصمة من عرب الحواضر أو أعراب البوادي.. وأيضا، ففي نطاق وجوه سكان العاصمة كانت هناك ميزة وامتياز لتلك الهيئة الدستورية القيادية، التي لعلها أول هيئة، أو حكومة، في تراث العرب المسلمين، وهي "هيئة المهاجرين الأولين".. فهي:(1/21)
قد تكونت من عشرة كانوا يمثلون أهم البطون في القرشيين الذين هاجروا من مكة إلى يثرب.. أبو بكر، وطلحة بن عبيد الله "من تيم".. وعمر بن الخطاب، وسعيد بن زيد "من عدي".. وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص "من زهرة" ... وعلي بن أبي طالب "من هاشم" وعثمان بن عفان "من أمية".. والزبير بن العوام "من أسد".. وأبو عبيدة بن الجراح "من فهر".
وهؤلاء العشرة كانوا أسبق من أسلم من أشراف قريش.. فلقد كانوا "أولين" في الإسلام، و"مهاجرين" فيمن هاجر، ومن هنا جاءت تسميتهم وتسمية هيئتهم بـ"المهاجرين الأولين".
وهم كانوا أشبه بحكومة الدولة على عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- فبيوتهم كانت تحيط بالمسجد -وكان دار الحكومة ومقرها- ولبيوتهم هذه أبواب تفضي إلى المسجد، دون غيرهم من المسلمين1.. كما كان مكانهم، في الصلاة: خلف الرسول، وفي الحرب: أمامه2.
فهيئة "المهاجرين الأولين" هذه احتكرت لنفسها حق الترشيح، من بين أعضائها، لمنصب الخلافة، وحق البيعة الأولى التي تميز الخليفة وتقدمه إلى الأنصار "الوزراء.. بمعنى المستشارين" وإلى وجوه العاصمة وقادة الرأي فيها كي يعقدوا البيعة العامة لمن اختارته وبايعت له هيئة "المهاجرين الأولين"، فكأنها كانت لجنة ترشيح، أو الهيئة التشريعية، أو التنظيم
__________
1 أبو حنيفة النعمان المغربي "دعائم الإسلام" جـ1 ص17 تحقيق آصف بن علي أصغر فيضي. طبعة القاهرة سنة 1969م.
2 ابن الأثير "أسد الغابة" جـ2 ص389. طبعة دار الشعب، القاهرة.(1/22)
السياسي الذي يختص بالمسعى إلى نصف الطريق المؤدي لتنصيب رأس الدولة في المجتمع..
ولقد كان هذا الحق لهذه الهيئة موضع جدل وموطن خلاف في سقيفة بني ساعدة يوم وفاة الرسول، عليه الصلاة والسلام، ولكن أبا بكر قال للأنصار الذي يمارون في امتياز "المهاجرين الأولين" هذا: "إن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش.. ولا تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش! 1".. وبعدها مارست "هيئة المهاجرين الأولين" سلطاتها الدستورية هذه.. فرشح اثنان منها: عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح, ثالثا منها أيضا: أبو بكر, ثم بايعه أهل المدينة من بعد بيعة عامة.. وعندما حضرت أبا بكر المنية تشاور مع بقية هذه الهيئة، ثم عقدوا لعمر بالخلافة من بعد أبي بكر، ولما توفي أبو بكر بايع سكان المدينة لعمر، تصديقا على بيعة "المهاجرين الأولين".. وقبل أن يسلم عمر روحه لبارئه جعل بقية هذه الهيئة مجلس الشورى الذي يختار الخليفة من بعده، وأوصى بأن يتسع نطاق شورى الهيئة وتشاورها -وكان قد بقي من أعضائها ستة- فاشترك عبد الله بن عمر في عضويتها، له الرأي والمشورة دون إبرام القرار ودون حق الترشيح للخلافة.. وذهب عبد الرحمن بن عوف يشاور سكان المدينة فيمن يخلف عمر في منصب الخلافة "فما ترك أحدا من المهاجرين والأنصار وغيرهم من ضعفاء الناس ورعاعهم إلا سألهم واستشارهم، أما أهل الرأي فأتاهم مستشيرا، وتلقى غيرهم سائلا: من ترى الخليفة بعد عمر؟.. وأمضى أياما ثلاثة يستعلم من الناس ما عندهم"2 في أمر الخلافة
__________
1 "تاريخ الطبري" جـ3 ص201. والماوردي "الأحكام السلطانية" ص3 طبعة القاهرة سنة 1960م.
2 ابن قتيبة "الإمامة والسياسة" جـ1 ص24. طبعة القاهرة سنة 1331هـ. والماوردي "الأحكام السلطانية" ص12.(1/23)
المسلمين.. فلما اكتملت لهيئة "المهاجرين الأولين" المشاورة، عقدت بالخلافة لعثمان بن عفان، وبايعته البيعة الأولى والخاصة، ثم دعت أهل العاصمة وبايعته البيعة الثانية والعامة.
وبعد الثورة على عثمان، ومقتله، أراد الثوار عقد البيعة لعلي بن أبي طالب، فأنبأهم أن الترشيح والبيعة الأولى إنما هي حق "المهاجرين الأولين" ولم يكن قد بقي منهم في ميدان السياسة سوى طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام, فجاء الثوار بهما، حيث عقدا البيعة لعلي، ثم بايعه الناس من بعدهم.
تلك هي الحدود التي بلغتها تطبيقات الشورى، كفلسفة لنظام الحكم في دولة الخلافة.. وهي حدود حددتها طبيعة المجتمع والعصر، وإن يكن المبدأ قد ظل قائما، وظلت له صلاحيات الامتداد إلى ما هو أبعد من هذه الحدود.(1/24)
نظرية الخلافة في الفكر الإسلامي:
كانت الخلافة القضية الأولى التي اختلف المسلمون عليها عقب وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم، ولكن وجوه المسلمين بالمدينة حسموا هذا الخلاف عندما عقدوا البيعة لأبي بكر الصديق، غير أن أعراب البادية وعرب الأطراف، وكل من عدا أهل المدينة ومكة والطائف خالفوا أولئك الذين رضوا بأبي بكر خليفة، واختلفوا معهم، فكانت حرب الردة، وهي في جوهرها حرب بين الذين واصلوا نهج وحدة العرب وراء الخليفة كما كان أمرها خلف النبي الحاكم وبين الذين رفضوا حكم الخلافة ووحدتها القومية بعد أن قبلوها من النبي القائد.. ثم حسمت انتصارات الدولة، على عهد أبي بكر، هذا الصراع لصالح الخلافة ووحدة الدولة خلفها..
وعندما حدثت أحداث السنوات الأخيرة من عهد عثمان بن عفان(1/24)
"47 ق هـ-35هـ-577-656م" رأت قطاعات عريضة من الأمة أن هناك "جورا" تمارسه عصبية قريش الأموية، وأن هناك "ضعفا" من الخليفة عن إزالة هذا "الجور"، فكانت الثورة على الخليفة عثمان عندما رفض التنازل عن الخلافة، بعد أن طلب الثوار منه ذلك.
وفي عهد علي بن أبي طالب اتسع نطاق الصراع، والصراع المسلح، بسبب الخلافة.. بينه وبين طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وعامة الذين قاتلوه في موقعة الجمل.. وبينه وبين معاوية بن أبي سفيان وأشراف قريش وملئها الذين سبق وحاربوا الإسلام قبل أن يدخلوه عام الفتح، وعامة أهل الشام.. وبينه وبين الخوارج بعد قبوله "التحكيم" في صفين.. فكانت صراعات عهد علي أيضا صراعا على الخلافة.
ولم ينه التحول الجذري الذي حدث بقيام الدولة الأموية، وتحول الخلافة الشورية إلى ملك وراثي، وما سمي بعام الجماعة الذي تمت فيه البيعة لمعاوية بن أبي سفيان "20 ق هـ-60هـ 603-680م" لم ينه الصراع بين المسلمين على الخلافة والسلطة العليا في الدولة.
فالخوارج.. ظلت ثورتهم مستمرة، لا تنطفئ لها شعلة إلا ليوقدوها من جديد..
والذين ناصروا علي بن أبي طالب استمرت عواطف الكثيرين منهم مع آل بيته من بعده.. ويتصاعد الاضطهاد الأموي لآل البيت تصاعد التأييد لهم، وأصبحوا وأصبحت ثورتهم المنتظرة أمل القطاعات المحرومة والمضطهدة من دولة بني أمية.
وظهر تيار "أهل العدل والتوحيد" ومدرسة "المعتزلة" منه بخاصة, كتيار معارض لبني أمية، وثائر عليهم..
وبعد تجارب فاشلة لثورة الشيعة، وبعد أن انتهت هذه التجارب بمآسي(1/25)
كربلاء الحسين "4-61هـ 625-680م" والإبادة الجماعية لانتفاضة التوابين "65هـ 684م" - بقيادة سليمان بن صرد "28 ق هـ-65هـ 595-684م" والهزيمة الدامية لثورة المختار الثقفي "1-67هـ 622-687م" بالكوفة.. بعد هذه المأساة الكبرى التي عاشتها شيعة آل البيت تحولت هذه الحركة، لفترة من الزمن، عن طريق الثورة إلى حيث أخذت تتمثل المحنة وتتأمل المأساة، وتطيل النظر إلى الداخل، وتستعين بآلام الاضطهاد تنسج منها رباطا روحيا وعاطفيا يجمع من حول أئمتها الأنصار، حتى غدا حب آل البيت دينا أو أمرا أشبه بالدين بعد أن كان موقفا سياسيا واجتماعيا، فقط، ضد سلطان الأمويين وتسلطهم.. وكان عصر قيادة الإمام جعفر الصادق "80-148هـ 699-765م" للشيعة هو العصر الذي تبلورت فيه، فرقة دينية، صاغت لها ولأنصارها نظرية متميزة وجديدة في الخلافة، ترى من خلالها، أن أحقية أئمتها في السلطة ليست، فقط؛ لأنهم الأصلح لأمور الدنيا والأقدر على العدل بين الناس؛ وإنما لأنهم هم الذين اختارتهم السماء وعينتهم للخلافة والإمامة وحصرت هذه السلطة فيهم، وأوصت بها لهم، وحيا مبلغا إلى النبي عليه الصلاة والسلام!
ولقد كان الجهد النظري الذي قدمه مفكروا الشيعة في هذا الميدان هو باكورة التراث الفكري النظري لأمتنا في هذا الميدان.. فمنذ ذلك التاريخ أصبح لنا رصيد فكري في الصراع على الخلافة بعد أن كان رصيدنا بميدانها فقط معارضات وحروبا وثورات.. ومنذ ذلك التاريخ بدأ تأليف الشيعة في هذا الفن.. فألف علي بن إسماعيل بن هيثم الطيار "كتاب الإمامة" و"كتاب الاستحقاق".. ثم جاء مهندس فكر الشيعة في الإمامة أبو محمد هشام بن الحكم الشيباني "298هـ 815م" الذي -كما يقول ابن النديم: "فتق الكلام في الإمامة، وهذب المذهب والنظر" فتألف في هذا المقام: "كتاب الإمامة" و"كتاب الرد على من قال بإمامة المفضول" و"كتاب(1/26)
اختلاف الناس في الإمامة" و"كتاب الوصية والرد على من أنكرها" و"كتاب الحكمين" و"كتاب الرد على المعتزلة في طلحة والزبير"1. ثم توالى تأليف الشيعة وتوالت مؤلفات أعلامهم في هذا الميدان.
ولقد كانت مظالم بني أمية والمحنة العظمى التي امتحنوا بها الشيعة الدافع الذي جعل الشيعة يكفرون بهذه السلطة البشرية التي صنعت بهم تلك المأساة، فكان حلمهم بسلطة دينية إلهية، تصنعها السماء على عينها كي تملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا.. وبما أن "الخلافة" كسلطة بشرية، قد غدت لقبا يتقلب به أمثال يزيد بن معاوية "25-64هـ 645-683م" فلا بد وأن تكون السلطة الإلهية المنشودة "إمامة".. لأن "الإمامة" و"الإمام" قد ارتبطت، في القرآن، بمهام الدين ووظائفه.. فكان ذلك بدء الانعطاف نحو مصطلحات جديدة للمبحث -"الإمامة" و"الإمام"- حددتها الطبيعة الدينية التي رأوها لصاحب هذه السلطة.. وكانت المعالم الأساسية لنظرية الشيعة في الإمامة التي دخلت لأول مرة إلى ساحة الفكر السياسي للعرب المسلمين..
فيأسا من "الثورة" وتجاربها الفاشلة التي جرت المآسي والاضطهادات، كان الحلم "بالمهدي المنتظر" الذي سيملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا..!.
ومداراة للظلم وتفاديا لبشاعاته كانت "التقية"، وكان "الصمت" حتى يأذن الله فيظهر "الناطق"!.
ويأسا من الجمهور الذي أصبح يئن، في صبر، تحت النير، كان القول بأن السلطة العليا في المجتمع هي دين، لا سياسة، وشأن من شئون
__________
1 ابن النديم "الفهرست" ص175-176. طبعة ليبزج.(1/27)
السماء، لا حق من حقوق الأمة، وأن السماء قد حددت لها سلفا الأئمة الذين يلونها، وأوصت بذلك وأبلغت رسول الله.
وعندما صبغ الشيعة هذه النظرية السياسية بهذه الصبغة الدينية حدث أخطر تحول في حياة المسلمين الفكرية والسياسية، فلقد غدت السياسة دينا، وأصبحت الخلافات السياسية خلافا في الدين، وبدأ الانقسام بسبب الحكم السياسي وكأنه انقسام في الدين، وحلت مصطلحات: "الكفر" و"الإيمان" محل مصطلحات "الخطأ" و"الصواب"!.
ونزلت إلى الساحة الفكرية تيارات أخرى تعارض نظرية الشيعة في الإمامة.. وفي المقدمة كان "المعتزلة" و"الخوارج" ثم "المرجئة".. ومن بعد ذلك "أصحاب الحديث" ثم ظهرت "الأشعرية" و"الظاهرية" وبقية الفرق التي اشتهرت باسم "أهل السنة والجماعة".
وفي الصراع الفكري بين هذه التيارات استعار البعض أسلحة خصمه، فظلت المواقع متمايزة وإن لم يستمر التمايز لأدوات الصراع!.. وعلى وجه التحديد فلقد اجتهد فرقاء كثيرون لإضفاء الصبغة الدينية على فكرهم السياسي من جهة، كي يحاربوا الشيعة بسلاحهم، ومن جهة أخرى كي يجتذبوا قطاعات عريضة من العامة إلى معسكرهم، ولم تكن ولن تكون العامة أسلس قيادا إلا حيث يصطبغ المقود بصبغة الدين!..
وفي هذه الحلبة التي شهدت ذلك الصراع الخصب والمستعر والعظيم بين تيارات الفكر الإسلامي تبلورت، ثم ارتفعت شامخة معالم نظرية العرب المسلمين في الخلافة ونظام الحكم والسلطة العليا في المجتمع.. وكان في مقدمة المعالم والقسمات التي تميزت بها هذه النظرية قضايا مثل:
أ- وجوب الإمامة.. بمعنى: ضرورة السلطة للمجتمع..
ب- كيفية تمييز الإمام وإقامته وتنصيبه..
جـ- شروط الخليفة.
د- سلطات الخليفة.
هـ- طبيعة السلطة التي يتولاها الإمام.. وهل هي دينية؟ أم مدنية؟؟.(1/28)
ضرورة السلطة للمجتمع:
لقد صاغ المسلمون نظريتهم في "ضرورة السلطة العليا -الحكومة- لمجتمع "تحت عنوان "وجوب الإمامة"، أي: ضرورة قيام سلطة عليا في المجتمع، وتوقف الصلاح النسبي للمجتمع على قيامها.. وهم قد انطلقوا إلى هذه الفكرة من المقولة التي أكدوها، والتي تقول إن الإنسان مدني واجتماعي بطبعه، وإن صلاح الفرد متوقف على صلاح المجتمع، وكذلك العكس.. وإذا كان الاجتماع ضروريا وحتميا، فإن التناقضات والصراعات وتعارض المصالح أمر وارد بل وحتمي، ومن ثم فلا بد من سلطة عليا يرضاها أو يرضى بها أهل المجتمع، وكيلا عنهم أو كالوكيل، لإقامة التوازن بين المصالح المتعارضة، وتطوير المجتمع نحو المثل الأعلى المنشود.
وقبل ابن خلدون "722-808هـ 1332-1406م" بعدة قرون يعبر أبو الحسن الماوردي "364-450هـ 974-1085م" عن هذه الحقيقة "الاجتماعية - السياسية"، فيقول: "إن الإنسان مطبوع على الافتقار إلى جنسه، واستعانته صفة لازمة لطبعه، وخلقة قائمة في جوهره1..".. ثم يمضي فيرتب على ذلك أن صلاح الفرد مستحيل
__________
1 "أدب الدنيا والدين" ص132 تحقيق مصطفى السقا. طبعة القاهرة سنة 1973م.(1/29)
دون صلاح المجتمع وكذلك العكس، فيقول: "واعلم أن صلاح الدنيا معتبر من وجهين:
أولهما: ما ينتظم به أمور جملتها.
والثاني: ما يصلح به حال كل واحد من أهلها.
فهما شيئان لا صلاح لأحدهما إلا بصاحبه؛ لأن من صلحت حاله، مع فساد الدنيا، واختلال أمورها، لن يعدم أن يتعدى إليه فسادها، ويقدح فيه اختلالها؛ لأنه منها يستمد، ولها يستعد. ومن فسدت حاله، مع صلاح الدنيا، وانتظام أمورها، لم يجد لصلاحها لذة، ولا لاستقامتها أثرا؛ لأن الإنسان دنيا نفسه، فليس يرى الصلاح إلا إذا صلحت له، ولا يجد الفساد إلا إذا فسدت عليه؛ لأن نفسه أخص، وحاله أمس. فصار نظره إلى ما يخصه مصروفا، وفكره على ما يمسه موقوفا"1.
ولقد صاغ الجاحظ قضية: ضرورة السلطة، أي: وجوب الإمامة في عبارته التي يقول فيها: "إن الناس يتظالمون فيما بينهم بالشره والحرص المركب في أخلاقهم، فلذلك احتاجوا إلى الحكام"2.
هكذا اتفقت آراء فرق الإسلام على أن الإنسان "مدني - اجتماعي" بطبعه، وعلى ضرورة السلطة لمجتمع الإنسان.. لكنهم اختلفوا في الإجابة عن هذه الأسئلة.
متى تجب إقامة هذه السلطة؟
وما هو طريق وجوبها؟.. أهو العقل؟.. وعلى من يوجبها
__________
1 المصدر السابق ص134.
2 "رسائل الجاحظ" جـ1 ص161. تحقيق عبد السلام هارون. طبعة القاهرة سنة 1964م.(1/30)
العقل؟.. أعلى الله؟.. أم على الناس؟.. أم أن الشرع هو طريق وجوبها؟..
فالذين قالوا مثل الجاحظ، إن تظالم الناس وظلمهم "مركب في أخلافهم" قالوا بضرورة السلطة ووجوب الإمامة في كل المجتمعات وجميع الأحوال؛ لأن دواعيها قائمة أبدا، واستحالة تخلف هذه الدواعي متحققة دائما.. وهذا هو موقف الأغلبية الساحقة لفرق الإسلام، سنة وشيعة، معتزلة وخوارج.. إلخ.. إلخ.. ولم يخالف في هذا الموقف إلا فرقة من الخوارج وفريق المعتزلة -الخوارج النجدات- أتباع نجدة بن عامر "36-69هـ 65-688م" وأبو بكر الأصم "توفي منتصف القرن الثالث الهجري" وأبو هشام الفوطي 218هـ 833م" من المعتزلة.
وهؤلاء المخالفون ربطوا ضرورة السلطة ووجوب الإمامة بالغاية منها، فجعلوا وجوبها يدور مع الغاية منها وجودا وعدما؛ لأنهم افترضوا إمكانية سيادة العدل وتحققه تحققا تاما في المجتمع، ومن ثم زوال الظلم والتظالم، فرأوا أنه لا حاجة، في مثل ذلك المجتمع، إلى إقامة السلطة وتنصيب الإمام، فلا داعي "للدولة" إذا انتفت المظالم وزالت دواعي سلطة الحكم والقسر بين الناس!
ولأن الإمامة والخلافة عند هؤلاء ليست ضربة لازب وأمرا محتما، فلقد كان طبيعيا تبعا للذلك أن يرفضوا ما قاله الآخرون من أن طريق وجوبها هو الشرع، أو العقل.. فلو كانت واجبة بالشرع أو بالعقل لما جاز أن يتخلف قيامها لعدم جواز تخلف الوجوب الشرعي أو العقلي.. ولذلك قالوا إنها قضية "سياسية - مدنية"، وبعبارتهم: "مبنية على معاملات الناس" ... فإذا ساد العدل والإنصاف في المجتمع فلا حاجة لقيام سلطة يتنازل -كي تقوم- فريق من الناس -وهم المحكومون- عن قدر من حرياتهم لفريق آخر -هم الحاكمون- إذ لا مبرر لذلك، حيث الناس متساوون.. أما إذا(1/31)
تخلفت سيادة العدل والإنصاف فإن ضرورة قيام السلطة ووجوب الإمامة تنبع عندئذ من مصلحة الناس ومعاملاتهم..
ولقد صاغ هذا الفريق نظريته هذه في السطور التي ينقلها الشهرستاني، والتي يقولون فيها: "إن الإمامة غير واجبة في الشرع وجوبا لو امتنعت الأمة عن ذلك استحقوا اللوم والعذاب، بل هي مبنية على معاملات الناس، فإن تعادلوا وتعاونوا وتناصروا على البر والتقوى، واشتغل كل واحد من المكلفين بواجبه وتكليفه، استغنوا عن الإمام ومتابعته، فإن كل واحد من المجتهدين مثل صاحبه في الدين والإسلام والعلم والاجتهاد، والناس كأسنان المشط. فمن أين يلزم وجوب الطاعة لمن هو مثله؟!.. أما إذا احتاجوا إلى رئيس يحمي بيضة الإسلام ويجمع شمل الأنام، وأدى اجتهادهم إلى نصبه، مقدما عليهم، جاز ذلك بشرط أن يبقى في معاملاته على النصفة والعدل، حتى إذا جار في قضية على واحد وجب عليهم خلعه ومنابذته!.."1.
فهم يجعلون سيادة العدل والإنصاف، دون حاكم عام وسلطة عليا في المجتمع، أمرا ممكنا، ولما كانت الإمامة والخلافة عندهم "مبنية على معاملات الناس"، وليست واجبا شرعيا يأثم الناس بإهمال إقامته؛ لأنه لا نص في الكتاب والسنة المتواترة على وجوبها، وأيضا لم يتم إجماع على وجوبها شرعا- قالوا بجواز العدول عن إقامتها إذا لم تدع لذلك الضرورة، فهي معلولة لعلة هي الظلم والتظالم، ومع هذه العلة تدور الخلافة وجودا وعدما..
أما الذين قالوا بالضرورة الدائمة لقيام الخلافة والدولة والسلطة العليا
__________
1 "نهاية الإقدام في علم الكلام" ص481-484.(1/32)
-وهم من عدا هذا الفريق من المعتزلة وهذه الفرقة من الخوارج- فإنهم بعد اتفاقهم على وجوبها الدائم، أزلا وأبدا.. اختلفوا.. فمنهم من جعل العقل طريق وجوبها، لا الشرع.. ومنهم من جعل الشرع أي: السمع، طريق الوجوب..
والذين قالوا إن العقل هو طريق وجوب الإمامة هم:
1- الشيعة1.
2- وفريق من المعتزلة، هم "المعتزلة البغداديون" الذين مثلوا تيارا في إطار الاعتزال يقترب من الشيعة في تفضيل علي بن أبي طالب على غيره من الصحابة، ويضم هذا الفريق، كذلك، الجاحظ من "المعتزلة البصريين"2..
3- والخوارج، الذين قالوا إن مصدرها هو "الرأي"، وليس الكتاب أو السنة.
لكن هذا الاتفاق بين هؤلاء هو اتفاق في "الشكل" فقط.. فمعنى وجوبها عقلا، عند الشيعة، أنها و"لطف" إلهي، أي: داع من الدواعي التي يوجدها الله لتقرب الناس من الخير وتبعدهم عن الشر والقبائح العقلية؛ ولأنها من المعالم المؤدية إلى معرفة الله، ومثلها في ذلك مثل "النبوة"، ولذلك كان وجوبها العقلي، عندهم، هو على الله سبحانه، لا على الناس؛ لأنها شأنه سبحانه، قررها واختار لها، وأوصى نبيه بمن اختار..
__________
1 الطوسي "تلخيص الشافي" جـ1 ق1 ص65 تحقيق السيد حسين بحر العلوم. طبعة النجف سنة 1383 - سنة 1384هـ.
2 ابن أبي الحديد "شرح نهج البلاغة" جـ2 ص308. تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم. طبعة القاهرة سنة 1959م.(1/33)
أما من قال من المعتزلة والخوارج بأن العقل هو طريق وجوبها فإن معنى ذلك عندهم أن مصدرها ليس السمع والشرع، وأنها قضية مدنية، وليست دينا نطلبه من كتاب الله أو سنة الرسول، عليه الصلاة والسلام.. ووجوبها عندهم هو على الناس لا الله؛ لأن المراد منها هو تحقيق المصالح الدنيوية، ودفع المضار الدنيوية كذلك "فمهام الإمام كلها من مصالح الدنيا"1.
فهذا الفريق من المعتزلة والخوارج يوجب الإمامة بالعقل ليبتعد بها عن السمع والمأثورات الدينية، وليجعلها مبحثا ومنصبا دنيويا خالصا، بينما الشيعة -إمامية وإسماعيلية- يجعلون العقل طريق وجوبها لتكون قضية دينية، بل أصل أصول الدين، وليبتعدوا بها عن أمور الدنيا وسلطات البشر بالكلية.
أما الذين قالوا إن طريق وجوب الإمامة هو السمع -فمنهم معتزلة البصرة وأبو علي الجبائي "235-303هـ 849-916م" وابنه أبو هاشم "247-321هـ 861-933م"2 وهؤلاء قالوا إن النص على وجوب الإمامة لا بد وأن يكون قد وجد، ولا بد أن يكون الرسول -صلى الله عليه وسلم، قد نص على وجوب قيام الإمام، وعلى صفاته، وعلى مهامه إجمالا.. لكن هذا النص لم يصل إلينا؛ لأن شهرته في عصر المبعث، وفوق ذلك؛ لأن تجربة دواة المدينة تحت قيادة النبي قد غدت تطبيقا يجسد هذا النص، فاستغنى المسلمون الأوائل بذلك عن النص، ولم يجدوا حاجة لرواية نص في وجوبها
__________
1 المصدر السابق. جـ2 ص308. والفخر الرازي "محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين" ص176 طبعة القاهرة سنة 1323هـ.
2 "شرح نهج البلاغة" جـ2 ص308. و"تلخيص الشافي" جـ1 ق1 ص68. و"محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين" ص176.(1/34)
كما لم يجدوا حاجة لنقل خبر في أصول الصلاة والزكاة الواجبة1.. كما أن اختصاص الإمام بإقامة "الحدود" الواجبة شرعا، يجعل إقامته وتنصيبه واجبا شرعا كذلك2..
ومن الذين قالوا بوجوبها سمعا وشرعا أهل السنة؛ لأنهم يغضون من شأن العقل على نحو ما، ولا يرونه سبيلا للفرض أو الإباحة أو الحل أو التحريم أو الحسن أو القبح.. وإنما السبيل إلى كل ذلك، وإلى وجوب الإمامة هو السمع.. ولقد رووا لذلك عددا من الأحاديث، جميعها أحاديث آحاد، وبعضها مأثورات أضيفت إلى تراثنا في الحديث3!
هكذا قالت كل فرق الإسلام بوجوب إقامة السلطة ونصب الإمام, ثم اختلفوا بعد ذلك.
فربط البعض بين مهام المنصب الدنيوية وبين صاحبه، فأوجب قيامه عقلا إذا دعت الضرورة لقيامه.
ورأى البعض ضرورة قيامه، أزلا وأبدا، فإقامته ضرورة، وسندها العقل، كي تتم مصالح الدنيا..
ورأى البعض أن الإمام هو حجة الدين ومصدر الشريعة، فأوجب نصبه على الله عقلا؛ لأنه "لطف" لا يتم التكليف إلا به.
وقال البعض إنه لازم للدين والدنيا معا، فأوجبوا نصبه، سمعا، بأدلة اجتهدوا في تأليفها وتنسيق استخراج حجتهم منها.
ولعل موقف الخوارج النجدات وفريق المعتزلة الذين يمثلهم أبو بكر الأصم وهشام الفوطي، وكذلك المعتزلة البغداديين، والجاحظ من المعتزلة البصريين. لعل موقف هؤلاء هو أكثر المواقف اتساقا مع منطق العقل في هذا الموضوع.
__________
1 "المغني في أبواب التوحيد والعدل" جـ20 ق1 ص49.
2 المصدر السابق جـ20 ق1 ص47.
3 أبو يعلى الفراء "الأحكام السلطانية" ص3، 195، 196 تحقيق محمد حامد الفقي. طبعة القاهرة سنة 1938م.(1/35)
كيفية إقامة الخليفة:
في تصور مفكري الإسلام لكيفية إقامة الخليفة والإمام تبرز -كما هو الحال في كل قضايا الخلافة والإمامة- وجهتا النظر المعبرتان عن الانقسام الأساسي بين المسلمين في هذا الميدان.. فالشيعة قد جعلوا إقامة الإمام شأنا سماويا أبرمه الله وأوصى به الرسول، ومنعوا أن يكون للأمة شأن أو رأي أو سلطان في هذا المقام.. فهم قد رأوا أن من القادة: "أنبياء" و"حكام" -قضاة- و"ولاة".. وكذلك "أئمة" وخلفاء.. فقاسوا "الإمامة" على "النبوة"، وجعلوها امتدادا لها، متفقة معها في الطبيعة، ولقد نبعت فكرتهم هذه من مذهبهم الذي قرر أن الأمة حتى لو اجتمعت فإن من الجائز أن يكون اجتماعها على السهو والخطأ، بل والكفر والضلال؛ لأن ما يجوز على الفرد من السهو والخطأ والكفر والضلال يجوز على الأمة مجتمعة، إذ هي عندهم لا تزيد عن أن تكون مجموع أفراد.. وإذا كان الأمر كذلك فإن حفظ الله لديه لا بد وأن يستدعي وجود "معصوم" من الخطأ يكون الحجة والمصدر والحافظ والمرجع في الدين، وهذا هو "الإمام" -ويعبر الإمام الشيعي أبو جعفر الطوسي "385-460هـ 995-1017م" عن هذه القاعدة الجوهرية في مذهب الشيعة فيقول: "إن شريعة نبينا لا بد لها من حافظ.. ولا يخلو الحافظ لها من أن يكون جميع الأمة، أو بعضها.. وليس يجوز أن يكون الحافظ لها الأمة؛ لأن الأمة يجوز عليها(1/36)
السهو والنسيان، وارتكاب الفساد والعدول عما علمته.. وإن ما جاز على آحادها جائز على جميعها، من حيث لم يكن إجماعها أكثر من انضمام آحادها بعضها على بعض.. وإذا كانت العصمة مرتفعة من كل واحد على انفراد، فيجب أن تكون مرتفعة عن الكل.. فإذن لا بد للشريعة من حافظ معصوم، يؤمن من جهته التغيير والتبديل والسهو، ليتمكن المكلفون من السير إلى قوله. وهذا هو الإمام1".
وبعد أن اجتمعت الشيعة على هذه العقيدة -عقيدة: "النص والوصية"- اختلفوا في أشخاص الأئمة الذين قالوا بالنص عليهم والوصية لهم, فهم عند الشيعة الاثنى عشرية أئمتهم الاثنا عشر، وعند الإسماعيلية يبدأ خلافهم مع الاثنى عشرية بعد الإمام السادس جعفر الصادق؛ لأن الاثنى عشرية يجعلون الإمامة من بعده لابنه موسى الكاظم، على حين يجعلها الإسماعيلية لابنه إسماعيل.. أما الزيدية فإنهم يقفون بالنص والوصية عند الأئمة الثلاثة الأول: علي، والحسن، والحسين.. ويجعلونها بعدهم لمن اجتمعت له شروطها وخرج ثائرا ضد أئمة الجور والفساد، بل ويجعلون النص على "صفات" هؤلاء الثلاثة وليس على "الأعيان" والذوات.. وبعض الشيعة، مثل "الكيسانية"، يجعلونها، بعد علي بن أبي طالب، لابنه محمد بن الحنفية "21-81هـ 642-700م".. وهكذا، اتفقوا على المبدأ، مبدأ "النص والوصية"، واختلفوا في أعيان الأئمة الذين قالوا بحدوث النص عليهم والوصية لهم.
وانطلاقا من هذا الموقف قرر الشيعة، بدرجات متفاوتة، خطأ كل من استأثر بالخلافة من المسلمين دون أئمتهم، وتراوح موقفهم هذا إزاء أبي بكر
__________
1 "تلخيص الشافي" جـ1 ق1 ص133، 134، 149، 150.(1/37)
وعمر وعثمان، ومن ناصرهم وبايعهم، ما بين التكفير والتخطئة، خطأ متعمدا أو خطأ غير متعمد لشبهة عرضت لهم وجعلتهم يحجبون الخلافة عن علي بن أبي طالب، بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم، وعن بنيه من بعده.
ولقد أثار هذا الموقف، في الساحة السياسية والفكرية، ردود فعل مماثلة أو مقاربة، فوجدنا من أهل السنة وأصحاب الحديث والظاهرية من قال إن هناك نصا وتعيينا من الرسول -صلى الله عليه وسلم- بخلافة أبي بكر من بعده، وهؤلاء سموا في مباحث نظرية الخلافة والإمامة بـ"البكرية"1.
كما أثار موقف الشيعة العلوية الذي حصر "النص والوصية" في أبناء علي بن أبي طالب رد فعل بين المناصرين لدولة بني العباس، فظهرت فرقة "الراوندية"، التي قال أهلها إن هناك "نصا" على العباس بن عبد المطلب وولده كي تكون فيهم الخلافة بعد الرسول2.. ومنهم من قال إنها فيهم، لكن بالميراث ميراث العباس لابن أخيه الرسول، وليست "بالنص"3.
لكن القول بأن طريق تولي الخلافة هو "النص والوصية" ظل الطابع المميز لتيار الشيعة في الفكر الإسلامي، بل ظل هذا الموقف نقطة الافتراق
__________
1 أبو يعلى الفراء "كتاب الإمامة" ص196، 200، طبعة بيروت. ضمن مجموعة عنوانها: نصوص الفكر السياسي الإسلامي. سنة 1966م. وابن حزم "الإحكام في أصول الأحكام"، جـ 7 186-188. و"الفصل في الملل والأهواء والنحل" جـ7 ص107، 108. طبعة القاهرة سنة 1321هـ.
2 أبو يعلى الفراء "كتاب الإمامة" ص196. والبغدادي "أصول الدين" ص279 ط. استانبول 1928.
3 القاضي عبد الجبار "شرح الأصول الخمسة" ص754 تحقيق د. عبد الكريم عثمان ط. القاهرة 1965م.(1/38)
الرئيسية التي قسمت أمة الإسلام أخطر انقساماتها.. وظل القول "بالنص" على جبهة أهل السنة، سواء عند "البكرية" أو "الراوندية" موقفا هامشيا، لا يعدو أن يكون رد فعل خافت الصوت ضعيف الأثر يكاد أن لا يكون ملحوظا في الصراع الفكري حول هذا الموضوع.
وفي مقابل موقف الشيعة هذا كان موقف مختلف الفرق والتيارات والمدارس الفكرية الإسلامية، التي انحازت انحيازا كاملا إلى "الاختيار والبيعة والعقد" سبيلا لتمييز الإمام وتنصيب الخليفة.. فهم قد رفضوا قياس "الخلافة" على "النبوة"، لما قرروه من اختلاف طبيعتهما، فالخلافة في الأساس، تقوم لمصالح الدنيا، وإذا تناول صاحبها أمرا من أمور الدين فبالتبعية والاقتضاء، وهو فيه لا يعدو كونه واحد من عامة المسلمين أو مجتهديهم، على حين أن "النبوة" تقوم في الأساس لمصالح الدين، وإذا تناول صاحبها أمرا من أمور الدنيا فبالتبعية والاقتضاء، وهو فيه لا يعدو كونه واحدا من أمة المسلمين أو قادتها أو قائدها.
وهم قد رفضوا فكرة "العصمة" للخليفة والإمام؛ لأنهم رفضوا أن تكون هناك حاجة إلى "حافظ" للدين ومصدر للشريعة بعد الكتاب، والسنة المتواترة.. وبدلا من وضع الثقة المطلقة في الإمام، كما فعلت الشيعة، وضعوا الثقة في الأمة، كمجموع، ورأوا أنها وحدها هي المعصومة من الخطأ والسهو والكفر والضلال.. وفي هذا الصدد ردوا هجوم الشيعة على الأمة، وقالوا إن جواز الخطأ على الفرد والأفراد لا يعني جوازه على الأمة؛ لأن الأمة ليست مجرد حصيلة جمع من الأفراد، وإنما الاجتماع في الرأي يثمر "كيفا" جديدا تتعدى أهميته وحجيته نطاق "الكم".. فالخيوط المجتمعة لها قوة تفوق قوتها متفرقة، وإذا كانت القطرات المتفرقة لا تروي، فإنها وهي مجتمعة تحدث ريا، إلى آخر ما ضربوا من أمثلة وأمثال..(1/39)
واستدلوا كذلك بقول الرسول -صلى الله عليه وسلم: "إن أمتي لا تجتمع على ضلالة" 1 وقوله: "إن الله لن يجمع أمتي إلا على هدى" 2.
فالحجة هي الأمة، والعصمة للأمة، ومصدر الشريعة مدوناتها: كتابا وسنة وإجماعا3.. ومن ثم فإن الخلافة والإمامة هي شأن من شئون الأمة، وهي التي تتولى الاختيار والعقد والبيعة للإمام.
لكن.. كيف -من حيث التنظيم والممارسة- تختار الأمة الخليفة وتنصب الإمام؟.
إننا نستطيع أن نجمل الفكر السياسي الإسلامي -وهو بالطبع فكر القائلين بالاختيار- في هذه النقاط:
أولا: يكاد الإجماع أن ينعقد على أن مهمة تمييز الإمام وتنصيبه هي فرض خاصة الأمة، أي: فرض من فروض الكفاية يجب على المؤهلين لإنجاز هذه المهمة، وليس ضروريا ولا هو بالشرط اشتراك العامة واتفاقها في هذا الموضوع.. ولقد وقف وراء هذا المبدأ حال العصر الذي تبلورت فيه هذه الأفكار، واستحالة الاشتراك المباشر لأمة من الأمم، ككل ومجتمعة في مثل هذا الموضوع.. ولم يخالف هذا المبدأ من مفكري الإسلام سوى الإمام المعتزلي أبي بكر الأصم وتلامذته، فلقد قال: إن نصب الإمام هو فرض عامة الأمة وواجبها، وأنه لا تنعقد الإمامة إلا إذا تحصل الإجماع من الأمة على من نصبت إماما.. وخصوم الأصم يرونه قد استهدف الطعن في إمامة الخلفاء
__________
1 رواه ابن ماجه.
2 رواه ابن حنبل.
3 "المغني في أبواب التوحيد والعدل" جـ17 ص157، 159، 178، 179، 228. والتفتازاني: "شرح العقائد النسفية" ص127، 128، طبعة القاهرة سنة 1963م.(1/40)
الذين قامت معارضات قوية لخلافتهم، وفي مقدمتهم علي بن أبي طالب!.. لكن يبقى رغم هذه التفسيرات يبقى للأصم الفضل في فتح الباب أمام الفكر السياسي الإسلامي كي يفسح لعامة الأمة مكانا لائقا ومناسبا في اختيار صاحب السلطة العليا في البلاد.. ولقد أطلق معارضو الأصم على طريقته اسم: "طريقة العامة"، وسموا مذهبه، مذهب الذين "اعتبروا العامة"، أي: جعلوا لها "اعتبارا" في هذا الموضوع1!.
وثانيا: اتفق الذين جعلوا اختيار الإمام مهمة "الخاصة" وفرضها، على أن هذه الخاصة إنما تنبع خصوصيتها من تأهلها لإنجاز مهمتها وقدرتها على النظر في أمر السياسة وحنكتها في البصر بما تحتاجه الأمة في ظرفها هذا من كفاءة للقائد تتطلبها الظروف والمشكلات التي تبرز في واقعها.. فاختيار الإمام ومبايعته عقد اجتماعي أحد طرفيه: الإمام، الذي هو واحد من بين الذين تجتمع فيهم شروط الإمامة، والطرف الآخر: الأمة، وهي ممثلة في هذا العقد بجماعة "أهل الاختيار" أو "أهل الحل والعقد" أو "أولوا الأمر"، الذين هم -بتعبير عصرنا- قادة الرأي العام.. وشروط جماعة الاختيار هذه ثلاثة:
1- العدالة الجامعة لشروطها.. بمعنى أن يكون كل واحد فيهم من أهل الستر والصلاح، فلا يكون فاسقا، سواء أكان فسقه فسق جوارح أم فسق رأي ومذهب واعتقاد، بأن يكون مذهبه خارجا عن مذهب أهل الحق، داخلا في أهل الأهواء -وإن فسر كل "الحق" و"الفسوق" بمقاييس فرقته ومذهبه- وذلك لأنهم قد اعتبروا تخلف شرط العدالة مما يقدح في
__________
1 البغدادي "أصول الدين" ص287. والشهرستاني "الملل والنحل" جـ1 ص109. طبعة القاهرة سنة 1321هـ. و"المغني في أبواب التوحيد والعدل" جـ20 ق1 ص301، 259.(1/41)
الشهادة والقضاء، والإمامة عندهم أعلى مقاما، فلا بد من العدالة فيمن يميز الإمام ويختار الخليفة.
2- العلم الذي يتوصل به إلى معرفة من يستحق الإمامة على الشروط المعتبرة فيها. فالعلم هنا علم بالسياسة وأمور الدنيا أكثر منه علما بأمور الدين؛ لأن المطلوب هنا أن يكون أهل الاختيار عالمين بمن يصلح للإمامة، ومن لا يصلح لها، وذلك مترتب على العلم بمهام الإمام ومتطلبات المنصب والمشاكل التي تعترض الأمة، وتلك أمور تتبدل وتتغير وتتطور بتغير الأعصر والأمكنة والأحوال، فلقد تكون الحاجة أمس إلى المبرز في الحرب، أو في الاقتصاد والأموال، أو في الدهاء السياسي إلخ.. إلخ.. لاختلاف التحديات التي تواجه الأمة.. فعلم أهل الاختيار، المعتبر والمطلوب، مرتبط -كما وكيفا- بالظرف والعصر والملابسات.
3- أن يكونوا من أهل الرأي والحكمة المؤديان إلى اختيار من هو للإمامة أصلح وبتدبير المصالح أقوم وأعرف.. أي: أن لا يقف أمر أهل الاختيار عند العدالة والعلم، بل أن يكونوا من ذوي الرأي والحكمة والخبرة بأمور السياسة وفن الاختيار وتمييز الرجال ومعرفة قدراتهم وأقدارهم، والحصافة في إدراك نوعية القائد المطلوب للظروف القائمة والتحديات التي تواجه الدولة والأمة1..
فهي كما نرى شروط سياسية، تشترط في فئة قد أنيطت بها مهمة سياسية، ومن ثم فإن الطابع السياسي يحجب الطابع الديني هنا، فلا نرى ذكرا لشروط: التقوى والصلاح والفضل في الدين.. بل إن القاضي عبد
__________
1 انظر في هذه الشروط "الأحكام السلطانية" للماوردي ص6. و"الأحكام السلطانية" لأبي يعلى الفراء. ص3، 4 تحقيق محمد حامد الفقي. طبعة القاهرة سنة 1938م. و"المغني في أبواب التوحيد والعدل" جـ20 ق1 ص267.(1/42)
الجبار يقول عن أهل الاختيار هؤلاء: " ... ولا يجب أن يكون من صفتهم أن يكونوا من أهل الفضل، أو يكونوا أفضل من في الزمان أو كالأفضل؛ لأنه قد ثبت أن فيمن عقد لأبي بكر من لم يقاربه في الفضل"1.. ومصطلح "الفضل" يراد به: الفضل في الدين والرجحان في الثواب.
وثالثا: ظهر المفكرون المسلمون غير متفقين على الحد الأدنى من العدد الذي لا بد منه كي يبلغ أهل الاختيار صلاحية العقد والبيعة للإمام بالإمامة.. فالبعض قد اشترط أن ينهض بذلك "جمهور" و"جماعة" ممن توافرت فيهم شروط أهل الاختيار.. والبعض اكتفى بعقد واحد من أهل الاختيار لمن تتوافر فيه شروط الإمامة! والبعض اشترط أن لا يقل عدد العاقدين عن واحد، يعقد لآخر، برضا أربعة أي: أن يكون المجموع خمسة، وقاس على السوابق التاريخية في العملية في البيعة لأبي بكر، والاختيار لعثمان بن عفان.. والبعض قال إنها تنعقد باثنين، قياسا على الشهادة، ودار جدل كثير ونقد أكبر بين فرقاء هذه الآراء2.
ومما تجدر الإشارة إليه أن أصحاب هذه الآراء، حتى الذين تحدثوا عن العدد وحدوده، قد اتصف تفكيرهم في هذه القضية بالمرونة التي تفتح الباب لتطوير الأفكار التي ذكروها والهيئآت التي أشار بعضهم إليها، وذلك وفق تطور العصر واختلافات الأماكن والظروف.. وواحد من الذين قالوا بالعدد خمسة -وهو القاضي عبد الجبار بن أحمد- يقول: "إنه لا نص في
__________
1 "المغني في أبواب التوحيد والعدل" جـ20 ق1 ص267.
2 "كتاب الإمامة" لأبي يعلى ص212. و"الأحكام السلطانية" الماوردي ص6. و"الفصل في الملل والأهواء والنحل" جـ4 ص167، 168. و"المغني في أبواب التوحيد والعدل" جـ2 ق1 ص253-257، 260، 265، 295، 296، 312، 313. و"أصول الدين" للبغدادي ص281.(1/43)
الإمامة.. وأن الواجب فيها الاختيار, وأن طريق الاختيار يختلف".. كما يشير إلى أن العدد الذي حدده عمر بن الخطاب للشورى كان نابعا من رأيه أن هؤلاء هم "أفضل من في الزمان"1.. ومعنى ذلك أننا إذا وجدنا عددا أكثر ممن برز وباين وتفرد فإن الهيئة التي تتولى مهمة الاختيار والعقد تتسع باتساع الكفاءة والإمكانيات، طالما أن المبدأ المقرر هو: "أن طريق الاختيار يختلف باختلاف الظروف، والعصر، والمكان".
والذي يرشح ذلك المذهب أن عامة المفكرين الذين أدلوا بدلوهم في هذا الموضوع، على اختلاف موقفهم من العدد، واحدا فأكثر، قد نظروا إلى هذا العدد باعتباره "لجنة للترشيح والتمييز للإمام"، وأن هذه الهيئة لها صلاحيات في الاختيار والعقد؛ لأنها مفوضة من الأمة، بما لأفرادها من الزعامة والتأييد الجماهيري، فكلمتهم معبرة عن رأي الأمة، وإذا لم تكن الأمة، أو على الأقل جماعة أهل الحل والعقد وجمهور الخاصة أهل الاختيار، إذا لم يكونوا على رأي هيئة الترشيح والعقد هذه، فإن كلمتها لا تكون نافذة؛ لأن المطلوب هو حصول الشوكة والقوة والتأييد للإمام، وإذا لم تضمن هيئة الترشيح والعقد هذه الشوكة، بما لرأيها من اتفاق ومساندة من أهل الاختيار، فإن صفتها التمثيلية تكون زائلة، فليس المراد أي عدد من أي نوع حتى مع توافر شروط العدالة والعلم, والحكمة, وإنما عدد تمثل كلمته كلمة الأمة أو أهل الاختيار. فلو كان هناك زعيم مفوض تفويضا ضمنيا وتلقائيا، مثلا، من أمته، فإن له أن يرشح خليفتها وإمامها ويعقد له ويبايع، ثم يأتي بعد ذلك دور أهل الاختيار في إقرار العقد بإظهار الرضا والطاعة والانقياد.
ويعبر الإمام الغزالي "450-505هـ 1058-1111م" عن هذا
__________
1 "المغني في أبواب التوحيد والعدل" جـ20 ق2 ص23.(1/44)
المعنى عندما يتحدث عن صفة من له الحق في العقد للإمام باسم الأمة أو باسم أهل الاختيار، فيتحدث عن التفويض من رجل ذي شوكة يقتضي انقياده وتفويضه متابعة الآخرين ومبادرتهم إلى المبايعة، وذلك قد يسلم في بعض الأعصار لشخص واحد مرموق.. وقد لا يتفق ذلك لشخص واحد مرموق.. وقد لا يتفق ذلك لشخص واحد بل لشخصين أو ثلاثة أو جماعة، فلا بد من اجتماعهم وبيعتهم واتفاقهم على التفويض حتى تتم الطاعة1.
وفي موطن آخر يصف الغزالي الشخص الذي يصلح كي يعطي التفويض للإمام بأنه من كان "مطاعا" ذا شوكة لا تطاول، ومتى كان إذا مال إلى جانب مالت بسببه الجماهير، ولم يخالفه إلا من لا يكترث بمخالفته، فالشخص الواحد المتبوع المطاع الموصوف بهذه الصفة إذا بايع كفى، إذ في موافقته موافقة الجماهير، فإن لم يحصل هذا الغرض إلا لشخصين أو ثلاثة فلا بد من اتفاقهم وليس المقصود أعيان المبايعين، وإنما الغرض قيام شوكة الإمام بالأتباع والأشياع.. ولا تقوم الشوكة إلا بموافقة الأكثرين من معتبري كل زمان2.
فالصورة هنا تتضح وتتحدد معالمها.. إذ الغاية هي تنصيب خليفة وإمام تكون له الشوكة، وهذه الشوكة لا تقوم إلا بموافقة الأكثرين، أي: أغلبية الجماهير.. وهذه الأغلبية تختار الإمام وترشحه بواسطة زعمائها الذين تميل معهم وترى رأيهم وتتبع خطاهم، فإذا اجتمع هذا التفويض الجماهيري لزعيم واحد كان هو المرشح للإمام والعاقد له، وإذا تعدد
__________
1 "الاقتصاد في الاعتقاد" ص136، 137. طبعة محمود علي صبيح. القاهرة. دون تاريخ.
2 "فضائح الباطنية" ص176-178. تحقيق الدكتور عبد الرحمن بدوي. طبعة القاهرة سنة 1964م.(1/45)
الزعماء كونوا لجنة وهيئة لترشيح الإمام والعقد له، وبعد الترشيح والعقد يأتي دور الجمهور كي يبايع الإمام البيعة العامة التي تصدق على الترشيح وتعتمد العقد الذي ابتدأه الزعماء.
والماوردي يشير إلى إمكانية أن تكون لجنة الترشيح هذه هيئة متميزة وقائمة ودائمة ومنصوصا على أعضائها ونظامها، فيقول: "ويجوز للخليفة أن ينص على أهل الاختيار.. فلا يصح إلا اختيار من نص عليه"1.
فهي، إذا، هيئة، قد تختلف تسميتها، ويتفاوت عدد أعضائها، ولكن المطلوب فيها دائما أمران:
أن يستوفي أعضاؤها شروط أهل الاختيار.
وأن يكونوا ممثلين لإرادة الأمة ورأيها، ووفق تعبير الغزالي: "فليس المقصود أعيان المبايعين، وإنما المطلوب أن تكون في موافقتهم موافقة الجماهير".
ورابعا: ماذا عن وحدة الإمام والخليفة أو تعدده في العصر الواحد والزمن المتحد.. أجائز هو؟ أم غير جائز؟.. هنا يختلف كذلك مفكروا نظرية الخلافة.. فالشيعة يجيزون تعدد الأئمة في العصر الواحد، كأن يكون هناك إمام "صامت" إلى جانب إمام "ناطق"!.. كما كان حال الحسين في حياة الحسن.. ويجيزون التعدد أيضا للضرورات العملية، كأن يتعذر وصول بلاغ الإمام إلى من يقطنون مرتفعات من الأرض أو تخوما لا تصل إليها أخبارنا، وفيما عدا ذلك فالتعدد، عندهم، لا يجوز2.
__________
1 الأشعري "مقالات الإسلاميين" جـ2 ص150 طبعة القاهرة سنة 1969م. و"أصول الدين" للبغدادي ص274. و"الفصل في الملل والأهواء والنحل" جـ4 ص88. و"تلخيص الشافي" جـ1 ق1 ص76-78.
2 المصدر نفسه.(1/46)
ومن الأشعرية من يجيز التعدد لاعتبارات عملية أيضا وكأن تفصل البلاد موانع طبيعية تحول دون وصول نصرة بعضها ونجدتها إلى البعض الآخر، فيجوز حينئذ لأهل كل صقع "عقد الإمامة لواحد من أهل ناحيتهم".. ويعبر عن وجهة النظر هذه إمام الحرمين "419-478هـ 1028-1085م" فيقول: "والذي عندي أن عقد الإمامة لشخصين في صقع واحد متضايق الخطط والمخاليف غير جائز، وقد حصل الإجماع عليه. وأما إذا بعد المدى، وتخلل بين الإمامين شسوع النوى فللاحتمال في ذلك مجال ... ".. وآخرون من الأشعرية يمنعون ذلك، ويرفضون "عقد الإمامة لشخصين، ولو كانا في طرفي العالم! "1.
ولقد ذهبت "الكرامية" -أصحاب محمد بن كرام السجستاني "255هـ 869م"- إلى جواز تعدد الأئمة، حتى ولو لم تتباعد بينهم الديار2. على حين رفضت المعتزلة تعدد الأئمة، حتى ولو تباعدت الديار وقامت الموانع الطبيعية بين أجزاء عالم الإسلام، وطلبوا معالجة مثل هذه الحالة بإقامة نواب للإمام وولاة على هذه الأقاليم البعيدة، مع وجود إمام واحد لعالم الإسلام3..
ونحن نعتقد أن فكر المسلمين هذا، حول هذه القضية، قد نشأ ليعالج وضع التجزئة التي أصابت الدولة العربية الإسلامية، وليعالج شمول الإسلام لأوطان قوميات أخرى غير قومية العرب، ومن هنا تراوحت آراء
__________
1 الجويني، إمام الحرمين "كتاب الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد" ص425. تحقيق د. محمد يوسف موسى، وعلي عبد المنعم عبد الحميد. طبعة القاهرة سنة 1950م.
2 "الفصل في الملل والأهواء والنحل" جـ4 ص88، 89. و"أصول الدين" للبغدادي. ص274.
3 "المغني في أبواب التوحيد والعدل" جـ20 ق1 ص92، 43-247.(1/47)
المفكرين ما بين وحدة السلط والدولة في العصر الواحد لكل عالم الإسلام.. وما بين جواز التعدد في السلطة والدولة تبعا لما طرأ من التجزئة التي غدت واقعا.. وما بين الموقف الوسط الذي منع التعدد إلا للضرورة الطبيعية، أو منعها على القمة وعالج الإقليمية بجواز تعدد السلطة -في المستوى الأدنى من القمة- في الأقاليم والمحليات.
هذا عن قضية "تعدد الخليفة" إذا طرحتها ضرورات التباعد بين الأقاليم.. لكن.. ماذا عن "التعدد" إذا نشأ من تعدد جماعات أهل الاختيار والحل بالعقد في بلاد الإسلام؟.
لقد افترض مفكرو نظرية الخلافة إمكانية الترشيح والبيعة من أكثر من جماعة لأكثر من إمام عقب خلو منصب الإمامة، ثم اتفقوا على تصحيح إمامة من سبقت بيعته الباقين وإسقاط بيعة هؤلاء الباقين.. أما إذا تم الترشيح والاختيار، من أكثر من جماعة لأكثر من إمام في وقت واحد، فإن هناك من يرى إجراء "القرعة" بين المرشحين للإمامة "لأن حالهما قد تساوى في البيعة، وقد ثبت بالسنة دخول القرعة في تمييز الأمور المتساوية".. كما يقول الإمام المعتزلي أبو علي الجبائي1.
ونحن نريد أن ننبه إلى أن المتأمل في اتخاذ "القرعة" أو "التحكيم" سبيلا لحل هذا التنازع وفض ذلك النزاع، إذا ما استحضر في ذهنه ما هو قائم اليوم في المجتمعات الجمهورية الديمقراطية التي تأخذ بنظم تعدد الأحزاب والجماعات الفكرية والسياسية، من:
__________
1 انظر في موضوع "القرعة" هذا: "الأحكام السلطانية" للماوردي. ص8. و"الأحكام السلطانية" لأبي يعلى. ص8، 9. و"كتاب الإمامة" لأبي يعلى ص223. و"المغني في أبواب التوحيد والعدل" جـ20 ق1 ص269، 270.(1/48)
1- ترشيح كل حزب أحد أعضائه لرئاسة الدولة.
2- والاحتكام في اختيار أحد المرشحين إلى الاقتراع في الانتخابات العامة.
يجد أن ما بحثه الباحثون في الإمامة تحت مسألة تعدد الترشيح والأئمة بتعدد جهات الاختيار، وحسم ذلك التنازع بالقرعة أوالتحكيم، هو نفس الوضع القائم الآن في المجتمعات الجمهورية الحزبية المعاصرة، وبالذات في الجوهر والأساس.
ففي حالتنا الأولى: جهات ولجان للترشيح تعددت فتعدد المرشحون للإمامة.. والاختيار بين المرشحين سبيله الاقتراع أو التحكيم وهما سواء، لا يميز بينهما إلا الضيق والاتساع في قاعدة الذين يسهمون في الاقتراع والتحكيم.
وفي حالتنا الثانية والمعاصرة: جهات للترشيح -هي الأحزاب- ترشح للرئاسة مرشحين متعددين بتعددها. والاختيار بين المرشحين سبيله الاقتراع والتحكيم الذي صار في ظروف العصر الحالي انتخابات يسهم فيها من اجتمعت لهم شروط اتفق عليها في دساتير هذه البلاد وقوانينها.
ومن هنا نستطيع أن نقول إن مثل هذه الأفكار الجزئية قد أرست منذ قرون عدة "المبادئ والأسس" لبعض أشكال الممارسات الديمقراطية التي يشهد عصرنا تطبيقها اليوم فيما يتعلق باختيار صاحب السلطة العليا في البلاد.. ومفكرو الإسلام هؤلاء قد أسهموا في الفكر السياسي الإنساني بنصيب، وخاصة عندما وقفوا إلى جانب الشورى والاختيار، وعندما قدموا هذه الأفكار والتصورات عن كيفية وضع مبدأ الاختيار في التطبيق على موضوع تنصيب الإمام.(1/49)
شروط الخليفة:
وكما وضعت الشروط لأهل الاختيار وجماعة الحل والعقد، وهم طرف في هذا التعاقد الاجتماعي، وضعت كذلك الشروط للطرف الثاني في هذا التعاقد، وهم "أهل الخلافة والإمامة" الذين يختار من بينهم الخليفة والإمام..
ولقد تفاوتت شروط التيارات الفكرية الإسلامية فيمن يصلح لتولي هذا المنصب، وإن ظل التفاوت الأساسي والاختلاف الجذري قائما بين الشيعة، القائلين "بالنص والوصية"، من جانب، وبين التيارات الأخرى القائلة بالاختيار والبيعة والعقد، من جانب آخر..
فالشيعة رأوا أن هناك ضربين من الصفات لا بد من وجودهما فيمن يكون إماما:
أحدهما: صفات يجب أن يتصف بها من حيث كونه إماما، مثل كونه معصوم، وكونه أفضل الخلق على الإطلاق.
والثاني: صفات يجب أن يتصف بها بحكم المهام التي يتولاها، مثل علمه بالسياسة، وبجميع أحكام الشريعة، وكونه حجة فيها، وكونه أشجع الخلق1..
وبسبب من كون الإمامة عند الشيعة مقيسة على النبوة فإن صفات الإمام هذه عند الشيعة تتجاوز مستواها عند البشر العاديين.. فهو معصوم؛ لأن للإمامة مهام دينية أساسية، فالنبي يبلغ الشريعة والإمام حافظ
__________
1 "تلخيص الشافي" جـ1 ق1 ص189.(1/50)
لها وحجة لها وفيها، وكما تلزم العصمة تبلغ في التبليغ وما يتعلق به، كذلك تلزم للحافظ في الحفظ وما يتعلق به.
أما من عدا الشيعة فإنهم يرون الشريعة محفوظة بالرواية، والرواية وضع ثقة؛ لأن الأمة التي روت وأجمعت هي المعصومة، وليس الإمام، فما للإمام كفرد عند الشيعة نجده للأمة مجتمعة عند غيرها.. كما أن غير الشيعة لا يرون للإمامة مهام دينية في الأساس، وإنما يرون الإمام منفذا للأحكام، قائما بمصالح الدنيا، مثله في ذلك مثل الحكام والأمراء، فعليهم يقاس، وليس قياسه على النبوة والأنبياء.
والعلم كصفة من صفات الإمام عند الشيعة هو علم غير محدود.. والغلاة من الشيعة يرونه "عالما بكل ما كان، وكل ما يكون، ولا يخرج شيء عن علة من أمر الدين ولا من أمر الدنيا"، وغير الغلاة يرونه "عالما بكل أمور الأحكام والشريعة، وبكل ما يحتاج الناس إليه، وأما ما لا يحتاجون إليه فقد يجوز أن لا يعلمه الإمام"1.
والشيعة يرون أن هذا العلم غير المحدود الذي يتصف به الإمام هو أثر من آثار الطبيعة الدينية لمهمته، وقبس من السماء يأتيه عن طريق "روح القدس" التي تلهمه إلهاما، والتي تقوم بالنسبة له مقام الوحي بالنسبة للأنبياء، فالسماء "تفهم الإمام وتحدثه وتنكت في أذنه" بواسطة "روح القدس" فيعلم ما يريد أن يعلمه، بل ويعلمه دون معلم أو تعلم!.. فهو "إذا أراد أن يعلم الشيء أعلمه الله بذلك"2.. وهو "يتلقى المعارف والأحكام الإلهية وجميع المعلومات من طريق النبي أو الإمام من قبله. وإذا استجد شيء لا بد أن يعلمه من طريق الإلهام بالقوة القدسية التي
__________
1 "مقالات الإسلاميين" جـ1 ص122.
2 الكليني "الأصول من الكافي "ص257. طبعة طهران سنة 1388هـ.(1/51)
أودعها الله تعالى فيه، فإن توجه إلى شيء وشاء أن يعلمه على وجهه الحقيقي لا يخطأ فيه.. إن قوة الإلهام عند الإمام التي تسمى بالقوة القدسية تبلغ الكمال في أعلى درجاته، فيكون في صفاء نفسه القدسية على استعداد لتلقي المعلومات في كل وقت وفي كل حالة، فمتى توجه إلى شيء من الأشياء وأراد معرفته استطاع علمه بتلك القوة القدسية الإلهامية بلا توقف، ولا ترتيب مقدمات، ولا تلقين معلم، وتنجلي في نفسه المعلومات كما تنجلي المرئيات في المرآة الصافية، لا عطش فيها ولا إبهام، ويبدو واضحا هذا الأمر في تاريخ الأئمة، لم يتربوا على أحد، ولم يتعلموا على يد معلم، من مبدأ طفولتهم إلى سن الرشد، حتى القراءة والكتابة، ولم يثبت عن أحدهم أنه دخل الكتاتيب أو تتلمذ على يد أستاذ في شيء من الأشياء، ومن ما لهم من منزلة علمية لا تجارى. وما سئلوا عن شيء إلا أجابوا عليه في وقته، ولم تمر على ألسنتهم كلمة: "لا أدري"، وتأجيل الجواب إلى المراجعة أو التأمل، ونحو ذلك!! 1".
و"روح القدس"، هذا الذي جعله الشيعة صلة قائمة بين السماء وبين الإمام هو الذي حمل النبي به النبوة، فإذا قبض النبي انتقل روح القدس فصار إلى الإمام! "2.
هذه هي صفات الإمام عند الشيعة، قاسوا الإمامة على النبوة فوصفوا الإمام بصفات النبي، ولعلهم قد بلغوا بالأئمة ما لم يبلغ الواصفون بالأنبياء.
__________
1 محمد رضا المظفر "عقائد الإمامية" ص67-69. طبعة النجف. دار النعمان للطباعة والنشر.
2 "الأصول من الكافي" جـ1 ص272.(1/52)
أما غير الشيعة من فرق الإسلام فإنهم نظروا إلى الإمام كحاكم أعلى في الدولة، ومنفذ للشريعة وقائم على الأحكام، ومن ثم كان قياس منصبه على "الولاة والحكام"، وبالتبعية كانت صفاته صفات الحاكم الأعلى القادر على قيادة جهاز التنفيذ.. وفي كتب الفرق المختلفة تتراوح صفات الإمام وشروطه، قلة وكثرة، تبعا للإجمال والتفصيل، لكننا نستطيع أن نقول إنها:
عند المعتزلة: تجمعها شروط سبعة:
أحدها: العدالة. على شروطها الجامعة.
والثاني: العلم.. المؤدي إلى الاجتهاد في الأمور المتجددة والأحكام.
والثالث: سلامة الحواس.. من السمع والبصر واللسان، ليصح معها مباشرة ما يدرك بها.
والرابع: سلامة الأعضاء.. من نقض يمنع عن استيفاء الحركة وسرعة النهوض.
والخامس: الرأي.. المفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح.
والسادس: الشجاعة والنجدة.. المؤدية إلى حماية البيضة وجهاد العدو.
والسابع: النسب.. أي: أن يكون من قريش1.. ومن المعتزلة من لا يشترط النسب القرشي، ومنهم من يشترطه لأسباب سياسية تتعلق بالشوكة وضمان وحدة الأمة، لا لأسباب قبلية، أو مؤيدة2.
وعند الزيدية: خمسة شروط:
__________
1 "الأحكام السلطانية" للماوردي ص6.
2 المسعودي "مروج الذهب" جـ2 ص175. طبعة القاهرة سنة 1966م. وابن أبي الحديد "شرح نهج البلاغة" جـ9 ص87. تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم. طبعة القاهرة سنة 1959م.(1/53)
أولها: أن يكون من نسل الحسن أو الحسين.
وثانيها: أن يكون شجاعا.. حتى لا يهرب من الحرب.
وثالثها: أن يكون عالما حتى يتمكن من إعانة الناس في الشرع.
ورابعها: أن يكون ورعا.. حتى يعف عن مال المسلمين.
وخامسها: أن يخرج على الظلمة شاهرا سيفه داعيا لنفسه وللحق1.
وعند أصحاب الحديث: أربعة شروط:
أولهها: أن يكون قرشيا.
وثانيها: أن يكون على صفة من يصلح قاضيا.. أي: أن يكون حرا، بالغا، عاقلا، عالما، متصفا بالعدالة.
وثالثها: أن يكون بصيرا فيما يأمر في أمر الحرب والسياسة، وحماية الأمة، وإقامة الحدود.
ورابعها: أن يكون من أفضل الناس في العلم والدين.. إلا أن يعرض عارض يمنع من إمامة الأفضل فتجوز إمامة المفضول2.
ومن أصحاب الحديث من يختلف حول شروط: العدالة والعلم، والفضل فيجيز في بعض الحالات إمامة الفاسق ومن هو غير عالم وغير فاضل، وهذا الرأي مروي عن أحمد بن حنبل، فلقد روي عنه قوله: "ومن غلب بالسيف حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين، لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماما عليه، برا كان أو فاجرا، فهو أمير المؤمنين"3.
__________
1 نصير الدين الطوسي "تلخيص محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين" ص180. طبعة القاهرة, على هامش "المحصل" سنة 1323هـ.
2 "الأحكام السلطانية" لأبي يعلى ص4. و"كتاب الإمامة" لأبي يعلى ص214، 215.
3 "الأحكام السلطانية" لأبي يعلى ص4.(1/54)
وعند الأشعرية: أربعة شروط:
أولها: العلم.. بحيث لا يقل فيه عن مبلغ المجتهدين في الحلال والحرام وسائر الأحكام.
وثانيها: العدالة والورع.. بحيث لا يقل عمن تجوز شهادته تحملا وأداء.
وثالثها: الاهتداء إلى وجوه السياسة وحسن التدبير، في السلم والحرب.
ورابعا: النسب القرشي1..
ومن الأشعرية من يختلف في ضرورة النسب القرشي كشرط للإمام2.
وعند الظاهرية: خمسة شروط:
أولها: النسب القرشي.
وثانيها: البلوغ والتمييز.
وثالثها: الذكورية.
ورابعها: الإسلام.
وخامسها: أن يكون متقدما لأمره، عالما بما يلزمه من فرائض الدين، متقيا لله في الجملة، غير معلن بالفساد في الأرض3.
تلك هي شروط الإمام والخليفة كما تصورتها فرق الإسلام. ويبدو فيها انقسام هذه الفرق إلى اتجاهين رئيسيين:
__________
1 البغدادي "أصول الدين" ص277. و"الفرق بين الفرق" ص340، 341. طبعة بيروت سنة 1973م.
2 إمام الحرمين "كتاب الإرشاد" ص426.
3 "الفصل في الملل والأهواء والنحل" جـ4 ص166، 167.(1/55)
1- الشيعة.. الذين انفردوا باشتراط العصمة والعلم غير المحدود للإمام..
2- وأهل السنة.. -بفرقهم المختلفة- وهم قد عارضوا الشيعة وخالفوهم.. ثم اتفقوا في أغلب الشروط التي لا بد من توافرها في الإمام، مع تفاوت في عدد الشروط تبعا للإجمال أو التفصيل.. كما اختلفوا في بعض الشروط، وخاصة: النسب القرشي، واشتراط العدالة في كل الحالات، أي: رفض إمامة المتغالين بالقمة على منصب الخلافة، أو قبول التغلب كأمر واقع!.. ولقد أوجز ابن خلدون رأي الفرق القائلة بالاختيار فقال إنهم اتفقوا على شروط أربعة، هي:
1- العلم.
2- والعدالة.
3- والكفاية.
4 وسلامة الحواس والأعضاء مما يؤثر في الرأي والعمل.
واختلفوا في شرط خامس هو النسب القرشي1.
__________
1 "المقدمة" ص152-155.(1/56)
سلطة الخليفة
...
سلطات الخليفة:
تمثل مبايعة ممثلي الأمة للخليفة بالخلافة عقدا اجتماعيا عقدته الأمة طواعية بينها وبين الخليفة، باعتباره رأس الدولة.. ومنفذ الشريعة.. فهي والعبارة للماوردي: "عقد مراضاة واختيار لا يدخله إكراه ولا إجبار"1.. والخليفة، بهذا العقد، يصبح "وكيلا للمسلمين"2، أي: وكيلا للأمة..
وموضوع هذه الوكالة هي السلطات والمهام التي تفوض الأمة أمر التصرف فيها والتدبير لها إلى الإمام، هو وجهاز الدولة الذي يقيمه، أو هو وجهاز الدولة مستعينا بالأمة على الإنجاز والتنفيذ.
والناظر في طبيعة الأمور التي تفوضها الأمة إلى الإمام، وتبايعه كي يختص بنظرها والقيام عليها وتنفيذها، والتي هي مجموع سلطاته، وفيها نطاق اختصاصه، الناظر في طبيعة هذه الأمور ومداها، يحكم بأن دولة الخلافة هي أقرب إلى ما نسميه في عصرنا بـ"الدولة الشمولية"، أي: التي لا يقف سلطانها عند حد الحكم بين الناس فيما يترافعون به إليها من المنازعات، وحفظ الأمن الداخلي، والدفاع عن البيضة والحوزة والاستقلال فقط، ثم ترك ما عدا ذلك لمبادرات الناس الذاتية وحريتهم الخاصة المطلقة، وإنما هي دولة تمتد بنشاطها ونفوذها وسلطانها إلى كل مجالات الحياة ذات الطابع العام المتصل بمجموع الناس وجماعتهم، فكرية كانت تلك المجالات أو اقتصادية أو اجتماعية، ولا تدع للفرد أن يحتكر لذاته وحريته الخاصة من المجالات إلا ما يختص بذاته, دون تأثير على المجموع, حال كونه قادرا على النهوض بما تختص به هذه الذات الفردية، فإذا عجزت عن الوفاء بحق عالمها الخاص امتدت يد الدولة لتدبر لها شئونها الذاتية الخاصة، وعدت عندئذ من المجالات العامة التي تشملها سلطة الدولة والإمام.
والحسن البصري "21-110هـ 642-728م" يقول: إن الإسلام قد أعطى إلى السلطان أربع مجالات، هي: "الحكم، والفيء، والجمعة، والجهاد" فهذه "أربعة من الإسلام إلى السلطان"3.. والحكم هو: القضاء.. والفيء وهي: المال والاقتصاد.. والجهاد هو: الجانب
__________
1 "الأحكام السلطانية" ص7.
2 "أبو يعلى "كتاب الإمامة" ص214.
3 ابن قتيبة "عيون الأخبار" مجلد1 ص2. طبعة دار الكتب المصرية.(1/57)
العسكري, وفي الجمعة يأتي دور الإمام في القيادة الدينية الروحية، كقدوة حسنة ترعى شعائر الإسلام وتنتصر لأخلاقيات الدين الحنيف.
ويفصل الماوردي هذه الأمور، فنجدها عنده سبعة، ويراها "لازمة" للسلطان، فيقول: "والذي يلزم سلطان الأمة من أمورها سبعة أشياء:
أحدها: حفظ الدين من تبديل فيه، والحث على العمل به من غير إهمال له.
والثاني: حراسة البيضة، والذب عن الأمة من عدو للدين أو باعي نفس أو مال.
والثالث: عمارة البلدان، باعتماد مصالحها، وتهذيب سبلها ومسالكها.
والرابع: تقدير ما يتولاه من الأموال بسنن الدين، من غير تحريف في أخذها وإعطائها.
والخامس: معاناة المظالم والأحكام، بالتسوية بين أهلها، واعتماد النصفة في فصلها.
والسادس: إقامة الحدود على مستحقها، من غير تجاوز فيها ولا تقصير عنها.
والسابع: اختيار خلفائه في الأمور، على أن يكونوا من أهل الكفاية فيها، والأمانة عليها"1.
أي: إقامة جهاز للدولة، يكتسب شرعيته من إقرار الإمام بهذه الشرعية.
ونحن نلحظ أن المهام المالية والاقتصادية للدولة، في تصور الماوردي
__________
1 "أدب الدنيا والدين" ص139.(1/58)
هذا، قد مثلت أمرين من الأمور السبعة -الثالث والرابع- حيث تقرر أن للدولة سلطانا في عمارة البلدان، أي: دورا في اقتصادها، حفظا، وتجديدا، وإنشاء.. كما أن عليها أن تقدر الحدود بين ما تتصرف فيه من الأموال وما تدع التصرف فيه للفرد وفق حريته الخاصة.
ولقد حدد المعتزلة الفواصل بين اختصاص الفرد واختصاص الدولة تحديدا دقيقا، بالقياس إلى عصرهم، وأبرزوا وجهة نظرهم في هذا الموضوع على نحو يستحق الإعجاب.. فعندهم:
أولا: أن واقع الإمام وغاياته يجب أن يحكمها مبدأ أساسي وعام هو: تحقيق ما يعود بالنفع، وما يندفع به الضرر.. أي: جلب المصالح، ودرء المفاسد..
ثانيا: أن سائر مجالات النفع العام، وميادين النشاط التي يتحقق عنها عائد على الجماعة هي من اختصاصات الدولة والإمام.. على سبيل الوجوب، لا الجواز.
ثالثا: أن جلب المنافع ودفع المضار في الأمور التي تخص الفرد، للفرد أن يسعى فيها وفي تحصيلها دون الدولة، على أن يكون اختصاصه بها مشروط بأن يكون ذلك السعي "بالوجوه المعقولة".. وهذا الاختصاص هو على سبيل الجواز لا الوجوب..
رابعا: أن على الدولة أن تتدخل، بدلا من الفرد، للنهوض بالأمور التي هي من اختصاصه كفرد، إذا عجز عن القيام بها، أو قام بها على نحو غير كامل.
خامسا: أن للدولة والإمام، فوق كل ذلك، حق التدخل والتداخل في "مواضع مخصوصة" وأوقات مخصوصة فيما للفرد خصوص السعي فيه.(1/59)
ونحن نجد هذا التحديد في عبارة القاضي عبد الجبار الذي يقول فيها: "إن الإمام مدفوع، فيما يتصل بأمر السياسة، إلى أمرين:
أحدهما: أمر الدين.
والآخر: أمر الدنيا.
وفي كل واحد منهما يلزمه النظر من وجهين:
أحدهما: ما يعود بالنفع.
والآخر ما يندفع به الضرر.
وإنما نصب لهذه الأمور التي ذكرناها، إذا كانت عائدة على الناس؛ لأن ما يخص كل واحد، من اجتلاب المنفعة ودفع المضرة، بالوجوه المعقولة، قد يجوز له السعي فيه، إلا في مواضع مخصوصة. وإنما يراد الإمام لما لم يجز للإنسان السعي فيه، ولمن لا يكمل التصرف في منافعه ومضاره، ولما يعود النفع والضرر فيه على الكافة دون الأعيان المخصوصة"1.
تلك هي الحدود العامة بين ما للفرد، خاصا به، وبين ما للإمام والدولة، على وجه الإجمال.. أما إذا نحن بحثنا عن الأمثلة التي تفصل ما للإمام والدولة من مهام وسلطات فإن بالاستطاعة أن نعدد، مثلا:
1- القيام على الأحكام اللازمة في المنازعات والاختلافات بين الرعية.. بما في ذلك من تنظيم للأشهاد، وتعديل للشهود.
2- إقامة الحدود وتنفيذ العقوبات.
3- تكوين جهاز الدولة.. فذلك أمر خاص بالإمام، ولا شرعية
__________
1 "المغني في أبواب التوحيد والعدل" جـ20 ق1 ص97.(1/60)
للولاة والأمراء والقضاة إذا ولاهم أمورهم إمام مغتصب متغلب، وهؤلاء الولاة والحكام -جهاز الدولة- الذين يوليهم الإمام، لهم نفس شرعيته وسلطاته، فمن كان منهم صاحب ولاية مطلقة كانت له سلطة الإمام المطلقة في ولايته، ومن كان صاحب ولاية خاصة فله فيها سلطات الإمام كذلك، ولهم على الرعية الطاعة في الأحكام1.
وجهاز الدولة، هذا الذي ينشئه الإمام، ينقسم إلى أربعة أقسام:
القسم الأول: أولئك الولاة الذين تكون ولاياتهم عامة في الأعمال العامة، كالوزراء.
والقسم الثاني: الولاة الذين تكون ولايتهم عامة في أعمال خاصة، كحكام الأقاليم.
والقسم الثالث: الولاة الذين تكون ولاياتهم خاصة في الأعمال العامة، كقاضي القضاة -"وزير العدل"- والقائد العام للجيش.
والقسم الرابع: الولاة الذين تكون ولاياتهم خاصة في الأعمال الخاصة، وهم الذين يتولون الوظائف المحلية، كقاضي الإقليم، وجامع الضرائب فيه2.
4- تولية القضاة، ورعاية أعمالهم3.
ومع أن القضاة يتولون مناصبهم من قبل الإمام، وتتوقف شرعية أحكامهم وقوتها على هذه التولية منه، فإن لهم من الاستقلال، والسلطان ما
__________
1 المصدر السابق. جـ20 ق2 ص161، 152-157، 162، 164. و"أدب القاضي" جـ1 ص139.
2 "الأحكام السلطانية" للماوردي ص21. و"الأحكام السلطانية" لأبي يعلى. ص12.
3 "أدب القاضي" جـ1 ص137.(1/61)
يضمن لمنصبهم وأحكامهم أداء ما نيط بهم من مهام العدل بين الناس.. فالقاضي بعد توليه القضاء، يصبح نائبا عن الأمة مستنابا في حقوقها، لا نائبا ووكيلا عن الإمام، ومن ثم فإنه لا ينعزل بعزل الإمام ولا بموته، بل إن لجهاز القضاء ثباتا مستمدا من استمرار الأمة وسلطتها1.
5- مدخل الإمام في الشئون المالية والحياة الاقتصادية.
وفي هذا الميدان يتجلى الطابع "الشمولي" لدولة الخلافة، ويبرز موقفها الذي حاولت به الموازنة بين حقوق الفرد وحرياته وحقوق المجتمع وحرية الدولة والإمام.. والقاضي عبد الجبار يلخص المذهب في هذه القضية فيقول: "إن للإمام مدخلا في مال أهل التمييز والعقل؛ لأنه -أي: الإمام- قد نصب لتدبير خاص وعام في النفوس والأموال وما يتبعهما2..". وهم يميزون بين نوعين من الأموال:
1- الأموال الظاهرة..
2- والأموال الباطنة..
كما يميزون بين نوعين من التصرف:
1- تصرف التدبير..
2- وتصرف الملكية..
فالأموال الظاهرة.. وهي التي تأتي إلى بيت المال، ثم يخرج منه إلى صارفها.. اتفقوا على أن للإمام كإمام فيها مدخلا كبيرا وحقوقا واسعة.. فملكيتها له، أي: للأمة، وتدبيرها حق من حقوقه.
__________
1 المصدر السابق. جـ2 ص142، 399.
2 المغني في أبواب التوحيد والعدل جـ20 ق2 ص158، 157.(1/62)
أما الأموال الباطنة.. وهي القائمة في حوزة الأفراد.. فإن تدبيرها وتشغيلها حق للأفراد، دون الدولة، بشرط القدرة والتمييز، والرشد في التدبير والتشغيل.. فإذا تخلفت هذه الشروط، أو بعضها، كان للإمام مدخل في تدبيرها وتشغيلها بدلا من حائزيها.. أما في ملكية هذه الأموال، فلقد قال البعض: إنها ملك للأفراد، بينما أضاف البعض ملكيتها للإمام، أي: للدولة1.
فإذا أضفنا إلى ذلك ما سبق وقرروه من تفويض الأمة لإمامها، بموجب عقد الإمامة، النهوض بعمارة البلدان، صيانة وتجديدا وإنشاء، وذلك باعتماد مصالحها، وتهذيب سبلها ومسالكها، علمنا مقدار ما للإمام كإمام، من حقوق في الأموال والاقتصاد.
ولا يختلف الشيعة عن أهل السنة في التأكيد على الدور الأساسي للإمام -الدولة- في الاقتصاد والأموال، بل ربما كانت لهم نصوص وصياغات فكرية أكثر حسما وأشد وضوحا في هذا الباب.. فهم يعتبرون أن "الملكية" في كل شيء إنما هي للإمام، وإن كان للناس حق "المنفعة" في مقادير مما بأيديهم.. ويروون عن بعض رجالاتهم قوله: "إن الدنيا كلها للإمام، على جهة الملك، وأنه أولى بها من الذين هي في أيديهم! ".. وفي الأحاديث النبوية التي رووها عن أئمتهم ننقرأ قول الرسول عليه الصلاة والسلام: "خلق الله آدم وأقطعه الدنيا قطيعة، فما كان لآدم فلرسول الله، وما كان لرسول الله فهو للأئمة من آل محمد".. كما يروون عن جعفر الصادق قوله: "أن جبريل كرى -أي: استحدث- خمسة أنهار: الفرات، ودجلة، ونيل مصر، ومهران، ونهر بلخ، فما سقت أو سقي منها فلإمام. والبحر
__________
1 المصدر السابق جـ20 ق2 ص157-159.(1/63)
المطيف بالدنيا للإمام! ". والأرض كلها لنا، فما أخرج الله منها من شيء، فهو لنا.. وكل ما في أيدي شيعتنا من الأرض فهم فيه محللون حتى يقوم قائمنا فيجيبهم طسق -الوظيفة من الخراج- ما كان في أيديهم، وأما ما كان في أيدي غيرهم فإن كسبهم من الأرض حرام عليهم حتى يقوم قائمنا فيأخذ الأرض من أيديهم ويخرجهم صفرة! " أي: يخرجهم جوعى مرة واحدة.. كما يروون عن أبي جعفر محمد بن علي زين العابدين قوله: "إن الأرض كلها لنا، فمن أحيا أرضا من المسلمين فليعمرها، وليؤد خراجها إلى الإمام من أهل بيتي، وله ما أكل منها.. حتى يظهر القائم من أهل بيتي بالسيف فيحويها ويمنعها، ويخرجهم منها.. إلا ما كان في أيدي شيعتنا فإنه يقاطعهم على ما في أيديهم ويترك الأرض في أيديهم! "1.
فكل ما في الدنيا، على مذهب الشيعة، هو للإمام، أي: للدولة.. وله فيها أوسع السلطان وكامل السلطات.
وهناك مهام يختص الإمام بتدبيرها، لكن ليس وحده، ولا بجهاز الدولة فقط، وإنما بواسطة الأمة ككل، وهي تلك التي تعم الأمة، ولا يتيسر انجازها بجهاز الدولة وحدة، مثل: الجهاد ضد الأعداء وصد الغزاة والدفاع عن البلاد وأهلها2.
وبالرغم من هذا الطابع شبه الشمولي الذي تميزت به دولة الخلافة، بما أعطت لرأس الدولة من حق التدخل والمداخلة في الكثير من الأمور، إلا أن هذه الدولة لم تغفل ما نسميه في أدبنا الدستوري الحديث بالفصل بين
__________
1 "الأصول من الكافي" جـ1 ص407-410.
2 المصدر السابق جـ20 ق2 ص163.(1/64)
السلطات، أو على الأقل التمييز بينها.
فالقضاة.. على الرغم من أنهم معينون بقرار الإمام، إلا أنهم، بعد التعيين، يصبحون نوابا عن الأمة، لا عن الإمام، ولا ينعزلون بعزله أو موته، كما هو حال الولاة والعمال.. وليس له أن يعزلهم ما داموا قائمين قادرين على العدل في الأحكام..
وجهاز التشريع ليس هو جهاز التنفيذ.. والإمام ليس مشرعا، وعلى الرغم من أنه مجتهد، إلا أنه لا يعدو كونه واحدا من المجتهدين.. وهو منفذ للشريعة والقانون في الجوهر والأساس.. وكما يقول المستشرق الفرد جيوم "Guillaume" فإن الإمام "لا يملك أية مقدرة على تحوير القانون، بل هو مضطر إلى تطبيقه بحذافيره1".. فهو منفذ، والإمامة في الحقيقة، هي رئاسة السلطة التنفيذية.. وفي هذا المقام تأتي كلمة عمر بن عبد العزيز "61-101هـ 681-720م": "لست بقاض، ولكني منفذ"2.. وتأتي صياغة القاضي عبد الجبار المحددة للطابع التنفيذي لسلطات الإمام.. يقول: "اعلم أن الإمام إنما يحتاج إليه لتنفيذ هذه الأحكام الشرعية، نحو إقامة الحد، وحفظ البلد، وسد الثغور، وتجييش الجيوش، والغزو، وتعديل الشهود، وما يجري هذا المجرى"3..
تلك هي اختصاصات الإمام، وحدود التفويض الممنوح له من الأمة بموجب "العقد الاجتماعي"، عقد الإمامة.. فالفرد نطاق وحرية
__________
1 "القانون والمجتمع" ص426 ترجمة جرجيس فتح الله. طبعة بيروت. ضمن مجموعة أبحاث عنوانها "تراث الإسلام" - سنة 1972م.
2 "طبقات ابن سعد" جـ5 ص271.
3 "شرح الأصول الخمسة" ص750.(1/65)
وتدبير.. وللإمام نطاق وحرية وتدبير.. وهناك محاولة لإيجاد توازن بين الطرفين.. ولكن كقمة الميزان في هذه المحاولة تميل لصالح الإمام، والطابع الشمولي لدولة الخلافة أمر لا تخطئه أعين الباحثين.
لكن.. تبقى الأمة مع ذلك هي الطرف الأول والأقوى في هذا التعاقد؛ لأن صلاحيات الإمام هذه مرهونة بالتزامه القيام على مهامه بالعدل والإنصاف.. فإن ضعف، أو فسق، أو جار، كان للأمة، بل وجب عليها، أن تنزع منه السلطة والسلطان، إن سلما وإن قتالا، كما قررت أغلب تيارات الفكر السياسي في الإسلام. "انظر: الثورة".(1/66)
طبيعة السلطة:
الإمام على مذهب الشيعة يحكم "بالحق الإلهي" لأن الله هو الذي اختاره، ونص عليه وأوصى بإمامته، وهو الذي عصمه من الخطأ، وجعله حجة الدين، بل وقيما على القرآن!.. وما دامت هذه هي صلته بالسماء، وما دامت الأمة قد جردت من أي حقوق لها في الإمامة، فنحن أمام حاكم يحكم "بالحق الإلهي"، بالمعنى الدقيق لهذا المصطلح الذي عرفه الفكر السياسي لكثير من الأمم والحضارات.
ولن يغير من الأمر شيئا اختلاف النشأة لنظرية الحكم بالحق الإلهي عند الشيعة عنها في الفكر الأوروبي، قبل المسيحية وبعدها، وفي الفكر الفارسي على عهد الأكاسرة الساسانيين. فهي قد نشأت عند الشيعة رفضا لسلطة البشر الظالمة، وحلما بسلطة عادلة تختارها السماء وتعينها، كي تملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا، على حين كانت نشأتها في المجتمعات والحضارات الأخرى تقنينا وتبريرا لسلطة البشر الظالمة، وإبعادا لسلطان الأمة عن أن يناقش سلطات القياصرة والأكاسرة المستبدين.. فظروف(1/66)
النشأة مختلفة، والغايات التي استهدفت مختلفة كذلك، ولكن الصياغة النظرية، والتطبيقات التي حدثت بعد ذلك في الدول الشيعية، أكدت وحدة النظرية، لوحدة الطبيعة الدينية فيها..
ولقد أسس الشيعة مذهبهم هذا في الطبيعة الدينية لسلطة الإمام على أدلة كثيرة، عقلية وسمعية، نكتفي هنا بالإشارة إلى أبرزها، كنماذج وأمثلة:
1- الإمامة: امتداد للنبوة
قاس الشيعة "الإمامة" على "النبوة"، و"الإمام" على "النبي"، بل وجعلوا الإمامة ولاية عامة، أي: ممتدة، على حين أن النبوة ولاية خاصة، لانقضاء عصرها.. وهم قد ساووا بينهما من حيث الطبيعة.. فالمسلمون اتفقوا على أن النبوة طبيعتها دينية، فمهمة النبي في الأساس والجوهر مهمة دينية، وهو إذا تولى ولايات دنيوية فبالتبعية وعرضا؛ ولأنها مما يلزم لإنجاز مهمته الدينية.. ولقد قال الشيعة بذلك أيضا في طبيعة الإمامة ومهام الإمام، فهم لم ينكروا أن في وجود الرؤساء -"الأئمة"- مصالح دنيوية.. ولكنهم قالوا إن وجوب الرئاسة ليس لهذه المصالح الدنيوية، بل للمصالح الدينية التي هي الأساس والأهم في تنصيب الإمام1.. وإذا كان الرسول هو المبلغ للشريعة، فإن الإمام هو الحافظ لها، والحجة فيها، بل هو حجة الله على أهل عصره، وذلك كان إنكاره والعيب عليه بمثابة الإنكار والعيب على الرسول، الذي هو إنكار وعيب على الله سبحانه!.. وهم ينسبون إلى الإمام جعفر الصادق قوله: إن علي بن أبي طالب قد "جرى له
__________
1 "تلخيص الشافي" جـ1 ق1 ص70.(1/67)
من الفضل ما جرى لرسول الله.. والمعيب عليه في شيء من أحكامه كالمعيب على الله ورسوله، والراد عليه في صغيرة أو كبيرة على حد الشرك بالله.. فهو باب الله الذي لا يؤتى إلا منه، وسبيله الذي من سلك بغيره هلك، وبذلك جرت الأئمة واحدا بعد واحد، جعلهم الله أركان الأرض أن تميد بهم، والحجة البالغة على من فوق الأرض ومن تحت الثرى! "1.
وقالوا أيضا: "إن دفع الإمامة كفر، كما أن دفع النبوة كفر؛ لأن الجهل بهما على حد واحد؛ لأن منطلق الإمامة هو منطلق النبوة، والهدف الذي لأجله وجبت النبوة هو نفس الهدف الذي من أجله تجب الإمامة، وكما أن النبوة لطف من الله، كذلك الإمامة، واللحظة التي انبثقت بها النبوة هي نفسها اللحظة التي انبثقت بها الإمامة.. واستمرت الدعوة ذات لسانين: النبوة والإمامة، في خط واحد، وامتازت الإمامة على النبوة أنها استمرت بأداء الرسالة بعد انتهاء دور النبوة. أن النبوة لطف خاص، والإمامة لطف عام! "2.
هكذا برزت وتبرز الطبيعة الدينية للإمامة عندما تصبح هي والنبوة سواء.
2- والإمامة: من أركان الدين
وتبعا لذلك قالت الشيعة: إن الإمامة ركن من أركان الدين، بل لقد جعلوها أحيانا من أهم أركانه.. وقولهم هذا متسق مع قياسها على النبوة وربطها بها، فالنبوة دين، بل من أركانه، فإذا كانت الإمامة امتدادا لها فهي
__________
1 "الأصول من الكافي" جـ1 ص197.
2 "تلخيص الشافي" جـ4 ص131، 132. وانظر كذلك "مجموع من كلام السيد المرتضى" اللوحة 63. مخطوط بدار الكتب المصرية "المكتبة التيمورية".(1/68)
كذلك.. ولقد روى الشيعة عن إمامهم أبي جعفر محمد بن علي زين العابدين قوله: "إن الله فرض على العباد خمسا: الصلاة.. والزكاة.. والصوم.. والحج.. والولاية -الإمامة1".. وقالوا: "إن الإيمان لا يتم إلا بالاعتقاد بالإمامة"2.. بل لقد جعلوها أدخل في أصول الدين وأوكد في أركانه من معرفة الله، ومن عدله، ومن نبوة أنبيائه، وذلك عندما جعلوا "قواعد الإيمان -بما فيه الإسلام- خمسة:
1- المعرفة: بما فيها الصفات الإلهية، الثبوتية والسلبية.
2- والتصديق: بالعدل والحكمة.
3- والتصديق، بنبوة محمد، وجميع ما جاء به.
4- والتصديق: بإمامة الأئمة الاثنى عشر، وما جاءوا به.
5- والتصديق بالمعاد الجسماني.
ثم جعلوا "الثلاثة الأولى خاصة بالإسلام، والأخيرين -والإمامة أحدهما- من امتياز الإيمان"3.
فنحن أمام تصور للإمامة، طبيعة السلطة فيها دينية خالصة، الأمر الذي يسلكها في عماد نظريات الحكم "بالحق الإلهي"، ويجعلها تلتقي مع أشباهها ونظائرها في الحضارات الأخرى، حتى وإن اختلفت معها في ملابسات الظهور وأسبابه ودوافعه.
__________
1 "الأصول من الكافي" جـ1 ص290.
2 "عقائد الإمامية" ص65.
3 "تلخيص الشافي" جـ1 ق1 ص96 "هامش"، وكذلك ص59، 60. وانظر كذلك: أبو حنيفة النعمان، المغربي "دعائم الإسلام" جـ1 ص2، 13 تحقيق آصف بن علي أصغر فيضي، طبعة القاهرة سنة 1969م.(1/69)
ولقد انفردت الشيعة بهذا القول في طبيعة السلطة، إذ خالفتها فيه سائر فرق الإسلام، وذلك عندما قالوا: إن
1- الإمامة: تقاس على الحكم والإدارة
وليس على النبوة.. ذلك أن علة الرسول غير قائمة في الإمام، ومن ثم فلا يصح قياس الإمام على الرسول.. فطبيعة عمل الإمام هي طبيعة عمل الحاكم والأمير.. فالأمر الذي يفرق بين علة الرسول وبين علة الإمام نابع من اختلاف طبيعة عمل كل من الرسول والإمام.. فالرسول حجة؛ لأنه حجة فيما يؤديه عن السماء، أما الإمام فهو منفذ في الأحكام والأمور المعروفة، فلذلك افترقت طبيعة مهمة كل منهما؛ لأن تجويز الخطأ على الرسول ينقض كونه حجة، بينما تجويز الخطأ على الأمم لا ينقض كونه منفذا، كما هو الحال في الأمير والحاكم.. والرسول قد حمله الله الرسالة بعينه وذاته، وهو يدعي الرسالة، ويصدقه الله بالمعجز يظهره على يديه عند دعواه الرسالة، وليس كذلك حال الإمام1.
وإذا كان الإمام منفذا للشريعة والأحكام، وإذا كانت حجة الشريعة هي القرآن، ومصدرها قائم مروي وموثوق فيه، فلا مجال لقول من يقول إن الإمامة هي امتداد للنبوة، تشاركها طبيعتها الدينية..
وفي رد المعتزلة على قول الشيعة بالطبيعة الدينية لسلطة الإمام، قالوا: إن سلطته مدنية؛ لأن المهام التي فوضت الأمة له التصرف فيها هي مهام مدنية، فهي مختلفة في الطبيعة عن مهام النبي والنبوة. فالإمام منفذ للأحكام، وقائم بأمر الحدود "وإقامة الحدود صلاح في الدنيا، لا في
__________
1 "المغني في أبواب التوحيد والعدل" جـ20 ق1 ص298، 299، 101.(1/70)
الدين.. إن إيقاع الحد بالمحدود هو من مصالحه في الدنيا؛ لأنه يردعه عن الإقدام على فعل أمثاله، فتزول عنه بهذا الحدود الكثيرة المعجلة1.
فتنفيذ الأحكام وإقامة الحدود، هو من أمور الدنيا وصلاحها -وإن كان للإمام ثوب ديني إذا أخلص في عمله فيها- ومن ثم فإن طبيعة هذا العمل الدنيوية تحدد طبيعة السلطة القائمة به، وهي الإمامة، فتجعلها دنيوية مدنية كذلك.. فمثل الإمامة كمثل كل أمور الدنيا، غايتها جلب النفع الدنيوي، ودفع المضرة الدنيوية، ولا علاقة لها بأمر الآخرة، ولذلك كانت منصبا دنيويا؛ لأن مهامها دنيوية كذلك.
ولقد عززوا رأيهم في مدنية منصب الإمامة، لمدنية مهامها، بمقارنتهم لها بالرسالة التي هي دينية؛ لأن مهامها دينية كذلك. فطبيعة المنصب مرتبطة، بل نابعة من طبيعة مهمته.. فقرروا أن الرسالة هي في الأساس لمصالح الدين، وأن ما فيها من مصالح الدنيا إنما هو بالتبع والعرض. فالله قد أرسل رسوله "للدين، لا لمصالح الدنيا، وإنما بين من مصالح الدنيا ما له تعلق بالدين2..".. فمهام الدنيا، الكثيرة والمتعددة، لم تكن لازمة لصاحب الرسالة، من مثل رعاية أمور الناس الدنيوية، وتربية صغارهم، واجتلاب منافعهم ودفع مضارهم الدنيوية.. إلخ.. إلخ.. وإنما كانت بعثته، وبعثة كل الأنبياء "للدعاء إلى معرفة الله ومعرفة توحيده وعدله أولا، ثم بينوا الشرائع بحسب المصالح"3.
__________
1 المصدر السابق. جـ5 ص253.
2 المصدر السابق. جـ20 ق1 ص318.
3 القاضي عبد الجبار "فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة" ص180 تحقيق فؤاد سيد. طبعة تونس سنة 1972م.(1/71)
فمهام المنصب مدنية، كما أن مهام الأمراء والحكام مدنية، ولذلك فإن طبيعة سلطته مدنية كذلك، وعلى الإمارة والحكم يقاس، وليس على النبوة كما ذهبت الشيعة.
2- والإمامة: ليست من أصول الدين
ومن باب أولى فهي ليست أعظم أركان الدين -كما قالت الشيعة- وأنه إذا كانت العادة قد جرت على تناولها بالبحث في نهاية كتب علم الأصول وقبل أبواب علم الفروع، فإن ذلك لا يعدو المجاراة للشيعة الذين وضعوا مبحثها في مباحث الأصول.. فهم قد وضعوها في هذا الموضع، ولو كانوا هم رواد التأليف فيها، وكتابات غيرهم عنها قد بدأت ردودا عليهم، فلقد اعتادوا وضع مبحثها حيث وضعه الشيعة.. فهي مجرد عادة، لمجاراة وضع معتاد، وليس فيه ما يعني أنها من أصول الدين.
والشيعة قد قالوا إن العقل حاكم بأن الإمامة من أصول الدين، أي: إنها من الأمور الأصول، التي يتعبد الله بها البشر.. وأنكر المعتزلة ذلك.. فقال القاضي عبد الجبار بن أحمد: إن ذلك زعم لا يصح، وادعاء ذلك من جهة العقل لا يستقيم، إذا كان من الجائز أن لا يتعبدنا الله بالإمامة أصلا، أو يتعبدنا بها على وجه خاص، فادعاء ذلك فيها، من جهة العقل -كما تقول الشيعة- ممتنع1..
ومع المعتزلة، في رفض أن تكون الإمامة من أصول الدين، وقف أهل السنة جميعا:
فالشهرستاني "479-548هـ 1087-1153م" يقول: "إن
__________
1 "المغني في أبواب التوحيد والعدل" جـ20 ق1 ص111.(1/72)
الإمامة ليست من أصول الاعتقاد، بحيث يفضي النظر فيها إلى قطع ويقين بالتعيين"1.
وعضد الدين الإيجي "756هـ 1355م" والجرجاني "740-716هـ 1340-1413م" يقولان: "إن الإمامة ليست من أصول الديانات والعقائد.. بل هي من الفروع المتعلقة بأفعال المكلفين.. وإنما ذكرناها في علم الكلام تأسيا بمن قبلنا، إذ قد جرت العادة من المتكلمين بذكرها في أواخر كتبهم"2.
والجويني "419-478هـ 1028-1085م" يقول: إن الكلام في الإمامة "ليس من أصول الاعتقاد"3..
والغزالي "450-505هـ 1085-1111م" يقول: إن "النظر في الإمامة ليس من المهمات، وليس أيضا من فن المعقولات فيها، بل من الفقهيات.. ولكن إذ جرى الرسم باختتام المعتقدات به أردنا أن نسلك المنهج المعتاد، فإن القلوب عن المنهج المخالف للمألوف شديدة النفار"4..
ويذهب ابن خلدون "732-808هـ 1332-1406م" نفس المذهب فيقول ردا على الشيعة قولهم إنها من أصول الدين: " ... وشبهة الإمامية في ذلك إنما هي كون الإمامة من أركان الدين.. وليس كذلك، وإنما هي من المصالح العامة المفوضة إلى نظر الخلق، ولو كانت من أركان
__________
1 "نهاية الإقدام في علم الكلام" ص478.
2 "شرح المواقف" مجلد 3 ص261. طبعة القاهرة سنة 1311هـ.
3 "كتاب الإرشاد" ص410.
4 "الاقتصاد في الاعتقاد" ص134.(1/73)
الدين لكان شأنها شأن الصلاة، ولكان يستخلف فيها كما استخلف أبا بكر في الصلاة، ولكان يشتهر كما اشتهر أمر الصلاة"1.
وابن تيمية "661-728هـ 1263-1328م" يرد على دعوى الشيعة أن الإمامة من أركان الدين، فيورد الحديث النبوي الذي يقول: "إن الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت. والإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره. والإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك" 2.
يورد ابن تيمية هذا الحديث، وينبه إلى أن "الإمامة" لم تذكر في أركان "الإيمان" ولا "الإسلام" ولا "الإحسان". وهذا الحديث كما يقول: "متفق على صحته، متلقى بالقبول، أجمع أهل العلم بالنقل على صحته".
ثم يمضي في الاحتجاج على أن الإمامة ليست من أركان الدين، بأننا حتى ولم نحتج بالحديث، وأسقطناه من عداد أدلتنا، فإن القرآن يشهد لنا؛ لأنه يتحدث عن المؤمنين فيقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} 3.. فلم يذكر القرآن "الإمامة" في تعداده لصفات المؤمنين.. ثم التزم ذلك الموقف في تعداد صفات المؤمنين وأركان الإيمان والإسلام دائما وأبدا4.
__________
1 "المقدمة" ص168.
2 رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حنبل.
3 الأنفال: 2-4.
4 "منهاج السنة النبوية جـ1 ص70-72. تحقيق د. محمد رشاد سالم طبعة القاهرة سنة 1962م.(1/74)
هكذا أجمع أهل السنة على أن "الإمامة" ليست أصلا من أصول الدين ولا ركنا من أركانه، كما أجمعوا على أنها، كسلطة، تقاس على الحكم والإمارة، لا على النبوة. ومن ثم كان نفيهم، صراحة أو ضمنا، للطبيعة الدينية لسلطة الخليفة وسلطان الإمام.
وفي إيجاز:
نستطيع أن نقول: إن فرق الإسلام قد انقسمت، في نظرية الخلافة، إلى معسكرين رئيسيين، وأن القضية المحورية التي انقسموا بسببها هي الموقف من طبيعة السلطة.. هي دينية؟ أم مدنية؟.. أي: وهل الخلافة والإمامة من أركان الدين؟ والسماء هي التي تختار الإمام وتعينه؟ وهل هو وكيل الله، يحكم نيابة عنه، وينطق بقانونه؟. أم أن الإمامة من الفروع، وليس من الأصول، ولذلك فهي ليست من أركان الدين؟ والإمام يستند إلى جماعة المسلمين، الذين يختارونه وينصبونه ويحاسبونه ويعزلونه؟ فهو حاكم باسم الأمة ويقضي بشريعتها، وتفوضه فيما هو من مصالح دنياها؟.
فحول الإجابة عن هذه الأسئلة كان الاختلاف والانقسام، فنشأ التياران الرئيسيان في فكر الإسلام:
1- الشيعة: الذين قالوا بالوصية والتعيين من الله للإمام، وبأن لا حق للأمة في تقرير مصير الحكم في مجتمعها؛ لأن الإمامة تقاس على النبوة، وهي امتداد لها، وطبيعتها دينية كالنبوة، ومهامها واحدة، وغاياتهما متحدة.. فالحكم في دولة الإمامة هو "بالحق الإلهي"، والدولة هنا دولة دينية.
وترتيبا على هذا الموقف المحوري قالت الشيعة بعصمة الأئمة، قياسا(1/75)
على عصمة الأنبياء والمرسلين.. وبالعلم اللامحدود للإمام.. وباتصال نبأ السماء وخبرها بالإمام، بواسطة "روح القدس" على نحو يضمن له ما ضمن الوحي للأنبياء!.
تلك هي الفكرة المحورية في نظرية الإمامة عند الشيعة.
2- ومن عدا الشيعة من فرق الإسلام: "معتزلة، وخوارج، وأهل سنة".. وهم جميعا، رغم الاختلاف في التفاصيل، قد اجتمعوا على رفض الفكرة المحورية لعقائد الشيعة في الإمامة، وتناولوا هذه الفكرة بالبحث المستفيض، الأمر الذي بلور فكرهم المضاد في الخلافة والإمامة، حيث تبلورت نظريتهم المتميزة عن نظرية الشيعة. ومن أبرز معالمها وقسماتها:
أ- أن دولة الخلافة الراشدة كانت نظاما سياسيا أسهم المسلمون بإرادتهم البشرية في بنائه، ومن ثم فإن الطابع السياسي وليس الديني، هو الذي يطبع بناءها.. فمصطلحات مبحث الإمامة، وشئون التشريع السياسي، والصراع على السلطة، كانت مباحث وقضايا سياسية، واجتهادات إنسانية، تمت في إطار وصية الدين العامة بالعدل وأداء الأمانات إلى أهلها. ومن ثم فلا يصح لمسلم أن يتخذ منها سبيلا للقول بكفر خصمه؛ لأن الخلاف والاتفاق في هذه الأمور هو في إطار "الخطأ والصواب"، لا "الكفر والإيمان"، وهو قد تم وحدث بين أبناء الدين الواحد والملة الواحدة والقبلة والواحدة.
ب- إن الطبيعة المدنية والاجتماعية لأي مجتمع يتكون من أية جماعة بشرية تتطلب قيام سلطة تفوضها هذه الجماعة القيام بعدد من المهام التي تتنازل عنها هذه الجماعة لهذه السلطة بمقتضى عقد الرضا والتفويض.. ومن هنا فإن الإمام قائم لمصلحة الدنيا وانتظام أمرها، على حين أن الدين قد قام بالنبوة، التي اختتم طورها محمد -صلى الله عليه وسلم- ولا زال قائما بالكتاب والسنة(1/76)
المتواترة، والإجماع المستند إليهما، وجماعة المسلمين، التي تختار الإمام بواسطة ممثليها، هي سند هذا الإمام وقاعدة قوته وشوكته وسلطته، ولها مراقبته، وحسابه، والأخذ على يده، وكذلك خلعه إذا أخل بشروط عقد التفويض، إن سلما وإن بالثورة والقتال حسب ما تقتضيه مصلحة الناس.. فالثقة في الأمة، والعصمة لها وحدها!..
جـ- إن الطبيعة المدنية والسياسية للمهام التي ينصب الإمام لإنجازها هي التي تحدد صفاته والشروط التي يجب أن تتوافر فيه.. فهو حاكم أعلى في الدولة، تشترط فيه شروط الحاكم التي تضمن له التمكن من تنفيذ الشريعة والقانون، وليس صاحب سلطان ديني تتطلب فيه العصمة والاتصال بنبأ السماء. بل إن التقدم في السياسة والحرب ورباطة الجأش مقدم في صفات الإمام على الصلاح والتقوى والفقه في الدين وزيادة النسك وكثرة العبادات؛ لأن طبيعة المهام الموكولة إليه هي التي تحدد الشروط المطلوبة فيه والصفات التي لا بد وأن يتصف بها.
هكذا ... وعلى هذا النحو كان محور الخلاف بين الشيعة والسنة في نظرية الخلافة والإمامة.. لقد اتفقوا في قضايا عديدة.. ثم كان محور خلافهم واختلافهم هو طبيعة السلطة في دولة الخلافة: أدينية هي؟ فالحكم فيها "بالحق الإلهي"؟.. أم مدنية؟ فالاختيار والبيعة طريقها، والخليفة فيها وكيل الأمة، أو بمثابة وكيلها، ومن ثم فإن الأمة هي مصدر السلطات؟.(1/77)
المصادر:
ابن أبي الحديد: "شرح نهج البلاغة" تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم. طبعة القاهرة سنة 1959.
ابن تيمية: "منهاج السنة النبوية" تحقيق: د. محمد رشاد سالم. طبعة القاهرة سنة 1962م.
ابن حزم: "الفصل في الملل والأهواء والنحل" طبعة القاهرة سنة 1321هـ.
"الإحكام في أصول الأحكام" طبعة القاهرة الثانية, مطبعة الإمام.
ابن حنبل: "المسند" طبعة القاهرة سنة 1313هـ.
ابن خلدون: "المقدمة" طبعة القاهرة سنة 1322هـ.
ابن سعد: "الطبقات" طبعة دار التحرير - القاهرة.
ابن قتيبة "الإمامة والسياسة" طبعة القاهرة سنة 1331هـ.
"عيون الأخبار" طبعة دار الكتب. القاهرة.
ابن ماجه: "السنن" تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي. طبعة القاهرة سنة 1972م.
ابن النديم: "الفهرست" طبعة ليبزج.
أبو حنيفة النعمان "المغربي": "دعائم الإسلام" تحقيق: آصف بن علي أصغر(1/78)
فيضي. طبعة القاهرة سنة 1969م.
أبو داود: "السنن" طبعة القاهرة سنة 1952م.
أبو يعلى الفراء: "الأحكام السلطانية" تحقيق: محمد حامد الطبعة الثانية القاهرة سنة 1938م.
"كتاب الإمامة" ضمن مجموعة "الفكر السياسي الإسلامي"..
نشرها د. يوسف أيبش. طبعة بيروت سنة 1966م.
أرنولد: "الخلافة" ترجمة: جميل معلى. طبعة دمشق سنة 1946م.
الأشعري "أبو الحسن": "مقالات الإسلاميين" طبعة القاهرة سنة 1969م.
البخاري "الإمام": "صحيح البخاري" طبعة دار الشعب - القاهرة.
بروكلمان: "تاريخ الشعوب الإسلامية" ترجمة: نبيه أمين فارس، ومنير البعلبكي. طبعة بيروت سنة 1968.
البغدادي: "أصول الدين" طبعة استانبول سنة 1928م.
البيضاوي: "تفسير البيضاوي" طبعة القاهرة سنة 1927م.
الترمذي: "السنن" تحقيق: أحمد محمد شاكر. طبعة القاهرة سنة 1931م.
التفتازاني: "شرح العقائد النسفية" طبعة القاهرة سنة 1913م.
الجاحظ: "التاج" تحقيق: محمد ديب. طبعة بيروت سنة 1955م.
"رسائل الجاحظ" تحقيق: عبد السلام هارون. طبعة القاهرة سنة 1964م.
الجرجاني "السيد": "شرح المواقف" طبعة القاهرة سنة 1311هـ.
الجويني: "كتاب الإرشاد" تحقيق: د. محمد يوسف موسى، وعلي عبد المنعم عبد الحميد. طبعة القاهرة سنة 1950م.
جيوم "الفرد": "القانون والمجتمع" ضمن مجموعة "تراث الإسلام" ترجمة: جرجيس فتح الله. طبعة بيروت سنة 1972م.
الدارمي: "السنن" طبعة القاهرة سنة 1966م.(1/79)
ديورانت: "قصة الحضارة" طبعة القاهرة.
الرازي "الفخر": "محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين" طبعة القاهرة سنة 1323هـ.
الريس "د. محمد ضياء الدين": "الخراج والنظم المالية للدولة الإسلامية" طبعة القاهرة سنة 1961م.
الشهرستاني: "نهاية الإقدام في علم الكلام" تحقيق الفرد جيوم. طبعة بدون تاريخ.
"الملل والنحل" طبعة القاهرة سنة 1321هـ.
الطبري: "تاريخ الطبري" تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، طبعة دار المعارف - القاهرة.
الطهطاوي "رفاعة رافع": "الأعمال الكاملة" دراسة وتحقيق: دكتور محمد عمارة. طبعة بيروت سنة 1974م.
الطوسي "أبو جعفر": "تلخيص الشافي" تحقيق: السيد حسين بحر العلوم. طبعة النجف سنة 1383، سنة 1384هـ.
الطوسي "نصير الدين": "ملخص محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين" طبعة القاهرة سنة 1323هـ.
عبد الجبار بن أحمد "قاضي القضاة": "المغني في أبواب التوحيد والعدل" طبعة القاهرة.
"شرح الأصول الخمسة" تحقيق: د. عبد الكريم عثمان. طبعة القاهرة سنة 1965م.
"فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة" تحقيق: فؤاد سيد. طبعة تونس سنة 1972م.
علي بن أبي طالب "الإمام": "نهج البلاغة طبعة دار الشعب - القاهرة".(1/80)
الغزالي "أبو حامد: "الاقتصاد في الاعتقاد" طبعة صبيح - القاهرة - بدون تاريخ.
"فضائح الباطنية" تحقيق: د. عبد الرحمن بدوي. طبعة القاهرة سنة 1964م.
الكليني: "الأصول من الكافي" طبعة طهران سنة 1388هـ.
الماوردي: "الأحكام السلطانية" طبعة القاهرة سنة 1960.
"أدب القاضي" تحقيق: محمد هلال السرحان. طبعة بغداد سنة 1971م.
"أدب الدنيا والدين" تحقيق: مصطفى السقا. طبعة القاهرة سنة 1973م.
محمد حميد الله الحيدر آبادي: "مجموعة الوثائق السياسية، للعهد النبوي والخلافة الراشدة" طبعة القاهرة سنة 1956م.
محمد رضا المظفر: "عقائد الإمامية" طبعة النجف - دار النعمان للطباعة والنشر.
المرتضى "الشريف": "مجموع من كلام السيد المرتضى" مخطوط بالمكتبة التيمورية - دار الكتب المصرية.
المسعودي: "مروج الذهب" طبعة القاهرة سنة 1966م.
مسلم "الإمام": "صحيح مسلم" تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي. طبعة القاهرة سنة 1955م.
نصر بن مزاحم: "وقعة صفين" تحقيق: عبد السلام هارون. طبعة القاهرة سنة 1382هـ.
ونسنك "أ. ي" وآخرين: "المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي"، ط. لندن 1936-1969م.(1/81)
السلفية:
مقدمة:
مصطلح "السلفية" من المصطلحات التي يحيط بمضمونها الغموض، أو عدم التحديد في عدد من الدوائر الفكرية والسياسية في واقعنا العربي والإسلامي المعاصر..
فهناك من يرون في "السلفية" و"السلفيين": التيار المحافظ والجامد، بل والرجعي، في حياتنا الفكرية، وفي جانب الفكر الديني منها على وجه الخصوص.. وهناك من يرون في "السلفية" و"السلفيين": التيار الأكثر تحررا من فكر الخرافة والبدع، ومن ثم الأكثر تحررا واستنارة في مجال الفكر الديني بالذات..
وهذا الغموض، أو عدم التحديد، الذي يحيط بمضمون مصطلح "السلفية" لم ينشأ من الوهم أو الفراغ، ذلك أن من الذين ينتسبون إلى "السلفية" منهم، بالفعل، محافظون وجامدون، بل ورجعيون.. ومنهم من هم في طليعة المنادين بالتجديد الديني، وضرورة فك إسار العقل من قيود الخرافة والبدع والتقليد!.. كما أن منهم من يرى "سلفه الصالح"، الذي يترسم خطاه ويحتذي نهجه الفكري، في "علماء" عصور الانحطاط والركاكة المظلمة التي مرت بأمتنا تحت حكم المماليك والعثمانيين. ومنهم أيضا من يرى "سلفه الصالح" في أعلام عصر الخلق والإبداع والازدهار الذي عرفته أمتنا، وبلورت فيه حضارتها "القومية - العقلانية -(1/85)
المستنيرة"، قبل انحطاط عصر المماليك!.. وأيضا، فمن "السلفيين" من يتنكر للعقل، كقوة إنسانية، عندما ينكر عليها القدرة على البرهنة والحكم والتمييز بين ما هو حسن ونافع وما هو قبيح وضار، ويحصر القدرة على ذلك في النصوص والمأثورات وحدها.. على حين أن من "السلفيين" من يعلي مقام العقل ويعزز من سلطانه، حتى يعتبره أجل القوى التي ميز الله بها الإنسان وأعظمها، ومن ثم يمنحه الاستقلال في مجال "عالم الشهادة" وفي نطاق الحياة الدنيوية وما بها من ظواهر وعلوم ومعضلات، على حين يجعل السلطان للنصوص والمأثورات في نطاق "عالم الغيب" الذي لم يدرك العقل كنهه، وإن كان هو الأداة في فهم ما جاءنا حوله من نصوص ومأثورات!.
إذن.. فنحن بإزاء مصطلح يحيط بمضمونه الغموض وعدم التحديد..
وإذا نحن ذهبنا نلتمس معنى هذا المصطلح في كتاب العرب الأول -القرآن الكريم- فإننا نجد أن "السلف" يعني: "الماضي" وما سبق الحياة الحاضرة التي يحياها الإنسان.. {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} 1، {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} 2، {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} 3، {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} 4، {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} 5، {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ} 6، {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي
__________
1 البقرة: 275.
2 النساء: 22.
3 النساء: 23.
4 المائدة: 95.
5 الأنفال: 38.
6 يونس: 30.(1/86)
الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} 1 {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآَخِرِينَ} 2 ... "فالسلف" هنا هو "الماضي" وما سبق وتقدم على الحياة الحاضرة للإنسان ...
ونفس هذا المعنى يدل عليه هذا المصطلح في الحديث النبوي الشريف.. ففي مسند أحمد بن حنبل، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، أنه لما ماتت زينب ابنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله: "الحقي بسلفنا الصالح الخير عثمان بن مظعون..".. وفيه أيضا عن فاطمة الزهراء، رضي الله عنها، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم، قد قال لها في مرض موته: " ... ولا أراه إلا قد حضر أجلي، وإنك أول أهل بيتي لحوقا بي، ونعم السلف أنا لك..".. كما نجد "السلف" مستخدما في الحديث النبوي بالمعنى الشائع في دوائر المال والتجارة، أي: إقراض الأموال، فالسائب بن أبي السائب يروي أنه كان يشارك رسول الله -صلى الله عليه وسلم، قبل الإسلام في التجارة، فلما كان يوم الفتح جاءه، فقال النبي: "مرحبا بأخي وشريكي، كان لا يداري ولا يماري، يا سائب قد كنت تعمل أعمالا في الجاهلية لا تقبل منك، وهي اليوم تقبل منك. وكان ذا سلف وصلة" 3.. أي: كان يقرض المال ويصل الأرحام!..
وفي معاجم العربية لا يختلف مضمون هذا المصطلح عن ذلك الذي وجدناه له في القرآن والحديث.. ففي "لسان العرب" لابن منظور: "السالف: المتقدم.." وفي "المعجم الوسيط": "السلف: كل من تقدمك من آبائك وذوي قرابتك في السن أو الفضل، وكل عمل صالح قدمته.. والسلفي: من يرجع في الأحكام الشرعية إلى الكتاب والسنة ويهدر ما سواها".
__________
1 الحاقة: 24.
2 الزخرف: 56 "والإشارة هنا إلى فرعون وقومه".
3 رواه أحمد بن حنبل في مسنده.(1/87)
ونحو ذلك أيضا نجد مضمون المصطلح في "كشاف اصطلاحات الفنون" للتهانوي: "فكل من تقدمك من آبائك وقرابتك فهو سلف لك.. والسلف -في الشرع- اسم لكل من يُقلَّد -بالبناء للمجهو]- مذهبه في الدين ويُتَّبَعُ -بالبناء للمجهول- أثره ... وقد يطلق السلف شاملا للمجتهدين كلهم ... ".
فإذا علمنا أن "الكتاب والسنة" وكذلك "المذاهب الشرعية" و"المجتهدين كلهم".. جميعهم "ماض" ومتقدم على عصر تدوين هذه "المعاجم والكشافات"، وهو العصر الذي كان الاجتهاد بالنسبة له قد أصبح "سلفا مضى" وأغلق بابه!.. إذا علمنا ذلك أدركنا أن القرآن والحديث ومعاجم اللغة وكشافات التعريفات والمصطلحات في تراثنا وحضارتنا، قد أجمعت على أن "السلف" هو الماضي والمتقدم.. وعلى أن "السلفيين" هم الذين يحتذون حذو هذا الماضي والمتقدم والسالف..
لكن هذا التحديد الجلي لا يستطيع وحده أن يرفع الغموض عن مضمون مصطلح "السلفية"؛ لأن "الماضي" المحتذى، سيظل غير محدد؛ لأنه متعدد هو الآخر.. فهل هو الكتاب والسنة؟ أم أن فيه المأثورات المروية عن الصحابة؟. وهل هو تلك النصوص وحدها؟ أم أن فيه مذاهب التابعين وتابعي التابعين؟ وحتى إذا كان هذا "السلف" هو النصوص، قرآنا وسنة، فإن تفسيرها ورؤيتها قد تعددت بتعدد المناهج في المدارس الفكرية والفرق والتيارات.. وكذلك كان الحال مع مأثورات الصحابة، تعددت، بل وتناقضت فيها الروايات فضلا عن التفسيرات والتخريجات.. ناهيك عن التعدد والاختلاف إذا نحن أدخلنا مذاهب المتقدمين في إطار "الماضي والسلف" الذي يدخل مستلهميه تحت مصطلح "السلفية والسلفيين"!..
إذن.. فالضرورة والأهمية لإلقاء الضوء على هذا المصطلح في تراثنا(1/88)
الفكري والحضاري لن تغني عن ضرورة مواصلة البحث لكشف الإبهام الذي يحيط بمضمون "السلفية" في واقعنا الفكري الراهن؛ لأن هذا الإبهام حقيقة موضوعية، مصدرها تعدد الرؤية "للمواريث السالفة" التي يستلهمها ويحتذيها "السلفيون".
ولعل في تتبع الحركة السلفية، نشأة ومسارا، عبر حضارتنا العربية الإسلامية، وإن في الخطوط العريضة والبارزة لهذه النشأة وذلك المسار، لعل في ذلك السبيل الأمثل لتحديد معالم هذه الحركة، ومن ثم تياراتها، وخاصة في عصر نهضتنا الحديثة، الأمر الذي يجلو لنا حقيقتها، ويضع يدنا ويوقف فكرنا على ما هو متقدم من قضاياها ومقولاتها، وما هو محافظ وجامد، بل ورجعي من فكر السلفيين!..
السلفية: ظاهرة "عباسية"
عندما اقترب القرن الهجري الأول من نهايته، كانت الفتوحات العربية قد بلغت مداها، وامتدت أطراف الإمبراطورية العربية التي صنعتها هذه الفتوحات.. فلقد فتح العرب في ثمانين عاما أوسع مما فتح الرومان في ثمانية قرون؟!..
وهذه الفتوحات الكبرى قد نقلت العرب المسلمين إلى طور جديد.. فقبلها كانوا أقرب إلى البساطة في مجتمع عربي ساذج وبسيط، تعينهم مواريثهم الحضارية المحدودة، وبيئتهم البدوية التي تشبه الصفحة الواضحة المبسوطة، على أن يفهموا الإسلام من نصوص قرآنه الكريم وسنة نبيه، عليه الصلاة والسلام، وذلك دونما كثير تأويل أو قياس.. ولقد حافظت بساطة الحياة في شبه الجزيرة العربية، وخلوها من التركيب والتعقيد على سيادة هذا النهج الذي عرفه العرب والتزموه في فهم الإسلام، "النهج النصوصي"، الذي يقدم "الكتاب" على "الحكمة"، و"المأثور" على "الرأي والقياس"، حتى إن الصحابة الذين كانت لهم دربة وذخيرة في "الحكمة(1/89)
والتفلسف" قد طووا صدورهم على "حكمتهم وفلسفتهم" في أغلب الأحيان، لزهد المناهج فيها، ولقلة الدواعي التي تدعو إلى انتشار هذا النهج في ذلك الزمان وذلك المكان1.
لكن الفتوحات الكبرى قد وضعت العرب المسلمين في قمة السلطة بالإمبراطورية التي ضمت أكثر بقاع الأرض يومئذ حظا من المواريث الحضارية والأبنية الفكرية البالغة حدا كبيرا من التطور والتركيب والتعقيد.. ففارس بما تملك من ميراث حضاري، والهند بما لديها من حكمة، ومصر والشام بما فيهما من تراث غني -محلي أو يوناني وروماني- كل ذلك قد غدا في وعاء الدولة التي يحكمها العرب المسلمون.. وبدلا من المجتمع البدوي البسيط أصبحوا مسئولين عن قضايا مجتمع تنوعت قضاياه ومشاكله وتركبت الأبنية الفكرية لمؤسساته ومفكريه.. وكان طبيعيا وضروريا أن يواجه العرب المسلمون الفاتحون هذا الواقع الجديد، وكان طبيعيا وضروريا كذلك أن يتعلموا، وأن يعوا هذه الظاهرة الجديدة، ليحذقوها، كي يرتفعوا إلى مستوى القادة في هذا الواقع الجديد..
وهذا الذي حدث للعرب المسلمين القادمين من شبه الجزيرة العربية، حدث للإسلام!..
فدين القرآن العربي المبين، الذي أقنعت نصوصه البسيطة الواضحة عرب مجتمع شبه الجزيرة البسيط والواضح، قد أصبح محتاجا إلى وسائل جديدة وبراهين معقدة وأدلة مركبة، كي يقنع أقواما ألفوا وسائل أخرى في الجدل والمناظرة والبرهنة والحجاج.. وزاد هذه الحاجة الجديدة ضرورة وإلحاحا أن الشرائع والعقائد والمذاهب غير الإسلامية، التي كان يدين ويتمذهب بها أبناء البلاد المفتوحة، قد استفادت من رفض الإسلام وأهله
__________
1 انظر دراستنا عن أبي ذر الغفاري، بكتابنا "مسلمون ثوار" ص18. طبعة بيروت، الثانية سنة 1974م.(1/90)
طريق الإكراه في الدين، فشنت على الإسلام حربا فكرية ضروسا، مستخدمة فيها الأسلحة التي لم تعرفها شبه الجزيرة ولم يحذقها من قبل العرب المسلمون..
وعندما وجد العرب المسلمون أنهم يدافعون عن إسلامهم بمنطق بسيط في مواجهة مؤسسات فكرية لاهوتية قد تسلحت في صراعها ضده بمنطق أرسطو، وأنهم يبشرون بإسلامهم، مستخدمين النصوص، بين أقوام قد امتلكوا حكمة الهند وفلسفة اليونان.. رأوا أن الاحتكام إلى النصوص لا يجدي مع الذين لا يؤمنون بحجية وقدسية هذه النصوص، وأن الجدل بالمأثورات لا يقنع الذين يرفضون هذه المأثورات.. ورأوا كذلك أن هذا الواقع الفكري الجديد يتطلب أدوات صراع جديدة لذلك النزال الفكري الجديد، وأن هذه الأدوات لا بد أن تكون إنسانية الطابع عالمية النمط، أي: عقلانية، تصلح لكل ألوان الجدل والبرهنة، بصرف النظر عن لون الحضارة، أو النمط الفكري، أو اختلاف الأمة، أو تغير الزمان والتنوع في المكان.
وأمام هذه الضرورات الجديدة، أفرزت الجماعة العربية الإسلامية طليعة فلاسفتها الإلهيين -"المتكلمين" من علمائها- أولئك الذين امتدت بصيرتهم إلى ما وراء النصوص، مستخدمين العقل والقياس والتأويل، ناظرين في المواريث الفكرية -وخاصة الفلسفية- لأبناء البلاد المفتوحة، ومحصلين لمقولاتها، ثم مستخدمين لأسلحتها الفكرية وأدواتها في الجدل والمناظرات للدفاع عن عقائد الإسلام، وللتبشير بهذه العقائد في البيئات التي ما كان للنصوص والنصوصيين أن يحرزوا فيها نصرا لهذا الدين الجديد..
وهذه الطليعة من "المتكلمين"، فلاسفة الإسلام الإلهيين، هم مدرسة المعتزلة، أهل العدل والتوحيد "انظر: المعتزلة".
لكن طبيعة هذا اللون الفلسفي من ألوان التفكير، وطبيعة البراهين(1/91)
التي يستخدمها هؤلاء "المتكلمون"، قد جعلت هذا الفكر فكر "صفوة"، لا فكر "عامة" و"جمهور"، ذلك أن "العامة والجمهور" قد وقفت بها مداركها عند "النصوص"، بل وعند "ظواهر النصوص" في أغلب الأحيان.. بل لقد ارتابت "العامة" في جدوى هذا المسلك الذي سلكه "المتكلمون"، بل وفي عقائد هؤلاء "المتكلمين"!.. وزاد من هذه الريبة أن غلو اللاهوتيين من غير المسلمين في رفض النصوص، قد جعل نفرا من "المتكلمين" يهملون بعض النصوص الإسلامية أو يغضون من شأن بعض المأثورات، أو يؤولونها تأويلا لا يبرأ من العسر والاعتساف.. حتى جاء الوقت الذي خيل فيه إلى "العامة والجمهور" أن "إسلام عرب شبه الجزيرة" الأول، إسلام النصوص الواضحة البسيطة الغنية عن التأويل، والذي عرفه الناس زمن البعثة والصحابة والتابعين، قد أصبح "غريبا" في هذا الواقع الفكري الجديد!.. وعند هذا الطور من أطوار الحركة الفكرية في الإمبراطورية العربية الإسلامية برزت لهذا "الجمهور" ولهذا الفكر "الجمهوري" قياداته, فأذاعوا بين الناس حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم: "بدأ الإسلام غريبا، وسيعود كما بدأ غريبا، فطوبى للغرباء" 1.. وإذن هؤلاء القادة في الجمهور: أنه لا بد من العودة إلى الإسلام السلف، الإسلام الذي مضى وسلف، الإسلام الذي أصبح "غريبا" في مناخ فكري تفلسف وقدم العقل وبراهينه على النصوص والمأثورات، وأعمل الرأي والقياس والتأويل في هذه النصوص وتلك المأثورات.. وكان رأس هؤلاء الأعلام، أعلام الحركة السلفية، وإمامها الأول والأبرز الإمام أبو عبد الله أحمد بن حنبل "164-241هـ 780-855م] الذي كان، كما كان خصومه، "ظاهرة عباسية"، بمعنى أن تبلور هذا الواقع الجديد وتلك التيارات الفكرية الجديدة إنما حدث في ظل حكم دولة بني العباس!..
__________
1 رواه مسلم والترمذي وابن ماجه والدارمي وابن حنبل.(1/92)
المعالم الأولية والرئيسة للسلفية
...
المعالم الأولية والرئيسية للسلفية:
كان ابن حنبل أشبه ما يكون بـ"قراء عصر الصحابة، قبل أن يعرف عالم الإسلام" "الفقهاء" و"المتكلمين"، فضلا عن "الفلاسفة والحكماء"، وكان شبهه بـ"قراء" عصر الصحابة شاملا "السلوك" مع "الفكر"، فهو كما يصفه ابن قيم الجوزية "691-751هـ 1292-1350م": "عن الدنيا ما كان أصبره، وبالماضين ما كان أشبهه، أتته البدع فنفاها، والدنيا فأباها..! "1.
ونحن إذا شئنا تكثيفا لمقولات الحركة السلفية، كما صاغها إمامها الأول أحمد بن حنبل، في مواجهة ما رآه بدعا ومحدثات جعلت الإسلام غريبا، وجدنا هذه المقولات والعقائد:
- الإيمان: قول وعمل.. وهو يزيد وينقص، تبعا لنقاء العقيدة أو شوبها، وتبعا لزيادة العمل ونقصانه..
- والقرآن: كلام الله، وفقط.. فيس بمخلوق -كما تقول المعتزلة- وليس شريكا لله في قدمه، كما يلزم المعتزلة نفاة خلق القرآن..
- وصفات الله: التي وصف بها نفسه وأثبتها لذاته، نصفه بها ونثبتها لذاته، على النحو الذي وردت عليه في النصوص والمأثورات، لا نلجأ في بحثها إلى رأي أو تأويل..
- وعالم الغيب: لا ينبغي أن نخوض في بحث شيء منه، بل يجب أن نفوض حقيقة علمه إلى الله سبحانه.
- ورؤية أهل الجنة لله: عقيدة حق يجب أن يؤمن بها المؤمن، دونما تأويل أو تمثيل، كما وردت بها ظواهر النصوص..
__________
1 "أعلام الموقعين" جـ1 ص137. طبعة بيروت سنة 1973م.(1/93)
- وعلم الكلام: منكر منكر.. الاشتغال به منكر، وأخذ العقائد بأدلته منكر،.. بل ومجالسة أهله منكر، مهما كان دفاعهم به عن الإسلام!..
- والقضاء والقدر: لا يكتمل بدونهما الإيمان.. وهما من الله..
- والذنوب الكبائر لا تجعل المؤمن كافرا، ولا تخلده في النار, على عكس قول الخوارج في الأمرين.. وقول المعتزلة في الثاني..
- وخلافات الصحابة: لا يصح الخوض فيها، بل يجب العدول عن ذكرها، والوقوف عند محاسنهم وفضائلهم.
- وترتيب الخلفاء الراشدين في الفضل: وفق ترتيبهم في تولي الخلافة..
- وطاعة ولي الأمر واجبة: حتى ولو كان فاجرا فاسقا، والثورة عليه منكر لما تجلبه من الأخطار وتعطله من مصالح الناس في حياتهم اليومية..
- والفرائض.. والمعاملات.. والجهاد: نؤديها ونمارسها على النحو الذي جاءت به النصوص في القرآن والسنة ... إلخ ... إلخ ... إلخ.. إلخ ...
وكما نهى الرسول -صلى الله عليه وسلم، عن كتابة ما عدا القرآن الكريم، كي لا يختلط الحديث بآياته، وكما لم يعرف عصر البعثة والصحابة تأليف الكتب.. وأمام اشتغال "المتكلمين" بتأليف الكتب.. نهى أحمد بن حنبل عن الاشتغال بتأليف الكتب، ودعا للوقوف عند جمع الحديث والمأثورات.. لكن تلاميذه وأصحابه دونوا فتاواه وتعاليمه، معتبرين إياها جزءا من المأثورات، ومن بين ما دونوه -وهو كثير جدا- نجد الكثير من النصوص التي توجز عقيدته السلفية، من مثل قوله في "صفة المؤمن من أهل السنة والجماعة" أنه:
من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله - وأقر بجميع ما جاءت به الأنبياء والرسل, وعقد قلبه على ما ظهر(1/94)
من لسانه، ولم يشك في إيمانه, ولم يكفر أحدا من أهل التوحيد بذنب, وأرجأ ما غاب عنه من الأمور إلى الله، وفوض أمره إلى الله, ولم يقطع بالذنوب العصمة من عند الله, وعلم أن كل شيء بقضاء الله وقدره، الخير والشر جميعا, ورجاء لمحسن أمة محمد، وتخوف على مسيئهم، ولم ينزل أحدا من أمة محمد الجنة بالإحسان، ولا النار بذنب اكتسبه، حتى يكون الله الذي ينزل خلقه حيث يشاء, وعرف حقل السلف الذين اختارهم الله بصحبة نبيه -صلى الله عليه وسلم، وقدم أبا بكر وعمر وعثمان، وعرف حق علي بن أبي طالب، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ... وترحم على جميع أصحاب محمد، صغيرهم وكبيرهم، وحدث بفضائلهم، وأمسك عما شجر بينهم, وصلاة العيدين والخوف والجمعة والجماعات مع كل أمير، بر أو فاجر, والمسح على الخفين في السفر والحضر، والتقصير في السفر, والقرآن كلام الله وتنزيله، وليس بمخلوق, والإيمان قول وعمل، يزيد وينقص, والجهاد ماض منذ بعث الله محمدا إلى آخر عصابة، يقاتلون الرجال، لا يضرهم جور جائر, والشراء والبيع حلال إلى يوم القيامة، على حكم الكتاب والسنة, والتكبير على الجنائز أربعا, والدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح، ولا تخرج عليهم بسيفك، ولا تقاتل في فتنة، وتلزم بيتك, والإيمان بعذاب القبر, والإيمان بمنكر ونكير, والإيمان بالحوض والشفاعة, والإيمان بأن أهل الجنة يرون ربهم تبارك وتعالى, وأن الموحدين يخرجون من النار، بعدما امتحنوا، كما جاءت في الأحاديث في هذه الأشياء عن النبي -صلى الله عليه وسلم، ولا تضرب لها الأمثال ... "1.
على هذا النحو صاغ ابن حنبل عقائد الحركة السلفية، ودعا إلى
__________
1 "عقائد السلف" ص11، 12 للأئمة أحمد بن حنبل، والبخاري، وابن قتيبة، وعثمان الدارمي، جمعها ونشرها: د. علي سامي النشار، د. عمار الطالبي. طبعة الإسكندرية سنة 1971م.(1/95)
إسلام العرب الأولين، إسلام المجتمع العربي البسيط، إسلام النصوص والمأثورات، وبهذه العقائد، ومن خلفه الجمهور صارع المتكلمين، والكلام والفلسفة والرأي والقياس والتأويل، وصمد للمحنة الشهيرة عندما امتحن إبان تدخل الدولة في عقائد العلماء حتى يقروا بخلق القرآن.. الأمر الذي رفع من قدره، لا عند أنصاره فحسب، بل وفي نظر الخصوم وعند جميع المؤرخين للفكر على اختلاف المدارس والمنطلقات..(1/96)
السلفية تنتعش:
كانت الحضارة العربية الإسلامية التي تبلورت من فكر الإسلام، كما صاغه المتكلمون العقلانيون، بعد مزجه بالمواريث الحضارية الملائمة لشعوب البلاد التي فتحت، والتي أخذت تتعرب، كانت هذه الحضارة مرتكزة على قسمتين رئيسيتين:
العروبة: بالمعنى الحضاري، لا العرقي.. على النحو الذي بلغته في الصراع ضد قطبي التطرف: الشعوبي الرافض لكل ما هو عربي.. والعصبية التي أحيتها الدولة الأموية، والتي تغض من شأن كل ما ليس بعربي عرقيا..
والعقلانية: التي تحول بها الإسلام من موقع الدفاع أمام المؤسسات الفكرية اللاهوتية غير الإسلامية والتيارات الفكرية المعادية لعقائده.. تحول بها من موقع الدفاع إلى موقع الهجوم الذي هيأ له الانتشار دون إكراه ...
لكن هذه الحضارة، بما صحبها من ازدهار مادي ورفاهة في العيش، قد ابتعدت بالعرب عن خشونة الجند التي عرفوا بها في عصر الفتوحات، فلم يعودوا القوة العسكرية التي تعتمد عليها الدولة في الفتح أو الحفاظ على أكبر إمبراطورية عرفها ذلك التاريخ.. وكانت للموالي، ذوي الاتجاه(1/96)
الشعوبي، أحلام في السيطرة على الدولة، بل وتدميرها، صرفت الدولة كذلك عن أن تتخذ منهم الجند الذي يتكون منه جيشها الكبير.. ومن هنا كان سعي الخليفة العباسي المعتصم "218-227هـ 833-842م" إلى تكوين جيشه من الترك المماليك!.
ولقد ظن المعتصم أنه باتخاذه الجند الغريب، حضاريا وقوميا عن المجتمع، سيحصل على أداة القمع الأسهل قيادا وانقيادا، والتي لا أمل لها في السلطة، ولا مصلحة لها في الصراعات الناشبة من حولها، وأنه بذلك سيقيم القوة الضاربة التي يحافظ بها على التوازن بين العرب والموالي وغيرهما من العناصر والأجناس المتصارعة والمتنافسة.. ولكن تضخم هذه القوة العسكرية الجديدة سرعان ما جعلها مركز ثقل وقوة جذب ومركز توجيه.. فمدينة "سامراء" التي بنيت لها معسكرا تابعا للعاصمة بغداد تحولت من سنة 221هـ 836م إلى عاصمة للدولة، انتقلت إليها الخلافة، وأصبحت بغداد تابعة لها!.. وهؤلاء الجند الذين أرادهم المعتصم قوة بيد الخلافة، سرعان ما أصبحت الخلافة لعبة بيدهم، يولون من أطاع ويعزلون من عصى، بل ويسجنون ويقتلون من يتمرد على أوامر المماليك الأتراك؟!..
وبسبب من أن هذه المؤسسة الجديدة والكبيرة هي: جند وجيش.. كانت بعيدة عن الاهتمامات الحضارية.. وبسبب من غربتها عن العروبة، وتخلف قادتها بداهة عن نمط التفكير العقلي والفلسفي كانت أميل إلى "العامة"، وأمعن في عدائها للفكر الفلسفي والتيار العقلاني.. وهكذا انفتح الطريق بسيطرة الترك المماليك لذلك الانقلاب الفكري الذي حدث في الدولة العباسية عندما تولى الخلافة الخليفة المتوكل "232-247هـ 847-861م" فاستبدل السلفية بالمعتزلة، وحلت النصوص محل العقلانية والرأي والتأويل، وخرج المحدثون من محابسهم، وحل محلهم فيها علماء الكلام؟!.. وعندما أراد المتوكل ملء الفراغ الذي(1/97)
حدث بإقصاء المعتزلة عن جهاز الدولة استشار الإمام أحمد بن حنبل، فكتب له قائمة بالقضاة والمستشارين، وقدم قليل العلم من السلفية على علماء الكلام؛ لأن الأول سني ذو دين، أما الثاني فإنه -مع علمه- يضر الناس في الدين؟!.. وهكذا انتعشت الحركة السلفية، وساد نهجها النصوص في البحث والتفكير، فشهدت تلك الحقبة الزمنية الذيوع والانتشار لأعمال "أصحاب الحديث"، الذين هم أعلام الحركة السلفية، سواء منهم أولئك الذين تقدموا أحمد بن حنبل أو عاصروه أو أتوا من بعده.. وذلك من مثل:
- أبو عبد الرحمن عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي "181هـ 797م".
- أبو سعيد يحيى بن فروخ التميمي القطان البصري "198هـ 816م".
- ابن أبي شيبة أبو بكر عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن عثمان العبسي "225هـ 840م".
- يحي بن أبي يحيى بكير بن عبد الرحمن بن يحيى الحنظلي "226هـ 841م".
- أبو عبد الله نعيم بن حماد المروزي "228هـ 843م".
- عبد الله بن محمد بن عبد الله الجعفي "229هـ 844م".
- ابن راهويه أبو محمد إسحاق بن إبراهيم بن مخلد بن إبراهيم "238هـ 852م".
- البخاري، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل "256هـ 870م".
- أبو بكر أحمد بن محمد بن هانئ الأثرم البغدادي "273هـ 886م".
- أبو علي حنبل بن إسحاق بن حنبل بن هلال "273هـ 886م".
- أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني "275هـ 888م".
- عبد الله بن مسلم بن قتيبة "213-276هـ 889م".
- أبو بكر أحمد بن عمرو بن النبل الشيباني البصري "277هـ 890م".
- الدارمي، عثمان بن سعيد "280هـ 893م".(1/98)
- أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل "290هـ 903م".
- أبو بكر أحمد بن علي بن سعيد المروزي "292هـ 905م".
- أبو عبد الله محمد بن يحيى بن منده العبدي "301هـ 913م".
- أبو العباس بن سريج "306هـ 918م".
- أبو بكر أحمد بن محمد بن هارون الخلال "311هـ 923م".
- أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة "311هـ 923م".
- أبو أحمد محمد بن أحمد بن إبراهيم الأصبهاني العسال "349هـ 960م".
- أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب اللخمي الطبراني "360هـ 971م".
- أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان "369هـ 979م".
- عبيد الله بن محمد بن بطة العكبري "387هـ 997م".
- أبو القاسم هبة الله بن الحسن الرازي اللالكائي "418هـ 1027م".
- أبو عمرو أحمد بن محمد بن عبد الله الطلمنكي الأندلسي "429هـ 1038م".
- أبو ذر عبد بن أحمد بن محمد بن عبد الله الأنصاري الهروي "434هـ 1043م".
- أحمد بن الحسين أبو بكر البيهقي "458هـ 1066م".
- ابن عبد البر أبو عمرو يوسف بن عبد الله بن محمد القرطبي "463هـ 1071م".
فلما كانت الدولة المملوكية، وطال الأمد على سيطرة الجند الغرباء حضاريا وقوميا على مقدرات الأمة، فشت البدع والمظالم، وغالبت عقائد السلفية حتى غلبتها، فكان أن عرفت الحركة السلفية صحوتها التي تمثلت في عدد من أئمتها كان من أبرزهم:
- أبو الوفاء ابن عقيل "431-513هـ 1040-1119م".
- شيخ الإسلام ابن تيمية "661-728هـ 1263-1328م".(1/99)
- وابن القيم الجوزية "691-751هـ 1292-1350م".
ولقد واصلت الحركة السلفية، في صحوتها هذه، السير على منوال العقائد التي صاغها ابن حنبل ومعاصروه، ونهجت النهج النصوصي الذي بلوروه، مع إضافات عديدة طرحتها مواجهتهم لما استجد من بدع وخرافات، ومع مرونة ملحوظة في الموقف من القياس والتأويل، فرضتها التعقيدات التي طرأت على المجتمعات التي عاشوا فيها والأبنية الفكرية التي تصارعت في هذه المجتمعات..
لكن هذه الصحوة السلفية لم تنجح فيما نجح فيه أحمد بن حنبل.. فلم تصبح مذهبا للدولة، وإنما ظلت حركة معارضة يلقى أعلامها السجن والعنت والاضطهاد ...
فلما ورثت الدولة العثمانية دولة المماليك، وواصلت -على الجبهة الفكرية- جمودهم وما شاع في ظل سلطانهم من بدع وخرافات، الأمر الذي فتح في جدار الشرق الإسلامي العديد من الثغرات التي بدأ الغرب الاستعماري يسعى كي يتسلل من خلالها.. لما حدث ذلك، وأصبح الإسلام غريبا، مرة أخرى، كما كان في البدء، اتخذت حركة اليقظة والتجديد في عصر أمتنا الحديث سبيل الحركة السلفية تدفع بعقائدها البدع والخرافات عن فكر الإسلام، ساعية إلى إعادة قيادة الإسلام إلى العرب، بعد أن تأكد عجز الأتراك العثمانيين عن القيادة أمام الخطر الاستعماري الزاحف على بلاد الإسلام.. وهكذا عرفت الأمة أعلام الحركة السلفية الحديثة:
- محمد بن عبد الوهاب "1115-1206هـ 1700-1792م".
- ومحمد بن علي السنوسي "1202-1276هـ 1787-1859م".
- ومحمد أحمد المهدي "1260-1302هـ 1844-1885م".
- وجمال الدين الأفغاني "1254-1314هـ 1838-1897م".(1/100)
والإمام محمد عبده "1266-1323هـ 1849-1905م".
وعبد الرحمن الكواكبي "1270-1320هـ 1854-1902م".
والشيخ محمد رشيد رضا "1282-1354هـ 1865-1935م".
وجمال الدين القاسمي "1283-1332هـ 1866-1914م".
وعبد الحميد بن باديس "1307-1359هـ 1889-1940م".
وإذا كانت تلك هي مسيرة الحركة السلفية، وهؤلاء هم أبرز أعلامها، منذ أن تبلورت في العصر العباسي حتى عصرنا الحديث، فالأمر المؤكد أن هذه الحركة قد تميزت باتساق المنهج ووحدة الأصول الاعتقادية والفكرية في عصرها الأول، الذي تبلورت فيه، وفي عصرها الوسيط، الذي قادها فيه ابن تيمية وابن القيم، وإن يكن هؤلاء الأعلام قد اختلفوا في عدد من مسائل الفروع، وبمعنى أدق فهم قد اتفقوا في "الإلهيات"، واختلف بعضهم عن البعض الآخر في "الفقهيات".. وهم لم يجدوا في ذلك بأسا يخرجهم عن إطار الحركة الفكرية الواحدة، وكما يقول ابن القيم: "فإن أهل الإيمان قد يتنازعون في بعض الأحكام، ولا يخرجون بذلك عن الإيمان.. وقد تنازع الصحابة في كثير من مسائل الأحكام، وهم سادات المؤمنين وأكمل الأمة إيمانا، ولكن بحمد الله لم يتنازعوا في مسألة واحدة من مسائل الأسماء والصفات والأفعال، بل كلهم على إثبات ما نطق به الكتاب والسنة، كلمة واحدة، من أولهم إلى آخرهم، ولم يسوموها تأويلا.. ولا ضربوا لها أمثالا.."1.
وهذا الاتفاق في الأصول الفكرية، وفي "المنهج النصوصي" قد اتسع لإضافات أفاض فيها أعلام سلفية العصر الوسيط استجابة لمشكلات العصر الذي عاشوا فيه.. فما طرأ على عقيدة التوحيد من بدع وخرافات وإضافات طمست نقاءها الذي تميز به الإسلام، وشابته بشوائب الشرك، خفيا كان أو
__________
1 أعلام الموقعين. جـ1 ص49.(1/101)
جليا، جعل ابن تيمية يولي هذه القضية اهتماما كبيرا، حتى لقد رأى أن جماع الدين أمران: رفض الشرك، ورفض البدع التي طرأت على الدين.. وبعبارته "فإن جماع الدين أصلان: أن لا نعبد إلا الله، ولا نعبده إلا بما شرع، لا نعبده بالبدع.."1.
وكذلك صنعت سلفية العصر الوسيط عندما واجهت مقولات متفلسفة الصوفية، من أصحاب وحدة الوجود، وهي قضية لم يكن فكرها قد طرح بالساحة الإسلامية بعد يوم أن تبلورت الحركة السلفية في عهد الطلائع والرواد..2.
وإذا كان هذا هو حال سلفية العصر الوسيط مع سلفية العصر الأول: اتفاق في الأصول "الإلهيات"، واتحاد في "المنهج النصوصي" مع مرونة نسبية في استخدام القياس, مع اختلافات في الفروع "الفقيهات".. فإن هذا الحال قد اختلف مع سلفية العصر الحديث، التي تميزت في إطارها مدارس وتيارات، حافظ بعضها على "المنهج النصوصي" لسلفية القدماء، على حين رفع بعضها سلطان العقل وبراهينه على سلطان ظواهر النصوص، ولم يعد إسلامها هو إسلام المجتمعات البدوية، بل الإسلام الذي أرادت به بعث خير ما في الحضارة العربية الإسلامية العقلانية من قسمات، كما أرادت أن تقاوم به وبحضارته وعقلانيته ذلك الزحف الحضاري الذي أرادت به أوربا الاستعمارية سحق الشخصية العربية المسلمة قوميا وحضاريا..
__________
1 ابن تيمية "العبودية" رسالة منشورة ضمن "مجموعة التوحيد" ص645. طبعة دار الفكر - بيروت - مصورة عن طبعة المكتبة السلفية بالمدينة المنورة.
2 انظر المصدر السابق "رسالة العبودية" ص560، 561- ورسالة "الواسطة بين الحق والخلق" ص148.(1/102)
المنهج النصوصي:
يقول ابن القيم عن الإمام أحمد بن حنبل: إنه "إمام أهل السنة على الإطلاق.. وأن أئمة الحديث والسنة، بعده، هم أتباعه إلى يوم القيامة ... "1.. ولقد صاغ ابن حنبل منهج السلفية النصوصي، الذي يأخذ الإسلام، أصولا وفروعا، من النصوص والمأثورات، وذلك في مواجهة منهج متكلمي المعتزلة الذين كان للعقل والتأويل شأن عظيم في المنهج الذي أخذوا بواسطته الإسلام.. ولقد بلغ من أتباع ابن حنبل للنصوص والمأثورات، ولها وحدها، إلى الحد الذي جعله لا يرجح، بالرأي أو العقل أو القياس، مأثورة على أخرى عندما تتعدد وتتضارب وتتعارض المأثورات في الأمر الواحد والقضية الواحدة، فكان يفتي بالحكمين المختلفين؛ لأن لديه مأثورتين مختلفتين في الموضوع!.. وبعبارة ابن القيم: "فإن الصحابة إذا اختلفوا على قولين جاء عن ابن حنبل في المسألة روايتان!.."2.
أما أركان هذا المنهج النصوصي وأصوله، كما صاغها إمام السلفية فهي خمسة، يذكرها ابن القيم بهذا الترتيب:
"الأصل الأول: النصوص: فإذا وجد النص أفتى به، ولم يلتفت إلى ما خالفه ولا من خالفه، كائنا من كان ... ولم يكن يقدم على الحديث الصحيح عملا ولا رأيا ولا قياسا ولا قول صاحب ولا عدم علمه بالمخالف..
الأصل الثاني: ما أفتى به الصحابة: فإنه إذا وجد لبعضهم فتوى، لا يعرف له مخالف منهم فيها، لم يعدها إلى غيرها ... ولم يقدم عليها عملا ولا
__________
1 أعلام الموقعين. جـ1 ص28.
2 المصدر السابق. جـ1 ص29.(1/103)
رأيا ولا قياسا..
الأصل الثالث: إذا اختلف الصحابة تخير من أقوالهم ما كان أقربها إلى الكتاب والسنة، ولم يخرج عن أقوالهم، فإن لم يتبين له موافقة أحد الأقوال حكى الخلاف فيها، ولم يجزم بقول..
الأصل الرابع: الأخذ بالمرسل والحديث الضعيف، إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه: وهو الذي رجحه "الحديث الضعيف"1 على القياس ...
الأصل الخامس: القياس للضرورة: فإذا لم يكن عنده في المسألة نص، ولا قول الصحابة، أو واحد منهم، ولا أثر مرسل أو ضعيف، عدل إلى القياس، فاستعمله للضرورة ... ".
هذه هي الأصول الخمسة لمنهج ابن حنبل، وهي تدور وتعتمد أولا وقبل كل شيء آخر، بل وأخيرا على النصوص والمأثورات، وتقف عند هذه النصوص والمأثورات، وتنكر استخدام الرأي أو القياس، فضلا عن العقلانية والتأويل، حتى في ترجيح نص على آخر من هذه النصوص.. لقد كان ابن حنبل يسمي "النص": "الإمام"!.. وكما يقول ابن القيم، معقبا على أصول منهجه: فإنه "كان شديد الكراهة والمنع للإفتاء بمسألة ليس فيها أثر عن السلف، ولقد قال لبعض أصحابه: إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام!.."2 ويروي عنه ابنه عبد الله فيقول: "سمعت أبي يقول: الحديث الضعيف أحب إلي من الرأي".. وعندما سأله ابنه عبد الله "عن الرجل يكون ببلد لا يجد فيه إلا صاحب حديث، لا يعرف صحيحه من
__________
1 الحديث الضعيف -عند ابن حنبل- كما يقول ابن القيم -هو المقابل للصحيح، وقسم من أقسام الحديث الحسن، فهو ليس الضعيف بالمعنى الذي تعارف عليه المتأخرون من علماء الحديث.
2 أعلام الموقعين. جـ1 ص29-33.(1/104)
سيقمه، وأصحاب رأي.. فمن يستفتى ويسأل؟ قال: يسأل أصحاب الحديث ولا يسأل أصحاب الرأي، ضعيف الحديث أقوى من الرأي.."1.
وانطلاقا من هذا "المنهج النصوصي"، الذي لا يلتفت لغير المأثورات، رأت السلفية أن علماء أمة محمد -صلى الله عليه وسلم، منحصرون في النصوصيين، فهم قسمان: حفاظ الحديث، والفقهاء2.. ورأت كذلك أن النصوص والمأثورات قد حوت كل شيء من أمور الدين والدنيا، وأن "الرسول قد بين كل شيء، وأنه قد توفي وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر للأمة منه علما، وعلمهم كل شيء ... "3.
والنصوص التي جعلها المنهج السلفي مصدرا وحيدا قد شملت إلى جانب الكتاب والسنة أقوال صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فهم "الذين حازوا قصبا في السباق، واستولوا على الأمد، فلا طمع لأحد من الأئمة بعدهم في اللحاق.. فأي خصلة خير لم يسبقوا إليها؟ وأي خطة رشد لم يستولوا عليها؟.. لقد أيدوا قواعد الإسلام فلم يدعوا لأحد بعدهم مقالا4.. وكانت أفهامهم فوق أفهام جميع الأمة، وعلمهم بمقاصد نبيهم -صلى الله عليه وسلم، وقواعد دينه وشرعه أتم من علم كل من جاء بعدهم ... "5.
وبسبب من القداسة التي أضفاها المنهج السلفي على النصوص امتدت هذه القداسة للعصر الذي قيلت فيه تلك النصوص، وشاع في الحركة السلفية تعظيم الماضي، وزاد ذلك التعظيم كلما ازداد هذا الماضي
__________
1 المصدر السابق. جـ1 ص76، 77.
2 المصدر السابق. جـ1 ص8، 9.
3 المصدر السابق جـ4 ص375.
4 المصدر السابق جـ1 ص5، 6.
5 ابن القيم "الطرق الحكمية في السياسة الشرعية" ص178. تحقيق: د. محمد جميل غازي. طبعة القاهرة سنة 1977م.(1/105)
إيغالا في القدم واقترابا من عصر صحابة الرسول، عليه الصلاة والسلام ... فكان أن قرروا "أن فتاوى الصحابة أولى أن يؤخذ بها من فتاوى التابعين، وفتاوى التابعين أولى من فتاوى تابعي التابعين، وهلم جرا. وكلما كان العهد بالرسول أقرب كان الصواب أغلب ... فإن التفاوت بين علوم المتقدمين والمتأخرين كالتفاوت الذي بينهم في الفضل والدين.."1.
هكذا.. وعلى هذا النحو أضفت الحركة السلفية القداسة على النصوص والمأثورات، ووقف منهجها النصوصي عند هذه النصوص والمأثورات.. بل لقد وقف عند ظواهرها، عندما رفض أن يعمل فيها الرأي أو الاجتهاد أو التأويل أو القياس، حتى عندما كانت تتعارض وتتناقض نصوص هذه المأثورات ومضامينها!.
ولقد روى أعلام الحركة السلفية عن إمامهم أحمد بن حنبل الكثير الذي يدعم المنهج النصوصي ويزكيه، ورووا عنه، كذلك، شعرا يقول فيه:
دين النبي محمد آثار ... نعم المطية للفتى الأخبار
لا تخدعن عن الحديث وأهله ... فالرأي ليل والحديث نهار
ولربما جهل الفتى طرق الهدى ... والشمس طالعة لها أنوار
ورووا عن بعض أعلامهم أيضا:
العلم: قال الله قال رسوله ... قال الصحابة ليس خلف فيه
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة ... بين النصوص وبين رأي سفيه
كلا ولا نصب الخلاف جهالة ... بين الرسول وبين رأي فقيه
كلا ولا رد النصوص تعمدا ... حذرا من التجسيم والتشبيه
حاشا النصوص من الذي رميت به ... من فرقة التعطيل والتمويه2
__________
1 أعلام الموقعين. جـ4 ص118.
2 المصدر السابق. جـ1 ص79.(1/106)
النص لا الرأي:
في أمور الدين -لا الدنيا- يكاد يتفق علماء الإسلام على أنه لا مجال "للرأي" أو الاجتهاد إذا ما وجدت النصوص، لكن من عدا السلفية يشترطون في هذه النصوص، وحتى يمتنع بوجودها الرأي والاجتهاد، يشترطون فيها أن تكون "قطعية الدلالة وقطعية الثبوت"، بمعنى أن تكون دلالتها واضحة وقاطعة، لا تقبل الاحتمالات، وأن يكون ثبوتها قطعيا، من حيث الرواية، والأكثرون يشترطون في النصوص الدالة على أمور اعتقادية أن تكون "متواترة"، ولا يقبلون الإلزام في هذا الباب بأحاديث الآحاد.. أما إذا لم تكن النصوص "قطعية الدلالة، قطعية الثبوت" فإنهم -غير السلفية- لا يرون وجودها مانعا من إعمال الرأي فيها أو الاجتهاد معها.. فالاجتهاد مع النصوص، في هذه الحالات، أمر وارد، بل ومقرر عند غير السلفيين من العلماء..
أما علماء السلفية فإنهم يرون في وجود النصوص والمأثورات مانعا من أعمال الرأي فيها، وذلك بصرف النظر عن قطعية دلالتها وقطعية ثبوتها.. ولقد سبق ورأينا إفتاء أحمد بن حنبل بوجوب التزام الحديث الضعيف، والامتناع عن "الرأي" عند وجوده، وإفتاءه بالحكمين المختلفين في الأمر الواحد عند وجود نصين متعارضين فيه، ذلك دون إعمال "الرأي" في الموازنة بينهما والترجيح لأحدهما على الآخر!.. والروايات في هذا الباب عن إمام السلفية كثيرة، فمحمد بن أحمد بن واصل المقري يقول: "سمعت أحمد بن حنبل -وقد سئل عن الرأي- فرفع صوته، وقال: لا يثبت شيء من الرأي، عليكم بالقرآن والحديث والآثار ... "1.
أما عندما لا يوجد نص أصلا في الأمر يعرض للإنسان، وبعد أن
__________
1 الطرق الحكمية ص400.(1/107)
يعرض الأمر على الكتاب، ثم السنة، ثم مأثورات الصحابة وأقضيتهم فلا يجد فيها نصا، فإن الأخذ "بالرأي" هنا يجوز، يتفق في ذلك السلفيون مع غيرهم من العلماء.. لكن علماء السلفية يعودون فيتقربون بهذا "الرأي" من "النصوص والمأثورات"، وذلك عندما يقدمون مرتبة "الرأي" "المروي" عن الذين شاهدوا التنزيل، أي: "رأي الصحابة"، ثم "الرأي المفسر للنصوص"، ثم "الرأي الذي تواطأت عليه الأمة، وتلقاه خلفهم عن سلفهم" على غيره.. ثم يعودون أيضا فيقررون أن هذا "الرأي"، في هذه الحالات، وبهذه الشروط، لا يفيد أكثر من "الظن"!، وأنه غير ملزم للآخرين، بل ومذموم!.. وبعبارة ابن القيم: فإن "الصحابة يخرجون الرأي علن العلم، ويذمونه، ويحذرون منه، وينهون عن الفتيا به، ومن اضطر منهم إليه أخبر أنه ظن، وأنه ليس على ثقة منه ومن الشيطان، وأن الله ورسوله بريء منه، وأن غايته أن يسوغ الأخذ به عند الضرورة، من غير لزوم لأتباعه والعمل به ... "1.
ذلك موقفهم من "الرأي".. جاء متسقا مع منهجهم النصوصي، الذي ينحي العقل جانبا طالما وجدت النصوص والمأثورات.
__________
1 أعلام الموقعين. جـ1 ص79، 82، 83، 60، 61.(1/108)
النص لا القياس:
وفي الموقف من "القياس" نجد السلفية يقبلون جوانب يعدها غيرهم من القياس، لكنهم هم يخرجونها من إطاره.. كما نجدهم يحددون للمقبول منه شروطا تضيق منه نطاقه إلى حد كبير.. ثم هم ينظرون إليه نظرتهم إلى "الرأي" في حضرة النصوص!..
فإذا كان المراد بالقياس: "رد الشيء إلى نظيره" قبلوه، شريطة أن يكون التماثل بينهما تاما ومن كل الوجوه.. وبعبارة الإمام أحمد: فإن
"القياس: أن يقاس الشيء على الشيء إذا كان مثله في كل أحواله، فأما إذا أشبهه في حال وخالفه في حال فأردت أن تقيس عليه فهذا خطأ.." كما يقبلون رد الفروع إلى أصولها، وإن لم يعدوها -على خلاف الآخرين- قولا بالرأي1.. أما إذا أريد بالقياس: "المعنى المستنبط من النص لتعدية الحكم من المنصوص عليه إلى غيره" فإنه عندهم غير مقبول.. وهذا الذي لم يقبلوه من أنواع القياس هو الميدان الأوسع والأساس للقياس عند غير السلفيين من العلماء!..
وهذا الموقف الذي وقفه السلفيون من القياس هو الآخر أثر من آثار منهجهم النصوصي.. فهم تبعا لهذا المنهج قد رأوا أن النصوص والمأثورات قد أحاطت بحكم جميع الحوادث، الماضي منها والحاضر والمستقبل، ومن ثم فلا حاجة للقياس، كما أنه لا حاجة للرأي؛ لأن النص إذا وجد -وهو في رأيهم موجود- فلا مكان للقياس.. ولقد عرض ابن القيم لموقف الفرق الإسلامية من إحاطة النصوص بحكم جميع الحوادث، وتحدث عن انقسام هذه الفرق في هذه القضية إلى معسكرات ثلاثة، أنكر أولها إحاطة النصوص بأحكام الحوادث، بل ولا بعشر معشارها.. ومن ثم قرر أن الحاجة إلى القياس تفوق الحاجة إلى النصوص.. وقابل هذا المعسكر القائلون ببطلان كل قياس، وتحريمه جليا كان هذا القياس أو خفيا.. وهم ذلك أنكروا وجود الحكمة أو العلة في التشريع.. أما المعسكر الثالث -وهم الأشعرية- فقد نفوا لحكمة والعلة والسببية، ومع ذلك أقروا بالقياس..
وبعد أن يعرض ابن القيم لآراء هذه الفرق الثلاث في القياس، يقرر أن للسلفية موقفا متميزا.. فهم يؤمنون بإحاطة النصوص بأحكام جميع الحوادث، ومع ذلك يقولون بالقياس "الصحيح"!.. وحتى يفهم جمعه بين
__________
1 المصدر السابق. جـ1 ص269، 53.(1/109)
هذين الأمرين، نقول: إنه يجيز استعمال القياس "الصحيح"، أي: الذي يكون الشبه فيه تاما بين المقيس والمقيس عليه، عندما تخفى دلالة النص على العالم.. فالنص موجود، لكن خفاء دلالته يبيح للعالم القياس، فإذا فهم النص واتضحت موافقة القياس له كان صحيحا؛ لأن العمدة هنا هو النص، وإن ظهر خلاف القياس مع النص كان فاسدا؛ لأن العمدة هو النص باستمرار.. وعبارته التي صاغ فيها مذهب السلفية هذا تقول: " ... والصواب وراء ما عليه الفرق الثلاث، وهو: أن النصوص محيطة بأحكام الحوادث، ولم يحلنا الله ولا رسوله على رأي ولا قياس، بل قد بين الأحكام كلها، والنصوص كافية وافية بها، والقياس الصحيح حق مطابق للنصوص، فهما دليلان للكتاب والميزان، وقد تخفى دلالة النص أو لا تبلغ العالم فيعدل إلى القياس، ثم قد يظهر موافقا للنص فيكون قياسا صحيحا، وقد يظهر مخالفا له فيكون فاسدا، وفي نفس الأمر لا بد من موافقته أو مخالفته، ولكن عند المجتهد قد تخفى موافقته أو مخالفته ... إننا نقول قولا ندين الله به، ونحمد الله على توفيقنا له، ونسأله الثبات عليه: إن الشريعة لم تحوجنا إلى قياس قط، وإن فيها غنية عن كل رأي وقياس وسياسة واستحسان، ولكن ذلك مشروط بفهم يؤتيه الله عبده فيها"..
بل لقد عقد في كتابه "أعلام الموقعين" فصولا ثلاثة، اعتبرها "من أهم فصول الكتاب"، وجعل عناوينها:
- "الفصل الأول: في بيان شمول النصوص للأحكام، والاكتفاء بها عن الرأي والقياس".
- "الفصل الثاني: في سقوط الرأي والاجتهاد والقياس، وبطلانها مع وجود النص".
- "الفصل الثالث: في بيان أن أحكام الشرع كلها على وفق القياس الصحيح، وليس فيما جاء به الرسول حكم يخالف الميزان والقياس(1/110)
الصحيح"..1 هذا هو موقف المنهج النصوصي للسلفية من القياس.
النص.. لا التأويل.. ولا الذوق.. ولا العقل.. ولا السببية:
واتساقا مع منهج السلفية النصوصي رفضوا "التأويل" -الذي هو: صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى يحتمله2-. بل ذهبوا إلى أن التأويل هو الذي أفسد سائر الأديان، وحولها عن الاستقامة والسداد3.
وكذلك رفضوا "ذوق" الصوفية و"وجدهم"، لأنها أمور ذاتية تختلف باختلاف أهواء صاحبها وما يحبه ويهواه، واستنكروا تقسيم الصوفية الأمور إلى "شريعة" لغيرهم، و"حقيقة" لهم، جعلوا سبيلها الرياضة والسلوك، غير المقيد بأمر الشارع ونهيه، اكتفاء "بالذوق والوجد".. لأن النصوص هي مصدر الأمر والنهي الإلهيين4..
كما رفضوا ما يسميه المتكلمون "حقائق عقلية" لم تشهد عليها السمعيات.. وعرضوا وهم يناقشون هذه القضية للموقف من العقل، فلم ينكروه؛ لأن السمعيات قد تحدثت عنه {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} 5، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 6، {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} 7.. ولكنهم
__________
1 المصدر السابق. جـ1 ص333-337، 267، 268، 350.
2 انظر "التعريفات" للشريف الجرجاني. طبعة القاهرة سنة 1938م.
3 أعلام الموقعين. جـ4 ص250.
4 ابن تيمية "رسالة العبودية" ص567، 568 - ضمن "مجموعة التوحيد".
5 تبارك: 10.
6 الرعد: 4.
7 الحج: 46.(1/111)
أنكروا "العقل" كما تصوره الفلاسفة اليونان، ومن نحا نحوهم من علماء الإسلام وفلاسفته، وهو التصور الذي يجعل "العقل عندهم جوهرا قائما بنفسه"، وقالوا: إن "العقل" لا يعدو: "الغريزة التي جعلها الله في الإنسان يعقل بها".
وهذا الخلاف حول "العقل".. هل هو جوهر قائم بنفسه، أم مجرد "غريزة جعلها الله في الإنسان" ليس خلافا شكليا ولا هينا، ذلك أن القول بأنه جوهر قائم بنفسه يجعله أداة تدرك كنه الأشياء وإن لم ترد فيها نصوص ولا مأثورات، أما إذا كان مجرد غريزة جعلها الله في الإنسان يعقل بها فإن هذا التصور له يوحي بعدم استقلاله بالإدراك، كسبب أول لهذا الإدراك.. ويزكي هذا التفسير أن السلفية يحكمون بالضعف أو الوضع على "كل ما ورد في فضل العقل من الأحاديث! "1.. فنحن هناء بإزاء موقف يغض من شأن العقل لحساب النصوص والسمعيات.. وهذا الموقف الذي تتخذه السلفية من العقل لا يوافقهم عليه الكثيرون من فرق الإسلام وعلمائه، هؤلاء العلماء الذين لم يمنعهم الخلاف حول تقديرهم لسلطان العقل بإزاء السمعيات، ولا اختلافهم في تعريف العقل من ترجيح تعريفه القائل: "إنه جوهر مجرد، يدرك الغائبات بالوسائط والمحسوسات بالمشاهدة.."2.
أما السببية.. فإن السلفية تتخذ منها موقفا وسطا -أو يبدو كذلك- ففي رأي ابن القيم أن الناس قد افترقوا بإزاء الأسباب والسببية إلى طرق ثلاث: فقوم أنكروا السببية على الإطلاق، وقالوا إن الله سبحانه هو السبب الأوحد لوجود المسببات.. وقوم أثبتوا السببية،
__________
1 ابن تيمية: "العبودية" ص568 و"الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" ص776، 737 ضمن "مجموعة التوحيد".
2 "التعريفات" للجرجاني.(1/112)
وقالوا بلزوم المسببات عن أسبابها لزوم المعلول عن العلة، دائما وأبدا، دون تخلف، وهؤلاء هم "الطبائعية والمنجمون والدهرية" ... والفريق الثالث، وهم السلفية، اعترفوا بالأسباب، وبفعلها في المسببات، لكن ليس على وجه الاستقلال بالفعل؛ لأن السبب عندهم يظل دائما وأبدا محتاجا، كي يفعل المسبب إلى سبب آخر، والسبب الذي يفعل دون حاجة إلى سبب غيره هو الله سبحانه1 ... "فما شاء كان، وإن لم يشأ الناس، وما شاء الناس لا يكون إلا أن يشاء الله.. والله وإن كان قد خلق ما خلقه لأسباب، فهو خالق السبب والمقدر له، والسبب مفتقر إليه كافتقار المسبب، وليس في المخلوقات سبب مستقل بفعل خير ولا دفع ضر، بل كل ما هو سبب فهو محتاج إلى سبب آخر يعاونه، وإلى ما يدفع عنه الضرر الذي يعارضه ويمانعه، وهو سبحانه وحده الغني عن كل ما سواه.."2.
ومن يمعن النظر في هذا الموقف، الذي حسبه السلفية طريقا ثالثا، بين منكري السببية بإطلاق ومثبتيها بإطلاق، يجده شديد الشبه بموقف الذين ينكرونها؛ لأن الأسباب إذا لم تستقل بالفعل لم تكن فاعلة على التحقيق، ومن ثم لم تكن أسبابا للمسببات، والقول بأنها مستقلة بالفعل لا يتعارض مع أنها كغيرها مخلوقة لله، فمثلها كمثل القوانين والسنن في الكون، برأها الله لتفعل هي أفعالها دون تبديل.. لكنه المنهج النصوصي الذي اختارته السلفية، واتسقت مع معطياته وهي تنظر في مختلف المجالات..
__________
1 أعلام الموقعين. ج298، 299.
2 ابن تيمية "الواسطة بين الحق والخلق" ص148، 149. و"العبودية" ص605، 606 ضمن "مجموعة التوحيد".(1/113)
النصوص وحدها مصدر الحلال والحرام:
ومن إيجابيات المنهج النصوصي للحركة السلفية تضييق دائرة "الحرام والحلال"، بقصرها على الأمور الدينية التي وردت فيها النصوص والمأثورات، وذلك على عكس الذين توسعوا في هذا الباب، متخذين الرأي والقياس، بل والشهوات، وسيلة لإحراج الناس والتضييق عليهم، عندما مدوا نطاق "الحل والحرمة" إلى ما وراء أمور الدين التي نص الشارع على حلها أو حرقها.. والسلفيون يميزون هنا بين حكم البشر وبين حكم الله ورسوله.. فحكم الله ورسوله، القائم في النصوص، هو الذي يندرج تحت "الحل والحرمة والوجوب والكراهة الدينية"، أما ما عدا ذلك من أحكام البشر في الأمور التي لم يرد فيها نص فإنها تدخل في باب النافع أو الضار، وما ينبغي وما لا ينبغي، وما يحسن وما لا يحسن.. ومن أدخلها في نطاق الحلال والحرام فقد ادعى لنفسه سلطان الله!.. وفي نص واضح وحاسم وشامل يقول ابن القيم: إنه "لا يجوز للمفتي أن يشهد على الله ورسوله بأنه أحل كذا أو حرمه أو أوجبه أو كرهه إلا لما يعلم أن الأمر فيه كذلك مما نص الله ورسوله على إباحته أو تحريمه أو إيجابه أو كراهته، أما ما وجده في كتابه الذي تلقاه عمن قلده دينه فليس له أن يشهد على الله ورسوله به، ويغر الناس بذلك، ولا علم له بحكم الله روسوله. قال غير واحد من السلف: ليحذر أحدكم أن يقول: أحل الله كذا، أو حرم الله كذا، فيقول الله له: كذبت لم أحل كذا، ولم أحرمه. وثبت في صحيح مسلم من حديث بريدة بن الحصيب أن رسول الله قال: "وإذا حاصرت حصنا فسألوك أن تنزلهم على حكم الله ورسوله، فلا تنزلهم على حكم الله ورسوله، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا، ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك" ... فتأمل كيف فرق بين حكم الله وحكم الأمير المجتهد، ونهى أن يسمى حكم المجتهدين حكم الله.. ومن هذا لما كتب الكاتب بين يدي عمر بن الخطاب حكما حكم به فقال: هذا ما أرى الله أمير المؤمنين عمر، فقال: لا تقل هكذا، ولكن قل: هذا ما أرى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب. وقال ابن وهب: سمعت مالكا يقول: لم يكن من أمر الناس ولا(1/114)
من مضى من سلفنا ولا أدركت أحدا اقتدى به يقول في شيء: هذا حلال، وهذا حرام، وما كانوا يجترئون على ذلك، وإنما كانوا يقولون: نكره كذا، ونرى هذا حسنا، فينبغي هذا، ولا نرى هذا.. ولا يقولون حلال ولا حرام، أما سمعت قول الله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} 1 الحلال: ما أحله الله ورسوله، والحرام: ما حرمه الله ورسوله.. وسمعت شيخ الإسلام2 يقول: حضرت مجلسا فيه القضاة وغيرهم، فجرت حكومة حكم فيها أحدهم بقول زفر3، فقلت له: ما هذه الحكومة؟ فقال: هذا حكم الله، فقلت له: صار قول زفر هو حكم الله الذي حكم به وألزم به الأمة؟! قل: هذا حكم زفر، ولا تقل: هذا حكم الله.."4.
ولابن تيمية نص آخر يعلل فيه هذا الموقف السلفي، النابع من منهجهم النصوصي، يقول فيه: " ... والأصل في هذا أنه لا يحرم على الناس من المعاملات التي يحتاجون إليها إلا ما دل الكتاب والسنة على تحريمه، كما لا يشرع لهم من العبادات التي يتقربون بها إلى الله إلا ما دل الكتاب والسنة على شرعه، إذ الدين ما شرعه الله، والحرام ما حرمه الله، بخلاف الذين ذمهم الله حيث حرموا من دون الله ما لم يحرمه الله، وأشركوا به ما لم ينزل به سلطانا، وشرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله.."5.
ونحن إذا قارنا هذا الموقف السلفي، الذي يميز بين حكم الله وحكم المجتهدين من الناس، بموقف أولئك الذين يجعلون فتاواهم، فيما لا نص
__________
1 يونس: 59.
2 أي: ابن تيمية شيخ ابن القيم.
3 زفر بن الهذيل "110-158هـ 728-775م" فقيه كبير، من أصحاب أبي حنيفة، أسهم إسهاما ملحوظا في تدوين الكتب.
4 أعلام الموقعين. جـ4 ص175، 176. جـ1 ص39.
5 "السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية" ص180. طبعة القاهرة سنة 1971م.(1/115)
فيه، قسما من أقسام الحلال والحرام، أي: دينا وشرعا، وجدنا الموقف السلفي يرفع الكثير من الحرج عن الناس عندما يترك ما لم يرد فيه نص بعيدا عن ميدان الحل والحرمة، على حين يضيق الآخرون على الناس بإدخالهم جميع أنواع المعاملات الإنسانية في إطار الحلال أو الحرام!..
تناقض:
لكننا إذا تتبعا مدى التزام أعلام الحركة السلفية بمنهجهم النصوصي هذا، لم نعدم رؤية شيء من التناقض وقعوا فيه، وابتعدت آراؤهم في مواضعه عن الاتساق مع منهجهم النصوصي.. ذلك أن من آراء الحركة السلفية الجيدة والمتقدمة رأيها في "تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد" وهم يصفون هذا المبدأ بأنه "عظيم النفع جدا"، كما أنهم قد أسسوه على أن "الشريعة مبنية على مصالح العباد في المعاش والمعاد.. فمبناها وأساسها على الحكم، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها.."1.
وهم كذلك يؤسسون العلم الضروري للحاكم -القاضي- على نوعين من الفقه: فقه الواقع الذي يعيشه الناس.. وفقه النصوص الواردة في المشكلات التي يرفعها إليه المتحاكمون.. ويجعلون القضاء: مطابقة الواجب من النصوص على أحكام العرف والواقع والحوادث.. بل ويرون أن معرفة الواقع والتفقه فيه هو المنطلق إلى معرفة حكم الله ورسوله في هذا الواقع "فههنا نوعان من الفقه، لا بد للحاكم منهما: فقه في أحكام الحوادث الكلية، وفقه في نفس الواقع وأحوال الناس ... ثم يطابق بين هذا وهذا، فيعطي الواقع حكمه من الواجب، ولا يجعل الواجب مخالفا للواقع2.
__________
1 أعلام الموقعين. جـ3 ص3.
2 الطرق الحكمية ص5، 130.(1/116)
فالمفتي والحاكم -القاضي- والعالم: من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله ... "1.
ولما كان هذا الواقع متغيرا متطورا كانت الفتاوى والأحكام متغيرة متطورة هي الأخرى؛ لأن تغير الواقع يستلزم تغير المصالح، وهي التي عليها مبنى الشريعة الإسلامية ... ولقد ضرب أعلام السلفية العديد من الأمثلة على أمور تغيرت فيها الفتاوى والأحكام بتغير الأزمنة والأمكنة واختلاف المصالح..
- فالقرآن والسنة قررا الحد على السارق ... لكن عام الرمادة جعل عمر بن الخطاب "يرى" إسقاط القطع عن السارق.
- والقرآن والسنة النبوية -القولية والعملية- جعلت الطلاق بلفظ الثلاث طلقة واحدة، وجاء الإجماع فصدق على هذه النصوص من أبي بكر وسنتين من خلافة عمر ... ثم "رأى" عمر بن الخطاب أن يغير الفتوى والحكم فجعله ثلاثا ... أي: إننا بإزاء حكم "دل عليه الكتاب والسنة والقياس والإجماع القديم، ولم يأت بعده إجماع يبطله، ولكن "رأي" أمير المؤمنين عمر أن الناس قد استهانوا بأمر الطلاق، وكثر منهم إيقاعه جملة واحدة، "فرأى" من "المصلحة" عقوبتهم بإمضائه عليهم ... "2.
- الإماء وأمهات الأولاد: كن يبعن على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم.. فهذا البيع مقرر كسنة.. فلما كانت خلافة عمر بن الخطاب "منع بيع أمهات الأولاد.. وكان ذلك "رأيا" منه رآه للأمة ... "3.
... إلخ ... إلخ ... إلخ ... إلخ ... إلخ ...
__________
1 أعلام الموقعين. جـ1 ص87، 88.
2 المصدر السابق. جـ3 ص10-12، 30، 35، 36، 41. والطرق الحكمية. ص23.
3 الطرق الحكمية. ص24.(1/117)
فنحن إذن بإزاء أحكام قررتها نصوص من القرآن والسنة معا، أو من السنة وحدها، أو من القرآن والسنة والقياس والإجماع، سواء في العهد النبوي أو عهد الخلفاء.. ثم تغير الواقع، فتغيرت المصالح، فجاء "الرأي" فغير هذه الأحكام.. هكذا حكى أعلام السلفية، من أحمد بن حنبل إلى ابن القيم.. وعلى أساس هذه الوقائع قرروا أن "الفتاوى والأحكام تتغير وتختلف بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد" ... بل لقد جعل ابن القيم من هذه العبارة عنوان فصل عقده لهذا الموضوع، ووصفه بأنه "فصل عظيم النفع جدا ... "1.. وهنا.. وعند هذا الموقع من التأمل والنظر، نسأل:
- ألا يتناقض هذا الذي سلم به السلفيون، بل قرروه، وعقدوا له الفصول في آثارهم الفكرية، ألا يتناقض مع منهجهم النصوصي، الذي يحرم "الرأي" عندما يوجد النص، حتى ولو كان ذلك النص حديثا ضعيفا؟!.
إننا نرى التناقض واضحا وجليا ... ذلك أن القول بتطور الواقع وتغيره, وهي حقيقة ... وبتغير المصالح تبعا لتغير الواقع وتطوره, وهي حقيقة ثانية ... ثم القبول بتغير الأحكام والفتاوى "بالرأي"، بسبب هذه المتغيرات، رغم وجود النصوص والمأثورات.. إن القول بذلك إنما يهز ثبات العموم والإطلاق اللذين قررهما المنهج السلفي لسلطان النصوص والمأثورات!..
وحتى إذا سلمنا بأن هذه الأمثلة، التي غير فيها "الرأي" أحكاما تقررت من قبل بالنصوص، هي من "السياسات الجزئية"، وليست من "الشرائع الكلية التي لا تتغير بتغير الأزمنة" فإن العموم والإطلاق اللذين
__________
1 أعلام الموقعين. جـ3 ص3.(1/118)
يضفيهما المنهج السلفي على النصوص سيهتز ثباتهما بالتأكيد.. ولعل ابن القيم قد شعر بهذا التناقض فقال: "والمقصود أن هذا وأمثاله سياسة جزئية بحسب المصلحة، تختلف باختلاف الأزمنة، فظنها من ظنها شرائع عامة لازمة للأمة إلى يوم القيامة. وهذه السياسة التي ساسوا بها الأمة، وأضعافها، هي تأويل القرآن والسنة. ولكن هل هي من الشرائع الكلية التي لا تتغير بتغير الأزمنة؟ أو من السياسات الجزئية التابعة للمصالح، فتتقيد بها زمانا ومكانا؟ ... إن أضعاف أضعاف هذه المسائل مما جرى العمل فيه على العرف والعادة.."1 ونحن نتفق معه في أن كل ما ارتبط بالمصالح فالتغيير فيه، بواسطة "الرأي"، بل وبواسطة "التأويل كما قال هو: أمر وارد ومقرر، رغم وجود النصوص والمأثورات.. وبعد ذلك لنا أن نسأل: إذا كان هذا التغيير في الأحكام قد امتد إلى الحدود -حد السرقة، وحد الخمر- فهل هما من السياسات الجزئية؟.. وما هي إذن الشرائع الكلية؟.. وفي رأينا أن الأوفق هو النأي "بالعقائد والثوابت" عن التغير تبعا للزمان والمكان، وما عداها، مما يرتبط بالمصالح من الشرائع والسياسات، فإن "للرأي" فيه مجالا، تبعا للواقع والمصلحة، حتى مع وجود النصوص والمأثورات.. فكما يجب التمييز بين شرائع وسياسات ترتبط بالمصالح، وتتغير بتغيرها، وأخرى ثابتة لا تتغير، كذلك يجب التمييز بين نصوص "العقائد والثوابت" ونصوص المتغيرات!..
__________
1 الطرق الحكمية. ص25، 26، 33.(1/119)
في الفكر السياسي:
في التراث السياسي القديم للحركة السلفية تبرز صفحات الفكر السياسي التي بقيت لنا من آثار ابن تيمية وابن القيم ... وفي هذه الصفحات تنعكس التطورات والتغيرات التي طرأت على واقع المجتمع، تنعكس في اتساع مضمون مصطلح "الشرع والشريعة" عند أعلام سلفية العصر الوسيط..
ففي عصر الوحي والبعثة كان مصطلح "الشرع" يعني الكتاب والسنة، أي: الشرع المنزل، وكانت أحكام هذا الشرع قد نمت وتكاملت كاستجابة لما طرحته حياة ذلك العصر من حوادث ومشكلات ... لكن الحوادث لا تتناهى، وتطور الحياة واختلاف الأماكن يطرح منها الجديد والمزيد، الأمر الذي جعل الفقهاء والعلماء والمجتهدين، ومنهم الولاة والحكام، "يشرعون" أحكاما لما استجد ويستجد من الأحداث، فنشأ إلى جوار "الشرع المنزل": "الشرع المتأول".. وهذا "الشرع المتأول"، الشامل لاجتهادات المجتهدين وفقه الفقهاء وتشريعات الحكام والولاة، والذي يمكن أن نسميه "تراث الأمة القانوني والسياسي" قد أصبح مما يندرج تحت مصطلح "الشرع والشريعة" وإن لم تكن له قدسية الدين وإلزام "الشرع المنزل" لجميع المؤمنين.. فهنا نمو في "الشريعة والشرع"، ولكنه نمو يتكون منه "بناء قانوني" ذو "طبيعة مدنية"، وليس دينية، إذا استخدمنا هذا المصطلح الحديث.. وابن تيمية وابن القيم يدافعان عن اندراج هذا "البناء القانوني - السياسي" تحت مصطلح "الشرع والشريعة"، ويقرران تجاوز مضمون هذا المصطلح لما نص عليه القرآن والحديث: فلقد "صار لفظ "الشرع" غير مطابق لمعناه الأصلي، بل لفظ "الشرع" في هذه الأزمنة ثلاثة أقسام:(1/120)
الشرع المنزل والشرع المتأول والشرع المبدل:
الشرع المنزل: وهو الكتاب والسنة، واتباعه واجب.
والشرع المتأول: الذي هو حكم الحاكم.. أو قول أئمة الفقه ... واتباع أحدهم ليس واجبا على جميع الأمة، كما هو حال الشرع المنزل..
والشرع المبدل: الذي هو افتراء على الشريعة وإضافة إليها ما ليس منها ... "1.
ولقد كان بعض المعاصرين لأعلام السلفية هؤلاء يقف بهم جمودهم عند حدود المضامين التي كانت لمصطلح "الشريعة" في عصر الوحي والبعثة، فسموا "تراث الأمة القانوني" الذي نما استجابة لمحدثات الأمور وتطورات الحياة "سياسة" ورفضوا إدراجها تحت مصطلح "الشريعة"، ولقد أدى تضييقهم هذا لنطاق مضمون "الشريعة" إلى جعل الولاة والحكام يقننون لأحداث الحياة ومشكلاتها وفق أهوائهم، الأمر الذي قطع الصلاة بين "السياسة" و"الشريعة"!.. لكن أعلام السلفية اتخذوا لأنفسهم موقفا عبقريا بالغ العمق في هذا الموضوع، فقرروا أن مقاصد الشريعة: هي إقامة العدل، وتحقيق المصالح ودفع المضار في المجتمع، ومن ثم فإن كان ما يحقق هذه المقاصد فهو "شرع وشريعة"، أو جزء من "الشرع والشريعة"، حتى ولو لم ينزل به الوحي ولم ينطق به الرسول ... وهكذا جعلوا المعيار في "الشريعة" هو "المصلحة وتحقيق العدل"، وليس ما كان "شرعا شريعة" في عصر النبوة والتنزيل.. ويزيد من روعة هذا الموقف المتقدم أن أصحابه هم السلفيون أصحاب المنهج النصوصي، يميل أصحابه -بداهة- إلى المحافظة والجمود!.
ونحن لا نستطيع أن ندع الحديث عن هذه الصفحة من صفحات الفكر السياسي للحركة السلفية دون أن نورد واحدا من نصوص ابن القيم في هذا الموضوع، فهو يقول تحت عنوان: "اختلاف العلماء في العمل بالسياسة":
" ... وجرت في ذلك مناظرة بين أبي الوفاء ابن عقيل2، وبين بعض
__________
1 ابن القيم "الطرق الحكمية" ص145، 146. وابن تيمية "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" ص771، 772، 774، 775.
2 علي بن عقيل بن محمد بن عقيل البغدادي "431-513هـ 1040-1119م" كان معتزليا في بدء حياته، ثم صار حنبليا، وأصبح شيخ الحنابلة ببغداد، وعالم أهل العراق.. وكتابه "الفنون"، المشار إليه، يقول عنه الذهبي: إنه لم يصنف في الدنيا أكبر منه، إذ بلغ أربعمائة جزء، ولقد ضاع ولم يبق منه إلا القليل.(1/121)
الفقهاء "من الشافعية":
فقال ابن عقيل: العمل بالسياسة هو الحزم، ولا يخلو منه إمام..
فقال الآخر: لا سياسة إلا ما وافق الشرع.
فقال ابن عقيل: السياسة ما كان من الأفعال بحيث يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يشرعه الرسول ولا نزل به وحي، فإن أردت بقولك: "لا سياسة إلا ما وافق الشرع"، أي: لم يخالف ما نطق به الشرع، فصحيح، وإن أردت ما نطق به الشرع، فغلط وتغليط للصحابة، فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والمثل1 ما لا يجحده عالم بالسير، ولو لم يكن إلا تحريق المصاحف كان رأيا اعتمدوا فيه على مصلحة، وكذلك تحريق علي، كرم الله وجهه، الزنادقة في الأخاديد، عندما قال:
لما رأيت الأمر أمرا منكرا ... أججت ناري ودعوت قنبرا2
ونفي عمر بن الخطاب لنصر بن حجاج ... " من المدينة عندما خشي منه فتنة نساء المجاهدين المقاتلين!..
وبعد أن يورد ابن القيم نص حوار ابن عقيل مع الفقيه الشافعي، وهو الحوار الذي يقرر فيه ابن عقيل أن "السياسة" التي لا تخالف ما نطق به الشرع، والتي تستجيب "للمصلحة" هي شرع، اتسع لها وبها مضمون مصطلح "الشريعة".. بعد أن يورد ذلك يعقب فيقول:
__________
1 أي: التمثيل -"التشويه"- بمن توقع عليهم العقوبات.
2 قنبر: غلام علي بن أبي طالب.(1/122)
" ... وهذا موضع مزلة أقدام، ومضلة أفهام، وهو مقام ضنك في معترك صعب، فرط فيه طائفة فعطلوا الحدود، وضيعوا الحقوق، وجرءوا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد، وسدوا على أنفسهم طرقا صحيحة من الطرق التي يعرف بها المحق من المبطل، وعطلوها، مع علمهم وعلم الناس بها أنها أدلة حق، ظنا منهم منافاتها لقواعد الشرع، والذي أوجب لهم ذلك نوع تقصير في معرفة حقيقة الشريعة والتطبيق بين الواقع وبينها، فلما رأى ولاة الأمر ذلك، وأن الناس لا يستقيم أمرهم إلا بشيء زائد على ما فهمه هؤلاء من الشريعة، فأحدثوا لهم قوانين سياسية تنتظم بها مصالح العالم، فتولد من تقصير أولئك في الشريعة وإحداث هؤلاء ما أحدثوه من أوضاع سياستهم شر طويل، وفساد عريض، وتفاقم الأمر وتعذر استدراكه. وأفرط فيه طائفة أخرى، فسوغت منه ما يناقض حكم الله ورسوله. وكلا الطائفتين أتيت من قبل تقصيرها في معرفة ما بعث الله به ورسوله، فإن الله أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به السموات والأرض، فإذا ظهرت أمارات الحق، وقامت أدلة العقل، وأسفر صبحه بأي طريق كان، فثم شرع الله ودينه ورضاه وأمره، والله تعالى لم يحصر طرق العدل وأدلته وأماراته في نوع واحد وأبطل غيره من الطرق التي هي أقوى منه وأدل وأظهر، بل بين ما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة الحق والعدل وقيام الناس بالقسط، فأي طريق استخرج بها الحق ومعرفة العدل وجب الحكم بموجبها ومقتضاها، والطرق أسباب ووسائل لا تراد لذواتها، وإنما المراد غاياتها، التي هي المقاصد، ولكن نبه بما شرعه من الطرق على أسبابها وأمثالها، ولن نجد طريقا من الطرق المثبتة للحق إلا وهي شرعة وسبيل للدلالة عليها. وهل يظن بالشريعة الكاملة خلاف ذلك؟.. إننا لا نقول: إن السياسة العادلة مخالفة للشريعة الكاملة، بل هي جزء من أجزائها وباب من أبوابها، وتسميتها سياسة أمر اصطلاحي، وإلا فإذا كانت عدلا فهي(1/123)
من الشرع.. وتقسيم بعضهم طرق الحكم إلى: شريعة وسياسة كتقسيم غيرهم الدين إلى: شريعة، وحقيقة، وكتقسيم آخرين الدين إلى: عقل، ونقل. وكل ذلك تقسيم باطل، بل السياسة والحقيقة والطريقة والعقل، كل ذلك ينقسم إلى قسمين: صحيح، وفاسد، فالصحيح قسم من أقسام الشريعة، لا قسيم لها، والباطل ضدها ومنافيها.. ومن له ذوق في الشريعة، واطلاع على كمالها وتضمنها لغاية مصالح العباد في المحاسن والمعاد، ومجيئها بغاية العدل الذي يسع الخلائق، وأنه لا عدل فوق عدلها، ولا مصلحة فوق ما تضمنته من المصالح، تبين له أن السياسة العادلة جزء من أجزائها، وفرع من فروعها، وأن من أحاط علما بمقاصدها، ووضعها موضعها، وحسن فهمه فيها، لم يحتج معها إلى سياسة غيرها البتة، فإن السياسة نوعان: سياسة ظالمة، فالشريعة تحرمها، وسياسة عادلة، تخرج الحق من الظالم الفاجر، فهي من الشريعة، علمها من علمها، وجهلها من جهلها.. وهذا الأصل من أهم الأصول وأنفعها ... "1.
هكذا "قنن" أعلام السلفية تطور الفكر السياسي والقانوني، فربطوا بين العادل منه وبين الشريعة، واضعين أنظارهم على مقاصد الشريعة، جاعلين هذه المقاصد هي المعيار لما يقبل وما يرفض من القوانين والأحكام التي توضع والتي وضعت لما استجد بعد عصر التنزيل والبعثة من محدثات الأمور..
وإذا كانت هذه النظرة الفكرية الثاقبة، التي طورت ونمت مضمون "الشرع والشريعة" ليشمل "السياسة"، هي واحدة من ثمار الموقف المبدئي للسلفية من ضرورة "فقه الواقع" قبل "فقه الشرع"، حتى يمكن للولاة والعلماء والحكام الانطلاق من "الواقع" إلى "الشرع" في محاولة للتوفيق
__________
1 أعلام الموقعين. جـ4 ص372، 373، 375. و"الطرق الحكمية" ص17-19، 5.(1/124)
والمطابقة بينهما، التي هي في الحقيقية لب سياسة أمور الناس ... فإن هذا الاهتمام "بالواقع" قد عكس في مجالات أخرى مواقف مترددة، انعكس عليها سوء الواقع الظالم الذي عاشه أعلام سلفية العصور الوسطى في ظل مظالم دولة المماليك.
ففي آثارهم الفكرية نجد تقرير حقيقة هامة تقول: إن الولاة هم "وكلاء العباد على نفوسهم" وأنهم "بمنزلة أحد الشريكين مع الآخر، ففيهم معنى الوكالة" وهذه الكلمات تقرر ما نسميه الآن: "الأمة مصدر السلطات، والحكومة نائبة عن الشعب" ... لكن نفس هذه الآثار الفكرية تتحدث عن أن "الولاة: ولاة الله على عباده! "1 بل وتردد المأثورة التي تقول: "إن السلطان ظل الله في الأرض! "2 رغم براءة الشريعة منها لفظا ومضمونا..
وعلى حين تقرر هذه الآثار الفكرية أن شكل الدولة وأقسام ولاياتها واختصاص ولاة هذه الولايات، هي أمور "مدنية"، يحكمها تحقيق المصلحة للأمة، ولا دخل للشرع فيها؛ لأن "عموم الولايات وخصوصها، وما يستفيده المتولي بالولاية: يتلقى من الألفاظ والأحوال والعرف، وليس لذلك حد في الشرع..".. تعود ذات الآثار الفكرية لتتحدث عن أن ولايات الدولة هي "في الأصل ولايات دينية ومناصب شرعية".. وحتى لو كان المراد من وصفها هذا هو الحث على العدل فيها طلبا للمثوبة الأخروية "فمن عدل في ولاية من هذه الولايات، وساسها بعلم وعدل، وأطاع الله ورسوله بحسب الإمكان، فهو من الأبرار العادلين، ومن حكم فيها بجهل وظلم، فهو من الظالمين المعتدين: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي
__________
1 السياسة الشرعية. ص24.
2 المصدر السابق. ص175.(1/125)
جَحِيمٍ} 1 ... "2 ... حتى لو كان هذا هو القصد، فلقد أسهم ذلك في إضفاء الطابع الديني على جهاز للدولة ابتعدت به مظالمه بعدا شديدا عن سلوكيات الدين!..
والموقف من الدولة، التي بلغت في الظلم مبلغا عظيما، اتسم هو الآخر بالتردد بين "الواقع الظالم الذي أصبح عادة مألوفة" وبين "مثل الشرع التي بلغت في تقديس العدل شأوا يأسر العقول والقلوب".. فأقدم أعلام سلفية العصر الوسيط على "نقد الدولة ومعارضتها"، لكنهم أحجموا عن "نزع الشرعية عن جهازها الظالم" فدعوا لطاعته، ونهوا عن الثورة ضده، وارتكبوا في سبيل ذلك تخريجات للنصوص الآمرة بالنهي عن المنكر باليد والفعل، بزعم أن تغير الواقع يدعونا أن نقف عند أدنى مراتب هذا النهي وأضعفها!.. ولم يميز بين "الواقع الجديد" المحقق "للمصلحة"، والذي لا بد من تجاوز النص القديم لأجله، وبين "الواقع الجديد" المظالم والمحقق "للمفسدة"، وهو ما لا يجوز أن نطوع النصوص كي نضعفي عليه شرعية الدين وقداسته!
لقد قرر أعلام سلفية العصر الوسيط أن جماع السياسة أمران لا بد للولاة من أدائهما، وهما: "أداء الأمانات إلى أهلها، والحكم بالعدل، فهذان جماع السياسة العادلة والولاية الصالحة".
وقرروا كذلك أن ولاة الأموال ليسوا ملاكا لما في أيديهم من أموال الأمة، بل هم نواب ووكلاء، ومن ثم فليس لهم أن يتصرفوا فيها تصرف المالكين ...
وقرروا أيضا أن طاعة ولاة الأمور مشروطة بأن لا تكون أوامرهم
__________
1 الانفطار "12، 13.
2 الطرق الحكمية. ص348.(1/126)
معصية، إذ "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"1.
لكن موقف هؤلاء الأعلام، المعادي للثورة، كطريق لإزالة الجور الذي اعترفوا بممارسة الدولة له، والمعاصر التي جأروا هم بالشكوى من شيوعها، ومارسوا النقد لها والمعارضة لأهلها.. إن هذا الموقف المعادي للثورة هو أثر من آثار تحول "الواقع الظالم" إلى "أمر معتاد" أصبح يمارس سلطانا على الفكر، حتى دعا هؤلاء الأعلام إلى تغيير الفتوى -من مشروعية الثورة إلى التحذير منها- تبعا لتغير هذا الواقع! ... ولربما كانت تجارب الأمة في الثورات الفاشلة، عبر تاريخها الطويل، وما جرته من محن وما أسالت من دماء وما عطلت من مصالح.. إلخ.. إلخ.. ربما كانت هذه التجارب جزءا من الخلفية التي أفرزت هذا الموقف المعادي للثورة عند أعلام سلفية العصر الوسيط..
ويلفت النظر أن الحركة السلفية كلها تتفق في هذا الموقف المعادي للثورة! ... ففي "مقالات الإسلاميين" يقول الأشعري: إن أهل الحديث قد اتفقوا على أن "السيف -أي: استخدام القوة في التغيير- باطل، ولو قتلت الرجال وسبيت الذرية، وأن الإمام قد يكون عادلا، ويكون غير عادل، وليس لنا إزالته وإن كان فاسقا، وأنكروا الخروج على السلطان، ولم يروه! "2.
والقاضي أبو يعلى الفراء "380-458هـ 990-1066م" -وهو من أعلام السلفية- يذكر كلمات إمام السلفية أحمد بن حنبل، التي رواها عنه صاحبه عبدوس بن مالك القطان، والتي يدعو فيها إلى الاعتراف بسلطة الحاكم الذي يستبد بالسلطة، ويغلب الناس على حكومتهم، بصرف النظر
__________
1 السياسة الشرعية. ص15، 16، 43.
2 مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين. جـ2 ص451، 452. طبعة استانبول سنة 1929م.(1/127)
عن حظه من العدل ونصيبه من شروط الإمامة كما قررها الفقهاء!.. يقول ابن حنبل: " ... ومن غلب بالسيف حتى صار خليفة، وسمي أمير المؤمنين، فلا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماما عليه، برأ كان أو فاجرا، فهو أمير المؤمنين"1 ... فهو هنا لا يبيح للناس استخدم السيف لمقاومة الوالي الفاجر الذي استبد بحكومتهم، حتى ولو كان استخدامهم للسيف ردا على استخدامه له في الاستبداد بما لا يستحق من السلطة والسلطان!.. ويروي كذلك أبو يعلى عن الإمام أحمد أن تنازع عدد من المستبدين على السلطة لا يعفي الناس من ضرورة الاعتراف بأحدهم، إذ الواجب اتباع "من غلب"؟! 2.
وابن تيمية -الذي عاش في ظل دولة "سلاطين" المماليك -رغم شجاعته في الحق، وجرأته التي أوصلته إلى السجن حتى مات فيه, يردد في آثاره الفكرية تلك المأثورة التي تبرأ منها الشريعة، والتي تقول: "إن السلطان ظل الله في الأرض"، ويحبذ الطاعة للإمام الجائر؛ لأن ضررها أقل بما لا يقارن من أضرار العصيان "فستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة واحدة بلا سلطان3". كما يقول: "إن المشهور من مذهب أهل السنة أنهم لا يرون الخروج -الثورة- على الأئمة وقتالهم بالسيف، وإن كان فيهم ظلم؛ لأن الفساد في القتال والفتنة أعظم من الفساد الحاصل بظلمهم بدون قتال ولا فتنة، فيدفع أعظم الفسادين بالتزام الأدنى"4.
أما ابن القيم -الذي عرفت عنه الشجاعة في الحق، والذي شارك شيخه ابن تيمية السجن والاضطهاد- فإنه يجتهد كي يعلل ويبرر هذا الموقف السلفي المعادي للثورة، والذي لم تجتمع عليه فرقة إسلامية سوى
__________
1 "الأحكام السلطانية" لأبي يعلى. ص4. طبعة القاهرة سنة 1938م.
2 المصدر السابق. ص6.
3 السياسة الشرعية. ص185.
4 منهاج السنة. جـ2 ص87. طبعة القاهرة الأولى.(1/128)
فرقة السلفية، فيتحدث عن السبب في قول السلفية بعدم استخدام السيف -القوة- في إنكار المنكر الذي شاع في المجتمع الإسلامي، رغم وجود النصوص القاطعة بوجوب ذلك، في القرآن والسنة، ويقول إن هذه القضية مما تغير فيها الواقع بتغير الزمان، ومن ثم فلا بد من تغير الفتوى فيها! ... ثم يجتهد لإيراد نصوص من السنة تؤيد عداء السلفية للثورة، فيذكر حديث الصحابة الذين استأذنوا الرسول في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، وكيف رد عليهم الرسول بقوله: "لا ما أقاموا الصلاة".. ونحن نتساءل: ألا يوحي استئذان الصحابة بقتال من يؤخر الصلاة من الأمراء، وتعليق الرسول عدم قتالهم على إقامتهم لها، أنهم إذا لم يقيموها يجوز قتالهم.. ومن باب أولى إذا أشاعوا في الأمة الظلم والجور والفساد، وهي ذنوب يتعدى ضررها ليشمل الأمة، وليست كالصلاة حقا خاصا من حقوق الله؟!.
إن ابن القيم يرى "إن الإنكار على الملوك والولاة، بالخروج عليهم، هو أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر ... ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على المنكر، فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه ... ولهذا لم يأذن الرسول في الإنكار على الأمراء باليد، لم يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه ... ".. ولا يدع ابن القيم مجالا للشك في أن داعيه إلى هذا الموقف هو "الواقع الظالم" الذي عاش فيه، وشبح الانتكاسات التي مرت بها ثورات المسلمين ضد مظالم حكامهم على امتداد التاريخ، فهو يقول: "إن الواجب شيء والواقع شيء، والفقيه من يطبق بين الواقع والواجب، وينفذ الواجب بحسب استطاعته، لا من يلقي العداوة بين الواجب والواقع، فلكل زمان حكم، والناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم، وإذا عم الفسوق وغلب على أهل الأرض فلو منعت إمامة الفساق وشهاداتهم وأحكامهم وفتاويهم وولاياتهم لعطلت الأحكام، وفسد نظام الخلق، وبطلت أكثر(1/129)
الحقوق، ... فأمام الضرورة والغلبة بالباطل ليس إلا الاصطبار، والقيام بأضعف مراتب الإنكار؟."1.
فالدعوة واضحة للصبر على المنكر، والاكتفاء "بأضعف مراتب الإنكار" وهي الإنكار بالقلب، الذي قال عنه الرسول -صلى الله عليه وسلم- إنه "أضعف الإيمان".
ولنا أن نتساءل: عندما يعم الفسوق، وينتشر الظلم، ويسود الجور، ويصبح الفساق هم الأئمة والحكام والولاة -بل والمفتون- في مجتمع الإسلام ... فأية حقوق ومصالح ونظم للخلق ندعوهم أن يدفعوا ثمنا للحفاظ عليها الخضوع لدولة الفساق والصبر على أوان الفسوق؟!.. وألا يكون الأوفق والأكثر اتساقا مع روح الإسلام أن ندعو إلى رفض الجور والظلم ومقاومة الجائرين، مع اشتراط الأعداد والاستعداد كي تكون مقاومة ولاة الجور مجدية، ونجاحها قريب المنال، على نحو ما قرر المعتزلة في هذا الموضوع؟ "انظر: الثورة".
ولنا أيضا أن نتساءل: هل يتسق مع المنهج النصوصي للسلفية الاستناد، في رفض الثورة، إلى نهي الرسول -صلى الله عليه وسلم، عن قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة, مجرد تأخير؟.. في الوقت الذي نهمل فيه حديثا نبويا واضحا وحاسما يدعو المسلمين إلى اللجوء إلى السيف والاعتصام به إذا ما واجههم الشر في المجتمع الذي يعيشون فيه؟.. لقد سأل الصحابي حذيفة بن اليمان رسول الله:
يا رسول الله، أيكون بعد الخير الذي أعطينا شر، كما كان قبله؟! قال: "نعم".
قلت: فبمن نعتصم؟!
__________
1 أعلام الموقعين جـ3 ص4، جـ4 ص220.(1/130)
قال: "بالسيف! ".
ويزيد من أهمية تساؤلنا عن سر إغفال السلفية -أصحاب المنهج النصوصي- لهذا النص، أن أئمة السلفية قد رووه في مسانيدهم.. فلقد رواه أحمد بن حنبل -وهو إمام السلفية- ورواه أبو داود- وهو من أعلام السلفيين! ... لكنه "الواقع الظالم" -كما قلنا- قد ترك بصماته على فكر هؤلاء الأعلام, منذ تبلور حركتهم وحتى صحوتها في العصر الوسيط.
لقد بدأت الحركة السلفية في العصر العباسي كتيار فكري محافظ، تحصن أعلامه بظواهر النصوص والمأثورات، عندما علا سلطان العقل، وأصبح فكر المعتزلة العقلاني أهم قسمة تميزت بها الحياة الفكرية يومئذ في الإمبراطورية العربية الإسلامية.. ذلك أن السلفية قد رأت الأخطار محدقة بصورة الإسلام الأولى، التي ناسبت مدارك الإنسان العربي في عصر البعثة، يوم كانت بساطة البيئة وفقر المجتمع يجعل النصوص والمأثورات كافية في الهداية والرشاد واليقين.. بل لقد رأت السلفية أن صورة الإسلام تلك قد أصبحت غريبة في مجتمع أخذ يتفلسف، ويقدم عقائد الإسلام على نحو ما يقدم الفلاسفة النظريات، فنشأت وتبلورت لتعيد الإسلام إلى صورته الأولى، وبساطته الأصلية، رغم ما طرأ على المجتمع من تغيرات وتطورات، ورغم ما فعلته المواريث الحضارية لشعوب البلاد المفتوحة، وما بلورته من بناء حضاري جديد جاء ثمرة لامتزاجها بفكر الإسلام.
ولقد استجابت السلفية لبساطة الفكر عند العامة وفقر الفكر المركب والفلسفي عند الجمهور، وكذلك استجاب لفكرها وأعلامها العامة والجمهور.. فسارت تصارع الفلسفة وتناقض المتكلمين، معتمدة على النصوص والمأثورات.. واستمرت هكذا في عصر نشأتها الأولى، وكذلك في عصرها الوسيط ... وأيضا من خلال الحركة الوهابية في العصر الحديث،(1/131)
تلك الحركة التي نهضت في شبه الجزيرة العربية، بمهمة تجديد الدين وتنقية عقائده من البدع والخرافات التي تراكمت عليه طوال عصر المماليك والعثمانيين.. وكذلك استمرت السلفية حركة تجديد وبعث وإحياء من خلال الحركة السنوسية في شمال أفريقيا.. ومن خلال الحركة المهدية في السودان..
على أن أكثر مدارس الحركة السلفية خطرا وعظمة وأثرا في العصر الحديث، كانت تلك التي قادها جمال الدين الأفغاني والإمام محمد عبده، والتي كان من أعلامها عبد الرحمن الكواكبي وعبد الحميد بن باديس.. ذلك أن هذه المدرسة السلفية قد ذهبت في عقائد الدين وأصوله مذهب السلف القدماء، ونحت في مشكلاته الدنيا وقضايا الحضارة نحو المعتزلة فرسان العقلانية العربية الإسلامية، فكان تجديدها للدين وتحريرها للعقل، وتبشيرها بحضارة عربية إسلامية متميزة لتكون أمضى سلاح لمواجهة ما طرحه الزحف الاستعماري الأوربي على الشرق من تحديات، كما التأم في البناء الفكري الذي صاغه أعلامها ذلك الانقسام الذي حدث بظهور السلفية القديمة، عندما انقسمت الأمة إلى: نصوصيين، وعقلانيين، ففي هذا البناء تجاوزت النصوص مع العقلانية، وغدا العقل أداة الإنسان الأولى في وعي النصوص!.(1/132)
المصادر:
ابن تيمية:
"السياسية الشرعية في إصلاح الراعي والرعية" تحقيق وتعليق: محمد إبراهيم البنا ومحمد أحمد عاشور. طبعة دار الشعب، القاهرة سنة 1971م.
"منهاج السنة". طبعة القاهرة، الأولى.
"العبودية" ضمن "مجموعة التوحيد" طبعة دار الفكر -بيروت - مصورة عن طبعة المكتبة السلفية بالمدينة.
"الواسطة بين الحق والخلق" ضمن "مجموعة التوحيد".
"الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" ضمن "مجموعة التوحيد".
ابن حنبل "الإمام أحمد":
الرد على الزنادقة والجهمية" منشور ضمن كتاب "عقائد السلف" للدكتور: علي سامي النشار، والدكتور عمار طالبي. طبعة الإسكندرية سنة 1971م.
ابن القيم:
"الطرق الحكمية في السياسة الشرعية" تحقيق: د. محمد جميل غازي. طبعة القاهرة سنة 1977م.(1/133)
ابن منظور:
"أعلام الموقعين عن رب العالمين" مراجعة وتقديم وتعليق: طه عبد الرءوف سعد. طبعة بيروت سنة 1973.
"لسان العرب" طبعة القاهرة.
أبو يعلى الفراء:
"الأحكام السلطانية" طبعة القاهرة سنة 1938م.
الأشعري "أبو الحسن":
"مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين" تحقيق: هـ. ريتر. طبعة استانبول سنة 1929م.
التهانوي:
"كشاف اصطلاحات الفنون" طبعة الهند.
الجرجاني "الشريف":
"التعريفات" طبعة القاهرة سنة 1838م.
محمد عمارة "دكتور":
"مسلمون ثوار" طبعة بيروت، الثانية، سنة 1974م.
محمد فؤاد عبد الباقي:
"المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم". طبعة دار الشعب. القاهرة.
مجمع اللغة العربية - القاهرة:
"المعجم الوسيط".
ونسنك "وآخرون":
"المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي" طبعة ليدن 1936-1969م.(1/134)
الثورة:
التعريف والمصطلح:
إن مرادنا بالثورة هي أنها: العلم، الذي يوضع في الممارسة والتطبيق، من أجل تغيير المجتمع تغييرا جذريا وشاملا، والانتقال به من مرحلة تطورية معينة إلى أخرى أكثر تقدما، الأمر الذي يتيح للقوى الاجتماعية المتقدمة في هذا المجتمع أن تأخذ بيدها مقاليد الأمور، فتصنع الحياة الأكثر ملاءمة وتمكينا لسعادة الإنسان ورفاهيته، محققة بذلك خطوة على درب التقدم الإنساني نحو مثله العليا التي ستظل دائما وأبدا زاخرة بالجديد الذي يغري بالتقدم ويستعصي على النفاد والتحقيق!.
ومصطلح "الثورة"، وإن كان قد عرف واستعمل في تراثنا العربي الديني منه والسياسي، إلا أنه لم ينفرد وحده بالدلالة على تلك المعاني التي أشرنا إليها في التعريف، والتي استقرت لهذا المصطلح في أدبنا السياسي الحديث، فلقد شاركته في الدلالة على هذه المعاني أو بعضها مصطلحات أخرى، كان بعضها أكثر منه شيوعا في الاستعمال على امتداد تاريخنا العربي الإسلامي، حتى لقد يحسب البعض أن مصطلح "الثورة" غريب عن تراثنا وطارئ أضافه عصرنا الحديث..(1/137)
فالعرب والمسلمون قد عرفوا مصطلح "الثورة" واستخدموه، وكان يعني عندهم ضمن ما يعني: الهياج، والانقلاب، والتغيير والوثوب، والانتشار، والغضب.. بل لقد دلت بعض مشتقات هذا المصطلح على نمط في البحث والتفكير يتسم بالعمق والغوص وراء المعاني وقلب الظواهر وتجاوزها بحثا عن المكنونات! وفي "لسان العرب" لابن منظور نطالع حديث الرسول، عليه الصلاة والسلام: "أثيروا القرآن، فإن فيه خير الأولين والآخرين" وحديث: "من أراد العلم فليثور القرآن"!.. وفي صحاح السنة ومسانيدها الشهيرة نجد هذا المصطلح -مصطلح "الثورة"- يطالعنا في الكثير من الأحاديث.. فالصحابي "اللجلاج" يروي لنا الحديث الذي يقول فيه: بينما نحن في السوق إذ مرت امرأة تحمل صبيا فثار الناس وثرت معهم، فانتهيت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وهو يقول لها: "من أبو هذا؟! فسكتت! ... 1 ".. وفي الحديث الذي روته أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، والذي يحكي قصة حديث الإفك الذي شاع ضدها نقرأ وصف الخلاف الذي نشب بين الأوس والخزرج بينما الرسول يخطب على المنبر، فنجد استخدام هذا المصطلح.. تقول عائشة: ".. فثار الحيان: الأوس والخزرج، حتى هموا أن يقتتلوا، ورسوله الله -صلى الله عليه وسلم- قائم على المنبر، فلم يزل رسول الله يخفضهم حتى سكتوا وسكت! ... 2" ... أما الصحابي "مرة البهزي" فإنه يروي لنا في تنبؤ الرسول بالثورة على عثمان بن عفان، حديثا يستخدم فيه مصطلح "الهياج" في رواية ومصطلح "الثورة" في رواية أخرى.. يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "تهيج فتنة كالصياصي.." وفي الرواية الأخرى يروي أن الرسول قال: "كيف في فتنة تثور في أقطار الأرض كأنها صياصي بقر ... " 3. فيؤكد ما سنشير إليه من اشتراك أكثر
__________
1 رواه البخاري وأبو داود وأحمد بن حنبل.
2 رواه البخاري ومسلم وأحمد بن حنبل.
3 رواه أحمد بن حنبل "وصياصي البقر: قرونها. ومفردها: صيصة وصيصية".(1/138)
من مصطلح في الدلالة على "عملية الثورة" كطريق للتغيير ... كما تؤكد لنا صحاح السنة ومسانيدها شيوع هذا المصطلح في تراثنا النبوي، الأمر الذي يشهد له وجود هذا المصطلح في كتب الصحاح والمسانيد الشهيرة في أكثر من أربعين حديثا1..
وحول نفس المعاني يستخدم القرآن الكريم مادة هذا المصطلح للدلالة على الانقلاب، والإثارة والهياج، فبقرة بني إسرائيل كانت {لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ} 2 أي: لا تقلبها بالحرث الذي يغيرها.. ومن الأمم السابقة من {كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا} 3 أي: قلبوا وجهها، كما يقول "البيضاوي" في التفسير: والخيل إذا اقتحمت ميدان القتال {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا} 4 أي: هيجن التراب فصنعن به سحبا من الغبار. والله سبحانه {الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا} 5، وهو {الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا} 6 أي: تهيجه كي ينتشر فيسقي البلاد الميتة أو يبسطه في السماء "كيف يشاء"..
وغير مصطلح "الثورة" هذا نجد العرب المسلمين قد استخدموا مصطلحات أخرى للدلالة على عدد من "المعاني" و"الأفعال" القريبة من معنى "الثورة" وأحداثها.. فمصطلح "الفتنة" استخدم قديما للدلالة على الاختلاف والصراع حول الآراء والأفكار وقيام الأحزاب والتيارات الفكرية المتصارعة ... ولقد كانوا يصفون المؤرخ إذا كان حجة في أخبار
__________
1 انظر "المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي" وضع جمعيات الاستشراق الأممية. طبعة ليدن 1936-1969م.
2 البقرة: 71.
3 الروم: 9.
4 العاديات: 4.
5 فاطر: 9.
6 الروم: 48.(1/139)
"الثورات" و"الحروب" فيقولون عنه: إنه عالم في "الفتن" و"الدماء"!
كما استخدموا مصطلح "الملحمة" للدلالة على بعض معاني مصطلح "الثورة"، فدل عندهم على "التلاحم في الصراع والقتال، وخاصة إذا كان القتال في ثورة، كما دل على عمليات الإصلاح الجذري العميق؛ لأنه -كالثورة- يفضي إلى التأليف بين الأمة ويحقق وحدتها وتلاحمها؛ ولأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد مارس التغيير بالوسيلتين معا: القتال، والإصلاح العميق، جعلوا من أوصافه: "نبي الملحمة"!.
وغير "الفتنة" و"الملحمة" استخدموا مصطلح "الخروج"، وغلب على الأدب السياسي لكثير من فرق المسلمين ومدارسهم الفكرية، حتى لقد اشتق منه اسم "الخوارج" لثورتهم المستمرة.. كما استخدموا أيضا، مصطلح "النهضة"؛ لأن "النهوض" -كالثورة- يعني الوثوب والانقضاض.. ففي الحديث الذي يرويه الصحابي "ابن أبي أوفى" نقرأ: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحب أن ينهض إلى عدوه عند زوال الشمس1".. كما نقرأ في حديث الصحابي "أبو بريدة الأسلمي" عن فتح خيبر قوله: لما نزل الرسول -صلى الله عليه وسلم- بحصن أهل خيبر أعطى اللواء عمر بن الخطاب، ونهض معه من نهض من المسلمين فلقوا أهل خيبر، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لأعطين اللواء غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، فلما كان الغد دعا عليا ... وأعطاه اللواء، ونهض الناس معه فلقي أهل خيبر 2 ... ". أما أنس بن مالك فإنه يروي فيقول: "حضرت عند مناهضة حصن تستر عند إضاءة الفجر، واشتد اشتعال القتال، فلم يقدروا على الصلاة، فلم تصل إلا بعد ارتفاع النهار3 ... "... إلى غير ذلك من الأحاديث
__________
1 رواه أحمد بن حنبل.
2 رواه ابن حنبل.
3 رواه البخاري.(1/140)
التي تستخدم مصطلح "النهضة" و"المناهضة" بمعنى البروز والوثوب والصراع مع الأعداء لإحداث التغيير والاقتحام للمستقبل وامتلاك الجديد وإحراز الفتح المبين!.
ولقد ظل هذا المصطلح -مصطلح "النهضة" بمعنى "الثورة"- مستخدما حتى وقت قريب، فنحن نطالعه في كتابات جمال الدين الأفغاني "1838-1897م"، ويطالعنا في أدب ثورة سنة 1919م عندما نقرأ خطب سعيد زغلول1 "1857-1927م".
__________
1 انظر في كل ذلك "لسان العرب" لابن منظور، والدراسة التي قدمنا بها "الأعمال الكاملة لجمال الدين الأفغاني" ص14 طبعة القاهرة. سنة 1968م.(1/141)
إرهاصات الواقع الجاهلي بالإسلام الثورة:
ولقد كان الإسلام، عندما ظهر في شبه الجزيرة العربية، في جوانبه الفكرية والاجتماعية والسياسية، أول ثورة كبرى، وأعظم ثورة في التراث الحضاري للعرب المسلمين.. كما كانت لجوانبه الثورية هذه صلات وثيقة بالواقع الذي ظهر فيه، إذ استهدفت هذه الجوانب تغييره والانتقال به إلى طور متقدم وجديد. ويشهد لهذه الصلات ما سبق ظهور الإسلام كثورة، من إرهاصات تمثلت في محاولات لتغيير هذا الواقع الجاهلي أو تطويره، اتخذت أحيانا شكل الرفض والاستنكار والإنكار، وحينا آخر لجأت إلى العنف الثوري، ممثلا في الانتفاضات والتمردات..
فحركة "الصعلكة" و"الفتوة"، التي عرفها واقع شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام، كانت واحدة من حركات الرفض والتمرد والانتفاض ضد مظالم ذلك الواقع الجاهلي.. فهؤلاء الشعراء الذين عرفوا بشعراء الصعاليك، ومن تبعهم من ذوي الأفق المستنير، ومن المقاتلين والفرسان.. قد انخرطوا في تيار للمقاومة الرافضة، وتسلحوا "بالعنف الثوري" الذي استخدموه في الإغارة على الأثرياء ينتزعون ثراءهم كي يعيدوا توزيعه على الفقراء!.. وهم لذلك هجروا الحواضر والقرى والمدن إلى البادية، يشنون(1/142)
منها غاراتهم التي أشبهت "حرب العصابات"، ويمارسون تقاليدهم المعيشية المتميزة، التي سجلتها أشعارهم المتناثرة بقاياها في مصادر التراث..
وخالد بن سنان العبسي -الذي ظهر بأرض عبس في نجد- هو الآخر علامة على الرفض للواقع الجاهلي، وعلى محاولات التغيير التي سبقت ظهور الإسلام.. فلقد تقدم إلى قومه كنبي، يدعوهم إلى نمط للحياة غير الذي ألفوه.. لكن قومه خذلوه، ولم تتح له الظروف "دولة" تحفظ "دعوته"، فلفها ظلام الجاهلية مع ما لف من دعوات الرفض ومحاولات التغيير.. ولقد شهد الرسول عليه الصلاة والسلام لخالد العبسي ولدعوته.. فعندما جاء وفد قبيلته إلى المدينة مبايعا ومسلما، كانت ضمن هذا الوفد امرأة عجوز هي بنت خالد العبسي فلما علم بذلك الرسول، نهض لاستقبالها، وفرش لها عباءته كي تجلس عليها، وقال لها كلمته ذات الدلالة: "مرحبا ببنت نبي ضيعه قومه؟! ".
وزيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى "17 ق. هـ 606م" -وهو قرشي، من عدي كان هو الآخر نموذجا لحركة الرفض لواقع الجاهلية قبل الإسلام.. فلقد رفض الوثنية وتعدد الآلهة.. وحرم على نفسه الخمر، ودعا إلى تحريمها.. واتخذ من غار حراء مكانا للتحنث والتأمل والتعبد شهرا كل عام، هو شهر رمضان!.. وساح في شبه الجزيرة، شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، يلقى الأحبار والرهبان، ويبحث عن الحقيقة، ويجتهد لنسج نمط فكري جديد يتغير به واقع ذلك المجتمع القديم.. وبعد أن مات، وهو في طريقه إلى الشام، باحثا عن الحقيقة، شهدت مكة ظهور الإسلام، بعد موته بخمس سنوات.. وكان تقويم الرسول -صلى الله عليه وسلم، لدعوة زيد تقويما وضعها على طريق المحاولات الكبرى التي سبقت الإسلام داعية إلى رفض الواقع الجاهلي ومحاولة تغييرة.. فلقد قال الرسول عن زيد: "إنه يبعث يوم القيامة أمة وحده؟! ".(1/143)
والحنفاء.. ذلك التيار الفكري الديني.. انتشر أصحابه وأتباعه في مواطن كثيرة من أرض شبه الجزيرة.. يرفضون الوثنية، وينكرون مظالم الجاهلية، ويتطلعون إلى مجتمع جديد وفكر جديد.. وفي سبيل ذلك أخذوا ينقبون عن بقايا عقيدة التوحيد، كما عرفتها قرونهم الأولى على يد إبراهيم الخليل، ويحاولون بناء نمط فكري ديني من هذه البقايا.. ولقد كان أبو ذر الغفاري "32هـ 652-653م" واحدا من هؤلاء الحنفاء، اهتدى بتأمله، وبفكرهم إلى التوحيد، فوحد الله وصلى له وحده، دون واسطة، قبل ظهور الإسلام سنوات ثلاث1.
وحلف الفضول.. ذلك التعاهد الاجتماعي والسياسي الذي اجتمعت عليه عدة بطون من قريش -بنو هاشم، وزهرة، وبنو أسد بن عبد العزى ... وبنو تيم- وأقسموا فيه وتعاهدوا على نصرة المظلوم، أيا كان. وردع الظالم، مهما كان. ورد المظالم إلى أصحابها.. هذا الحلف كان هو الآخر شكلا تنظيميا ومنظما اجتمعت فيه جهود رافضة لما امتلأ به ذلك الواقع الجاهلي من مظالم وآثام، وحاولت به تلك الجهود أن تحل بعض العدل محل الجور الذي كان يئن منه إنسان ذلك المجتمع في ذلك التاريخ.. ولقد كان هذا الحلف من إرهاصات التغيير التي اقتربت زمنا من ظهور الإسلام، فبين عقده وبين نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم، عشرون عاما.. ولقد كان الرسول من بين مؤسسيه، شهد إبرام ميثاقه وعمره عشرون عاما..
فلقد كانت إذن للعرب جهود استهدفت تغيير الواقع، وبعض هذه الجهود كان سلميا، بينما استعان بعضها الآخر بالسيف -العنف- لإنجاز ما أراد من تغيير. فكانت هذه الجهود جميعا علامات على طريق الإنسان العربي نحو ثورته الكبرى، وإنجازه الثوري الأعظم الذي تمثل في ثورة الإسلام..
__________
1 انظر كتابنا "مسلمون ثوار" ص17 طبعة بيروت سنة 1974م.(1/144)
ثورة الإسلام:
والحديث عن الإسلام كثورة، أو عن الجوانب التي مثلت الثورة في ذلك البناء الفكري والمادي الذي يندرج تحت عنوان: "الإسلام".. الحديث عن هذه القضية يتطلب إبراز موقف الإسلام من الثورة على جبهتين:
أ- الجبهة الفكرية: كما تمثلت في كتابه الأول القرآن الكريم.. وفي السنة النبوية الشريفة، التي كانت ولا تزال بمثابة "المذكرة التفسيرية"، للقرآن الكريم..
ب- والجبهة الواقعية: كما تمثلت في الإنجازات الثورية التي غير بها الإسلام عندما ظهر واقع المجتمع الجاهلي، وعبر عن طريقها، بإنسان ذلك الواقع من مرحلة تطورية متخلفة ومعوقة إلى أخرى حافلة بقدر عظيم من الاستنارة والتقدم والعدل والحرية، الأمر الذي خفف من قيود ذلك الإنسان، وسلحه بأسلحة أفعل في صراعه من أجل التقدم، وانتقل به إلى طور حضاري جديد..
على هاتين الجبهتين -وهما متصلتان، بل متحدتان- نستطيع أن نرصد موقف الإسلام كحضارة من الثورة، ونتعرف على الحقيقة القائلة: إنه كان أعظم ثورات العرب المسلمين في ذلك التاريخ.(1/145)
القرآن والسنة.. والثورة:
لم يقتصر موقف القرآن الكريم من قضية الثورة على استخدام المادة اللغوية لمصطلحها في الدلالة على معانيها بمجالات بعيدة عن إطارها، الذي هو تغيير المجتمع والانتقال به إلى طور جديد، بل لقد شرع القرآن الثورة كسبيل إنساني لتغيير الواقع والتطور بالمجتمعات، ولنا على ذلك أدلة قوية وعديدة، نكتفي بإيراد بعضها نزولا على حكم الحيز والمقام:
1- فجميع التيارات الفكرية الإسلامية التي انحازت للثورة نظريا أو عمليا أو إليهما معا وقررت مشروعيتها، قد استندت إلى أن القرآن قد أوجب على الأمة، متضامنة متكافلة، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا اقتضى النهوض بهذا التكليف استخدام "الفعل" بعد "القول"، والاستعانة "بالقوة" -التي اصطلحوا على تسميتها: قضية "السيف"- كان ذلك مشروعا لدى البعض، وواجبا لدى البعض الآخر.
وهم قد استندوا في ذلك إلى قول الله سبحانه: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} 1 وقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} 2.
وقالوا: إنه إذا كان الأمر بالمعروف يقف عند حدود الهدى والبيان بالتي هي أحسن، فإن النهي عن المنكر يتجاوز الهدى والبيان إلى الفعل.. واستندوا في ذلك إلى عديد من أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام، من مثل قوله: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" 3.. "فالفعل" هنا يتقدم
__________
1 آل عمران: 104.
2 آل عمران: 110.
3 رواه مسلم والترمذي والنسائي وابن حنبل.(1/146)
غيره من وسائل التغيير ... ومن مثل قوله محذرا الأمة من النكوص عن هذا الطريق الصعب: "لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه 1 على الحق أطرا، أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض، ثم تدعون فلا يستجاب لكم 2 "! وقوله: "إذا رأيتم الظالم فلم تأخذوا على يديه يوشك الله أن يعمكم بعذاب من عنده" 3 ... ومن مثل ترغيبه أمته السير في هذا الدرب المحفوف بالمكاره والمليء بالأشواك، بقوله: "أفضل الجهاد كلمة حق أمام سلطان جائر" 4 وقوله: "سيد الشهداء: حمزة بن عبد المطلب، ثم رجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله"!
2- وغير آيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأحاديث المفسرة لها، تجد التيارات الفكرية الثورية في تراثنا الإسلامي الكثيرة من آيات القرآن الكريم التي تدعو الإنسان إلى رفض الظلم و"العمل" على تغييره.. فالثورة تعني الهجرة من حال الاستسلام والسكون إلى حال التمرد والحركة، فهي هجران للركود والموات، ووثبة يتجاوز بها الإنسان والمجتمع ذلك الوضع الجائر والواقع الظالم ليستبدل به آخر أكثر إشراقا ووضاءة.. فليست الهجرة فرارا وهروبا، فهي في الإسلام فعل إيجابي، بل ووسيلة تأديب! والذين لا يهجرون المجتمع الظالم بتغييره هم ظالمون لأنفسهم، وهو أشد أنواع الظلم؛ لأن ضحيته ليس ذات الظالم لنفسه وحدها، وليست فردا أو أفرادا، بل الأمة ومصالحها والقيم التي دعا إليها الله وبشر بها الرسول ... وفي ذلك يقول الله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي
__________
1 أي: لتدخلونه في الحق وتجبرونه عليه.
2 رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه وابن حنبل.
3 رواه الترمذي في سننه.
4 رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حنبل.(1/147)
أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} 1.
3- ذلك أن كونهم "مستضعفين في الأرض" لا يعفيهم من مسئولية التكليف بواجب التغيير للظلم؛ لأن منطقهم الاستسلامي هذا يعاكس إرادة الله سبحانه، تلك الإرادة التي صاغها القرآن الكريم في آية جمعت من المعاني والطاقات الثورية ما لم تجمعه شعارات وشعارات: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} 2.. فإرادة الله أن تكون القيادة والإمامة للمستضعفين في الأرض، وأن تكون لهم وراثة ما في حوزة أوطانهم من ثروات وعلوم وإمكانيات..
ولم ولن يحول بين التيارات الثورية الإسلامية وبين الاستدلال بهذه الآية أنها قد جاءت في معرض الحكاية عن قوم سابقين على ظهور الإسلام.. فعلماء الأصول قد قالوا: إن العربة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.. ونحن نقول: إن القرآن لم يذكر قصص الأولين مستهدفا التاريخ، بل أورد من هذا التاريخ مواطن للعبرة، فهو يعالج قضايا المجتمع الإسلامي، سواء أكان ذلك بالحديث المباشر أو بالصبر والعظات يسوقها لنا من خلال قصص الأولين.
4- وفي السنة النبوية وجدت التيارات الثورية المسلمة ما يؤيد موقفها من قضية "السيف"، أي: استخدام "العنف الثوري" بتعبيرنا الحديث, في عملية التغيير.. -وهي قضة خلافية، كما سنذكر في ختام هذه الصفحات- وجدوا في السنة -إلى جانب الممارسة التي تمثلت في ملحمة ظهور الإسلام وصراعات المؤمنين به ضد خصومه- أحاديث عدة، أكثرها
__________
1 النساء: 97.
2 القصص: 5.(1/148)
دلالة ذلك الذي رواه الصحابي حذيفة بن اليمان1:
قلت: يا رسول الله، أيكون بعد الخير الذي أعطينا شر، كما كان قبله؟
قال: "نعم! ".
قلت: فبمن نعتصم؟!
قال: "بالسيف"! 2.
فإذا عاد الشر ليطغى على واقع المجتمع، فعلى المسلمين أن يعتصموا بالسيف سبيلا للتغيير.
5- وغير هذه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي استرشدت بها التيارات الثورية المسلمة في تقرير مشروعية الثورة، بل وجوبها، يلمح قارئ القرآن الذي يتدبر آياته، ويستخدم المنهج الثوري -الذي أوصى به الرسول- في الكشف عن مكنون معانيه.. يلمح العديد من الآيات التي تدعم حجج أصحاب هذا الاتجاه.. وأنا أدعو القارئ للوقوف معي أمام مصطلح استخدمه القرآن للدلالة على عملية "التغيير الثوري"، غير تلك المصطلحات التي سبقت إشارتنا إليها، وهو مصطلح "الانتصار"، فالثورة تعني التغيير الذي يبدل جوانبها انتقام للمظلومين من الظالمين، على تفاوت في درجات الانتقام ومواطنه، وكذلك "النصر" و"الانتصار".. فالنصر يعني: إعانة المظلوم، والانتصار يعني الانتصاف من الظلم وأهله والانتقام
__________
1 هو حذيفة بن اليمان "توفي سنة 36هـ" من أكثر الصحابة الموثوق في روايتهم للحديث، روى عنه أبو عبيد بن الجراح، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وغيرهم.. خيره الرسول بين ميزة الهجرة وميزة النصرة -أي: أن يكون من المهاجرين أو من الأنصار- فاختار النصرة؛ لأنه كان حليفا للأنصار.
2 هذا الحديث رواه أحمد بن حنبل في مسنده, وأبو داود في سننه.(1/149)
منهم.. والقرآن يذكر الانتصار بهذا المعنى كفعل يأتيه "الأنصار" ضد البغي" الذي هو الظلم والفساد والاستطالة ومجاوزة الحدود..1.
فإذا كان الانتصار ثورة، والثوار أنصارا، فهل لنا أن نفترض لذلك صلة جعلت أولئك الذين أسسوا دولة الإسلام جهروا بدعوته وحاربوا في سبيلها من الأوس والخزرج، يختصهم كتاب هذا الدين وأدب أمته باسم الأنصار؟!
وهل لنا دليل من قول الشاعر الذي خاطب الرسول عليه الصلاة والسلام فقال:
والله سمى نصرك الأنصارا ... آثرك الله به إيثارا
نعتقد أننا لا نتجاوز الحدود بهذا الافتراض!
أما الآيات التي استخدمت مصطلح "الانتصار" للدلالة على "الثورة"، بمعنى التغيير والردع والانتقام من البغاة والظلمة والمستبدين، فإنها كثيرة.. وأهم من كثرتها وأخطر أنها تجعل "الانتصار" أي: "الثورة" إحدى الصفات الهامة للإنسان المؤمن ولجماعة المؤمنين، بمعنى أن على المؤمن، كي تكتمل له الصفات التي وصفه بها الله سبحانه في كتابه الكريم أن يكون "منتصرا" ضد البغي والظلم والاستبداد، أي: أن يكون ثوريا وثائرا.
يقول الله سبحانه في تعداد صفات المؤمنين: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ، وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
__________
1 "لسان العرب" لابن منظور، مادة: نصر.(1/150)
وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ، وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ، وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ، إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} 1.
ففي هذه الآيات نطالع من صفات المؤمنين أنهم المتوكلون على ربهم.. الذين يجتنبون الكبائر.. ويغفرون أخطاء الضعفاء؛ لأن كما يقول "البيضاوي" في تفسيره "الحلم عن العاجز محمود، وعن المتغلب مذموم؛ لأنه إجراء وإغراء على البغي! " وأنهم قد استجابوا لربهم.. وأقاموا صلاتهم.. وجعلوا الشورى فلسفة نظام حكمهم.. ثم هم الذين يتصدون "بالانتصار" -الثورة- للبغي والظلم حتى يغيروه؛ لأنه لا سبيل ولا ملام على الذين "ينتصرون" -يثورون- بعد ظلمهم، وإنما السبيل والملام على البغاة الظالمين: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} .. {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} !
بل لقد استخدم القرآن الكريم مصطلح "الانتصار" في وصف تيار الشعر والشعراء المسلمين الذين تصدوا بشعرهم لنظرائهم المشركين، فهذا التيار الجديد في الشعر العربي كان أصحابه أنصارا ومنتصرين، أي: ثوارا وثائرين.. {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} 2.
__________
1 الشورى: 36-43.
2 الشعراء: 227.(1/151)
هكذا، وعلى هذا النحو تطالعنا نصوص المصادر الإسلامية الأولى والجوهرية: الكتاب والسنة، بما يزكي حجج التيارات الثورية الإسلامية على مشروعية الثورة، بل وجوبها في الإسلام.(1/152)
إنجازات الإسلام الثورية في واقع الإنسان العربي:
في الجانب الديني، وبالذات الألوهية، والنبوة، وعالم الحساب والجزاء، جاء الإسلام مصدقا لما بين يديه من الرسالات السابقة، فقد صحح ما طرأ عليها وأصابها من انحراف، أبرزه انحرافها عن نقاء عقيدة التوحيد، ذلك أن دين الله واحد منذ اتصلت بين السماء والأرض أسباب الوحي إلى الرسل والأنبياء.. ومن ثم فإن الذي بشر به محمد -صلى الله عليه وسلم، لم يكن دينا محمديا.. أما في الجانب التشريعي، وعلى جبهات: تحرير الإنسان، وأوضاعه الاجتماعية والسياسية، فنحن إزاء شريعة محمدية جديدة؛ لأنه إذا كان دين الله واحدا فإن شرائعه -بمعنى مناهجه وطرقه الموصلة إلى تحقيق غايات دينه الواحد- متعددة بتعدد الرسل والأنبياء، للتعدد والاختلاف القائم في مجتمعات هؤلاء الرسل والأنبياء، وعصورهم..
ولقد جاء الإسلام ختاما لرسالات السماء، وإيذانا بانتهاء "الوحي" المتجدد؛ لأن البشرية قد بلغت من رشدها، وأصبحت، في أمور معاشها، قادرة على الاسترشاد بعقلها، على ضوء الأطر العامة والقضايا الكلية التي أوصى بها الوحي في هذه الأمور.. ومن ثم فقد كان الإسلام، كشريعة للدنيا، وكفلسفة تفسر لإنسانه هذا الكون الذي يعيش فيه، طورا جديدا غير مسبوق من الرسالات الدينية القديمة، بل وثورة استهدفت إحداث تغيرات جذرية عميقة مع واقع الحياة التي ظهر فيها وعقل الإنسان الذي قرعت آذانه آيات كتابه الكريم..(1/153)
الإنسان والكون:
كانت الطبيعة في كثير من مظاهرها وظواهرها لغزا غير مفهوم للإنسان العربي، بل ولغيره على امتداد تاريخ طويل.. ولقد دفع هذا العجز الذي لازم الإنسان عن فهم الكثير من هذه الظواهر الطبيعية إلى أن خاف الإنسان تلك الظواهر، وارتعدت منها فرائضه، ثم حاول استئناسها بالقرابين ثم جعل منها آلهة عبدها من دون الله، أو وسائط يتقرب بها زلفى، إلى الله.. عبد الشمس.. وعبد القمر.. وعبد النجوم.. وعبد الليل والنهار.. وعبد البحر، والنهر، والجبل.. وعبد، أو قدس، القوي أو النافع من الحيوان.. وقدم القرابين والصلوات للرعد والبرق والمطر.. وللجن.. وغير ذلك مما عجز عن تفسيره من مظاهر الطبيعة وظواهرها..
فماذا أحدث الإسلام من ثورة على هذه الجبهة؟.. وما هو التغيير العميق والجذري الذي أنجزه في حقل تصور الإنسان العربي للكون، وعلاقته بالطبيعة وموقفه من قواها وظواهرها؟؟!
لقد قرر الإسلام: "تكريم" الإنسان على ما عداه من مخلوقات هذا الكون.. كما قرر "تفضيله" على هذه المخلوقات {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} 1.. ولكنه لم يقف عند حدود "التكريم"
و
__________
1 الإسراء: 70.(1/154)
"التفضيل".. بل قرر أن الإنسان هو "سيد" الطبيعة، وأن هذه الظواهر الطبيعية التي طالما رهبها حتى عبدها إنما هي "مسخرة" له، بل إنها لم تخلق إلا لتكون "مسخرة" لهذا الإنسان!.. فهنا ثورة وانقلاب جذري في العلاقة بين الإنسان والطبيعة يحدثهما ذلك التصور الجديد الذي يقدمه الإسلام عن الكون للإنسان العربي والمسلم.. بل لكل إنسان.
وفي كثير من سور القرآن الكريم تلح آياته على تقرير هذا المعنى، وتغرس في نفس الإنسان وعقله هذا التصور الجديد الذي يحرره من العبودية، عبودية الطبيعة وظواهرها، وينقله إلى مكان "السيد" الذي ما خلقت هذه الطبيعة وظواهرها إلا لخدمته وتحقيق الشروط الضرورية لرقيه وإنسانيته.
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} 1.
{وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 2.
{وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 3.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ
__________
1 إبراهيم: 32، 33.
2 النحل: 12.
3 النحل: 14.(1/155)
رَحِيمٌ} 1.
{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} 2.
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ، وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ، وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ، لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} 3.
{اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} 4.
{وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} 5.
{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ، إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ، وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} 6.
{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} 7.
{فَسَخَّرْنَا لَهُ 8 الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ، وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ، وَآَخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ} 9.
__________
1 الحج: 65.
2 لقمان: 20.
3 الزخرف: 10-13.
4 الجاثية: 12، 13.
5 الأنبياء: 79.
6 ص: 17-19.
7 الأنبياء: 81.
8 أي: لسليمان.
9 ص: 36-38.(1/156)
{وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ, لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} 1.
وهكذا ... لم يكتف الإسلام بتكريم الإنسان، وبتحريره من قيود الرهبة من الطبيعة وأسار العبودية لها، بل لقد ارتفع بمستوى تحريره إلى الحد الذي قرر فيه أن هذه الطبيعة وقواها وظواهرها إنما هي جميعا مسخرة لهذا الإنسان..
__________
1 الحج: 36، 37.(1/157)
الفرد والقبيلة:
قبل ثورة الإسلام كان مجتمع شبه الجزيرة العربية لا يقيم وزنا لفردية الفرد بجانب القبيلة التي ينتسب إليها.. فالقبيلة هي الوحدة التي يبدأ منها التنظيم الاجتماعي لبناته، بل والتي ينتهي إليها هذا البناء؟!.. كانت وحدة متحدة, لها من دون الفرد الشخصية الاعتبارية، وكل الحقوق، وعليها دون الفرد أيضا تقع الواجبات والتبعات التي تترتب على الفرد من أفرادها.. ولم يكن التضامن القبلي داخل القبيلة تعبيرا عن رقي في سلم التضامن والترابط بين الفرد والباقين من قبيلته بقدر ما كان تعبيرا عن تخلف التنظيم الاجتماعي عن الاعتراف لهذا الفرد بأية ذاتية مستقلة بجانب ذاتية القبيلة وشخصيتها المنفردة بالاعتبار والنفوذ.. فالملكية لها، والشرف لها، وكل الحقوق لها، والعار عليها، والنقيصة لها، وجميع المغارم تلزمها، ولا اعتبار للمسئولية الفردية على أي فرد من أفرادها.. كانت ذاتية الفرد ضئيلة ومتضائلة وذائبة في الشخصية العامة لقبيلته التي ينتسب إليها..(1/157)
ولكن ثورة الإسلام جاءت فأبرزت ذاتية الإنسان الفرد على حساب ذاتية القبيلة، أبرزتها في البداية في إطار القبيلة، ثم حثت على إذابة ذاتية القبيلة في إطار الأمة القومية ومحيط الدولة العام.. وهي قد فعلت ذلك عندما قررت للإنسان الفرد حريته واختياره، بعد أن كانت جبرية العرب في الجاهلية تحد من نطاق ذاتية الفرد ونموه إلى حد كبير، وبعد أن رتبت على حريته واختياره مسئوليته الفردية والتزامه المستقل عما قدمت وتقدم يداه.. ولقد بدأت ثورة الإسلام تقريره هذه المسئولية الفردية وذلك الالتزام الفردي المستقل بميدان الأفعال والتكاليف الدينية وما يتعلق بها ويتصل من الأعمال شبه الاجتماعية، حسنات كانت أم سيئات، ثم اتسع هذا النطاق شيئا فشيئا حتى تقلصت بالتدريج هيمنة القبيلة لحساب المسئولية الفردية والالتزام الفردي المستقل للإنسان..
فجميع التكاليف التي هي فروض عين فردية.. تجب على الفرد ولا يجزيه عنها التزام قبلي أو غير قبلي.. وتبعا لذلك فإن مسئوليته عنها وحسابه عليها وجزاءه فردي كذلك.. فعليه وحده القصاص إذا قتل وليده، وحده القطع إذا سرق، وهو وحده المجلود إذا زنى.. إلخ.. إلخ.. وحتى فاطمة بنت محمد، عليه الصلاة والسلام، يقول أبوها في معرض تقريرس المسئولية الفردية، والمساواة والصرامة في تقريرها: أنها لو سرقت لقطعت يداها1؟! وحتى بنو هاشم وآل بيت الرسول يقرر الرسول أن المسئولية الفردية هي حجر الأساس في علاقة كل واحد منهم بالتنظيم الاجتماعي الجديد، فينهاهم عن الاعتماد على علاقات النسب التي تربطهم به: "لا يأتي الناس بأعمالهم وتأتوني بأحسابكم".
فكانت تلك واحدة من إنجازات ثورة الإسلام على درب تحرير الإنسان العربي.
__________
1 رواه البخاري ومسلم وأبو دواد والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارمي وابن حنبل.(1/158)
الإنسان والقدر:
وكانت جبرية العرب في الجاهلية عندما تنسب عمل الفرد إلى القدر، خيرا كان هذا العمل أو شرا، تسهم في تحديد نطاق فردية الفرد وتحد من حريته إلى حد كبير.. وجاءت ثورة الإسلام فلم تقف عند حدود تحرير الإنسان الفرد من سلطة القبيلة الطاغية وتخليصه من الذوبان في محطيها؛ لأنها بتقريرها حريته واختياره ومسئوليته، قد جعلت ذاته كفرد اللبنة الأولى والمستقلة في التنظيم الاجتماعي الجديد.
ولقد زادت هذه الثورة من حجم إنجازها التحريري هذا ومن قيمته عندما رفعت من قدر الإنسان, وأعلت من شأن حريته وإرادته وفعله, حتى عندما يكون الحال بإزاء إرادة الله سبحانه وتعالى وقضائه وقدره.. وصحيح أن التوحيد الإسلامي يعني العبودية التامة من الإنسان لله، وصحيح أن الإسلام يعني أول ما يعني إسلام الوجه إسلاما كاملا للخالق سبحانه، وصحيح كذلك أن صفات الله في الإسلام تجعله القاهر، والجبار، والمهمين، والمتكبر، والفعال لما يريد ... ولكن هذا التوحيد الإسلامي ذاته قد حرر ذات الإنسان من العبودية للآلهة والقوى والطواغيت المادية الكثيرة التي كان تستعبد روحه وتستذل ذاته وتنتقص من حريته قبل التدين بعقيدة التوحيد.. ثم إن "التنزيه والتجريد" الذي قرره الإسلام بالنسبة للذات الإلهية جعلنا أمام وضع جديد تقرر فيه التحرير الكامل والحقيقي للإنسان من استعباد القوى المادية التي كان يرهبها وتتحكم فيه، والعبودية لذات إلهية يجعلها التصور التنزيهي أقرب إلى القانون الأكبر والعقل العام للكون وتدخل بها في إطار التجريد.. وفي هذا التحول إنجاز كبير على جبهة تحرير الإنسان.
ويؤكد هذا المعنى ويبرزه أن الإسلام عندما قرر الكثير من الحقوق المتعلقة بالدنيا للذات الإلهية نراه بسبب من "التوحيد والتنزيه"،(1/159)
يعود في الواقع العملي إلى جعل هذه الحقوق من نصيب الإنسان..
فالفقه والشريعة يقرران أن "حق الله" هو "حق المجتمع".. والمجتمع هو مجموع الأفراد الذين يعيشون فيه!..
والفقهاء يقررون: أن ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن.. فيضعون مبدأ: إن إرادة الشعب هي إرادة الله في صورة قانون إسلامي عام وقاعدة فقهية مقررة.
والرسول، عليه الصلاة والسلام، يقرر في حديثه الذي يرويه أنس بن مالك: "إن أمتي لا تجتمع على ضلالة" 1.. وفي الحديث الذي يرويه ابن عمر: "إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة" 2. يقرر مبدأ: عصمة الأمة، وهي غاية ما تقرر ويتقرر في الفكر من إعلاء لقدر حرية الإنسان ...
ثم يبلغ الرسول بتحرير الإسلام للإنسان القمة عندما يقول: "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره! " 3.
فباستطاعة الإنسان إذن أن يصل بسلطته وسلطانه إلى الحد الذي لو أقسم فيه على الله لأبره الله!.. لأن هذا الإنسان باكتشافه قوانين الكون وسنن الله فيه، وبسيطرته على هذه القوانين وتلك السنن يصبح حاكما غير محكوم؛ لأن اكتشافاته هذه وسيطرته تلك هي كنه ما يريده الإسلام ويعنيه من وراء الاقتراب من الله، والتشبه به، والاتصاف بصفاته.. فالله هو قانون الكون الأعظم، وطاعة الإنسان لهذا القانون الأعظم تعني الاتصاف بصفاته والتسلح ببعض قدراته، إلى الحد الذي يسخر فيه القوى الطبيعية بالسيطرة على ما يحكمها من قوانين: من أطاعني كنت يده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وعينه التي يبصر بها، وأذنه التي يسمع بها!.. يا عبدي أطعني تكن ربانيا تقول للشيء كن فيكون؟!..
هكذا بلغ الإسلام الغاية من حرية الإنسان وتحريره، حتى بالقياس إلى القدر وإلى الجبروت والسلطان اللذين اختص بهما الحق تبارك وتعالى نفسه وذاته.
__________
1 رواه ابن ماجه.
2 رواه الترمذي، وابن حنبل.
3 رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حنبل.(1/160)
تحرير المرأة:
ولقد أولى الإسلام تحرير المرأة من قيودها القديمة والتقليدية عناية خاصة. ولم يقف عندما تقرر لها مع الرجل كإنسان؛ لأن قيودها الخاصة دعته إلى إبراز ما قرر لها من حقوق وحريات.. فلم تعد -خلافا لما كانت عليه قبل الإسلام ولما عاد فقرر عليها فقهاء عهود الحريم والعصور الوسطى- مجرد متاع للرجل وأداة للهو واستمتاعه.. وإنما ارتقى الإسلام بنوع العلاقة الإنسانية والاجتماعية التي تربطها بالرجل.. فعلاقة المودة والبر بين الأم وولدها يعلو سلطانها على سلطان الدين والاتفاق في المعتقد {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} 1، {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} 2.. وعلاقة المرأة الزوجة بالرجل الزوج هي: المودة والرحمة، بل إنها هي السكن الذي يسكن إليه في هذه الحياة!.. {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} 3.. وفي الحقوق والواجبات تستوي المرأة والرجل في نظر الإسلام {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ
__________
1 العنكبوت: 8.
2 لقمان: 15.
3 الروم: 21.(1/161)
بِالْمَعْرُوفِ} أما "الدرجة" التي أعطاها الإسلام للرجل على المرأة بقول قرآنه في آية المساواة هذه: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} 1 فإنها تقف عند تقرير ضرورة إعطاء العنصر الأكثر خبرة ووعيا وإمكانية وتمكنا حق الفصل في المشكلات التي تأهل أكثر من سواه للقول الفاصل فيها2.
صحيح أن الإسلام يقرر للأنثى في حالات معينة نصف ما للذكر من نصيب في الميراث، ولكن هذا التمييز المالي لا يعكس انتقاصا من حرية الأنثى وحقوقها، بل لا نغالي إذا قلنا: إنه هنا يزيدها تكريما وتحريرا..! فهو قد قرر لها الشخصية المالية المستقلة، ثم تبنى عرف العصر الذي ظهر فيه، الذي ألزم الرجل وحده بالتبعات المالية اللازمة للأسرة، ذكورا وإناثا.. فكأن ما زاد في نصيبه من الميراث إنما رصد لينفق منه على الأنثى التي ألزمه الشرع بالإنفاق عليها، أما نصيبها هي فإنه قد تقرر لها دون إلزام عليها بالإنفاق منه في الشركة الزوجية.
ولم ينظر الإسلام كموقف عام وثابت إلى التمييز بين الناس في الأمور المالية كمعيار للتمييز بينهم في القدر والقيمة ودرجة الحرية.. فالرسول، عليه الصلاة والسلام، وأبو بكر الصديق كانا يلتزمان التسوية بين المسلمين في "العطاء"، باعتباره "معاشا" لا علاقة له بالأقدار والمراكز والمفاضلات.. ثم جاء عمر بن الخطاب فميز بين الناس في "العطاء" عندما توافرت الأموال وكثرت بعد الفتوحات، ثم عاد علي بن أبي طالب إلى نظام التسوية.. وعلى عهد الرسول كانت "الحاجة" تحكم في أحيان كثيرة مقادير الأنصبة في توزيع الغنائم، دون أن يكون للتمييز والتمايز المالي أية علاقة بالأقدار والمراكز الخاصة بالصحابة الذين تفرض لهم السهام
__________
1 البقرة: 228.
2 انظر "الإسلام والمرأة في رأي الإمام محمد عبده" ص62، 63 دراسة وتحقيق د. محمد عمارة طبعة القاهرة سنة 1975م.(1/162)
في هذه الأموال.. ولقد أعطى الرسول المهاجرين الفقراء غنائم هوازن -يوم حنين- ولم يعط الأنصار -إلا رجلين فقيرين منهم- بل لقد أعطى "المؤلفة قلوبهم" من هذه الأموال ما لم يعطه لأحد من الذين سبقوا إلى الإسلام وصنعوا بتضحياتهم دولته وانتصارات دعوته وعقيدته. فالتمييز المالي للرجل في الميراث، أمر من أمور المعاش، لا ينهض دليلا على انتقاص ما قرر الإسلام للمرأة من حرية، وما شرع لها من مساواة بالرجل..
وصحيح أن القرآن الكريم يقرر في إحدى آياته أن شهادة امرأتين تعدلان شهادة رجل.. ولكن المتأمل والمتدبر بهذه الآية يدرك أنها قد راعت تلك المرحلة التطورية التي كانت تمر بها المرأة يومئذ، وهي مرحلة كانت محرومة فيها من خبرات المعاملات المالية التجارية المعقدة، بسبب حرمانها من الشخصية المالية المستقلة، فجاء القرآن مراعاة لتخلفها في هذا الميدان ليقرر أن شهادتها في الدين -الذي يحتاج إثباته إلى دليل كتابي- لا تساوي شهادة الرجل.. فليس في الأمر انتقاص من قدرها وحريتها، وإنما فيه موقف واقعي يلائم بين الحق وبين الإمكانيات، وهي علة وقصد يفتح باب التطور والتنمية للحق بتطور الإمكانيات ونموها.. ثم هل يستوي الرجال في الذاكرة والتذكر وفي الإمكانيات والقدرات؟؟.. إنهم لا يستوون، ومن ثم تتفاوت حقوقهم دون أن يعني هذا التفاوت انتقاصا من مساواتهم في الحرية التي قررها لهم الإسلام.
ذلك هو موقف الإسلام من التمييز بين شهادة الرجل وشهادة المرأة في ذلك الموطن المحدد والخاص من مواطن الإشهاد.. ويتأكد هذا الذي نقول إذا نحن تدبرنا آيات القرآن التي تتحدث عن هذه القضية فنقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ(1/163)
سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 1.
فليس في الأمر تمييز طبيعي ودائم ولا تمييز مطلق ينقص من قدر المرأة وما قرر لها الإسلام من حرية ومسئولية وحقوق.
__________
1 البقرة: 282.(1/164)
التحرر من العصبية القبلية:
وكذلك كانت ثورة الإسلام تحريرا للإنسان العربي من قيد العصبية القبلية الضيق وأفقها المحدود، وانطلاقا به إلى إطار القومية ذات المحتوى الإنساني والصبغة الحضارية.. فبعد أن كانت القبيلة هي الوحدة التي تنتهي عند حدود نسبها روابط الولاء وتبعاته، أصبحت هذه القبيلة، منذ دستور دولة المدينة -الذي عرف بـ"الصحيفة" وبـ"الكتاب"- اللبنة الأولى في الكيان القومي العربي الموحد، والذي كان بمثابة الوجه الثاني لعملة واحدة، وجهتها الأولى: التوحيد، في الدين، لذات الإله.. فلم تعد القبيلة هي نهاية المطاف، إداريا وسياسيا واجتماعيا، بل غدت الوحدة الأولية في الجماعة القومية العربية التي وحدتها ثورة الإسلام ودولته..
بل لقد خطأ الإسلام إلى أفق أبعد، وخاصة بعد فتوحات أهله التي حررت الشرق من البيزنطيين ومن الأسرة الساسانية الفارسية، عندما دعا(1/164)
قبائل العرب إلى الاندماج في الشعوب التي فتحت بلادها، باعتبار ذلك تحقيقا لقول الله في قرآنه الكريم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} 1.. كما جاءت سنة الرسول العملية والقولية لتضع لهذا التوحد القومي مضمونا إنسانيا وحضاريا وفكريا يبتعد به عن العرق وعصبيته كما ابتعد به عن القبيلة وتعصبها.. فليس يخفى السر الذي جعل تجربة دولة المدينة تبرز ضمن قادتها وقيادتها قادة مثل: بلال الحبشي "20هـ 14م" كرمز لالتحام الموالي والرقيق ذوي الأصول الأفرييقية السوداء في الجماعة القومية العربية، عن طريق علاقة "الولاء" التي ربطتهم بالقبائل التي كانوا لها عبيدا قبل أن يحررهم الإسلام.. و"الولاء -كما قررت السنة النبوية- لحمة كلحمة النسب"2.
وكذلك كان الحال بالنسبة لقيادة: صهيب الرومي "32 ق هـ-38هـ 592-659م" وسلمان الفارسي "36هـ-656م" ذلك أن مكانة هؤلاء القادة، المنحدرين من أصول عرقية غير عربية، والذين تعربوا بالحضارة والولاء، إن مكانتهم في المجتمع الجديد وكانت عالية إنما تعكس وتعبر عن تلك الروابط التي ضمت هذه الجماعة القومية الجديدة، على اختلاف أصولها العرقية والجنسية.. فهم لم يكونوا مجرد "مؤمنين أتقياء" وإنه كانوا رموزا لأعداد متنامية أخذ الإسلام يحررها بالطريق التدريجي الذي سلكه لتصفية نظام الرقيق. طريق: الحصر والتضييق لمصادر الاسترقاق، والتوسع في الأسباب التي تفك عن الأرقاء قيود الاسترقاق. والرسول -صلى الله عليه وسلم- يبرز وزن هذه القيادات في تجربة الدولة القومية عندما يقول: "أنا سابق
__________
1 الحجرات: 13.
2 رواه الدارمي.(1/165)
العرب، وصهيب سابق الروم، وسلمان سابق فارس، وبلال سابق الحبشة"!.
ولقد جاءت السنة القولية لتحدد وتؤكد ذلك المحتوى الحضاري، اللاعرقي، لهذه الوحدة القومية الجديدة، عندما قررت على لسان الرسول، عليه الصلاة والسلام أن: "ليست العربية بأحدكم من أب أو أم، وإنما هي اللسان -اللغة بالمعنى الحضاري الواسع- فمن تكلم العربية فهو عربي".
فكان ذلك إنجازا كبيرا على درب تحرر الإسلام للإنسان، بثورته التي تجاوزت آفاق العصبية لقبلية الضيق إلى رحاب الأفق القومي الواسع والمستنير.(1/166)
ثورة اجتماعية كبرى:
وفي قضايا الثروة والمال والاقتصاد -المسألة الاجتماعية- كانت ثورة الإسلام أوضح ما تكون.. وأعمق ما تكون.. والإسلام كدين ومن خلال كتابه الكريم وسنته التشريعية العامة، لم يحدد لمستقبل المسلمين نظرية اجتماعية بعينها ولم يشرع لمجتمعهم تشريعا اقتصاديا دائما بذاته؛ لأنه وهو خاتم الرسالات، والمقرر أن لله في كونه سننا، منها سنة التطور والتحول والتغيير، ما كان له أن يضع القيود المسبقة على المصالح المتحددة والمتغيرة، خصوصا وهو الذي قرر، كما أشرنا، إلى أن ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن!.. ولكنه -في المسألة الاجتماعية- وضع فلسفة تشريع، ولم يضع تشريعا، ودعا إلى معيار توزن به الأمور عندما تتعارض المصالح والرغبات، وقرر أطرا عامة حث على أن تتم الحركة في داخلها، ثم ضرب الأمثلة التشريعية للواقع الذي ظهر فيه، توضيحا وتقنينا، ثم جاءت تجربة دولة الخلافة الراشدة فطورت بعض هذه الأمثلة التشريعية وعدلت بعض هذه القوانين، فكانت أن ثبت بالقطع أن الإسلام كدين قد وقف عند(1/166)
تقرير فلسفة التشريع المالي وحكمة الموقف الاجتماعي دون أن يقيد خطى المسلمين المستقبلة أو يكبل تجاربهم الاجتماعية بالنصوص والقوالب والنظريات.
وإذا شئنا إيجازا يكثف فلسفة الإسلام الاجتماعية فإن باستطاعتنا أن نقول: إنه قد انحاز كل الانحياز إلى صف مجموع الأمة وعامتها، وانتصر لمصالح العاملين من أبنائها.. ثم ترك للواقع المتطور والمتغير أمر الاختيار والصياغة لم يحقق هذه المقاصد من نظريات وقوالب وتشريعات.
والإسلام عندما انحاز إلى مجموع الأمة في المسألة الاجتماعية، لم يكن يبدأ من فراغ.. فهو قد ظهر في مجتمع تغلب عليه البداوة والبساطة، وكانت القبيلة فيه وحدة متحدة، يملك مجموع أبنائها متكاملين وعلى نحو جماعي كل مصادر ثروتها، بل وجميع أدوات كسب عيشها، باستثناء أسلحة القتال. وبعد أن كانت القبيلة كيانا إداريا وسياسا مستقلا إلى حد كبير جاءت دولة العرب المسلمين لتجعل هذه القبيلة لبنة في بناء الأمة الاجتماعي والقومي الجديد.. وكان أن انتقل الإسلام بملكية مصادر الثروة الأساسية في المجتمع إلى مجموع الأمة.. لقد كانت الملكية عامة في القبيلة، عندما كانت هي "دولة" البداوة قبل التوحيد، فأصبحت الملكية عامة في الأمة بعد التوحيد القومي الذي شرعه الدين ونهضت دولته لإقامته..
والقرآن الكريم.. والسنة النبوية.. وتجربة عصر النبي والخلفاء الراشدين.. زاخرة جميعها بالأدلة على هذا الانحياز إلى مجموع الأمة في المسألة الاجتماعية، باعتباره فلسفة التشريع الاجتماعي للإسلام.
فالمال في الإسلام هو مال الله، أودعه في الطبيعة فيضا إلهيا، ورصده وسخره للبشر جميعا، وبالعمل تتحدد السبل والمقادير التي بها يصيبون ولها ينالون من هذا المال.. هو مال الله، وحق الله، كما قرر الإسلام هو حق المجتمع، لا حق فئة أو طبقة.. هو مال الله، والمستخلف فيه عن الله(1/167)
الناس، والبشر، والأنام أجمعون!.
فالأرض جميعها، بما استكن في باطنها وما حملت على ظهرها قد جعلها الله للأنام جميعا: {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ} 1..
والمجموع -بدليل مصير الجمع- هم الخلفاء والمستخلفون عن الله في ماله: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} 2..
والله هو الذي أفاض المال على خلقه وأمدهم به: {وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ} 3..
وكما لا يتصور إنسان أن يمتلك الأب أبناءه فيتصرف فيهم كيف يشاء، كذلك لا يتصور -وفق منطق القرآن- أن يمتلك الإنسان المال فيتصرف فيه كيف يشاء؛ لأن كلا من المال والبنين مدد من الله أمد بهما الإنسان: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ، نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ} 4، {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا، وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا، وَبَنِينَ شُهُودًا} 5.. {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} 6.. {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} 7..
ثم تأتي السنة النبوية لتزكي هذا الموقف القرآني، ولتحدد ماذا للإنسان كإنسان في هذا المال الذي قرر القرآن أنه عام؟ فتحدد أن ما للإنسان هنا هو: حاجته وفق العرف، وفي المتوسط المألوف، وليس ما فضل وزاد عن الاحتياجات.. وهي تقرر هذا الموقف عندما تميز بين المال، على إطلاقه، وهو لله، وبين ما يصح أن يقول عنه الفرد: هذا مالي!..
__________
1 الرحمن: 10.
2 الحديد: 7.
3 النور: 32.
4 المؤمنون: 55، 56.
5 المدثر: 11-13.
6 الإسراء: 6.
7 نوح: 11، 12.(1/168)
يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم: "يقول العبد: مالي، مالي!! وإنما له من ماله ثلاث، ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى فأقنى 1.." وفي رواية ثانية: "يقول ابن آدم: مالي، مالي!! هل لك من مالك إلا ما تصدقت فأمضيت، أو لبست فأبليت، أو أكلت فأفنيت؟! " 2 وفي رواية ثالثة: "ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر.. يقول ابن آدم: مالي، مالي!! وإنما لك ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت" 3.
ولقد أخبر الرسول أصحابه أن مال أحدهم هو حاجته واحتياجاته، أما ما سوى ذلك فهو مال ورثته، وليس ماله، وأن الذين يحرصون على ما زاد عن الحاجة إنما يحبون أموال غيرهم؛ لأنها القدر الزائد عن الاحتياجات؟!.. يقول عليه الصلاة والسلام: "أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ " , قالوا: يا رسول الله، ما منا من أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه. فقال: "اعلموا أنه ليس منكم من أحد إلا مال وارثه أحب إليه من ماله! مالك ما قدمت، ومال وارثك ما أخرت؟! " 4.
والإسلام عندما انحاز في المسألة الاجتماعية إلى مجموع الأمة، وجعل الاحتياجات معيارا للحياة، إنما كان يستهدف تفادي المخاطر والمضار التي تنشأ عن تركز ثروة الله -ثروة الأمة- بيد قلة من الأغنياء يتداولونها ويتبادلونها ويحتجزونها فيما بينهم؛ لأن في ذلك الفساد كل الفساد في المادة والفكر، في الدنيا وفي الدين.. قرر الإسلام ذلك، وضرب عليه الأمثلة وقدم بين يديه المواعظ والعبر من تجربة البشرية عبر تاريخها الطويل..
فالثروة يجب أن توزع وفق الاحتياجات، وذلك حتى لا يزداد غنى
__________
1 رواه مسلم وابن حنبل.
2 رواه مسلم وابن حنبل والترمذي.
3 رواه النسائي.
4 رواه النسائي.(1/169)
الأغنياء فيصبح المال حكرا عليهم يتداولونه دولة بينهم: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} 1.
وفي العديد من سور القرآن الكريم تطالعنا الآيات التي تقدم الصور غير المستحبة، بل والكريهة، للأغنياء والمستغنين، سواء أكانوا في المجتمع المحمدي أم فيما سبقه من المجتمعات..
فالاستغناء سلم يقود الإنسان إلى الطغيان، بل إن القرآن يكاد أن يجعله قانونا يقضي بوجود الطغيان عند وجود الاستغناء: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى، أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى} 2.
والذين احتازوا الثروات واحتكروا الأموال على مر التاريخ، كانوا هم المناوئين لرسل الله ورسالات السماء.
{قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا} 3.
وفي قوم نبي الله شعيب كان دعاة الشرك هم الأثرياء المستمسكون بحريتهم المطلقة فيما يحتكرون ويحتازون.
{قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} 4.
وسنة أخرى من سنن الله في الكون يطالعنا بها القرآن: إن هلاك القرى
__________
1 الحشر: 7.
2 العلق: 6، 7.
3 نوح: 21.
4 هود: 87.(1/170)
وانهيار الحضارات وتحلل المجتمعات وإباداتها لا بد مقترن بسيطرة "المترفين" من أبنائها: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} 1 ومن القراء من يقرأ: "أَمَّرْنَا" بتشديد الميم مفتوحة.. أي: جعلنا هؤلاء المترفين أمراء في هذه المجتمعات وحكاما..
ذلك لأن المترفين كانوا دائما، هم المناوئين لرسل الله ولرسالات السماء.. ومناوأتهم هذه بلغت -كما يحكي القرآن- مبلغ القانون!..
{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ, وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} 2.
{وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ, وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} 3.
والمترفون عادة هم أهل الجمود والمحافظة على القديم البالي: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} 4.
والترف في ذاته، قوة تقود هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم به إلى مواقع الإجرام والمجرمين: {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} 5.
وهم بعد أن اعتقدوا أحقيتهم في احتكار الثروة قد اعتقدوا أحقيتهم في احتكار النبوة والرسالة {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} ؟!.. "الوليد بن المغيرة -عظيم مكة- وعيسى بن مسعود الثقفي -عظيم الطائف" {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} ؟! 6.. كما اعتقدوا
__________
1 الإسراء: 16.
2 سبأ: 34، 35.
3 المؤمنون: 32، 33.
4 الزخرف: 23.
5 هود: 116.
6 الزخرف: 32.(1/171)
أحقيتهم في احتكار الملك: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} ؟! 1.
تلك هي مواقفهم عبر التاريخ، ومختلف المجتمعات تتحدث عنها آيات القرآن.. ثم تطالعنا بالمصير السيئ الذي أعده الله لهؤلاء المترفين والمستغنين: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ، فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ، لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ، قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ، فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} 2.. {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ، لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ، قَدْ كَانَتْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ، مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ} 3.. {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ، فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ، وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ، لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ، إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} 4.. {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى، وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} 5.. ولقد كان الدمار والبوار نصيب ذلك الذي استغنى فغره غناه حتى ظلم نفسه وقال لصاحبه: {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا، وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا، وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} 6.. ويوم القيامة لن تغني عنهم أموالهم ولن ينفعهم ما حقق لهم الثراء من سلطان: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ، وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ، يَا لَيْتَهَا
__________
1 البقرة: 247.
2 الأنبياء: 11-15.
3 المؤمنون: 64-67.
4 الواقعة: 41-45.
5 الليل: 8-11.
6 الكهف: 34-36.(1/172)
كَانَتِ الْقَاضِيَةَ، مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ، هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} 1.. {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ، مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ، سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} 2.. {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ، الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ، يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ، كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ} 3.
ثم تأتي السنة النبوية لتزكي موقف القرآن من المستغنين والمترفين، أولئك الذين احتكروا ما زاد عن حاجاتهم من الثروات والأموال، فحالوا بين الأنام وبين الاستخلاف في مال الله.. يقول أبو ذر الغفاري: جئت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، وهو جالس في ظل الكعبة، فلما رآني مقبلا قال: "هم الأخسرون ورب الكعية! " , قلت: من هم، فداك أبي وأمي؟!.. قال: "الأكثرون أموالا، إلا من قال هكذا، وهكذا، وهكذا -من بين يديه، ومن خلفه، عن يمينه، وعن شماله- وقليل ما هم؟! " 4.. أي: إلا الذين أنفقوا عن يمينهم وعن شمالهم وأمامهم وخلفهم، فعمموا في الناس ما زاد عن حاجاتهم.. وهؤلاء: "قليل ما هم" من بين المستغنين والمترفين "الأكثرون أموالا" حسب تعبير الرسول، عليه الصلاة والسلام!..
وهذا الموقف الذي اتخذه الإسلام من "المستغنين" و"المترفين" و"الأثرياء"، وما صورهم به القرآن من منكر الصور، ومن تنبأ لهم به من سيئ المصير، لا يعني تحبيذه للفقر والحاجة والمسكنة.. إنه يعادي الترف واحتكار مال الله، كي تتم إرادة الله باستخلاف خلقه في ماله، وحتى يزول "الترف" و"العوز" معا.. فهو ينهي عن "الكنز" و"الاكتناز"، أي:
__________
1 الحاقة: 25-29.
2 المسد: 1-3.
3 الهمزة: 1-4.
4 رواه البخاري ومسلم والنسائي.(1/173)
الضم والجمع لما زاد عن الحاجة من الأموال، ويدعو إلى إنفاق فضول الأموال، أي: ما زاد عن الحاجة منها، للمستحقين.. يقول الله سبحانه: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ, يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} 1.
ومذهب أبي ذر الغفاري: أنا ما زاد عن حاجة الإنسان فهو كنز، سيكوى به ويعذب يوم القيامة، حتى وإن أخرج عند الزكاة.. وهو أيضا مذهب علي بن أبي طالب، الذي قرر أن الحد الأقصى لنفقة الإنسان أربعة آلاف درهم "وما كثر عنه فهو كنز وإن أديت زكاته"2..
وفي إثبات هذا المذهب يروي أبو ذر عن الرسول -صلى الله عليه وسلم، قوله: "من جمع دينارا أو درهما أو تبرا أو فضة ولا يعده لغريم ولا ينفقه في سبيل الله فهو كنز يكوى به يوم القيامة" 3 روى ثوبان قول الرسول: "ما من رجل يموت وعنده أحمر أو أبيض إلا جعل الله له بكل قيراط صفيحة يكوى بها من فرقه -الطريق في شعر الرأس- إلى قدمه، مغفورا له بعد ذلك أو معذبا" 4.. ويروي أبو هريرة: "من ترك عشرة آلاف جعلت صفائح يعذب بها صاحبها يوم القيامة"5.
ويؤيد هذا المذهب وذلك التفسير لمعنى "الكنز"6 تحديد القرآن
__________
1 التوبة: 34، 35.
2 انظر القرطبي "الجامع لأحكام القرآن" جـ8 ص123. طبعة دار الكتب المصرية.
3 المصدر السابق. جـ8 ص131.
4 المصدر السابق. جـ8 ص131.
5 المصدر السابق. جـ8 ص131.
6 يروى عن ابن عمر مذهب آخر في الكنز يرى أن ما أخرجت زكاته لا يعد كنزا. انظر المصدر السابق. جـ8 ص123.(1/174)
الكريم للقدر الواجب إنفاقه من المال الذي يحوزه الإنسان، وقوله: إن ما يجب إنفاقه هو: العفو، أي: ما زاد وفضل عن حاجة العيال.. فعندما ثارت هذه القضية، وسأل المسلمون الرسول عنها نزل قول الله سبحانه: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} 1.. والجمهرة من مفسري القرآن من الصحابة والتابعين على أن "العفو": هو ما فضل عن العيال. فالمعنى: انفقوا ما فضل عن حوائجكم، ولم تؤذوا فيه أنفسكم فتكونوا عالة. ومن هؤلاء المفسرين: عبد الله بن عباس "3 ق. هـ-68هـ 619-687م" والحسن البصري "21-110هـ 642-728م" وقتادة بن دعامة السدوسي "61-118هـ 680-736م" وعطاء بن دينار "126هـ 744م" والسدي، إسماعيل بن عبد الرحمن "128هـ 745م" والقرظي محمد بن كعب، وابن أبي ليلى، محمد بن عبد الرحمن "74-148هـ 693-765"2.
وتأتي السنة النبوية لتدعم هذا التفسير وهذا المذهب.. فأبو سعيد الخدري يروي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديثا يقرر فيه أنه لا حق لمسلم فيما فضل وزاد عن حاجته، وأن الواجب هو دفع هذا الفضل -الزيادة- إلى من لا مال عنده.. يقول الرسول: "من كان عنده فضل من ظهر -دابة ركوب- فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له".. ويكمل الرازي الحديث بلفظه فيقول: إن الرسول قد "ذكر من أصناف المال ما ذكر، حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل! "3..
كما يروي ابن عباس عن الرسول الحديث الذي يقرر "شركة"
__________
1 البقرة: 219.
2 "الجامع لأحكام القرآن" جـ3 ص61.
3 رواه مسلم وابن حنبل.(1/175)
الناس و"اشتراكهم" في المصادر الأساسية للثروة بمجتمع شبه الجزيرة يومئذ.. يقول: "المسلمون شركاء في ثلاث: الماء، والكلأ والنار. وثمنه حرام"!.. وفي رواية أبي هريرة: "ثلاث لا يمنعن: الماء والكلأ والنار".. وعن رواية عائشة أنها سألت الرسول:
- يا رسول الله، ما الشيء الذي لا يحل منعه؟.. فقال: "الماء والملح والنار" 1.
ومصادر الثروة هذه، وما شابهها، يتحدد اختصاص الإنسان منها وكسبه فيها بالعمل، ما سبق وتحددت لحيازته حدود قصوى يكون ما بعدها "كنز" و"فضل" يجب رده إلى من لا مال عنده..
فالأرض الميتة لمن أحياها، وداوم على استثمارها، وسعيد بن زيد يروي عن الرسول قوله: "من أحيا أرضا ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق" 2.. وهذا الحديث الذي يخصص الأرض بالعاملين فيها، يجعل فكر الإسلام الاجتماعي، لانحيازه الكلي "للعمل"، يقف مع الشعار المعاصر: "الأرض لمن يفلحها"!.. بل إننا نجد في السنة النبوية أحاديث أخرى تدعو إلى ذلك صراحة، وتنهى عن "كراء" الأرض وتأجيرها.. فتأجير الأرض نظام عرفه مجتمع المدينة في عهد الرسول، ثم نهى عنه الرسول -صلى الله عليه وسلم، يروي رافع بن خديج فيقول: "كنا نحاقل الأرض على عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم، فنكريها بالثلث والربع والطعام المسمى. فجاءنا ذات يوم رجل من عمومتي فقال: نهانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أمر كان لنا نافعا! وطواعية الله ورسوله أنفع لنا، نهاهنا أن نحاقل الأرض فنكريها على الثلث والربع والطعام المسمى، وأمر رب الأرض أن يزرعها -بفتح الياء- أو
__________
1 روى هذه الأحاديث ابن ماجه وابن حنبل.
2 رواه الترمذي وأبو داود.(1/176)
يزرعها -بضم الياء- وكره كراءها، وما سوى ذلك"1.. ويزيد معنى هذا الحديث الناهي عن كراء الأرض وتأجيرها، وضوحا وحسما ما يرويه جابر بن عبد الله عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من كانت له أرض فليزرعها، إن لم يستطع أن يزرعها، وعجز عنها، فليمنحها أخاه المسلم، ولا يؤجرها إياه، ولا يكرها" 2.
ويزيد من أهمية هذه الأحاديث، التي تقرر "أن الأرض لمن يفلحها"، يزيد من أهميتها وخطورتها في فكر الإسلام الاجتماعي أنها تتعدى الفكر النظري، وتقطع بأن مدلولها قد تحول إلى ممارسة وتطبيق.. فلقد كان المسلمون يكرون الأرض ويؤجرونها، وكان هذا الأمر نافعا للمؤجرين، فنهى عنه الرسول فامتثلوا، ومنحت الأرض لفالحها؛ لأن طواعية الله ورسوله أنفع للمسلمين!..
وفي المدينة عقب هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- إليها شهدت الشهور الأولى من عمر الدولة الوليدة تجربة "المؤاخاة" التي جسدت فلسفة الموقف الاجتماعي للإسلام ودولته.. ففي البداية "آخى" الرسول بين المهاجرين بعضهم مع بعض.. ثم "آخى" بينهم وبين الأنصار.. وكان المهاجرين قد أجبروا على الخروج من ديارهم وأموالهم هربا بعقيدتهم وحفاظا على إيمانهم، بينما كان الأنصار يعيشون في وطنهم ومالهم، "فأشركت" المؤاخاة المهاجرين مع الأنصار، وأقام هذا التنظيم الاجتماعي الجديد للمهاجرين في أموال الأنصار حقوقا تساوي حقوق الذين تجمعهم معا صلات الأرحام والأنساب.. لقد كانت "المؤاخاة" عقدا اجتماعيا "اشترك" فيه وبه "المتآخون" في ثلاثة أشياء:
__________
1 رواه مسلم.
2 رواه البخاري ومسلم وابن ماجه.(1/177)
1- في الحق.. ويعني التناصر والتآزر في الجانب الروحي والمعنوي للبناء الجديد الذي مثلته دولة المدينة، والذي يحدده الدين..
2- وفي المؤاساة.. وتعني المساواة والاشتراك في أمور المعاش ومصادره.
3- وفي التوارث.. كما يتوارث ذوو القربى والأرحام..
ثم حدث أن أوحى الله إلى رسوله بقوله: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ، وَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 1.. فنسخت الآية التي تخمس التوارث في ذوي الأرحام بند التوارث من عقد المؤاخاة.. لكن الأمران الآخران في عقد المؤاخاة ظلا على حالهما دون نسخ، أي: ظلت هذه التجربة الاجتماعية قائمة "يشترك" و"يتشارك" أعضاؤها في "الحق" وفي "المؤاساة"، أي: في جانبي الحياة، المعنوي والمادي2..
وأشارت آيات القرآن التي حرمت الربا إلى "العمل"، وقرنته -على سنة القرآن وطريقته- "بالإيمان"، وتحدثت عن أن للناس فقط رءوس أموالهم، أما ذلك المال -الربا- الذي يثمره المال دون "عمل" فهو محرم، يجب إسقاطه، وبأثر رجعي. قالت تلك الآيات البينات: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ
__________
1 الأنفال: 74-75.
2 انظر: ابن عبد البر "الدرر في اختيار المغازي والسير" ص96. تحقيق: د. شوقي ضيف. طبعة القاهرة: سنة 1966م.(1/178)
مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ، إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ، وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 1.
فتحريم الربا -وهو المال الناشئ عن مال دون عمل- يقطع بأن الفلسفة الاجتماعية للإسلام تقف مع المذهب القائل: إن العمل هو الذي يعطي الأشياء قيمتها، وهو الأساس من الكسب وعليه المعول في التمايز والامتياز.. وهذه الفلسفة هي التي صاغها من بعد ابن خلدون "732-808هـ 1332-1406م" عندما قال: "اعلم أن ما يفيده الإنسان ويقتنيه من المتمولات إن كان من الصنائع فالمفاد المقتنى منه قيمة عمله، إذ ليس هناك إلا العمل.. وقد يكون من الصنائع في بعضها غيرها، مثل: النجارة والحياكة، معهما الخشب والغزل، إلا أن العمل فيهما أكثر، فقيمته أكثر.. إن المفادات والمكتسبات كلها، أو أكثرها إنما هي قيمة الأعمال الإنسانية"2..
هكذا كانت ثورة الإسلام، أو الإسلام الثورة، في المسألة الاجتماعية.. وعلى هذا النحو كان المحتوى الاجتماعي الثوري الذي جاء به الإسلام عن قضايا المال والاقتصاد والثروات..
__________
1 البقرة: 278-280.
2 "المقدمة" ص302. طبعة القاهرة سنة 1372هـ.(1/179)
لقد جعل المال مالا لله.. منه فاض وعنه صدر، وجعل الناس جميعا مستخلفين فيه.. وحدد العمل سبيلا ومعيارا للاختصاص فيه والحيازة منه.. ونهى عن حيازة ما زاد عن الاحتياجات التي يحدد العرف والعادة حدودها القصوى.. ونبه على وجوب "الاشتراك العمومي" في المصادر الأساسية لثروة الأمة والمجتمع..
والمتصفح لحديث المال في القرآن يجد الكثير من الأدلة والبراهين على وضوح هذا الموقف الاجتماعي.. فكلمة "المال" إذا كانت قد أضيفت في القرآن إلى ضمير "الفرد" سبع مرات، فإنها قد أضيفت إلى ضمير "الجمع" سبعا وأربعين مرة!.. حتى لقد قال الإمام محمد عبده في ذلك: إن الله سبحانه أراد أن ينبه بذلك على "تكافل الأمة في حقوقها ومصالحها، فكأنه يقول: إن مال كل واحد منكم هو مال أمتكم؟! "1.
ولقد كان وراء هذا الموقف الاجتماعي للإسلام مذهبه الذي امتازت وتميزت به حضارته، والذي يوازن بين النقائض ويتوسط بين قطبي الظاهرة، فالانحياز للمجموع، ومعالجة القضية الاجتماعية من منظور الجماعة يرفض تركز الثروة بيد القلة المترفة، ويتحاشى شيوع الفاقة بين الأغلبية، وهو ما حذر منه الإسلام وكرهه إلى الناس عندما قرن النقص في الأموال بالجوع والخوف، أي: بالعجز والشلل المادي والمعنوي عن النهوض برسالة الإنسان في هذه الحياة {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} 2.
وأخيرا يكثف القرآن الكريم موقفه الاجتماعي المنحاز إلى مجموع العاملين، عندما يعلن أن إرادة الله سبحانه أن تكون القيادة والإمامة ووراثة ما بالمجتمع من ثروات وإمكانيات هي للمستضعفين في الأرض: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} 3.
__________
1 "الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده" جـ5 ص201. دراسة وتحقيق: د. محمد عمارة. طبعة بيروت سنة 1972م.
2 البقرة: 155.
3 القصص: 5.(1/180)
لكن ماذا عن التفاصيل في الدرجات
...
لكن ماذا عن التافضل في الدرجات:
غير أن "شبهة" يثيرها الذين لا يفقهون منطق القرآن ولا يعون مدلول مصطلحاته، ويحاولون بها تبرير المظالم الاجتماعية وتصويرها كما لو كانت التحقيق لإرادة إلهية أزلية وأبدية!.. وهذه "الشبهة" تعتمد على ما ورد في القرآن من آيات كثيرة تتحدث عن تفاوت "درجات" الناس، وارتفاع بعضهم "درجة" أو "درجات" عن الآخرين.
لكن الناظر في آيات القرآن، والباحث في مصادر تفسيره، لا يجد أية علاقة بين مصطلح "الدرجة" و"الدرجات"، كما استخدم فيه، وبين المسألة الاجتماعية والفكر الاجتماعي.. "فالدرجة" ليست هي "الطبقة" بالمعنى الاجتماعي، بل لا علاقة البتة بين المعنيين والمدلولين.. فالطبقة، بالمعنى الاجتماعي، شريحة اجتماعية تتميز بمركز مالي واجتماعي خاص، على حين ترد "الدرجة" و"الدرجات" في القرآن للدلالة على الجزاء في الآخرة، والتفاوت فيها هو التفاوت في المثوبة والتكريم الأخروي والمعنوي الذي يناله الإنسان لقاء ما قدمت يداه من حسنات..
فللرجال على النساء درجة.. ولا علاقة لذلك بالنظام الطبقي وتفاوت الطبقات.(1/181)
وقال تعالى: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} 1.. أي: ارتفاعا في المنزلة عند الله2..
و {الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ} 3.. أي: أعلى مرتبة وأكثر كرامة يوم القيامة4..
وأنبياء الله يتفاوتون، إذ {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} 5.. وهي مراتب لا يعقل أن تكون لها علاقة بالأوضاع الطبقية والاجتماعية6..
{وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا، دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً} 7.. ودرجاتهم هذه هي: منازلهم في الجنة8 هكذا، وعلى هذا النحو يورد القرآن مصطلح "الدرجة" في المواطن الأربعة التي ورد فيها، ومصطلح "الدرجات" في المواطن الأربعة عشر التي ورد فيها، ويريد به: المثوبة والكرامة في الآخرة، دون أن تكون لهذه المواطن وآياتها أية صلة بالفكر الاجتماعي وفلسفة الإسلام في الأموال والاقتصاد..
وحتى آيات "الزخرف" التي تقول: {وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ، وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ، أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا
__________
1 النساء: 95.
2 انظر: تفسير البيضاوي. ص150. طبعة القاهرة سنة 1927م.
3 التوبة: 20.
4 تفسير البيضاوي ص277.
5 البقرة: 253.
6 تفسير البيضاوي ص80.
7 النساء: 95، 96.
8 تفسير البيضاوي، ص150.(1/182)
وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} 1.. حتى هذه الآيات فإنها لا تشهد للذين يريدون للمظالم الاجتماعية والتفاوت الاجتماعي الظالم سندا من القرآن.. لأنها تتحدث عن منطق المترفين من المشركين، أولئك الذين استنكروا اصطفاء الله لنبي فقير، وتساءلوا منكرين: لماذا لم ينزل القرآن على عظيم مكة الوليد بن المغيرة؟! أو عظيم الطائف عيسى بن مسعود الثقفي؟!.. فهم انطلاقا من منطقهم الطبقي يريدون النبوة هي الأخرى امتيازا طبقيا. لكن الله سبحانه يسفه من منطقهم ومعيارهم الطبقي هذا؛ لأنه وليد تنظيم اجتماعي ظالم وفاسد، ارتفع فيه البعض فوق البعض درجات، فسخره وسخر منه.. فالقرآن هنا لا "يشرع"، وإنما "يصف" واقعا ظالما أثمر منطقا ظالما مرفوضا، إذ لا يعقل بداهة أن يقصد شرع الله وتشريعه إلى جعل قلة من الناس تسخر الكثرة وتسخر منها.. فالمقام هنا مقام الوصف، بل والإدانة، وليس مقام التحبيذ أو التشريع..
أما التفاوت في "الرزق" والتفاضل فيه، والذي تتحدث عنه آية: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} 2.. فإن وعي المعنى المراد بمصطلح "الرزق" هنا يجعل الآية متسقة تماما مع الموقف الاجتماعي الذي اتخذه القرآن، والذي تحدثنا عنه، فالمراد "بالرزق" الاحتياجات.. وبديهي أن تتفاوت وتتفاضل احتياجات الناس، مأكلا وملبسا ومسكنا.. إلخ.. إلخ.. كما وكيفا.. وهذا هو المراد بتفاوت "الرزق" والتفاضل فيه، إذ لا علاقة لمصطلح "الرزق" بمدلول مصطلحات مثل: "الكسب" و"الملكية" و"الحيازة".. إلخ..
__________
1 الزخرف: 30-32.
2 النحل: 71.(1/183)
إلخ.. ويشهد بهذا الذي نقول حديث ابن خلدون عن أن المكاسب إذا كانت بمقدار الضرورة والحاجة فهي "معاش"، أما إن زادت عن الحاجة فهي تسمى "رياشا وتمولا" أي: دخلت في نطاق فضول الأموال التي دعا الإسلام إلى ردها على المحتاجين, وأن القدر اللازم من "المكاسب" لمصالح الإنسان وحاجاته هو الذي يسمى "رزقا" فإن لم ينتفع به في شيء من مصالحه ولا حاجاته فلا يسمى بالنسبة له "رزقا".. ثم يورد ابن خلدون للدلالة على هذا التحديد حديث الرسول عليه الصلاة والسلام: "إنما لك من مالك ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت" 1.. فهذه الاحتياجات هي "الرزق"، وفيها بداهة يقع التفاوت والتفاضل بين الناس، وهو التفاوت والتفاضل الطبيعي، ولا علاقة لذلك بالتفاوت الطبقي أو الظلم الاجتماعي، كما يوهم أو يتوهم نفر ممن يشوهون أو يظلمون الفكر الاجتماعي للإسلام..
هكذا ظهر الإسلام في حياة الإنسان العربي، وفي واقع شبه الجزيرة العربية..
ثورة في الفكر السياسي جعلت الشورى فلسفة نظام الحكم "في دولة الخلافة الراشدة".
وثورة لتحرير ذات الإنسان العربي من الجبر والقدر وظواهر الطبيعة والإطار الضيق للتعصب القبلي.
وثورة لتحرير المرأة والارتقاء بها كي تلحق بالرجل..
وثورة لتحرير الرقيق تدريجيا، ولدمجهم، "بالولاء"، قوميا مع العنصر العربي في إطار يحظى بمضمون إنساني مستنير.
__________
1 المقدمة: ص302.(1/184)
وثورة لتحرير الإنسان اجتماعيا من العوز والاستغلال بالانحياز للمجموع، وتقرير الاشتراك العمومي في ثروات الأمة، وجعل "العمل" معيارا للكسب الحلال وللتفاوت في الأرزاق.
ولقد ظل هذا المضمون الثوري لثورة الإسلام العربية محور الصراع في المجتمع العربي بين تيار الثورة، بفرقها وتياراتها وتنظيماتها وطبقاتها، وبين أعدائها. فالذين تمسكوا بهذا المحتوى الثوري لثورة الإسلام كانوا هم دائما أعداء "الثورة"، كوسيلة من وسائل التغيير, والذين شرعوا "الثورة" سبيلا للتغيير كان الهدف من ثوراتهم في الأغلب الأعم، محاولة العودة بالمجتمع وتبني المحتوى الثوري لثورة الإسلام، سواء في الفكر النظري أو الممارسة والتطبيق.(1/185)
الثورة على حكم عثمان بن عفان:
في عهد عمر بن الخطاب "40 ق. هـ-23هـ 584-644م" اكتملت للدولة العربية الإسلامية فتوحاتها الكبرى، وعند ذلك بدأ طور جديد في حياة هذه الدولة وذلك المجتمع، فلقد دخلت في هذا الإطار شعوب ذات ثروات وحضارات ومواريث، الأمر الذي استدعى قيام بناء إداري وسياسي وتشريعي يلبي احتياجات هذا الواقع الجديد، ويتخذ مادته ويستلهم مواده من مواريث هذه الشعوب وتراث تلك الحضارات، بعد عرضها على موازين العدل وفلسفة الشورى التي أوصى بها الدين الجديد.
لكن الاختلاف الذي طرأ على طبيعة المجتمع وفي بنيته ثراء وحضارة، وفي النظم الطبقية ذات العراقة والتقاليد ... إلخ.. إلخ ... قد أوجد فجوة بين الواقع المادي الجديد، الذي دخل في إطار الدولة بعد الفتح، وبين الفكر الاجتماعي الثوري والتنظيم الاجتماعي شبه الجماعي الذي أقامه المسلمون الأوائل في مجتمع شبه الجزيرة البسيط، والملائم للجماعية إلى حد كبير.
لقد نشأ في إطار الدولة واقع جديد، يثير مشكلات جديدة، ويستدعي جديدا في الحلول والاجتهادات.(1/186)
ولم يكن الأمر سهلا، ولا كانت الحلول جميعها ميسرة أمام السلطة الإسلامية وهي تعالج مشكلات ذلك الواقع الجديد.. وفي مقدمة تلك المشكلات جاءت مشكلة الثراء العريض الذي وضعته الفتوحات الكبرى بين يدي المسلمين الفاتحين.. فالموقف من أرض العراق والشام ومصر كان مشكلة اختلف المسلمون من حولها حتى حسمت بالتحكيم.. وزيادة الثروة جعلت عمر بن الخطاب يعدل عن سنة النبي وأبي بكر في التسوية بين الناس في العطاء فقرر التمييز والمفاضلة متخذا معياره: السبق إلى الإسلام.. كما أن هذا الثراء الجديد والعريض قد حرك في نفوس أشراف قريش والسادة القدماء لمجتمعها القديم تطلعات وتطلعات.. والصورة التي تعبر عن المخاطر التي نشأت بذلك المجتمع نتيجة لذلك الثراء الجديد، هي صورة عمر بن الخطاب عندما حملت إليه كنوز أكاسرة الفرس، ووضعت في فناء المسجد، وانعكست عليها أشعة الشمس فلمعت وحميت! وتشاور المسلمون أيوزعونها بالعد؟ أما بالمكاييل؟!.. وكانت المفاجأة عندما نظر عمر لهذه الكنوز وبكى!.. ولما سئل ذلك السؤال الاستنكاري: كيف تبكي يا أمير المؤمنين في موطن الرضى والشكر؟! أنبأهم أنه يدرك المخاطر التي تحملها هذه الكنوز إلى النفوس!!.
ومنذ ذلك التاريخ اجتهد عمر وجاهد كي يحاصر هذه المخاطر، ويطاردها إذا هي أطلت برأسها في المجتمع الجديد..
فالأرض الزراعية تقرر أن تكون ملكية رقبتها لبيت المال، وأن يكون خراجها مصدرا لمصرف الأمة وجهاز دولتها.. فمنع ذلك التشريع حيازة الجند الفاتح لأودية الأنهار في مصر والشام والعراق، وأنقذ الفلاحين في هذه الأرض من وضع الرقيق.
وأشراف قريش أصحاب التطلعات الطموحة للثراء العريض، حجر عليهم عمر مغادرة العاصمة، فكان الواحد منهم لا يغادرها إلا بإذن(1/187)
من الخليفة، ولأجل محدد. وقال في ذلك عمر قولته الشهيرة: "لآخذن بحلاقيم قريش لأمنعهم من أن يتجاوزوا الحرتين! ".. حتى لقد كان الرجل من هؤلاء الأشراف يطلب إلى عمر أن يغادر المدينة غازيا في سبيل الله، فيقول له عمر: حسبك ثواب غزواتك مع الرسول عليه الصلاة والسلام؟!.
ومن بين ولايات الدولة الإحدى عشرة في الأقاليم على عهد عمر لم يكن لقريش إلا ثلاثة ولاة، ولم يكن لبني أمية -الذين تتركز فيهم عصبية قريش- سوى وال واحد1..
وعندما أدرك عمر أواخر عهده أن التمييز بين الناس في العطاء قد أحدث -رغم عدله وشدته في الحق ويقظة ضميره كحاكم تؤرقه شئون العدل بين رعيته- تفاوتا في الثراء، عزم على التغيير وأعلن أنه سيعود من العام المالي المقبل إلى سنة الرسول وأبي بكر في التسوية بين الناس في العطاء، وقال في ذلك كلماته الشهيرة: "لو عشت من قابل لسويت بين الناس في العطاء".. بل لقد عزم على جعل هذه التسوية "بأثر رجعي" -كما يقول تعبيرنا المعاصر- فقال: "لو عشت من قابل لأخذت فضول -زيادات- أموال الأغنياء فرددتها على الفقراء"، وفي رواية أخرى: "والله لئن بقيت إلى الحول لألحقن آخر الناس بأولهم، ولأجعلنهم رجلا واحدا"2.. ولكن عمر اغتيل قبل حلول الموعد الذي ضربه لتنفيذ هذا التغيير!.
وبموت عمر افتقد المجتمع الإسلامي ذلك الحذر وتلك الشدة وهذه الحيطة التي تميز بها ذلك العادل المتفرد.. فاقتحم سادة قريش وأشرافها،
__________
1 د. طه حسين "الفتنة الكبرى" جـ1 ص73، 74، 135 طبعة القاهرة سنة 1970م.
2 "طبقات ابن سعد" جـ3 ق1 ص217 طبعة القاهرة.(1/188)
خلف بني أمية، الأسوار التي حجزهم عمر وراءها، سالكين إلى مطامعهم ومطامحهم ثغرات وجدوها في أسلوب الخليفة الجديد عثمان بن عفان.
فلقد استأثرت قريش بمعظم الولايات الإقليمية وأهمها. وتعاقب الولاة منها على الأمصار، حتى قال الشاعر:
يلينا من قريش كل عام ... أمير محدث أو مستشار
لنا نار تحرقنا فنخشى ... وليس لهم، ولا يخشون، نار1
والحجر الذي فرضه عمر على سادة قريش وأشرافها قد زال، فخرجوا إلى البلاد المفتوحة ذات الثراء، فكونوا العصبيات واحتازوا واحتاز الناس باسمهم الثروات، وأدرك الطبري -على قلة تحليلاته وتعليلاته- خطورة ذلك التطور وآثاره المدمرة في مجتمع الإسلام، فكتب يقول في تاريخه: إن عمر بن الخطاب كان "قد حجر على أعلام قريش من المهاجرين الخروج في البلدان إلا بإذن وأجل. فلما ولي عثمان لم يأخذهم بالذي كان عمر يأخذهم به، فخرجوا إلى البلاد فلما نزلوها ورأوا الدنيا، ورآهم الناس، فانقطع إليهم الناس.. وتقربوا إليهم، وقالوا: يملكون فيكون لنا في ملكهم حظوة؟! فكان ذلك أول وهن على الإسلام، وأول فتنة كانت في العامة!! ولذلك كان عثمان أحب إلى قريش من عمر"2.
وبعد التقشف الذي تميز به عمر، والتحرج الذي تميز به إزاء مال المسلمين العام -والذي أصبح مضرب الأمثال- وجدنا الواقع الجديد يفرز أفكارا جديدة تزيل الحدود والحواجز بين مال الحاكم الخاص وما تحت ولايته من مال عام.. فمعاوية بن أبي سفيان والي الشام يعترض على قول أبي
__________
1 ابن أبي الحديد "شرح نهج البلاغة" جـ2 ص129، جـ17 ص242. طبعة القاهرة سنة 959.
2 المصدر السابق جـ11 ص12، 13.(1/189)
ذر الغفاري: أن المال مال الناس، ويقول: إنه مال الله، وإن التصرف فيه من حقه كحاكم منحا ومنعا. وعثمان لا يرى فارقا بين أن يكون "الخازن" خازنا لبيت مال المسلمين أو خازنا لخليفتهم، الأمر الذي أدى إلى غضب خازن بيت المال، وقوله: إن خازنك هو غلامك، أما أنا فخازن بيت مال المسلمين.. ولقد استقال الرجل بأن حمل مفاتيح بيت المال ووضعها على منبر المسجد عندما رفض عثمان أن يوقع صكا يثبت أن عطاياه لبعض المقربين إنما هي فرض في ذمته الوفاء به لبيت المال!
وعندما لغط الناس بأن الخليفة يأخذ من فضول أموالهم ما ينفقه في شئونه الخاصة خطب فيهم فقال: " ... هبوني بنيت منزلا من بيت المال، أليس هو لي ولكم؟!.. فلم لا أصنع في الفضل "أي: الزيادة من حاجات الناس وعطائهم" ما أحببت؟! فلم كنت إماما إذا؟!!.. فما لي لا أفعل في فضول الأموال ما أفاء؟! "1.
فهو فكر جديد أثمره واقع جديد.. والتفاوت في الثروة والثراء الذي بدت بوادره أواخر عهد عمر، فعزم على محوه، استشرى على عهد عثمان، فلم يعد الولاة يحاسبون كما كان الحال أيام عمر.. ونموذج الخليفة الفقير -كقدوة- لم يعد مألوفا.. فأبو بكر -وكان من أغنياء القوم- مات معدما، وعمر -وكان من أوسطهم مالا- مات مدينا.. أما عثمان فكان أول خليفة يخلف ثروة طائلة، فلقد وجدوا يوم مقتله، عند خازنه 150.000 دينار 1000.000 درهم، وقدرت ضياعه بوادي القرى وحنين بـ 100.000 دينار، إلى غير ذلك من الخيل والإبل والمقتنيات والممتلكات2.
وعلى هذا النحو من الثراء تتحدث مصادر التاريخ، فتحصي ثروات
__________
1 "شرح نهج البلاغة" جـ9 ص6، 23.
2 المسعودي "مروج الذهب" جـ2 ص341، 342 طبعة القاهرة سنة 1958م.(1/190)
طائلة لعديد من أشراف المهاجرين، من مثل: الزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وكذلك لزيد بن ثابت، ويعلى بن منية.. وغيرهم كثيرون1.
وأمام هذه التغييرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية التي بدلت واقع المجتمع ومثل قيادته، لم يجد الرافضون لهذه التغييرات صعوبة أو حرجا في الدعوة إلى سلوك سبيل الثورة لتغيير هذا الواقع الجديد.. لم يجدوا صعوبة ولا حرجا؛ لأن تراث الإسلام وتعاليمه -التي ألمحنا إلى طرف منها- تنفي هذا الحرج، وتزكي اللجوء إلى الثورة وتبارك سعي الثوار.
وغير الجماهير التي همت بالثورة خلف أبي ذر الغفاري بالشام والمدينة قبل نفيه إلى الربذة2.. والتي تململت من استئثار بني أمية بالسلطة والسلطان، كانت هناك "هيئة المهاجرين الأولين" التي كانت بمثابة حكومة دولة المدينة منذ الهجرة إليها، والتي قوامها: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وأبو عبيدة، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد.. وهي الهيئة التي تكونت من أشراف المهاجرين السابقين إلى الإسلام، وفي عهد الرسول كانت لبيوتهم، التي تحيط بالمسجد -دار الحكومة- أبواب تفضي إلى المسجد، من دون الناس.. كما كان لهم مكان خاص مع الرسول، فهم خلفه في الصلاة وهم أمامه في القتال3.
ولقد استأثرت هذه الهيئة بالخلافة، دون الأنصار، منذ اجتماع السقيفة
__________
1 المصدر السابق جـ2 ص342، 343، 349.
2, 3 ابن الأثير "أسد الغابة" جـ2 ص389، طبعة دار الشعب، القاهرة.(1/191)
عقب وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام، فعقد اثنان منها: عمر وأبو عبيدة لثالث منها: أبو بكر. عندما حضرت الوفاة أبا بكر استشار بقيتهم في العهد بها لعمر وعندما حضر الموت عمر كان الباقون منها ستة، فكون منهم مجلس الشورى الذي اختار لها عثمان بن عفان..
فلما حدثت الأحداث التي أشرنا إليها في السنوات الأخيرة من حكم عثمان، وجدت هذه الهيئة الدستورية أن سلطاتها قد اغتصبت منها، وأن بني أمية قد استأثروا بحقها الذي استقر لها منذ اجتماع السقيفة عقب وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام.. فشارك أعضاء "هيئة المهاجرين الأولين" في التحريض على الثورة، بل لقد نهضت هذه الهيئة بالمهمة التي كانت العامل الحاسم في إنهاء عهد عثمان بالثورة، عندما أصدرت بيانا دعت فيه ثوار الأمصار والأقاليم إلى الزحف على العاصمة لاحتلالها، وتغيير ما طرأ فيها وعليها، وإعادة سلطاتها الدستورية والشرعية إليها.. ولقد أورد ابن قتيبة نص هذا البيان الذي يقول فيه "المهاجرون الأولون" لأهل مصر:
"بسم الله الرحمن الرحيم.. من المهاجرين الأولين وبقية الشورى إلى من بمصر من الصحابة والتابعين.. أما بعد، أن تعالوا إلينا وتداركوا خلافة رسول الله قبل أن يسلبها أهلها، فإن كتاب الله قد بدل وسنة رسوله قد غيرت، وأحكام الخليفتين قد بدلت.. فننشد الله من قرأ كتابنا من بقية أصحاب رسول الله والتابعين بإحسان إلا أقبل إلينا وأخذ الحق لنا وأعطاناه، فأقبلوا إلينا إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، وأقيموا الحق على المنهاج الواضح الذي فارقتم عليه الخلفاء. غلبنا على حقنا، واستولي على فيئنا، وحيل بيننا وبين أمرنا، وكانت الخلافة بعد نبينا خلافة نبوة ورحمة، وهي اليوم ملكا عضودا، من غلب على شيء أكله! "1.
__________
1 "الإمامة والسياسة" جـ1 ص32. طبعة القاهرة سنة 1331هـ.(1/192)
ولقد استجاب ثوار الأمصار والأقاليم لهذا النداء، فزحفوا إلى العاصمة، وأرسلوا علي بن أبي طالب بمطالبهم إلى الخليفة: أن يعزل الولاة ويرد المظالم، ويعيد النهج الذي كان عليه عمر بن الخطاب.. ولما لم يستجب عثمان، اقتحم المدينة ثوار الكوفة يقودهم مالك بن الحارث النخعي، وثوار البصرة يقودهم حكيم بن جبلة العبدي، وثوار مصر يقودهم عبد الرحمن بن عديس البلوى.
ثم تطورت أحداث الثورة، حتى بلغت حد احتلال المدينة، ومحاصرة الخليفة في بيته، ثم تسوروا عليه منزله فقتلوه، يرحمه الله، وهو يقرأ القرآن!
فكانت تلك أول ثورة شهدها واقع المجتمع الإسلامي على عهد صدر الإسلام..
ثم إن الثوار لم يقفوا بعمليتهم الثورية عند قتل عثمان.. بل مضوا فاختاروا علي بن أبي طالب للخلافة، وبادر علي في اليوم التالي لبيعته فأعلن في أول خطبة له التغييرات الثورية التي ألغت ما طرأ على المجتمع الإسلامي في عهد عثمان:
1- ففي السياسة والإدارة: أعلن عزل عمال عثمان وولاته على الأمصار والأقاليم.
2- وفي الاقتصاد الزراعي: كانت هناك الأرض التي جعلها عمر ملكا خالصا لبيت المال، ثم جاء عثمان فأقطعها لأوليائه وأعوانه وولاته وأهل بيته.. فأعلن علي رد هذه الأرض إلى ملكية الدولة وحوزة بيت المال، ورفض أن يعترف بالتغييرات التي حدثت فيها، وقال في ذلك كلماته الحاسمة: "والله لو وجدته -أي: المال- قد تزوج به النساء، وملك به الإماء، لرددته.. فإن في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق! ".(1/193)
كما أعلن أن التمايز الطبقي الذي رفع من لا يستحق وخفض من لا يستحق قد حان الحين لتصفيته، فقال: والذي بعث محمدا بالحق إنه "لا بد أن يعود أسفلكم أعلاكم، وأعلاكم أسفلكم، وليسبقن سابقون كانوا قصروا، وليقصرون سابقون كانوا سبقوا"؟! 1.
3- وفي ميدان العطاء: أعاد نظام التسوية بين الناس، فنفذ بذلك عزم عمر الذي لم يتمكن من تنفيذه، وعاد بالأمر إلى سنة النبي وأبي بكر وقال في هذا الصدد: "ألا لا يقولن رجال منك غدا، قد غمرتهم الدنيا، فاتخذوا العقار، وفجروا الأنهار، وركبوا الخيول الفارهة، واتخذوا الوصائف الروقة -الحسان- فصار ذلك عليهم عارا وشنارا، وإذا ما منعتهم ما كانوا يخوضون فيه، وأصرتهم -قيدتهم- إلى حقوقهم التي يعلمون، فينقمون ذلك ويستنكرون ويقولون: حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا!.. فأنتم عباد الله، المال مال الله، يقسم بينكم بالسوية، لا فضل فيه لأحد على أحد! ".
ولما احتج نفر من الأشراف وبعض من الذين سبقوا إلى الإسلام بأن عمر قد ميزهم في العطاء قال علي: " ... قديما سبق إلى الإسلام قوم ونصروه بسيوفهم ورماحهم، فلم يفضلهم رسول الله في القسم.. فالله لم يجعل الدنيا للمتقين أجر ولا ثوابا"2.
وكان بهذه التغييرات يطبق ويضع في الواقع الإسلامي مطالب الثوار، ويقنن عملية التغيير الثوري.. كما كان يشرع لفلسفته الثورية في الأموال، تلك التي نظرت إلى الأمة ككل متحد ومتكامل، والتي أودعها كلماته التي تقول: "إن الله سبحانه فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء، فما جاع فقير إلا بما متع به غني، والله تعالى سائلهم عن ذلك! "3.
__________
1 "نهج البلاغة" ص41، 42، طبعة دار الشعب، القاهرة.
2 "شرح نهج البلاغة" جـ7 ص37، 41، 42.
3 "نهج البلاغة" ص408.(1/194)
ثورة الخوارج المستمرة:
استمر الفكر الإسلامي طوال عهد الخلفاء الراشدين على ولائه لمشروعية الثورة، وكان الخلاف فقط محصورا في دائرة: وجود أسبابها؟ أو انعدام هذه الأسباب؟..
وعندما احتدم الصراع بين علي بن أبي طالب وبين خصومه، وخاصة بني أمية ومن خلفهم أشراف قريش وأهل الشام، وحدث التحكيم ثم ظهرت ثماره، حدث في جبهة علي ذلك الانشقاق الذي تولدت عنه فرقة الخوارج "المحكمة" التي أعلنت الثورة ضد كل من علي ومعاوية على السواء.. ولم ينكر عليهم أحد ثورتهم على معاوية، وإنما كان الإنكار منصبا على ثورتهم ضد علي؛ لا لأن حق الثورة موضع إنكار؛ وإنما لأن مبرراتها موطن خلاف.. فالخوارج ثاروا على علي؛ لأنه ضعف عن قتال فئة معاوية الباغية، وهو -لهذا الضعف- قد قبل تحكيم البشر في أمر قد حسمته نصوص القرآن: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} 1.. أما علي فكان يرى أن مرجع الضعف ليس تردده هو، ولا شبهات حول بغي أهل الشام، وإنما أنصاره والأشراف منهم خاصة، كانوا هم مصدر الضعف..
__________
1 الحجرات: 9.(1/195)
فلقد كانت معه سيوفهم وهي في أغمادها، بينما كانت مع معاوية قلوبهم وأهواؤهم ففعلت ما لم تفعله السيوف!
ونحن نستطيع أن نقول: إنه إذا كانت الخوارج أول فرقة إسلامية منظمة ولدت في إطار مبدأ مشروعية الثورة في الفكر الإسلامي، فإن الأسس النظرية التي استندت إليها هذه الفرقة كي تبرر انشقاقها وثورتها قد تبلورت في المجتمع الإسلامي منذ الثورة على عثمان بن عفان، فلقد استخلص مفكرو التيارات الثورية المسلمة من أحداث تلك الثورة أن مشروعيتها تستدعي ظهور الفسق، أو الجور، أو الضعف على الإمام صاحب السلطة العليا في البلاد.. والثوار قد اتهموا عثمان بالضعف والجور، فكانت مشروعية ثورتهم، حتى لقد حماهم علي بن أبي طالب عندما طلب القصاص منهم معاوية بن أبي سفيان.. وكذلك الخوارج ثاروا، ورأوا أن ثورتهم مشروعة؛ لأنها موجهة ضد إمام ضعف عن قتال البغاة، وضد البغاة الذين جمعوا إلى البغي الفسق والجور!.
ولقد ظلت هذه الفرقة تحمل علم الثورة المستمرة لعدة قرون.. وكانوا في كل ثوراتهم وهباتهم وانتفاضاتهم أوفياء للمبادئ الأساسية التي جمعتهم رغم ما طرأ على حركتهم من انقسامات.. فهم:
1- مع إمامة الإمام الصالح.. بصرف النظر عن النسب والجنس واللون.
2- وهم مع الاختيار والبيعة سبيلا لتنصيب الإمام، وضد فكر الشيعة في الوصية والنص عليه من السماء.
3- وهم يرون أن الإمامة -الخلاف ونظام الحكم- من الفروع، وليست من أصول الدين، فمصدرها ليس الكتاب ولا السنة، بل "الرأي".(1/196)
4- وهم يقولون بالعدل والتوحيد، والوعد والوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
5- ورأيهم أن مرتكبي الذنوب الكبائر -وكان المثال المطروح: حكام بني أمية وعمالهم- هم كافرون مخلدون في النار.
6- وهم في تقويم التاريخ مع إمامة أبي بكر وعمر، ومع إمامة عثمان قبل أن يحدث الأحداث التي نشأت في سنوات حكمه الست الأخيرة، ومع إمامة علي بن أبي طالب قبل التحكيم..
7- وهم مع الثورة المستمرة والخروج الدائم وتجريد السيف ضد أئمة الجور. فعندهم أن الخروج -الثورة المسلحة- يجب إذا بلغ عدد المنكرين على أئمة الجور أربعين رجلا، وهذا -عندهم- هو حد الشراة -الذين اشتروا الجنة عندما باعوا أرواحهم- وعليهم الخروج "حتى يموتوا أو يظهر دين الله ويخمد الكفر والجور".. ولا يحل لهم المقام غير ثائرين إلا إذا نقص عددهم عن ثلاثة رجال.. فإن نقصوا عن الثلاثة قعدوا، وكتموا عقيدتهم، وكانوا على مسلك "الكتمان".. فلقد جعلوا المسالك عندهم أربعة وهي -بعد "الشراء" و"الكتمان": "الظهور" عند قيام دولتهم ونظامهم تحت قيادة إمام الظهور.. و"الدفاع" وهو التصدي لهجوم الأعداء تحت قيادة إمام الدفاع1.. وهم متفقون على وجوب "إزالة أئمة الجور، ومنعهم أن يكونوا أئمة، بأي شيء قدروا عليه، السيف أو بغير السيف ... "2.
8- وهم أخيرا قد جمعتهم تقاليد اشتهرت عنهم في الحرب والثورة
__________
1 أبو حفص عمر بن جميع "مقدمة التوحيد وشروحها" ص50-55 طبعة القاهرة سنة 1355هـ.
2 الأشعري "مقالات الإسلاميين" جـ1 ص204 طبعة القاهرة سنة 1969م.(1/197)
والقتال. فالزهد الذي تحلوا به قد حررهم من قيود الحرص على الاقتناء وأعانهم على الانخراط في الثورات والرحيل في ركاب الجيوش الثائرة.. والنسك والتقوى اعترف بهما لهم حتى خصومهم من كتاب السير والتاريخ والمقالات.. والصدق والشجاعة طبعا نفوسهم فبرزت آثارهما في الشعر الذي قالوه حتى لقد تميز عن شعر الآخرين..
ولقد تصاعدت ثورات الخوارج، واستمرت منذ حربهم لعلي بن أبي طالب سنة 38هـ بالنهروان، حتى تحولت إلى تحرك جماهيري مسلح ضد بني أمية أسهم إسهاما كبيرا في إضعاف دولتهم، الأمر الذي أتاح للجند الخراساني أن يقطف ثمارها لبني العباس.. ففي سنة 127هـ قاد الثائر الخارجي الضحاك بن قيس الشيباني جيشا ضم مائة وعشرين ألفا من المقاتلين، بينهم نساء كثيرات محاربات! وأحرز به عدة انتصارات ضد الأمويين.. بل إن حياة هذه الفرقة الإسلامية كانت ثورة مستمرة على الدولة وعمالها، سواء في ذلك عهد علي بن أبي طالب أو بني أمية أو بني العباس.
ففي خلال هذه الفترة شهدت عديد من المدن والأقاليم ثورات وتمردات وانتفاضات أشعلها الخوارج، وقادها أمراء عقدت لهم البيعة منهم بإمرة المؤمنين، أو قادة مقاتلون نابوا عن هؤلاء الأمراء.. حدث ذلك:
- في "الدسكرة" بقيادة أشرس بن عوف الشيباني.. في ربيع الثاني سنة 38هـ.
- وفي "ماسبذان" بقيادة هلال بن علفة، وأخيه مجالد.. في جمادى الأولى سنة 38هـ.
- وفي "جرجرايا" على نهر دجلة، بقيادة الأشهب بن بشر البجلي. في سنة 38هـ.
- وعلى مشارف الكوفة، بقيادة أبي مريم من بني سعد تميم. في(1/198)
رمضان سنة 38هـ..
- وقرب البصرة، بقيادة سهم بن غالب التميمي، والخطيم الباهلي. في سنة 41هـ.
- وفي الكوفة، بقيادة المستورد بن علفة.. في أول شعبان سنة 43هـ.
- وفي البصرة، بقيادة قريب الأزدي.. في سنة 50هـ.
- وفي مضارب قبيلة بني عبد القيس.. في سنة 58هـ.
- وعند "بانقيا" قرب الكوفة، بقيادة حيان بن ظبيان السلمي.. في سنة 59هـ.
- وفي الأهواز، بقيادة أبي بلال مرداس بن أدية في سنة 61هـ.
-وفي البصرة، بقيادة عروة بن أدية.. ثم بقيادة عبيدة بن هلال..
- وفي البصرة والأهواز، بقيادة نافع بن الأزرق.. في سنة 64هـ.
- وفي اليمامة، بقيادة أبي طالوت.. في سنة 65هـ.
- وفي شرقي نهر دجيل في شوال سنة 66هـ.
- وفي اليمن وحضرموت والبحرين، بقيادة نجدة بن عامر.. في سنة 67هـ.
- وعند سابور واصطخر، ثم البصرة، بقيادة الزبير بن علي السليطي.. في أوائل سنة 68هـ.
- وفي الكوفة.. في أواخر سنة 68هـ.
- وفي نواحي أصفهان.. في سنة 69هـ.
- وفي الأهواز، بقيادة قطري بن الفجاءة في سنة 69هـ.
- وقرب فارس.. في آخر شعبان سنة 75هـ.
- وفي "دارا" و"المديح"، بقيادة صالح بن مسرح.. في صفر سنة 76هـ.(1/199)
- وفي العراق، بقيادة شبيب بن يزيد بن نعيم.. في سنة 76هـ ثم في سنة 77هـ.
- وفي الكوفة، بقيادة شوذب، في عهد يزيد الثاني.
- وفي الموصل، بقيادة بهلول بن بشر.. في عهد هشام الثاني..
- وعند "مناذر" بنواحي خوزستان، بقيادة الصحاري بن شبيب.. في عهد هشام الثاني..
- وفي الكوفة، بقيادة الضحاك بن قيس الشيباني.. في رجب سنة 127هـ.
- وفي واسط، بقيادة الضحاك بن قيس الشيباني.. في شعبان سنة 127هـ.
- وفي اليمن، بقيادة عبد الله بن يحيى الكندي.. في سنة 129هـ.
- وفي مكة، وفي المدينة، بقيادة حمزة الشاري.. في سنة 130هـ.
وهكذا استمرت ثوراتهم وانتفاضاتهم وتمرداتهم.. خفية إذا نقص عدد الثوار عن الثلاثة.. وواجبة الإعلان إذا بلغوا حد الأربعين!..1.
__________
1 فلهوزن "الخوارج والشيعة" ص39 وما بعدها. ترجمة: د. عبد الرحمن بدوي. طبعة القاهرة سنة 1958م.(1/200)
ثورات المرجئة:
صحيح أن "المرجئة" تيار في الفكر الإسلامي نشأ على عهد بني أمية، وأن المنطلق الفكري والفكرة المحورية التي تبلور من حولها هذا التيار كانت الفصل أو التمييز بين "الإيمان" وبين "العمل"، فصحة الإيمان ومقداره لا يتأثران -عندهم- بعمل المؤمن.. فالإيمان تصديق بالقلب، ولا تضر معه معصية، كما أنه لا تنفع مع الكفر طاعة..
وصحيح أيضا أن هذا التيار الفكري قد نشأ ليناقض موقف الخوارج من الحكم بكفر مرتكبي الكبائر، فكلا التيارين قد أمسك في هذه القضية بالطرف الأقصى من حبل الخلاف، أحدهما يغالي في الربط بين الإيمان القلبي والعمل الظاهر، وثانيهما يحل ما بينهما من رباط..
وصحيح كذلك أن تيار "الإرجاء" هذا قد لعب دورا في التبرير لمظالم بني أمية، وغيرهم من أمراء الجور وولاة الفساد.
ولكن الأمر الذي غفلت عنه -حسب علمنا ومعلوماتنا- كل الدراسات التي عرضت لقضية المرجئة والإرجاء، هو أن الإرجاء في الفكر والتاريخ الإسلامي لم يكن -في السياسة- تيارا واحدا، فإلى جانب المرجئة(1/201)
الذين برروا مظالم بني أمية، ووظفوا فكرة الفصل بين الإيمان والعمل في خدمة الحكام كان هناك مرجئة ثوار، اتخذوا من الإرجاء وأصوله الفكرية أسلحة يدافعون بها عن العامة، وبالذات عن الذين انخرطوا في سلك الدين الجديد من أبناء البلاد المفتوحة شرقي العراق.
ففي البلاد التي فتحها المسلمون استمر الأمويون يجمعون الجزية حتى ممن أسلم من أهل تلك البلاد، حتى جاء عمر بن عبد العزيز "61-101هـ 681-720م" فأوقف ذلك الجور، وأعلن أن الله إنما بعث محمدا هاديا ولم يبعثه جابيا!.. وبعد عهد عمر بن عبد العزيز اشتكى الولاة وجباة الأموال من قلة المال المجموع بسبب إسقاط الجزية عن الذين أسلموا من الترك وغيرهم، خاصة في خراسان وما حولها، وزعموا أن الناس قد دخلت في دين الله أفواجا هربا من الجزية، وأثاروا الشكوك حول صدق عقائد هؤلاء المسلمين الجدد!.. فوضعت الدولة الأموية بعد سنة 110هـ "مواصفات" للإسلام حتى تعترف به الدولة وتقر لصاحبه بالتدين بالدين الحنيف! ومن هذه "المواصفات" والشروط:
1- الاختتان. "والذين كانوا يسلمون لم يكونوا أطفالا ولا صبية، حتى يسهل عليهم الاختتان! ".
2- وإقامة الفرائض.. "والإقامة تتطلب مستوى أرفع من مستوى الأداء! ".
3- وحسن الإسلام.. "وهو شرط غير محدد، يستطيع الوالي أو جابي الضرائب أن يثبت عكسه إذا شاء! ".
4- وقراءة سورة من القرآن.. "والقوم لم يكونوا عربا حتى يتحدثوا العربية، فضلا عن أن يقرءوا القرآن".
وبعد ذلك كتب عامل الخراج في خراسان إلى واليها "أشرس" سائلا:(1/202)
"ماذا تصنع، والناس قد أسلموا وبنوا المساجد؟!.." فأجابه الوالي قائلا: "خذوا الخراج ممن كنتم تأخذونه منه"!.
وهنا انفجرت إحدى الثورات الإسلامية ضد حكم الأمويين.. ففي إقليم "السغد" خرج سبعة آلاف من الذين أسلموا حديثا، وعسكروا على سبعة فراسخ من "سمرقند"، وانضم إليهم كوكبة من "القراء والفقهاء" الذين رأوا ضرورة الاعتراف بإسلام هؤلاء الذين شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وضرورة إلغاء تلك "المواصفات" والشروط التي تربط صحة الإيمان بصحة أعمال قد يعجز عنها هؤلاء الذين دخلوا حديثا في الإسلام.. فهم هنا يدعون إلى الاعتراف بإسلام من أسلم وأعلن إسلامه، وإلى إرجاء الحكم على صدق عقيدته إلى الله سبحانه، فهو وحده صاحب السلطان على الضمائر والقلوب.. أي: إنهم يوظفون فكرة الإرجاء لخدمة الجماهير، كما وظفها سواهم من قبل لخدمة الأمراء والحكام.
وكان من بين "القراء والفقهاء" الذين شاركوا في هذه الثورة: أبو الصيداء صالح بن طريف، وربيع بن عمران التميمي، والقاسم الشيباني، وأبو فاطمة الأزدي، وبشر بن جرموز الضبي، وخالد بن عبد الله النحوي، وبشر بن زنبور الأزدي، وعامر بن بشير أو قشير.. الخجندي، وبيان العنبري، وإسماعيل بن عقبة، وثابت قطنة، صاحب القصيدة الشهيرة التي سجل فيها فكر المرجئة عن الإرجاء.
ولقد تكررت للمرجئة ثورة ثانية في بخارى، احتموا أثناءها بالمسجد الجامع يصيحون بأعلى أصواتهم: "أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله! "، ولكن الولاة لم يصححوا إسلامهم، بل شنقوا منهم أربعمائة!.
وفي البصرة تكررت المأساة عندما أمر الولاة بإجلاء الموالي عنها، فخرجوا وعسكروا في العراء يبكون وينادون: يا محمداه! يا محمداه!.. وخرج إلى معسكرهم قراء البصرة يبكون معهم وينتصرون لهم!.(1/203)
ولقد أثمرت تلك الثورات الفاشلة التي أشعلها المرجئة شحنات من الغضب دفعت عظيم قبيلة الأزد الحارث بن سريج إلى الثورة والخروج على هشام بن عبد الملك سنة 116هـ، وكان الرجل الثاني في هذه الثورة هو الجهم بن صفوان، وهو من أبرز مفكري الجبر والإرجاء في الفكر الإسلامي على الإطلاق1.
__________
1 انظر "تاريخ الطبري" جـ8 ص35، 196، 197. و"السيادة العربية والشيعة والإسرائيليات" لفان فلوتن ص53-55، 65، 67 طبعة القاهرة سنة 1965م. وجمال الدين القاسمي "تاريخ الجهمية والمعتزلة" ص7-9 طبعة القاهرة سنة 1331هـ.(1/204)
ثورات الشيعة:
عندما تبلور الفكر النظري للشيعة على عهد إمامها جعفر الصادق "80-148هـ 699-765م" ومهندس نظريتها في الإمامة هشام بن الحكم "190هـ 805م"، أصبحت حزبا سياسيا منظما، ولكن بطش بني أمية الذي بلغ قمة التنكيل بآل البيت في كربلاء قد جعل شيعة جعفر الصادق تصطبغ بالصبغة الدينية، وتعلق الفرج والخلاص على السماء، وتنهى عن اتخاذ الثورة طريقا للتغيير، وتضرب للمريدين أمثلة الثورات الفاشلة وما جرت على محبي آل البيت من آلام.. ولكن هذا التيار اللاثوري لم يكن كل الشيعة، بل لقد عرف تاريخ الشيعة والتشيع العديد من الفرق الثائرة والكثير من الثورات.. وذلك مثل:
1- الكيسانية: وهم تيار الشيعة الذي قال بإمامة محمد بن علي بن أبي طالب "المعروف بمحمد بن الحنفية".. وكانت ثورتهم في الكوفة بقيادة المختار بن أبي عبيد بن مسعود الثقفي "1-67هـ 622-687م"، وهي ثورة استهدفت أولا الانتقام لمقتل الحسين في كربلاء، والقصاص من محاربيه وقاتليه، ولقد أحرزت هذه الثورة التي استمرت سلطتها في الكوفة ستة عشر(1/205)
شهرا، نجاحا ملحوظا في تحقيق ما قامت لتحققه من أهداف1.
2- الإسماعيلية: وهي الفرقة التي تكونت بانشقاق حدث على الشيعة الاثنى عشرية، عندما قرر فريق مهم أن الإمامة بعد جعفر الصادق هي لابنه إسماعيل ذي الصلات الوثيقة بالأوساط المتطرفة والثورية2، وليست لموسى الكاظم الذي سار على نهج جعفر الصادق في العزوف عن الثورة كطريق للتغيير.
ولقد لعبت الشيعة الإسماعيلية هذه دورا متعاظما في مجال الحركات السرية والباطنية، ففي المجال الفكري خلطوا الفكر الإسلامي بأطراف من المواريث الفلسفية للأمم الأخرى وفي المجال الاجتماعي تصدوا بالثورة لامتيازات الأرستقراطية الحاكمة وأصحاب الامتيازات، وضمت صفوف هذه الفرقة كلا من العرب والموالي على السواء.. ولقد تفرعت منها، واتصلت بها دول وثورات وجمعيات وقيادات، منها الثورة الفاطمية ودولتها.. وجماعة إخوان الصفاء وخلان الوفاء.. وكذلك القرامطة.
3- القرامطة: وهم الذين ظلوا يمثلون الجناح المتطرف، أو اليساري في الشيعة الإسماعيلية وتميزوا بذلك بعدما أصبح للفاطميين دولة فرضت عليها رعيتها وظروف السلطة فيها الانتقال من مواقع الثوار إلى مصاف الحكام!.
ولقد قامت للقراطمة دولة باليمن وما جاورها في العقد الأول من القرن العاشر الميلادي، وهاجمت جيوشهم أجزاء عديدة من الشام والعراق، وحاولوا غزو مصر عدة مرات عندما حكمها الفاطميون.
__________
1 النوبختي "فرق الشيعة" ص20 تحقيق ريتر. طبعة استانبول سنة 1931م.
2 برنارد لويس "أصول الإسماعيلية" ص111 ط. القاهرة "دار الكتاب العربي. دون تاريخ".(1/206)
والذين أرخوا لفكرهم وثورتهم يختلفون في الوصف والتقويم للنظام الاجتماعي الذي أقاموه. فهم يتفقون -والقول للإمام الغزالي- على أن مبادئهم قد استهوت "الطبقات العاملة وأهل الصناعات والحرف! ".. ولكن البعض ينسب إليهم التحلل من تكاليف الشرع وفرائض الدين، فمنهم من يقول إنهم رفضوا الصلاة ما داموا فقراء لا يملكون، وأوردوا للدلالة على ذلك شعرا:
تلوم على ترك الصلاة حليلتي ... فقلت اغربي عن ناظري أنت طالق
فوالله لا صليت لله مفلسا ... يصلي له الشيخ الجليل وفائق
لماذا أصلي؟ أين مالي ومنزلي ... وأين خيولي والحلي والمناطق؟!
أصلي ولا فتر من الأرض يحتوي ... عليه يميني إنني لمنافق!
بلى إن علي الله وسع لم أزل ... أصلي له ما لاح في الجو بارق!
والبعض يقول: إنهم كانوا يكثرون من الصلاة، تعبدا في رأي فريق، وسبيلا لشغل أوقات عملهم في أرض كبار الملاك بالصلاة بدلا من خدمة أرض هؤلاء الملاك! أي: نوعا من الإضراب عن العمل بواسطة الخمسين صلاة التي فرضها زعيمهم على القرامطة الفلاحين؟!.
ولكن خصومهم وأنصارهم يتفقون على أنهم قد أقاموا نظاما جماعيا أصبحت فيه ثروة المجتمع ملكا لمجموع أبنائه العاملين، وهم قد تدرجوا في الوصول إلى هذا الهدف حتى حققوه.. ووقفت الملكية الخاصة عند السلاح.. وشاركت المرأة في العمل والإنتاج.. وكان نظامهم السياسي أقرب للجمهورية، يساعد رئيسها مجلس "العقدانية" أي: أهل الحل والعقد. وفي مجتمع القرامطة امتنع الربا والخمر1.. وظل لمذهبهم الثوري أتباع، حتى بعد زوال دولتهم، إلى أن قضى عليهم أحد أئمة اليمن "ابن حميد الدين" واستولى على ما كان في حوزتهم من مخطوطات.
__________
1 المرجع السابق. ص192، 201-205.(1/207)
ثورات المعتزلة
مدخل
...
ثورات المعتزلة:
منذ النشأة الأولى لمدرسة المعتزلة في النصف الثاني من القرن الأول الهجري، وحتى قبل إطلاق اسم "المعتزلة" عليهم -وكانوا يسمون قبل الانشقاق عن جماعة الحسن البصري "21-110هـ 642-728م" بأهل العدل والتوحيد- كانت معارضة السلطة الأموية إحدى المهام البارزة في بنائهم الفكري ونشاطهم العملي..
ففي تقويمهم لأحداث التاريخ الإسلامي -وطلائع أئمتهم كانا مؤرخين ورواة- أدانوا التحول الذي أحدثه الأمويون ونقلوا به نظام الحكم من خلافة شوروية إلى ملك عضود، ومن ثم كانت الدولة الأموية في مذهبهم دولة "متغلبة" على سلطة المسلمين ومغتصبة لسلطانها، فأمراؤها "بغاة" يجب قتالهم حتى يفيئوا إلى أمر الله، وباستنثاء عمر بن عبد العزيز ويزيد بن الوليد فإنهم "خلفاء" غير شرعيين، وحتى عمر بن عبد العزيز فإن المعتزلة قد اعترفوا بخلافته؛ لأنه اكتسب شرعيتها بعدله، وإن كان قد تولاها بعهد أسلافه الظالمين المغتصبين.. وكما يقول إمام المعتزلة عمرو بن عبيد: "أخذ عمر بن عبد العزيز الخلافة بغير حقها، ولا استحقاق لها، ثم استحقها بالعدل حين أخذها"1.
والمعتزلة، كذلك، قد أدانوا فكر "الجبر والإرجاء"، الذي استندت إليه الدولة الأموية، عندما جعلوا العدل -الذي يعني الاختيار والحرية والمسئولية- أصلا من أصولهم الفكرية، وعندما ربطوا بين الإيمان والعمل، على نحو معتدل لا يصل إلى إفراط الخوارج ولا إلى تفريط المرجئة.
ثم هم -وهذا هو المصداق العملي لأصالة فكرهم الثوري- قد شاركوا بالتأييد والإسهام في النشاط الثوري الذي تفجر ضد الأمويين وضد العباسيين في سبيل العدل والعودة إلى الشوى كفلسفة للحكم والخلافة كنظام إسلامي أصيل في حكم مجتمع المسلمين..
__________
1 "مروج الذهب" جـ2 ص152.(1/208)
مع ابن الأشعث:
ففي ثورة عبد الرحمن بن الأشعث "85هـ 704م" ضد الحجاج بن يوسف وخليفته عبد الملك بن مروان، شارك أهل العدل والتوحيد في العمل المصلح، وذكرت لنا مصادر التاريخ وكتب المقالات أسماء عديد من قادتهم الذين شاركوا في القتال إبان تلك الثورة، من مثل: معبد الجهني، والجعد بن درهم، وسعيد بن أبي الحسن أخي الحسن البصري1 وغيرهم.
__________
1 القاضي عبد الجبار "فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة" ص320 طبعة تونس سنة 1972م و"تاريخ الطبري جـ8 ص151، 152 "حوادث سنة 102هـ"، و"تاريخ الجهمية والمعتزلة" ص55.(1/209)
ومع الحارث بن سريج:
وأسهموا في الثورة التي قادها عظيم الأزد الحارث بن سريج ضد حكم هشام بن عبد الملك سنة 116هـ "734م" وكانت مطالب هذه الثورة:
1- العودة بنظام الخلافة إلى فلسفة الشورى والاختيار والبيعة الحرة.
2- وتغيير العمال على الأقاليم والأمصار.
3- وعزل رجال الشرطة.
4- وإشراك الناس في اختيار الولاة على الأقاليم.(1/210)
بقيادة زيد بن علي:
على أن أولى الثورات التي شبت ضد حكم بني أمية بقيادة المعتزلة كانت تلك التي قادها زيد بن علي "79-122هـ 698-740م" بالكوفة ضد هشام بن عبد الملك سنة 122هـ.
والبعض يظن أن هذه الثورة "زيدية" نسبة إلى الشيعة الزيدية, وليست ثورة معتزلية؛ لأن زيد بن علي قد أصبح فيما بعد رأس الشيعة الزيدية وإمام فرقتهم الأول. ولكن هذا الظن لا أساس له من صدق التأريخ. فلم تكن هناك فرقة زيدية يوم حدثت هذه الثورة، ولم يكن زيد بن علي سوى واحد من شباب آل البيت اعتنق مع نفر من أترابه العلويين مذهب المعتزلة، لطابعه الثوري واتجاهه المناهض بالثورة لحكم بني أمية، في صورة انشقاق حدث في صفوف الشيعة الإمامية عندما ناهض زعيمها جعفر الصادق اتجاه الثورة كسبيل للتغيير.
فلقد كان جعفر الصادق يحذر شباب آل البيت النازع إلى الثورة، ويقول لهم: "إن بني أمية يتطاولون على الناس، حتى لو طاولتهم الجبال لطالوا عليها وهم يستشعرون بغض أهل البيت، ولا يجوز أن يخرج -يثور- واحد من أهل البيت حتى يأذن الله بزوال ملكهم! "1.
ولكن هذا النفر الثائر من شباب آل البيت دخل في الاعتزال،
__________
1 الشهرستاني "الملل والنحل" جـ2 ص85 طبعة القاهرة سنة 1321هـ.(1/210)
واستقبلوا واصل بن عطاء "80-131هـ 700-748م" رأس المعتزلة، وعقدوا معه مؤتمرا بالمدينة دارت فيه مساجلات ومناظرات واتهامات بين جعفر الصادق وكل من واصل بن عطاء وزيد بن علي:
جعفر: "إنك يا واصل أتيت بأمر تفرق به الكلمة، وتطعن به على الأئمة! ".
واصل: "إنك يا جعفر، وأنّى الهمة، شغلك همّ الدنيا، فأصبحت به كلفا، وما أتيناك إلا بدين محمد.. فإن تقبل الحق تسعد به، وإن تصدف عنه تبوء بإثمك! ".
زيد بن علي لجعفر: "إنه ما منعك من اتباع واصل إلا الحسد لنا"1.
فزيد بن علي: الجماعة، والفكر، والثورة: معتزلة، وكما يقول الشهرستاني: فإن زيد بن علي قد "اقتبس الاعتزال من واصل بن عطاء، وصارت أصحابه كأنها معتزلة"2. بل لقد ظلت الزيدية، حتى بعد تبلورها كفرقة معتزلية فيما يتعلق بالأصول. وبعبارة الشهرستاني أيضا فإنهم "في الأصول يرون رأي المعتزلة حذو القذة القذة3، ويعظمون أئمة الاعتزال أكثر من تعظيمهم أئمة أهل البيت"4 من الشيعة الإمامية!.
ذلك إلى اعتراف المعتزلة بإمامة زيد السياسية القائمة على البيعة التي عقدت له عندما فجر ثورته، الأمر الذي يؤكد العلاقة العضوية الكاملة بين هذه الثورة وبين الاعتزال.. فالقاضي عبد الجبار يتحدث عن ذلك فيقول:
__________
1 "فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة" ص225، وابن المرتضى "باب ذكر المعتزلة -من كتاب المنية والأمل" ص20، 21 طبعة الهند سنة 1316هـ.
2 "الملل والنحلل" جـ2 ص83.
3 القذة: ريشة السهم.
4 "الملل والنحل" جـ1 ص162 طبعة القاهرة سنة 1961م.(1/211)
إن زيد بن علي "كان صالحا للإمامة لما أوتيه من الصلاح والعلم والفضل؛ ولأنه قد بايعه فريق من أهل العلم والفضل، فيجب أن يكون إماما"1.
ونحن نستشف من نص البيعة التي بايع بها الثوار قائدهم أهم أسباب هذه الثورة فهي:
1- تستهدف التصدي للظلم وجهاد الظالمين.
2- والدفاع عن المستضعفين المظلومين.
3- وتوزيع الأموال بالعدل والمساواة بين المستحقين لها.
4- وإغلاق المعسكرات التي حشد الأمويون فيها الرجال بدعوى الفتح والغزو، بينما كان الهدف الحقيقي فتح جبهات خارجية تصرف الناس عن الوضع المتردي في البلاد!
5- والانتصار لآل البيت الذين بلغ التنكيل بهم على يد الأمويين حد المأساة.
ذلك أن نص بيعة زيد كان يقول: "إنا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم، وجهاد الظالمين، والدفع عن المستضعفين، وإعطاء المحرومين، وقسم هذا الفيء بين أهله بالسواء، ورد الظالمين، واقفال المجمر -معسكرات الثغور في أطراف البلاد- ونصرة أهل البيت على من نصب لهم وجهل حقهم"2.
ويشهد لانبعاث هذه الثورة من فكر يؤمن بالقوة والعنف الثوري طريقا للتغيير قول قائدها: "إنه لو لم أكن إلا أنا وابني لخرجت -ثرت- على هشام.. فليس الإمام منا من أرخى عليه ستره -تعريض الاتجاهات غير الثورية- وإنما الإمام من شهر سيفه3".
__________
1 "المغني" جـ20 ق2 ص149.
2 "تاريخ الطبري" جـ7 ص172 "أحداث سنة 121هـ".
3 ناجي حسن "ثورة زيد بن علي" ص104، 141 طبعة بغداد سنة 1966م.(1/212)
ولقد استطاع الأمويون أن يصرفوا عن نصرة زيد الأشراف والملاك والأغنياء عندما هددوهم بمصادرة أموالهم إن هم استمروا على بيعتهم لزيد والثورة معه، فلم يبق مع الثورة سوى الفقراء الذين لا يخشون المصادرات! والذين لا يجدون مصلحتهم في غير الثورة، وهم الذين تحدث عنهم هشام بن عبد الملك في أمره إلى والي الكوفة يوسف بن عمر: أنه إذا تخلى الأشراف عن زيد، فلن يواصل الثورة معه سوى "الرعاع، وأهل السرد -الفلاحين- ومن تنهضه الحاجة! "1.
ولكن نجاح خطة الأمويين لم يفت في عضد الثوار، فقاد زيد رجاله وقاتل جيش بني أمية بشجاعة الأئمة وعزم الثوار، وكان ينشد وهو مقبل على الاستشهاد قول الشاعر:
أذل الحياة وعز الممات ... وكلا أراه طعاما نبيلا
فإن كان لا بد من واحد ... فسيروا إلى الموت سيرا جميلا2!
فقاتل مع رجاله من المعتزلة وأنصارهم، حتى قتل وقتل أغلبهم فدفنه أصحابه سرا، ثم اكتشف الأمويون مدفنه فنبشوه وصلبوه، واحتزوا رأسه فبعثوا به إلى هشام بن عبد الملك، فنصبه على باب دمشق، ثم طيف به في المدن الكبرى كالمدينة ومصر، زجرا للثوار. وبعد ذلك أحرقت جثة زيد وألقي برمادها في نهر دجلة!.
__________
1 "تاريخ الطبري" جـ7 ص172 "أحداث سنة 121هـ".
2 ابن قتيبة "عيون الأخبار" مجلد 1 ص191 طبعة القاهرة سنة 197م.(1/213)
بقيادة يزيد بن الوليد:
وثورة ثانية كانت قيادتها للمعتزلة، كما كان الإعداد لها تحت قيادتهم وبإشرافهم.. وهي أولى الثورات التي تفجرت ضد بني أمية في عاصمتهم دمشق ومعقل سلطانهم التقليدي بين أهل الشام.
ولقد قاد هذه الثورة وتولى الخلافة بواسطتها الإمام المعتزلي يزيد بن الوليد "86-126هـ 705-744م"، وهو من أمراء بني أمية الذين اعتنقوا مذهب الاعتزال، ولقد انتهت أحداثها بمقتل الخليفة الأموي الفاسق الماجن الوليد بن يزيد "88-126هـ 707-744م"، بعد أن حاصرته في قصره القوات الثائرة التي زحفت على دمشق من المناطق المحيطة بها، وبعد البيعة ليزيد بن الوليد أعلن في الناس العودة إلى الخلافة الشوروية، وحق الناس في خلع الإمام، وفي العهد بالإمامة للأصلح لها، كما أعلن العدل بين الناس مسلمين وغير مسلمين "حتى يكون أقصاهم كأدناهم، وحتى تستدر المعيشى بين المسلمين"!.
ولقد استمرت هذه الثورة -بعد نجاحها- حتى وفاة خليفتها يزيد بن الوليد، عندما انقض عليها المتربصون بها من أمراء بني أمية، بقيادة مروان بن محمد "آخر الخلفاء الأمويين".
ولم تكن القيادة فقط في هذه الثورة للمعتزلة، بل كان ثوارها ومقاتلوها معتزلة أو تحت قيادة المعتزلة ومن المواطن والبلاد التي غلب فيها فكر أهل الاعتزال.. بل لقد تجهز معتزلة العراق لنصرة هذه الثورة بالشام، فقال عمرو بن عبيد لأصحابه في البصرة "تهيئوا حتى نخرج إلى هذا الرجل فنعينه على أمره"1.
ولقد أفاض المؤرخون في الحديث عن الصلة العضوية بين هذه الثورة وتنظيم المعتزلة وكما يقول المسعودي: فلقد "كان خروج -ثورة- يزيد بن الوليد بدمشق مع شائعة -جمهور- من المعتزلة وغيرهم.. على الوليد
__________
1 "فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة" ص113.(1/214)
بن يزيد، لما ظهر من فسقه، وشمل الناس من جوره.. والمعتزلة تفضل في الديانة يزيد بن الوليد على عمر بن عبد العزيز.. وكان يزيد يذهب إلى قول المعتزلة وما يذهبون إليه في الأصول الخمسة1"..
ولقد كان تقدير المعتزلة ليزيد بن الوليد ولإمامته تقديرا عظيما.. فهو الوحيد من خلفاء بني أمية الذي تولى الخلافة بالبيعة والشورى، لا بالتغلب والقهر أو الميراث.. ومن هنا فضلوه حتى على عمر بن عبد العزيز.. وهو قد أنقص مخصصات بني أمية وأعطيات جيش الشام الأموي الذي كانت له الامتيازات منذ تأسيس الدولة الأموية، ومن هنا سمي الناقص!.. وهو قد سار في الناس سيرة عادلة حتى لقد تحدث عنه إمام المعتزلة الزاهد عمرو بن عبيد فوصفه بأنه: "الكامل!.. عمل بالعدل وبدأ بنفسه وقتل ابن عمه في طاعة الله، وصار نكالا على أهل بيته، ونقص من أعطياتهم ما أرادته الجبابرة، وجعل في عهده -بيعته- شرطا -أي: علق استمرارها على عدله وصلاحه- ولم يجعله حازما2".
وإذا كان هذا هو وصف المعتزلة لعدل إمامهم هذا وقائد ثورتهم هذه، فإن نصيب جثمانه -بعد نبش قبره- قد كان: الصلب والتشويه بعد أن ولي الأمر مروان بن محمد.. ولكن ذلك لم يمنع المؤرخين -حتى غير المعتزلة- من حكاية القصص عن عدله وصلاحه وتقواه، فابن قتيبة يقول إن يزيد بن الوليد "كان محمود السيرة، مرضيا. وقال: إنه مذكور في الكتب المتقدمة بحسن السيرة والعدل، وفي بعضها: يا مبدد الكنوز، يا سجادا بالأسحار، كانت ولايتك رحمة، ووفاتك فتنة، أخذوك فصلبوك! "3.
أما علماء النحو فقرنوا يزيد بن الويد بعمر بن عبد العزيز -الأشج- واتخذوا منهما مثالا في دراساتهم النحوية فقالوا: "الناقص والأشج أعدلا بني مروان! "4.
__________
1 "مروج الذهب" جـ2 ص173، 176، 177.
2 "فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة" ص113.
3 "المعارف" ص367 طبعة القاهرة سنة 1960م.
4 الجاحظ "رسائل الجاحظ" جـ1 ص83 "هامش". طبعة القاهرة سنة 1964م.(1/215)
بقيادة النفس الزكية:
وعندما اضطرب أمر الدولة الأموية سعى المعتزلة لطرح قضية الخلافة على ممثلي الأمة الإسلامية، لاختيار خليفة يتولى أمرها بالبيعة والشورى، حتى تعود الخلافة إلى سيرتها الأولى بعد أن استبدلها الأمويون بملكهم الوراثي العضود -ورغم رفض الشيعة الإمامية لسعي المعتزلة هذا- لأنهم يرون الحكم شأنا من شئون السماء، تختار له من يتولاه، ولا شأن للبشر به. فلقد أفلح المعتزلة في جمع نفر كبير من أهل الحل والعقد بايعوا لإمام معتزلي من ثوار أهل البيت الذين قاتلوا في ثورات المعتزلة السابقة هو محمد بن عبد الله بن الحسن، المعروف بالنفس الزكية "93-145هـ 712-762م" فعقدت له البيعة بمكة1.
ولكن التيار الشعوبي في حركة الثورة ضد بني أمية، والذي يقوده ابن مسلم الخراساني استطاع التغلب على التيار العربي، فنقل السلطة من ملك بني أمية إلى ملك بني العباس، وذلك عندما دبر أبو مسلم قتل القائد العربي أبي سلمة حفص بن سليمان الهمذاني الخلال الذي كان يشارك أبا مسلم في قيادة الثورة.. فلقد كان هوى أبي سلمة مع العرب والخلافة الشوروية، بينما كان أبو مسلم يتحرك بأحقاد شعوبية ومواريث فكرية تنزع إلى وراثة الملك كما كان الأمر عند الفارسيين!
__________
1 "تاريخ الطبري" جـ7 ص517، 524 "أحداث سنة 44هـ".(1/216)
ولقد ظل فريق من المعتزلة -يقودهم إمامهم: النفس الزكية- يحضرون للثورة منذ أن اغتصب الأمر خلفاء بني العباس.. فلقد اختفى النفس الزكية مع أخيه إبراهيم عن أعين الدولة التي سعت في طلبهم، ودارت مطاردات ومحاصرات جعلت حياتهما ضربا من القصص الأسطوري الذي حفلت به بعض مصادر التاريخ، وسجل هذا القصص الضرورات التي جعلتهما يجوبان أنحاء الإمبراطورية من العراق إلى الشام إلى الحجاز إلى اليمن إلى الهند، حتى لقد فقد النفس الزكية واحدا من أبنائه الصغار عندما هوى الطفل من قمة جبل بالحجاز في إحدى المطاردات!.
ولقد كانت للثورة عند المعتزلة شروط منها: وجود الإمام الذي بايعه الثوار، وكان النفس الزكية -في حالتنا هذه- هو الإمام. ومنها: "التمكن"، بمعنى أن تكون إمكانيات الثوار بحيث تجعل من أملهم في الانتصار أمرا جائز التحقيق وفي حيز الإمكان.. وهم بذلك يميزون بين الثورة وبين التمرد غير المدروس، والانتفاضات وحركات العصيان.. لقد اتفقوا على ضرورة "التمكن" قبل الثورة والخروج وإن كانوا قد اختلفوا في حجم الإمكانيات التي بها يتحقق يتحقق تمكن الثوار وفي نوع هذه الإمكانيات1.
ولقد كان الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور "95-158هـ 714-775م" يدرك خطورة الثورة الكامنة التي يعمل في سبيلها النفس الزكية، ويسمع عن انحياز طاعات عريضة من الرأي العام لنصرته، ففي أعناق الكثيرين له بيعة بالخلافة. صحيح أن الناس الذين بايعوا النفس الزكية قد اضطروا لبيعة المنصور، لكن "الإمام مالك" "93-179هـ، 712-795م" قد أفتى بأن يمين بيعتهم للمنصور باطلة؛ لأنها يمين إكراه!.. بل لقد
__________
1 "فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة" ص232. و"باب ذكر المعتزلة" ص24.(1/217)
ذهبت قطاعات من الرأي العام إلى أن خلافة النفس الزكية وثورته وخروجه على المنصور هي من الأمور التي ذكرت في الكتب القديمة، وشاع أنهم "يجدون خروجه على أبي جعفر في الرواية"1 والمأثورات؟!.. ولذلك كله قرر المنصور إجهاض هذه الثورة القادمة قبل أن يتم لها التمكن ويكتمل لأهلها الاستعداد، واستخدم في ذلك خطة زكية بارعة ومحكمة تكونت من شعب ثلاث:
أولها: مطاردة قادة الثورة بجيش من العيون والجواسيس، وحتى يمنعهم من الاستقرار الذي يتيح لهم الإعداد الهادئ للثورة.
ثانيها: توجيه قيادة جيشه وكبار رجاله كي يتصلوا سرا بالنفس الزكية، ليوهموه أن ولاءهم له، وأنهم سينصرونه عندما يعلن ثورته، الأمر الذي يؤدي إلى توهم وجود إمكانيات للثورة لا وجود لها في الحقيقة، وإلى اعتقاد تحقق شرط "التمكن" فتعلن الثورة قبل الأوان!.
ثالثها: تضييق الخناق على النفس الزكية، حتى لا يدع له خيارا، فإما أن يعجل بالثورة، وإما أن يقع في قبضة أعوان المنصور.
ولقد أثمرت هذه الخطة، حتى اضطر النفس الزكية إلى تقديم موعد ثورته عن الأجل الذي سبق له الاتفاق عليه مع أخيه إبراهيم، وبعبارة الطبري، "فلقد أحرج "النفس الزكية" حتى عزم على الظهور! "2 فأعلن الثورة بالمدينة في أول رجب سنة 145هـ، "25 سبتمبر سنة 762م" وكان أخوه إبراهيم في البصرة يجمع الثوار على بيعة له بالعراق.
وعلى حين كان اللون الأسود شعار بني العباس، فإن البياض كان شعار
__________
1 "تاريخ الطبري" جـ7 ص551 "أحداث سنة 144هـ".
2 انظر في ذلك "عيون الأخبار" مجلد 1 ص209 و"تاريخ الطبري" جـ7 ص519، 534، 552، 559. والأصفهاني "الأغاني" جـ2 ص8314 طبعة دار الشعب، القاهرة.(1/218)
هذه الثورة الاعتزالية التي تفجرت بالحجاز والعراق. وأعلن النفس الزكية أن البيعة قد عقدت له، وقال: "والله ما جئت وفي الأرض مصر -بلد- يعبد الله فيه إلا وقد أخذ لي فيه البيعة"، وانحازت لنصرته قبائل المدينة وما حولها مثل: جهينة، وسليم، وبني بكر، وأسلم، وغفار.. إلخ. بمن فيهم من أبناء المهاجرين والأنصار وشرع يرسل إلى المدن والأقاليم الرسل والولاة.
وأدرك المنصور أن الخطر لا يكمن في المدينة، حيث النفس الزكية، بل في البصرة والعراق، حيث إبراهيم بن عبد الله بن الحسن؛ لأن المدينة لا تمتلك إمكانيات الصمود والحصار، فهي تعيش على المؤن التي تأتيها من مصر، ولإمدادات الرجال المقاتلين بها حدود.. فطلب إلى والي مصر أن يسد خليج أمير المؤمنين -الذي كان قد حفره عمرو بن العاص كي تصل عن طريقه حبوب مصر للمدينة عام الرمادة سنة 23هـ حتى لا يأتي إلى المدينة عون من أنصار النفس الزكية بمصر1! كما منع عن ثوار المدينة الطعام والحبوب التي كان تأتيهم من الشام، وذلك بإغلاق طريقها عند وادي القرى2! وبعد ذلك أرسل لمحاصراتها جيشا من جند خراسان، يقوده عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، ومعه محمد بن أبي العباس السفاح.. وذلك على أمل ضرب أضعف حلقات هذه الثورة، وفيها خليفتها وإمامها، ثم الاستدارة لتصفيتها بالعراق!.
وعندما اقترب الجيش الخراساني من المدينة، شاور النفس الزكية أصحابه، فأشار عليه البعض بمغادرة المدينة إلى مصر، حيث الأنصار والرجال والإمكانيات التي يستطيع بها مواجهة إمكانيات المنصور، ولكن
__________
1 القلقشندي "صبح الأعشى" جـ3 ص298. طبعة دار الكتب، القاهرة.
2 "تاريخ الطبري" جـ7 ص578 "أحداث سنة 145هـ".(1/219)
نفرا من أصحابه، ضيقي الأفق أشاروا بالبقاء بمدينة الرسول؛ لأن الخروج منها فأل سيئ؛ ولأنها حصينة، واستشهدوا على حصانتها بحديث رواه أحدهم عن الرسول، عليه الصلاة والسلام: "رأيتني -أي: في المنام- في درع حصينة، فأولتها: المدينة! ".
وفي الثاني عشر من رمضان سنة 145هـ بدأ حصار الجيش العباسي المدينة بالخيل والرجال والسلاح، وترك ناحية منها دون حصار، كي تكون بابا لمن يريد مغادرتها والتخلي عن ثورتها!.
ولما أدرك النفس الزكية حرج موقفه، النابع من ضعف مركز المدينة وإمكانياتها، أحل الناس -إن رغبوا- من يمين البيعة له، فلم يبق معه من المائة ألف الذين ثاروا خلفه إلا القادة والصادقون في الثورة والخروج!.
وبعد يومين من الحصار اشتعل القتال، ودارت معركة استبسل فيها النفس الزكية وأصحابه على النحو الذي ذهب أسطورة في أحاديث الملاحم والاستشهاد، فظلوا يقاتلون تحت راياتهم، التي كتبوا عليها شعار النبي يوم حنين: "أحد، أحد! "، حتى قتلوا عن بكرة أبيهم!.. وعندما انتهت المعركة قطع الجند الخراساني رأس النفس الزكية وأرسلوه للمنصور، حيث أمر بالطواف به في الأمصار والأقاليم، ثم صلبت جثته وجثث أنصاره صفين على الطريق ما بين "ثنية الوداع" حتى دار عمر بن عبد العزيز، أمام كل صليب حارس يحول بين الجثة وبين من يريد دفنها، ولما تأذى الناس من الرائحة، بعد ثلاثة أيام، أمر عيسى بن مسوى بجثث الثوار فألقيت من قمة جبل "سلع" لتسقط في "المفرح"، مقبرة اليهود1!.
__________
1 المصدر السابق. جـ7 ص577-585، 588، 590، 597، 559-601، 603 "أحداث سنة 145هـ".(1/220)
بقيادة إبراهيم بن عبد الله بن الحسين
...
بقيادة إبراهيم بن عبد الله بن الحسن:
وعندما بلغت ثوار البصرة أنباء هزيمة ثورة المدينة ومقتل النفس الزكية وأنصاره، لم يترجعوا بل ازدادوا يقينا بصدق موقفهم ووجوب ثورتهم على العباسيين؛ لأن من يقتل إماما كالنفس الزكية لا بد أن تكون الثورة ضده واجبا من الواجبات!. وبعبارة الطبري، فإن إبراهيم بن عبد الله بن الحسن لما أتاه نعي أخيه "أخبر الناس.. فازداودا في قتال أبي جعفر بصيرة! " وخرجوا يريدون قتال المنصور، بعد أن عقدوا البيعة بالخلافة والإمامة لإبراهيم.
ولقد نجح الثوار في بسط سيطرتهم على البصرة والأهواز وفارس وأكثر ريف العراق -السواد- وأقاموا في تلك المناطق جهاز دولتهم العسكري والإداري والمالي، وفي هذا الجهاز تولي قادة المعتزلة أهم المسئوليات.. فالأشعري يقول: إن جمهور جيش هذه الثورة تألف "من المعتزلة وغيرهم من الزيدية"1.. وقيادة الشرطة تولاها من المعتزلة إبراهيم بن نميلة العبشمي، الذي كان نائبا للإمام إبراهيم بن عبد الله بن الحسن.. كما تولوا مناصب الفقهاء، وحمل راية القتال، وقيادة مقدمة الجيش الذي حارب جيش المنصور.
ولقد وجه المنصور إلى هؤلاء الثوار قائده الذي هزم ثورة المدينة، عيسى بن موسى، والتقى الجيشان على أرض "باخمري"، على بعد ستة عشر فرسخا من الكوفة وكاد النصر أن يكون من نصيب الثوار، حتى لقد أخذ جيش بني العباس يهم بالفرار. ولكن سهما طائشا أصاب إمام الثوار، الذي كان قد تخفف من "الزرد" الذي يحمي صدره، بسبب شدة الحر، فعانق فرسه، وتقهقر، فانتهزها جند عيسى بن موسى واستداروا فهاجموا الثوار
__________
1 "مقالات الإسلاميين" جـ1 ص154.(1/221)
الذين أربكت إصابة إمامهم صفوفهم وشغلتهم عن مواصلة مطاردة الخصوم. فتحول النصر الوشيك إلى هزيمة عندما قتل إبراهيم، "وقتلت المعتزلة بين يديه صبرا"1! قبل خمس ليال من نهاية شهر ذي القعدة سنة 145هـ، بعد اندلاع ثورتهم في العراق بثلاثة أشهر إلا خمسة أيام!.
أما الذين نجوا من القتل، فإنهم هاجروا إلى بلاد المغرب، حيث أسهموا في نشر الاعتزال هناك، وكونوا فرقة سميت "الواصلية" نسبة إلى واصل بن عطاء, قادت وشاركت في أحداث المغرب وثوراتها لعدة قرون..
__________
1 المصدر السابق. جـ1 ص154.(1/222)
مع الزيدية:
وإذا كانت ثورة المعتزلة سنة 145هـ قد مثلت نهاية ثوراتهم الكبرى، بسبب التقارب الذي تم بين العباسيين وفكر المعتزلة، خاصة في عهود المأمون "198-228هـ 813-833م" والمعتصم "218-228هـ 833-842م" والواثق "228-233هـ 842-847م"، وبسبب نمو القسمة الفلسفية في فكرهم، مما استدعى انصراف العامة -وقود الثورة- عن المعتزلة، وانقيادهم "لأصحاب الحديث".. فإن ولاء المعتزلة للثورة، فكرا وعملا، ظل قائما، واستمر متمثلا في مناصرة فريق منهم، وهم مدرسة المعتزلة البغداديين، لثورات الزيدية، التي أخذت تتبلور كفرقة ثورية جعلت الخروج -الثورة- من شروط الإمام، وهي الثورات التي قادها محمد بن إبراهيم بن طباطبا "199هـ 814م".. ومحمد بن القاسم بن عمر بن علي بن الحسين "219هـ" الذي ثار ببلاد الطالقان بخراسان ويحيى بن عمر "250هـ" بالكوفة.. وكذلك ثورتهم التي بنت دولة زيدية في طبرستان ""250هـ" وفي صنعاء "228هـ".(1/222)
هذه نماذج من الثورات التي قادها المعتزلة ضد بني أمية وبني العباس.. وهي نماذج تأتي مصداقا لقولنا: إن هذه المدرسة الفكرية قد مارست السياسة، كما احترفت الفكر الفلسفي وأبدعت في تراثنا علم الكلام، وأنهم قد أسسوا إيمانهم بالثورة كسبيل للتغيير، على القاعدة العامة التي تدعو إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واستدلوا فيما استدلوا بقول الله سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} 1 وقوله: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} 2 وقوله لإبراهيم عندما سأل عن مكان ذريته من ولاية الأمر {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} 3!.
بل لقد بلغ إيمان المعتزلة بالثورة وضرورتها إلى الحد الذي أوجبوا فيه تأييد الثائرين ضد الجور والظلم حتى ولو كان هؤلاء الثوار ضالين في عقيدتهم الدينية بسبب شبهات عرضت لهم في فهم الدين، فنصرتهم واجبة حتى "وإن كانوا ضالين في عقيدة اعتقدوها بشبهة دينية دخلت إليهم" لأن الضال بشبهة أعدل وأقرب إلى الحق من الفاسق الجائر الذي تغلب على الخصم واغتصب أمر المسلمين دون شبهات.. ومن هنا كان تأييد المعتزلة لثورات الخوارج ضد الأمويين4.. وقولهم: إن ثورات الخوارج قد نبعت من إيمانهم بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي هو أصل شريف، بل "أشرف من جميع أبواب البر والعبادة"5.
ولعلنا إذا شئنا نصا يحدد موقف المعتزلة المنحاز إلى الثورة فإن كلمات القاضي عبد الجبار تأتي نموذجا جيد الدلالة، فهو يقول: "وما يحل لمسلم
__________
1 المائدة: 2.
2 الحجرات: 9.
3 البقرة: 124.
4 "شرح نهج البلاغة" جـ5 ص78، 79.
5 المصدر السابق جـ19 ص311.(1/223)
أن يخلي أئمة الضلالة وولاة الجور إذا وجد أعوانا، وغلب في ظنه أنه يتمكن من منعهم من الجور، كما فعل الحسن والحسين، وكما فعل القراء حين أعانوا ابن الأشعث في الخروج على عبد الملك بن مروان، وكما فعل أهل المدينة في وقعة الحرة، وكما فعل أهل مكة مع ابن الزبير حين مات معاوية، وكما فعل عمر بن عبد العزيز: وكما فعل يزيد بن الوليد بن عبد الملك، فيما أنكروه من المنكر1..
فهو هنا يحدد موقف المعتزلة مع وجوب الثورة، عند التمكن، وغلبة الظن في الانتصار، ويجعل هذا الموقف الثوري الامتداد الطبيعي للتراث الثوري في تاريخ الإسلام ومواقف المسلمين الثوار.
__________
1 "تثبت دلائل النبوة" جـ2 ص574، 575.(1/224)
ثورة الزنج:
مند عهد المتوكل العباسي "232-247هـ 847-861م" غلبت سيطرة العسكر الأتراك، وقادتهم على أزمة الأمور في الدولة، واستأثروا بالعطاءات والإقطاعات، واستبدوا بسلطات الخلافة، حتى صاروا يولون ويعزلون الخلفاء كما يريدون، بل ويسجنون ويسمون ويقتلون من لا يحقق مطامحهم ومطامعهم من الخلفاء.
ولقد حاول بعض الخلفاء أن يستردوا لمنصب الخلافة سلطانه، وأن يستندوا في معارضة القادة الأتراك إلى تأييد شعبي بمهادنة العلويين الثوار وإقامة قدر من العدل والإنصاف بين الرعية.. حاول ذلك الخليفة المنتصر بالله "247-248هـ 861-862م"، والمهتدي بالله "255-256هـ 869-870م" ولكن الأتراك تخلصوا منهما بالسم والعزل والقتل!.
وعندما سدت سبل الإصلاح أمام الراغبين فيه أقبل الناس على الثورة، طريقا لم يجدوا أمامهم سواه للتغيير، فكان أن قامت عدة حركات ثورية، يقودها ثوار علويون.
ففي "سنة 248هـ سنة 862م" ثارت الكوفة، بزعامة أبي الحسين يحيى بن عمر بن يحيى بن الحسين بن عبد الله بن إسماعيل بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب.(1/225)
وفي "سنة 250هـ سنة 864م" ثارت طبرستان، بقيادة الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وامتدت الثورة إلى جرجان، واستمرت دولتها حتى سنة 270هـ سنة 883م.
وثارت "الري"، بزعامة محمد بن جعفر بن الحسن، بهدف الانضمام إلى ثورة طبرستان.. ثم تكررت ثورتها، بعد الإخفاق بقيادة أحمد بن عيسى بن علي بن الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب.
وثارت قزوين، بقيادة الكركي "الحسن بن إسماعيل بن محمد بن عبد الله بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب".
وثارت الكوفة، بزعامة الحسين بن محمد بن حمزة بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب.
على أن أخطر الثورات التي شهدها العصر العباسي كانت هي الثورة التي قادها علي بن محمد "270هـ 883م"، والتي بدأت في البحرين سنة 249هـ سنة 863م، وهي التي اشتهرت باسم "ثورة الزنج".
وكان قائد هذه الثورة -علي بن محمد بن أحمد بن علي بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب- شاعرا وعالما يمارس في "سامراء" تعليم الخط والنحو النجوم1. وكان واحدا من المقربين إلى الخليفة المنتصر بالله. ولما قتل الأتراك المنتصر بالسم، ومارسوا السجن والنفي والاعتقال والاضطهاد لحاشيته، كان علي بن محمد ضمن المعتقلين.. ثم حدث تمرد من فرقة "الجند الشاكرية" ببغداد، شارك فيه العامة، واقتحم المتمردون السجون فأطلقوا سراح من فيها، ومنهم علي بن محمد، الذي غادر بغداد إلى "سامراء" ومنها إلى البحرين حيث دعا إلى الثورة ضد الدولة العباسية الواقعة تحت سيطرة الجند الأتراك.
__________
1 تاريخ الطبري جـ9 ص410.(1/226)
دور العرب في الثورة:
وبالرغم من اشتهار هذه الثورة "بثورة الزنج"، إلا أنها لم تكن ثورة عنصرية للزنج وحدهم، ولم تقف أهدافها عند المطالبة بتحرير العبيد أو تحسين ظروف عملهم. فقائد هذه الثورة عربي، وعلوي -رغم تشكيك خصومه في صحة نسبه العلوي- وأغلب قوادها كانوا عربا كذلك، مثل: علي بن أبان "المهلبي"، وسليمان بن موسى الشعراوني، وسليمان بن جامع، وأحمد بن مهدي الجبائي، ويحيى بن محمد البحراني، ومحمد بن سمعان.. إلخ إلخ.
وعلى امتداد السنوات السبع الأولى من عمر هذه الثورة "249-255هـ" كان جمهورها وجندها ومحيطها عربيا خالصا.. فهي قد بدأت في مدينة "هجر"، أهم مدن البحرين، ثم في "الإحساء" بين أحياء "بني تميم" و"بني سعد".. ثم في بادية البحرين، وسط عربها.. وفي هذا المحيط العربي قامت سلطة هذه الثورة و"دولتها" وحدثت الحروب بينها وبين جيش الدولة العباسية ... ويصف الطبري سلطة علي بن محمد في هذا المحيط العربي، فيقول: "لقد أحله أهل البحرين من أنفسهم محل النبي حتى جبي له الخراج هناك، ونفذ حكمه بينهم، وقاتلوا أسباب السلطان بسببه! "1.
وفي موقعة "الردم"، بالبحرين، أحرزت الدولة انتصارا مؤثرا ضد الثورة، فانسحب علي بن محمد إلى البصرة، ونزل هناك بين عرب بني ضبيعة -من نزار بن معن بن عدنان. فدعاهم للثورة، فتبعوه، وكان
__________
1 المصدر السابق. جـ9 ص410، 411.(1/227)
منهم عدد من قادة دولته وجيشه1.. ولما طردته الدولة، وألقت القبض على أغلب أنصاره، ووضعتهم في السجون، مع ابنه الأكبر وابنته وزوجته.. غادر علي بن محمد البصرة إلى بغداد، فأقام بها عاما.
وفي سنة 255هـ سنة 869م حدثت بالبصرة فتنة بين طائفتين من جندها، "الجند البلالية" و"الجند السعدية"، وأسفرت هذه الفتنة فيما أسفرت عن إطلاق سراح السجناء، ومنهم أنصار علي بن محمد، فغادر بغداد ووصل إلى ضواحي البصرة ليواصل ثورته من جديد!.. وفي هذا التاريخ بدأ أول انعطاف للثورة نحو الزنج، أي: بعد قرابة السبع سنوات من قيامها!.
__________
1 المصدر السابق. جـ9 ص411.(1/228)
مكان الزنج في الثورة:
كانت البصرة أهم المدن في جنوب العراق، وكانت جنوب العراق مشحونة بالرقيق والعمال الفقراء الذين يعملون في مجاري المياه ومصابها، ويقومون بكسح السباخ والأملاح الناشئين من مياه الخليج، وذلك تنقية للأرض وتطهيرا لها، كي تصبح صالحة ومعدة للزراعة، وكانوا ينهضون بعملهم الشاق هذا في ظروف عمل قاسية وغير إنسانية، تحت إشراف وكلاء غلاظ قساة، ولحساب ملاك الأرض من أشراف العرب ودهاقنة الفرس. وبعض هؤلاء العبيد كانوا مجلوبين من أفريقيا السوداء -وهم الزنج- وبعضهم نوبيون، وآخرون قرماطيون، أما فقراء العرب فكانوا يسمون الفراتيين.
وشرع علي بن محمد يدرس حالة هؤلاء الرقيق، ويسعى لضمهم لثورته، كي يحررهم ويحارب بهم الدولة العباسية.. وكان أول زنجي ينضم إليه هو ريحان بن صالح، الذي أصبح من قادة الحرب والثورة، ويقول(1/228)
ريحان عن لقائه الأول بقائد الثورة: لقد سألني عن غلمان الشورجيين -العاملين في مسايل المياه ومجاريها- وما يجري لكل جماعة منهم من الدقيق والسويق والتمر، وعمن يعمل في الشورج -مسايل المياه- من الأحرار والعبيد. فأعلمته ذلك، فدعاني إلى ما هو عليه -أي: إلى الثورة- فأجبته. قال لي: احضر من قدرت عليه من الغلمان، وستكون قائدا لمن اتبعك منهم1.
وأخذ علي بن محمد ينتقل مع قادة ثورته بين مواقع عمل الرقيق والفراتيين، ويدعوهم إلى الثورة والهرب إلى معسكره وترك الخضوع لسادتهم، فاستجابت لدعوته جماهير غفيرة من الزنج والنوبة والقرماطيين والفراتيين، وانضموا إلى العرب والأعراب الذين تبعوه من جنوبي العراق. ولقد فشل وكلاء الزنوج في الحيلولة بينهم وبين الالتحاق بمعسكر الثائرين، فكانوا يحبسونهم في البيوت ويسدون أبوابها ومنافذها بالطين؟!. ويصف ابن خلدون إقبال الزنج على الثورة، وزحفهم للقاء قائدها فيقول: "لقد تسايل إليه الزنج واتبعوه"2.
ولقد أعلن علي بن محمد أن هدفه، بالنسبة للزنج والعرب الفقراء، الذين يعملون في إصلاح أرض العراق الجنوبي، هو:
1- تحرير الرقيق من العبودية. وتحويلهم إلى سادة لأنفسهم.
2- وإعطاؤهم حق امتلاك الأموال والضياع.. بل ومناهم بامتلاك سادة الأمس الذين كانوا يسترقونهم!.
3- وضمان المساواة التامة لهم في ثورته ودولته التي تعمل من أجل:
- نظام اجتماعي هو أقرب إلى النظم الجماعية التي يتكافل فيها
__________
1 ابن أبي الحديد "شرح نهج البلاغة" جـ8 ص132.
2 "العبر" مجلد 4 ص19. طبعة بولاق سنة 1284هـ.(1/229)
ويتضامن مجموع الأمة1.
- نظام سياسي يرفض الخلافة الوراثية لبني العباس، والتي أصبحت أسيرة بيد قادة الجند الأتراك.. ويقدم بدلا دولة الثورة التي أصبح علي بن محمد فيها أميرا للمؤمنين.
ولقد استطاعت الثورة أن تكتسب أكثر فأكثر ثقة جماهير الزنج وفقراء العرب، الذين كانوا أشبه ما يكونون بالرقيق، وبالذات في ظروف العمل وشروطه. وخاصة بعد أن رفض قائد الثورة مطالب الأشراف العرب والدهاقين والوكلاء بأن يرد عليهم عبيدهم لقاء خمسة دنانير يدفعونها عن كل رأس!.. لقد رفض علي بن محمد هذا العرض، بل وعاقب هؤلاء السادة والوكلاء، فطلب من كل جماعة من الزنج أن يجلدوا سادتهم ووكلاءهم القدامى!.
وزاد من اطمئنان الزنج للثورة ما أعلنه قائدها من أنه "لم يثر لغرض من أغراض الدنيا، وإنما غضبا لله، ولما رأى عليه الناس من الفساد".. وعاهدهم على أن يكون في الحرب بينهم "أشرككم فيها بيدي، وأخاطر معكم فيها بنفسي" بل قال لهم: "ليحط بي جماعة منكم، فإن أحسوا مني غدرا فتكوا بي؟! ".
وبهذه الثقة تكاثر الزنج في صفوف الثورة وفي كتائب جيشها، بل وانضمت إليها الوحدات الزنجية في جيش الدولة في كل موطن التقى فيه الجيشان2!.. حتى لقد سميت لذلك بثورة الزنج، واشتهرت بهذا الاسم في مصادر التاريخ.
__________
1 يشبه نظام الملك الفلسفة الاجتماعية والتنظيم المالي لثورة الزنج "بالمزدكية" التي قامت على "الاشتراك العمومي" في ثورة المجتمع. انظر "سياسة نامة" ص285.
2 "تاريخ الطبري" جـ9 ص410-415، 418، 419، 422، 425، 428، 430. وابن خلدون "العبر" مجلد 4 ص18، 19.(1/230)
دولة الثورة:
وفي عشرات المعارك التي وقعت بين الدولة العباسية وبين ثورة الزنج كان النصر غالبا للثورة على الدولة. وتأسست كثمرة لهذه الانتصارات للثورة دولة، قامت فيها سلطتها، وطبقت بها أهدافها، ونفذ فيها سلطان علي بن محمد, ولقد بلغت دولة الثورة هذه درجة من القوة فاقت بها كل ما عرفته الخلافة العباسية قبلها من أخطار وثورات. والمؤرخون الذين كانت الدنيا عندهم هي الإمبراطورية العباسية، قالوا: إن الزنج قد "اقتسموا الدنيا! , واجتمع إليهم من الناس ما لا ينتهي العد والحصر إليه! " وكان عمال الدولة الثائرة يجمعون لعلي بن محمد الخراج "على عادة السلطان! " حتى لقد "خيف على ملك بني العباس أن يذهب وينقرض"1.
ولقد أقام الثوار لدولتهم عاصمة، سموها "المختارة"، أنشئوها إنشاء في منطقة تتخللها فروع الأنهار. كما أنشئوا عدة مدة أخرى وضمت دولتهم مدنا وقرى ومناطق كثيرة، مثل: البحرين, والبصرة, والأبلة, والأهواز, والقادسية, وواسط, وجنبلاء, وباذاورد, والنعمانية, والمنصورة, وجرجرايا, وجبل، ورامهرمز, والمنيعة, والمذار, وتستر, والبطيحة, وخوزستان, وعبادان, وأغلب سواد العراق.
ولقد استمرت الحرب بين دولة الثورة هذه وبين الخلافة العباسية لأكثر من عشرين عاما بلغ العنف فيها من الجانبين حدا لم يسبق له مثيل، حتى ليقول المؤرخون الذين يتواضعون بأرقام القتلى في هذا الصراع بأنهم
__________
1 "شرح نهج البلاغة" جـ8 ص164، 165.(1/231)
بلغوا نصف مليون قتيل! أما غيرهم فيقول: إن العدد قد عجز عن إدراك رقم الضحايا!.. ويعلق المسعودي فيقول: "إن كلا الفريقين يقول في ذلك ظنا وحدسا، إذ كان القتل في هذا القتال شيئا لا يدرك ولا يضبط؟! "1.
ولقد ألقت الخلافة العباسية بكل ثقلها في المعركة ضد الثورة، وكرست كل إمكانياتها للجيش والقتال، وبعد أن عهد الخليفة المعتمد "256-279هـ 870-892م"، بالقيادة إلى أخيه الموفق، تحول قائد الجيش إلى خليفة حقيقي، وتحولت المدينة التي بناها تجاه عاصمة الثوار، والتي سماها "الموفقية"، إلى العاصمة الحقيقية للدولة، يأتي إلى بيت مالها كل خراج البلاد وتصدر منها الأوامر إلى كل الولاة والعمال بأن يقدموا للجيش كل ما لديهم من إمكانيات، حتى لقد حاول "المعتمد" الفرار من سامراء إلى مصر، فألقوا القبض عليه وأعادوه إلى قصر الخلافة شبه سجين!.
ولقد رجحت كفة الجيش العباسي بما احتشد له من فرسان وسفن وعتاد.. فأحرز عددا من الانتصارات على جيش الزنج، وبدأ حصارا لعاصمتهم استمر أربع سنوات!.. وكانت مصر قد استقلت عن الخلافة تحت حكم أحمد بن طولون "220-270هـ 835-884م" وكان لها جيش قوي بالشام يقوده لؤلؤ غلام ابن طولون، فخان سيده وانضم إلى جيش الدولة المحتشد لقتال الثوار، وعند ذلك تمكن الموفق من اقتحام "المختارة"، وهزيمة الثورة، التي بدأت سنة 249هـ وظلت قائمة تقاوم حتى أول سفر سنة 270هـ "10 أغسطس سنة 883م".. فكانت أطول ثورات العصر العباسي وأخطرها.
__________
1 "مروج الذهب" جـ2 ص479.(1/232)
تياران: مع الثورة وضدها
هكذا رأينا: الخوارج، وتيارا من تيارات الإرجاء، والمعتزلة، ثم الزيدية والعلويين، وبعضا من فرق الشيعة الإمامية، مثل الإسماعيلية، وكذلك الكيسانية، تجمع كلها فكرا وعقلا، على ضرورة اللجوء إلى الثورة والعنف الثوري -السيف- كسبيل لإزالة الظلم والجور والفساد، وبناء المجتمع الذي يوفر للمسلمين العدل والفضيلة والأمان. ولم يشذ عن هذا الاتجاه الثوري، في القرن الهجري الأول، إلا أحد تيارت المرجئة، الذي ناصر أو آزر الأمويين، وإلا شيعة جعفر الصادق الذين علقوا السماح باستخدام العنف الثوري -السيف- على ظهور إمامهم المنتظر الذي سيخرج ليملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا1..
ولقد ظلت الشيعة الاثنا عشرية على موقفها المناهض للثورة. بينما حمل التيار الفكري الذي عرف "بأهل الحديث" وكذلك نفر من التيار الأشعري فكر المرجئة الذين ناهضوا الثورة ونهوا عن استخدامها في النهي عن المنكر، والتغيير.
__________
1 "مقالات الإسلاميين"جـ2 ص140. والطوسي "تلخيص الشافي" جـ1 ق2 ص158. طبعة النجف سنة 1383هـ.(1/233)
ولم ينكر هذا الفريق وجوب النهي عن المنكر، فهو ثابت بالكتاب والسنة، ولكنهم حصروا وسائل النهي عن المنكر في اللسان والقلب دون اليد، فضلا عن السيف، خصوصا إذا ما ترتبت على وسائل "الفعل" هذه تضحيات!
فأصحاب الحديث، وأبرز أئمتهم أحمد بن حنبل "164-241هـ 780-855م"، قد انفردوا وحدهم، دون فرق الإسلام ومدارسه الفكرية، بتحريم السيف -الثورة المسلحة- وإنكار الخروج المسلح على أئمة الجور وظلمة الحكام، وقالوا: إن "السيف باطل، ولو قتلت الرجال وسبيت الذرية، وأن الإمام قد يكون عادلا، ويكون غير عادل، وليس لنا إزالته وإن كان فاسقا، وأنكروا الخروج على السلطان، ولم يروه"1.
وهم قد استندوا في موقفهم هذا إلى اعتزال نفر من الصحابة للفتن والصراعات التي شبت في صدر الإسلام، عندما عمي عليهم وجه الصواب والخطأ، أو أدركوا الصواب والخطأ ثم تحرجوا أن يجردوا السيف ضد من سبقت له صحبة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومن هؤلاء الصحابة: سعد بن أبي وقاص، وأسامة بن زيد، وعبد الله بن عمر، ومحمد بن مسلمة.. إلخ.
ونحن نعتقد بوجود الصلاة الوثيقة بين الأسس الفكرية لهذا الموقف اللاثوري وبين شيوع الاستبداد بالسلطة والتغلب على الحكم من قبل المستبدين وسلاطين الجور الذين طبعوا التاريخ الإسلامي بكل ما هو غريب عن الشورى ومناقض للعدل والاختيار.
ويشهد لهذا الاعتقاد -على سبيل المثال- قول إمام أهل الحديث أحمد بن حنبل، الذي يرويه عنه صاحبه عبدوس بن مالك القطان: " ... ومن
__________
1 "مقالات الإسلاميين" جـ2 ص451، 452 "طبعة استانبول سنة 1929".(1/234)
غلب بالسيف حتى صار خليفة، وسمي أمير المؤمنين، فلا يحل أحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماما عليه، برا كان أو فاجرا، فهو أمير المؤمنين"1.
وعند ابن حنبل: "إذا قام أكثر من مستبد، وتنازعوا أمرهم، وانقسم الناس، فإن صلاة الجمعة ومن ثم التأييد، يكون من نصيب "من غلب"2.
ولقد تبع ابن تيمية "661-728هـ 1263-1328م" رغم جرأته في الحق, موقف أستاذه ابن حنبل المعادي للثورة، وأورد تأييدا لهذا الموقف عددا من أحاديث الآحاد المنسوبة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، ومن أقواله في هذه القضية: إن "المشهور من مذهب أهل السنة أنهم لا يرون الخروج على الأئمة وقتالهم بالسيف، وإن كان فيهم ظلم؛ لأن الفساد في القتال والفتنة أعظم من الفساد الحاصل بظلمهم بدون قتال ولا فتنة، فيدفع أعظم الفسادين بالتزام الأدنى". وروي للدلالة على ذلك أحاديث غريبة عن روح الإسلام، تنهى عن قتال أمراء الجور طالما هم يصلون. وتدعو الناس إلى أداء واجباتهم وطاعة الحكام الظلمة، مع كراهية ظلمهم بالقلب، والابتعاد عن العصيان لهؤلاء الطغاة!! 3.
وقريبا من هذا الموقف المعادي، أو غير المناصر للثورة وقف أغلب الأشعرية. فالإمام الغزالي يرى خلع الحاكم المستبد الذي لم يستكمل شروط الإمامة إذا أمكن ذلك دون قتال. ولست أدري كيف يتصور إمكان
__________
1 أبو يعلى الفراء "الأحكام السلطانية" ص4. طبعة القاهرة سنة 1938م. و"كتاب الإمامة" ص212 طبعة بيروت، ضمن مجموعة عنوانها "نصوص الفكر السياسي الإسلامي: الإمامة عند السنة" سنة 1966م.
2 أبو يعلى "الأحكام السلطانية" ص6.
3 "منهاج السنة" جـ2 ص87. الطبعة الأولى.(1/235)
ذلك، مع استبداده بالقوة والسيف, وإلا فالرأي عنده هو: وجوب طاعته والحكم بإمامته، فيقول: " ... والذي نراه ونقطع أنه يجب خلعه إن قدر، على أن يستبدل عنه من هو موصوف بجميع الشروط، من غير إثارة فتنة ولا تهيج قتال. وإن لم يكن ذلك إلا بتحريك قتال وجبت طاعته وحكم بإمامته"1. فإن السلطان الظالم الجاهل متى ساعدته الشوكة وعسر خلعه، وكان في الاستبدال به فتنة ثائرة لا تطاق وجب تركه، ووجبت الطاعة له!. وهو يرى في طاعة الظالم الجاهل مكاسب تتحقق للأمة تفوق الآمال المعلقة على خلعه بالثورة، ويتساءل: "كيف نفوت رأس المال في طلب الربح2؟! ".
ونفس الموقف يقفه ابن جماعة "639-734هـ 1241-1333م" عندما يصور الأمر كما لو كان غاية تجب الطاعة فيها للأقوى من المستبدين، حتى لو كان جاهلا فاسقا، فإذا أطاحه جاهل فاسق آخر كان هو الإمام المطاع!. يقول: "أنه إن خلا الوقت عن إمام، فتصدى لها من هو ليس من أهلها، وقهر الناس بشوكته وجنوده بغير بيعة أو استخلاف، انعقدت بيعته ولزمته طاعته.. ولا يقدح في ذلك كونه جاهلا أو فاسقا.. وإذا انعقدت الإمامة بالشوكة والغلبة لواحد، ثم قام آخر فقهر الأول بشوكته وجنوده، انعزل الأول وصار الثاني إماما"3.
وابن جماعة بهذا الفكر يطوع الإسلام وفكره السياسي للأوضاع التي سادت عصر المماليك الذي عاش فيه!.
وبهذا الرأي يقول التفتازاني في "شرح العقائد النسفية". كما قال به
__________
1 "الاقتصاد في الاعتقاد" ص137 طبعة صبيح، القاهرة، بدون تاريخ.
2 "إحياء علوم الدين" ص893، 894. طبعة دار الشعب، القاهرة.
3 "تحرير الأحكام". والنص منقول عن "دراسات في حضارة الإسلام" لجب ص188. طبعة بيروت سنة 1964م.(1/236)
الأشعري أيضا، ومن كان قد سماهم الملوك بدلا من الخلفاء، ورأى عدم الثورة على هؤلاء الملوك!.
ولقد تكون لهذه المبررات العملية التي ساقها هذا النفر من أئمة أهل الحديث والأشعرية حظوظ من الوجاهة في بعض المواقف والملابسات.. ولكن الأمر السلبي الذي أدى إليه هذا الموقف المناهض للثورة هو: أنه أعطى الشرعية لنظام الاستبداد بالسلطة ولحكم المستبدين، حتى صار هو القاعدة، وصار الخضوع له والطاعة لأهله هو الشريعة والقانون، حتى لقد قال نفر من الفقهاء: "من يحكم يطع"! 1 وحتى أصبح الحديث عن الإمامة، بشروطها وصفات القائم بها، لا يتجاوز نطاق المباحث الكلامية والفقهية إلى أرض الواقع والتطبيق، كما أصبحت الثورة على أئمة الجور والاستبداد منكرا يوصف أصحابه بالخروج والمروق. أي: إن هذا الفكر المبرر لسلطة الاستبداد واستبداد المتسلطين قد جعل حكم الطغاة هو القاعدة، ونظام الخلافة الإسلامية الشوروية هو الشذوذ والاستثناء!.
غير أننا نعود في الختام، فنذكر بما أثبتته وأكدته هذه الدراسة من أن الفكر الإسلامي قد اجتمع وأجمع أعلامه في عصوره المبكرة على الانحياز للثورة كسبيل من سبل التغيير، ولقد حدث ذلك عندما كان هؤلاء الأعلام ينطلقون من المصادر الأولية والجوهرية النقية للدين ومن تجربة الخلفاء الراشدين في الحكم على أساس من الشورى والاختيار.. فلما عرفت النظم الاستبدادية غير الشوروية، طريقها إلى واقع المسلمين، وغلب الطابع الاستبدادي على تاريخ الحكم الإسلامي، أصبح هذا الواقع الشاذ، لغلبته واستمراريته، مصدرا من مصادر الفكر لدى تيار من مفكري الإسلام، فكانت تلك الآراء التي عرضنا طرفا منها، والتي ناهض
__________
1 سانتيلا "القانون والمجتمع" ص430 ترجمة جرجيس فتح الله. طبعة بيروت -ضمن مجموعة عنواناها: تراث الإسلام- سنة 1972م.(1/237)
أصحابها الثورة كسبيل من سبل التغيير في مجتمع الإسلام.
فالانحياز للثورة في الفكر العربي الإسلامي أصيل أصالة فكرنا العربي الإسلامي النقي وتطبيقاته والشوروية المبكرة. كما أن العداء للثورة في هذا الفكر طارئ وغريب؛ طارئ لأنه نبت للاستبداد السياسي الذي أصاب واقع هذه الأمة بعد دولة الخلفاء الراشدين؛ وغريب لأنه -بكل المقاييس- لا يتسق مع روح الإسلام ونزوع الإنسان العربي إلى مقاومة الظلم ورفض الخضوع للاستبداد والمستبدين.(1/238)
المراجع:
ابن أبي الحديد: "شرح نهج البلاغة" تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم. طبعة القاهرة سنة 1959م.
ابن الأثير: "أسد الغابة" طبعة دار الشعب - القاهرة.
ابن تيمية: "منهاج السنة" طبعة القاهرة، الأولى.
ابن جميع "أبو حفص عمر": "مقدمة التوحيد وشروحها" طبعة القاهرة سنة 1355هـ.
ابن حنبل "أحمد": "المسند" طبعة القاهرة سنة 1313هـ.
ابن خلدون: "المقدمة" طبعة القاهرة سنة 1322هـ.
"العبر" طبعة القاهرة سنة 1284هـ.
ابن سعد: "الطبقات الكبير" طبعة دار التحرير - القاهرة.
ابن عبد البر: "الدرر في اختصار المغازي والسير". طبعة القاهرة سنة 1966م.
ابن قتيبة: "الإمامة والسياسة" طبعة القاهرة سنة 1331هـ.
"عيون الأخبار" طبعة القاهرة سنة 1973م.
"المعارف" طبعة القاهرة سنة 1960م.(1/239)
ابن ماجه: "السنن" طبعة القاهرة سنة 1972م.
ابن المرتضى: "باب ذكر المعتزلة - من كتاب المنية والأمل" طبعة الهند سنة 1316هـ.
ابن منظور: "لسان العرب" طبعة القاهرة.
أبو داود: "السنن" طبعة القاهرة سنة 1952م.
الأشعري: "مقالات الإسلاميين" طبعة القاهرة سنة 1969م وطبعة استانبول سنة 1929م.
الأصفهاني: "الأغاني" طبعة دار الشعب - القاهرة.
الأفغاني "جمال الدين": "الأعمال الكاملة" دراسة وتحقيق دكتور محمد عمارة - طبعة القاهرة سنة 1968م.
البخاري: "صحيح البخاري" طبعة دار الشعب، القاهرة.
برنارد "لويس": "أصول الإسماعيلية" طبعة القاهرة - دار الكتاب العربي - دون تاريخ.
البيضاوي: "تفسير البيضاوي" طبعة القاهرة سنة 1927م.
الترمذي: "السنن - الجامع الصحيح" طبعة القاهرة سنة 1937م.
الجاحظ: "رسائل الجاحظ" طبعة القاهرة سنة 1964م.
جب: "دراسات في حضارة الإسلام" طبعة بيروت سنة 1964م.
الدارمي: "السنن" طبعة القاهرة سنة 1966م.
سانتيلا: "القانون والمجتمع" طبعة بيروت -ضمن مجموعة "تراث الإسلام"- سنة 1972م.
الشهرستاني: "الملل والنحل" طبعة القاهرة سنة 1331هـ.
الطبري: "التاريخ" طبعة دار المعارف - القاهرة.
طه حسين "دكتور": "الفتنة الكبرى" طبعة القاهرة سنة 1970م.
الطوسي: "تلخيص الشافي" طبعة النجف سنة 1383هـ.
عبد الجبار بن أحمد "قاضي القضاة": "المغني في أبواب التوحيد والعدل"(1/240)
طبعة القاهرة.
"فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة" تحقيق فؤاد سيد. طبعة تونس سنة 1972م.
"تثبيت دلائل النبوة" تحقيق دكتور عبد الكريم عثمان - طبعة بيروت سنة 1966م.
علي بن أبي طالب "الإمام": "نهج البلاغة" طبعة دار الشعب - القاهرة.
الغزالي "أبو حامد": "الاقتصاد في الاعتقاد" طبعة القاهرة -صحيح- دون تاريخ "ضمن مجموعة".
"إحياء علوم الدين" طبعة دار الشعب - القاهرة.
فان فلوتن: "السيادة العربية والشيعة والإسرئيليات" طبعة القاهرة سنة 1965م.
الفراء "أبو يعلى": "الأحكام السلطانية" طبعة القاهرة سنة 1938م.
"كتاب الإمامة" طبعة بيروت -ضمن مجموعة- سنة 1966م.
فلهوزن "يوليوس": "الخوارج والشيعة" ترجمة دكتور عبد الرحمن بدوي. طبعة القاهرة سنة 1958م.
القاسمي "جمال الدين": تاريخ الجهمية والمعتزلة" طبعة القاهرة سنة 1331هـ.
القرطبي: "الجامع لأحكام القرآن" طبعة دار الكتب المصرية.
القلقشندي: "صبح الأعشى" طبعة دار الكتب - القاهرة.
ناجي حسن: "ثورة زيد بن علي" طبعة بغداد سنة 1966م.
مالك: "الموطأ" طبعة دار الشعب. القاهرة.
محمد عبده "الإمام": الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده"، دراسة وتحقيق: د. محمد عمارة. طبعة بيروت سنة 1972م.
"الإسلام والمرأة" دراسة وتحقيق: د. محمد عمارة. طبعة القاهرة سنة 1975م.(1/241)
محمد عمارة "دكتور": "مسلمون ثوار" طبعة بيروت سنة 1974م.
محمد فؤاد عبد الباقي: "المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم" طبعة دار الشعب، القاهرة.
المسعودي: "مروج الذهب" طبعة القاهرة سنة 1958م.
مسلم: "صحيح مسلم" طبعة القاهرة سنة 1955م.
النسائي: "السنن" طبعة القاهرة سنة 1964م.
نظام الملك: "سياسة نامة".
النوبختي: "فرق الشيعة" تحقيق. ريتر. طبعة استانبول سنة 1931م.
ونسنك "أ. ي": المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي" طبعة ليدن سنة 1936. 1969م.(1/242)
الفرق الإسلامية
مدخل
...
الفرق الإسلامية:
تعريف وتوطئة:
لم يختلف المسلمون في الدين على عصر صدر الإسلام، وإنما كان خلافهم في السياسة، وبالذات حول الإمارة والخلافة والإمامة، وبصدد الصراع على السلطة العليا في الدولة.
ولقد نشأت أولى الفرق الإسلامية -وهي المحكمة "الخوارج"- على عهد علي بن أبي طالب بسبب الخلاف حول الإمارة والصراع الدائر عليها، ولقد ظلت تلك القضية طوال تاريخ المسلمين الفكري والعملي هي المنبع الذي تصدر منه الفرق والأحزاب. أي: إن قضية الإمارة والخلافة والإمامة. وقضايا الصراع على السلطة العليا في الدولة، كانت دائما مصدر تكوين الفرق ونشأة المذاهب وظهور الأحزاب.
والتأريخ للفرق الإسلامية، من حيث النشأة والتعداد وتمييز مقالاتها ومواقفها من الفنون التي ألفت فيها الكتب والرسائل من علماء ومفكرين ينتمون إلى مختلف الفرق والتيارات.
ومن بين القضايا التي عرض لها مؤرخو الفرق والمذاهب قضية عدد الفرق التي توزعت ملة الإسلام، والفترة الزمنية التي بدأ فيها تكون الفرق وظهورها. فبينما يررى مؤرخون الفرق من الشيعة أن نشأة الفرق قد ارتبط بالخلاف على الإمامة يوم السقيفة، إذ تكونت الشيعة مع علي، وفرقة "الأمرة والسلطان" مع سعد بن عبادة من الأنصار، وفرقة مالت لأبي(1/245)
بكر1، نجد مؤرخي الفرق وكتاب مقالاتها من المعتزلة والأشعرية والظاهرية وأصحاب الحديث والخوارج -أي: كل من عدا الشيعة- يؤرخون بظهور فرقة الخوارج على عهد علي، لنشأة الفرق في الإسلام, وهو الرأي الصواب؛ ذلك أن الفرقة وهي اجتماع أناس متفرقين حول موقف ومبدأ وفلسفة ونمط متحد أو متقارب من أنماط التفكير، هي أمر يختلف عن المواقف الذي يتخذه فرد أو أفراد من قضية معينة ثم يتغير هذا الموقف وتتبدل إزاءه مواقع الأفراد، وهذا هو ما حدث للذين طلبوا الإمارة لعلي بدلا من أبي بكر، وهو نفس ما حدث للذين طلبوا الإمارة لسعد بن عبادة، وإن كان بعض الأنصار قد ظل على اعتقاده بأن حالهم وحال المسلمين كان سيصبح أفضل لو وليها سعد بن عبادة، ومع ذلك فإن أحدا لا يستطيع ولا يحق له أن يسمي هذا البعض فرقة ومذهبا، فإن بقاء البعض على اعتقاده أن عليا هو الأولى بالإمارة، وأن صلاح المسلمين في تأميره لا يكفي كي نقول إن هذا البعض قد كون أو يكون فرقة بالمعنى الدقيق لهذا المصطلح.
أما نشأة الخوارج فلقد اربتطت بل نبعت من قضية مثارة، وهم قد جمعتهم فلسفة موحدة، ومجموعة من المقالات والمواقف، وأنماط متحدة أو متقاربة في السلوك، ثم كان لهم استمرار في عصور الصراع الإسلامي حول هذه القضية التي سببت نشأتهم الأولى. وكذلك كان الحال مع الفرق الرئيسية التي تلت ظهور الخوارج على مسرح السياسة.
تلك إذن قضية خلافية بين مؤرخي المقالات الشيعة وغيرهم من المؤرخين.
__________
1 النوبختي "كتاب فرق الشيعة" ص2، 3 تحقيق هـ. ريتر. طبعة استانبول سنة 1931م.(1/246)
أما القضية التي اتفق فيها جمهور مؤرخي المقالات رغم غرابتها وافتقارها إلى القواعد الثابتة فهي عدد هذه الفرق. فلقد اتفق هؤلاء المؤرخون على أن عدد فرق المسلمين ثلاثا وسبعين فرقة، وأن هذا الرقم هو نهاية ما وصلت وتصل إليه الأمة في التفرق وتعدد الاتجاهات. ولقد استندوا جميعا في ذلك إلى حديث قالوا إنه قد روي عن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول فيه: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين -أو اثنتين وسبعين- فرقة، وتفرقت النصارى على إحدى وسبعين -أو اثنتين وسبعين- فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة" 1.
ونحن لا نميل إلى التصديق بأن هذا الحديث هو من الأحاديث الصحيحة التي قالها الرسول -صلى الله عليه وسلم.. وذلك لعدة أسباب:
أولها: أنه ككثير من الأحاديث المشابهة حديث آحاد، وليس بالمتواتر، وأحاديث الآحاد وإن جاز أن نأخذ بها في الأمور العملية فإنها غير ملزمة في الاعتقادات.
وثانيها: أن الحديث يثير قضية خطيرة وخلافية وشائكة، وهي هل كان الرسول عليه الصلاة والسلام يعلم الغيب؟ وهل كان التنبؤ بالغيب من بين معجزاته؟. ونحن مع الذين يرون القرآن هو معجزة الرسول التي لم يتحد قومه بمعجزة سواها، وأنه في حياته وسلوكه كان بعيدا عن ادعاء علم
__________
1 أخرج هذا الحديث أبو داود، والترمذي، وابن ماجه وابن حنبل من حديث أبي هريرة، وأخرجه الحاكم وابن حبان في صحيحه بنحو هذا اللفظ، كما أخرجه في المستدرك، عن أبي هريرة بهذا اللفظ. وله رواية أخرى عن عوف بن مالك عن الرسول، بمثل هذا اللفظ. وقال عنه البيهقي: إنه حسن صحيح. انظر -غير كتب السنة- "خطط المقريزي" جـ3 ص282 طبعة دار التحرير، بالقاهرة، عن طبعة بولاق. و"الفرق بين الفرق" -للبغدادي ص4، 5. طبعة دار الآفاق الجديدة، بيروت.(1/247)
الغيب، بل إن آيات القرآن تنفي أن يعلم الرسول الغيب إلا إذا كان وحيا أوحاه الله إليه، والوحي الذي لا خلاف عليه هو المودع في القرآن. يخاطب الرسول قومه فيقول: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} 1.
ويقول لهم كذلك: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 2.
ويقول أيضا: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} 3 وأكثر من عدد هذه الآيات، التي ينفي فيها الرسول علمه بالغيب، عدد الآيات التي تقطع باختصاص الله سبحانه وتعالى بعلم الغيب، يقول سبحانه: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} 4 ويقول: {وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ} 5 ويقول: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 6 ويقول: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} 7 إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي تحصر علم الغيب
__________
1 الأنعام: 55.
2 الأعراف: 188.
3 هود: 31.
4 الأنعام: 59.
5 يونس: 20.
6 النحل: 77.
7 النمل: 65.(1/248)
ومعرفته في الله سبحانه وتعالى وحده.
أما الآية التي يقول الله فيها: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا، إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} 1، فإن نطاق الاستثناء فيها يجب أن تحكمه الآيات التي تنفي علم الرسول للغيب، وتلك التي تقطع باستئثار الله به، وفي كل الأحوال فإن الاستثناء إلا يعني إلا جواز أن يوحي الله للرسول بنبأ من أنباء الغيب، وفي هذه الحالة يكون موضعه هو موضع النبأ المقطوع بأنه وحي، وهو القرآن الكريم. وليس في القرآن شيء يتعلق بافتراق المسلمين إلى ثلاث وسبعين فرقة؟!.
ثالثا: إن الحديث يحدد عدد الفرق اليهودية والفرق النصرانية بواحدة وسبعين -أبو اثنتين وسبعين- فرقة، وليس بين مؤرخي الفرق المسلمين -وهم قد اهتموا بالملل والنحل جميعها- ولا بين مؤرخي الفرق من غير المسلمين من حد هذه الفرق في الديانتين بهذا العدد.
رابعا: إن واقع الفرق الإسلامية الذي كتب عنه وأرخ له هؤلاء الذين رووا هذا الحديث واعتمدوا عليه، هذا الواقع يتناقض مع انقسام المسلمين إلى هذا العدد، وإذا كان المسلمون في تاريخ ظهور الفرق والأحزاب لديهم قد جاء عليهم يوم وصلت فيه فرقهم إلى العدد الثالث والسبعين، وهذا طبيعي فإن هذه الفرق قد زادت، ثم نقصت، ولا يزال المسلمون في حياتهم الفكرية قادرين وصالحين لأن تنشأ لديهم فرق جديدة أو تزول من حياتهم فرق قديمة. المهم أن فرق الإسلام التي استخدم هؤلاء المؤرخون مصطلح "فرقة" في وصفها، قد زادت عن الثلاث والسبعين فرقة.. وهذه نماذج لذلك التناقض الذي وقع فيه هؤلاء
__________
1 الجن: 26، 27.(1/249)
المؤرخون بين الحديث الذي صدروا به دراستهم للفرق وبين الواقع الذي جسدوه لنا عن تعداد هذه الفرق وحياتها:
1- عندما نبحث عن عدد الفرق الإسلامية، كما أرخ لها الأشعري في "مقالات الإسلاميين" نجد هذا العدد يتعدى المائة. ففرق الشيعة عنده وحدها تبلغ خمسا وأربعين فرقة "الغالية: 15 والإمامية: 24 والزيدية: 26". وعدد فرق الخوارج ستا وثلاثين فرقة. والمرجئة فرقها اثنتا عشرة فرقة. وذلك غير: المعتزلة، والجهمية، والضرارية، والحسينية، والبكرية، والعامة، وأصحاب الحديث، والكلابية1. على حين يذكر الأشعري نفسه وفي ذات الكتاب أنها إحدى عشرة فرقة، تتفرع إلى ثلاث وسبعين، ولكنها في الدراسة دراسته هو: تتعدى المائة كما رأينا؟!.
2- وفي "الملل والنحل" للشهرستاني يبلغ تعداد الفرق ستا وسبعين فرقة "المعتزلة -وهم الذين عدهم الأشعري فرقة واحدة- عدهم الشهرستاني ثلاث عشرة فرقة، وعدهم البغدادي عشرين فرقة؟! ".. والخوارج سبع عشرة فرقة. والشيعة اثنتان وثلاثون فرقة. والمرجئة خمس فرق. ثم الجبرية، والجهمية، والنجارية، والضرارية، والصفاتية، والكرامية، والأشعرية، وأصحاب الحديث وأصحاب الرأي.
3- أما ابن حزم فإنه يعدها خمس فرق:
1- أهل السنة.
2- والشيعة.
3- والمعتزلة.
4- والمرجئة.
__________
1 "مقالات الإسلاميين" جـ1 ص65 وما بعدها. طبعة القاهرة سنة 1969م.(1/250)
5- الخوارج1.
4- والملطي وهو من أقدم مؤرخي الفرق يعدها أربعا فقط:
1- القدرية. 2- والمرجئة. 3- والشيعة. 4- والخوارج2.
5- أما القاضي عبد الجبار فإنه يعدها خمس فرق:
1- المعتزلة. 2- والخوارج. 3- والمرجئة. 4- والشيعة.
5- والنوابت3 -ويقصد بهم أهل الحديث- ولكن فرقة الشيعة التي يذكرها هنا واحدة يصل عدد فرقها -نعم فرقها- عنده في "المغني" إلى إحدى وستين فرقة، وخلافاتها ليست في الفروع حتى نقول إنها فروع لفرق وليست فرقا تستحق هذا الاسم، بل إن خلافاتها في الإمامة، وبالذات شخص الإمام، والإمامة عندها كالنبوة، بل أكثر أهمية عند بعضهم، ومن لم يعرف إمامه مات ميتة جاهلية؟!.. ففرق الإمامية تبلغ عند القاضي تسعا وأربعين4، وفرق الزيدية اثنتي عشرة فرقة5.
6- والمقريزي الذي يروي الحديث ويجمع طرق روايته ويوثقه يقول عن إحدى هذه الفرق، وهي الرافضة: إنهم "اختلفوا في الإمامة اختلافا كثيرا، حتى بلغت فرقتهم ثلاثمائة فرقة، والمشهور منها عشرون فرقة! " ويقول عن إحدى الفرق التي انقسمت من الرافضة، وهي "الخطابية":
__________
1 "الفصل في الملل والأهواء والنحل" جـ2 ص106. طبعة القاهرة الأولى سنة 1321هـ.
2 د. عبد الكريم عثمان "قاضي القضاة: عبد الجبار بن أحمد الهمذاني" ص104. طبعة بيروت سنة 1967م.
3 "فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة" ص152. تحقيق فؤاد سيد. طبعة تونس سنة 1972م.
4 "المغني" جـ20 ق2 ص176-182. طبعة القاهرة.
5 المصدر السابق. جـ20 ق2 ص184، 185.(1/251)
" ... أتباع أبي الخطاب محمد بن أبي ثور.. وأتباعه خمسون فرقة؟!.. ويقول عن المعتزلة: "وهم عشرون فرقة ... " ولا يذكر فيهم القدرية، إذ يذكرها كفرقة مستقلة عن المعتزلة1.
7- أما الخوارزمي فإنه يعدد الفرق الرئيسية فتبلغ عنده سبعا هي:
1- المعتزلة "وهي عنده تنقسم إلى ست فرق".
2- والخوارج "وتنقسم عنده إلى أربع عشرة فرقة".
3- وأصحاب الحديث "وتنقسم عنده إلى أربع فرق".
4- والمجبرة "وهي عنده خمس فرق".
5- والمشبهة "وهي عنده ثلاث عشرة فرقة".
6- والمرجئة "وهي عنده ست فرق".
7- والشيعة "وهي عنده خمس فرق تتفرع إلى أصناف. فالزيدية: 5، والكيسانية: 4، والعباسية: 2، والغالية: 9، والإمامية: 4".
فإذا عددنا "الأصناف" فرقا بلغ مجموعها جميعا عند الخوارزمي اثنتين وسبعين فرقة، وإذا لم ندخلها في عداد الفرق وقفت عند ثلاث وخمسين فرقة فقط. وفي كلا الحالين فهي ليست ثلاثا وسبعين، كما يقول الحديث2.
وهذا الاضطراب الذي يتجلى لدى مؤرخي الفرق في تعداد هذه الفرق، ينبع من الافتقار إلى منهج يحدد الميعار الذي على أساسه يتم الحكم بأن هذه الجماعة "فرقة"، أو أن الذي بينهم وبين أصولهم هو مجرد اختلاف
__________
1 "خطط المقريزي" جـ3 ص283-294.
2 "مفاتيح العلوم" ص18-22. طبعة القاهرة سنة 1342هـ.(1/252)
في فروع الأصول العامة التي اتفقت عليها الفرقة الأم.
فالمعتزلة مثلا الذين يصل أغلب كتاب الفرق والمقالات بعدد فرقهم إلى العشرين، هم فرقة واحدة، تجمعها أصول خمسة، لا يعد من أهلها إلا من اعتقد بهذه الأصول الخمسة، وفي إطار هذه الفرقة اختلافات واجتهادات حول عديد من القضايا الفرعية، مثل: الطبع. والتولد. والطفرة. والجزء الذي لا يتجزأ. والموقف من: أيها أفضل، علي أم أبو بكر؟ أما العدل، والتوحيد، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنها الأصول الخمسة التي لا يصبح معتزليا إلا من اعتقد بها.
وهذا المثال يزيد من وضوح الاضطراب الذي وقع فيه مؤرخو المقالات عندما شرعوا في تعدادها. ولقد ساعد على هذا الاضطراب -إلى جانب غياب المنهج المحدد للمعيار الدقيق في التقسيم- الالتزام "بالحديث" الذي يجعل هذه الفرق ثلاثا وسبعين فرقة. فبدءوا حديثهم بهذا العدد، فلما استقصوا الواقع وقفوا دونه أو تجاوزوه!.
ونحن لا نستبعد أن يكون الرسول عليه الصلاة والسلام قد تنبأ بافتراق الأمة واختلافها، إذ إن اتحاد أمة من الأمم وأهل دين من الأديان كفرقة واحدة هو أمر مستحيل بحكم التجربة الإنسانية السابقة وما تطرحه الحياة المتجددة من قضايا ومعضلات، وما فيها من مصالح تستلزم بالقطع الاجتهاد والاختلاف والاتفاق. فهو نوع من النبوءة الفكرية والسياسية، تخرج عن الغيب وأنبائه، بل وتخرج عن أن تكون خاصية من خواص الرسل والأنبياء. أما أن يكون الرسول عليه الصلاة والسلام قد حدد عدد الفرق بثلاث وسبعين فهو ما لا نميل إلى تصديقه، لما قدمنا من أسباب.
ولقد أدرك الشهرستاني ذلك الاضطراب الذي وقع فيه مؤرخو(1/253)
الفرق، وافتقار البحث إلى "قانون" يميز الفرق ويجعل تعدادها أمرا دقيقا, وعبر عن هذا الإدراك في عبارات واضحة نوردها كاملة لأهميتها. قال:
"اعلم أن لأصحاب المقالات طرقا في تعديد الفرق الإسلامية، لا على قانون مستند إلى نص، ولا على قاعدة مخبرة عن الوجود، فما وجدت مصنفين متفقين على منهاج واحد في تعديد الفرق. ومن المعلوم الذي لا مراء فيه أن ليس كل من تميز عن غيره بمقالة ما في مسألة ما عد صاحب مقالة، وإلا فتكاد تخرج المقالات عن حد الحصر والعد، ويكون من انفرد بمسألة في أحكام الجواهر مثلا معدودا في عداد أصحاب المقالات. فلا بد إذا من ضابط في مسائل هي أصول وقواعد يكون الاختلاف فيها اختلافا يعتبر مقالة، ويعد صاحبه صاحب مقالة.
وما وجدت لأحد من أرباب المقالات عناية بتقرير هذا الضابط، إلا أنهم استرسلوا في إيراد مذاهب الأمة كيف اتفق، وعلى الوجه الذي وجد، لا على قانون مستقر وأصل مستمر، فاجتهدت على ما تيسر من التقدير، وتقدر من التيسير، حتى حصرتها في أربع قواعد، هي الأصول الكبار:
القاعدة الأولى:
الصفات والتوحيد فيها. وهي تشتمل على مسائل الصفات الأزلية، إثباتا عند جماعة ونفيا عند جماعة، وبيان صفات الذات وصفات الفعل، وما يجب لله تعالى وما يجوز عليه وما يستحيل. وفيها الخلاف بين الأشعرية، والكرامية، والمجسمة، والمعتزلة.
القاعدة الثانية:
القدر والعدل وهي تشتمل على مسائل القضاء، والقدر، والجبر، والكسب في إرادة الخير والشر، والمقدور والمعلوم، إثباتا عند جماعة ونفيا عند جماعة، وفيها الخلاف بين القدرية، والنجارية، والجبرية، والأشعرية، والكرامية.(1/254)
القاعدة الثالثة:
الوعد والوعيد، والأسماء والأحكام. وهي تشتمل على مسائل الإيمان، والتوبة، والوعيد، والإرجاء، والتكفير، والتضليل، إثباتا على وجه عند جماعة، ونفيا عند جماعة، وفيها الخلاف بين المرجئة، والوعيدية، والمعتزلة، والأشعرية، والكرامية.
القاعدة الرابعة:
السمع والعقل، والرسالة والإمامة -وهي تشتمل على مسائل التحسين، والتقبيح، والصلاح والأصلح، واللطف، والعصمة في النبوة، وشرائط الإمامة، نصا عند جماعة، وإجماعا عند جماعة، وكيفية انتقالها على مذهب من قال بالنص، وكيفية إثباتها على مذهب من قال بالإجماع، والخلاف فيها بين الشيعة، والخوارج، والمعتزلة، والكرامية، والأشعرية.
فإذا وجدنا انفراد واحد من أئمة الأمة بمقالة من هذه القواعد عددنا مقالته مذهبا وجماعته فرقة، وإن وجدنا واحدا انفرد بمسألة فلا نجعل مقالته مذهبا وجماعته فرقة، وإن وجدنا واحدا انفرد بمسألة فلا نجعل مقالته مذهبا وجماعته فرقة، بل نجعله مندرجا تحت واحد ممن وافق سواها مقالته، ورددنا باقي مقالته إلى الفروع التي لا تعد مذهبا مفردا، فلا تذهب المقالات إلى غير نهاية.
وإذا تعينت المسائل، التي هي قواعد الخلاف، تبينت أقسام الفرق، وانحصرت كبارها في أربع، بعد أن تداخل بعضها في بعض.
كبار الفرق الإسلامية أربع: القدرية، الصفاتية، الخوارج، الشيعة"1.
هذه عبارات الشهرستاني، ونحن نتفق تماما مع المنهج الذي وضعه
__________
1 "الملل والنحل" جـ1 ص9-13. مطبوع على هامش "الفصل في الملل والأهواء والنحل" لابن حزم. طبعة القاهرة، الأولى سنة 1321هـ.(1/255)
لتحديد الفرق بين "المقالة" التي يؤدي الانفراد بها إلى قيام الفرقة والمذهب، وبين "المسألة" التي تندرج في فرقة أعم وأشمل منها. فقط لنا على نتائجه ملاحظتان:
الأولى: أنه انتهى إلى أن كبار الفرق هي: القدرية, "المعتزلة", والصفاتية, أي: أصحاب الحديث، أو "النوابت" كما يسميهم القاضي عبد الجبار, والخوارج، والشيعة. وهو بذلك يغفل مكان "المرجئة". إذ المعلوم أن اندراج المرجئة تحت أهل الحديث، وهو ما يبدو أن الشهرستاني قد عناه وقصد إليه هو أمر غير دقيق، ذلك أن الارجاء قد بدأ كموقف سياسي من الصراع الذي دار حول السلطة على عهد الأمويين، وتكونت لذلك فرقة، بل لقد ظهر في الإرجاء أكثر من مذهب وأكثر من تيار، وإذا كانت الفرق الإسلامية قد ظهرت لأسباب سياسية، وليس لجدل ديني معزول عن قضايا المجتمع، فإن إغفال "المرجئة" ونحن بصدد تعداد الفرق الكبرى لا يجوز. ومن هنا فنحن نرى أن تعداد القاضي عبد الجبار لهذه الفرق عندما قال: "ومعلوم أن فرق الأمة، في الجملة: المعتزلة، والخوارج، والمرجئة، والشيعة، والنوابت"1. هو التعداد الأدق، وهو مبني على ذات المنهج الذي حدده الشهرستاني في عمق وابتكار.
والثانية: أن الشهرستاني، بعد أن حدد هذا المنهج وطبقه على واقع الفرق الإسلامية، عاد ليخضع المنهج والواقع لذلك الحديث الذي رووه عن أن عدد فرق الأمة ثلاثا وسبعين فرقة، فقال: إن هذه الفرق الكبار "يتركب بعضها مع بعض، ويتشعب عن كل فرقة أصناف فتصل إلى ثلاث وسبعين فرقة"2. وهو موقف يعكس التناقض بين "الدراية"
__________
1 "فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة" ص152.
2 "الملل والنحل" ص13.(1/256)
و"الرواية"، ومحاولات "التوفيق" بين "الواقع" وبين "النص" حتى لو أبى الواقع ذلك التوفيق، وحتى لو كان هذا النص حديثا من أحاديث الآحاد.
ولقد نشأ عن موقف مؤرخي الفرق والمقالات أن أصبح القارئ والباحث في تراثنا العربي الإسلامي يطالع العديد من أسماء "الفرق" والتيارات المذهبية والمدارس الفكرية، وفي كثير من الأحيان لا تسعفه المصادر بما يربط هذه "الفرق" الفرعية بأصولها، أو بما يميزها فكريا عن غيرها، الأمر الذي استوجب أن نورد هنا ثبتا يكاد يحصر أسماء "الفرق" وما تفرع عنها، وفق ما اصطلحت عليه وتداولته مصادر فكر العرب والمسلمين، وأن نرتب أسماءها هذه ترتيبا أبجديا لتزيد الفائدة وتسهل الاستفادة على الباحثين والقراء.
"أ"
1- الأباضية: من فرق الخوارج. ينسبون إلى عبد الله بن أباض، ومقالاتهم معتدلة إذا ما قيسوا بالخوارج والأزارقة أو الخوارج النجدات.
2- الأبو مسلمية: نسبة إلى أبي مسلم الخراساني، وهم يقولون إنه لا زال حيا لم يمت!.
3- الاثنا عشرية: هم جمهور الشيعة الإمامية، وقفوا بأئمتهم عند الثاني عشر، فهو الغائب المنتظر.. "انظر: القطعية".
4- الأحمدية: من الشيعة الإمامية. ينسبون إلى أحمد بن موسى بن جعفر.
5- الأخنسية: من الخوارج العجاردة، وهم انشقاق عن الخوارج(1/257)
الثعالبة، سموا باسم زعيمهم "الأخنس"، يحكمون "بالتوقف" عن جميع أهل دار "التقية"، سوى من عرفوا إيمانه أو كفره. ويحرمون الاغتيال والقتل سرا، والبدء بالقتال دون دعوة.
6- إخوان الصفا: جماعة سرية "من الشيعة الإسماعيلية الباطنية"، قامت بالبصرة في القرن الرابع الهجري. مزجت الفكر الإسلامي بالفلسفة اليونانية.
7- الأزارقة: من الخوارج أتباع أبي راشد نافع بن الأزرق بن قيس الحنفي. وهم أول انشقاق في فرقة الخوارج يتبرءون من القعدة، ويكفرون من لم يهاجر إلى مواطنهم ومعسكراتهم، ويرون كل كبيرة كفرا، ودار مخالفيهم دار كفر.
8- الإسحاقية: من غلاة الشيعة الكيسانية، يشركون علي بن أبي طالب في النبوة مع الرسول، عليه الصلاة والسلام، ويقولون إن الله قد جل في علي.
9- الإسحاقية: من المرجئة، فرع من الكرامية. وهم مشبهة مجسمة.
10- الإسكافية: من المعتزلة، ينسبون إلى أبي جعفر الإسكافي. قالوا: إن الله لا يقدر على ظلم العقلاء.
11- الإسماعيلية: من الشيعة الإمامية. قالوا: إن الإمام بعد جعفر الصادق هو ابنه إسماعيل، وليس موسى الكاظم، كما قالت الاثنا عشرية. وهم يمثلون التيار الثوري في الإمامية، ويعرفون أيضا بالباطنية، لقولهم إن لكل ظاهر باطنا. وفي تعاليمهم يمتزج الإسلام بالفلسفة اليونانية.
12- الأسوارية: من المعتزلة، ينسبون إلى الأسواري، وهم يتميزون عن النظامية بقولهم إن الله لا يقدر على ما أخبر بعدمه أو علم عدمه،(1/258)
والإنسان قادر عليه.
13- الأشعرية: نسبة إلى أبي موسى الأشعري "260-324هـ 874-936م". وهم يمثلون الموقف الوسطي بين المعتزلة وبين الجبرية الخلص "الجهمية". ففي فعل الإنسان قالوا: إن خالقه هو الله، وللإنسان فيه الكسب، أي: كونه محلا للفعل، فهو فاعل له على سيبل المجاز. وفي التأويل يجزون بعضه، فلا يمنعونه كما هو حال أصحاب الحديث، ولا يعتمدونه سبيلا لنصرة برهان العقل على ما يعارضه من ظاهر النقل، كما هو حال العقلانيين. وفي صفات الله يثبتون له الصفات, ولكن على نحو يجعلهم وسطا بين تنزيه المعتزلة وتشبيه المجسدة والمشبهة.
14- أصحاب أبي ثوبان: من المرجئة. يقولون إن الإيمان هو: الإقرار بالله وبرسله.
15- أصحاب أبي شمر ويونس: من المرجئة: قالوا: الإيمان اجتماع المعرفة بالله، والخضوع له، والمحبة له بالقلب، والإقرار به أنه واحد ليس كمثله شيء، وذلك إذا لم تقم حجة الأنبياء، أما إذا قامت حجتهم فإن الإيمان يكون هو الإقرار بهم والتصديق لهم، حتى لو لم تتم المعرفة بما جاء من عند الله. ويقال إن أبا شمر جعل العدل، أي: القدر والاختيار، وجعل التوحيد، أي: التنزيه ونفي التشبيه، من الإيمان.
16- أصحاب أبي صالح: من الخوارج الصفرية. ينسبون إلى صالح بن مسرح.
17- أصحاب التفسير: من الخوارج البيهسية. ينسبون إلى الحكم بن مروان، من أهل الكوفة، وهم ينكرون الشهادة في الحدود وغيرها إلا إذا فسرت كيف هي.
18- أصحاب حارث الأباضي: من الخوارج الأباضية. قالوا بالقدر،(1/259)
على رأي المعتزلة، وقالوا إن الاستطاعة قبل الفعل.
19- أصحاب الحديث وأهل السنة: وهم جمهور الأمة وعامة أهلها. قالوا: إن أفعال العباد مخلوقة لله. والخير والشر بقضاء الله وقدره -فهم جبرية متوسطون- ويمتنعون عن الخوض في صراع الصحابة على السلطة، ويرتبون الخلفاء في الفضل ترتيبهم في تولي الخلافة. ويرون البيعة لمن تولي الإمامة، برا كان أو فاجرا، وينكرون الثورة والخروج كأسلوب وسبيل لتغيير الظلم والجور. ويقولون إن الأرزاق من الله، يرزقها عباده، حلالا كانت أو حراما "على عكس المعتزلة الذين يخصصون الرزق بما كان حلالا دون ما كان حراما".
20- أصحاب الرأي: من المرجئة، وهم أصحاب أبي حنيفة النعمان بن ثابت "انظر: الحنفية".
21- أصحاب محمد بن شنيب: من المرجئة، قالوا: إن الإيمان هو: الإقرار بالله، والمعرفة بأنه واحد ليس كمثله شيء، والإقرار والمعرفة بالأنبياء والرسل وبجميع ما جاءوا به من عند الله، مما لا خلاف فيه.
22- الأطرافية: من القدرية. وهم أتباع غالب بن شاذل، السجستاني. قالوا: إن أهل الأطراف التاركون لما لم يعرفوه من الشريعة معذورون.
23- الأفطحية: من الشيعة الإمامية. قالوا بانتقال الإمامة بعد جعفر الصادق إلى ابنه عبد الله الأفطح، وهو شقيق إسماعيل.
24- الإمامية: هم الشيعة الذين قالوا بالنص والوصية على الأئمة من آل البيت، وبالذات أبناء علي من فاطمة.
25- أهل العدل والتوحيد: تيار عريض في الفكر الإسلامي، يشمل(1/260)
كل من أثبت للإنسان قدرة وإرادة واستطاعة واختيارا، وكل من نزه الذات الإلهية عن مشابهة الحوادث، ونفي الصفات الزائدة على الذات. وفي هذا التيار يدخل: الحسينية -أتباع الحسن البصري- والمعتزلة، وبعض الخوارج، وبعض الشيعة.
"ب"
26- الباقرية: من الشيعة. أصحاب أبي جعفر محمد بن علي الباقر وابنه جعفر الصادق، الذين توقفوا عند إمامتهما أو إمامة أحدهما. انظر: "الجعفرية" و"الواقفية".
27- البترية: من الشيعة الزيدية. وهم أصحاب الحسن بن صالح بن حي "100-168هـ".. وأصحاب كثير النواء -أو النوبي، أو الثومي- واسمه: المغيرة بن سعد، وهو الذي كان يلقب بالأبتر. وهم يفضلون علي بن أبي طالب، ويصححون بيعة أبي بكر وعمر؛ لأن عليا ترك لهما الأمر، ويتوقفون في الحكم على عثمان وعلى قتلته. وينكرون الرجعة. ويعترفون بإمامة علي عندما بويع بها.
28- البدعية: من الخوارج، وهم أتباع يحيى بن أصرم. وسموا بذلك؛ لأنهم أبدعوا قطع الشهادة على أنفسهم أنهم من أهل الجنة.
29- البرغوثية: هم الذين قالوا: إن كلام الله إذا قرئ فهو عرض، وإذا كتب فهو جسم.
30- البزيغية: من غلاة الشيعة. وهم فرع من الخطابية، قالوا: إن الإمام بعد أبي الخطاب هو بزيغ بن موسى -أو ابن يونس- وهم يقولون بشيوع الوحي، وينكرون اختصاص الأنبياء به.
31- البشرية: من المعتزلة. أصحاب بشر بن المعتمر، وهم الذين(1/261)
أحدثوا القول بالتولد.
32- البطيخية: من المجبرة. ينسبون إلى إسماعيل البطيخي.
33- البكرية: الذين قالوا إن خلافة أبي بكر هي بالنص عليه من الرسول، لا بالاختيار المطلق من أصحابه.
34- البكرية: أتباع أبي بكر بن زياد الباهلي -بكر ابن أخت عبد الواحد بن زيد- قالوا: إن كبائر أهل القبلة نفاق، ومرتكبوها عبدة للشيطان، مكذبون بالله وجاحدون له، خالدون مخلدون في النار، إذا ماتوا مصرين عليها، غير تائبين منها، ومع ذلك فهم مؤمنون مسلمون.
35- البهشمية: من المعتزلة ينتسبون إلى أبي هاشم الجبائي.
36- البيانية: من غلاة الشيعة، أتباع بيان بن سمعان التميمي النهدي اليمني، الذي ظهر بالعراق أوائل القرن الثاني الهجري. يقولون بحلول جزء إلهي في علي بن أبي طالب، انتقل منه إلى ابنه محمد بن الحنفية، فابنه أبي هاشم، فبيان بن سمعان. ويقال إن بيان زاد في الغلو فادعى النبوة!. وهم مشبهة مجسدة يقولون إن الله على صورة إنسان، وإنه يهلك كله إلا وجهه!. ولقد انتهت حياة بيان بقتله وصلبه على يد الوالي الأموي على العراق خالد بن عبد الله القسري.
37- البيهسية: من الخوارج، وهم انشقاق على الخوارج الميمونية. وإمامهم: أبو بيهس هيسم بن جابر، من بني سعد بن ضبعة بن قيس، قالوا: لا إسلام بدون معرفة الله ورسوله وما جاء به جملة، والولاية لأولياء الله، والبراءة من أعدائه. ولقد انتهى أبو بيهس بأن قطع والي المدينة، عثمان بن حيان، يديه ورجليه، بأمر الوليد الأموي.(1/262)
"ت"
38- التومنية "المعاذية": من المرجئة. ينسبون إلى أبي معاذ التومني. قالوا: إن الإيمان هو: ما عصم عن الكفر، فهو اسم لمجموع الخصال التي إذا تركت كان تاركها كافرا "انظر: المعاذية".
"ث"
39- الثعالبة: من الخوارج العجاردة. أتباع ثعلبة. قالوا: ليس للأطفال عامة ولاية ولا عداوة ولا براءة، حتى يبلغوا فيدعون إلى الإسلام، فيقرون أو ينكرون.
40- الثمامية: من المعتزلة. أصحاب ثمامة بن أشرس. قالوا: اليهود والنصارى والزنادقة يصيرون في الآخرة ترابا ولا يدخلون جنة ولا نارا.
41- الثوبانية: من المرجئة. أصحاب أبي ثوبان المرجئي. قالوا: إن الإيمان هو: المعرفة والإقرار بالله وبرسله وبكل ما يجوز في العقل أن نفعله، وما جاز في العقل تركه فليس من الإيمان، وأن العمل كله مؤخر عن الإيمان.
"ج"
42- الجاحظية: من المعتزلة، ينسبون إلى أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، قالوا: يمتنع انعدام الجوهر، والخير والشر من فعل العبد.
43- الجارودية: من الشيعة الزيدية، ينسبون إلى أبي الجارود زياد بن أبي زياد. وهم يقولون: إن النص على علي بن أبي طالب بالإمامة كان بالوصف، لا بالاسم والتعيين، وأن الإمام بعده الحسن فالحسين، وأن الإمامة شورى بعدهم في ولد الحسن والحسين.(1/263)
44- الجازمية: من الشيعة الغلاة. ينسبون إلى جازم بن عاصم.
45- الجبائية: من المعتزلة، ينسبون إلى أبي علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي.
46- الجبرية: هم عدة فرق إسلامية، يجمعها: نفي أن يكون الإنسان خالق أفعاله. ويميز بينها التفاوت في الموقف الجبري. فبعضها يرى الإنسان مجبرا جبرا مطلقا، فهو كالريشة المعلقة في الهواء، تميلها ريح القدرة الإلهية حيث مالت. وبعضها ينسب للإنسان "كسبا" هو عبارة عن الرغبة في الفعل والقصد إليه، أما خالق الفعل ذاته فهو الله. وبعضها يرى أن الإنسان "فاعل" لكن على سبيل المجاز، والفاعل الحقيقي هو الله.
47- الجحدرية: من المرجئة، ينسبون إلى جحدر بن محمد التميمي.
48- الجعفرية: من المعتزلة، ينسبون إلى جعفر بن مبشر، وجعفر بن حرب.
49- الجناحية: من غلاة الشيعة. ينسبون إلى عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب "ذي الجناحين" أو "الطيار"، وهم يقولون بتناسخ الأرواح، وإن روح الله حلت بإمامهم عبد الله بن معاوية، مرورا بآدم وبنيه. وأن العلم ينبت ويظهر بقلب إمامهم ظهورا، ويقولون بأبدية الدنيا، وينكرون زوالها، ومن ثم ينكرون القيامة، ولا يحرمون الميتة ولا الخمر. ويقال إن غلوهم بلغ حد عبادة عبد الله بن معاوية، لما فيه من روح الله، والقول بأنه حي لم يمت، وهو بجبل أصبهان، وسيعود إليهم. ولقد ثارت الجناحية على عهد مروان بن محمد، آخر خلفاء بني أمية في الكوفة، وانتقلت ثورتهم إلى شرقي دجلة فاستولوا على حلوان وما حولها، وهمذان، والري، وأصبهان، وظلوا كذلك حتى قاتلهم أبو مسلم الخراساني فهزمهم وقتل قائدهم: "انظر الطيارية".(1/264)
50- الجهمية: مرجئة، وجبرية خلص. ينسبون إلى الجهم بن صفوان. وهم القائلون بالجبر الخالص، والإيمان عندهم معرفة قلبية لا علاقة لها، زيادة ولا نقصا، بالعمل الذي تأتيه الجوارح.
51- الجواليقية: من المشبهة. ينسبون إلى هشام بن عمرو الجواليقي.
"ح"
52- الحائطية: من المعتزلة، ينسبون إلى أحمد بن حائط.
53- الحارثية: من الخوارج الأباضية، ينسبون إلى الحارث الأباضي. قالوا بالقدر، مثل المعتزلة، وبأن الاستطاعة قبل الفعل، وأثبتوا طاعة لا يراد بها الله.
54- الحازمية: جبرية. قالوا إن الله هو خالق أفعال العباد. وتوقفوا في أمر علي بن أبي طالب، ولكنهم تبرءوا من أعدائه.
55- الحازمية: من الخوارج، ينسبون إلى شعيب بن حازم.
56- الحبية: من المشبهة. سموا بذلك لقولهم إنهم يعبدون الله حبا له، لا خوفا ولا طمعا.
57- الحربية: من الشيعة الكيسانية، ينسبون إلى عبد الله بن عمرو بن حرب الكندي. وهم انشقاق عن البيانية، إذ زعموا أن الإمامة بعد أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية هي لعبد الله بن عمرو، وليست لبيان بن سمعان.
58- الحسنية: من أهل العدل والتوحيد، ينسبون إلى الحسن البصري.
59- الحسينية: مرجئة. ينسبون إلى أبي الحسين. ويقولون إن الدار(1/265)
دار حرب.
60- الحسينية: من الشيعة. يقولون إن الإمامة بعد أبي منصور هي لابنه الحسين بن أبي منصور، فلقد أوصى لها بها.
61- الحشوية: هم الذين قصرت بهم مداركهم عن مراتب فكر التنزيه والتجريد، بالنسبة للذات الإلهية، وذلك لتمسكهم بالظواهر، ومن ثم كانوا مشبهة مجسمة والمعتزلة يطلقون هذه التسمية -الحشوية, وأهل الحشو- على خصوم فكرهم العقلاني.
62- الحفصية: من الخوارج الأباضية، ينسبون إلى حفص بن المقدام، وهم يميزون بين الشرك -وهو الجهل بالله وحده- وبين الكفر -وهو إنكار ما سوى الله، من رسل ومعاد وطاعات- وبين الإيمان. ويتأولون في عثمان ما تأولت الشيعة في أبي بكر وعمر.
63- الحلولية: من غلاة الشيعة، قالوا إن الله هو روح القدس، وإنها حلت في النبي، ثم في أئمتهم: علي، فالحسن، فالحسين، فعلي بن الحسن، فمحمد بن علي، فجعفر بن محمد بن علي، فموسى بن جعفر، فعلي بن موسى بن جعفر، فمحمد بن علي بن موسى، فعلي بن محمد بن علي بن موسى، فالحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى، فمحمد بن الحسن بن علي بن محمد بن علي. ولذلك قالوا بألهوية هؤلاء الأئمة.
64- الحمزية: من الخوارج العجاردة، وينسبون إلى حمزة. قالوا بالقدر، وبقتال السلطان ومن أعانه خاصة.
65- الحنبلية: من أصحاب الحديث. ينسبون إلى أحمد بن حنبل.
66- الحنفية: من المرجئة، ينسبون إلى أبي حنيفة النعمان بن ثابت. قالوا إن الإيمان هو المعرفة بالله والإقرار به، والمعرفة بالرسول، والإقرار بما جاء عن الله جملة، لا تفسيرا.(1/266)
"خ"
67- الخازمية: من الخوارج العجاردة. يثبتون القدر.
68- الخشبية "أو الصرخابية": من الشيعة الزيدية، ينسبون إلى صرخاب الطبري. وسموا بالخشبية لخروجهم على السلطان مسلحين بالخشب!. "انظر الصرخابية".
69- الخطابية: من غلاة الشيعة. أتباع أبي الخطاب محمد بن أبي زينب، مولى بني أسد، وهم مشبهة، ادعوا نبوة الأئمة، وأنه لا بد من رسول صامت مع الرسول الناطق، وأن محمدا هو الناطق وعلي هو الصامت، ولقد ثاروا بالكوفة، وقتلهم والي العباسيين عيسى بن موسى سنة 143هـ.
70- الخلالية: من الشيعة العباسية. ينسبون إلى أبي سلمة الخلال.
71- الخلفية: من الشيعة الزيدية. ينسبون إلى خلف بن عبد الصمد.
72- الخلفية: من الخوارج العجاردة. ينسبون إلى خلف. وهم يثبتون الصفات، ويخالفون الخوارج الميمونية في القدر.
73- الخياطية: من المعتزلة. ينسبون إلى أبي الحسين بن أبي عمرو الخياط. وهم يسمون المعدوم شيئا.
"د"
74- الدروز: من الشيعة الإسماعيلية الفاطمية، بدأت دعوتهم على يد درزي، وحمزة بن علي بن أحمد، زمن الحاكم بأمر الله ثم انتشرت في سوريا ولبنان.(1/267)
75- الدكينية: من الشيعة الزيدية. ينسبون إلى الفضل بن دكين.
"ر"
76- الراجعة: من الخوارج. وهم الذين رجعوا عن مقالة صالح بن مسرح.
77- الراوندية: الشيعة العباسية. وهم الذين يجعلون الإمامة -نصا أو وراثة- في بني العباس: العباس بن عبد المطلب، فعبد الله بن العباس، فعلي بن عبد الله، حتى المنصور العباسي، وهم ينسبون إلى القاسم بن راوند.
78- الرزامية: من الشيعة العباسية. وهم الذين تبعوا "رزام"، فانشقوا عن "الأبو مسلمية"، وقالوا إن أبا مسلم الخراساني قد قتل.
79- الرشيدية: من الخوارج العجاردة. وهم انشقاق على الثعالبة، ينسبون إلى "رشيد". وانفردوا بآراء في الزكاة.
"ز"
80- الزرارية: من المشبهة. ينسبون إلى زرارة بن أعين بن أبي زرارة.
82- الزرينية: من المرجئة. فرع من الكرامية. وهم مشبهة مجسمة.
83- الزعفرانية: قالوا: كلام الله غيره، وكل ما هو غيره فهو مخلوق، ومن قال إن كلام الله غير مخلوق فهو كافر.
84- الزيادية: من الخوارج العجاردة. ينسبون إلى زياد بن عبد(1/268)
الرحمن. وهم الذين ثبتوا على قول الثعلبية.
85- الزيدية: من الشيعة. ينسبون إلى زيد بن علي. وهم في الأصول على مذهب المعتزلة، وخلافهم معهم في نقاط محددة من باب الإمامة. وهم عدة فرق.
"س"
86- السبئية: من غلاة الشيعة. ينسبون إلى عبد الله بن سبأ. وهم ينكرون موت علي بن أبي طالب، ويقولون بالرجعة، أي: رجعة الأموات إلى الدنيا.
87- السليمانية: من الشيعة الزيدية. ينسبون إلى سليمان بن جرير الزيدي، يقولون إن الإمامة شورى، وسبيلها العقد، ويصححون إمامة أبي بكر وعمر؛ لأن الأمة تأولت فبايعت لهما، وعدلت عن علي بن أبي طالب.
88- السميطية: نسبة إلى يحيى بن أبي سميط.
89- السنوسية: حركة صوفية، ذات طابع عربي، ناهضت الزحف الاستعماري على المغرب العربي، أسسها بليبيا محمد بن علي السنوسي "1787-1859م".
"ش"
90- الشافعية: من أصحاب الحديث. ينسبون إلى محمد بن إدريس الشافعي.
91- الشبيبية: من المرجئة ينسبون إلى محمد بن شبيب.
92- الشبيبية: من الخوارج البيهسية. ينسبون إلى أبي الصحارى شبيب بن يزيد النجراني، الذي حارب الحجاج بن يوسف، زمن عبد الملك(1/269)
بن مروان. وهم يجوزون إمامة المرأة. ويقولون بالإرجاء.
93- الشريعية: من غلاة الشيعة. ينسبون إلى "الشريعي"، ويقولون بحلول الله في خمسة: النبي، وعلي، والحسن، والحسين، وفاطمة، فهم عندهم آلهة. وقالوا إن أضداد هؤلاء الخمسة هم: أبو بكر، وعمر, وعثمان, ومعاوية، وعمرو بن العاص.
94- الشعيبية: من الخوارج العجاردة، ينسبون إلى "شعيب". ينكرون القدر، وهم انشقاق على الميمونية.
95- الشمراخية: من الخوارج. ينسبون إلى عبد الله بن شمراخ.
96- الشمرية: من المرجئة. ينسبون إلى أبي شمر سالم بن شمر.
97- الشميطية: من الشيعة الإمامية. ينسبون إلى يحيى بن شميط "أو ابن أشمط"! قالوا إن الإمام بعد جعفر هو ابنه محمد.
98- الشيبانية: من الجبرية. ينسبون إلى شيبان بن سلمة. قالوا بالجبر ونفي القدر.
99- الشيبانية: من الخوارج العجاردة. وهم انشقاق على الثعالبة، ينسبون إلى "شيبان"، الذي خرج أيام أبي مسلم الخراساني، وتعاون معه ضد بني أمية.
"ص"
100- الصالحية: من المرجئة. ينسبون إلى أبي الحسين صالح بن عمرو الصالحي. قالوا: إن الإيمان هو المعرفة بالله فقط -وهذه المعرفة هي الحب له والخضوع له- والكفر هو الجهل به فقط. وهم يجمعون بين القدر والإرجاء، ويجوزون قيام العلم والقدرة والسمع والبصر مع الميت،(1/270)
ويجوزون خلو الجوهر عن الأعراض كلها.
101- الصباحية: من المجبرة. ينسبون إلى أبي الصباح بن معمر.
102- الصرخابية: من الشيعة الزيدية. ينسبون إلى صرخاب الطبري. ويسمون الخشبية "انظر الخشبية".
103- الصفرية: من الخوارج. ينسبون إلى زياد بن الأصفر. وهم انشقاق على النجدية. وعنهم تفرعت فرق الخوارج غير الأزارقة والأباضية والنجدات. وهم يجوزون التقية في القول دون العمل، ولا يكفرون القعدة عن القتال إذا كانوا موافقين في الدين والاعتقاد.
104- الصلتية: من الخوارج العجاردة، ينسبون إلى عثمان بن أبي الصلت. وهم يبرءون من الأطفال حتى يدركوا فيدعون إلى الإسلام فيقبلونه.
"ض"
105- الضحاكية: من الخوارج. ينسبون إلى الضحاك بن قيس الشاري. انشقوا عن متوقفة الأباضية، الذين توقفوا في إيلام أطفال المشركين بالآخرة.
106- الضرارية: ينسبون إلى ضرار بن عمرو، وهو من المعتزلة، انفرد عنهم بآراء منها: أن الفعل الإنساني شركة بين الله وبين الإنسان، فالله خلقه، والإنسان اكتسبه، فالله فاعل لأفعال العباد في الحقيقة، وهم فاعون لها في الحقيقة!.
"ط"
107- الطيارية: من الشيعة الغلاة. يقولون بالتناسخ. وينسبون إلى(1/271)
جعفر الطيار "انظر: الجناحية".
"ظ"
108- الظاهرية: ينسبون إلى أبي سليمان داود بن علي الأصبهاني "270هـ 883م"، وهم يقفون عند ظواهر النصوص، وينكرون التأويل، ويرفضون الرأي والقياس.
"ع"
العابدية: من المرجئة. فرع من الكرامية. وهم مشبهة مجسمة.
109- العاذرية: هم الذين عذروا الناس بالجهالة في الفروع.
110- العبيدية: من المرجئة. ينسبون إلى عبيد المكبت. قالوا: إن ما دون الشرك مغفور لا محالة، وهم مشبهة، يقولون: إن الله على صورة الإنسان؛ لأنه -كما قال- قد خلق آدم على صورته.
111- العبيدية: الفاطمية، من الشيعة الإسماعيلية، سموا بذلك نسبة إلى أول خلفائهم أبي عبيد الله المهدي.
112- العجاردة: من الخوارج ينسبون إلى عبد الكريم بن عجرد.
113- العطوية: من الخوارج. ينسبون إلى عطية بن الأسود الحنفي. وهم انشقاق على أصحاب نجدة بن عامر.
114- العقبية: من الشيعة الزيدية. ينسبون إلى عبد الله بن محمد العقبي. قالوا بصلاحية الإمامة في ولد علي، ولم يحصروها في ولد الحسن والحسين.
115- العليائية: من غلاة الشيعة. ينسبون إلى العلياء بن ذراع(1/272)
السدوسي. وهم يفضلون علي بن أبي طالب على النبي.
116- العمارية: من الشيعة الإمامية. ينسبون إلى عمار بن موسى الساباطي. يقولون إن الإمام بعد جعفر بن محمد هو ابنه عبد الله ويسمون "الفطحية".
117- العمرية: من المعتزلة. ينسبون إلى عمرو بن عبيد.
118- العميرية. من غلاة الشيعة. وهم فرع من الخطابية. ينسبون إلى عمير بن بيان العجلي، أقاموا لهم مجتمعا منعزلا بالكناسة، إحدى محلات الكوفة، ولقد قتل إمامهم على يد يزيد بن عمر بن هبيرة.
119- العوفية: من الخوارج البيهسية. يقولون بكفر الرعية لكفر إمامها، وهم فرقتان اختلفتا في البراءة من الراجعين من دار هجرتهم إلى القعود بدار مخالفيهم.
"غ"
120- الغرابية: من غلاة الشيعة. سموا بذلك لقولهم إن علي بن أبي طالب كان أشبه بالنبي من الغراب بالغراب.
121- الغسانية: من المرجئة. ينسبون إلى غسان الكوفي. قالوا إن الإيمان هو معرفة الله ورسوله والإقرار بما أنزل الله، مما جاء به الرسول في الجملة دون التفصيل. وأن الإيمان يزيد وينقص.
122- الغلاة: كل الشيعة الذين غلوا في علي بن أبي طالب. وهم فرق عدة.
123- الغمامية: من غلاة الشيعة. سموا بذلك لقولهم إن الله ينزل كل ربيع إلى الأرض في غمام، فيطوف الدنيا.(1/273)
124- الغيلانية: من المرجئة. ينسبون إلى غيلان بن خرشة الضبي. قالوا: إن الإيمان هو المعرفة الثانية بالله، أي: المعرفة التي تأتي ثمرة النظر والاستدلال، لا المعرفة الأولى، أي: الاضطرارية، والمحبة والخضوع له، والإقرار بما جاء به الرسول من عند الله.
"ف"
125- الفديكية: من الخوارج. ينسبون إلى أبي فديك. وهم انشقاق على النجدات.
126- الفضلية: من الخوارج، ينسبون إلى الفضل بن عبد الله.
127- الفطحية: من الشيعة الإمامية -انظر "العمارية".
"ق"
128- القائلون بألوهية علي: من غلاة الشيعة. ألهوا علي بن أبي طالب، وكذبوا النبي، وزعموا أنه ادعى الأمر لنفسه على حين أن عليا قد وجهه ليبين أمره ويدعو إليه.
129- القدرية: الذين يثبتون القدر. والمعتزلة يطلقون هذا الاسم على الجبرية؛ لأنهم يثبتون القدر لله دون الإنسان، والجبرية يطلقونه على المعتزلة؛ لأنهم يثبتون القدر للإنسان.
130- القرامطة: من الشيعة الإسماعيلية. وهم أبرز تياراتها الثورية، يقولون إن محمد بن إسماعيل هو الإمام بعد جعفر بن محمد، وأنه حي، وهو المهدي.
131- القضائية: من المشبهة. سموا بذلك لقولهم إن الله هو القضاء.(1/274)
132- القطعية: من الشيعة الإمامية. ويسمون الاثنى عشرية. وسموا بالقطعية؛ لأنهم قطعوا بموت موسى بن جعفر بن محمد بن علي. وهم جمهور الشيعة.. "انظر: الاثنى عشرية".
"ك"
133- الكاملية: من غلاة الشيعة. ينسبون إلى أبي كامل. وهم يكفرون الصحابة لعدوهم عن علي بن أبي طالب، ويطعنون في علي؛ لأنه ترك طلب حقه!.
134- الكرامية: من المرجئة. ينسبون إلى محمد بن كرام، السجستاني. قالوا: إن الإيمان هو: الإقرار والتصديق باللسان دون القلب، ولذلك فالمنافقون عندهم مؤمنون على الحقيقة. والكفر عندهم هو الجحود والإنكار باللسان. وهم مشبهة مجسمة. ولقد انقسموا فرقا بلغت الاثنتي عشرة، أهمها: العابدية، والنونية، والزرينية، والإسحاقية، والواحدية، والهيصمية.
135- الكربية: من الشيعة الكيسانية، ينسبون إلى أبي كرب الضرير. وهم يقولون بحياة محمد بن الحنفية في جبل رضوى، وأنه هو المهدي المنتظر.
136- الكلابية: من المشبهة. ينسبون إلى محمد بن كلاب.
137- الكيالية: من الشيعة الإمامية، ينسبون إلى أحمد بن الكيال. قالوا بإمام مستور بعد جعفر الصادق.
138- الكيسانية: الشيعة الذين ينسبون إلى كيسان، مولى علي بن أبي(1/275)
طالب، والإمامة عندهم في محمد بن الحنفية. وهم فروع تصل إلى إحدى عشرة فرقة.
"م"
139- الماتريدية: نسبة إلى أبي منصور الماتريدي "333هـ 944م". والفرق بين مقالاتهم ومقالات الأشعرية ليس جوهريا. والماتريدي حنفي المذهب الفقهي. على حين كان الأشعري شافعيا.
140- المالكية: من أصحاب الحديث، ينسبون إلى إمام المدينة: مالك بن أنس.
141- المباركية: من الشيعة الإسماعيلية. ينسبون إلى "المبارك". ويقولون إن اسماعيل بن جعفر الصادق مات في حياة أبيه، فصارت الإمامة لابنه محمد.
142- المبيضة: من المشبهة. سموا بذلك لتبييضهم ثيابهم، وذلك مخالفة للعباسيين المسودة. وقائدهم هو المقنع هاشم بن الحكم المروزي.
143- المتبرئة: من الشيعة الزيدية يتبرءون من أبي بكر وعمر. ولا ينكرون الرجعة.
144- المجسمة: هم المشبهة، الذين يتصورون الذات الإلهية جسما، عن طريق ما يثبتون لها من صفات زائدة على الذات.
145- المجهولية: من الخوارج العجاردة. وهم يثبتون القدر للإنسان، ويقولون إن من علم بعض أسماء الله لم يجهله.
146- المحمدية: من الشيعة. وهم الذين يقولون بإمامة محمد بن عبد الله بن الحسن "النفس الزكية".(1/276)
147- المختارية: من الشيعة الكيسانية، ينسبون إلى المختار بن أبي عبيد الثقفي.
148- المرجئة: هم القائلون بتأخير العمل عن الإيمان وفصله عنه، وبأنه لا تضر مع الإيمان معصية، كم لا تنفع مع الكفر طاعة.
149- المريسية: من المرجئة. ينسبون إلى بشر المريسي. قالوا إن الإيمان هو: التصديق بالقلب واللسان جميعا.
150- المزدارية: من المعتزلة. ينسبون إلى أبي موسى عيسى بن صبيح المزدار.
151- المشبهة: هم الذين يثبتون لله صفات زائدة على الذات، على نحو ينفي التنزيه والتجريد عن الذات الإلهية، الأمر الذي يؤدي إلى التشبيه والتجسيد للذات الإلهية، من نحو القول بأنه جسد، وله يد وعين.. إلخ.
152- المعاذية: من المرجئة، ينسبون إلى أبي معاذ التومني "انظر: التومنية".
153- المعبدية: من الخوارج العجاردة. ينسبون إلى "معبد"، وهم انشقاق عن الثعالبة، ولقد انفردوا بآراء في الزكاة.
154- المعتزلة: أصحاب واصل بن عطاء، القائلون بالأصول الخمسة: العدل، والتوحيد، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
155- المعطلة: مصطلح يطلقه أهل الإثبات، أي: إثبات الصفات اللذات الإلهية، على الذين ينفونها، أو يبالغون في نفيها، إذ يرى المثبتون أن في ذلك تعطيلا لفعالية الذات الإلهية وفعلها.(1/277)
156- المعلومية: من الخوارج العجاردة، يثبتون القدر للإنسان، وأن الاستطاعة مع الفعل، ويقولون إن من لم يعلم الله بجميع أسمائه فهو جاهل به.
157- المعمرية: من المعتزلة. ينسبون إلى معمر بن عباد السلمي.
158- المعمرية: من غلاة الشيعة، وهم فرع من الخطابية. قالوا إن الإمامة بعد أبي الخطاب هي لمعمر. وهم يقولون بالتناسخ، وإن الجزاء ثوابا وعقابا هو في الدنيا، أي: ما فيها من نعيم وشقاء, ويسمون كذلك "اليعمرية". انظر "اليعمرية".
159- المغيرية: من غلاة الشيعة، ينسبون إلى المغيرة بن سعيد البجلي، وهم مجسمة، ثاروا بالكوفة ضد بني أمية سنة 119هـ، فأحرقهم خالد بن عبد الله القسري. ويقال إنهم كانوا يدعون إلى إمامة محمد بن عبد الله بن الحسن "النفس الزكية".
160- المفضلية: من غلاة الشيعة الإمامية، وهم فرع من الخطابية، ينسبون إلى المفضل بن عمر، وكان صيرفيا، ويسمون أيضا "القطعية" لقطعهم بوفاة موسى بن جعفر الصادق.
161- المفوضية: من غلاة الشيعة، قالوا إن الذي خلق الدنيا هو النبي؛ لأن الله فوض إليه كل الأمور، وأقدره على الخلق، وبعضهم يجعل ذلك لعلي بن أبي طالب، ويرون أن الأئمة ينسخون الشرائع، وينزل عليهم الوحي، ويأتون المعجزات.
162- المقاتلية: من المشبهة. ينسبون إلى مقاتل بن سليمان.
163- المكرمية: من الخوارج العجاردة. ينسبون إلى أبي مكرم العجلي، وهم انشقاق على الثعالبة. يقولون بكفر تارك الصلاة، لا لتركها(1/278)
بل لجهله بالله، وكذلك قولهم في مرتكبي الكبائر.
164- الممطورة: انظر "المفضلية" و"الواقفية".
165- المنصورية: من غلاة الشيعة، ينسبون إلى أبي منصور العجلي، وهو بدوي سكن الكوفة. قيل إنه ادعى النبوة، وإنه صاحب التأويل على حين كان الرسول صاحب التنزيل. ولقد قتل أبو منصور وصلب على يد يوسف بن عمر الثقفي، ابن عم الحجاج -الذي ولي العراق، بعد اليمن سنة 120هـ- فخلفه ابنه الحسين بن أبي منصور، الذي لقي ذات المصير على يدي المهدي العباسي.
166- المهدية: طريقة صوفية، نشأت بالسودان، يقودها محمد أحمد بن عبد الله "1843-1885م" الذي، ادعى أنه "المهدي المنتظر"، وقاد أتباعه والسودان في صراع ضد الاستعمار الغربي.
167- الموسائية: "انظر: المفضلية - والواقية".
168- الموسوية: من الشيعة الإمامية. قالوا إن الإمامة بعد جعفر الصادق هي لابنه موسى، نصا عليه بالاسم.
169- الميمونية: من الخوارج العجاردة، ينسبون إلى ميمون بن عمران، من أهل بلخ. يقولون بالقدر، على مذهب المعتزلة، وإن الله يريد الخير دون الشر، وأطفال الكفار في الجنة.
"ن"
170- الناوسية: من الشيعة الإمامية ينسبون إلى عجلان بن ناوس, أبو عبد الله بن ناوس من أهل البصرة. يقولون إن جعفر بن محمد حي لم يمت، وأنه هو المهدي.(1/279)
171- النجارية: من المرجئة. ينسبون إلى الحسن بن محمد النجار. قالوا إن الإيمان هو جماع المعرفة بالله، وبرسله، وفرائضه المجتمع عليها، والخضوع له بجميع ذلك، والإقرار باللسان.
172- النجدية: من الخوارج، ينسبون إلى نجدة بن عامر الحنفي، وهم انشقاق على الأزارقة، يقولون إن من الدين ما لا تسع جهالته، وهو: معرفة الله، ورسله، وتحريم دماء المسلمين وأموالهم، وتحريم الغصب، والإقرار بما جاء من عند الله جملة. ومنه ما تسع جهالته، وهو ما عدا ذلك حتى تقوم فيه الحجة.
173- النظامية: من المعتزلة. ينسبون إلى إبراهيم بن سيار النظام.
174- النصيرية: من غلاة الشيعة, يؤلهون الأئمة، ولكنهم يختلفون في كيفية حلول اللاهوت في ناسوت الأئمة.
175- النعمانية: من الشيعة. ينسبون إلى أبي جعفر محمد بن النعمان، الذي يلقبه أهل السنة: شيطان الطاق، ويلقبه الشيعة: مؤمن الطاق.
176- النعيمية: من الشيعة الزيدية. ينسبون إلى نعيم بن اليمان. يفضلون علي بن أبي طالب، ويصححون إمامة أبي بكر وعمر، ولكنهم يقولون بخطأ الأمة لتقديمها المفضول على الأفضل.
177- النميرية: من غلاة الشيعة، ينسبون إلى زعيمهم "النميري"، وهم فرع من الشريعية. يقولون مثلها بالحلول، وبأن الله قد حل في "النميري" كما حل في النبي، وعلي، والحسن، والحسين، وفاطمة.
178- النوابت: مصطلح يطلقه المعتزلة على "أهل الحديث -أصحاب الحديث" لأنهم نبتوا أي: طرأت فرقتهم على الحياة الفكرية، التي ارتاد(1/280)
المعتزلة وأهل العدل والتوحيد صياغة معالمها ممثلة في علم الكلام.
179- النونية: من المرجئة، فرع من الكرامية.
"هـ"
180- الهاشمية: من الشيعة الكيسانية. قالوا إن الإمامة بعد محمد بن الحنفية هي لابنه أبي هاشم. وهم يقولون إن لكل ظاهر باطنا، ولكل تنزيل تأويلا، ولكل مثال في هذا العالم حقيقة.
181- الهذيلية: من المعتزلة، ينسبون إلى أبي الهذيل العلاف.
182- الهشامية: من المعتزلة، ينسبون إلى هشام بن عمرو الفوطي. قالوا: الجنة والنار لم تخلقا بعد، وقالوا لا دلالة في القرآن على حلال وحرام، والإمامة لا تنعقد مع الاختلاف عليها.
183- الهشامية: من الشيعة الإمامية. ينسبون إلى هشام بن الحكم. وهم مشبهة.
184- الهيصمية: من المرجئة، وهم فرع من الكرامية. مشبهة مجسمة.
"و"
185- الواحدية: من المرجئة، فرع من الكرامية. وهم مشبهة مجسمة.
186- الواصلية: من المعتزلة. ينسبون إلى أبي حذيفة واصل بن عطاء.
187- الواقفية: من الشيعة الإمامية، ينسبون إلى المفضل بن جعفر.(1/281)
يقولون إن موسى بن جعفر حي، وأنه هو المهدي "وتسمى: الممطورة - والمفضلية - والموسائية".
188- الوهابية: حركة تجديد ديني، على أساس سلفي، قادها في نجد محمد بن عبد الوهاب في القرن الثامن عشر الميلادي، وهي امتداد لمذهب أهل الحديث، وخاصة أحمد بن حنبل، وابن تيمية.
"ي"
189- الياروسية: من الشيعة الإمامية. تنسب إلى ابن ياروس. تفرعت عن الجعفرية. قالوا إن جعفر بن محمد حي، وأنه هو المهدي.
190- اليزيدية: من الخوارج الأباضية، ينسبون إلى يزيد بن أنيسة. يخالفون الحفصية في الإكفار والتشريك، ويتولون الخوارج قبل نافع بن الأزرق، ويبرئون ممن بعده.
191- اليزيدية: غلاة، يأتي مذهبهم مزيجا من الإسلام والديانات الفارسية القديمة، يسكنون شمال العراق أساس، والبعض يقول إنهم ينسبون إلى يزيد بن معاوية.
192- اليعفورية: من غلاة الشيعة، ينسبون إلى محمد بن يعفور.
193- اليعقوبية: من الشيعة الزيدية. ينسبون إلى "يعقوب". وهو يتولون أبا بكر وعمر. وينكرون الرجعة.
194- اليعمرية: من غلاة الشيعة، وهم فرع من الخطابية "انظر: المعمرية".
195- اليونسية": من الشيعة. ينسبون إلى يونس بن عبد الرحمن القمي. وهم مشبهة.(1/282)
196- اليونسية: من المرجئة. ينسبون إلى يونس السمري. قالوا إن الإيمان هو اجتماع المعرفة بالله، والخضوع له، وهو ترك الاستكبار عليه، والمحبة له.
هذه هي فرق الإسلام. الأصول منها والفروع، الكبرى والصغرى. ما تبلور منها لأسباب سياسية واجتماعية، وما نشأ في الجدل الذي احتدم حول الإلهيات -جمعناها، وصنفناها أبجديا، لتكون دليلا للقارئ الباحث في تراث حضارة العرب والمسلمين.(1/283)
المصادر:
ابن حزم: "الفصل في الملل والأهواء والنحل" طبعة القاهرة سنة 1321هـ.
ابن حنبل: "المسند" طبعة القاهرة سنة 1313هـ.
ابن ماجه: "السنن" تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي. طبعة القاهرة سنة 1972م.
أبو داود: "السنن" طبعة القاهرة سنة 1952م.
الأشعري: "مقالات الإسلاميين" طبعة القاهرة سنة 1969م.
البغدادي: "الفرق بين الفرق" طبعة بيروت. دار الآفاق الجديدة.
الترمذي: "السنن". تحقيق أحمد محمد شاكر. طبعة القاهرة سنة 1937م.
التهانوي: "كشاف اصطلاحات الفنون" طبعة الهند.
الجرجاني: "التعريفات" طبعة القاهرة سنة 1938م.
الخوارزمي: "مفاتيح العلوم" طبعة القاهرة سنة 1342هـ.
الشهرستاني: "الملل والنحل" طبعة القاهرة -على هامش "الفصل" لابن حزم, سنة 1321هـ.
القاضي عبد الجبار: "المغني في أبواب التوحيد والعدل". طبعة القاهرة.
"فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة" تحقيق: فؤاد سيد. طبعة تونس(1/284)
سنة 1972م.
عبد الكريم عثمان "دكتور": "قاضي القضاة عبد الجبار بن أحمد" طبعة بيروت سنة 1967م.
محمد فؤاد عبد الباقي: "المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم" طبعة القاهرة. دار الشعب.
المقريزي: "الخطط" طبعة دار التحرير. القاهرة.
النوبختي: "كتاب فرق الشيعة" تحقيق. هـ. ريتر. طبعة استانبول سنة 1931م.
ونسنك "أ. ي" وآخرون: "المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي" طبعة ليدن 1936-1969م.(1/285)
1- المعتزلة:
تمهيد:
أشاعت الدولة الأموية وأظهرت في الحياة الفكرية بمجتمعها عقيدتي: "الجبر" و"الإرجاء". تبرر بالأول مظالمها وما أحدثته ومثلته من تحول بالسلطة السياسية نقلها من "خلافة شوروية" إلى "ملك وراثي وعضود". وتحاول أن تفلت بالثانية -عقيدة الإرجاء- من إدانة المعارضة وحكمها على إيمان هذه الدولة وعقيدة حكامها، بعد أن ارتكبوا تلك المظالم وأحدثوا هذه التحولات.
وكانت المعارضة التي تصدت من مواقع مختلفة ومنطلقات متمايزة وعلى مستويات متعددة وبأساليب متنوعة، قد تبلورت في تيارات فكرية وسياسية ثلاثة:
1- الخوارج: وهم ثوار أعلنوا ثورتهم المستمرة، تقريبا ضد الأمويين، وعلى مختلف الجبهات وبكل الوسائل المشروعة لدى الثوار. بالسيف والفكر على السواء. "انظر: الخوارج. وانظر كذلك: الثورة".
2- الشيعة: الذين زادهم اضطهاد بني أمية لآل البيت حبا لهم وتقديسا، حتى لقد تحول هذا الحب إلى عقيدة صوفية جعلت الفناء في الأئمة غاية يسعى إليها المتشيعون. لكن هذا الحب والتقديس قد وقف عند حدود الدين والتدين، عندما كفت الشيعة يدها تحت قيادة إمامها(1/287)
جعفر الصادق "80-148هـ 699-765م" عن الثورة كأداة للمعارضة وسبيل للتغير، ذلك أن المحن التي وقعت بهم، والتي كانت مأساة الحسين في كربلاء تجسيدا لها، ثم النهاية المأسوية لحركاتهم الانتقامية -انتفاضة "التوابين" "65هـ 684م" وثورة الكيسانية بقيادة المختار الثقفي "1-67هـ 622-687م"- قد جعلت هذا التيار من تيارات المعارضة يلزم "التقية"، وينهى عن "العنف والثورة"، ويبشر بالخلاص القادم المرهون بمشيئة السماء ومعونتها. ولقد عبر جعفر الصادق عن هذا الموقف عندما حذر أنصاره من طريق الثورة فقال لهم: "إن بني أمية يتطاولون على الناس، حتى لو طاولتهم الجبال لطالوا عليها! وهم يستشعرون بغض أهل البيت، ولا يجوز أن "يخرج" -يثور- أحد من أهل البيت حتى يأذن الله بزوال ملكهم! "1.
3- أهل العدل والتوحيد: وهو تيار فكري وسياسي أكثر منه فرقة منضبطة، وخاصة في جانب "التنظيم". ولقد انخرط في هذا التيار -الذي كان الحسن البصري "21-110هـ 642-728م" أبرز أئمته وقادته- كل الذين تصدوا لعقيدة "الجبر" التي أظهرها الأمويون، فعارضوها بإظهار موقف الإسلام المنحاز إلى حرية الإنسان واختياره وقدرته واستطاعته، ومن ثم مسئوليته عن أفعاله. كما تصدوا كذلك للأفكار الغريبة عن نقاء عقيدة التوحيد الإسلامية، فأظهروا في مقابلها الفكر التنزيهي والتجريدي الذي يبتعد بالتصور الإسلامي للذات الإلهية عن أية شبهة أو مشابهة للمحدثات. فكل ما خطر على بالك، فليس الله بمشبه شيئا من ذلك!. وكانت مصادر الأفكار غير التنزيهية التي تصدى لها أهل العدل والتوحيد مختلفة ومتعددة. فهناك اللاهوت المسيحي القائل بالحلول
__________
1 الشهرستاني "الملل والنحل" جـ2 ص85، طبعة القاهرة سنة 1331هـ.(1/288)
والتجسد والتثليث. وهناك "النصوصيون" الذين وقفت بهم مداركهم وقدراتهم العقلية عند ظواهر النصوص التي توهم "بالتشبيه". وهناك العامة الذين لا يستطيعون تصور ذات إلهية إلا إذا كانت على مثال ولو تقريبي مما هو مألوف لهم في العالم المشهود!
ولم يقف تيار "أهل العدل والتوحيد" عند المعارضة الفكرية لفكر الدولة الأموية، ذلك أن طلائع "الرواة والمؤرخين وكتاب السيرة" الذين ارتادوا هذا الفن في حضارتنا كان أغلبهم من علماء هذا التيار، فعرضوا في فنهم هذا بالتقويم لأحداث الصراع الذي نشب على السلطة في صدر الإسلام، ولما أحدثه الأمويون في طبيعة السلطة من تغييرات، ولما تعيشه الأمة من أحداث، ومن ثم دخلوا إلى ميدان السياسة من هذا الباب.
ولما أثارت الخوارج -وخاصة الأزارقة- في النصف الثاني من القرن الهجري, قضية الحكم على عقائد المخالفين، والحكام منهم بالذات، وحكموا بكفرهم, "انظر: "المرجئة" و"الخوارج"" وقف أهل العدل والتوحيد من هذه القضية موقفا أقل غلوا، فقالوا: إن مرتكبي الكبائر، المصرين عليها، وغير التائبين منها هم "فسقة منافقون"، وليسوا بكفار.
وفيما يتعلق بقضية "الثورة"، وأسلوب التغيير والإزالة للمظالم، وقف هذا التيار مع "الثورة" كطريق من طرق التغيير، ولكن بشروط حددها الحسن البصري، أهمها: "التمكن"، أي: الامتناع عن الثورة حتى يبلغ الثوار درجة من "التمكن" تضمن لهم الانتصار. فلقد كان الحسن البصري ضمن ما كان عالما في تاريخ الثورات التي قامت ثم قمعت، وفي تاريخ الحروب التي خاضها الثوار وقضى عليهم فيها الأمويون، ولذلك كانوا يصفونه بأنه: "عالم في "الفتن" -الثورات- "والدماء" -أي: الحروب- ومن علمه هذا استخلص الدروس التي جعلته يضع(1/289)
"التمكن" شرطا لإشعال "الثورة". ولكن الإطار التنظيمي المرن، وأحيانا الفضفاض، لتيار أهل العدل والتوحيد قد جعل الكثير من أنصاره، خلافا لدعوة الحسن البصري، ينخرط في العديد من الثورات التي فشلت مثل الثورة التي قادها عبد الرحمن بن الأشعث "85هـ 704م" ضد الحجاج بن يوسف وبني أمية على عهد عبد الملك بن مروان.
ونحن نستطيع أن نجمل أهم الأصول الفكرية لهذا التيار في:
1- العدل: بما يعنيه من حرية الإنسان واختياره ومسئوليته عن أفعاله المخلوقة له.
2- والتوحيد: بما يمثله من نقاء بلغ بعقيدة التوحيد الإسلامية ذروة التنزيه والتجريد.
3- والقول "بنفاق" مرتكب الكبيرة: بما يعنيه من موقف وسط بين إفراط الخوارج عندما كفروه، وتفريط المرجئة عندما صححوا إيمانه ودعوا إلى إرجاء البحث في عقيدته وتركه للبارئ سبحانه يوم الدين.
ولقد ظل هذا هو حال تيار "أهل العدل والتوحيد" حتى نهاية القرن الهجري الأول. ثم حدث فيه الانشقاق.(1/290)
الانشقاق "الاعتزال":
كان اثنان من الموالي قد نشآ بالمدينة، وتعلما في بيت من بيوت آل البيت -بيت محمد بن علي بن أبي طالب "المعروف بابن الحنفية"- وزاملا وتتلمذا على اثنين من بنيه. وهذان الاثنان هما:
- أبو مروان غيلان بن مسلم الدمشقي "الذي استشهد بعد سنة 106هـ". الذي تعلم على الحسن بن محمد بن الحنفية "100هـ 718م" ثم ذهب إلى الشام فقاد تيار العدل والتوحيد هناك.
- وأبو حذيفة واصل بن عطاء الغزال "80-131هـ 699-748م" الذي تعلم على أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية "99هـ 717م". ثم ذهب في سنة 101هـ إلى البصرة حيث يقود الحسن البصري تيار العدل والتوحيد فيها.
وفي البصرة انضم واصل إلى الحلقة -المدرسة- التي نظمها الحسن البصري في مسجدها، ولقي علماءها ومن بينهم عمرو بن عبيد "80-144هـ 699-761م".(1/291)
ولقد تبع انضمام واصل إلى جماعة أهل العدل والتوحيد بالبصرة احتدام الجدل حول الفكر الجديد الذي جاء به معه من المدينة في موضوع مرتكب الكبيرة. فهو لا يقول بقول الحسن البصري إنه مجرد منافق، كما لا يقول بقول المرجئة إنه مؤمن، ولا بقول الخوارج: إنه كافر، وإنما يقول: إنه فاسق في منزلة أخرى بين منزلتي الكفر والإيمان, وإنه خالد مخلد في النار، لكن في درجة من العذاب دون درجة عذاب الكافرين. ودعوى واصل الجديدة هذه، بمقاييس المعارضة لبني أمية، تمثل موقفا أكثر تشددا، ومن ثم أكثر ثورية، من الموقف السابق الذي كان عليه أهل العدل والتوحيد. وبعد جدل ومناظرات انضم عمرو بن عبيد -وكان من أعظم علماء مدرسة الحسن فقها وفلسفة وأكثرهم ورعا وزهدا- إلى رأي واصل، وانضم معه وبعده كثيرون، حتى لقد مثل ذلك انشقاقا في صفوف أصحاب الحسن. والانشقاق هو بالنسبة لأصحابه اعتزال عن الأصل، وهكذا سمي هذا الكيان الجديد الذي تبلور في إطار تيار العدل والتوحيد بالمعتزلة، لانشقاقهم -اعتزالهم- عن التيار العام، الذي ظلوا على علاقات وثيقة به، تتمثل في اتفاقهم معه على ما عدا "المنزلة بين المنزلتين" من الأصول الفكرية التي يبشرون بها بين الناس.
وخلال العقد الأول من القرن الهجري الثاني كانت مؤلفات واصل بن عطاء قد حددت المعالم الفكرية والأصول العامة لفرقة المعتزلة، فلقد أنجز، قبل أن يبلغ الثلاثين من عمره، ردود المعتزلة على الفرق الأخرى: الخوارج، والجبرية، والمرجئة، والشيعة، والمانوية، ومختلف الفرق المعادية للإسلام1. كما قاد عملية التكوين والبناء لتنظيم المعتزلة على امتداد رقعة
__________
1 ابن المرتضى "باب ذكر المعتزلة - من كتاب المنية والأمل" ص21 تحقيق: توما أرنولد. طبعة الهند سنة 1316هـ.(1/292)
الدولة العربية الإسلامية، كفرقة أخص من التيار العام لأهل العدل والتوحيد. وهو التنظيم الذي قاد عددا من الثورات ضد سلطة الأمويين.
ولقد اكتملت للمعتزلة على عهد واصل أصول فكرية أربعة أخذوا يتميزون باجتماعهم عليها عن ما عداهم من الفرق والتيارات. وهي:
1- التوحيد. "التنزيه".
2- العدل. "قدرة الإنسان على أفعاله وخلقه لها". وكان البعض يسميه: "القدر": بمعنى إثبات القدر "القدرة" للإنسان.
3- المنزلة بين المنزلتين.
4- القول بخطأ أحد الفريقين في الصراعات التي نشأت على السلطة في صدر الإسلام -"عثمان بن عفان, وخصومه" "علي بن أبي طالب, وخصومه"- مع التوقف والامتناع عن تحديد من هو الطرف المخطئ1.
وهذه الأصول الفكرية الأربعة هي التي تطورت بالتداخل والزيادة، حتى أصبحت خمسة في ظل قيادة أبي الهذيل العلاف "235هـ 849م" لفرقة المعتزلة، وظلت أعمدة لبنائهم الفكري يجتمعون حولها جميعا، وإن اختلفوا أحيانا في الجزئيات والتفاصيل.
__________
1 "الملل والنحل" جـ1 ص68-74.(1/293)
الأصول الخمسة:
وقف المعتزلة بأصولهم الفكرية، التي كونت أعمدة نظريتهم العامة، عند خمسة أصول، هي: العدل, والتوحيد, والوعد والوعيد, والمنزلة بين المنزلتين, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ووقوفهم عند هذا العدد قد حكمه منهج ولم يخضع للصدفة والاتفاق. فهم قد رأوها المبادئ الأساسية التي يقع فيها الاختلاف بينهم وبين كل من خالفهم من فرق الإسلام وغيره، فللعدد هنا حكمة وأسباب، وقاضي القضاة عبد الجبار بن أحمد الهمذاني "415هـ 1024م" وهو أبرز المتأخرين من أئمتهم, يجيب من سأله:
- "ولم اقتصرتم على هذه الأصول الخمسة؟! ".. فيقول:
- "إنه لا خلاف أن المخالف لنا لا يعدو أحد هذه الأصول. ألا ترى:
- أن خلاف الملحدة والمعطلة والدهرية والمشبهة قد دخل في: التوحيد؟(1/294)
- وخلاف المجبرة بأسرهم دخل في باب: العدل؟
- وخلاف المرجئة دخل في باب: الوعد والوعيد؟
- وخلاف الخوارج دخل تحت: المنزلة بين المنزلتين؟
- وخلاف الإمامية دخل في باب: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ "1.
وهذا المنهج الذي قرره المعتزلة في تحديد ماهية الأصول وعددها يجعلنا نرفض ما شاع في كتب المقالات والفرق التي لم يميز أصحابها بين "الأصول" و"المقالات" وبين "الفروع" و"المسائل". فأصحاب هذه الكتب قد ذهبوا لهذا إلى أن جعلوا المعتزلة عشرين "فرقة"، تبعا لما بين أعلامها وعلمائها من خلافات واجتهادات في "المسائل والفروع"، فقالوا: إن المعتزلة قد انقسمت إلى عشرين "فرقة" هي: الواصلية، والعمرية، والهذيلية، والنظامية، والأسوارية، والمعمرية، والثمامية، والجاحظية، والحايطية، والحمارية، والخياطية، والشحامية، وأصحاب صالح قبة، والمويسية، والكعبية، والجبائية، والبهشمية. نسبة إلى عدد من أعلام المعتزلة وأئمتهم. فهذه التقسيمات، إن جازت إنما هي مواقف خلافية حول "مسائل وفروع وشبه"، ولكنها وأصحابها تأتي ويأتون في إطار نظرية واحدة وعامة هي أصول المعتزلة الخمسة، تلك الأصول "التي يجمع عليها المعتزلة، وتتفق عليها، مما لا يختار عليه، ولا ريب فيه. وإن كان الاختلاف الواقع بينهم في فروع ذلك، وشبه وردت عليه" كما يقول القاضي عبد الجبار2.
__________
1 القاضي عبد الجبار "شرح الأصول الخمسة" ص124 تحقيق: د. عبد الكريم عثمان. طبعة القاهرة سنة 1965م.
2 "فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة" ص332. تحقيق: فؤاد سيد. طبعة تونس سنة 1972م.(1/295)
أصل العدل:
ويختص مبحث هذا الأصل بقضايا: الحرية والاختيار بالنسبة للإنسان، وقضايا: التعديل والتجوير، بالنسبة للذات الإلهية. والمعتزلة يقررون بمبحثهم في "العدل"، أن للإنسان قدرة وإرادة ومشيئة واستطاعة، قد خلقها له خالقه، وأنها تؤدي وظائفها، بشكل مستقل وحر، فيما يتعلق بالأفعال المقدورة للإنسان، ومن ثم فإن الإنسان هو خالق أفعاله، على سبيل الحقيقة لا المجاز، ونسبة هذه الأفعال إليه هي نسبة حقيقية، ومن ثم فإن الجزاء، ثوابا وعقابا، هو أمر منطقي ليست فيه شبهة جور تلحق بالباري سبحانه، كما هو الحال إذا قال المرء برأي المجبرة في هذا الموضوع.
فهم لم يتحرجوا -كما صنع غيرهم- من وصف الإنسان "بالخلق" لأفعاله؛ لأنهم فرقوا بين "الخلق" وبين "الاختراع" و"الإبداع" على غير صورة ومثال سابق، "فالخلق" هو: الفعل والصنع على أساس من "التقدير والتخطيط" السابق على التنفيذ، وهذا مقدور للإنسان وواقع منه. وأوردوا شواهد اللغة التي تصف الإنسان بالخلق، من مثل قول العرب: "خلقت الأديم. وقول زهير بن أبي سلمى:
ولأنت تفري ما خلقت وبعض القوم يخلق ثم لا يفري"1.
كما استدلوا بالقرآن على وصف الإنسان بأنه "يخلق".. فالله يقول مخاطبا بشرا: {وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} [العنكبوت: 17] ويقول مخاطبا إبراهيم: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} [المائدة: 110] " ... كما يتحدث فينبئ عن تعدد من يمكن وصفه بصفة الخالق" فيقول: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14] . يورد المعتزلة ذلك، ثم يجتهدون
__________
1 "شرح الأصول الخمسة" ص380.(1/296)
لرد اعتراض خصومهم، من الجبرية، الذين يحتجون بالقرآن أيضا، وبظواهر الآيات التي تقول: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} ؟! [فاطر: 3] و {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} [النحل: 17] فيقولون: إن الاحتجاج بها لا يصح؛ لأنه احتجاج يقف عند الألفاظ، أما الحقيقة فتقرر للإنسان فعلا وخلقا. وبعبارة القاضي عبد الجبار في كتابه "المغني في أبواب التوحيد والعدل" فإن "التعلق بهاتين الآيتين لا يصح؛ لأنه كلام من جهة العبارة، فأما من جهة المعنى، فإنما يجب أن نبين أن العبد يحدث الشيء، وأنه يصح أن يحدثه مقدورا"1.
كما بينوا السر في انصراف لفظ "الخالق" إلى الله سبحانه، دون الإنسان، وقالوا: إن "العرف والتعارف" هو الذي قصر هذا اللفظ على الذات الإلهية، كما قصر عليها لفظ "رب"، ولقد حدث ذلك كي ينتفي الإيهام بربوبية سواه. ولما كان مرد ذلك "العرف" فلا مانع على الحقيقة يمنع من وصف غيره سبحانه "بالخلق". وضربوا مثلا "بالحركة" التي تحل محل السكون فهي فعل وخلق. والله هو محدث الحركة الضرورية, فهو خالق لها. والإنسان هو فاعل الحركة المكتسبة فهو الخالق لها2.
وكما أثبت المعتزلة للإنسان القدرة على "الخلق" أثبتوا له القدرة على "الإفناء"، بل قالوا إنه يستطيع بقدرته التي خلقها الله، أن يفني فعل الله. فإذا كان السكون الطبيعي مخلوقا لله، فإن الحركة المكتسبة التي يخلقها الإنسان لتحرك الساكن هي إفناء لفعل الله. وإذا كانت حياة
__________
1 القاضي عبد الجبار "المغني في أبواب التوحيد والعدل" جـ8 ص163. طبعة القاهرة.
2 المصدر السابق: جـ8 ص283.(1/297)
الإنسان هي خلق الله، فإن انتحار المنتحر هو إفناء لفعل الله1.
ولقد خلص المعتزلة من مباحثهم في أصل "العدل" إلى أن أفعال الإنسان المقدورة له ليست مخلوقة لله، وإنما هي متعلقة بالإنسان، تعلق خلق وإيجاد وإحداث، على سبيل الحقيقة، ووفقا للمقاصد والدواعي التي تجعل الإنسان يرجح فعله لها على تركه هذا الفعل، ومن ثم فإنه فاعل لها على سبيل الحقيقة لا المجاز. فهو عنها مسئول، وحسابه عليها عدل، فالعدل عندهم: حرية للإنسان، ونفي للجور عن الله.
2- أصل التوحيد:
كما كان المعتزلة فرسان ميدان "الحرية والاختيار" بتقريرهم "أصل العدل"، كانوا فرسان "التنزيه والتجريد"، فيما يتعلق بتصور الذات الإلهية، بتقريرهم "أصل التوحيد". بل لقد بلغوا بهذا التصور قمة "التنزيه" و"التجريد" في الفكر الإسلامي، بل الإنساني عى الاطلاق. فهم قد عارضوا فكر سائر الفرق "المشبهة" و"المجسمة" و"الحشوية" الذين عجزت بهم مداركهم فلم يرتقوا بتصور الذات الإلهية عن حدود المحدثات والمخلوقات. واستند المعتزلة في موقفهم هذا إلى نقاء عقيدة التوحيد في الإسلام، كما صورتها الآيات المحكمة في القرآن الكريم، ولم تكن معارضتهم قاصرة على "مشبهة" الإسلام، بل شملت كل أصحاب الأديان والفرق والنحل التي تردت في هاوية "التشبيه".
فهم قد رأوا في عقيدة التثليث المسيحية ثمرة للقول بالتشبيه بلغ حد القول بالحلول والاتحاد بين اللاهوت والناسوت، وقرروا أن هذا الموطن من
__________
1 المصدر السابق جـ8 ص288.(1/298)
مواطن الفكر هو أصل الخلاف مع اللاهوت المسيحي1. وفي نقدهم لعقيدة التثليث عرضوا لما يؤمن به المسلمون من أن عيسى هو "كلمة الله"، فلم ينكروه، وإنما قرروا أن هذه "الكلمة" "مخلوقة"، وليست "قديمة"، وذلك حتى لا يتعدد القدماء. ورأوا أن القول "بقدم الكلمة" هو الذي قاد اللاهوتيين المسيحيين إلى مدارج التشبيه فمزالق التثليث ولذلك اجتهدوا لإغلاق الباب كي لا يسلك المسلمون ذات الدرب، فقالوا بأن كل كلام لله فهو مخلوق، ومنه القرآن الكريم، ومن قبله كل الكتب المنزلة. وتتبعوا بالنقد فكر المسيحية التشبيهي والتجسيدي عند مختلف فرقها، نساطره وملكانية وغيرهما2.
كما هاجموا القول بالاثنينية عند "الثنوية" القائلين بإلهين: أحدهما للخير والآخر للشر -النور والظلمة- وتتبعوا فكر "الثنوية" لدى فرقها المختلفة، من: "مزدقية" و"ديصانية" و"مرقيونية" و"ماهانية" و"صيامية" و"مقلاصية"، وكشفوا عن العلاقات بين فكر "ماني" -زعيم المانوية ونبيها- الذي ادعى النبوة في القرن الثالث الميلادي، بفارس، وبين كل من المجوسية والنصرانية3. كما كشفوا عن آثار التشبيه المسيحي في معتقدات الفرق الإسلامية المشبهة، من غلاة الشيعة، والمرجئة، مثل فروع: "الرافضة" و"الشيطانية" و"البنانية" و"المغيرية"، و"اليونسية" و"العبيدية" و"الكرامية" وغيرهم. وبينوا كيف وصل التشبيه ببعض هؤلاء المنتسبين إلى الإسلام إلى الحد الذي قالوا فيه عن الله إنه "جسم، لا كالأجسام، وهو مركب من لحم ودم، لا
__________
1 "شرح الأصول الخمسة" ص292.
2 "المغني" جـ5 ص80-151.
3 المصدر السابق، جـ5 ص9-70.(1/299)
كاللحوم والدماء، وله الأعضاء والجوارح، وتجوز عليه الملامسة والمصافحة والمعانقة للمخلصين. فهو جسم ذو هيئة وصورة، يتحرك ويسكن، ويزول وينتقل! ". إلى آخر هذه التصورات التي أثمرها التشبيه والتجسيد والتجسيم1.
كما هاجم المعتزلة عقيدة التشبيه عند اليهود أيضا2.
وإذا كانت ردود واصل بن عطاء على هذه الفرق قد بادت، فإن الأهمية التي أعطاها القاضي عبد الجبار للرد على هذه الفرق في موسوعته "المغني في أبواب التوحيد والعدل" تؤكد أن فرقة من فرق الإسلام لم تحارب على هذه الجبهة كما حارب المعتزلة، أهل العدل والتوحيد.
ومن خلال معارضة المعتزلة لهذه الأديان والفرق جميعا قدموا تصورهم التنزيهي والتجريدي للذات الإلهية. وهو التصور الذي ارتكز على رفض كل ما يوهم تعدد القديم، أو مماثلته لأي محدث من المحدثات. فكل ما خطر على بالك، ليس الله كمثل شيء من ذلك!. فقالوا بوحدة الذات والصفات، ورفضوا إمكانية رؤية الله، في الدنيا أو الآخرة؛ لأنها تستلزم التحيز والمكان والجهة، وهي لوازم للتشبيه والتجسيم. كما كان قولهم بخلق القرآن ثمرة لرفضهم قدم الكلمة، التي أدى القول بها إلى شبهة قدم المسيح، ثم التشبيه والتجسيد فالتثليث المسيحي.
__________
1 الأشعري "مقالات الإسلاميين" جـ1 ص5-7، 23، 39، 141، 143، طبعة استانبول سنة 1929م والتهانوي "كشاف اصطلاحات الفنون" ص805، 787، 1092، 1544، 949، 1266 طبعة الهند سنة 1892م. والجرجاني "التعريفات" ص40، 199 طبعة القاهرة سنة 1938م. والفخر الرازي "اعتقادات فرق المسلمين والمشركين" ص63، 64، 67 طبعة القاهرة سنة 1938م والخياط "الانتصار" ص7، 8 طبعة القاهرة سنة 1925م.
2 "اعتقادات فرق المسلمين والمشركين" ص63.(1/300)
3- أصل الوعد والوعيد:
وفي هذا المبحث من مباحث أصول المعتزلة الخمسة رفضوا الفكرة الجوهرية لعقيدة فرقة المرجئة، فكرة الفصل ما بين الإيمان والعمل. فقال المعتزلة: إن الوعد يعني: أن من أطاع الله دخل الجنة، وأن وعد الله بذلك صدق لا يمكن أن يتخلف عن الوقوع. أما الوعيد فإنه يعني: أن من عصى الله دخل النار، وخلد فيها أبدا إذا كانت ذنوبه كبائر لم يتب منها قبل مماته، وهذا الوعيد صدق لن يتخلف وقوعه أبدا.
ولما كانت آيات الوعيد، في القرآن، تتناول "الفسقة" من مرتكبي الذنوب الكبائر المسلمين، كما تتناول الكفار، كانت شاملة للجميع.
وصدق الوعد والوعيد، واستحالة تخلف أحد منهما يعني: أن الحكم على مصير المطيعين الذين وعدهم الله، وعلى مصير العاصين الذين توعدهم الله، ليس رجما بالغيب، ولا تعديا على اختصاص الذات الإلهية، ولا مما يجب "إرجاؤه" لحكم الله المالك يوم الدين.
ولقد رتب المعتزلة على هذا الأصل إنكار نفع "الشفاعة" من الرسول أو غيره يوم القيامة لأحد من "الفسقة"، وقصروا إمكان حدوث هذه "الشفاعة" "للمؤمنين" دون "الفسقة"1 ومن ثم فإنها لا تفيد الإخراج من النار إلى الجنة وإنما يقتصر أثرها على رفع درجات المؤمنين في النعيم. "فالعمل" هو وحده الذي يحسم في قضية مستقبل الإنسان ومصيره، والتصور الكلي والعام لهذا المصير ممكن، ما دمنا قد سلمنا بصدق الوعد والوعيد، وقلنا باستحالة تخلف أي منهما.
__________
1 القاضي عبد الجبار "المجموع المحيط بالتكليف" مخطوط مصور بدار الكتاب المصرية "اللوحة 87ب، 89 أ" من السفر التاسع والعشرين.(1/301)
وواضح أن لهذا الأصل من أصول المعتزلة طابعا سياسيا، فلقد كان فكر المرجئة يملي للظالمين ويمد لهم حبال الأمل في النجاة، بينما كان فكر المعتزلة يحكم عليهم بالفسق والخلود في النار، ويقرر بهذا الأصل صدق الوعيد لهم، واستحالة تخلفه، ومن ثم استحالة إفلاتهم من الخلود في النار. على حين كان فكر الخوارج يحكم بكفرهم، كفر نعمة أو كفر شرك بالله.
4- أصل المنزلة بين المنزلتين:
وهو من أوائل الإضافات التي قدمها واصل بن عطاء، فأحدث به ذلك الانشقاق في صفوف "القائلين بالعدل والتوحيد"، فنشأت به المعتزلة كفرقة مستقلة، هي أخص من القائلين بالعدل والتوحيد.
ويعني هذا الأصل: أن مرتكب الكبيرة، الذي أجمع كل من الخوارج، والمرجئة، وأهل العدل والتوحيد على تسميته بـ"فاسق"، ثم اختلفوا بعد ذلك، فقال الخوارج: هو فاسق كافر وقالت المرجئة: هو فاسق ومؤمن، وقال الحسن البصري وأصحابه: هو فاسق منافق. يعني أصل "المنزلة بين المنزلتين"، عند واصل والمعتزلة: الأخذ بما اتفق عليه الجميع من أن مرتكب الكبيرة "فاسق"، ورفض ما عدا ذلك من الآراء المختلف فيها وعليها، ثم الحكم بأن هذا "الفاسق" هو في منزلة وسط بين منزلتي "الكفر" و"الإيمان"، لمباينته درجات الكفار وأحكامهم ودرجات المؤمنين وصفاتهم، وأنه بعد ذلك مخلد في النار، وإن يكن في درجة من العذاب دون درجة المشركين والكفار.
ولقد أخطأ البغدادي، في كتابه "الفرق بين الفرق"، عندما قال: إن هذا الأصل من أصول المعتزلة قد نشأ بصدد تقويمهم لموقف أطراف النزاع على(1/302)
السلطة زمن علي بن أبي طالب، وعندما توهم وأوهم أن واصل بن عطاء قد حكم بالفسق والخلود في النار على طرف من أطراف هذا النزاع بعد أن وضعه في منزلة بين منزلتي الكفر والإيمان1.
أخطأ البغدادي في تحديد الملابسات التي أثمرت هذا الأصل من أصول المعتزلة الخمسة، فلم تكن تقويم النزاع على السلطة زمن علي، وإنما كانت تقويم الدولة الأموية ورجالات حكمها وجهازها الإداري والمالي والعسكري. فأركان هذه الدولة هم الذين فشت مظالمهم، وأصبح الجميع شبه متفقين على أنهم من مرتكبي الكبائر، وعلى أنهم "فسقة"، ثم نشأ الخلاف على ما يأتي بعد الحكم "بالفسق" الذي اتفقوا عليه. وكان ذلك في النصف الثاني من القرن الهجري الأول عندما اشتدت ثورات الخوارج الأزارقة، فطرحت هذه القضية بإلحاح على دوائر الفكر الإسلامي. ويقطع بصحة ما نقول أن "النموذج" الذي كان يدور الجدل حول "إيمانه" كانت الأطراف كلها قد اتفقت على "فسقه وفجوره"، ولم يحدث أن اتفقت هذه الأطراف جميعها على "فسق وفجور": طلحة والزبير وعائشة -أصحاب موقعة الجمل- أو علي بن أبي طالب وصحبه، أو معاوية وأهل الشام. ويشهد لما نقول تلك السطور التي يفصل فيها الخياط، أبو الحسين عبد الرحيم بن محمد بن عثمان، الحديث عن نشأة هذا الأصل، فيقول في كتابه "الانتصار والرد على ابن الراوندي الملحد": "إن الخوارج، وأصحاب الحسن -البصري- كلهم مجمعون، والمرجئة على أن صاحب الكبيرة فاسق فاجر، ثم تفردت الخوارج وحدها فقالت: هو مع فسقه وفجوره كافر. وقالت المرجئة وحدها: هو مع فسقه وفجوره مؤمن. وقال الحسن ومن تابعه: هو مع فسقه وفجوره منافق. فقال لهم
__________
1 البغدادي "الفرق بين الفرق" ص99، 100 طبعة بيروت سنة 1973م.(1/303)
واصل: قد أجمعتم أن سميتم صاحب الكبيرة بالفسق والفجور، فهو اسم له صحيح بإجماعكم، وقد نطق القرآن به في آية القاذف {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] وغيرها من القرآن، فوجب تسميته به. وما تفرد به كل فريق منكم من الأسماء فدعوى لا تقبل منه إلا ببينة من كتاب الله أو سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم. ثم قال واصل للخوارج: وجدت أحكام الكفار، المجمع عليها، المنصوصة في القرآن، كلها زائلة عن صاحب الكبير، فوجب زوال اسم الكفر عنه بزوال حكمه. ثم قد جاءت السنة المجتمع عليها أن أهل الكفر لا يوارثون ولا يدفنون في مقابر أهل القبلة، وليس يفعل ذلك في صاحب الكبيرة. وحكم الله في المنافق: أنه إن ستر نفاقه، فلم يعلم به، وكان ظاهره الإسلام، فهو عندنا مسلم، له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، وإن أظهر كفره استتيب، فإن تاب وإلا قتل، وهذا الحكم زائل عن صاحب الكبيرة. وحكم الله في المؤمن: الولاية والمحبة والوعد بالجنة. وحكم الله في صاحب الكبيرة، في كتابه: أن لعنه وبرئ منه وأعد له عذابا عظيما.. فوجب أن صاحب الكبيرة ليس بمؤمن، بزوال أحكام الإيمان عنه في كتاب الله، ووجب أنه ليس بكافر، بزوال أحكام الكفر عنه، ووجب أنه ليس بمنافق، في زوال أحكام المنافقين عنه في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ووجب أنه فاسق فاجر، لإجماع الأمة على تسميته بذلك، وبتسمية الله له به في كتابه"1. ا. هـ.
تلك هي ملابسات ظهور هذا الأصل من أصول المعتزلة.
وهو عندهم من المسائل "الشرعية" التي لا مجال للعقل فيها؛ لأنه
__________
1 الخياط "الانتصار والرد على ابن الراوندي الملحد" ص165-167 تحقيق: نيبرج. طبعة القاهرة سنة 1925م.(1/304)
متعلق بمقادير الثواب والعقاب، وهي مقادير لا يعلمها إلا مقدرها، وهو الله سبحانه، وعلمها لا يدخل في نطاق ما يعلم عقلا1.
والمعتزلة يطلقون، أحيانا، على هذا الأصل اسم "الأسماء والأحكام"، بدلا من "المنزلة بين المنزلتين"، لأنه يدور حول أسماء مرتكبي الكبائر وأحكامهم.
وتؤكد الملابسات السياسية لنشأة هذا الأصل من أصول المعتزلة، وكذلك طابعه السياسي العام، أنه كان، بالدرجة الأولى، تقويما للدولة وجهازها، قبل أن يكون مجرد موقف من الإنسان العادي الذي يرتكب ذنبا من الذنوب الكبائر ثم يموت دون أن يتوب منه إلى الله سبحانه وتعالى.
5- أصل: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وهو أكثر أصول المعتزلة الخمسة اختصاصا بالجانب السياسي من فكرهم العام ونظريتهم السياسية عندما وضعت في الممارسة والتطبيق.
وفرق الإسلام جميعها لم تختلف حول وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولكن اتفاقها هذا هو اتفاق ظاهري، يخفي خلافا واختلافا بين بعضها والبعض الآخر حول هذا الأصل الفكري. فهم جميعا يؤمنون بقول الله سبحانه: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104] وقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110] ولكنهم بعد ذلك يختلفون.
فأصحاب الحديث من أهل السنة يحرمون استخدام العنف والقوة
__________
1 "شرح الأصول الخمسة" ص138.(1/305)
-السيف- في النهي عن المنكر، ومن ثم ينكرون "الخروج" على أئمة الجور وظلمة الحكام. وهم يقولون -وفق عبارات الأشعري في "مقالات الإسلاميين": "إن السيف باطل، ولو قتلت الرجال وسبيت الذرية، وإن الإمام قد يكون عادلا، ويكون غير عادل، وليس لنا إزالته وإن كان فاسقا1". ووفق عبارة أحمد بن حنبل التي ينقلها أبو يعلى الفراء في "الأحكام السلطانية": "ومن غلب بالسيف حتى صار خليفة، وسمي أمير المؤمنين، فلا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماما عليه، برا كان أو فاجرا، فهو أمير المؤمنين"2.
والشيعة الإمامية ينكرون الخروج المسلح إلا إذا كان مع إمامهم المنتظر "فإذا خرج الناطق وجب سل السيوف حينئذ معه" أما قبل ظهوره فلا تسل السيوف3.
ووقف هؤلاء وهؤلاء بوسائل النهي عن المنكر عند أداتي: اللسان، والقلب، دون اليد، فضلا عن اليد الحاملة للسيف!.
لكن المعتزلة، في هذا الأصل من أصولهم الفكرية، أوجبوا النهي عن المنكر بالوسائل الثلاث التي حددها حديث الرسول، عليه الصلاة والسلام: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" رواه: مسلم والترمذي والنسائي وابن حنبل. فاليد -وتشمل الفعل والقوة- ثم اللسان.. ثم
__________
1 "مقالات الإسلاميين" جـ2 ص451، 452.
2 "الأحكام السلطانية" ص4 طبعة القاهرة سنة 1938م. و"كتاب الإمامة" لأبي يعلى، أيضا، ص212، طبعة بيروت، ضمن مجموعة عنوانها "نصوص الفكر السياسي الإسلامي: الإمامة عند السنة، سنة 1966م".
3 ابن حزم "الفصل في الملل والأهواء والنحل" جـ4 ص31. طبعة القاهرة سنة 1331هـ.(1/306)
الرفض القلبي.. هي الوسائل التي حددها الحديث للنهي عن المنكر في مجتمع المسلمين1. واستدلوا على جواز الخروج المسلح بقول الله سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 52] وقوله: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] وقوله: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124] .
ومع المعتزلة في موقفهم هذا وقف الخوارج، والزيدية، وطوائف من أهل السنة.
ولقد بلغ مقام هذا الأصل عند المعتزلة إلى الحد الذي جعلوه "أصلا عظيما من أصول الدين" وقالوا عنه: "إنه أصل شريف" وعدوه "أشرف من جميع أبواب البر والعبادة! "، كما يقول ابن أبي الحديد في "شرح نهج البلاغة"2.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قرره المعتزلة، لا يقف عند الجانب الفردي، بل إنه أدخل الأصول في العمل السياسي والممارسة الاجتماعية، فهدفه الأول والأساس: "أن لا يضيع المعروف ولا يقع المنكر" في المجتمع، أي: أن تظل معالم الحق والهدى بينة يهتدي بها الناس، وأن يختفي المنكر من حياة الناس ومجتمعاتهم، فإذا تحققت هذه الغاية برئ الناس من تبعة وجوب هذا الأصل عليهم، فهو من فروض الكفاية وواجباتها. ومعلوم أن فروض الكفاية أكثر أهمية وأشد تأكيدا من فروض الأعيان؛ لأن تخلف قيام فرض العين يأثم به من أهمل فيه، أما تخلف قيام
__________
1 المصدر السابق. جـ4 ص31.
2 ابن أبي الحديد "شرح نهج البلاغة" جـ19 ص311 تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم. طبعة القاهرة سنة 1959م.(1/307)
فرض الكفاية فالذي يأثم به الأمة جمعاء!.
وغذا تعرض الإنسان للإكراه كي لا ينكر المنكر، فلا يجوز له الخضوع لهذا الإكراه، حتى لو هلكت ذاته، وذلك إذا كان في المنكر ضرر يلحق بالغير، لا يمكن ضمانه أو التعويض عنه بعد زوال الإكراه، فإذا أجبر الإنسان على فعل منكر يتعدى ضرره إلى الغير، مما لا يمكن تدارك آثاره، كالقتل والقذف، فغير جائز له الخضوع لهذا الإكراه، أما إذا أمكن الضمان والتعويض، كأن يكره على اغتصاب مال الغير، فيجوز له الخضوع للإكراه، مع الضمان للمال المغصوب. ومثل ذلك ما إذا كان الضرر قاصرا على ذات المكره -بفتح الراء- كأنه يكره على أكل الميتة، أو شرب الخمر، والتلفظ بكلمة الكفر -مع إبطان ضدها- فيجوز له الخضوع للإكراه1.
ويختلف الأمر بالمعروف عن النهي عن المنكر من حيث إن المطلوب في الأمر بالمعروف هو: الأمر به فقط، وليس مطلوبا حمل الغير على الامتثال لهذا الأمر، فالواجب هو الأمر بإقامة الصلاة مثلا, لا حمل تاركها على القيام بها, أما المنكر فإن الواجب هو: النهي عنه، وحمل فاعله على الانتهاء عنه، بواحدة
من الوسائل الثلاث2.
ولقد قيد المعتزلة وجوب هذا الأصل من أصولهم الفكرية بتوافر الشروط التي تجعل ممارسته عملا مثمرا للغايات التي وجب لأجلها، وذلك مخافة أن يأتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بضد المطلوب. وهذه الشروط هي:
__________
1 "شرح الأصول الخمسة" ص144، 145.
2 المصدر السابق ص744، 745.(1/308)
أولا: أن نعلم أن ما نأمر به هو من "المعروف"، وما ننهى عنه هو من "المنكر"، ولا يكفي في ذلك غلبة الظن، إذ لا بد من بلوغ درجة العلم.
ثانيا: أن يكون "المنكر" الذي يجب النهي عنه "قائما، مشاهدا"، كأن نرى الخمر أو أدواتها مثلا. وحكموا بأن غلبة الظن تقوم هنا مقام العلم بقيام "المنكر". فيجب النهي بناء عليها.
ثالثا: أن نعلم أن نهينا عن "المنكر" لن يؤدي إلى حدوث "منكر" أشد من المنهي عنه، فلا يصح أن ننهى عن "منكر"، مثل: شرب الخمر، إذا علمنا، أو غلب على ظننا أن هذا النهي سيؤدي إلى قتل أو فساد أشد من شرب الخمر. عندئذ لا يجب النهي ولا يحسن.
رابعا: أن نعلم أن نهينا سيحدث أثرا إيجابيا، وأنه لن يذهب عبثا وأدراج الرياح، أو على الأقل يغلب على ظننا ذلك وإلا لم يجب النهي. وإذا انتفى الوجوب قال البعض إنه حسن؛ لأنه بمنزلة استدعاء الغير للدين، وقال آخرون لا يحسن؛ لأنه عبث.
خامسا: أن نعلم، أو يغلب على ظننا أن النهي عن المنكر لن يؤدي إلى وقوع ضرر في المال أو النفس للناهين عنه. والضرر المعتبر هنا يختلف باختلاف قدرات الناس وحالاتهم ومنازلهم. وإذا انتفى الوجوب اتقاء للضرر، فإنه يحسن النهي عن المنكر، خاصة إذا علم أن وقوع الضرر على الناهي عن المنكر مما يزيد في إعزاز الدين بإبراز النماذج التي تضحي في سبيل إقامة شرعته. وفي الحالات التي ينتفي فيها وجوب النهي عن المنكر، لفقدان الشروط الواجب توافرها، فإن إظهار الكراهية والرفض للمنكر وأهله هو واجب على الجميع، وخاصة على من يتوهم منه الرضى بالمنكر، أما من لا يتوهم منه ذلك فإن إنكاره ورفضه وكراهيته معلومة حتى(1/309)
دون إظهار وإعلان1.
وحتى نفهم مراد المعتزلة من وراء اشتراط هذه الشروط، لا بد أن نعي أنهم قد استهدفوا بها ضمان تحقيق الغرض المنشود من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهم مثلا مع سل السيف ضد الإمام الجائر، ويوردون في هذا الباب الحديث الذي رواه الصحابي حذيفة بن اليمان: قلت: يا رسول الله، أيكون بعد الخير الذي أعطينا شر، كما كان قبله؟! قال: "نعم". قلت: فبمن نعتصم؟ قال: "بالسيف" رواه أحمد بن حنبل وأبو داود. وهم مع ذلك يشترطون للثورة على أئمة الجور شروطا منها: أن يكون الثوار جماعة، يقودها إمام، والنصر محتمل بالنسبة لثورتها. وبعبارتهم -التي نقلها الأشعري في "مقالات الإسلاميين": "إذا كنا جماعة، وكان الغالب عندنا أنا نكفي مخالفينا، عقدنا للإمام، ونهضنا -ثرنا- فقتلنا السلطان وأزلناه، وأخذنا الناس بالانقياد لقولنا! "2.
والمعتزلة بعد أن اجتمعوا على هذا الأصل من أصولهم الخمسة -الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- اجتهدوا فاختلفوا في عدد من التفاصيل والفرعيات.
فمنهم من قال: إن طريق العلم بوجوبه هو العقل والسمع معا، في كل الحالات. ومنهم من قال: بل السمع فقط، إلا إذا وضح الظلم فحرك في القلب المضض والامتعاض، فعند ذلك يجب النهي عنه عقلا، كما وجب سمعا. فوضوح المنكر وبشاعته يجعل لوجوب إنكاره طريقان: العقل والسمع معا3.
__________
1 المصدر السابق. ص142-144.
2 "مقالات الإسلاميين" جـ2 ص466.
3 "شرح الأصول الخمسة" ص142.(1/310)
وقدامى المعتزلة أوجبوا الأمر بالمعروف على الإطلاق، ودون تفصيل. بينما المحدثون منهم قد فصلوا في هذا الموضوع, فجعلوا الأمر بالواجب واجبا، وبالسنة سنة، وبالمندوب مندوبا. وظل النهي عن المنكر، عند الجميع، واجبا في كل الحالات1.
والذين يطالعون المباحث المطولة التي كتبها المعتزلة تحت هذا الأصل من أصولهم الفكرية، يدركون الصلات الوثيقة بينه وبين صلاح المجتمع وتطهيره من الشوائب والسلبيات.. فهو مع: الوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين, بل والعدل, يكوّن الأصول الأربعة ذات الطابع السياسي من الأصول الخمسة التي كانت الأعمدة الفكرية في النظرية العامة للمعتزلة، أهل العدل والتوحيد.
__________
1 المصدر السابق ص146.(1/311)
التنظيم:
عرفت كثير من الفرق الإسلامية، منذ نشأتها المبكرة، واستخدمت "التنظيم"، و"التنظيم السري" بوجه خاص. وأمر ذلك معروف وشهير في العديد من تنظيمات الشيعة منذ العهد الأموي.. ولقد كان لفرقة المعتزلة تنظيمها السري الذي قاد الدعوة لأصولها الخمسة، وجاهد لوضعها موضع التطبيق.
ولسرية هذا التنظيم, وللاضطهاد الذي تعرضت له المعتزلة, وللمحنة التي أصابتها على عهد المتوكل العباسي "233-247هـ 847-861م" فحرم فيها فكرها، وعزلت عن الحياة الرسمية والعامة رجالاتها، وأبيدت الآثار الفكرية لأعلامها لكل ذلك كثرت الصعوبات أمام من يبغي جلاء حقيقة تنظيم هذه الفرقة وتحديد هيكله والوصول إلى تصور يقيني حول قوته ومدى انتشاره فوق رقعة الدولة العربية الإسلامية.
ولكن وبالرغم من تلك الصعوبات، فإن استقراء المعلومات المتاحة يضع يدنا على عدد من الحقائق والمعالم الخاصة بهذا التظيم.(1/312)
فالذي قاد بناءه ونهض بمهمة قيادته هو رأس علماء المعتزلة واصل بن عطاء. ولقد بلغ سلطان واصل في هذا التنظيم، وحب رجاله وأعضائه له وطاعتهم إياه درجة عظمى في الكفاءة والامتثال والتنفيذ لما يريد، حتى ليقول عثمان الطويل، وهو أحد الدعاة في هذا التنظيم، على عهد واصل: إن واصل كان يملك نفوس المعتزلة دون أصحاب هذه النفوس؟! وبعبارته -التي يوردها القاضي عبد الجبار في كتابه "فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة": "ما كنا نرى أن لنا على أنفسنا ملكا في حياة واصل، حتى مات. كان يقول للواحد منا: اخرج إلى بلد كذا فما يراده؟! "1.
وكانت "البصرة" مقر قيادة هذا التنظيم، أما دعاته وشعبه وأنشطته فإنها امتدت خارجها فشملت مختلف أنحاء الدولة العربية الإسلامية، من الصين شرقا إلى المغرب غربا ومن اليمن جنوبا إلى الجزيرة في الشمال. وفي القصيدة التي دافع بها الشاعر صفوان الأنصاري عن واصل بن عطاء يتحدث مشيرا إلى انتشار التنظيم الذي قاده فيقول:
له خلف شعب الصين في كل ثغرة ... إلى سوسها الأقصى وخلف البرابر
رجال دعاة لا يفل عزيمهم ... تهكم جبار ولا كيد ماكر2
وفيما بقي من تراث هذه الفرقة نعلم أن واصل قد بعث القادة والدعاة إلى مختلف الأقاليم.
بعث إلى المغرب: عبد الله بن الحارث.
وإلى اليمن: القاسم بن السعدي.
وإلى الجزيرة أيوب بن الأوثر -أو الأوتر"- وهو الذي تولى قيادة تنظيم
__________
1 "فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة" ص223.
2 الجاحظ "البيان والتبيين" جـ1 ص28 طبعة بيروت سنة 1987م.(1/313)
المعتزلة أيضا في المدينة والبحرين.
وإلى خراسان: حفص بن سالم.
وإلى الكوفة: الحسن بن ذكوان، وسيلمان بن أرقم.
وإلى أرمينية: عثمان بن أبي عثمان الطويل.
وكان دعاة هذا التظيم يمارسون شئون حياتهم العادية واليومية، تجارة وصناعة وحرفا، إلى جانب العمل الفكري والتنظيمي والسياسي الذي كلفوا به. ومؤرخو المقالات يتحدثون كيف اختار واصل بن عطاء عثمان الطويل -وكان تاجر نسيج "بزازا"- ليقود الدعوة في أرمينية، فأراد الاعتذار بسبب مشاغله التجارية، وعرض أن يدفع للتنظيم نصف ما يملك من ثروة ينفقها التنظيم لقاء إعفائه من السفر إلى أرمينية، ولكن واصل رفض، وأمر الطويل الذهاب إلى أرمينية، داعيا وتاجرا في ذات الوقت. فامتثل الداعي لأمر القائد، وهناك تاجر وربح.. وأجابه أهل أرمينية إلى دعوة المعتزلة.
وكانت لهذا التنظيم تقاليد مرعية في الدعوة إلى فكر المعتزلة، دعت إليها البيئة المحلية وطبيعة المهمة الموكلة إلى هؤلاء الدعاة. ومما بقي من تراثهم نعلم أن الداعي كان يبدأ فيلزم مكانا محددا بالمسجد، يواظب على الحضور فيه باستمرار، حتى تلتفت إليه الأنظار، وحتى يدعو سلوكه الطيب وسمته الحسن الناس إلى التحدث إليه ويشوقهم إلى السماع منه. وكانت هذه الفترة تستغرق في العادة عاما كاملا. ثم يبدأ الداعي فيدعو الناس إلى أفكار "أهل العدل والتوحيد" سنة أخرى، حتى إذا أجابوه، أخذ يدعوهم إلى ما اختص به المعتزلة وتميزوا عن "أهل العدل والتوحيد". وواصل بن عطاء يوصي عثمان الطويل بهذه الخطة في الدعوة فيقول له عندما ذهب إلى أرمينية: "الزم سارية من سواري المسجد سنة تصلي(1/314)
عندها، حتى يعرف مكانك. ثم أفت بقول الحسن "البصري" سنة. ثم إذا كان يوم كذا من شهر كذا فابتدئ بالدعاء للناس إلى الحق، فإني أجمع أصحابي في هذا الوقت، ونبتهل في الدعاء إلى الله، والله ولي توفيقك؟! ".
وعندما أرسل حفص بن سالم إلى خرسان، كي يناظر زعيم الجبر والإرجاء: الجهم بن صفوان، أوصاه: "إذا وصلت إلى بلده فالزم سارية في الجامع سنة، حتى يعرف موضعك، فيشتاق الناس إلى السماع، ثم استدع مناظرة جهم بن صفوان".
ولم تقتصر عضوية هذا التنظيم على الرجال، بل شاركت فيه النساء أيضا. والمعتزلة يذكرون في "الطبقة العاشرة" من طبقات رجالهم -"أجيالهم": بنت أبي علي الجبائي -وهو من أعلامهم- أخت: أبي هاشم الجبائي -وهو من أعلامهم أيضا- ويقولون عنها: إنها "قد بلغت في العلم أن سألت أباها عن مسائل وأجابها، وكانت داعية في النساء، وينتفع بها في تلك الديار! ". أي: إنه كانت دعوة وداعيات ومدعوات في صفوف النساء1.
ولقد بلغ تفاني دعاة المعتزلة لأصولهم الخمسة، وكذلك احتمالهم ألوان الاضطهاد حدا كبيرا، لفت ويلفت إليهم الأنظار. وفي القصيدة التي دافع بها صفوان الأنصاري عن واصل بن عطاء إشارات إلى طبيعة هؤء الرجال ومكانتهم، وإلى مكان واصل من قيادتهم. وهي إشارات ترسم بعض ملامح هذه الدعوة ونشاطات هذا التنظيم. يقول عن واصل وحزبه ودعاته:
__________
1 "فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة" ص62، 63، 223، 227، 237، 316. و"باب ذكر المعتزلة من كتاب المنية والأمل" ص19، 20.(1/315)
له خلف شعب الصين في كل ثغرة ... إلى "سوسها"1 الأقصى وخلف البرابر2
رجال دعاة لا يفل عزيمهم ... تهكم جبار ولا كيد ماكر
إذا قال: مروا في الشتاء تطاوعوا ... وإن كان صيفا لم يخف شهر ناجر3
بهجرة أوطان وبذل وكلفة ... وشدة أخطار وكد المسافر
فأنجح مسعاهم وأثقب زندهم ... وأورى بفلج للمخاصم قاهر4
وأوتاد أرض الله في كل بلدة ... وموضع فتياها وعلم التشاجر5
وما كان سحبان يشق غبارهم ... ولا الشدق من حيي هلال بن عامر6
تلقب بالغزال واحد عصره ... فمن لليتامى والقبيل المكاثر؟!
ومن لحروري وآخر رافض ... وآخر مرجي وآخر حائر؟
وأمر بمعروف وإنكار منكر ... وتحصين دين الله من كل كافر
يصيبون فضل القول في كل منطق ... كما طبقت في العظم مدية جازر
تراهم كأن الطير فوق رءوسهم ... على عمة معروفة في المعاشر
وسيماهم معروفة في وجوههم ... وفي المشي حجاجا وفوق الأباعر
وفي ركعة تأتي على الليل كله ... وظاهر قول في مثال الضمائر
وفي قص هداب وإحفاء شارب ... وكور على شيب يضيء لناظر7
__________
1 السوس الأقصى: بلدة بالمغرب، كان الروم يسمونها: قمونية.
2 خلف البرابر أي: وراء بلاد البربر.
3 الناجر: كل شهر من شهور الصيف؛ لأن الإبل تنجر فيه، أي: تعطش من الحر.
4 الفلج -بفتح الفاء- من معانيه: السهم، والظفر والفوز، والحجة.
5 علم التشاجر: أي علم الكلام!.
6 سحبان وائل: المضروب به المثل عند العرب في الفصاحة. والشدق: لقب لاثنين من البلغاء الخطباء في بني عامر.
7 الكور بفتح الكاف: الدور من العمامة.(1/316)
وعنفقة مصلومة ولنعله ... قبالان في ردن رحيب الخواطر1
فتلك علامات تحيط بوصفهم ... وليس جهول القوم في جرم خابر2
__________
1 العنفقة المصلومة: الرقبة الشديدة -والقبال- بكسر القاف -زمام النعل. والردن: من معانيه الكيس، كانت العرب تضع فيه الدنانير.
2 "البيان والتبيين" جـ1 ص27-29.(1/317)
الدلالة الحضارية:
من بين فرق الإسلام تمتاز المعتزلة بأن نشأتها وفكرها ونشاطها العملي قد كان علامة بارزة من علامات التبلور الحضاري العربي الذي أخذ في القيام والشموخ بعد عصر الفتوحات وقيام الدولة العربية الإسلامية الكبرى. وهذا التبور الحضاري الذي جسدته المعتزلة كان البشير بالمستقبل والحامل لعوامل التقدم، على عكس ما كانت تمثل تيارات وفرق أخرى من ردة حضارية أو قيم رجعية بالقياس إلى ما بشر به الإسلام.
لقد مثل الإسلام، في جانبه الديني والغيبي، دعوة عالمية، كانت الامتداد لدعوة الرسل الذين سبقوا والرسالات التي انقضت. فدين الله واحد، في كل زمان وفي أي مكان على مر التاريخ. وإلى جوار هذا الجانب الديني الغيبي كان الإسلام، بكتابه العربي ونبيه العربي وقيام دعوته بين العرب، تجسيدا لبعث عربي عملاق ووشيك. ومن هنا جاءت الدولة التي أقامها المؤمنون به والفتح الذي أزاحوا به عن الشرق نير الفرس والبيزنطيين، والبناء السياسي والإداري والتنظيم الاقتصادي الذي قام في الدولة العربية الإسلامية الكبرى، والباب الذي فتح أمام الحضارات(1/318)
السابقة للشعوب التي فتحت بلادها كي تتفاعل وتتبلور عناصرها الصالحة في حضارة عربية واحدة لأمة متحدة. جاءت كل هذه الجوانب وقامت كل هذه التباشير لتؤكد أن الإسلام، في جانبه الحضاري، يعني الكثير بالنسبة للعرب والعروبة والتعريب. فنحن أمام ملامح قوية لهذا الدين أخذت تبرز عندما انتشر وأصبحت له دولة يقودها العرب المسلمون.
وحتى يوحد الإسلام القبائل العربية فيجعلها نواة البناء القومي المنشود شدد على رفض العصبية الجاهلية، وإدانة النعرات القبلية اللاتوحيدية واللاقومية.. وحتى يفتح الطريق لانصهار قومي تندمج فيه القبائل العربية مع شعوب البلاد المفتوحة حدث القرآن المسلمين عن خلق الله لهم شعوبا وقبائل ليتعارفوا. ووضع الرسول، عليه الصلاة والسلام أساسا جديدا، ذا مضمون إنساني ومستنير لمعنى العروبة، تجاوز بها العنصرية والعرقية والقبلية إلى رحاب الحضارة والثقافة والفكر على نحو ما يفهمه المستنيرون المعاصرون في هذا المقام. فقال عليه السلام: "ليست العربية بأحدكم من أب أو أم، وإنما هي اللسان، فمن تكلم العربية فهو عربي".
كانت تلك الإضافة من أهم ما أنجز الإسلام، في جانبه الحضاري.
ولكن الصراعات السياسية على السلطة، وما أحدثته الدولة الأموية من تغييرات في طبيعة هذه السلطة قد انتكس بهذا المفهوم القومي المتقدم، وعادت الدولة لتؤسس قوتها وتضمن بقاءها بإحياء العصبية القبلية واذكاء النعرات الجاهلية القديمة، فأصاب الشقاق وحدة القبائل العربية.. كما أشاعت الدولة مفهوم العصبية العربية الضيقة الأفق فأقامت الحواجز بين القبائل وبين الشعوب، فتعطلت تلك العملية الحضارية القومية، عملية الانصهار عن التقدم المأمول.
وحدث أن أصبحت الصورة القومية في الدولة العربية هكذا:(1/319)
- الأمويون يتعصبون للعرب تعصبا ضيق الأفق، حتى لقد جعلوا الموالي -شعوب البلاد المفتوحة- مواطنين من الدرجة الثانية، حرموا من كثير من الحقوق التي قررها الإسلام، مثل: الزواج من العربيات، وإمامة العرب في الصلاة، أحيانا؟!.
- ودهاقين الفرس وأركان النظام الكسروي القديم يذكون روح التعصب ضد كل ما هو عربي، حتى غدت الحركة الشعوبية تحقر كل ما هو عربي، وتسعى لفصم عرى الوحدة السياسية والإدارية للدولة، وتجاهد للحيلولة دون الانصهار الحضاري بين العرب وبين الذين وضعتهم الفتوحات على طريق التعريب.
وكان واضحا أن الطرفين -العصبية الأموية، والتعصب الشعوبي- يمثلان الفكر المتخلف، ويبعثان روح الصراع القديم بين العرب والفرس، ولا يمتان بصلة وثيقة لما بشر به الإسلام وما أتاحته دولته من إمكانية التبلور الحضاري الجديد والانصهار القومي الواحد لأبناء الإمبراطورية الجديدة أجمعين.
وأمام هذا المأزق القومي, والتحدي الحضاري كان العطاء الذي قدمته فرقة المعتزلة على الجبهة القومية هو طوق النجاة للعروبة، عروبة المستقبل ذات المضمون القومي المستنير، والتي تسعى لبناء كل قومي واحد ذي حضارة واحدة من كل الشعوب والقبائل ومختلف المواريث والثقافات. فهم قد رفضوا كلا من عصبية بني أمية وتعصب الشعوبيين. وهم قدموا بواكير صياغات الفكر القومي المتقدم والمستنير، وهم جسدوا بحركتهم وتنظيمهم النموذج الرائد لهذه الولادة القومية والحضارية الجديدة.
وللدلالة على نهوضهم بهذا الإنجاز الحضاري والقومي هناك العديد من الوقائع والأمثلة. يكفي هنا أن نقف عند البعض منها:(1/320)
الموالي: ضد الشعوبية
لقد لعب الموالي دورا بارزا في تنظيم المعتزلة، وفي مناصرة الفكر الذي بشرت به. ولكن المعتزلة لم تنفرد بهذا الأمر، فمن قبلها ومعها كان نشاط الموالي ملحوظا ودورهم بارزا في فرقة الشيعة وحركتها ودعوتها. ولكن الموالي من الشيعة كانوا في الأغلب مع التيار الشعوبي يناصبون العرب والعروبة أشد العداء، متخذين من ظلم بني أمية واضطهادهم لآل البيت ستارا ومناسبة يعينان على إزالة هذه الدولة العربية والعودة عن وحدة الدولة إلى الانفصال. أما الموالي في فرقة المعتزلة وفي تيار "أهل العدل والتوحيد"، فإنهم كانوا طلائع المفكرين الذين بشروا بالاندماج الحضاري، والانصهار القومي العربي، وقدموا مع إخوانهم المنحدرين من أصول عربية بواكير الصياغات القومية للعروبة بمضمونها المستنير.
صحيح أن فكر المعتزلة قد ولد في بيت عربي، هو بيت محمد بن الحنفية. ولكن الموالي كانوا من أبرز فرسان هذه الفرقة وأكثر أعلامها وعلمائها عطاء ونشاطا.
- فأبو مروان غيلان بن مسلم الدمشقي كان من موالي عثمان بن عفان. وهو من أصل مصري "قبطي" ولذلك يلقب أحيانا بغيلان القبطي.
- وأبو حذيفة واصل بن عطاء هو من موالي بني هاشم. والبعض يقول: إنه من موالي ضبة. ويقول آخرون: إنه من موالي مخزوم.
- والحسن بن أبي الحسن البصري من الموالي. وكان أبوه من سبي ميسان.
- وأبو عثمان عمرو بن عبيد بن باب من موالي بني العدوية، وكان(1/321)
أبوه من سبي كابل، أحد ثغور بلخ.
- وأبو بكر أيوب بن أبي تميمة السختياني "131هـ". كان من موالي عنزة.
- وأبو عبد الله يونس بن عبيد "139هـ" هو من موالي عبد القيس.
- وأبو المعتمر سليمان بن طرخان التيمي "143هـ" كان من موالي عمرو بن مرة بن عبادة، من ضبيعة.
- وأبو بكر محمد بن سيرين "110هـ". كان مولى لأنس بن مالك، وكان أبوه من سبي عين تمر بميسان.
- وعطاء بن يسار "94هـ" كان مولى لميمونة بنت الحارث الهلالية، زوج الرسول، عليه السلام.
- وأبو محمد عمرو بن دينار "115هـ". كان من موالي جمح.
- وهشام بن أبي عبد الله الدستوائي "153هـ" من موالي بني سدوس.
- وأبو النضر سعيد بن أبي عروبة "157هـ" من موالي بني عدي بن يشكر.
- وأبو عبيدة حميد بن طرخان الطويل "142هـ". كان من موالي طلحة بن عبد الله بن خلف -طلحة الطلحات- من خزاعة.
- وأبو يسار عبد الله بن أبي نجيح "131هـ". كان من موالي ثقيف.(1/322)
- ومكحول الدمشقي "113هـ". كان من سبي كابل مولى لامرأة من هذيل.
- وغندر، محمد بن جعفر "194هـ". كان من موالي هذيل.
- وأبو عبيدة عبد الوارث بن سعيد التنوري "180هـ" كان من موالي بني العنبر، من تميم.
- وصالح المري كان من موالي بني مرة، من عبد القيس.
- وأبو عبد الله محمد بن إسحاق "151هـ" كان مولى لقيس بن مخرمة بن عبد المطلب بن عبد مناف، وكان جده من سبي عين تمر.
- وأبو خالد مسلم بن خالد الزنجي "180هـ"، كان من موالي مخزوم.
- والعلاف، أبو الهذيل محمد بن الهذيل "235هـ". كان من موالي عبد القيس.
- والنظام إبراهيم بن سيار "231هـ". كان من موالي الزياديين.
- والجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر "255هـ" كان مولى لأبي القلمس عمرو بن قلع الكناني ثم الفقيمي1.
هذا نفر من أعلام المعتزلة وأوائل أئمتهم الذين كانوا من الموالي.
__________
1 انظر عن هؤلاء الأعلام: ابن قتيبة "المعارف" ص48، 441، 442، 443، 468، 512، 508، 234، 452, 453، 420، 491، 492. طبعة القاهرة سنة 1960م. و"أمالي المرتضى" ق1 ص163، 169، 178، 194. طبعة القاهرة سنة 1954م. و"طبقات ابن سعد" جـ7 ق2 ص33، 14، 23، 18، 140-150، 13، 129، 130، 37، 17، 160، 161، 49، 39 طبعة دار التحرير. القاهرة، و"فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة" ص64، 78، 79، 80.(1/323)
ومع ذلك فلم تشب فكر واحد منهم ومن ثم فكر فرقتهم أفكار شعوبية غير عربية. بل على العكس من ذلك تماما، فلقد كان الفكر القومي المستنير، الذي أدان الحركة الشعوبية هو بعض من الإنتاج الفكري لهذه الفرقة وهؤلاء الأعلام.
فالجاحظ مثلا وهو من الموالي يهاجم الشعوبية -في البيان والتبيين- فيقول: "واعلم أنك لم تر قوما أشقى من هؤلاء الشعوبية، ولا أعدى على دينه، ولا أشد استهلاكا لعرضه، ولا أطول نصبا، ولا أقل غنما، من أهل هذه النحلة. ولو عرفوا أخلاق كل ملة، وزي كل لغة، وعللهم في اختلاف إشاراتهم وآلاتهم، وشمائلهم وهيآتهم، وما علة كل شيء من ذلك، ولم اختلقوه؟ ولم تكلفوه؟ لأراحوا أنفسهم، ولخفت مئونتهم على من خالطهم"1.
وأبو الفتح عثمان بن جني "330-392هـ 941-1001م" وهو من أصل فارسي لا يتردد في إعلاء شأن اللغة العربية إذا ما قيست بالفارسية، بل ويجعل ذلك أمرا مقررا من قبل علماء اللغة العربية، الذين انحدروا من أصول فارسية، ولهم دراية وعلم بالفارسية أيضا، فيقول في كتابه "الخصائص": "إنا نسأل علماء العربية ممن أصله أعجمي، وقد تدرب بلغته قبل استعرابه، عن حال اللغتين، فلا يجمع بينهما، بل لا يكاد يقبل السؤال عن ذلك، لبعده في نفسه، وتقدم لطف العربية في رأيه وحسه! "2.
__________
1 "البيان والتبيين" جـ3 ص405، 406.
2 "الخصائص"، جـ1 ص252 طبعة القاهرة سنة 1913م.(1/324)
كما يعالج الجاحظ، في نص هام من نصوصه، عملية المخاض التي تؤذن بولادة قومية واحدة تنصهر فيها الشعوب والقبائل التي كونت سكان الدولة العربية، عربا وموالي. ويتحدث عن دور التعايش والتفاعل بين الأجناس المختلفة، والاشتراك في اللغة والثقافة، والولاء للحضارة الجديدة، وكيف يثمر ذلك "أخلافا وشمائل" جديدة ومتحدة، وكيف تقوم هذه الروابط مقام النسب والولادة من رحم واحدة. فيقول في "الرسائل: "إن العرب قد جعلت إسماعيل، وهو ابن أعجميين عربيا؛ لأن الله قد فتق لهاته -أقصى سقف الفم المشرف على الحلق- بالعربية المبينة.. ثم فطره على الفصاحة، وسلخ طباعه من طبائع العجم. وسواه تلك التسوية، وصاغه تلك الصياغة، ثم حباه من طبائعهم ومنحه من أخلاقهم وشمائلهم، وطبعه من كرمهم وأنفتهم وهممهم على أكرمها. فكان أحق بذلك النسب وأولى بشرف ذلك الحسب. وإن العرب لما كانت واحدة فاستووا في التربية وفي اللغة والشمائل والهمة وفي الأنف والحمية، وفي الأخلاق والسجية، فسبكوا سبكا واحدا وكان القالب واحدا، تشابهت الأجزاء وتناسبت الأخلاط، وحين صار ذلك أشد تشابها في باب الأعم والأخص، وفي باب الوفاق والمباينة من بعض ذوي الأرحام، جرى عليهم حكم الاتفاق في الحسب، وصارت هذه الأسباب ولادة أخرى، حتى تناكحوا عليها وتصاهروا من أجلها، وامتنعت عدنان قاطبة من مناكحة بني إسحاق، وهو أخو إسماعيل وجادوا بذللك في جميع الدهر لبني قحطان، وهو ابن عابر. ففي إجماع الفريقين على التناكح والمصاهرة، ومنعهما من ذلك جميع الأمم، كسرى فما دونه، دليل على أن النسب عندهم متفق، وأن هذه المعاني قد قامت عندهم مقام الولادة والأرحام الماسة. وإن الموالي بالعرب أشبه، وإليهم أقرب، وبهم أمس؛ لأن السنة جعلتهم منهم. إن الموالي أقرب إلى العرب في كثير من المعاني؛ لأنهم عرب في المدعى والعاقلة(1/325)
-العصبة- وفي الوراثة، وهذا تأويل قول الرسول: "مولى القوم منهم" و "مولى القوم من أنفسهم" و "الولاء لحمة كلحمة النسب". وعلى شبيه ذلك صار حليف القوم منهم، وحكمه حكمهم. وإذا عرف ذلك سامحت النفوس، وذهب التعقيد ومات الضغن، وانقطع سبب الاستثقال، ولم يبق إلا التنافس"1.
هكذا تجسدت في المعتزلة الروح الجديدة للأمة الجديدة. موالي وعرب، ينصهرون فكريا وقوميا وحضاريا، ويبشرون حتى بلسان الموالي بتلك الولادة التي تقدم على الأرض العربية أمة واحدة صنعتها العادات والأخلاق والشمائل والسجايا الواحدة والواقع المتحد، والولاء للحضارة الجديدة. وهي أسباب أشد في فعلها وفاعليتها التوحيدية من النسب والعرق الذي باعد بين متعصبي العرب ومتعصبي الشعوبيين.
__________
1 "رسائل الجاحظ" جـ1 ص29-31، 11-14، 34. تحقيق: عبد السلام هارون، طبعة القاهرة سنة 1964م.(1/326)
وتوازن فلسفي "علم الكلام":
لقد تميزت الحضارة العربية الإسلامية عن بعض الحضارات الأخرى بميزات، من أهمها: الطابع والطبيعة التي وازنت بين عدد من المتناقضات، فاتخذت الموقف الوسط، بمعنى العدل، الذي هو الحق بين نقيضين لا يعبر أي منهما، إذا انفرد أو غلب عن الصواب. فلقد وازنت بين المادة والروح, وبين الجسد والنفس, وبين العقل والنقل, وبين الوجدان والحواس، وبين المعلوم والمجهول, وبين عالم الغيب وعالم الشهادة, وبين الدنيا والآخر.. إلخ.. إلخ.
ولقد كان المعتزلة، من بين فرق الإسلام، الأكثر تعبيرا عن هذه(1/326)
الخاصية من خصائص حضارتنا، والأكثر تجسيدا لهذه الميزة التي تميزت بها عن غيرها من الحضارات.
فالقرآن الكريم قد اشتمل على المحكم والمتشابه، والظاهر والباطن، وما يدركه الكافة وما يستعصي إدراكه على غير الراسخين في العلم. والرسول، عليه الصلاة والسلام، قد أخبر أن وراء ظواهر نصوص آياته علما لا يتبدى لمن يقف عند ظواهرها، ودعا من يريد المزيد إلى قلب الظواهر والغوص في الأعماق، فقال: "أثيروا القرآن فإن فيه خبر الأولين والآخرين" و "من أراد العلم فليثور القرآن" 1.
ولكن بساطة مجتمع شبه الجزيرة، المادية والحضارية، وحداثة الصلة بين الأمة الأمية وبين العلم والأنشطة العقلية المعقدة والمركبة وقفت "بالحركة الفكرية"، زمن صدر الإسلام، عند ظواهر النصوص في أغلب الأحيان. فلما تمت الفتوحات، ودخل في إطار الدولة العربية الإسلامية أبناء أمم وشعوب لها في العلم والفلسفة والحضارات العريقة مواريث، وجد الإسلام نفسه وسط خضم من الفلسفات والمذاهب والملل والنحل، ووجها لوجه مع أبنية من الفكر اللاهوتي كثير منها يستخدم في الجدل والإقناع منطق أرسطو وفلسفة اليونان وعقلانية الحكماء الأقدمين، على حين كان لا يزال فقهاء الإسلام وقراؤه يقفون عند ظواهر النصوص. فكان التحدي الذي امتحن فيه وبه هذا الدين الجديد. ولقد زاد من شدة هذا التحدي ما تقرر في ظل الإسلام لمخالفيه من حريات في الاعتقاد، الأمر الذي جعل حواضر الدولة تزخر بالجدل الديني بين فقهاء الإسلام وخصومه، على نحو غير متكافئ؛ لأن الخصوم قد تسلحوا بأدوات ذات طابع عام، بل وعالمي، هي
__________
1 انظر مادة "ثور" في "لسان العرب" لابن منظور.(1/327)
العقل والمنطق والفلسفة، على حين خلت ترسانة القراء والفقهاء "النصوصيين" إلا من النقول آيات وأحاديث، وهي لا تلزم إلا المؤمنين بها، والذين لا يحتاجون إلى الزام.
والرواة يرون قصة وقعت أحداثها في عصر هارون الرشيد "149-193هـ 766-809م". فلقد أخبر زعيم طائفة "السمنية" ببلاد السند ملكه أن البناء الفكري لدين الإسلام لا يستطيع الصمود إذا قامت مناظرة بينه وبين فقهاء المسلمين، ودعا ملكه إلى أن يتحدى الرشيد أن يوفد كبير فقهاء دولته للمناظرة، على أن يكون المغلوب ملزما بالدخول في دين الغالب! وقبل الرشيد التحدي، وبعث إلى بلاد السند بأحد القضاة، وهناك دارت المحاورة بينه وبين "السمني" على هذا النحو:
السمني: أخبرني عن معبودك، هل هو قادر؟
القاضي: نعم.
السمني: فهل هو قادر على أن يخلق مثله؟!.
القاضي: هذه المسألة من الكلام -علم الكلام- والكلام بدعة، وأصحابنا ينكرونه
السمني: ومن أصحابك؟
القاضي: محمد بن الحسن، وأبو يوسف، وأبو حنيفة!
وعند هذا الحد التفت "السمني" إلى مليكه وقال: "قد كنت أعلمتك دينهم، وأخبرتك بجهلهم وتقليدهم، وغلبتهم بالسيف". وعاد القاضي مهزوما إلى بغداد، ومعه رسالة من ملك السند إلى الرشيد يقول فيها: "إني كنت ابتدأتك وأنا على غير يقين مما حكي لي، والآن قد تيقنت ذلك بحضور هذا القاضي"!.. وثارت ثائرة الرشيد، وضاق صدره، وقامت قيامته، وأخذ يصيح: "أليس لهذا الدين من مناظر عنه؟! ".(1/328)
فهؤلاء الفقهاء الذين وقفوا عند ظواهر النصوص، وعافوا أدوات الجدل وقضايا المنطق ومقولات الفلسفة وبراهينها، كانت بضاعتهم كافية قبل أن تزخر الساحة بالمخالفين المسلحين بهذه الأدوات؛ لأن الجمهور كان "مؤمنا" بالنص المنقول، أما بعد أن صار للإسلام خصوم لا يؤمنون بمأثوراته ولا يسلمون عند الاحتجاج بها، فإن الأمر قد أصبح غير ما كان، ولا بد لأهل الإسلام من أن يتقنوا هذه الصناعة ويجيدوا استخدم الأسلحة التي يتسلح به الخصوم. لقد أصبح الواقع الفكري للحياة العربية الإسلامية يتطلب فرسانا غير "النصوصيين"، ويستدعي أسلحة غير "النقول والمأثورات" للدفاع عن الدين الإسلامي وعن حضارة العرب المسلمين. وغدت الأمة العربية المسلمة تتطلع إلى نمطها الفلسفي المتميز الذي تدافع به عن بنائها الحضاري الخاص. فلا بد من الاستجابة الإيجابية تجاه ما فرض عليها من تحديات.
والرواة يكملون قصة مناظرة "السمني" مع قاضي الرشيد، فيقولون: إن نفرا من خاصة الرشيد قد أخبروه أن علماء الكلام وفرسانه الذين أبدعوه -وهم المعتزلة- هم وحدهم القادرون على مناظرة "السمني" وإفحامه، فلو أن الرشيد أخرجهم من سجونه لاستطاعوا الدفاع عن الإسلام. فأمر الرشيد بإحضار سجناء المعتزلة، وعرض عليهم "مسألة" "السمني"، فأجابه شاب منهم، هو معمر بن عباد "215هـ 830م": "إن هذا السؤال الذي سأله السمني محال؛ لأن المخلوق لا يكون إلا محدثا، والمحدث لا يكون مثل القديم، فقد استحال أن يقال: يقدر أن يخلق مثل، أو لا يقدر، كما استحال أن يقال: يقدر أن يكون جاهلا أو عاجزا".
فجهز الرشيد جماعة من المعتزلة، وبعث بهم إلى بلاد السند لمناظرة السمني والدفاع بالفلسفة والجدل وعلم الكلام عن الإسلام، بعد أن(1/329)
عجز عن الدفاع عنه "النصوصيون" الذين وقفوا عند النقول والمأثورات1.
فالمعتزلة إذن كانوا هم التجسيد للأسلحة الجديدة التي تسلحت بها الأمة دفاعا عن حضارتها الوليدة ودينها الجديد أمام خصومها من أهل الملل والنحل والمذاهب والفلسفات الأخرى.
ولقد كان "علم الكلام" الذي ظهر في حضارتنا على يد المعتزلة هو التعبير عن أصالة هذه الأمة وذاتيتها في الحقل الفلسفي، فلم يكن تقليدا للفلسفة اليونانية وترديدا لمقولاتها، كما لم يكن وقوفا عند ظواهر نصوص الكتاب والسنة، وإنما كان معالجة فلسفية، بأدوات الفلسفة، لقضايا الدين والعقيدة والحياة الخاصة بهذه الأمة. ومن ثم كانت فيه المادة لمن يريد أن يلتمس ما أبدعه العرب المسلمون في الفلسفة والفكر الديني على السواء.
ولا يستطيع أحد أن ينازع في أن نشأة هذا العلم كانت من إبداع المعتزلة، وأنهم ظلوا دائما وأبدا أعظم الفرسان في ميدانه، وكما يقول الحاكم أبو السعد المحسن بن كرامة الجشمي "413-494هـ 1022-1101م": "إن المعتزلة هم الغالبون على الكلام، الغالبون على أهله، فالكلام منهم بدأ، وفيهم نشأ، ولهم السلف فيه، ولهم الكتب المصنفة المدونة، والأئمة المشهورة، ولهم الرد على المخالفين من أهل الإلحاد والبدع، ولهم المقامات المشهورة في الذب عن الإسلام، وكل من أخذ في الكلام، أو ما يوجد من الكلام في أيدي الناس فمنهم أخذ، ومن أئمتهم اقتبس2".
__________
1 "فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة" "ص252، 253، 255.
2 "فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة" ص371.(1/330)
ولقد دل هذا البناء الفكري الذي أبدعه المعتزلة على أنه التعبير عن خاصية هذه الأمة والترجمة لما تميزت به حضارتها عندما وازن بين المتناقضات. فنحن أمام ما أبدع المعتزلة في علم الكلام لا نجد أنفسنا أمام فلسفة عقلية فقط، على نحو ما نجد لدى اليونان، ولا أمام دين فقط، على نحو ما نجد عند "النصوصيين" والفقهاء. وإنما نطالع بناء فكريا تدينت فيه الفلسفة وتفلسف فيه الدين! فبناته قد درسوا الفلسفة كي يدافعوا بها عن الدين، وجمعوا بين الفكر الديني الإسلامي وبين علوم الأوائل، فكان لنا منهم ذلك المزيج الجديد من الفلاسفة الإلهيين. وكما يقول "ألفريد جيوم" "Ahfred Guillaume" في بحثه عن "الفلسفة وعلم الكلام": فإن "قوة الحركة الاعتزالية مردها جهود أولئك الذين حاولوا أقصى ما في طوقهم إقامة علم الكلام الإسلامي على أسس ثابتة من الفلسفة، مصرين في الوقت نفسه على أن تكون تلك الأسس منطقية، ثم الانسجام بينها وبين الفلسفة التي يجب أن تدرس بوصفها من صميم العقيدة الدينية"1.
نعم لقد نهض المعتزلة في علم الكلام بهذه المهمة الصعبة، بل بأصعب المهام التي تطرح في أية ثقافة من الثقافات.
والأمر الذي يزيد جهدهم هذا عظما وعظمة أنهم كانوا ينهضون به وهم على وعي بالهدف الذي يريدون بلوغه والغايات التي يريدون تحقيقها. فهم قد درسوا الفلسفة اليونانية، واتصلوا بفكر الفرس والهنود، وأدركوا أن الموقف الأسهل هو أن يميل المرء إلى قطب من قطبي الظاهرة وطرف من طرفي الصراع، أما الصعب والأصعب فهو إبداع البناء الفكري المتوازن،
__________
1 جيوم "الفلسفة وعلم الكلام" ص379. طبعة بيروت - ضمن مجموعة: تراث الإسلام سنة 1972.(1/331)
والذي يعبر عن شخصية الأمة المتميزة بالتوازن، ذات الحضارة التي توازن بين المتناقضات. فالمنهج النقدي والمقارن قد قام بدوره عند هؤلاء المبدعين.
ومهمة المعتزلة الصعبة، هذه يتحدث عنها الجاحظ، فيضع يدنا على نهجهم وسبيلهم عندنا يقول في عبارات جامعة يصف فيها المتكلمين، وما يجب أن يكونوا عليه، فيقول في كتاب "الحيوان": "وليس يكون المتكلم جامعا لأقطار الكلام، متمكنا من الصناعة، يصلح للرياسة، حتى يكون الذي يحسن من كلام الدين في وزن الذي يحسن من كلام الفلسفة، والعالم عندنا هو الذي يجمعهما، والمصيب هو الذي يجمع تحقيق التوحيد وإعطاء الطبائع حقها من الأعمال. ومن زعم أن التوحيد لا يصلح إلا بإبطال حقائق الطبائع، فقد حمل عجزه على الكلام في التوحيد، وكذلك إذا زعم أن الطبائع لا تصح إذا قرنها بالتوحيد، ومن قال هذا فقد حمل عجزه على الكلام في الطبائع. وإنما ييأس منك الملحد إذا لم يدعك التوفر على التوحيد إلى بخس حقوق الطبائع؛ لأن في رفع أعمالها رفع أعيانها، وإذا كانت الأعيان هي الدالة على الله فرفعت الدليل فقد أبطلت المدلول عليه، ولعمري إن في الجمع بينهما لبعض الشدة. وأنا أعوذ بالله تعالى أن أكون كلما غمز قناتي باب من الكلام صعب المدخل، أنقضت ركنا من أركان مقالتي!، ومن كان كذلك لم ينتفع به! "1.
هكذا أبدع المعتزلة للأمة فلسفتها المتميزة. فكان علم الكلام الذي وازن بين ما حسبه ويحسبه الكثيرون مستعصيا على الموازنة، عصيا على الاجتماع: التوحيد -الألوهية- والطبائع "الطبيعة والمادة وقوانينها".
__________
1 "الحيوان" جـ2 ص134، 135. تحقيق عبد السلام هارون، طبعة القاهرة الثانية.(1/332)
والعقل والنقل:
يسلم الكثيرون بأن المعتزلة هم فرسان العقلانية في حضارتنا. ولكن كثيرون أيضا هم أولئك الذين يعتقدون أن هذه العقلانية قد كانت مما اكتسبه المعتزلة في فترة متأخرة، بعد أن ترجمت الفلسفة اليونانية على عهد العباسيين، وعلى عهد الخليفة المأمون بالذات "198-218هـ 813-833م". ولكن الحقيقة تدعونا إلى القول بأن قسمة العقلانية عند المعتزلة قد تدعمت ونمت بترجمة فلسفة اليونان، ولكنها لم تبدأ بهذه الترجمة، فالمعتزلة ومن قبلهم أسلافهم "أهل العدل والتوحيد"، قد مثلوا في تطورنا الفكري بمراحله المبكرة عقل هذه الأمة، الذي تأمل ونظر وتدبر كي يجيب عن الأسئلة التي طرحتها الحياة على المجتمع والناس. فمنذ نشأتهم الأولى امتازوا وتميزوا بالنظر الفلسفي في أمور الدين، فهم إذن يمثلون تيارا عقليا في الفكر العربي الإسلامي حتى قبل حركة الترجمة عن اليونان وغيرهم من القدماء.
فابن سعد -صاحب "الطبقات الكبرى"- يصف الحسن بن محمد بن الحنفية -أستاذ غيلان الدمشقي- بأنه "كان من ظرفاء بني هاشم، وأهل العقل منهم"1.
ومعبد الجهني "80هـ" وأتباعه -وهو من أعلام "أهل العدل والتوحيد"- نقرأ في وصف طريقته وطريقة أتباعه في التأمل والنظر والبحث عن الحقيقة ما كتبه البعض حين قال: "إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن، ويتقفرون العلم"، أي: يطلبونه، ويتتبعونه، ويجمعونه، ويبحثون عن غامضة، ويستخرجون خفيه2.
__________
1 "طبقات ابن سعد" جـ5 ص67.
2 "صحيح مسلم" -بشرح النووي- جـ1 ص155، 156، طبعة القاهرة "محمود توفيق".(1/333)
فهو موقف قديم، ونهج عريق، وقسمة أصيلة من قسمات أهل العدل والتوحيد.
ولقد نبعت هذه القسمة الاعتزالية من مكانة العقل عندهم، والمركز الذي أحلوه إياه إذا ما قيس بالنصوص والمأثورات.
وفي الحق فإن مقام العقل عند المعتزلة هو صفحة من الصفحات المشرقة في حضارة العرب والمسلمين. فالعقل عندهم هو "وكيل الله" عند الإنسان، جعل إليه أزمة أموره، وقيادة نشاطاته. وهم يطلبون أن يدعم الإنسان عقله الغريزي بعقله المكتسب، فذلك هو السبيل لبلوغ غاية الكمال -كما يقول الجاحظ في "الرسائل"1.
والمعتزلة عندما يعرضون للأدلة وترتيبها، يختلفون اختلافا أصيلا عن أصحاب الحديث وعامة أهل السنة في تعداد هذه الأدلة وترتيبها، فهي عند أهل السنة ثلاثة: الكتاب، والسنة، والإجماع على هذا الترتيب. بينما هي أربعة عند المعتزلة، يضيفون العقل إلى هذه الأدلة الثلاثة، ويقدمونه عليها جميعا، بل ويرون أنه الأصل فيها جميعها! فيقولون -بعبارات القاضي عبد الجبار في كتابه "فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة":
"والأدلة: أولها: دلالة العقل؛ لأن به يميز بين الحسن والقبيح؛ ولأن به يعرف أن الكتاب حجة، وكذلك السنة، والإجماع. وربما تعجب من هذا الترتيب بعضهم، فيظن أن الأدلة هي: الكتاب، والسنة، والإجماع، فقط، أو يظن أن العقل إذا كان يدل على أمور فهو مؤخر، وليس الأمر كذلك؛ لأن الله تعالى لم يخاطب إلا أهل العقل؛ ولأن به يعرف أن الكتاب حجة وكذلك السنة والإجماع، فهو الأصل في هذا الباب. وإن كنا نقول:
__________
1 "رسائل الجاحظ" جـ1 ص92.(1/334)
إن الكتاب هو الأصل من حيث إن فيه التنبيه على ما في العقول، كما أن فيه الأدلة على الأحكام. وبالعقل يميز بين أحكام الأفعال وبين أحكام الفاعلين، ولولاه لما عرفنا من يؤاخذ بما يتركه أو بما يأتيه، ومن يحمد ومن يذم، ولذلك تزول المؤاخذة عمن لا عقل له. ومتى عرفنا بالعقل إلها منفردا بالإلهية، وعرفناه حكيما، نعلم في كتابه أنه دلالة، ومتى عرفناه مرسلا للرسول ومميزا له بالأعلام المعجزة من الكاذبين، علمنا أن قول الرسول حجة. وإذا قال -صلى الله عليه وسلم: "لا تجتمع أمتي على خطأ، وعليكم بالجماعة"، علمنا أن الإجماع حجة"1.
فالعقل هو أول الأدلة، وليس ذلك فقط، بل هو أصلها الذي به يعرف صدقها، وبواسطته يكتسب الكتاب والسنة والإجماع قيمة الدليل "الفلسفة؛ لأن حجة القرآن موقوفة على حجية الرسالة، وهما موقوفتان ومتوقفتان على التصديق بالألوهية؛ لأنها مصدرهما، فوجب أن يكون لإثبات الألوهية طريق سابق عليهما، وهذا الطريق هو برهان العقل!.
وكذلك الحال في معرفة الأصول الشرعية، فسبيلها عند المعتزلة: العقل، ومعرفة لسان العرب. وبعبارة الماوردي "364-450هـ 945-1055م" في كتابه "أدب القاضي": أن "السبب المؤدي إلى معرفة الأصول الشرعية والعمل بها شيئان:
أحدهما: علم الحس، وهو العقل؛ لأن حجج العقل أصل لمعرفة الأصول، إذ ليس تعرف الأصول إلا بحجج العقول.
وثانيهما: معرفة لسان العرب -وهو معتبر في حجج السمع خاصة"2.
__________
1 "فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة" ص127.
2 الماوردي "أدب القاضي" جـ1 ص274، 275، طبعة بغداد سنة 1971م.(1/335)
وهذه المكانة العالية التي وضع المعتزلة العقل فيها، وتقديمهم له على غيره من الأدلة، أدلة المعرفة الدينية، ما تعلق منها بالأصول أو بالفروع، قد قادت المعتزلة إلى حيث تميزوا عن أصحاب الحديث في الموقف من نوع العلاقة بين "المعقول" و"المنقول"، وأيهما الأصل والأساس؟ ومن منهما الذي جاء بيانا وتفصيلا للثابت والأولى والأصيل؟ وهذه القضية قد عرض لها المعتزلة في مجالات عدة، من أشهرها قضية: الحسن والقبح، هل هما ذاتيان، أي: يدركان بالعقل دون توقف على النص والمأثور؟ -وهو مذهب المعتزلة- أو أن الشيء حسن أو قبيح؛ لأن هناك نصا يقول لنا: إن هذا حسن وهذا قبيح؟ -وهو موقف جمهور أهل السنة وأصحاب الحديث.
لقد اعتمد المعتزلة على العقل، ووثقوا بحكمه في التحسين والتقبيح، دونما حاجة إلى النصوص والمأثورات؛ لأن الحسن والقبح عندهم ذاتيان، أي: طبيعيان، فهم هنا يعطون العوامل الطبيعية وزنها الحقيقي، ويجعلون إدراكها وظيفة من وظائف العقل، دونما دخل في شيء من ذلك للنصوص والمأثورات. بل لقد أوجبوا عرض هذه النصوص والمأثورات على العقل، فهو الحكم الذي يميز صحيحها من منحولها، ولا عبرة بالرواة ورجال السند، مهما كانت هالات القداسة التي أحاطهم بها المحدثون، وإنما العبرة بحكم العقل في هذا المقام.
وهذا التقديم للعقل وبراهينه على النقل ونصوصه قاد المعتزلة إلى القول بأن الشرع لم يأت مطلقا بما يخالف العقل، بل إن ما جاء به إما أن يكون واجبا بالعقل أو جائزا في نظره. ولا يأتي بما حظره العقل أو أبطله. وحجتهم على ذلك أن أدلة الشرع وأمثالها لا يعقلها إلا العالمون من ذوي العقول، وهذا هو المراد بقول الله سبحانه: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43] وبقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ(1/336)
لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى} [طه: 54] . وهكذا كانت حجج العقل وبراهينه قاضية وحاكمة على حجج السمع. ولذلك كما يقول الماوردي في "أدب القاضي": "سمى كثير من العلماء العقل: أم الأصول"1.
وإذا كان مستحيلا عند المعتزلة أن يأتي لشرع بما يحيله العقل أو يبطله، فما وظيفة الشرع إذن؟. إن وظيفته أن يفصل ما هو مجمل في العقل، ويقرر ما هو مركب فيه، ويؤكد ما أودعه فيه الخالق سبحانه. وبعبارات القاضي عبد الجبار في "شرح الأصول الخمسة"، والماوردي في "أدب الدنيا والدين": "فإن ما يأتي به الرسل لا يكون إلا لتفصيل ما تقدر جملته في العقل. إن وجوب المصلحة وقبح المفسدة متقرران في العقل. والرسل قد جاءوا بتقرير ما قد ركبه الله تعالى في عقولنا، وتفصيل ما قد تقرر فيها"2.
وكما رفض المعتزلة اتخاذ النقل من دون العقل سبيلا للمعرفة، كذلك رفضوا طريق التقليد؛ لأن التقليد كما يكون في الحق يكون في الباطل، وكما يكون في الصحيح يكون في الفاسد، وكما يكون فيما ثبت بالدليل يكون فيما لا دليل عليه. وهذا معلم هام من المعالم المميزة بينهم وبين أهل السنة وأصحاب الحديث3.
ولقد كان طبيعيا لمن يقدمون العقل في أمور الدين أن يقدموه في أمور الدنيا، وأن يكون هو الأساس والعماد في كل ما يتعلق بهما جميعا، فالأمر عندهم -كما يقول الماوردي في كتابه "أدب الدنيا والدين": "إن لكل
__________
1 المصدر السابق: جـ1 ص274، 275.
2 "شرح الأصول الخمسة" ص565. والماوردي "أدب الدنيا والدين" ص94 طبعة القاهرة سنة 1973م.
3 "فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة" ص170.(1/337)
فضيلة أسا، ولكل أدب ينبوعا، وأس الفضائل وينبوع الآداب هو العقل، الذي جعله الله تعالى للدين أصلا وللدنيا عمادا، فأوجب التكليف بكماله، وجعل الدنيا مدبرة بأحكامه، وألف به بين خلقه، مع اختلاف هممهم ومآربهم، وتباين أغراضهم ومقاصدهم، وجعل ما تعبدهم به قسمين: قسما وجب بالعقل، فوكده الشرع، وقسما جاز في العقل، فأوجبه الشرع، فكان العقل لهما عمادا"1.
ذلك هو مقام العقل عند المعتزلة، قدموه وسودوه، وكان تقديمه وسيادته قسمة من القسمات التي امتازوا بها عن غيرهم، أو أكثر من غيرهم من فرق الإسلام. ومع ذلك فهم لم يهملوا النقل والمأثورات، وإنما جعلوا العقل حاكما تعرض عليه المأثورات كي يفصل في صحتها، رواية ودلالة، وأكدوا توازن موقفهم عندما نبهوا على أن: العقل حجة لله ودليل لدى الإنسان، وكذلك الكتاب. ومحال أن يتناقض دليلان مخلوقان لخالق واحد؛ لأن الغاية منهما معا هداية الإنسان وسعادته في الدنيا والآخرة.
__________
1 "الحيوان" جـ1 ص216، 217.(1/338)
علماء مجربون:
والمعتزلة لم يكونوا فقط، كما يظن الكثيرون، علماء في الدين، وفلاسفة في الإلهيات. وإنما كانوا: فرسانا في القتال، وثوارا في السياسة، ومتبتلين في العبادة، وزهادا في عرض الدنيا، ورجال دولة، وأدباء وشعراء ورواة ونقادا. وأيضا: علماء بالمعنى العام لهذا المصطلح. وذلك فضلا عن علمهم الديني والمباحث التي أبدعوها بعلم الكلام. لقد كانوا أكثر من فرقة دينية. كانوا علماء بالمعنى الحضاري، بل وصناعا للحضارة التي نفخر بها اليوم. أليس عصرها الذهبي الذي نعتز به ونستدفئ بذكرياته وإنجازاته هو عصر الخلفاء الذين تمذهبوا بمذهبهم؟ المأمون "198-218هـ 813-833م" والمعتصم "218-228هـ 833-842م" والواثق "228-233هـ 842-847م"؟
والذين يقرءون كتب الجاحظ مثلا وخاصة "الحيوان" يرون هذا الجانب من جوانب علم المعتزلة، فهو يورد لأعلامهم تجارب وملاحظات واستقراءات في العلوم، وفي دراسات الحيوان بالذات. كما يشير إلى ما لبعضهم من جهود في الفلك وأبحاث في النجوم. ومن النصوص ذات الدلالة ذلك النص الذي يسخر فيه الجاحظ من هؤلاء الذين يعيبون اشتغال عدد من أئمة المعتزلة بالبحث والتجريب في الحيوان"، والملاحظة والاستقراء "لقدر الكلب ومقدار الديك". ويدافع الجاحظ عن هؤلاء الباحثين في هذه الميادين، واصفا إياهم بأنهم من "جلة المعتزلة، أشراف أهل الحكمة" ويقول: "إن مثل هذا العلم يتفرغ للجدال فيه الشيوخ الجلة والكهول العلية، وحتى يختاروا النظر فيه على التسبيح والتهليل، وقراءة القرآن، وطول الانتصاب في الصلاة، وحتى يزعم أهله أنه فوق الحج والجهاد، وفوق كل بر واجتهاد"1.
__________
1 "الحيوان" جـ1 ص216، 217.(1/339)
وفرسان الدفاع عن الإسلام:
ولقد كان طبيعيا لفرقة هذه أسلحتها الفكرية، وذلك مبلغ تمرسها وإجادتها لاستخدام أسلحة الخصوم الفكريين، وتلك هي الميادين التي شملها علم علمائها ومفكريها. كان طبيعيا أن تكون هذه الفرقة هي أقدر فرق المسلمين على الدفاع عن الإسلام تجاه التحديات. فالخوارج كانوا في شغل عن تلك المهمة بالحرب المتصلة التي لا تدع وقتا ولا جهدا للفكر النظري ومجادلة خصوم الإسلام. والشيعة كانوا في شغل باتقاء اضطهاد الأمويين، وتجسيد أحزانهم ومأساتهم كي تتحول إلى رباط عاطفي يكسب الأنصار ويديم لفرقتهم البقاء، كما شغلوا بنظريتهم في الإمامة وحكايات فضل أهل البيت عن أغلب الأمور الأخرى. والمرجئة والجبرية الأموية كانوا "أهل حشو" يقفون عند ظواهر النصوص، ومن ثم فلا جلد لهم ولا قدرة على جدل خصوم المسلمين بمنطق أرسطو وحكمة الفرس وفلسفة الهند واليونان. أما المعتزلة فقد كانوا هم الفرقة الإسلامية التي تصدت للدفاع عن الإسلام ضد خصومه، بل واتخذت موقع الهجوم على هؤلاء الخصوم.
ففي العهد العباسي انتعشت مذاهب "المانوية" وفرقها، واستعادت قوتها، ودخلت في صراع فكري ضد عقائد الإسلام، واستند هذا الصراع المانوي إلى عصبية شعوبية، مستترة أو ظاهرة، كانت تحتل المراكز الحساسة في جهاز الدولة العباسي. فاستطاعت المانوية أن تشيع الزندقة والإلحاد والاستخفاف بالدين في الحياة الفكرية، وأن تشيع الفكر الشعوبي في الحياة القومية والسياسية. وتصدي المعتزلة للمانوية وفرقها، فدرسوا منطق أرسطو وفلسفة اليونان -التي هي أسلحة الخصوم- واطلعوا على مؤلفات الجدل المسيحي في العصر "الهلنستي" حتى استطاعوا -كما يقول "جب" "مGibb" "1856-1901" في كتابه "دراسات في حضارة الإسلام": "أن يقارعوا الثنوية حجة بحجة، وأن يفحموهم، وأن ينشئوا الفلسفة الأخلاقية المستمدة من القرآن"1.
ولقد كان الارتفاع التدريجي لنجم المعتزلة، منذ نهاية عهد الرشيد،
__________
1 جب "دراسات في حضارة الإسلام" ص6. طبعة بيروت سنة 1964م.(1/340)
مقرونا بانحسار المد "المانوي - الشعوبي" عن الحياة الفكرية والسياسية للعرب والمسلمين في ذلك التاريخ.
ويكفي أن نشير، للدلالة على الجهد الذي قدمه المعتزلة على هذه الجبهة -جبهة الدفاع عن الإسلام ضد خصومه- إلى أن الجزء الخامس من "المغني في أبواب التوحيد والعدل" للقاضي عبد الجبار، قد أفرد للرد على الفرق غير الإسلامية، من ثنوية، ونصارى، ووثنيين ... إلخ ... إلخ. وإن تناول المعتزلة لفكر هذه الفرق، في مؤلفاتهم، لم يكن كتناول مؤرخي الملل والنحل والمقالات، عرضا للآراء وتقريرا للمذاهب، وإنما كان بيانا لحجج المعتزلة التي قدمتها في صراعها الفكري والحضاري مع هؤلاء الخصوم الفكريين.
والمعتزلة لم يدافعوا فقط هذا الهجوم عن عقائد الإسلام، بل طاردوا هؤلاء الخصوم، وكسبوا إلى الإسلام أنصارا جددا كثيرين، حتى لقد كانوا أبرز من عمل على نشر الإسلام في البلاد المفتوحة، والوحيدين الذين استطاعوا أن يقنعوا بالإسلام أولئك الذين عرفوا مذاهب الفلسفة وأسلحة الأقدمين في الجدل. ومما يروى عن أبي الهذيل العلاف "235هـ 879م" -وهو الذي اكتملت في عصره أصول المعتزلة الخمسة- أنه قد دخل الإسلام على يديه ما يزيد عن ثلاثة آلاف رجل. أما أبو سهل بشر بن المعتمر الهلالي "210هـ" فلقد نذر "ووظف على نفسه أن يدعو كل يوم نفسين إلى دين الله، فإن أخطأه يوما قضاه! "1.
بل ويذكر الذين يؤرخون لهذا العصر -ومنهم "جيوم" في كتابه "الفلسفة وعلم الكلام"- أن نفوذ المعتزلة قد ترك آثاره الفكرية البارزة على فكر علماء الكلام اليهود، حتى شابهت آراء اليهود آراء المعتزلة في كثير من
__________
1 "فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة" ص251.(1/341)
القضايا، لا لأخذ المعتزلة عن اليهود -كما يروج خصومهم- وإنما لما تمتع به المعتزلة من "نفوذ عميق على مفكري اليهود"1 الذين كانوا قد تعايشوا واندمجوا في الدولة الجديدة، وخاضوا في الجدل مع مختلف القوى الفكرية فيها.
هكذا كان المعتزلة فرسان الدفاع عن الإسلام، بل والدعوة إليه؛ لأنهم كانوا أكثر امتلاكا لأدوات هذا الفن ممن عداهم من فرق الإسلام.
__________
1 "الفلسفة وعلم الكلام" ص384.(1/342)
القوى الاجتماعية التي يمثلونها:
كانت العصبية العربية هي الامتداد "لبداوة" الجاهلية، بما اتسمت به من ضيق أفق قصر بها عن أن تبصر ضرورات الانصهار القومي والتوحد الحضاري للقبائل والشعوب في إطار جديد ومستنير. وكانت العصبية الشعوبية هي الامتداد لمواريث الدولة الفارسية القديمة والتجسيد لأحلام الدهاقنة -كبار ملاك الريف- والموابذة -رجال الدين المجوس- والأصابذة والأساورة -قادة الجيش الكسروي- أحلامهم في فك عرى الدولة العربية المسلمة، والعودة إلى مجتمعهم الإقطاعي ذي الطبقات المغلقة الذي تحمي الاستغلال فيه، بل وتقدسه، عقيدة الحكم بالحق الإلهي.
ومن ثم فلقد كانت النزعتان المتعصبتان أبعد ما تكونان عن روح الإسلام المتقدمة والمستقبلية والإنسانية، وأبعد ما تكونان عن مصالح القوى الاجتماعية الصاعدة التي أخذ الإسلام بيدها، والتي حملت لواءه، فبنت دولته، ثم خرجت بسيوفها فأطاحت بعروش الحكم بالحق الإلهي وسيطرة الإقطاع في أرض كل من فارس والروم.
ومن هنا فإننا نستطيع أن نقول إن هذه القوى الاجتماعية الصاعدة،(1/343)
بصرف النظر عن أصولها العرقية ومواريثها الحضارية، هي التي:
- رفضت العصبية العربية ذات الطابع البدوي والضيق الأفق.
- ورفضت النزعة الشعوبية ذات المضمون الفارسي الجاهلي.
- وبشرت بالانصهار القومي لأبناء الدولة الجديدة جميعا، على أساس حضاري وبمضمون إنساني ومستنير؛ لأن مصالحها كانت مع الوحدة القومية، وآفاقها كانت مع التقدم والمستقبل، وليس مع بداوة الأعراب أو إقطاع الفرس القديم.
- ورأت في عقلانية الإسلام -كدين اقتصد في الغيبيات وكحضارة تعلي من قدر العقل والإنسان- أداة البحث والنظر والتدبر الكفيلة حقا بجعل هذه الأمة: الوارث الشاب لمواريث الحضارات العريقة المحتضرة، الأمر الذي يجعلها بحق خير أمة أخرجت للناس.
وإذا كان المعتزلة هم الطلائع التي حملت هذا الفكر وبشرت به. فما هي على وجه التحديد القوى الاجتماعية التي كانت مصالحها وميولها مع هذا الفكر الجديد؟ والتي كان وضوح انتشار الاعتزال في صفوف أبنائها الدليل على تمثيل المعتزلة لها في هذا الصراع الفكري والسياسي الذي شهدته خريطة المجتمع العربي الإسلامي في ذلك التاريخ؟.
نحن نعلم أن الموقع الجغرافي الحاكم للعالم العربي، والذي جعله همزة الوصل بين أوربا ومراكز التجارة في آسيا والشرق الأقصى والصين، قد جعلت تاريخيا من هذا العالم معبر التجارة العالمية وطريقها، ولقد أدى ذلك إلى النمو المبكر لفئات التجار وطبقتهم في البلاد، وإلى أن أصبحت طرق التجارة شرايين توحيدية تربط أجزاء هذه المنطقة، وخاصة بعد أن وحدتها فتوحات العرب المسلمين.
وهؤلاء التجار الذين كانوا هم العلماء والمفكرين والمتكلمين والفقهاء(1/344)
في ذات الوقت، كانوا أميل إلى العقلانية، بحكم بيئاتهم وآفاقهم المستنيرة وبحكم تفاعلهم مع أبناء الحضارات العريقة من غير العرب، كما كانوا أكثر القوى الاجتماعية نزوعا إلى الوحدة القومية؛ لأن وحدة المجتمع تعني بالنسبة لمهمتهم العالمية المزيد من الازدهار. ومثلهم في ذلك كان أهل الحرف والصناعات.
ونحن نعلم كذلك أن العقلانية والتفكير العقلي، وتقديم البراهين العقلية على ظواهر النصوص المأثورة هي سمات تنفر منها، مثلا حياة البدو النازعة إلى البساطة والسذاجة، كما تنفر منها البيئة الزراعية التي تروج فيها الخرافة ويشيع فيها لإيمان بالخوارق واللامعقول.
فهل كان إذن للمعتزلة رجالا وتنظيما، وللبيئة التي عاشوا فيها، وخاصة المدن التي غلب عليها فكرهم وشاعت فيها أصولهم الخمسة، علاقة اجتماعية مثلا بالتجارة والحرف والصناعات التي تؤهل أصحابها عادة في مثل تلك المجتمعات والبيئات لأن ينزعوا إلى العقل والعقلانية أكثر مما تؤهل لذلك بيئة البدو وحياة الزراعة والريف؟. وبالتحديد هل الطابع التجاري والحرفي والصناعي ملحوظ في صفوف المعتزلة، وبالذات في بيئاتهم والمواطن التي انتشر فيها فكرهم؟ وهل نستطيع أن نقول: إن أصحاب هذه النزعة العقلية كانوا متميزين اجتماعيا، وإن هذا الوضع الاجتماعي المتميز كان أحد العوامل التي ميزتهم ذلك التميز الفكري الذي أشرنا إلى أبرز قسماته؟
إن محاولة الإجابة عن هذا السؤال تصطدم بندرة الحقائق والوقائع والمعلومات. فالتأريخ للمعتزلة ورجالهم وجمهورهم هو من أصعب الأمور؛ لأنه تاريخ لتنظيم سري تقريبا ومضطهد في أغلب عهوده، وما كتب حوله من مادة في تاريخه القديم قد باد بعد المحنة العامة التي(1/345)
تعرضوا لها منذ عصر المتوكل العباسي. ومع كل ذلك، فإن "البحث المستقصي يضع يدنا على عدد من الحقائق ترشح الإجابة بنعم وبالإيجاب عن ذلك السؤال الذي طرحناه، وتشير إلى أن جمهور البيئات التي انتشرت فيها هذه النزعة "العقلية - القومية" قد كانوا ذوي صلة اجتماعية وثيقة بالتجارة والحرف والصناعات، وأن المدن والقرى التي غلب عليها الاعتزال كانت ذات صلة وثيقة بالتجارة والتجار في تلك العصور فمثلا:
1- في أسماء عدد غير قليل من أئمة المعتزلة نلحظ ألقابا تربطهم بصناعة من الصناعات أو حرفة من الحرف أو لون من ألوان التجارة. أو على الأقل بقطاع المدن والأحياء السكنية الخاصة بأصحاب هذه الصناعات والحرف والتجارات.
- فواصل بن عطاء يلقب بالغزال -وحتى الذين ينفون عنه الاشتغال بصناعة الغزل يعللون تلقبه بهذا اللقب بعلل لا تبتعد به عن الغزالين. فالبعض يقول: إنه كان يسكن في حي الغزالين، أي: إنه قد كان للغزالين حي خاص بهم، سكن فيه واصل -واتخاذ الحرف وأصحابها للأحياء الخاصة هو سمة من سمات المدن في تلك العصور- ومنهم من يقول إنه كان يلزم حانوت غلام له يشتغل بصناعة الغزل وحرفته. وفي كل الأحوال والتفسيرات فهناك اتفاق على أنه كان يسكن حي الغزالين ويعيش بين دكاكينهم.
- وعمر بن عبيد بن باب هناك من يقول إن أباه كان تاجرا، صاحب دكان ومن يقول: إنه نساجا، صناعته النسج.
- وإبراهيم بن سيار النظام سمي بالنظام؛ لأن نظم الخرز كان صناعته.
- وأبو الهذيل العلاف سمي بالعلاف؛ إما لأنها كانت حرفته؛ أو(1/346)
لأنه كان يسكن في حي العلافين، على خلاف في ذلك.
- وهشام بن عمرو الفوطي هناك من يقول إن تسميته بالفوطي جاءت من تجارته في "الفوط".
- ومحمد بن سيرين وهناك اتفاق على أنه كان تاجرا من تجار النسيج "بزازا".
- وعثمان الطويل كان تاجرا.
- وأبو رجاء مصر بن طهمان، الوراق "129هـ". كانت الوراقة حرفته وتجارته.
- وأبو عبد الله الحسين بن علي بن إبراهيم، الكاغدي "308-399هـ". لتلقيبه بالكاغدي علاقة بهذه الحرفة.
- وأبو يعقوب يوسف بن عبد الله الشحام يوحي تلقيبه بالشحام بما له بهذه الحرفة من علاقة.
- وأبو الحسين بن أبي عمر الخياط له هو الآخر علاقة بالحرفة التي لقب بها.
- والجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر يقول عنه ياقوت: إنه رؤي يبيع الخبز والسمك في حي سيحان، من أحياء البصرة، كما أن من بين آثاره الفكرية "كتاب التبصر بالتجارة"، الذي لعله من أقدم الآثار التي أفردت للبحث في هذه الحرفة في تراثنا.
هذه النماذج من أعلام المعتزلة، وإن كانت قد جاورتها أسماء أعلام آخرين ملكوا الأرض أو ورثوها، إلا أنها تعطي دلالة على الوضع الاجتماعي لعدد من أئمة المعتزلة ومفكريهم، والبيئة الاجتماعية، والتجارية(1/347)
والحرفية والصناعية، التي كانت أكثر البيئات في ذلك العصر نزوعا للعقلانية وإقبالا على ثمار العقل واستخداما لبراهينه في البحث والتنقيب.
2- والحقيقة الثانية التي تؤكد ما نذهب إليه، ترقى بهذا الرأي الذي نراه إلى مرتبة الحقيقة التي تبعث على الاطمئنان. ذلك أن المدن والمناطق والقرى التي غلب عليها الاعتزال، والتي ذكرها وعدد أهمها أبو القاسم البلخي "319هـ 931م" في كتابه القديم عن "مقالات الإعلاميين" تلفت نظرنا إلى تمركزها وارتباطها بطرق التجارة الرئيسية التي كانت تمر عبر الدولة العربية الإسلامية كي توصل تجارة آسيا إلى أوربا، وهي التي كانت أهم طرق للتجارة العالمية في ذلك التاريخ1.
فحول طريق التجارة البري القادم من الصين شرقا إلى بغداد انتشرت مدن المعتزلة وقراهم ومواطن نفوذهم في إقليم فارس، الذي هو الأقليم الجنوبي من إيران. وحول طريق التجارة البحري القادم من الصين والهند إلى الخليج العربي، انتشر الاعتزال في الموانئ التي قامت على الشاطئ الشرقي للخليج، مثل "تيز" و"سيراف" وغيرها من الموانئ والمدن التي جاورتها في إقليم فارس. كما انتشر الاعتزال كذلك في ميناء البصرة وفي الأبلة، وهي موانئ العراق التي كانت تستقبل التجارة التي يأتي بها هذا الطريق البحري الآتي من الهند والصين.
ومع هذا الطريق التجاري انتشر الاعتزال حتى أرمينية، التي كانت على مقربة من منقطة انتقال هذه التجارة إلى القسطنطينية.
أما طريق التجارة الثاني الذي كان يأتي بحرا من الهند والصين ليصل إلى جنوبي اليمن، ثم يصعد إلى صنعاء فمكة والمدينة فدمشق
__________
1 "فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة" ص104-110.(1/348)
فحلب، فإن التوزيع الجغرافي لمناطق نفوذ المعتزلة في شبه الجزيرة وفي الشام يلفت النظر إلى اقتران مناطق الاعتزال بطريق التجارة هذا أوثق اقتران. فكل محطات تجارة هذا الطريق كانت مواطن نفوذ للاعتزال، والثورة التي قامت بها المعتزلة ضد الخليفة الأموي الوليد بن يزيد "88-126هـ 707-744م" ونصبت فيها إمامها يزيد بن الوليد "86-126هـ 705-744م" قد قامت من الأصقاع التي غلب عليها وعلى أهلها القول بالعدل والتوحيد إلى الشمال من دمشق، وعلى الطريق التجاري الذي يربطها بحلب، ثم يصعد بعد ذلك إلى آسيا الصغرى فالقسطنطينية.
وعلى سبيل المثال فنحن نعد من مدن المعتزلة وقراها الكبرى -التي ذكرها البلخي- والتي تقع على الطريق التجاري البري الآتي من الصين شرقا إلى بغداد، مدنا وقرى مثل: السوس، والبيلقان، والصيمرة، وعسكر مكرم، ورامهرمز، وجندي سابور، والدورق، وأرجان.. إلخ.. إلخ.
وعلى الطريق التجاري الآتي من الهند والصين بحرا بعد دخوله إلى إقليم فارس، نستطيع أن نذكر من مدن الاعتزال على سبيل المثال: توز، وسيراف، وعبدان، وجيرفت، والسيرجان، وهراة، وتيز.. إلخ.. إلخ.
وعلى الشاطئ الغربي للخليج نستطيع أن نذكر من مدن التجارة ومخططاتها، التي كانت مواطن انتشر فيها الاعتزال: البحرين، وهجر، والبصرة، والأبلة.
فإذا صعد طريق التجارة من بغداد شمالا، وجدنا على متنه من المدن التي غلب عليها الاعتزال: ميافارقين، أشهر مدن ديار بكر، وبرذعة بأرمينيا.. إلخ.. إلخ.(1/349)
كما نعد من حواضر التجارة ومحطاتها قرب البصرة وعلى طريقها مع واسط، مما غلب عليه الاعتزال مدنا مثل: الملح، وعبدسي، والمذار.. إلخ ... إلخ.
أما طريق التجارة الذي يصعد من عدن شمالا حتى يصل إلى آسيا الصغرى فأوروبا، فإن من بين محطاته ومدنه التي ظهر فيها الاعتزال أو غلب عليها مدنا ومحطات مثل: صنعاء، ونيس، ونيسان، وتدمر، ونهيا، وارك، وعرض، وسمنة، والعربيس، وبلاد المدارج، وداريا، وبيت لهيا، وكفر سوسية ... إلخ ... إلخ.
وحتى الأجزاء التي انتشر فيها الاعتزال بالمغرب، مثل البيضاء، وطنجة، فإنها كانت مواطن للتجارة بين أفريقيا وبين الأندلس.
فلن نكون مغالين إذا قلنا إن خريطة المواطن التي انتشر فيها فكر المعتزلة وسادتها نزعتهم "العقلانية - القومية" كانت هي خريطة التجارة وطرقها ومواطن التجار ومحطاتهم. وفي ذلك ما يشير إلى الطبيعة الاجتماعية المتميزة التي أثمرت تلك القسمة العقلانية المتميزة في فكرنا العربي الإسلامي وإلى القوى الاجتماعية التي جسد المعتزلة طموحها نحو مجتمع متحد، يمنح ولاءه لحضارة تتميز بالعقلانية. ورفضها لقبلية البدو وشعوبية الإقطاع الفارسي القديم.(1/350)
الثورة في سبيل الخلافة الشوروية:
كانت النزعة العقلانية عند المعتزلة تجسيدا لموقف أمتنا الإيجابي ضد التحدي الذي تمثل في الهجوم الفكري للملل والنحل والمذاهب التي نازلت الإسلام على أرضه بعد عصر الفتوح، عندما عجز "النصوصيون" عن الوفاء بحق الدفاع عن هذا الدين، ومن ثم عجزوا عن امتلاك الأدوات العقلية الكفيلة بصياغة البناء الحضاري الذي أصبح العرب المسلمون مؤهلين له ومطالبين به من قبل حركة التاريخ. ولقد أنجز المعتزلة، بنزعتهم العقلية، هذه المهام، فكانوا الصناع الحقيقيين لما نعتز به الآن من تراثنا في هذا الميدان.
وكانت بواكير الفكر القومي العربي التي صاغها المعتزلة تجسيدا لموقف القوى الاجتماعية -العربية والتي تعربت- الرافضة بقبلية البدو وشعوبية الفرس الذين تحركهم المصالح الإقطاعية وتبغضهم في العرب والعروبة الأحقاد والثارات. ولقد وضع المعتزلة بفكرهم القومي المستنير هذا الأساس لقوميتنا التي سبقت في الظهور كثيرا من القوميات.
وكما كان فكر المعتزلة هذا جواب أمتهم وموقفها الإيجابي أمام هذه(1/351)
التحديات، كذلك كان نشاطهم السياسي العملي وكانت ثوراتهم التجسيد لرفض القوى الاجتماعية المتقدمة لما أحدثه الأمويون من تغييرات في طبيعة السلطة العليا للدولة -الخلافة- تلك التغييرات التي بدلت فلسفة الحكم، فبدلا من الشورى والبيعة والاختيار، أصبح وراثة وملكا عضودا. وعلى هذه الجبهة كان المعتزلة - الحزب السياسي، والنشاط العملي، والمعارضة، والثورة المسلحة- التعبير عن رفض تلك التغييرات، وعن الطموح إلى عودة الخلافة الشوروية من جديد.
وللمعتزلة الثوار صفحات عدة في سجل الثورة بالمجتمع العربي الإسلامي -انظر: الثورة- نثبت هنا إشارات لها، ونورد أهم عناوينها، لتتضح صلاتها الوثيقة بالشورى كفلسفة حكم، وتمثيلها لرفض القوى الاجتماعية المتقدمة تلك الردة السياسة التي مثلها ملك بني أمية قياسا على دولة الخلفاء الراشدين.
الإسهام في ثورة ابن الأشعث:
فالمعتزلة "أهل العدل والتوحيد" قد أسهموا في الثورة التي قادها عبد الرحمن بن الأشعث "85هـ 704م" ضد الحجاج بن يوسف وخليفته الأموي عبد الملك بن مروان. ومن أعلامهم الذين ذكرت مصادر التاريخ إسهامهم في هذه الثورة: معبد الجهني، والجعد بن درهم، وسعيد بن أبي الحسن -وهو أخو الحسن البصري- ... إلخ.. إلخ1.
والإسهام في ثورة الحارث بن سريج:
وأسهموا في الثورة التي قادها عظيم الأزد: الحارث بن سريج ضد
__________
1 "فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة" ص320. و"تاريخ الطبري" جـ8 ص151، 152، "حوادث سنة 102هـ" وجمال الدين القاسمي "تاريخ الجهمية والمعتزلة" ص55.(1/352)
هشام بن عبد الملك سنة 116هـ "734م". وكان من مطالب هذه الثورة: أن يعود الأمر -نظام الخلافة- شورى. وأن تغير العمال, وأن تعزل الشرط, وأن يشترك الناس في اختيار الولاة1.
والثورة بقيادة زيد بن علي:
وكانت أولى الثورات التي قادها المعتزلة، وعقدت البيعة بالإمامة فيها لإمام منهم هي تلك التي قادها إمامهم زيد بن علي "79-122هـ 698-740م" بالكوفة ضد حكم الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك سنة 122هـ.
ولقد تضمن نص البيعة في هذه الثورة أهدافا استهدف ثوارها تحقيقها، منها:
1- التصدي للظلم وجهاد الظالمين.
2- والدفاع عن المستضعفين المظلومين.
3- وتوزيع الأموال بالعدل والمساوة بين المستحقين لها.
4- وإغلاق المعسكرات الحربية -المجامر- التي حشد الأمويون فيها الرجال بدعوى الفتح والغزو، بينما كان الهدف الحقيقي من إقامتها فتح الجبهات الخارجية التي تصرف الناس عن الوضع المتردي في العاصمة دمشق والولايات والأمصار.
5- والانتصار لآل البيت، الذين بلغ التنكيل بهم على يد الأمويين، حد المأساة2.
__________
1 "تاريخ الجهمية والمعتزلة" ص10، 11.
2 "تاريخ الطبري" جـ7 ص172 "أحداث سنة 121هـ".(1/353)
والثورة بقيادة يزيد بن الوليد:
وكانت أول ثورة تقوم في الشام ودمشق، معقل بني أمية، وقائدها أمير أموي تمذهب بمذهب المعتزلة هو يزيد بن الوليد "86-126هـ 705-744م" وأغلب ثوارها وجمهورها كانوا من معتزلة الشام.. ولقد أطاحت هذه الثورة بحكم الخليفة الأموي الماجن الوليد بن يزيد "88-126هـ 707-744م".. وكانت ثورة أتت إلى الخلافة بخليفة قد عقدت له البيعة من الثوار، وبعد انتصارها أعلن يزيد بن الوليد العودة بمنصف الخلافة إلى فلسفة الشورى، وقرر حق الناس في تبديل الخليفة عندما يريدون, كما أعلن العدل بين الناس، مسلمين وغير مسلمين، "حتى يكون أقصاهم كأدناهم، وحتى تستدر المعيشة بين المسلمين! "1.
والثورة بقيادة النفس الزكية:
وكانت هي الأخرى ثورة معتزلية، بقيادتها وقادتها ودعاتها، قادها واحد من فتيان آل البيت الذين تمذهبوا بمذهب المعتزلة، هو محمد بن عبد الله بن الحسن، المعروف بالنفس الزكية "93-145هـ 712-762م".. وكان المعتزلة قد دعوا المسلمين إلى عقد البيعة -عن طريق الشورى- له عندما اضطرب أمر الدولة الأموية أواخر عهدها، فبايعه الكثيرون بمكة, ولكن الفرع العباسي من بني هاشم عقد مع الجند الخراساني، بقيادة أبي مسلم الخراساني "137هـ 754م" صفقة سياسية تحولت بها ثمرة الثورة على الأمويين إلى بني العباس، فأزاحوا النفس الزكية، وحكموا حكما وراثيا هم الآخرون!.
__________
1 "فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة" ص113. والمسعودي "مروج الذهب" جـ2 ص176، 177، 173.(1/354)
فكانت ثورة المعتزلة بقيادة النفس الزكية ضد حكم الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور "95-158هـ 714-775م" بالمدينة سنة 145هـ "762م". وكان الثوار المعتزلة في ثورتهم هذه يلبسون اللون الأبيض، على حين كان العباسيون يلبسون اللون الأسود، وكان الشعار المكتوب على رايات الثوار هو: "أحد.. أحد". وهو الشعار الذي كتبه الرسول والصحابة على راياتهم يوم غزوة حنين1!.
والثورة بقيادة إبراهيم بن عبد الله بن الحسن "97-145هـ 716-762م":
وهو أخو النفس الزكية، والثورة التي قادها في البصرة وما حولها سنة 145هـ، هي استمرار لثورة النفس الزكية بالمدينة بعد قمعها بواسطة جيش المنصور العباسي. وكانت هي الأخرى معتزلية، قيادة وقادة وفي أغلب المقاتلين والدعاة. وكانت آخر الثورات الكبرى التي انفرد المعتزلة بقيادتها في منطقة المشرق العربي2.
والإسهام في ثورات الزيدية:
وبعد أن غلب الطابع الفلسفي على المعتزلة، فابتعد بقيادتها عن "العامة" -وقود الثورات- وبعد أن توثقت صلاتهم بالدولة العباسية، وخاصة على عهد المأمون، والمعتصم، والواثق, ظلت صلاتهم "بالثورة" قائمة عن طريق إسهام فريق منهم في ثورات "الزيدية"، التي كانت أشبه ما تكون بفرقة منبثقة من تيار الاعتزال. "انظر: الزيدية".. فأسهموا
__________
1 "تاريخ الطبري" جـ7 ص517، 524 "أحداث سنة 144هـ".
2 "مقالات الإسلاميين" جـ1 ص154.(1/355)
وشاركوا في ثورات الزيدية:
- ثورة محمد بن إبراهيم بن طباطبا "199هـ 814م".
- وثورة محمد بن القاسم بن عمر بن علي بن الحسين "219هـ" في بلاد الطالقان بخراسان.
- وثورة يحيى بن عمر "250هـ" بالكوفة.
- والثورة التي بنت للزيدية دولة في طبرستان سنة 250هـ.
- وثورتهم التي أقامت دولتهم في صنعاء سنة 288هـ1.
هكذا أسهم المعتزلة في الحركة الثورية على امتداد أكثر من قرنين. وكانوا بذلك أمناء وأوفياء لموقفهم الفكري، المنحاز للثورة كطريق لتغيير الظلم والنهي عن المنكر وإزالة أئمة الجور والفسق والضعف والفساد. فهم قد جعوا لذلك أصلا من أصولهم الفكرية الخمسة -الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- وقالوا عنه: "إنه أشرف من جميع أبواب البر والعبادة! "، وأفردوا في آثارهم الفكرية العديد من الصفحات التي تؤصل لمشروعية الثورة، بل لوجوبها، وقالوا إن ذلك هو موقف التيار الإسلامي الذي التزم جانب الحق، على امتداد تاريخ المسلمين. وبعبارة القاضي عبد الجبار: فإنه "لا يحل لمسلم أن يخلي أئمة الضلالة وولاة الجور إذا وجد أعوانا، وغلب على ظنه أنه يتمكن من منعهم من الجور، كما فعل الحسن والحسين، وكما فعل القراء حين أعانوا ابن الأشعث في الخروج على عبد الملك بن مروان، وكما فعل أهل المدينة في وقعة الحرة، وكما فعل أهل مكة مع ابن الزبير حين مات معاوية، وكما فعل عمر بن عبد العزيز، وكما فعل يزيد بن الوليد، فيما أنكروه من المنكر" وحينما ثاروا لإحلال العدل محل الظلم ووضع الشورى موضع الاستبداد بالسلطة والسلطان.
__________
1 ناجي حسن "ثورة زيد بن علي" ص156، 162. طبعة بغداد سنة 1966م.(1/356)
ورجال دولة:
بعد نكبة البرامكة "188هـ 803م" بدأ مد التيار الشعوبي في الدولة العباسية في الانحسار. وبدأت صلات الخلافة تتوثق شيئا فشيئا مع التيار "القومي العربي - العقلاني"، تيار المعتزلة، ثم بلغت هذه الصلاة ذروة توثقها في عهد الخلفاء الثلاثة، الذين تمذهبوا بفكر أهل العدل والتوحيد: المأمون "198-218هـ 813-833م" والمعتصم "218-228هـ 833-842م" والواثق "228-233هـ 842-847م".
وفي هذه المرحلة من مراحل علاقة المعتزلة بالسلطة والدولة ظهر في محيطهم تياران:
1- تيار المعتزلة البغداديين:
وهم مدرسة في إطار المعتزلة، التزمت كغيرها بالأصول الخمسة، ولكنهم في السياسة ظلوا على معارضتهم للعباسيين، الذين استأثروا بالسلطة من دون العلويين، بل ومارسوا ضدهم القمع والاضطهاد. وتعبيرا عن هذا الولاء العلوي كان المعتزلة البغداديون يفضلون علي بن أبي طالب(1/357)
-وهم يقومون التاريخ- على غيره من الخلفاء الراشدين. ولقد ظل إسهام المعتزلة في الثورة ضد الدولة العباسية عن طريق هذا التيار من تياراتها، وهو التيار الذي اقترب من "الزيدية"، فثار معها، وظل يطبع عقائدها بالأصول الخمسة للاعتزال. ومؤسس هذه المدرسة هو بشر بن المعتمر "المتوفى سنة 210هـ 825م".
2- تيار المعتزلة البصريين:
الذين ظلوا على تقويم قدماء المعتزلة -الذين كان مركزهم بالبصرة عند النشأة- تقويمهم لأحداث التاريخ الإسلامي في عصر صدر الإسلام، وهو التقويم الذي وضع علي بن أبي طالب بعد أبي بكر وعمر وعثمان في الفضل، كما هو الحال في الترتيب الزمن لتولي الخلافة. وهذا التيار الذي لم يقترب من الشيعة الزيدية ومن العلويين اقتراب البغداديين، هو الذي توثقت صلاته بالدولة، فأثر فيها، وأضفى على مواقفها من فكره، وأسهم في صنع الإنجازات الحضارية التي سطرت صفحة العصر الذهبي لحضارتنا وتراثنا في ذلك التاريخ.
ولقد بلغت علاقة المعتزلة بجهاز الدولة على عهود: المأمون، والمعتصم، والواثق إلى الحد الذي أصبح فيه قائدهم: أبو عبد الله أحمد بن أبي دؤاد "160-240هـ 777-854م" أكثر من وزير. أصبح "مشيرا" يشارك الخليفة التفكير واتخاذ القرار، وألغي في تلك الفترة منصب الوزير. وفي وصية المأمون للمعتصم يقول له: "وأبو عبد الله أحمد بن أبي دؤاد، لا يفارقك الشركة في المشورة في كل أمرك، فإنه موضع ذلك، ولا تتخذن بعدي وزيرا"1.
__________
1 د. ألبير نصري نادر "فلسفة المعتزلة" جـ1 ص29. طبعة الإسكندرية.(1/358)
ولقد انتشر رجال المعتزلة في جهاز الدولة. فتولوا القضاء والدواوين وغيرهما من الولايات. واشتهر منهم، كرجال دولة كثيرون، مثل:
- هشام بن عمرو الفوطي، الشيباني "218هـ 833م".
- ويوسف بن عبد الله بن إسحاق الشحام "153-233هـ 767-847م".
- وأبو معن ثمامة بن أشرس النميري "213هـ 828م".
وغيرهم كثيرون1.
__________
1 "باب ذكر المعتزلة" "ص35، 40. و"رسائل الجاحظ" جـ2 ص266.(1/359)
المحنة:
بموت الخليفة العباسي الواثق "233هـ 847م" انتهى العصر الذهبي للمعتزلة، بل العصر الذهبي للدولة العباسية، وبدأت النذر بمرحلة التراجع "انظر: مرحلة الجمود والتوقف والتراجع للحضارة العربية".. ففي عهد المتوكل العباسي "233-247هـ 847-861م" حدث الانقلاب ضد المعتزلة ونزعتهم العقلانية، فاقتلعوا من مناصبهم في الدولة، وأبعدوا عن مراكز التأثير الفكري، وزج بالكثير من أعلامهم في السجون، وأبيدت آثارهم الفكرية، إلا ما ندر منها، فتقلص سلطان العقل العربي الإسلامي على الحياة الفكرية والعامة، وعزلت معاييره فلم تعد الحاكمة في المجتمع، بعد أن كانت الأساس الذي قام عليه البناء الحضاري فيما قبل ذلك التاريخ.
فنفر من أهل الحديث، الذين يقدمون: الإسناد والنقل على العقل، خرجوا من السجون، فتولوا أزمة الدولة، ووضع المعتزلة بدلا منهم في السجون. وعلى حين ابتعدت الدولة عن المعتزلة فلقد زاد اقترابهم من(1/360)
التيار العلوي المعارض لها، وزاد مع الاضطهاد، إسهامهم في ثورات الزيديين!.
وشاعر الخليفة المتوكل: علي بن الجهم يعبر عن عدائه وعداء حزبه للمعتزلة -الذين يسميهم أحيانا: "الواثقية"، نسبة للخليفة الواثق! - وعدائه لحلفائهم من الشيعة العلوية، فيقول:
تضافرت الروافض والنصارى ... وأهل الاعتزال على هجائي
وعابوني، وما ذنبي إليهم ... سوى علمي بأولاد الزناء!
أنا المتوكلي هوى ورأيا ... وما "بالواثقية" من خفاء
وعندما نفى المتوكل مشير الدولة وزعيم المعتزلة أحمد بن أبي دؤاد، هجاه علي بن الجهم بقوله:
يا أحمد بن أبي دؤاد دعوة ... بعثت إليك جنادلا وحديدا
ما هذه البدع التي سميتها ... بالجهل منك العدل والتوحيدا
أفسدت أمر الدين حين وليته ... ورميته بأبي الوليد وليدا1
فإذا مرض ابن أبي دؤاد هجاه علي بن الجهم، شاعر الخليفة المتوكل، وتحدث عن انتصار "أصحاب الحديث" -النصوصين- على المعتزلة، فقال مخاطبا ابن أبي دؤاد:
لم يبق منك سوى خيالك لامعا ... فوق الفراش ممهدا بوساد
فرحت بمصرعك البرية كلها ... من كان منهم موقنا بمعاد
كم مجلس لله قد عطلته ... كي لا يحدث فيه بالإسناد
ولكم مصابيح لنا أطفأتها ... حتى يزول عن الطريق الهادي
ولكم كريمة معشر أرملتها ... ومحدث أوثقت في الأقياد
__________
1 أبو الوليد: هو ابن أحمد بن أبي دؤاد، محمد، الذي ولي الأمر بعد أبيه.(1/361)
أن الأسارى في السجون تفرجوا ... لما أتتك مواكب العواد1
ثم استمر اضطهاد الدولة للمعتزلة، وتصاعدت محنتها لهم، حتى لقد أسقطت شهادتهم أمام القضاء، أي: جردتهم من "حقوقهم المدنية"، بتعبيرنا الحديث؟! بل وحرم عليهم -مع العلويين- "تقبل الضياع"، أي: أن يكونوا "ملتزمين" في استغلال الأرض الزراعية، وركوب الخيل، ومغادرة المدن التي يقيمون فيها؟! ... إلخ ... إلخ2.
وامتد هذا الاضطهاد فشمل عددا من الدويلات التي قامت في أطراف الدولة، من مثل الدولة الغزنوية التي جمع قائدها محمود الغرنوي "390-481هـ 999-1030م" العديد من أئمة المعتزلة ووضعهم في سجن أعده لهم في "عز دار"، بشمال أذربيجان، واستمر حبسهم حتى ماتوا فيه3.
وأخيرا توجت الدولة العباسية اضطهادها هذا للمعتزلة، وكرسته، وجعلته قانونا وفكرا رسميا للدولة بذلك الكتاب الذي أشرف على وضعه الخليفة القادر "381-433هـ 991-1031م" وسماه "الاعتقاد القادري"، وجعل علماء السنة وأصحاب الحديث يوقعون عليه، ثم أمر به فعمم في الأقاليم، وقرئ في الدواوين، وتلي على المنابر. ولقد أدخل هذا الكتاب -الذي صدر ليحرم فكر المعتزلة ويجرمه- في الإسلام "كهنوتا" اعتقاديا مستعارا من قرارات المجامع الكنسية، غريبا عن روح الإسلام وطبيعته. وفي هذا الاعتقاد القادري صدرت أوامر الخليفة:
__________
1 الأصفهاني "الأغاني" جـ1 ص367-3672-3681، 3682، 3693. طبعة دا رالشعب. القاهرة.
2 "فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة" ص302، 303، والمقريزي "الخطط" ج3 ص271. طبعة دار التحرير. القاهرة.
3 "فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة" ص367.(1/362)
1- بمنع تدريس علم الكلام والمناظرة في مسائله، خاصة الاعتزال ومقالات أهله. وأنذر المخالفين بالعقوبة والنكال، نفيا وسجنا وقتلا!.
2- ويلعن المعتزلة على منابر المساجد، حتى يصير ذلك سنة من سنن الإسلام!.
3- وبتحريم قول المعتزلة في "التوحيد". حيث يثبت "الاعتقاد القادري" لله الصفات التي ينفيها عنه تنزيه المعتزلة وتوحيدهم. كما يثبت القول بقدم القرآن.
4- وبتحريم قول المعتزلة في "العدل" والاختيار. حيث يثبت "الاعتقاد القادري" أن الخلق لا قدرة لهم، بل "كلهم عاجزون".
5- وبتحريم قول المعتزلة في "المنزلة بين المنزلتين". حيث قرر هذا الاعتقاد مذهب المرجئة في هذا الموضوع.
ولقد صدر هذا "المرسوم" الفكري، باعتباره "اعتقاد المسلمين، ومن خالفه فقد فسق وكفر! "1 فجعلت الدولة به من اضطهاد المعتزلة ونفيهم من المجتمع الرسمي ودوائر الفكر والتوجه والتأثير وإبادة تراثهم، جعلت من ذلك قانونا وعقيدة دينية، على الجميع أن يراعوها ويضعوها موضع التطبيق. فكانت تلك قمة المحنة الفكرية والسياسية التي حرمت الحضارة العربية الإسلامية من الثراء الفكري الذي تمثل في الفكر العقلاني الذي مثله المعتزلة.
لقد بدأ الاضطهاد لأصحاب هذا التيار "القومي العربي - العقلاني" في عصر المتوكل، عندما زاد نفوذ العنصر غير العربي -الجند المماليك- على
__________
1 آدم متز "الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري" جـ1 ص381-383. طبعة بيروت سنة 1967.(1/363)
منصب الخليفة وجهاز دولته، فأصبحت السلطة الفعلية لعنصر غريب عن المشاعر القومية لهذه الأمة وعن القسمة العقلانية التي امتازت بها حضارتها. وتصاعد هذا الاضطهاد بتصاعد نفوذ هذا العنصر اللاعربي في جهاز الدولة وقيادتها. ومن قبل كان اضطهاد المعتزلة مقرونا بعلو شأن الشعوبية والشعوبيين في بغداد قبل نكبة البرامكة سنة 188هـ "803م". فهو إذن قانون عندما تكون السلطة لمن يمثلون الذات القومية -بمضمونها المستنير- يكون التوجيه لمن يمثلون فكرها القومي ومن يجسدون نزعتها العقلانية الأصيلة. وعندما يصبح الأمر بيد الغرباء حضاريا وقوميا يتراجع أصحاب التيار القومي عن مراكز التوجيه، وتتملق السلطة جماهير العامة بتسويد الفكر المحافظ المعادي للعقل، فتصيب المحنة أصحاب النزعة العقلية الذين يؤسسون الدين والدنيا على ما يثمر العقل من أدلة وبراهين. نعم إنه قانون؟!.(1/364)
صحوة ثانية:
ولكن هذا الاضطهاد الذي أصاب المعتزلة، منذ عصر المتوكل العباسي، لم يفلح في اجتثاث فكرهم العقلاني من أرض الحضارة العربية الإسلامية، فعاش نفر من أعلامهم يفكرون ويبشرون ويكتبون دون أن يعلنوا على الملأ مذهبهم في الاعتزال، وكانوا إذا تحدثوا عن أسلافهم سموهم: "علماء الكلام" أو "متكلمي البصرة"! وهكذا، كما صنع أبو الحسن الماوردي "364-450هـ 974-1058م" وأمثاله. كما أن التناقضات الفكرية والسياسية التي قامت بين خلافة بغداد وبين بعض الدول الإسلامية التي قامت وقوي نفوذها على حساب نفوذ الخلافة العباسية قد أتاح للمعتزلة قدرا من الحرية -كما حدث في ظل الدولة البويهية "334-447هـ 945-1055م" التي جعلتها مذهبيتها "الزيدية" تفسح المجال لمفكري المعتزلة الذين تتفق معهم الزيدية في الأصول, الأمر الذي مكن فكر المعتزلة من صحوة ازدهر فيها إنتاج أعلامهم وعطاؤهم الفلسفي والسياسي، وهي الصحوة التي عد قاضي القضاة عبد الجبار بن أحمد الهمذاني "415هـ 1024م" علما عليها. فكان أن بقي لنا تراث المعتزلة المتأخر، بعد أن باد تراثهم القديم، فأصبح بالإمكان أن ندرس المعتزلة(1/365)
ونقوم فكرهم من خلال تراثهم هم، لا من خلال ما كتبه عنهم الخصوم والأعداء.
ومع بقاء هذا التراث الجديد للمعتزلة حافظا لفكرهم وأصولهم في تراثنا, استمرت أصولهم الفكرية قائمة ومؤثرة في الواقع العربي الإسلامي من خلال وجود "الزيدية"، التي تتفق معهم في الأصول، ولا تختلف وإياهم إلا في بعض المسائل التي تتعلق بقضية الإمامة, كما بقيت أصول للمعتزلة تعيش في الواقع العربي والإسلامي حتى الآن من خلال تبني الشيعة الإمامية لها أو اقترابهم من رأي المعتزلة فيها. كما طبعت عقلانيتهم فلسفة العديد من فلاسفة العرب المسلمين, الذين لم تكن عقلانيتهم مجرد تقليد لعقلانية فلاسفة اليونان. وأيضا، ففي فكر بقايا الخوارج، الذين استمر مذهبهم، نجد العديد من الأصول والقضايا التي اتفقوا فيها مع المعتزلة، أهل العدل والتوحيد.
لقد انقضت المعتزلة كفرقة, ولكنها استمرت نزعة عقلية، وفكرا قوميا، وأصولا فكرية، من خلال فرق أخرى أثرت فيها، ومن خلال البصمات التي طبعتها على المجرى العام، الخالد والمتدفق والمتطور، لفكر العرب والمسلمين.
تلك هي أهم الملامح الخاصة التي تميزت بها فرقة المعتزلة.
- فالموالي منهم. كانوا عربا بالحضارة والولاء، ناصبوا الشعوبية العداء، وقدموا بواكير الفكر القومي الذي يؤلف ويبلور الشخصية العربية، على أسس غير عرقية، وإنما بمفهوم حضاري وإنساني ومتقدم.
- والرواة منهم. كانوا أولى مدارس البحث التاريخي في تراثنا العربي الإسلامي.(1/366)
- والفلسفة عندهم كانت فلسفة إلهية، تدينت فيها الفلسفة وتفلسف بها الدين. وقدمت أولى محاولات التعايش والتآخي والتوفيق بين الحكمة والشريعة في تراثنا.
- ومقام العقل عندهم كان عاليا, وصفات "الأرستقراطية الفكرية" وسمات "العلماء" كانت واضحة في أوساطهم كل الوضوح. كما أن ارتباط مواطنهم، وأسماء عدد من أعلامهم، بالمواطن التجارية، وبألقاب الحرف والصناعات يؤكد أن هذا التيار "العقلاني - القومي" قد ارتبط في النشأة والانتشار بالطبقة التجارية وفئات الحرف والصناع، الذين كونوا البيئة الأكثر استنارة والأكثر قابلية للعقل والعقلانية -على عكس البدو والفلاحين- في تلك المجتمعات.
وهكذا كان المعتزلة كوكبة من أهل الفكر والنظر والثورة، اتخذوا من الفلسفة والفكر والرقي في المعرفة بديلا عن الأحساب والأنساب، فتحقق في فرقتهم تعايش العرب والموالي دون تفاخر أو عصبية أو تنافر، وكان الفكر "العقلاني - القومي"، هو السلم الذي ارتقوا عليه إلى مستوى أصبح دونه مستوى "الأشراف" الذين يستند "شرفهم" إلى الأحساب والأنساب. وهو الأساس المتين الذي قام عليه صرح العصر الذهبي لحضارتنا العربية الإسلامية.(1/367)
المصادر:
آدم متز: "الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري" ترجمة: دكتور محمد عبد الهادي أبو ريدة طبعة بيروت سنة 1967م.
ابن أبي الحديد: "شرح نهج البلاغة" تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم. طبعة القاهرة سنة 1959م.
ابن الأثير الجزري: "اللباب في تهذيب الأنساب" طبعة دار صادر - بيروت.
ابن جني "أبو الفتح عثمان": "الخصائص" طبعة القاهرة سنة 1913م.
ابن حزم: "الفصل في الملل والنحل" طبعة القاهرة سنة 1331هـ.
ابن خلدون: "المقدمة" طبعة القاهرة سنة 1322هـ.
ابن سعد: "الطبقات الكبرى". طبعة دار التحرير. القاهرة.
ابن قتيبة: "المعارف" تحقيق: د. ثروت عكاشة. طبعة القاهرة سنة 1960م.
"عيون الأخبار" طبعة دار الكتب المصرية.
"الإمامة والسياسة" طبعة القاهرة سنة 1331هـ.
ابن المرتضى: "باب ذكر المعتزلة - من كتاب المنية والأمل" تحقيق: توما أرنولد. طبعة الهند سنة 1316هـ.(1/368)
الأشعري "أبو الحسن": "مقالات الإسلاميين" تحقيق: هـ. ريتر. طبعة استانبول سنة 1929م.
الأصفهاني "أبو الفرج" "الأغاني" تحقيق: إبراهيم الأبياري. طبعة دار الشعب. القاهرة.
البير نصرى نادر "دكتور": "فلسفة المعتزلة" طبعة إسكندرية.
البغدادي "عبد القاهر": "الفرق بين الفرق" طبعة بيروت سنة 1973م.
التهانوي: "كشاف اصطلاحات الفنون" طبعة الهند سنة 1892م.
الجاحظ: "البيان والتبيين" طبعة بيروت سنة 1968م.
"الرسائل" تحقيق: عبد السلام هارون. طبعة القاهرة 64-1965م.
"الحيوان" تحقيق: عبد السلام هارون. طبعة القاهرة، الثانية.
جب "هاملتون": "دراسات في حضارة الإسلام" ترجمة: د. إحسان عباس، د. محمد نجم، د. محمود زايد. طبعة بيروت سنة 1964م.
الجرجاني: "التعريفات" طبعة القاهرة سنة 1938م.
جمال الدين القاسمي: "تاريخ الجهمية والمعتزلة" طبعة القاهرة سنة 1331 هـ.
جيوم "الفريد": "الفلسفة وعلم الكلام" ترجمة جرجيس فتح الله. طبعة بيروت -ضمن مجموعة: تراث الإسلام- سنة 1972م.
الحسن البصري "وآخرين": "رسائل العدل والتوحيد" جـ1، 2: دراسة وتحقيق: دكتور محمد عمارة. طبعة القاهرة سنة 1971م.
والخوارزمي: "مفاتيح العلوم" طبعة القاهرة سنة 1342هـ.
الخياط: "الانتصار والرد على ابن الرواندي الملحد". تحقيق: نيبرج. طبعة القاهرة سنة 1925م.
الرازي "الفخر": "اعتقادات فرق المسلمين والمشركين" طبعة القاهرة سنة 1938م.(1/369)
الشهرستاني: "الملل والنحل" ط القاهرة سنة 1331هـ.
صبحي "أحمد" "دكتور" نظرية الإمامة عند الشيعة الاثنى عشرية. ط القاهرة سنة 1969م.
الطبري "محمد بن جرير": "التاريخ" تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم. طبعة دار المعارف. القاهرة.
طه حسين "دكتور": "الفتنة الكبرى" طبعة القاهرة سنة 1969، سنة 1970م.
الطوسي "نصير الدين": "تلخيص الشافي" تحقيق: السيد حسين صالح بحر العلوم. طبعة النجف 1383، 1384هـ.
عبد الجبار بن أحمد "قاضي القضاة": "فصل الاعتزال وطبقات المعتزلة" تحقيق: فؤاد سيد. طبعة تونس سنة 1972م.
"شرح الأصول الخمسة". تحقيق: د. عبد الكريم عثمان. طبعة القاهرة سنة 1965م.
"تثبيت دلائل النبوة" تحقيق: د. عبد الكريم عثمان. طبعة القاهرة سنة 1966م.
"المغني في أبواب التوحيد والعدل". طبعة القاهرة.
"المجموع المحيط بالتكليف" مخطوط مصور بدار الكتب المصرية.
عبد الرحمن بدوي "دكتور": "مذاهب الإسلاميين" طبعة بيروت سنة 1971م.
علي بن أبي طالب "الإمام": "نهج البلاغة" طبعة دار الشعب. القاهرة.
علي فهمي خشيم: "الجبائيان أبو علي وأبو هاشم" طبعة ليبيا سنة 1968م.
عماره "محمد" "دكتور": "المعتزلة ومشكلة الحرية الإنسانية" طبعة بيروت سنة 1972م.
"الخلافة ونشأة الأحزاب الإسلامية" طبعة بيروت سنة 1977م.(1/370)
"المعتزلة والثورة" طبعة بيروت سنة 1977م.
فان فلوتن: "السيادة العربية والشيعة والإسرائيليات في عهد بني أمية" ترجمة: د. حسن إبراهيم حسن، محمد زكي إبراهيم. طبعة القاهرة سنة 1965م.
الفراء "أبو يعلى": "الأحكام السلطانية". طبعة القاهرة سنة 1938م.
"كتاب الإمامة" طبعة بيروت سنة 1966م. ضمن مجموعة "نصوص الفكر السياسي الإسلامي: الإمامة عند السنة".
فلهوزن "يوليوس": "الخوارج والشيعة" ترجمة: د. عبد الرحمن بدوي. طبعة القاهرة سنة 1958 "تاريخ الدولة العربية" ترجمة: د. محمد عبد الهادي أبو ريدة: طبعة القاهرة سنة 1968م.
القلقشندي: "صبح الأعشى" طبعة دار الكتب المصرية.
الكليني: "الأصول من الكافي" تحقيق: علي أكبر العفاري. طبعة طهران سنة 1388هـ.
الماوردي "أبو الحسن": "أدب القاضي" تحقيق: محيي هلال السرجان. طبعة بغداد سنة 1971م.
"أدب الدنيا والدين" تحقيق: مصطفى السقا. طبعة القاهرة سنة 1973م.
المبرد "أبو العباس": "الكامل - باب الخوارج" طبعة دمشق سنة 1972م.
مدكور "إبراهيم" "دكتور": "في الفلسفة الإسلامية" طبعة القاهرة سنة 1968م.
المرتضى "الشريف": "أمالي المرتضى": تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم. طبعة القاهرة سنة 1954م.(1/371)
المسعودي: "مروج الذهب" تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد. طبعة القاهرة سنة 1966م.
مسلم "الإمام": "صحيح مسلم" -بشرح النووي- طبعة القاهرة "محمود توفيق".
المقريزي "تقي الدين": "الخطط". طبعة دار التحرير - القاهرة.
ناجي حسن: "ثورة زيد بن علي" طبعة بغداد سنة 1966م.
نصر بن مزاحم المنقري: "وقعة صفين" تحقيق: عبد السلام هارون. طبعة القاهرة سنة 1382هـ.
نعيم زكي فهمي "دكتور": "طرق التجارة الدولية ومحطاتها بين الشرق والغرب" طبعة القاهرة سنة 1973م.
نلينو: "بحوث في المعتزلة" ترجمة: د. عبد الرحمن بدوي. طبعة القاهرة -ضمن مجموعة "التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية"- سنة 1965م.
النوبختي: "فرق الشيعة": تحقيق هـ. ريتر. طبعة استانبول سنة 1931م.
ياقوت الحموي: "معجم البلدان".(1/372)
الخوارج
مدخل
...
2- الخوارج:
قبل سنة 37هـ "657م" -العام الذي شهد نشأة فرقة الخوارج- كانت الصراعات والانقسامات التي طرأت على الجماعة الإسلامية ذات طابع سياسي، وقفت خلفها وأثمرتها عوامل اجتماعية وقبلية وإقليمية، ووقفت عند حدود الطابع السياسي دون أن تضفي على مبادئها وأهدافها ثيابا أو طابعا من عقائد الإسلام كدين. فلم يزعم الذين اختلفوا على خلافة أبي بكر، ولا الذين اصطرعوا حول تصرفات عثمان بن عفان أن واحدا من فرقاء هذا الصراع والخلاف قد مرق عن الدين، أو أن الإسلام كدين قد أصبح وقفا على موقف فريق دون فريق. كان خلافا سياسيا أو قبليا وصراعا اجتماعيا أو إقليميا قام ويقوم بين أبناء الدين الواحد وأهل القبلة الواحدة، دون أن يزعم طرف من أطرافه أن له صبغة من الدين.
أما الخوارج، فلقد كان انشقاقهم على عهد خلافة علي بن أبي طالب، سنة 37هـ، وإبان صراعه ضد معاوية بن أبي سفيان وأنصاره، نقطة تحول في الماهية والطبيعة التي أضفيت على الصراعات التي حفلت بها حياة العرب المسلمين. فهم لم يقفوا بخلافهم مع خصومهم عند الحدود السياسية، بل أضفوا عليه طابعا من الدين، وذلك عندما زعموا أنهم هم المؤمنون، وأن من عداهم قد مرق من الدين مروق السهم من قوسه. وزادت الطامة وعمت البلية عندما استخدم خصومهم ذات السلاح،(1/373)
فأصبحت سائر فرق الإسلام تقريبا تضفي على مبادئها السياسية وآرائها الفكرية والاجتماعية صبغة من الدين وعقائده، انسياقا مع تيار سلطان العقيدة الدينية الجارف حينا، وتملقا للعامة واستجلابا لتأييدها في أغلب الأحايين. فانطبعت خلافات الساحة الإسلامية بالطابع الديني عندما انتقل الجميع بما هو سياسي إلى ساحة ما هو دين!. وهذا الغلو والانحراف الذي نشأ مع نشأة فرقة الخوارج لا زال العقل العربي المسلم يعاني منه ويجاهد ضده حتى الآن!.
ولعل قسوة الصراع الذي انشق الخوارج أثناءه، ووضوح مخاطر خصومهم -وخاصة بني أمية ودولتهم- على قيم الدين ومثله العليا، وأيضا نشأة فرقة الخوارج الأولى على يد كوكبة من القراء -وهم فقهاء ذلك العصر ونساكه الذين اقتربوا من مثل الدين وقيمه بقدر ما ابتعدوا عن عرض الدنيا- لعل في ذلك أسبابا أسهمت في خلط ما هو سياسة بما هو دين لدى أصحاب هذه الفرقة المبكرة النشأة من فرق الإسلام.
النشأة:
كانت الطلائع الأولى التي كونت فرقة الخوارج مكونة في أغلبها من القراء. وكان لهؤلاء القراء دور ملحوظ في أحداث الثورة التي شبت ضد عثمان بن عفان، بسبب الأحداث التي وقعت منه ومن أعوانه، وخاصة بني قرابته الأمويين، في السنوات الست الأخيرة من حكمه. وكأن تشخيص الثوار الذي برروا به "الخروج" عن طاعة الخليفة هو أنه قد ضعف عن أن يحكم كما كان يحكم أبو بكر وعمر وكما كان يحكم هو في الشطر الأول من خلافته.. والضعف.. أو الفسق.. أو الجور.. أسباب ثلاثة استقر الفكر السياسي الإسلامي الثوري على اعتمادها أسبابا تبرر الثورة و"الخروج" على من يتصف بها أو يقترفها ويقارفها من الحكام.(1/374)
وبعد مقتل عثمان كان هؤلاء القراء من أكثر أنصار علي بن أبي طالب -الخليفة الجديد- حماسا لملاقاة خصومه واستئصال شأفة القوى التي تريد مناوأة الخليفة الذي اختاره الثوار وبايعه جمهور المسلمين. سواء أكان هؤلاء الخصوم هم: طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وعائشة أم المؤمنين -أصحاب موقعة الجمل- أم كانوا بني أمية وأنصارهم من أشراف قريش وجند أهل الشام.
وأثناء أحداث الصراع الذي دار بين علي وبين معاوية على أرض "صفين" لم يكن يخالج هؤلاء القراء أي شك في أنهم على الحق. فعلي هو أمير المؤمنين، الذي بايعه الجمهور، وهو الذي نهض فقرر إزالة الأسباب التي ثار الناس لها على عثمان في السياسة أو الإدارة أو الاقتصاد. ومن ثم فإن معاوية وأصحابه لا يمكن إلا أن يكونوا "بغاة" "بغوا" على غيرهم من المؤمنين، و"حكم" القرآن في هؤلاء "البغاة" قد سلف وتقرر: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9] .
ولكن هذا الوضوح الفكري لم يكن العامل الحاسم الذي يحرك خطوات قوم آخرين ويسل سيوفهم لقتال البغاة. لقد كان حاسما لدى هؤلاء القراء، ولكنه لم يكن كذلك أن أنصار علي من أشراف أهل العراق، أولئك الذي مالوا مع الدنيا إلى صفوف معاوية، وعبرت عن ازدواجية موقفهم تلك العبارة الشهيرة الساخرة التي أنبأتنا بأنهم كانوا يصلون خلف علي ويأكون على مائدة معاوية؟! لأن الصلاة خلف علي أسلم، والطعام على مائدة معاوية أدسم!.
ولما تخاذل هؤلاء الأشراف عن القتال أدرك علي بعين السياسي(1/375)
والمحارب، تناقص فرص النصر أمامه. ولم يكن القراء الفقهاء -كما هي العادة غالبا- من ذوي النظر السياسي البعيد، الذي يسبر الغور، بل لقد قلل إيمانهم الشديد بالمثل وحماسهم الجارف للقيم وانخراطهم الأشد في النسك من ملكة السياسة وحذق الساسة. فكان أن رفضوا ما قبل به علي من "التحكيم" بينه وبين معاوية في النزاع؛ لأن عليا كان يرى ضرورات السياسة والحرب، أما هم فلم يروا سوى أن القرآن -كتاب الله- قد "حكم" في أمر هؤلاء "البغاة"، ومن ثم فلا يجوز "تحكيم" الرجال فيما "حكم" فيه الله!. فصاحوا في جنبات معسكر علي "بصفين": لا حكم إلا الله. فعرفوا "بالمحكمة" منذ رفضهم لقرار "التحكيم" في شهر صفر سنة 37هـ.
وبعد أن اجتمع الحكمان -أبو موسى الأشعري، وعمرو بن العاس -في رمضان من نفس العام، وأسفر التحكيم -كما هو مشهور- عن إضعاف "شرعية" علي وتعزيز "بغي" معاوية، ازداد المحكمة يقينا بسلامة موقفهم، وبخطأ موقف علي، فذهبوا إليه يطلبون:
- رفض الاعتراف بالتحكيم ونتائجه.
- والنهوض لقتال معاوية ومن معه.
وقالوا له: "اتق الله، فإنك قد أعطيت العهد وأخذته منا لنفنين أنفسنا، أو لنفنين عدونا، أو يفيء إلى أمر الله. وإنا نراك قد ركنت إلى أمر فيه الفرقة والمعصية لله والذل في الدنيا، فانهض بنا إلى عدونا فلنحاكمه إلى الله بسيوفنا حتى يحكم الله بيننا وبينهم وهو خير الحاكمين، لا حكومة الناس"!.
وكان من هؤلاء "المحكمة" نفر قد سبق له القبول بمبدأ "التحكيم" يوم كان علي يجادل فيه ويتخوف من نتائجه ويجتهد لدفعه، فلما عاتبهم على(1/376)
سابق موقفهم لم يجدوا غضاضة في نقد موقفهم السابق، وإعلان توبتهم من ذنبهم ذاك، وطلبوا إلى علي أن يصنع صنيعهم قائلين له: "إنه قد كانت منا خطيئة وزلة حين رضينا بالحكمين، وقد تبنا إلى ربنا ورجعنا عن ذلك، فارجع كما رجعنا، وإلا فنحن منك براء! ".
ولكن علي بن أبي طالب: رجل الدولة. وعلي بن أبي طالب الرجل الرباني، الذي كان يمثل بتقواه ضمير الجماعة المؤمنة ومثل الدين الجديد لم ير لنفسه سبيلا كي ينقض أمرا أبرمه، فرفض الرجوع عن "عهد" التحكيم، ومن ثم رفض الإقرار بأنه قد أذنب. وقال لهم: "ويحكم! أبعد الرضا والعهد والميثاق أرجع؟!. أبعد أن كتبناه ننقضه؟! إن هذا لا يحل! ", "وزكى الأشراف موقفه، فقالوا له، بلسان محرز بن جريش بن ضليع: "يا أمير المؤمنين، وما إلى الرجوع عن هذا الكتاب سبيل، فوالله إني لأخاف أن يورثنا هذا الرجوع ذلا! ".
وعند ذلك استحكم الشقاق في معسكر علي، ووضح الاستقطاب عندما أعلنت "المحكمة" عليا انشقاقها عليه وعلى معاوية معا، وقالوا له بلسان الخريت بن راشد الناجي: "لا والله لا أطيع أمرك، ولا أصلي خلفك، وإني غدا لمفارقك؛ لأنك "حكمت" في الكتاب، وضعفت عن الحق إذ جد الجد، وركنت إلى القوم الذين ظلموا أنفسهم، فأنا عليك راد، وعليهم ناقم، ولكم جميعا مباين"!.
وبعد أن كان المسلمون فريقين: أهل العراق يقودهم علي، وأهل الشام يقودهم معاوية. ظهر الفريق الثالث، وهم "المحكمة" الذين اختاروا لهم أميرا من "الأزد" -وليس من قريش- هو الصحابي الصالح عبد الله بن وهب الراسبي "38هـ 658م".. فكانت تلك هي النشأة الأولى لفرقة الخوارج، أولى الفرق في حياة العرب المسلمين.(1/377)
التسمية:
كثيرا ما يسمى الخوارج أنفسهم: "المؤمنون"، أو: "جماعة المؤمنين"، أو: "الجماعة المؤمنة". أما الأسماء الأخرى التي غلبت عليهم واشتهروا بها، فإن أغلبها قد أطلقها عليهم خصومهم، فلما أن شاعت وعرفوا بها، قبلوها وقدموا لها التفسيرات والتخريجات التي تجعلها أدخل في باب المدح منها في باب القدح!
فخصومهم سموهم: "الخوارج" لخروجهم -في رأيهم- على أئمة الحق والعدل. فلما شاع هذا الاسم قبلوه، وقالوا إن خروجهم إنما هو على أئمة الجور والفسق والضعف، ومن ثم فإنه هو الموقف الإسلامي الوحيد الذي يرضاه الإسلام. وقالوا: إن الخروج عن الدين مروق، يسمى أصحابه: المارقة والمارقين. أما الخروج إلى الدين فإن أصحابه هم الذين يسمون بالخوارج والخارجة؛ لأن خروجهم هو إلى الجهاد في سبيل الله، والله سبحانه يقول: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة: 46] .
ولقد غدا هذا الاسم -الخوارج- أكثر الأسماء شيوعا على هذه الفرقة في تراث العرب المسلمين.
- فقطري بن الفجاءة المازني "78هـ 697م" -وهو أحد أئمتهم- يكتب إلى أبي خالد القناتي -وهو منهم- يلومه على "قعوده" عن "الخروج" فيقول:
أبا خالد انفر فلست بخالد ... وما جعل الرحمن عذرا لقاعد
أتزعم أن الخارجي على الهدى ... وأنت مقيم بين لص وجاحد؟!
- وشاعرهم عيسى بن فاتك يتحدث عن انتصار أبي بلال مرداس بن(1/378)
حدير، الربعي الحنظلي "61هـ -680م" بأربعين من رجالهم على جيش أموي تعداده ألفان، بموقعة "آسك"، فيقول:
أألفا مؤمن فيما زعمتم ... ويهزمهم بآسك أربعونا؟!
كذبتم، ليس ذاك كما زعمتم ... ولكن الخوارج مؤمنونا!
وعندما قتل الأمويون أبا بلال هذا وجماعته وهم يصلون، قال شاعر الخوارج عمران بن حطان:
لقد زاد الحياة إلي بغضا ... وحبا في الخروج أبو بلال
أحاذر أن أموت على فراشي ... وأرجو الموت تحت ذرى العوالي
ولو أنى علمت بأن حتفي ... كحتف أبي بلال لم أبال
فمن يك همه الدنيا فإني ... لها، والله رب البيت، قالي
- ولقد أطلق عليهم خصومهم أسماء بعض المواقع التي واقعوهم فيها. فقالوا مثلا: أهل النهروان. أو الحروريين. وقال الشاعر الأموي القعقاع بن عطية الباهلي يتحدث عن قتاله إياهم:
أقاتلهم وليس علي بعث ... نشاطا ليس هذا بالنشاط
أكر على الحروريين مهري ... لأحملهم على وضح الصراط
- كما سموا هم أنفسهم: "الشراة"، لأنهم باعوا أرواحهم في الدنيا، واشتروا بقول الله سبحانه: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ} [النساء: 74] .. وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} [البقرة: 207] .. وقوله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111] .
وقال شاعرهم: الوليد بن طريف:(1/379)
أنا الوليد بن طريف الشاري ... جوركم أخرجني من داري!
وقال عمران بن حطان:
إني أدين بما دان الشراة به ... يوم النخيلة عند الجوسق الخرب
ووصف شاعر من مراد زحفهم على عدوهم، فقال:
الليل ليل فيه ويل ويل ... وسال بالقوم الشراة السيل
إن جاز للأعداء فينا قول!
أما خصمهم: الشاعر صالح بن مخراق فيقول:
إني لمذك للشراة نارها ... ومانع ممن أتاها دارها
وغاسل بالطعن عني عارها!
ولم ينس خصومهم أن يجتهدوا كي يحرموهم ما في هذا الاسم من شرف وميزة، فقالوا إن "الشاري" هنا يعني شديد الإلحاح. فهو مشتق من شري الرجل إذا ألح، وهم شديدو الإلحاح على ما يطلبون!. أو معناه: الذي يشتري بالشر!. فلقد كانت التسميات والأسماء أسلحة في الصراع، وحتى بعد أن استقرت وغلبت على أصحابها ظلت التفسيرات والتخريجات تبحث عن السبل التي تجعلها فاعلة ومؤثرة في هذا الصراع!.(1/380)
المبادئ العامة:
تبلورت مقالات الخوارج وتحددت الأصول العامة لفرقتهم بعد مرحلة غير قصيرة من النشأة، في مجرى الأحداث والصراع ضد الخصوم، وأيضا في مجرى الصراعات الداخلية التي قسمت الفرقة الرئيسية إلى عدة فروع، فوضح من خلال كل ذلك أن هناك عددا من الأصول التي اجتمع عليها وأجمع عامة الخوارج. مثل:
1- في نظام الحكم والسلطة العليا للدولة -الإمامة- يقررون صلاح المسلم الذي تتوافر فيه شروط الإمامة لتولي هذا المنصب، بصرف النظر عن نسبه وجنسه ولونه. وهم يتميزون بذلك عن كثير من فرق الإسلام وتياراته السياسية، التي اشترطت النسب القرشي أو العربي لمن يتولى منصب الإمام. والخوارج هنا هم الأقرب إلى روح الإسلام. بل إن منهم من أجاز تولي المرأة لمنصب الإمامة العظمى، ووضع هذا الرأي في التطبيق.
بل إننا نلحظ ميل الخوارج عن قريش في الوقت الذي احتكر فيه القرشيون -هاشميون وأمويون- لعبة الصراع على السلطة، فمن بين الأئمة الخوارج الذين عقدت لهم البيعة بإمرة المؤمنين لا نجد قرشيا واحدا. فمثلا:
- عبد الله بن وهب الراسبي "38هـ 658م" من الأزد.
- وحوثرة بن وداع بن مسعود "41هـ 661م" من أسد.
- والمستورد بن علفة بن زيد مناة "43هـ-663م" من تيم الرباب.
- وزحاف الطائي "50هـ 670م" من طيء.
- وقريب بن مرة "50هـ-670م" من الأزد.
- وحيان بن ظبيان السلمي "59هـ 678م" ليس من قريش.
- وأبو بلال مرداس -ابن أدية- بن حدير بن عامر بن عبيد بن كعب، الربعي الحنظلي "61هـ 680م" من تميم.
- ونافع بن الأزرق بن قيس الحنفي "65هـ 685م" من بكر بن وائل.
- وعبيد الله بن بشير بن الماحوز السليطي اليربوعي 65هـ-685م من تميم.
- والزبير بن علي السليطي "68هـ 687م" من تميم.(1/381)
- ونجدة بن عامر الحنفي "36-69هـ 656-688" من بكر بن وائل.
- وثابت التمار -الذي بويع له بعد نجدة بن عامر- هو من الموالي.
- وأبو فديك "73هـ 692م" ليس من قريش.
- وأبو الضحاك، شبيب بن يزيد بن نعيم بن قيس الشيباني "26-77هـ 647-696م" ليس من قريش.
- وأبو نعامة -واسمه جعونة- قطري بن الفجاة بن مازن بن يزيد، الكناني المازني "78هـ 697م" من تميم.
- وعبد ربه الصغير -الذي انشق على قطري، وبويع له بإمرة المؤمنين, هو أحد موالي قيس بن ثعلبة.
- وأبو سماك، عمران بن حطان بن ظبيان السدوسي الشيباني الوائلي "84هـ 703م" ليس من قريش.
- وعبد الله بن يحيى بن عمر بن الأسود "130هـ 748م" من كندة.
فهم جميعا ما بين عربي، غير قرشي، وما بين مولى من الموالي، اشترك في البيعة له بإمارة المؤمنين: العرب والموالي على حد سواء. وهذه سابقة في فلسفة الحكم لم يسبق لها مثيل في المجتمع العربي الإسلامي. ولعلها التطبيق الأول لروح فلسفة الإسلام في هذا المقام.
2- والخوارج قد أجمعوا على وجوب الخروج على أئمة الجور والفسق والضعف. أي: على وجوب الثورة، والثورة المستمرة، بتعبيرنا الحديث.
فعندهم أن الخروج -أي: الثورة المسلحة والرفض بالعنف الثوري- يجب إذا بلغ عدد المنكرين على أئمة الجور أربعين رجلا. ويسمون هذا الحد: "حد الشراء". أي: الذين اشتروا الجنة عندما باعوا أرواحهم.(1/382)
فعليهم وجب الخروج "الثورة", "حتى يموتوا، أو يظهر دين الله، ويخمد الكفر والجور! ". ولا يحل عندهم المقام والقعود غير ثائرين، إلا إذا نقص العدد عن ثلاثة رجال. فإن نقصوا عن الثلاثة جاز لهم "القعود" وكتمان العقيدة، وكانوا على "مسلك الكتمان". وهناك غير "حد الشراء" و"مسلك الكتمان": "حد الظهور". وذلك عند قيام دولتهم ونظامهم تحت قيادة "إمام الظهور". و"حد الدفاع". وهو التصدي لهجوم الأعداء تحت قيادة "إمام الدفاع".
ويعبر الأشعري في "مقالات الإسلاميين" عن إجماع الخوارج على وجوب الثورة بقوله: إنهم متفقون على وجوب "إزالة أئمة الجور، ومنعهم أن يكونوا أئمة، بأي شيء قدروا عليه، السيف أو بغير السيف! ".
3- والخوارج -في تقويم التاريخ الإسلامي- يتبنون ويوالون خلافة أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب، وكذلك خلافة عثمان بن عفان قبل أن تحدث الأحداث التي جدت في السنوات الست الأخيرة من عهده، وأيضا خلافة علي بن أبي طالب قبل القبول "بالتحكيم". أما سنوات عثمان الأخيرة فإنهم يبرءون منه فيها، وأما علي بعد "التحكيم"، فإنهم يكفرونه، بعضهم يكفره كفر شرك في الدين، وبعضهم يقول: إنه كفر نعمة فقط، أي: جحود للنعم الإلهية المتمثلة في واجبات الخلافة على أمير المؤمنين!. وهم يبرءون من خصوم علي، سواء منهم أصحاب "موقعة الجمل"، أو معاوية بن أبي سفيان ومن والاه.
4- والخوارج، في قضية الخلافة والإمامة، مع فلسفة الإسلام التي تجعل "الاختيار والبيعة" الطريق لنصب الإمام. ومن ثم فهم أعداء لفكر الشيعة القائل: إن الإمامة شأن من شئون السماء لا اختصاص فيها للبشر، وأن السماء قد حددت لها أئمة بذواتهم، نصت عليهم، وأوصت بها لهم قبل(1/383)
وفاة الرسول، عليه الصلاة والسلام. وهم أعداء كذلك لمن زعم من أهل السنة أن النص والوصية والتعيين قد سبقت من الرسول، بالإمامة والخلافة، لأبي بكر الصديق، مثل "فرقة "البكرية".
وعندهم أيضا أن الإمامة من الفروع، فليست -خلافا للشيعة- من أصول الدين. ولذلك قالوا: إن مصدرها هو "الرأي"، وليس "الكتاب" أو "السنة".
5- وهم يحكمون على مرتكبي الذنوب الكبائر، الذين يموتون دون توبة بالكفر، وبالخلود في النار. ولقد تبلور هذا الأصل من أصولهم الفكرية في الصراع الفكري، بل والمسلح، ضد بني أمية، وخاصة خلال الثورة التي قادها الأزارقة تحت قيادة نافع بن الأزرق "65هـ 685م"، عندما طرحت أحداث الصراع ضد الدولة على بساط الحركة الفكرية القضية التي بدأت بسؤال: هل الحكام الذين ارتكبوا ويرتكبون كل هذه الكبائر واقترفوا ويقترفون كل تلك المظالم، واجترحوا ويجترحون كل هذه السيئات. هل هم مؤمنون؟!. أم كافرون؟!. أم منافقون؟! أم هم في منزلة بين منزلتي الكفر والإيمان؟!. والخوارج قد انحازوا إلى القول بالتكفير!. ولقد بدأ التكفير بالدولة، ثم عم فشمل المخالفين!. والغلاة منهم قد جعلوه كفر "شرك"، أما المعتدلون فقالوا إنه فقط كفر "نعمة" أي: جحود.
6- وهم يقولون "بالعدل". أي: ينفون "الجور" عن الله سبحانه وتعالى. ومقتضى هذا الرأي وفق هذا المصطلح: أن الإنسان حر مختار، له قدرة مخلوقة وإرادة مستقلة واستطاعة مؤثرة، ومن ثم فإن فعله المقدور له هو من صنعه على سبيل الحقيقة لا المجاز، ومن ثم فإن مسئوليته متحققة عن فعله هذا، فجزاؤه بالثواب والعقاب "عدل". على عكس مؤدى قول الذين يقولون "بالجبر"، إذ مقتضى قولهم إلحاق "الجور" بالخالق، لإثباته(1/384)
من لا يستحق وعقابه من لا صلة له في الذنب ولا سبيل له للفكاك من المكتوب والمقدور.
7- وهم يقولون "بالتوحيد". أي: بالتجريد وتنزيه الذات الإلهية من أي وجه من وجوه مشابهة أي حادث من الحوادث. بما في ذلك نفي الصفات التي يؤدي إثباتها لله، أو حتى يوهم تعدد القدماء. وبما في ذلك القول بخلق القرآن -كلام الله- حتى لا يفتح القول بقدم الكلمة ما فتحه في المسيحية من إشراك عيسى -كلمة الله- مع الخالق في القدم، الأمر الذي أدى إلى تبرير القول بالتثليث!.
8- وهم يقولون بالوعد وبالوعيد. أي: بصدق وعد الله للمطيع, وصدق وعيده للعاصي, دون أن يتخلف وعده أو وعيده لسبب من الأسباب.
9- وهم يقولون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على نحو متميز عن بعض الذين قالوا بهذا الأصل من أهل السنة وأصحاب الحديث. ذلك أن الخوارج قد جعلوا لهذا الأصل صلة وثيقة بالفكر السياسي والتغيير للظلم والجور الذي طرأ ويطرأ على المجتمعات، كما جعلوا القوة -قضية السيف- أداة أصيلة وسبيلا رئيسيا من أدوات النهي عن المنكر وسبل التغيير للجور والفساد.
10- وفوق ذلك فإن الخوارج قد جمعتهم تقاليد اشتهرت عنهم في القتال. وزهد اتصفوا به في الثروة، فحررهم ذلك من قيود الحرص على الاقتناء، وأعانهم على الانخراط في الثورات والرحيل الأسرع في ركاب الجيوش الثائرة.
وعن ذلك يعبر شاعرهم الصلت بن مرة فيقول:
إني لأهونكم في الأرض مضطربا ... ما لي سوى فرس والرمح من نشب!(1/385)
كما تأتي الإشارة إليه في حديث شاعرهم يزيد بن حبناء إلى صاحبته. يقول لها:
دعي اللوم إن العيش ليس بدائم ... ولا تعجلي باللوم يا أم عاصم
فإن عجلت منك الملامة فاسمعي ... مقالة معني بحقك عالم
ولا تعذلينا في الهدية إنما ... تكون الهدايا من فضول المغانم
فليس بمهد من يكون نهاره ... جلادا ويمسي ليله غير نائم!
كما اشتهروا بنسك وتقوى سجلها لهم حتى خصومهم من كتاب المقالات. وبصدق وشجاعة طبعت سلوكهم، وبرزت في شعر شعرائهم فميزته عن شعر غيرهم إلى حد كبير.
ونحن إذا شئنا "نصا خارجيا" يعبر عن فلسفتهم في الحكم، بمعنى العدل الذي خرجوا لإقامته بدلا من الجور الذي ثاورا عليه، فإن الكلمات التي خطب بها أبو حمزة الشاري، المختار بن عوف بن سليمان بن مالك الأزدي السليمى البصري "130هـ 748م" أهل المدينة من فوق منبر مسجدها، صالحة لتوجز معنى الجور الذي ثاروا ضده، والعدل الذي طلبوه, يقول أبو حمزة:
"يا أهل المدينة: سألناكم عن ولاتكم هؤلاء -ولاة بني أمية- فأسأتم القول فيهم، وسألناكم: هل يقتلون بالظن؟ فقلتم: نعم، وسألناكم: هل يستحلون المال الحرام، والفرج الحرام؟ فقلتم: نعم، فقلنا لكم: تعالوا نحن وأنتم نلقاهم، فإن نظهر نحن وأنتم يأت من يقيم لنا كتاب الله وسنة نبيه، ويعدل في أحكامهم، ويحملكم على سنة نبيكم فأبيتم، وقاتلتمونا، فقاتلناكم وقتلناكم. مررت بكم في زمن هشام بن عبد الملك، وقد أصابتكم عاهة في ثماركم، فركبتم إليه تسألونه أن يضع خراجكم عنكم،(1/386)
بيته، بل لا يعلم ما ينطوي عليه ثوبه، أو يحويه جسمه! ينقمون المعاصي على أهلها، ويعملون بها، ولا يعلمون المخرج منها، جفاة في دينهم، قليلة عقولهم، قد قلدوا أهل بيت من العرب دينهم، وزعموا أن موالاتهم لهم تغنيهم عن الأعمال الصالحة، وتنجيهم من عقاب الأعمال السيئة، قاتلهم الله أنى يؤفكون!. ا. هـ".
ففي هذا النص الخارجي الذي خطب به أبو حمزة الشاري أهل المدينة نجد العديد من المواقف والآراء والمعايير. فهو:
أولا: يعلن أن بني أمية قد تولوا السلطة اغتصابا، ودون استحقاق، وأن جورهم قد عطل الحدود وأضر بالرعية حتى أغنى الغني وأفقر الفقير!.
وثانيا: يعلن وجوب الخروج بالسيف على هذه السلطة الجائرة لإزالتها، ثم يرد إلى الناس أمرهم -سياستهم وسلطتهم- يختارون بالشورى إمامهم بأنفسهم ولأنفسهم.
وثالثا: يعلن أن الخوارج يبتغون وحدة الأمة في هذا الصراع، فهم "من الأمة والأمة منهم"، لا يستثني من الناس إلا الشرك وأهل الكتاب والإمام الجائر.
ورابعا: يعلن رفض "القعود" عن "الخروج"، ويهاجم "القعدة" الذين يئنون تحت النير الأموي دون أن "يخرجوا" عليه ويقاوموه.
وخامسا: يهاجم فرقة الشيعة -بعد أن هاجم الفرقة الأموية الحاكمة- لأنها تخلت عن مقامة السلطة و"الخروج" عليها؛ ولأنها بدلا من ذلك تدينت بالتعصب لآل البيت، واتخذت من حبهم عبادة ترجو القربة بها، وابتدعت عقائد: "الرجعة"، وعلم الأئمة للغيب، وغيرها من العقائد الغريبة عن الإسلام.(1/388)
ولقد كونت هذه الأفكار والمبادئ السياسية، مع ما سبقت إشارتنا إليه من أصولهم في السياسة، عناصر مذهب وفلسفة في الحكم أثارت الجدل الفكري والصراع السياسي الذي بلور فرق الإسلام الأولى في القرن الأول للهجرة، وبالذات تلك الفرق التي نشأت سياسية، وفي مقدمتها: الشيعة، والمرجئة، والمعتزلة.
ومعاركهم على درب الثورة المستمرة:
إن فرقة من فرق الإسلام لم تسلك طريق الثورة كما سلكته فرقة الخوارج. حتى لقد أصبحت ثوراتهم وانتفاضاتهم أشبه بالثورة المستمرة في الزمان والمنتشرة في المكان ضد الأمويين، بل وضد علي بن أبي طالب منذ التحكيم وحتى انقضاء عهده سنة 40هـ. وعلى درب ثورتهم المستمرة هذه كانت معاركهم، المتفردة بالاستبسال والفناء في الهدف والمبدأ، معالم تستنفر دماء شهدائهم وذكريات ضحاياهم فيها اللاحقين للاقتداء بالسابقين!.
- فنتيجة "التحكيم" بين علي ومعاوية قد ظهرت في رمضان سنة 37هـ. وفي شوال بايع الخوارج لأول أمرائهم: عبد الله بن وهب الراسبي، الذي قادهم في حرب النهروان -أسفل موقع بغداد- في صفر سنة 38هـ ضد جيش علي بن أبي طالب.
- وبعد هزيمتهم في النهروان بشهرين تجددت ثورتهم، فقاتلوا جيش علي ثانية في الدسكرة -بأرض خراسان- في ربيع الثاني سنة 38هـ، وكانت قيادتهم لأشرس بن عوف الشيباني.
- وفي الشهر التالي لهزيمة "الدسكرة" تجددت ثورتهم بقيادة هلال بن علفة وأخيه مجالد، فقاتلوا جيش علي للمرة الثالثة عند "ماسبذان"(1/389)
-بأرض فارس- في جمادى الأولى سنة 38هـ.
- وبعد هزيمة "ماسبذان" قادهم الأشهب بن بشر البجلي في خروج آخر في نفس العام. فحاربوا في "جرجرايا" على نهر دجلة.
- وفي رمضان سنة 38هـ زحفوا بقيادة "أبو مريم" -من بني سعد تميم- إلى أبواب الكوفة فحاربوا جيش علي بن أبي طالب، وهزموا هناك.
وبعد مقتل علي، وتنازل الحسن لمعاوية، بدأت حرب الخوارج لأهل الشام، ولقد كادوا يهزمون جيش معاوية في أول لقاء لهم به، لولا أن استعان عليهم بأهل الكوفة.
- وفي سنة 41هـ قاد سهم بن غالب التميمي والخطيم الباهلي تمردا خارجيا ضد بني أمية استمر حتى قضى عليه زياد بن أبيه، قرب البصرة، سنة 46هـ، أي: بعد خمس سنوات!.
- وفي أول شعبان سنة 43هـ قاتل الخوارج بقيادة أميرهم: المستورد بن علفة، جيش معاوية، وكانت الكوفة يومئذ يتولاها المغيرة بن شعبة.
- وفي سنة 50هـ ثار بالبصرة جماعة منهم بقيادة قريب الأزدي.
- وفي سنة 58هـ ثار الخوارج من بني عبد القيس، واستمرت ثورتهم حتى ذبحهم جيش عبيد الله بن زياد!.
- وفي سنة 59هـ ثاروا بقيادة حيان بن ظبيان بن ظبيان السلمي، وقاتلوا حتى قتلوا جميعا عند "بانقيا" قرب الكوفة.
- وفي سنة 61هـ وقعت المعركة التي قتل فيها أبو بلال مرداس بن أدية، الذي خرج بالأهواز، على عهد والي البصرة عبيد الله بن زياد. وكان مقتله -في آسك- وقودا زاد من ثورات الخوارج وكثر من حولهم الأنصار.(1/390)
- ثم خرجوا بالبصرة بقيادة: عروة بن أدية، وهو أخو أبو بلال مرداس بن أدية.
- ثم خرجوا بالبصرة كذلك بقيادة عبيدة بن هلال، الذي أعلن أنه إنما خرج "كشيخ على دين أبي بلال؟! ".
- وفي آخر شوال سنة 64هـ بدأت الثورة الكبرى للأزارقة، بقيادة نافع بن الأزرق، وهي الثورة التي بدأت بكسر أبواب سجون البصرة، ثم خرجوا يريدون الأهواز.
- وفي سنة 65هـ ثاروا باليمامة يقودهم "أبو طالوت".
- وفي شوال سنة 66هـ حاربوا ضد جيش المهلب بن أبي صفرة شرقي نهر دجيل.
- وفي سنة 67هـ قاد ثورتهم نجدة بن عامر، فاستولوا على أجزاء من اليمن وحضرموت والبحرين.
- وفي أوائل سنة 68هـ قادهم الزبير بن علي السليطي في حربهم ضد جيش مصعب بن الزبير عند سابور واصطخر، ثم البصرة.
- وفي نهاية سنة 68هـ ثار الخوارج الأزارقة، وهاجموا الكوفة.
- وفي سنة 69هـ استولوا على نواح من أصفهان، وبقيت تحت سلطانهم وقتا طويلا.
- وفي سنة 69هـ -كذلك- ثاروا بالأهواز بقيادة قطري بن الفجاءة.
- وفي آخر شعبان سنة 75هـ حاربوا المهلب بن أبي صفرة، ولما هزمهم انسحبوا إلى فارس.
- وفي صفر سنة 76هـ قاد ثورتهم في "داريا" الناسك صالح بن(1/391)
مسرح، وقاتلوا في قرية "المدبح" من أرض الموصل.
- وفي سنة 76هـ وسنة 77هـ تمكنوا بقيادة شبيب بن يزيد بن نعيم، من إيقاع عدة هزائم بجيوش للحجاج بن يوسف الثقفي.
- ثم تكررت ثورتهم بقيادة شوذب، وحاربوا في الكوفة على عهد يزيد الثاني "101-105هـ، 720-724م".
- وفي عهد هشام الثاني "105-125هـ 724-743م" ثاروا وحاربوا في الموصل بقيادة بهلول بن بشر، ثم بقيادة الصحاري بن شبيب، حيث حاربوا عند "مناذر"، بنواحي خوزستان.
ولقد أدت هذه الثورات المتكررة شبه المتصلة إلى ضعف الدولة الأموية، وتعدد الفرق والأحزاب المعارضة. كما أدت إلى اتساع نطاق الثورة الخارجية بين الناس، فلم تعد قاصرة على قلة من الناس يؤمنون بفكر هذه الفرقة ويخرجون تطبيقات لهذا الفكر، وإنما شاركت الجماهير الغفيرة في هذه الثورات والتمردات والانتفاضات.
- ففي سنة 127هـ حارب في جيش الخوارج الذي قاده الضحاك بن قيس الشيباني مائة وعشرون ألفا من المقاتلين، وحاربت في هذا الجيش نساء كثيرات؟!، وانتصر هذا الجيش على الأمويين بالكوفة في رجب سنة 127هـ وبواسط في شعبان سنة 127هـ.
- وفي سنة 129هـ ثاروا باليمن بقيادة عبد الله بن يحيى الكندي، واستولوا على حضرموت واليمن وصنعاء، وأرسل عبد الله بن يحيى جيشا يقوده حمزة الشاري فدخل مكة، وانتصر في المدينة إلى أن هزمه جيش أموي جاءه من الشام في جمادى الأولى سنة 130هـ.
وهذه الثورات الخارجية وإن لم تنجح في إقامة دولة مستقرة يستمر حكم(1/392)
الخوارج فيها طويلا، إلا أنها قد أصابت الدولة الأموية بالإعياء حتى انهارت انهيارها السريع تحت ضربات ثورة العباسيين في سنة 132هـ.. فالعباسيون قد "قعدوا" عن الثورة قرابة القرن، بينما قضى الخوارج هذا القرن في ثورة مستمرة، ثم جاء "القعدة" فقطفوا ثمرة ما زرعه الثوار؟!.
وإذا أردنا أن نعرف كما كلفت ثورات الخوارج بني أمية كفانا أن نذكر أنهم لم يستطيعوا إحراز النصر على الخوارج إلا بقائدهم المهلب بن أبي صفرة، ولم يستطع المهلب أن يهزم الخوارج إلا بعد أن أخذ الأرض وخراجها إقطاعا له ولجنده المحاربين، ويروي المسعودي في "مروج الذهب" أنه "لما غلبت الخوارج على البصرة، بعث إليهم عبد الملك بن مروان جيشا فهزموه، ثم بعث إليهم آخر فهزموه. فقال: من للبصرة والخوارج؟! فقيل له: ليس لهم إلا المهلب بن أبي صفرة. فبعث إلى المهلب، فدار بينه وبين الخليفة هذا الحوار الذي بدأه المهلب بطلبه وشرطه:
- على أن يكون لي خراج ما أجليتهم عنه!
- إذن تشركني في ملكي؟!
- فثلثاه!
- لا!
- فنصفه، والله لا أنقص منه شيئا، على أن تمدني بالرجال، فإذا أخللت فلا حق لك علي!.
أي: إن الدولة قد وضعت كل ما لديها في خدمة الجيش والقائد الذي حاربهم في العراق.
بل لقد استعان المهلب في قتاله للخوارج، علاوة على ذلك -كما أخبرنا المبرد في "الكامل"- بالتجار، عندما أغراهم بازدهار تجاراتهم التي أصابتها ثورات الخوارج بالكساد، فنهضوا بتمويل حملاته الحربية ضد الثوار. حتى(1/393)
لقد أسرع إليه الناس رغبة "في مجاهدة الخوارج، ولما في الغنائم والتجارات! ".
كما استعان في حربهم بالأحاديث الكاذبة، كان يضعها ضدهم وينسبها إلى رسول الله، عليه الصلاة والسلام!. وكما يقول المبرد: فلقد "كان المهلب ربما صنع الحديث ليشد به من أمر المسلمين ويضعف من أمر الخوارج، فكان حي من الأزد، يقال لهم الندب، إذا رأوا المهلب رائحا إليهم قالوا: قد راح المهلب ليكذب! وفيه يقول رجل منهم:
أنت الفتى كل الفتى ... لو كنت تصدق ما تقول!
وبهذه الإمكانيات كلها وبهذه الأسلحة جميعها رجحت كفة المهلب بن أبي صفرة على كفة الخوارج فانتصر عليهم في القتال. ومع ذلك فلقد ظلت شرارة ثورتهم المستمرة تولد الانتفاضة إثر الأخرى، كما ظلت فلسفتهم السياسية تشعل الجدل الذي أصبح وقودا يذكي نار الصراع على السلطة بين الفرق المعارضة وبين الأمويين ومن بعدهم بني العباس.
خلافاتهم.. وما أصابهم من انقسامات:
والخوارج، مثلهم كمثل سائر الفرق الإسلامية، لم يمنعهم الاتفاق في "الأصول والمقالات" من الاختلاف في "الفروع والمسائل"، فشهد تاريخهم عددا من الانقسامات التي قادها عدد من أعلامهم وأئمتهم، وحسبها الذين أرخوا للمقالات "فرقا" داخل الحركة الخارجية، بينما هي تيارات وفروع في إطار فرقة واحدة اتفقت في "الأصول والمقالات" واختلفت في "المسائل والفروع".
ومن مؤرخي الفرق -مثل: المقريزي في "الخطط"- من يصل بتعداد "فرقهم" إلى سبع وعشرين فرقة. والأشعري في "مقالات الإسلاميين"(1/394)
يقف "بفرقهم" حول النصف من هذا العدد، ولكنه يعدد فروعا وانقسامات داخل كل فرقة تصل بالتعداد إلى أكثر مما وجدناه عند المقريزي. وبين تعداد المقريزي وتعداد الأشعري يقف تعداد البغدادي "لفرق" الخوارج في كتابه: "الفرق بين الفرق".
ولقد ظل الخوارج بعيدين عن الانقسام حتى عهد إمامهم نافع بن الأزرق، الذي مثلت جماعته -الأزارقة- أول انقسام داخل تيار الخوارج العام.
وبعد أن استشرت الانقسامات والاختلافات في "المسائل والفروع" ظلت الجماعات الرئيسية في حركة الخوارج هي:
1- الأزارقة: وهم أول من حكم بأن ديار مخالفيهم هي ديار كفر، من أقام بها فهو كافر, وقالوا: إن النار هي مثوى أطفال مخالفيهم، وأنكروا رجم الزاني، وأقروا الحد لقذف المحصنة دون قذف المحصن، وسووا في قطع يد السارق بين أن يكون المسروق قليلا أو كثيرا. وسموا بالأزارقة تبعا لاسم إمامهم: نافع بن الأزرق.
2- والنجدات: وهم أتباع نجدة بن عامر الحنفي. تميزوا عن فروع الخوارج الأخرى بقولهم: إن الدين أمران، أحدهما: معرفة الله ومعرفة رسوله، وتحريم دماء المسلمين وأموالهم، وثانيهما: الإقرار بما جاء من عند الله جملة، وما عدا ذلك من الحلال والحرام والشرائع فالجاهل بها معذور؛ لأنها ليست من الدين. وقالوا بكفر المصر على الذنب والمعصية، كبيرة كانت أو صغيرة، أما من يقارف المعاصي دون إصرار عليها، فهو مؤمن غير كافر.
- الإباضية: أتباع عبد الله بن أباض، أو المنسوبون إلى قرية من قرى اليمامة اسمها "أباض" على خلاف في سبب التسمية. والأباضيون هم(1/395)
أقل جماعات الخوارج غلوا، وأكثرها اعتدالا، وأقربها إلى فكر أهل السنة. فعندهم أن كفر مرتكب الذنوب الكبائر هو "كفر نعمة"، أي: جحود نعمة، وليس كفر شرك بالله. والإيمان عندهم هو جميع ما افترضه الله على خلقه. ولم يقولوا -مثل الأزارقة- أن أطفال الكفار كفار مخلدون في النار.
4- الصفرية: نسبة إلى: زياد بن الأصفر.. أو "النعمان بن الأصفر.. أو: عبد الله بن صفار" -على خلاف في ذلك- وهم في غلوهم مثل الأزارقة، خالفوهم فقط في امتناعهم عن قتل أطفال المخالفين لهم في الاعتقاد.
وهذه الفروع الخارجية، وغيرها ممن ذكرتهم كتب المقالات والفرق قد انقرضوا، وأصبحت مقالاتهم جزءا من تراث العرب المسلمين.. وذلك باستثناء الخوارج الأباضية، فلا تزال لهم بقايا وأتباع حتى الآن في أجزاء من الوطن العربي وشرقي أفريقيا.. وبالذات في "عمان" و"مسقط" على الخليج العربي، وفي أنحاء من المغرب العربي -تونس والجزائر- وفي الجنوب الشرقي للقارة الأفريقية -زنجبار- وهم ينكرون علاقتهم بفكر الخوارج الغلاة، بل ربما أنكر بعضهم أية صلات لمذهبهم بمذهب الخوارج على الإطلاق، فلقد تطور مذهبهم وطوعت الحياة وأحداثها أفكارهم حتى اقتربوا من مذاهب أهل السنة في الكثير من المقالات.(1/396)
المبادئ العامة
...
فكتب بوضعه عن قوم من ذوي اليسار منكم، فزاد الغني غنى والفقير فقرا!. وقلتم: جزاه الله خيرا!. فلا جزاه خيرا ولا جزاكم!.
يا أهل المدينة: الناس منا ونحن منهم، إلا مشركا عباد وثن، أو كافرا من أهل الكتاب، أو إماما جائرا. أخبروني عن ثمانية أسهم فرضها الله في كتابه على القوي والضعيف -يعني مصارف الصدقات كما حددتها آية: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [الآية من سورة التوبة]- فجاء تاسع ليس له منها سهم، فأخذها جميعها لنفسه، مكابرا محاربا لربه، فما تقولون فيه، وفيمن أعانه على فعله؟!.
إني بني أمية قد أصابوا إمرة ضائعة، وقوما طغاما جهالا لا يقومون لله بحق، ولا يفرقون بين الضلالة والهدى، ويرون أن بني أمية أرباب لهم، فملكوا الأمر وتسلطوا فيه تسلط ربوبية، بطشهم بطش الجبابرة، يحكمون بالهوى، ويقتلون على الغضب، ويأخذون بالظن، ويعطلون الحدود بالشفاعات، ويؤمنون الخونة، ويغصبون ذوي الأمانة، ويتناولون الصدقة من غير فرضها، ويضعونها غير موضعها، فتلك الفرقة الحاكمة بغير ما أنزل الله، فالعنوهم، لعنهم الله!.
وإما إخواننا من الشيعة، وليس بإخواننا في الدين، ولكني سمعت الله يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13] فإنها فرقة تظاهرت بكتاب الله، وآثرت الفرقة على الله، لا يرجعون إلى نظر نافذ في القرآن، ولا عقل بالغ في الفقه، ولا تفتيش عن حقيقة الثواب، قد قلدوا أمورهم أهواءهم، وجعلوا دينهم العصبية لحزب لزموه وأطاعوه في جميع ما يقوله لهم، غيا كان أو رشدا، ضلالة كان أو هدى، ينتظرون الدول في رجعة الموتى! ويؤمنون بالبعث قبل الساعة! ويدعون علم الغيب لمخلوقين لا يعلم واحدهم ما في(1/378)
المصادر:
ابن أبي الحديد "شرح نهج البلاغة" تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم. طبعة القاهرة سنة 1959م.
ابن الأثير: "اللباب في تهذيب الأنساب" طبعة دار صادر - بيروت.
ابن جميع "أبو حفص عمر": "متن عقيدة التوحيد" نشر: موتيلينسكي. طبعة باريس سنة 1930م.
"مقدمة التوحيد وشروحها" تصحيح وتعليق: أبو إسحاق إبراهيم أطفيش الجزائري. طبعة القاهرة سنة 1353هـ.
ابن قتيبة: "الإمامة والسياسة" طبعة القاهرة سنة 1331هـ.
الأشعري: "أبو الحسن": "مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين". تحقيق: هـ. ريتر. طبعة استانبول سنة 1929م.
البغدادي "عبد القاهر": "الفرق بين الفرق". طبعة بيروت سنة 1973م.
الزركلي: "الأعلام": طبعة بيروت، الثالثة.
فلهوزن "يوليوس": "الخوارج والشيعة" ترجمة: د. عبد الرحمن بدوي. طبعة القاهرة سنة 1958م.
المبرد "أبو العباس محمد بن يزيد": "الكامل - باب الخوارج" طبعة دمشق سنة 1972م.(1/397)
المسعودي: "مروج الذهب" تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد. طبعة القاهرة سنة 1966م.
المقريزي: "تقي الدين أحمد بن علي": "الخطط - كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار" طبعة دار التحرير - القاهرة.
نصر بن مزاحم المنقري: "وقعت صفين" تحقيق: عبد السلام هارون. طبعة القاهرة سنة 1382هـ. "دائرة المعارف الإسلامية" الطبعة العربية، الثانية. دار الشعب. القاهرة.(1/398)
المرجئة
مدخل
...
3- المرجئة:
مصطلح الإرجاء:
لقد جاء هذا الإسلام، الذي عرفت به أحزاب وفرق وجماعات إسلامية، جاء اشتقاقا ونسبة إلى مصطلح: "الإرجاء". وهذا المصطلح قد عنى في الفكر الإسلامي: الفصل بين "الإيمان"، باعتباره تصديقا قلبيا ويقينا داخليا غير منظور, وبين "العمل" باعتباره نشاطا وممارسة ظاهرية قد تترجم أو لا تترجم عما بالقلب من "إيمان". ومؤدى هذا الفصل: الرفض القاطع للحكم على العقائد والضمائر من قبل بشر أيا كان مكانه أو سلطانه، فما دام العمل لا يترجم بالضرورة عن مكنون العقيدة، فلا سبيل إذا للحكم على المعتقدات، وما علينا إلا أن "نرجئ" الحكم على العقائد وعلى الإيمان إلى يوم الحساب، فذلك هو حينه، وتلك إحدى مهام الخالق سبحانه وتعالى وحده، وليست مهمة أحد من المخلوقين في حياتنا الدنيا.
والشائع في كتب المقالات الإسلامية أن تيار الإرجاء في الفكر والتاريخ الإسلامي قد توزعته فرق عدة، يصل بها أبو الحسن الأشعري "260-324هـ 874-936م" في كتابه "مقالات الإسلاميين" إلى اثنتي عشرة فرقة، وهي:
1- الجهمية: أتباع الجهم بن صفوان "المتوفى سنة 128هـ "سنة 745م". وخلاصة مقالتهم: أن الإيمان هو: المعرفة بالله ورسله وما جاء(1/399)
من عنده، وما عدا ذلك ليس من الإيمان. والكفر هو: الجهل بالله ورسله وما جاء من عنده.
2- الصالحية: أتباع أبي الحسين الصالحي.
3- اليونسية: أتباع يونس السمري.
4- الشمرية: أتباع أبي شمر ويونس.
5- الثوبانية: أتباع أبي ثوبان.
6- النجارية: أتباع الحسين بن محمد النجار.
7- الغيلانية: أتباع غيلان بن خرشة الضبي.
8- الشبيبية: أتباع محمد بن شبيب.
9- الحنفية: أتباع أبي حنيفة النعمان.
10- المعاذية التومنية: أتباع أبي معاذ التومني.
11- المريسية: أتباع بشر المريسي.
12- الكرامية: أتباع محمد بن كرام السجستاني.
وغير الأشعري من كتاب المقالات يختلفون معه في التعداد، فهم تسعة عند البغدادي "429هـ 1037م" في كتابه "الفرق بين الفرق". بينما هم أربعة أصناف عند الشهرستاني "749-548هـ 1086-1153م" في كتاب "الملل والنحل". ولقد عدهم الخوارزمي "387هـ 997م"ست فرق في "مفاتيح العلوم". بينما جعلهم ابن حزم "384-456هـ 994-1064م" فرقتين في كتابه "الفصل في الملل والأهواء والنحل".
وفي رأينا أن مرد هذا الاختلاف مرتبط بذلك النهج غير الموضوعي الذي تسرب إلى كثير من كتب المقالات، عندما أصبح الخلاف في "رأي" أو "مسألة" يؤدي عند التصنيف والتأريخ إلى اعتبار كل صاحب "رأي"(1/400)
أو "مسألة" زعيم فرقة أو مدرسة أو تيار. وعندما أهملت الأصول السياسية والدوافع الاجتماعية التي أثمرت نشأة الفرق الإسلامية، وانحصرت الرؤية ووقف البحث عند مقالات هذه الفرق باعتبارها جدلا دينيا لا علاقة له بالواقع السياسي والاجتماعي الذي عاش فيه أصحاب هذه المقالات.
ومن ثم فإن الدراسة التي يتخلص منهجها من هذا العيب تستطيع أن ترصد نشأة المرجئة وفكر الإرجاء وتياراته وفرقه على نحو أدق، كما تستطيع أن تفسر وتجلو سر اختلاف كتاب المقالات الإسلامية في تعداد فرق الذين قالوا بالإرجاء.
فالإرجاء كفكر والمرجئة كأصحاب لهذا الفكر، قد عرفهم المجتمع الإسلامي أول ما عرفهم على عهد الدولة الأموية، ومنذ أن استقر ذلك التغيير الذي أحدثه معاوية بن أبي سفيان "20 ق. هـ-60هـ 603-680م" في طبيعة السلطة بالمجتمع الإسلامي. كانت "الشورى" فلسفة نظام الحكم في عهد الخلافة الراشدة، وكانت الخلافة حقا استأثرت به "هيئة المهاجرين الأولين"، وهي حكومة دولة المدينة، التي ضمت العشرة الذين سبقوا إلى الإسلام من مهاجرة قريش. فجاء تأسيس معاوية للدولة الأموية ليضع النظام "الوراثي"، الشبه ملكي، مكان "الشورى"، ويستبدل "بالمهاجرين الأولين" الأمويين. وتبع ذلك التغيير قيام مظاهر كثيرة للظلم الاجتماعي، الأمر الذي أدى إلى نشأة العديد من حركات المعارضة وأحزاب المقاومة، فعالجها معاوية وخلفاؤه بألوان من القمع وضروب من الاضطهاد أدت إلى أن طرحت الحياة الفكرية في المجتمع الإسلامي على بساط بحثها قضية: هل من أحدث مثل هذه التغييرات والتحولات في نظام(1/401)
الحكم الإسلامي، وصنع كل هذه المظالم، ومارس أنواع الاضطهاد تلك. هل هو "مؤمن"؟ أي: إن الحياة السياسية والفكرية قد شرعت تبحث عن دلالة "العمل" على "الإيمان" وعن العلاقة بينهما أمرتبطان هما؟ أم منفصلان؟. وكان معاوية بن أبي سفيان وأنصار دولته مع الفصل بين "الإيمان" و"العمل"، فإذا كانت أعمال الدولة لا تصلح نموذجا مثاليا لقيم الدين وما هو منتظر من المتدينين به، فلا يجب أن تتخذ دليلا على افتقار خلفائها وأمرائها وولاتها إلى "الإيمان"؛ لأنه لا يعدو أن يكون تصديقا قلبيا، لا تضر معه معصية مهما كبرت، كما هو الحال في الكفر، إذ لا تنفع معه طاعة. ويجب "إرجاء" الحكم على العقائد إلى البارئ سبحانه في يوم الدين.
هكذا عرف المجتمع الإسلامي أول ما عرف تيار الإرجاء. بدأ ببني أمية وأنصار دولتهم, واستهدف إبعاد شبح التكفير والإدانة الدينية عن أولئك الذين قلبوا نظام الحكم في المجتمع الإسلامي وبدلوا فلسفته من "شورى" واختيار إلى "وراثة" في ملك عضود!.
ثم مضت الحياة بالمجتمع الأموي، فاتسعت جغرافية الدولة، وكان إقبال الشعوب غير العربية التي فتحت بلادها على اعتناق الإسلام ملحوظا وغير بطيء، على حين كان "تعرب" هذه الشعوب وامتلاك أبنائها لأدوات العربية وملكاتها التي تتيح لهم القدرة على فهم القرآن وإقامة الشعائر الدينية بآياته وسوره، أمرا غير يسير. لقد اعتنقوا الإسلام، وأعلنوا أنهم قد "آمنوا" و"صدقوا" ولكن "أعمالهم" قد ظلت مشوبة بنواقص, إذا نحن قسناها "بأعمال" الذين يفقهون الكتاب المبين لدين الإسلام.
وكان دخول هذه الشعوب إلى حظيرة الإسلام داعيا إلى إسقاط الجزية(1/402)
عنهم، فهي ضريبة رأس يدفعها القادرون من غير المسلمين. ووجد الأمويون في ذلك إفقارا لخزانة الدولة، فبحثوا عن حجة دينية يبررون بها قرارهم بقاء الجزية على هؤلاء الذين دخلوا حديثا في دين الإسلام!. فكانت الحجة إن إسلام هؤلاء القوم غير صحيح، بمواصفات الإسلام الصحيح؛ لأن "أعمالهم" لا ترقى إلى مستوى الترجمة عن "إيمان" يقيني تعمر به القلوب!. فهم هنا قد ربطوا "الإيمان" "بالعمل". أي: عارضوا -وهم المرجئة- فكر الإرجاء!. وكأنهم أحلوا الإرجاء إذا كان ينجي الحكام من الإدانة، وحرموه إذا كان يعفي المحكومين من دفع الجزية بعد اعتناقهم الإسلام!.
صنع الأمويون ذلك مع شعوب البلاد المفتوحة من غير العرب، عندما اشترطوا لصحة إسلامهم شروطا منها:
1- الاختتان. "والذين كانوا يسلمون لم يكونوا أطفالا ولا صبية حتى يسهل عليهم يومئذ الاختتان! ".
2- وإقامة فرائض الدين. "والإقامة للفريضة تتطلب مستوى أرقى من مستوى الأداء! ".
3- وحسن الإسلام. "وهو شرط يصعب وضع المقاييس الدالة على بلوغ إسلام المرء حده ودرجته! ".
4- وقراءة سورة من القرآن. "وهو شرط تعجيزي بالنسبة لقوم لا يعرفون العربية الدارجة، فأنى لهم قراءة قرآنها المعجز؟! ".
ولقد فجر هذا الظلم الأموي تمردات ومعارضات وانتفاضات وثورات بين أبناء الشعوب التي دخلت حديثا حظيرة الإسلام، وكسب هؤلاء المعارضون إلى صفوفهم قادة وعلماء من العرب المسلمين، الذين عبرت عن فكرتهم كلمات عمر بن عبد العزيز "61-101هـ 681-720م": إن(1/403)
الله قد بعث محمدا هاديا، ولم يبعثه جابيا! ". ووجدت هذه الثورات وهؤلاء الثوار في فكر "الإرجاء" صيغة يشجبون بها فكريا موقف الدولة الأموية، فكان ذلك بدء النشأة لتيار المرجئة والإرجاء في صفوف المعارضة لبني أمية، بعد أن نشأ مبكرا في صفوف هذه الدولة وأنصارها.
ولقد كانت لهؤلاء المرجئة الثوار وقائع مع سلطات الدولة الأموية. وكانت لهذه السلطات مجازر في هؤلاء الثوار. ومن المواطن التي شهدت تلك الأحداث منطقة "السخد"، بالقرب من سمرقند. و"بخارى"، حيث شنق الأمويون أربعمائة من هؤلاء الثوار اعتصموا بالمسجد يصيحون: "أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله! ". وبالقرب من البصرة حيث عسكروا في العراء يصيحون: "يا محمداه! يا محمداه. كما غلب فكر المرجئة على الثورة التي قادها عظيم الأزد الحارث بن سريج "128هـ 746م" ضد هشام بن عبد الملك سنة 116هـ، فلقد كان الرجل الثاني في هذه الثورة، وكبير دعاتها، الذي يقص القصص ويخطب الخطب ويقرأ سيرة الثورة والثوار، هو أبرز زعيم لأهم تيار من تيارات الإرجاء الجهم بن صفوان. ولقد انتشرت هذه الثورة في مناطق "الفارياب" و"بلخ" و"الجوزجان"، و"الطالقان" و"مرو الروذ"، وهي مواطن الترك الذين دخلوا الإسلام، ورفض الأمويون الاعتراف بأنهم يؤمنون. وكان من مطالب هذه الثورة أيضا أن تعود "الشورى" فلسفة لنظام الخلافة، وأن يعزل الولاة، وقادة الشرطة، وأن يشترك الناس في اختيار الولاة الذين يحكمون الأقاليم!
ولقد كسبت ثورات المرجئة هذه إلى صفوفها العديد من العلماء والفقهاء والقراء، منهم: أبو الصيداء صالح بن طريف، وربيع بن عمران التميمي، والقاسم الشيباني، وأبو فاطمة الأزدي، وبشر بن جرموز(1/404)
الضبي، وخالد بن عبد الله النحوي، وبشر بن زنبور الأزدي، وعامر بن بشير الخجندي، وبيان العنبري، وإسماعيل بن عقبة، وثابت قطنة. وهذا الأخير هو الذي ترك في تراثنا قصيدته التي تضمنت العديد من ملامح فكر المرجئة، فضلا عن تعبيرها عن روح دعوتهم، وفيها يقول:
يا هند إني أظن العيش قد نفدا ... ولا أرى الأمر إلا مدبرا نكدا
إني رهينة يوم لست سابقه ... إلا يكن يومنا هذا فقد أفدا1
بايعت ربي بيعا إن وفيت به ... جاورت قتلى كراما جاوروا أحدا
يا هند فاستمعي لي إن سيرتنا ... أن نعبد الله لم نشرك به أحدا
نرجي الأمور إذا كانت مشبهة ... ونصدق القول فيمن جار أو عندا
المسلمون على الإسلام كلهم ... والمشركون استووا في دينهم قددا
ولا أرى أن ذنبا بالغ أحدا ... م الناس شركا إذا ما وحدوا الصمدا
لا نسفك الدم إلا أن يراد بنا ... سفك الدماء طريقا واحدا جددا2
من يتق الله في الدنيا فإن له ... أجر التقى إذا وفى الحساب غدا
وما قضى الله من أمر فليس له ... رد وما يقض من شيء يكن رشدا
كل الخوارج مخط في مقالته ... ولو تعبد فيما قال واجتهدا
أما علي وعثمان فإنهما ... عبدان لم يشركا بالله مذ عبدا
وكان بينهما شغب وقد شهدا ... شق العصا وبعين الله ما شهدا
يجزى علي وعثمان بسعيهما ... ولست أدري بحق أية وردا
الله أعلم ماذا يحضران به ... وكل عبد سيلقى الله منفردا
وفي أبيات هذه القصيدة يضع ثابت قطنة عددا من قواعد الإرجاء التي
__________
1 أفدا أي: أزف.
2 جددا أي: مستويا.(1/405)
تميز هذا التيار من تيارات المرجئة:
فأولا: أصحاب هذا التيار ثوار معارضون للظلم منكرون على الظالمين:
نرجى الأمور إذا كانت مشبهة ... ونصدق القول فيمن جار أو عندا
وثانيا: يشير إلى إيمانه مع أصحابه بفكر "الجبر" عندما يقول:
وما قضى الله من أمر فليس له ... رد وما يقض من شيء يكن رشدا
وهم في هذا الموقف أيضا يتفقون مع تيار الإرجاء الأموي -في الفكر والمبدأ -فلقد كان معاوية وأنصاره "جبرية" يبررون "بالجبر" ما أحدثوا من تغييرات ومظالم، باعتبارها فعل الله وإرادته وقدره وقضاءه.
وثالثا: تفصح هذه القصيدة عن موقف تيار المرجئة هذا من علي وعثمان والصراع الذي نشب بينهما، وهو موقف يتميز عن مواقف كل من: الخوارج، والشيعة، وبني أمية:
أما علي وعثمان فإنهما ... عبدان لم يشركا بالله مذ عبدا
كما يحكم بأن ما حدث بينهما إنما كان بغير إرادة منهما -وهو موقف المجبرة وفكرها:
وكان بينهما شغب وقد شهدا ... شق العصا وبعين الله ما شهدا
فنحن إذن بإزاء معنى محدد للإرجاء، وصيغة واحدة لفكر الذين قالوا بالإرجاء: الفصل بين "الإيمان" و"العمل". ولكننا أمام تيارات متعددة، بل ومتعارضة، استخدمت هذا الفكر، الذي نشأ نشأة سياسية في صراع سياسي واجتماعي، استخدمته في نصرة فريق ضد فريق، وقوة(1/406)
سياسية واجتماعية ضد أخرى. فالبعض قد وظف الإرجاء للدفاع عن الدولة والحكام، والبعض قد تسلح به في صراعه ضد هذه الدولة وهؤلاء الحكام. كما أننا أمام خلافات واختلافات في تعريف "الإيمان"، أسهمت في وجود فروق فكرية بين العديد من علماء المرجئة، الأمر الذي جعل مؤرخي الفرق والمقالات يجعلون هذه الفروق في هذه "المسألة" حدودا تجعل أصحابها "فرقا" متعددة، وليسوا علماء فرقة أو تيار يختلفون في الجزئيات.
- فبعض المرجئة "مثل: الجهم بن صفوان وفرقته" يرون أن الإيمان هو: المعرفة بالله ورسله وما جاء من عنده وعقد القلب على هذه المعرفة. ولا يضر هذا الإيمان ما يعلن صاحبه، حتى لو أعلن الكفر وعبد الأوثان.
- والكرامية -المرجئة- أتباع محمد بن كرام السجستاني يقولون إن الإيمان هو: قول باللسان. وحتى وإن اعتقد صاحب هذا القول الكفر بقلبه.
- والثوبانية -المرجئة- أتباع أبي ثوبان -عندهم أن الإيمان هو: المعرفة والإقرار بالله ورسله فقط. أما ما يجيز العقل فعله أو تركه فليس داخلا في تعريف الإيمان؛ لأنه "عمل"، وهو مؤخر عن الإيمان.
ففكر الإرجاء، كما قلنا واحد وزعت أصحابه وباعدت بينهم المواقف السياسية والمواقع الاجتماعية التي جعلت البعض يوظفه لمصلحة الحكام بينما وظفه آخرون لخدمة المحكومين. أما الاختلافات التي نشأت من تعدد التعريفات المقدمة "للإيمان"، فهي لا تعدوا أن تكون خلافات في الجزئيات، داخل الإطار الواحد لفكر المرجئة، وهي لا ترقى إلى الخلاف في "المقالة"، ومن ثم لا تنفي عن أصحابها الاجتماع تحت مظلة الأصول(1/407)
الواحدة "للفرقة" الواحدة، بالمعنى المرن لهذا المصطلح في فكرنا العربي الإسلامي.
وغير هذين التيارين من تيارات المرجئة كان هناك تيار ثالث في حركة الإرجاء، ذكره مؤرخو المقالات ضمن هذه الحركة، وإن يكن للإرجاء عنده معنى متميز، بل ومختلف عن ذلك المعنى الذي أشرنا إليه. وأصحاب هذا التيار الثالث نجدهم من أئمة المعتزلة وفروع تيارها الفكري العام، كما نجدهم في بعض فروع فرقة الخوارج.
ولم يكن أحد من هذا التيار الإرجائي يفصل بين "الإيمان" و"العمل"، بل كانوا على الضد من ذلك، وإنما نشأ قولهم بالإرجاء واستخدامهم لمصطلحه عندما ثار الجدل -بدافع سياسي كذلك- حول ترتيب الخلفاء الراشدين في الفضل والأفضلية. فالشيعة عموما، وخاصة الغلاة من فرقها وتياراتها، قد فضلوا علي بن أبي طالب على الصحابة أجمعين، بمن فيهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان. ولكن نفرا من آل البيت، الذين يعدون في أسلاف المعتزلة وأعلامهم الأول، قد أخروا عليا في الترتيب و"أرجئوه" في الفضل على النحو الذي مثلته المراحل الزمنية في تولي الخلافة من قبل هؤلاء الخلفاء، فجعلوا فضلهم مرتبا وفقا لترتيب توليهم للخلافة، أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي. وبعضهم جعل عليا بعد عمر وسابقا على عثمان.
وأول من قال بهذا اللون من ألوان "الإرجاء" هو الحسن بن محمد بن الحنفية بن علي بن أبي طالب "المتوفى سنة 99هـ. وقيل سنة 100هـ".. ولقد تبعه في هذا الرأي كثير من المعتزلة -وهو معدود من أئمتهم الأول- كما قال به أيضا من الخوارج كثيرون.(1/408)
فهو "إرجاء". ولكنه مختلف عن إرجاء الذين يفصلون "العمل" عن "الإيمان". وكما يقول واحد من أبرز مفكري الشيعة: أبو جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق الكليني في كتابه "الأصول من الكافي": أنه "قد تطلق المرجئة على من أخر أمير المؤمنين عليا عن مرتبته".
وجدير بالذكر أن واقعنا المعاصر وإن لم تقم فيه فرقة أو مذهب تتسمى باسم المرجئة، إلا أن فكر الإرجاء لا زال حيا في ثنايا العديد من مذاهب الإسلاميين المعاصرين، وعلى الأخص في المذهب الأشعري. فالأشعرية -كما يقول ابن حزم الأندلسي- يذهبون في هذا الموضوع مذهب "الجهمية"، أتباع الجهم بن صفوان.(1/409)
المصادر:
ابن أبي الحديد: "شرح نهج البلاغة" تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم. طبعة القاهرة سنة 1959م.
ابن حزم "أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد": "الفصل في الملل والأهواء والنحل" طبعة القاهرة سنة 1331هـ.
ابن سعد: "الطبقات الكبرى". طبعة دار التحرير. القاهرة.
الأشعري "أبو الحسن علي بن إسماعيل": "مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين" تحقيق: هـ. ريتر. طبعة استانبول سنة 1929م.
الأصفهاني "أبو الفرج علي بن الحسين بن محمد القرشي": "الأغاني" تحقيق: إبراهيم الأبياري. طبعة دار الشعب. القاهرة.
البغدادي "عبد القاهر": "الفرق بين الفرق". طبعة بيروت سنة 1973م.
الخوارزمي "أبو عبد الله محمد بن أحمد بن يوسف": "مفاتيح العلوم" طبعة القاهرة سنة 1342هـ.
الشهرستاني "محمد بن عبد الكريم": "الملل والنحل". طبعة القاهرة سنة 1331هـ.
الطبري "أبو جعفر محمد بن جرير": "تاريخ الأمم والملوك" تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم. طبعة دار المعارف. القاهرة.
عبد الجبار بن أحمد: "فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة" تحقيق: فؤاد سيد.(1/410)
طبعة تونس سنة 1972م.
فان فلوتن: "السيادة العربية والشيعة والإسرائيليات في عهد بني أمية" ترجمة: د. حسن إبراهيم حسن، محمد زكي إبراهيم، طبعة القاهرة سنة 1965م.
القاسمي "جمال الدين": "تاريخ الجهمية والمعتزلة" طبعة القاهرة سنة 1331هـ.
الكليني "أبو جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق": "الأصول من الكافي" تحقيق: علي أكبر العفاري. طبعة طهران سنة 1388هـ.
محمد عبده "الإمام": "الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده" دراسة وتحقيق: دكتور محمد عمارة، طبعة بيروت سنة 1972م.
المقريزي "تقي الدين أحمد بن علي": "الخطط -كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار" طبعة دار التحرير. القاهرة.(1/411)
الفهرست:
5 علم أصول الدين
7 مقدمة
13 1- نظرية العلم
16 2- نظرية الوجود
23 3- أوصاف الذات
25 4- صفات الذات
27 5- خلق الأفعال
29 6- الحسن والقبيح
30 7- النبوة
34 8- المعاد
37 9- الإيمان والعمل
39 10- الإمامة
42 11- التاريخ
49 علم أصول الفقه
51 مقدمة
56 الشعور التاريخي
67 الشعور التأملي
87 الشعور العملي(1/413)
99 العقل والنقل
101 مقدمة
106 الموضوعية والذاتية
110 الواجبات العقلية
117 الغائية والغرض
122 الآلام والعوض
133 القرآن وعلومه
155 تفسير القرآن
160 التفسير المأثور
162 التفسير بالرأي أو العقل
164 التفسير الإشاري
166 التفسير العلمي
171 الحديث وعلومه
174 بعض حفظة الحديث الكبار
179 أهم الكتب الصحاح
189 الفقه الإسلامي
191 أنواع الفقه
241 القضاء(1/414)
271 الحسبة
288 المراجع
نظرية الخلافة
295 تمهيد
296 المصطلحات
297 الخلافة
298 الإمارة
300 الإمامة
302 دولة الخلافة
307 فلسفة الحكم في دولة الخلافة
314 نظرية الخلافة في الفكر الإسلامي
319 ضرورة السلطة للمجتمع
326 كيفية إقامة الخليفة
340 شروط الخليفة
346 سلطات الخليفة
356 طبيعة السلطة
368 المصادر
السلفية
375 مقدمة
383 المعالم الأولية والرئيسية للسلفية
386 السلفية تنتعش
393 المنهج النصوصي
397 النص لا الرأي(1/415)
398 النص لا القياس
403 النصوص وحدها مصدر الحلال والحرام
409 في الفكر السياسي
410 الشرع المنزل والشرع المتأول والشرع المبدل
423 المصادر
الثورة
427 التعريف والمصطلح
432 إرهاصات الواقع الجاهلي بالإسلام الثورة
435 ثورة الإسلام
436 القرآن والسنة.. والثورة
443 إنجازات الإسلام الثورية في واقع الإنسان العربي
444 الإنسان والكون
447 الفرد.. والقبيلة
449 الإنسان.. والقدر
451 تحرير المرأة
454 التحرر من العصبية القبلية
456 ثورة اجتماعية كبرى
471 التفاضل في الدرجات
476 الثورة على حكم عثمان بن عفان
485 ثورة الخوارج المستمرة
491 ثورات المرجئة
495 ثورات الشيعة
498 ثورات المعتزلة
512 مع الزيدية(1/416)
515 ثورة الزنج
517 دور العرب في الثورة
518 مكان الزنج في الثورة
521 دولة الثورة
523 تيارات مع الثورة وضدها
529 المراجع
الفرق الإسلامية
535 تعريف وتوطئة
574 المصادر
المعتزلة
577 تمهيد
581 الانشقاق
584 الأصول الخمسة
602 التنظيم
608 الدلالة الحضارة
611 الموالي ضد الشعوبية
616 توازن فلسفي "علم الكلام"
623 العقل والنقل
628 علماء مجربون
633 القوى الاجتماعية التي يمثلونها
641 الثورة في سبيل الخلافة الشوروية
650 المحنة(1/417)
655 صحوة ثانية
658 المصادر
663 الخوارج
670 المبادئ العامة
687 المصادر
689 المرجئة
700 المصادر(1/418)