الفقه الإسلامي
مدخل
...
الفقه الإسلامي:
1- يمثل الفقه الإسلامي الروح الإسلامية أصدق تمثيل، كما يمثل لنا التفكير الإسلامي وطريق الحياة في الإسلام، ذلك أن الفقه الإسلامي لم يتأثر بمؤثرات أجنبية، بخلاف علم الكلام الذي تأثر بالفلسفة والمنطق واشتملت أبحاثه على ما مباحث لا تمت إلى الإسلام بصلة، والأسس الإسلامية الموجودة فيه في غاية البساطة، أخرجها عن بساطتها ما دخل علم الكلام من أبحاث ما وراء الطبيعة وغيرها. بخلاف الفقه الذي يقوم على القرآن والسنة، وينبع من حياة الناس ومعاملاتهم.
والفقه يشمل الواجبات الدينية والأوامر الإلهية التي تقعد حياة المسلم في كل النواحي. فهو يتناول على قدم المساواة ما يتعلق بالعبادات والقواعد السياسية والقانونية التي تمثل جزءا من القواعد الدينية والأخلاقية، فهو يتناول حياة المسلم كلها دينية أو دنيوية، فلا فرق في الإسلام بين أمور الدين وأمور الدنيا، وقد تطور في الأزمنة المتعاقبة إلى بناء كامل لكل العلاقات الإنسانية وألبس كل ذلك ثوب الفقه والتشريع. ومن هنا بقيت أهميته حتى إلى الوقت الحاضر، من حيث إنه يمثل الكفاح بين المحافظين والمجددين، وبين هؤلاء المتمسكين بالقديم وهؤلاء الذين يريدون تطوير الحياة الإسلامية(1/5)
بما يتفق مع العصر الحاضر، ومن هنا كانت حركات الإصلاح الإسلامي تبتدئ من الفقه، فهو يمثل عند دعاة الإصلاح الإسلام التاريخي، وهم يريدون مراجعة هذا الفقه ليصلوا إلى نظام مرن عملي مطابق للحياة العملية في هذه المرحلة التي تطغى فيها المدنية الغربية، وتغزو حياة المسلمين وقوانينهم القديمة التي يمثلها الفقه.
وعلى كل حال فيمكننا أن نقرر أن صورة المجتمع الإسلامي تظهر في الفقه والتشريع الإسلامي، فهو في تطوراته المختلفة وفي استعمالاته وألوانه في البيئات المختلفة، مرآة كبيرة تعكس صورة هذا المجتمع في الأزمنة والأمكنة المختلفة، وفي عصور النهضة والازدهار وفي عصور الركود والانحلال. والباحث الاجتماعي الذي يتتبع هذا المجتمع لا بد له من تتبعه في الفقه؛ لأنه طريقة الحياة للمسلم وخلاصة التفكير الإسلامي الأصيل.
ولقد كانت معرفة الشريعة في الأصل قائمة على الكتاب والسنة مستقاة منهما مباشرة، ولكن هذا الاستنباط المباشر من هذين المصدرين أصبح آخر الأمر غير مستطاع لكل أحد، فأخذ المتأخرون يتعرفون الأحكام من الفقه المشتمل على المسائل، ومن هنا جاءت أهمية الكتب الفقهية، وعلى الأخص الكتب التي ترجع إلى العصور المتأخرة والتي أصبحت معترفا بها عند الجمهور، ففيها يجد كل مسلم شريعة الله بشكل إلزامي حسب المذاهب المختلفة بينما أصبح القرآن والحديث لا ينظر فيهما غالبا إلا لمجرد الدرس أو معرفة شئون التهذيب، وليس لكل أحد أن يستنتج منهما أمور الحلال والحرام، وعندما اقتنع الناس بأنه تجب متابعة الخلف للسلف، وأن ما أجمع عليه الأسلاف يجب أن يرتبط به المسلمون، عندئذ أصبح التشريع المحدد لكل حياة المسلمين، فقها مقدسا معبرا عن إرادة الله التي لا تبديل فيها.
ولم يكن الفقه في أثناء تطوره معمولا به على الإطلاق؛ لأنه لم يكن من عمل الدولة وأعضائها، ولكنه كان على الأكثر من عمل المؤلفين الفقهاء،(1/6)
وبالرغم من أن جزءا كبيرا منه من فتوى المجتهدين، فقد بقي مقدسا، من أجل أن المجتهد يعتبر شارعا في إنشائه للأحكام، وقد انعقد الإجماع على ذلك.
وقد عرف ابن خلدون علم الفقه "بأنه هو معرفة أحكام الله تعالى في أفعال المكلفين بالوجوب والخطر والندب والكراهية والإباحة، وهي مستقاة من الكتاب والسنة وما نصبه الشارع لمعرفتها من الأدلة، فإذا استخرجت الأحكام من الأدلة قيل لها فقه" المقدمة ج3 ص1.
وعرفه صاحب مفتاح السعادة "بأنه علم باحث عن الأحكام الشرعية الفرعية العملية من حيث استنباطه من الأدلة التفصيلية. ومبادئه هي مسائل أصول الفقه وله استمداد من العلوم الشرعية والعربية، وفائدته حصول العمل به على الوجه المشروع. ولما كانت الغاية والغرض من العلوم العملية تحصيل الظن دون اليقين، بناء على أن أقوى الأدلة الكتاب والسنة، وأنه وإن كان قطعي الثبوت، لكن أكثره ظني الدلالة فصار محلا للاجتهاد".
وإطلاق الفقه على هذا النحو إطلاق متأخر، يقول الغزالي: "إن الناس تصرفوا في اسم الفقه، فخصوه بعلم الفتاوى والوقوف على دقائقها وعللها، واسم الفقه في العصر الأول كان يطلق على علم الآخرة ومعرفة آفات النفوس" وقد يدل على هذا الكتاب الفقه الأكبر لأبي حنيفة الذي هو كتاب خاص بعقيدة الإمام، وبعد هذا عندما انتقل الناس ببحث الحياة العملية خصوا اسم الفقه بهذا النظر والفهم في الحياة العملية.(1/7)
أنواع الفقه:
وأنواع الفقه -كما ذكرها الزركشي في قواعده- هي:
1- معرفة أحكام الحوادث نصا واستنباطا.
2- معرفة الجمع والفرق.
3- بناء المسائل بعضها على بعض لاجتماعها في مأخذ واحد، وأحسن كتاب فيه السلسلة للجويني ومختصره.
4- المطارحات وهي مسائل عويصة يقصد بها تنقيح الأذهان.
5- المغالطات.
6- الممتحنات.
7- الألغاز.
8- الحيل.
9- معرفة الأفراد.
10- معرفة الضوابط التي تجمع جموعا. والقواعد التي ترد إليها أصول وفروعا، وهذا أنفعها وأعمها وأكملها وأثمنها، وبه يرتقي الفقه إلى الاستعداد بمراتب الاجتهاد، وهو أصول الفقه على الحقيقة.
ومن المسلم به أن الفقه نما وتطور مع الجماعة، وإذا كان الفقه مظهرا للإرادة الإلهية، فهذا لا ينافي أنه في الأجيال المتعاقبة في التاريخ قد مرت به تطورات مختلفة زمانية ومكانية، وليس من بد من دراسة هذه الظواهر وتتبعها تاريخيا لفهم هذه التطورات وتتبعها فكريا وموضوعيا، وهذا البناء الضخم الذي خططته إرادة الله قد نما وتطور في أحضان الحياة الاجتماعية والحضارة الإسلامية، وعمل الفقهاء بتفكيرهم وصنعهم وجهدهم على توضيح معالمه ومبادئه، ومن أجل هذا وفي ضوئه فإنه لا غنى لمعرفة الفقه الإسلامي من الفهم الصحيح لتاريخ الفقه والحياة التشريعية عند الأمم الإسلامية، وبدون هذه لا تستقيم لنا معرفة الفقه، فلم يكن الفقه قانونا نزل على أرض إسلامية، وإنما كان على الأكثر إسلاما نزل على مجتمعات قائمة وأثر في حياتها القانونية.
لقد رسم الله لنا رسوما ووضع أصولا، ومهمتنا كصناع وعمال هو البناء حسب هذه الرسوم الإلهية بما يتفق مع مجتمعنا الذي نعيش فيه.
2- لم يكن النظام القانوني عند العرب في عصر النبي نظاما فطريا ساذجا، فقد كان هناك عند أغلب العرب وهم البدو في الصحراء القانون(1/8)
العرفي الذي لم يكن بوجه عام بسيطا في قواعده واستعماله. وقد عرفناه بوجه عام من الشعر الجاهلي وقصص القبائل. وكانت القبيلة تعتبر وحدة تاريخية، وهذا هو أساس الاعتراف بالقانون العرفي، الذي ترتبط به القبيلة بقواعد غير مكتوبة، مظهرا من مظاهر روحها، وليس لأحد تغييره إلا بإرادة القبيلة، ولا يوجد هناك سلطة شرعية، وتنفيذ هذه العادات هو أمر شخصي، أو بالتحكيم عند حدوث خلاف، ويختار الحكم لمكانته أو من المعروفين بذلك، ويكون حكمه نهائيا وبيانا لوجه الحق في النزاع، وهكذا يصبح سنة أو عادة متبعة.
أما في المدن كمكة والمدينة فقد كان لها قانون متطور، فمكة كانت مركزا تجاريا له علاقات تجارية وله قانون تجاري في معاملاته مع سوريا البيزنطية والعراق الساساني وباليمن في جنوب الجزيرة، والمدينة كانت بلدا زراعيا تضم جالية من اليهود والمتهودين من العرب، فكانتا بهذا متأثرتين بقوانين شتى فضلا عن النظام العربي القبلي، فكل هذا كان معمولا به في هذه المدن مثل نظام المواريث ونظام الأسرة والقصاص والجنايات كما يمكن أن ننسب إلى القانون الذي كان سائدا بها القواعد المفصلة التي كانت تطبق على العقود والأشكال المختلفة للشركات واستعمال الوثائق المكتوبة في مكة ومثل المعاملات المالية والزراعية والصناعية بالمدينة. كل هذه العناصر كانت تنمو بالعلاقات التجارية التي كانت تساعد عليها الأشهر الحرم والأسواق الكبرى والرحلات حتى ليمكننا أن نقول إن البلدان العربية كانت محكومة في القرن السادس بعد الميلاد بقانون عربي متشعب الأطراف به عناصر من عادات عربية تعارف عليها العرب، اختلطت بها أنواع من القانون الروماني والساساني واليهودي، تطورت إلى درجة من نوع ما، مختلفة اختلافا ملحوظا عما كانت عليه الحياة البدوية التي يحياها البدو في الصحراء.
3- وقد بعث الرسول إلى هؤلاء العرب وهم على هذه الحال، فقام(1/9)
بأعباء الرسالة نحو من ثلاث عشرة سنة بمكة ونحوا من عشر سنين بالمدينة، وكانت دعوته بمكة مقصورة على الدعوة الدينية وتوحيد الله ونبذ عبادة الأوثان والبعث واليوم الآخر. فكان الوحي القرآني في هذه الفترة دائرا حول هذه الموضوعات، حتى إذا ما هاجر إلى المدينة استطاع أن يجمع حوله أمة جديدة، فكان أول عمل له هو تكوين الأمة فأقر بين سكان المدينة وثيقة كبرى، تعتبر في التاريخ أقدم وثيقة لتوحيد أمة دخلت التاريخ لأول مرة، وهي في الوقت نفسه صورة سياسية تربط بين المهاجرين من مكة والأنصار من أهل المدينة واليهود. وفيها يقول: "هذا كتاب من محمد النبي بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، أنهم أمة واحدة من الناس.. وإن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم.. وأن من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متنافر عليهم. وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، وأنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة إلا من ظلم وأثم" "الوثائق السياسية ص5-7".
وكان أمرا طبيعيا أن يجيء دور التشريع لهذه الأمة الجديدة، وكان لزاما أن يبدأ وضع دستورها وتشريعها، وهكذا فقد كانت السنين العشر التي مكثها الرسول بالمدينة سنين تشريع وفقه، ولهذا سميت "دار الفقه".
ولم يستصحب الرسول معه إلى المدينة قانونا، فإن العرب أسلموا بينما كانوا يعيشون طبقا لعاداتهم، ولم يكن لدى الرسول ما يدعو لنقض هذه العوائد دفعة واحدة، بل كان غرضه ولا يزال إدخال الناس في الدين الجديد، وفي ضوء الدين أخذت تتطور العادات وتتغير، حتى تتناسب مع الدين ومبادئه، وكلما اتسعت دائرة التعاليم الجديدة، كلما كانت الحاجة ماسة إلى جعل الحياة الاجتماعية، متفقة متسقة معها.
وقد مضى على النظام القبلي، وألغى رباط الدم جانبا وحل محله رباط جديد هو الإيمان بالله، وأسس الأمة الجديدة على أساس من الدين يهيمن(1/10)
عليه الله تعالى، ويمثله في الأرض رسوله الذي يبلغ أوامره، والله هو المرجع في كل الأمور دينية أو دنيوية، وما دامت هذه الأمور تنظم بالوحي الإلهي، فقد كانت أمور السياسة والقانون مثل العبادات وغيرها، ومن هنا نرى أن الرسول كان مؤسسا لدولة سياسية ذات طبيعة دينية. وكان الإسلام عقيدة وشريعة ونظاما سياسيا واجتماعيا.
ولم يكن غرض النبي هو إيجاد طريقة جديدة للقانون، ولكن كانت مهمته كنبي هو تعليم الناس ما يفعلون وما لا يفعلون حتى يجدوا جزاءهم عند الله في اليوم الآخر، وهذا ما جعل الإسلام على العموم والفقه على الخصوص نظاما للواجبات، يتضمن على قدم المساواة الواجبات القانونية والأخلاقية والعبادات.
كل ذلك تحت سلطان الدين وأوامره، فلو سادت الواجبات الدينية والأخلاقية سلوك الإنسان وحياته، ولو اتبع كل ذلك عمليا، لما كان هناك مكان للطريقة القانونية بالمعنى الضيق للقانون، كان هو المقصد الأصلي للنبي، ونجد مثال ذلك في القرآن الكريم في نظرية العفو والتنازل عن الحق. ولكن النبي لم يجد بدا من جعل الدين والخلق يهيمنان على القانون والعلاقات الأخرى التي وجدها أمامه.
وهكذا طلب القرآن الكريم إلى الناس أن يحكموا بالعدل وأن لا يدلوا بأقوالهم إلى الحكام لأكل أموال الناس بالباطل، وأن يؤدوا الشهادة ولا يكتموها بقولها تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} ، {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} ، {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} ، إلى غير ذلك من الآيات كما جاءت التوصية بالوفاء بالعهد، وجاءت التعاليم والقواعد لضمان الوفاء بالعهود تتعلق بشكل العقد الذي طلبت كتابته بقدر الإمكان. وقد جاءت بذلك آية البقرة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} ، وجاء الأمر بالنهي عن أخذ الربا،(1/11)
كما جاء النهي عن اللعب بالميسر وغير هذا مما يتميز به التشريع الإسلامي من تنظيم الأعمال القانونية وتأسيسها على القواعد الخلقية التي تجلت في الأذن أو عدم الأذن في أعمال وتصرفات خاصة، أما الأشكال القانونية مثل كون التصرف إذا وجد يكون فاسدا ولا يترتب عليه أثره فلم يظهر في التشريع الإسلامي.
ومن هنا يتبين لنا ما للفكرة الأخلاقية من تأثير عظيم في الشريعة والاتجاه في التقنين إلى ناحية الفضيلة. فتحريم الربا مطلقا، ومنع الغموض في العقود، وكراهة المضاربات إنما هو نتيجة لهذا الحساب الأخلاقي، وبهذه الروح جاءت قواعد الحرب والجهاد، فقد كان القتال قبل مجيء الرسول إلى المدينة غير مشروع. وقد تغير هذا الموقف بالمدينة وأذن للمؤمنين بالقتال، فاستدعى الموقف السياسي الجديد كثيرا من التشريعات، فجاءت على هذا النحو موجهة إلى من يجوز قتاله ومن لا يجوز قتاله، وما يجوز في تقسيم الغنائم ومعاملة الأسرى ونحو ذلك، ولم يكن ما سن من هذه التشريعات الحربية مخالفا للتقاليد العربية كل المخالفة، وإنما كان الجديد منها تحديدها وتنظيمها وتلطيف حدتها، بعد أن كانت تابعة للأغراض الشخصية التي لا ضابط لها.
ولم يعترف الإسلام في نظامه الجديد إلا بالأسرة رباطا للدم، وقد جرى بالنسبة لعلاقات الأسرة داخل الأمة على أساس نظام الأسرة عند العرب في الجملة، وهناك إصلاحات وتعديلات أدخلها، كما كانت هناك ثغرات تحتاج إلى الإكمال فأكملها.
وعلى الضد من ذلك شرح القرآن في الإرث المتصل بالأسرة تشريعا مخالفا لما كان عليه العرب في الجاهلية، وكان هذا على جانب كبير من الأهمية، بعث على هذا القصد إلى أن يلائم هذا التشريع في الميراث روح الدين التي تعتمد على العدالة والخلق، ففي النظام العربي القديم نجد النساء(1/12)
على العموم لسن أهلا للإرث، بل كن في بعض الأحيان جزءا من التركة، يرثهن أقرباء المتوفى، فجاء الإسلام ونظم الإرث في مصلحة المرأة وأثبت لها حقوقها. وعلى العموم فقد خضعت مسائل التقنين العائلي أيضا لهذه المعاني الأخلاقية التي تدور حول العطف على النساء والضعفاء واليتامى والأرقاء، وما يجوز وما ينبغي في معاملتهم وما لا يجوز.
ومما يلاحظ في التشريع أن الأوضاع الخاصة التي تكسب الفعل المأذون فيه صفته القانونية لم تذكر في القرآن، بل ترك ذلك ليفهم من تلقاء نفسه غالبا، كالزواج والطلاق الصحيحين مثلا. وكذلك لم يجر ذكر لهذه الأوضاع بالنسبة للأفعال المنهي عن موجبها كالضمان، كما عدل عن الصيغ القانونية مثل إذا وقع كذا.. حصل كذا، التي تربط بعمل الشيء أثرا خاصا، فقد نجدها معدومة تقريبا، وقد يوجد ذلك في دائرة العقوبات واضحا.
وبالرغم من أن هذه العقوبات صيغ التعبير عنها صيغة قانونية، فإن ذلك لم يخرجها في الواقع عن كونها صدرت عن مبادئ أخلاقية، فكان المعنى الأخلاقي ماثلا فيها على الحقيقة دون معنى العقوبة، ومن ثم كان النهي فيها هو الأهم المعتبر، وكون العقاب كأثر قانوني مترتبا على الجريمة مما لا يمكن إنكاره. وقد وجد بجانب هذا طريقة أخرى معتبرة تقوم على تقنين علاقة الأمة بالمجرم، فقد جاء النهي عن السرقة مقرونا بتحديد العقوبة منها. وعلى عكس هذه الطريقة، حرمت الخمر والميسر والربا، ولم يحدد لها عقاب، وقد قنن الشارع القصاص والدية والسرقة والزنا والقذف ونظم السير في هاتين الدعويين. وهنا نسأل عن السبب في اختصاص هذه الأشياء وحدها بالتقنين، وأهم الأسباب في نظرنا هو عدم الرضا عما كان عليه العمل حينذاك والمقصد إلى رفعه، والعمل على صيانة المرأة وحماية الضعيف وتلطيف حدة الأخذ بالثأر.(1/13)
وتتبين الطبيعة الدينية لهذه العقوبات من إمكان الإفلات منها عند العفو عن العقوبة من جهة، ومن ملاحظة تأثر التوبة، ومن قصر استعمال الحد في وضع ضيق، وتحديد الميعاد الذي تذهب بعده قوة الجريمة والحق المترتب عليها، ومن تصعيب الأشهاد من جهة أخرى. كما أن متابعة أولي الأمر فيها للمجرم تبدو ضعيفة.
وهذه الجرائم التي وضع لها عقاب الحد، قد صرح بتحريمها القرآن وأندر فيها بالعقاب وأصبحت جرائم دينية، والمخالفة الحقيقية لها للدين، جعلت المسئولية منها في اليوم الآخر، ما عدا الردة. وعلى الضد من هذا جاءت العقوبات الأخرى المتعلقة بالجنايات مما دخل الشريعة من العادات العربية القديمة التي تتفق مع الأمور المدنية، في أنها إعادة وتعويض عن الظلم بإزالة معنى الجريمة ومحوها والفصل الواسع بين قانون العقوبات وبين القانون المدني على ما هو معروف في الشرائع الحديثة يوافق في الشريعة الإسلامية الفرق بين حق الله، وحق الناس تقريبا، ويدخل الأول الحدود وفي الثاني الضمان في الجنايات وغيرها.
ومن مظاهر التشريع الديني في القرآن، ما جاء نقصا لعادات العرب، ومغيرا لتقاليدهم المألوفة في المأكل والمشرب. يقول الله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ} ، {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا} ، {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ} ، إلى آخر هذه الآيات التي لم يرتضها المشرع من العادات غير المعقولة.
وجملة القول إن التشريع في القرآن قام على أسس دينية أخلاقة قانونية، تساوت فيها الأمور القانونية مع مسائل الدين والأخلاق من غير أن تكون هناك حدود تفصل بين ذلك.(1/14)
وآيات الأحكام القانونية هي نحو من ثمانين آية، نزلت على النبي حسب الظروف والوقائع وجاء القرآن بالمبادئ العامة والحلول الواسعة المفتوحة التي ترك للأجيال بعد ذلك تفسيرها والاستنباط منها.
ولم يكن القرآن وثيقة قانونية بالمعنى العام لتنفيذ علاقات الناس بعضهم ببعض، ولكنه كان وثيقة إلهية للعلاقة بين العبد وربه. مقررا أن الله هو المشرع الأعلى، واستقرت هذه الفكرة عند المسلمين في تشريعهم بعد ذلك في حياتهم.
وقد كان الرسول ينتظر الوحي، فإذا لم يوح إليه في حكم الوقائع عمل برأيه واجتهاده، وذكر العلماء أن اجتهاده -صلى الله عليه وسلم- بمنزلة الوحي الثابت؛ لأنه لا يقر على الخطأ، وقد أخطا في أسرى بدر فنزل العتاب وأخطأ في الأذن للمنافقين فنزل قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} .
وكان الرسول يحكم بين الناس في المنازعات حسب الطريقة العربية الأولى وهي "التحكيم" التي كانت مستعملة قبل الإسلام، لقول الله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} ويقول تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} ويقول تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} وهكذا كان يقضي النبي "حكما" بين الناس كما يصرح بهذا القرآن الكريم، ثم تطور إلى القضاء حيث يقول: {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ} وكان قضاؤه حكما مؤيدا بمركزه كنبي وبسلطانه السياسي والحربي، وتصبح أحكامه سنة وقاعدة لما يستجد وما يجب أن يتبع.
والنبي في كل هذا شارع للقانون من حيث تبليغه عن الله ومن حيث إقراره على رأيه واجتهاده، وإن كان المنشئ المثبت للأحكام في الحقيقة هو الله، فالبيان والتشريع أصلا من الله وتبعا من الرسول من حيث الإظهار(1/15)
والإدراك، ولا تفاوت في ذلك من حيث وجوب العمل بكل ذلك، الأمر الذي جعل للفقه الإسلامي صيغته الإلهية الدينية المقدسة.
ولقد شرعت في أيام الرسول في مكة والمدينة العبادات الإسلامية وهي الصلاة والزكاة والصوم والحج.
أما الصلاة فقد شرعت أول الأمر بمكة مرتين مرة بالغداة ومرة بالعشي كما جاء في الآيات المكية ثم صارت خمسا واستقر الأمر على ذلك أخذا من حديث الإسراء.
وجاءت الزكاة مقرونة بالصلاة بمعنى مطلق الإحسان، ولم تكن الحاجة داعية إليها في مكة، فكان المسلمون يزكون إيثار وإحسانا، ثم لم تغير الحال في المدينة وتأسست الأمة كان لا بد لها من نفقات يسدد بها ما تتطلبه مصالحها، فأخذت الزكاة تدريجيا تساعد على بيت مال المسلمين، ثم هذه القبائل التي انضمت إلى الإسلام، فقد كانت بينهم وبين الرسول معاهدات يدفعون زكاة بمقتضاها، وامتنع بعضهم عن أدائها بعد وفاة الرسول؛ لأنها بوفاته أصبحت غير قائمة، ولكن أبا بكر خليفة الرسول صمم على أدائها وقاتلهم من أجل ذلك. وقد أمر الله بالزكاة وفرضها على كل مسلم. ووضع الرسول في أحاديثه تفصيلات محددة مضبوطة لها.
وقد شرع الله الصوم في المدينة السنة الثانية من الهجرة، وصام المسلمون أول الأمر يوم عاشوراء، ثم نسخ صومه بصيام شهر رمضان, واختار الله هذا الشهر؛ لأنه أنزل فيه القرآن كما يقول الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وجاء القرآن محددا مبدأ الصوم ونهايته. وقد شرعت أنواع أخرى من الصوم كصوم الكفارة عن الإفطار والكفارة عن اليمين وفي الحج مما تناوله القرآن الكريم.(1/16)
وفي المدينة كذلك شرع الله الحج والعمرة، فجاء القرآن أولا بفرض الحج ويقول الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} ثم جاء محذرا المسلمين من أمور الوثنية مذكرا بأن إبراهيم بنى الكعبة وطهر البيت وأنه دعا الناس إلى الحج. يقول تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ، وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ، ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} . ولكن مدة طويلة مضت قبل أن يكون المسلمون في حالة يستطيعون فيها تأدية الحج. وفي السنة الثالثة صدهم المشركون عن الحج، وفي السنة السابعة اعتمر المسلمون بمكة ثم رجعوا إلى المدينة، وفي السنة الثامنة فتحت مكة وحج المسلمون إليها في السنة الثامنة والتاسعة، ولم يحج الرسول معهم في المرتين، ولكنه أناب عنه في السنة التاسعة علي بن أبي طالب، وأمره أن يتلو عليهم سورة براءة ومن هنا سميت هذه السنة سنة البراءة ومن هذه السورة يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} .
وفي السنة العاشرة حج الرسول -صلى الله عليه وسلم، وهي سنة الوداع وبهذا تم جعل الحج عيدا للمسلمين خاصة، وعمل المسلمون في حجهم مثل ما رأوا النبي يفعل، وهكذا أصبح الحج ركنا من أركان الإسلام على كل مسلم ومسلمة.
4- كانت هذه الأجيال الثلاثة بعد وفاة الرسول أو بعبارة أخرى القرن الهجري الأول أهم عصر في تاريخ الفقه الإسلامي, بالرغم من غموضه وندرة الأدلة المعاصرة.. ففي هذا القرن تشكلت ملامح الفقه، وأبدع المجتمع الإسلامي قواعده الفقهية.
وقد توفي رسول الله تاركا وراءه أصحابه الذين عاشروه في حياته(1/17)
وشاهدوا أفعاله بأعينهم، وسمعوا أقواله، وكانوا يسألوه فيجيبهم ويستفتونه في الوقائع فيفتيهم، ويتحاكمون إليه فيحكم بينهم، ولم يترك لهم بطبيعة الحال فقها مدونا، وكل ما هناك أنه ترك لهم جملة من الأصول والقواعد والتشريعات الجزئية مبثوثة في القرآن أو في أقواله وأفعاله.
والخلفاء الراشدون قد خلفوا الرسول في الإمامة وقيادة الأمة، ولم يخلفوه بالطبع في النبوة، ولم تكن فكرة وراثة النبوة موجودة إلا عند الشيعة التي كانت ترى انتقال نور النبوة إلى أولاد النبي من بعده، وإن لم يقولوا بوراثة النبوة مباشرة، وكان من الممكن أن يوصل مثل هذا الاعتقاد إلى تطورات أخرى في الفقه، ولكن هذه النظرية بقيت في اتجاهها الاعتقادي الروحي، أما بالنسبة للفقه فلا يوجد بين فقه السنة وفقه الشيعة اختلاف يستحق الاهتمام، فقد سارت تعاليمهما الفقهية على وجه التقريب في طريق واحد.
ولا يمكن أن يتصور أن الخلفاء في أحكامهم كانوا على تصور بأنهم يقضون بالفقه؛ لأنه لم يكن له وجود بعد، وكل ما هناك أنهم كانوا يراعون تعاليم القرآن الكريم وأقوال النبي كما يراعون في المسائل الجديدة هذه الروح، ولكن الغالب أنهم كانوا يحكمون برأيهم، وبالعرف القائم كما كان يفعل النبي وبعادات البلاد المفتوحة، ويقبلون من غير تفكير طويل الأمور الغريبة عنهم، ما دام لا يوجد ضدها اعتراض ديني أو خلقي، أو واقعة حصلت، فأمر الفقه كما يرى كان موضوعا جانبا، وبقاء هذه الحالة التي لم يركن فيها فقه ملحوظ يرجع إليه، كان يمكن أن يؤدي إلى قانون متأثر بالدين في بعض الجهات، ولكنه في العموم كان يوصل إلى قانون عملي ناشئ عن الحياة العملية وقائم على ما يتطلبه العمل.
وكان هذا كله يكفيهم في شئونهم لو أن العرب بقوا في جزيرتهم، ولكن سرعان ما تغيرت الحال، فقد اتسعت رقعة الإسلام فجأة وامتد سلطانه(1/18)
وأخضع أمما مختلفة ذات عادات وتقاليد مختلفة لما كان عند العرب، وحدثت مسائل جديدة كثيرة من جراء اتصال المسلمين بالبلاد المفتوحة ومن جراء الحروب المتوالية، كما لاقى المسلمون أمورا لم كن لهم بها عهد في حياتهم فلزم الأمر إلى تنظيم هذا كله وتقعيده سواء في ذلك أمور الدين أو أمور الدنيا، فمبدأ الفقه يتطور ويخطو خطواته الأولى بعد وفاة الرسول في هذا القرن الأول. وعلى العموم فإن العلاقات كلها بعد وفاة الرسول سواء في ذلك علاقات البلاد العربية أو البلاد المفتوحة، أصبحت خاضعة للتنظيم والتقنين. فهؤلاء العرب المحاربون المنتشرون في أقاصي البلاد، وعلى الأخص هؤلاء الذين لم يصدروا عن المدينة، هذه البلدة التي كانت متأثرة بالدين, لم يكونوا قد عرفوا وتعلموا فروع الدين وأشكال الأعمال الدينية وغيرها، فكانت الحاجة ماسة إلى تعليمهم وإرشادهم بشكل جازم فيما لم يعرفوه وحل المسائل الناشئة، وكان الأمر كذلك فيما يتعلق بوضع قواعد لحقوق المحاربين وأنظمة الشعوب التي دخلت الإسلام، لحقوقهم السياسية وتدبير أمورهم المختلفة، وهكذا بناء على هذه الحاجات والضرورات فتح المسلمون باب التفكير في أمور الناس، وأخذت تقنن في ضوء الدين إدارة هذه البلاد، وسار الفقه والإدارة معا في طريق هذا التقنين الإداري والفقهي.
ويجب أن يلاحظ من أول الأمر أن العرب كانوا يتمسكون بتقاليدهم القديمة وتقاليد آبائهم ويجدون في البعد عنها ما قد يضر بهم، وهذه السنة القديمة قد عاقت الابتداع والتجربة عندهم, وسموا كل جديد بدعة يجب البعد عنها. وقد وجد الإسلام نفسه مخالفة ومكافحة من العرب؛ لأنه كان مخالفة لسنة آبائهم وفي القرآن الكريم ما يوضح هذه الفكرة. يقول الله تعالى: {أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا} ويقول: {لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} ويقول: {إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ(1/19)
مُقْتَدُونَ} . وفكرة السنة العربية القديمة كانت تلقى معالجة قوية من النبي والخلفاء من بعده، وعلى الأخص إزاء هؤلاء الأعراب الذين صدروا عن الصحراء، واقتضى ذلك إرشادهم وتثقيفهم فيما يجب وما ينبغي وما لا يجوز.
وفكرة السنة العربية وجدت صداها في الفقه الإسلامي، وبدأت أولا سياسة إدارية فما سنه أبو بكر وعمر كان يجب اتباعه عندهم، ومخالفة عثمان الخليفة الثالث لسنة أبي بكر وعمر أدت إلى قتله لمخالفته لسياسة أسلافه وللقرآن، ولم تتشخص بعد سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- كقاعدة إيجابية ومصدر فقهي، وإنما ظهرت بعد ذلك متمشية مع هذه الجذور العربية الأولى.
وقد كان أبرز الخلفاء الخليفة عمر بن الخطاب، الذي حصلت في عهده الفتوحات الإسلامية وتكونت الدولة الإسلامية وظهرت النظم الإسلامية التي عرفت أخيرا، فوضع الديوان لأرباب الأعطيات، ومصر الأمصار التي يصدر عنها المجاهدون، ونظم الحكم في البلاد المفتوحة، كما نظم الشئون المالية للدولة الإسلامية، التي كانت أديرت بأيد رومانية وفارسية في وضع إسلامي جديد، وكل هذه التشريعات الجديدة على جانب من الأهمية في التشريع الإسلامي.
وكانت المدينة دار الهجرة أو دار الإسلام، وإليها يهرع المهاجرون الذين يجاهدون في سبيل الله، ثم يوجهون إلى مواطن الجهاد، وكان ديوان الإحصاء مقصورا على هؤلاء المجاهدين دون غيرهم، فدون الدواوين وبعد أن كانت تقوم على التسوية أقامها على التفضيل فكتب الناس على قبائلهم وفرض لهم العطاء "ما من أحد إلا وله في هذا المال، وما أنا فيه إلا أحدهم ولكنا على منازلنا من كتاب الله، وقسمنا من رسول الله، والرجل وبلاؤه في الإسلام، والرجل وقدمه في الإسلام، والرجل وغناؤه في الإسلام والرجل وحاجته". وهكذا وضع عمر الديوان على مثال ديوان الروم والفرس، والأمراء الفاتحون كانوا هم وخلفاؤهم الحكام الأول على الأقاليم(1/20)
المفتوحة فكان الأمير هو الإمام على الصلاة كما هو الإمام على الحرب، وكان هو الذي يقضي بين الناس، وعلى هذا الأساس سارت الأمور الداخلية وسادت وسارت أمور التشريع والفتوى على نحو ما.
أما أهل البلاد الخاضعة، فقد كانوا الجانب المالي للأمة بما يدفعونه من ضريبة لتدبير عيش هؤء الفاتحين، ولم تتدخل الدولة في شئونهم الداخلية، وإنما ترك ذلك إلى البطريق في البلاد الرومية وإلى الدهقان في البلاد الفارسية.
وكان الأساس في نظام الضريبة على مثل هؤلاء هو نظام الغنيمة العربي، الذي عدله القرآن الكريم، فأما البلاد التي فتحت صلحا، بناء على عهد مع المغلوبين، أو تسليم منهم، فإن لأهلها الحرية التامة في أنفسهم وفيما يملكون, ويدفعون في سبيل حمايتهم ضريبة يصالحون عليها، أما البلاد التي فتحت عنوة فتضيع على أهلها حريتهم، ويصبحون وما لهم غنيمة للمسلمين، يذهب لله "بيت المال" الخمس, وتقسم الأربعة أخماس الباقية على من حضر القتال من المسلمين، من غير تفريق بين الأرضين وغيرها، وعلى هذا كان العمل في زمن الرسول وأبي بكر من بعده، يقول الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} ويقول الله تعالى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} وهكذا حصل التفريق بين الغنيمة والفيء.
فلما فتحت الفتوحات الكبيرة في زمن عمر، سأله الصحابة قسمة ما فتح عنوة بين الفاتحين، لكن هذا التقسيم ليس من الممكن تنفيذه على هذا الوجه ولا يمكن أن يستولي العرب على هذا العالم الواسع، إذا لم يريدوا أن يصبح صحراء جرداء، ثم هذه الثغور والمدن كالشام ومصر والجزيرة والكوفة لا بد لها من رجال يلزمونها وأن تشحن بالجيوش وإدرار العطايا(1/21)
عليهم فمن أين يعطي هؤلاء إذا قسمت الأرضون وأهلها. كما أنه يجب التفكير في المستقبل فإذا قسمت على من حضر لم يبق لمن بعدهم شيء، ولم يبق بعد ما يفتح من الأرض مما فيه كبير نيل. فمن هذا كله رأى عمر رأيا، وهو ترك الأرضين والأنهار لأهلها وعمالها، على أن ويضع عليهم ما يحتمونه من خراج تكون منه أعطيات المسلمين، فشاور في هذا الرأي الصحابة وانتهى الأمر بأخذهم برأي عمر، وهذا "الخراج" يبقى على ملاك هذه الأرض بصورة دائمة فيدفعونه حتى ولو أسلموا.
وهذا التفريق الجديد بين الغنيمة والفيء الذي رآه عمر، وهو جعل الغنيمة التي تقسم بين من حضر من المحاربين في غير الأرضين، وجعل الأرضين فيئا لا يقسم، وإنما يذهب لبيت المال، يصرف على مصالح الدولة، كان تشريعا جديدا دعت إليه الحالة العملية، وقد حاول الفقهاء بعد ذلك تبرير عمل عمر، ورده إلى القرآن، وذلك مثل ما رواه أبو يوسف "أن عمر قال: وجدت حجة في تركه وأن لا أقسمه، قول الله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} فتلا عليهم حتى بلغ إلى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} قال: فكيف أقسمه لكم وأدع من يأتي بغير قسم، فأجمع على تركه وجمع خراجه، وإقراره في أيدي أهله، ووضع الخراج على أيديهم والجزية على رءوسهم.
وعلى العموم فإن هذا النظام المالي الموضوع في البلاد المفتوحة، لم يكن مخالفا في الشكل للنظام القديم الذي كان موجودا بها، فقد وجد العرب في أول أمرهم بهذه البلاد شكلا معينا وهو الروماني والفارسي، فتركوه على نظامه القديم، ولم يطرأ تغيير كبير إلا من ناحية استبدال حكم بحكم. والنظرية الإسلامية لنظام الضرائب على الأساس الفقهي الإسلامي، لم يعمل بها إلا في القرن الثاني الهجري؛ ونظرا لأنه لم يكن قد وجد بعد هذا(1/22)
النظام الفقهي الإسلامي، كان من الضروري العمل بالنظم الموجودة التي تطورت إلى نظام عربي، وقد كان هذا النظام العربي المتطور من النظام الروماني والفارسي، المثل الذي اقتفي أثره فيما بعد، كما تدل على ذلك المصادر التاريخية.
وكما نظم عمر الشئون المالية للدولة الإسلامية، فقد نظم كثيرا من الشئون المدنية والدينية وذلك كحد الخمر وحد الرجم ومسألة الطلاق الثلاث، والنهي عن المتعة والتاريخ بالهجرة، وكان عمر يتوخى في هذه التشريعات مواجهة الحياة العملية والنظر لجانب المصلحة والمرونة في الرأي.
وتدل الأدلة على أن الخلفاء ساروا على طريقة التحكيم كما كان ذلك في عصر النبي، وإن لم يكونوا في مستوى النبي، باعتبارهم المحكمين الأول، حيث كان بعض الناس يلجأ إلى محكمين من قرابة الرسول من قريش. وكانوا يباشرون القضاء بين الناس بأنفسهم، ولم يكن لديهم قضاء ولم يثبت أنهم ولوا قضاء في البلدان، بل كانوا يولون عمالا حكاما، وهم كانوا يتولون القضاء تبعا لوظائفهم.
وتنسب لعمر الوثيقة القضائية التي تسمى عند الناس "سياسة القضاء" وقد تلقى العلماء هذه الوثيقة بالقبول والصحة، وهي الرسالة التي أرسلها إلى أبي موسى الأشعري واليه بالبصرة وفيها يقول: "الفهم الفهم فيما يتلجلج في صدرك ويشكل عليك ما لم ينزل في الكتاب ولم تجرِ به السنة، واعرف الأشباه والنظائر، ثم قس الأمور بعضها ببعض فانظر أقربها إلى الله وأشببهها بالحق فاتبعه واعمد إليه" إلخ.
وقد شك فيها بعض العلماء كابن حزم، وأنكر بعضهم نسبتها إليه من ناحية ما تحويه من اصطلاحات فقهية لم تكن قد ظهرت بعد في عهد عمر, ولكنها كانت وليدة عصر متأخر.(1/23)
ولم يكن الصحابة جميعا على علم وفقه، وإنما كان ذلك خاصا بطبقة منهم، وهم القراء. يقول ابن خلدون: "ثم إن الصحابة كلهم لم يكونوا أهل فتيا، ولا كان يؤخذ عن جميعهم وإنما كان ذلك للحاملين للقرآن، العارفين بناسخه ومنسوخه ومتشابهه ومحكمه، وسائر دلالاته مما تلقوه من النبي وممن سمعه منه من عليتهم، وكانوا يسمعون لذلك القراء, أي: الذين يقرءون الكتاب؛ لأن العرب كانوا أمة أمية، فاختص من كان منهم قارئا للكتاب بهذا الاسم لغرابته يومئذ، وبقي الأمر كذلك صدر الملة، ثم عظمت الأمصار وذهبت الأمية من العرب بممارسة الكتاب وتمكن الاستنباط وكمل الفقه وأصبح صناعة وعلما، فبدلوا باسم الفقهاء والعلماء من القراء".
وقد اختلف الصحابة في آرائهم تبعا لاجتهادهم وما غلب على ظنونهم من المصلحة، وما عرف بإجماع الصحابة ليس المراد منهم إلا قول أغلبهم، يقول أبو هريرة: إن المهاجرين كان يشغلهم الصفق في الأسواق، وإن الأنصار كان يشغلهم القيام على نخلهم، وكانت امرأ مسكينا أصحب الرسول على ملء بطني، فكان الرسول يسأل عن المسألة ويحكم بالحكم ويأمر بالشيء، ويفعل الشيء، فيعيه من حضره، ويغيب عمن غاب عنه. فلما مات الرسول تفرق الصحابة في البلاد، فكانت تعرض القضية في المدينة أو في غيرها، فإن كان عند الصحابة الحاضرين أثر حكم به، وإلا اجتهد أمير تلك البلد، وقد يكون في المسألة حكم عن النبي موجود عند صاحب آخر في بلد آخر، وأمثلة ذلك كثيرة، فقد كان علم التميم عند عماد وغيره وجهله عمر وابن مسعود، وكان حكم المسح عند علي وحذيفة وجهلته عائشة وابن عمر، وكان حكم الاستئذان عند أبي موسى وجهله عمر، وكان حكم الجد عند المغيرة ومحمد بن مسلمة وجهله أبو بكر وعمر، وكان حكم أخذ الجزية من المجوس عند عبد الرحمن بن عوف وجهله عمر وأبو عبيدة وجمهور الصحابة إلى غير ذلك من الأمثلة.(1/24)
ويمكن أن نتبين من هذا أثر انتشار الصحابة في الأمصار واختلافهم في الأحكام والآراء، وأن كثيرا من هذا لم يكن يصدر عن المركز الرئيسي وحده "المدينة" كما هو المفروض، بل على العكس من ذلك كانت تصدر الآراء من الأقاليم والأمصار في كثير من الأحوال إلى المدينة من الخارج، الأمر الذي يدل على أن تشكيل الحياة الإسلامية لم يكن صادرا من مصدر رئيسي، ولكنه كان أثرا لتطور أقليمي كذلك متأثر بالعادات الأخرى لهذه الأمصار والآراء المختلفة لهؤلاء الأصحاب المهاجرين إليها.
والحقيقة أنه لا يمكن أن نفرض أن الحياة الإسلامية في نواحيها المختلفة كانت قد وضعت كلها من أول الأمر على نهج واحد كامل ولجميع المسلمين، فقد يكون هذا ممكنا في محيط "المدينة" حيث كان الاتصال بالدين والسنن ممكنا، الأمر الذي كان جد بعيد عن الشعوب الإسلامية في أطراف الأرض، ومن أجل هذا نرى أنه في هذا العصر لم تتكون بعد قاعدة عامة تؤخذ وتحمل، وكان ما هناك أنه قد بدأ فعلا تطور جديد، أخذت تتأسس فيه القواعد الدينية والاجتماعية ويتفق الناس عليها.
5- وفي منتصف القرن الهجري الأول بعد عصر الخلفاء الراشدين اعتلى الأمويون الخلافة وامتد حكمهم إلى أوائل القرن الثاني، ولم يكن الأمويون بطبيعة الحال أعداء للإسلام، وكل ما هناك أنهم لم يكونوا مثل سلفهم الصالح في اتباع مبادئ الدين بحرص ودقة، ولم يعيروا اهتماما للأمور المتعلقة بالدين مثل اهتمامهم بأمور الدولة، وأصدق تعبير عن هؤلاء الأمويين أنهم كانوا ملوكا أكثر منهم خلفاء دينيين، وقد تأثر المؤرخون في حكمهم عليهم وما كتب عنهم باتجاه العباسيين نحوهم واتجاه الأتقياء من الصحابة والأتقياء الذين لم يرضوا عنهم، وعلى العكس من ذلك كانوا هم المسئولين عن تطور كثير من ملامح الفقه الإسلامي التي كانت في وضع بسيط، وكان اهتمامهم في الحقيقة موجها إلى إدارة البلاد الإسلامية وتنظيم(1/25)
ما كان موجودا من فوضى الحياة العربية، وما كان عليه البدو من نظم فردية قبلية، وبالمثل الإدارية الأموية وبالمثل الدينية أوجدوا إطارا للمجتمع العربي المسلم، الذي امتد إلى البلاد الأخرى المفتوحة، وكان العهد الأموي يمثل فترة الإكمال -بعد فترة الخلفاء الراشدين- للاتجاه لسلوك الجماعة الإسلامية الذي كان في عصر النبي، وطبيعة المجتمع النبوي، وهذا هو الأساس الأول الذي يجب ملاحظته في قيام الفقه والتشريع الإسلامي، حيث تعاونت الإدارة الأموية والمثل الإسلامية في خلق نظام تشريعي للمجتمع الإسلامي.
وقد أخذ الخلفاء الأمويون وولاتهم الخطوة الأولى في تعيين القضاة، الأمر الذي دعت إليه حالة المجتمع الجديد وإدارته، ولم يعد التحكيم كافيا فاستبدلوا الحاكم بالقاضي وكان القاضي نائبا للحاكم الذي كانت له السلطة الكاملة على الإقليم إداريا وقضائيا وتشريعيا من غير فصل بينها، فأناب الوالي القاضي في السلطة القضائية، واحتفظ لنفسه بالرأي الأخير، وكان هؤلاء الحكام الإداريون والقضاة هم "المشرعون الأول في الإسلام"، وبالإدارة وأحكام هؤلاء القضاة وضعوا الأسس للفقه الذي جاء بعد ذلك. وكانوا يحكمون برأيهم القائم على العادات العملية القائمة مع مراعاة النصوص القرآنية وروح القواعد الإسلامية مما يجدونه مناسبا. وكانت هذه العادات هي عادات البلاد التي يقضون بها أو عادات بلدهم التي حمولها، مما أدى إلى اختلاف الأحكام في بعض الأحيان، وإنه ولو أن الموضوعات الفقهية لم تصبح إسلامية بعد، فإن مركز القاضي الإسلامي كان متفقا مع الإدارة الأمورية. في "تسليم" العادات القديمة وجعلها متفقة مع مبادئ الإسلام، والذي يظهر من تطورات الفقه، أن الدور الذي قام به القضاة الأول في وضع حجر الأساس للفقه الإسلامي لم يتميز في أصوله النظرية عن الأصول التي سادت أخيرا، وفي حدود القرن الأول أصبح تعيين القضاة من المتخصصين ومن هؤلاء الأشخاص المهتمين بالموضوعات التي(1/26)
يعنون بها في إبداء رأيهم أو في مجال المناقشة وفي قدرتهم على معرفة مدى موافقة العادات للقرآن أو القواعد الدينية بوجه عام، وكانوا من هؤلاء الأتقياء الذين كانوا يحرصون على تنظيم الحياة الإسلامية، وهكذا حملوا الفقه والتشريع الأفكار الدينية والأخلاقية، وأخضعوا ذلك للدين، وقد حققوا بعملهم هذا، ما حققه الرسول بالقرآن في المجتمع الإسلامي الأول بالمدينة، وكان من نتيجة هذا أن العمل الإداري في أواخر العصر الأموي انتقل إلى الفقه، وترجمت المبادئ المثالية إلى العمل الواقعي، وهكذا تطور الفقه بجهد هؤلاء الأتقياء ووراءهم الولاة والقضاة، تعبيرا عن المثل الدينية، وترجمت هذه الأعمال الإدارية للأمويين وأدخل كل ذلك في الفقه.
ولم يكن للفقيه المتخصص أكثر من إبداء الرأي فيما يوجه إليه من الأسئلة في مثل العبادات وأحيانا في المسائل الدينية مثل: الزواج والطلاق. وهؤلاء الأتقياء المتخصصون كانت لهم صفة شخصية. ولم يكونوا بوجه عام محترفين، ولما كثر عددهم تطوروا إلى ما عرف "بالمدارس القديمة" ولم يرد بهذا الاسم أنهم كانوا مدارس منتظمة، أو مبادئ محددة أو تعاليم لكل مدرسة، وليس لهم صفة رسمية أو كيان خاص أو وجود لجماعة فقهية.
ولقد كان للصحابة آثارهم الخاصة في البلاد التي استوطنوها أو نزلوا بها، بما كان لهم فيها من أصحاب التفوا حولهم وأخذوا عنهم فتكونت هذه المدراس القديمة في هذا الوقت تبعا لشخصيات الصحابة من هؤلاء الفقهاء التابعين، وكان في كل بلد إمام منهم، مثل سعيد بن المسيب بالمدينة وعطاء بن رباح بمكة وإبراهيم النخعي بالكوفة والحسن البصري بالبصرة ومكحول بالشام وطاوس باليمن، وحصل الاختلاف بين هذه المدارس تبعا لتطور العمل القائم في كل بلد، نظرا لصعوبة الاتصال بين هذه المراكز الجغرافية والعمل بها. وأهم هذه المدارس هي مدرسة المدينة ومدرسة الكوفة، وبعبارة أخرى مدرسة الحجاز ومدرسة العراق.(1/27)
وكانت المدينة عاصمة الدولة في عصر النبي والخلفاء، وبعد أن فقدت مكانتها السياسية بانتقال الخلافة إلى الشام والعراق، بقيت لها قيمتها الأدبية من حيث إنها دار الهجرة والبلد الذي نزل فيه التشريع، والبلد الذي نزل فيه القرآن، وتكونت فيه السنن الأولى للنبي وللصحابة، فأصبحت في هذا العصر مأوى الأتقياء الفقهاء، الذين اعتبروا أنفسهم حماة الدين الذين يسيرون على طريقه ومنهاج لا ينفصل عنه.
وأصل مذهبهم يرجع إلى عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت وعبد الله بن عمر، يقول ابن القيم: "الدين والفقه انتشر في الأمة عن أصحاب ابن مسعود وأصحاب زيد بن ثابت وعبد الله بن عمر وأصحاب عبد الله بن عباس، فأما أهل المدينة فعلمهم عن أصحاب زيد وعبد الله بن عمر، وأما أهل مكة فعلمهم عن أصحاب عبد الله بن عباس، وأما أهل العراق فعلمهم عن أصحاب ابن مسعود. وأصحاب زيد بن ثابت الذي تأثر بعمر وأثر في ابن عمر اثنا عشر فقيها، وقد تأثر بهؤلاء الأصحاب في المدينة اثنا عشر فقيها، ومنهم تكونت مدرسة "الفقهاء السبعة" بالمدينة، وإمام هذه المدرسة سعيد بن المسيب الذي كان يقال له فقيه الفقهاء، وكان سعيد قرشيا، وقد ألبسته هذه النسبة احترامه الكبير في الأوساط العربية، جاء في طبقات الفقهاء للشيرازي "وما مات العبادلة، عبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن عمر، صار الفقه في جميع البلدان إلى الموالي، فكان فقيه أهل مكة عطاء بن أبي رباح، وفقيه اليمن طاوس؛ وفقيه أهل اليمامة يحيى بن كثير وفقيه أهل الكوفة إبراهيم، وفقيه أهل البصرة الحسن، وفقيه أهل الشام مكحول وفقيه أهل خراسان عطاء الخراساني، إلا المدينة، فكان فقيه أهل المدينة سعيد بن المسيب غير مدافع وقد توفي سعيد سنة 94هـ ويقال لها سنة الفقهاء لكثرة من مات فيها منهم.(1/28)
وقد كان الناس -كما قال مالك في رسالته إلى الليث بن سعيد- تبعا لأهل المدينة التي كانت إليها الهجرة، وبها نزل القرآن، وأحل الحلال وحرم، إذ رسول الله بين أظهرهم، يحضرون الوحي والتنزيل، ويأمرهم فيطيعونه، ويبين لهم فيتبعونه، حتى توفاه الله، ثم قام من بعده، اتبع الناس له من أمته، ممن ولي الأمر بعده، فما نزل بهم مما علموا انفذوه، وما لم يكن عندهم فيه علم سألوا عنه، ثم أخذوا بما وجدوا في ذلك، في اجتهادهم وحداثة عهدهم، وإن خالفهم مخالف أو قال أمرا غيره أقوى منه وأولى, ترك قوله وعمل بغيره، ثم كان التابعون من بعدهم يسلكون تلك السبيل ويتبعون تلك السنن.
ومن أجل هذا جذبت الناس إليها، ورحل إليها العلماء من الأمصار، فذهب إليها مثل: ابن شهاب الزهري من الشام حيث رحل إليها وجمع من أحاديثها الشيء الكثير كما ذهب إلى الشام من فقهاء المدينة عبد الملك بن مروان، وكان عمر بن عبد العزيز ممن تأثر بالمدينة أيام ولايته عليها. وكان عهده من غير شك فاتحة جديدة في الحاكمين بأمور الرعية الدينية والأخذ بالسنن، ورحل إليها عطاء بن أبي رباح من مكة، كما رحل إليها أهل العراق. ويقول الشعبي: خذها بغير شيء، فقد كان الرجل يرحل فيما دونه إلى المدينة، ويقول أمهل حتى تقدم المدينة، فإنها دار الهجرة والسنة، فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس وكذلك الحال في مصر، فقد قيل إن عبد الله بن عمر بعث نافعا إلى مصر يعلمهم السنن، وكان المصريون يهتمون بالملاحم والفتن وأيام العرب والتراغيب، فكان أول من وجه المصريين إلى العناية بالحديث يزيد بن حبيب من أهالي دنقلة.
وكانت تعاصر المدينة بالحجاز مدرسة الكوفة بالعراق، وكان لهذه المدرسة قيمة فقهية لا تقل عن تلك المدرسة، ولكنها لم تكن لها مثل شهرة مدرسة المدينة، ومركزها الممتاز، ولم تظهر آثارها الفقهية واضحة إلا بعد(1/29)
ذلك. وكان إمام هذه المدرسة من الصحابة عبد الله بن مسعود الذي جمع حوله أصحابا من الكوفيين، وكان أعلم الكوفة بأصحاب عبد الله، إبراهيم النخعي وعامر بن شرحبيل الشعبي.
ويعتبر إبراهيم النخعي إمام أهل الكوفة وفقيهها. كما اعتبر سعيد بن المسيب فقيه المدينة وإمامها، وليس من شك في أن شخصية هذا الإمام التشريعية شخصية خصيبة في هذا العصر وما بعده، فإن مذهب الإمام أبي حنيفة إنما يقوم على حديث إبراهيم وآرائه، كما يتبين لنا هذا من كتاب الآثار لأبي يوسف وكتاب الآثار لمحمد بن الحسن وغيرها حيث تسند آراء أبي حنيفة وأثاره إلى هذا الإمام في أغلبها، وقد أدرك إبراهيم جماعة من الصحابة، وأكثر رواته عن التابعين، "قيل له أما بلغك حديث عن النبي تحدثنا عنه قال: بلى ولكن أقول قال عمر، قال عبد الله، قال علقمة، قال الأسود، أحب إلي وأهون" وكان أهل الكوفة يرون أن عبد الله بن مسعود وأصحابه أثبت الناس في الفقه، وقد جمعوا من فتاوى ابن مسعود مما تيسر لهم جمعه. وكانت هذه المدرسة لا تهاب الفتيا ولا تكره المسائل ولكنهم كانوا يهابون رواية الحديث, وكان عندهم من الفطانة ما يقدرون على تخريج المسائل على أقوال أصحابهم.
وقد تمسك أهل المدينة بالسنة التي كانت قائمة بالمدينة. يقول مالك: "وأنه ليكفي في ذلك ما مضت به السنة" ولم يعتبروا الرأي، ومثال ذلك مسألة "القضاء باليمين مع الشاهد" التي اختلفت فيها الصحابة من قبل، فكان رأي الفقهاء السبعة هو ما رواه مالك "أنه بلغه أن أبا سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار سئلا، هل يقضي باليمين مع الشاهد؟ قال: نعم "موطأ ج3 ص389" ورأي مدرسة الكوفة هو ما رواه أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم "أنه قال: البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه". وكان لا يرد اليمين، وكان أبو حنيفة لا يستحلف مع البينة ولا يرد اليمين، وأن(1/30)
حمادا كان لا يفعل شيئا من ذلك "الآثار لأبي يوسف رقم 738، 740". وهكذا كان فقهاء المدينة يرون القضاء بيمين مع الشاهد الواحد، ورأوا ذلك خاصا بالأموال، وخالفهم فقهاء الكوفة فقالوا: لا يجب أن يقضي في شيء من الأشياء إلا برجلين أو رجل وامرأتين، ولا يقضي بشاهد ويمين في شيء من الأشياء، وتمسكوا بالقرآن وحده بقول الله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} ، ولم تبلغهم السنة المدنية، فكان مذهب أهل المدينة تقليديا من حيث اتباع السنة المدنية ومذهب الصحاب بها، وكان مذهب أهل الكوفة يرجع إلى مذهب الصحابة الذين توطنوا العراق، وإلى حد ما العرف العراقي.
فكانت آراء الفقهاء السبعة أقرب إلى السنن، بخلاف الكوفيين الذين كانوا أبعد من السنن. وكانت آراؤهم من الناحية الفقهية أدق وأقوى تخريجا، من ناحية أنها كانت تقوم في جو أوسع حرية من جو التقاليد المدنية، وتتفق مع تطور الحياة التي تعرضت لها العراق.
وفي هذا العصر اعترف "بالرأي" مصدرا للفقه، ففي هذه المسائل الناشئة والتي لا يوجد فيها حكم واضح في القرآن أو في الآثار القليلة كان يستعمل هؤلاء الفقهاء رأيهم. على أن هذا "الرأي" المستعمل في هذا العصر لم يكن قائما على طريقة خاصة، ولم يكن محدودا من القرآن بحدود ثانية، إلا تلك الحدود الدينية والأخلاقية المستقاة من القرآن، فكان قياسا، وكان استحسانا، وكان سنة، وكان غير ذلك.
وكذلك الإجماع في هذا العصر، بقي بمعنى قول الأغلبية، ولم يكن إجماع الأمة كلها، وقد خطا الآن خطوة جديدة، فبعد أن كان الإجماع إجماع الصحابة، أصبحنا نسمع إجماع أهل المدينة وإجماع الحرمين، وإجماع أهل المدينة والكوفة.(1/31)
وعلى كل حال فإن الاختلاف بين هذه المدارس لم يكن يرجع إلى المبادئ العامة ولكنه يرجع على الأكثر إلى أسباب جغرافية وتقليدية.
6- وقد وجد عمل أهل المدينة صداه وتمثل في "مدرسة أهل الحديث" وكانت هذه الحركة أهل حركة في تاريخ الفقه الإسلامي في القرن الهجري الأول، فكانت بطبيعة الحال استمرارا للحركة الدينية والأخلاقية ضد المدارس القديمة، وتمثل المعارضة الإسلامية للإدارة الأموية، فتطورت هذه المعارضة إلى مدرسة أهل الحديث التي أكدت هذا الاتجاه، وهدف هؤلاء المحدثين بالإضافة إلى معارضة المدارس القديمة التي كانت تعتمد على أقوال الصحابة إنما هو التمسك بالأحاديث النبوية وحدها ورفض ما عدا هذا من العادات القائمة. ولم يقتصر هذا على المدينة، ولكنه وجد في مراكز أخرى، وكان أكثر اهتمامهم بالمسائل الفقهية، وهكذا استطاعت هذه المدرسة أن تغير من المبادئ الفقهية بالأخذ بالحديث، وكانت الخطوة التالية هي ما قام به الإمام الشافعي في القرن الهجري الثاني.
أما الطريقة الثانية فهي طريقة أهل "الرأي" وهي الطريقة التي تعتمد على استنباط حكم ما ينزل من النصوص الموجودة، يقول البزدوي: "بما سموهم بذلك لإتقان معرفتهم بالحلال والحرام، واستخراجهم المعاني من النصوص لبناء الأحكام، ودقة نظرهم وكثرة تعريفهم عليها" "كشف الأسرار ج1 ص16". وهذه الطريقة هي من غير شك الطريقة الطبيعية واستعمالها هو نتيجة الحاجة الماسة في الحياة العملية وعند مزاولة القضاء، فالقانوني النظري يدرس النصوص، وليس له علم بحوادث الحياة، أما القاضي الذي يقضي في بلد كالعراق مثلا، لا تسعفه المراجع الحجازية، وقول الشهرستاني: "النصوص متناهية والوقائع غير متناهية، وما لا يتناهى لا يضبطه ما يتناهى". تحقق مقدار الضرورة في إدخال التفكير والنظر في التشريع والاستنتاج الفقهي. وهذه هي العوامل التي جعلت ظهور الرأي(1/32)
طبيعيا وضروريا في التشريع. ونرى مقدار الإحساس بالضرورة والحاجة للرأي من أن أهل الحديث أنفسهم أجازوا ذلك من غير قصد، فأبو داود قد أخذ في سننه بالحديث الضعيف، ورأى ذلك خيرا من الرأي، فإن الحديث لا يعدو أن يكون رأيا جاء في صورة حديث.
ومهما يكن من شيء، فإنه يظهر لنا من تتبع قضايا الصحابة والتابعين وفتاويهم أن الرأي لم يكن محدودا تمام التحديد بمعنى خاص، أو أن له اصطلاحا معروفا، وأحيانا ما يكون بمعنى القياس، وأحيانا ما يكون بمعنى الاستحسان أو وفق الرأي الشخصي، ويظهر أنه تطور بعد هذا فصار يطلق بمعنى القياس، ثم تطور هذا فصار يطلق بمعنى الاستحسان.
ولقد كان من أثر مدرسة الحديث التي نشأت متأخرة عن مدرسة الرأي، أن أخذت مدرسة الرأي تنظم من خطوطها التي أصبحت مكشوفة في ميدان الفقه، فتوفروا على البحث عن الحديث ليسندوا به مسائلهم، ويقصدوا أراءهم وذلك مثل ما حصل عند أبي حنيفة وتلامذته الأولين حيث أخذوا يخالفون طريقة أستاذهم أبي حنيفة، فنجد مثلا محمد بن الحسن الشيباني يرحل إلى المدينة لأخذ الحديث وألف كتاب الآثار، وأخذ ينزل من كلام أستاذه وأهل العراق على مقتضى كتاب الآثار، ويستدل بها ويحاج أهل الحجاز، كما نرى ذلك في كتاب الحجج، وفي موطئه الذي رواه عن مالك، وجاء من بعده فأخذوا يسندون آراء أئمة المذهب بالأحاديث، وهكذا تطورت مدرسة الرأي وتباعدت من طريقها الأول، بإزاء إسناد الحديث وجهود المحدثين في هذا العصر.
كان أهل الحديث يعنون برواية الحديث، ولا يتعنون النظر والاستنباط ولا يكادون يمثلون في أول الأمر طريقة فقهية، ثم وحدوا أنفسهم آخر الأمر مضطرين إلى الأخذ بالرأي، وأنه لا مخرج لهم من ذلك إذا أرادوا أن يعيشوا فقالوا بالقياس وأصبحت لهم طريقة في الفقه، وعلى الأخص لما أعوزهم(1/33)
وجود مواد جديدة في الحديث وعدم كفاية الروايات.
7- ولما تولى العباسيون الخلافة بعد الأمويين في دمشق "132هـ" كان الفقه الإسلامي قد وصل إلى ملامحه الضرورية، وتم للمجتمع العربي الإسلامي حاجته من أجل الطريقة الفقهية، واستمر العباسيون الأول في تقوية الاتجاه لتسليم العادات القديمة، ذلك الاتجاه الذي ظهر واضحا في العصر الأموي الأخير. ولكي يظهر العباسيون اختلافهم بإزاء الأمويين، بالغوا في هذا الاختلاف، وجعلوا سياستهم إقرار حكم الله في الأرض وحملت من أول أمرها طابع الدين، وأحاطوا أنفسهم بأجواء دينية، فما كان عند الأمويين ملكا لا يعنى بأشكال الدين، هو عند العباسيين رئاسة دينية، فالخليفة العباسي ليس ملكا على دولة سياسية فقط بل هو ملك على دولة دينية تحيط به رسوم دينية، يعتبر نفسه إماما للمسلمين، وخليفة للرسول في قيادة الأمة قيادة روحية.
وكان من أول اهتمامهم هو محاولة تغطية هذه الفجوة بين ما يأمله الاتقياء والمتخصصون نظريا وبين الضرورات العملية للإدارة. فأخذوا مثلا بفكرة استشارة الفقهاء المتخصصين في المسائل الفقهية التي قد تجري، كما حصل في رسالة أبي يوسف في المسائل المالية والخراج والجنايات التي عملها بناء على طلب هارون الرشيد.
وإنه وإن كان الفقهاء المتخصصون الذين نظموا طريقة تسليم العادات وإدخال المبادئ الإسلامية فيها أثناء الدولة الأموية قد ساروا فيها بحق إلى مدى واقعي، فإن هؤلاء العباسيين ومستشاريهم، لم يستطيعوا أن يذهبوا بهذه الطريقة قدما، وعلى الأخص أنهم لم يكونوا مخلصين في طموحهم في ترجمة هذه المبادئ النظرية إلى العمل، والذي يظهر هو أن ما نادوا به من إقرار دولة الله في الأرض، لم يكن إلا تغطية لأهدافهم، فلم يستطيعوا أن يضعوا نظما دائمة بين النظر والعمل، ولم يطل الأمر أيضا قبل أن يفقد(1/34)
خلفاؤهم الإرادة والقوة في الاستمرار في هذه الجهود.
وكان مما حققه العباسيون الأول هو الربط الدائم بين وظيفة القاضي والشريعة، وكان الأمويون قد مهدوا لذلك، ولكنه عند العباسيون أصبح قاعدة ثابتة، فكان القاضي فقيها متخصصا، ولم يبق مجرد عامل فقيه للحاكم يعين من قبل الدولة، وبقي من يوم تعيينه إلى تخليه لا يرجع إلى شيء غير الشريعة، من غير تدخل للجهة الإدارية، وإن يكن هذا الاستقلال نظريا، فلما اتسع عمله لم يسمح بقيام هذا الجهاز المستقل، فكان يمكن فصله من الدولة. وكان مرتبطا بالسلطة السياسية في إصدار أحكامه، وفي أثناء العصر الأموي فقد كان القاضي أو الوالي يقوم بالقضاء فيما يعرض عليه من القضايا الجنائية في نطاق الإدارة المسئولة، أما في عصر العباسيين، فقد انفصل منصب القاضي عن الإدارة العامة وأصبح مرتبطا بالشريعة، ولما كان من غير الممكن للقاضي النظر في الإجراءات القضائية والإشهاد في الإثبات الجنائي خطت السلطة السياسية خطوة جديدة ونقلت جزءا كبيرا من الجنايات إلى الشرطة، وبقي ذلك خارجا عن نطاق الفقه، ومع كل هذا فقد بقي منصب القضاء في مرحلته الأخيرة من النظم الهامة في المجتمع الإسلامي.
وقد وضع القضاة في الإسلام الأسس الأولى للفقه الإسلامي وليس لدينا شيء كثير عن الأصول التي اعتمدوا عليها، وكانوا يحاكمون حسب رأيهم على أساس العرف المعمول به، والقواعد الإدارية ونصوص القرآن، وروحه، والقواعد الدينية المعترف بها بقدر الإمكان.
ونستطيع أن نتبين من هذا كله أن العصر العباسي كان ملائما لتطور الفقه والاعتناء بالحياة القانونية على الوجه الديني. كما توجهت فيه الهمم إلى السنة باعتبارها النظام الذي يجب أن تقوم عليه الحياة للمسلم، فأخذ الناس يبحثون عن السنة ويجرون وراءها في كل أمر من أمور الحياة. والحرص على(1/35)
الاستهداء بالسنة يتفق مع تطور جمع الحديث ودراسته بشكل أكثر مما كان عليه في العصر الأموي، فأخذ الناس يبحثون بإحاطة عامة أمور الحلال والحرام وفي كل فرع من فروع الحياة الدينية والاجتماعية، ويسعون وراء الوثائق التي تحمل طابع النبوة بشكل واسع، ونظرة إلى موطأ الإمام مالك الذي جمع في القرن الثاني الهجري، ترينا كيف أنه لا يوجد به سوى ستمائة حديث في الأحكام الفقهية، الأمر الذي يتبين منه مقدار النذر القليل الذي قدمه لنا العصر الأموي من أحاديث الأحكام وكان الجهود موجهة إلى الأمور الأخلاقية والعلاقات السياسية أما ناحية الفقه فقد كانت الأحاديث فيه قليلة.
ويظهر أن اعتبار السنة حصل أول الأمر في الأوساط الصالحة في المدينة والحديث الذي يفهم منه الحرص على التقاليد، والتمسك بما كان عليه المسلمون في خير أوقاتهم والبعد عن الابتداع والإحداث يحمل طابع المدينة "المدينة حرام من أحدث فيها حدثا، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين".
8- وفي أوائل العصر العباسي. أخذت المدارس القديمة التي كانت تنتسب في تعاليمها إلى مراكز جغرافية، المدينة بالحجاز، والكوفة بالعراق تنتسب إلى شخصيات معروفة عندها بدلا من العمل مستقلة على أصولها الخاصة، فتكونت جماعات في هذه المراكز، فتكون في العراق "أصحاب أبي حنيفة"، وفيهم أبو يوسف والشيباني، وتكون في المدينة وعلى الأخص مصر "أصحاب مالك" وكان الانتقال إلى هذه المدارس القديمة، إنما هو انتقال "شخصي" ولم يتمسكوا بالعادات القائمة في بلادهم. وإنما تمسكوا بأصول إمامهم وتلامذته، وقد ساعدوا الإمام الشافعي على هذا الاتجاه، وكان في الأصل من أهل المدينة، وعد نفسه واحدا منهم حتى بعد أن اتخذ مذهب أهل الحديث، وحاول أن يدخل فيه المدارس القديمة، وعلى الأخص(1/36)
المدينين بالحوار معهم، وبذل جهدا في تقديم أصوله الجديدة، على أنها بطبيعة الحال ترجع إليهم، ولكن اتباعهم له يعني هدم مدرسة المدينة والمدارس الأخرى. ولم يقصد الانضمام لأهل الحديث؛ لأنهم أقل المدارس القديمة، في الأخذ بالرأي وفي الدقة الفقهية. وهكذا كان كل فقيه قبل فكرة الشافعي يصبح تابعا للشافعي بصفة شخصية، وبهذا كان الشافعي مؤسسا لمدرسة جديدة على أساس شخصي، وعلى أساس الأصول العامة التي وضعها الشافعي. ولم يكن هدف الشافعي تأسيس مدرسة جديدة. بل على العكس من ذلك رفض هذا الوضع، وكان كل همه هو استعداده لإصلاح هذه المدارس.
وهكذا فإن حركة الشافعي وضعته على قدم المساواة مع المذهب الحنفي والمذهب المالكي.
وقد ساد اضطراب كبير في تاريخ التدوين الفقهي في عدد المدارس الفقهية في إحدى هاتين الطريقتين، أهل الحديث وأهل الرأي، وابن قتيبة عد كل هؤلاء الأئمة أهل الرأي، ما عدا أحمد بن حنبل الذي لم يسمه، وداود الظاهري الذي لم يكن قد عرفه، بينما ذكر من أهل الحديث المحدثين فقط "كتاب المعارف ص241-251".
وعد المقدسي أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه من أصحاب الحديث. ولم يعدهم من أهل المذاهب الفقهية، الذي عد منهم الحنفية والمالكية والشافعية والظاهرية، وفي موضع آخر عد المقدسي الشافعية أصحاب الحديث خلافا للحنفية، وعد في موضع ثالث أبا حنيفة والشافعي أهل الرأي خلافا لأحمد بن حنبل "أحسن التقاسيم 37، 127، 143" وعدم عد المقدسي لأحمد بن حنبل يرجع إلى الرأي القديم، فقد عرفنا أن ابن جرير الطبري لاقى خصومة الحنابلة من جراء عدم ذكره لرأي أحمد في كتابه اختلاف الفقهاء؛ لأنه عدة محدثا لا فقيها.(1/37)
وعد الشهرستاني مالكا والشافعي وأحمد وداود أصحاب الحديث وأبا حنيفة وأصحابه أهل الرأي "الملل 160, 161".
وقد أخذ ابن خلدون بهذا التقسيم ولم يخالفه إلا في جعله داود على رأس طريقة ثالثة؛ فقد جعل الظاهرية مدارك الشرع كلها منحصرة في النصوص والإجماع "المقدمة ص3".
9- وقد عرفت طريقة أهل الرأي باسم الإمام أبي حنيفة الذي استقرت عنده وعند أصحابه مذاهب العراق، ولم يكن أبو حنيفة أول من ابتدع ذلك، وكل ما يمكن أن يقال إنه في مدرسته وصلت هذه الطريقة إلى كمالها. ويدعي خصوم أبي حنيفة أنه لم يكن يعطي الحديث أهمية كبيرة، وأنه كان يجعل للرأي الطليق مكانه الأول بالنسبة للاستنتاج الفقهي، وأنه رد كثيرا من الأحاديث من أجل الرأي، وقالوا إنه كان في عصره أربعة من الصحابة ولكنه لم يهتم للقائهم، وحدث أبو صالح الفراء قال: سمعت يوسف بن أسباط يقول: رد أبو حنيفة على رسول الله أربعمائة حديث أو أكثر، قلت له: يا أبا محمد تعرفها، قال: نعم، قلت: أخبرني بشيء منها فقال: قال رسول الله: "للفرس سهمان وللرجل سهم" قال أبو حنيفة: أنا لا أجعل سهم بهيمة أكثر من سهم رجل، وأشعر رسول الله وأصحابه البدن، وقال أبو حنيفة: الأشعار مثلة، وقال رسول الله: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا". وقال أبو حنيفة: إذا وجب البيع فلا خيار، وكان النبي يقرع بين نسائه إذا أراد أن يخرج في سفر، وأقرع أصحابه، وقال أبو حنيفة: القرعة قمار، ويقول ابن خلدون: "إن أبا حنيفة بلغت روايته إلى سبعة عشر حديث ونحوها".
ويقول أصحاب أبي حنيفة إنه كان يأخذ بالرأي عند فقدان النص من كتاب أو سنة، والواقع أنه لم يخالف حديثا صحيحا بلغه، وكل ما هناك أنه قد أهمل بعض الروايات أو اتهم بعض الرواة، وشروط قبول الأخبار تختلف(1/38)
عند الأئمة، فما يصح عند هذا، ربما لا يصح عند غيره كما هو شأن المجتهدين، ويقول ابن خلدون في صدر كلامه عن تفاوت الأئمة المجتهدين في الإكثار من الحديث والإقلال منه: "وقد تقوّل بعض المتعسفين المبغضين إلى أن منهم من كان قليل البضاعة في الحديث، فلهذا قلت روايته، ولا سبيل إلى هذا المعتقد في كبار الأئمة؛ لأن الشريعة إنما تؤخذ من الكتاب والسنة، ومن كان قليل البضاعة من الحديث، فيتعين عليه طلبه وروايته, والجد والتشمير في ذلك ليأخذ الدين عن أصول صحيحة ويتلقى الأحكام عن صاحبها المبلغ لها. وإنما قلل منهم من قلل الرواية لأجل المطاعن التي تعترضه فيها، والعلل التي تعرض في طريقها، سيما وأن الجرح مقدم عند الأكثر، فيؤديه الاجتهاد إلى ترك الأخذ بما يعرض مثل ذلك فيه من الأحاديث وطرق الإسناد ويكثر ذلك فتقل روايته لضعف في الطرق.. والإمام أبو حنيفة إنما قلت روايته لما شدد من شروط الرواية والتحمل، وضعف رواية الحديث اليقيني إذا عارضها الفعل النفسي، وقلت من أجلها روايته فقل حديثه، لا أنه ترك رواية الحديث متعمدا، فحاشاه من ذلك، ويدل على أنه من كبار المجتهدين في علم الحديث اعتماد مذهبه بينهم، والتعويل عليه واعتباره ردا وقبولا، وأما غيره من المحدثين، وهم الجمهور، فتوسعوا في الشروط، وكثر حديثهم والكل عن اجتهاد، وقد توسع أصحابه من بعده في الشروط وكثرت روايتهم، وروى الطحاوي فأكثر، وكتب من بعده مسنده، وهو جليل القدر إلا أنه لا يعدل الصحيحين" "المقدمة 371". ولا يمكن أن ننكر أن عصر أبي حنيفة قد سبقه عصر فقهي، قام في الأصل على استعمال المواد الفقهية في الحياة العملية، وكان سلف أبي حنيفة المباشر في العراق حماد بن سليمان المتوفى سنة 119، وكان أبو حنيفة من تلامذته، وكان معروفا بالضعف الشديد في معرفة الحديث. ولكن كان أفقه أهل عصره. وكان أبو حنيفة أول من نظم الفقه على أساس القياس، كذلك وجد لأول مرة هجوم منظم ضد هذا المبدأ في استعمال الرأي والقياس في(1/39)
الفقه. يقول سفيان بن عبدة: أمران ما ظننت أنهما يجاوزان قنطرة الكوفة، قراءة حمزة وفقه أبي حنيفة. ولقد سماه الفقهاء الإمام الأعظم. ويقول الشافعي: "من أراد أن يفتي في المغازي فهو عيال على محمد بن إسحاق، ومن أراد الفقه فهو عيال على أبي حنيفة، وقال الليث بن سعد: "لقيت مالكا في المدينة، فقلت: إني أراك تمسح العرق عن جبينك قال: عرقت مع أبي حنيفة، إنه لفقيه يا مصري".
والفقه الإسلامي، في تكونه يصور حلقة متطورة متصلة، فقد قدم كل سلف إلى من بعده ما أخذه ممن قبله، وهكذا أضاف الجيل المتأخر نتائج أعماله إلى من قبلهم، وتعاليم أبي حنيفة كذلك ليست أصولا مخترعة من عنده، ولكنها حلقة من حلقات التطور، وإن ما ارتبط باسمه من الآثار والمعارف، كما نراه في كتاب الآثار والمبسوط للشيباني يرجع إلى أصل قديم. وإن يكن الشيباني يستعمل في كل حديث عنده في كتاب الآثار هذه العبارة المعروفة "وبه نأخذ وهو قول أبي حنيفة قال محمد: وبهذا كله نأخذ وهو قول أبي حنيفة" فيرجع إلى تلامذته وعلى الأخص محمد بن الحسن أنهم ختموا معارفهم بخاتم راويهم الأخير أبي حنيفة، فكان الإمام عند الأجيال المتأخرة هو المبدع الوحيد والمؤسس لهذا المذهب.
كما أن هؤلاء الذين كانوا يرون في الرأي والتفكير الطليق مخالفة لروح الإسلام قد صوبوا هجومهم ضد أبي حنيفة، وجعلوه موضعا لخصومهم ومن بينهم الإمام الشافعي، وأنه ولو أن الحنفية في عملهم الفقهي، وصلوا في الغالب إلى نفس النتائج التي وصل إليها أهل المذاهب الأخرى, وجمعوا من الحديث مثل ما جمعوا, فقد بقي أهل المذاهب الأخرى وحدهم أتباع مذهب أهل الحديث القديم، وزيادة على ذلك فإن التعاليم المنسوبة لأبي حنيفة، وصلت إلى أعظم منزلة على يد تلميذه أبي يوسف ومحمد بجعلها المذهب الحكومي.(1/40)
وترتبط بالرأي مسألة أخرى عرف بها أبو حنيفة وعرفت بها مدرسته وهي "الحيل الشرعية"، وقد توسل بها الفقهاء توفيقا بين العمليات والنظريات، اعترافا بأن الضرورات تبيح المحظورات، وقد ابتدعت المدرسة الكوفية الحيل الشرعية واهتم بها المذهب الحنفي، ولهذا نجد أكبر كتب الحيل لفقهاء من الأحناف، ولا نجد على سبيل التأكيد لأبي حنيفة كتابا في الحيل، سوى ما حدث به الخطيب حيث يقول: "من كان عنده حيل أبي حنيفة يستعمله أو يفتي به فقد بطل حجه وبانت امرأته"، وذكر الحنفية المتأخرون من مناقب الإمام الأعظم حدة ذهنه في الحيل المتعلقة بالحلف، على أنه لا يمكننا أن نعدها موضوعا ابتدعه الإمام، وإنما نعده موضوعا اهتم به ووسع العمل به على غرار الرأي. وبعض هذه الحيل في الحلف ترجع إلى شيخه حماد بن سليمان، وبعضها يرجع إلى إبراهيم النخعي، وقد بدأت الحيل أولا في محيط الإيمان، ثم امتدت إلى أبواب الفقه الأخرى. وقد وجدت بجانب الحيل التي تدعو إليها الضرورة حيل هي على الأكثر تمارين استعملها الفقهاء لحدة الذهن والتدقيق الفقهي "راجع نظرة عامة في الفقه ص228" ولا يعرف التدوين الفقهي كتبا للإمام، وليس لدينا سوى رسالته الصغيرة التي كتبها إلى عثمان بن مسلم البتي في أصول العقيدة، وسوى أسماء كتب هي موضع خلاف في ثبوت أنه كتبها. وقد عرفت تعاليمه من كتب أصحابه وتلامذته، وأشهر تلامذته هم الإمام أبو يوسف وزفر ومحمد بن الحسن الشيباني، وكان أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم أول قاض للقضاة في الإسلام، وقد تفقه أولا بابن أبي ليلة ثم انتقل إلى أبي حنيفة ورحل إلى مالك، وكان أول من صنف الكتب في مذهبه وقد اندثر أغلبها، ولم يبق منها إلا كتاب الخراج وكتاب المخارج في الحيل.
ثم أبو عبد الله محمد بن الحسن الشيباني، ولقد كانت لهذا الإمام شخصية فقهية منقطعة النظير، حضر مجلس أبي حنيفة وأبي يوسف وسمع من علماء الكوفة، ورحل إلى مالك بالمدينة ولازمه ثلاث سنين وروى عنه(1/41)
الموطأ، ورحل الشافعي إلى العراق ولازم محمد بن الحسن وتفقه عليه، وقد أثنى عليه الشافعي وقال: "ما رأيت أعلم بكتاب الله من محمد كأنه عليه نزل". وهكذا تجمعت في الشيباني وتوحدت الطرق الفقهية الثلاثة، وبالرغم من هذا فقد كتب في كتبه ما أخذه عن أبي حنيفة وأبي يوسف، وأضاف ذلك كله إلى أبي حنيفة، ولا ننسى أن الاختلاف بين آراء أبي حنيفة وأبي يوسف وبين آراء محمد، ليس أقل من الخلاف الحاصل في المذاهب المختلفة.
وفضل الإمام الشيباني لا يرجع إلى أنه عمل عملا مستقلا، ولكن فضله يرجع -بجانب الأعمال التي تساوى فيها مع فقهاء عصره- إلى أنه جمع نتائج أعمال الأسلاف، وحفظها إلى الأجيال التالية، وفي النادر ما نراه يزيد على أعمال السلف شيئا، فتصرفه مقصور على الوقائع التي لا يوجد فيها حكم، لا الاجتهاد المطلق غير المحدود، كما عند أبي حنيفة، ومؤلفاته وضعت أسس علم الفقه الإسلامي، وساعدت على قيام هذا الصرح العالي منذ العصور الغابرة إلى الوقت الحاضر.
وأكبر ما وصل إلينا من كتب محمد هو كتاب "الأصل" المعروف بالمبسوط، ثم كتاب "الجامع الصغير"، ثم كتاب "السير الصغير" وكتاب "السير الكبير" ومنها "الزيادات" وهذه الكتب الستة هي المعروفة بكتب "ظاهر الرواية" وتعتبر باقي كتبه غير ظاهر الرواية لورودها بطريق الآحاد، مثل: كتاب الحيل والمخارج، ومن كتبه التي تغلب عليها رواية الحديث كتاب الآثار، وروايته للموطأ، وكتاب الحجج في الإجماع على أهل المدينة. وقد اختصر الحاكم الشهيد المروري المتوفى سنة 334 في كتابه "الكافي" وقد شرحه جماعة منهم السرخسي، وهو المعروف بمبسوط السرخسي.
وأبو حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطى، من أصل فارسي، كان جده ممن أسر في فتح كابول، وجيء به إلى الكوفة وأعتقه مولاه تيم الله، وقد ولد(1/42)
سنة 81 على أرجح الأقوال وتوفي سنة 150 في السبعين من عمره وأمضى عمره الطويل في الدراسة والمحاضرات في الكوفة فجذبت إليه الناس يسألونه ويتلقون أراءه في البلاد المحيطة، ولم يقبل ولاية القضاء التي عرضها عليه والي الكوفة عمر بن هبيرة، وكذلك الخليفة المنصور، فعذب من أجل ذلك وسجن، ومات في سجنه، وكانت ينتسب إلى المذهب الماتريدي، وكان يرى أن العمل ليس بركن أصلي في الإيمان، ومن هنا رماه أهل الحديث والخوارج بالإرجاء.
10- ويعتبر الإمام مالك بن أنس إمام أهل الحجاز في عصره، كما اعتبر أبو حنيفة إمام أهل العراق كذلك. ولد في سنة 93 ومات سنة 179، وقد اشتغل بالفقه والحديث عند ربيعة الرأي، وروى عن الزهري وهشام بن عروة وغيرهم وقد زاره هارون الرشيد عند حجه، وطلب إليه الخليفة أن يضع للناس كتابا يحملهم عليه فقال له: "ضع هذا العلم ودون كتابا، وجنب شدائد ابن عمر ورخص ابن عباس وشواذ ابن مسعود، وافصد أوسط الأمور وما أجمع عليه الصحابة والأئمة" ولم تتم هذه البغية.
وكتاب مالك "الموطأ" يعد أول كتاب فقهي وصل إلينا -إذا ما استثنينا المجموع لزيد- ولا يمكن أن يعتبر أول كتاب كبير في الحديث، فلم يتخذه المتأخرون بجانب الكتب الستة، ولم يكن الغرض منه الإتيان بالأحاديث التي كانت موجودة في ذلك الوقت، وإنما كان الغرض عند مالك النظر في الفقه والقانون والعادة والعمل حسب الإجماع المدني.
وهذا الإجماع المدني "عمل أهل المدينة" هو أحد الأصول التي اتخذها مالك عند إثباته لعادة فقهية، يعتمد على أن هذه العادة تصور العادة أو الرأي المعتبر عند علماء المدينة على العموم "وهو ما أجمع عليه أهل بلدنا، والسنة التي لا اختلاف فيها عندنا" وأن تكون الحقيقة أن هذا الإجماع المدني قد يظهر مخالفا للعمل السائد والتعليم بالبلدان الأخرى، حتى إنه في المسائل(1/43)
التي يخالف فيها هذا الإجماع الحديث الصحيح عنده، يفضل الإجماع ويحتج به ويقدمه على خبر الواحد؛ لأن مخالفة أهل المدينة له دليل على نسخه.
وكلمة مالك في الموطأ "فيما نرى" تجرنا إلى ملاحظة لطريقة مالك، فقد كان يسود الرأي بأن مالكا ضد مدرسة العراق التي تقول بالرأي وأن مالكا يكره الرأي كما هو طابع مدرسة الحجاز، ولكنا بالنظر في الموطأ نرى أن مالكا قد استعمل فيه الرأي بكفاية، وأنه أبدى رأيه في الوقائع التي لا توجد فيها سنة مدنية أو إجماع مدني وأنه استعمل الرأي كثيرا حتى قيل إنه قد تعرق. سئل أحمد بن حنبل، حديث من تأخذ ورأي من تنظر فقال: حديث مالك ورأي مالك. ويقول مالك في الموطأ: "فيه حديث رسول الله وقول الصحابة والتابعين، وقد تكلمت برأي على الاجتهاد وعلى ما أدركت عليه أهل العلم ببلدنا ولم أخرج عن جملتهم إلى غيره.
فمن هذا يبتين لنا أن مالكا لم يكن محدثا. وأن الحديث عنده لم يكن المعتمد لديه، فمن جهة اتخذ العمل المدني حجة، وقدمه على الحديث عندما يختلفان ومن جهة أخرى عندما لا يوجد حديث مدني أو إجماع مدني يستعمل الرأي، فطريقته لم تكن طريقة أهل الحديث، وإنما كانت طريقة مشبعة بالرأي، حتى ليصح لنا أن نعده أقرب إلى أهل الرأي بالمدينة، فكان يشرح الأحاديث وينزلها على العمل المدني والمصالح المرسلة، وهي أشبه بطريقة أبي حنيفة التي كان يشرح فيها الأحاديث وينزلها على الحياة العملية في العراق والاستحسان الذي يطمئن إليه.
ولقد مثل مالك طورا من أطوار الفقه، في الوقت الذي لم يتكون فيه الفقه كعلم معتمد على الدليل، والغاية الأولى لأفكاره الفقهية إنما هي النفوذ إلى الحياة القانونية بأفكار دينية خلقية، وهي وجهة النظر التي سادت التفكير الإسلامي القديم في المسائل الفقهية، وهذه المواد التي لم تكن قد اتفقت بعد(1/44)
مع الدين تماما، لم تكن مواد ساذجة ولكنها عادات قانونية للمدينة، تمثل العادات العربية القديمة بوجه عام مما نشأ في محيط المعاملات، وقد ظهر بعضها لمالك كسنة، وبعضها مما اتفق عليه أهل المدينة، وليست هذه الغاية إلا إزالة لما قد يخالف الدين في هذه العادات من أي ناحية كانت، وإذا كان "تسليم" العادات حصل الأهم فيه قبل مالك، فقد ساعدت الأجيال على العمل على التنظيم للمسائل الفقهية ومن هنا كان عمل مالك قائما أولا وبالذات على التنظيم.
ولا يعد مالك مؤسسا لمدرسة فقهية بالمعنى الحقيقي، كالحال عند أبي حنيفة ويدل على هذا التسمية القديمة، أهل الحجاز وأهل العراق بإزاء تسمية غيرهم أصحاب الشافعي، فبعد أن أسست مدرسة شافعية حقيقية، مما يفهم منه عمل الشافعي الشخصي لتطور الفقه، أخذت الطريقتان العظيمتان، اللتان كان اختلافهما إقيليميا، يقيمان مدارس ثابتة على قمتهما، مالك وأبو حنيفة. ويرجع الفضل في نشأة المذهب المالكي إلى تلامذة الإمام مالك.
وقد أعطى مالك لعمل أهل المدينة أهمية كبيرة، وفي العصور الأخيرة لما تحرك المذهب المالكي إلى أفريقيا وإلى المغرب، تطور هذا الأصل منفصلا، وتطور إلى درجة لم يشاركه فيها المدارس الأخرى، حتى المدرسة المالكية في البلدان الأخرى، واهتم به المالكية المتأخرون أكثر من غيرهم، بالنسبة للظروف القائمة التي لم تسمح لالتزام النظريات الجامدة في مجال العمل، ورأوا أن الأفضل هو ضبط هذه العمليات بدلا من تركها تماما، وجعلوا حول الفقه طوقا محيطا به لحمايته بقدر الإمكان وعند الضرورة، وأقر المالكية المتأخرون أن العمل الفقهي أفضل من الرأي، ووضعوا عددا من التنظيمات، ليست معروفة في الفقه المالكي. وإذا كان متأخروا المالكية قد أدركوا مسألة العمل والعادات وجعلوا العمل هو القاعدة المحكمة، فقد(1/45)
بقيت المدارس الأخرى لا تعير العادات والعمل اهتمامها، والحقيقة أن العادة قد قدمت الكثير في تشكيل الفقه الإسلامي، ولكن النظريات الأولى اهتمت بالطرق الأساسية للفقه وتطورها، وليس بالتطور التاريخي الفقهي، وأغفل العلماء اعتبار العادة.
ومن أصول مالك المعروفة النظر في "المصالح المرسلة" وهي التي لم يقم دليل على اعتبارها أو إلغائها، وقد اعتد بها كذلك كثير من الفقهاء، وإن كان للمالكية اليد الطولى في الاعتماد عليها في التشريع والاجتهاد، قال ابن دقيق العبد: "الذي لا شك فيه أن لمالك تقدما على غيره من الأئمة في هذا النوع من الاستنباط ويليه في اعتبارها الإمام أحمد، ولا يكاد يخلو مذهب غيرهما من اعتبار هذا الأصل في الجملة. ولهذا الأصل أمثلة كثيرة، منها قضاء الصحابة بتضمين الصناع، ووجه المصلحة في ذلك أن الناس في حاجة شديدة إلى المصانع، والصناع يغيبون الأمتعة عن أعين أصحابها وليس من شأنهم الاحتياط في حفظها، فمن المصلحة القضاء بضمانهم. وإلى هذه القاعدة يستند مالك في إجازته سجن المتهم والسجن عذاب والأصل أن لا يعذب أحد لمجرد التهمة، ولكن الإمام مالك نظر إلى أن في سجن المتهم مصلحة إذا قويت التهمة وهي مصلحة الوصول إلى الحق، وقد حقق الباحثون في المصالح المرسلة أنها تجري في أبواب المعاملات، وتجنبوا إجراءها في أصول العبادات.
11- وإلى هذا الوقت لم تكن هناك أصول عامة وقواعد كلية يعتمد عليها وكل ما هناك أن كثرت المسائل الفقهية، وتكلم الناس في أصول الفقه استدلالا واعتراضا بوجه عام غير واضح، حتى جاء الإمام الشافعي، فنهض إلى إزالة هذا الغموض، وميز القواعد الفقهية فكان أول من أسس مدرسة ففهية تقوم على أصول وطرق متميزة، فإليه يرجع الفضل في أنه أوجد طريقة وأقام إصلاحا فقهيا، كانت الحاجة شديدة إليه، والبواعث ملجئة إلى قيامه.(1/46)
ففي هذا الوقت الذي أصبح فيه القياس أمرا لا يمكن الاستغناء عنه وعاملا هاما بواسطة أبي حنيفة، وصار من العسير إقصاؤه من الفقه، من أجل العلاقات العملية، فكان مركز أهل الحديث حرجا ضعيفا لا ينهض، فلم يجد الشافعي بدا من أن يفكر وسط هذا المأزق الحرج الذي مني به أهل الحديث إزاء أهل الرأي، فأخذ يرسم طريقة لاستعمال القياس الذي لا بد منه، بحيث لا يضر استعماله المنقول من الكتاب والسنة، فحدد من حريته الواسعة بواسطة الطرق والقواعد لاستعماله، كما نظر في الأمور الأخرى التي يستهدى بها في هذا السبيل. هذا هو الغرض الحقيقي والغاية التي استهدى بها الشافعي في علم أصول الفقه الذي عرف باسمه. وهذا هو عمله في "الرسالة" التي رسم فيها الطريق الجديد لهذا العلم. يقول الفخر الرازي: "كان الناس قبل الإمام الشافعي يتكلمون في مسائل أصول الفقه ويستدلون ويعرضون، ولكن ما كان لهم قانون كلي يرجعون إليه في معرفة دلائل الشريعة، وفي كيفية معارضاتها وترجيحاتها، فاستنبط الشافعي علم أصول الفقه، ووضع للخلق قانونا كليا يرجع إليه في معرفة آلة الشرع، فثبت أن نسبة الشافعي إلى علم الشرع كنسبة أرسطاليس إلى علم العقل "الانتقاء ص72".
وقد صنف الشافعي الرسالة ببغداد، ولما رجع إلى مصر أعاد تصنيف الرسالة وقد درس فيها مذاهب المتقدمين، وأثبت بعد الفحص والدرس هذه الطريقة التي ساوى فيها بين الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وأمكن له أن يضع مركزا وسطا بين أهل الرأي وأهل الحديث، ومن هنا تظهر لنا أهمية الرسالة من حيث إنها نقطة الانتقال التاريخية للفقه الإسلامي.
وخاصية الرسالة، أنها تتيح لنا إدراك طبيعة فكرته الفقهية وعناصرها، وأبرز ما فيها الدقة والجلاء، اللذان يحملان على مخالفة كثير مما كان مسلما به قبله، دون أن يضيق أفق تفكيره، وكان اتجاهه الذي جعله نصب عينيه هو(1/47)
تنظيم الفقه، فنراه يعمل على إيجاد تماسك بين الأحكام المنفردة، وتحاشي أي تناقض بين نتائجها الأخيرة، وهكذا كان للشافعي أعمق الأثر في تنشئة القياس وطريقته التي ظلت من مميزات الفقه.
وكانت فكرته الأساسية أقرب إلى طريقة المحدثين، حتى عرف عند أهل العراق بأنه ناصر الحديث، وقد رفض إجماع أهل المدينة وقول الصحابة، وأبطل الاستحسان الذي هو القياس بمعناه الواسع، والذي أخذ به الحنفية، كما رفض التعليل.
وتعاليم الشافعي تتناول عصرين: القول القديم "العراقي" والقول الجديد "المصري" وتظهر هاتان الناحيتان في كتاب "الأم" الذي رواه الربيع بن سليمان المرادي، وأبو يعقوب البويطي.
ولم يكن اختلاف الأقوال في القديم والجديد من أجل انتقاله من العراق إلى مصر وتقلبه في عادات جديدة، بل يرجع ذلك في الغالب إلى مرحلة النضوج الاجتهادي والتمحيص التي مر بها الإمام، ولزيادة البحث والاطلاع أكثر من أي شيء آخر.
ويتبين لنا مما سبق أن تعاليم الشافعي كان لها ناحيتان ناحية وافق عليها مبادئ أبي حنيفة. ووافقه على كون القياس مصدرا ما دام معتمدا على الكتاب والسنة والناحية الثانية عن طريقته هي الاهتمام بالحديث.
والشافعي قرشي ولد سنة 150 في غزة، وفي العشرين من عمره سافر إلى مالك بالمدينة وبقي عنده إلى موته سنة 179، وسافر إلى مصر سنة 188 حيث قوبل كتلميذ لمالك، وبعد تنقل رجع إلى مصر سنة 200 وعزم على البقاء بها وتوفي سنة 204.
12- ومن المذاهب المعاصرة مذهب الإمام أبي علي أحمد بن حنبل الشيباني تلميذ الإمام الشافعي. وقد عده جمهور الفقهاء مثل الطبري من(1/48)
المحدثين ولم يعدوه من الفقهاء ولكن كتابه "المسائل" يدل على فقهه، وهذا الكتاب يشتمل على أجوبة الإمام أحمد على مسائل وجهت إليه في كافة أبواب الفقه، كما يشتمل كتاب المدونة على أجوبة مالك بن أنس، وهو يسمح لنا أن نؤكد أن الإمام أحمد أراد أن يكون فقيها؛ لأنه كان يعلم مذهبا فقهيا مفصلا لا يقتصر على شرح الأحاديث، ولهذا ينبغي أن نعتبر مجموع أحاديثه الكبير المشهور بالمسند أنه مؤلف يضع فيه الإمام الأساس لمذهبه الفقهي. ولا يعني هذا أنه أسس المذهب السني السلفي في الفقه بنفس المعنى الذي أسس الشافعي مذهبه على مقتضاه؛ لأننا نجد قبله وبعده فقهاء عديدين ذوي صيغة سلفية، ومذهبهم مستقل عن مذهب أحمد.
وهناك مدارس أخرى عرفت في هذا العصر مثل مدرسة الأوزاعي المتوفى سنة 157 ومدرسة ابن جرير الطبري المتوفى سنة 303 وأبي ثور المتوفى سنة 240، عدا فقهاء آخرين ولكنه منذ سنة 700هـ تقريبا بقي من هذه المدارس الفقهية السنية أربعة فقط وهم مدرسة أبي حنيفة ومدرسة مالك ومدرسة الشافعي ومدرسة أحمد بن حنبل.
وقد انتشرت مدرسة أبي حنيفة في العراق وفي الشام، وانتشرت في أفغانستان والهند، وفي أواسط آسيا التركية، ووجدت قبولا عند الأمراء السلجوقيين الأتراك، وفي تركيا حيث اعترفت بها الدولة التركية مذهبا رسميا، حيث كان القاضي يعين من الحنفية، وفي مصر.
أما المذهب المالكي فقد انتشر من المدينة ومصر إلى الغرب في شمال أفريقيا وغربها. وكان منتشرا في الأندلس حيث غلب مذهب الأوزاعي هناك في وقت مبكر، وفي شرق البلاد العربية، وفي البلاد التي لم تأخذ بالمذهب الحنبلي أو الأباضي.
وبدأ المذهب الشافعي من القاهرة التي أمضى فيها الشافعي أيامه الأخيرة، وانتشر في الصعيد وفي الحجاز وفي جنوب بلاد العرب، حيث لا(1/49)
وجود للمذهب الزيدي وفي أغلب شرق أفريقيا. وهناك عدد قليل من الشافعية في العراق، وانتشر في القرون الوسطى في فارس، قبل أن ينتشر هناك مذهب الشيعة الاثنى عشرية، وهناك قليل في وسط آسيا، وأخذ بالمذهب كل المسلمين في أندونيسيا والملايو وباقي شرق وجنوب آسيا.
أما المذهب الحنبلي فلم يكن له مثل هذا النجاح كالمدارس الأخرى، ولكن كان له أتباعه في أجزاء من العالم الإسلامي ومن بينها فارس قبل أن تتشيع. ومركزه الرئيسي كان في العراق وطن ابن حنبل، وفي الشام، حيث نشط فيها الإمام ابن تيمية "المتوفى سنة 728" ولم تكن تعاليمه مثل تعاليم الإمام أحمد كلها على العموم، فقد كان من مجتهدي هذا المذهب ولم يكن مقلدا، وكان عصره عصرا لامعا في تاريخ هذه المدرسة.
ومنذ القرن الثامن الهجري، ركد المذهب الحنبلي ووقف امتداده، حتى جاءت حركة الوهابيين في القرن الثاني عشر وأعطت هذا المذهب حياة جديدة، وقد تأثر الإمام محمد بن عبد الوهاب مؤسس هذه الحركة "توفي سنة 1201" بالإمام ابن تيمية واعترف بالمذهب الحنبلي في جنوب بلاد العرب، وأهالي نجد وأصبح النصف الشرقي حنبليا، وبعض منهم في الخليج العربي وفي الهند. وكان المذهب الحنبلي هو المذهب الوحيد الذي بقي من الطرق السنية السلفية الكثيرة المصبوغة بالأخذ بالحديث قبل كل شيء.
وكانت علاقة هذه المذاهب علاقات متسامحة، وعلى وفاق وسلام، وذلك بفضل "الإجماع" الذي خفف من الاختلافات بينها.
13- وهكذا تم تكون الفقه في العصر العباسي، كما انتهى كذلك هذا التشكيل بقيام المدارس الفقهية، وكان الفقه قد بدأ يتجه إلى العمل، ولكنه لم يتم له ذلك، فإن إدارة الدولة والفقه انفصلا مرة أخرى، وشملت المبادئ الدينية والأخلاقية الفقه الإسلامي.(1/50)
ولقد كان الإجماع عنصرا كذلك في تضييق دائرة التطور والاجتهاد، فقد كان الناس من قبل يجتهدون رأيهم في الأحكام التي ينبغي أن تسود حياة المسلم، على أساس القرآن والعمل القائم في البلاد العربية والبلاد المفتوحة ولم تظهر مسألة من له الكفاءة في الاجتهاد، ومن له الحق فيه، فكان الباب مفتوحا لمن يهتم بهذا النظر، ولكن هذه الحرية أخذت تضيق شيئا فشيئا بسبب الإجماع البلدي ثم الإجماع العام، وبسبب ظهور مجموعة من الأحاديث في مكان هذه الآراء. وهكذا ضاق مجال "الرأي الفردي".
وبعد تكون الفقه وانتهاء ذلك برزت مسألة الاجتهاد ومن له الحق في هذا. وهذا الاتجاه الذي منع الفقهاء من حريتهم التي كان عليها سلفهم، نلاحظه في الإمام الشافعي، وفي منتصف القرن الثالث الهجري، بدأت هذه الفكرة، وهي أن هؤلاء الأكفاء لهم الحق في "الرأي الفردي" لا غيرهم. وهكذا أصبح الاجتهاد لا يرتبط بالرأي الشخصي، وتحدد بالاستنتاج من القرآن والسنة والإجماع والقياس. وكان الشافعي هو الذي ساعد على هذا التغيير بما قام به من تنظيم وضبط لهذه الأصول.
وعند القرن الرابع وصل الفقهاء إلى أن المسائل الضرورية قد بحثت ونوقشت واستقرت وأن إجماعا بأنه ليس لأحد الإمكان والقدرة الضرورية للرأي المستقل، وأن العمل في المستقبل مقصور على تفسير هذه المبادئ كما وضعت من قبل "وقفل باب الاجتهاد" وانتقل الأمر إلى طلب تقليد المذاهب الفقهية القائمة.
والواقع أن مسألة الإجماع على سد باب الاجتهاد لم يكن حقيقة ذاتية، وإنما كان بدعة جديدة وظاهرة للحالة النفسية التي سادت أهل السنة، ليدرءوا بها أخطارا كانت متوقعة من طغيان الفرق المنحرفة كالقرامطة والباطنية، فكانت تلك الفكرة دفاعية سياسية لحفظ كيان الإسلام، وكان ذلك خيرا، ساعد على احتفاظ هذا التراث بالاستقرار في الأجيال اللاحقة(1/51)
التي شاهدت الفوضى في التغييرات السياسية والاجتماعية.
والانتقال من الاجتهاد إلى التقليد كان تدريجيا، ويظهر ذلك من نظرية مراتب الاجتهاد، اجتهاد مطلق واجتهاد مذهبي، على أن قاعدة التقليد كما استقرت أخيرا يجب أن لا تكون تقليدا مأخوذا من القرآن والسنة والإجماع، وإنما تكون تقليدا مأخوذا من المذاهب التي أجمع عليها، وليس ذلك مأخوذا من شيوع هذه المذاهب القدامى، ولكن من هذه الكتب التي تحوي تعاليمهم التي ترجع إلى عصر متأخر، وهي من النتائج الحية لعلم الفقه.
وقد وجدت فكرة التقليد اعتراضا من جماعة من الفقهاء، الذين ادعوا أنه يوجد دائما مجتهد في كل عصر تنطبق عليه شروط الاجتهاد، وإن يكن ذلك بقي بالنسبة للفقه أمرا نظريا، فلم ينتجوا آراء مستقلة. وهناك بعض الفقهاء لم يدعوا لنفسهم الاجتهاد، ولكنهم رفضوا التقليد، وكان هذا هو أمر داود بن خلف الظاهري "المتوفى سنة 270هـ" ومؤسس المذهب الظاهري، وابن تومرت "المتوفى سنة 524" مؤسس حركة الموحدين، وابن تيمية "المتوفى سنة 728" الحنبلي الكبير، وتبعه تلميذه ابن قيم الجوزية "المتوفى سنة 751" فهؤلاء رأوا أنه لا يصح الاتباع الأعمى لأحد غير النبي في مسائل الدين والشرع. ورفض التقليد كان مبدأ للمذهب الظاهري، وإن يكن من الناحية العملية لم يترك لأتباعه حرية أكثر من أصحاب المدارس الأخرى.
ولم يدافع ابن تيمية عن فتح باب الاجتهاد، ولكن ادعى لنفسه الاجتهاد، ونظرا لفكرته عن الإجماع رفض التقليد، وفسر القرآن والحديث من جديد ليصل إلى نتائج جديدة في التشريع الإسلامي. والوهابيون الذين يمثلون الحنابلة في الوقت الحاضر قد تمسكوا بالمدرسة الحنبلية، وبكل نظريات ابن تيمية الفقهية ومن بينها رفض التقليد، ولكنهم تمسكوا في(1/52)
الوقت نفسه من غير تغيير بالفقه الحنبلي، كما كان في هذه المدرسة قبل ابن تيمية.
وقد تأثر بالوهابيين وسار في اتجاههم فقهاء ومدارس فكرية ممن رجعوا إلى الإسلام الأول، مثل حركة السلفية الذين يمكن تسميتهم "بالمصلحين" وغيرهم في القرن التاسع عشر، الذين أكدوا تجديد الإسلام بشرحه في ضوء الظروف الجديدة، والذين يمكن أن نسميهم "بالمجددين" وكلاهما يرفض التقليد القديم، وبعض هؤلاء المجددين أضافوا إلى ذلك دعواهم بالاجتهاد الجديد، الذي يمتد بعيدا عما كان عليه الاجتهاد في عصر الفقه القديم. وكلتا هاتين الحركتين لم تأت بجديد في مجال الفقه الإسلامي.
ومحاولة تجديد الشريعة على نمط القانون المدني في العصر الحاضر، لا تستوحي ذلك من النظر في شرعية الاجتهاد والتقليد، وإنما تستوحي هذا من المبادئ الاجتماعية والدستورية في العصر الحديث، وعن طريق نفوذ الحكام وقوتهم إزاء الأصوات المخالفة المحافظة، وليست نابعة في الواقع من حاجة المجتمع وحياة الناس.(1/53)
القضاء والحسبة:
القضاء:
القضاء هو منصب الفصل بين الناس في الخصومات حسما للتنازع وقطعا للتداعي. ثم دفع للقاضي بعد ذلك أمور أخرى على التدريج بحسب اشتغال الخلفاء والملوك بالسياسة الكبرى، واستقر منصب القضاء آخر الأمر على أنه يجمع مع الفصل بين الخصوم استيفاء بعض الحقوق العامة للمسلمين، مثل النظر في الوصايا والأوقاف، وصارت كل هذه وأمثالها من متعلقات وظيفته.
وكان الخلفاء في صدر الإسلام يباشرونه بأنفسهم ولا يجعلون القضاء في شيء إلى سواهم، ثم اضطروا إلى استخلاف أمر القضاء في الواقعات بين الناس إلى سواهم، تخفيفا لأنفسهم، فقلدوا القضاء لغيرهم وإن كان مما يتعلق بهم على طريق الاستنابة.
والقاضي حسب النظرية الإسلامية، هو الذي يفصل في كل الأمور، دينية أو دنيوية، وفي الجنايات والعقوبات وغيرها، ولكن هذا كان أمرا نظريا فحسب، والواقع فعلا هو أنه كان يوجد في الإسلام من قديم هيئة للقضاء مزدوجة، إحداهما دينية والأخرى دنيوية، فهذه المسائل المتعلقة بالدين تعلقا شديدا مثل الأحوال الشخصية والميراث والوقف وغيرها، كان يحكم فيها حسب الشريعة أمام القاضي الشرعي، أما غيرها من المسائل الأخرى، فكانت من اختصاص الوالي والسلطة الحاكمة، يحكم فيها بموجب السياسة دون مراجعة الأحكام الشرعية؛ وهكذا كان(1/57)
يقوم بجانب القضاء النظر في المظالم، وكانت المسألة الهامة دائما هي أيهما أقوى: سلطان القضاء الذي يمثله القاضي أم السلطة الدنيوية، على أنه لم يكن اختصاص كل من هذين محددا تحديدا دقيقا، وإنما كان يحكم الوالي في العادة، فيما كان يعجز عنه القاضي، ويظهر أن قضاء القضاة كان قديما، مقصورا على الخصومات والواقعات، أما القصاص والحدود، فكانت ترجع إلى الخلفاء وولاة الأمصار، فلم نعرف قاضيا ليس أميرا قضى بعقوبة من قصاص أو جلد، وكانت العقوبات التأديبية كالحبس، لا يأمر بها إلا الخليفة أو عامله، فكانت دائرة القاضي على العموم ضيقه، وأحيانا كان ينظر القاضي في أمور ليست داخلة في عمله، يقول ابن خلدون: "إنما كان للقاضي في عصر الخلفاء النظر في الأمور العامة لا باعتبار أنها داخلة في دائرة القضاء، ولكن لما يراه في القاضي من الكفاءة للقيام بها، ومن هنا كانت أمور القضاء كلها ليست موكولة إلى القاضي وحده، وأنشئت على مر الأيام هذه المحاكم الخاصة التي كانت تزاحم القاضي في بعض الأوقات، ونعني بذلك ولاية المظالم والحسبة"1.
والقضاء -كما يقول ابن خلدون- من الخطط الدينية الشرعية المندرجة تحت الإقامة الكبرى التي هي الخلافة، وكأنها الأم الكبيرة والأصل الجامع، فهو متفرع عنها وداخل فيها لعموم نظر الخلافة وتصرفها في سائر أحوال الملة الدينية والدنيوية وتنفيذ أحكام الشرع فيها على العموم، والقاضي نائب ممثل للخليفة أو الوالي الذي هو الرئيس الديني والدنيوي للدولة الإسلامية. وفي شخصه كل القوى الضرورية للحكم في حفظ الدين وسياسة الدنيا، فكل هذه الوظائف ومن ضمنها القضاء، إنما هي بالنيابة عنه مباشرة أو بطريق غير مباشر، أما في الدين فبمقتضى التكاليف الشرعية الذي هو مأمور بتبليغها وحمل الناس عليها، وأما سياسة الدنيا
__________
1 ابن خلدون: المقدمة ج2 ص397.(1/58)
فبمقتضى مصالحهم من العمران البشري والعمران ضروري للبشر ورعاية مصالحه كذلك.
-2-
ولم يكن عند العرب قبل الإسلام حكومة أو سلطة سياسية منتظمة، ولم يكن لهم بالتالي نظام قضائي منتظم. وإنما كانوا أمة بلا أرض محدودة وبلا سلطة سوى سلطة رؤساء القبائل، وكل ما كان عندهم هو العادات والتقاليد والأوضاع التي اصطلحوا عليها وكانوا يخضعون لسلطانها، ويمكن أن نميز من طرق الحكم عندهم هذه الأنواع:
1- نظام الحكومة: ولسنا ندري حقيقة هذه الحكومة، فكان بنو سهم هم أصحاب الحكومة في قريش في الجاهلية، وكانت الأسر الكبيرة في مكة تتقاسم بينها الأعمال الاجتماعية وأعمال الموسم في الحج كالسقاية والرفادة والحجابة، ويظهر أن بني سهم كانت لهم هذه الوظيفة، وهي تشبه القضاء في الخصومات التي قد تحصل في مكة في المواسم والأسواق التي تقام بها.
2- ومن ذلك الاحتكام، فقد كانوا يحتكمون في خصوماتهم إلى محكمين من الكهان والعرافين، والكاهن هو الرجل الذي يعتقد الناس أن له تابعا من الجن يطلعه على كل شيء، والعراف هو الذي يعرف الأمور عن طريق الفراسة والقرائن، وكذلك كانوا يحكمون القرعة كما كانوا يعتمدون على شهادة الشهود.
3- وكان عند العرب في الجاهلية النظام المعروف بالنظر في المظالم، وقد حدثنا الماوردي1 "أنه وقع خلاف بين العاصي بين وائل ورجل من زبيد
__________
1 نفس المصدر ص391.(1/59)
اشترى منه العاصي سلعة وماطله في الدفع، فلما عيل صبر الرجل جاهر بظلامته حول الكعبة بين رجال من قريش وقال:
يا للرجال لمظلوم بضاعته ... ببطن مكة نائي الحي والنفر
إن الحرام لمن تمت مكارمه ... ولا حرام لثوب الفاجر الغدر
واجتمعت قريش بدار عبد الله بن جدعان حيث تحالفوا على أن ينصروا الظالم من المظلوم، فسمي هذا الحلف حلف الفضول، وقد شهده النبي -صلى الله عليه وسلم- وأثنى عليه1.
ولم يكن عند العرب في الواقع منازعات كثيرة، فكانت منازعاتهم لا تتعدى شجارهم على المراعي أو مناهل الشرب أو منافراتهم على الرئاسة وتنافرهم في الشرف والثروة. فكانوا يحتكمون إلى حكم يحكم بينهم يتفقون على اختياره من أجل صفاته الشخصية المعروفة أو لمقامه الاجتماعي برجوعه إلى قبيلة أو عائلة معروفة في فض النزاع، وقد يختار هذا الحكم؛ لأنه معروف بقوة غير طبيعية في مثل الكاهن كما ذكرنا، فكانوا يرجعون إليه حكما في أكثر الأحيان, وقد قيل إن الكهان كانوا حكام الجاهلية, فإذا قبل الحكم الاحتكام في الدعوى، فعليهم أن يقدموا ضمينة أو مالا للتأمين على قبول الحكم، ويصبح حكمه في هذه الحالة نهائيا، وإن لم يكن له قوة التنفيذ بالقوة، ولكنه على كل حال يبقى تقريرا للحق في النزاع وقاعدة لما يستجد وما ينبغي أن يتبع في العادات القانونية، ويصبح عمل الحكم عمل صانع القانون، والسنن المتبعة التي طورها هؤلاء المحكمون كان وراءها قوة الرأي العام الذي يؤكد اتباعها. يقول اليعقوبي: "كان للعرب حكام ترجع إليهم في أمورها وتتحاكم في مناظراتها وموارثيها ومياهها ودمائها"2. لقد كان
__________
1 الماوردي: الأحكام السلطانية ص75.
2 اليعقوبي: تاريخ ج1 ص299.(1/60)
العرب يتمسكون بالتقاليد والسنن يقلدون آباءهم. وكانت هذه هي القاعدة الذهبية للعرب الذين كانوا يعيشون في خط ضيق وفي محيط لا يجدون مجالا للتجديد والإبداع. وفكرة هذه السنن صارت على جانب من الأهمية بالنسبة لتشكيل الفقه الإسلامي فيما بعد.
فمن هؤلاء المحكمين قاضي العرب قس بن ساعدة، وكان حكما لنصارى نجران، ومنهم عامر بن زريب العدواني، يقول ابن هشام: "كانت العرب لا يكون بينها ثائرة ولا عضلة ولا قضاء إلا أسندوا ذلك إليه ورضوا بما قضى به1. ومن هؤلاء الأقرع بن حابس، وكانت العرب تتيمن به وكان حكم العرب في الجاهلية حتى جاء الإسلام، وهم كذلك يصدرون عن رأيه2، ومنهم الكاهن الخراعي الذي كان حكما بين أمية بن عبد شمس وهاشم بن عبد مناف3. ومنهم أكثم بن صيفي، ومن هؤلاء النساء المحكمات عمرة بنت زريب، وروى ابن هشام أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان حكما بين قريش حينما اختلفوا فيمن يضع الحجر الأسود عند بناء الكعبة، فقالوا: يا معشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم، فكان أول واحد رسول الله4، وهكذا كان "التحكيم" هو طريقة الفصل في المنازعات في الجاهلية.
-3-
وقد بعض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مكة، فلبث فيها زهاء ثلاث عشرة سنة يدعو الناس إلى الإسلام، وكانت الدعوة في هذه الفترة تدور حول العنصر الأساسي للدين وهو الإيمان بالله وحده ونبذ عبادة الأوثان، وما لا ينفصل عن
__________
1 ابن هشام: السيرة ج1 ص77.
2 نقائض جرير 438.
3 الأبشهي: المستطرف ج2 ص73.
4 ابن هشام: السيرة ج1 ص132.(1/61)
ذلك من البعث والإيمان باليوم الآخر وغير ذلك من النواحي الاعتقادية والأخلاقية، ولم يتبعه إلا ناس قليلون، وسارت الدعوة في ظروف غير مواتية، ثم هاجر الرسول إلى المدينة وفيها أسس الأمة الإسلامية، وتحولت الدعوة إلى طريق يتناسب مع هذه الأمة الجديدة، وبعد أن كانت الدعوة دينية فقط، اتخذت ثوبا سياسيا تشريعيا زيادة على ذلك، وما دام الإسلام هو الرابطة التي تربط الأمة، وما دام الرسول هو الممثل لله تعالى في الأرض يبلغ أوامره ويبينها للناس، كان الله هو المرجع في كل الأمور وكل المسائل، سواء أكانت دينية أم دنيوية إنما يبينها الرسول، وهكذا كانت مسائل السياسة والتشريع كغيرها من المسائل الدينية، فكان الرسول في المدينة يبلغ عن الله أوامره ومفتيا يفتي في المسائل بما يجده من الأدلة، وكان إماما يصرف أمور السياسة العامة، وكان حكما يفصل في الخصومات، وهكذا تركزت فيه، عدا صفة الرسالة والنبوة، السلطة السياسية والتشريعية والقضائية، كما كانت بيده قوة التنفيذ. وقد جاء في الحلف الذي عقده الرسول بين الناس في المدينة أول ما قدم إليها "وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد رسول الله"1.
ولم يستصحب الرسول معه إلى المدينة قانونا، فإن العرب أسلموا بينما كانوا يعيشون حسب عوائدهم الأولى، ولم يكن هناك ما يدعوا إلى تغيير العادات القائمة أو إيجاد قاعدة جديدة، وإنما أخذت هذه العادات تتطور وتتغير حسب عوائد الدين الجديد. وكان هدف الرسول هو تعليم الناس كيف يفعلون وما يجب عليهم من عمل وما ينبغي تركه حتى يجدوا جزاءهم في اليوم الآخر، وبهذا كان نظام واجبات للإسلام يجمع بين العبادات والقوانين والنظم الخلقية على السواء حتى لو اتبع الناس هذه القواعد
__________
1 حميد الله: الوثائق السياسية ص6، ابن هشام ص341-344.(1/62)
الخلقية لما بقي هناك مكان للقانون، وتجد هذه الفكرة آثارها في فكرة "العفو"، ولكن الأوضاع هي التي ألزمت الرجوع إلى القواعد القانونية.
وقد بقيت الطريقة الخاصة في القضاء وهي "التحكيم1" التي كانت مستعملة قبل الإسلام، فكان الرسول "حكما يحكم بين الناس في المنازعات حسب الطريقة العربية الأولى، وقد جاءت آيات القرآن الكريم بهذا، يقول الله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} . ويقول تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} 2. ويقول تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} 3 وهكذا كان يقضي النبي حكما بين الناس كما يصرح بهذا القرآن الكريم في عمل الرسول القضائي حيث كان يستعمل دائما لفظ "حكم" ولم يستعمل لفظ "قضى" ثم تطور هذا إلى القضاء حيث يقول تعالى: {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ} وكان هذا الاستعمال الأخير إيذانا بمبدأ جديد بدأ به استعمال كلمة "القضاء" في الإسلام، وإن الرسول كان بهذا المعنى أول قاض في الإسلام. وكان قضاؤه حكما مؤيدا بوصفه نبيا وبقوته السياسية والحربية التي زادت من قوته كحكم، وكان للمتخاصمين حق اختياره للاحتكام إليه، وكان له حق القبول، كما وضحت ذلك الآيات {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ} ".
وقضاء الرسول كان عن طريق الوحي أو عن طريق الاجتهاد،
__________
1 جاء عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت في بيته للتحكيم واستعظم زيد ذلك مقال عمر "من بيته يؤتى الحكم" السرخسي المبسوط ج16 ص74.
2 سورة النساء آية 64.
3 سورة المائدة آية 68.(1/63)
حسب ما يظهر عنه من الحجاج، يقول عليه السلام: "إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر مثلكم ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، وإنما أنا أقضي بينكم على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار" 1 فكان يقضي وفق الأدلة التي تثبت الدعوى وعلى نحو ما يسمعه من الخصمين وما يقيمونه من البينات وما يلفظونه من الإيمان، ولم يأخذ في صحة حكمه أن يكون ذلك صادقا مطابقا للواقع متوخيا في حكمه أن لا يكون مخالفا للدين أو مبادئ الأخلاق.
وقد جاءت الروايات أنه عليه السلام استقضى بعض الصحابة، منهم عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل وأبو موسى الأشعري2.
روي أن رسول الله حين بعث عليا إلى اليمن عاملا عليها أقطعه القضاء، وفي رواية بعث رسول الله عليا إلى اليمن يعلمهم الشرائع ويقضي بينهم، وفي حديث "أقضى أمتي علي". وكذلك ما جاء من أن رسول الله بعث معاذ بن جبل إلى اليمن فقال له: "كيف تقضي إن عرض لك القضاء". قال: أقضي بما في كتاب الله، قال: "فإن لم يكن ذلك في كتاب الله"، قال: أقضي بسنة رسول الله، قال: "فإن لم يكن في سنة رسول الله"، قال: أجتهد رأيي ولا آلو، قال: فضرب رسول الله صدره وقال: "الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله بما يرضي رسول الله". وروي أيضا أن رسول الله وجه أبا موسى الأشعري إلى اليمن فقيل أميرا وقيل قاضيا، وفي رواية أنه بعثه على نصف اليمن وبعث معاذا على النصف الآخر.
وقد اختلف الرواة في طبيعة بعثاتهم على وجه التحديد، فبعضهم
__________
1 كنز العمال ج3 ص208.
2 وكيع: أخبار القضاة ج1 ص84-102.(1/64)
يرى أنها كانت للولاية والإمارة، وبعض يرى أنها للصلاة وتعليم الناس، ويمكن أن نستنتج من هذا كله أن القضاء كغيره من أعمال الدولة ووظائفها لم يكن موجودا على وجه واضح محدد، وكل ما هناك أن كل ذلك كان عبارة عن تولية هؤلاء نيابة عن الرسول في أمور خاصة بشئون الأمة كالإمارة على الجيش أو العمل على جباية المال أو الإمامة للصلاة وتعليم القرآن ولم يبعثهم قضاة وإنما كان ذلك على وجه التبع.
كان القرن الهجري الأول أهم حقبة في تاريخ الإسلام من ناحية التشريع، بالرغم مما يحيطه من غموض. حيث بدأ المجتمع الإسلامي يحدد وجوه نظامه التشريعي، وتدل الأدلة على أن طريقة التحكيم والأخذ بالعادات العربية بوجه عام، استمرت مع بعض التغيير ووفقا للقرآن الكريم عند الخلفاء الراشدين بالمدينة "632-661"، وكان هؤلاء الخلفاء هم القادة سياسيا بعد وفاة الرسول، وإن لم يكونوا المحكمين الأول للناس، حيث كان بعضهم يلجأ في التحكيم إلى قرابة الرسول من قريش، وكانوا إلى حد كبير مشرعين ومديرين، فلم يكن هناك فرق بين الإدارة والتشريع، فكانوا يباشرون كل هذه الأمور بأنفسهم، ومن ذلك القضاء، فكانوا يحكمون في الخصومات بين الناس، ولم يثبت أنهم استقضوا قضاة، وإنما كانوا يعهدون إلى بعض الصحابة أن يقضي ويفصل في بعض الأحيان عندما تزيد عليهم شئون الأمة، وقد جاءت روايات على أنهم كانوا ولاة استخلفوهم وكانوا مثل الخلفاء يباشرون كل الأعمال من قضاء وغيره، وما جاء من أنهم استقضوا قضاة فإن ذلك كان على وجه التبع لأمور أخرى، قال مالك: "ما استقضى أبو بكر ولا عمر قاضيا، وما كان ينظر في أمور الناس غيرهم" وقال: "أول من اتخذ قاضيا، معاوية بن أبي سفيان، وكان الخلفاء يباشرون كل شيء من أمور الناس بأنفسهم" وعن الزهري "ما اتخذ رسول الله قاضيا ولا أبو بكر ولا عمر حتى قال عمر ليزيد ابن أخت النمر: اكفني بعض الأمور يعني صغارها" وجاء أيضا أن عمر(1/65)
كان يستخلف زيد بن ثابت إذا خرج إلى شيء من الأسفار1.
ونخلص من تحقيق هذه الروايات بهذه الحقيقة، وهي أن الخلفاء في المدينة كانوا يباشرون القضاء بأنفسهم وأنهم لم يكن لهم قضاة ولم تقم في هذا العهد إدارة قضائية.
وهنا لا يسعنا إلا أن ننوه بهذه الرسالة القضائية التي أرسلها عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري الوالي بالبصرة، يحدث سعيد بن أبي بردة، وكان أبو موسى قد أوصى إلى أبي بردة برسائله، فيقول في كتاب منها: "أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة، فافهم إذا أدلي إليك. فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له, وآس بين الاثنين في مجلسك ووجهك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا يخاف ضعيف من جورك، الفهم الفهم فيما يتلجلج في صدرك ويشكل عليك ما لم ينزل في الكتاب ولم تجر به سنة، واعرف الأشباه والأمثال، ثم قس الأمور بعضها ببعض فانظر أقربها إلى الله وأشبهها بالحق فاتبعه واعمد إليه، لا يمنعك قضاء قضيته بالأمس راجعت فيه نفسك وهديت فيه لرشدك. فإن مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل، المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا أو مجربا عليه شهادة زور، أو ظنينا في ولاء أو قرابة، واجعل لمن ادعى حقا غائبا أمدا ينتهي إليه، أو بينة عادلة فإنه أثبت للحجة وأبلغ في العذر، فإن أحضر بينة على ذلك الأجل أخذ بحقه. وإلا وجهت عليه القضاء. البينة على من ادعى واليمين على من أنكر، إن الله تعالى تولى منكم السرائر ودرأ عنكم الشبهات وإياك والغلق والضجر والتأذي بالبأس والتنكر للخصم في مجالس القضاء التي يوجب الله فيها الأجر، ويحسن منها الذخر. من حسنت نيته وخلصت فيما بينه وبين الله كفاه الله ما بينه وبين الناس، والصلح جائز فيما بين الناس إلا ما أحل حراما أو حرم حلالا، ومن تزين للناس بما يعلم الله منه غير
__________
1 وكيع: نفس المصدر ج1 ص105، 110.(1/66)
ذلك شأنه الله، فما ظنك بثواب غير الله في عاجل دنيا وآجل آخره والسلام".
وقد روى ابن القيم في "أعلام الموقعين هذا الكتاب عن أبي عبيد، ثم قال في نهاية الرواية: قال أبو عبيد: فقولك لكثير: "الذي روى عنه أبو عبيد" هل أسنده جعفر؟ قال: لا. ثم قال ابن القيم: وهذا الكتاب جليل القدر وتلقاه العلماء بالقبول وبنوا عليه أصول الحكم والشهادة والكتاب مروي في البيان والتبيين للجاحظ، وعيون الأخبار لابن قتيبة، والكامل للمبرد، والأحكام السلطانية للماوردي، والمقدمة لابن خلدون، وأخبار القضاة توقيع بألفاظ مختلفة. وقد تولى تفسيره ابن القيم، وأعلام الموقعين لابن القيم يكاد يكون كتابا موضوعا لشرح كتاب عمر1.
وقد شك بعض العلماء مثل ابن حزم في هذه الرسالة وأنكر بعضهم نسبتها لعمر من ناحية ما تحويه من اصطلاحات فقهية لم تظهر في عهد عمر، ولكنها وليدة القرن الثالث، وعلى العموم فقد كان هذا الكتاب موضع دراسة لكثير من العلماء وخاصة المستشرقين مثل مرجوبيوت وهامر وغيرهما الذين شكوا في صحتها.
وقد أفاض السرخسي في كتاب المبسوط في شرح هذه الرسالة وبيان ما فيها من تشريع وقواعد في القضاء. كما فعل ذلك ابن القيم في كتاب أعلام الموقعين، وغيره من الفقهاء والمؤرخين مثل ابن خلدون، مما يجعل التشكيك في صحتها عند التحقيق محل نظر2.
__________
1 وكيع في أخبار القضاة ج1 ص70.
2 الماوردي الأحكام السلطانية ص63، السرخسي في المبسوط ج16.(1/67)
-4-
ثم جاء بعد الخلفاء بالمدينة الأمويون بدمشق، وخطوا هم وولاتهم الخطوة الأولى في تعيين القضاة, الأمر الذي دعت إليه حالة المجتمع الجديد نتيجة اتساع الرقعة الإسلامية بالفتوح العربية، وفي هذا المجتمع الجديد لم يعد التحكيم كافيا، فاستبدلوا الحكم بالقاضي، وكان أمرا طبيعيا أن يأخذ القاضي مكان الحكم، فكانت السلطات القضائية والإدارية منوطة بالوالي الذي كان يعين القضاة، وكان القاضي نائبا له واحتفظ الوالي بحقه في عزله. وكان قضاء القاضي مقصورا على المسلمين وحدهم، أما غيرهم من الرعايا فقد احتفظوا بتقاليدهم الدينية والقضائية.
وقد وضع هؤلاء القضاة الأول في الإسلام الأسس الأولى للفقه الإسلامي، وليس لدينا شيء كثير عن الأصول التي اعتمدوا عليها، وكانوا يحكمون حسب رأيهم على أساس العرف المعمول به والقواعد الإدارية، مع نصوص القرآن وروحه والقواعد الدينية المعترف بها بقدر الإمكان، وهذه العادات العملية التي يرجعون إليها هي عرف الجماعة التي يقضون فيها أو العرف الذي حملوه من بلادهم، ومن هنا كان يحصل الاختلاف في العرف والقضاء، وإن يكن ذلك لم يأت بنظريات جديدة. وكان عملهم هو التسليم بما وجدوه من العادات وجعله متفقا مع الإسلام. وبقي مركز القاضي مركزا إسلاميا مع مركز الإدارة الأموية، في الاتجاه إلى التسليم لهذه العادات القديمة، والذي يظهر من تطورات الفقه الإسلامي أن الدور الذي قام به القضاة الأول في وضع حجر الأساس للفقه الإسلامي، لم يتميز عن الأصول النظرية التي سادت أخيرا.
وفي حدود القرن الأول أصبح تعيين القضاة من غير المتخصصين تخصصا فنيا، ولكن من أولئك الأشخاص المهتمين بالموضوعات التي يعنون بها في تفكيرهم الخاص، أو في مناقشاتهم العامة، وفي قدرتهم على معرفة(1/68)
مدى موافقة العادات للقرآن والقواعد الدينية، وهؤلاء القضاة الأتقياء هم الذين مهدوا برأيهم الشخصي طريق الحياة الإسلامية، فقد حملوا الفقه والتشريع الأفكار الدينية والأخلاقية وأخضعوه لمبادئ الدين، وقد حققوا بهذا العمل في مجال واسع بتفصيل ما حققه الرسول بالقرآن بالنسبة للمجتمع الإسلامي الأول بالمدينة، وكان من نتيجة هذا أن العمل الإداري والشرعي في أواخر العصر الأموي انتقل إلى الفقه الديني، وترجمت المبادئ المثالية إلى العمل الواقعي، وهكذا تطور الفقه بجهد هؤلاء الأتقياء ووراءهم القضاة والولاة تعبيرا عن المثل الدينية، وترجمت هذه الأعمال الإدارية للأمويين وأدخلت في الفقه الإسلامي، وبقي للأجيال بعد ذلك نقل ذلك إلى مجال العمل1.
كان مما فعله العباسيون الأول هو ربط وظيفة القاضي بالشريعة دائما. وكان الأمويون قد مهدوا لذلك، ولكنه عند العباسيين أصبح قاعدة ثابتة حيث يكون القاضي فقيها متخصصا. ولم يبق مجرد عامل فقيه للحاكم، بل كانت الدولة هي التي تعينه ويبقى من يوم تعيينه إلى تخليه، لا يرجع إلى شيء غير الفقه من غير أن يكون للجهة الإدارية في الدولة تدخل فيه، وإن يكن هذا الاستقلال نظريا، فلم يسمح بعد لقيام جهاز مستقل، ولكنه كان مرتبطا بالسلطة السياسية لإصدار حكمه.
وقد كان هذا بالنسبة للقضايا الجنائية، فأثناء العصر الأموي عندما كان القاضي أمينا قضائيا للحاكم، فإنه أو الوالي كان يقوم بالقضاء فيما يعرض عليه من الجنايات في نطاق الإدارة المسئولة، أما في عصر العباسيين، فقد كان منصب القاضي منفصلا عن الإدارة العامة وأصبح مرتبطا بالشريعة، ولما كان من غير الممكن للقاضي النظر في الإجراءات القضائية والإشهاد في الإثبات الجنائي، فإن السلطة السياسية خطت خطوة جديدة ونقلت جزءا كبيرا من الجنائيات إلى "الشرطة" وبقي ذلك خارجا(1/69)
عن نطاق الفقه، ومع كل ذلك فقد بقي منصب القاضي في مرحلته الأخيرة، من النظم الهامة في المجتمع الإسلامي.
وقد أدى الاتجاه إلى تركيز القضاء في العصر العباسي الأول إلى إنشاء مركز "قاضي القضاة" وقد كان في الأصل مركزا شرفيا أعطي للقاضي بعاصمة الدولة، فكان الخلفاء يستشيرونه في تعيين القضاة في الأمصار وعزلهم، وكان القاضي أبو يوسف قاضي الرشيد، هو أول من أطلق عليه هذا اللقب، وكان الخليفة يستشيره أيضا في المسائل المالية وأمثالها، ويرى بعضهم أن هذا المركز استعير من الفرس "موبذان موبذ"، وكان هذا المنصب وراثيا في بعض العصور، ففي القرن الثالث والرابع تقلد القضاء ثمانية قضاة من بغداد من أسرة أبي الشوارب، وظل بنو أبي بردة يتقلدون قضاء القضاء بفارس أجيالا كثيرة، وتوارث هذا المنصب في عهد الفاطميين آل النعمان وقد كان يحيى بن أكثم قاضي المأمون يمتحن القضاة قبل تعيينهم1.
ومنذ عهد الخليفة المنصور، ظهر ما يلفت النظر في النظام القضائي، وهو إيجاد جماعة من الشهود الدائمين أمام القاضي، يقول الكندي في ذلك: كان القضاة إذا شهد عندهم أحد وكان معروفا بالسلامة، قبله القاضي، وإن كان غير معروف بها أوقف، وإن كان الشاهد مجهولا لا يعرف، سئل عنه جيرانه، فما ذكروه من خير أو شر عمل به، حتى كان غوث بن سليمان في خلافة المنصور، فكان أول من سأل عن الشهود بمصر في السر، وكان سبب ذلك كثرة شهادة الزور في زمن غوث، وكان من عدل عنده قبله، ثم يعود الشاهد واحدا من الناس ولم يكن أحد يوسم بالشهادة ولا يشار إليه بها. ثم جاء القاضي العمري على قضاء مصر من قبل الرشيد، فاتخذ الشهود وجعل أسماءهم في كتاب، وهو
__________
1 المنتظم.(1/70)
أول من قبل ذلك ودونهم وأسقط سائر الناس، ثم فعلت القضاة ذلك بعده حتى اليوم1.
ويقول قدامة بن جعفر في كتاب الخراج: "إن التثبت في شهادة الشهود والمبالغة في المسألة عنهم والفحص عن وجوه عدالتهم والبحث عن حالتهم من أهم واجبات القاضي" وفي القرن الرابع الهجري نجد الشهود قد أصبحوا نوعا من العمال الثابتين بعد أن كانوا في أول الأمر من حاشية القضاة الأمناء يجلس في مكان لا يمنع أحد من المسلمين من الدخول إليه وهو المسجد الجامع حيث كان يجلس مستندا إلى أسطوانة من أساطين المسجد، وكذلك كان القاضي يجلس في داره، وقد خاصم المأمون رجلا مرة وأذن المأمون القاضي يحيى بن أكتم في القضاء بينهما في دار الخلافة، وكان القاضي يلبس السواد على هيئة عمال بني العباس، وكان المفضل بن فضالة قاضي مصر من قبل المهدي يعتم العمامة السوداء على قلنسوة طويلة، وكانت القلنسوة هي لباس القضاة التي يميزهم وكانت تلبس مع الطيلسان2.
وتصرفات القاضي كما أوردها الماوردي، تشمل ما يأتي:
1- فصل المنازعات وقطع التشاجر والخصومات.
2- استيفاء الحقوق وإيصالها إلى مستحقيها.
3- ثبوت الولاية على من كان ممنوع التصرف.
4- النظر في الأوقاف.
5- تنفيذ الوصايا.
6- تزويج الأيامى بالأكفاء إذا عد من الأولياء.
7- إقامة الحدود على مستحقيها.
8- النظر في مصالح عمله من الكف عن التعدي في الطرقات والأبنية.
9- تصفح شهوده وأمنائه واختيار النائبين عنه3.
__________
1 الكندي، نفس المصدر 361، 385.
2 الماوردي ص67، الكندي، الولاة والقضاء ص378.
3 السرخسي نفس المصدر ج1 ص60.(1/71)
وهذا إذا كانت ولايته عامة، أما إذا كانت خاصة، فإنها تكون مقصورة على خصوصها ولا يجوز له أن يتعداها، ومثل ذلك من قلد الحكم في داره أو مسجده وهو ما يسمونه قاضي المسجد الذي كان لا يتعدى موضعه ويحكم فيما قدر له من القضايا الصغيرة، وربما أضيفت للقاضي أمور أخرى كالحسبة، وكثيرا ما كان يستفتى في المسائل الشرعية أو يطلب إليه الخليفة التصبح في مسائل تتعلق بالدولة أو المصلحة العامة.
وقد استوفى عمر بن الخطاب شروط القضاء وتقليده في رسالته إلى أبي موسى الأشعري. وأحصاها الماوردي في سبعة شروط: 1- أن يكون رجلا وهذا الشرط يجمع بين شرطين: البلوغ والذكورة، ويرى أبو حنيفة أن تقضي المرأة فيما تصح فيه شهادتها. 2- العقل، والمقصود به أن يكون جيد الفطنة يتوصل بذكائه إلى إيضاح ما يشكل. 3- الحرية والرفق بمنع قبول الشهادة وأولى أن يمنع من القضاء. 4- الإسلام ولا يجوز أن يقلد الكافر القضاء على المسلمين ويجوز تقليده القضاء بين أهل دينه. 5- العدالة وهي أن يكون ظاهر الأمانة عفيفا بعيدا عن الريب. 6- السلامة في السمع والبصر ليصح بهما إثبات الحقوق. 7- أن يكون عالما بالأحكام الشرعية أصولها وفروعها، وإذا أحاط علمه بالأصول الأربعة في أحكام الشريعة: وهي القرآن والسنة والإجماع والقياس، صار بهذا من أهل الاجتهاد وجاز له أن يفتي ويقضي. وإن أخل بها خرج من أن يكون من أهل الاجتهاد، فلم يجز له أن يفتي ولا أن يقضي1.
وقد شرح السرخسي بإفاضة كتاب عمر بن الخطاب الذي يسمى عند الناس "سياسة القضاء" في فصل عن أدب القاضي في كتابه المبسوط. وناقش فيه آداب القضاء وشروطه وآراء الفقهاء في مسائل كثيرة مفيدة في هذا الموضوع2.
__________
1 نفس المصدر ص61.
2 السرخسي نفس المصدر ج1 ص60.(1/72)
وكانت تقوم بجانب القضاء العادي الذي يفصل بين الخصوم محكمة أخرى أعلى من ذلك هي "محكمة النظر في المظالم"، يقع بها إنصاف المظلوم من الظالم وخلاص المحق من المبطل ونصرة الضعيف على القوي وإقامة قوانين العدل. وطبيعة هذه المحكمة أنها وظيفة ممتزجة من سطوة السلطنة ونصفة القضاء وتحتاج إلى علو يد وعظيم هيبة، وقد تطورت من الاستقرار الفقهي الذي يلتزم به القاضي، والطريقة المثالية للشريعة التي احتفظ بها القاضي، والتمسك بالإجراءات الفقهية والأدلة حسب التفسير الفقهي، وكذلك من عجز القضاة في ضمان العدل بين الناس، فقضى الأمر إلى قود المتظالمين إلى التناصف بالرهبة، وزجر المتنازعين عن التجاحد بالهيبة.
وهكذا يختص نظر المظالم على ما يأتي: 1- النظر في تعدي الولاة على الرعية، وجور العمال فيما يجبونه من الأموال واستيفاء كتاب الدواوين أموالهم. 2- تظلم المرتزقة من نقص أرزاقهم أو تأخرها عنهم. 3- رد الغصوب التي قد يتغلب عليها ولاة الجور، وما تغلب عليها ذوو الأيدي القوية وتصرفوا فيها تصرف الملاك بالقهر والغلبة. 4- تنفيذ ما وقف القضاة من الأحكام لضعفهم عن إنفاذها وعجزهم عن المحكوم عليه لعلو يده وعظم خطره. 5- النظر بين المتشاجرين والحكم بين المتنازعين حتى لا يخرج عن موجب الحق ومقتضاه ولا يسوغ أن يحكم بينهم إلا بما يحكم به الحكام والقضاة1.
فناظر المظالم يجب أن يكون له من السلطان على كل أحد وفي كل أمر بمكانه، حتى لا ينازعه أحد، ولا يكون هذا إلا لأمير أو سلطان، وحكم الملك أو السلطان إنما يجري على ما تقتضيه طبيعة العمران، ويحكم بموجب السياسة دون مراجعة الأحكام الشرعية، ونظر المظالم -كما يقول الماوردي-
__________
1 الماوردي ص76.(1/73)
يخرج من ضيق الوجوب إلى سعة الجواز فيكون الناظر فيه أفسح مجالا وأوسع مقالا، وبهذا يتبين لنا أن طبيعة ناظر المظالم متحررة من القيود بخلاف القاضي؛ لأن نظر المظالم موضوع على الأصلح وعلى الجائز دون الواجب1.
وكان من نتيجة هذا كله هي الإدارة القضائية المزدوجة، إدارة دينية على أساس الشريعة، وهي إدارة القضاء، والإدارة الأخرى إدارة مدنية يقوم بها السلطان والحكام السياسيون على أساس العرف والعدل والتحكيم، وهي النظر في المظالم، وهي غير مقيدة بالقواعد الفقهية القضائية، ويكون نظرها في البينات والتعزيز واعتماد الأمارات والقرائن، وتأخير الحكم إلى استجلاء الحق، وحمل الخصمين على الأصلح، واستحلاف الشهود، وذلك كله أوسع من نظر القاضي.
وفي أثناء العصر الأموي، كان القاضي أمينا شرعيا للحكام. وكان يباشر الجرائم التي تدخل في الإدارة العامة للحكام، وعندما جاء العباسيون انفصل منصب القضاء عن الإدارة العامة وأصبح مرتبطا بالفقه الإسلامي في جوهره وفي إجراءاته، فكان لا يمكن للقاضي أن يعتمد على قواعد الشهود الشكلية في الجرائم وأصبح عدم قدرته على توليها واضحا، ومن أجل هذا خطت السلطة السياسية خطوة جديدة وحولت إدارة الجرائم إلى "الشرطة" وبقيت خارجة عن المجال العلمي للشريعة، يقول ابن خلدون: "والشرطة وظيفة دينية يوسع فيها النظر عن أحكام القضاء قليلا فيجعل للتهمة في الحكم مجالا ويفرض العقوبات الزاجرة قبل ثبوت الجرائم ويقيم الحدود الثابتة في محلها ويحكم في القيود والقصاص ويقيم التعزيز والتأديب
__________
1 نفس المصدر ص79.(1/74)
في حق من لم ينته إلى الجريمة يحكم فيها بموجب السياسة دون مراجعة الأحكام الشرعية.
وهكذا خرجت كل التنظيمات من شرطة وحدود من يد القاضي في العصر العباسي الأول، وسلطة الحاكم التي تمكنه من تطبيق الشريعة ولو نظريا وتنظيمها عمليا بالتشريع في هذه الأمور، كل ما خرج من نطاق القضاء سمي أخيرا "سياسة" التي هي تعبير عن القوة القضائية التي احتفظ بها السلطان منذ العصر الأموي والتي يستعملها إذا أراد ذلك.
والسياسة تعني كل الأمور الإدارية العادلة التي يستعملها الحاكم وولاته إزاء الطريقة المثالية للشريعة التي يستعملها القاضي، وأحيانا ما تمس السياسة النظر في المظالم وأحيانا ما تدلان على معنى واحد، وعلى القاضي أن يتبع التعليمات من قبل الحاكم باستعمال سلطته السياسية في حدود الشريعة "السياسة الشرعية".
وفي الواقع أنه إلى الوقت الحاضر ما أدى إلى التجديد في التشريع إلا التدخل البعيد في الشريعة الإسلامية، وأن الحكام رضوا بالتشريع في مسائل خارج سلطان القاضي، وأهم مثال لهذا النوع من الفقه المدني كان في السياسة عند المماليك بمصر، وكانوا يسمون ذلك "ياسة" التي ترجع إلى طبقة العسكريين الحاكمة وكذلك "قانون نامة" عند العثمانيين.
ونتيجة هذا كله هو اثنينية القضاء وازدواجه، ديني يستعمله القاضي على أساس الشريعة، والآخر مدني تستعمله السلطة السياسية على أساس العرف والعدالة.
لقد كان الفقه حتى أوائل العصر العباسي عمليا متقدما، ولكنه توقف بعد ذلك بعد انفصال إدارة الدولة عن الفقه، فساد الجمود في الفقه(1/75)
بعد أن توقف عن الحياة العملية. وقد ساعد هذا الجمود والتوقف على استقرار في القرون التالية التي تأخر فيها النظام السياسي في الإسلام، وكان التغيير الذي تم بالنسبة للنظريات الفقهية أكثر من الفقه الإيجابي.
وجملة القول فإن الفقه كان مظهرا للمجتمع في هذا العصر، ولكنه بتطور المجتمع والدولة، أصبح يتباعد شيئا عن الواقع والعمل.
وكان النظر في المظالم معروفا عند العرب في حلف الفضول الذي ذكرناه من قبل وعقد فيه حلف على رد الظالم وإنصاف المظلوم من الظالم، وقد حضره رسول الله قبل النبوة، وهو إن كان فعلا جاهليا دعت إليه السياسة، فقد صار بحضور الرسول له وما قاله في تأكيد أمره حكما شرعيا وفعلا نبويا حيث قال الرسول: "شهدت في دار ابن جدعان حلف الفضول ما لو دعيت إليه لأجبت, وما أحب أن لي به حمر النعم".
وقد نظر رسول الله المظالم بعد نبوته في الشِّرب الذي تنازعه الزبير بن العوام ورجل من الأنصار فحضره بنفسه فقال للزبير: "اسق أنت يا زبير ثم الأنصاري" , فقال الأنصاري: إنه لابن عمتك يا رسول الله، فغضب من قوله وقال: "يا زبير اجره على بطنه حتى يبلغ الماء الكعبين"، وذلك أدبا له لجرأته عليه، ولم ينتدب للمظالم من الخلفاء الأربعة أحد؛ لأنهم في الصدر الأول اقتصروا على فصل التشاجر بينهم بالحكم والقضاء، واحتاج علي عليه السلام، عندما اختلط الناس وتجوروا إلى الصرامة في السياسة، فكان أول من سلك هذه الطريقة وإن لم يخرج إلى نظر المظالم المحض. ولما تجاهر الناس بالظلم احتاجوا إلى نظر المظالم، وكان أول من أفرد للظلامات يوما، عبد الملك بن مروان، فكان إذا وقف على مشكل رده إلى قاضيه أبي إدريس الأودي، ثم زاد جور الولاة وظلم العتاة، فكان عمر بن عبد العزيز أول من ندب نفسه للنظر في المظالم ورد مظالم بني أمية على أهلها، ثم جلس لها من خلفاء بني العباس جماعة، فكان أول من جلس لها المهدي ثم الهادي ثم(1/76)
الرشيد ثم المأمون، وآخر من جلس لها المهدي، وكان ملوك الفرس يرون ذلك من قواعد الملك1.
-5-
وكان بجانب القضاء العادي والنظر في المظالم أنواع أخرى من القضاء محدودة بطبيعة الخلاف أو الأشخاص، وتقليد القضاء قد يكون خاصا كأن يقلد القضاء في الديون أو في المناكح، فلا يتعدى القاضي هذا الاختصاص؛ لأن القضاء استنابة تصح عمومات وخصوصا، فمن كانت ولايته خاصة فهي منعقدة على خصوصها ومقصورة على ما تضمنه عقد الولاية.
ومن أنواع القضاء "قاضي العسكر" فقد كان المجتمع الإسلامي في العصر الأول أثناء الفتوح الإسلامية يحوي أهل البلاد المفتوحة الذين كانوا يزاولون عاداتهم وقضاءهم، وكان أولئك الفاتحين الذين غزوا هذه البلاد أو ممن استقر بهم الأمر في البلاد المفتوحة مع هؤلاء الذين أسلموا كانوا بعيدين عن القضاء العادي، وكان عندهم من المسائل الجديدة الخاصة بالغنائم وما أشبه ذلك، فاستدعى الأمر في هذا المجتمع الجديد سلطة للفصل في كل أمورهم واستدعى الأمر قاضي العسكر، وقد ظهر هذا في أوائل القرن الثاني الهجري وكان تصرفه في القضاء على غرار القاضي العادي بالرجوع إلى الشريعة على خلاف ناظر المظالم.
ومن أنواع القضاء "قاضي الجماعة" وهي وظيفة في الغرب مماثلة لقاضي القضاة في الشرق. وكان يؤلف مجلس القضاء من قاض واحد ولم يجز الفقهاء تعدد القضاة ولا يولي الخليفة قاضيين في مسألة واحدة، وأجاز الشافعي تولية قاضيين في بلد كل واحد على قسم منها. وقد بين الماوردي
__________
1 الماوردي، المصدر السابق ص73، 74، 75.(1/77)
إجازة تولية قاضيين على بلد فقال: "وإذا قلد قاضيان على بلد لم يخل حال تقليدهما من ثلاثة أقسام:
1- أن يرد إلى أحدها موضعا منه وإلى الآخر غيره فيصح، ويقتصر كل واحد منهما على النظر في موضعه.
2- أن يرد إلى أحدهما نوعا من الأحكام وإلى الآخر غيره كرد المداينات إلى أحدهما والمناكح إلى الآخر، فيجوز ذلك ويقتصر كل واحد منهما على النظر في هذا الحكم الخاص في البلد كله.
3- أن يرد كل واحد منهما جميع الأحكام في جميع البلد. وقد اختلف فيه فمنعته طائفة وأجازته طائفة؛ لأنها استنابة كالوكالة1.
ولم يهتم بالمشورة في نظام القضاء الإسلامي، والمشورة هي مبدأ عام في الإسلام، وحاجة الحكام وغيرهم إلى الاستشارة في الإسلام، من القواعد الإسلامية ولم يعن به بالنسبة للقضاء، يقول الله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} وقد ذكر الفقهاء في أدب القاضي أن يجلس معه جماعة من أهل الفقه يشاورهم ويستعين برأيهم فيما يجهله من الأحكام. ويرى أهل الفقه أنه إذا أشكل على القاضي حكم استعمل رأيه في ذلك وعمل به، والأفضل له أن يشاور أهل الفقه في ذلك، فإن اتفقوا على رأي يخالف رأيه عمل برأي نفسه أيضا؛ لأن المجتهد مأمور بالعمل بما يؤدي إليه اجتهاده، محرم عليه تقليد غيره2.
ويجوز لمن اعتقد مذهبا أن يقلد القضاء من اعتقد مذهبا آخر؛ لأن للقاضي أن يجتهد برأيه في قضائه ولا يلزمه أن يقلد في النوازل والأحكام أهل مذهبه، وقد منع بعض الفقهاء من اعتزى إلى مذهب أن يحكم بغيره، لم يتوجه إليه من التهمة والممايلة في القضايا والأحكام، وإذا حكم بمذهب فلا يتعداه كان أنفى للتهمة وأرضى للخصوم، وإن كانت السياسة
__________
1 الماوردي ص70.
2 كاساني، بدائع الصنائع ج7 ص12.(1/78)
تقتضيه فأحكام الشرع لا توجبه؛ لأن التقليد فيها محظور والاجتهاد فيها مستحق1.
ومن شروط ولاية القاضي أن يكون عالما للأحكام الشرعية وأصولها، وأولها علمه بكتاب الله على وجه تصح به معرفة ما تضمنه من أحكام، ثم عمله بسنة الرسول، ثم علمه بتأويل السلف فيما اجتمعوا عليه واختلفوا فيه ليتبع الإجماع ويجتهد، وعلمه في الاختلاف ثم علمه بالقياس الموجب لرد الفروع المسكوت عنها إلى الأصول المنطوق بها والمجمع عليها، حتى يجد طريقا إلى العلم بأحكام النوازل، فإذا أحاط علمه بهذه الأصول في أحكام الشريعة، صار بها من أهل الاجتهاد في الدين وجاز له أن يفتي ويقضي، وإن أخل بها خرج من أن يكون من أهل الاجتهاد، فلم يجز أن يفتي ولا أن يقضي، فإن قلد فحكم بالصواب أو الخطأ كان تقليده باطلا وحكمه مردودا، وحظر أبو حنيفة تقليد القضاء من ليس من أهل الاجتهاد؛ لأن المجتهد مقيد بالاجتهاد والمقلد مستعبد بالتقليد، وكما أنه لم يجز للمجتهد نقض ما أقضاه، فكذا لا يجوز ذلك للمقلد2.
وإذا مات القاضي انعزل خلفاؤه، ولو مات الإمام لم تنعزل قضاته، وإذا اتفق أهل بلد على تعيين قاض والأحكام موجود بطل التقليد، وإن كان مفقودا صح التقليد ونفذت أحكامه عليهم، وإن تجدد إمام فلا بد من الرجوع إلى إذنه ولا ينقض ما حكم به من قبل.
ومن الوظائف التي تتصل بالقضاء وظيفة الحجابة، وهي في الأصل عند الأمويين والعباسيين وظيفة حراسة الباب، ولكنها أخذت من عصر المماليك صورة قضائية نتيجة لامتداد عمله في التحكيم، فكان موضوع الحجابة إنصاف الأمراء والجنود، وأصبح حكمه النظر في مخاصمات
__________
1 الماوردي نفس المصدر ص64.
2 الماوردي: نفس المصدر ص64.(1/79)
الأجناد في أمور الإقطاعات مثل قاضي العسكر، ثم تطور ذلك فأصبح نائبا للسلطان، فعهد إليه بصفته مديرا للشئون العامة قضاء المظالم، وبهذا ظهر تصرفه القضائي وصار يحكم في كل جليل وحقير1.
وعلى القاضي أن يتخذ كاتبا؛ لأنه يحتاج إلى حفظ الدعاوي والبينات والإقرارات التي لا يمكنه حفظها، فلا بد من الكتابة ولا بد أن يكون له معرفة بالفقه حتى يسجل كلام الخصمين كما سمعه، ولا يتصرف فيه لئلا يوجب حقا لم يجب ولا يسقط حقا واجبا؛ لأن تصرف غير الفقيه بتفسير الكلام لا يخلو من ذلك، وقد يدخل في مناقضات بين القاضي ومشاوريه، فهو في مركز نائب عن القاضي في سير الدعاوي، وأن يكتب في سجل ما يجري من أسماء الشهود وكتابة الدعوى.
ويتخذ القاضي جلوازا وهو المسمى بصاحب المجلس يقوم على رأس القاضي لتهذيب المجلس وبيده سوط ينذر به المؤمن ويؤدب المنافق، وأن يكون أمينا على المجلس، وقد يسمى بوابا يساعد الحاجب، وأن يكون له عونا قد يستعمل القوة في ظهور المتخاصمين أمام القاضي عند الضرورة، وهؤلاء الأعوان هم الذين يستحضرون الخصوم ويقومون بين يدي القاضي إجلالا له. هذا بعض الوظائف الخاصة بمجلس القضاء. وقد أفاض الفقهاء في طريقة سير الدعوى ومعالجة القاضي لها.
والقضاء أمانة عظيمة على الأموال والإيضاع والنفوس. ولا يقوم بوفائها إلا من كمل ورعه وتمت تقواه، ومن أجل هذا لم تكن مرموقة من الفقهاء بعين الرضا وتحدثوا عن قبول القضاء وعدم قبوله، وقد احتجوا في ذلك بأحاديث كثيرة ترعب الناس من قبول القضاء، وعدم التعرض للحكم بين الناس مثل قوله عليه السلام: "من جعل قاضيا فقد ذبح
__________
1 الكاساني، نفس المصدر ج7 ص12، 16.(1/80)
بغير سكين" وقوله: "القضاة ثلاثة: فقاضيان في النار وقاض في الجنة، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، وأما اللذان في النار فرجل عرف الحق فجار في الحكم، ورجل قضى على جهل". وأحاديث أخرى في التشديد في تولي القضاء، كما جاءت أخبار كثيرة عن الفقهاء الذين امتنعوا عن القضاء، فقد روي أن أبا حنيفة ابتلي بالضرب والحبس فلم يقبل حتى مات، وقد حكي أن قوما من أهل الحديث تحاموا حديث أبي يوسف القاضي من أجل غلبة الرأي عليه مع صحبة السلطان وتقلده القضاء، وروي عن سفيان الثوري أنه دعي للقضاء فهرب إلى البصرة حتى مات وهو متوار. ويحكى عن الفقيه الشافعي ابن خيران أنه كان يعيب على صاحبه ابن سريج تولي القضاء، ويقول له: هذا الأمر لم يكن في أصحابنا، إنما كان في أصحاب أبي حنيفة1.
وقد احتج القابلون لهذا المنصب بأن الأنبياء قضوا بين الأمم بأنفسهم، وكذلك صنع الخلفاء الراشدون؛ لأن القضاء بالحق إذا أريد به وجه الله يكون عبادة خالصة بل هو من أفضل العبادات، وأما ما جاء من الأحاديث فهو محمول على القاضي الجاهل أو العالم الفاسق أو الطالب الذي لا يأمن على نفسه الرشوة فيخاف أن يميل إليها، ولهذا إذا كان لم يصلح له إلا رجل واحد فإنه يفترض عليه القبول، وصار عليه فرض عين، ولو امتنع يأثم كما في سائر فروض الأعيان.
لقد كان لمنصب القضاء احترامه وكثيرا ما نجد الأمراء والوزراء يساقون إلى السجن، ولا يحكى مثل ذلك إلا عن قليل من القضاة، ولم يمت في أثناء السجن إلا قاض واحد، ولا يعلم أن قاضيا مات في السجن سواه، وهو القاضي أبو أمية.
__________
1 الكندي، نفس المصدر ص302، 315، الكاساني نفس المصدر ج7 ص4.(1/81)
وقد عظم شأن القضاة وقوي مركزهم، وأصبح تعيين القاضي من قبل الخليفة مباشرة وخرج من سلطان الوالي وظل تعيينه من حق الخليفة حتى في العصور المتخلفة، باعتبار أن القضاء آخر ما بقي من المناصب العامة.
ولم يقتصر فضل القضاة في الإسلام على تأسيس الفقه الإسلامي باجتهادهم وتطبيقهم الشريعة على الحياة العملية في عصر الأمويين والعباسيين، ولكن كتب الأدب زاخرة بأدبهم وقصصهم ونوادرهم، وهذه الوصايا العظيمة في القضاء والتي بنت أصول القضاء وسياسة التقاضي، مثل كتاب عمر بن الخطاب لأبي موسى الأشعري، وهو وثيقة هامة في القضاء بالرغم من اختلاف الرأي في صحتها، ومثل كتاب علي بن أبي طالب لمالك الأشتر لما ولاه على مصر وأعمالها والذي يقول فيه: "ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك، ممن لا تضيق به الأمور ولا تمحكه الخصوم ولا يتمادى في الزلة، ولا يحصر من الفيء إلى الحق إذا عرفه. ولا تسرف نفسه على طمع ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه أو تفهم في الشبهات وآخذهم بالحجج وأقلهم تبرما بمراجعة الخصم وأصبرهم على تكشف الأمور، وأصرمهم عند انفتاح الحكم ممن لا يزدهيه المراء ولا يستميله إغراء، وأولئك قليل ثم أكثر تعاهد قضائه وافسح له في البذل بما يزيل عنته وتقل معه حاجته إلى الناس واعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك، وانظر في ذلك نظرا بليغا فإن هذا الدين قد كان أسيرا في أيدي الأشرار يعمل فيه بالهوى ويطلب به الدنيا1.
وهذا الكتاب الجامع للسياسة والقضاء والآداب صار إلى معاوية بن
__________
الكندي، المصدر السابق ص23.(1/82)
أبي سفيان لما مات الأشتر قبل وصوله إلى مصر ودس للأشتر معاوية لما انتهى إلى القلزم حيث تركب السفن إلى مصر عندما أتاه رجل حتى إذا طعم أتاه بشربة عسل قد جعل فيه سما فلما شربها مات. وفي هذا يقول معاوية "إن لله جنودا من عسل"1.
__________
1 شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج6 ص.(1/83)
الحسبة:
المادة التي أخذ منها اسم الحسبة تدل على العد والإحصاء، والحسبة هي فعل ما يحتسب، ومن ذلك قولهم: احتسب أجره عند الله بمعنى ادخره عنده، وهي عند الفقهاء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفعل ذلك مما يحتسبه فاعله عند الله، وقد جاء ذلك في آيات كثيرة في القرآن، فمن ذلك قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104] وقوله تعالى في صفات المؤمنين: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 71] وقوله تعالى: {الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 112] وقوله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج: 41] كما وردت في ذلك أحاديث كثيرة، قال رسول الله: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" وقوله عليه السلام: "بئس القوم قوم لا يأمرون بالقسط وبئس القوم قوم لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر". "الإحياء للغزالي ج2 ص277".
وهذه الآيات والأحاديث تدل على وجوبها، وقد اتفق العلماء على أنها من فروض الكفاية إذا قام بها البعض سقط الطلب عن باقيها، وهي فرض عين على والي الحسبة الذي عين لهذه الوظيفة بحكم الولاية، والفرق بينه(1/87)
وبين غيره من آحاد الناس، أنه منصوب للاستعداء إليه فيما يجب إنكاره، وليس المتطوع منصوبا بالاستعداء، وأن على المحتسب إجابة من استعداه، وليس على المتطوع إجابته، وأن على المحتسب أن يبحث عن المنكرات الظاهرة ليصل إلى إنكارها، ويفحص عما ترك من المعروف الظاهر ليأمر بإقامته، وليس على غيره من المتطوعة بحث ولا فحص، كما أن للمحتسب أن يتخذ أعوانا وليس للمتطوع أن يندب لذلك أعوانا, وللمحتسب أن يعزر في المنكرات الظاهرة ولا يتجاوز الحد، وليس للمتطوع أن يعزر على منكر، وللمحتسب اجتهاد رأيه فيما تعلق بالعرف دون الشرع، وليس ذلك للمتطوع. "الماوردي ص277".
وقد اختلف الفقهاء هل يجوز له أن يحمل الناس فيما ينكره من الأمور التي اختلف الفقهاء فيها على رأيه واجتهاده، فيرى بعضهم أن له أن يحمل الناس على رأيه واجتهاده، فعلى هذا يجب على المحتسب أن يكون عالما من أهل الاجتهاد في أحكام الدين، ليجتهد رأيه فيما اختلف فيه، وبعض يرى أنه ليس له أن يحمل الناس على رأيه واجتهاده، وعلى هذا فيجوز عندهم أن يكون المحتسب من غير أهل الاجتهاد إذا كان عالما بالمنكرات المتفق عليها.
والحسبة وظيفة دينية وولاية شرعية تلي ولاية القضاء في المرتبة، إذ إن ولايات رفع المظالم على العموم والنظر في القضاء بين الناس موزعة على ثلاث جهات، أقواها ولاية المظالم، ويليها ولاية القضاء ثم ولاية الحسبة، والحسبة واسطة بين أحكام القضاء وأحكام المظالم، وليس هناك حدود مرسومة وضعها الفقهاء بين هذه الولايات، والمرجع في تخصيص هذه الولايات يرجع إلى ما تحويه مراسم التعيين، قد يجمع الوالي بينها فيجعلها لشخص واحد، وقد يفرق بينها حسبما يرى، ويختلف ذلك باختلاف البلاد والأوطان.(1/88)
واختصاص القاضي هو الفصل في المنازعات واستيفاء الحقوق، ووالي المظالم يختص بالنظر فيما عجز القضاة من انفاذه وكذلك فيما عجز عنه والي الحسبة، أما الحسبة فهي تقصر عن ولاية القضاء في إنشاء الأحكام، ومجالها محدود بالنظر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، دون حاجة إلى دعوى ترفع أو بينات تفرض وأيمان تطلب.
والحسبة موافقة لأحكام القضاء في بعض المسائل وتقصر عنها في بعضها الآخر، وتزيد عليها في مسائل أخرى: فتتفق مع أحكام القضاء في جواز الاستعداء إلى القائم بها والادعاء أمامه في بعض حقوق الأفراد، وهي أن يكون فيما يتعلق ببخس وتطفيف في كيل أو وزن، أو يتعلق بغش أو تدليس في مبيع أو ثمن، أو فيما يتعلق بمطل وتأخير لدين مستحق مع القدرة على الوفاء.
وإنما جاز نظره في هذه الأنواع دون غيرها لتعلقها بمنكر ظاهر هو منصوب لإزالته، واختصاصها بمعروف بين، هو مندوب لإقامته؛ لأن موضوع الحسبة إلزام الحقوق والمعونة على استيفائها، وليس لواليها أن يتجاوز ذلك إلى الحكم الناجز الفاصل عند قيام المنازعة وخفاء الحق منها1، وتوافق أحكام القضاء في أن له إلزام المدعى عليه للخروج من الحق الذي عليه، وذلك في الحقوق التي جاز له سماع الدعوى فيها، وإذا وجبت باعتراف وإقرار، فيلزم الخروج منها ودفعها إلى مستحقها؛ لأن في تأخيرها منكرا هو منصوب لإزالته.
وأما قصور الحسبة عن أحكام القضاء فمن وجهين: أحدهما قصورها عن سماع عموم الدعاوى الخارجة عن ظواهر المنكرات من الدعاوى في العقود والمعاملات، فلا يجوز أن يتعرض للحكم فيها إلا أن يرد ذلك إليه بنص صريح، فيجوز ويصير بهذه الزيادة جامعا بين قضاء وحسبة فيراعى فيه أن يكون من أهل الاجتهاد. والوجه الثاني أنها مقصورة(1/89)
على الحقوق المعترف بها، فأما ما يتداخله التجاحد والتناكر فلا يجوز له النظر فيه؛ لأن الحاكم فيها يقضي على سماع بينة وإحلاف يمين، ولا يجوز للمحتسب أن يسمع بينة ولا أن يطلب حلف يمين.
وتزيد الحسبة على أحكام القضاء أنه يجوز للناظر فيها أن يتصفح ما يأمر به من المعروف وينهى عن المنكر، وإن لم يحضره خصم مستعد، وليس للقاضي أن يتعرض لذلك إلا بحضور خصم يجوز له سماع الدعوى منه، فإن تعرض القاضي لذلك خرج من منصب ولايته. وللناظر في الحسبة من الرهبة والاستطالة فيما يتعلق بالمنكرات، ما ليس للقضاة؛ لأن القضاء موضوع للمناصفة فهو بالوقار أحق وخروجه منها إلى سلاطة الحسبة خروج عن حده.
أما ما بينها وبين ولاية المظالم فهي تشبهها في أن موضوعها مستقر على الرهبة التي تقوم على سلاطة السلطة وقوة الصرامة، وجواز التعرض لأسباب المصالح العامة، والتطلع إلى إنكار العدوان الظاهرة، وتفترق عنها ولاية المظالم في أنها تتناول ما يعجز عنه القضاة؛ لأنها شرعت ووضعت لما رفه عنه القضاء إفساحا لوقته وتيسيرا لأمره، ولهذا كانت ولاية المظالم أعلى الولايات الثلاث، كما أنه لا يجوز له الحكم في منازعة بين متخاصمين، بينما يجوز ذلك لوالي المظالم، وذلك فيما يجل أمره ويعظم خطره. "المارودي ص229".
-2-
ويشترط في والي الحسبة أن يكون مسلما. فلا يجوز أن تسند إلى غير مسلم؛ لأنها ولاية، ولا ولاية لكافر على مسلم. وأن يكون مكلفا، فلا تسند لغير مكلف، ولكن يجوز للصبي المميز أن ينكر المنكر، وأن يكون عالما بالمنكرات الظاهرة، فلا تسند إلى جاهل بالمنكرات. وقد اختلف في اشتراط عدالته، فاشترطها فريق من الفقهاء ولم يجعلوا للفاسق أن يأمر(1/90)
بمعروف أو ينهى عن منكر مستدلين بالآية في قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} ولم يشترط العدالة جمهور الفقهاء، فأجازوا للفاسق أن يحتسب؛ لأن اشتراط العدالة أمر يضيق باب الاحتساب.
واشترط بعض الفقهاء أن يؤذن بها من ولي الأمر. ولذلك لم يثبتوا الحسبة لآحاد الناس، ولكن الرأي الراجح وما جرى عليه العمل، أن الحسبة تثبت لآحاد الناس، ولو لم يؤذن لهم، وهذا ما جرى عليه العمل في صدر الإسلام، فلما اتسعت الدولة كان من الطبيعي تنظيم الحسبة كولاية من الولايات وتعيين الولاة للقيام بها فأصبح تعيين ولاة الحسبة بأمر الخليفة وبإذنه، وبقي للمتطوع حق الحسبة العام في تطبيق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فرضا كفائيا لا يحتاج فيه إلى إذن من ولي الأمر ثابت لكل آحاد المسلمين بعموم الآيات الواردة في هذا الشأن، ولا يشترط فيه أن يكون من أهل الاجتهاد. أما والي الحسبة الذي عين لها، فيشترط فيه أن يكون من أهل الاجتهاد الشرعي ويجتهد كذلك فيما ضر وما لم يضر؛ لأنه من الاجتهاد العرفي دون الشرعي، فله اجتهاد رأيه فيما يتعلق بالعرف دون الشرع.
ويتعلق بهذا سياسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقول ابن حزم: "اتفقت الأمة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلا خلاف من أحد منهم كقول الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} ثم اختلفوا فذهب بعض أهل السنة القدماء والصحابة وهو قول أحمد بن حنبل إلى أن الغرض من ذلك إنما هو بالقلب فقط ولا بيد، وباللسان إن قدر ولا يكون باليد، واقتدى أهل السنة في ذلك بعثمان رضي الله عنه، وبمن رأى القعود، إلا أن القائلين بهذه المقالة من أهل السنة إنما رأوا ذلك ما لم يكن عدلا فإن كان عدلا وقام عليه فاسق وجب عندهم بلا خلاف سل السيوف مع الإمام العدل، وذهبت(1/91)
طوائف من أهل السنة إلى وجوب دفع المنكر باليد إذا لم يمكن إلا ذلك وهو قول علي بن أبي طالب وعائشة، وطلحة والزبير "ويقول ابن تيمية في هذا الموضع" يخطئ فريقان من الناس: فريق يترك ما يجب من الأمر والنهي تأويلا لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} وفريق يريد أن يأمر وأن ينهى إما بيده وإما بلسانه مطلقا، من غير علم ولا تعرف لما يصلح من ذلك وما لا يصلح وما يقدر عليه وما لا يقدر.
وجملة القول إنه عندما تتعارض المصالح والمفاسد، فإذا كان الأمر بمعروف أو النهي عن منكر مؤديا إلى مصلحة ومفسدة، نظر في ذلك، فإذا كان يفوت بهما من المصالح ما هو أكثر وأرجح أو يحصل بهما من المفاسد أكثر، لم يكن القيام بهما مطلوبا بل أمرا محرما، كذلك إذا كانت المفسدة فيه أكثر وأرجح من المصلحة.
وجاء عند القرطبي أن الأمر بالحسبة يختلف باختلاف طبيعة المنكر، فإذا أمكنت إزالته باللسان لم يتجاوز ذلك إلى اليد والعقوبة، فإن لم يمكن إلا بالعقوبة أو القتل جاز ذلك إذا كانت طبيعة المنكر المراد منه تتكافأ مع العقوبة التي درئ بها أو تزيد، ولذا قال الله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} ذلك لأن البغي جرم عظيم يتكافأ مع القتل أو يزيد.
وجاء في أحكام القرآن لابن العربي المالكي أن المحتسب يجب أن يبدأ باللسان والبيان، فإن لم يغنه ذلك شيئا حال بين المنكر وبين مرتكبه باليد، وذلك بنزعه عنه وإبعاده عنه، فإن لم يقدر، إلا بمقاتلة أو سلاح فليتركه؛ لأن ذلك إلى السلطان، فإن شهر السلاح بين الناس قد يجر إلى الفتنة، فيئول الأمر إلى فساد دونه المنكر الذي أمر الشارع بمنعه إلا أن يكون في ترك هذا المنكر خطر لا يتدارك(1/92)
والخلاصة أن الأصل في هذا هو الحديث الشريف وفهمه، يقول عليه السلام: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان". فالحديث يدعو ابتداء إلى تغيير المنكر، والتغيير باليد لا يلجأ إليه المحتسب إلا بعد العجز عن تغييره بالإرشاد عادة وفعلا، فإن لم يستطع أن يغيره بالإرشاد فلينكره بلسانه حتى لا يكون سكوته إقرارا فإن لم يغن شيء لجأ المحتسب إلى التغيير باليد، فإن خاف من ذلك ضررا أو فتنة، فليقتصر على إنكاره بقلبه، وإنكار المنكر يكون بهذه الوجوه الثلاثة حسب الإمكان مع مراعاة المصلحة، وفرق بين المتطوع الذي يعمل محتسبا لله، وبين المحتسب الذي يتولى الحسبة من فعل السلطان الذي يقوم بإجراء ما رسم له في الرياسة وحسب السياسة الشرعية.
ومراتب الاحتساب بالنسبة لوالي الحسبة تتم بما يأتي:
1- التعريف، وذلك ببيان حكم الله في الإقدام على منكر، فقد يكون جاهلا به، وذلك من غير عنف.
2- العظة والنصح لمن اقترف ذنبا وهو عارف بأنه منكر، فيواجهه بذلك بطريقة النصح له.
3- التقريع بالقول الغليظ، وذلك إذا عجز عن المنع له باللطف وأصر على المنكر، ويكون ذلك بما لا يعد فحشا في القول وبالاقتصار على قدر الحاجة.
وهذه الدرجات الثلاث تكون أيضا بالنسبة للمتطوع، يباشرها واحدة بعد الأخرى.
4- التغيير باليد، وذلك مثل إراقة الخمر، وما يتأتى فيه هذا التغيير من المنكرات، ولا يلجأ إلى مباشرة ذلك بنفسه إذا أمكنه حمل المقترف على(1/93)
تغيير ذلك بنفسه، على أن لا يتجاوز ما تدعو إليه الحاجة والضرورة إذا باشر ذلك بنفسه؛ لأن تجاوز هذا ليس من حق المحتسب بل من ولاية الحاكم؛ لأن ولاية المحتسب إنما هي في تغيير ما هو قائم من المنكرات، ولا يتجاوز ذلك إلا بولاية خاصة، وللمتطوع أن يباشر ذلك إذًا، على أن لا يقاوم وألا يصد، فإذا رأى هذا كان له أن يمتنع حسما للشر.
5- التهديد والتخويف بما يمكن أن يقدر عليه من عقاب وبما يجوز فعله شرعا فلا يهدده بمنكر.
6- الضرب والحبس ونحو ذلك من ضروب التعزير من غير شهر سلاح. ولا يلجأ إلى الكثير إذا أمكن اليسير.
7- الاستعانة بالأعوان والسلاح إذا اقتضى الأمر ذلك.
والطريق إلى القضاء هو الدعوى ووسائل إثباتها، أما الاحتساب فطريقه هو "الاستعداء" أو المشاهدة والعلم، فإذا كان في حق من الحقوق الخاصة توقف على الاستعداء من صاحب الحق، ولا يتدخل المحتسب إلا بناء على طلب صاحب الحق واستعدائه، وعلى المحتسب التثبت من صحة الخبر بالمشاهدة أو بإقرار المعتدي، وليس له أن يتجسس أو يوجه يمينا. وإذا كان في حق من حقوق الله، بأن يكون في منكر يمس الجماعة أو في حق عام كاعتداء على مرفق عام، فإن الاحتساب فيه يقوم على المشاهدة من المحتسب أو أعوانه أو على العلم الشخصي بقيام المنكر ووجوده أو بالأمارات الظاهرة. وليس للمحتسب أن يتعرف على المنكر بالتجسس؛ لأن الله تعالى قد نهى عن التجسس، فإذا رأى المنكر قائما عن مشاهدة أو علم أو إمارة ظاهرة تدخل فيه ومنعه.(1/94)
-3-
والحسبة تتناول كما رأينا أمرين: هما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والأمر بالمعروف إما أن يكون في حق من حقوق الله، وإما أن يكون في حق من حقوق الناس، وإما أن يكون في حق مشترك، فهو من جهة حق لله ومن جهة أخرى حق للناس. فأما المتعلق بحقوق الله، فقد يوجه الأمر به إلى جماعة الناس، وذلك كما في ترك صلاة الجمعة أو صلاة العيد أو ترك الجماعة أو ترك الأذان، ففي مثل هذه الأحوال وما يشبهها، على المحتسب أن يأمر الناس بالمعروف منها، من غير أن يحمل الناس على اعتقاده ولا أن يأخذهم في الدين برأيه مع تسويغ الاجتهاد فيه، وذلك لكي تقام الجمعة والجماعة وصلاة العيدين ويسمع الأذان، وإذا كان ذلك في حق من الحقوق الخاصة بالناس، فقد يكون حقا عاما مثل: البلد إذا تعطل شربه أو استهدم سوره، فإن كان في بيت المال مال لم يتوجه عليهم فيه ضرر، أمر بإصلاح شربهم وبناء سورهم؛ لأنها حقوق تلزم بيت المال دونهم، فإذا أعوز بيت المال، فإن المحتسب يحمل الناس على عمارة ما تهدم أو تعطل، وإذا كان حقا خاصا كالديون إذا تعطلت، فللمحتسب أن يأمر بالخروج منها مع المكنة إذا استعداه أصحاب الحقوق، إذا لم يكن فيها إنكار وتجاحد، وإلا كان ذلك إلى القاضي، وليس للمحتسب أن يحبس في مثل ذلك تعزيرا؛ لأن الحبس حكم وليس له الحكم والإثبات، وإنما تكون له الولاية في ذلك إذا ما كانت هذه الحقوق ثابتة قضائيا. وإذا كان في حق مشترك كأخذ الأولياء بإنكاح الأيامى عند طلب كفء وإلزام النساء عند مفارقة أزواجهن، فله تأديب من خالف العدة وعظة من امتنع من الأولياء عن التزويج، وله أن يأخذ أصحاب البهائم بعلوفها إذا قصروا في ذلك، وأن لا يحملوها فوق ما لا تطيق..
والنهي عن المنكر كذلك قد يكون في حقوق الله، وقد يكون في(1/95)
حقوق الناس، وقد يكون في حقوق مشتركة بين حقوق الله وحقوق الناس، فأما حقوق الله فقد يكون ذلك في العبادات كالذي يخالف هيآتها المشروعة كالجهر في صلاة السر والإسرار في صلاة الجهر، فللمحتسب إنكارها وتأديب المعاند فيها، ولا يأخذ بالتهم ولا بالظنون، وإذا رأى إنسانا يأكل في شهر رمضان لم يقدم على تأديبه إلا بعد سؤاله عن سبب إفطاره، فربما كان مريضا أو مسافرا، وإن رأى رجلا يتعرض للمسألة، وعلم أنه غني أنكره عليه وأدبه، وإذا وجد من يتصدى لعلم الشرع وليس من أهله أنكر عليه التصدي لما ليس هو من أهله، وقد يكون نهيه متعلقا بالمحظورات من الأعمال، فإن رأى رجلا يجاهر بإظهار الخمر، فإن كان مسلما أراقها عليه وأدبه، وإن كان ذميا أدب على إظهارها، واختلف الفقهاء في إراقتها عليه، فذهب أبو حنيفة إلى أنها لا تراق عليه؛ لأنها عنده من أموالهم المضمونة في حقوقهم, ومذهب الشافعي أنها تراق عليهم؛ لأنها لا تضمن عنده في حق مسلم ولا كافر، وأما ما لا يظهر من المحظورات فليس للمحتسب أن يتجسس عنها ولا أن يهتك الأستار عليها، إذ إن ذلك قد يؤدي إلى ما هو شر منها، إلا أن يصله علم ممن يثق به باقتراف منكر يخشى من عدم تداركه شر عظيم، كأن يخبره من يثق به بأن رجلا خلا برجل ليقتله، أو أن رجلا خلا بامرأة ليزني بها، فيجوز له في مثل هذه الحالة أن يتجسس ويقدم على البحث حذرا من فوات ما لا يستدرك من انتهاك المحارم وارتكاب المحظورات، وهكذا لو عرف ذلك قوم من المتطوعة جاز لهم الإقدام على الكشف والبحث في ذلك والإنكار، أما ما خرج عن هذا الحد وقصر عن حد هذه الرتبة، فلا يجوز التجسس عليه ولا كشف الأستار عنه، وقد يكون متعلقا بالمعاملات كالبيوع الفاسدة وما منع عنه الشرع ولو مع تراضي العاقدين به، فعلى والي الحسبة إذا كان متفقا على حظره، إنكاره والمنع منه والزجر عليه، وأمره في التأديب مختلف باختلاف الأحوال وشدة الحظر، وذلك مثل بيع المعدوم وبيع الخمر(1/96)
والميتة، أما ما اختلف في حظره وإباحته، فلا مدخل له في إنكاره، إلا إذا كان ذريعة إلى مكروه متفق على تحريمه كربا النقد وهو ذريعة إلى ربا النساء المتفق على تحريمه، وكنكاح المتعة فإنه ذريعة الزنا. ومن هذا القبيل غش المبيعات والتدليس في العقود والغبن في الأثمان والأجور، فكل ذلك ينكره المحتسب ويؤدب عليه بحسب الحال فيه.
ومن ذلك تطفيف الكيل والبخس في الموازين والغش في النقود وفي الأطعمة، فله الاحتساب في كل ذلك، كما أن له الاحتساب على الصناع والعمال والصيادين والصاغة والحدادين والخياطين والصيادلة والدلالين والعطارين وغير ذلك مما فصله الشيزري في كتابه "نهاية الرتبة في طلب الحسبة" فيمنع كل منكر يصدر من هؤلاء ويزجر ويؤدب عليه بحسب الحال، مراعيا عملهم في الوفاء والتقصير، والأمانة والخيانة، والجودة والرداءة، والإخلاص والإغفال والإهمال.
يقول الماوردي: "ومما يؤخذ ولاة الحسبة بمراعاته من أهل الصنائع في الأسواق ثلاثة أصناف: منهم من يراعي عمله في الوفور والتقصير فكالطب والمعلمين؛ لأن الطب إقدام على النفوس يفضي التقصير فيه إلى تلف أو سقم، وللمعلمين من الطرائق التي تنشأ الصغار عليها ما يكون نقلهم عنها بعد الكبر عسيرا، فيقر منهم من توفر علمه وحسنت طريقته ويمنع من قصر وأساء لمن تصدى لما يفسد به النفوس وتخبث به الآداب، وأما من يراعي حاله في الأمانة والخيانة، فمثل: الصاغة والحاكة والقصارين والصباغين؛ لأنهم ربما هربوا بأموال الناس فيراعي أهل الثقة والأمانة منهم، فيقرهم ويبعد من ظهرت خيانته ويشهر أمره؛ لئلا يغتر به من لا يعرفه. وأما ما يراعى عمله في الجودة والرداءة، فهو مما ينفرد بالنظر فيه ولاة الحسبة، ولهم أن ينكروا عليهم في العموم فساد العمل ورداءته، وإن لم يكن فيه مستعد، ولا يجوز أن يسعر على الناس الأقوات ولا غيرها في(1/97)
رخص ولا غلاء، وأجاز مالك في الأقوات مع الغلاء" "الأحكام السلطانية 242".
وأما الحقوق المشتركة بين حقوق الله وحقوق الناس، فذلك مثل الإشراف على منازل الناس وفتح النوافذ على الجار، وعدم البناء في الطريق العام؛ لأن مرافق الطريق للسلوك لا للأبنية ولون كان المبني مسجدا، ويقر ما لا يضر ويمنع ما ضر من أمثال ذلك، حسب الاجتهاد العرفي، وينكر المحتسب على أرباب المواشي من يستعملها فيما لا تطيق، ويمنعه رفقا بالحيوانات، وللمحتسب أن يمنع تحميلها أكثر مما تطيقه، ويمنع السفن كذلك من حمل ما لا تطيقه خوف غرقها، ويمنع من التكسب باللهو والكهانة ويؤدب عليه، وعلى العموم فإن هناك أمورا كثيرة يطول البحث في تفصيلها.
وقد لخص القرافي أحكام الحسبة في الفرق السبعين والمائتين، بين قاعدة ما يجب النهي عنه من المفاسد وما يحرم وما يندب، فقال: "فللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثلاثة شروط: الشرط الأول أن يعلم ما يأمر به وينهى عنه، فالجاهل بالحكم لا يحل له النهي عما يراه ولا الأمر به، والشرط الثاني أن يأمن من أن يكون يؤدي إنكاره إلى منكر أكبر منه، مثل أن ينهى عن شرب الخمر فيؤدي نهيه إلى قتل النفس أو نحوه، والشرط الثالث أن يغلب على ظنه أن إنكاره المنكر مزيل له، وأن أمره بالمعروف مؤثر في تحصيله، فعدم أحد الشرطين الأولين يوجب التحريم، وعدم الشرط الثالث يسقط الوجوب ويبقي الجواز والندب ولا يشترط في النهي عن المنكر أن يكون ملابسه عاصيا، بل يشترط أن يكون ملابسا لمفسدة واجبة الدفع أو تاركا لمصلحة واجبة الحصول.
وإذا ما استعرضنا الحسبة من حيث التطبيق الذي تناوله الكاتبون عن الحسبة، نجد أنه من الاتساع بحيث يناط به كثير من الوظائف، منها(1/98)
ما يتعلق بالتفتيش على الأسواق وأسعار السلع وضبط الأوزان، كما يقوم المحتسب برفع الغش والتدليس ومراقبة أهل الصناعات في ذلك، ومنها إشرافه على تعمير المساجد بالمواظبة على الجماعة وصلاة الجمعة.
كما ينهى عن تطريب الأذان وقراءة القرآن بالتلحين.
وهذه الوظائف في جملتها ذات طبيعة إدارية، ويمكن أن تتصل بالشرطة، ولذلك كثيرا ما كانت تناط الشرطة والحسبة بوال واحد، واستعمل بعض المؤلفين لفظ الحسبة بمعنى الشرطة.
ويشمل المنكر الجرائم، ولهذا كان على المحتسب أن يدفع الجريمة، فإذا وقعت كان من الممكن أن يمكن من إقامة الدعوى الجنائية، والوصول إلى عقاب الجاني، وهنا تبرز وظيفة الاتهام التي يقوم بها المحتسب، فالحسبة نوع من الاتهام الفردي، كما أن له القيام ببعض الدعاوى التي تتصل بحقوق الأفراد، مثل: الدعاوى التي تتصل بالغش في البيع والشراء والتطفيف في الكيل والوزن، والدعاوى التي تتصل بمطل المدينين، وغير ذلك مما هو ثابت ولا يحتاج إلى بينة وإشهاد. ولذلك اعتبرت الحسبة نوعا من القضاء، وكانت في كثير من الدول داخلة في ولاية القاضي.
والولاية الأصلية المستمدة من الشارع الثابتة لكل من طلبت منه بالتكليف، كما تتضمن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على وجه الطلب مباشرة، كذلك تتضمن القيام بما يؤدي إلى اجتناب المنكر على وجه الادعاء، وذلك يكون بالتقدم إلى القاضي بالدعوى أو بالشهادة لديه، وتسمى الدعوى لدى القاضي بطلب الحكم بإزالة المنكر "دعوى حسبة" ولا تكون إلا في حق الله، وعندئذ يكون مدعيها مدعيا بالحق، وشاهدا به وفي وقت واحد، ليكون مدعي حسبة وشاهد حسبة.(1/99)
-4-
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي أساس الحسبة، أصل من أصول الإسلام، حض عليه القرآن الكريم في كثير من آياته وحرص المسلمون على اتباعه في المجتمع الإسلامي في حياتهم وفي حركاتهم السياسية والدينية، وذلك أمر طبيعي؛ لأن ذلك داخل في نطاق الدعوات الدينية ومهمة الأنبياء والمصلحين بوجه عام، فكان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شعارا دينيا وسياسيا، وكان مبدأ الحركات الأولى في الإسلام مثل: الخوارج والمعتزلة.
والاحتساب بمعناه الخاص في سياسة العباد والنظر في الشئون البلدية، بدأ في صدر الإسلام، ورويت وقائع من ذلك في عصر النبي والخلفاء، روي أن النبي عين سعيد بن سعيد بن العاص بن أمية على سوق مكة، وعين عمر بن الخطاب الصائب بن يزيد وعبد الله بن عتبة بن مسعود على سوق المدينة، وفي أثناء القرن الثاني اتسعت الدولة وازدهرت التجارة والصناعة، فعين المحتسب من قبل الخليفة أو الوالي، ويمكن أن يكون هذا قد تم في عصر أبي جعفر المنصور الذي أسست فيه مدينة بغداد ونظمت أسواقها، فقد ذكر الخطيب البغدادي أن المنصور عين يحيى بن زكريا محتسبا وقتله في سنة 157 لما أخل بعمله، وذكر أبو الفدا في تاريخه في سنة 169 أن نافع بن أبي عبد الرحمن أبا نعيم القارئ المعروف، كان محتسبا للخليفة المهدي، وكما جاء عند ابن خلدون، يظهر أن المسلمين في شمال أفريقيا وفي الأندلس كانوا يضعون الاحتساب تحت قضاء القاضي فيعين من يريد. وعند الماوردي أن المحتسب كان مستقلا عن القاضي في الولايات الشرقية، وقد استمرت الحسبة من القرن الثاني إلى حوالي القرن الثالث عشر، وبعد هذا انفصلت الحسبة الدينية عن الدنيوية، فتوقفت الحسبة الدنيوية في البلاد الإسلامية، لما أهملت الحكومات الإسلامية(1/100)
الناحية الدينية، واستمرت الحسبة الدنيوية في مصر حتى منتصف القرن الثالث عشر، واستمرت في بعض البلاد العثمانية.
وقد اهتم المسلمون بالحسبة وكتبوا فيها كتبا كثيرة ضاع أكثرها وبقي القليل، وأقدمها كتاب الأحكام السلطانية للماوردي المتوفى سنة 450، وأفرد للحسبة جزءا في هذا الكتاب، وكذلك الفصل الذي كتبه أبو حامد الغزالي المتوفى سنة 505 في كتابه إحياء علوم الدين، والكتب الباقية عن الحسبة تصل إلى ثلاثين كتابا طعب منها نحو من اثني عشر كتابا وبقي مخطوطا منها نحو سبعة عشر وآخرها هو الحسبة الكبرى "لابن أبي العباس أحمد بن محمود بن مروان السرخسي المتوفى سنة 286"، وله كتاب آخر هو "الحسبة الصغرى" ولهذا الكتاب أهمية خاصة؛ لأنه هو أقدم كتاب؛ ولأن مؤلفه كان محتسبا في بغداد في عصر المعتمد ولكنه فقد. أما كتاب "نهاية الرتبة في طلب الحسبة" فهو أول كتاب تم طبعه، وقد توفي مؤلفه 589، وقد رجع إليه كل الكاتبين بعد ذلك، مثل ابن الأخوة المتوفى سنة 729 وابن بسام المتوفى في القرن الثامن.
ولهذه الكتب أهمية كبيرة في تاريخ الحضارة الإسلامية من نواح كثيرة من ناحية أنها تكشف عن ما قدمته الحضارة الإسلامية عن طريق الدين، وبجانب هذا ترينا مدى ازدهار التجارة في تلك الأوقات، كما تبين لنا قدرة الكتاب المسلمين على دراسة هذه التجارات، وفيها مادة غنية عن اللغة لا نجدها في القواميس والمعاجم العربية، وتدل على قدرة اللغة العربية على استيعاب الألفاظ الأجنبية. فضل عن كونها ممثلة للمجتمع الإسلامي الذي يرغبه في الحياة الدينية والدنيوية.
وبهذا البيان يتضح بجلاء أن الحسبة وظيفة إسلامية ابتدعها الإسلام وطورها المسلمون من غير تأثير خارجي، واعتنى بها العلماء المسلمون ونظموها، وقد ذكر بعض المستشرقين أنها وظيفة مستعارة من النظام(1/101)
البيزنطي فيقول شاخب "وقد أخلى القضاة البيزنطيون ومنهم موظفوهم الأقاليم التي فتحها المسلمون، ولكن وظيفة الإدارة البلدية، وهي وظيفة كان جزء منها قضائيا، استعاره المسلمون!، وهي وظيفة "عامل السوق" وصاحب السوق الذي كان له قضاء مدني وجنائي محدود، فقد تطور هذا في عصر العباسيين إلى وظيفة إسلامية وهو المحتسب". كما أن فون جرونا باوم فارن في كتابه الإسلام في العصور الوسطى بين الحسبة في الإسلام وكتاب الكامل PerFect الذي يشرح أحوال التجارة في القسطنطينية، وسبب هذه المقارنة أنه يرى أن المسلمين قلدوا الحسبة من البيزنطيين والمشابهة التي رآها بين صفات المحتسب المسلم وهذا PerFect، وأن هذه الكتب في الحسبة مماثلة لما كتبه البيزنطيون.
ولكن هذه المقارنة غير قائمة بين هذا الكتاب وكتب الحسبة؛ لأن هذا الكتاب كتب في القرن العاشر الميلادي، ولكن الحسبة وإن لم تكن موضوعا للكتابة في القرن الثاني والثالث الهجري، إلا أنها كانت قائمة على القرآن والحديث والسنة النبوية والخلفاء من بعده، وذلك نحوا من قرنين قبل هذا الكتاب البيزنطي، حيث بدأ علم الاحتساب الذي يدور حول الحياة الاجتماعية في البلاد الإسلامية. وقد ترجمت هذه الرسالة إلى العربية "مجلة كلية الآداب بجامعة القاهرة مجلد 19 ص135-667".
وقد رسم صاحب كتاب "كشف الظنون" الحسبة وعلم الاحتساب الإسلامي في قوله:
"وعلم الاحتساب هو علم باحث عن الأمور الجارية بين أهل البلد من معاملاتهم اللاتي لا يتم التمدن إلا بها، من حيث إجراؤها على قانون العدل، بحيث يتم التراضي بين المعاملين، وعن سياسة العباد بنهي عن المنكر وأمر بالمعروف، بحيث لا يؤدي إلى مشاجرات وتفاخر بين العباد بحسب ما رآه الخليفة من الزجر والمنع.(1/102)
وفائدته إجراء أمور المدن في المجاري على الوجه الأتم، وعرفه للعلماء أيضا بالنظر في أمور المدينة بإجراء ما رسم في الرياسة وما تقرر في الشرع ليلا ونهارا. سرا وجهرا" "كشف الظنون ج1 ص15".(1/103)
المراجع:
القرآن الكريم.
الأحكام السلطانية للماوردي.
المقدمة لابن خلدون.
إحياء علوم الدين للغزالي.
الملل والنحل لابن حزم.
نهاية الرتبة في طلب الحسبة للشيزري.
الحسبة لابن تيمية.
أحكام القرآن لابن العربي.
الطرق الحكمية في السياسة الشرعية لابن قيم الجوزية.
كشف الظنون لحاجي خليفة.
اصطلاحات الفنون للتهانوي.
تفسير القرآن للزمخشري.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي.(1/104)
الفهرست:
5 الفقه الإسلامي.
7 أنواع الفقه.
57 القضاء.
87 الحسبة.
104 المراجع.(1/105)